غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم

السيد الجميلى

[المدخل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فصلت 3 3

إهداء إلى أبي بعد أبي، وأستاذي فوق أستاذتي، مؤرخ الإسلام البحاثة الكبير الذي أعطاني دائما، ولم يأخذ أبدا ... الذي طالما غمرني ببره ولطفه وحدبه، أبا وأستاذا وعالما موسوعيا. أسأل الله تعالى أن يتولى عني مكافأته وجزاءه لقاء ما أعطى وبذل، وكفاء ما قدم في إخلاص وجد متصل ... إلى الفهامة العملاق الأستاذ الدكتور حسين مؤنس تحية تقدير وعرفان وشكر وامتنان، أدام الله بقاءك لابنك وتلميذك المخلص حتى آخر العمر: السيد الجميلي

ملحوظة لا بد منها الخرائط الواردة بهذا الكتاب مقتبسة فكرتها من «أطلس تاريخ الإسلام» «1» الذي أهداني أستاذي الدكتور حسين مؤنس نسخة منه، مع بعض التصرف وكثير من الاختصار، ولذلك وجب التنويه. السيد الجميلي

_ (1) - عكف أستاذنا الدكتور حسين مؤنس على إعداد هذا «الأطلس» القيم غير المسبوق فيه- زهاء عشرين عاما تقريبا وكنت قريبا منه إبان كان رئيسا لتحرير مجلة الهلال ووقت إعداده، وأدركت مدى ما قدم وبذل من جهد ووقت وتضحية في سبيل إنجاز هذا العمل الضخم، فجزاه الله خيرا.

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد ... فإن الله تعالى لما أراد أن يخلّص البشرية وينقذها من غياهب الشرك والكفر والضلال ليخرجها من الظلمات إلى النور- أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا إليه مبشرا ونذيرا، مبشرا بجنات ورضوان، وروح وريحان، ونذيرا من عذاب جهنم وبئس المصير. جاء صلى الله عليه وسلم لينصر الحق، وليبطل الباطل ليخرج الناس من ذل المعصية، وحمأة الشك والارتياب إلى عز الطاعة، ونور اليقين والتوحيد. وكان أمرا محتوما وبدهيا أن يكون نداء الخير مرفوضا معدولا عنه، من أولئك المنتفعين من الوثنية الصارخة فانبروا إليها شرسين أقوياء، لا لشيء إلا لأن الإسلام ضرب وثنيتهم من مقتل، فزلزل أوضاعهم، وقلب أحوالهم، وكشف عوارهم، وأبان فساد شركهم وكفرهم، وأزال دولتهم لذلك فقد استشعروا لأول وهلة خطورة

هذا الدين، لأن الباطل دائما يخشى أن يفوته نعيم الدنيا الزائف لأن في الباطل والفساد ترتع الأهواء والنزوات، فإذا ما انجلى الريب، وزال الشك، وانحسرت غيوم الفساد والتردي انقلبت أوضاع أهل الضلال لينقلبوا صاغرين مدحورين، مغلولين ... لذلك فقد وقف المعاندون صفا كثيفا ضد الإسلام وانبروا له واهمين أنهم في مقدورهم ان ينالوا منه شيئا وخاب ظنهم، وتشعب صدعهم، وتفرقت قواهم، فقد قلّم الإسلام أظفارهم، ونحت أثلتهم، وأباد خضراءهم، واستأصل شأفتهم وقص صاجهم فدلكت شمس غرورهم، وشتت الله شملهم وأبادهم أيادي سبأ، وقد أتى الإسلام بنيانهم من القواعد. كان رجال الإسلام ليوث غاب، وأسود شرى، لا تنبو سيوفهم عن ضريبة، ولا تكل لهم عزيمة، ولم تفتر لهم همة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» وهذه دعوة صريحة، وأمر مباشر للقتال في سبيل الله. ومهما لاقى المسلم في سبيل الجهاد في سبيل الله فإن عليه ألايهون، وأن لا يحزن، وألايستسلم، لأنه موعود بنصر الله، فهو ظافر رابح غانم على كل حال فإن هو استشهد فاز بجنات النعيم، وإن صبر على حر اللقاء والطعان والضراب كان منصورا بعون الله وتمكينه. قال تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» ثم يقول: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ «3» . لكن ولماذا الجهاد والغزو، والحرب وما فيها من هلاك ودمار وإتيان على

_ (1) - البقرة (2/ 244) . (2) - آل عمران (3/ 139) (3) - آل عمران (3/ 140) . والقرح: الجراح- بالقاف المثناة الفوقية المفتوحة- وهي أيضا بالضم، قيل: إن الفتح والضم لغتان فيها مرويتان عن الأخفش والكسائي على ما ذكر القرطبي في جامعه (4/ 217) لكن الطبرى في تفسيره (7/ 237) قال: - «إن قراءة الفتح في الحرفين هي أولى القراءتين بالصواب» أ. هـ. بتصرف من جامع البيان.

الأنفس والأرواح؟؟ وكان في الامكان أن ينصر الله تعالى رجاله المسلمين وهم قاعدون من غير مشقة ولا مناوأة مع أعداء الله ... لكن هناك حكمة في ذلك وهي الإبتلاء والتمحيص والاختبار حتى يعلم الله المجاهدين والصابرين من غير المجاهدين وغير الصابرين، فتكون الجنة ونعيمها مال الأولين، والنار وسعيرها مصير المقصرين. قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «1» . وقال أيضا: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ «2» . ثم إن قتال المشركين فيه حسم وقطع لدابر الفتنة. قال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ «3» . ومن ثم فإن الأمر واضح وصريح في مجاهدة الكفار والتشديد عليهم، وعدم الشفقة بهم؛ لأنهم أعداء الله وأعداء رسوله قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ «4» .

_ (1) - آل عمران (3/ 142) (2) - آل عمران (3/ 146) معنى الآية: وكم كثير من نبي قاتل إلى جواره جماعات كثيرة شتى، لأن الرببين أصلها من الربة: وهي الجماعة، يقال للجمع ربي كأنه منسوب إلى الربة، ثم يجمع ربى بالواو والنون فيقال: ربيون. وقيل: إن ذلك معناه: الألوف. راجع لسان الصرب لابن منظور (1/ 392) بتصرف وزيادة. (3) - الانفال (8/ 39) (4) - التحريم (66/ 9) الجهاد للكفار هنا بالسيف والقتال وجهاد المنافقين بالجدل الحسن والمحاورة ودحض الحجة.

لذلك كان الإسلام قويا صلبا إزاء أعداء الحق وأعداء التوحيد، وعلى صخرته القعساء «1» تهشم وتحطم بطلان الباطلين وفساد المفسدين وإشراك المشركين. وبدأ المسلمون في النشاط العسكري بعد نزول الإذن بالقتال، وقاموا بحركات عسكرية أشبه ما تