غزوة مؤتة والسرايا والبعوث النبوية الشمالية
بريك العمري
مقدمة
مقدمة أهمية الدّراسة، وسبب اختيار الموضوع: لقد هيأ الله - تبارك وتعالى - أن أكون أحد خُدّام سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم خلال العشر سنوات التي مضت من عمري، منذ أن سجّلت في الدّراسات العليا، حيث كانت البداية في مرحلة الماجستير، التي وفّقني الله عز وجل فيها باختيار موضوع السرايا والبُعُوث النبويّة، كبحث لرسالة الماجستير، لأرتبط منذ البداية ذلك الارتباط المحبَّب إلى نفسي منذ نعومة أظفاري، مع سيرة أحبّ الخلق وأكرمهم على الله - تبارك وتعالى -، محمّد صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه خير الخلق وأفضلهم بعد نبيّه صلى الله عليه وسلم. ولأنّ السرايا والبعوث النبوّية كانت كثيرة جداً، فقد تمّ الاقتصار في الدراسة على السرايا والبعوث النبوّية حول المدينة ومكّة. ولقد كانت تلك الدراسة دراسة نقدية وتحليلية لروايات السرايا والبعوث، غير مسبوقة - حسب اعتقادي - من حيث النقد والتحليل والتنظيم. وكانت تلك تجربة شيقة وممتعة بالنسبة لي، رغم ما اكتنفها من صعوبات. ولما طُلِبَ مني اختيار موضوع لرسالة الدكتوراه، أصرّ الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري - حفظه الله تعالى - الذي تولّى الإشراف عليَّ في مرحلة الماجستير، وجزءاً غير قليل في مرحلة الدكتوراه - على أن
أكمل دراسة بقية السرايا والبُعُوث، فكان ذلك الإصرار دافعاً قويّاً لي لمتابعة العمل، رغم علمي المسبق نتيجة التجربة السابقة أنّه لن يكون عملاً هيِّناً. فتقدّمت إلى القسم لتسجيل الموضوع، وذلك بعد وضع الخطة المناسبة التي وزَّعت عليها ما تبقى من السرايا والبعوث النّبوّيّة، وأضفت عليها غزوة باعتبار أنّها تدخل ضمن نطاق السرايا والبعوث النّبوّيّة، وذلك حسب اصطلاح أهل المغازي في تعريف الغزوة والسرية1. فكان العدد حوالي خمسٍ وأربعين سرية، نصفها مسند بروايات لدى كُتُب الحديث، والتفسير، وأسباب النّزول، والسيرة النّبوّيّة، والدلائل، وكتب التاريخ، وغيرها من المصادر، والنصف الآخر مرويّ بلا إسنادٍ في كتب السيرة والتاريخ. وتشمل تلك السرايا والبعوث سرايا تأديبية، وبعوث دعوية، وأخرى قتالية، وسرايا تحطيم الأصنام، بالإضافة إلى سرية مؤتة التي أفردت لها فصلاً خاصّاً لكثرة وتعدّد الروايات الخاصّة بها. كما تشتمل الخطّة على سرايا مبهمة، وأخرى لم ترد فيها روايات مفصَّلة، وهي تصل في عددها إلى أكثر من ثلاثين بعثاً وسرية. وبعد أن عُرِضَ الموضوع على مجلس الكليّة الموقَّر، رأى المجلس اختصار الموضوع بتقليص عدد السرايا والبعوث بالتنسيق مع فضيلة المشرف.
وبعد مناقشة الأمر مع فضيلته، اقترح عليَّ أن أقتصر على غزوة مؤتة مع السرايا والبعوث النّبوّيّة الشَمالية. وفعلاً تمَّ اختيار الموضوع بهذا العنوان: [غزوة مؤتة، والسّرايا والبعوث النّبوّيّة الشّماليّة - دراسة نقدية] . إنّ الأهمية التي تمثلها هذه الدراسة، هو أنّ معظم الدراسات الحديثة للسرايا والبعوث النبوية هي في الغالب سرد المعلومات المختلفة التي وردت عنها في المصادر القديمة دون تمحيص، وبخاصّة ما ورد عنها في مغازي الواقدي، وتلميذه ابن سعد في طبقاته، باعتبارهما من المصادر القليلة القديمة المتوفرة التي أفردت أبواباً كثيرة للسرايا والبعوث، مع إيراد معلومات مفصَّلة عن الأحداث، وقد يُعْذَرُ الباحثون المعاصرون في اعتمادهم هذين المصدرين فقد اعْتُمِدَ عليهما من قِبل معظم كُتّاب المغازي المتأخرين، أمثال ابن سيد الناس، والمقريزي، والحلبي، والشامي، والقسطلاني، والذهبي، وابن حجر، وابن القيم، وغيرهم. وإنّه من استقراء منهجَي الواقدي، وتلميذه ابن سعد، في رواياتهما عن السرايا والبعوث، فقد لاحظت أنّ الواقدي يحشد معلومات وفيرة، وتفصيلية عن الأحداث، وربما ينفرد بها عن غيره من أهل المغازي، وقد تابعه في ذلك تلميذه ابن سعد، وبخاصّة الروايات التي يسوقها عن شيوخه بلفظ: ((قالوا)) ، وهي في الغالب منقولة عن شيخه الواقدي لتطابق المعلومات بينهما. والواقدي متروك عند المحدِّثين، لذلك حاولت قدر المستطاع عدم الاعتماد على روايته إلاّ في الجوانب التي لا تختصّ بالأمور العقدية والشرعية ونحتاج إليها لإكمال الإطار التاريخي للحادثة.
وباعتبار أنّ هذين المصدرين متداولان، وسهلا التناول، فقد كان الاعتماد عليهما كثيراً بالنسبة لمن كتب عن السرايا والبعوث، بينما هنالك روايات وردت عن ثقات أهل المغازي، كعروة، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمّد بن عائذ، وغيرهم، ولكن لفقدها، وتناثر رواياتها في بعض الكتب والمصادر غير المتخصّصة، جعلها غير معروفة لدى الكثير ممّن كتب عن السرايا والبعوث من المعاصرين. وكان من نتيجة هذا الأمر أن اختلطت المعلومات حول السرايا والبعوث، لأنّ من كتب عنها إنّما راعى عملية حشد المعلومات الواردة في المصادر المتوفرة، دون استقصاء وبحث عن الصحيح من الروايات، ودون تمحيص أو نقد، ممّا ولّد انطباعاً لدى البعض أنّ معظم الروايات التي تحدّثت عن تلك السرايا والبعوث إنّما هي في الغالب غير صحيحة، لأنّه رأى في بعضها نوعاً من المبالغة والتهويل ومخالفة المعقول، مثل ما ذكر عن عدد الروم وحلفائهم في مؤتة، وما ذكر - أيضاً - عن استمرار المعركة سبعة أيام. أيضاً كان هنالك نوعٌ من الاختلاف والتناقض واللبس في بعض الروايات، مثل ما ذكر عن سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه، إلى بني فزارة، وسرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني مرّة (الحرقات) . إنّ هذه الدراسة باعتمادها تنويع المصادر المختلفة، وبخاصّة الموثوق منها مثل: كتب الحديث وغيرها من المصادر، كان من ثمارها تلك المعلومات التي قد يلاحظها القارئ لأوّل مرّة، مثل ما ذُكِرَ في رواية أبي قتادة رضي الله عنه، عن محاولة النبي صلى الله عليه وسلم إمداد أهل مؤتة حينما بلغه خبرهم.
لقد أتاح لي استقراء كتب الحديث، والتفسير، وكتب التراجم، وبعض المخطوطات، الخروج بذخيرةٍ لا بأس بها من الروايات غير المشهورة وإنّني بذلك لا أدّعي الجدّة في الموضوع بمعناها المطلق، فعِلم المغازي ليس علماً تجريبياً، وإنّما هو من العلوم النقلية التي اسْتُفْرِغَتْ فيه الجهود العظيمة، على مرّ العصور مِمّن هم أفضل مني وأعلم. كما أنّ من الأمانة العلمية الاعتراف بالاستفادة من كتابات المعاصرين، وكانت بعض تلك الكتابات قد صِيغَت بأسلوبٍ أدبي رائعٍ، ولكنها في الحقيقة كتبت اعتماداً على بعض روايات أهل المغازي دون تمحيص أو توثيق. وحيث إنّني كنت بين أمرين: إمّا أن أكتب من جديد في الموضوع، وذلك طبعاً بعد عمليتي النقد والتوثيق، أو أستفيد من كتابات بعض من سبقني، وبخاصّة في الروايات التي تتَّفِق مع منهجي في العمل، مع إضافة أسلوبي أحياناً كثيرة. فكان أن اخترت الأمر الثاني، لأنّني لن آتي بجديد غير ما كُتِب، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وحسبي أنني اجتهدت في تنويع المصادر مع اختيار الأصحّ قدر المستطاع، كما أجهدت نفسي في عمليتي النقد والتوثيق، وهما العمليتان اللتان لم أُسْبَق إليهما - حسب علمي - بمثل هذا التوسع والعمق، وإن كان هنالك بعض من سبقني بالنسبة لنقد الروايات، ولكنها كانت إمّا أعمالاً مختصرة، أو مقتصرة على روايات بعض أصحاب المغازي فقط.
خُطّة البحث: تشتمل خطّة البحث على: مقدّمة، وثلاثة أبواب، يحتوي كلّ باب على عدّة فصولٍ، يندرج تحت كلّ فصلٍ عدّة مباحث، وبعض المباحث تحتوي على بعض المطالب، وخاتمة، ثم فهارس تفصيلية. هذا وقد قسمت خطّة البحث وفق التسلسل التاريخي للأحداث، حيث كانت هنالك سرايا حدثت قبل غزوة مؤتة وسرايا بعدها، وحتى تكون الرسالة منسجمة مع التسلسل التاريخي للأحداث جعلت السرايا التي حدثت قبل مؤتة في الباب الأوّل، وسَمَّيْته: السرايا والبعوث النّبوّيّة الشّمالية قبل غزوة مؤتة، وجعلت الغزوة بفصولها ومباحثها في الباب الثاني، أما الباب الثالث فجعلته للسرايا التي حدثت بعد غزوة مؤتة، وسَمَّيْته: السرايا والبعوث النّبوّيّة الشّمالية بعد غزوة مؤتة. وكانت الخطّة على النحو التالي: تمهيد: مقدّمة: وتشمتل على أهمية الموضوع، وسبب اختياره، والخطّة، والمنهج والصعوبات التي واجهتها، وشكرٍ وتقديرٍ. الباب الأوّل: السرايا والبعوث النّبوّيّة الشّمالية قبل غزوة مؤتة، ويحتوي على ثلاثة فصول:
الفصل الأوّل: سرايا زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهي السرايا التي ذكر أهل المغازي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعثها إلى المنطقة بقيادة حبّه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وذلك لتأديب الأعراب الذين كانوا يشكلون خطراً متنامياً على المسلمين الذين كانوا يتطلعون إلى المضي قدماً في دعوتهم إلى الإسلام في المنطقة، وكانت ثلاث سرايا: الأولى إلى وادي القرى، والثانية: إلى حسمى، والثالثة إلى مدين. الفصل الثاني: السرايا والبعوث النّبوّيّة إلى فدك، وهي السرايا والبعوث التي أرسلت إلى مناطق القبائل المشركة، التي كانت تسكن حول فدك، وهم: بنو سعد، وبنو مرّة، وغيرهم، وذلك في سياق الجهود المبذولة من النبي صلى الله عليه وسلم لتحطيم الحلف الخيبري القائم بينها وبين يهود خيبر، وكانت ثلاث سرايا أيضا: الأولى بقيادة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بني سعد، والثانية بقيادة بشير بن سعد إلى بني مرّة، والثالثة بقيادة غالب بن عبد الله الليثي إلى الحرقات. الفصل الثالث: بقية السرايا والبعوث النّبويّة قبل غزوة مؤتة، وهي ثلاث سرايا انطلقت إلى أماكن مختلفة لتحقيق أهدافٍ معيّنةٍ، وكانت السرية الأولى بقيادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل؛ لدعوة ملكها وأهلها إلى الإسلام، والثانية
بقيادة بشير بن سعد رضي الله عنه إلى الجناب، وذلك لضرب تجمعات الأعراب المعادية للمسلمين في عقر دارهم، والثالثة بقيادة كعب بن عمير رضي الله عنه إلى ذات أطلاح، وكانت بعثة دعوية غدر بها الأعراب. الباب الثاني: غزوة مؤتة، ويحتوي على سبعة فصول: تتحدث عن المعركة، وموقعها، وأسباب الغزوة، وتاريخها، وعن حشد القوات الإسلامية، وحشد قوات الحلفاء من الروم والعرب المنتصرة، ثم سير الأحداث وأخيراً نتائج المعركة، والأحكام المستنبطة والدروس المستفادة. هذا، ولقد حاول الباحث في هذا الباب أن يكون الانسجام والتناسق منتظماً بين فصوله ومباحثه، وهكذا فإنّه لو رفعت عناوين فصوله ومباحثه لما اختل نظمه، وما انفرط عقده، ولألفيته متّسقاً في تناظم رائع وتناسق بديع. الباب الثالث: السرايا والبعوث النّبوّيّة الشّمالية بعد غزوة مؤتة، وتحتوي على ثلاثة فصول: الفصل الأوّل: سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل. الفصل الثاني: سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الأكيدر. الفصل الثالث: سرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى أبنى.
وهذه السرايا كانت لإخضاع العرب المنتصرة لسلطان المسلمين بتحطيم حلفهم - المعادي للمسلمين - مع الروم وذلك لإتاحة المجال للدعوة والدعاة أن يتحركوا بسلاسة وأمان في المنطقة. الخاتمة: وتحتوى على أهمّ النتائج والدراسات التي توصل إليها الباحث. الفهارس: 1- فهرس الآيات القرآنية. 2- فهرس أطراف الأحاديث النّبويّة الشّريفة. 3- فهرس أطراف الروايات. 4- فهرس الأعلام المترجم لهم. 5- فهرس الأماكن والبلدان. 6- فهرس القبائل. 7- فهرس المصادر والمراجع. 8- فهرس الموضوعات. هذا استعراض موجز لمفردات هذا البحث الذي منّ الله سبحانه وتعالى فيه من دراسة غزوة مؤتة والسرايا والبعوث الشّمالية والتي بذل فيها الباحث غاية جهده، وربّما يكون قد فاته بعض السرايا والبعوث، ولكن لا يلام المرء مع اجتهاده.
منهج البحث: أوّلا: كانت البداية هي محاولة استقصاء الروايات من مختلف المصادر التي كتبت عن السرايا والبعوث، سواء المتخصّص منها ككتب المغازي والسير، والشمائل، والدلائل، وكتب التاريخ المختلفة، وركّزت كثيراً على كتب السُّنّة المختلفة من صحاح ومسانيد ومجاميع وزوائد، كذلك نظرت في كتب الطبقات وتراجم الرجال، بخاصّة كتب معرفة الصحابة، كما حاولت - قدر المستطاع - الإفادة من بعض المخطوطات. ثانياً: نقد هذه المرويات وفق منهج المحدّثين، حيث قام الباحث بدراسة الأسانيد وفق هذا المنهج، حسب ما أدّاه اجتهاده، ووسعه علمه المتواضع، وكان عمله في ذلك كما يلي: 1- بالنسبة للأحاديث والروايات المخرَّجة في الصحيحين أو في أحدهما، فلا تحتاج إلى نقد، لذلك لم أنظر في تراجم رجالهما، وإنّما أثبتّها مشيراً إلى رقم الجزء والصحيفة فقط. 2- نظر الباحث بعد ذلك في الأحاديث والروايات المخرَّجة في كتب السنن والمسانيد، مع قراءة متأنية في ترجمة رواتها، متتبعاً ألفاظ الأحاديث المختلفة، مع ذكر الشواهد والمتابعات التي ربّما ترد في كتب أخرى غير كتب الحديث.
3- نقل الباحث حكم النُّقَّاد على الرواية والحديث، سواء القدامى منهم أمثال: ابن حجر، وابن كثير، والذهبي، والهيثمي، وغيرهم، أو المعاصرين كالألباني، وأحمد شاكر، والبنا، ثُمّ إن كان له تعقيب على أقوالهم وأحكامهم ذكره، وإلاّ اكتفى بما ذكروه. 4- إذا لم يحكم على الرواية أو الحديث، حكم الباحث عليه بعد دراسة متأنية لسنده، وذلك من خلال كتب الرجال والجرح والتعديل، فإذا وجد ترجمة الراوي في كتاب التقريب لابن حجر، اكتفى به، لأنّ عبارته محرَّرة ومختصرة كثيرة الإتقان، وربّما استعان بكتاب التهذيب لمعرفة شيوخ الراوي وتلاميذه لتحديد المعاصرة والالتقاء من عدمها. وإذا كان الراوي من غير رجال التقريب نظر في بقية كتب الرجال والجرح والتعديل لمعرفة حاله والحكم عليه. ومما ينبغي ذكره أن الباحث تجنّب في ترجمة الرواة ذكر بعض الكُنى والألقاب لبعض الرواة لأنّهم كانوا يغضبون منها ويتحرّجون من ذكرها في حياتهم. 5- نظر بعد ذلك في روايات الأخبار الأخرى التي ترد في كتب المغازي المشهورة، كسيرة ابن إسحاق، ومغازي الواقدي، وطبقات ابن سعد، وذلك للاستفادة منها في إكمال الصورة التاريخية للحادثة، وما كان منها مسنداً درس سنده ثُمّ حكم عليه.
أما ما يرد عند الواقدي، أو كان الحديث غير مسند، فإن الباحث ينقله مع ذكر رقم الجزء والصحيفة، والإشارة إلى راويته في المتن. ثالثاً: أما في التخريج، فقد وضع الباحث الخلاصة التي توصل إليها بعد دراسة الرواية، وتوابعها، وشواهدها، وحكم النُّقَّاد عليها، أو حكمه عليها. وحتى لا تضيع الروايات في أثناء التحليل، فقد اقترح عليَّ فضيلة المشرف الدكتور عوض بن أحمد سلطان الشهري - حفظه الله - أن أضع لها أرقاماً تسلسيةً تبرزها، فإذا وردت الرواية لأوّل مرّة قمت بتخريجها والحكم عليها، وإذا تكررت أشرت في الحاشية أنّه قد سبق تخريجها ذاكراً اسم الراوي، والمصدر، والرقم التسلسلي الأوّل الذي خُرّج عنده. رابعاً: بالنسبة للأمور الخلافية، من تواريخ السرايا والبعوث، وأسبابها، والخلاف في مسمياتها، وأماكنها، فقد درسها وَفْقَ المنهج التاريخي، وذلك بإجراء المقارنة، ومحاولة الجمع أو الترجيح، مستدلاً بأقوال النُّقَّاد الذين سبقوه في ذلك من أمثال: ابن حجر، والشامي، والسهيلي، والحلبي، وابن القيّم، والزرقاني، متبعاً ذلك بما يراه من ترجيح قول أو رأي. ثم جعل ما توصل إليه من نتائج في مطالب، أو مباحث، أفرده بها، وتحدّث فيها جامعاً بين الأسلوب التاريخي، وأسلوب المباحث الفقهية، ذاكراً الآراء، وجامعاً بينها إن أمكن، ومقارناً فيما بينها، ومرجّحاً إذا تعذّر الجمع.
خامساً: الصياغة النهائية للبحث كانت صياغة تاريخية، معتمدة على الروايات المدروسة، ومطعمة بالتحليل المناسب المقتبس من بعض المراجع الحديثة، أو المصاغ بأسلوب الباحث الخاص، وقد حاول الباحث استيعاب معظم المرويات التي تمَّ دراستها باعتبارها الهيكل والأساس الذي بنيت عليه هذه الرسالة، معتمداً الأصحّ منها تاركاً الروايات المتشابهة، والشواهد، والمتابعات، التي أشار إليها في الحواشي في أثناء التخريج. ومكمِّلاً ببعض الروايات الأخرى التي قد تكون ضعيفة من الناحية الحديثية، ولكننا نحتاج إليها لتكملة إطار الحادثة التاريخية. وربما كانت بعض السرايا تعتمد اعتماداً كليّاً على هذه الروايات الضعيفة، لعدم وجود غيرها يمكن الاعتماد عليه، مع ملاحظة أنّه لا يمكن الاعتماد على تلك الروايات إذا كان هنالك أمر يتعلَّق بالعقيدة والشريعة. وربما قطّع الباحث متن الرواية الواحدة في أماكن مختلفة حسب سير الأحداث، مؤلّفاً بينه وبين متن رواية أخرى، وذلك في محاولة لإعطاء أفضل صورة تاريخية للحدث. لقد حاول الباحث في هذه الدراسة أن يجمع بين الروايات المتعددة لحوادث السرايا والبعوث المختلفة والمتناثرة بين طيات المصادر المختلفة من كتب حديث، ومغازي، ودلائل، ورجال، وغيرها، ألّف بينها - قدر المستطاع - وحسبما أدّاه اجتهاده المتواضع
لمعرفة أحداث السرايا بالترتيب والتفصيل، مستعيناً بالله عز وجل، ثم بكتابات مَن سبقه، عازياً كلّ قول لصاحبه. والله تعالى أعلم. سادساً: وأخيراً، نقل الباحث في بعض السرايا والبعوث بعض الأحكام الفقهية مستعيناً بأقوال الفقهاء في ذلك، وبأقوال النُّقَّاد الذين ساروا على هذا النهج كابن حجر، وابن القيّم، والسهيلي، والحلبي، والزرقاني، والعامري، وغيرهم. كما أَفْرَدَ الباحث مبحثاً خاصّاً بالدروس والعبر والعظات المستفادة من أحداث السرايا والبعوث، اجتهد بذكرها بعد دراسة متأنية، وسبرٍ للأحداث، فكان ذلك بمثابة دراسة تحليلية للأحداث، وربّما يقع بعض التحليل - أيضاً - بين ثنايا المباحث والمطالب، وبخاصّة (سير الأحداث) ، وربما يكون ذلك استطراداً، ولكن ما دفعه إلى ذلك هو واقعنا الأليم الذي نعيشه اليوم ونكابده، هذا الواقع المُرّ فرض عليه هذا الاستطراد، وأطلق لقلمه العنان، دون شعور منه، في محاولة للربط بين بعض أحداث هذه الغزوات بالواقع المعاصر، وهو ما قصده في مطالب الدروس والعبر المستفادة من الأحداث، لأنّ التاريخ ما هو إلاّ عبرة وعِظَةٌ لمن أراد أن يعتبر، ونبراس وهدى لمن أراد أن يستفيد من التجارب الماضية، وسنن الله الكونية، وسنن الله تبارك وتعالى في خلقه. والله تعالى أعلم. وقد ضبط الباحث شرح الألفاظ التي تحتاج إلى ضبطٍ، من كتب المعاجم اللغوية، مثل: اللسان، والقاموس، والنهاية، وغيرها.
كما عمد على تعريف شامل للمواضع والأماكن والبلدان التي وردت في البحث من خلال معاجم البلدان، مثل: معجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان لياقوت، وغيرهما، ثُمَّ أتبع ذلك بتعريف حديث لهذه الأماكن من الكتب الجغرافية التاريخية الحديثة، وبعض الدوريات، مثل: معجم السيرة، رحلات في بلاد العرب، للبلادي، مدائن صالح لمحمّد عبد الحميد مرداد، ومجلّة الدارة، ومجلّة المقتطف، وغيرها. هذا، وقد جعل الباحث لذلك مطلباً خاصّاً يسبق كلّ سرية وبعث.
الصعوبات التي واجهتني في أثناء هذا البحث: لقد واجه الباحث - بحمد الله - صعوبات كثيرة، في عملية النقد وسبر الروايات، وتمثّلت هذه الصعوبة بشكلٍ كبيرٍ في أسانيد بعض الروايات التي درسها وإليك بعض النماذج: 1- رواية ذكرها ابن سعد، وساق سندها هكذا: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، أخبرنا أبو شهاب، عن هشام، عن الحس ... وبحث الباحث عن أبي شهاب ووجده في التهذيب، ولكن لم يذكر ابن حجر ترجمته وافية لمعرفة مَن روى عنه، فلم يستطع معرفةَ مَن هو هشام؟ ومَن هو الحسن؟ وهكذا أخذ يبحث في الطبقات لعلّ ابن سعد يكرّر السند بوضوحٍ أكثر، ولكن دون جدوى، وأخيراً فتح الله عليه بعد بحثٍ جادٍ ومتقنٍ لمدّة يومين، فعرف مَن هو هشام، ومَن هو الحسن، من كتاب التهذيب. فلله الحمد. 2- رواية ذكرها الشامي في السُّبُل عن أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم، ومحمّد بن القراب في تاريخه، ولأوّل وهلة يظن القارئ أنّ الرواية جاءت عن طريق رجلين هما أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم، ومحمّد بن القرّاب، وهكذا بحث الباحث في كتب التراجم والرجال عن ترجمة إسحاق بن إبراهيم، فوجد أن هناك أكثر من واحد بهذا الاسم، ولكن مَن هو المعني بهذه الترجمة؟ بينما لم يجد ترجمة لمحمّد بن القرّاب، وظلّ يبحث فترة
طويلة حتى اهتدى بفضلٍ من الله إلى الأمر، وهو أنّ هاتين الترجمتين ما هما إلاّ لشخصٍ واحدٍ، وهو أبو يعقوب إسحاق ابن إبراهيم ابن محمّد القرّاب، وقد تصحّفت (ابن) إلى (و) عند الشامي في السُّبُل. فلله الحمد والمنّة. 3- ترجمة محمّد بن عمرو بن خالد (أبو علاثة) ، حيث لم يترجم له أحد، حيث بحث الباحث في جميع كتب التراجم، فلم يجد له ترجمة، غير أنّ الذهبي ذكره في ترجمة أبيه في السير، واصفاً إيّاه بالإمام. 4- ترجمة (أبو سعيد بن أبي عمرو) هكذا أورده البيهقي، مِمَّا أرهق الباحث كثيراً في البحث عنه، حتى وجد ترجمته أخيراً في السير والعبر، للذهبي. واسمه: محمّد بن موسى بن الفضل بن شاذان الصيرفي. 5- ذكر محمّد بن إسحاق في روايته عن سرية ذات السلاسل أنّه رواها عن محمّد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، وبعد البحث والتمحيص لم يجد الباحث من ترجم له، وبعد بحث مُضْنٍ وجده في كتاب تعجيل المنفعة لابن حجر مترجماً له بقوله: محمّد بن عبد الرحمن بن الحصين، وذكر أنّ ابن إسحاق يروي عنه.
شكرٌ وتقديرٌ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هاديَ له. وأشهد ألاّ إله إلاّ الله - وحده لا شريك له ـ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد ... فيقول الله - تبارك وتعالى ـ: {لَئِنْ شَكَرْتُم لأَزِيدَنَّكُم} . [سورة إبراهيم، الآية: 7] فمن هذا المنطلق فإنه لا يسعني - بعد أن منّ الله عليَّ وتفضّل تبارك وتعالى من إتمام هذا العمل الذي أرجو أن يكون خالصاً لوجهه الكريم - سبحانه وتعالى ـ، وأن يكون في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون - إلاّ أن أشكر الباري عز وجل شكراً جزيلاً وافياً، وأحمده حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه على نعمه وآلائه التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، وعلى إعانته تبارك وتعالى وتوفيقه وتسديده لي في هذا العمل الذي أرجو أن يكون مقبولاً عنده عز وجل. كما أتوجه بالشكر الجزيل الوافر إلى والديَّ العظيمين اللذين مهما قلت فلن أوفيهما حقّهما من الشكر والامتنان، ولا أملك إلاّ أن أدعو لهما كما أمر الله عز وجل: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِراً} . [سورة الإسراء، الآية: 24] . وإنّ من فضل الله تبارك وتعالى عليَّ في هذا البحث أن تَلْمَذْتُ فيه على يد شيخين جليلين فاضلين، جليلين بعلمهما، فاضلين بأخلاقهما، المتميزة، لقد كان للأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري - حفظه الله تعالى
- الفضل - بعد الله تبارك وتعالى - في توجيهي إلى هذا العمل، ومرافقتي فيه فترة ليست بالقصيرة، كان فيها نِعْم المُوَجِّه ونِعْمَ المُرشِد. ولقد كان لدماثة أخلاقه التي اشتهر بها الأثر البالغ في نفسي، كما كان لتشجيعه المتواصل الدافع لاستمراري في العمل. ثُمَّ شَرفت بمرافقة الدكتور عوض بن أحمد سلطان الشهري - حفظه الله تبارك وتعالى - الذي كان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى - في ظهور هذه الرسالة بهذا التنظيم والترتيب المتقن، فقد استفدت من توجيهاته السديدة، وملاحظاته القيّمة التي أتحفني بها رغم مشاغله الكثيرة. وإنني لا أجد من الكلام ما يفي شكرهما وتقدير جهودهما وعطائهما العلمي، غير أنني أدعو الله لهما بدوام التوفيق والصحّة ودوام العافية، وأن يجزيهما الله خير الجزاء، وأن يبارك في عملهما وعمرهما وينفع بهما، وأن يكون ذلك في ميزان حسناتهما يوم القيامة. كما أشكر القائمين على الجامعة الإسلاميّة، وعلى رأسهم مدير الجامعة فضيلة الدكتور صالح بن عبد الله العبود - حفظه الله تعالى - بما يسرُّوه وأتاحُوه من سُبُل لطلبة العلم الوافدين عليها من أقطار الأرض للنهل من ينابيع العلم الصافية المستقاة من الكتاب والسنة. وأسأل الله تبارك وتعالى أن يزيد هذا الصرح العلمي العظيم سؤدداً وشموخاً ورفعة في ظلّ حكومتنا الرشيدة التي كانت منذ إنشائها على يد المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيَّب الله ثراه، وجزاه عن أُمَّة الإسلام خير الجزاء - وحتى هذا العهد الزاهر، عهد خادم
الحرمين الشّريفين الملك فهد بن عبد العزيز - حفظه الله تعالى وأسبغ عليه نعمة الصحّة والعافية - وهي لا تألو جهداً في خدمة ودعم الإسلام والمسلمين في أصقاع الأرض، وفي كل المجالات، وما هذه الجامعة العظيمة التي نفع الله بها أبناء العالم الإسلامي والأقليات الإسلامية حتى وهم في أماكنهم - وذلك من خلال الدورات التعليمية الصيفية التي تقيمها الجامعة سنوياً في بلدانهم - إلاّ ثمرة من ثمار هذا الدعم المتواصل والمتعدِّد، فجزاهم الله كل خيرٍ، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم، وزادهم الله عزّاً وتوفيقاً وسدَّد خطاهم لِمَا يحبّه ويرضاه. وفي الختام لا يفوتني أن أشكر كُلَّ مَن ساهم معي في إخراج هذا العمل إلى حيّز الوجود، وأعانني عليه من الإخوة والزملاء وغيرهم، وأخصّ منهم الشيخ طلال بن سعود الدعجاني، الذي أعارني بعض المصادر المخطوطة، وأفادني ببعض المعلومات عنها. شكر الله للجميع عونهم، وجزاهم كلَّ خير، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
تمهيد
تمهيد الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو له العزّة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى وأحسن النعوت. الحمد لله المنّان، الملك الديّان، عظيم السلطان، واسع الإحسان، المتنَزِّه عن السِّنة والنّوم والنِّسيان، والغفلة والنقصان، سبحانه وتعالى، إليه الملجأ، وعليه التّكلان، أعدَّ برحمته للمؤمنين نعيم الجنان، ووعد بسطوته الكافرين عذاب النيران. أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه يليق بجلاله وجبروته وعظيم سلطانه. وأُصلِّي وأُسلِّم على مَن أُنزل عليه الفرقان، وأُوتي سبعاً من المثاني العظيمة والقرآن، وَوُهِبَ جوامع الكلم والبيان، وأُيِّدَ بالرُّعْبِ مسيرة شهر نصراً على الأعداء، صلاةً تليق بعظيم شأنه وحُسن مقامه. وعلى آل بيته البررة الكرام، وصحابته الأخيار العظام، الذين قادوا السرايا والبعوث، وتصدّروا الجيوش، فقوَّضوا عروش الكفرة، وزلزلوا أرض المشركين الفجرة، فرفعوا راية الإسلام عالية، وغلبوا جنود الشيطان، وكانوا من حزب الرحمن، ألا إنّ حزب الرحمن هُمُ الغالبون. قال - تبارك وتعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} . [سورة النساء، الآية: 76] .
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . [سورة الشورى، الآية: 13] . قال درُّوزة: "وفيها تقرير حاسم لوحدة الأسس فيما أوحي الله إلى الأنبياء، وبخاصّة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وما أوحي إلى محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وبالتالي تقريرٌ لوحدة الأسس بين القرآن والكتب السماوية"1. والشام هي ديار الأنبياء السابقين، كما وصفها المقدسي بقوله: "إقليم الشام جليل الشأن، ديار النبيّين، ومركز الصالحين، ومطلب الفضلاء، به القبلة الأولى، وموضع الحشر، والمسرى، والأرض المقدّسة، والرباطات الفاضلة، والثغور الجليلة، والجبال الشريفة، ومُهَاجَر إبراهيم، وقبر وديار أيوب وبئره، ومحراب داود وبابه، وعجائب سليمان ومدنه، وتربة إسحاق وأمّه، ومولد المسيح ومهده، وقرية طالوت ونهره، ومقتل جالوت وحصنه، وجُب أرميا وحبسه، ومسجد أوديّا وبيته، وقبّة محمّد وبابه، وصخرة موسى، وربوة عيسى، ومحراب زكريا، ومعرك يحيى، ومشاهد الأنبياء، وقرى أيوب، ومنازل يعقوب، والمسجد الأقصى، وقبر موسى، ومضجع إبراهيم ومقبرته، وموضع لقمان، ووادي كنعان، ومدائن لوط، وموضع الجنان"2.
وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً، عندما كان الإسلام في بدايته الأولى بمكّة تطالعنا رحلة الإسراء إلى بيت المقدس في أرض الشام، التي ذكرها القرآن، منوّهاً عنها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . [سورة الإسراء، الآية: 1] . وترجع البدايات الأولى لعلاقة الإسلام بالنصرانية، وزعيمتها الدّولة البيزنطية، إلى الإرهاصات المتبقية في العهدين القديم والجديد، والحديث من رهبان النصارى، وأحبار اليهود، وكُهَّان الوثنية، والأحناف، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمنه1. "وهكذا فإنّ القرآن الكريم منذ الوقت المكبر من العهد المكّي يؤكّد، - وظلّ على ذلك في مختلف أدوار التّنْزِيل، - على وحدة المصدر الذي صدر عنه القرآن والكتب السماوية، ووحدة الأهداف والمبادئ التي تضمنها القرآن، وتلك الكتب، وتأييد القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء السابقين والكتب السابقة، والتنويه بهم، واستشهد - وظلّ يستشهد بأهل الكتاب - على صِحَّة رسالته النبوية والتّنْزِيل القرآني"2.
والمسيح في مقام عالٍ، فولادته لم تكن عادية، كولادة بقيّة الناس، والقرآن يؤيّد أنّ عيسى كلمة الله، وروحٌ منه ألقاها إلى مريم، وأنه من البشر، وهو يذمّ ويُكَفِّر القائلين بألوهية المسيح. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وقف منذ البدء موقف المسالِم المتحبِّب من الكتابيين المحتَرِم لأنبيائهم وكتبهم، ولم يقع بينه وبينهم أي احتكاك وعداء1. وبعد قليل احتضن النجاشيّ المهاجرين بسبب اضطهاد مكّة لهم، أولئك الذين قال لهم رسولهم صلى الله عليه وسلم وهو يبحث لهم عن موطن يأوون إليه ريثما تنكسر حِدَّة العدوان الوثني: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكاً لا يُظْلَمُ عنده أحدٌ، وهي أرض صدق"2. وفي المقابل نجد المسلمين، وهُم قلّة مضطهدة في مكّة، يهزّهم نبأ الهزيمة الساحقة التي مُنِيَ بها الروم المسيحيون على أيدي الفرس الوثنيين، ويصيبهم بحزنٍ عميقٍ إزاء الفرح الغامر الذي غمر قلوب مشركي قريش، وتنْزل آيات القرآن الكريم تتحدّث عن الواقعة الحاسمة، وتتنبأ بالانتصار الحاسم الذي سيحققه المعسكر النصراني ضد أعدائه المجوس، حيث يفرح
فسبحانه وتعالى جلّ شأنه، جعل العِزَّة لأهل طاعته ورضوانه، إذ قال عز وجل: {وَلله العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤْمِنِينَ} . [سورة المنافقون، الآية: 8] . وقال سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم تَرَاهُم رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً} . [سورة الفتح، الآية: 29] . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمّد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمّد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيّه يقاتلون عن دينه"1. وكما جعل تعالى العِزَّة لأهل طاعته ورضوانه، ضرب الذِّلَّة والصَّغَار على مَن خالف أمره، عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثتُ بالسَّيف بَيْن يدي السّاعة حتّى يُعْبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحت ظلّ رُمحي، وجُعِلَ الذِّلَّة والصَّغَار على مَن خالف أمري" 2. 1 أخرجه الإمام أحمد (المسند: مسند عبد الله بن مسعود - م - 3600) ، وصحّح إسناده أحمد شاكر، طبعة دار المعارف بمصر. 2 أخرجه أحمد (المسند 2/50) ، وجوّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء 39، وحسّنه الحافظ في الفتح.
وهكذا لما أخرجه المشركون المعاندون والمخالفون لأمره من مكَّة، قال أبو بكر رضي الله عنه: "أخرجوا نبيّهم، ليهْلَكُنَّ". فنَزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَِلُون بِأَنَّهُم ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِم لَقَدِيرٌ} . [سورة الحجّ، الآية: 39] . فقال أبو بكر رضي الله عنه: "لقد علمت أنه سيكون قتال". قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما ـ: "وهي أوّل آية أُنزلت في القتال"1. وكان ذلك من باب المعاملة بالمثل، كما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عنه، قال: "إنّ الله أمرني أن أحَرِّق قريشاً، فقلت: ربّ إذن يثلغوا2 رأسي فيدعوه خبزاً، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك مَن عصاك"3. وهكذا شرع الله الجهاد في الوقت الأليق به، لأنهم عندما كانوا بمكّة كان المشركون أكثر عدداً، فلو أُمر المسلمون، وهم قليل، بقتال الباغين لشقّ عليهم، فلمّا بغى المشركون، وأخرجوه - عليه السلام - من بين أظهرهم، وهمّوا بقتله، واستقرّ عليه السلام بالمدينة، واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة دار إسلام، ومعقلاً يلجأون إليه، 1 أخرجه الترمذي وحسّنه. (انظر: المباركفوري: تحفة الأحوذي 9/14-15) ، وأخرجه الحاكم (المستدرك 2/76، 3/8-9) ، وصحّحه. ووافقه البيهقي. 2 ثلغ رأسه: شدخه. 3 أخرجه مسلم (الصحيح 10/314) .
شرع الله جهاد الأعداء، فبعث - عليه السلام - البعوث والسرايا1 التي انطلقت في كلّ اتجاه تدك حصون الباغين، وتشيع الرعب في قلوب المشركين، وكان هدفها جميعاً هو إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان واليقين، ومن عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد الواحد القهار، المتفرّد بصفات الكمال، حتى ضرب الإسلام بجرانه2 في أرض الجزيرة العربية، وأصبحت دار أمن وأمان ونور وسلام بعد القضاء على قوى الشرك والكفر فيها، التي كانت تمنع الناس من حرية العقيدة، وتقف حجر عثرة في سبيل نشر العقيدة الصحيحة، عقيدة التوحيد الصافية. فلمّا تمَّ للمسلمين ذلك الأمر، تطلعوا إلى أقرب المناطق للجزيرة، فإذا هي أرض الشام، أرض المحشر، المنفذ الشمالي الواسع للجزيرة العربية، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بالسرايا والبعوث إلى هذه المنطقة تمهيداً لنشر الإسلام، رسالة الله الخالدة إلى كافّة البشر. وأرأرض الشام ليست أرضاً غريبةً على الإسلام، بل هي مهد الرسالات السماوية، وأرض المحشر، باعتبار أنّ الأنبياء جميعاً دعواهم واحدة هي الإسلام، قال الله - تبارك وتعالى - في سبيل تقرير هذه الحقيقة الواضحة: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْكَ وَمَا
المؤمنون: {ألم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعَدِ غَلَبِهِم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} . [سورة الرّوم، الآية: 1-4] . وقد تحقّقت النبوءة القرآنية التي لا تخطئ، وفي بضع سنين أَلْحَقَت القوات البيزنطية بقيادة هرقل هزيمة ساحقة بالقوات الفارسية، استردت في أثرها بلاد الشام، وفلسطين، وأجزاء واسعة من العراق، وذهب هرقل إلى بيت المقدس لكي يسجد شكراً لله، وغمرت الفرحة القلّة المضطهدة في ظلمات الوثنية. لكن هذا كُلُّه لم يمنع الكثرة من النصارى العرب أن تلعب دورها في العصر المدني بمواجهة الإسلام، وتتّخذ المواقف العدائية ضدّه على شتّى المستويات، بدفع من الدولة والكنيسة البيزنطية في معظم الأحيان، وبمعزلٍ عنهما في بعض الأحيان1. وبمرور الوقت، واتساع نفوذ الإسلام شمالاً، ووصول أنباء انتصاراته على الوثنية واليهودية إلى قبائل الشمال، بدأ المعسكر البيزنطي يفتح عينيه على الخطر المحدق بوجوده من جهة الجنوب، وأغلب الظّن أن الإمبراطور البيزنطي وكبار قادته تصوّروا الأمر في بدايته مجرّد اندفاع قبلي كبير صوب الشمال، أو محاولة إمارة عربية ناشئة توسيع رقعتها الجغرافية كما كانت تفعل إمارة كِندة، أو تدمر، على سبيل المثال، ورأوا أنه بإمكان
حلفائهم العرب أنفسهم أن يكفوا الدولة البيزنطية عناء وقف هذا الامتداد، وصدّ هذه الإمارة الطموحة عن الامتداد إلى الشمال. أكثر من هذا أنّهم اعتقدوا أنه بإمكان قبيلة من أتباعهم أن تتحرّك صوب الجنوب، لتضرب القوّة الجديدة في قاعدتها نفسها، وتقصم ظهرها، وأغلب الظنّ أيضاً أن هذا الاعتقاد هو الذي دفع القبائل القاطنة في دومة الجندل في أقصى الشمال، والتي يتزعهما أُكَيْدِر بن عبد الملك الكِنْدِِي، الذي يدين بالنصرانية، ويخضع لهرقل، إلى أن تتجمع وتتهيأ في زحفٍ سريعٍ لضرب المسلمين في المدينة في ربيع من السنة الخامسة للهجرة، إلاّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ زمام المبادرة، وتحرّك بسرعة صوب الشمال على رأس ألف من أتباعه، ومن أجل أن يباغت القوم في ديارهم أخذ يسير بأصحابه ليلاً ويكمن نهاراً، حتى اقترب من هدفه، فجعلت القبائل العربية القاطنة هناك تهرب من بين يديه، لا تلوي على شيء، وبعد أن بثّ سراياه في المنطقة، قفل الرسول صلى الله عليه وسلم عائداً دون أن يلقى من العدوّ كيداً. وهكذا يمكن اعتبار غزوة دومة الجندل هذه أوّل حلقة في سلسلة الصراع الحربي بين عالَمي الإسلام والنصرانية، يؤكّد هذا ما ذكر الواقدي من أنّه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم وهو بصدد مهاجمة دومة الجندل: إنها طرف في أفواه الشام، فلو دنوت لها لكان ذلك مما يفزع قيصر. ولم يمض سوى عام أو بعض عام حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال عبد الرحمن بن عوف في شعبان من السنة السادسة لقتال قبيلة كلب النصرانية في نفس المنطقة، وطلب منه أن يتزوّج ابنة ملكهم إن استجابوا له، تعزيزاً
للعلاقات بين الطرفين، وكسباً لودّ هذه القبيلة الموالية للعدوّ البيزنطي، فتقدّم عبد الرحمن إلى دومة الجندل، ومكث هناك ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي أميرهم النصراني، وأسلم معه ناسٌ كثير من قومه، بينما وافق الآخرون على الاستمرار في دفع الجزية مع البقاء على دينهم، ونفّذ عبد الرحمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتزوّج تماضر ابنة الأصبغ، وقدم بها إلى المدينة. وقد كان من نتائج هذين الانتصارين أن أدركت القبائل الضاربة هناك أن حجم القوّة الإسلامية وقدرتها على التحرّك أكبر ممّا كانت تظن، وربّما بلغ ذلك القيادة البيزنطية نفسها، فكفّت عن تكرار المحاولة ردحاً طويلاً من الزمن أتاح للمسلمين تحقيق انتصارهم على الوثنية في صلح الحديبية، وتصفية المواقع اليهودية في الشمال، خيبر والقرى المحيطة بها، وقيام النبي صلى الله عليه وسلم بمكاتبة ملوك وأمراء العالم، بما فيهم الإمبراطور البيزنطي وأتباعه الغساسنة، وحكّام مصر والحبشة. والحقّ أن المعسكر البيزنطي هو الذي حظي بالقسط الأعظم من مكاتبة الملوك والأمراء، ربّما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك أن الوشائج التي تربط الإسلام بهذه الجهة، باعتبارها تنتمي إلى دينٍ سماويٍّ، تنصّ مصادره الدينية على نبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم ستقودهم إلى تفهّم دعوته التي انطلق بها سفراؤه إلى ملوك وحُكّام هذه المعسكر، فضلاً عن قربه الجغرافي من شبه الجزيرة، إلاّ أنّ ردود الفعل النصرانية لم تكن سواء، وتدرّجت بين الانتماء إلى الدعوة الجديدة، أو الموقف الوديّ منها، وبين الرفض الغاضب الوقح.
وفي أعقاب صلح الحديبية بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة من رجاله إلى العالم النصراني: دِحْيَة بن خليفة الكلبي إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس حاكم مصر، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي حاكم الحبشة، وشجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق. لقد أوضحت تلك الكتب والرسائل التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك العالم "أنّ هذا الدين ليس دين عربٍ أو جزيرة عربية، وإنّما هو دين الإنسان حيثما كان هذا الإنسان، ونداء إلى السلطات الحاكمة أن تستجيب للدعوة أو تسمح - على الأقل - لدعاتها بممارسة نشاطها بحريّة، ولشعوبها في مقابلة هؤلاء الدعاة والاستماع إليهم لكي يختاروا عقيدتهم على بيّنةٍ، بعيداً عن الضغط والقسر والإكراه، وإنذاراً لهذه السلطات بأنّها إن لم تُلَبِّ وتستجب، فإنّ جيوش الدعوة الجديدة ستنساح عمّا قريب في مشارق الأرض ومغاربها لكي تسقط التيجان، وتثلُّ العروش، وتنْزل السلطات من مناصبها العليا، وتخرج الناس بذلك وحده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده 1. ويبدو أنّ تلك السلطات بما لها من قوّة سياسية وعسكرية مؤثّرة في المنطقة، رأت في ذلك استفزازاً لها وتعدياً على كبريائها، وانتهاكاً لسيادتها
على المنطقة، فاستغلت أقرب فرصة للتعبير عن رفضها القاطع للدعوة الجديدة، ومحاربتها بكل الوجوه، فكان ذلك التعدي، وتلك المواقف الغادرة من بعض أمراء وقبائل المنطقة ضدّ الدعاة - الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم - إلى ذات أطلاح، ثُمَّ مقتل الحارث بن عمير الأزدي مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى. فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخذ موقفاً حاسماً إزاء القبائل العربية النصرانية الموالية للبيزنطيين بعد المواقف التي اتّخذها بعض أمرائها من دعاة الإسلام ورسلهم إلى الشام1. فكانت غزوة مؤتة في السنة الثامنة، ثُمَّ توالت السرايا والبعوث النبوية بعد ذلك، فكانت ذات السلاسل، ثُمَّ أُبنى، وغيرها من البعوث والسرايا التي كانت جميعها بما فيها غزوة مؤتة وما قبلها من السرايا تصب في بوتقةِ نشر الدعوة وإعلاء كلمة الله، وتمهيد للفتوحات الإسلامية في تلك المنقطة الغالية والعزيزة على قلوب المسلمين بحسب ما ذكرناه من الاعتبارات السابقة. والله تعالى أعلم.
الباب الأول: السرايا والبعوث النبوية الشمالية قبل غزوة مؤتة
الباب الأول: السرايا والبعوث النبوية الشمالية قبل غزوة مؤتة الفصل الأول: سرايا زيد بن حارثة رضي الله عنه المبحث الأول: سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى وادى القرى المطلب الأول: التعريف بوادى القرى ... المطلب الأول: التعريف بوادي القرى: وادي القُرَى - بضم أوَّله، وفتح ثانيه، والقصر - جمع قرية، وهو وادٍ بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، وهو بين تيماء وخيبر، فيه قرى كثيرة، وبها سُمّي وادي القُرى، والنسبة إليه "واديّ"، قال أبو المنذر: سُمّي وادي القُرى، لأنَّ الوادي من أوَّله إلى آخره قُرىً منظومة. وقال أبو عبيد الله السكوني: "وادي القُرى والحِجْر والجناب، منازل قضاعة، ثُمَّ جهينة، وعذرة، وبلىّ، وهي بين الشام والمدينة، يمرُّ بها حاج الشام، وكانت قديماً منازل ثمود وعاد1، وبها أهلكهم الله، وآثارها إلى الآن باقية، ونزلها بعدهم اليهود واستخرجوا كظائمها2، وأساحوا عيونها، وغرسوا نخلها، فلمَّا نزلت بهم القبائل عقدوا بينهم حلفاً، وكان لهم فيها على اليهود طُعمة وأكل في كل عام ومنعوها لهم، ودفعوا عنها قبائلهم"3.
وكان النعمان بن الحارث الغساني ملك الشام أراد غزو وادي القرى، فحذَّره نابغة بن ذبيان، وذلك بقوله: تجنَّب بني حُنَّ فإنَّ لقَاءَهُم ... كريهٌ وإنْ تلق إلاَّ بصابرٍ في أبيات. و"حُنَّ" - هو بضم الحاء المهملة والنون المشدَّدة - ابن ربيعة بن حرام بن ضنَّة بن عبد بن كبير بن عُذرة1. ولمَّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر في سنة سبع، امتدَّ إلى وادي القرى، وفتحها عنوة، ثُمَّ صُولِحُوا على الجزية. وكان يسكن الوادي ناس من ولد جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه، وقد غلبوا عليه، ويُعْرَفون بالواديّين. وقال الشاعر2: أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادِي القُرَى إنِّي إذاً لَسَعِيدُ وقد نُسِب إلى وادي القُرى جماعة، منهم يحيى بن أبي عبيدة الوادي أصله من وادي القُرى، وكان مولى لقريش، ثقةً في الحديث، ذكره علي بن الحسين الحرَّاني الحافظ في تاريخ الجزري، ومنهم - أيضاً: عمر ابن داود بن زاذان مولى عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه، المعروف بعمر الوادي المغني، وكان مهندساً في أيَّام الوليد بن يزيد بن عبد الملك3.
ويُعْرَف وادي القُرى اليوم ب "العُلا" بضم العين ثُمَّ لام وألف من غير همزة، والنسبة إليه "عُلَوِيٌّ"، وهي مدينة عامرة شمال المدينة النبوية على قرابة "350" ميلاً، كثيرة المياه والزرع والأهل، ويصُبُّ واديها في وادي الجزل، ثُمَّ يَصُبُّ الجزل في وادي الحمض "أضم"، وهي ملاصقة للحجر ديار ثمود، متَّصِلة بها اتِّصالاً تامّاً، لا يفصِلُ بينها وبين المدائن حدود ولا جبال. وسبب تسميتها ب "العُلا" أنَّها قامت على أنقاض قصبة وادي القُرى المُسَمَّى "قُرح"، وهو موضع كان بالوادي من صدره، فغلب عليه اسم العُلا، لأنه أعلى الوادي، وكانت "قُرح" سوقاً مشهورة من أسواق العرب في الجاهلية، وفيها مسجد قُرح الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك، وهو مسجد العُلا اليوم فيما يتوارث أهلها، وتنقسم العُلا إلى حارتين: الشِّقيق - بالشين المشددة المكسورة -، والحِلف - بكسر - الحاء وجوّها جميل، وسكانها خليط من عرب الشمال والحجاز، وبعض أهل القصيم وحائل، وبها محطَّة لسكة حديد الحجاز المعطَّلة. وتُعدّ العُلا مِن أكبر محافظات المدينة الزراعية المتطورة، حيث يُزرع بها النخيل، والأترجّ، والليمون بأنواعه، والفواكه والخضروات، وأكثر صادراتها التمور، وهو أنواع، أجودها البرني، والسكري، وتربطها بالمدينة النبوية طريق معبدة، ويسكن بعض أهلها المدينة1.
المطلب الثاني: الخلاف في سبب السرية
المطلب الثاني: الخلاف في سبب السرية: بالنظر إلى أقوال أهل المغازي في سبب السرية، نجد هنالك قولين: - القول الأوَّل: لابن إسحاق، الذي ذكر أنَّ سببها كان سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذه السرية مباشرةً، وبقيادة زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - نفسه إلى وادي القرى: [1] "فلقي به بني فزارة1 وأصيب بها ناسٌ من أصحابه، وانفلت زيد من بين القتلى. فلمَّا قدم زيد بن حارثة، نذر أنْ لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو فزارة"2.
- القول الثاني: وقال به الواقدي، وابن سعد، حيث ذكرا أنَّ زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - خرج: [2] "في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة، من بني بدر1، فضربوه وضربوا أصحابه، وأخذوا ما كان معهم، ثُمَّ استبلَّ زيد2، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم"3.
هذا وقد جمع ابن سيد الناس بين روايتي ابن إسحاق، وابن سعد وقال: "كذا ثبت عن ابن سعد، لزيد سريتان بوادي القُرى، إحداهما في رجب، والثانية في رمضان"1. وقال الزرقاني معلّقاً: "وقد التبس سبب السرية الذي هو السير للتجارة بالسرية نفسها على مَن زعم أنَّ قول اليعمري2، لشيخه الدمياطي3، كذا ثبت عند ابن سعد لزيد سريتان بوادي القرى، إحداهما في رجب، والأخرى في رمضان، مشكل لاقتضائه أنه أُرسل غازياً في المرَّتين لبني فزارة مع أنَّه إنَّما كان في الأولى تاجراً اجتاز بهم، كما دلَّ عليه كلام ابن سعد، ففيه اطلاق السرية على الطائفة الخارجة للتجارة، ولا يختص ذلك بالخارجة للقتال أو تحسس الأخبار، وهو وهم فكلام ابن سعد كما علمت إنما هو في سبب غزوة زيد لهم في رمضان، مع أنَّ الثلاثة مع كونهم حُفَّاظاً متقنين لم ينفردوا بأنَّهما سريتان لزيد، بل سبقهم إلى ذلك الواقدي، وابن عائذ، وابن إسحاق، وإن خالفهم في سببها، ولم يذكر تاريخاً"4.
وقال في مكانٍ آخر محاولاً الجمع بين القولين: "ويجمع بتعدُّد السبب بأن يكون لما صحَّ1 ذهب للتجارة فنهبوه، فرجع وأخبره صلى الله عليه وسلم"2. قلت: ذلك يقتضي أنَّ زيد بن حارثة - رضي الله عنه - خرج ثلاث مرَّات خلال شهرين، وهو أمر متعذّر لصعوبة المواصلات في ذلك الوقت، ومشقة السفر خاصّةً وأنه قد ذكر أنَّ زيد قد جرح جراحاً بليغة في المرَّة الأولى حتى اعتقد بنو فزارة بأنَّه قد مات، وشفاؤه من تلك الجراح يتطلب وقتاً ليس بالقصير، كما أنه من المستبعد أن يخرج للتجارة مارّاً بديار أولئك القوم الذين بدت عداوتهم للمسلمين وخاصّةً أنَّ زيداً - رضي الله عنه - قد غزاهم في المرّة الأولى، فخروجه لمجرَّد التجارة يُعَدُّ مجازفة عظيمة، ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يوافقه عليها أبداً. لذلك أرى أنه لا يمكن الجمع بين القولين، بل لابدَّ من ترجيح أحدهما على الآخر، وهو في نظري قول ابن إسحاق، فهو بالإضافة إلى كونه أقوى إسناداً مدعوماً بالواقع، فالمسلمون في تلك الفترةلم يفرضوا سلطانهم على تلك المنطقة بَعْدُ، حتَّى تصبح طريقاً سالكةً لتجارتهم إلى الشام، بل كانوا في موقف المواجهة مع القبائل القاطنة في تلك المنطقة خاصّةً وأنَّها حليفة قوية ليهود
خيبر الذين كان المسلمون يعُدُّون العُدَّة السريعة لمواجهتهم بعد الحديبية، وتوقيع الهُدنة مع قريش، نظراً لنشاطات زعمائهم المعادية للمسلمين ودورهم الكبير في تأليب الأحزاب في الخندق والذي شاركت فيه بعض تلك القبائل1 القاطنة في تلك المنطقة بفعالية كبيرة.
المطلب الثالث: الخلاف في قائد السرية
المطلب الثالث: الخلاف في قائد السرية: قلت: اختلف في هذه السرية، وقائدها على قولين: ذكر أهل المغازي المتقدمين، كابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، وابن عائذ هذه السرية، وأنَّ قائدها زيد بن حارثة - رضي الله عنه، وأنَّ سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - كان معهم في السرية، وأنه أصاب جارية جميلة من بني فزارة، ذكر أهل المغازي أنَّها بنت أُمّ قرفة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استوهبها من سلمة، فوهبها له، فأهداها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لخاله حزن بن أبي وهب1. - وأخرج أهل الحديث "مسلم، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن أبي شيبة" عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه، قال: [3] "غزونا فزارة وعلينا أبو بكر، أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ... فذكر الحديث"2.
وذكر فيه قصة أسره لامرأةٍ من بني فزارة، ومعها ابنة لها من أحسن العرب، وأنَّ أبا بكر نفله إيَّاها، وأنه قدم بها المدينة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله إيَّاها فوهبها له، فبعَثَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسرى بمكة1.وحاول المتأخرون من أهل المغازي الجمع، أو ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى، فقد نقل الحلبي، والزرقاني عن الشامي الجمع بين الروايتين حيث قال: "يُحتمل أنَّهما سريتان، اتَّفق لسلمة بن الأكوع فيهما ذلك، أي إحداهما لأبي بكر، والأخرى لزيد بن حارثة، ويؤيد ذلك أنَّ في سرية أبي بكر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَثَ ببنت أُمّ قرفة إلى مكة ففدى بها أسرى كانوا في أيدي المشركين، وفي سرية زيد وهبها لخاله حزن بمكة. قال: ولم أرَ من تعرَّض لتحرير ذلك"2.
وتعقَّبه الحلبي، والزرقاني، بأنَّ في هذا الجمع نظراً؛ لأنه يقتضي أنَّ أُمَ قرفة تعدَّدت، وأنَّ كُلَّ واحدة كانت لها بنت جميلة، وأنَّ سلمة بن الأكوع أسرهما، وأنَّه صلى الله عليه وسلم أخذهما منه. وفي ذلك بعد، إلاَّ أن يُقال: لا تعدُّد لأُمّ قرفة وتسمية المرأة في سرية أبي بكر أُمّ قرفة وَهَمٌ مِن بعض الرواة، ويدل عليه أنَّ بعضهم أوردها ولم يسم المرأة أُمّ قرفة، بل قال: فيهم امرأة من بني فزارة معها ابنة لها من أحسن العرب1. وفيه توهيم رواية الصحيح بلا حُجَّة، فإنَّ تسميتها فيه من زيادة الثقة، فما في الصحيح أصحَّ كما قال السهيلي2. قلت: رجَّح السُهيلي ما ورد في روايات أهل الحديث حول الجارية التي استوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلمة ففدى بها أسيرين من المسلمين كانوا بمكّة على روايات أهل المغازي، ومنهم ابن إسحاق، الذين ذكروا أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهبها لخاله حزن بمكّة3، ووافقه الزرقاني على ذلك مُعَمّماً هذا الحكم على باقي الرواة وبخاصّةً كون القائد أبا بكر الصّدّيق - رضي الله عنه، وليس زيد ابن حارثة - رضي الله عنه، كما ذكرت روايات أهل المغازي4.
وقد جمع ابن حجر بين ما ذكره أهل المغازي حول قيادة زيد ابن حارثة - رضي الله عنه - للسرية، وما ذكره مسلم من رواية سلمة - رضي الله عنه، وكأنه - أي ابن حجر - معتبرٌ إيَّاها قصّةً واحدة1. ولو أمعنا النَّظر في الروايتين: رواية أهل المغازي، ورواية أهل الحديث، لأمكن استنباط قرائن قوية تدل على اتّحاد القصة، وأنَّ أحداثها تدور حول سرية واحدة، فمن ذلك مثلاً: - أنَّ كلتا الروايتين تشير إلى أنَّ السرية كانت موجهة لبني فزارة. - أشارت روايات أهل الحديث أنَّ قائد السرية صبَّح القوم ثُمَّ أمر بشن الغارة عليهم دون سابق إنذار2، ووقع مثل ذلك في روايات أهل المغازي3.
مِمَّا يدل على أنَّ هدف السريتين كان هو المباغتة لتأديب أولئك الأعراب، والمباغتة لا تكون إلاَّ لقومٍ قد بلغتهم الدعوة فأصرُّوا واستكبروا، وبدت منهم العداوة للمسلمين، وتبليغ الدعوة يكون إمَّا بكتاب يبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعثة دعوية، أو سرية سابقة كما حدث بالنسبة إلى بني فزارة، حيث أُرسل إليهم زيد ابن حارثة - رضي الله عنه - في سرية، فقاتلوه وأصابوا أصحابه، فكانت المباغتة في السرية الثانية لأجل تأديبهم لما كان منهم في السرية الأولى، والله تعالى أعلم. - ذِكْر المرأة الفزارية وابنتها الجميلة اللتان أصابهما سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه، ولو سمَّتهما المصادر الحديثية كما فعلت المصادر التاريخية، لَحُسِمَ النّزاع مبكراً. وإن كان بعض أهل المغازي المتأخرين قد ذكر ورود التسمية في بعض روايات الصحيح1. ولكن رواية مسلم التي بين أيدينا لم تُسَمّ المرأة، وكذلك روايات أهل الحديث الأُخرى. كُلُّ هذه القرائن تقوي الاعتقاد أنَّها سرية واحدة أُرْسِلَت إلى بني فزارة، ولكن هذه المرّة بقيادة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه، كماذكرت روايات أهل الحديث، ويمكن توهيم روايات أهل المغازي التي ذكرت أنَّ القائد كان زيد ابن حارثة - رضي الله عنه، فتوهيم روايات
أهل المغازي أخف وطأة وأقل تبعية من توهيم روايات أهل الحديث بما فيها رواية الصحيح، لأنَّ روايات أهل المغازي على تخصصها فإنَّها جميعاً قد وردت من طرقٍ لا تخلو من مقال، وليس فيها رواية واحدة يمكن أن ترتقي إلى رواية الصحيح أو غيرها من الروايات الحديثية. وربما وقع الوهم عند أهل المغازي بسبب ما ورد عندهم من خروج زيد ابن حارثة - رضي الله عنه - في السريتين، وبما أنه كان قائداً للسرية الأولى، ثُمَّ نذره بعد ذلك بسبب ما وقع له ولأصحابه من بني فزارة بغزوهم مرّةً ثانية، فجعلوه قائداً للسرية الثانية، ربما يكون قد خرج معهم ولم يكن قائداً، بل أُنيطت القيادة هذه المرَّة بالصّدّيق أبي بكر - رضي الله عنه، لكون زيد - رضي الله عنه - قد أُصِيبَ في المرّة الأولى، فأراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إراحته وإسناد القيادة لأبي بكر - رضي الله عنه، وسمح لزيد بالخروج وفاءً لنذره، فشارك بفعالية بأحداث السرية، فوهم أهل المغازي، وذكروا أنه قائد للسرية، ولكن ما في الصحيح أصح، والله تعالى أعلم.
المطلب الرابع: تاريخ السرية
المطلب الرابع: تاريخ السرية: تفرَّد الواقدي، وابن سعد من المتقدّمين من أهل المغازي بتحديد تاريخ هذه السرية، حيث أرَّخ لها الواقدي برمضان سنة ست من الهجرة1. وكذلك فعل ابن سعد2، ولكنَّه أرَّخ للسرية الأولى برجب سنة ست3. وقد مرَّ بنا قول ابن سيّد النَّاس: كذا ثبت عن ابن سعد، لزيد سريتان بوادي القُرى، إحداهما في رجب، والثانية في رمضان4. وقد تابعهما في ذلك البلاذري في الأنساب5. ولم يؤرّخ لها ابن إسحاق، وإنَّما ذكرها في سياق السرايا والبعوث حيث عدَّد سرايا زيد بن حارثة - رضي الله عنه، وذكر هذه السرية بعد سريته إلى الطرف من ناحية نخل من طريق العراق6.
ونقل بعض المتأخرين من أهل المغازي أمثال: ابن سيّد الناس، والقسطلاني، والمقريزي، والشامي، تاريخ السرية عن ابن سعد، وشيخه الواقدي1. ولم يذكر البيهقي2، وتبعه في ذلك ابن كثير3 سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى بني فزارة، وإنَّما ذكرا سرية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إليهم، حيث قال البيهقي: جماع أبواب السرايا التي تذكر بعد فتح خيبر، وقبل عمرة القضية، وإن كان تاريخ بعضها ليس بواضح عند أهل المغازي، ثُمَّ بدأ الحديث عن سرية أبي بكر - رضي الله عنه 4. وكذلك فعل ابن القيم، حيث قال: "وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد مقدمه من خيبر إلى شوال، وبعث في خلال ذلك السرايا، فمنها سرية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى نجد قبل بني فزارة"5. هذا بالنسبة لأهل السير والمغازي، أمَّا ما يفهم من روايات أهل الحديث فيفهم من قول سلمة - رضي الله عنه - عندما سأله النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
الجارية – "يا رسول الله لقد أعجبتني - وما كشفت لها ثوباً" وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركه الإنكار عليه، دليلٌ على أنَّهم يستبيحون إذ ذاك وطء الوثنيات، وذلك قبل نزول تحريمه بعد الحديبية1، ففي ذلك دليل على أنَّ السرية كانت قبل الحديبية. وكذلك إرسال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الجارية إلى أهل مكة ليفتدي بها أسيرين من المسلمين كانوا عندهم، دليلٌ آخر على أنَّ السرية كانت قبل الحديبية، لأنَّ اتفاقية الحديبية كانت اتفاقية سلام ومعاهدة صلح بين المسلمين ومشركي مكة سوَّت الوضع القائم بينهما، وأعتقد أنه كان لا يمكن استثناء الأسرى من الاتفاقية لو وُجِدُوا، فذلك دليلٌ على أنَّ الأسرى قد سُوّيَ وضعهم قبل الحديبية حيث لم يرد في بنود المعاهدة2 أيّ ذكرٍ عنهم، والله تعالى أعلم.
المطلب الخامس: سير الأحداث
المطلب الخامس: سير الأحداث: في شهر رجب من السنة السادسة من الهجرة النبوية المباركة، كما يذكر ابن سعد1، وصلت إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم معلومات هامَّة عن تحركات مُعَادية تقوم بها امرأة من بني فزارة، ذات شأن فيهم، ومنْزلة ورئاسة يُقال لها أُمّ قرفة2، يذكر الزهري عن عروة أنَّها: [4] "قد جهَّزت ثلاثين راكباً من ولدها وولد ولدها، قالت: اقدموا المدينة فاقتلوا محمَّداً! فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللهم اثكلها بولدها. وبعث إليهم زيد بن حارثة" 3 - رضي الله عنه - على رأس سرية، لم تذكر الروايات قوتها، ولكنها كانت على ما يبدو قليلة العدد. [5] "فالتقوا بالوادي4،وقُتِلَ أصحاب زيد"5 - رضي الله عنهم - منهم:
[6] "ورد بن مرداس1، وارتُثَّ2 زيد بن حارثة من بين وسط القتلى"3. [7] "فلمَّا قدم زيد بن حارثة، نذر ألاَّ يمس رأسه غُسل من جنابة حتى يغزو فزارة، فلمَّا استبلَّ من جراحه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشٍ إلى بني فزارة"4 فيهم سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه، ويقودهم أبو بكر الصّدّيق - رضي الله عنه -، فكمنوا النهار وساروا الليل، ومعهم دليل لهم كما يذكر الواقدي5. قال سلمة - رضي الله عنه: [8] "فلمَّا دنونا من الماء6أمرنا أبو بكر، فعرَّسنا7، قال: فلمَّا صلَّينا الصُّبْح، أمرنا أبو بكر فشننا الغارة8، فقتلنا على الماء
مَن قتلنا"1. [9] "فكان شعارنا: أمت. أمت. قال: فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات من المشركين"2. [10] "وأنظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلمَّا رأوا السهم وقفوا فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم3 معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتَّى أتيت بهم أبا بكر"4. ويجزم أهل المغازي أنَّ تلك المرأة هي أُم قرفة5، وأنَّها قُتِلَت، وقُتِلَ بعض ولدها6، وذكرت بعض الروايات أنَّها قُتِلَت قتلاً
عنيفاً1. [11] "وأنه بُعِثَ برأسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فديرَ به في المدينة ليُعلم قتلها"2. وهذه الروايات إسنادها ضعيف، وتعارضها الأحاديث الصحيحة التي تأمر بإحسان القتل، وتنهى عن المُثْلَة، كما أنه لم يثبت أنه حُمِلَ رأس أحد من الرجال أو من النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه: [12] "فنفلني أبو بكر ابنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً3، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة. فقلت: يا رسول الله! والله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوباً. ثُمَّ لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال لي: يا سلمة هب لي المرأة، لله أبوك4، فقلت: هي لك يا رسول الله، فو الله ما
كشفت لها ثوباً، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسرى بمكة"1. ويذكر عروة أنَّ زيد بن حارثة رضي الله عنه لمَّا قدم المدينة مع أهل السرية أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [13] "قالت عائشة - رضي الله عنها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في بيتي، فقرع الباب، فخرج إليه يجر ثوبه حتى اعتنقه، وقبَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم" 2.
المطلب السادس: الأحكام المستنبطة والدروس والعبر المستفادة
المطلب السادس: الأحكام المستنبطة، والدروس والعبر المستفادة: اشتملت هذه السرية على بعض الأحكام الفقهية، وبعض الدروس والعظات المفيدة التي يمكن استنباطها والإفادة منها. أولاً: الأحكام الفقهية المستنبطة: - حكم التنفيل من أصل الغنيمة: قال النووي: قوله: "فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها" فيه جواز التنفيل، وقد يحتج به مَن يقول التنفيل من أصل الغنيمة، وقد يجيب عنه الآخرون بأنه حسب قيمتها، ليعوض أهل الخُمس عن حصَّتهم1. وقد فصَّل ابن قدامة الحديث في النَّفل وأقسامه، وجعل هذا من القسم الثاني من أقسام النَّفل حيث قال: "القسم الثاني: أن ينفل الإمام بعض الجيش لغنائه وبأسه وبلائه، أو لمكروه تحمّله دون سائرالجيش، قال أحمد: في الرَّجُل يأمره الأميرُ يكونُ طليعةً، أو عندَه، يدفَعُ إليه رأساً من السَّبْي أو دابةً، قال: إذا كان رجلٌ له غَناءٌ، ويقاتل في سبيل الله، فلا بأس بذلك، ذلك أنفعُ لهم، يُحَرَّضُ هو وغيرُه، يُقاتلون ويَغْنَمون. وقال: إذا نفَّذ الإمامُ صَبِيحةَ المَغَارِ الخيْلَ، فيُصِيبُ بعضُهم، وبعْضُهم لا يأتي بشيءٍ، فللوالي أنْ يَخُصَّ بعضَ هؤلاء الذين جاءوا بشيءٍ دونَ هؤلاء. وظاهرُ هذا أنَّ له إعطاءَ مَن هذه حالُه من غيْرِ شرطٍ. وحُجَّةُ هذا حديث
سلمة بن الأكوَع، أنَّه قال: أغارَ عبدُ الرحمن بنُ عُيَيْنَة على إبلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتَبِعْتهُم - فذكرَ الحديثَ - فأعطاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سهمَ الفارِسِ والرَّاجلِ. رواه مسلم، وأبو داود. وعنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّرَ أبا بكرٍ، قال: فبيَّتنا عَدُوَّنا، فقَتَلْتُ لَيْلَتئِذٍ تسعةَ أهل أبياتٍ، وأخذتُ منهم امرأةً، فنفَّلَنيها أبو بكرٍ، فلمَّا قَدِمْتُ المدينةَ، استوهبها منّي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فوهبتها له. رواه مسلم بمعناه1. - حكم التفريق بين الوالدة وولدها البالغ: قال الخطابي: "فيه دليلُ على جواز التفريق بين الأُمّ وولدها الكبير"2. وقال النووي: "ولا خلاف في جوازه عندنا"3. وقال ابن قدامة: "أجمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ التفريق بين الأُمّ وولدِها الطّفل غيرُ جائزٍ، هذا قول مالك في أهل المدينة، والأوزاعي في أهل الشام، والليث في أهل مصر، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي فيه. والأصل فيه ما رَوَى أبو أيوب قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ فرَّق بَيْنَ والِدَةٍ ووَلَدِها، فرَّق الله بَيْنَه وبَيْنَ أحِبَّته يومَ القيامةِ". أخرجه
الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ1. وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُوَلَّهُ والِدَةٌ عن وَلَدِها"2. قال أحمد: "لا يُفَرَّقُ بيْن الأُمّ وولدِهَا وإنْ رَضِيَت. وذلك - والله أعلم - لِمَا فيه من الإضرار بالولَدِ، ولأنَّ المرأة قد تَرْضَى بما فيه ضَرَرُها، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ قلبُها بعد ذلك فتندم"3. - وقال النووي: "وفيه جواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ما غنموه ليفادي به مسلماً أو يصرفه في مصالح المسلمين، أو يتألَّف به مَن في تألُّفه مصلحة، كما فعل صلى الله عليه وسلم هُنا، وفي غنائم حنين"4. - وقال أيضاً: "وفيه جواز قول الإنسان للآخر: للهِ أبوك، ولله درُّك"5.
ثانياً: الدروس والعبر المستقاة: - أدب النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وعدم إرغامهم على فعل شيء أو بذل شيء دون طيبة نفس. - طاعة الصحابة - رضي الله عنهم - لنبيهم - عليه الصلاة والسلام، وإيثاره على أنفسهم، وتجردهم من مغانم الدنيا ولذَّاتها في سبيل ذلك. - حرص النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم البالغ على المسلمين جميعاً، ورأفته بهم، ومحاولة التخفيف من معاناتهم، وفك أسرهم بأسرع وقت ممكن وبالسبل الممكنة والكفيلة.
المبحث الثاني: سرية زيد بن الحارث رضى الله عنه إلى حسمى (جذام)
المبحث الثاني: سرية زيد بن الحارث رضى الله عنه إلى حسمى (جذام) المطلب الأول: التعريف بحسمى ... المطلب الأول: التعريف بحسمى: حِسْمَى - بكسر الحاء المهملة، وسكون السين المهملة، وفتح الميم - مقصور على بناء فِعْلي، يجوز أن يكون أصله من الحسم، وهو المنع. قال ابن سيده: حِسْمَى موضع باليمن، وقيل: قبيلة جذام. وقال البكري: قال عنترة: سيأتيكم عني وإن كنت نائياً دخان العلندي دون1 بيتي مذود قصائد من قيل امرئ يحتديكم2 وأنتم بحُسمى فارتدوا وتقلَّدوا يخاطب بني فزارة، فدلَّ على أنَّ حسمى من ديارهم، وفي رسم ومران: إنَّ حسمى من الجزيرة في شعر ابن أحمر: فلله من يسرى ونجران دونه إلى دير حسمى أو إلى دير ضمضم قال: ودير "حسمى"، ودير ضمضم بالجزيرة، فدل هذا التفسير، ودلَّ قول عنترة أنَّ حسمى موضع آخر في غير ديار جذام. وقال ابن السكيت: حسمى لجذام جبال وأرض بين أيلة، وجانب تيه بني إسرائيل
الذي يلي أيلة وبين أرض بني عذرة من ظهر حرة نِهْيا، فذلك كله حسمى، قال كثير: سيأتي أمير المؤمنين، ودونه جماهير حسمى قورها وحزونها1 وقال ابن الأعرابي: "إذا لم يذكر كثير غيقة فحسمى، وإذا ذكر غيقة فحسنا؟ "2. وذكر ابن دريد وغيره: "أنَّ آخر ماء نضب من ماء الطوفان حِسْمى، ويُقال: إنَّ الماء بقي بحسمى بعد نضوب ماء الطوفان ثمانين سنة، وبقيت منه بقية إلى اليوم فهو أخبث ماء، فهو من مياه جذام، وهو الصحيح، وفيه أغار الهُنَيْد الصَّلعيُّ، وصليع بطن من جذام، على دحية الكلبي، وقد نزل وادياً من أوديته، يُقال له: شِيَار، وهو منصرف من عند قيصر، حين بعثه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلى حِسْمى، فأصاب من جذام، وقتل الهنيد بالفضافض"3 من ديارهم.
وفي حديث أبي هريرة: "لتخرجنكم الروم منها كفراً كفراً إلى سُنْبُك1 من الأرض، قيل: وما ذاك السُّنْبُك؟ قال: حِسْمى جذام". وفي الحديث: "بشِّر ركيب السُعاة بقطعٍ من جهنَّم مثل قور حِسْمى " قال القتبي: وحسمى: بلد جذام. وقال في الصحاح: "حِسْمى أرض بالبادية غليظة لا خير فيها، تنْزلها جذام، وفيها جبال شواهق ملس الجوانب، لا يكاد القتام2 يُفارقها". وفي أخبار المتنبي وحكاية سيره من مصر إلى العراق قال: حسمى أرض طيبة تؤدى لين النخلة من لينها، وتنبت جميع النبات، مملوءة جبالاً في كبد السماء متناوحة3ملس الجوانب، إذا أراد الناظر النظر إلى قُلَّة أحدها قلَّ عنقه حتَّى يراها بشدة، ومنها ما لا يقدر أحد أن يراه ولا يصعده، ولا يكاد القتام يفارقها، ولهذا قال النابغة: فأصبح عاقلاً بجبال حسمى دقاق التُّرب محتزم القتام قال ياقوت: "واختلف الناس في تفسيره ولم يعلموه، ويكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين، يعرفها مَنْ رآها مِن حيث يراها، لأنَّها لا مثل لها في الدنيا، ومن جبال حِسمى يُعرف ب "إرم" عظيم العلو، تزعم أهل
البادية أنَّ فيه كروماً وصنوبراً، وأهل تبوك يرون جبل حسمى في غربيهم وشرقيهم، وأرض حسمى بينها وبين وادي القرى ليلتان. قال ابن سعد: هي وراء وادي القرى. وقال محمَّد مرداد: "هي موضع وراء وادي القرى، متصل بالحجر تماماً من طريق الإبل، ولا يزال موجوداً للآن ومعروفاً، ومن تسلق أعلا نخلة في تبوك يرى جبل حسمى، وكذلك المتسلق لأعلى شجرة في العُلا أو المتسنم لأعلى ذروة في جبال وادي القرى يرى حسمى، وقد مررنا به في رحلتنا ولكننا لم نستطع تسلقه مع أننا أقمنا ب "حقل"، وأيلة أياماً عديدة، والسبب في ذلك راجع إلى كثرة العجاج وشدَّة الريح، إذ كلَّما عزمنا على تسنمه تشتد بنا الريح فنهبط قسراً، وقد ذكر حسمى أكثر من أربعين مؤرخاً ورحَّالة، ويزعم البدو الرُّحَّل وأهل الماشية هناك أنَّ بقمَّته وحشرجه مياه متعفّنة لا يقرب منها أحد"1.
المطلب الثاني: سبب السرية
المطلب الثاني: سبب السرية: أجمع أهل المغازي على أنَّ السبب الذي هاج هذه السرية إلى جذام هو ذلك الاعتداء السافر الذي تعرَّض له سفير النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وحامل كتابه إليه دحية بن خليفة الكلبي - رضي الله عنه، بينما كان مقبلاً من عند هرقل الذي أجازه بمالٍ وكساه [1] "حتَّى إذا كان بوادي من أوديتهم، يُقال له: شِنَار1، أغار على دحية بن خليفة، الهنيد بن عوص، وابنه عوص بن الهنيد الضُّلعيَّان 2، فأصابا كل شيء كان
معه"1. فلمَّا قدم دحية بن خليفة - رضي الله تعالى عنه - على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر
[2] "فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم زيد بن حارثة، وذلك الذي هاج غزوة زيد جذام"1.
المطلب الثالث: تاريخ السرية
المطلب الثالث: تاريخ السرية: أرَّخ لها الواقدي، وابن سعد بأنَّها كانت في جمادى الآخرة سنة ست من الهجرة1. وقطع به اليعمري2، وقال به المقريزي3، والشامي4. وذكرها ابن خياط في سراياه صلى الله عليه وسلم أنها كانت سنة سبع5. وقال الحلبي: "وسببها أنَّ دحية الكلبي - رضي الله تعالى عنه - أقبل من عند قيصر ملك الروم، أي وكان صلى الله عليه وسلم وجَّهه إليه بغير كتاب، وإلاَّ فإرساله إليه بالكتاب كان بعد هذه السرية، لأنه كان بعد الحديبية"6. ولعلَّ الحلبي - رحمه الله تعالى - قال ذلك اعتماداً على روايتي الواقدي وابن سعد في تاريخ السرية، وقد ثبت من روايات أهل المغازي جميعاً، بما فيهم الواقدي، وابن سعد، أنَّ ذلك كان فعلاً هو سبب السرية، كذلك لم يذكر أحد من أهل المغازي أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أرسل دحية - رضي الله تعالى عنه - إلى هرقل ملك الروم مرَّتين، مرَّة بكتاب، وأُخرى بغير كتاب، بل الثابت كما هو في صحيح مسلم، وغيره:
[3] "أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كُلِّ جبار، يدعوهم إلى الله تعالى"1. وبعث تلك الكتب مع نفر من أصحابه - رضي الله تعالى عنهم، وكان منهم دحية بن خليفة الكلبي - رضي الله تعالى عنه، الذي بعثه إلى قيصر ملك الروم، وقد يكون ما ذكره الواقدي، وابن سعد في تاريخ هذه السرية، وَهَماً منهما - رحمهما الله تعالى - حيث جزم ابن القيم - رحمه الله تعالى - بأنَّها بعد الحديبية بلا شك2. قال الزرقاني: "فتكون هذه السرية سنة سبع"3. وقال العامري: "وذكر البخاري بعد غزوة خيبر غزوة زيد بن حارثة، وهي التي أغار فيها على جذام"4. وقد مرَّ بنا في سرية زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - إلى وادي القرى ما ذكره ابن حجر - رحمه الله تعالى - في اعتقاده أنَّها هي مراد البخاري.
ولعلَّ ما جزم به ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كون هذه السرية بعد الحديبية، وما رجَّحناه سابقاً في سرية زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - إلى وادي القرى بأنَّها قبل الحديبية، وكذلك ترتيب البخاري لذكر سرية زيد - رضي الله تعالى عنه - بعد خيبر، وأيضاً قصة وفادة رفاعة إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وإهداؤه غلاماً له يُسمَّى مُدعم، والذي وقع في الصحيح أنه قُتِلَ في أثناء غزوة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى1. كُلُّ ذلك يؤيد رأي خليفة، والزرقاني، والعامري في كون هذه السرية بعد خيبر، أي: سنة سبع، والله تعالى أعلم.
المطلب الرابع: سير الأحداث
المطلب الرابع: سير الأحداث: [4] "قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الجذامي ثُمَّ الضبيبي"1 في وفد من قومه بني الضبيب ومعه أخاه بعجة2 [5] "وأنيف3، وحبان4، ابنا ملة في اثنى عشر
رجلاً"1. [6] "فأهدى رفاعة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً يُقال له مدعم2"3. وأسلم وحَسُنَ إسلامه، وأسلم مَن كان معه، وعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وكتب له كتاباً فيه: [7] "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمَّد رسول الله، لرفاعة بن زيد. إني بعثته إلى قومه عامَّة، ومَن دخل فيهم، يدعوهم
إلى الله وإلى رسوله، فمَن آمن ففي حزب الله، وفي حزب رسوله صلى الله عليه وسلم، ومَن أدبر فله أمان شهرين"1. فلمَّا قدم رفاعة على قومه أجابوا وأسلموا2، وسألوا الوفد عن بعض ما أمرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقال أنيف ابن ملّة: [8] "أمرنا أن نضجع الشاة على شقها الأيسر ثُمَّ نذبحها ونتوجه للقبلة ونُسمي الله"3. ثُمَّ ساروا إلى الحرَّة حرَّة الرجلاء4 فنَزلوها5.
ثُمَّ إنَّ حبَّان بن ملة: [9] "صحب دحية الكلبي لما مضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر"1. فتعلَّم منه أُم الكتاب2. [10] "ثُمَّ لم يلبث أن أقبل دحية الكلبي من عند قيصر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بوادٍ من أوديتهم، يُقال له شنان3 ومعه تجارة له"4 - وكان هرقل قد أجازه بمالٍ وكساه كسىً، كما يذكر الواقدي، وابن سعد - 5 أغار عليه الهنيد بن عارض الضُليعي، وابنه عارض في ناس من جذام، فقطعوا عليه الطريق، وأصابوا كل شيء معه: [11] "فبلغ ذلك قوماً من الضبيب رهط رفاعة بن زيد مِمَّن كان أسلم وأجاب، فنفروا إلى الهنيد وابنه فيهم من بني الضبيب النعمان بن أبي جعال"6.
[12] "في عشرة نفر، وكان نعمان رجل الوادي ذا الجلد والرماية"1 حتى لقوا الهنيد ومن معه فاقتتلوا، وكان قتالاً خاطفاً بالسهام والحجارة حيث: [13] "رمى قرة بن أشقر الضليعي النعمان بن أبي جعال بحجر فأصاب كعبه وأدماه، وقال: أنا ابن أثالة، ثُمَّ رماه النعمان بن أبي جعال فأصاب ركبته"2 إصابة بالغة أثبتته. [14] "فاستنقذوا ما في أيديهم فردوه إلى دحية، وساعده حبَّان بن ملَّة"3. [15] "ثُمَّ إنَّ دحية قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم"4. [16] "فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وبعث معه جيشاً"5. يذكر الواقدي، وابن سعد أنَّهم كانوا حوالي خمسمائة
رجل1، وردَّ معه دحية: [17] "فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل من بني عُذْرة2، فأقبل بهم الدليل من ناحية الأولاج3، حتى هجم بهم مع الصبح على القوم فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم4ونسائهم، فأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان"5. [18] "فلمَّا سمعت بذلك بنو الضُّبيب، والجيش بفيفاء مدان6، ركب نفر منهم، وكان فيمن ركب معهم: حبّان بن ملّة على فرسٍ لسويد بن زيد، يُقال لها العجاجة، وأنيف بن ملّة على فرسٍ لملّة يُقال لها رغال، وأبو زيد بن عمرو على فرس يُقال لها شمر،
انطلقوا حتى إذا دنوا من الجيش، قال أبو زيد، وحبان، لأنيف ابن ملّة: كُفَّ عنا وانصرِف فإنَّا نخشى لسانك، فوقف عنهما، فلم يَبْعُدا منه حتى جعلت فرسه تبحث بيديها وتوثب، فقال: لأنا أضنّ بالرجلين منك بالفرسين، فأرخى لها حتى أدركهما، فقالا له: أما إذا فعلت ما فعلت فكُفَّ عنَّا لسانك، ولا تشأمنا اليوم، فتواصوا ألاّ يتكلَّم منهم إلاَّ حبَّان بن ملّة، وكانت بينهم كلمة في الجاهلية قد عرفها بعضهم من بعض، إذا أراد أحدهم أن يضرب بسيفه قال: بُورِي أو ثُورِي؛ فلمَّا برزوا على الجيش، أقبل القوم يبتدرونهم، فقال لهم حبان: إنَّا قومٌ مُسلمون، وكان أوَّل مَن لقيهم رجل على فرسٍ أدهم، فأقبل يسوقهم، فقال أُنيف: بُوري، فقال حبَّان: مَهْلاً، فلمَّا وقفوا على زيد بن حارثة قال حبان: إنَّا قومٌ مسلمون، فقال له زيد: فاقرءوا أُمّ الكتاب، فقرأها حبَّان، فقال زيد بن حارثة: نادوا في الجَيْش أنَّ الله قد حرَّم علينا ثُغْرَة1 القوم التي جاءوا منها إلاَّ مَن خَتَر2. وإذا أخت حبان بن ملَّة، وهي امرأة أبي وَبْر بن عدي ابن أُميَّة ابن الضبيب في الأُسارى، فقال له زيد: خُذْها، وأخَذَت بحقويه3، فقالت أُم الفِزر الضُّلعية: أتنطلقون ببناتكم وتَذَرون
أُمَّهاتكم؟ فقال أحد بني الخصيب: إنَّها بنو الضبيب وسحر ألسنتهم سائرَ اليوم، فسمعها بعض الجيش، فأخبر بها زيد بن حارثة، فأمر بأُخت حبَّان ففُكَّت يداها من حِقْوَيه، وقال لها: اجلسي مع بنات عمك حتَّى يحكم الله فيكُنَّ حُكْمَه، فرجعوا، ونَهَى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه، فأمسوا في أهليهم، واستعتموا ذوداً1 لسويد بن زيد، فلمَّا شربوا عتمتهم2، ركبوا إلى رفاعة بن زيد، وكان مِمَّن ركب إلى رفاعة بن زيد تلك الليلة: أبو زيد بن عمرو، وأبو شماس بن عمرو، وسويد بن زيد، وبعجة بن زيد، وبرذع بن زيد، وثعلبة ابن زيد، ومُخْرَبة بن عدي، وأُنَيْف بن ملَّة، وحبان بن ملة، حتَّى صبَّحوا رفاعة بن زيد بكراع رَبة3، بظهر الحرَّة، على بئر هنالك من حرَّة ليلى4؛ فقال له حبَّان بن ملَّة: إنَّك لجالس
تحلب المعزى ونساء جذام أُسارى قد غَرَّها كتابك الذي جئت به، فدعا رفاعة بن زيد بجملٍ له، فجعل يَشُدّ عليه رحله وهو يقول: هل أنت حي أو تنادي حيّا ثُمَّ غدا وهم معه، مبكرين من ظهر الحرَّة، فساروا إلى جوف المدينة ثلاث ليال؛ فلمَّا دخلوا المدينة، وانتهوا إلى المسجد، نظر إليهم رجلٌ من الناس، فقال: لا تنيخوا إبلكم، فتُقَطَّع أيديهنَّ، فنزلوا عنهنَّ وهُنَّ قيام؛ فلمَّا دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم ألاح1 إليهم بيده: أن تعالوا من وراء الناس؛ فلمَّا استفتح رفاعة بن زيد المَنْطِق، قام رجلٌ من الناس فقال: يا رسول الله، إنَّ هؤلاء قوم سحرة، فردَّدَها مرَّتين، فقال رفاعة بن زيد: رحم الله مَن لم يحذُنا2 في يومه هذا إلاَّ خيراً، ثُمَّ دفع رفاعة بن زيد
كتابَه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان كتبه له. فقال: دونك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه يا غلام، وأعْلِنْ؛ فلمَّا قرأ كتابه استخبره، فأخبروهم الخبر، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع بالقتلى؟ - ثلاث مرَّات -. فقال رفاعة: أنت يا رسول الله أعلم، لا نحرِّم عليك حلالاً، ولا نُحَلّل لك حراماً، فقال أبو زيد بن عمرو: أطلِق لنا يا رسول الله مَنْ كان حيّاً، ومَا قُتِلَ فهو تحت قَدَمي هذه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق أبو زيد، اركب معهم يا عليّ. فقال له عليٌّ - رضي الله عنه: إنَّ زيداً لن يُطِيعني يا رسول الله، قال: فخُذ سيفي هذا، فأعطاه سيفه. فقال عليٌّ: ليس لي يا رسول الله راحلة أركبها، فحملوه على بعير لثعلبة بن عمرو، يُقال له مِكْحَال، فخرجوا، فإذا رسولٌ لزيد بن حارثة على ناقة من إبل أبي وبر، يُقال لها الشمر، فأنزلوه عنها، فقال: يا عليّ! ما شأني؟ فقال: ما لهم عرفوه فأخذوه، ثُمَّ ساروا فلقوا الجيش بفيفاء الفحلتين"1. فقال علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لزيد بن حارثة: [19] "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تردَّ على هؤلاء القوم ما كان بيدك من أسير أو سبي أو مال. فقال زيد: علامة من رسول الله! قال علي: هذا! فعرف زيد السيف، فنَزل فصاح بالنَّاس، فاجتمعوا
فقال: مَن كان بيده شيء من سبي أو مال فليرده، فهذا رسول رسول الله، فردَّ إلى النَّاس كُلَّ ما أُخِذَ منهم، حتَّى إن كانوا ليأخذون المرأة من تحت فخذ الرجل"1.
المبحث الثالث: سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى مدين
المبحث الثالث: سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى مدين المطلب الأول: التعريف بمدين ... المطلب الأول: التعريف بمدين: مَدْيَنُ: "بفتح أوَّله، وسكون ثانيه، وفتح الياء المثناة من تحت، وآخره نون، بلد بالشام معلوم، تِلقاء غزَّة، وهو المذكور في كتاب الله تعالى1". وقال الحازمي: "بين وادي القرى والشام". وقيل: "مَدْيَن تجاه تبوك بَيْنَ المدينة والشام على ست مراحل، وبها استقى موسى - عليه السلام - لبنات شعيب، وبها بئر قد بُنِيَ عليها بيت". قال أبو زيد: "مدين على بحر القلزم محاذية لتبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى - عليه السلام - لسائمة شعيب قال: "ورأيت هذه البئر مغطاة قد بُنِيَ عليها بيت، وماء أهلها من عين تجري". وقال محمَّد بن سهل الأحول: "ومَدْيَن من أعراض المدينة أيضاً مثل فدك والفُرع ورهاط". وقيل: "مَدْيَن هي كفر مَنْده من أعمال طبرية، وعندها أيضاً البئر والصخرة". ومَدْيَن: "منازل جذام، وشعيب النَّبِيّ - عليه السلام، المبعوث إلى أهل مَدْين أحد بني وائل بن جذام، وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لوفد جذام: "مرحباً بقوم شعيب وأصهار موسى"2.
فهي مدينة قوم شعيب، سُمِّيَت بِمَدْين بن إبراهيم - عليه السلام ". وقيل: "مَدْيَن اسم القبيلة". ولهذا قال الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} . [سورة هود، الآية: "84] ". قال البلادي: "أمَّا موقع مَدْيَن فهو بلا خلاف غرب تبوك، بينها وبين خليج العقبة، فإذا كان المقصود مدينة شعيب فهي تُعْرَف اليوم باسم البدع، وتقع على (220) كيلاً من تبوك، يصل بينهما طريق معبَّد، أمَّا إذا كان المقصود ديار القبيلة فإنَّ الموقع والحدود تتأثر بسعة انتشار تلك القبيلة وتقلُّصها، فإذا ثبت أنَّهم من جذام كانت تمتد من ساحل البحر إلى قُرب تبوك، ثُمَّ تدخل في الشراة شمالاً، وتقرب من ضبة جنوباً". وإذا طبَّقنا نظرية الحدود الجغرافية التي تشمل مسمىً واحداً في الغالب، نستطيع القول بأنَّ أرض مدين تُحَدُّ من الشرق بسراة حسمى، ومن الغرب بالبحر، ومن الشمال حقل أو العقبة، أمَّا من الجنوب فلا تتجاوز ضِبة أو دونها والبِدع، قرية تتوسط أرض خالية من العمران، فأقرب قرية تبعد عنها قرابة ستين كيلاً، وهي - أيضاً - تتوسط وادي عفال الخالي من الزراعة والحياة إلاَّ من هذه القرية، وهي ذات زراعة لا بأس بها على آبار ضخ، وفيها سكان وحوانيت ومقاهٍ، وسكانها الحويطات، وجُلُّهم من المساعيد". وهذا البلد يسميه الباحثون المحدِّثون "مَدْيَن" بينما عرَّفه الرحَّالون الحُجَّاج كالجزيري، وابن عبد السلام الدرعي باسم "مغائر شعيب"
ومغائر شعيب: "جمع مغارة، وهي الغار العميق في الجبل، وهي مغائر في صفراء شعيب التي تظلل البدع من الغرب، وفي هذه الصفراء من الميل الشمالي مكان يُقال إنه مُصَلَّى شعيب عليه السلام، والإجماع من زمن متقدِّم على أنَّ هذه مغائر شعيب، وأنَّ البلد هو بلد شعيب سواء كان اسمه مدين أو الأيكة، فقد مرَّ الرَحَّالون من حُجَّاج مصر من هنا منذ بداية القرن التاسع أو قبلها، فذكروا أنَّ الاسم هو مغائر شعيب وأنَّها مَدْيَن". ويقول المساعيد - أهل هذه الديار -: "إن اسم البدع ناتج عن أنَّ هذه الأرض قد دُثِرَت، ثُمَّ بُدعت فيها آبار ومزارع، فسُمِّيَت بذلك1". قلت: "هذا تعريف شامل بمَدْيَن الذي سُمِّيَت به هذه السرية، ولكن هناك إشارات وردت في روايات الخبر تشير إلى أنَّ المكان الذي توجَّهت إليه السرية هو مكان آخر، ربما يكون قريباً من مَدْيَن". ففي رواية محمَّد بن إسحاق عند سعيد بن منصور في سننه قال: " [1] "بَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى مدينة مقنا". قال سعيد: "مقنا هي مَدْيَن"2".
وفي رواية ابن هشام بسنده عن فاطمة بنت الحسين بن علي قالت: [2] "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مَدْيَن، ومعه ضميرة مولى علي بن أبي طالب1 رضي الله عنه، وأخ له". قالت: "فأصاب سبياً من أهل ميناء، وهي الساحل، وفيها جُمَّاع2من النَّاس"3". هذا ولم أجد في المعاجم الجغرافية مدينة باسم ميناء، وأظنّها والله تعالى أعلم تصحيف مقنا، لِعِدَّة قرائن: 1) لا توجد مدينة أو قرية في المنطقة باسم ميناء". 2) مشابهة لفظ (ميناء) للفظ (مقنا) خاصّةً وأنه ورد في بعض الروايات (مينا) بغير همز4".
3) ورد في الرواية أنَّها مكان ساحلي، وبلدة مقنا تقع على الساحل". 4) ورد في الرواية أنَّها كان فيها جُمَّاع من الناس، أي جماعات من الناس مختلطين، ومن عادة المناطق الساحلية أن يكون سكانها من جماعاتٍ شتَّى، وقد ورد في بعض الروايات أنّ سكان مقنا كانوا خليطاً من العرب بني حبيبة1، ومن اليهود". والله تعالى أعلم". وقال ياقوت: "مقنا قُرْب أيلة، صالحهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على ربع عروكهم، والعروك خشب يُصطاد عليه2". وقال الواقدي: "صالحهم على عروكهم وربع ثمارهم، وكانوا يهوداً". وقال البلادي: "وكانت مقنا بلدة عامرة عندما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، وكان أهلها بني حبيبة، فصالحهم وأدخلهم في ذِمَّة المسلمين، وسكانها اليوم بنو عقبة والفوائدة، وهي وادٍ من نواحي البدع، يسيل من الصفر الواقعة غرب البدع، فيصب في خليج العقبة من الشرق، وعند مصبه قرية مقنا المشهورة بنخلها وزراعتها، وتقع غرب البدع عند الدرجة (25/28) شمالاً، (45/44) شرقاً تقريباً، وتبعد عن البدع بما يقرب من (37) كيلاً، وتوجد حولها آثار وبقايا مبانٍ قديمة3".
المطلب الثاني: راوي الخبر وسياقه
المطلب الثاني: راوي الخبر وسياقه: روى ابن هشام خبر السرية على أنه من زياداته على سيرة ابن إسحاق فقال: "ومِمَّا لم يذكره ابن إسحاق من بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه، سرية زيد بن حارثة إلى مدين". ذكر ذلك عبد الله بن حسن بن حسن1، عن أُمِّه فاطمة2 بنت الحسين بن علي - عليهم رضوان الله: " [3] "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مَدْيَن" ... الحديث3. قلت: "ولعلَّ ابن هشام - رحمه الله تعالى، وهم في عدم نسبة الحديث إلى ابن إسحاق، أو لعلَّ الحديث سقط من رواية البكائي، وهي الرواية التي هذَّبها ابن هشام من سيرة ابن إسحاق، ولم يطَّلِع ابن هشام على روايات الحديث الأُخرى، فالحديث أخرجه سعيد بن منصور من طريق "أبي شهاب"4 عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن الحسن، عن أُمِّه فاطمة بنت حسين، قالت:
[4] "بعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى مدينة مقنا"..1". الحديث. وأخرجه ابن سعد كذلك من طريق "أبي شهاب" به نحوه2". وعزاه لابن إسحاق كُلٌّ من: "ابن سيد النَّاس3، والشامي4، وتابعهما في ذلك الحلبي5". أمَّا سياق الخبر ففيه اختلاف جوهري بين رواية سعيد، وابن سعد، ورواية ابن هشام، ففي رواية ابن هشام، ذكر أنَّ ضميرة وأخاه كانا من جنود السرية، بينما وقع في روايتي سعيد، وابن سعد أنَّ زيدَ بن حارثة - رضي الله عنه، أصاب ضميرة فيمن أصاب من السَّبْي، ووقع مثل ذلك في روايات أُخَر، منها ما هو متابع، ومنها ما هو شاهد لروايتي سعيد، وابن سعد، وهي بالتأكيد أقوى سنداً من رواية ابن هشام". فقد أخرج عبد الرَّزَّاق في المصنَّف، من طريق الثوري6، عن عبد الله بن حسن عن أُمِّه فاطمة بنت حسين:
[5] "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة في سرية فأصاب سبياً فجاء بهم" ... ثُمَّ ذكر الحديث". إلاَّ أنَّه قال فيه: ""فاحتاج إلى ظهر1 فباع غلاماً منهم، فجاءت أُمّه فرآها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تبكي، فسأله". فقال: "احتجت إلى بعض ظهر فبعت ابنها". فقال له النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ارجع فردَّه أو اشتره". فقال: "فوهبه بعد ذلك لعلي". قال: "فكان خازناً له". قال: "وولد له"2". أمَّا الشاهد، كما ذكر ابن حجر3، فقد أخرجه البخاري في تاريخه من طريق ابن أبي ذئب4، عن حسين بن عبد الله بن ضميرة5، عن أبيه6، عن جده ضميرة:
[6] "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بأُمِّ ضميرة وهي تبكي". فقال: "ما يُبْكِيكِ؟ قالت: "يا رسول الله! فُرِّق بيني وبين ابني، فأرسل إلى الذي عنده ضميرة فابتاعه منه ببكر"12".
وأخرجه ابن عبد البر من طريق ابن وهب1به نحوه2". فكُلُّ هذه الروايات الأقوى سنداً من رواية ابن هشام، ذكرت أنَّ ضميرة كان من سبي تلك السرية، ولم يكن من جنودها". فلعلَّ ابن هشام - رحمه الله تعالى - وهم في ذلك أيضاً". والله تعالى أعلم".
المطلب الثالث: تاريخ السرية
المطلب الثالث: تاريخ السرية: لم تُحَدِّد الروايات التي ساقت خبر السرية تاريخاً محدَّداً لها بما فيها رواية ابن هشام في السيرة، حيث ذكرها ابن هشام في آخر كتاب المغازي مشيراً إلى أنَّها من زياداته على سيرة ابن إسحاق، وذكرها بعد سرية عمرو بن أُمَيَّة الضمري إلى أبي سفيان1". وخبر السرية كما لاحظنا قد تفرَّد به ابن إسحاق من بين أهل المغازي ولكن لم يذكر لها تاريخاً". ولكنه يمكن أن نستنبط لها تاريخاً تقريبياً من خلال سير أحداث السرية النبوية المباركة، حيث يمكننا الجزم بأنَّ هذه السرية كانت قبل غزوة مؤتة بلا شك، وذلك في فترة هدنة الحديبية، وهي الفترة التي زاد فيها نشاط السرايا والبعوث النبوية في المنطقة الشمالية من الجزيرة". إذ أنَّ قائد السرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه، كان من قادة مؤتة الذين استشهدوا بها، لأجل ذلك قدَّمتها هنا في باب السرايا والبعوث النبوية الشمالية قبل مؤتة". والله تعالى أعلم".
المطلب الرابع: سير الأحداث
المطلب الرابع: سير الأحداث: قبل معركة مؤتة الشهيرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حِبَّه ومولاه زيد ابن حارثة - رضي الله تعالى عنه - إلى منطقة مَدْيَن، وبالتحديد إلى بلدة مقنا على ساحل البحر الأحمر، في سرية لم تذكر الروايات قوَّتها". واستطاع زيد - رضي الله تعالى عنه - التوغُّل في تلك المنطقة البعيدة عن قاعدة المسلمين، ومناطق نفوذهم، ونجح - رضي الله تعالى عنه - في الإغارة عليهم: [7] "فأصاب منهم سبايا، منهم ضميرة"1 وأخوه، وأُمُّه، وأبوه، فجاء بهم زيد - رضي الله تعالى عنه - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ". [8] "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعهم، فخرج إليهم وهم يبكون، فقال لهم: "مِمَّ تبكون؟ قالوا: "فرّقنا بينهم وهم إخوة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفرِّقوا بينهم، بيعوهم جميعاً"2. كما [9] "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بأُمّ ضميرة وهي تبكي، فقال: "ما يبكيكِ؟ قالت: "يُفَرَّق بيني وبين ابني". فقال: "لا يُفَرَّق بين الوالدة وولدها، ثُمَّ أرسل إلى الذي ضُمَيرة عنده فدعاه فابتاعه منه ببكر"3. [10] "فوهبه بعد ذلك لعلي، قال: "فكان خازناً له، قال: "وولد له"4.
هذا وقد أخرج ابن سعد، وابن منده، والبغوي حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة حول: [11] "الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضميرة، وفيه: "أنَّهم كانوا أهل بيت من العرب، وكان مِمَّن أفاء الله على رسوله (فأعتقهم) 1، ثُمَّ خيَّر أبا ضميرة إن أحب أن يلحق بقومه فقد أمَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ أحبَّ أن يمكث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون مع أهل بيته، فاختار أبو ضميرة الله ورسوله، ودخل في الإسلام، فلا يعرض لهم أحد إلاَّ بخير، ومَن لقيهم من المسلمين، فليستوصِ بهم خيراً، وكتب2 أُبَيُّ بن كعب"3".
الفصل الثاني: السرايا والبعوث النبوية إلى فدك
الفصل الثاني: السرايا والبعوث النبوية إلى فدك المبحث الأول: سرية على بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بني مرة بفدك المطلب الأول: تعريف بفدك ... المطلب الأول: التعريف بفدك: فدك - بفتح أوَّله، وثانيه، وقيل: "بالفتح". وقيل: "بالتحريك، وآخره كاف، قال ابن دريد: "فدَّكت القطن تفديكاً إذا نفشته، وفدك: "قرية بالحجاز". قال عياض: "هي على يومين، وقيل: "ثلاثة من المدينة، وأقرب الطُّرُق من المدينة إليها من النَّقرة مسيرة يوم على جبل، يُقَال له الحِبَالَة والقذال، ثُمَّ جبل يُقَال له: "جُبار، ثُمَّ يَرْبغ، وهي قرية لولد الرِّضا، وهي كثيرة الفاكهة والعيون، ثُمَّ تركب الحرَّة عشرة أميال، فتهبط إلى فدك، قال الأصمعي: "حرَّة النَّار فدك". وطريق أُخرى، وهي طري مُصَدِّق بني ذبيان وبني محارب من المدينة إلى القصة، وهناك تُصدّق بنو عوال من بني ثعلبة بن سعد، ثُمَّ ينْزل نخلاً، فتصدّق الخضر خضر محارب، ثُمَّ ينْزل المغيثة فتصدّق سائر بني محارب، ثُمَّ الثَّامِلِيَّة لأشجع، ثُمَّ الرقمتين لبني الصَّادر، ثُمَّ مرتفقاً لبني قتَّال بن يربوع، ثُمَّ فدك، ثُمَّ الخُراضة، ثُمَّ خيبر، وفي فدك عين فوَّارة ونخيل كثيرة، وحصن فدك يُقال له: "الشمروخ، وقيل: "سُمِّيَت بفدك بن حام لأنه أوَّل من نزلها". وذكر البكري أنَّ أكثر أهلها أشجع". وقال ياقوت: "كان أهلها يهود1، فلمَّا فتحت خيبر طلبوا من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يتركوا له البلد، فكانت له خاصّةً، لأنَّها مِمَّا لم يُوجف
عليه بخيل ولا ركاب، فكان يصرف ما يأتيه منها في أبناء السبيل، وفي رواية: "أنَّهم صالحوه على النصف، ولم يزل أهلها بها حتى أجلى عمر - رضي الله عنه - اليهود فوجَّه إليهم من قوّم النصف، وعوَّضهم عنه، وأجلاهم إلى الشام". ولمَّا قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة - رضي الله تعالى عنها: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحلنيها1، فقال أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه: "أريد لذلك شهوداً، ولها قِصّة، ثُمَّ أدَّى اجتهاد عمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه - بعده لمَّا فُتِحَت الفُتُوح واتَّسعت على المسلمين أن يرُدَّها إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عليُّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه، والعبَّاسُ بن عبد المطلب - رضي الله تعالى عنه - يتنازعان فيها، ويتخاصمان إلى عمر - رضي الله تعالى عنه، فيأبى أن يحكُم بينهما، ويقول: "أنتُما أعرف بشأنكما، ولمَّا ولي معاوية - رضي الله تعالى عنه - أقطعها مروان بن الحكم، ووهبها مروان لابنيه عبد الملك، وعبد العزيز، ثُمَّ صارت للوليد بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ولمَّا ولي الوليد استوهبا منه عمر بن عبد العزيز، فكانت له خالِصَةً تغُل له عشرة آلاف دينار، وكانت مِن أحبّ ماله إليه، ولكنَّه حينما ولي الخلافة، كتَبَ إلى عامله بالمدينة يأمره برد فدك إلى ولد فاطمة - رضي الله تعالى عنها، فلمَّا ولي يزيد بن عبد الملك قبضها، فلم تزل في أيدي بني أُمَيَّة حتى ولي السَّفَّاح
الخلافة فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكان هو القَيِّم عليها يُفَرِّقُها في بني علي بن أبي طالب، فلمَّا ولي المنصور وخرج عليه بنو الحسن قبضها عنهم، فلمَّا ولي المهدي أعادها عليهم، ثُمَّ موسى الهادي ومَن بعده إلى أيام المأمون، فجاءه رسول بني علي بن أبي طالب فطالب بها، فأمر أن يُسجل لهم بها، فكُتِبَ السجل وقُرِئَ على المأمون، فقام دعبل الشاعر وأنشد: أصبح وجه الزمان قد ضحكا برد مأمون هاشم فدكا ولمَّا استخلف جعفر المتوكل ردَّها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه ". وفدك: "قرية مشهورة، وقد استغرب مجد الدين الفيروزآبادي الذي عاش في القرن الثامن، والسمهودي في القرن التاسع، عدم معرفة أهل المدينة لها في ذلك الوقت على شهرتها، فربَّما كان ذلك بسبب خرابها، فقد ذكر الحلبي الذي عاش في القرن العاشر أنَّها كانت خراباً في عهده، أو ربَّما لتغيُّر اسمها ففدك اليوم تُعْرَف بالحائط، وتقع ضمن نطاق منطقة حائل الإدارية بين محافظة الحليفة ومحافظة خيبر، وجُلّ أهلها اليوم هم من قبيلة الرشايدة1".
هذا ومن الملاحظ أنَّ منطقة عمليات السرايا لم تكن قرية فدك ذاتها، وإنَّما المنطقة المحيطة بها، والتي كانت تسكنها قبيلة بني مرّة، وقبيلة بني سعد بن بكر، ولكن باعتبار قربها من فدك تجوَّز أهل المغازي بنسبتها إليها". قال الحلبي، والزرقاني، تعليقاً على أنَّ بشير بن سعد - رضي الله تعالى عنه - قائد السرية، تحامل على نفسه - حينما أُصيب هو ومَن معه - حتَّى أتى فدك فأقام بها أيّاماً حتَّى ارتفع من الجراح، قالا: "وهذا يدل على أنَّ بني مرّة الذين توجَّه إليهم بشير لم يكونوا بفدك، بل بالقرب منها، فتسمَّحوا في قولهم إلى بني مرّة بفدك لمجاورتها وكونها من أعمالها1". وكذلك الأمر بالنسبة لسرية علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - إلى بني سعد".
المطلب الثاني: تاريخ السرية، وسببها
المطلب الثاني: تاريخ السرية، وسببها1: أولاً: تاريخ السرية: ذكر ابن إسحاق خبر السرية مقتضباً في جملة السرايا، لذلك لم يذكر لها تاريخاً محدَّداً، وإنَّما ذكرها بعد سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح2". وانفرد الواقدي، وابن سعد، بالإسهاب في الحديث عن خبر السرية كعادتهما، نقلاً عن شيوخهما، فكان من الطبعي أن يذكرا لها تاريخاً محدَّداً حيث ذكرا أنها كانت في شعبان سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم3". وذكرها خليفة بن خياط كذلك ضمن السرايا التي كانت سنة ست من الهجرة، دون أن يحدِّد الشهر الذي أُرسِلَت فيه4". ونقل الطبري5، وابن القيم6، وابن كثير7، حديث الواقدي
عنها في أحداث السنة السادسة، دون تعليق منهم على ذلك". وكذلك ابن سيد النَّاس نقلاً عن ابن سعد1. واقتصر الشامي على رواية الواقدي، لكنَّه لم يذكر شيئاً في شرحه عن تاريخ السرية2". أمَّا القسطلاني3، والمقريزي4، فإنَّهما تابعا الواقدي، وابن سعد في روايتيهما". ثانياً: "سبب السرية: ذكر خليفة بن خياط أنَّ السرية كانت إلى فدك، وأنَّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخذها5". بينما ذكر الواقدي، وابن سعد، وهما مَن حَدَّدا تاريخ السرية بدقة أنَّها كانت بسبب المعلومات التي بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بني سعد بن بكر بأنَّ لهم تحرُّكات وحشوداً استعدادية لإمداد يهود خيبر6".
فيمكن أن تكون هذه السرية قبيل خيبر، وذلك ضمن الجهود المبذولة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لتحطيم الحلف الخيبري الذي كان قائماً بين يهودها والقبائل المحيطة بخيبر، والذين كان لهم دورٌ بارزٌ في غزوة الأحزاب، وذلك
ضمن الاستراتيجية العسكرية التي وضحها بعد هزيمة الأحزاب بقوله: " (الآن نغزوهم ولا يغزونا". وما قيل في سبب السرية يؤكِّد أنَّها قبل خيبر بقليل، أو في أثناء توجُّه النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إليها، وهو الأرجح، ويؤيده قول الرجل لوبر بن عليم قائد بني سعد حينما رآه منهزماً مع قومه من أمام المسلمين: [1] "إني أرى أمر محمَّدٍ أمراً قد أمن وغلظ، أوقع بقريشٍ فصنع بهم ما صنع، ثُمَّ أوقع بأهل الحصون بيثرب، قينقاع وبني النضير وقريظة، وهو سائرٌ إلى هؤلاء بخيبر1". فذلك دليل قوي على أنَّ السرية كانت في أثناء مسير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، حيث وردت إليه معلومات استخبارتية أنَّ أولئك الأعراب من بني سعد في تحشُّدٍ سريعٍ لإمداد يهود خيبر، فسارع ببعث السرية إليهم قبل أن تستكمل استعداداتهم لذلك". والغريب أنَّ الواقدي ساق هذه الرواية ولم يُعَلِّق عليها على الرغم من أنَّها تخالف ما ذكره من تاريخ السرية وأنه في شعبان سنة ست، فلعلَّه رحمه الله تعالى وَهِمَ في ذكر هذا التاريخ". والله تعالى أعلم".
المطلب الثالث: سير الأحداث
المطلب الثالث: سير الأحداث1: بينما كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى خيبر - كما يُفهم من رواية الواقدي2 - وصلت إليه معلومات مفادها أنَّ هناك تحرُّكات تحشديَّة معادية للمسلمين، يقوم بها رجل من بني سعد بن بكر يُدْعَى: "وبَر بن عُليم، في جمعٍ من قومه بني سعد، بالقرب من فدك، وذلك لمناصرة يهود خيبر ضد المسلمين، وأنَّهم بصدد الاتفاق معهم على إمدادهم بقوَّةٍ منهم مقابل جزء من تمر خيبر يُجْعَل لهم". وكعادته صلى الله عليه وسلم في استرتيجيته المتبعة دائماً مع أعدائه وبخاصّةً الأعراب، في مباغتتهم وضربهم قبل استكمال تحشُّدهم، وتطوُّر استعداداتهم، سارع صلى الله عليه وسلم في تجهيز سرية، عبارة عن دورية قتال تعرُّضية3 قوَّتها مائة رجل بقيادة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه ".
[2] "فسار الليل، وكمن النَّهار، حتَّى انتهى إلى الهمج"1، فأصاب عيناً، فقال: "ما أنتَ؟ هل لك علم بما وراءك من جمع بني سعد؟ قال: "لا علم لي به، فشدُّوا عليه فأقرَّ أنه عين لهم بعثوه إلى خيبر، يعرض على يهود خيبر نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم، ويقدمون عليهم، فقالوا له: "فأين القوم؟ قال: "تركتهم وقد تجمَّع منهم مائتا رجل، ورأسهم وبَر ابن عُلَيْم". قالوا: "فسر بنا حتى تدُلَّنا". قال: "على أن تُؤَمِّنوني". قالوا: "إن دللتنا عليهم وعلى سرحهم أمَّنَّاك، وإلاَّ فلا أمَانَ لك". قال: "فذاك، فخرج بهم دليلاً لهم"2". بعد أن كان عيناً عليهم، فسار بهم في فدافد3، وآكام4، حتى ساء ظنهم به، واعتقدوا أنه ربَّما كان يخدعهم، حتى أفضى بهم إلى سهلٍ من الأرض". [3] "فإذا نعَم كثير، وشاء5، فقال: "هذه نَعمهم وشاؤهم، فأغاروا عليه فضموا النعم والشاء، قال: "أرسلوني". قالوا: "حتى نأمن
الطلب، ونذر بهم الراعي رعاء الغنم والشاء، فهربوا إلى جمعهم فحذَّروهم فتفرَّقوا"1". [4] "وهربت بنو سعد بالظَّعن، ورأسهم وَبَر بن عُلَيْم"2". فقال الدليل للقائد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه: "علامَ تحبسني؟ قد تفرَّقت الأعراب وأنذرهم الرعاء، قال علي - رضي الله عنه: "ليس بعد، فإنَّا لم نبلغ معسكرهم". [5] "فانتهى بهم إليه فلم ير أحداً، فأرسلوه وساقوا النعم والشاء، النعم خمسمائة بعير، وألفا شاة"3". [6] "فعزل علي صفيّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم4 لقوحاً5 تُدْعَى الحفذة، ثُمَّ عزل الخُمُس، وقسَّم سائر الغنم على أصحابه"6، ثُمَّ مكث ثلاثاً أوقَعَ أثناءَها الرُّعْبَ في قلوب الأعراب". يُحَدِّثنا أحد شهود العيان، كما يروي الواقدي، فيقول: [7] "إني لبوادي الهَمَج، إلى يديع7، ما شعرت إلاَّ ببني سعد يحملون
الظُّعُن وهم هاربون، فقلت: "ما دهاهم اليوم؟ فدنوت إليهم فلقيت رأسهم وبَر بن عُلَيم، فقلت: "ما هذا المسير؟ قال: "الشرُّ، سارت إلينا جموع محمَّد، وما لا طاقة لنا به، قبل أن نأخُذَ للحرب أُهبتها، وقد أخذوا رسولاً لنا بعثناه إلى خيبر، فأخبرهم خبرنا، وهو صنَعَ بنا ما صَنَع". قلت: "ومَن هو؟ قال: "ابن أخي، وما كُنَّا نعُدّ في العرب فتىً واحداً أجمع قلب منه". فقلت: "إني أرى أمر محمَّد قد أمن وغلظ، أوْقَعَ بقريش فصنع بهم ما صنع ثُم أوقع بأهل الحصون بيثرب، قينُقَاع، وبني النَّضِير، وقريظة، وهو سائرٌ إلى هؤلاء بخيبر". فقال لي وبَر: "لا تخش ذلك". إنَّ بها رجالاً، وحُصُوناً منيعة، وماءً واتناً1 لا دنا منهم محمَّدٌ أبداً، وما أحراهم أن يغزوه في عُقْرِ داره". فقلت: "وترى ذلك؟ قال: "هو الرأي لهم"2". وهكذا نجح عليّ - رضي الله عنه - في مهمَّته نجاحاً باهراً". [8] "وقدم المدينة ولم يلق كيداً"3".
المطلب الرابع: الدروس والعبر المستقاة من أحداث السرية
المطلب الرابع: الدروس والعبر المستقاة من أحداث السرية: أوضحت هذه السرية، والسرايا السابقة بعض الاستراتيجيات العسكرية التي كان يطبقها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه، وهي: ما ورد أنَّ سبب السرية هو تلك الأخبار التي بلغت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عن تحرُّكات بني سعد بن بكر المعادية للمسلمين، ذلك يعطينا دلالة واضحة أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتتبع أخبار الأعداء أولاً بأول". ومثل هذه الروايات تؤكِّد لنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لديه شبكة شبه منظَّمة من العيون، مبثوثة بين أعدائه، جعلته دائماً وأبداً في الصورة معهم، يعرف سكناتهم وحركاتهم أولاً بأول، مِمَّا مكَّنه كثيراً من القضاء على مخطَّطاتهم العدوانية ضد المسلمين ووئدها في مهدها قبل أن تستفحل، مِمَّا وفَّر على المسلمين الكثير من الجهد، وحقن الكثير من الدماء التي كانت ستسيل لو تمكَّن أولئك الأعداء من استكمال مخطَّطاتهم تلك وتنفيذها ضد المسلمين، وذلك ما كان يصبو إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم في جهاده مع أعدائه، لأنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أشدَّ الحِرْصِ على بلوغ أهدافه السامية من ذلك الجهاد المُقَدَّس بأقلِّ قدرٍ ممكنٍ من الخسائر، ودونما إراقة دماء كثيرة". إلاَّ ما كان من بعض أولئك الأعداء الذين كانوا يشكلون تهديداً قوياً ومستمراً للمسلمين بقواهم العسكرية والسياسية، والتي كانت تشكل حاجزاً قوياً أمام الناس لاعتناق ما يريدون بحرِّية، فكان لابُدَّ
من الإثخان في تلك القوى المسيطرة لإضعافها والقضاء على هيمنتها في المنطقة". إنَّ نظام المخابرات تفتخر به اليوم الدول المتقدمة مادياً، وله أولوية كبيرة في جيوشها المتطورة، وتمارسه بأساليب غير حضارية ارتبطت بالظلم والعدوان والغدر". ولكنَّ الرسول القائد صلى الله عليه وسلم كان له قصب السَّبْق فيه، كما أنه مارسه في نطاق الحرب الفروسية المشرفة، دون المساس بالأخلاقيات والمُثُل العُليا". تحرَّكت هذه السرية كما ورد في رواية الواقدي، وابن سعد، في مسيرٍ ليلي إلى أرض العدو، وقد كانت تلك استراتيجية ذكية تزوَّد بها قائدالسرية من مُبْتَكِر الاستراتيجيات العسكرية، رسولِ الله صلى الله عليه وسلم التي استطاع بها تحقيق مبدأ الكتمان مع أعدائه، حرمهم من معرفة نواياه، واتجاه حركة قوَّاته". لقد كانت معظم القبائل التي غزاها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وبعث إليها سراياه قبائل "قوية ولها حلفاء وأنصار، فلو أنها عرفت بمسيره لسارعت بالاستعداد للقائه ولاستعانت عليه بحلفائها وأنصارها لمعاونتها يوم اللقاء، ولكن عناية الله أولاً، ثُمَّ المسير الليلي حال بينها وبين ذلك كله، فاستطاع النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بقواته القليلة بالنسبة لقوات تلك القبائل، أن يتغلَّب عليها ويقضي على نياتها العدوانية، ويُلْقِي الرُّعْبَ في نفوسها ونفوس القبائل الأخر التي سمعت بانتصار المسلمين"1".
أيضاً ما ورد في هذه السرية والسرايا قبلها من شن الغارة على الأعداء ومباغتتهم في ديارهم في غفلةٍ منهم، وتلك استراتيجيةٌ اتَّبعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع نوعٍ معيَّنٍ من الأعداء، وهم الأعراب، حيث كان دائماً يترصَّد أخبارهم من خلال شبكة العيون المبثوثة في ديارهم، فكان دائماً يباغتهم في ديارهم قبل استكمال جاهزتهم واستعدادهم، فالأعراب أشداء إذا ما استعدوا جيداً للقتال، وانتظمت صفوفهم فيه، عندها تكون مقاومتهم أكبر، وقتالهم أشرس، كما أنَّهم يستطيعون وبسرعة فائقة حشد قوَّة إمدادات كبيرة يتمكنون بها من الإطباق على أعدائهم وحصرهم من كُلِّ الجهات، وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من خلال تجارب سابقة معهم في الرجيع، وبئر معونة، وسرية زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - الأولى إلى بني فزارة، وغيرها". لذلك فإنَّ في شَنِّ الغارة عليهم ومباغتتهم قبل ذلك، ولو من قوة مهاجمة صغيرة تُفْقِدهم اتزانهم، وتبُثُّ الرُّعْبَ في قلوبهم1، وتثير الاضطراب والفوضى في صفوفهم، فيسهل حين ذاك السيطرة عليهم وهزيمتهم، كما حدث في هذه السرية". والله تعالى أعلم". وفي الاستيلاء على أموال الأعراب التي كانت في غالبها من الماشية والإبل، إضعافٌ لهم اقتصادياً، لأنَّها تعدّ عصب حياتهم اليومية، لاعتمادهم عليها كثيراً، كما أنَّ في ذلك تحفيزاً للمسلمين وتشجيعاً لهم للغزو في سبيل الله لإصابة الغنائم الدنيوية العاجلة، إضافةً لما رُصِدَ لهم من الأجر العظيم عند الله، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أنَّ ذلك يعدّ دافعاً وهدفاً من أهداف الجهاد في سبيل الله بقدر ما هو ممارسة المسلمين لحقهم المشروع في الغنائم التي أحلَّها الله لهذه الأُمَّة واختصَّها به دون غيرها من الأُمم السابقة". كما أنَّ ذلك يُعَدُّ تمشياً مع عادة قديمة متَّبعة لدى العرب في حروبهم في الجاهلية أبقى عليها الإسلام بعد تنظيمها وتقنينها وفق أنظمة الشريعة الإسلامية". والله تعالى أعلم".
وفي الاستيلاء على أموال الأعراب التي كانت في غالبها من الماشية والإبل، إضعافٌ لهم اقتصادياً، لأنَّها تعدّ عصب حياتهم اليومية، لاعتمادهم عليها كثيراً، كما أنَّ في ذلك تحفيزاً للمسلمين وتشجيعاً لهم للغزو في سبيل الله لإصابة الغنائم الدنيوية العاجلة، إضافةً لما رُصِدَ لهم من الأجر العظيم عند الله، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أنَّ ذلك يعدّ دافعاً وهدفاً من أهداف الجهاد في سبيل الله بقدر ما هو ممارسة المسلمين لحقهم المشروع في الغنائم التي أحلَّها الله لهذه الأُمَّة واختصَّها به دون غيرها من الأُمم السابقة". كما أنَّ ذلك يُعَدُّ تمشياً مع عادة قديمة متَّبعة لدى العرب في حروبهم في الجاهلية أبقى عليها الإسلام بعد تنظيمها وتقنينها وفق أنظمة الشريعة الإسلامية". والله تعالى أعلم".
المبحث الثاني: سرية بشير بن سعد رضي الله عنه إلى بني مرة بفدك
المبحث الثاني: سرية بشير بن سعد رضي الله عنه إلى بني مرة بفدك المطلب الأول: تاريخ السرية ... المطلب الأول: "تاريخ السرية: أرَّخ لها الواقدي، وابن سعد، بشعبان سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وذكرها خليفة بن خياط ضمن السرايا التي كانت سنة خمس، ولم يُحَدِّد الشهر الذي كانت فيه2. وأخرج البيهقي خبر السرية مقتضباً بسنده عن عروة، والزهري، وموسى بن عقبة، ولم يذكر لها تاريخاً، لأنه سردها ضمن السرايا والبعوث دون الخوض في التفاصيل، وإنَّما رتبها بعد بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نحو اليمن، وقبل بعث عبد الله بن عتيك إلى أبي رافع3. كما أخرجه أيضاً بسنده عن ابن إسحاق، الذي رواه مختصراً في جملة السرايا والبعوث، حيث رتبها بعد سرية محمَّد بن سلمة إلى موضع بهوازن، وقبل سرية بشير بن سعد - أيضاً - إلى موضع كداء4.
المطلب الثاني: سبب السرية
المطلب الثاني: سبب السرية: لم توضِّح روايتا الواقدي، وابن سعد - وهما مَن تحدَّثا بتفصيل عن هذه السرية - سبب بعث هذه السرية". وأعتقد - والله تعالى أعلم - أنَّ هذه السرية تدخل في نطاق جهود النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في تحطيم وتمزيق الحلف الخيبري المكوَّن من يهود خيبر، وفدك، وتيماء، ووادي القرى، والقبائل الغطفانية، وغيرها، المحيطة بهذه المدن والقاطنة في باديتها، وبما أنَّ المبعوث إليهم هذه المرَّة هم بنو مرَّة1، وهي قبيلة غطفانية، ذات شأن في المنطقة، بل إنَّها قدَّمت للحلفاء في غزوة الأحزاب أربعمائة مقاتل2، فذلك يعني أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أراد بهذه السرية التي كانت عبارة عن دورية قتال صغيرة، إضعاف هذه القبيلة اقتصادياً بأخذ أموالهم ومواشيهم في غفلةٍ منهم، تأديباً لهم على مشاركتهم في حلف الأحزاب، ومنعاً لهم من الاستمرارية في الحلف مع اليهود". والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث: سير الأحداث
المطلب الثالث: سير الأحداث: ضِمْنَ الجهود المبذولة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في إضعاف وتحطيم حلف الأحزاب وبخاصّةً الحلف الخيبري منه، وتأديباً لقبيلة بني مرّة الغطفانية التي شاركت بفعالية في غزوة الأحزاب: [1] "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد الأنصاري، أخا بني الحارث ابن الخزرج، نحو بني مرَّة بفدك"1، في دورية قتال صغيرة، قوتها ثلاثون رجلاً، كما يذكر الواقدي، وابن سعد2". [2] "فخرج، فلقي رعاء3 الشاء، فسأل: "أين الناس؟ فقالوا: "هم بواديهم، والناس يومئذٍ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء وعاد منحدراً إلى المدينة، فخرج الصريخ4 فأخبرهم"5".
وبسرعةٍ استطاع بنو مرّة تكوين قوة مطاردة تعقُّبيَّة كبيرة أدركت السرية عند الليل، فاشتبكوا معهم في قتالٍ تراشقي بالنبال استمرَّ طوال الليل". [3] "حتى فنيت نبل أصحاب بشير، وأصبحوا، فحمل المُرِّيون عليهم"1، في قتالٍ قوي غير متكافئٍ بين الطرفين، إذ أطبق المرِّيون على بشير وأصحابه فيما لا قبل لهم به، حيث سقط أصحاب بشير الواحد تلو الآخر بعد أن قاوموا ببسالة وقاتلوا بشجاعة، ولكن كثرة المرِّيين لم تتح لهم الفرصة". [4] "وولَّى منهم مَن ولَّى، وقاتل بشير قتالاً شديداً"2، أبدى فيه شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، حتى أثخنته الجراح، وسقط مغشياً عليه من شدَّتها، حتى إنَّ المرِّيّين ظنوا أنه قد مات، حينما ضربوا كعبه3 فرأوه بلا حراك، فرجعوا بنعمهم وشائهم، وقدم علبة بن زيد الحارثي4 - الذي ربما كان من الذين تحيَّزوا من ميدان المعركة - بخبر السرية ومصابها على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
أمَّا قائد السرية بشير بن سعد - رضي الله تعالى عنه - فإنَّه لمَّا [5] "أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهودي1 بفدك أياماً حتى ارتفع من الجراح، ثُمَّ رجع إلى المدينة"2".
المبحث الثالث: سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك (الحرقات)
المبحث الثالث: سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك (الحرقات) المطلب الأول: الخلاف في السرية ... المطلب الأول: الخلاف في السرية: اختلف في هذه السرية، في قائدها، وفي سببها، وفي الوجهة التي أُرْسِلَت إليها، في عِدَّة أقوال بين روايات أهل المغازي، وروايات أهل الحديث، حيث: يرى ابن إسحاق، والواقدي: "أنَّ هذه السرية هي سرية غالب ابن عبد الله الليثي - رضي الله عنه - إلى أرض بني مُرَّة بفدك، وأنَّ أُسامة ابن زيد - رضي الله تعالى عنه - خرج فيها، وأنَّه قتل مرداس بن نهيك بعد أن قال: "لا إله إلاَّ الله". وأضاف الواقدي: "أنَّ سبب السرية هو تأديب المرِّيين الذين أصابوا أصحاب بشير بن سعد في السرية السابقة1". أمَّا ابن سعد فعنون لها بـ"سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك". وذكر خروج أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنه - فيها، ولكن دون أن يشير إلى أنه قَتَل فيها المتعوِّذ، وذلك لأنه يرى أنَّ أُسامة لم يقتل ذلك الرجل في هذه السرية، وإنَّما في سرية أُخرى لغالب بن عبد الله الليثي كانت لبني عوال، وبني عبد ثعلبة بالميفعة2".
وتابعه في ذلك ابن سيد الناس1، والقسطلاني2، والقطب الحلبي في المورد العذب3". وقد أخذ ابن حجر برأي ابن سعد هذا ونسبه خطئاً إلى أهل المغازي4 حيث لم يذكر ذلك غير ابن سعد، ومَن تابعه كما أسلفنا". وعَنْوَنَ الطبريُّ للسرية بقوله: "وفيها "سرية غالب بن عبد الله في شهر رمضان إلى الميفعة"". ثُمَّ ذكر بسنده عن ابن إسحاق أحداث سرية غالب بن عبد الله الكلبي، إلى أرض بني مرَّة5". ومعلومٌ عند أهل المغازي أنَّ الميفعة ليست أرض بني مرّة، بل أرض بني عوال، وبني عبد ثعلبة، وهي وراء بطن نخل إلى النقرة، قليلاً بناحية نجد6، أمَّا بنو مرَّة فكانوا يسكنون بالقرب من فدك". كما أخرج ابن سعد قصَّة أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - في مكانٍ آخر، فساق بسنده إلى الحضرمي، رجلٌ من أهل اليمامة قال: [1] "بلغني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أُسامة بن زيد، وكان يحبه ويحب أباه قبله، فبعثه على جيش".".". فذكر الحديث"7".
فقوله: "فبعثه على جيش" يُشْعِر أنه كان قائداً لذلك الجيش، وكأنَّ الحاكم يرى ذلك - أيضاً - حيث ذكر في الإكليل، كما نقل عنه القسطلاني: [2] "أنَّ أُسامة فعل ذلك في سرية كان هو أميراً عليها في سنة ثمان"1". وكذلك بوَّب لها البخاري في الصحيح بما يفيد أنه كان أميراً عليها حيث قال: ""باب بعث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة"2، ثُمَّ ساق بسنده الحديث إلى أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - فقال: [3] "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة"34". وقد نفى ابن حجر وبناءً على قول أسامة - رضي الله تعالى عنه
- "بعثنا" أن يكون دليلاً على إمارته للجيش1". وكذلك أخرج الحديث مسلم بسنده عن أُسامة - رضي الله تعالى عنه - إلاَّ أنه قال فيه: [4] "فصبَّحنا الحرقات من جهينة"".23". والسؤال هنا هو هل هذه السرية التي خرج فيها أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - وقَتَل فيها ذلك الرجل المتعوِّذ: "سرية غالب ابن عبد الله الليثي - رضي الله عنه - إلى بني مرّة بفدك، كما ذكر ابن إسحاق والواقدي؟ أم سرية غالب بن عبد الله الليثي - أيضاً - إلى بني عوال، وبني عبد ثعلبة بالميفعة كما ذكر ابن سعد ومتابعوه؟ أم هي سرية أخرى كان أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما هو قائدها، كما أشار لذلك البخاري، والحاكم؟!
وأيضاً هل كانت وجهة هذه السرية إلى بني مرة، أو إلى بني عوال وبني عبد ثعلبة، أو إلى الحرقات من جهينة؟! وكما وقع هذا الخلاف بين أهل المغازي، كذلك وقع خلاف آخر بين أهل التفسير في تفسير قوله تبارك وتعالى {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاً تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاة الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمَ كَثِيرَة كَذَلِكَ كُنْتُم مِنْ قَبْل فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُم} . [سورة النساء، الآية: "94] ". فقد أخرج الطبري بسنده عن السدّي1. والثعلبي2 من طريق الكلبي3، عن أبي صالح4، عن ابن عباس". وهذا حديث ابن جرير بسنده من طريق أسباط5،عن السدّي قال:
[5] "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أُسامة بن زيد إلى بني مرة1، فلقوا رجلاً يُدْعَى مرداس بن نهيك، معه غنيمة له وجمل أحمر، فلمَّا رآهم أوى إلى كهف جبل، واتَّبعه أُسامة، فلمَّا بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثُمَّ أقبل إليهم، فقال: "السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّداً رسول الله، فشدَّ عليه أسامه فقتله من أجل جمله وغنيمته" ... فذكر الحديث 2. وأخرج الطبري - أيضاً - بسنده عن قتادة في قوله: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنواْ} الآية". قال: "هذا الحديث في شأن مرداس، رجل من غطفان، ذكر لنا: [6] "أنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك وبه ناس من غطفان، وكان مرداس منهم، ففرَّ أصحابه، فقال مرداس إني مؤمن، وإني غير متبعكم، فصبَّحته الخيل غدوة، فلمَّا لقوهسلَّم عليهم مرداس، فتلقاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه
وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل الله جلَّ وعزَّ في شأنه {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلام لَسْتَ مُؤمِناً} . [سورة النساء، الآية: "94] ".لأنَّ تحية المسلمين السلام بها يتعارفون، وبها يُحَيِّي بعضهم بعضا"1". وقد رُوِيَ من وجهٍ آخر عن قتادة، وأخرجه الطبري من حديث عبد الرزَّاق بسنده عنه وقال فيه: [7] "بلغني أنَّ رجلاً من المسلمين أغار على رجلٍ من المشركين فحمل عليه، فقال له المشرك: "إني مسلم، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، فقتله المسلم بعد أن قالها، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال للذي قتله: "أقتلته وقد قال لا إله إلاَّ الله؟ فقال وهو يعتذر: "يا نبي الله إنَّما قالها متعوِّذاً وليس كذلك، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فهلاَّ شققت عن قلبه؟ ثُمَّ مات قاتل الرجل فقُبِرَ، فلفظته الأرض، فذُكِرَ ذلك للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يقبروه، ثُمَّ لفظته الأرض، حتى فُعِلَ به ذلك ثلاث مرَّات، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الأرض أبت أن تقبله، فألقوه في غارٍ من الغيران". قال معمر: "وقال بعضهم: "إنَّ الأرض تقبل من هو شر منه، ولكن الله جعله لكم عبرة2".
قلت: "هذه القصة هي بعينها قصة محلم بن جثامة مع عامر بن الأضبط المشهورة عند أهل المغازي التي حدثت في سرية أبي قتادة - رضي الله تعالى عنه - إلى إضم، وهي تعتبر أحسن ما رُوِيَ في سبب نزول الآية، كما قال الشوكاني1". وهذه القصة أخرجها ابن جرير من حديث ابن إسحاق بسنده عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: [8] "بعث النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة2 مبعثاً، فلقيهم عامر بن الأضبط فحيَّاهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة3 في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلَّم فيه عيينة4،
والأقرع1، فقال الأقرع: "يا رسول الله سُنَّ اليوم وغَيِّر غداً، فقال عيينة: "لا والله حتَّى تذوق نساؤه من الثُّكل2 ما ذاق نسائي، فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا غفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت سابعة حتَّى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: "إنَّ الأرض تقبل مَن هو شرّ من صاحبكم، ولكنَّ الله جلَّ وعزَّ أراد أن يعظكم، ثُمَّ طرحوه بين صدفي جبل، وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت آية {يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ} الآية". [سورة النساء، الآية: "94] 3".
وقد أخرجه الطبري أيضاً من حديث ابن إسحاق أيضاً بسنده عن عبد الله بن أبي حدرد1 قال: [9] "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي2، ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم3، مرَّ بنا عامر بن
الأضبط الأشجعي على قعودٍ له معه متيع له ووطب من لبن1، فلمَّا مرَّ بنا سلَّم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيءٍ كان بينه وبينه، فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلمَّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن"2". كما ورد عن المفسرين أنَّ الآية نزلت في المقداد بن الأسود - رضي الله عنه، أخرج ذلك الطبري من حديث سعيد بن جبير قال: [10] "خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فمرَّوا برجلٍ في غنيمةٍ له، فقال: "إني مسلم، فقتله المقداد، فلمَّا قدموا ذكروا ذلك للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية"3". هكذا أخرجه مرسلاً عن سعيد، وقد ورد مطولاً موصولاً عند البزار من حديث سعيد أيضاً عن ابن عباس، حيث قال فيه:
الأضبط الأشجعي على قعودٍ له معه متيع له ووطب من لبن1، فلمَّا مرَّ بنا سلَّم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيءٍ كان بينه وبينه، فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلمَّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن"2". كما ورد عن المفسرين أنَّ الآية نزلت في المقداد بن الأسود - رضي الله عنه، أخرج ذلك الطبري من حديث سعيد بن جبير قال: [10] "خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فمرَّوا برجلٍ في غنيمةٍ له، فقال: "إني مسلم، فقتله المقداد، فلمَّا قدموا ذكروا ذلك للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية"3". هكذا أخرجه مرسلاً عن سعيد، وقد ورد مطولاً موصولاً عند البزار من حديث سعيد أيضاً عن ابن عباس، حيث قال فيه:
[12] "مرَّ رجلٌ من بني سليم بنفر من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له، فسلَّم عليهم، فقالوا: "لا يسلِّم علينا إلاَّ ليتعوَّذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية"1". وأخرج الطبري بسنده عن ابن زيد2 قال: [13] "نزل ذلك في رجلٍ قتله أبو الدرداء".. فذكرمن قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذُكِرَت عن أُسامة"3". وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة جزء بن الجدرجان، أنَّ ابن منده أخرج بسنده عنه: [14] "أنَّ أخاه فداد بن الجدرجان وفَدَ على رسول الله فلقيته سرية له فقتلوه بعد أن قال لهم: "إنه مؤمن، فنزلت فيه الآيات"4". قال ابن عبد البر: ""والاختلاف في المراد بهذه الآية كثير مضطرب فيه جداً، قيل: "نزلت في أُسامة بن زيد، وقيل: "في محلم بن جثامة، وقال ابن عباس: "نزلت في سرية ولم يسمّ أحداً، وقيل: "نزلت في غالب
الليثي، وقيل: "نزلت في رجل من بني ليث يقال له: "فليت، كان على سرية، وقيل: "نزلت في أبي الدرداء، وهذا اضطراب شديد جداً"1". وقال القرطبي: "واختلف في تعيين القاتل، والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر وهو في سيرة ابن إسحاق، ومصنَّف أبي داود، والاستيعاب لابن عبد البر: "أنَّ القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط، ولا خلاف أنَّ الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة الذي ذكرناه، ولعلَّ هذه الأحوال جرت في زمان متقارب، فنزلت الآية في الجميع"2". وقال القريبي: "والأحاديث مجموعها تدل على أنَّ هذه القصة حصلت لمحلم بن جثامة الليثي في قتله عامر بن الأضبط الأشجعي، بعد أن ظهر منه ما يدل على أنه مسلم، وأنه نزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ} 3". وقال ابن حجر: "وإن ثبت الاختلاف في تسمية من باشر القتل مع الاختلاف في المقتول احتمل تعدُّد القِصَّة4". وقال الزرقاني: "يُحْتَمَل تعدُّد القِصَّة، وتكرير نزول الآية5".
وقال المراغي: "ولا مانع من تعدُّد الوقائع قبل نزول الآية، وأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأها على أصحاب كُلّ واقعة، فيرون أنَّهم سبب نزولها1". قلت: "إن ثبت تعدُّد هذه القصة، فإنَّ الآية لا يمكن أن تكون نصّاً عليها جميعها، فإنَّ هنالك اختلافاً بيِّناً في بعض عناصرها، وإن بدت وكأنَّ نتيجتها واحدة، وهي زجر رسول صلى الله عليه وسلم عن قتل مَن بدت منه شبهة تدرأ عنه ذلك حتَّى يتم التأكد من حقيقته، فمثلاً قصة أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، لا تنطبق عليها هذه الآية من عِدَّة وجوه: - الأحاديث التي أوردت قصة أُسامة - رضي الله تعالى عنه، ومنها أحاديث الصحيحين لم تتطرَّق لذكر نزول آية في قصَّته، ولو كانت الآية نزلت فيه فعلاً لما أغفلتها تلك الأحاديث نظراً لأهمية الآية فيموضوع القصة وتدعيماً لها، ونظراً لاستقصاء المحدثين وتتبعهم الشديد والمتقن لمثل هذه الأمور". - الآية نفسها لا تنطبق على أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، لأنه لم يك مشركاً في يومٍ من الأيام، بل إنه وُلِدَ في الإسلام، كما شبَّ وترعرع في عزه ودولته في المدينة، فلم يك هنالك داعٍ لكتمان إيمانه، كما أوضحت بعض الروايات قصة المقداد".
- التقريع والتوبيخ الوارد في الآية لا يتناسب - أيضاً - مع ما صحَّ في قصَّة أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، من أنه قتل ذلك الرجل المتعوِّذ اجتهاداً منه في أنه لم ينطق بالشهادة إلاَّ خوفاً من السيف، بخلاف ما وقع في قصَّة محلم بن جثامة، فالدوافع التي جعلته يقتل عامر ابن الأضبط تختلف عنها في قصَّة أسامة حيث إنَّ قتله لعامر لم يكن اجتهاداً منه بقدر ما كان طمعاً في ماله، وبسبب ما كان بين الاثنين من إحن وتخاصُم في الجاهلية". الأمر الآخر، وهو الذي يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو عدم إمكان تعدُّد قصَّة أُسامة - رضي الله تعالى عنه - في عِدَّة مواطن، كما أشار بذلك الحلبي1". بل هي قصَّة واحدة حدثت في موطنٍ واحدٍ". ولكنَّ السؤال هو: "أين حدثت؟ ". فالذي في الصحيحين، وكتب الحديث الأخر: "أنَّ البعث كان إلى الحرقات من جهينة، والذي في المغازي أنه كان لبني مرة بالقرب من فدك، وأنَّ المقتول كان حليفاً لهم من الحرقة". فهل يُعد ذلك تبايناً بين الروايتين، رواية أهل الحديث، ورواية أهل المغازي؟ ".
فالذي تشير إليه كتب الأنساب أنَّ ديار الحرقات كانت قريبة من ديار بني مرة، بدليل أنَّ الحرقة، وهم بنو الحميس لُقِّبوا بالحرقة لأنهم أحرقوا بني مرّة قتلاً بالنبل في حربٍ دارت بينهما، ومعلومٌ بداهةً أنَّ كلتا القبيلتين غطفانيتان، ومنازل غطفان تمتد حول منطقة خيبر، ووادي القرى، وفدك". كما أنَّ ما ذكر في روايات أهل المغازي من أنَّ المقتول كان حليفاً لبني مرة، وما أخرجه البخاري في التاريخ، والبيهقي بسندٍ لا بأس به، عن أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - قال: [15] "أدركت أنا ورجل من الأنصار - يعني مرداس بن نهيك - ثُمَّ ذكر الحديث" ... 1. فالنَّص على تسمية الرجل هنا، وموافقة ذلك لروايات أهل المغازي السابقة، كُلُّ ذلك يعدّ قرائن على اتحاد قصَّة أهل الحديث بقصة أهل المغازي، وأنَّهما قصة واحدة، رويت بأسانيد مختلفة، وسياق مختلف نوعاً ما". والله تعالى أعلم".
المطلب الثاني: تاريخ السرية
المطلب الثاني: "تاريخ السرية: أرَّخ ابن سعد لسرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في شهر صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم1". وأرَّخ لسرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة التي ذكر فيها أنَّ أسامة ابن زيد - رضي الله عنهما - أصاب فيها الذي قال: "لا إله إلاَّ الله، بشهر رمضان سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم2". وتابعه في ذلك ابن سيد الناس3، والقسطلاني4، والحلبي5". ولم يذكر لها الواقدي تاريخاً - وذلك خلاف عادته -، وذكرها مباشرةً بعد سرية بشير بن سعد إلى فدك، بل إنه لم يجعل لها عنواناً مستقلاً، وإنَّما تحدَّث عنها بعد فراغه من سرية بشير، وكأنه يرى أنَّها متعلِّقة بها، وأنَّها كانت في نفس التاريخ6. وتابعه في ذلك ابن كثير7.
أمَّا ابن إسحاق فلم يذكر لها تاريخاً حيث ذكرها في جملة السرايا والبعوث، ورتَّبها بعد غزوة مؤتة، وسرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني العنبر، وقبل ذات السلاسل1. وذكر البيهقي رواية ابن إسحاق بعد رواية الواقدي، بعد سرية بشير ابن سعد إلى بني مرَّة بفدك، وقبل سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوّح، وسريته أيضاً إلى الميفعة2. وجمع الطبري بين رواية ابن إسحاق حول السرية، وبين عنوان سرية غالب الأخرى إلى الميفعة، وهو وهم كما ذكرنا سابقاً، لكنَّه أرَّخ لها بشهر رمضان من السنة الثامنة3. وذكرها خليفة بن خياط في سرايا سنة خمس، مباشرةً بعد سرية بشير بن سعد إلى فدك4. وذكرها البلاذري - أيضاً - بعد سرية بشير، دون أن يجعل لها تاريخا5، وكذلك فعل ابن القيم، ولكنه اقتصر على رواية المحدثين حول سرية الحرقات6.
وجمع الشامي كعادته بين رواية ابن إسحاق، ورواية الواقدي، وأرَّخ لها في صفر سنة ثمان1. ونقل القسطلاني عن الحاكم في الإكليل أنَّها كانت في سنة ثمان2. قال الزرقاني: "وفي البخاري ما يوافقه، فإنه قال بعد غزوة مؤتة (باب بعث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُسامةَ بن زيد إلى الحرقات) 3. قال ابن حجر: "وقد ذكر أهل المغازي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة - بتحتانية ساكنة وفاء مفتوحة - وهي وراء بطن نخل، وذلك في رمضان سنة سبع، وقالوا: "إنَّ أُسامة قَتَلَ الرَّجُلَ في هذه السرية، فإن ثبت أنَّ أُسامة كان أمير الجيش فالذي صنعه البخاري هو الصواب، لأنه ما أُمِّرَ إلاَّ بعد قتل أبيه بغزوة مؤتة، وذلك في رجب سنة ثمان، وإن لم يثبت أنه كان أميرها رجَّح ما قال أهل المغازي4". وذكر الزرقاني، عن بعض شُرَّاح البخاري، أنه "لعلَّ المصير إلى ما في البخاري هو الراجح، بل الصواب"5". انتهى". قال الزرقاني: "وليس الترجي من وجوه الترجيح، نَعَم! روى ابن جرير عن السُدّي بعث صلى الله عليه وسلم سرية عليها أُسامة بن زيد فذكر القصَّة،
وروى ابن سعد عن جعفر بن برقان قال: "حدَّثني الحضرمي". قال: "بلغني أنه صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد على جيش فذكر القِصَّة، فإن ثبتتا ترجَّح صنيع البخاري1". قلت: "كل ما ذكروه لا يثبت إمارة أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - للجيش. والروايتان اللتان ذكرهما الزرقاني ضعيفتان كما وضَّحنا سابقاً2". أمَّا صنيع البخاري - رحمه الله تعالى - فقد أوَّله ابن حجر بغير ما ذكروه، كما مرَّ بنا سابقاً". والذي يترجَّح عندي هو أنَّ هذه السرية كانت بعد سرية بشير بن سعد مباشرةً، لأنَّها أُرْسِلَت لتأديب الأعراب الذين أصابوا سريته، وأنَّ أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - خرج فيها، فأصاب ذلك الرجل المتعوِّذ، فهي في سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربما في رمضان منه، كما أشار إلى ذلك ابن حجر، وعزاه إلى ابن سعد عن شيخه الواقدي3". وإن كان هنالك خلاف بين الاثنين حول سريتي غالب بنعبد الله الليثي، وأيهما التي قتل فيها أسامة رضي الله تعالى عنه المتعوِّذَ، وقد وضَّحنا ذلك فيما سبق".
المطلب الثالث: سير الأحداث
المطلب الثالث: سير الأحداث: عندما قدم علبة بن زيد الحارثي الأوسي بخبر سرية بشير بن سعد، ومصابها على رسول الله صلى الله عليه وسلم". [16] "هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، وقال له: "سِر حتَّى تنتهي إلى مُصاب أصحاب بشير بن سعد، فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم، وهيأ معه مائتي رجل، وعقد له لواء"1. [17] "فقدم غالب بن عبد الله من سرية قد ظفَّره الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام: "اجلس، وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل2، فخرج أُسامة بن زيد في السرية حتى انتهى إلى مصاب بشير وأصحابه، وخرج معه علبة بن زيد"3". و [18] "عقبة بن عمرو أبو مسعود4، وكعب بن
عجرة"12". وأبو سعيد الخدري3". [19] "فلمَّا دنا غالب منهم بعث الطلائع، فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظر إلى جماعة محالهم، حتى أوفى على جماعة منهم، ثُمَّ رجع إلى غالب، فأخبره فأقبل غالب يسير حتَّى إذا كان منهم بمنظر العين ليلاً، وقد اجتلبوا وعطَّنوا4، وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثُمَّ قال: "أمَّا بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمراً، فإنَّه لا رأي لمن لا يُطاع، ثُمَّ ألَّف بينهم5 فقال: "يا فلان أنت وفلان، يا فلان أنت وفلان، لا يفارق كُلّ رجل زميله"6".
فلمَّا كان قرب الفجر انقضوا عليهم في هجوم فجري خاطف، وهم يتصايحون بشعارهم المُتَّفَق عليه مسبقاً: "أمت! أمت! 1". وارتبك الأعراب بادئ الأمر، إلاَّ أنَّهم تمالكوا أنفسهم بعضاً من الوقت حيث أبدوا بعض المقاومة، فخرج الرجال فقاتلوا ساعة، وكان منهم رجل من أشدِّهم، فكان: [20] إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين، قصد له فقتله2، حتَّى أوجع في المسلمين، غير أنَّ قوة وتنظيم المسلمين في هجومهم المباغت، وهول المفاجأة من ذلك الهجوم الفجري غير المتوقَّع أفقد الأعراب توازنهم، فانهزموا هاربين، ووضع المسلمون سيوفهم فيهم حيث شاءوا3. يقول أُسامة - رضي الله تعالى عنه - في وصف ذلك: [21] فصبَّحنا القوم فهزمناهم4. [22] فكان منهم رجلٌ إذا أقبل القوم كان من أشدِّهم، وإذاأدبروا كان حاميتهم، قال: "فغشيته أنا ورجلٌ من الأنصار5.
[23] "فلمَّا غشيناه قال: "لا إله إلاَّ الله، فكفَّ الأنصاري، فطعنته برمحي1". [24] "فوقع في نفسي من ذلك"2". ثُمَّ تمكَّن المسلمون من السيطرة على الأعراب بسرعة، حيث استحوذوا على حاضر القوم بعد أن قتلوا منهم مَن قتلوا، وهَرَبَ الباقون أمامهم فاستاقوا: [25] "النَّعم والشاء والذرية، وكانت سهامهم عشرة أبعرة لكل رجل، أو عدلها من الغنم، وكان يحسب الجزور بعشرة من الغنم"3". وكان ذلك القتال يعدّ أوَّل تجربة عسكرية قتالية لأُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما4، حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا جاء البشير بخبر النَّصر والفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلَّل وجهه فرحاً، وازداد فرحه صلى الله عليه وسلم حينما أخبره البشير عن شِدَّة بأس أُسامة، واستبساله في القتال، ولكنَّه حينما أخبره بخبر الرجل الذي قتله أُسامة تغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى أُسامة".
[26] "فدعاه فسأله، فقال: "لِمَ قتلته؟ قال: "يا رسول الله! أوجَعَ في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً، وسمَّى له نفراً، وإني حملت عليه، فلمَّا رأى السيف قال: "لا إله إلاَّ الله". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته؟ قال: "نعم". قال: "كيف تصنع بلا إله إلاَّ الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: "يا رسول الله استغفر لي". قال: "وكيف تصنع بلا إله إلاَّ الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: "فجعل لا يزيده على أن يقول: "كيف تصنع بلا إله إلاَّ الله إذا جاءت يوم القيامة" 1. قال أُسامة: [27] "فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم2".
المطلب الرابع: الأحكام المستنبطة والعبر والدروس المستفادة
المطلب الرابع: "الأحكام المستنبطة والعبر والدروس المستفادة: أولاً: "الأحكام المستنبطة: قال الخطابي: "فيه من الفقه أنَّ الكافر إذا تكلَّم بالشهادة وإن لم يصف الإيمان وَجَبَ الكَفُّ عنه والوقوف عن قتله سواء أكان بعد القدرة أم قبلها1". وقال ابن التين تعليقاً على قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأُسامة: ""أقتلته بعدما قال؟ "". في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحَد على قتلِ مَنْ تلفَّظ بالتوحيد2". وقال القرطبي: "تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك3". وقال النووي: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا شققت عن قلبه"، فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأُصول أنَّ الأحكام يعمل فيها بالظواهر، والله يتولَّى السرائر4". وقال ابن حجر: "وفيه دليل على ترتُّب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة5".
وقال الخطابي: "وفيه أنه لم يلزمه - مع إنكاره عليه - الدية، ويشبه أن يكون المعنى فيه، أنَّ أصل دماء الكُفَّار الإباحة، وكان عند أُسامة أنه إنَّما تكلَّم بكلمة التوحيد مستعيذاً لا مُصَدِّقاً به، فقتله على أنه كافرٌ مبَاح الدَّم، فلم تلزمه الدية، إذ كان في الأصل مأموراً بقتاله، والخطأ عن المجتهد موضوع، ويحتمل أن يكون قد تأوَّل قول الله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُم إِيمَانهُم لَمَّا رَأَواْ بَأْسَنَا} . [سورة غافر، الآية: "85] ، وقوله في قِصَة فرعون: {ءالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . [سورة يونس، الآية: "91] ". فلم يُخلِّصهم إظهار الإيمان عند الضرورة والإرهاق من نزول العقوبة بساحتهم ووقوع بأسه بهم1". قال ابن حجر: "كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وآخرة، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعاً مقيَّداً بأنْ يجب الكفّ عنه حتَّى يختبر أمره، هل قال ذلك خالِصاً من لبه، أو خشيةً من القتل؟ وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء، فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة، وهو المراد من الآية، وأمَّا كونهلم يلزمه دية ولا كَفَّارة فتوقَّف فيه الداودي وقال: "لعلَّه سكت عنه لعلم السامع أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكَفَّارة".
وقال القرطبي: "لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع، لكن فيه بُعْد لأنَّ العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع، قال: "فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء، لأنه كان مأذوناً له في أصل القتل، فلا يضمن ما أتلف من نفسٍ ولا مال كالخاتن والطبيب، أو لأنَّ المقتول كان من العدوِّ ولم يكن له وليٌّ من المسلمين يستحق ديته، قال: "وهذا يتمشى على بعض الآراء، أو لأنَّ أُسامة أقرَّ بذلك، ولم تقم بذلك بيِّنة فلم تلزم العاقلة الدية، وفيه نظر1". وقال النووي: "أمَّا كونه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أُسامة قصاصاً ولا دية ولا كَفَّارة، فقد يُستدَلُّ به لإسقاط الجميع، ولكن الكَفَّارة واجبة والقصاص ساقط للشبهة فإنه ظَنَّه كافراً، وظَنَّ أنَّ إظهاره كلمة التوحيد في هذه الحال لا يجعله مسلماً". وفي وجوب الدية قولان للشافعي، وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء. ويجاب عن عدم ذكر الكَفَّارة بأنَّها ليست على الفور، بل هي على التراخي وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول، وأمَّا الدية على قول من أوجبها فيحتمل أنَّ أُسامة كان في ذلك الوقت معسراً بها فأُخِّرَت إلى يساره2.
وقال الزرقاني: "روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: "أمر صلى الله عليه وسلم لأهل مرداس بديته وردّ ماله إليهم". وقيل: "قال له: "اعتق رقبة". والله أعلم 3". قلت: "بالإضافة إلى ما ذكروه، فإنَّ أسامة - رضي الله تعالى عنه - كان في ذلك الوقت صغيراً في السنِّ، وأنَّ ما حمله على قتل ذلك الرجل هو قِلَّة خبرته الفقهية، وبخاصّةً فقه الجهاد، باعتبار أنَّها أوَّل مشاركة جهادية، كما ورد في رواية ابن سعد السابقة1، ولأجل ذلك عذره النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّه أبلغ في اللوم والعتاب عليه سدّاً للذريعة، والتثبُّت، وبخاصّةً وأنَّ الأمر يتعلَّق بحياة إنسان بدت منه شبهة تدرأ عنه القتل". والله تعالى أعلم". ثانياً: "العبر والدروس المستفادة: " إنَّ حُبَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد - ولأبيه من قبله - رضي الله تعالى عنهما - لم يشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخطأ، فكان اللوم والتقريع والمحاسبة الشديدة على الخطأ". وفي ذلك دليل على أنه لا محاباة، ولا محسوبيات في دين الإسلام، فالكل سواسية أمام الشارع، يحاسبهم على أخطائهم، لا فرق بين قريب أو بعيد، ولا غني أو فقير".
استمرار سياسة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العسكرية ضد الأعراب مِمَّا أدَّى إلى حصد النتائج السريعة المتوخاة من تلك السياسة العسكرية المتبعة ضدَّهم، نصر، وغنائم، وتأديب، ورعب". كان الشعار في المعركة من مبتكرات النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في غزواته وبعوثه وسراياه وتتضح أهمية الشعار في القتال الليلي، أو الفجري الخاطف، وبخاصّةً إذا علمنا أنَّ العرب في ذلك الوقت يتشابهون فيما بينهم في اللباس والملامح، حيث لم تكن هنالك بزَّات1 عسكرية خاصّةً لكل جيش كما هو الحال اليوم في المؤسسات العسكرية الحديثة، فكان الشعار ينوب مناب اللباس الخاص للتفريق بين المسلمين وأعدائهم في ميدان المعركة، كما أنَّه يبث روح الحماس في نفوس الجند وهم يتصايحون به أثناء الانقضاض على العدوّ، كما حدث في هذه السرية". والله تعالى أعلم. اتَّبع المسلمون الهجوم الفجري ضد الأعراب "فكان هذا الهجوم مباغتة كاملة أثَّرت على معنوياتهم، وأجبرتهم على الفرار". "إنَّ الهجوم فجراً يؤَمِّن المباغتة، لأنَّ العدوَّ يكون بين نائم لا يفيد في القتال، أو مستيقظٍ غير مُتَهَيئٍ له، وهؤلاء جميعاً غير متهيئين للقتال، ولا جدوى منهم للنهوض بأعباء الحرب".
ولكن الهجوم فجراً يحتاج إلى قوة مددية تستطيع معرفة أهدافها، فلا يصطدم بعضها ببعض، فيؤدي ذلك إلى خسائر في الأرواح دون مبرر، مِمَّا يدل على تدريب المسلمين تدريباً متميزاً على فنون القتال، كما يحتاج الهجوم فجراً إلى قيادة مسيطرة وإلى ضبط شديد لتنفيذالأوامر"1". وذلك واضح في الخطاب الذي ألقاه قائد السرية عليهم، وتأكيده على الضبط العسكري، ومبدأ طاعة الأوامر، ثُمَّ في تأليفه بين الجند ومؤاخاته بينهم، والحثّ على الاجتماع وعدم التفرُّق، وترك الإمعان في العمق دون مبرِّر". "إنَّ نجاح المسلمين بهذا الهجوم معناه وصولهم إلى درجة عالية في التدريب والضبط، وهما أهمّ عناصر الجيش القوي الرصين"2".
الفصل الثالث: بقية السرايا والبعوث النبوية الشمالية قبل غزوة مؤتة
الفصل الثالث: بقية السرايا والبعوث النبوية الشمالية قبل غزوة مؤتة المبحث الأول: سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل المطلب الأول: التعريف بدومة الجندل ... المطلب الأول: التعريف بدومة الجندل: قال في القاموس: "دومة الجندل، ويقال: "دوماء الجندل، كلاهما بالضم1". وقال الجوهري: "أصحاب اللغة يقولونه بضم الدال، وأصحاب الحديث يفتحونها2". وقال ابن الأثير: "تُضَمُّ دالُها وتُفْتَح3". وقال ياقوت: "وقد أنكر ابن دريد الفتح، وعدَّه من أغلاط المحدثين4". قال الهجري: "كُلُّ العرب على فتح الراء من رضوى، وضم الدال من دومة الجندل5". قال في المقتطف: "والصواب في كُلِّ ذلك أنَّها تقال بالضم أو بالفتح على السواء، والسبب هو أنَّ اللفظة أعجمية، وهي تُلْفَظ فيها بحركة بين الضم والفتح، فلمَّا عرَّبها العرب مال بعضهم إلى ضمها وآخرون إلى فتحها، واللغويون في مثل هذا المثال يضمون الحرف، والنقلة يميلون إلى
الفتح، والمحققون يروون اللفظ على أصله، ونظن أنَّ هذه الطريقة الأخيرة هي المخيرة في عصرنا لأنها هي الصحيحة لقربها من الأصل المأخوذة عنه1". واختلف العلماء واللغويون والمحدّثون في معنى هذا الاسم: قال ابن الفقيه: "دومة الجندل من أعمال المدينة، سُمِّيَت بدوم بن إسماعيل بن إبراهيم2". وقال الزجاجي، والبكري: "سُمِّيَت بدومان بن إسماعيل، كان ينْزلها3". وقال ابن الكلبي: "دوماء بن إسماعيل، قال: "لمَّا كثر ولد إسماعيل - عليه السلام - بتهامة، خرج دوماء بن إسماعيل حتى نزل موضع دومة وبنى بها حصناً، فقيل: "دوماء، ونُسِبَ الحصن إليه4". وقيل: "كان لإسماعيل ولد اسمه دُما أو دوما أو دمة، والظاهر أنَّ الحكاية ملفقة لفَّقها بعضهم إثباتاً لمدَّعاه، وأمَّا الذي عرفه النسابة بهذا الاسم دوم بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، إلاَّ السيد مرتضى صاحب التاج قال عنه: "لم أره عند النسابة5".
ومعنى اسمها الحقيقي: "أنَّها كلمة يونانية معناها (الحصن) ، وعند الرومان دوما: "السطح". والظاهر أنَّ العرب الأولين الذين اقتبسوا اللفظة عن اليونان كانوا يعرفون أنَّ معنى دوما: "الحصن، ثُمَّ تُنُوسِيَ مع الزمن، والدليل أنَّنا نجد في معجم البلدان لياقوت الحموي ما نصه: "قال أبو سعد: "دومة الجندل في غائط من الأرض خمسة فراسخ، قال: "ومن قبل مغربه عين تثجّ فتسقي ما به من النَّخل والزرع، وحصنها مارد، وسُمِّيَت دومة الجندل، لأنَّ حصنها مبني بالجندل"1، فكأنه قال: "الدومة: "الحصن، وأضيفت إلى الجندل لأنه مبني به". وقال أبو عبيد السكوني: "دومة الجندل: "حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طئ كانت به بنو كنانة من كلب، قال: "ودومة من القريات من وادي القرى إلى تيماء أربع ليال، والقريات: "دومة، وسكاكة، وذو القارة، فأما دومة فعليها سور يتحصن به، وفي داخل السور حصنٌ منيعٌ يقال له مارد، وهو حصن أكيدر الملك" ... 2. وهذا - أيضاً - كلام يشعر منه بأنَّ العرب الأقدمين كانوا يعرفون معنى الدومة، وأنها الحصن الحصين أو المنيع، ومن الأدلة على أنَّ الدومة بمعنى الحصن أنها أُضيفت إلى عِدَّة مواضع بُنِيَت فيها حصون، منها دومة الكوفة، أو دومة النجف، ودومة الحيرة، ودومة خبت، ودومة دمشق وغيرها3".
وذكر البلاذري في فتوح البلدان عن الواقدي قال: "سمعت بعض أهل الحيرة يذكر أنَّ أُكيدر وإخوته كانوا ينْزلون دومة الحيرة، وكانوا يزورون أخوالهم من كلب فيتغربون عندهم، فإنَّهم لمعهم وقد خرجوا للصيد إذ رفعت لهم مدينة متهدمة لم يبق إلاَّ بعض حيطانها، وكانت مبنية بالجندل، فأعادوا بنائها، وغرسوا فيها الزيتون وغيره، وسموُّها دومة الجندل تفرقةً بينها وبين دومة الحيرة1". أمَّا موقعها، فقال البكري: "ودومة هذه على عشرة مراحل من المدينة، وعشر من الكوفة، وثمان من دمشق، واثنتي عشرة من مصر2". وقال ياقوت: "هي على سبع مراحل من دمشق، بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم3". وقال الحميري: "ودومة الجندل حصنٌ منيعٌ، ومعقلٌ حصينٌ، وبه عمارة وتَتَّصِل به عين التمر4". وقال الواقدي: "كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غزا دومة الجندل في سنة خمس، فلم يلق كيداً، ووجَّه خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِر في شوَّال سنة تسع بعد إسلام خالد بن الوليد بعشرين شهراً، وهي أرض نخل وزرع يسقون على
النواضح، وحولها عيون قليلة، وزرعهم الشعير، وهي مدينة عليها سور ولها حصن عال مشهور في العرب يُدْعَى مارد1". قلت: "وكذلك بعث إليها عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - على رأس هذه السرية". قال البكري: "وكان افتتاح دومة صلحاً، وهي من بلاد الصُّلْح التي أدَّت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية2". وقد تعرَّض أصحاب معلمة الإسلام، وهم جماعة من المستشرقين لذكر دومة الجندل، فقالوا: "جوف السرحان أرض ديار العرب، واقعة في شمال نجد وأنت تتجه إلى سورية على وادي سرحان، وجوف السرحان وتيماء هما الروضتان الكبريان من ديار جزيرة العرب، وأكبر مدينة من مدن جوف السرحان كانت دومة الجندل (ويسميها بطليموس دوميثا) مع حصنها المارد، وقد أقام برخرد في جوف السرحان سنة 1812م، وزارها أوتنك بعده بسبعين سنة، وهي اليوم عبارة عن طائفة قرى ضخمة تطوف بها بساتين وحدائق وغيطان نخل يسمونها (أسواقاً) فيها من 80 إلى 120 بيتاً، وجملة سُكَّانها نحو 12000، والقرى على اختلاف أنواعها تنقاد لأمور شيوخ خاصَّة بهم، وفي عهد إقامة برخرد في الجوف كان أغلب
قطَّانها تُجَّاراً صغاراً، وأصحاب مهن، منهم الخفَّاف، والحدَّاد، والنَّجَّار، وكانوا يبدلون أمتعتهم وتجاراتهم مع الأعراب بأباعر، أمَّا اليوم فالتِّجارة والاحتراف في سقوطٍ ليس وراءَه سقوط، وكان أصحاب تلك الربوع من الوهابيين، وكانت أرضهم داخلة في إحدى كور مملكة الوهابيين التي كان على رأسها اثنان من الأُمراء، وبعد انحلال الدولة الوهابية بقي أهلها مستقلين مدَّة مديدة، وفي سنة 1855م خضعوا لشمر الذين في حائل1" ومنطقة الجوف اليوم تعدّ من أكبر المناطق الزراعية المتميزة في المملكة، حيث تشتهر بزراعة الفواكه والخضروات، وتتميَّز بزراعة الزيتون الذي نجحت زراعته في المنطقة بكميات اقتصادية تُبَشّر بالخير". ودومة الجندل تعتبر ثاني أكبر مدينة في المنطقة، وهي اليوم مدينة متطورة شملتها النهضة العمرانية الواسعة في العهد الميمون، ولكنَّها احتفظت أيضاً بتراثها التاريخي القديم".
المطلب الثاني: تاريخ السرية
المطلب الثاني: تاريخ السرية: تفرَّد الواقدي، وعنه ابن سعد، في ذكر تاريخ هذه السرية، وأنَّها كانت في شعبان سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وتابعهما في ذ لك كل من الطبري، والبلاذري، والبيهقي، وابن سيد الناس، وابن القيم، وابن كثير، والقسطلاني، والشامي، والمقريزي، والذهبي2. ولم يذكر لها ابن إسحاق تاريخاً، وإنَّما ذكرها في جملة السرايا والبعوث، بعد سرية ابن أبي حدرد لقتل رفاعة بن قيس الجُشمي، وقبل سرية أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنه - إلى سيف البحر3. وذكرها خليفة ضمن السرايا التي كانت سنة ست من الهجرة، دون أن يحدِّد الشهر4. ولا يمكن القطع بصحة التاريخ الذي ذكره الواقدي وتلميذه ابن سعد، لأنَّ غالب ما يذكران من تواريخ للسرايا والبعوث تخالف كثيراً من الأحداث والوقائع في السيرة.
ولو نظرنا إلى بعض أحداث هذه السرية التي وردت عنهما لاستنتجنا تأخرها عن التاريخ الذي جعلاه لها. فمثلاً ذكرا أنَّ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - قائد هذه السرية تزوَّج ابنة ملك الدومة في ذلك الوقت الأصبغ بن عمرو الكلبي بناءً على مشورة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكرا أنَّها هي أُم (أبي سلمة بن عبد الرحمن) الفقيه المشهور. وبالنَّظر في ترجمة أبي سلمة وجدت أنَّ ميلاده كان سنة بضعٍ وعشرين، وأنه توفي سنة أربعٍ وتسعين على الراجح، وله اثنتان وسبعون سنة1، وبإجراء عملية حسابية بسيطة تبيَّن أنه وُلِدَ سنة اثنين وعشرين تقريباً". فإذا أخذنا بروايتي الواقدي، وابن سعد، حول تاريخ السرية وأنَّها كانت سنة ست، يكون أبو سلمة لم يولد إلاَّ بعد ستَّة عشر عاماً من زواج أبويه، وإذا علمنا أنه كان وحيد أبويه - حيث لم تنجب أُمه من عبد الرحمن سواه - كما ذكر الواقدي2 - ترجَّح ما ذكرته سابقاً.
أيضاً ذكر الذهبي عن ابن سعد، وابن حجر في ترجمة أبي سلمة أنَّ أُمه تماضر بنت الأصبغ أدركت حياة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ أباه توفي وهو صغير، فلم يستطع أن يروي عنه، فكل ذلك يعطينا إشارات ولو غير مباشرة على تأخُّر هذه السرية. والله تعالى أعلم".
المطلب الثالث: سير الأحداث
المطلب الثالث: سير الأحداث: كانت الأجواء التي تمَّ فيها إرسال هذه السرية تفيض علماً، وتفوح عبقاً مباركاً، وقد كانت فرصة مناسبة للتعرُّف على مجالس العلم التي كانت تُعقد في المسجد النبوي، وكذلك معرفة المراسم التي يتم من خلالها بعْث السرايا، وتولية الأُمراء عليها، وذلك من خلال راوي الحديث الذي كان شاهد عيان يصف لنا ذلك كُلّه بأدقّ عبارة، وأسهل جملة، يقول عبد الله ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما: [1] "كنت عاشر عشرة رهط1 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده: "أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"2".
[2] "فجاء فتى من الأنصار، فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جلس، فقال: "يا رسول الله! أي المؤمنين أفضل؟ قال: "أحسنهم خُلُقاً". قال: "أي المؤمنين أكيس؟ 1 قال: "أكثرهم للموت ذكراً، وأكثرهم له استعداداً قبل أن ينْزل بهم - أو قال: "ينْزل به - أولئك الأكياس، ثُمَّ سكت"2 الفتى3 و [3] "أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين! 4، خمسٌ إذا ابتليتُم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ: "لم تظهر الفاحشة في قومٍ
قطّ حتَّى يعلنوا بها، إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلاَّ أُخِذُوا بالسنين وشِدَّة المؤونة وجَوْر السلطان عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاة أموالهم إلاَّ مُنِعُوا القَطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمْطَروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلاَّ سلَّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيَّروا1 مِمَّا أنزل الله إلاَّ جعل الله بأسهم بينهم"2". [4] "قال: "ثُمَّ أمر عبد الرحمن بن عوف يتجهَّز لسريةٍ أمَّره عليها، فأصبح قد اعتمَّ بعمامة كرابيس3 سوداء، فدعاه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فنقضها وعمَّمه وأرسل مِن خلفه أربع أصابع، ثُمَّ قال: "هكذا يا ابن عوف، فاعتمَّ بها فإنه أعرب4 وأحسن"5".
ثُمَّ بدأت مراسم تولية عبد الرحمن بن عوف-رضي الله تعالى عنه- على الجيش، وهي مراسم بسيطة جداً ولكنَّها ذات مغزى عظيم ومؤثّر". حيث أمر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه، فحمد الله تعالى، ثُمَّ قال: "خذه يا ابن عوف: [5] "اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا مَن كفر بالله، لا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنَّته فيكم"1". فأخذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه اللواء، وعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبعمائة رجل - كما يذكر الواقدي2- وأمره بالمسير إلى دومة الجندل، فيدعوهم إلى الإسلام، وأشار عليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قائلاً: [6] "إن استجابوا لك فتزوَّج ابنة ملكهم، فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل3". [7] "فلمَّا حلَّ بها دعاهم إلى الإسلام، فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أبوا أوَّل ما قدم يعطونه إلاَّ السيف، فلمَّا كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً، وكان رأسهم"4".
[8] "وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام مَن أقام على إعطاء الجزية، وتزوَّج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ، وقدم بها إلى المدينة، وهي أُم أبي سلمة بن عبد الرحمن"1".
وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قد بعث قبله رافع ابن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً، يخبره بما فتح الله عليهم، وبإسلام الأصبغ وقومه".
المطلب الرابع: الدروس والعظات المستفادة
المطلب الرابع: الدروس والعظات المستفادة: تضمنَّت هذه السرية بعض الدروس والعظات المستفادة وهي: تحذير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته من الوقوع في أسباب المهلكات الموجبة لعذاب الله - عزَّ وجلَّ، واجتناب المحظورات". بيان خشيته صلى الله عليه وسلم، ورفقه بأُمَّته وخوفه عليهم مِمَّا يهلكهم في الدُّنيا والآخرة". بلاغة وقوَّة الخطاب التحذيري الذي وجَّهه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأُمَّته مُحَذِّراً إياهم من المهلكات الخمس بأسلوب سنن الله الكونية التي لابدَّ من وقوعها إذا ما توفرت شروطها، وتهيأت أسبابها، فظهور الفاحشة والإعلان بها بين الناس مَدْعاة لظهور الأمراض الخطيرة، وانتشار الأوبئة المستعصية وغير المعروفة من قبل". والغش في الكيل والوزن والنقص فيهما، عقوبته تكون بالجدب والغلاء وظلم السلطان". وتعطيل الزكاة ومنعها يؤدي إلى منع سقوط الأمطار، وبالتالي الجفاف والجدب". ونقض العهد والميثاق والخيانة والغدر، مدعاة لتسلُّط الأعداء واستبدادهم وظلمهم وغصبهم للحقوق". وترك الحكم بكتاب الله والحكم بغيره من القوانين والأنظمة الوضعية، عقوبته وقوع الفتنة، وسفك الدماء، واشتعال الحرب الأهلية".
بيان أنَّ العقوبة تكون من جنس العمل". إنَّ ما ذكره وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك العقوبات المستحقة لمن تلبَّس بأسبابها، ووقع في محظوراتها، نؤمن به، ونتيقن وقوعه، لصدق المُخْبِر به الذي لا ينطق عن الهوى، ولكننا نذكر وعلى سبيل الاستئناس بعض ما وقع في هذا الزمان من أمور، ربما تدخُل ضِمن إطار هذا الحديث، فقد شاع قبل مُدَّة وذاع خبر انتشار مرض خطير، وداء عضال، ووباء معدٍ، حار الأطباء - رغم البحث المتواصل والدراسات المتعددة والمكثفة - في التوصُّل إلى علاجٍ ناجع له، أو حتى مصل واقٍ منه". هذا الداء العضال نشأ أول الأمر في الدول الغربية الإباحية - رغم محاولاتهم اليائسة وادّعاءاتهم الكاذبة بأنَّ منشأَهُ كان بعيداً عنهم في أدغال أفريقية، متناسين البيئة الخصبة التي نشأ فيها المرض وترعرع، وهي بيئة الشذوذ الجنسي والإباحية المطلقة التي كانوا يشجعونها - ثُمَّ انتشر انتشار النار في الهشيم بطول الأرض وعرضها، وبخاصّة في الدول التي تشجع الإباحية في مجتمعاتها بطريقٍ مباشرٍ، وغير مباشر". هذا المرض الخطير الذي أصبح مجرَّد النُّطْقُ باسمه يثير الفزع، ويبث الرعب في النفوس، هو مرض نقص المناعة المكتسبة، المسمَّى طبياً (بالإيدز) ، وهو مرض ثبت طبياً أنَّ سببه المباشر كان من انتشار الشذوذ الجنسي (عمل قوم لوط) في تلك المجتمعات، وتفشيه بينهم
حتَّى أعلنوا به إعلاناً عظيماً، لدرجة تبني بعض الحكومات والهيئات والشخصيات المؤثرة في تلك المجتمعات الدفاع عن حقوق الشاذّين جنسياً1 في ممارسة عملهم القذر بحريَّةٍ تامَّة، وسن قوانين اجتماعية رسمية تبيح زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، ودعم المحاولات المستميتة منهم لوضع هذه الأُمور موضع التنفيذ على شكل مراسيم حكومية رسمية حتَّى تصبح ممارساتهم الشاذَّة ذات صبغة رسمية شعبية". لقد كان انتشار هذا القذر في تلك المجتمعات بعد أن ملُّوا وسئموا الممارسات الجنسية الطبيعية - بالطبع غير الشرعية – بين الرجال والنساء التي كثرت، وأصبحت أمراً حتمياً لا مفرَّ منه نتيجة الاختلاط والإباحية والتبرُّج والسُّفُور، والدعايات المركَّزة بشكل مباشر وغير مباشر لممارسة الجنس في كُلِّ وسائل الإعلام بأنواعها، وانتشار النوادي الليلية الحمراء، ونوادي العراة، والمنتجعات الساحلية السياحية، وغير ذلك من دواعي الإباحة ونشر الفاحشة والإعلان بها، ومع توالي الأمراض الوبائية الخطيرة عليهم، التي بدأت بمرض السيلان، ثُمَّ الزهري، إلاَّ أنَّهم لم يرتدعوا، واستمروا
في غيهم، حتى بَعَثَ الله عليهم هذا الفيروس القاتل الذي يهاجم الجهاز المناعي في جسم الإنسان فيحطمه ويقضي عليه، فيصبح عندها الجسم نهبة لمختلف الأمراض التي تفتك بالإنسان دون أن تجد ما يقاومها". ورغم ذلك كله، ورغم النداءات المتوالية من عُقَلاء القوم، والمؤتمرات المتعدِّدة للتحذير من ازدياد انتشار وشيوع هذا الوباء الفتَّاك في المجتمعات، إلاَّ أنَّنا نرى ونسمع في المقابل مؤتمرات أُخرى مشبوهة تُقَام بين حين وآخر بأسماء وشعارات زائفة، ودعايات برَّاقة، تدعو بشكلٍ مبطنٍ وغير مباشر لمزيد من الإباحية، والحرِّية المطلقة، وتشجيع ارتكاب الفواحش بعلاج نتائجها بالإجهاض، وغير ذلك من دَسِّ السُّمّ في العَسَلِ مِمَّن يُحبون شيوع الفاحشة وانتشارها بين النَّاسلإشباع غرائز بهيمية في نفوسهم، غير مدركين أو متعامِين عن الخطر الدَّاهِم، بتعدُّد الأمراض الوبائية وتجدُّدها، والتي كان آخرها ذلك المرض القاتل السريع الذي ظهر في بعض بلدان أفريقيا قبل أشهر، والمسمَّى (بفيروس أيبولا القاتل) الذي لا يمهل ضحاياه إلاَّ أياماً معدودة ليقضي عليهم، حمى الله أُمَّتنا وبلادنا من شرور الأمراض والأوبئة الفتَّاكة، ومن أسبابها التي حذَّرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم". بيان هديه صلى الله عليه وسلم في لبس العمامة، والاعتمام.
معرفة صفة مجالس العلم التي كانت تعقد في مسجد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، التي كان فيها صلى الله عليه وسلم المعلِّم الأوَّل، والموجِّه النَّاصح، والمُفْتِي الفقيه. لقد كان المسجد النَّبَويُّ في ذلك الوقت بمثابة جامعة بمعلِّمٍ واحدٍ يتلقَّى فيه الصحابة العلم والوعظ والفتوى والتوجيه والإرشاد، من مُعَلِّم البشرية النَّبِيّ محمَّد صلى الله عليه وسلم، كما كان - أيضاً - بمثابة القاعدة العسكرية التي تنطلق منها الجيوش والسرايا والبعوث. لقد كانت مراسم بَعْث السرايا، وتولية الأُمراء عليها، تتم في المسجد بشكلٍ مبسَّطٍ، لكنَّه متقن ومنظَّم، وبانضباطية مدهشة". كان من أهم مراسم تولية القادة والأمراء على السرايا والبعوث، الوصايا التي كان القائد الأعلى للقوَّات الإسلامية صلى الله عليه وسلم يُزَوِّدُ بها القادةَ والأُمراءَ كُلَّما بعثهم في بَعْثٍ، أو أرسلهم في سريةٍ، وصايا الحرب تلك كانت بمثابة تشريعات للحرب المقدَّسة التي كان يخوضها المسلمون ضد أعدائهم، والتي توضِّح بجلاء أي نوع من الحرب كان المسلمون يمارسونها ضد الأعداء باختلاف مشاربهم، وتعدُّد عداواتهم". لقد كانت بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء - حرباً فروسيةً بمعنى الكلمة، لم يشهد، ولن يشهد التاريخ لها مثيلاً -، إنَّ التأكيد في تلك الوصايا بالالتزام بالأخلاق الإسلامية السامية في التعامل مع الأعداء لأمر يثير الدهشة حقاً. فالنهي عن الغدر، والتمثيل بالأعداء، والنهي عن التعدي على الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، وحُسْن التعامل مع أهل
المبحث الثاني: سرية بشير بن سعد رضي الله عنه إلى الجناب (يمن، وجبار)
المبحث الثاني: سرية بشير بن سعد رضي الله عنه إلى الجناب (يمن، وجبار) المطلب الأول: التعريف بالجناب، ويمن، وجبار ... المطلب الأوَّل: التعريف بالجناب، ويمن، وجبار: قال البكري: "الجِنَاب - بكسر أوّله، وبالباء المعجمة بواحدة1". وقال الحموي: "يقال فرسٌ طوع الجِناب - بكسر الجيم - إذا كان سلس القياد، ويُقال: "لجَّ فلانٌ في جِنَابٍ قبيحٍ، إذا لجَّ في مجانبة أهله2". وقال ابن سعد: "والجِناب يعارض سلاح، وخيبر، ووادي القرى3". وقال البكري: "أرض لغطفان". هكذا قال أبو حاتم الأصمعي". وقال في موضعٍ آخر: "الجِنَاب: "أرض لفزارة وعُذْرَة". وقال إبراهيم بن محمَّد بن عرفة: "الجِنَاب أرض بين فزارة وكلب، ويدُلُّ أنَّ لِعُذْرَة فيها شركة قول جميل لبثينة: "ما رأيت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان على البلاط إلاَّ غِرْتُ عليكِ وأنتِ بالجِنَاب، وكان فائق الجمال4". وقال ياقوت: "وقيل: "هو مِن منازل بني مازن، وقال نصر: "الجِناب من ديار بني فزارة بين المدينة وفَيْد، وقال ابن حبيب: "الجناب مِن بلاد فزارة، والحضارم من ناحية اليمامة5".
وقال البلادي: "الجناب أرض واسعة تقع شمال خَيْبَر، وتمتد إلى تيماء، يُعْرَف جُلّها اليوم باسم (الجهراء) ، كانت منازل قضاعة، وهي اليوم لعنْزة بن أسد1". وقال في موضعٍ آخر: "صحراء تمتد من حفيرة الأيدا2، إلى تيماء3". أمَّا يمن وجبار، فقال ياقوت: "جُبَار - بالضم - وهو في كلام العرب الهدر، ذهب دمه جُبَاراً كما تقول هدراً، وهو ماء لبني حُمَيس بن عامر بن ثعلبة بن مودعة بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، بين المدينة وفيد، قال: ألا مِن مُبَلِّغ أسماء عني إذا حلَّت بيمنٍ أو جُبَار4 وقال في موضعٍ آخر: "يمن - بالفتح، ويروى بالضم - ثُمَّ السكون، ونون، ماء لغطفان بين بطن قوٍّ ورُؤاف على الطريق بين تيماء وفيد، وقيل: "هو ماء لبني صرمة بن مرَّة، وسمَّاه بعضهم: "أمْن، وينشد قول زهير: عفا من آل فاطمة الجواء فيُمن فالقوادم فالحِساء
وقال:............ ولو حلَّت بيمنٍ أو جُبار1 وقال ابن سعد: "هي نحو الجناب2". وقال البكري: "يُمْن - بضم أوَّله، وإسكان ثانيه - ماء، قال عامر ابن الطفيل: ألا مِن مُبَلِّغ أسماء عنِّي ... ولو حلَّت بيمنٍ أو جُبَار قال ابن دريد: "يمن وجبار من الحجاز3". وقال الحلبي: "جَبار - بفتح الجيم - وادٍ قريب من خيبر4". وقال البلادي: "جبار وادٍ تراه من مشراف العشاش5 (سلاح) شمالاً شرقياً، والاسم لماء هناك". ويمن ماء - أيضاً - في نفس الوادي، وسيل الوادي يصب في وادي العشاش من أعلاه، والمكانان شمالاً شرقياً من العشاش يُريان بالعين6".
المطلب الثاني: تاريخ السرية
المطلب الثاني: تاريخ السرية: أرَّخها الواقدي بسنة سبع من الهجرة، ولم يحدِّد الشهر الذي انطلقت فيه1. وتابعه نقلاً عنه كُلٌّ من: الطبري2،والبيهقي، وابن كثير، والذهبي3. أمَّا ابن سعد فحدَّدها بشهر شوَّال من نفس السنة4. وتابعه في ذلك البلاذري، وابن سيد الناس، والقسطلاني، والشامي5. وذكر ابن خياط - في سياقه لسرايا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سنة ست - بَعْث بشير بن سعد إلى خيبر6".
وأظنّه يقصد هذه السرية حيث لم يُذكر غيرها لبشير في نفس المنطقة سوى سريته السابقة إلى فدك، كما أنَّ يمن وجبار والجناب قريبة من خيبر، كما وضَّحنا سابقاً، والله تعالى أعلم". أمَّا ابن القَيّم، فساق الحديث عن هذه السرية ضمن الجدول الذي وضعه لسرايا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بعد مقدِمِه من خيبر إلى شوَّال، حيث رتَّبها بعد سرية غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني الملوّح بالكُدَيْد، وساق الخبر عنها دون أن ينسبه إلى أحَد، وإنْ كان لفظه هو لفظ الواقدي1". وإذا استعرضنا بعض ما ورد في رواية الواقدي الأكثر تفصيلاً للأحداث من رواية ابن سعد، لوجدنا قرائن تُقوّي تحديد ابن سعد لها بشهر شوَّال من السَّنة السابعة أي بعد غزوة خيبر". فقوله مثلاً في بداية روايته: "قدم رجل من أشجع، يُقال له حُسَيْل ابن نويرة2، وقد كان دليل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر".".". الخ"3".
ثُمَّ قوله في آخر الرواية: "قال الحارث: "أيها الرجل، قد رأيت ورأينا معك أمراً بَيِّناً في بني النَّضير، ويوم الخندق، وقريظة، وقبل ذلك قينقاع، وفي خيبر: "أنَّهم كانوا أعزَّ يهود الحجاز كلّه، يقرُّون لهم بالشجاعة والسَّخاء، وهم أهل حصون منيعة وأهل نخل، والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم، لقد سار حارثة بن الأوس حيث كانت بهم وبين قومهم ما كانوا، فامتنعوا بهم من النَّاس، ثُمَّ رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة، وكيف أُديل عليهم". قال عُيَيْنَة: "هو والله ذاك، ولكن نفسي لا تُقرّني" ... الخ1". كُلُّ ذلك يُعدّ قرائن قوية على أنَّ هذه السرية كانت بعد خيبر". والله تعالى أعلم".
المطلب الثالث: سبب السرية
المطلب الثالث: سبب السرية: ذكر أهل المغازي الذين رووا أخبار هذه السرية أنَّ السبب الذي أهاج هذه السرية، هو ذلك التقرير المهم الذي جاء به عين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في منطقة خيبر وما جاورها، ودليله إليها من قبل، حُسَيْل بن نويرة الأشجعي، عن التحرُّكات العدوانية التي يقوم بها زعيم قوي ومؤثِّر من زعماء قبيلة غطفان، هو عُيَيْنة بن حصن الفزاري، ومحاولته حشد جمعٍ من غطفان في منطقة الجناب القريبة من خيبر، استعداداً للزَّحف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الإغارة على بعض أطراف الدولة الإسلامية1. وبما أنَّ عُيَيْنَة بن حصن قد كانت له سابقة من قبل مع المسلمين، كانت سبباً في غزوة ذي قَرَد2، لذلك أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تقرير حُسَيْل مأخذ الجد، وسارع ببعث هذه السرية لضرب ذلك الحشد في عُقْرِ داره، قبل أن تستكمل استعداداتهم للتحرُّك ثُمَّ الهجوم، كما فعلوا من قبل". والله تعالى أعلم".
المطلب الرابع: سير الأحداث
المطلب الرابع: سير الأحداث: في شهر شوَّال من السنة السابعة من مُهَاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: [1] "قدم رجل من أشجع، يُقال له، حُسَيْل بن نويرة، وقد كان دليل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أين يا حُسيل؟ قال: "قدمت من الجناب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما وراءك؟ قال: "تركت جمعاً من غطفان بالجناب، وقد بعث إليهم عُيَيْنة يقول لهم: "إمَّا تسيروا إلينا وإمَّا نسير إليكم، فأرسلوا إليه أن سِرْ إلينا حتَّى نزحف إلى محمَّدٍ جميعاً، وهم يريدونك، أو بعض أطرافك"1". وكعادته صلى الله عليه وسلم في استباق الأحداث، وسياسته المتبعة مع الأعداء عامَّة، والأعراب خاصَّة، بالتحرُّك سريعاً للقضاء على قُوَّة العدو، ووئدها في مهدها، قبل أن تستفحل وتنتشر، ولأنَّ لِعُيَيْنَة سابقة من هذا النوع من قبل، سارع النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم باستدعاء صاحبيه، ووزيريه (أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق رضي الله عنهما) ، وشاورهما في الأمر:
[2] "فقالا جميعاً: "ابعَث بشير بن سعد! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل، ويكمنوا النَّهار، وخرج معهم حُسيل بن نويرة دليلاً1". [3] "فساروا الليل، وكمنوا النهار، حتَّى أتوا إلى يمن وجبار، وهي نحو الجناب، والجناب يعارض سلاح، وخيبر ووادي القرى، فنزلوا بسلاح2، ثُمَّ دنوا من القوم3".
[4] "فقال لهم الدَّليل: "بينكم وبين القوم ثُلُثا نهار أو نصفه، فإن أحببتم كمنتم1، وخرجت طليعة لكم حتى آتيكم بالخبر، وإن أحببتم سرنا جميعاً". قالوا: "بل نقدِّمك، فقدَّموه فغاب عنهم ساعة، ثُمَّ كرَّ2 عليهم، فقال: "هذا أوائل سرحهم، فهل لكم أن تغيروا عليهم؟ فاختلف أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: "إنْ أغرنا الآن حذِرَنَا الرجال والعَطَن3". وقال آخرون: "نغنم ما ظهر لنا ثُمَّ نطلب القوم4". ثُمَّ إنَّهم أغاروا على سرح القوم، فأصابوا نعماً كثيرة ملأوا منها أيديهم: [5] "وتفرَّق الرعاء فحذَّروا الجمع، فتفرَّقوا ولحقوا بعلياء بلادهم، وخرج بشير بن سعد في أصحابه حتَّى أتوا محالّهم فيجدها وليس فيها أحد"5". [6] "فرجع بالنعم حتَّى إذا كانوا بسلاح راجعين لقوا عَيْناً6 لعُيينة فقتلوه، ثُمَّ لقوا جمع عيينة، وعيينة لا يشعر بهم، فناوشوهم، ثُمَّ
انكشف جمع عيينة، وتبعهم أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فأصابوا منهم رجلاً أو رجلين فأسروهما أسراً1". ونفَّذ عُيينة بجلده هارباً، بعد أن دخله الرعب من المسلمين، فانهزم على فرس له عتيق يعدو به عدواً سريعاً، لا يلوي على شئ، حتَّى إنَّ حليفة الحارث بن عوف المري لمَّا استوقفه ليسأله عن شأنه، ردَّ عليه: [7] "لا ما أقدرُ! الطلب خلفي! أصحاب محمَّد! وهو يركض". قال الحارث بن عوف: "أما لك بعد أن تبصر ما أنت عليه؟ إنَّ محمَّداً قد وطئ البلاد وأنت مُوضِعٌ في غير شيء". قال الحارث: "فتنحيت عن سَنن2 خيل محمَّد حتَّى أراهم ولا يروني، فأقمت من حين زالت الشمس إلى الليل، ما أرى أحداً - وما طلبوه إلاَّ الرعب الذي دخله". قال: "فلقيته بعد ذلك، فقال الحارث: "فلقد أقمت في موضع حتى الليل، ما رأيت من طلب". قال عيينة: "هو ذاك، إني خفتُ الإسار، وكان أثري عند محمَّدٍ ما تعلم في غير موطن". قال الحارث: "أيُّها الرجل، قد رأيت ورأينا معك أمراً بيِّناً في بني النضير، ويوم الخندق، وقريظة، وقبل ذلك قينقاع، وفي خيبر، إنَّهم كانوا أعزّ يهود الحجاز كُلِّه، يُقِرُّون لهم بالشجاعة والسَّخاء، وهم أهل حُصون منيعة، وأهل نخل، واللهِ إن كانت
العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم، لقد سار حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان فامتنعوا بهم من النَّاس، ثُمَّ قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة وكيف أُديل عليهم". فقال عيينة: "هو واللهِ ذاك، ولكنَّ نفسي لا تُقِرّني". قال الحارث: "فادخل مع محمَّد، قال: "أصير تابعاً! قد سبق قومٌ إليه فهم يزرُون1 بمن جاءَ بعدهم يقولون: "شهدنا بدراً وغيرها". قال الحارث: "وإنَّما هو على ما ترى، فلو تقدَّمنا إليه لكُنَّا من عِليَة أصحابه، قد بقي قومُه بعدهم منه في مُوادعَة وهو مُوقِعٌ بهم وقعةً، ما وُطِئَ له الأمْرُ". قال عُيينة: "أرى واللهِ! فاتَّعدا يُريدان الهجرة والقُدوم على النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إلى أن مرَّ بهما فروة بن هبيرة القُشَيْري يُريد العُمرة وهما يتقاولان، فأخبراه بما كانا فيه وما يُريدان". قال فروة: "لو استأنيتم حتى تنظروا ما يصنع قومه في هذه المُدَّة التي هُم فيها وآتيكم بخبرهم! فأخَّروا القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى فَرْوَة حتَّى قدم مكَّة فتحسَّب من أخبارهم، فإذا القوم على عداوة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لا يريدون أن يدخلوا طائعين أبداً، فخبَّرهم بما أوقع محمَّد بأهل خيابر2". قال فروة:
"وقد تركت رؤساء الضاحية على مثل ما أنتم عليه من العداوة لمُحَمَّد". قالت قريش: "فما الرأي، فأنت سيِّد أهل الوبر؟ قال: "نقضي هذه المدَّة التي بينكم وبينه، ونستجلب العرب، ثُمَّ نغزوه في عُقْرِ داره، وأقام أياماً يجول في مجالس قريش، ويسمع به نَوْفَل ابن معاوية الدِّيَلِيِّ، فنَزل من باديته فأخبره بما قال لقُرَيْش، فقال نَوْفَل: "إذاً لأجِدُ عندكم شيئاً! قدمت الآن لمقدمك حيث بلغني، ولنا عدوٌّ قريبٌ دارُه، وهم عَيْبَة نُصْح محمَّد لا يغيبون عليه حرفاً من أُمورنا، قال: "من هُم؟ قال: "خُزاعة، قال: "قَبُحَت خزاعة؛ قعدت بها يمينها! قال فروَة: "فماذا؟ قال: "استنصرْ قُرَيْشاً أن يعينونا عليهم، قال فروة: "فأنا أكفيكم". فلقي رؤساءَهم، صفوان ابن أُمَيَّة، وعبد الله بن أبي ربيعة، وسُهَيْل بن عمرو، فقال: "ألا ترون ماذا نزل بكم! إنَّكم رضيتم أن تدافعوا مُحَمَّداً بالراح". قالوا: "فما نصنع؟ قال: "تُعينون نَوْفَل بن مُعاوية على عدوِّه وعدوِّكم". قالوا: "إذاً يغزونا محمَّدٌ فيما لا قِبَلَ لنا به فيوطئنا غَلَبَةً، وننْزِل على حُكْمِهِ، ونحن الآن في مُدَّة وعلى ديننا". فلقي نوفل ابن معاوية، فقال: "ليس عند القوم شيء، ورجع فلقي عيينة والحارث فأخبرهم، وقال: "رأيت قومه قد أيقنوا عليه فقاربوا الرجل وتدبَّروا الأمر، فقدَّموا رِجْلاً وأخَّروا أُخرى1".
المطلب الخامس: الأحكام المستنبطة والدروس المستفادة
المطلب الخامس: الأحكام المستنبطة والدروس المستفادة: مشروعية اتخاذ الأدلاَّء من غير المسلمين وإغرائهم بالمال لمساعدة المسلمين، وفي قصة الهجرة، وقصة هذه السرية، وفتح خيبر دليلٌ على ذلك. مشروعية اتخاذ العيون للتجسس على الأعداء، وتزويد المسلمين بأخبارهم وتحركاتهم ضد المسلمين، وقصة هذه السرية، وفتح مكَّة، وغير ذلك من قصص السرايا والغزوات والأخبار التي تصل تباعاً إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن تحرُّكات الأعداء وحشودهم دليلٌ على ذلك. إنَّ استخدام المسير الليلي كمسير اقترابي1 إلى أرض العدو، واتخاذ الدليل طليعةً في أرض العدو، يُعَدُّ من الأُسس العملية المهمَّة للمباغتة، وهي أساليب تُعَدُّ من مبتكرات الرسول القائد صلى الله عليه وسلم. استمرار نجاح سياسة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم العسكرية الهجومية في حربه مع أعدائه من الأعراب بضرب حشودهم في قواعدها، والإغارة عليهم قبل استكمال استعداداتهم، مِمَّا كان له أبلغ الأثر في تلك النتائج المدهشة من إدخال الرعب في قلوبهم، والقضاء على مخططاتهم العدوانية - التي كانت موجَّهة ضد المسلمين - في مهدها، وبسط نفوذ المسلمين على أراضيهم، وبالتالي التمهيد للانطلاق فيما وراء ذلك لتحقيق أهداف المسلمين واستراتيجياتهم بعيدة المدى من نشر
الإسلام خارج نطاق الجزيرة العربية فيما وراء مناطق نفوذ الأعراب. وضح من خلال هذه السرية، والسرايا قبلها، ذلك الترتيب الذكي الذي كان يتبعه القائد الملهم، الخبير بخبايا الحرب وأمورها الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال اختياره الرجل المناسب للمهمَّة المناسبة في المنطقة المناسبة، ذلك الاختيار كان يتم وفق معايير خاصّة تتعلَّق بقدرات الرجل المختار، وخبرته في المنطقة المبعوث إليها، ومعرفته التامة بها وبأهلها". فكما رأينا في هذه السرية وما قبلها من السرايا في منطقة خيبر وما حولها، كان المبعوث على رأسها في غالب الأحيان هو بشير بن سعد الأنصاري، - رضي الله تعالى عنه، - فالتركيز على بشير دون غيره من الصحابة". وغالب بن عبد الله الليثي - رضي الله تعالى عنه، وغيرهما من القادة لم يكن من فراغ، وإنَّما كان بناءً على ما كان يتمتع به أولئك من قدرات أهليتهم لذلك مِمَّا ذكرنا، والله تعالى أعلم. إنَّ في استشارة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لصاحبيه أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنه، وعمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه، لها أكثر من دلالة!. فمن كون ذلك يدل على فضلهما ومكانتهما ومنْزلتهما الرفيعة عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حتَّى إنَّهما كانا بمثابة وزيرين له، وكانا من ألصق النَّاس به في كُلِّ أموره، في سفره وإقامته، في سلمه وحربه، وكان دائم الاستشارة لهما، المصاحب لهما في كُلِّ الأوقات، وكان
دائم الحديث عنهما، كما يقول علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه: "وحسبت أني كثيراً أسمع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"1 ". وقد عرف الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ذلك لهما، فكان أن قدَّموهما على غيرهما في الخلافة. أيضاً يدل ذلك على مكانة الشورى في الإسلام، باعتبار أنَّ المُشَرِّع صلى الله عليه وسلم كان يُطَبِّقها في كل زمان ومكان، وذلك تنفيذٌ لأمر الباري - عزَّ وجلَّ - له {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} . [سورة آل عمران، الآية: 159] . وتعليمٌ لأمَّته من بعده بتطبيق هذا المبدأ الهام والحيوي في حياتهم بمختلف شؤونها، وما أصاب المسلمين من الضياع وتسلُّط الأعداء إلاَّ عندما تركوا هذا المبدأ، واستبدَّ قادتهم بالرأي دونهم، فكان ذلك وبالاً على الأُمةِ بأسرها. كذلك يدل على ما كان يتمتَّع به الشيخان الجليلان - رضي الله تعالى عنهما، من الحنكة والمعرفة بأمور الحرب والسياسة، حيث نصحا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بالإسراع بإرسال سرية إلى تلك المنطقة، يقودها رجلٌ مُحَنَّكٌ ذو خبرة ومعرفة بأحوالها وأهلها. والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث: سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله عنه إلى أطلاح
المبحث الثالث: سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله عنه إلى أطلاح المطلب الأول: التعريف بذات أطلاح ... المطلب الأوَّل: التعريف بذات أطلاح: قال ياقوت: "أطلاح - بالحاء المهملة - موضع من وراء ذات القرى إلى المدينة1". وقال البكري: "من أرض الشام2". وقال ابن سعد: "وهي وراء وادي القرى3". وقال الواقدي: "ذات أطلاح من أرض الشام4". وذكر موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وأبي الأسود، عن عروة قالا: "ذات أطلاح من البلقاء5". وأخرج البيهقي، عن موسى بن عقبة، وعن ابن شهاب، وعن عروة قالوا: "ذات أباطح من البلقاء6". قال البلادي - تعليقاً على قولهم: "ذات أطلاح من أرض الشام": "كذا قال: "من أرض الشام"، وكان الأقدمون يرحمهم الله يلجأون إلى مثل هذا التحديد الواسع إذا غُمَّ عليهم المكان، وكانت أرض الشام عندهم ما تجاوز تيماء شمالاً، - أي على بعد نيِّف وستمائة - كيل شمال
المدينة، وهي باتِّفاق الجغرافيين من أرض الحجاز لا من أرض الشام حيث عدَّ بعضهم معان من الحجاز، ولم أجد من يعرف ذات أطلاح اليوم1". قلت: "كأنَّ البلادي لم يطَّلِع على رواية عروة، والزهري، موسى بن عقبة عند البيهقي، وعند ابن حجر، حيث حددوا مكانها بالبلقاء، والبلقاء كما هو معروف عند الجغرافيين والبلدانيين، ومنهم البلادي نفسه2، أنَّها من أرض الشام". قال أحمد عادل كمال: "ذات أطلاح موقع بأطراف الشام من وراء وادي القرى لم نستطع تحديد مكانه بدقَّة على الخريطة، غير أنه بلا ريب كان في نواحي مؤتة كما يُفْهَم من الأحداث3". قلت: "وهو كذلك، حيث ذكر بعض المؤرخين أنَّ هذه السرية كانت من الأسباب المباشرة لغزوة مؤتة، ورُبَّما كان المكان الذي التقى به أصحاب السرية بجمع قضاعة، وكانت عنده تلك الملحمة التي راح ضحيتها أولئك الدُّعاة الأبرار، أقول ربَّما كان المكان غير مأهول قديماً، أو رُبَّما تغيَّر اسمه مع الزمن، فأصبح لا يُعْرَف بالاسم القديم". والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني: تاريخ السرية
المطلب الثاني: تاريخ السرية: أرَّخها الواقدي، وابن سعد، بشهر ربيع الأوَّل سنة ثمانٍ من الهجرة1. وتبعهما في ذلك نقلاً عنهما كُلٌّ من: "ابن سيد الناس، والذهبي، والشامي2". وذكرها الطبري نقلاً عن الواقدي في أحداث السنة الثامنة، ولكن دون تحديد الشهر3". وذكرها ابن كثير - أيضاً - عن الواقدي دون تحديد تاريخها، ولكنَّه ذكرها قبل غزوة مؤتة مباشرةً4". أمَّا البلاذري، والقسطلاني، فتبعا الواقدي، وابن سعد، ولكن دون الإشارة إلى مصدر معلوماتهما5، وإن كانت في الغالب نقلاً عنهما. والله تعالى أعلم.
ولم يذكر عروة، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق لها تاريخاً، كونهم ذكروها عرضاً في سياق أخبار السرايا والبعوث، ورتَّبها ابن إسحاق بعد غزوة مؤتة مباشرةً1. وشذَّ خليفة بن خياط مِن بين أهل المغازي، فذكرها ضمن السرايا والبعوث التي كانت في سنة ستٍ من الهجرة2.
المطلب الثالث: سبب السرية
المطلب الثالث: سبب السرية: قال الحلبي: "لم أقف على السبب الذي اقتضى البعث إلى ذلك المحل1". قلت: "لم تُصَرِّح الروايات التي نقلت خبر هذه السرية بالسبب الذي مِن أجله أُرسلت إلى تلك المنطقة التي تقع في عمق المناطق الخاضعة لنفوذ القبائل الحليفة والموالية للروم من قضاعة وغيرها". ولكن يمكن أن نستشِفَّ السبب من خلال بعض أحداثها: "فمثلاً ما ورد في الروايات حول قوَّة السرية، وأنَّها كانت بقوَّة خمسة عشر رجلاً فقط، يثير لدينا تساؤلاً مفاده: "كيف تكون سرية قتالية مبعوثة إلى تلك المناطق البعيدة عن قاعدة المسلمين، ومناطق نفوذهم بقوة خمسة عشر رجلاً فقط؟! إلاَّ إذا كانت لغرضٍ آخر غير القتال، إذاً ما هو ذلك الغرض؟ ". قال في الخبر: "فوَجَدُوا جَمْعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم" ... الخ2". فقوله: "فدعوهم إلى الإسلام"، يعطينا دلالة قوية أنَّ السرية كانت عبارة عن بعثة دعوية لأهل تلك المنطقة، وربَّما يقول قائل: "إنَّ مِن سُنَّة القتال في الإسلام أن تكون الدَّعوة قبل القتال". وذلك
اعتراضٌ وجيهٌ يمكن أن نُسَلِّم به، لولا القرينة التي ذكرناها سابقاً، وهي عدم التسليم بفرضية بعث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سرية قتالية إلى ذلك العمق من أراضي العدو بهذه القوَّة الضئيلة جداً، لأنَّ ذلك يعد مغامرة عسكرية غير محسوبة، وهو الأمر الذي لم نعهده من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القائد العسكري المُحَنَّك الذي كانت خطواته العسكرية ضد أعدائه على اختلاف نوعياتهم محسوبةً بدقةٍ، ومنَظَّمَةٌ ومُخَطَّطٌ لها تخطيطاً مسبقاً صلى الله عليه وسلم". إذاً كانت البعثة دعوية بحتة، ولكن الأعراب الذين كانت تمتلئ قلوبهم غِلاًّ وحِقْداً ضد المسلمين، لم يكونوا ليدعوا هذه الفرصة بالبطش والفتك بالمسلمين تفلت من أيديهم، فاستفزُّوهم وألجأوهم للقتال، دفاعاً عن أنفسهم، ليكون في ذلك ذريعةً للفتك بهم وهم قِلَّة، وحَدَثَ ما حَدَثَ، والله تعالى أعلم". يقول أحمد عادل كمال: "ولم يكن بَعْث كعب وأصحابه للغزو، وإنَّما كان للدعوة، وقُوبِلَ الدُّعاة بالسيف والنبل حتى اسْتُشْهِدُوا1".
المطلب الرابع: سير الأحداث
المطلب الرابع: سير الأحداث: [1] "في شهر ربيع الأوَّل سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم"1". [2] "بعث النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري2، نحو ذات أطلاح من البلقاء"3 في بعثة دعوية، مكونة من: [3] "خمسة عشر رجلاً، حتَّى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً"4". [4] "وكانوا من قضاعة5، ورأسهم رجل يُقال له: "سدوس"6.
[5] "فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبال"1 استفزازاً لهم، واستدراجاً للقتال غير المتكافئ بين الطرفين، نظراً لكثرة القضاعيين، واستعدادهم المبكر2". ولكن الصحابة - رضي الله عنهم - اضطروا في النهاية للدِّفاع عن أنفسهم، فقاتلوا قتالاً شديداً مريراً، ولكن كثرة القضاعيين لم تتح لهم الفرصة في قتالٍ متكافئٍ فسقطوا شهداء على أرض ذات الطلح بعد أن سطَّروا بدمائهم الزكية ملحمة جهادية رائعة". [6] "وأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلمَّا برد عليه الليل تحامل3 حتَّى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشقَّ ذلك عليه، وهمّ بالبعث إليهم، فبلغه أنَّهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم4".
المطلب الخامس: الدروس المستفادة
المطلب الخامس: الدروس المستفادة: لقد كشفت هذه السرية عمَّا تخبئه الوثنية مِن غِلٍّ وحقدٍ دفينٍ على الإسلام وأهله، غِلّ عصف بكُلِّ المبادئ، وحقد ألغى القِيَم الإنسانية. فهؤلاء قوم هداة جاءوا لنشر الخير والسلام بين مَن قتلوهم، فكان جزاؤهم الغدر بهم، وقتلهم جميعاً بلا هوادة ولا رحمة. وقد يقول القائل: "إذا كان الأمر كذلك، فلِمَ لمَ يتوقَّف النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن دعوة الأعراب إلى الإسلام، طالما أنَّهم لا يحترمون القيم والمبادئ، ولا يمكن الوثوق بهم؟ ". قلنا: "الدعوة إلى الله لا يمكن أن تقف في أرضٍ ما، أو تتعثر بسبب ما يعترض طريقها من بعض الحوادث التي تعيق تقدمها". وهناك حقيقة يجب ألاّ تغيب عن أذهاننا، وهي أنَّ طريق الدعوة إلى الله تعالى منذ بدأت حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، لم يكن في يومٍ من الأيام مفروشاً بالورود، فكان لابدَّ من تقديم التضحيات في طريقها الطويل الشاق". وقد وضَّح النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة للصحابة - رضي الله تعالى عنهم - حاثّاً إياهم على الصبر والتحمُّل، وتقديم التضحيات، وذلك منذ فترة مبكرة جداً، وبالتحديد في مكة حينما أثقلت قريش من وطئتها على المسلمين المستضعفين في مكة، فجاءوا يستنجدون بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".
يقول خبَّاب بن الأرت - رضي الله تعالى عنه: "أتيت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بردَةً وهو في ظِلّ الكعبة - وقد لقينا من المشركين شِدَّة - فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ فقعد وهو محمَّرٌ وجهه، فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاطِ الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق اثنتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمَّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلاَّ الله"1. وقد عرف الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - فيما بعد هذا الأمر، وفقهوه جيداً، لذلك نجدهم كانوا يتسابقون للانخراط في البعثات الدعوية كما في الرجيع، وبئر معونة، وغيرها من البعثات والسرايا النبوية التي كانت أهدافها جميعاً نشر الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ، وذلك دون خوف أو وجل من العواقب التي كانوا يتوقعونها، بل كانوا يتحرَّقون لملاقاتها باندفاعٍ أدهش الأعداء قبل الأصدقاء، مِمَّا كان له أكبر الأثر في نجاح مسيرة الدَّعوة وانتشارها بسرعةٍ مذهلة فاقت كُلّ التوقعات، وصدق الله القائل في مُحْكَمِ كتابه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون} . [سورة الصّف، الآية: 9] .
وهكذا فقد بيَّنت هذه السرية مقدار ضخامة التضحيات الجِسَام التي كان يُقَدِّمها سلفنا الصالح - رضي الله تعالى عنهم، في سبيل نشر الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ، تلك التضحيات العظيمة تكرَّرت في أكثر من مناسبة، وعلى أكثر من موقع، فبالأمس فقدت الدَّعوة فرساناً لها أبراراً في الرجيع، وبئر معونة، واليوم في ذات أطلاح، وغداً في مكانٍ آخر".. وهكذا دواليك دون أن تتوقَّف الدَّعوة، إذ لابدَّ من تبليغ الدَّعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - مهما كانت التضحيات". والله تعالى أعلم".
قال: بلى، ولكني استكثرته. قلت: لتردَّنه عليه، أو لأُعَرِّفَنَّكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يردَّ عليه"1. وهكذا استطاع خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، بتوفيقٍ من الله، ثُمَّ بحنكته وتدبيره، أن يحتفظ بتوازن المعركة حتى الليل. [71] "ثُمَّ أصبح غازياً، قد جعل مقدّمته ساقه، وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، فأنكروا ما جاء به من خلاف ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم وقالوا: قد جاءهم مدد"2. فرعبوا، ولسان حالهم يقول: "إذا كان المسلمون على قلَّتهم، قد فعلوا ما فعلوا بالأمس، فكيف وهم اليوم قد جاءهم المدد، وازداد العدد؟!. لقد أحجم الروم عن الهجوم، وكذلك لم يهاجمهم خالد، فقد كان يريد أن يخرج من المعركة غير المتكافئة بجيشه سليماً، ويُرْعِب العدوَّ حتى لا يلاحقه في تراجعه، فلمَّا اطمأنَّ إلى نجاح خطته تراجع بقوَّاتِه، وبَعُدَ بها حتَّى صارت في مأمنٍ"3. وهكذا: [72] "انحاز الفريقان كُلٌّ عن كُلٍّ قافلاً عن غير هزيمة، فقفل المسلمون على طريقهم التي أبدوا منها، حتَّى مرُّوا بتلك القرية،
والحصن الذي كانوا شدوا على ساقهم، وقتلوا رجلاً منهم، فحاصروهم في حصنهم حتى فتحه الله عليهم عنوة، فقتل خالد مقاتلتهم في نقيعٍ1 إلى جانب حصنهم صبراً فيها، فَسُمِّى ذلك النقيع، نقيع الدم إلى اليوم، وهدموا حصناً هدماً لم يعمر بعده إلىاليوم"2. ثُمَّ رجع خالد رضي الله تعالى عنه بالمسلمين سالمين إلى المدينة. وبذلك استطاع سيف الله بث الرُّعب في قلوب حلفاء الروم، وأعوانهم من العرب المتنصِّرة، الذين يمرّ المسلمون في طريق عودتهم عبر أراضيهم، فلم تذكر الروايات أنَّهم تعرَّضوا للمسلمين بأي أذى كما فعلوا بالأمس.
الباب الثاني: غزوة مؤتة
الباب الثاني: غزوة مؤتة الفصل الأول: إسم المعركة، وموقعها المبحث الأول: إسم المعركة ... المبحث الأوَّل: اسم المعركة: اختلف الرواة والإخباريون والمؤرِّخون، ومَن نَقَلَ عنهم من المتأخرين مِمَّن كتب عن مؤتة في هذه المعركة العظيمة: هل هي غزوة، أو سرية؟ فبينما وردت تسميتها في بعض الروايات بغزوة جيش الأمراء1، أطلق عليها بعضهم وقعة مؤتة2، فيما تردَّد آخرون بين كونها غزوة أو سرية3، على أنَّ أكثر أهل المغازي والسير4، ومَن تبعهم من
المحدِّثين1 جزموا بأنَّها غزوة. ربَّما لأنَّ الجيش الذي شارك فيها أكبر بكثير من العدد المتعارف عليه في مصطلح السرية2، أو لأنَّ بعض شهود العيان من الصحابة الذين شاركوا فيها سموها بذلك3. وورد في بعض الروايات تسميتها بالسرية4،وجزم بذلك الحلبي5. قلت: وتسميتها بالوقعة، أو جيش الأُمراء، يُعدّ خروجاً من النِّزاع، وحلاًّ وسطاً، إذ أنَّ تسميتها بالغزوة مخالف لاصطلاح أهل السير والمغازي، واللغة في ذلك، لأنَّه لم يحضرها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم،كذلك تسميتها بالسرية لا يتَّفِق مع اصطلاحهم في العدد المتعارف عليه فيها6. والله تعالى أعلم.
ذلك الاستعداد الجيد، فإنَّ الخبر بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين من المدينة سريعاً لإمداد إخوانهم في مؤتة، ربَّما يكون قد وصل إلى مسامع الروم وحلفائهم أسرع مِمَّا كان متصوَّراً في ذلك الوقت: [79] نظراً للتأييد الإلهي للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بتلك المعجزة النبوية التي خصَّه الله بها دون غيره من الأنبياء، وهي النَّصر بالرُّعب مسيرة شهر1. والمسافة بين المدينة وبيت المقدس كانت تساوي مسيرة شهر في ذلك الوقت، فإذا علمنا أنَّ مؤتة كانت أقرب للمدينة من بيت المقدس، فإنه لا بُدَّ أن يكون الرعب قد دخل قلوب الروم وحلفائهم منذ اللحظة التي تحرَّك فيها النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مع المسلمين من المدينة، فآثروا السلامة، مكتفين بما حقَّقوه في بداية المعركة، وتجنَّبوا المغامرة الخطرة في تعقُّب المسلمين، خوفاً من الاصطدام بالمدد النَّبَويِّ المتحرِّك سريعاً من المدينة صَوْب منطقة العمليات في مؤتة. ولم توضِّح الرواية، ما حدث بعد ذلك، وإن كان ابن أبي شيبة، قد زاد في روايته للخبر أحداثاً تفرَّد بها حول سير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، ولكنَّها قد تكون مدرجة من حديثٍ آخر2.
الشاهدُ أنَّ تلك الحركة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تكون (مناورة تكتيكية) لإرهاب الأعداء، وإدخال الرُّعب في قلوبهم، وقد أدَّت مهمَّتها على الوجه المطلوب. والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني: موقع المعركة
المبحث الثاني: موقع المعركة: قال ابن حجر: "مُوْتة - بضم الميم وسكون الواو بغير همز لأكثر الرواة -، وبه جزم المبرد1، ومنهم من همزها، وبه جزم ثعلب، والجوهري، وابن فارس، وحكى صاحب الوافي الوجهين، وأمَّا الموتة التي ورد الاستعاذة منها وفُسِّرَت بالجنون فهي بغير همز2". وقال في الروض: "مؤتة - مهموزة الواو - قرية من أرض البلقاء بالشام، وأمَّا الموتة - بلا همز - فضربٌ من الجنون، وفي الحديث: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"، وفسَّره الراوي فقال: "نفثه الشعر، ونفخه الكبر، وهمزه الموتة3". وقال ابن حجر: "قال ابن إسحاق: هي بالقرب من البلقاء، وقال غيره: "هي على مرحلتين من بيت المقدس4". وقال ابن سعد: "هي بأدنى البلقاء، والبلقاء دون دمشق5". وقال البرهان: "موضع معروف عند الكرك6".
الفصل الثاني: أسباب الغزوة، وتاريخها
الفصل الثاني: أسباب الغزوة، وتاريخها المبحث الأول: أسباب الغزوة ... المبحث الأول: أسباب الغزوة: ينفرد الواقدي بذكر السبب المباشر لهذه الغزوة، وهو أنَّ شرحبيل بن عمرو الغساني قَتَل صبراً الحارث بن عمير الأزدي1 الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى بكتابه، وكانت الرسل لا تُقْتَل، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل الجيش إلى مؤتة، والواقدي ضعيف لا يُعْتَمَد عليه وبخاصّةً إذا انفرد بالخبر2. وقد تبعه في ذكر ذلك نقلاً عنه كُلٌّ من: ابن سعد3، وابن سيد الناس4، والقسطلاني5، وابن القيم6، والذهبي7. وذكره ابن حجر
بصيغة التمريض1". وقد اعتمد معظم المؤرخين المعاصرين هذه الرواية جازمين أنَّها هي سبب وقعة مؤتة2، ومع أنَّ بعضاً منهم3 ذكر لها سبباً آخر، وهي النتيجة التي آلت إليها سرية ذات أطلاح، بينما يستند بعضهم على رواية أُخرى ضعيفة4، مفادها أنَّ صاحب مدينة بصرى5 رفض ما جاء في
رسالة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم له، وهدَّد بالمسير إلى المسلمين بجيوشه وغزوهم في عقر دارهم "فتهديده بالمسير إلى المسلمين يقتضي ردّاً على مستوى التحدي، فكانت غزوة مؤتة1. ويذكر أبو زهرة، عن شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه ذكر في رسالة القتال2: "أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ما بعث إلى حرب الروم في مؤتة إلاَّ بعد أن قَتَل الوالي الروماني مَن أسلم في الشام3. والحق أنَّ البحث عن الأسباب المباشرة لغزو القبائل العربية في أطراف الشام لا يؤثر على تفسير الأحداث كثيراً، لأنَّ تشريع الجهاد يقتضي الاستمرار في إخضاع القبائل العربية وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية بصرف النظر عن الأسباب المباشرة4. فهذه الغزوة كما يقول ابن كثير - رحمه الله تعالى - كانت إرهاصاً لِمَا بعدها من غزو الروم، وإرهاباً لأعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم 5.
فقد كانت غزوة مؤتة، مقدمة تبوك، وما كان بعد وفاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من فتح الشام1. ويرى بعض المستشرقين ومَن سار في فلكهم من القوميين العرب، أنَّ مؤتة كانت لإشعار العرب المتنصرة في الشام بقوة المسلمين، قوة تحفزهم على الانضمام إليهم بدافع العروبة، مِمَّا يوحّد العرب جميعاً، وضمهم إلى الدولة العربية، وإدخالهم في نطاقها. كما أنَّ زوال ما كان لبيزنطة من الهيبة في نفوس العرب، هيأ الفرصة لقيام الوحدة بينهم، ثُمَّ مهاجمة الممتلكات البيزنطية فيما بعد2. وتلك استنتاجات بُنِيَت على أساس الفكر القومي الذي ساد الكتابات العربية وغيرها في الستِّينات، ذلك الفكر الذي أطلق شرارته الأولى أعداء الأُمة الإسلامية منذ نهاية القرن الأوَّل الهجري، وما زالوا يُغَذُّونه ويتلقَّفونه خَلَفَاً عن سَلَفٍ. ولقد كان هذا الفكر العقيم ولا زال معول هدم لتفتيت وحدة الأُمة الإسلامية، تلك الوحدة العظيمة التي كان الجهاد لإعلاء كلمة الله - عزَّ وجلَّ - في الأرض، ونصرة الحق، والقضاء على الظُّلْم والظَّالمين، هو الوقود الذي يؤجِّجها ويحافظ عليها متماسكة قوية، وهو الأمر الذي
فطن له أعداء الأُمة فسارعوا إلى ترويج مثل هذه الأفكار المنحرفة لإبعاد المسلمين عن مصادر عزِّهم ومجدهم. وما كانت غزوة مؤتة إلاَّ استجابة لنداء الباري - عزَّ وجلَّ - لقتال أهل الكتاب وإخضاعهم لسلطان المسلمين، إمَّا بالدخول في الإسلام، أو أداء الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، قال الله تبارك وتعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} . [سورة التوبة، الآية: "29] ". لأنه اتَّضح بما لا يدع مجالاً للشَّك، من خلال الأحداث أنَّهم كانوا حجر عثرة في وجه نشر الدَّعوة الإسلامية، وأنَّهم شكَّلوا بقواهم السياسية والعسكرية، تهديداً للمسلمين، وفتنةً لأتباعهم، جرَّدتهم من الحرية الكاملة في اعتناق ما يُحِبُّون، واتِّباع ما يريدون، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُواْ نُورَ اللهِ بَأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كِرِهَ الْكَافِرُونَ} ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه وَلَوْ كِرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . [سورة التوبة، الآية:32،33] . والعرب المتنصرة في الشام كانوا جزءاً لا يتجزأ من تلك القوى المعادية للإسلام، بدليل مشاركتهم الفعَّالة في جيش الحلفاء في مؤتة ضد المسلمين، وكأنَّهم يريدون إظهار استعدادهم وجاهزيَّتهم للقضاء على قوَّة المسلمين المتنامية في الجزيرة العربية، وهذا يفسِّره ذلك العدد الكبير من المتطوعين من القبائل العربية المتنصِّرة في جيش الروم في مؤتة، بل إنَّ
بعض الروايات أشارت إلى أنَّ الذين حاربوا المسلمين في مؤتة هم القبائل العربية النصرانية فقط، وربَّما شاركهم بعض الرُّوم1. فكيف يُقال بعد ذلك أنَّ مؤتة حفَّزت على قيام الوحدة العربية بين المسلمين والقبائل العربية المتنصِّرة في الشام؟!.
المبحث الثاني: تاريخ الغزوة
المبحث الثاني: تاريخ الغزوة: يُكاد يتَّفِق أهل المغازي، وأهل الحديث - مِمَّن روَى منهم أحداث وقعة مؤتة - على أنَّ تاريخ الوقعة كان في جمادى الأولى من السَّنة الثامنة من: [6] مهاجر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم 1. [7] ويختلف معهم ابن عبد البر بجعلها في جمادى الثانية من نفس السنة2.
[8] بينما وردت عن خليفة بن خياط في ذلك روايتان، خالف في إحداهما أهل المغازي بجعلها في السَّنة السَّابعة1، ووافقهم في الرواية الثانية2. وقد احتجَّ ابن حجر على الترمذي - الذي ذكر أنَّ مؤتة كانت قبل عمرة القضاء3 - مستغرباً ذهول الترمذي عن بعض الأحداث التي تتعارض مع ذلك4".
[9] هذا وقد وقع في بعض الروايات أنَّ فصول الجيش1 من المدينة كان في يوم جمعة2".
أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه - قالها ثلاث مرَّات – ثُمَّ جاءت أُمّنا فذكرت يتمنا، وجعلت تُفَرِّح له1، فقال: العيلة تخافين عليهم وأنا وليُّهم في الدُّنيا والآخرة! "2. وهكذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم عطوفاً رحيماً، رقيق القلب، يواسي أُسَر الشهداء ويدعو لهم ولأبنائهم، ويكفلهم برعايته وحنانه. [94] فهذا أُسامة بن زيد - رضي الله عنهما، يقف أمامه - عليه الصلاة والسلام، فيتذكَّر أباه، فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، وحناناً وعطفاً به3.
ولا غرابة في ذلك، فهو نبيُّ الرحمة المهداة. فها هو - أيضاً - عليه الصلاة والسلام، يخفِّفُ عن أصحابه لَمَّا اشتدَّ حزنهم على مَن أُصيب في مؤتة، وبكوا: [95] "وهم حوله، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: وما لنا لا نبكي وقد قُتِلَ خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل مِنَّا، قال: لا تبكوا، فإنَّما مثل أُمَّتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فاجتثَّ1 رواكبها، وهيأ مساكنها، وحلق سعفها2،فأطعَمَت عاماً فوجاً، ثُمَّ عاماً فوجاً، ثُمَّ عاماً فوجاً، ولعلَّ آخرها طعماً يكون أجودها قنواناً، وأطولها شمراخاً، والذي بعثني بالحق ليجدنَّ ابن مريم في أُمَّتي خلفاً من حواريه ". وفي رواية أخرى: "ليدركن المسيح من هذه الأُمَّة أقوام إنَّهم لمثلكم أو خير منكم - ثلاث مرَّات - ولن يخزي الله أُمةً أنا أولها والمسيح آخرها"3.
وهكذا كان وَجْدُ الصَّحابة - رضي الله تعالى عنهم - على مَن أُصِيبوا بمؤتة شديداً، وكان مِمَّا بُكِيَ به أهل مؤتة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: [96] قول حسَّان بن ثابت1: تَأَوَّبَنِي لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ ... وَهَمٌّ إذا نُوِّمَ الناسُ مُسْهِرُ2 لِذِكْرَى حَبِيبٍ هَيَّجت لِي عَبْرَةٌ ... سَفُوحاً وَأَسْبَابُ البُكَاءِ التَّذَكُّرُ3 بَلَى! إنَّ فُقْدَانَ الْحَبِيبِ بَلِيَّةٌ ... وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ رَأَيْتُ خِيَارَ النَّاسِ تَوَارَدُواْ ... شَعُوباً وخلفاً بعَدَهُم يَتأخَّرُ4 فَلا يُبْعِدَنَّ اللهُ قَتْلَى تَتَابَعُواْ ... بِمُؤْتَةَ مِنْهُم ذُو الْجَناحَينِ جَعْفَرُ5 وزَيْدٌ، وعبدُ اللهِ حِينَ تَتَابَعُوا ... جَمِيعاً وَأَسْبَابُ المَنِيَّة تَخْطُرُ
الفصل الثالث: حشد القوات الإسلامية
الفصل الثالث: حشد القوات الإسلامية المبحث الأول: عدد الجيش، وتولية القيادة ... المبحث الأول: عدد الجيش، وتولية القيادة: [10] "ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس إلى مؤتة". كما يذكر الواقدي، وابن سعد1، فاستجاب له حوالي ثلاثة ألاف من الصحابة - رضي الله عنهم، وذلك حسب: [11] ما ذكره بعض أهل المغازي2". وهو أكبر جيش إسلامي يتم حشده حتى ذلك الوقت، فإنَّ جيش المسلمين في الحديبية، ثُمَّ في خيبر - وهما الغزوتان اللتان سبقتا مؤتة - لم يتجاوز حاجز الألفين3، مِمَّا دلَّل على نجاح صلح الحديبية عملياً، وأنَّ قوة المسلمين في تنامي وتزايد مستمر. [12] بل إنَّ بعض الروايات ذكرت أنه تمَّ حشد ستَّة آلاف من المهاجرين والأنصار4.
وفي الجرف1، عسكر الجيش الإسلامي كالعادة، وكان القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصدر أوامره الشريفة بإسناد قيادة الجيش لمولاه وحبِّه زيد بن حارثة - رضي الله عنه، وقال: [13] "إنْ قُتِلَ زيد، فجعفر، وإن قُتِل جعفر، فعبد الله بن رواحة"2". وفي مرسل عروة عند البيهقي: [14] "فإن أُصيب فليرتض المسلمون رجلاً، فليجعلوه عليهم3". قال أبو قتادة - رضي الله تعالى عنه:
[15] "فوثب جعفر، فقال: " يا رسول الله! ما كنت أرهب أن تستعمل عليَّ زيداً، فقال: "امض فإنَّك لا تدري أي ذلك خير1". ويبدو أنَّ بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قد تكلَّم في إمرة زيد وتقديمه على غيره: [16] فوضَّح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة زيد - رضي الله تعالى عنه - وأحقيته بالإمارة، وأنَّه مِن أحبّ الناس إليه2،فسمعوا وأطاعوا". ولكن يبدو أن رواة الشيعة لم يرق لهم ذلك، ولم يقتنعوا به، وأخذوا كعادتهم يتلاعبون بالروايات، يُقَدِّمون ويُؤخِّرون حسب أهوائهم، ويفاضلون بين الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وفق ميولهم ونزعاتهم، ويظهر ذلك جلياً هنا من خلال:
[17] محاولاتهم الحطّ من قدر زيد - رضي الله تعالى عنه، وتقديم جعفر رضي الله عنه - باعتباره من آل البيت - حتى في سياق الوقعة1". ومكانة زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - عظيمة في الإسلام لا تؤثر فيها تلك المحاولات الفاشلة، ويكفي في فضله ومكانته ذكر الباري عزَّ وجلَّ لاسمه صريحاً في القرآن، يُتْلَى في المحاريب، وبيوت الله عزَّ وجلَّ إلى يوم القيامة2". كما صحَّ عن الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنهما - أنَّها قالت: [18] "ما بعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيشٍ قَطُّ، إلاَّ أمَّره عليهم، ولو بقي بعده لاستخلفه"3".
ذلك هو مبلغ تقدير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لكفاءة زيد القيادية، وثقته الكاملة به، وهو تقديرٌ عظيمٌ، وثقةٌ بالغةٌ، واعتمادٌ هائلٌ استحقَّه زيد بمزاياه القيادية أولاً وقبل كل شيء، فما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يولي ثقته الكاملة إلاَّ لمن يستحقها بجدارة، وقد لمسنا شجاعة زيد في الغزوات التي شهدها مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي سراياه التي قادها، ولمسنا شجاعته في الواجبات الأُخرى التي ألقاها على عاتقه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في استصحاب بناته وزوجته في الهجرة، في وَسَطٍ يعُجّ بالأعداء والحاقدين والموتورين من المشركين". لقد قضى الإسلام مع ما قضى عليه من تقاليد الجاهلية، على الأنفة من تأمير مَن لم تُقَدِّمه السن، والاستمساك بِعُرَى التَّفاضُل بالأنساب والأحساب والعشائر والقبائل".. إنَّ التَّفَاضُلَ في الإسلام يخضع للتقوى وصالح الأعمال، بالإضافة إلى الكفايات المناسبة للعمل المناسب، وقد رفعت مزايا زيد القيادية، وإيمانه الراسخ العميق إلى الإمارة1". كما أنَّ مكانة جعفر - رضي الله تعالى عنه - وفضله لا تحتاج إلى كل ذلك التهويل، ومحاولة لَيّ النُّصوص، واختراع فضائل له لكونه من آل بيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فالعواطف الزائدة، والمحبَّة لآل البيت لا تجعلنا نعطيهم قدراً أكبر مِمَّا جعله الله تبارك وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ويكفي جعفراً رضي الله تعالى عنه فخراً ومكانةً أنه ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد قال له النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:
[19] "أَشْبَهْت خَلْقِي وخُلُقِي"1، "وحسبه بذلك دليلاً على أنه كان على خُلُقٍ عظيم2". ولمَّا قدم - رضي الله تعالى عنه - في جماعة من المسلمين من أرض الحبشة بأثر فتح خيبر، التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبَّل ما بين عينيه واعتنقه، وقال: [20] "والله ما أدري بأيهما أنا أُسَرّ!! أبقدوم جعفر، أم بفتح خيبر؟! "3. [21] وكان - رضي الله تعالى عنه - أحد السابقين الأولين، وكان أَحَد أصحاب الهجرتين4. وقد وصفته زوجه أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - بقولها: [22] "ما رأيت شابّاً من العرب خيراً من جعفر"5. وقال عنه أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه:
[23] "كان خير النَّاس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إنه إن كان ليخرج لنا العكة1 التي ليس فيها شيء فنشقّها ونلعق ما فيها"2. وتجدرُ الإشارة أنه لأوَّل مرَّة في تاريخ غزوات النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وسراياه يتم تولية أُمراء بالترتيب، "وما ولَّى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل وقعة مؤتة ولا ولَّى بعدها ثلاثة قادة أو قائدين على سرية واحدة، ولكن بُعْد نظره - عليه الصلاة والسَّلام - وتقديره لأهمية هذه السرية وخطورتها هو الذي جعله يولِّي ثلاثة قادة على سرية واحدة، مرَّة واحدة فقط في حياته العسكرية كلها"3. وربَّما كان ذلك احتياطاً منه صلى الله عليه وسلم لما كان متوقعاً أن تحُفَّ الأخطار هذه الحملة لوجهتها البعيدة، ولعدم وقوع احتكاك سابق بمناطق تخضع لنفوذ دولة قوية كالامبراطورية البيزنطية التي كانت قبائل الشام وأطرافها موالية لها سياسياً4. ومِنَ السَّذاجة أن يتبادر إلى الأذهان أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم مُسَبَّقاً المصير الذي كان ينتظر أعزَّ أصحابه5، فلم يُعرف عنه أبداً أنه ساق
أتباعه إلى حتوفهم، أو رمى بهم في عمليات ينتحرون فيها، كُلُّ ما هنالك أنَّ كثرة مشاغله منعته من قيادة الجيش بنفسه1. وبما أنَّ الجيش لم يكن تحت قيادة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد جرت العادة أن يكون الانخراط فيه تطوعياً حسب الاستطاعة، وذلك وفق التعليمات النبوية الكريمة، درءاً منه صلى الله عليه وسلم للمشقة الحاصلة للمجاهدين وأُسَرِهِم، وإذا لم يكن الأمر نفيراً عامّاً كان عليه الصَّلاة والسَّلام يأمرهم بالتناوب في الخروج للجهاد، فكان يقول: [24] "ليخرج من كُلِّ رجلين، رجل، والأجر بينهما" 2. [25] بل كان يحُضُّ على تخلُّف البعض لرعاية أُسَر المجاهدين، وأنَّ مَن يقوم بذلك له مثل أجر المجاهد والغازي3". وكان صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأُمِّي يعتذر عن الخروج على رأس بعض السرايا والبعوث حتى لا يشق على المسلمين".
أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: [26] "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن أشُقَّ على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي"1. وهكذا فقد خلت قائمة الجيش من كبار الصحابة أمثال أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي عبيدة، رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم، بينما كان من المشاركين غير القادة الثلاثة: "عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو قتادة، وخالد ان الوليد، وعوف بن مالك، وجابر بن عبد الله، وثابت بن أقرم، وأبو موسى الأشعري، وواقد بن عبد الله التميمي، وأبو سلمة بن هشام، وعقيل ابن أبي طالب، وعبد الرحمن بن سمرة، ويعلى بن منية، وأبو اليسر2،
وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وكان معهم بعض المسلمين من اليمن من أمداد حمير1". ويذكر ابن سعد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهم: [27] "لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة2، فتجهَّز الناس، وتهيأوا للخروج".
المبحث الثاني: الوصايا التي تزود بها الجيش، وتوديعه
المبحث الثاني: الوصايا التي تزوَّد بها الجيش، وتوديعه: وخرج معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى بلغ ثنية الوداع1، وهناك أوصاهم قائلاً: [28] "اخرجوا باسم الله، فقاتلوا في سبيل الله عدوّ الله وعدوّكم، إنَّكم ستدخلون الشام فستجدون رجالاً في الصَّوامِع2 معتزلين النَّاس فلا تعرضوا لأحدٍ منهم إلاَّ بخيرٍ، وستجدون آخرين للشياطين في رؤوسهم مفاحص3، فافلقوا هامهم4 بالسيوف، لا تَقْتُلُنَّ كبيراً ولا فانياً، ولا صغيراً ضرعاً5، ولا تَقْتُلُنَّ امرأةً،
ولا تُعْزِقُنَّ1 نخلاً"2. لقد تضمنَّت تلك الوصية أرقى قانون للحرب العادلة، قانون عجزت حتى الآن كُلّ النُّظُم والتشريعات أن تصل إليه من حيث الإنصاف في معاملة الأعداء، واجتناب الأعمال اللاإنسانية من التعرُّض للنساء والأطفال والعَجَزَة، ورجال الدين المعتَزلين بأي نوعٍ من أنواع الأذى، لقد
كانت توصيات في الآداب الحربية، ودروس في الشرف العسكري، وأُسُس راسخة في المعاملة الإنسانية، والرأفة بغير المحاربين من النساء والشيوخ والأطفال، وتربيات عالية شريفة ما سمعت ولا دعت أُمة مثلها منذ فجر التاريخ حتى اليوم من غير سيد البشر محمَّد صلى الله عليه وسلم ". إنَّ أرقى الأُمم في العصر الحاضر لا تزال في مجال محاولاتها الالتزام بقانون الشرف العسكري، لا تزال تحبو حبواً إذا ما قِسْنَا محاولاتها بما وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته هذه من قواعد راسخة لقانون الشرف العسكري1". [29] "ثُمَّ ودَّع النَّاس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلَّموا عليهم، فلمَّا ودَّعوا عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - بكى، فقالوا: "ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: "أما والله ما بي حُب للدُّنيا، ولا صبابة إليها، ولكني سمعت الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهُا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيَّا} . [سورة مريم، الآية: "71] ". فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟! فقال المسلمون: "صحبكم الله، وردَّكم إلينا صالحين، ودفع عنكم". قال ابن رواحة: لكنَّنِي أسأل الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا2
أو طعنةً بيدى حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا1 حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غازٍ وقد رشدا2 ثُمَّ أتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودَّعه، فقال: وثبَّت الله ما آتاه من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصرا إني تفرَّسْتُ فيك الخير نافلة ... والله يعلم إني ثابت البصرا أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منك فقد أزرى به القدرا3
الفصل الرابع: حشد القوات الرومانية وحلفائها من القبائل المتنصرة
الفصل الرابع: حشد القوات الرومانية وحلفائها من القبائل المتنصرة المبحث الأول: الخلاف في عددهم ... المبحث الأوَّل: الخلاف في عددهم: تحرَّكت القوات الإسلامية من المدينة صوب الشام في مسير اقترابي حَذِر. [30] ويذكر الواقدي أنَّهم نزلوا وادي القرى في طريقهم إلى الشام، وأقاموا أيَّاماً1، ولكن أنباء حركتهم وصلت إلى الروم قبل وصول المسلمين إليهم2، فنذروا وجمعوا لهم جموعاً كثيرة من الروم وحلفائهم من القبائل العربية الشامية المتنصرة. هذا وقد اختلفت الروايات فيهم، وفي عدَّتهم، ففي مرسل عروة: "ذكر أنَّهم كانوا مائة ألف من الروم: [31] "وانضم إليهم من لخم3، وجذام، والقين4، وبَهْرَاء5، وبلىّ،
مائة ألف منهم1". وتابعه في ذلك ابن إسحاق في رواية يونس عنه2، وابن الأثير3، والطبري، والبيهقي، كلاهما بسنديهما إليه4، وتابعه من المتأخرين كُلٌّ من: "ابن عبد البر، وابن سيد الناس، وابن القيم، وابن كثير، وابن حزم، والعامري، والحلبي، والذهبي5". [32] وذكر السهيلي حكايةً عن ابن إسحاق: "أنَّهم كانوا خمسين ومائة ألف6". [33] بينما يذكر الواقدي في روايته: "أنَّهم كانوا مائة ألف من القبائل العربية المتنصرة7".
وتابعه القسطلاني، إلاَّ أنّه ذكر أنَّهم كانوا مائة ألف من المشركين1، وكذلك المسعودي، إلاَّ أنه ذكر أنَّهم جموع الروم2". وكان هنالك اضطراب في رواية ابن سعد حيث ذكر أولاً أنَّ شرحبيل بن عمرو الغساني جمع أكثر من مائة ألف، ثُمَّ يعود فيذكر: [34] "أنَّ هرقل قد نزل مآباً من أرض البلقاء في مائة ألف من بهراء ... الخ"3. ووردت أقوال أخرى حكاها بعض أهل المغازي، دون نسبتها إلى قائليها، حيث قال السهيلي: وقيل: "كان العدو مائتي ألف من الروم، وخمسين ألفاً من العرب، ومعهم من الخيول والسلاح ما ليس مع المسلمين4". ونقل ذلك الحلبي أيضاً5". وقال الزرقاني، والشامي: "كانوا أكثر من مائتي ألف6".
وقال ابن حجر: "قيل: أكثر من مائة ألف1". [35] ولم تُحَدِّد روايات الزهري، وموسى بن عقبة، ومحمَّد بن عائذ العدد، وإنَّما ذكرت أنَّهم جموع كثيرة من الروم، ونصارى العرب من قضاعة، وتنوخ، وبهراء، وغيرهم من نصارى العرب2". ووقع مثل ذلك في رواية أبي قتادة - رضي الله تعالى عنه 3". ويصفهم خليفة بن خياط بأنَّهم جموع هرقل4 دونما تحديد". ويرى العقَّاد صعوبة جمع تلك الجيوش الجرَّارة وتسييرها في مثل تلك السرعة، ويرجِّح أنَّ "هرقل إنَّما كان في جموعه هنالك في زيارة الشكر التي نذر لله أن يؤدِّيها إذا هو ظفر بالفرس، وردَّ منهم صليب الكنيسة الكبرى الذي حملوه معهم يوم أَنْ فتحوا بيت المقدس، وربَّما كان هرقل قد بارح بيت المقدس في ذلك الحين، وتخلَّفت جيوش ركابه لأداء هذه الفريضة معه أو القيام بمراسم الحفاوة في تلك الزيارة التاريخية5". وذلك استنتاجٌ مبنيٌّ على رواياتٍ ضعيفة، فقد ذكرت المصادر أنَّ هرقل كان في الشام قبل مؤتة بخمسة أشهر على الأقل، حينما استقبل دحية الكلبي - رضي الله تعالى عنه - سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ثُمَّ من بعده أبا سفيان بن حرب ومَن معه الذين سألهم عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أسئلةً دقيقةً وشخصيةً، وقد أظهر هرقل حينها احتراماً بالغاً للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بل وصدَّق
به، ولكنَّه لم يُسلم خوفاً على ملكه، وكان ذلك بعد الحديبية، كما ذكر أبو سفيان راوي الخبر1". وذهب الدويدار أبعد من ذلك حينما أكد على أنَّ الروايات تكاد تجمع على تلك الأعداد الضخمة التي استقبل بها الرومان المسلمين في مؤتة2". وتلك مبالغة لا تقل عن مبالغة بعض الروايات التي ذكرناها في تحديدها لعدد جيش الروم وحلفائهم في مؤتة". ولا ريب أنَّ المبالغات التي أعقبت هذه المعركة، كثَّرت من عدد العدو وجعلته يبلغ هذا الرقم الخيالي3، وإن كان بمستطاع القبائل العربية الضاربة في المنطقة أن تؤلِّف مع الجيش الروماني قوةً ضخمة، ولكنَّ الأمر لم يكن على تلك الدرجة البالغة من الخطورة، "فإنَّ الحملة الإسلامية كانت مكوَّنة من ثلاثة آلاف، وأنَّ أنباء مسيرها كانت معروفة، فلا يمكن أن يوجه إليها الروم مثل هذا العدد الحاشد من الجيوش، على أنَّ هذه الأعداد الضخمة لم تستخدمها بيزنطة في قتالها مع الفرس4".
[36] فقد ذكرت المصادر أنَّ جيش هرقل الذي أعاد به كرامة الإمبراطورية البيزنطية عندما هزم جيوش كسرى، حتى استطاع دخول المدائن، كان لا يزيد عدده عن سبعين ألفاً1". "ولم يستخدم الروم هذه الأعداد، إلاَّ فيما بعد عندما اشتبكوا مع الدولة الإسلامية اشتباكاً حقيقياً خطيراً2". لذلك فإنه من الأصوب الأخذ بروايات الزُّهري، وابن عقبة، وابن عائذ، التي لم تُحَدِّد القوَّات بعددٍ معيَّنٍ، وإنَّما ذكرت أنَّهم جموع كثيرة "وكُلّ ما يمكن تصوُّره أنَّ قوَّة العدو كانت أكبر من قوَّة المسلمين، أو أنَّها كانت أضعافها"3". ويعتقد الجنرال أكرم أنَّها رُبَّما كانت تتراوح بين عشرة آلاف، وخمسة عشر ألفاً4. إنَّ التحديد الذي ورد في بعض الروايات التي ذكرناها بتلك الأعداد الضخمة، ربَّما كان اجتهاداً من بعض الرواة والإخباريين، أو حتى بعض شهود العيان الذين ربَّما نقل عنهم عروة وغيره من المؤرِّخين.
كما لم تزودنا المصادر البيزنطية بمعلوماتٍ وافرة عن الأحداث التي كانت بين بيزنطة والمسلمين، بما في ذلك أحداث معركة مؤتة، فنستطيع من خلالها معرفة عدد الجيش البيزنطي والحلفاء فيها، حيث كان الاعتماد على المصادر الإسلامية في ذلك، والتي نادراً ما تخطيء في وصف الأحداث، لاعتمادها على الإسناد الذي يصل في كثيرٍ من الأحيان إلى شهود العيان، أو حتَّى المشاركين في تلك الأحداث، وتلك عملية دقيقة ومرتَّبة لم يُسْبَق المسلمون فيها أبداً، بل لم تعرفها أُمة من الأُمم على الإطلاق، غير الأُمة الإسلامية. ولكن حتَّى شهود العيان والمشاركون في صميم الأحداث لا يستطيعون في بعض الأحيان التعرُّف بدقة على عدد جند العدوّ1. بل يعتمدون أحياناً على الحدس والتخمين في إحصاءاتهم لجيوش الأعداء، لأنه لم تكن هنالك إحصاءات دقيقة معلومة عن عدد الجند والجيوش، كما هو الحال اليوم2.
ورُبَّما أنَّ بعض شهود معركة مؤتة من المسلمين شاهدوا تلك الكثافة العَدَدِيَّة والعُدَدِيَّة من الجند الروماني المجهَّز بأحدث الأسلحة والعتاد، فهالهم ذلك المنظر الذي لم يتعوَّدوه من قبل، فقدَّروا عددهم اجتهاداً، ذلك التقدير الضخم. روى الواقدي بسنده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: [37] "شهدت مؤتة، فلمَّا رأينا المشركين، رأينا ما لا قِبَل لنا به من العدد والسلاح والكراع، والديباج، والحرير، والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أقرم1: "يا أبا هريرة، مالك؟! كأنَّك ترى جموعاً كثيرة، قلت: "نعم". قال: "إنَّك لم تشهد بدراً معنا، إنَّا لَم نُنْصَر بالكثرة2". ومهما قيل في مبالغة الذين سجَّلوا تعداد الروم وحلفائهم، فإنَّ الحقيقة تبقى واضحة للدارسين بأنَّ الرُّوم وحلفاءهم كانوا أضعاف تعداد المسلمين، كما أنَّهم يقاتلون في بلادهم دفاعاً عنها، بينما يقاتل المسلمون بعيداً عن قاعدتهم الرئيسية المدينة، وبذلك تكون المزايا العسكرية في التفوُّق العَدَدِيّ والعُدَدِيّ، وفي قرب قواعد الروم إلى قوَّاتهم المقاتلة، هذه المزايا مع الروم على المسلمين بلا مراء3.
المبحث الثاني: الخلاف في قادتهم
المبحث الثاني: الخلاف في قادتهم: وكما اختلفوا في عددهم، اختلفوا أيضاً في قوَّادهم. [38] ففي رواية عروة - وهي الرواية الأكثر شهرة بين روايات أهل المغازي في هذه الغزوة - يذكر أنَّ الروم كانوا بقيادة ملكهم هرقل، والحلفاء من القبائل العربية المتنصرة، كانوا بقيادة رجلٍ من بلى، ثُمَّ أحد أراشة يُقال له: "مالك بن زافلة1". [39] أمَّا رواية الواقدي فيشوبها بعض الاضطراب، حيث ذكر أنَّ الذي حشد الجموع رجلٌ من الأزد، يُقال له: "شرحبيل بن عمرو2، وأنه قدَّم الطلائع أمامه بقيادة أخيه سدوس، فقتله المسلمون، فخاف شرحبيل وتحصَّن3، وبعث أخاً له آخر، يُقال له: "وبر بن عمرو، ثُمَّ يذكر بعد ذلك أنَّ هرقل نزل مآب، من أرض البلقاء في بهراء، ووائل، وبكر، ولخم، وجذام، في مائة ألف، عليهم رجل من بلى، يُقال له: "مالك4".
وتابعه في ذلك تلميذه ابن سعد، كما مرَّ في المبحث السابق1". [40] ويذكر الزهري، وموسى بن عقبة في روايتهما أنه كان عليهم ابن أبي سبرة الغساني2". [41] أمَّا ابن عائذ فلم تحدِّد روايته اسم القائد3". [42] وكان للمسعودي رأي آخر، حيث يذكر أنَّ هرقل أنفذ الجيوش للقاء المسلمين من مكان إقامته في أنطاكية، وكان على الروم تيادوقس البطريق4، وعلى متنصرة العرب من غسَّان وقضاعة وغيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني5".
ويؤكِّد بروكلمان ما ذهب إليه المسعودي، مُصَحِّحاً اسم القائد البيزنطي وأنه (ثيودورس) 1. وأعتقد أنَّ ما ذهب إليه المسعودي، وأكَّده بروكلمان من قيادة ثيودورس أخي الأمبراطور هرقل لجيوش الحلفاء في مؤتة هو الأصوب، لأنه لم يرد ذكر هرقل في أحداث المعركة رغم شهرته ومعرفة المسلمين له جيداً، فلو كان هو القائد فعلاً لما أغفلت المصادر الإسلامية - ومنها التي ذكرت قيادته لجيوش الروم - أخباره في ميدان المعركة وأحداثها. كما أنَّ القول بقيادته للمعركة يتعارض مع ما هو مألوف في نظام الحكم في بيزنطة في ذلك الحين، حيث لم يسبق لإمبراطور بيزنطي قاد جيشاً إلاَّ مرَّتين: "الأولى حينما قاد الإمبراطور موريس حملة لمحاربة الآفار، والثانية حينما قاد هرقل نفسه الجيش البيزنطي في محاولة منه لاسترداد هيبة الإمبراطورية البيزنطية التي فُقِدَت حينما دحرت القوات الفارسية القوات الرومانية في معركة فحل الفاصلة - التي ورد ذكرها في القرآن2 - ثُمَّ خرَّبت بيت المقدس، واحتلَّت شطراً كبيراً من أرض الإمبراطورية، حتى أحدقت بالقسطنطينية، وقد قُوبِل كُلٌّ من الإمبراطوريين
بمقاومة عنيفة ومعارضة شديدة من مستشاريهما حين قرَّرا قيادة جيشهما آنذاك1". والأهم من ذلك كُلِّه هو أنَّ هرقل، بعد أن وصله كتاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، وعرف صدق نبوءته صلى الله عليه وسلم، أصبح غير متحمسٍ للقاء المسلمين في ميادين القتال، لمعرفته التامَّة بأنَّهم سيظهرون على غيرهم من الأُمَم بما فيهم الرومان2، عَرَفَ ذلك من خلال كُتُب النصارى التي بشَّرت بنبي الإسلام أحمد صلى الله عليه وسلم 3، ومن خلال المنجّمين الذين حذروه من أمة الختان التي ستسلب مكّة منه". وهكذا، فإنه في معارك أُخرى جرت بعد ذلك بين المسلمين والبيزنطيين، لم يتولّ هرقل قيادة أي معركة منها، حتى المعارك الحاسمة الضخمة، كاليرموك مثلاً، والتي تُعدّ من حيث حشد القوَّات فيها مِن قِبَل الطرفين، والاستعدادات المبكرة لها، واستشعار الروم وملكهم بخطر المسلمين المستفحل عليهم4، وما كان سيترتب عليها من نتائج في حال ظفر أو هزيمة أيٍّ من الفريقين، أكبر بكثر من مؤتة". والله تعالى أعلم".
الفصل الخامس: سير الأحداث
الفصل الخامس: سير الأحداث المبحث الأول: إحداث الطريق إلى مؤتة المطلب الأول: تشاور المسلمين في معان ... المطلب الأول: تشاور المسلمين في معان: وفي مآب من البلقاء1، احتشدت جيوش الحلفاء من الروم والقبائل العربية المتنصرة، فلمَّا علم المسلمون بأمر جموعهم المتفوقة عليهم فواقاً ساحقاً، أقاموا على معان2 ليلتين يفكرون في أمرهم، واستشار زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - أصحابه، فقال له بعضهم:
[43] "نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإمَّا أن يُمدَّنا بالرجال، وإمَّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له"1. ويذكر الوليد بن مسلم2 أنَّ بعض المسلمين نصح زيد بالانصراف، مكتفياً بما حقَّقه من مكاسب معنوية، قائلاً له: [44] "قد وطئت البلاد، وأخفت أهلها، فانصرف، فإنه لا يعدل العافية شيء، وعبد الله بن رواحة ساكت، فسأله زيد عن رأيه فقال: "إنَّا لم نسر إلى هذه البلاد ونحن نريد الغنائم، ولكنَّا خرجنا نريد لقاءهم، ولسنا نقاتلهم بعددٍولاعُدَّة، فالرأي المسير إليهم"3. [45] "فشجَّع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: "يا قوم، والله إنَّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة وكثرة، ما نقاتلهم إلاَّ بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنَّما هي إحدى الحسنيين، إمَّا ظهور، وإمَّا شهادة، قال: "فقال الناس: "قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس"4. وقبل زيد رأيه وسار إليهم.
"إنَّ تشجيع عبد الله بن رواحة المسلمين على قتال الروم وحلفائهم، واستجابة المسلمين لهذا التشجيع، له دلالة لا يُمكن أن يختلف فيها اثنان، هي أنه كان يثق ثقةً عالية برجاله، وأنَّ رجاله كانوا يثقون به ثقةً مُطْلَقة، والثقة المتبادلة بين القائد ورجاله من أهمِّ مزايا القائد المتميِّز، ولا يمكن أن يثق الرجال بقائدهم ثقةً مُطلَقة عفواً وبدون أسباب، كما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا يولي المراكز القيادية إلاَّ لأشخاص لهم مؤهلات عالية، ومزايا واضحة المعالم، فقد كان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يحرِصُ أعظم الحِرْص على تولِّي الرجل المناسب للعمل المناسب، تطبيقاً لتعاليم الإسلام في الولاية، وثقة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن رواحة، وثقة رجال عبد الله بن رواحة به، أسبابها وحوافزها واحدة، وهي تَمَتُّع عبد الله بن رواحة بالإضافة إلى عمق إيمانه، بمزايا قيادية أهَّلته لأن يكون أحد قادة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم 1". ويعتقد بعض المحلِّلين والمنَظِّرين العسكريين، وغيرهم من المؤرِّخين المعاصرين، أنَّ تشجيع عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - للمسلمين، واندفاعه بهم نحو العدوّ، رغم تفوقهم العددي، وقُرْب قواعدهم، كان مغامرة خطرة، ومجازفة مهلكة، وخطأً عسكرياً فادحاً، وذلك بموجب المقاييس المادية2".
ولكن المقاييس المادية تُطَبَّق على الذين يعتمدون الوسائل المادية وحدها في حروبهم، أمَّا الذين يحاربون حرباً عقديَّة، جهاداً في سبيل الله، ودفاعاً عن عقيدتهم، وعن حُرِّية انتشارها، فلا تُطَبَّق عليهم المقاييس المادية وحدها، التي تُطَبَّق على غيرهم في حروبٍ استثماريَّةٍ أو توسُّعِيَّةٍ من أجل أمجادٍ شخصيةٍ، وأحقاد عنصرية أو طائفية، وعلى ذلك فلا تُطَبَّق هذه المقاييس المادية على أمثال عبد الله بن رواحة، لأنَّهم كانوا يخوضون حرباً عقديَّة لا دخل للمادَّة فيها من قريبٍ أو بعيد، وإلاَّ فماذا يمكن أن يُقال في غزوة بدر الكبرى الحاسمة، بالنسبة للمقاييس المادية وحدها، وكان تفوُّق المشركين على المسلمين بنسبة ثلاثة على واحد في الأشخاص، وبنسبة مائة على واحد بالخيل، والخيل أنجح سلاح في الحروب القديمة؟! لقد حرَّض عبد الله بن رواحة المسلمين على القتال لأغراضٍ عقديَّة، فكان تحريضه خطأً بالنسبة للمقاييس المادية، ولكنه كان عين الصَّواب بالنسبة للجهاد والحرب العادلة التي كان يخوضها المسلمون حينذاك1. ولكي نعرف مدى اندفاع عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - وحماسه لخوض حرب عقائدية إيمانية هدفها إعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ، وإعزاز دينه، وأقصى ما يتمناه فيها هو نيل شرف الشهادة، وبذل روحه رخيصة في سبيل الله عزَّ وجلَّ، يحدِّثُنا زيد ابن أرقم - رضي الله تعالى عنه - وكان من المشاركين في مؤتة - قال:
[46] "كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو يُنشِد أبياته هذه: إذا أويتني وحملت رحلي ... مسيرة أربعٍ بعد الحساء1 فشأنك أنعم وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي2 وجاء المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشتهى الثواء3 في أبيات" ... قال: "فلمَّا سمعتهنَّ منه بكيت". قال: "فخفقني بالدرة4، وقال: "ما عليك يا لُكع5 أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل6"7".
وكما اندفع عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - بفورة حماس إيمانية زخمة، اندفع - أيضاً - بفورة حماس شاعرية رائعة، راح يُصَوِّر فيها مقام المسلمين في معان، ثُمَّ انطلاقهم بقوة وحماس إيماني نحو عدوهم المتربص في مآب: [47] جلبنا الخيل من أجام قرح1 ... تغر من الحشيش لهاالعكوم2 حذوناها من الصوان سبتاً3 ... أزل كأنَّ صفحته أديم4 أقامت ليلتين على معان ... فأعقب بعد فترتها جموم5 فرحنا والجياد مسومات ... تنفس في مناخرها السموم6 فلا وأبي مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم
عبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم1
المطلب الثاني: التحرشات العائية التى تعرض لها المسلمون في طريقهم إلى مؤتة
المطلب الثاني: التحرشات العائية التى تعرض لها المسلمون في طريقهم إلى مؤتة ... المطلب الثاني: التحرُّشات العدائية التي تعرَّض لها المسلمون في طريقهم إلى مؤتة: ومضى زيد - رضي الله تعالى عنه - بالجيش، فسار بهم في مناطق تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية، فكان من الطبعي أن يتعرَّضوا لبعض التحرُّشات العدائية من أهل تلك البلاد الذين كانوا يدينون بولائهم سياسياً، وعقائدياً، للدولة البيزنطية، وإن كانت بينهم خلافات مذهبية متأصلة1، ولكنَّهم اتَّحدوا ضد المسلمين. فيذكر ابن عائذ بسندٍ منقطعٍ ساقه إلى بعض أهل تلك المنطقة من بني سلامان أنَّ زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - سار بالمسلمين: [48] "على جبال بين الشراة والبلقاء، على ريفها وعمارتها، فمر بقرية من قرى الجبال، يُقال لها: "أكثب2، فشدَّ أهلها على ساقة3 المسلمين فأصابوهم بجراحة، وقتلوا رجلاً من المسلمين، فبلغ ذلك جماعة الجيش، فاستأذنوا زيد بن حارثة في الرجعة إليهم والانتقام منهم، فقال زيد: "لا أرى ذلك، لأنَّ عدوَّكم أمامكم قد جمعوا لكم، ودنوا منكم، فأكره أن تفلّوا حدَّكم4 ونشاطكم
بقتال غيرهم، ثُمَّ لا آمن أن يجمعوا لكم فيكونوا من ورائكم، فتكونوا بين عسكرين"1. لقد كان رأي زيد - رضي الله تعالى عنه: "المضي قُدُماً، وعدم استنْزاف قوة المسلمين في قتالٍ قد يُعيق تقدُّمهم نحو عدوّهم، وربَّما كان ذلك سبباً لوقوع المسلمين بين فكَّي كمَّاشة". وقد مرَّ بنا سابقاً في روايتي الواقدي، وابن سعد، تلك التحرُّشات العدائية التي قام بها شرحبيل بن عمرو الغساني - الذي جمع جموع العرب المتنصرة - وذلك بإرساله الطلائع لتعيق تقدم المسلمين، ولكن محاولاته باءت بالفشل الذريع، حيث قَتَل المسلمون أخاه سدوس، قائد الطليعة الأولى، مِمَّا أثار الذُّعْر والهلع في قلب شرحبيل، فتحصَّن2".
المبحث الثاني: وصف المعركة
المبحث الثاني: وصف المعركة المطلب الأول: تعبئة المسلمين ... المطلب الأول: تعبئة المسلمين: تحرَّك المسلمون نحو جيوش الروم، وحلفائهم من القبائل، فحصل التماس الأوَّل في تخوم البلقاء "ولكن المسلمين رأوا أنَّ منطقة قرية مؤتة، بين الكرك1 والطفيلة2، أنسب لقبول المعركة فيها، وذلك لوجود العوارض الطبيعية التي يستطيعون التحصُّن بها، نظراً لقلَّة قوتهم بالنسبة إلى الأعداء"3. فما "مِن شكٍّ أنَّ قوة العدو كانت أضخم كثيراً من قوة الجيش الإسلامي، وإن لم تبلغ العدد الذي ذكره الإخباريون، وكان التكافؤ منعدماً بين القوتين من حيث العدد، ومن حيث عُدَّة الحرب"4.
وفي مؤتة تعبأ المسلمون، ونظَّموا صفوفهم، كما يذكر ابن إسحاق: [49] "فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يُقال له: قطبة بن قتادة1، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار، يُقال له: عباية بن مالك2، ثُمَّ التقى الناس"3. وقد لاحظ المسلمون تفوّق الروم وحلفائهم عليهم، ولكنَّهم لم يكترثوا بذلك4.
المطلب الثاني: وصف حي لقتال القادة الثلاثة واستشهادهم
المطلب الثاني: وصف حي لقتال القادة الثلاثة واستشهادهم: وبدأ هجوم المسلمين باندفاع قائدهم زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - بلواء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو صفوف العدو "فحارب مستقتلاً مستميتاً حتَّى مزَّقته رماح العدو"1 وذلك وفق وصف رواية عروة: [50] "حتى شاط في رماح القوم"2. إنَّ ذلك الوصف يدل على قوة اندفاع زيد - رضي الله تعالى عنه - واستماتته في القتال، مع عدم اكتراثه بقوة العدو، وكثافته العَدَدِيَّة والعُدَدِيَّة، وهو أمر يدل على فرط شجاعته وجرأته واستهانته بالموت ما دام في سبيل الله - عزَّ وجلَّ. وكلمة (شاط) 3 تعطي عمقاً بعيداً عن مدى شراسة الحملات التي قام بها ذلك البطل المغوار في العمق داخل صفوف العدو، وما تمزيق جسده الطَّاهر برماحهم إلاَّ نتيجة حتمية لتلك الجرأة العظيمة التي كان يتمتع بها، ويحمل بها على العدو، معطياً من نفسه القدوة الصالحة لجنده، وما ذلك إلاَّ لعلو نفسه، وقوة رباطة جأشه.
نعم! لَمَّا كانت نفس زيد بن حارثة الكلبي - رضي الله تعالى عنه - حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرةً توَّاقةً للمعالي، دفَعَ جسده الطاهر الزكي الثَّمَن غالياً في أحضان رماح العدو وحرابهم1، وما كاد يسقط القائد البطل شهيداً في سبيل الله تعالى، حتَّى تلقَّف منه اللواء، ومِن ثَمَّ خلفه في القيادة - حسب أمر القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بطل آخر شاب من آل بيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم موئل البطولات، وأركان الشجاعة، ولا غَرْوَ في ذلك، فهو جعفر ابن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل الأبطال، وقائد الشجعان. وتقدَّم البطل الشاب بفرسه يصول ويجول براية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ما ألحمه القتال، ترجَّل عن فرسه، كما يذكر أَحَد شهود العيان: [51] "والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرسٍ له شقراء، فعقرها، ثُمَّ قاتل القوم"2، راجلاً، وهو يرتجز:
يا حبَّذا الجنَّة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها والروم روم قددنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليَّ إذا لاقيتها ضرابها ثُمَّ اندفع يقاتل بشجاعة نادرة، وجرأة لا مثيل لها، ورباطة جأش عظيمة، والضربات تنهال عليه من كُلِّ جانبٍ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورميل نبل، دون أن تثنيه عن الاستمرار، أو تعيق تقدمه بلواء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يمثل رمزاً عظيماً للمسلمين في معاركهم، لأجل ذلك كان تركيز العدوّ على إسقاطها شديداً، فلمَّا أعياهم البطل جعفر - رضي الله تعالى عنه - بقوة تماسُكه، ورباطة جأشه العظيمة، ورأوا أنَّ الضربات على جسده لم تزده إلاَّ إمعاناً وتقدُّماً نحو صفوفهم، عندها حوَّلوا ضرباتهم إلى اليد العظيمة التي كانت تمسك اللواء بقوة، وتقاتل به
بلا هوادة، فقطعوها، وظنَّ الأعداءُ أنَّها النهاية، وأنَّ اللواء سوف يسقط، فتسقط معه معنويات المسلمين، ولكنَّ القائد العظيم تلقَّفه: [52] "بشماله، فقُطِعَت، فاحتضنه بعضديه"1، ولكن "ورغم استبسال جعفر وثباته هذا، فقد انتهى صموده الرائع بأن سقط شهيداً بعد أن اعتورته سيوف الرومان، وهو يحتضن اللواء في إصرارٍ وتصميمٍ، حتَّى صعدت روحه الطاهرة، ليأخذ مكانه بين الصِّدِّيقين والشُّهداء"2. بل بين الملائكة:
[53] "فقد صحَّ أنَّ الله قد عوَّضه من يديه جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة1، ويأكل من ثمارها حيث شاء، فلذلك سُمِّيَ
..............................................................................................
...................................................................................................
الطيَّار في الجنَّة"1.
"ويكون أوَّل من حاز على لقب طيَّار في التاريخ الإسلامي، ويتفرَّد به دون النَّاس أجمعين"1. ولكنَّه في ذات الوقت ليس طيَّاراً عادياً، أو حتى رائد فضاء، بل طيَّاراً في الجنَّة مع الملائكة المقرَّبين، يطير مع جبريل، وميكائيل، وقد ميَّزه الله - سبحانه وتعالى - عن الملائكة بأن جعل جناحيه مضرجين، مخضوبةً قوادمه بالدماء2. وذلك علامة على أنَّهما وسام شرف علوي مُنِحَ له مكان يديه اللتين ضحَّى بهما بإصرارٍ في سبيل الله تعالى، وهو يقاوم بقوة وعنادٍ عجيبين ألاَّ تسقط راية رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً. نعم! سقط القائد الشاب شهيداً، وفي جسده بضعٌ وتسعون ما بين طعنة ورمية، منها: [54] "خمسون بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره، يعني في ظهره"3. وفي ذلك "بيان فرط شجاعته وإقدامه"4.
فلمَّا قُتِلَ جعفر، أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثُمَّ تقدَّم بها، وهو على فرسه، وكان لمقتل صاحبيه الواحد تلو الآخر على ذلك النحو المؤثِّر، أثره في نفسه، فيذكر ابن إسحاق بسندٍ حسنٍ عن شاهد عيان من بني مرة، أنه: [55] "جعل يستنْزل نفسه ويتردَّد، بعض التردُّد، ويرتجز: أقسمت يا نفس لتنزلنَّه ... لتنزلن أو لتكرهنَّه إن أجلب الناس وشدُّوا الرنَّة1 ... مالي أراك تكرهين الجنَّة قد طال ما كنت مطمئنة ... هل أنت إلاَّ نطفة في شنَّة2 وقال أيضاً: يا نفس إلاَّ تُقْتَلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيتِ فقد أُعْطِيتِ ... إنْ تفعلي فعلهما هُدِيتِ يريد صاحبيه زيداً، وجعفراً، ثُمَّ نزل، فلمَّا نزل أتاه ابن عم له بعرق3 من لحم، فقال: شُدَّ بهذا صُلبك، فإنَّك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، ثُمَّ انتهس منه نهسة4، ثُمَّ سمع الحطمة5 في
ناحية النَّاس، فقال: وأنت في الدُّنيا! ثُمَّ ألقاه من يده، ثُمَّ أخذ سيفه، فتقدَّم، فقاتل حتَّى"1. [56] "طُعِنَ، فاستقبل الدم بيده، فدلك به وجهه، ثُمَّ صُرِعَ بين الصَّفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذُبُّوا2 عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتَّى يحوزوه3، فلم يزالوا كذلك حتَّى مات مكانه"4. وينفي بعض المعاصرين رواية تردُّد عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، كونها تتعارض مع موقفه قبل ذلك من تشجيعه للمسلمين لملاقاة الروم، وتحرُّقه للشهادة في سبيل الله5. بينما يربط بعضهم هذا الموقف بما عُرِفَ من تقلبات نفسية الشُّعراء وحساسيتهم6.
بينما ما حدث من عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - لا يعدو كونه أمراً طبعياً، وموقفاً من مواقف ضعف النفس البشرية يعتريها أوقات الشدة والأزمات، وهو بالتالي لا يُدلِّل على خَوَرِ عبد الله رضي الله تعالى عنه وجُبْنَه، كما يفهمه البعض من ظاهر الرواية، فذلك أمرٌ مفروغٌ منه، فعبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - مشهودٌ له بالشجاعة، والجرأة، ورباطة الجأش، وليس اختيار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم - وهو الخبير في أصحابه - له قائداً من قوَّاد هذه الموقعة العظيمة التي كانت في عمق الأراضي الخاضعة لنفوذ الدولة البيزنطية، وبعيداً عن قاعدة المسلمين، وانتدابه له سابقاً في أقوى سراياه وبعوثه، وأصعبها مهمّة وجُرأة، وهي سرايا المغاوير، إلاَّ دليلاً من الأدلة القاطعة على ذلك. والصحابة - رضي الله تعالى عنهم، وإن كانوا مشهورين بالشجاعة والجرأة وحُب الموت في سبيل الله تعالى، فهم في النهاية ليسوا ملائكة، بل بشر يعتريهم الخوف والضَّعْف في مواطنهما، بل ربَّما مغادرة ميدان المعركة، كما حدث من بعضهم في بعض المواقع، وقد سوَّغ لهم الشرع التحيُّز إلى فئة، وعدم الاستقتال. إنَّ ما حدث من عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - أمرٌ طبعي يمكن أن يحدث لكُلِّ إنسان في مثل تلك الظروف الصعبة والمواقف المحرجة. ولكن معالجة الموقف بمثل تلك القوة، والشجاعة، ورباطة الجأش، لا تحدث من كُلِّ إنسان، فما قام به عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، لا يقوم به إلاَّ رجال أبطال مؤمنون أمثاله، ولو كان غير ذلك لأطلَقَ لنفسه العنان، ولما استطاع مصابرتها والتغلُّب على فلتاتها.
وكان يمكن أن يمر ذلك الموقف دون أن يحس به أحد من الناس، ولكنَّ رجلاً شجاعاً، شاعراً، مؤمناً، مرهف الحسّ، صادقاً مع نفسه، كعبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، لا يمكن أن يدعه يمر عليه هكذا بسهولة، دون أن يُصَوِّر أحاسيسه تجاهه تصويراً صادقاً قوياً، ويُعَبِّر عن خلجات نفسه نحوه تعبيراً دقيقاً رائعاً بصوتٍ عالٍ مرتفعٍ، استطاع معه شهود العيان، ومِن ثَمَّ الرواة تسجيله بمدادِ العزَّةِ والكرامة، لتتطلَّع عليه الأجيال الإسلامية تلو الأجيال، فتعتبر، ولعلَّه أراد ذلك فعلاً، وبالإضافة إلى ما ذكرناه، فإنَّ سند الرواية التي نقلت الخبر، ساقه ابن إسحاق بطريق حسن إلى شاهد عيان1، شارك في المعركة، وقد يعتضد بالمتابعات إلى درجةٍ أعلى، كما أنه لم يصح حديث السرير الذي ذكره ابن إسحاق بلاغاً بلا سند [57] وذُكِرَ فيه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنَّ منْزلة عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - دون منْزلة صاحبيه في الجنَّة نتيجة تردُّده"2.
وقد حكم عليه ابن كثير رحمه الله تعالى بالانقطاع، وعارضه بحديثٍ الصحيح1. [58] كما أنَّ الأحاديث الأُخرى المماثلة، جاءت من طُرُق واهية لا يُعْتَدُّ بها2.
المطلب الثالث: اشتعال المعركة بين الجيشين
المطلب الثالث: اشتعال المعركة بين الجيشين: هذا وقد أشعلت الحملات والاختراقات البطولية - التي قام بها القادة الثلاثة في العمق داخل صفوف العدو رغم تفوقه العَدَدِي والعُدَدِي - أشعلت حماس المسلمين جميعاً، واشتعل القتال على طول الجبهة، وأبدى المسلمون من صنوف البطولات الجماعية، والفردية، أسوة بقوَّادهم ما أذهل الروم وحلفاءَهم. [59] فهذا عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - كما يذكر الأوزاعي في رواية - وفي مجلس من مجالس الأنصار في المدينة، ومعهم نفر منهم، حين نزل قول الله - تبارك وتعالى: {إنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} . [سورة الصّفّ، الآية 4:] . يعاهدون الله - تبارك وتعالى - على الجهاد في سبيله حتى الموت، فلمَّا أخذ عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - الراية، فصاح بأولئك النَّفر الذين حضروا ذلك المجلس، فتلا عليهم الآية وقال لهم: إنَّ ما كنتم عاهدتم الله عليه قد جاء مصداقه، "اصدقوا الله يصدقكم، فجاءوا يخبُّون1 كأنَّهم
بقر نُزِعَت من تحتها أولادها، فتقدَّموا بين يديه، فلمَّا شدَّ على الروم شدُّوا معه حتى شُدِخُوا1 جميعاً"2. وهذا عوف بن مالك الأشجعي3 - رضي الله تعالى عنه -، أحد شهود العيان والمشاركين في مؤتة، يُحَدّثنا عن إحدى تلك البطولات، فيقول:
[60] "خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، فرافقني مدَدِّيُّ1 من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجلٌ من المسلمين جزوراً2، فسأله المدَدِّيُّ طائفة من جلده3، فأعطاه إيَّاه، فاتَّخذه كهيئة الدرق4، ومضينا، فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب، فجعل الرومي يفري5 بالمسلمين، فقعد له المدَدِّيُّ خلف صخرة، فمرَّ به الرومي فعرقب فرسه6، فخرَّ7 وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه"8.
[61] ويتصدَّى عقيل بن أبي طالب1 - رضي الله تعالى عنه - لرجلٍ آخر فيقتله بعد مبارزةٍ بالسيوف2. ولكن، ومع تلك البطولات التي أبداها المسلمون قُوَّاداً وأفراداً، إلاَّ أنه بمقتل عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، آخر قائد مُعَيَّن في المعركة، انفرط عِقد المسلمين و"صار المسلمون لا قائد لهم يحفظ نظامهم"3. "وأصبح الموقف الآن خطيراً، ومن الممكن أن يتحوَّل بسهولة إلى ما هو أسوأ، ويؤدي إلى هزيمة تامة للمسلمين"4.
المطلب الرابع: تولي خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - القيادة وانسحابه بالمسلمين: ويدرك ثابت بن أقرم، أخو بني العجلان - رضي الله تعالى عنه1 - هذه الحقيقة، فيحاول تدارك الموقف، ويحتوي خطورته قبل تفاقمها، فيخطف اللواء من يد عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه - قبل أن يسقط أرضاً: [62] "ثُمَّ سعى به حتى إذا كان أمام الناس ركزه، ثُمَّ قال: إليَّ أيها الناس فاجتمع إليه الناس"2. [63] "فقال: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجلٍ منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد"3 - رضي الله تعالى عنه.
"وثابت أبى القيادة، لا نُكُوصاً1 عن الموت، بل شعوراً بوجود الأكفأ منه في الجماعة، وحملانه الراية خشية أن تسقط من آيات الجرأة في هذا الموقف العصيب"2. "ولقد كان خالد عند ظن أصحابه، لمعت عبقريته القتالية في لحظة الامتحان الخطير هذه، فجعل هدفه أن ينسحب بالمسلمين"3. فقد "كانت المهمَّة الأساس المنوطة بخالد في تلك الساعة العصيبة من القتال أن ينقذ المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدَّر الموقف واحتمالاته المختلفة قدراً دقيقاً، ودرس ظروف المعركة درساً وافياً، وتوقع نتائجها، اقتنع بأنَّ الانسحاب بأقل خسارة ممكنة هو الحل الأفضل"4. ولأنَّ "قتال الانسحاب شاق مرهق، وبخصاصة وأنَّ خالد لا يريد إشعار الروم بهذه الخطة"5، "لاحتمال انقلاب الانسحاب إلى هزيمة، والهزيمة كارثة تؤدي إلى خسائر فادحة بالمنهزمين"6. من أجل ذلك رأى القائد الذكي المحنَّك، أنه حتى يؤَمِّن انسحابه من ميدان المعركة بقوَّةٍ وانتظام، وبأقل خسائر، لا بدَّ أن يستخدم
أُسلوب (الهجوم أفضل وسيلة للدفاع) ، فبدأ في "تحقيق هدفه، بأن رسم خطَّةً سعى فيها إلى إيهام العدو أنَ المسلمين لازالوا في أماكنهم يقاتلون، فدفع مقدمتهم إلى مناوشة العدو"1. بينما تحرَّك ببقية الجيش، وأعاد تنظيم قوَّاته، وألَّف مؤخرة قوية لحماية الانسحاب من ميدان المعركة. "لقد كان خالد قائداً ماهراً، محرِّكاً للجيوش لا نظير له، أُلْهِمَ القيادة إلهاماً، فهو يستعين في مواقفها بكُلِّ ما عرفت الحرب من فنٍّ يستخدمه على السليقة2، وعلى البصيرة الملهمة، فدار بالجيش دورةً ضمَّ بها صفوفه، ثُمَّ قاتل به في غير اندفاع، ومع ذلك في غير تراجع، وكان بذاته قدوةً للمسلمين"3. يقول - رضي الله تعالى عنه - واصفاً قوَّة الانسحاب الذي نفَّذه مع المسلمين، وشِدَّة القتال، وضراوته في أثناء الانسحاب، نتيجة ضغط العدوِّ عليهم -: [64] "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلاَّ صفيحة يمانية"4. ولمَّا رأى المسلمون ما يصنعه خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه، ازدادت حميتهم للقتال، واشتعل حماسهم، فهاجموا بعنف على طول
الجبهة، فالمثل الذي ضربه خالد - رضي الله تعالى عنه - لهم قد أثار الحميَّة والشجاعة في صفوف المسلمين، وازدادت المعركة عنفاً1، لدرجة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو يصف أحداث المعركة للصحابة - رضي الله تعالى عنهم - في المدينة: [65] "الآن حمي الوطيس " 2.3. نعم! لقد حمي وطيس المعركة بين الطرفين، حتى إنَّ المسلمين نسوا ما أصابهم بفقدان قادتهم الثلاثة في بداية المعركة: [66] فيندفع قطبة بن قتادة العذري، قائد ميمنة المسلمين، إلى الأمام، فيطعن مالك بن رافلة الأراشي، قائد العرب المتنصرة، حلفاء الروم في المعركة، برمحٍ مضى فيه ثُمَّ انحطم، كما وصف ذلك في شعره الذي قاله مفتخراً بقتله: طعنت ابن رافلة بن الأراشي ... برمحٍ مضى فيه ثُمَّ انحطم ضربتُ على جِيدِه ضربةً ... فمال كما مال غصن السلم4
المطلب الرابع: تولى خالد بن الوليد رضي الله عنه القيادة وانسحابه بالمسلمين
المطلب الرابع: تولى خالد بن الوليد رضي الله عنه القيادة وانسحابه بالمسلمين ... ثُمَّ بدأ خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - بعد ذلك عملية الانسحاب الشاملة من ميدان المعركة، عندما قامت مؤخِّرة المسلمين بقتال التعويق لإحباط مطاردة العدو للمسلمين، وإنقاذ القسم الأكبر من قوات المسلمين من التطويق1. وانتشرت المؤخِّرة على جبهةٍ واسعة، واستطاع خالد - رضي الله تعالى عنه - قطع التماس القريب مع العدوِّ، ولكنه لم يكن بعيداً عن مدى النبال، وكان تراجع المسلمين تحت حماية وابلٍ من سهام النَبَّالة الذين كان على رأسهم النبَّال الإسلامي المشهور [67] "واقد بن عبد الله التميمي2، وكان من أرمى الناس، وقد كبَّر وقال: ارفعوني على ترس3، فرفعوه، فقال: انظروا إلى مواقع نبلي، فإن رضيتم أخبروني، فرمى المشركين حتَّى ردَّهم الله"4.
وعندما تراجع المشركون "جمع خالد قوَّاته، وقطع التماس مع العدوِّ، وانسحب مع قوَّاته بعيداً إلى الخلف، وأصبح الجيشان يواجهان بعضهما خارج مدى النبال، وكان كلاهما يلتمس الراحة وإعادة التنظيم"1. ويذكر ابن الديبع الشيباني، أنَّ خالد بن الوليد - رضي الله تعالى - عنه: [68] "قاتل قتالاً شديداً ودافع عن المسلمين حتى انحاز بهم إلى جبل"2.وكانت تلك فرصة للمسلمين لدفن شهدائهم في المعركة. قال سعيد بن أبي هلال3: [69] "بلغني أنَّهم دفنوا يومئذٍ زيداً، وجعفراً، وابن رواحة في حُفْرَةٍ واحدةٍ"4 كما تمَّ تقسيم أسلاب القتلى من العدوِّ على مقاتليهم، إلاَّ أنَّ خالداً - رضي الله تعالى عنه - استكثر سلب الرومي الذي قتله المَدَدِّيّ، فبعث إليه: [70] "خالد بن الوليد، فأخذ من السلب. قال عوف: فأتيته، فقلت: يا خالد! أما علمت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟!.
الفصل السادس: نتائج المعركة
الفصل السادس: نتائج المعركة المبحث الأول: نقل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في المدينة أحداث المعركة ... المبحث الأوَّل: نقل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه في المدينة أحداث المعركة: كُلُّ تلك الأحداث كانت تجري على أرض المعركة بعيداً في مؤتة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلها بتفاصيلها أولاً بأوَّل مباشرةً لمن كان بالمدينة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم: [73] "فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثُمَّ أخذ جعفر فأُصيب، ثُمَّ أخذ ابن رواحة فأُصيب - وعيناه تذرفان - حتَّى أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله، حتَّى فتح الله عليهم"1. وفي حديث أبي قتادة: [74] "ثُمَّ أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأُمراء، هو أمَّر نفسه، ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إنه سيفٌ من سيوفك فأنت تنصره، فَمِن يومئذٍ سُمِّيَ سيف الله"2. وتلك كانت معجزة نبوية، أطلع الله سبحانه وتعالى من خلالها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على أحداث المعركة، وهو على بُعْد آلاف الكيلومترات عنها عياناً، وكأنه حاضرٌ معهم. يذكر موسى بن عقبة في روايته أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [75] "إنَّ الله - تبارك وتعالى - رفع لي الأرض، حتَّى رأيت معتركهم"3.
وإذا كانت هذه الرواية فيها بعض الضَّعف باعتبار أنَّها مرسلة، فهناك بعض الوقائع المماثلة التي قد تؤيد وقوعها، فهذه المعجزة نظير ما وقع في قصَّة الإسراء، حيث قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: [76] "لَمَّا كذَّبتني قريش قمت في الحِجْر، فجلَّى الله ليَ بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه"1.
المبحث الثاني: تحرك النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سريعآ لإمداد أهل مؤتة
المبحث الثاني: تحرُّك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سريعاً لإمداد أهل مؤتة: كان الروم وحلفاؤهم قد أحجموا عن مطاردة المسلمين نتيجة تلك المناورة الذكية التي قام بها خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - في ميدان المعركة، ولكنَّ الذي زادهم إحجاماً ورعباً، تلك المناورة الأذكى من مبتكر المناورات الذكية الذي سمَّى: [77] "الحربَ خدعة"1. القائد الأعلى للقوات الإسلامية، رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ما أن وصله الخبر مباشرةً عن أحداث المعركة بواسطة الوحي الإلهي، حتَّى أمر المسلمين في المدينة - بعد أن قصَّ عليهم الخبر - كما أسلفنا - بالتحرُّك سريعاً لإمداد المسلمين في مؤتة، حيث قال - كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه -: [78] "انفروا، فأمدُّوا إخوانكم ولا يتخلَّفَنَّ منكم أَحَد، فنفروا في حَرٍّ شديدٍ، مشاةً وركبانا، وذلك في حَرٍّ شديدٍ"2. وإذا كان خبر تحرُّك المسلمين سابقاً من المدينة نحو مؤتة، قد وصل إلى مسامع الروم وحلفائهم بسرعة فائقة، مكَّنتهم من الاستعداد لهم
المبحث الثالث: شهداء المسلمين في المعركة وقتلى العدو
المبحث الثالث: شهداء المسلمين في المعركة، وقتلى العدو: وهكذا أُسدِل الستار على تلك المعركة العظيمة، وفقد المسلمون من رجالهم بضعة عشر شهيداً، بالإضافة إلى القادة الثلاثة - رضي الله تعالى عنهم - أجمعين. هذا وقد اختلفت المصادر في تسمية بعضهم، بينما اتَّفقت في تسمية الأغلبية منهم، وهذه تسمية مَن اتَّفق عليه أصحاب المغازي منهم: من قريش، ثُمَّ من بني هاشم: جعفر بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه، ثُمَّ زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه. ومن بني عدي بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة - رضي الله تعالى عنه. ومن بني عامر بن لؤي، ثُمَّ من بني مالك بن حسيل: وهب بن سعد بن أبي السرح - رضي الله تعالى عنه. ومن الأنصار، ثُمَّ من بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة - رضي الله تعالى عنه، وعباد بن قيس - رضي الله تعالى عنه. ومن بني مازن بن النجار: سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء - رضي الله تعالى عنه. ومن بني غنم بن مالك بن النجار: الحارث بن النعمان بن أسامة بن نضلة بن عبد عوف - رضي الله تعالى عنه 1.
هؤلاء هم الذين اتفق عليهم أهل المغازي، أمَّا المختلف فيهم فهم كالتالي: زاد ابن هشام، نقلاً عن ابن شهاب الزهري: أبا كليب، أو كلاب، وأخاه جابر، ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول، وهما لأب وأم. وهما من بني مازن بن النجار. ومن بني مالك بن أفصى: عمرو، وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعيد بن عامر بن ثعلبة1. وزاد موسى بن عقبة2، وابن سعد3، وابن الكلبي4، والزبير بن بكار5: هبار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي6.
وزاد موسى بن عقبة أيضاً: عبد الله بن الربيع الأنصاري. ومن بني رزيق: معاذ بن ماعص. وقال الشامي: ووقع في نسخة من مغازي موسى بن عقبة: أنَّ الذي استشهد بمؤتة، أخاه عبَّاد1. وزاد ابن سعد، والعدوي، وابن جرير الطبري2: زيد بن عبيد بن المعلَّى الأنصاري3. [80] وزاد ابن إسحاق، كما في الإصابة، وجزم به في الزَّهر4: عبد الله بن سعيد بن العاص بن أُمية5. [81] وزاد البلاذري، والكلبي: الهوبجة بن بجير بن عامر بن سفيان بن أُسيد بن زائدة بن حصين، الضبِّي6. "أمَّا العدو فلا توجد معلومات عن مقدار خسارته، ولكنَّها لا شكَّ كانت جسيمة، لأنَّ كُلَّ قائدٍ من قادة المسلمين الذين تولَّوا القيادة
المبحث الرابع: الخلاف في نتيجة المعركة
المبحث الرابع: الخلاف في نتيجة المعركة: اختلف أهل المغازي حول نتيجة مؤتة اختلافاً كبيراً، وثمرة هذا الخلاف ثلاثة أقوال: [83] القول الأوَّل: إنَّ المسلمين هَزموا الروم هزيمة منكرة في مؤتة. وهذا القول أشار إليه الزهري، فيما رواه عنه الطبراني1، ونقله عنه ابن هشام بلاغاً2، وهو اختيار موسى بن عقبة3، ورواه ابن عائذ بسنده عن العطَّاف بن خالد4، ورجَّحه البيهقي5، وابن كثير6.
84] القول الثاني: إنَّ الروم هم الذين هَزموا المسلمين. وجزم به الواقدي1، وكاتبه ابن سعد2، وقال به طائفة من المستشرقين3، ومن تبعهم من المستغربين وغيرهم من بعض الباحثين
[المعاصرين1. [85] القول الثالث: انسحاب خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه بالمسلمين - بعد تولِّيه القيادة - من ميدان المعركة بعد قتالٍ قويّ ومرير، ثُمَّ إحجام الروم عن مهاجمة المسلمين بعد خطَّته الإيهامية الذكية بتغييره مراكز الجيش، ومِن ثَمَّ انسحاب كُلّ طرف عن الآخر دون قتال. وهذا القول وردت به رواية حسنة إلى شاهد عيان من المعركة2، وهو اختيار محمَّد بن إسحاق3، ورواه ابن عائذ بسنده عن
رجلٍ من بني سلامان1، وابن عبد البر2، وابن حزم3، وابن سَيّد النَّاس4، ورجَّحه ابن القيم5، واعتمده معظم المؤرِّخين المعاصرين. وهذا القول وسط بين القولين السابقين، وهو الراجح فيما يبدو لي لعدَّة اعتبارات، فهو قول غالبية أهل المغازي كما رأينا. كما أنَّ القول بهزيمة المسلمين غير صحيح لثلاثة أُمور: أولاً: الروايات في ذلك ضعيفة، فهي عن الواقدي، وتلميذه ابن سعد الذي يعدّ في غالب الظَّن ناقلاً عن شيخه، والواقدي متروك خاصّةً إذا انفرد. ورواية أبي موسى التي ذكرها ابن سعد ضعيفة أيضاً. ثانياً: مخالفة هذه الروايات لرواية الصحيح، وقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه: ففتح الله عليهم. ثالثاً: قلة قتلى المسلمين في المعركة، وعدم وقوع أسرى منهم في أيدي العدو، وكل ذلك يخالف ما يكون عليه المنهزم عادةً في المعركة. أيضاً القول بهزيمة الروم وحلفائهم في المعركة، غير صحيح، لثلاثة أسباب:
أولاً: لو أنَّ المسلمين هَزموا الروم وحلفاءهم في مؤتة، لاشتهر ذلك، وذاع صيته، ولتواتر تواتراً يُؤمن بجانبه الكذب، وبخاصّةً أنَّ أوَّل مواجهة قتالية بين المسلمين والروم كما كانت بدر أوَّل مواجهة قتالية بين المسلمين والمشركين، وقد تواترت نتيجتها، وذاع صيتها، وبلغ صداها أرجاء الجزيرة العربية. ثانياً: وقوع عدد كبير من الأسرى في أيدي المسلمين، وذلك ما لم تذكره الروايات. ثالثاً: طرد الروم وحلفائهم من المناطق التي كانت خاضعة لسلطانهم في منطقة مؤتة، وما حولها، وإخضاعها لنفوذ المسلمين، وذلك لم يحدث، حيث استمر الروم وحلفاؤهم في المنطقة يُشَكِّلون تهديداً للمسلمين، بدليل بَعْث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سرايا وبُعُوث إلى تلك المنطقة بعد مؤتة، ثُمَّ مسيره صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس جيش العُسْرة إلى تبوك. إذاً القول الراجح: هو أنَّ سيف الله المسلول، خالد بن الوليد رضي الله عنه قام "بعملية انسحاب بارعة دلَّت على مهارته الحربية الفائقة"1. ولقد "كانت عملية التراجع والانسحاب التي قام بها خالد بن الوليد في أثناء معركة مؤتة من أكثر العمليات في التاريخ العسكري مهارةً ونجاحاً"2.
"ومثل هذا التدبير من خالد، ليس بالعمل الميسور الذي يستطيعه كُلّ قائد، بل هو عمل عظيم جسيم يتطلَّب مهارةً وحزماً، ورباطة جأش، وثقةً بنصر الله، وكثيراً ما عرف التاريخ قُوَّاداً عِظاماً كان السر في شهرتهم إنجاء جيوشهم من مثل هذا الموقف الحرج الذي لو اختلَّ أقل تدبير فيه لفني الجيش"1، ولكن خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - كان له قصب السِّبْق في ذلك، فعلى الرغم من ضغط القوَّات المتحالفة على المسلمين بشدَّة، وكثرة كاثرة، استطاع ذلك البطل أن ينظم انسحاباً قوياً ناجحاً دون أدنى خسائر تُذْكَر، مع الإثخان في العدو، وهو أمر يخالف ما جرت به العادة من أنَّ المنسحِب هو الذي في الغالب يتكبَّد الخسائر، فلمَّا صار العكس وأفلت خالد - رضي الله تعالى عنه - بجيشه من قبضة العدوّ رغم تشديدهم الضغط عليهم، اعتبره المصطفى صلى الله عليه وسلم فتحاً، بل نصراً مؤزَّراً، استحق عليه اللقب الذي قلَّده إياه القائد الأعلى للقوَّات الإسلامية، وهو الذي شاهد أحداث المعركة عِياناً بواسطة النقل الإلهي. "ولقد عرف له الرسولُ صلى الله عليه وسلم حسن تدبيره"2، "ونجاحه في الانسحاب بجيشه بانتظام دونما خسارة تذكر"3، "فلقَّبه سيف الله وهو وسام لم يمنحه أحَد من الصحابة"4، "بل هو أوَّل وسام يمنح لقائد في
تاريخ الإسلام"1، بل في التاريخ البشري عامة، "ولعلَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم كان أسبق من غيره، في تقدير القوَّاد العِظام"2. "ولعمري مهما أجاد الإنسان في وصفه ومدحه، فلن يصفه بأحسن ولا بأوفى مِمَّا وصفه به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "3. لقد "مضى خالد بلقب سيف الله في مؤتة، والذين يدَّعون ذلك كثيرون، أمَّا الذي يملك الشهادة من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحده في الدُّنيا هو خالد بن الوليد"4. أخرج الحاكم، وصحَّحه، عن الشعبي، عن عبد الله بن أبي أوفى: "أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تُؤذوا خالداً، فإنه سيفٌ من سيوفِ الله صبَّه على الكُفَّار"5. "إنَّ الجماعة المسلمة بحاجةٍ أنْ تُفْقَه معادن الرجال، وتضع الرجال في مواضعهم وهي تخوض معركتها مع العدوّ"6.
المبحث الخامس: ردة فعل أهل المدينة لنتيجة المعركة
المبحث الخامس: ردة فعل أهل المدينة لنتيجة المعركة: "لقد صمد المسلمون في معركة مؤتة صموداً هو أروع ما يصنع الإيمان الصادق، وقد دفع المسلمون الثمن غالياً دونما شك، تمثَّل هذا الثمن الغالي بصورةٍ رئيسية في مصرع قادة الجيش الرئيسيين الثلاثة، الواحد بعد الآخر، وبأُسلوبٍ تمثَّلت فيه أرقى معاني البطولة، واسترخاص الأرواح في سبيل الله"1. وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصف بطولتهم، واسترخاصهم أرواحهم في سبيل الله، ومدى غبطتهم وسرورهم بمصيرهم بما "رأوا من فضل الشهادة"2 بقوله: [86] "وما يسرهم أنَّهم عندنا"3. "إنَّ روعة المقاومة الإسلامية في معركة مؤتة التاريخية، والتي يسرت للمسلمين انسحاباً منظَّماً مشرفاً بعد ذلك الصدام الهائل، انسحاباً يمثِّل في واقعه أعلى درجات الانتصار بالنسبة لظروف المعركة الصعبة"4. وتكفينا هنا شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصف ذلك الانسحاب القوي بالفتح والدلالة التي تعلو على الريب في هذه المعركة.
إنَّ شجاعة المسلمين وبسالتهم بلغتا حداً كبيراً، وقد أكسبهم هذا الروح العالي إقداماً حقَّر أمامهم كبرياء الأُمم التي عاشت مع التاريخ دهراً تصول وتجول لا يوقفها شيء1. "إنَّ الاستهتار بالخطر، والطيران إلى الموت ليس فروسية احتكرها الرجال المقاتلون وحدهم، بل هي قوَّة غامرة قاهرة تعدَّت الرجال إلى الأطفال، فأصبحت الأمة كلها أُمة كفاح غالٍ عزيز، وحسبك أنَّ جيش مؤتة لَمَّا عاد إلى المدينة قابله الصبيان بصيحات الاستنكار، يقولون: يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله؟! إنَّ أولئك الصِّغار الأغرار يرون انسحاب خالد ومَن معه فِراراً يُقابل بحثو التراب. أي جيل قوي نابه هذا الجيل الذي صنعه الإيمان بالحق؟!.. أي نجاح بلغته رسالة الإسلام في صياغة أولئك الأطفال العظام؟!.. مَن آباؤهم؟!.. مَن أُمَّهاتهم؟!.. كيف كان الآباء يُرَبُّون؟!.. وكيف كانت الأمَّهات يُدَلِّلْن؟!.. إنَّ مسلمة اليوم بحاجة ماسّة إلى أن تعرف هذه الدروس"2. "وحين ترتفع الوتيرة الإيمانية لدى الفتيان الناشئين في الجيل الإسلامي إلى هذا المستوى، فلا شك أنَّ هذا التغيير هو الكفيل بتغيير حال المسلمين {إنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم} ، [سورة الرعد: الآية: 11] "3.
وتعيير أهل مؤتة بالفُرَّار لم يكن من الصبيان وحدهم، بل تعدَّاهم إلى بقية النَّاس مِمَّن لم يخرج، وبقي في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد "استنكر المسلمون على الجيش أن يعود من غير أن ينتصر، وعيَّروا رجاله حتى أحرجوا بعضهم"1. أخرج الحاكم بسندٍ صحيحٍ عن أُمِّ سلمة - رضي الله تعالى عنها -: [87] " أنَّها قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصَّلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع المسلمين؟ قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كُلَّما خرج صاح به النَّاس: يا فُرَّار، أفررتم في سبيل الله عزَّ وجلَّ! حتَّى قعد في بيته فما يخرج، وكان في غزوة مؤتة مع خالد بن الوليد"2. وفي اللحظة المناسبة، يتدخَّل القائدُ البصيرُ المُحَنَّك الذي يدرك معنى النَّصر الحقيقي، ويدرك ظروف وملابسات معركة مؤتة، وما أبداه المسلمون فيها من بسالةٍ، وبطولاتٍ حقيقيةٍ أذهلت أعداءهم.
ويدرك ما قام به خالد والمسلمون من تنظيم انسحابٍ رائعٍ ومنظَّمٍ. يتدخَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوةْ ليرُدَّ عن الجيش البطل الشجاع، ويرُدَّ على تعيير أهل المدينة لهم بالفُرَّار قائلاً: [88] "ليسوا بالفُرَّار، ولكنَّهم الكُرَّار إن شاء الله تعالى"1. ويأمر سلمة وغيره مِمَّن تحرَّج من تعيير المسلمين بالخروج إلى الصَّلاة دون حرج، ودون وجل، فهم أبطال كُرَّار على العدوِّ إن شاء الله تعالى، وليسوا فُرَّاراً. وحتَّى يُرَسِّخ هذه الحقيقة في نفوس الجميع، اجتمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع الجيش وقائده البطل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقام عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، فقصَّ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: [89] "قصة المددي، وما فعل خالد. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟ " قال: يا رسول الله! لقد استكثرته. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد! رُدَّ عليه ما أخذت منه". قال عوف: فقلت له: دونك يا خالد، ألم أفِ لك؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: وما ذلك؟ فأخبرته. فغضب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "2. [90] "فقال: لا تعطه يا خالد! هل أنتم تاركون لي أُمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجلٍ استرعى إبلاً وغنماً فرعاها ثُمَّ تحيَّن سقيها، فأوردها حوضاً فشرعت فيه، فشربت صفوه وتركت كدره، فصفْوُهُ لكم، وكَدَره عليهم"3.
المبحث السادس: حزن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قتلى مؤتة: وهكذا دافع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن خالد وأصحابه، وكرَّمهم في أكثر من مناسبة، ولكنَّه مع ذلك قد وَجِدَ على مَن استشهد منهم، فكما رأينا سابقاً كيف وَصَفَ للنَّاس حادث استشهادهم، وعيناه تذرفان بأبي هو وأُمِّي، - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. كذلك تُحَدِّثنا أُم المؤمنين، أم عبد الله، عائشة - رضي الله تعالى عنها - فتقول: [91] "لَمَّا جاء قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، - رضي الله عنهم، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فيه الحُزْن، قالت عائشة: وأنا أطَّلِع من صائر الباب - تعني مِن شِقّ الباب - فأتاه رجل، فقال: إي رسول الله! إنَّ نساء جعفر1.. وذكر بكاءهُنَّ، فأمره أن ينهاهُنَّ ... "2. ثُمَّ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمر أهله، فقال: [92] "اصنعوا لأهل جعفر طعاماً فإنَّهم قد جاءهم ما يشغلهم"3.
غَداة مَضَواْ بِالْمُؤْمِنِينَ يَقُودُهُم ... إلى المَوْتِ مَيْمُون النَّقِيبَةِ أَزْهَرُ6 أغرٌّ كَضَوْءِ البَدْرِ مِن آلِ هَاشِمٍ ... أَبِيٌّ إذَا سِيمَ الظَّلامَةَ مُجْسِرُ7 فَطَاعَنَ حَتَّى مَالَ غَيْرَ مُوَسَّدٍ ... بِمُعْتَرَكٍ فِيهِ القَنَا مُتَكَسِّرُ8 فَصَارَ مَعَ المْسْتَشْهِدِينَ ثَوَابه ... جِنَانٌ وَمُلْتَفُّ الْحَدَائِقِ أَخْضَرُ9
المبحث السادس: حزن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قتلى مؤتة
المبحث السادس: حزن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قتلى مؤتة ... قال عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما: [93] "ثُمَّ أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثُمَّ قال: ائتوني ببني أخي، فجيء بنا، كأنَّا أفراخ1، فقال: ادعوا إليَّ الحلاَّق، فجيء بالحلاَّق فحلق رؤوسنا، ثُمَّ قال: أمَّا مُحَمَّدٌ فشبيه عمنا أبي طالب، وأمَّا عبد الله فشبيه خَلْقِي وخُلُقي، ثُمَّ أخذ بيدي فأشالها2، فقال: اللَّهُمَّ اخلف جعفراً في
الفصل السابع: الأحكام المستنبطة والدروس المستفادة من الغزوة
الفصل السابع: الأحكام المستنبطة والدروس المستفادة من الغزوة المبحث الأول: الأحكام المستنبطة ... المبحث الأوّل: الأحكام المستنبطة: قال ابن حجر: "وفي الحديث جواز تعليق الإمارة بشرط"1". وقال العامري، قال في التوشيح: "يؤخذ منه جواز ولاية الوظائف تعليقاً، وهو دليلٌ قويٌّ جداً2". وقال ابن حجر: "وفيه جواز تولية عدّة أمراء بالترتيب، وقد اختلف: "أتنعقد الولاية الثانية في الحال أم لا؟ والذي يظهر أنها في الحال تنعقد، ولكن بشرط الترتيب". وقيل: "تنعقد للأول فقط، وأما الثاني فبطريق الاختيار". واختيار، الإمام مقدم على غيره لأنه أعرف بالمصلحة العامّة3". وفيه جواز التأمّر في الحرب بغير تأمير. قال البيهقي: "وفيه دلالة على أنّ الناس إذا لم يكن عليهم أمير، ولا خليفة أمير، فقام بإمارتهم مَنْ هو صالح للإمارة، وانقادوا له، انعقدت ولايته4". وذكر البغوي - نقلاً عن الخطّابي: "أنّ خالد بن الوليد تأمّر عليهم بعد ما أصيب الأمراء، من غير تأمير من النبيّ صلى الله عليه وسلم لمكان الضرورة، وذلك أنه نظر فإذا هو في ثغر مخوف لم يأمن فيه ضياع المسلمين، فأخذ
الراية، وتولّى أمر المسلمين، ورضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار هذا أصلاً في كلّ أمر حدث ممّا سبيله أن يتولاّه الأئمّة، ولم يشهدوه، وخيف عليه الضياع، إنّ القيام به واجبٌ على من شهده من جماعة المسلمين، وإن لم يتقدّم منهم في ذلك، وكذلك إن وقع ذلك في واحدٍ خاصٍّ، نحو أن يموت رجلٌ بفلاة، فإنّ على من شهده حفظ ماله وإيصاله إلى أهله، وإن لم يوص به، كما يجب تكفينه وتجهيزه، لأنّ أمر الدّين على التّعاون والتّناصح1". وفيه جواز الاجتهاد في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم 2". وفيه فضيلة ظاهرة لخالد بن الوليد رضي الله عنه، حيث سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيف الله، ولم يزل يعرف بهذا الاسم فيما بعد3". أمّا عقر جعفر - رضي الله تعالى عنه - لفرسه، فاختلف في حكمه، فقد علّق أبو داود على حديث عقر جعفر - رضي الله تعالى عنه - لفرسه في المعركة بقوله: "ليس هذا الحديث بالقوي4، وقد جاء نهي كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب البهائم وقتلها عبثاً5".
قال السّهيلي: "وأمّا عقر جعفر فرسه، ولم يعب ذلك عليه أحد، فدلّ على جواز ذلك إذا خيف أن يأخذها العدو، فيقاتل عليها المسلمين، فلم يدخل هذا في باب النهي عن تعذيب البهائم وقتلها1". وقال الشامي: "واختلف العلماء في الفرس يعقره صاحبه لئلاً يظفر به العدوّ، فرخّص فيه مالك، وكره ذلك الأوزاعي، والشافعي واحتجّ الشافعي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل عصفوراً فما فوقه بغير حقّه، يسأله الله تعالى عن قتله". واحتجّ بنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلاّ لمأكله، قال: "وأمّا أن يعقر الفرس من المشركين فله ذلك، لأن ذلك أمر يجد به السبيل إلى قتل مَن أمر بقتله2". وقال ابن كثير: "وقد استدل من جواز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به العدوّ - كما يقول أبو حنيفة - في الأغنام إذا لم تتبع في السير، ويُخشى من لحوق العدوّ وانتفاعهم بها أنّها تُذبح وتحرق ليُحال بينهم وبين ذلك". والله أعلم3". وقال ابن قدامة: "ويقوى عندي أنّ ما عجز المسلمون عن سياقه وأخذه، إن كان مِمَّا يستعين به الكُفّار في القتال، كالخيل، جاز عقره وإتلافه، لأنّه مِمَّا يحرم إيصاله إلى الكُفّار بالبيع، فتركه لهم بغير عِوَض أولى
بالتحريم، وإن كان مِمَّا يصلح للأكل فللمسلمين ذبحه والأكل منه مع الحاجة وعدمها، وما عدا هذين القسمين لا يجوز إتلافه؛ لأنّه مجرّد إفساد وإتلاف، وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكله1". وفي الحديث: "الحكم باستشهاد القادة الثلاثة - رضي الله تعالى عنهم، فهم مِمَّن يقطع لهم بالجنّة، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وذكر ذلك ابن كثير2". وفي حديث الجناحين اللذين أثابهما الله عز وجل جعفراً رضي الله عنه عنه بدلاً من يديه اللتين قُطِعَتا، اختلف في معنى الجناحين، أهما على الحقيقة أم لا؟ ". قال ابن حجر: "روى النسفي عن البخاري أنه يقال لكلّ ذي ناحيتين جناحان، وأنّه أشار إلى أنّ الجناحين في هذه القصّة ليسا على ظاهرهما3". وقال السهيلي: "وممّا ينبغي الوقوف عليه في معنى الجناحين أنّهما ليسا كما يسبق إلى الوهم على مثل جناحي الطّائر وريشه، لأنّ الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، وفي قوله - عليه السلام:"إنّ الله خلق آدم على صورته"، تشريف له عظيم، وحاشا لله من التّشبيه والتّمثيل، ولكنها عبارة عن صفة ملكية، وقوة روحانية، أعطيها جعفر كما أعطيتها
الملائكة، وقد قال الله تعالى لموسى: {اضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جِنَاحِكَ} [سورة طَه، الآية: 2] . فعبّر عن العضد بالجناح توسعاً، وليس ثَمَّ طيران، فكيف بمن أعطي القوة على الطيران مع الملائكة أخليق إذاً أن يوصف بالجناح مع كمال الصّورة الآدمية، وتمام الجوارح البشريّة، وقد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة: "ليست كما يتوهم من أجنحة الطير، ولكنّها صفات ملكية لا تفهم إلاّ بالمعاينة، واحتجوا بقوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاع} . [سورة فاطر، الآية: 1] . فكيف تكون كأجنحة الطير على هذا، ولم ير طائر له ثلاثة أجنحة ولا أربعة، فكيف بستمائة جناح كما في صفة جبريل - عليه السلام، فدلّ على أنّها صفات لا تنضبط كيفيتها للفكر، ولا ورد - أيضاً - في بيانها خبر، فيجب علينا الإيمان بها، ولا يفيدنا علماً إعمال الفكر في كيفيتها، وكلّ امرئ قريب من معاينة ذلك1". قال ابن حجر: "هذا الذي جزم به في مقام المنع، والذي نقله عن العلماء، ليس صريحاً في الدلالة لما ادعاه، ولا مانع من الحمل على الظاهر إلاّ من جهة ما ذكره من المعهود، وهو من قياس الغائب على الشاهد، وهو ضعيف، وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأنّ الصورة باقية، وقد روى البيهقي في الدلالة من مرسل عاصم ابن عمر بن قتادة: "أنّ جناحي جعفر من ياقوت، وجاء في جناحي جبريل أنهما من لؤلؤ، أخرجه ابن منده في ترجمة ورقة2".
وفي حديث المدديّ، وقصَّته مع خالد رضي الله عنه، من الفقه، كما ذكر الخطابي: "أنَّ الفَرَس مِن السَّلْب، وأنّ السَّلْبَ قليلاً كان أو كثيراً؛ فإنّه للقاتل لا يُخَمَّس، ألا ترى أنّه أمر خالداً بردّه عليه مع استكثاره إيَّاه، وإنَّما كان ردّه إلى خالد بعد الأمر الأوّل بإعطائه القاتل نوعاً من النكير على عوف1، وردعاً له وزجراً لئلاَّ يتجرأ الناس على الأئمة، ولئلاَّ يتسرعوا إلى الوقيعة فيهم، وكان خالد مجتهداً في صنيعه ذلك، إذ كان قد استكثر السَّلْبَ، فأمضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهاده لِمَا رأى في ذلك من المصلحة العامّة بعد أن كان خطَّأَه في الرأي الأوّل، والأمر الخاصّ مغمور بالعامّ، واليسير من الضرر محتمل للكثير من النفع والصلاح، ويشبه أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عوَّض المَدَدِيَّ من الخُمُس الذي هو له، وترضَّى خالداً بالصَّفْحِ عنه، وتسليم الحكم له في السَّلب2". وقال النووي: "وهذا الحديث قد يستشكل من حيث إنّ القاتل قد استحقّ السلب، فكيف منعه إيّاه؟! ". ويجاب عنه بوجهين: أحدهما: "لعلّه أعطاه بعد ذلك للقاتل، وإنّما أخّره تعزيزاً له، ولعوف بن مالك، لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد رضي الله عنه، وانتهكا حرمة الوالي ومن ولاّه".
الوجه الثّاني: "لعلّه استطاب قلب صاحبه فتركه صاحبه باختياره، وجعله للمسلمين، وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد رضي الله عنه للمصلحة في إكرام الأمراء1". وفي الحديث - أيضاً - دليلٌ على أنّ نسخ الشيء قبل الفعل جائز، ألا ترى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بإمساكه، قبل أن يردّه، فكان في ذلك نسخ لحكمه الأوّل، ذكره الخطّابي2". ويستفاد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نعى زيداً، وجعفراً، وابن رواحة، قبل أن يأتيهم الخبر" ... الحديث. جواز الإعلام بموت الميت، ولا يكون ذلك من النعي المنهي عنه، قال ابن المرابط: "النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمّة لما يترتّب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته، وتهيئة أمره، والصلاة عليه، والدّعاء له، والاستغفار، وتنفيذ وصاياه وما يترتّب على ذلك من الأحكام". وأمّا نعي الجاهليّة: "فقال سعيد بن منصور: "أخبرنا ابن علية، عن ابن عون قال: "قلت لإبراهيم: "أكانوا يكرهون النعي؟ قال نعم".
قال ابن عون: "كانوا إذا توفي الرجل ركب رجل دابة، ثُمَّ صاح في النّاس: "أنعى فلاناً"، وبه إلى ابن عون قال: قال ابن سيرين: "لا أعلم بأساً أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه". وحاصله أنّ محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يُشَدِّد في ذلك حتى: "كان حذيفة إذا مات له الميّت يقول: "لا تؤذنوا به أحدّاً، إنّي أخاف أن يكون نعياً، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُذُنَيَّ هاتين ينهى عن النعي". أخرجه الترمذي، وابن ماجه بإسنادٍ حسنٍ". قال ابن العربي: "يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى: إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح، فهذا سُنة. الثانية: دعوة الحفل للمفاخرة، فهذه تكره. الثالثة: الإعلام بنوعٍ آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يَحْرُم1. وفي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم النّاس بمصاب أهل مؤتة، علم ظاهر من أعلام النُّبوّة2". وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي ذكرت فيه ظهور الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عرف بمصاب أصحابه في مؤتة من الفوائد: بيان ما هو الأولى بالمصاب من الهيئات، ومشروعية الانتصاب للعزاء على هيئته، وملازمة الوقار والتثبُّت".
ويؤخذ منه - أيضاً: "أنّ ظهور الحزن على المصاب إذا أصيب بمصيبة لا يخرجه عن كونه صابراً راضياً إذا كان قلبه مطمئناً، بل قد يُقال: "إنّ مَن كان ينْزعج بالمصيبة ويعالج نفسه على الرضا والصبر أرفع مرتبة مِمَّن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلاً، أشار إلى ذلك الطبري1". وفي حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصنع طعام لآل جعفر، فيه ندب تهيئة طعام لأهل الميّت، والإلحاح عليهم في أكله لئلا يضعفوا بتركه2". قال السهيلي: "وهذا أصل في طعام التعزية، وتسميه العرب الوضيعة"3". قال ابن إسحاق: "سمعت عبد الله بن أبي بكر يقول: "لقد أدركت الناس بالمدينة إذا مات لهم ميّت، تكلّف جيرانهم يومهم ذلك طعامهم، فلكأني أنظر إليهم قد خبزوا خبزاً صغاراً، وصنعوا لحماً، فجُعِل في جفنة، ثُمّ يأتون به أهل الميّت، وهم يبكون على ميِّتهم، مشتغلين، فيأكلونه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله حين أُصيب جعفر: "لا تغفلوهم أن تصنعوا لهم طعاماً يومهم هذا، ثُمَّ إنّ الناس تركوا ذلك"4.
قال ابن الهمام في فتح القدير شرح الهداية: "يُستحب لجيران أهل الميّت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام لهم يشبعهم ليلتهم ويومهم، ويكره اتّخاذ الضيافة من أهل الميّت، لأنّه شرع في السرور لا في الشرور، وهي بدعة مستقبحة". انتهى. ويؤيّده حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: "كُنّا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعه الطعام من النياحة". أخرجه ابن ماجه، وبوّب له باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميّت وصنعة الطعام". وهذا الحديث سنده صحيح ورجاله على شرط مسلم، قاله السندي".وقال - أيضاً -:قوله:"كُنّا نرى" هذا بمنْزلة رواية إجماع الصحابة أو تقرير من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى الثاني فحكمه الرفع، وعلى التقديرين فهو حُجّة". وبالجملة فهذا عكس الوارد، إذ الوارد أن يصنع الناس الطعام لأهل الميّت، فاجتماع الناس في بيتهم حتّى يتكلّفون لأجلهم الطعام قلب لذلك، وقد ذكر كثيرٌُ من الفقهاء أنّ الضيافة لأهل الميّت قلب للمعقول1
لأنّالضيافة حقّاً أن تكون للسرور لا الحزن1". في حديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما -، وقوله: "ثُمَّ أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثُمّ أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم". قال ابن كثير: "وهذا يقتضي أنّه - عليه الصلاة والسلام - أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام، ثُمَّ نهاهم عنه بعدها2". أمّا بالنسبة للمراثي3 التي قيلت في أهل مؤتة، فيؤخذ منه جواز رثاء الميّت، وقد رثت فاطمة - رضي الله عنها - أباها صلى الله عليه وسلم، ورثاه غيرها، وفعله كثيرٌ من الصحابة - رضي الله عنهم -، وغيرهم من العلماء - رحمهم الله -، وما ورد من النهي عنها محمول على ما يظهر فيه تبرم أو على فعله مع الاجتماع له، أو على الإكثار، أو على ما يجدد الحزن4".
قلت: "ومما يدلّ على جوازه أيضاً هو فعل الصحابة له في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث رثى الشعراء من الصحابة أمثال حسَّان بن ثابت رضي الله عنه، وغيره شهداء بدر، وأُحُدٍ، وغيرهما من الغزوات والسرايا دون اعتراض من النبيّ صلى الله عليه وسلم، مِمَّا يعدّ تقريراً لذلك". والله تعالى أعلم".
المبحث الثاني: الدروس المستفادة
المبحث الثّاني: الدروس المستفادة: الوصايا التي تزود بها جيش مؤتة: لقد كانت التوصيات التي تزوّد بها جيش مؤتة من القائد الأعلى للقوات الإسلامية صلى الله عليه وسلم تُعَدُّ من أعظم وأرقى قوانين حرب الفروسية المشرفة على مدى التاريخ الإنساني قاطبةً، فلَمْ ولن تعرف أُمّة من الأُمَم السابقة واللاحقة مثل تلك الآداب الحربية التي كان المسلمون يطبّقونها في حروبهم ضدّ أعدائهم، والتي تُعدّ بحقّ وثيقة فعلية تطبيقية لحقوق الإنسان على أرض الواقع، لا على واقع الحبر والورق، وأرفف المنظّمات والهيئات، لقد كان الجندي المسلم يسير بانضباطٍ عجيبٍ، مطَبِّقاً الأوامر والتعليمات الصادرة إليه من رؤوسائه بصورةٍ تلقائية عفوية، لأنّه يعتبر ذلك جزءٌ حيويٌّ من دينه الذي يسعى ويحرص كُلِّ الحرص على تقديم الصورة الصحيحة عنه". وهكذا كان كُلّ جندي من جنود الإسلام الأوائل عبارة عن قدوة صالحة تمثّل الإسلام أصدق تمثيل في كُلّ مكانٍ حلّ به. "لقد أدهشت النتائج السريعة الإيجابية لحركة الفتوح الإسلامية جميع المحلّلين على اختلاف مشاربهم ودياناتهم، ولكن المُحَلِّل المُنْصِف ستزول دهشته حتماً عندما يقرأ تلك التعاليم والوصايا النبوية لقوَّاد وجنود السرايا والبعوث، والتي هي نواة حركة الفتوح الإسلامية، وأصبح الذين شاركوا بالأمس في السرايا والبعوث مشاركين اليوم على رأس تلك الجيوش الفاتحة، مقتدين نفس النهج، سائرين على نفس الطريق الذي رسمه
لهم قائد الأمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى تلك الأوامر والتعاليم النبوية صارت تتكرّر على ألسنة الخلفاء، وقادة جيوش الفتح فيما بعد"1. "لقد كان تطبيق صحابة محمّد صلى الله عليه وسلم هذا الدستور الحربي من أعظم الأسباب التي حبَّبت الإسلام إلى نفوس غير المسلمين، فدخلوا فيه طائعين مختارين مستبشرين، لأنّهم رأوا حقيقة الإسلام متمثلة في سلوك أولئك الأصحاب الكرام الذين ربّاهم القرآن، وأدّبهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم2". تقدم المسلمين لملاقاة عدوّهم رغم معرفتهم المسبقة بكثافتهم العددية والعددية: إنّ تقدُّم المسلمين لملاقاة عدوّهم المتفوِّق عليهم في العدد والعتاد، لأمرٌ يُثير الدهشة فعلاً، وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على ما كان يتمتّع به أولئك القوم من إيمانٍ عظيمٍ وقويٍّ، ذلك الإيمان الذي جعلهم يستصغرون معه عدوّهم، وتنقلب معه موازين المعركة، فأصبح وقوداً أشعل نار الشجاعة والإقدام في نفوسهم، وأوقد الحماس في قلوبهم، وأيقظ كوامن قواهم البشرية المكنونة". نعم! لقد كان الإيمان المتّقِد في جوانح أولئك القوم يجعلهم أُناساً آخرين، فتراهم يطيرون في ساحات الوغى إلى الموت طيراناً، وينقضّون
على أعدائهم، وكأنهم عقبان تُلاحِق فرائسها، كيف لا!؟ وهم يتحسّسون الجنّة ونعيمها، وكأنّهم يرونها أمامهم رأين العين، فيندفعون إليها جارفين أمامهم سدود الأعداء، جاعلين منها طُرُقاً مُمَهَّدة للدخول إليها". لقد تمَّلت هذه الحقيقة واضحة العيان في قتال القادة الثلاثة واندفاعهم بالمسلمين صوب أعدائهم في العمق، حتى أصبحت قصص استشهادهم صوراً رائعة للبطولة، يمكن أن يؤلّف في كلّ واحدةٍ منها كتابٌ مستقلّ". إنّهم فعلاً لا يقاتلون الناس بعددٍ ولا عدّة، كما ذكر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه - القائد الثالث، وإنما يقاتلون بتأييد الله عز وجل لهم، ووعده إيّاهم بالنصر والتمكين، وسواء قُتِلُوا أم غَلَبُوا، فهم في كِلا الحالين فائزون بِرِضَى الله عز وجل عنهم، وموعودون بالأجر العظيم يوم القيامة، قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نَأْتِيْهِ أَجْراً عَظِيماً} . [سورة النساء، الآية: 74] . تموين الجيش الإسلامي، وتسليحه: وضَّحت رواية عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنّ تموين جيش المسلمين كان يعتمد أحياناً على تبرعات الموسرين من المشاركين فيه، وتلك عادة حسنة للعرب في جاهليتهم1، زادها الإسلام قوّةً وتماسكاً حيث كان الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - يتسابقون في الإنفاق في
سبيل الله تعالى باعتبار أنّه جهاد في سبيل الله بالإضافة إلى مجاهدتهم بأنفسهم، وذلك طاعة لله تبارك وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وطلباً للأجر والمثوبة العظيمة من الباري عز وجل. كما وضحّت الرواية كذلك مدى بساطة تسليح المسلمين بالمقارنة مع ما كان عليه الروم وحلفاؤهم من البهرجة والغطرسة والغرور، وتوضح أيضاً مدى بسالة جند الإسلام الأوائل، ومحاولتهم التواؤم مع الظروف، وعدم التسليم للنقص الواضح في عدّتهم وعتادهم، ولكن حسب إمكاناتهم، كما فعل ذلك المَدَدِيّ بصنعه درقة له من جلد الجزور". يقول أبو1 أمامة رضي الله عنه: "لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب والفضّة، وإنما كانت حلية سيوفهم العُلابي، والآنك2 والحديد3".
التقدير والإكرام والإعجاب الذي حظي به جيش مؤتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كان التقدير والإعجاب والإكرام الذي حظي به أهل مؤتة من القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العوامل التي جعلت جيش المسلمين من أنجح جيوش العالم في ذلك الوقت، وأعظمها وأرفعها معنوية". فحين يُقَدِّرُ القائد الجهدَ المبذول، ويعطيه حقّه من التقدير والإعجاب، بل ويُصَحِّح ردود الفعل الخاطئة التي كانت لدى بعضهم تجاه الجيش، لا شكّ أن ذلك يعطي أفراده الراحة النفسية التامّة، بل ويدفعهم إلى مزيدٍ من البذل، ومزيدٍ من العطاء بلا حدود، ومواصلة المشوار بلا تردد". لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيظل للأبد، من أنجح القادة العالميّين على الإطلاق، وستظل مكافآته المعنوية سنية عظيمة، والتي كانت عبارة عن أوسمة رفيعة المستوى والشأن، على صدور حامليها غير مسبوقة، ولا ملحوقة بإذن الله تبارك وتعالى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها". وفي حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: "نلاحظ تأكيد الشارع صلى الله عليه وسلم على مراعاة حُرمة الأمير، والقائد، والإمام ومكانته بين الناس وترك التطاول عليه، وأنّ ذلك مِمَّا يفسد القلوب، ويؤدي بالتالي إلى التنازع المؤدّي للفشل، وفيه من الحض والتأكيد على السمع والطاعة لولاة الأمر مهما كانوا ومهما فعلوا ما لم يأمروا بمعصية".
وأنّهم يستحقون هذا الأمر لكونهم يكابدون مشقّة التّصدّي للأمور الخاصّة بالرّعية من السهر على راحتهم، والدفاع عنهم، يقول النووي: "ومعنى الحديث، أنّ الرعية يأخذون صفو الأمور، فتصلهم أعطياتهم بغير نكد، وتبتلى الولاة بمقاساة الأمور، وجمع الأموال على وجوهها، وصرفها في وجوهها، وحفظ الرعية، والشفقة عليهم، والذّبّ عنهم، وإنصاف بعضهم من بعض، ثُمَّ متى وقع علقة أو عتب في بعض ذلك توجَّه على الأمراء دون الناس"1. لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً حريصاً على أمّته، رؤوفاً بهم، وفي تحذيره إياهم من منازعة أهل الأمر ومخالفتهم، فيه من المصلحة العامّة للأمّة ما لا يخفى إلاّ على المكابر المعاند، أو الجاهل المغرور، لأنّ ذلك مِمَّا يوقع الفتن المهلكة التي تهلك الحرث والنسل، وتكون وبالاً على الأمّة، تُدَمِّر اقتصادها، وتعصف بمجتمعاته الآمنة، ويذهب ضحيتها الأبرياء". مواساته صلى الله عليه وسلم لأسر الشّهداء: كانت مواساة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأسر شهداء مؤتة، ورعايته وعطفه على أبنائهم، لفتةً أبويّةً حانية عطوفة من أبٍ رحيم عطوفٍ مشفقٍ، لا يأل جهداً في التخفيف عن معاناة أولئك وغيرهم من أفراد المجتمع الإسلامي بأسره".
كيف لا! وهو الذي كان يفيض حناناً، وشفقةً، ورحمةً". كيف لا! وهو الذي كانت حياته صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأُمّي تكريساً لهذه الحقيقة". ألم يصفه الباري عز وجل بذلك في القرآن بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُم رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} . [سورة التوبة، الآية: 128] . وكفى بالقرآن دليلاً وشاهداً". الفوائد التي اكتسبها المسلمون من نتائج غزوة مؤتة: لقد "كانت معركة مؤتة استطلاعية أفادت المسلمين كثيراً في معرفة خواص قوّات الروم، وأساليب قتالها، وخواص حلفائها من القبائل، وأساليب قتالهم وقوّتهم، فأفادوا من هذه المعلومات في قتالهم بعد ذلك ضدّ الروم، ولا تعدّ خسائر المسلمين الطفيفة شيئاً يُذْكَر بجانب الفائدة العسكرية التي أفادت من الاطلاع على خواص قوات الروم وحلفائها، وتنظيمهما، وتسليحها، وأساليب قتالها، مِمَّا سترى أثره في المعارك التي خاضها المسلمون فيما بعد1". "وإذا كانت الأمور بنتائجها، والأعمال بخواتيمها، فقد كفى المسلمين ظهوراً على عدوّهم، أنهم تركوا في نفوسهم أثراً من الرهبة، جعلهم يحجمون عن قتالهم، وينكلون عن متابعتهم"2.
"ومهما تكن الخاتمة التي لقيتها غزوة مؤتة فإن نتائجها وآثارها كانت بعيدة المدى، فبينما رأى الروم تلك الغزوة غارة من الغارات التي اعتاد البدو شنّها بين حين وآخر، كانت سرية زيد بن حارثة إلى مؤتة في الحقيقة غزوة من نوع آخر، لم تقدر إمبراطورية الروم أهميتها، فهي حرب منظّمة كانت لها مهمّة جديدة خاصّة، جعلت المسلمين يتطلّعون جدّياً إلى فتح أرض الشام"1. وحقيقةً - كما ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى، قد كانت مؤتة إرهاصاً لما بعدها من غزو الروم، وإرهاباً لأعداء الله ورسوله2.
الباب الثالث: السرايا والبعوث النبوية الشمالية بعد غزوة مؤتة
الباب الثالث: السرايا والبعوث النبوية الشمالية بعد غزوة مؤتة الفصل الأول: سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل المبحث الأول: مسمى السرية ومكانها المطلب الأول: مسمى السرية ... المطلب الأوّل: مُسَمَّى السّرية: اختلف أهل المغازي، واللغويّون، البلدانيون، في سبب تسمية السّرية، وضبط الاسم. قال ابن إسحاق في روايته: [1] : "حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له: السلسل، وبذلك سُمِّيَت تلك الغزوة، غزوة ذات السلاسل"1. وتابعه في ذلك ابن سيد الناس2، والسهيلي3. وقيل: السلاسل بسينين مهملتين، الأولى مفتوحة، وجزم به أبو عبيد
البكري1، وياقوت2، وصاحب القاموس3، والثانية مكسورة، اللام مخففة، وقال ابن الأثير: "بضم السين الأولى4، وقال في زاد المعاد: بضم السين وفتحها لغتان"5. قال الشامي: "وصاحب القاموس مع اطلاعه لم يحك في الغزوة إلاّ الفتح6، وعبارته: السلسل، كجعفر وخلخال، الماء العذب أو البارد كالسلاسل بالضمّ. ثُمَّ قال: وتسلسل الماء جرى في حدور، والسلسلة اتّصال الشيء بالشيء، والقطعة الطويلة من السنام، ويُكسر، وبالكسر دائر من حديد ونحوه، والسلاسل رمل يتعقّد بعضه على بعض وينقاد، وثوب مسلسل فيه وشيء مخطّط، وعزوة ذات السلاسل"7.
وقال ابن حجر: "قيل: سُمِّيَ المكان بذلك لأنّه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة1، وضبطها ابن الأثير بالضمّ، وقال: هو بمعنى السلسال أي: السهل2، وقيل: لأنّ بها ماء يقال له السلسل3، وقيل: سُمِّيَت ذات السلاسل لأنّ المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفرّوا"4. قال الحلبي: [2] "ولخالد بن الوليد رضي الله عنه في زمن الصّديق غزاة مع أهل فارس، يُقال لها: ذات السلاسل، لكثرة من تسلسل فيها من الشجعان خوف الفرار، فقتلوا عن آخرهم، لأنّ السلاسل منعتهم الهزيمة، وبعث خالد بن الوليد بالسلاسل إلى الصِّدّيق رضي الله عنه والله أعلم"5.
قلت: ولعلّ سبب تسميتها بذلك أظهر، فإنّ تسلسل الروم والفرس في معاركهم ضدّ المسلمين تكرّر في أكثر من معركة، لعلّ أشهرها في التاريخ معركتان فاصلتان في كلّ جانب، ففي الجانب الرومي تذكر الروايات التاريخية أنّه تسلسل عددٌ كبيرٌ منهم في معركة اليرموك الشهيرة الفاصلة، سقطوا جميعاً في لهب الياقوصة1، كما تسلسل عددٌ ضخمٌ من الفرس في معركة نهاوند الفاصلة والمسمّاة بفتح الفتوح - قُتِلُوا جميعاً في ميدان المعركة - وإن كانت الأرقام التي أوردتها الروايات عن عددهم قد يكون فيها نوعٌ من المبالغة2، ولكن ذلك يعطينا دلالة واضحة على أنّ تلك كانت عادة متبعة في الجيوش البيزنطية، والفارسية3، كما توضح بجلاء أنّ أعداء المسلمين في ذلك الوقت كانوا يبحثون جادّين عن وسيلة قويّة تربط جأشهم، وتقوي عزيمتهم في مواجهة المسلمين الشجعان
في ميادين المعارك الذين كانوا أبطالاً لا يهابون الموت وبسبب تأييد الله عز وجل لهم، ونصره إيّاهم، بالرعب الذي يلقيه في قلوب أعدائهم، ثُمَّ بتحرُّقهم جميعاً في ميادين القتال للشهادة في سبيل الله، وتسابقهم عليها، ولِمَا يعرفون من فضلها العظيم1.
المطلب الثاني: مكانها، أو الجهة التى توجهت إليها السرية
المطلب الثّاني: مكانها، أو الجهة التي توجَّهت إليها السّرية: اختلفوا كذلك في مكانها، قال ابن سعد: [3] هي وراء وادي القرى، وبينها وبين المدينة عشرة أيّام1. [4] وهي أرض بني عذرة، كما ذكر ابن إسحاق2، وفي روايته عند البيهقي: [5] ذات السلاسل من أرض بليّ3، وعذرة4. وذكر البخاري عن ابن إسحاق، عن يزيد عن عروة قال: [6] هي بلاد بليّ، وعذرة، وبني القين56. وكذلك ذكره الواقدي نحوه7، ونقل البخاري، والبكري عن ابن
أبي1 خالد في كتابه: (صحيح التاريخ) قال: [7] : "هي غزوة لخم وجذام"2. أمّا موسى بن عقبة فيذكر أنّ: [8] "ذات السلاسل من مشارف الشام في بليّ، وسعد الله3، ومن يليهم من قضاعة"4. وشذّ الزهري فذكرهما: [9] "بعثين إلى كلب5، وغسَّان6، وكُفَّار العرب الذين كانوا
بمشارف الشام"1. وذكر الشعبي أن المسلمين أُمروا: [10] "أن يغيروا على بكر2، فانطلق عمرو، فأغاروا على قضاعة، لأنّ بكراً أخواله"3 4.
كذلك شذّ الطبراني في روايته عن رافع بن عمرو الطائي1، فذكر: [11] "أنّ أهل السّرية نزلوا جبل طيء"2. وذكر البلادي أنّه لم يستطع أحد تحديد مكان هذه السّرية، ورجّح أن تكون في بلاد بني عذرة، لقربها من بلان جران العود التي ذكرها في شعره، كما أنّه حدّد ديار بين عُذرة بين وادي القرى "وادي العُلا اليوم" إلى تبوك، إلى تيماء، وتقرب من خيبر"3.
قلت: وهذه القبائل التي ذكرها أهل المغازي، هي قبائل متجاورة، كونها من بطون من قبيلة واحدة هي قبيلة قضاعة، وربّما تحالفت هذه القبائل فيمابينها، واجتمعت لمحاربة المسلمين في تلك المنطقة. والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني: سبب السرية
المبحث الثّاني: سبب السّرية: اختلف الواقدي، وابن اسحاق - وهما مَن تحدَّثا عن سبب سرية ذات السلاسل - فيها، فبينما يذكر ابن إسحاق: [12] أنها كانت لاستنفار العرب إلى الشام، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بليّ باعتبار "أنّ أُمّ العاص بن وائل كانت امرأة من بليّ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يستألفهم بذلك"1. يذكر الواقدي، وتابعه ابن سعد: [13] أنّ السّرية كانت بسبب المعلومات الهامّة التي وصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحرّكات العدوانية النشطة لقبائل بليّ وقضاعة، واستعداداتهم للهجوم على أطراف الدولة الإسلامية2. بينما يذكر بعض الباحثين المعاصرين لها أسباباً أُخَر، فهي كانت لتأديب الأعراب في تلك الناحية3، والأخذ بثأر المسلمين من القبائل التي اشتركت في غزوة مؤتة ضدّهم4.
كما ذكر بعضهم أنّه بناءً على نتيجة غزوة مؤتة، كان لزاماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستردّ هيبة المسلمين، ويُعِيد إليهم كرامتهم في تلك البلاد1. وسواء قَصَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تأديب الأعراب، وصدّ عدوانهم على أطراف الدولة الإسلامية عندما بلغته أخبار حشودهم وتحرُّكاتهم، فتحرّك بسرعة لضربهم قبل استكمال استعداداتهم القتالية، كما هي عادته صلى الله عليه وسلم دائماً مع أعدائه، أم أراد الثأر من القبائل العربية المنتصرة الحليفة للرومان، والتي شاركت إلى جانبهم في مؤتة، أو غير ذلك من الأسباب التي ذُكِرَت قديماً وحديثاً، فإنّ السبب الحقيقي وراء ذلك كُلِّه هو إعلاء كلمة الله عز وجل في تلك البقاع، ونشر الدعوة الإسلامية، بعد إزاحة القوى السياسية والعسكرية التي كانت تقف حجر عثرة في وجه نشر الإسلام في المنطقة. والقبائل العربية المنتصرة والحليفة للدولة البيزنطية كانت من تلك القوى، وكانت تقوم بتحرّكات مشبوهة ونشاطات معادية للمسلمين في المنطقة الشمالية من الجزيرة على أطراف الدولة الإسلامية، وبخاصّة بعد مؤتة، فكان لا بُدَّ من ردعها وإخضاعها لسيطرة المسلمين، لأنّ المسلمين - أيضاً - كانوا في وضع استعدادي متناسق ومتدرِّج لمنازلة الدولة البيزنطية، إحدى القوَّتين العظميين في ذلك الوقت، لوضع حدٍّ لسلطانهم، والقضاء على قوّتهم العسكرية والسياسية المناهضة لنشر الإسلام في المنطقة. والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث: تاريخ السرية
المبحث الثّالث: تاريخ السّرية: قال الشامي: "ذكر الجمهور1، ومنهم: ابن سعد أنّها كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان"2. وقال ابن حجر: "وقيل: سنة سبع"3. وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب: (صحيح التاريخ) ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنّها كانت بعد غزوة مؤتة4، إلاّ ابن إسحاق فقال: "قبلها". قلت: وهو قضية ما ذُكِر عن ابن سعد وابن أبي خالد"5. قال الشامي: "أمّا قضية ما ذُكِرَ عن ابن سعد فغير واضح، فإنّ ابن سعد قال: كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان، وذَكَر في غزوة مؤتة أنّها كانت في جمادى الأولى سنة ثمان، وأمّا ما نقل ابن إسحاق فالذي في رواية زياد البكائي، تهذيب ابن هشام، عن ابن إسحاق، تأخُّر غزوة ذات
السلاسل عن مؤتة بِعِدَّة غزوات وسرايا، ولم يذكر أنّها كانت قبل مؤتة فيحتمل أنّه نصَّ على ما ذكره ابن عساكر في رواية غير زياد"1. قلت: ما ورد في رواية زياد البكائي عن ابن إسحاق، عند ابن هشام، لا يُعَدُّ في التقديم والتأخير، لأنّه ذكر السّرية في جملة المغازي والسرايا آخر كتاب المغازي2. ولم يُسلسلها تاريخاً، كما فعل في بقية المغازي والسرايا الأخر. أمّا رواية غير زياد التي أشار إليها الشامي فهي رواية يونس بن بكير التي أخرجها كُلٌّ من ابن عساكر والبيهقي بسنديهما عنه، فإنّه لم يذكر فيها تاريخاً لها3. والله تعالى أعلم. ولم يؤرِّخ لها الواقدي أيضاً، وذلك خلاف عادته، بل ذكرها مباشرة بعد مؤتة4. وقال ابن كثير: "ذكرها الحافظ البيهقي قبل غزوة الفتح"5.
[14] وذكر الزهري في روايته: أنّ البعثين كانا بعد رجوع أهل الحبشة1. هذا بالنسبة لأهل المغازي. أمَّا ما يفهم من الأحاديث التي وردت عن السرية، ففي حديث عليّ بن رباح2، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال فيه: [15] "قلت: يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ". الحديث3.
يُفْهَم منه أنّه صلى الله عليه وسلم بعثه بعد إسلامه مباشرة، قال ابن حجر: "وهذا فيه إشعار بأنّ بعثه عقب إسلامه، وكان إسلامه في أثناء سنة سبع من الهجرة"1. أمّا حديث الحارث2 بن حسَّان الذي فيه: [16] "خرجت أشكو العلاء3 بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " الحديث. إلى أن قال: "فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاصٌّ بأهله4، وإذا راية سوداء تخفق، وبلال متقلِّد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهاً ... ". الحديث5.
فهذا الحديث يُفْهَم منه أنّ بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه كان في أثناء فترة ولاية العلاء بن الحضرمي على البحرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكّة، كما يذكر ابن إسحاق1. ويُفهم من قول أبي رافع الطائي - في آخر حديثه الذي أخرجه الطبراني: [17] "فمكثت سنة، ثُمَّ إنّ أبا بكر استخلف ... " الحديث2. أنّ تاريخ بعث السرية كان متأخراً جداً. والله تعالى أعلم. قال الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية، مُعَلِّقاً على الأقوال التي ذُكرت حول إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثُمَّ تأميره على ذات السلاسل: "فيكون تأمير عمرو عقب إسلامه بنحو أربعة أشهر على ما صدّر به
المصنّف1 فيما مرَّ أنّه كان في صفر سنة ثمان، وفي الشامية أنّ بعثه كان بعد سنة من إسلامه2 وهم إنّما يأتي على قول الحاكم: أسلم سنة سبع"3. قلت: اختلف أهل العلم في وقت إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقيل: إنّه أسلم قبل الفتح في صفر سنة ثمان4، وقيل: بين الحديبية وخيبر5. وقيل: بل أسلم قبل ذلك في الحبشة على يدي النجاشي، ولكنه كتم إسلامه حتى وفد على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبيل الفتح مع خالد بن الوليد رضي الله عنه6. ورجّح ابن عبد البرّ، وابن حجر القول الأوّل7.
قلت: وبذلك يترجّح ما ذكره ابن سعد، وغيره من أنّ تاريخ السرية كان في جمادى الآخرة سنة ثمان. والله تعالى أعلم. ويفهم من الأحاديث التي ذكرت أنّ أصحاب السرية أصابهم برد شديد، وأنّهم أرادوا إشعال نارٍ لتدفئتهم، ولكنّ عمرو بن العاص رضي الله عنه منعهم من ذلك خوفاً أن يرى العدوّ قِلَّتهم. وكذلك الأحاديث التي ذكرت أنّ القائد عمر بن العاص رضي الله عنه أصابته جنابة في إحدى الليالي، ثُمَّ صلّى بأصحاب السرية دون أن يغتسل خوفاً على نفسه من شِدَّة البرد1. كلّ ذلك يعطينا دلالة واضحة على أنّ بعث السرية كان في فصل الشتاء، وشهر جمادى الآخرة الذي ذكره أصحاب المغازي تاريخاً لخروج السرية هو من أشهر فصل الشتاء في الأغلب. والله تعالى أعلم.
المبحث الرابع: عدد الجيش، وقائده
المبحث الرّابع: عدد الجيش، وقائده: لَم يُحَدِّد عدد الجيش غير الواقدي، وكاتبه ابن سعد في روايته: حيث قالوا: [18] وبعثه في ثلثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ومعه ثلاثون فرساً وأمره أن يستعين بمن يمرّ به من بليّ وعذرة وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلمّا قرب من القوم بلغه أنّ لهم جمعاً كثيراً، فبعث رافع1 بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجرَّاح في مائتين، وعقد له لواءً وبعث معه سراة المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر"2. [19] وذكر الواقدي مثله، إلاّ أنه سمَّى بعض أفراد الجيش، فمن المهاجرين: عامر3 بن ربيعة، وصهيب4 بن سنان، وسعيد5 بن
زيد بن عمرو بن نفيل، وسعد1 بن أبي وقاص، ومن الأنصار: أُسيد2 بن حضير، وعبَّادة3 بن بشر، وسلمة4 بن سلامة، وسعد5 بن عبادة. وورد عنده اسم رافع الطائي، وعوف بن مالك الأشجعي، ورافع ابن مَكِيث الجهني، من خلال سياق الأحداث، بينما لم تحدِّد بقية الروايات عدد الجيش، وإنّما تردَّد فيها أسماء بعض المشاركين في السّرية، مثل أبي
بكر الصّديق، وعمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجرّاح، والمغيرة1 بن شعبة، ورافع الطائي، وعوف بن مالك، - رضي الله عنهم أجمعين. أمّا قائد الجيش، فقد ورد في رواية الزهري السابقة: [20] أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثين إلى كلب، وغسَّان، "وأمّر على أحد البعثين أبا عبيدة بن الجرّاح، وأمّر على البعث الآخر عمراً ابن العاص، فانتدب في بعث أبي عبيدة أبا بكر وعمر، فلمّا كان عند خروج البعث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة وعمراً، فقال: لا تعاصيا، فلمّا فصلا من المدينة خلا أبو عبيدة بعمرو، فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ وإليك أن لا تعاصيا، فإمّا أن تطيعني، وإمّا أن أطيعك. فقال: لا بل أطعني، فأطاع أبو عبيدة، وكان عمرو أميراً على البعثين كليهما"2. وذكر الشعبي في روايته: [21] أنّه بعثٌُ واحدٌ مقسومٌ قسمين: مهاجرين، وأعراب، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل "أبا عبيدة على المهاجرين، واستعمل عمر بن العاص على الأعراب"3.
وذلك وهمٌ غير محفوظ، فالمعروف من روايات أهل المغازي الآخرين، كعروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، وابن سعد، والواقدي، وغيرهم، أنّ قائد السرية ابتداءً كان عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأنّ أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه أُرْسِلَ مدداً له فيم بعد على رأس المهاجرين، وفيهم أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنّ أبا عبيدة سلّم القيادة بعد ذلك لعمرو خشية الفرقة بين المسلمين، تنفيذاً لأمر القائد الأعلى للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربّما دخل الوهم على أحد رواة الحديثين السابقين1، لأنّه لم يتصوّر أن يتأمّر عمرو بن العاص وهو أقلّ سابقة على المهاجرين الأوّلين، أمثال أبي بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجرّاح، - رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فاختلط عليه الأمر فجعلهما جيشين بقائدين أُرْسِلا معاً في وقتٍ واحدٍ. وما عُرِفَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدِّقّة في التنظيم والحرص الشديد دائماً على عملية الضبط العسكري والانضباط بين جنوده في جيوشه وبعوثه وسراياه، وعدم تركه المجال للاختلافات المؤدية للفوضى والفشل واحتمالات الخطأ والصواب، كلّ ذلك يجعلنا نستبعد فرضية حدوث مثل ذلك الأمر. والله تعالى أعلم.
وكونه صلى الله عليه وسلم يولي قيادة الجيش مَن هو أقلّ سابقة وفضلاً من الصحابة، فذلك لا يدلّ على أنّه أفضل منهم، ولكنّه ربّما رأى عليه السلام بثاقب بصر العسكري المُحَنَّك أنّه أعلم منهم في الحرب ومكائدها. أخرج الحاكم بسنده عن بريدة الأسلمي1 رضي الله عنه قال: [22] "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن العاص في غزوة ذات السلاسل، وفيهم أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما، فلمّا انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن لا ينوروا ناراً، فغضب عمر، وهمّ أن ينال منه، فنهاه أبو بكر رضي الله عنه وأخبره أنّه لم يستعمله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليك إلاّ لعلمه بالحرب ... " الحديث2.
كما أخرج البيهقي من حديث يونس، عن أبي معشر1، عن بعض مشيختهم: [23] "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّي لأُؤَمِّر الرجل على القوم فيهم مَن هو خير منه، لأنّه أيقظ عيناً، وأبصر بالحرب"2. وأخرج البيهقي - أيضاً - عن أبي عثمان النهدي3 قال: سمعت عمر بن العاص يقول: [24] : "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر، فحدّثت نفسي أنّه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلاّ لمنْزلةٍ لي عند. فأتيته حتى قعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله! 1 نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني، أبو معشر، مولى بني هاشم، مشهور بكنيته (ضعيف) من السادسة، أسنَّ واختلط، مات سنة سبعين ومائة. (تقريب 559) . 2 أخرجه البيهقي (دلائل4/400) ،وسنده فيه ضعف، وجهالة، وانقطاع. والله تعالى أعلم. 3 عبد الرحمن بن مُلّ - بلام ثقيلة والميم مثلثة - أبو عثمان النّهدي - بفتح النون وسكون الهاء - مشهور بكنيته (مخضرم) من كبار الثانية (ثقة، ثبت، عابد) مات سنة خمس وتسعين، وقيل: بعدها، وعاش مائةوثلاثين سنة. وقيل: أكثر. (تقريب351) .
مَن أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قلت: إنّي لست أسألك عن أهلك. قال: فأبوها. قلت: ثُمَّ مَنْ؟ قال: عمر. قلت: ثُمَّ مَنْ؟ حتى عدّد رهطاً. قال: قلت في نفسي: لا أعود أسأل عن هذا"1.
المبحث الخامس: سير الأحداث
المبحث الخامس: سير الأحداث: في شتاءٍ باردٍ عام ثمانٍ من الهجرة النبوية المباركة، وفي شهر جمادى الآخرة منه - كما حدّده أكثر أهل المغازي1 - بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه. [25] "فقال: خُذ عليك ثيابك وسلاحك ثُمَّ ائتني"2. قال عمرو رضي الله عنه: [26] "فأتيته وهو يتوضّأ، فصعّد فيَ النظر، ثُمَّ طَأطأ، فقال: إنّي أُريد أن أبعثك في جيشٍ فيُسَلِّمك الله ويُغَنِّمك، وأرغب لك من المال رغبةً صالحة، قال: قلت: يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال. ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا عمرو! نِعْمَ المال الصّالح للمرء الصالح"3. وفي المسجد النبوي الشريف، كما هو المعتاد في مثل هذه الحالة، تَتِمُّ مراسم تولية عمرو بن العاص رضي الله عنه رسميّاً قائداً على الجيش. يُحدَّثُنا الحارث بن حسَّان رضي الله عنه قال: قدمت المدينة:
[27] "فإذا المسجد غاصّ بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وبلال متقلِّد السيف بين يدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن النّاس؟ "1. [28] "قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبعث عمر بن العاص وجهاً"2. وينفرد الواقدي، وابن سعد في تحديد عدد الجيش، فيذكران أنّهم كانوا: "ثلثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرساً"3. ويسرد الواقدي أسماء بعض المشاركين من المهاجرين والأنصار، وبينما وردت أسماء أخر من خلال سياق الأحداث في جميع الروايات4. ويذكر ابن سعد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لعمرٍ لواءً أبيض، وجعل معه راية سوداء: [29] "وأمره أن يستعين بمن يَمُرُّ به من بليّ، وعذرة، وبلقين"5. [30] "وذلك أنّ أمّ العاص بن وائل كانت امرأة من بليّ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يستألفهم لذلك"6. [31] "فسار الليل وكمن النهار. فلمّا قرب من القوم بلغه أنّ لهم جمعاً كثيراً، فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمدّه"7.
[32] "فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين الأوّلين، فانتدب فيهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب في سراة المهاجرين، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح، فأمدّ بهم عمرو بن العاص"1. وقال لأبي عبيدة حين وجّهه: "لا تختلفا"2. ويذكر الواقدي، وابن سعد: أنّهم كانوا مائتين من سراة المهاجرين والأنصار3. [33] "فلمّا قدموا على عمرو قال: أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله أستمده بكم. قال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرو: إنما أنتم مدد أُمْدِدتُ به، فلمّا رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلاً حسن الخُلق، لَيِّن الشكيمة4، سعى لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، وعهده. قال: يا عمرو إنّ آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنّك إن عصيتني لأطيعنّك. فسلّم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص" 5.
[34] وتذكر بعض الروايات1 أنّ ذلك الأمر لم يرق لبعض المهاجرين باعتبار أسبقيتهم للإسلام، ورأوا أن عمرو رضي الله عنه استبدّ بالإمارة دون أبي عبيدة بن الجراّح رضي الله عنه، وأنّه دارت مناقشات حول هذا الموضوع، ولكنّ أبا عبيدة رضي الله عنه وبِمّا عُرِفَ عنه من الحكمة والكياسة، استطاع إقناعهم بالحُسنى بأنّه آثر الطاعة والامتثال لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم خشية الفرقة والفتنة بين المسلمين2. فأطاع الجيش كله لعمرو بن العاص رضي الله عنه، فكان عمرو يُصَلِّي بالناس، وكان الجوّ شاتياً شديد البرودة في تلك المناطق، ويوماً مّا: [35] "أصابهم بردٌ شديدٌ، لَمْ يُرَ مثله، فخرج لصلاة الصّبْح فقال: والله لقد احتلمت البارحة، ولكنّي والله ما رأيت برداً مثل هذا، أهل مرَّ على وجوهكم مثله؟ قالوا: لا. فغسل مغابنه3 وتوضّأ وضوءه للصلاة، ثُمَّ صلَّى بهم". وفي رواية: "فتيمَّم"4
.....................................................................................................
[36] وكان قبل ذلك قد أصدر أوامره بمنع إشعال النيران في المعسكر لمدّة ثلاثة أيام رغم حاجتهم للتدفئة1، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال لأبي بكر: [37] "لِمَ لَمْ يدَع عمرو الناس أن يوقدوا ناراً ألا ترى إلى هذا الذي منع الناس منافعهم؟.فقال أبو بكر: دعه قائماً، ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا لعلمه بالحرب"2. "فهدأ عمر رضي الله عنه "3. وتشير بعض الروايات بأنّ المسلمين: [38] "لقوا العدوّ فهزموهم"4.
بينما يُفصِّل الواقدي، وابن سعد الحديث عن ذلك، فيذكر أنّ عمرو بن العاص رضي الله عنه: [39] "سار حتّى وطئ بلاد بليّ ودوخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم، وبلاد عذرة وبلقين"1. ويمكن تأويل روايةالطبراني عن رافع الطائيرضي الله عنهأنّ المسلمين انطلقوا: [40] "حتّى نزلوا جبل طئ، فقال عمرو: انظروا إلى رجلٍ دليلٍ بالطريق، فقالوا: ما نعلمه إلاّ رافع بن عمرو، فإنّه كان ربيلاً في الجاهلية"23. - بإمعان المسلمين في طلب القوم حتّى وصلوا إلى تلك المنطقة البعيدة نسبياً عن المنطقة المحدَّدة سلفاً لعمليات السّرية، ويُشير إليه طلب القائد البحث عن دليل بالطريق - ثُمَّ إنّهم لقوا: [41] "في آخر ذلك جمعاً فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرّقوا"4. فنهاهم عمرو رضي الله عنه. [42] "أن يتبعوا العدوّ مخافة أن يكون لهم كمين من وراء الجبل"5.
وتشير رواية الزهري أنّهم: [43] "أسروا ناساً كثيرين من العرب"1. ويبدو أنّ نتيجة ذلك الإمعان في طلب العدوّ وتقصّيهم حتّى آخر بلادهم، نفذ تموين الجيش، يقول عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: [44] "فأصابتنا مخمصة2 شديدة فانْطَلقتُ ألتمس المعيشة فالتَقَيتُ قوماً يريدون أن ينحروا جزوراً لهم، فقلت: إن شئتم كفيتكم نحرها وعملها وأعطوني منها، ففعلتُ فأعطوني منها شيئاً فصنعته، ثُمّ أتيت عمرو بن العاص فسألني مِن أين هو؟ فأخبرته. فقال: أسمعك قد تعجّلت أجرك، وأبى أن يأكله، ثُمّ أتيت أبا عبيدة بن الجرّاح فأخبرته، فقال لي مثلها، وأبى أن يأكله، فلمّا رأيت ذلك تركتها"3.
وبعد أن أدّت السرية مهمّتها على أكمل وجهٍ، رجع عمرو بن العاص رضي الله عنه بالجيش قافلاً إلى المدينة، وكان قد: [45] "بعث عوف بن مالك الأشجعي بريداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشّره بما فتح الله عليهم"1. قال عوف: [46] "فلمّا قفل الناس من ذلك السفر كنت أوّل قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئته وهو يصلّي في بيته. فقلت: السلام عليك يا رسول الله
ورحمة الله وبركاته"1. [47] "قال: صاحب الجزور، ولم يزد عليَّ شيئاً"2. وتلك معجزة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر له خبر الجزور، قبل أن يتكلم ويخبره عن خبرهم في تلك السّرية. وأثناء عودة الجيش إلى المدينة، وفي الطريق أراد رافع الطائي رضي الله عنه - دليل المسلمين في السرية - أن يصحب رجلاً صالحاً من أفرادها ينفعه الله به، فتوسّم في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه خيراً، فصحبه، يقول رافع: [48] "فوفّق لي أبو بكر فكان يُنَيِّمني على فراشه، ويلبسني كساء له من أكسية فدك"3.
[49] "فلمّا دنونا من المدينة قافلين قال: قلت: يا أبا بكر! إنّما صحبتك لينفعني الله بك، فانصحني وعلّمني. قال: لو لم تسألنِ ذلك لفعلت"1. [50] "قال: أتحفظ أصابعك الخمس؟ قلت: نعم. قال: تشهد ألاّ إله إلاّ الله، وأن محمّداً عبده ورسوله، وتقيم الصلوات الخمس، وتؤتي الزكاة إن كان لك مال، وتحجّ البيت، وتصوم رمضان. حفِظت؟ قلت: نعم. قال: وأخرى لا تُؤَمَّرَنَّ على اثنين. قلت: هل تكون الإمرة إلاّ فيكم أهل بدر؟ قال: يوشك أن تفشو حتّى تبلغك ومَن هُو دونك، إنّ الله لَمَّا بعثَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم دخل الناس في الإسلام، فمنهم من دخل فهداه الله، ومنهم مَن أكرهه السيف، فهم عوّاذ الله2، وجيران الله في خفارة الله3، إن الرجل إذا كان أميراً فتظالم الناس بينهم فلم يأخُذ لبعضهم من بعض، انتقمَ الله منه. إنّ الرجل لتُؤخذ شاة جاره فيظل ناتئ عضلته4 غضباً والله من وراء جاره"5.
[51] "قال: ففارقته على ذلك"1. فلمّا قدموا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [52] "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وجدتم عمراً وصحابته لكم، فأثنوا عليه خيراً، وقالوا: يا رسول الله! صلّى بنا وهو جنب، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو فسأله، فأخبره بذلك وبالذي لقي مِنَ البرد، فقال: يا رسول الله! إنّ الله قال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} . [سورة النساء، الآية: 29] . ولو اغتسلت مُت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو"2. [53] كما ذكروا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ما صنعه عمرو بن العاص رضي الله عنه من منعه إيّاهم إشعال النيران في معسكرهم رغم البرد الشديد، وحاجتهم للنار في التدفئة، ومنافعهم الأخرى، وشكوا إليه - أيضاً - منعه إيّاهم إتباع العدوّ رغم هزيمته وفراره3. [54] "فقال: يا رسول الله إنّي كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا ناراً فيرى عدوّهم قِلتّهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفوا عليهم، فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره. فقال: يا رسول الله!
من أحبّ الناس إليك؟ قال: لِمَ؟ قال: لأُحبَّ مَنْ تُحبّ. قال: عائشة. قال: من الرجال؟ قال: أبو بكر"1. قال عمرو رضي الله عنه: [55] "قلت: ثُمَّ مَنْ؟ قال: عمر. فعدّ رجالاً فسكتُّ مخافة أن يجعلني في آخرهم"2.
المبحث السادس: الأحكام المستنبطة، والدروس المستفادة
المبحث السّادس: الأحكام المستنبطة، والدّروس المستفادة: قال ابن حجر: وفي الحديث جواز تأمير المفضول على الفاضل، إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية، ومنقبة لعمرو بن العاص لتأميره على جيش فيهم أبو بكر وعمر، وإن كان ذلك لا يقتضي أفضليته عليهم، لكن يقتضي أنّ له فضلاً في الجملة1. ونقل ابن حجر، والزرقاني عن رافع الطائي قال: وهذه الغزوة هي الغزوة التي يفتخر بها أهل الشام2. وقال ابن حجر - أيضاً: وفي الحديث مزية أبي بكر على الرجال، وبنته عائشة على النساء3. وقال النووي: وفيه دلالة تنبيه لأهل السُّنّة في تفضيل أبي بكر، ثُمَّ عمر على جميع الصحابة4. قلت: كان الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - يعرفون هذا الأمر جيِّداً، ومتداوَلٌ بينهم، حتّى إنّ الشّباب من صغار الصحابة كانوا يُفَاضلون بين الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقدّمون أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلا يُنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري
في الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: "كُنَّا نخيّر بين الناس في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فنخيّر أبا بكر، ثُمّ عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنهم "1. ونقل البيهقي عن الشافعي أنّه قال: "أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر، ثُمّ عمر، ثُمّ عثمان، ثُم عليّ"2. وفي قصّة رافع الطائي رضي الله عنه يظهر جليّاً تميُّز الصّدّيق رضي الله عنه في هيئته، ومظهره، وتعامله مع الناس، ذلك التميّز الواضح القويّ لاحظه رافع، فاختاره صاحباً له من بين جميع أفراد السرية، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على المواهب العظيمة التي حباها الله عز وجل لذلك الرجل العظيم. حيث عرف الناس فضله وتميُّزه، سواء القريبون منه في مجتمع المدينة الذين كانوا يرون بأعينهم، ويسمعون بآذانهم، ويلاحظون بحواسهم، تقديم المصطفى صلى الله عليه وسلم له وتفضيله إيّاه، وحديثه الدائم عنه عن أعماله الخَيِّرة في خدمة الإسلام منذ اللحظة التي صدّق فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. أخرج البخاري في الصحيح حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الذي فيه: فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله ... " الحديث3.
أو الذين يرافقونه في البعوث والسرايا من الإعراب، فيلاحظون ذلك التميُّز المُلْفِت للنظر لشخصية الصِّدِّيق رضي الله عنه من خلال ما يرونه ويتوسّمونه فيه من خلال الخير، وأعمال البِرِّ، وحُسن الخُلُق، وكرامة المظهر، وحُسن التعامل، كما حدث هذا في هذه السرية، والله تعالى أعلم. وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه وأنّه صلّى بأصحابه وهو جُنُب لخوفه من شدّة البر. قال ابن حجر: "وفي هذا الحديث جواز التيمّم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاك سواء كان لأجل البرد أم غيره1. وقال الخطابي: "وفيه من الفقه أنّه جعل عدم إمكان استعمال الماء كعدم عين الماء، وجعله بمنْزلة مَن خاف العطش ومعه ماء، فأبقاه لشقته وتيمّم خوف التلف، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فشدّد فيه عطاء ابن أبي رباح وقال: يغتسل وإن مات، واحتجّ بقوله: {وَإِنْ كُنْتُم جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} . [سورة المائدة، الآية: 5] . وقال الحسن نحواً من قول عطاء. وقال مالك وسفيان: يتيمّم، وهو بمنْزلة المريض وأجازه أبو حنيفة في الحضر وقال صاحباه: لا يجزيه في الحضر، وقال الشافعي: إذا خاف على نفسه مِن شدّة البرد تيمّم وصلّى وأعاد كلّ صلاةٍ صلاّها كذلك، ورأى أنّه من العُذْر النّادر، وإنما جاءت الرّخص التامّة في الأعذار العامّة"2.
وقال ابن حجر أيضاً: "وفي الحديث جواز صلاة المتيمِّم بالمتوضّئين، وجواز الاجتهاد في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم"1. قال ابن القيم: "وقد احتجّ بهذه القصّة مَن قال: إنّ التيمّم لا يرفع الحدث، لأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاه جُنُباً بعد تيمُّمه، وأجاب مَن نازعهم في ذلك بثلاثة أجوبة: أحدها: أنّ الصحابة لمّا شكوه قالوا: صلّى الصُّبحَ وهو جُنُب، فسأله النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقال: "صلّيت بأصحابك وأنت جُنُب؟ " استفهاماً واستعلاماً، فلمّا أخبره بعذره وأنّه تيمّم للحاجة، أقرّه على ذلك. الثّاني: أنّ الرواية اختلفت عنه فُرِويَ عنه فيها أنّه غَسَل مغابنه وتوضّأ وضوءه للصلاة، ثُمّ صلّى بهم، ولم يذكر التيمّم، وكأنّ هذه الرواية أقوى من رواية التيمّم، قال عبد الحقّ: "وقد ذكرها وذكر رواية التيمّم قبلها، ثُمّ قال: وهذا أوصل من الأوّل لأنّه عن عبد الرحمن ابن جبير المصري، عن أبي القيس مولى، عن عمرو، والأولى التي فيها التيمّم من رواية عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص لم يذكر بينهما أبا القيس". الثالث: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يستعلم فقه عمرو في تركه الاغتسال، فقال له: "صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟ ". فلمّا أخبره أنّه تيمّم للحاجة، عَلِمَ فقهه فلم يُنكر عليه، ويدلّ عليه أنّ ما فعله عمرو من
التيمّم - والله أعلم - خشية الهلاك بالبرد، كما أخبر به، والصلاة بالتيمّم في هذه الحال جائزة، غير منكرة على فاعلها، فعلم أنّه أراد استعلام فقهه وعلمه. والله تعالى أعلم1. وفي حديث رافع الطائي-رحمه الله تعالى-،وقصته مع أبي بكر رضي الله عنه تنفيرٌ من التّعرُّض للرياسة، والوعيد لأهلها، وأمرهم بالاستقامة2. وقد وردت في معناه أحاديث كثيرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ رضي الله عنه: "يا أبا ذرّ! أراك ضعيفاً، وإني أُحِبّ لك ما أُحِبّ لنفسي، فلا تأمرنّ على اثنين، ولا تولينّ مال اليتيم". وعنه قال: "قلت: يا رسول الله! ألا استعملني؟ فضرب على منكبي فقال: يا أبا ذرّ! إنّك ضعيف، وإنّها أمانة، وإنّها يوم القيامة حسرة وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها". رواهما مسلم3. قال النووي: "هذا الحديث وما أشبهه أصلٌ عظيمٌ في اجتناب الولايات"4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة". رواه البخاري5.
الفصل الثاني: سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الأكيدر
الفصل الثاني: سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الأكيدر المبحث الأول: تاريخ السرية ... المبحث الأوّل: تاريخ السّرية: ذكرها عروة بن الزبير بعد غزوة تبوك قائلاً: [1] "ولمّا توجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة بعَثَ خالد بن الوليد ... " الخ1. وذكر عروة في نهاية روايته أنّه لمّا سمع عظيم أيلة2 يحنة بن رؤبة بقضية أكيدر دومة، أقبل قادماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحه، فاجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك3. [2] بينما خالفه ابن إسحاق فذكر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعَثَ إلى أكيدر، حينما انتهى إلى تبوك، وبعد مجيء صاحب إيلة، وأهل جربا، وأذرح4
ودفعهم الجزية1. [3] أمّا الواقدي، وابن سعد، فقد أرّخا لها في رجب سنة تسع، وذكراها في سياق خبر غزوة تبوك2. [4] وذكرها خليفة بعد غزوة تبوك في حوادث السنة التاسعة3. قلت: ولا تعارض بين ما ذكره عروة، وابن إسحاق، فإنّ المدّة التي تفصل بين القولين ليست بالطويلة، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يلق حرباً في تبوك، فرُبمّا أرسل إلى الأكيدر بعد وصوله إليها، وتأكُّده أن ليس ثَمَّ عدوّاً فيها يحاربه. والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني: قوة السرية، وقائدها
المبحث الثّاني: قُوَّة السّريّة، وقَائدُها: اتّفق عروة بن الزبير، والواقدي، وابن سعد - وهم الذين ذكروا قوة السريّة - على أنّها كانت بقوّة أربعمائة وعشرين فارساً1. بينما لم يذكر ابن إسحاق في روايته شيئاً عن قوّة السرية. وقد اتّفق الجميع أنّ القيادة المطلقة لهذه السرية كانت بيد خالد بن الوليد رضي الله عنه 2. ولكن البيهقي ذكر في رواية من طريق يونس بن بكير، عن سعد بن أوس القيسي، عن بلال بن يحيى العبسي قال: [5] "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على المهاجرين إلى دومة الجندل، وبعث خالد بن الوليد رضي الله عنه على الأعراب معه"3.
وهذه الرواية شاذّة عمّا ذكر أهل المغازي من قيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه المطلقة للسريّة. قال الشامي: "وَذِكْرُ أبي بكر في هذه السريّة غريبٌ جداً، لم يتعرّض له أحد من أئمة المغازي التي وقفت عليها. فالله أعلم"1. هذا وقد تردّدت أسماء بعض المشاركين في أحداث السريّة من الصّحابة - رضي الله عنهم - في ثنايا الرّوايات التي نقلت أخبار السّرية، وهم: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وعمرو بن أميّة الضمري رضي الله عنه، وكعب بن عجرة رضي الله عنه، وواثلة بن الأسقع الليثي رضي الله عنه، وبلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وبجير بن بجرة الطّائي رضي الله عنه، وعبد الله بن عمرو المزني رضي الله عنه 2.
المبحث الثالث: سير الأحداث
المبحث الثالث: سير الأحداث: وعندما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك على رأس جيش العسرة، فلم يلق كيداً، وكعادته - عليه السلام - في حربه مع أعدائه، أراد أن يستثمر حملته تلك التي نجحت في بث الرعب في نفوس الروم وحلفائهم من العرب المتنصرة، وذلك لإخضاع المنطقة ومن فيها من القبائل العربيّة، والدويلات الموالية للروم التي باتت تشكل حرباً وتهديداً للمسلمين بتحالفها السياسي والعسكري مع البيزنطيين، الذي أثمر بوقوفهم جنباً إلى جنب ضد المسلمين في مؤتة. لذلك جهّز النّبيّ صلى الله عليه وسلم جيشاً من الفرسان، أسند قيادته لفارسٍ مغوارٍ حقّق لتوه نجاحاً منقطع النظير في معركة مؤتة التي دارت أحداثها في محيط المنطقة، ومع نفس العدوّ. ذلكم هو سيف الله المسلول، خالد بن الوليد رضي الله عنه، وصدرت الأوامر النّبويّة العليا لقائد الجيش بأن يتوجّه تلقاء دومة الجندل1.تلك الدويلة الصّغيرة التي كانت تتمتّع باستقلال ذاتي بوسط بلاد كلب، ويملكها الأكيدر بن عبد الملك الكندي الذي كان نصرانياً يدين بالولاء للدولة البيزنطية.
[6] "قال خالد: يا رسول الله! كيف بدومة الجندل وفيها أكيدر، وإنما نأتيها في عصابة1 من المسلمين"2. [7] "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد حتى إذاكان من حصنه منظر العين في ليلةٍ مقمرةٍ صافيةٍ"3.
.......................................................................................................
يرسل الله - تبارك وتعالى - البقر إلى حصن الأكيدر لتخرجه من بين أهله وقومه، وعزه ومنعته، إلى خالد وأصحابه، لتتحقّق المعجزة النّبويّة، ويتحقق صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. [8] "فبينما خالد وأصحابه في منْزلهم ليلاً، إذ أقبلت البقر حتّى جعلت تحتك1 بباب الحصن، وأكيدر يشرب ويتغنى في حصنه بين امرأتيه، فاطّلعت إحدى امرأتيه2 فرأت البقر تحتك بالباب والحائط، فقالت امرأته: لم أر كالليلة في اللحم. قال: وما ذاك؟ فقالت: هذه البقر تحتك بالباب والحائط"3. [9] "هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فمن يترك مثل هذا؟ قال: لا أحد. فنَزل فأمرَ بفرسه فأُسْرِجَ له وركب معه نفرٌ
من أهل بيته فيهم أخٌ له، يُقال له: حسَّان، فخرجوا بمطاردهم"12. ليصيد البقر الذي جاء بنفسه إليهم هذه الليلة خلاف العادة، ولم يَدُر بخَلَد الأكيدر وامرأته، ومَن ركب معه من أهله أنّ ذلك قدراً إلهياً، وأمراً عُلويّاً، ومُعجزة نبويّة أكرم الله بها نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأمدّه بها تأييداً له وتمكيناً على أعدائه. [10] "فلمّا فصلوا من الحصن، وخيل خالد تنظرهم لا يصهل منها فرس ولا يتحرّك"3. فلمّا التقوا: [11] "شدّت عليهم خيل خالد بن الوليد، فاستأسر أكيدر وامتنع أخوه حسان، وقاتل حتّى قُتِلَ وهرب مَن كان معهما، فدخل الحصن"4. [12] "وقال خالد لأكيدر: أرأيتك إن أجرتك تفتح لي دومة؟ قال: نعم. فانطلق حتّى دنا منها"5. "ونادى أكيدر أهله: افتحوا
باب الحصن. فرأوا ذلك، فأبى عليهم مضاد أخو أكيدر"1. [13] "فلمّا رأى ذلك قال خالد: "أيها الرجل! خلّني فلك الله لأفتحنّها لك، إنّ أخي لا يفتحها لي ما علم أنّي في وثاقك. فأرسله خالد، ففتحها له، فلمّا دخل أوثق أخاه وفتحها لخالد. ثُمَّ قال: اصنع ما شئت. فدخل خالد وأصحابه، فذكر خالد رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أمره، فقال له أكيدر: والله ما رأيتها قط جاءتنا إلاّ البارحة - يريد البقر - ولقد كنت أضمّر لها2، إذا أردت أخذها فأركب لها اليوم واليومين، ولكن هذا القَدَر. ثُمَّ قال: يا خالد! إن شئت حكَّمتك، وإن شئت حكّمتني. فقال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت! فأعطاهم ثمانمائة من السبي، وألف بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح"3. "ثُمَّ إنّ خالداً قدم بالأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، وخلّى سبيله، فرجع إلى قريته" 4. ثُمّ [14] "إنّ أكيدر دومة الجندل أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلّة حرير"5.
[15] "فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها. فقال: أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنّة، خير منها وألين"1.
المبحث الرابع: الخلاف في إسلام الأكيدر
المبحث الرّابع: الخِلاف في إسلام الأكيدر: اختلف أهل العلم في إسلام الأكيدر، فذكره أبو نعيم، وابن منده في الصحابة: [16] "وذكر أنّه أسلم وأهدى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم حُلّة سيراء1، فوهبها لعمر"2. قال ابن حجر: "وعمدة ابن منده في أنّه أسلم، ما أخرجه من طريق بلال بن يحيى عن حذيفة، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إلى دومة الجندل، فقال: إنّكم ستجدون أكيدر دومة خارجاً، ثُمَّ ذكر حديث إسلامه، كذا وقع فيه. وقد رويناه في زيادات المغازي من طريق يونس بن بكير، عن سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى قال: [17] "بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المهاجرين إلى دومة الجندل، وبَعَثَ خالد بن الوليد على الأعراب معه. وقال: انطلقوا فإنّكم ستجدون أكيدر دومة يقتنص الوحش، فخذوه أخذاً فابعثوا به إليَّ ولا تقتلوه، فمضوا، وحاصروا أهلها، فأخذوه فبعثوابه إليه"3.
ولم يذكر في هذه القصة أنّه أسلم. وروى أبو يعلى، وابن شاهين، من طريق عبيد الله بن إياد بن لقيط، سمعت أبا إياد يحدّث عن قيس بن النعمان السكوني، قال: [18] "خَرَجَت خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع بها أكيدر دومة الجندل، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بلغني أنّ خيلكَ انطلقت، وإنّي خفت على أرضي ومالي، فاكتبوا لي كتاباً لا يعرضون في شيءٍ هو لي، فإنّي أقرّ بالذي هو عليَّ مِنَ الحقّ، فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ إنّ أكيدر أخرج قباء من ديباج منسوج بالذهب، مِمَّا كان كسرى يكسوهم. فقال: يا رسول الله! اقبل هذا مني هذا فإنّي أهديته لك. فقال: ارجع بقبائك فإنّه ليس أحد يلبس هذا في الدنيا إلاّ حُرِمَه في الآخرة، فرجع به إلى رحله حتّى منْزله، ثُمَّ إنّه وجد في نفسه أن يرُدَّ عليه هديته. فرجع، فقال: يا رسول الله! إنّا أهل بيت يشقّ علينا أن تُرَدَّ هديتنا، فاقبل مني هديتي. فقال: ادفعه إلى عمر. فذكر القصة"1.
فلعلّ مستند من قال إنّه أسلم، قوله في هذاالحديث:"يارسول الله"1. ثُمَّ قال ابن حجر: "فتمسَّك ابن منده لكونه أسلم بروايته، وفيها نظر، وقد ذكر ابن إسحاق قصّته في المغازي، قال: [19] "حدّثنا يزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك - رجل من كندة - وكان على دومة، وكان نصرانياً، فقال: إنّك ستجده يصيد البقر. فذكر القصّة مطوّلة وفيها: فقتل خالد حسّاناً أخا أكيدر، وقدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن دمه وصالحه على الجزية، وخلّى سبيله، فرجع إلى مدينته "2. وكذلك ذكر القصّة نحو هذا عروة في المغازي في رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، فعلى هذا فقدومه المدينة في رواية قيس بن النعمان كان بعد ذلك3. قلت: قال ابن حجرفي سياق ترجمة قيس بن النعمان: وقد أخرج البخاري، والحاكم في المستدرك من طريق عبيد الله بن إياد عن لقيط، عن أبيه قال: حدّثناقيس بن النعمان، وكان قدقرأ القرآن على عهدعمر، قال:
[20] "أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأهديت له، فأبى ذلك، فقلت: إنّا قوم يشقّ علينا أن نردّ الهدية"1. وهذه الرواية وإن كانت مختصرة، ففيها إشارات وقرائن على كونها قد تكون اختصاراً للحديث السابق، من ذلك مثلاً: السند المتطابق تماماً، وتطابق قول الأكيدر، وقول قيس حول الهدية، وقد ذكر محمّد حميد الله نصّ الحديث مصحّصاً اسم الذي انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّه قيس بن النعمان2، وهو المصدر الذي أخذ عنه محمّد حميد الله، فلا أدري مِن أين جاء بهذا التصحيح، وهل له علاقة برواية قيس السابقة أم لا؟ فبذلك يتّضح أنّ ذكر الأكيدر في الرواية وَهَمٌ. والله تعالى أعلم. والعجب أنّ ابن حجر لم يُعَلِّق على هذا التشابه في الروايتين رغم ذكره لهما في كتابٍ واحدٍ، وهو الإصابة. ومِمَّن وقع في كلامه ما يدل على أنّ الأكيدر أسلم: الواقدي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، فقد انفردا بذكر تفاصيل كتاب ذكرا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كتبه للأكيدر، قال الواقدي: حدّثني شيخ من أهل دومة الجندل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب هذا الكتاب:
[21] "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من مُحَمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله، في دومة الجندل وأكنافها، وأنّ لنا الضاحية1 من الضّحل2،
والبور1، والمعامي2، وأغفال الأرض3، والحلقة، والسلاح، والحافر4، والحصن، ولكم الضامن من النخل5، والمعين6 من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم7، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات8. تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقّها، عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصّدق والوفاء، شهد الله ومَن حضر من المسلمين"9. ورواه أبو عبيد بنصّه في كتابه: (الأموال) وقال: [22] "أمّا هذا الكتاب فأنا قرأت نسخته وأتاني به شيخ هناك مكتوباً في قضيم10، صحيفة بيضاء، فنسخته حرفاً بحرف"11.
قال الحلبي تعليقاً على هذا الكتاب: "وهذا كما لا يخفى يدل على أنّ أكيدر أسلم، أي: وهو الموافق لقول أبي نعيم، وابن منده، بإسلامه وأنّه معدودٌ من الصحابة1. قلت: أبو عبيد ثقة، وهو والواقدي متعاصران2، ويلاحظ التشابه الكبير بين نصّي الكتاب عندهما، فربّما يكون مصدرهما واحداً، وهو ذلك الشيخ الجندلي، وهو شيخٌ مجهولٌ لم يصرح كلّ منهما باسمه أو تعديله، فلا يمكن القطع بصحّة الكتاب الذي أراهما إيّاه وأنّه هو كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأكيدر. والله تعالى أعلم. قال ابن حجر: "وقال أبو السعادات بن الأثير أخو مصنّف أُسد الغابة: مِنَ الناس مَنْ يقول: إنّ أكيدر أسلم، وليس بصحيح"3. قلت: وقال أخوه أبو الحسن - مُصنِّف أُسد الغابة: "أما سرية خالد فصحيح، وإنما أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لا اختلاف بين أهل السير فيه، ومَن قال إنّه أسلم، فقد أخطأ ظاهراً وكان أكيدر نصرانياً، ولمّا صالحه النّبيّ صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه وبقي فيه، ثُمَّ إنّ خالداً أسره لمّا حصر دومة أيّام أبي بكر رضي الله عنه، فقتله مشركاً نصرانياً، وقد ذكر البلاذري أنّ أكيدر لمّا قدم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع خالد أسلم ودعا إلىدومة، فلمّا مات النّبيّ صلى الله عليه وسلم ارتدّ مَعَ مَن ارتدّ ومنع ما قبله، فلمّا
سار خالد من العراق إلى الشام قتله، وعلى هذا القول - أيضاً، فلا ينبغي أن يُذكر في الصحابة، وإلاّ فيُذكَر كلّ مَن أسلم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمّ ارتدّ1. قلت: حديث البلاذري - الذي أشار إليه ابن الأثير - رواه عن ابن الكلبي قال: وحدّثني العباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن جدّه قال: [23] "وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر، فقدم به عليه فأسلم، فكتب له كتاباً، فلمّا قُبِضَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم منع الصدقة، ونقض العهد، وخرج من دومة الجندل فلحق بالحيرة، وابتنى بها بناءً سمّاه دومة، بدومة الجندل، وأسلم حريث بن عبد الملك أخوه على ما في يده، فسلّم ذلك له، فقال سويد بن شبيب: لا يأمَنَنَّ قومٌ عِثَارٌ جُدُودُهم ... كَمَا مِنْ خُبْثٍ ظَعَائِنُ أكدرا قال: وتزوّج يزيد بن معاوية ابنة حريث أخي أكيدر. [24] "قال العبّاس: وأخبرني أبي، عن عوانة بن الحكم، أنّ أبا بكر كتب إلى خالد بن الوليد وهو بعين التمر، يأمره أن يسير إلى أكيدر فسار إليه فقتله، وفتح دومة، وكان قد خرج منها بعد
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عاد إليها، فلمّا قتله خالد مضى إلى الشام"1. قال ابن حجر جامعاً بين الروايات: "فالذي يظهر أنّ أكيدر صالح على الجزية، كما قال ابن إسحاق، ويحتمل أن يكون أسلم بعد ذلك، كما قال الواقدي، ثُمّ ارتدّ بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَن ارتدّ كما قال البلاذري، ومات على ذلك. والله أعلم"2. قلت: الأدلة التي ساقها مَن قال بإسلام الأكيدر، ومَن قال بإسلامه ثُمّ ارتداده بعد ذلك جميعها لا تخلو من مقال، ولا تنهض في مخالفة الروايات التي ذكرت أنه لم يُسلم، وإنّما صالحه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الجزية. والله تعالى أعلم.
المبحث الخامس: الدروس المستفادة
المبحث الخامس: الدروس المستفادة ... المبحث الخامس: الدّورس المستفادة: يتبيّن من إسناد النّبي صلى الله عليه وسلم قيادة هذه السرية لسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، مدى ما كان يتمتع به عليه السلام من حنكة عسكرية فذّة، وذكاءٍ منقطع النظير، فخالد بن الوليد رضي الله عنه هو القائد المظَفَّر، وبطل مؤتة المُتَوَّج، ولا بُدّ أنّه أصبح معروفاً معرفةً تامّةً لدى القبائل العربية المنتصرة التي واجهته في مؤتة، وعرفت مدى ما كان يتمتّع به مِن ذكاءٍِ قياديّ، وحنكةٍ عسكريةٍ، فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستثمر هذا النجاح لخالد ضدَّهم، ويرميهم به ليتحصَّل على أفضل النتائج المرجوة بأقل قدرٍ ممكنٍ من الخسائر، وتلك استراتيجية الرسول القائد صلى الله عليه وسلم دائماً مع أعدائه. قال الأكيدر لخالد: "والله ما رأيتها قط جاءتنا إلاّ البارحة - يريد البقر - ولقد كنت أضمّر لها إذا أردت أخذها، فأركب لها اليوم واليومين". ويحقُّ للأكيدر وأهله أن يتعجّبوا من فِعل البَقَر تلك الليلة، لأنّه أمر خلاف العادة، وهكذا المعجزات النّبويّة دائماً تكون خارقة للعادات، ولقد كانت تلك قدرة إلهية، ومعجزة نبويّة، هيأها الله - تبارك وتعالى - لنبيّه صلى الله عليه وسلم تأييداً له وتمكيناً على أعدائه، فما كانت البقر لتأتي لحتفها بنفسها لولا أنّ خالقها أمرها بذلك، وساقها بلا سائق إلى ذلك المصير، فالبقر وإن كانت حيواناً لا يعقل، ولكنها بفطرتها التي فطرها الله عليها تُدرك مكامن
الخطر ومدارك الهلكة، فتبتعد عنها كثيراً، وهو الأمر الذي تعوَّده الأكيدر عنها حيث كان يضمّر لها الخيل، ويستعد لها ثُمّ يركب في طبلها اليوم واليومين حتّى يجدها في مكامنها البعيدة عن الخطر، ولكن قدر الله عز وجل، وقدرته العلية، وأمره الذي لا يُردّ، سخّر ذلك البقر لنبيّه صلى الله عليه وسلم وجعله في خدمة أهدافه وطوّعه جندياً مجنّداً من جنوده، يستدرج به أعداءه بعيداً عن دار عِزه وسلطانه ليقع فريسة سهلة المنال في يد الجندي الآخر خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي خرج في طاعة قائده وإمامه صلى الله عليه وسلم، ومنطلقاً دونما جدال ولا مناقشة، مِمَّا يدل على ما كان يتمتع به سلفنا الصالح - رضي الله تعالى عنهم - مِنَ الإيمان المُطلق بنبيّهم صلى الله عليه وسلم، وتصديقه فيما يقول، وطاعتهم لولي الأمر، وتأدّبهم الجم مع مقامه الشريف عليه السلام، ومعرفتهم حقّ الإمام من الطاعة فيما يأمر بمعروف. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما رآهم يتعجّبون من الجُبَّة التي أهداها له الأكيدر: "أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنّة أحسن من هذا". هذه الحادثة على بساطتها توضح لنا أمرين على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية: الأمر الأوّل: معرفة مدى ما كان عليه الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - من البساطة، والتواضع، والزهد، وترك بهرج الدنيا، ربّاهم على ذلك المربِّي الأوّل، رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي مات وهو لم يشبع من خُبز الشعير بأبي هو وأُمي، وهو الذي لو أراد لَحِيزَت له الدُّنيا بأسرها.
الأمر الثّاني: معرفة مدى تفاهة متاع الدنيا وملذاتها، مقارنةً بنعيم الآخرة، وما أعدّه الله - تبارك وتعالى - للمتّقين في جنّات النعيم، فحُلَّة الديباج المنسوجة بالذهب لا تساوي شيئاً إذا قيست بمناديل الجنّة التي هي ليست من اللباس، بل دونه، فما بالك بلباسها؟!. وهكذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يُرَبِّي أصحابه مُوَضحاً لهم أنّ الدُّنيا بملذّاتها ونعيمها، وبما فيها من ذهبٍ وفضّةٍ وحريرٍ وديباجٍ، لا تساوي شيئاً يُذكر بِمَا أعدّه الله تبارك وتعالى لعباده في جنّاتٍ فيها ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر. وحينما يعرف الإنسان المؤمن التقيّ هذه الحقيقة الناصعة، فإنّه يكون أدعى لترك ما في الدنيا من ملذّات وشهوات، وأقرب للزهد فيها، والتّطلّع لِما ادّخره الله عز وجل لعباده المتّقين بالعمل الصالح، والجدّ في الطاعة، والتّقى والعفاف {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُون} . [سورة المطفِّفين، الآية:26] . وقد آتت هذه التربية العظيمة أكلها وأينعت ثمارها مع سلفنا الصالح - رضي الله تعالى عنهم - وهكذا رأيناهم حينما فتحت لهم الدّنيا، وانساقت إليهم بحذافيرها، لم يغرّهم بهرجها، ولم ينخدعوا بنعيمها، ولم ينساقوا وراءها، بل كانوا أزهد الناس فيها، فملكوها ولم تملكهم، وساقوها بزمام التقى، والعفاف، وغنى النفس، والورع، والزهد، ولم تسقهم بزمام الشهوات، والملذّات، والنعيم الزائل، والمعاصي الموبقة، روَّضوها لطاعة الله وجعلوها دار عبور وممرّ، وطريقاً إلى الجنّة، ولم تروّضهم لشهواتها وملذاتها، فتجعلها طريقاً لهم إلى النار، ولم يتّخذوها دار بقاء وقرار.
إنّه عندما عرف السلف حقيقة هذه الدّنيا الفانية، دانت لهم فدانت لهم أممها من أقطارها، وعندما ضيَّع الخلف هذه المفاهيم الصحيحة، ولم يعرفوا الدّنيا على حقيقتها، دانوا لها، فتداعت عليهم أُممها من أقطارها: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفِسِهِم} . [سورة الرعد، الآية: 11] .
الفصل الثالث: سرية أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى أبنى
الفصل الثالث: سرية أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى أبنى المبحث الأول: التعريف بأبنى ... المبحث الأوّل: التّعريف بأُبنى: أُبْنَى مضمومة الأولى، ساكنة الثاني، بعده نون، على وزن فُعْلى، موضع بناحية البلقاء من الشام1. قال القاري والحلبي: اسم موضع من فلسطين بين عسقلان والرملة2. وقيل: لأبي مسهر3: أُبنى. قال: نحن أعلم، هي: يُبنا فلسطين4. قال ابن قدامة: "والصحيح أنّها أُبنى، كما جاءت في الرواية، وهي قرية من أرض الكرك، في أطراف الشام، في الناحية التي قُتِلَ فيها أبوه5، فأمّا يُبْنا فهي من أرض فلسطين، ولم يكن أسامة ليصل إليها، ولا يأمره النّبي صلى الله عليه وسلم بالإغارة عليها، لبعدها، والخطر بالمصير إليها لتوسطها في البلاد، وبُعدها من طرف الشام، فما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليأمره بالتغرير بالمسلمين، فكيف يُحْمَل الخبر عليها، مع مخالفة لفظ الرواية، وفساد المعنى"6. قال ياقوت: "وفي كتاب نصر أُبنى قرية بمؤتة"7.
قلت: ما رجّحه ابن قدامة تؤيّده روايات أهل المغازي، فقد ذكر عروة، والزهري، وابن عقبة في روايتهم: [1] "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، أن يُغير على مؤتة، وعلى جانب فلسطين ... ". الحديث1. وعنون الواقدي للسرية بقوله: "غزوة أُسامة بن زيد مؤتة2، ثُمَّ ذكر في سياق حديثه عن السرية رواية ساقها بسنده عن الزهري، عن عروة، عن أُسامة بن زيد - رضي الله عنهما: [2] "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يُغير على أُبنى ... ". الحديث3. وقال ابن سعد: "وهي أرض السراة ناحية البلقا"4. وأخرج في موضعٍ آخر بسنده عن عروة قال:
[3] "وأمره أن يُغيّر على أُبنى من ساحل البحر"1. أمّا ابن إسحاق فذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أُسامة أن يوطئ الخيل تُخُومَ البلقاء والداروم من أرض فلسطين2. [4] "وذكر مثل ذلك مالك بن أنس رحمه الله تعالى"3. قال ياقوت: "الداروم قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر، الواقف فيها يرى البحر ويُقال لها الدارون"4. وأخرج ابن سعد، عن هشام بن عروة حديث السّرية في ترجمة أُسامة فقال فيه: "فبعثه أبو بكر إلى آبل ... ". الحديث5. وأخرج مثله الطبري من حديث سيف، عن هشام، عن أبيه، وقال فيه: [5] "وقال له: اصنع ما أمرك به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ابدأ ببلاد قضاعة، ثُمّ ايت آبل ... "6.
وقد ذكر مثل ذلك ابن عساكر، عن الواقدي، فقال: [6] "ذكر أبو عبد الله محمّد بن عمر بن واقد الواقدي في كتاب الصوائف الذي صنّفه، أنّ غزوة الجندل، أوّل غزوات الشام، والثّانية مؤتة، والغزوة الثّالثة تبوك، والغزوة الرّابعة غزوة أُسامة ابن زيد يُبنى من أرض فلسطين في سنة عشرة، والغزوة الخامسة غزوة أُسامة بن زيد آبل الزيت في سنة إحدى عشرة، وهي التي أمّره عليها صلى الله عليه وسلم وهو مريض، فغزاها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولم أجد أحداً من العلماء فرّق بين غزوة يُبنى وبين غزوة آبل الزيت غير الواقدي، وقد ذكر في كتاب المغازي الذي صنّفه حديث الأمر بالإغارة على يُبنى في جملة قصّة إنفاذ أبي بكر لجيش أُسامة وإغارته على آبل الزيت، وعندي أنّهما غزوة واحدة، أغار فيها على الموضعين جميعاً. والله أعلم "1. قال ياقوت: "آبل - بفتح الهمزة وبعد الألف باء مكسورة ولام - أربعة مواضع، وفي الحديث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جهَّز جيشاً بعد حجّة الوداع وقبل وفاته، وأمّر عليهم أُسامة بن زيد، وأمَرَه أن يوطئ خيله آبل الزيت، بلفظ زيت الأدهان بالأردن من مشارف الشام"2.
قلت: هل كانت أُبنى، والداروم، ومؤتة، وآبل الزيت سرية واحدة أغار فيها أُسامة بن زيد عنهما على هذه المواضع جميعاً، كما ألمح لذلك ابن عساكر؟ أم أنّها كانت سرايا متعدّدة لشخصٍ واحدٍ وهو أُسامة رضي الله عنه، أم أنّها كانت سريةً واحدةً لمكانٍ واحدٍ له أسماء متعدّدة؟ أم أنّ هذه المواضع المذكورة كانت هي مناطق القبائل العربية التي شاركت في مؤتة ضدّ المسلمين؟ ! وباعتبار أنّها كانت متقاربة، بَعَثَ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً واحداً لضربها وتأديب أهلها، وهو ما أُرَجحه. والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني: تاريخ السرية
المبحث الثّاني: تاريخ السّريّة: أكثر الروايات تحدَّثت عن تجهيز البعث في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثُمّ أفاضت في الحديث حول مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمّ وفاته، وتوقَّفت دون أن تشير إلى بقية أخبار البَعْث. ففي رواية عروة، والزهري، وموسى بن عقبة قالوا: [7] "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، - يعني من حجّة الوادع - فعاش بالمدينة حين قدمها بعد صدرة المحرَّم، واشتكى في صفر، فوعك أشد الوعك ... ". ثُمّ ذكروا حديثاً طويلاً حول مرضه صلى الله عليه وسلم إلى أن قالوا: "وكان أُسامة بن زيد قد تجهَّز للغزو، وخرج في ثقله إلى الجرف، فأقام تلك الأيام بشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمَّره على جيش ... " إلى أن قالوا: "فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الجذع، واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه، ويدعون له بالعافية، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسامة بن زيد، فقال: اغدُ على بركة الله والنصر والعافية، ثُمَّ أغِر حيث أمرتُك أن تُغير. قال أُسامة: يا رسول الله! قد أصبحت مُفيقاً، وأرجو أن يكون الله عز وجل قد عافاك، فائذن لي، فأمكُثَ حتّى يشفيك الله، فإنّي إن خرجت وأنت على هذه الحال، خرجت وفي نفسي منك قرحة، وأكره أن أسأل عنك الناس. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام، فدخل بيت عائشة ... "، إلى قالوا: "ووعك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع أشد الوعك، واجتمع إليه نساؤه، وأخذ بالموت ...
فلم يزل كذلك حتّى زاغت الشمس من يوم الإثنين ... "، ثُمّ قالوا: "واشتدّ برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع، فأرسلت فاطمة إلى علي ابن أبي طالب، وأرسلت حفصة إلى عمر بن الخطّاب، وأرسلت كلّ امرأة إلى حميمها1، فلم يرجعوا حتّى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر عائشة في يومها، يوم الإثنين حين زاغت الشمس لهلال شهر ربيع الأوّل صلى الله عليه وسلم "2. وفي رواية ابن إسحاق قال: [8] "ثُمّ قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجّة، والمحرَّم، وصفر، وضرب على الناس بَعْثاً إلى الشام، وأمَّر عليهم أُسامة بن زيد بن حارثة مولاه ... "3. وقال ابن حجر: "كان تجهيز أُسامة يوم السبت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر ... ثُمَّ قال: [9] "فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه في اليوم الثّالث، فعقد لأُسامة لواءً بيده ... إلى أن قال: ثُمَّ اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: أنفذوا جيش أُسامة، فجهَّزه أبو بكر بعد أن استخلف ... " 4.
ولم يُفَصل الحديث في السرية منذ لحظة تجهيزها إلى انطلاقها نحو الشام غير الواقدي، وكاتبه ابن سعد، ومَن تبعهما من أصحاب المغازي المتأخرين، قال ابن سعد: [10] "لمّا كان يوم الإثنين، لأربع ليالٍ بقين من صفر سنة إحدى عشرة مِن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيّؤ لغزو الروم، فلمّا كان من الغد دعا أُسامة بن زيد، فقال: سِر إلى موضع مقتل أبيك ... " إلى أن قال: "فلمّا كان يوم الأربعاء، بُدِئَ برسول الله صلى الله عليه وسلم فَحُمَّ، وصدّع، فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لأُسامة لواءً بيده ... "، إلى أن ذكر خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالناس حينما بلغه طعنهم في إمارته ... "، ثُمَّ قال: "وذلك يوم السبت لعشرٍ خلون من ربيع الأوّل، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أُسامة يُوَدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمضون إلى المعسكر بالجرف، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أنفذوا بَعْثَ أسامة، فلمّا كان يوم الأحد اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فدخل أُسامة من معسكره والنّبيّ مغمور1، وهو اليوم الذي لدُّوه2 فيه، فطأطأ أُسامة، وقَبَّلَه ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلّم". ثُمَّ قال: "ثُمَّ دخل يوم الاثنين، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مُفيقاً صلوات الله عليه وبركاته، فقال له: اغد على بركة الله، فودّعه أُسامة وخرج إلى معسكره،
فأمرَ الناس بالرحيل، فَبَيْنَا هو يريد الركوب إذا رسول أُمّه أُمّ أيمن قد جاءه يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت! فأقبل وأقبل معه عمر، وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت ... ". إلى إن قال: "فلمّا كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة، خرج أُسامة فسار إلى أهل أُبنى"1. وذكر مثل ذلك الواقدي2،وتابعهما ابن سيد الناس3،والحلبي4، والزرقاني5. أمّا خليفة بن خياط، فذكر بسنده عن الزهري قال: [11] "فسار أُسامة في آخر شهر ربيع الأوّل حتّى بلغ أرض الشام"6. قلت: لا فرق بين القولين، فربما كان سيره آخر يوم في شهر ربيع الأوّل، وأّوّل يوم في شهر ربيع الآخر. والله تعالى أعلم. وكانت هذه السرية آخر سرية جهّزها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوّل سرية جهّزها أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه بعد أن استخلف7.
المبحث الثالث: سبب السرية والمهمة التي أنيطت بها
المبحث الثّالث: سبب السّرية والمهمّة التي أُنيطت بها: أشارت الروايات التي نقلت خبر السرية إلى أنّها كانت لتأديب القبائل وأهل القرى في تلك المنطقة الذين شاركوا في غزوة مؤتة ضدّ المسلمين، ففي رواية عروة، والزهري، وموسى بن عقبة: [12] "أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير على مؤتة، وعلى جانب فلسطين، حيث أُصيب زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة"1. وفي رواية ابن سعد قال: "سِر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل"2. وفصَّل الواقدي القول في ذلك، فقال: [13] "لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر مقتل زيد بن حارثة، وجعفر، وأصحابه، وَوجد عليهم وجداً شديداً، فلمّا كان يوم الإثنين لأربع ليالٍ بقين من صَفَر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتّهيّؤ لغزو الروم، وأمرهم بالانكماش3 في غزوهم، فتفرّق المسلمون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مُجِدّون في الجهاد، فلمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد، يوم الثلاثاء لثلاثٍ بقين من
صفر، دعا أُسامة بن زيد، فقال: يا أُسامة! سِر على اسم الله وبركته حتّى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل ... " 1. قال العامري، والبنا: "ولذلك أمَّره على حداثة سنة، ليدرك ثأره"2. قلت: ربّما يكون ذلك أحد أسباب بعث هذه السرية، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال حصرها بهذا السبب وحده، فنظر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبعد من مجرّد الانتقام وإدراك التأثر، لأنّ استراتيجيته صلى الله عليه وسلم كقائد للأمّة الإسلامية، وبشيراً ونذيراً للناس كافّة، كانت بعيدة المدى جداً، وقضايا التّأُثر والانتقام من القضايا التي عفا عليها الزمن في الإسلام، وأصبحت من أدران الجاهلية التي قضى عليها الإسلام، وتركها المسلمون وراءهم، وإنّما كانت تلك السرية تدخل ضمن نطاق التمهيد الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم للفتوح في الشام، فكان لا يمكن القفز من على تلك المناطق التي لم تخضع لسلطان المسلمين بعد، والتوغل في مناطق الشام الداخلية قبل تمهيد الطريق إليها. والله تعالى أعلم.
المبحث الرابع: مراسم تولية القائد، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم
المبحث الرّابع: مراسم تولية القائد، ووصيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم له: أخرج ابن سعد بسنده عن هشام بن عروة قال: [14] "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر الرجل أعلمه وندب الناس إليه"1. وقال ابن سعد: [15] "أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتّهيّؤ لغزو الروم، فلمّا كان من الغد دعا أُسامة بن زيد فقال: سِر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش، فَأَغِر صباحاً على أهل بُنى، وحرّق عليهم، وأسِرع السّير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وخُذ معك الأدلاّء، وقدم العيون والطلائع أمامك"2. وقال الواقدي: [16] "فلمّا أصبح يوم الخميس لليلةٍ بقيت من صفر، عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لواءً ثُمَّ قال: يا أُسامة! اغزُ باسم الله، في سبيل الله، فقاتلوا مَن كفر، اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا تمنّوا لقاء العدوّ، فإنّكم لا تدرون لعلّكم تبتلون بهم، ولكن
قولوا: اللهمّ اكفناهم، واكفف بأسهم عنّا، فإن لقوكم قد أجلبوا وصيَّحوا، فعليكم بالسكينة والصّمت، ولا تنازعوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم، وقولوا: اللهمّ نحن عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنّما تغلبهم أنت، واعلموا أنّ الجنّة تحت البارقة"1.
المبحث الخامس: الطعن في قائد الجيش
المبحث الخامس: الطّعن في قائد الجيش، والاختلاف في المشاركين في الجيش من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم، وعددهم: وخرج أُسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما: [17] "بلوائه معقوداً، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأوّلين، والأنصار، إلاّ انتدب في تلك الغزوة، فيهم أبو بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش، فتكلّم قوم، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين - فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً - فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال: "1. [18] "قد بلغني أنّكم قلتم في أسامة"2. و [19] "إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ، وإنّ هذا لمن أحبّ الناس إليّ بعده"3.
قال التوربشتي: "إنّما طعن من طعن في إمارتهما لأنّهما كانا من الموالي، وكانت العرب لا ترى تأمير الموالي وتستنكف عن اتباعهم كل الاستنكاف، فلمّا جاء الله عز وجل بالإسلام، ورفع قدْر مَن لم يكن عندهم قدر بالمسابقة، والهِجرة، والعلم، والتُّقى، عرف حقَّهم المحفوظون من أهل الدين، فأمّا المرتهنون بالعادة، والممتحنون بحب الرياسة من الأعراب ورؤساء القبائل، فلم يزل يختلج في صدورهم شيء من ذلك، لا سيّما أهل النفاق، فإنّهم كانوا يسارعون إلى الطعن وشدّة النكير عليه"1. قلت: ربمّا كان ذلك قصد المنافقين في الطّعن على أُسامة بن زيد، وأبيه زيد من قبل - رضي الله عنهما، أمّا مَن طَعَنَ في تأميرهما من الصحابة - رضي الله عنهم، فلم يكن كذلك، لأنّ الإسلام قد أذهب عنهم عبية الجاهلية الأولى التي مكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم دهراً وهو يربيهم على نفض أدرانها، والانسلاخ عن أوظارها، وإلقاء نفاياتها البغيضة بعيداً عنهم، وعن مجتمعهم الذي تأسَّس بالإسلام، وبُنِي بتعاليمه، فارتفعوا بها عالياً وعن تلك الشوائب السفلى، فما كان لهم بعد ذلك كله، وبخاصّة بعد نضوج ثمر الغرس الذي غرسه فيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل ثلاثةٍ وعشرين عاماً مضت، أن يتعلّقوا بشيءٍ من تلك الشوائب والأدران المنتنة من دعاوى الجاهلية، وفخرها بالأنساب.
وإنّما طَعَن مَن طَعَن منهم في تأمير أُسامة لِصِغَر سِنِّه، فقد أخرج ابن سعد، وابن أبي خيثمة، والبغوي: [20] "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعمله وهو ابن ثماني عشرة سنة"1. وكذلك لوجود بعض كبار الصحابة وأهل الفضل منهم تحت إمرته، فكأنّهم رأوا أنّه كيف يتأمَّر عليهم وهم أفضل سابقة، وأكبر سنّاً، وأقرب موقعاً من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه , وأبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه.
وهنا قد يسأل سائل: إذاً لماذا أمَّره النّبيّ صلى الله عليه وسلم على مثل هؤلاء السابقين؟ والجواب عنه ما ذكره السهيلي، والعامري سابقاً حول إدراك ثأره، ومن ذلك بيان فضله ومنقبته العظيمة بمحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم له، استمراراً لحبه أباه من قبل والأهمّ من ذلك كلّه، هو قول التوربشتي نفسه: "وكان صلى الله عليه وسلم بَعَثَ زيداً أميراً على عِدَّة سرايا وأعظمها على جيش مؤتة، وسار تحت رايته فيها نجباء الصحابة، وكان خليقاً بذلك لسوابقه وفضله وقربه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَمَّر أُسامة في مرضه على جيشٍ فيه جماعة من مشيخة الصحابة وفضلائهم، وكأنّه رأى فيه ذلك، سوى ما توسَّم فيه من النجابة أن يُمَهد الأرض، وتوطئة لمن يلي الأمر بعده لئلاّ ينْزع أحد يداً من طاعة، وليعلم كلٌّ منهم أنّ العادّة الجاهلية قد عميت مسالكها، وخفيت معالمها"1. هذه وقد اختلف أهل العلم في كون أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه قد انتدب في جيش أُسامة رضي الله عنه أم لا؟ قال الشامي: "ذكر محمّد بن عمر، وابن سعد، أنّ أبا بكر رضي الله عنه كان مِمَّ أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج مع أُسامة إلى أُبنى، وجرى عليه في المورد، وجزم به في العيون، والإشارة، والفتح في مناقب زيد بن حارثة، وأنكر ذلك الحافظ أبو العباس بن تيمية"2.
وقال ابن تيمية: "ولم ينقل أحد من أهل العلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر، أو عثمان في جيش أُسامة، وإنّما روى ذلك في عمر، وكيف يُرسل أبو بكر في جيش أُسامة، وقد استخلفه يُصلِّي بالمسلمين مُدَّة مرضه، فكيف يُتَصَوَّر أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس؟!. وأيضاً فإنّه جهَّز جيش أُسامة قبل أن يمرض، فإنّه أمَّره على جيش عامّتهم المهاجرون، منهم عمر بن الخطّاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام، فلمّا جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش، غير أنّه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة، لأنّه ذو رأيٍ ناصحٍ للإسلام، فَأَذَن له، وإنّما أنفذ جيشَ أُسامة أبو بكر الصّدِّيق بعد موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم "1. قال الشامي: "وفيما ذكر نظر من وجهين: أوّلهما قوله: "لم ينقل أحد من أهل العلم ... " الخ. فقد ذكره محمّد بن عمر، وابن سعد، وهما من أئمة المغازي. ثانيهما: قوله: "وكيف يُرْسَلُ أبو بكر في جيش أُسامة؟ ... " الخ. ليس بلازم، فإنّ إرادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث جيش أُسامة كان قبل ابتداء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا اشتدّ به المرض استثنى أبا بكر وأمره بالصلاة بالناس"2. وذكر مثل الزرقاني في شرحه على المواهب3.
وقال الحلبي: "فلا منافاة بين القول بأنّ أبا بكر رضي الله عنه كان من جملة الجيش وبين القول بأنّه تخلَّف عنه، لأنّه كان من جملة الجيش أوّلاً، وتخلَّف لما أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس، وبهذا يُردّ قول الرافضة طعناً في أبي بكر رضي الله عنه أنّه تخلّف عن جيش أُسامة رضي الله عنه، لما علمت أنّ تَخَلُّفه عنه كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم لأجل صلاته بالناس، وقول هذا الرافضي مع أنّه صلى الله عليه وسلم لعن المتخلِّفَ عن جيش أسامة مردودٌ، لأنّه لم يرد اللعن في حديث أصلاً"1. قلت: لكن شيخ الإسلام - رحمه الله - ردّ بقوّةٍ على هذا البهتان الذي ذكره الرافضي، حول تخلُّف أبي بكر رضي الله عنه عن جيش أُسامة، وفنَّد ذلك الاتهام الباطل، وقد أحسن جدّاً - رحمه الله تعالى - في ذلك، فالصّدِّيق رضي الله عنه فوق أن يُظَنَّ به أن يتخلّف عن جيشٍ أعدَّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يلعنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو أن يذكر كلاماً أو حديثاً فيه إشارة إلى ذلك، لأنّ الصّدِّيق رضي الله عنه مِمَّن أنعم الله عليه فجعله من الصّدِّيقين والشهداء والصالحين، وهو صاحب المواقف المشهورة في الثبات على الحقّ، والذّود عن حياض الإسلام، حتّى قال عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر خليلاً". ولكنهم الرافضة الذين امتلأت قلوبهم حقداً وبُغْضاً على من عدّلهم الله عز وجل واختارهم لصحبة نبيّه صلى الله عليه وسلم.
ويُلاحظ في ردّ شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - إنكارٌ للقِصَّة من أساسها، بينما الذي لم يصحّ هو حديث اللّعن الذي ذكره الرافضيّ، أمّا انتداب أبي بكر رضي الله عنه في جيش أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، فقد ذكره غير واحد من أهل العلم. فقد أخرج ابن سعد بسنده عن نافع، عن ابن عمر: [21] "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيهم أبوبكر، وعمر، فاستعمل عليهم أُسامة ابن زيد، وكان الناس طعنوا فيه - أي في صغره ... ".الحديث1. وأخرج ابن أبي شيبة بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه: [22] "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قطع بعثاً قبل مؤتة، وأمَّر عليهم أُسامة بن زيد، وفي ذلك البعث: أبو بكر، وعمر ... ". الحديث2. وأخرج ابن سعد، وابن خياط من حديث حمّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه نحوه، إلاّ أنّه قال فيه: [23] "في الجيش الذي استعمله عليهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن
الجرّاح"1. ولعلّ شيخ الإسلام نظر في رواية عروة، والزهري، وموسى بن عقبة عند البيهقي، وذلك واضح، للتشابه الكبير بينها وبين ما ذكره بصدد الردّ على ابن المطهر، وهذه الرواية لم يرد فيها ذكر أبي بكر رضي الله عنه، وكذلك رواية ابن إسحاق، وما رواه الطبري بسنده عن الحسن البصري، أما الواقدي فإنّه لم يرد ذكر أبي بكر في روايته في كتاب المغازي المتداول، فلعلّ الشامي، والزرقاني، اطّلعا على نسخةٍ أخرى. والله تعالى أعلم. هذا وقد اختلفت الروايات في تحديد عدد الجيش، ففي رواية عروة، والزهري، وابن عقبة ذكروا: [24] "أنّهم جيش عامّتهم المهاجرون"2. وقال ابن إسحاق في روايته: [25] "وأوعب3 مع أُسامة المهاجرون الأوّلون"4. وقال ابن سعد: [26] "فخرج معه سروات الناس وخيارهم"5.
وقال في مكانٍ آخر: [27] "فلم يبق أحدٌ من وجوه المهاجرين الأوّلين، والأنصار، إلاّ انتدب في تلك الغزوة"1. وأخرج الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: [28] "وخرج أهل المدينة في جند أُسامة"2. ولم يرد تفصيل لعدد الجيش إلاّ في روايتين: الأولى عزاها ابن كثير للبيهقي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [29] "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجّه أُسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام "3.
والثانية: هي رواية الواقدي التي ذكر فيها: [30] "أنّهم كانوا ثلاثة آلاف رجل، وفيهم ألف فرس"1. وتابعه في ذلك الشامي، والحلبي2. وذكر ابن حجر، والزرقاني، عن الواقدي: [31] "أنّهم كانوا ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة من قريش"3. كما نسبا إليه إخراجه لرواية أبي هريرة رضي الله عنه السابقة4، التي ذكر فيها أنّهم كانوا سبعمائة فقط5. وقال الزرقاني مُعَلِّقاً: "ولا تنافي، فلعلّه اقتصر على القرشيين"6. قلت: ما وقع في بعض الروايات من محاولة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثََنْيَ أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه مِن إنفاذ الجيش، وتركه في المدينة
لمواجهة احتمال هجوم المرتدّين عليها، يؤيّد ما ذكره الواقدي، لأنّهم لو كانوا سبعمائة فقط، كما وقع في رواية أبي هريرة رضي الله عنه لما كان في فعل الصحابة من محاولة إقناع أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه لإبقاء الجيش في المدينة فائدة، لأنّه سيكون هنالك العدد الوفير من المسلمين مِمَّن بقي في المدينة للدفاع عنها، وهم أكثر بكثير من عدد الجيش المنطلق، والمسلمون في ذلك الوقت كانوا جميعاً جنوداً في سبيل الله وقت الحرب، حيث لم يكن للجيش مؤسسة عسكرية خاصّة به، فيقول قائل: إنّه ربّما يكون السبعمائة هم الجيش النظامي، لذلك رأى الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بقاءه لمواجهة حرب المرتدّين باعتباره المهيأ عسكرياً بذلك. والله تعالى أعلم.
المبحث السادس: سير الأحداث
المبحث السّادس: سير الأحداث: عسكر أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - بجيشه في الجرف1، الذي كان بمثابة قاعدة عسكرية للمسلمين وبخاصّة للجيوش المنطلقة إلى شمال المدينة. وبلغ الاهتمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعث تلك السرية، أنّه صار يُردد وهو في الرمق الأخير بأبي هو وأُمي صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم: [32] "انفذوا جيش أُسامة، انفذوا جيش أُسامة" 2. وذلك يدل على الأهمية القصوى، والاستراتيجية التي كان يُمَثِّلها إرسال ذلك الجيش بالنسبة للمسلمين، وهو الأمر الذي حدا بالصّدِّيق رضي الله عنه رغم المخاطر التي كانت تُحيط بالمسلمين داخلياً وخارجياً، أن يُسارع في بعث السرية، ويُصرّ على ذلك رغم معارضة كبار الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - له. وتوفي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فَقِيدُ الأُمّة الإسلامية، بل فَقِيد العالم بأسره، - صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، توفي وأسامة معسكرٌ بجيشه في الجرف، وذُهِل المسلمون في المدينة.
[33] "ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أُسامة معقوداً حتّى أتى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده"1. [34] "فلمّا بويع لأبي بكر رضي الله عنه، أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أُسامة، وألاّ يُحِلَّه أبداً حتّى يغزوهم أُسامة"23. ودخل قائد الجيش على الخليفة أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه فقال: [35] "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوَّف أن تكفر العرب، فإن كفرت كانوا أوّل من يُقاتَل، وإن لم تكفر مضيت، فإنّ معي سروات النّاس وخيارهم"4. وكما توقّع القائد الذّكيّ، فما أن سَمِع الناس بوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى: [36] "ارتدّت العرب إمّا عامّة وإمّا خاصّة في كلّ قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم الشاتية لفقد نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وقلّتهم، وكثرة عدوّهم"5.
واجتمع كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخليفة فقالوا: [37] "يا خليفة رسول الله! إنّ العرب قد انتقضت عليك من كلّ جانب، وإنّك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً، اجعلهم عدّة لأهل الردّة، ترمي بهم في نحورهم! وأخرى، لا نأمن على أهل المدينة أن يُغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت لغزو الروم حتّى يضرب الإسلام بجرانه1، وتعود الرّدّة إلى ما خرجوا منه أو يفنيهم السيف، ثُمَّ تبعث أُسامة حينئّذٍ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا، فلمّا استوعب أبو بكر رضي الله عنه كلامهم، قال: هل منكم أحدٌ يريد أن يقول شيئاً؟ قالوا: لا. قد سمعت مقالتنا. فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننت أنّ السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأوّل منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينْزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفذوا جيش أُسامة! ولكن خصلة أُكَلِّم أُسامة في عمر يخلفه يقيم عندنا، فإنّه لا غناء بنا عنه. والله ما أدري يفعل أُسامة أم لا، والله إن رأى لا أُكْرِهُهُ! فعرف القوم أنّ أبا بكر قد عزم على إنفاذ بعث أُسامة، ومشى أبو بكر رضي الله عنه إلى أُسامة في بيته وكلّمه أن يترك عمر، ففعل أُسامة، وجعل يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أُسامة: نعم. وخرج وأمر
مناديه ينادي: عزمة مني ألاّ يتخلّف عن أُسامة من بَعْثِه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّي لن أوتى بأحدٍ أبطأ عن الخروج معه إلاّ ألحقته به ماشياً"1. [38] "واجتمع من حول المدينة من القبائل التي غابت في عام الحديبية، وخرجوا، وخرج أهل المدينة في جند أُسامة، فحبس أبو بكر مَن بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسالح2 حول قبائلهم وهم قليل"3. وتوجَّه الخليفة الصّدِّيق رضي الله عنه نحو معسكر الجيش: [39] "حتّى أتاهم فأشخصهم4 وشيَّعهم وهو ماشٍ وأُسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابّة أبي بكر، فقال له أُسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلنّ! فقال: والله لا تنْزل، ووالله لا أركب! وما عليَّ أن أُغَبّر قدميَّ في سبيل الله ساعة"5.
[40] "وسار أبو بكر رضي الله عنه إلى جانب أُسامة ساعة، ثُمَّ قال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك"1. [41] "فما الذي عهد إليك؟ قال: عهد إليَّ أن أغير على أُبنى صباحاً ثُمَّ أُحَرق"2.
فقال له الخليفة: [42] "فانفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّي لست آمرك، ولا أنهاك عنه، وإنمّا أنا منفِّذٌ لأمر أمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم "1. [43] "وأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يعظم فيهم الجراح، ويجزر2 فيهم حتّىيفزع القوم"3. [44] "فمضى أُسامة مُغِذّاً4 على ذي المروة5، والوادي"6. [45] "فوطئ بلاداً هادئه لم يرجعوا عن الإسلام، جهينة، وغيرها من قضاعة، فلمّا نزل وادي القرى، قدّم عيناً له من بني عُذرة، يُقال له حُريث، فخرج على صدر راحلته أمامه مُغِذّاً، حتّى انتهى إلى
أُبنى، فنظر إلى ما هناك وارتاد الطريق، ثُمَّ رجع سريعاً حتّى لقي أُسامة على مسيرة ليلتين من أُبنى، فأخبره أنّ الناس غارّون1 ولا جموع لهم وأمره أن يسرع السير قبل أن تجتمع الجموع، وأن يشنَّها غارة، فلمّا انتهى إلى أُبنى فنظر إليها منظر العين، عبّأ أصحابه، وقال: اجعلوها غارة ولا تُمعنوا في الطلب، ولا تفترقوا، واجتمعوا واخفوا الصوت، واذكروا الله في أنفسكم، وجرّدوا سيوفكم وضعوها فيمن أشرف لكم، ثمّ دفع عليهم الغارة، فما نبح كلب، ولا تحرّك أحد، وما شعروا إلاّ بالقوم قد شنّوا عليهم الغارة ينادون بشعارهم: يا منصور أمت! فقتل من أشرف له، وسبى من قدر عليه، وحرَّق في طوائفهم بالنار، وحرَّق منازلهم وحرثهم ونخلهم، فصارت أعاصير من الدخاخين، وأجال الخيل في عرصاتهم2، ولم يمعنوا في الطلب، أصابوا ما قرب منهم، وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم، وكان أُسامة خرج على فرس أبيه التي قُتِلَ عليها يوم مؤتة، وكانت تُدعى سبحة، وقُتِل قاتِلُ أبيه في الغارة، خبَّره به بعض من سُبِي3، وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهماً، وأخذ
لنفسه مثل ذلك، فلمّا أمسوا أمر بالرحيل، ومضى الدليل أمامه، حريث العذري، فأخذ الطريق التي جاء منها، ومضوا ليلتهم حتّى انتهوا بأرضٍ بعيدةٍ، ثُمَّ طوى البلاد حتّى انتهى إلى وادي القرى في تسع ليال"1. [46] "ثُمَّ بعث بشيراً إلى المدينة يخبر بسلامتهم، ثُمَّ قَصَد بعد في السير2 فسار إلى المدينة ستّاً، وما أصيب من المسلمين أحد، وخرج أبو بكر في المهاجرين3 وأهل المدينة يتلقونهم سروراً بسلامتهم، ودخل أُسامة على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب، حتّى انتهى إلى المسجد، فدخل وصلّى ركعتين، ثُمَّ انصرف إلى بيته، وبلغ هرقل، وهو بحمص ما صنع أُسامة، فبعث رابطة يكونون بالبلقاء، فلم تزل هناك حتّى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما"4.
المبحث السابع: الأحكام المستنبطة،والدروس المستفادة
المبحث السّابع: الأحكام المستنبطة، والدّروس المستفادة: أوّلاً: الأحكام المستنبطة: قال ابن حجر: "وفيه جواز إمارة المولى، وتولية الصغار على الكبار، والمفضول على الفاضل، لأنّه كان في الجيش - الذي كان عليهم أُسامة - أبو بكر وعمر"1. وقال البنا: "وفي الحديث منقبة عظيمة لزيد بن حارثة وابنه أُسامة - رضي الله تعالى عنهما "2. واستدلّ أبو داود، والبيهقي بحديث أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، قال: "أمرني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن أغير صباحاً على أُبنى، وأُحَرّق". في باب الحرق في بلاد العدوّ. وقال في عون المعبود: "والحديث يدلّ على جواز إفساد أموال الحرب بالتحريق والقطع لمصلحةٍ في ذلك"3. وقال في سبل السلام: "وقد ذهب الجماهير إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدوّ، وكرهه الأوزاعي، وأبو ثور، واحتجّا بأنّ أبا
بكر رضي الله عنه وصَّى جيوشه ألاّ يفعلوا ذلك". وأجيب بأنّه رأى المصلحة في بقائه لأنّه علم أنّها تصير للمسلمين فأراد بقاءها لهم1. وقال في المغني: "وقال إسحاق: التحريق سُنّة، إذا كان أنكى في العدوّ لقول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّنْ لِيْنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} . [سورة الحشر، الآية: 5] . وروى ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّق نخل بني النّضير، وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّنْ لِيْنَةٍ} 2. كان في إصرار الصّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه على إنفاذ بعث أُسامة فضيلة ظاهرة لسيّدنا أبي بكر رضي الله عنه، وكان ذلك من كمال معرفته، وإيمانه، ويقينه، وتدبيره، ورأيه3. ثانياً: الدّروس المستفادة: يتبيّن من إصرار النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعث هذه السّريّة حتّى وهو في أشدّ حالات المرض مدى ما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم من الأهمية الاستراتيجية تعبوياً وسوقياً لإرسالها إلى تلك المنطقة، ربّما محاولة منه صلى الله عليه وسلم لإحكام تثبيت سلطان المسلمين في تلك المنطقة الحيوية بالنسبة للدولة الإسلامية، والتي أصبحت تمثل تطلّعات المسلمين لنشر
الدّعوة الإسلامية، بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في أرض الجزيرة العربية، فبدأوا يتطلّعون لنشر الإسلام خارجها من خلال البوابة الشّمالية للجزيرة التي كانت منفذاً حيوياً وهامّاً وكبيراً لانطلاق الدعوة، ولكن كانت هنالك قوى سياسية وعسكرية جاثمة بقوّةٍ تسد ذلك المنفذ الحيوي، وتقف بصلابة في وجه نشر الدّعوة الإسلامية، فكان من الطبعي أن يتحرّك النّبيّ صلى الله عليه وسلم باعتباره القائد للأُمّة الإسلامية، بل باعتباره المعنى بالأمر بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من أبعاد، وذلك بموجب التكليف الإلهي المُنَاط به: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} . [سورة سبأ، الآية: 28] . فكان لا بُدّ له من التحرّك سريعاً وبقوّةٍ لإفساح الطريق أمام الدّعوة الإسلامية، لكي تنساح في الأرض بسلاسةٍ وانسيابٍ بعد القضاء على العقبات، وإزالة المعوقات التي كانت تقف في طريقها لتبلغ مداها الذي قدّره الله عز وجل لها. في تولية أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - على جيشٍ مُطَعَّمٍ بكبار الصحابة وفضلائهم، وهو في تلك المرحلة المبكّرة من عمره، تَبْرُزُ لنا عِدّة أُمور مهمّة: أوّلاً: الطريقة القويمة والرائعة التي كان المربِّي الأوّل صلى الله عليه وسلم يُربّي بها أصحابه، ومن بعدهم أُمَّته على طاعة أولي الأمر منهم مهما كانوا. ثانياً: كان في ذلك تأكيد وتوضيح على أنّ الإسلام يمحو ما قبله من أنظمة وعادات وتقاليد جاهلية تختصّ بشروط الرئاسة والقيادة، فالسنّ،
والشرف، والجاه، والمال، التي كانت تعدّ شروطاً أساسية لا يمكن إغفال شيءٍ منها فيمن يُراد توليته، أصبح بدلاً عنها في الإسلام التقوى، وحُبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والكفاءة القيادية، والنّجابة، والحِنْكة القتالية. ثالثاً: الأدب الجمّ العظيم الذي كان يتمتّع به أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحُسن انقيادهم له، وطاعتهم وتوقيرهم لأمره حتّى بعد وفاته. قال الحلبي: "كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه حتّى بعد أن ولي الخلافة إذا رأى أُسامة رضي الله عنه قال: السلام عليك أيُّها الأمير. فيقول أُسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين. تقول لي هذا؟ فيقول: لا أزال أدعوك ما عشت الأمير. مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت عليّ أمير"1. كلّ تلك الأمور السابقة كانت عواملَ إيجابيةً وبنّاءةً في تحقيق ذلك النجاح العظيم، وتلك النتائج الإيجابية الرائعة التي حقّقتها تلك السرية، يقول الحلبي: "وكان في خروج هذا الجيش نعمة عظيمة، فإنّه كان سبباً لعدم ارتداد كثير من طوائف العرب أرادوا ذلك"2. قال أبو هريرة رضي الله عنه في سياق حديثه عن البَعْث وذلك تقرير لهذه الحقيقة: "فجعل لا يمرّ بقبيل3 يريدون الارتداد إلاّ قالوا: لولا أنّ لهؤلاء
قوّة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتّى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام"1. كما كان في خروجه إرعاباً لأعداء الله عز وجل، وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيطاً لمعنوياتهم، ومحقاً لأرجافهم، وغبطتهم وسرورهم بموت النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال ابن تيمية: "كان ذلك مِمَّا أيَّد الله به الدين، وشدّ به قلوب المؤمنين، وأذلّ به الكُفّار والمنافقين"2. ومِمَّا يدلّ على ذلك ويؤيّده هو اندهاش الروم وتعجُّبهم من فعل المسلمين، وقوّة تماسُكِهم رغم فداحة المصاب. أخرج ابن سعد بسنده عن هشام بن عروة قال: "قدم بنعي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هرقل، وإغارة أُسامة في ناحية أرضه خبراً واحداً، فقالت الروم: ما بالى هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا"3.
الخاتمة وفي خاتمة البحث هذه أهمّ النتائج، والدراسات التي تمّ التوصل إليها: 1- إن نقد المرويات التاريخية عملية ممتعة وشيقة، ولكنها بقدر ما هي كذلك متعبة وشاقة، وتحتاج إلى وقت طويل وتأن في العمل، لذلك يجب عدم التسرع في الحكم على العملية سلباً أو إيجاباً، بل يجب إعطاء العمل الفرصة اللازمة والتامّة لكي تكتمل جوانبه وتتضح خطوطة العريضة، فمشروع نقد المرويات التاريخية مشروع جديد، والعمل الذي قامت به الجامعة الإسلاميّة في المدينة النبويّة في هذا المجال تشكر عليه، ولكنه لا زال في بداياته، ويحتاج إلى وقت طويل وجهد ودعم متواصل من الجهات المعنية لتبرز ثماره اليانعة. وحتى يكتب لهذا العمل النجاح والاستمرارية، فإن الباحث يقترح تشكيل لجنة مكوّنة من قسم التاريخ، وقسم السنة، وقسم أصول الفقه - للإفادة من منهج الأصوليّين في النقد الباطني للنصوص، باعتبار ذلك جزء مكمّل ومهمّ بالنسبة للروايات التاريخية - ويتبنى عمل هذه اللجنة قسم التاريخ ومركز السنة والسيرة النبويّة، أو أي قسم من هذه الأقسام المعنية، وذلك لوضع القواعد والأسس والأطر اللازمة والمنظمة لهذا العمل، والتي تجعل منه عملاً مستمراً وناجحاً ومتطوّراً في المستقبل إن شاء الله تعالى. كما تتيح المجال وبشكل أكبر وأقوى لكل متحمس من طلبة العلم
للخوض والمساهمة في هذا العمل البناء والمهمّ لخدمة تاريخنا الإسلامي العظيم، وفي نفس الوقت فإنه يجب تشجيع وتبني الأعمال المساهمة، سواء كانت رسائل جامعية أو بحوث ترقية أو كتب مؤلّفة مع التركيز على إخراج الرسائل الجامعية المتميزة وطباعتها. لأنه لا معنى لجهد يستمر سنوات ثم لا يرى النور. فإنّ في ذلك دافعاً قويّاً لاستمرار العمل ونجاحه وتطوّره وخروجه بالصيغة التي ترضى جميع الأطراف المؤيدين وحتى المعارضين له. ثم تعرض أعمال هذه اللجنة في المستقبل، وفي أقرب فرصة في أي مؤتمر من المؤتمرات التي تعالج مثل هذه القضايا، وذلك لتوسيع دائرة المشاركة على مستوى العالم الإسلامي للاستفادة من الخبرات الرائدة في هذا المجال، وكسب المزيد من التأييد، وإتاحة الفرصة لتلاقح الأفكار، وتعدد الخبرات التي تعطي العمل زخماً من القوة والثبات والاستمرارية، مع التطوير الذي يعتبر أمراً مهماً وضرورياً لنجاح العمل. 2- لم تكن معركة مؤتة والسرايا الشمالية عبارة عن معارك تأديبية تأثرية انتقامية كما يحلو للبعض ترديده، وإنما كانت تدخل ضمن نطاق واستراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم الجهادية والمبنية على عملية التدرج تطبيقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّن الكُفَّار} . [سورة التوبة، الآية: 123] . وتمهيداً للفتوحات الإسلامية في المنطقة بالقضاء على القوى العسكرية والسياسية التي كانت تقف حجر
عثرة في وجه نشر الدعوة الإسلامية، وإخضاع تلك القوى لسلطان المسلمين، إما بالدخول في الإسلام، أو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، تطبيقاً لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يَحَرِّمُونَ مَا حَرَّم اللهُ وَرَسُولُه وَلاَ يَدِيْنُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} . [سورة التوبة، الآية: 123] . وفي ذلك أكبر دليل على أن العملية الجهادية والعملية الدعوية كانتا تسيران جنباً إلى جنب، وأنهما عمليتان مدروستان بدقة ونظام، وليستا أموراً عشوائية أملتها ظروف وقتية طارئة، كما يدعي بعض المستشرقين، ولم تكن أيضاً دفاعية، كما يذكر بعض الكتاب المسلمين، وإنما غايتها وهدفها الأسمى هو إعلاء كلمة الله عز وجل في تلك البقعة المباركة من العالم. 3- لقد كانت الوصايا النبوية لقادة السرايا والبعوث من أعظم وصايا الحرب على مرّ التاريخ، بل إنها تمثّل قانون للحرب العادلة، التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وذلك إنها توضح بجلاء نوع الحرب في الإسلام والتي هي حرب فروسية بمعنى الكلمة، وردّ بليغ على المغرضين من أعداء الأمة الذين يروجون الأكاذيب ويلقون الشبه حول الحرب، والجهاد في الإسلام، في محاولة منهم لتشويه هذه الحقائق الناصعة لهذه الحرب العظيمة.
4- وضح من خلال سياق الأحداث حول بعض السرايا والبعوث اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بوسائل الحرب الاستخبارتية وتمثل ذلك في بثّ العيون، وتوظيف الأدلاء، وبعث الطلائع إلى أرض العدوّ لجمع المعلومات عنه، وفي ذلك درس بليغ للأمة بالاهتمام بهذه الوسائل وغيرها من الأسباب الشرعية، وتطبيقها في حربها مع أعدائها لما تمثله من أهمية بالغة بالنسبة لعوامل النصر وأسبابه. 5- تميّزت بعض السرايا والبعوث ببعض الابتكارات النبوية العسكرية، مثل الشعار في المعركة، والهجوم الفجري المباغت، وغير ذلك، وهي دروس استفادها وطبقها قادة تلك السرايا من توصيات النبي صلى الله عليه وسلم، وتطبيقاته في غزواته. 6- وضح من خلال أحداث بعض السرايا والبعوث الدور العظيم الذي كان يتميز به المسجد النبوي الشريف، حيث كان بمثابة جامعة عظيمة تعقد فيه مجالس العلم والذكر، ويلتقي فيه الصحابة رضي الله عنهم بمعلمهم العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أنه كان عبارة عن قاعدة عسكرية تنطلق منه السرايا والبعوث النبوية، وتعقد فيه مراسم تولية قادة تلك السرايا والبعوث، مما يدل على دقة التنظيم في إعداد السرايا وبعثها، وإن ذلك كان يتم وفق خطة مدروسة منظمة بعيداً عن العشوائية والارتجال كما يزعم البعض.
7- ما ورد في ثنايا الحديث عن بعض السرايا والبعوث من التحذير النبوي من أسباب انتشار بعض الأوبئة والأمراض، يعتبر من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث تحققت نبوءته صلى الله عليه وسلم في ذلك زماننا الحاضر الذي انتشرت فيه الأوبئة والأمراض التي حذر منها ومن أسبابها المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً. 8- كانت المكتسبات التي أفادها المسلمون من غزوة مؤتة وبعض السرايا النبوية الشمالية عظيمة جداً، حيث كانت النتائج السوقية لها كبيرة، أفادت المسلمين في التعرف على خواص الروم، وحلفائهم مما كان له أبلغ الأثر في المعارك التي خاضها المسلمون معهم فيما بعد. 9- تميزت الغزوة والسرايا والبعوث النبوية الشمالية بكثير من الأحكام الشرعية المستنبطة، والدروس والعبر المستفادة.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع: القرآن الكريم. المخطوطات: * البلاذري، أحمد بن يحي بن جابر (279هـ) : 1- أنساب الأشراف، النسخة المغربية، ج 7، المكتبة العامة بالرباط. * الثعلبي، أحمد بن محمَّد النيسابوري (427هـ) : 2- التفسير، نسخة موجودة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. * ابن أبي خيثمة، أحمد بن أبي خيثمة (279هـ) : 3- التاريخ، نسخة الخزانة العامة بالرباط رقم (138) . * مغلطاي، قلج (762هـ) : 4- الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم، نسخة موجودة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. * الميانجي، أبو بكر يوسف بن القاسم (375هـ) : 5- غرائب حديث الميانجي (جزء مجموع) بالمكتبة الظاهرية برقم حديث (279) . المصادر: * ابن الأثير، أبو الحسن علي بن محمَّد الجزري (630هـ) : 6- أُسْد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق مجموعة من العلماء، طبع مطبعة الشعب، القاهرة، بدون تاريخ. 7- الكامل في التاريخ، طبع دار صادر، بيروت، 1402 هـ.
* ابن الأثير، أبو السعادات المبارك بن محمَّد الجزري (606هـ) : 8- النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمَّد الطناحي، طبع المكتبة العلمية، بيروت، بدون تاريخ. * الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (241هـ) : 9- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد، ترتيب أحمد عبد الرحمنالبنا، دار الشهاب، القاهرة، بدون تاريخ. 10- المسند، تحقيق أحمدمحمَّد شاكر، القاهرة، دارالمعارف،1373-1375هـ. 11- المسند، تحقيق شعيب الأرناؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى1413هـ (الموسوعة الحديثية) ،طُبِع على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله. * ابن إسحاق، محمَّد بن يسار (151هـ) : 12- سيرة ابن إسحاق، المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي، تحقيق محمَّد حميد الله، دار الخاني للنشر والتوزيع، الرياض، بدون تاريخ. * البخاري، أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم (256هـ) : 13- الأدب المفرد، تحقيق كمال يوسف الحوت، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1404 هـ. 14- التاريخ الكبير، دار الفكر، بيروت، 1407 هـ. 15- الجامع الصحيح، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. 16- الضعفاء الصغير، تحقيق بوران الضّناوي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ
* البغوي، أبو محمَّد الحسين بن مسعود (516هـ) : 17- شرح السنة، تحقيق علي معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ. * البكري، أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز الأندلسي (487هـ) : 18- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، تحقيق مصطفى السقا طبع عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة 1403هـ. * البلاذري، أبو العباس أحمد بن يحى بن جابر (271هـ) : 19- أنساب الأشراف، تحقيق محمَّد حميد الله، طبع دار المعارف، الطبعة الثالثة. 20- فتوح البلدان، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، وعمر أنيس الطباع، طبع مؤسسة المعارف، بيروت، 1407 هـ. * البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين (458هـ) : 21- دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ. 22- السنن الكبرى، طبع دار المعرفة، بيروت. * التبريزي، أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله الخطيب: 23- مشكاة المصابيح، تحقيق محمَّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق 1380هـ. * الترمذي، أبو عبد الله محمَّد بن علي الحكيم (320هـ) : 24- نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.
* الترمذي، محمَّد بن عيسى بن سورة (279هـ) : 25- سنن الترمذي، الفجالة الجديدة، القاهرة، السلفية، المدينة المنورة. * ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (728هـ) : 26- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق ناصر بن عبد الكريم، مكتبة الرشد، الرياض 1411هـ. 27- مختصر منهاج السنة، اختصره الشيخ عبد الله الغنيمان، الرياض، مكتبة الكوثر 1411هـ. 28- المنتقى من الأحكام، المطبعة السلفية، بدون تاريخ. * الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمَّد النيسابوري (429هـ) : 29- فقه اللغة وسر العربية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ شلبي، القاهرة، مكتبةمصطفىالبابي الحلبي1392هـ. * ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (597هـ) : 30- الوفا بأحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ. * الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حماد (393هـ) : 31- الصحاح، تاج اللغة وصحيح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية، القاهرة 1402هـ. * ابن أبي حاتم، أبو محمَّد عبد الرحمن الرازي (327هـ) : 32- الجرح والتعديل، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن الهند، الطبعة الأولى.
* ابن حبان، أبو حاتم محمَّد بن حبان بن أحمد البستي (354هـ) : 33- الثقات، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن الهند، 1393هـ، الأولى. 34- صحيح ابن حبان، ترتيب علاء الدين الفارسي، تحقيق كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية، بيروت1407هـ، الطبعةالأولى. * ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) : 35- الإصابة في تمييز الصحابة، دار صادر، بيروت. 36- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني 1386هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. 37- تقريب التهذيب، تحقيق محمَّد عوَّامة، دار الرشيد، سوريا، حلب، الطبعة الأولى 1406هـ. 38- تهذيب التهذيب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ. 39- فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز، دار الفكر، بيروت. 40- لسان الميزان، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ. 41- مختصر زوائد البزار، تحقيق صبري عبد الخالق أبي ذر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ. 42- المطالب العالية، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت، دار الكتب العلمية 1393هـ.
* ابن حزم، أبو محمَّد علي بن أحمد بن سعيد (456هـ) : 43- جمهرة أنساب العرب، تحقيق لجنة من العلماء، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ. 44- جوامع السيرة، تحقيق إحسان عباس، وناصر الدين الأسد، إدارة إحياء السنَّة، باكستان. * حسان بن ثابت بن المنذر (50هـ) : 45- ديوان حسان بن ثابت، شرح وتعليق عبد أمهنا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ. * الحاكم: أبو عبد الله محمّد بن عبد الله النيسابوري (405هـ) : 46- المستدرك، تحقيق عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ. * الحلبي، علي بن برهان الدين (1044هـ) : 47- السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون) ، طبع دار المعرفة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ. * الحموي، أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي (626هـ) : 48- معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1399هـ. * الحميري، محمَّد بن عبد المنعم الحميري: 49- الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق إحسان عباس، مكتبة لبنان بيروت، الطبعة الثانية 1984م. * الخشني، أبو ذر مصعب بن محمَّد (604هـ) :
50- شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق همام عبد الرحيم سعيد، ومحمَّد بن عبد الله أبو صعيليك، طبع مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى 1409هـ. * الخطابي، أبو سليمان حمد بن محمَّد (388هـ) : 51- معالم السنن، شرح سنن أبي داود بحاشية السنن. * الخطيب التبريزي، أبو زكريا يحي بن علي (502هـ) : 52- كنْز الحفاظ في تهذيب الألفاظ لابن السكيت، تحقيق لويس اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1895م. * ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمَّد (808هـ) : 53- العبر وديوان المبتدأ والخبر، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت 1401هـ، الطبعة الأولى. * ابن خياط، أبو عمرو خليفة بن خياط (240هـ) : 54- التاريخ، تحقيق الدكتور/أكرم ضياء العمري، طبع دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية 1405هـ. 55- الطبقات، تحقيق الدكتور / أكرم ضياء العمري، طبع دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية 1402هـ. * الدارقطني، علي بن عمر (385هـ) : 56- سنن الدارقطني، تحقيق عبد الله هاشم يماني، دارالمحاسن للطباعة1386هـ. * ابن دريد، أبو بكر محمَّد بن الحسن (321هـ) : 57- الاشتقاق، تحقيق عبد السلام محمَّد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ.
* الديار بكري، حسين بن محمَّد بن الحسن: 58- تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، مؤسسة الرسالة للنشر والتوزيع، بيروت. * ابن الديبع، وجيه الدين عبد الرحمن بن علي الشيباني (944هـ) : 69- حدائق الأنوارومطالع الأسرار في سيرة النَّبِيّ المختارصلى الله عليه وسلم، تحقيق عبد الله إبراهيم الأنصاري، المكتبة المكية، مكة المكرمة، السعودية، الطبعة الثانية 1413 هـ. * الذهبي، أبو عبد الله محمَّد بن أحمد (748هـ) : 60- تاريخ الإسلام (قسم المغازي) تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت 1407 هـ، الطبعة الأولى. 61- تلخيص المستدرك للحاكم، حاشية المستدرك. 62- سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وحسين أسد، مؤسسة الرسالة، بيروت 1401هـ، الطبعة الأولى. 63- العبر في خبر من غبر، تحقيق محمَّد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ. 64- الموقوظة في مصطلح الحديث، تحقيق عمرو عبد المنعم سليم، دار أُحُد للنشر، الطبعة الأولى 1414هـ. 65- ميزان الاعتدال، تحقيق علي محمَّد البجاوي، دار المعرفة، بيروت. * الزبيري، أبو عبد الله المصعب بن عبد الله (236هـ) :
66- نسب قريش، تحقيق ليفي بروفنسال، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ. * الزرقاني، محمَّد بن عبد الباقي المالكي (1122هـ) : 67- شرح المواهب اللدنية، دار المعرفة، بيروت 1414هـ. * ابن سعد، أبو عبد الله محمَّد بن سعد بن منيع البصري (230هـ) : 68- الطبقات الكبرى، طبع دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. 79- الطبقات الكبرى، الجزء المتمم لتابعي أهل المدينة ومَن بعدهم، تحقيق زياد محمَّد منصور، طبع المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1403هـ. * سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني (227هـ) : 70- السنن، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ. * السمهودي، نور الدين علي بن أحمد (911هـ) : 71- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وسلم، تحقيق محمَّد محي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الرابعة 1404هـ. * السهيلي، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي (581هـ) : 72- الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، طبع دار الكتب الحديثة، القاهرة، بدون تاريخ. * السويدي، أبو الفوز محمَّد أمين البغدادي: 73- سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، دار الكتب العلمية، بيروت 1409 هـ.
* ابن سيّد الناس، أبو الفتح محمَّد بن محمَّد (734هـ) : 74- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة 1402هـ. * السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ) : 75- الخصائص الكبرى، تحقيق محمَّد خليل هرَّاس، دار الكتب الحديثة. * الشامي، محمَّد بن يوسف الصالحي (942هـ) : 76- سُبُل الهُدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق مجموعة من العلماء، طبع لجنة إحياء التراث الإسلامي في وزارة الأوقاف المصرية، القاهرة 1404هـ. * الشوكاني، محمَّد بن علي بن محمَّد (1250هـ) : 77- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية1383هـ. 78- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ. * ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمَّد الكوفي العبسي (235هـ) : 79- الكتاب المصنَّف في الأحاديث والآثار، تحقيق عامر العمري الأعظمي، طبع الدار السلفية، بومباي، الهند. * الصنعاني، محمَّد بن إسماعيل الكحلاني (1182هـ) : 80- سُبُل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام لابن حجر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة 1379هـ.
* الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (360هـ) : 81- المعجم الأوسط، تحقيقمحمودالطحان، مكتبة المعارف، الرياض1405هـ 82- المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، طبع مكتبة ابن تيمية، القاهرة، بدون تاريخ. * الطبري، أبو جعفر محمَّد بن جرير (310هـ) : 83- تاريخ الرسل والملوك، تحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، بدون تاريخ. 84- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت 1408هـ. * العامري، عماد الدين يحي بن أبي بكر (893هـ) : 85- بهجة المحافل وبغية الأماثل، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. * العباسي، أحمد عبد الحميد (المتوفى في القرن العاشر) : 86- عمدة الأخبار في مدينة المختار، تحقيق محمَّد الطيب الأنصاري، توزيع المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. * ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري (463هـ) : 87- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، بهامش كتاب الإصابة لابن حجر دار صادر. 88- الدرر في اختصار المغازي والسير، تحقيق شوقي ضيف، القاهرة 1386هـ، وطبعة مؤسسة علوم القرآن، دمشق، تحقيق مصطفى ديب البغا، الطبعة الثانية 1404 هـ. * عبد الرزَّاق، أبو بكر عبد الرزَّاق بن همَّام الصنعاني (211هـ) :
89- المصنَّف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، منشورات المجلس العلمي بيروت 1392هـ، الطبعة الأولى. * أبو عبد الله محمَّد بن علي إبراهيم الحلبي (684هـ) : 90- الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، تحقيق سامي الدهان المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق 1302 هـ. * أبو عبيد، القاسم بن سلام (224هـ) : 91- الأموال، تحقيق محمَّد خليل هرَّاس، دار الفكر، ومكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الثالثة 1401هـ. * ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن الدمشق (571هـ) : 92- تاريخ دمشق، تحقيق صلاح الدين المنجد، مطبوعات المجلس العلمي بدمشق 1951م، ومطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1981م، تحقيق شكري فيصل، وسكينة الشهابي. * العظيم آبادي، أبو الطيب محمَّد شمس الحق: 93- التعليق المغني على الدارقطني، حاشية سنن الدارقطني. 94- عون المعبود شرح سنن أبي داود، تحقيق عبد الرحمن محمَّد عثمان، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة 1399هـ. * الفيروزآبادي، مجد الدين محمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي (817هـ) : 95- القاموس المحيط، تحقيق مكتب التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1407هـ. * ابن قتيبة، أبو محمَّد عبد الله بن مسلم (276هـ) :
96- المعارف، تحقيق ثروت عكاشة، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، بدون تاريخ. * ابن قدامة، أبو محمَّد عبد الله بن أحمد بن محمَّد المقدسي (620هـ) : 97- المغني، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، وعبد الفتاح الحلو، طبع هجر للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 1410هـ. * القرطبي، محمَّد أحمد الأنصاري (671هـ) : 98- الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب، القاهرة 1383هـ. * القسطلاني، أحمد بن محمَّد القسطلاني (923هـ) : 99- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، تحقيق صالح الشامي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ. * القلقشندي، أبو العباس أحمد بن علي (821هـ) : 100- قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، تحقيق إبراهيمالإبياري، نشر دار الكتب الإسلامية، دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، بدون تاريخ. * القيرواني، أبو محمَّد عبد الله بن أبي زيد (386هـ) : 101- كتاب الجامع في السنن والآداب والتاريخ والمغازي، تحقيق محمَّد أبي الأجفال، وعثمان بطيخ، مؤسسة الرسالة، بيروت، والمكتبة العتيقة، تونس، الطبعة الثالثة 1406هـ. * ابن القيم، أبوعبد الله محمَّد بن أبي بكرالزرعي الدمشقي (751هـ) :
102- زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، بدون تاريخ، ومكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة الخامسة عشر1407هـ. * ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر (774هـ) : 103- البداية والنهاية، تحقيق مجموعة من العلماء، طبع دار الريان للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى 1408هـ. 104- الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحقيق محمَّد العيد الخطراوي، ومحي الدين مستو، طبع دار التراث بالمدينة المنورة، ودار ابن كثير بدمشق، الطبعة السادسة 1413هـ. * الكلبي، أبو المنذر هشام بن محمَّد السائب (204هـ) : 105- جمهرة النسب، تحقيق ناجي حسن، عالم الكتب، ومكتبة النهضة العربية، الطبعة الأولى 1407هـ. * الكندي، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله (257هـ) : 106- فتوح مصر وأخبارها، تحقيق محمَّد صبيح، مكتبة ابن تيمية، بدون تاريخ. * ابن المبارك، أبو عبد الرحمن عبد الله المروزي (181هـ) : 107- كتاب الجهاد، دار النور، بيروت 1979م. * المباركفوري، أبو العلي محمَّد بن عبد الرحمن المباركفوري (1353هـ) : 108- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، تحقيق عبد الرحمن محمَّد عثمان، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية 1406هـ. * المحاملي، أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل (330هـ) : 109- أمالي المحاملي، تحقيق إبراهيم إبراهيم القيسي، الدمام، دارابن القيم 1412هـ.
* المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين (346هـ) : 110- التنبيه والأشراف، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. * الإمام مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261هـ) : 111- صحيح مسلم، تحقيق موسى شاهين لاشين، وأحمد عمر هاشم، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى1407هـ. * المقدسي، البشاري (380هـ) : 112- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، مطبعة بريل بلندن 1906م. * المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي (845هـ) : 113- امتاع الأسماع بما للرسول صلى الله عليه وسلم من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع تحقيق محمود محمَّد شاكر، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة1941م. * الملك المؤيد، عماد الدين إسماعيل بن نور الدين محمَّد بن عمر، صاحب حماه (732هـ) : 114- تقويم البلدان، طبع في باريس بدار الطباعة السلطانية1850م. * المناوي، العلاَّمة محمَّد بن عبد الرؤوف المناوي (1031هـ) : 115- فيض القدير شرح الجامع الصغير، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة الطبعة الأولى 1356هـ. * ابن منظور، أبو الفضل محمَّد بن مكرم الأفريقي (711هـ) : 116- لسان العرب، طبع دار صادر، بيروت، بدون تاريخ. * الميداني، أبو الفضل أحمد بن محمَّد بن إبراهيم النيسابوري (518هـ) :
117- مجمع الأمثال، تحقيق محمَّد أبي الفضل إبراهيم، طبع عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، بدون تاريخ. * النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر (303هـ) : 118- السنن الصغرى (المجتبى) طبع دار الحديث، القاهرة 1407هـ. 119- السنن الكبرى، تحقيق عبد الغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى1411هـ. * أبو نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430هـ) : 120- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، طبع دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت. 121- دلائل النبوة، تحقيق محمَّد رواس قلعجي، وعبد البر عباس، طبع دار النفائس، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ. * النووي، أبو زكريا محي الدين يحي بن شرف (676هـ) : 122- شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة * ابن هشام، أبو محمَّد عبد الملك بن هشام الحميري (218هـ) : 123- السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الإبياري، وعبد الحفيظ شلبي، دار إحياء التراث، القاهرة، الطبعة الثانية، بدون تاريخ. * الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر (807هـ) : 124- كشف الأستار على زوائد البزار، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1405 هـ. 125- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، طبع ونشر دار الريان للتراث، القاهرة ودار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ.
126- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، تحقيق محمَّد عبد الرزَّاق حمزة، بيروت، دار الكتب العلمية، والمطبعة السلفية، القاهرة. * الواقدي، أبو عبد الله محمَّد بن عمر بن واقد (207هـ) : 127- كتاب المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة 1404هـ. * اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب (284هـ) : 128- تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت 1379هـ. ثالثاً: المراجع: * أبو مايلة، بريك بن محمّد بن بريك: 129- السرايا والبعوث النّبويّة حول المدينة ومكّة. * أحمد عادل كمال: 130- الطريق إلى دمشق، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة1405هـ * أحمد مصطفى المراغي: 131- تفسير المراغي، مكتبة ومطبعة البابي الحلبي القاهرة، ط. الخامسة1394هـ * إدوارد جيبون: 132- اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها، تعريب محمَّد علي أبي درة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1969م. * الألباني، محمَّد ناصر الدين: 133- أحكام الجنائز وبدعها، منشورات المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى بيروت 1388 هـ. 134- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، المكتب الإسلامي.
135- تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي (بهامش فقه السيرة) . 136- سلسلة الأحاديث الصحيحة، المكتب الإسلامي. 137- صحيح سنن الترمذي، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج1409هـ. 138- صحيح سنن أبي داود، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض 1408هـ. 139- صحيح سنن ابن ماجه، نشر مكتب التربية العربي 1408هـ. 140- صحيح سنن النسائي، نشر مكتب التربية العربي 1409هـ. 141- ضعيف سنن الترمذي، المكتب الإسلامي. 142- ضعيف سنن ابن ماجه، المكتب الإسلامي. * أمين دويدار: 143- صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، دار المعارف، الطبعة الخامسة. * با شميل، محمَّد أحمد: 144غزوة مؤتة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1394هـ. * با وزير، أحمد محمَّد العليمي: 145- مرويات غزوة بدر، مكتبة طيبة، المدينة المنورة، الطبعةالأولى1400هـ. * البلادي، عاتق بن غيث: 146- رحلات في بلاد العرب، في شمال الحجاز والأردن، دار مكَّة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1403هـ. 147- معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، دار مكَّة للنشر والتوزيع مكَّة المكرَّمة، الطبعة الأولى 1402هـ. * البوطي، محمَّد سعيد رمضان:
148- فقه السيرة، دار الفكر، الطبعة الثامنة، 1400 هـ. * جورجي زيدان: 149- تاريخ التمدن الإسلامي، دار الهلال، القاهرة، بدون تاريخ. * الجنرال. أ. أكرم: 150- خالد بن الوليد، ترجمة العميد الركن صبحي الجابي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1399هـ. * الحكمي، حافظ بن محمَّد: 151- مرويات غزوة الحديبية، منشورات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. * خطَّاب، محمود شيت: 152- خالد بن الوليد، المكتب المصري الحديث، الطبعة الثانية1390هـ 153- دروس عسكرية من السيرة النبوية، محمود شيت خطَّاب، وعبد اللطيف زايد، الناشر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1410هـ. 154- الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، دار الفكر بيروت، الطبعة الخامسة 1394هـ 155- القادة الشهداء في مؤتة، دار قتيبة للطباعة والنشر، الطبعةالأولى1411هـ. * دروزة، محمَّد عزة بن عبد الهادي: 156- سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صور مقتبسة من القرآن الكريم، المكتبة العصرية صيد ابيروت * أبو زيد، شلبي: 157- سيف الله خالد بن الوليد، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعةالثالثة1371هـ. * الساعاتي، أحمد بن عبد الرحمن البنا:
158- بلوغ الأماني في أسرار الفتح الرباني، هامش الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد، دار الشهاب القاهرة. * السيد الباز العريني: 159- الدولة البيزنطية، دار النهضة العربية، بيروت 1982م. * الشريف، أحمد إبراهيم: 160- مكَّة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، دار الفكر العربي، القاهرة 1965م. * الشهري، عوض بن أحمد بن سلطان: 161- مرويات غزوة خيبر، رسالة ماجستير من قسم السنَّة، كلية الحديث، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مطبوعة على الآلة الكاتبة. * عبد القادر حبيب الله السندي: 162- مرويات غزوة تبوك، رسالة ما جستير من قسم السنة في كلية الحديث، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مطبوعة على الآلة الكاتبة. * العقاد، عباس محمود: 163- عبقرية خالد، المكتبة العصرية، بيروت، بدون تاريخ. * العقيد محمَّد صفا: 164- الحرب، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ. * على العتوم: 165- تجربة مؤتة، مكتبة الرسالة الحديثة، عمَّان، الأردن، الطبعةالأولى1406هـ.
* عماد الدين خليل: 166- دراسة في السيرة، مؤسسة الرسالة، ودار النفائس، بيروت، الطبعة السادسة 1402هـ. * العمري، أكرم ضياء: 167- السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة،1412هـ. * الغزالي، محمَّد: 168- فقه السيرة، دار القلم، دمشق، بيروت 1405هـ، الطبعة الثانية * القريبي، إبراهيم بن إبراهيم: 169- مرويات غزوة بني المصطلق، منشورات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. * لانكستر هاردنج: 170- آثار الأردن، تعريب سليمان موسى، منشورات وزارة السياحة والآثار، المملكة الأردنية، عمَّان، الطبعة الثانية 1971م. * محمَّد أحمد أبو زهرة: 171- خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، بدون تاريخ. * محمَّد حميد الله: 172- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس بيروت، الطبعة الخامسة 1405هـ. * محمَّد سيد عطية طنطاوي: 173- السرايا الحربية في العهد النبوي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت.
* مرداد، محمَّد بن عبد الحميد: 174- مدائن صالح تلك الأعجوبة، مطابع الروضة، جدة، السعودية، الطبعة الثانية 1399هـ. * منير محمَّد غضبان: 175- فقه السيرة النبوية، مطبوعات معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أُمّ القرى، مكَّة المكرَّمة، الطبعة الأولى 1410هـ. * هيكل، محمَّد حسين: 176- حياة محمَّد صلى الله عليه وسلم، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الخامسة عشرة. * ياسين سويد: 177- معارك خالد بن الوليد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بدون تاريخ. رابعاً: الدوريات: 178- مجلَّة الأزهر: العدد الثالث والأربعون، الجزء السابع (جيش الروم أيام الفتح الإسلامي، اللواء الركن محمود شيت خطَّاب) . 179- مجلَّة الدارة: العدد الأول، السنة التاسعة، شوال 1403هـ، (وادي القرى-المفهوم والمسمَّى) الأستاذ أحمد عبد الله عبد الكريم. 180- مجلَّة المقتطف: المجلَّد التاسع والخمسون، الجزء الثاني ص 113،114،115 (دومة الجندل) أغسطس 1921م.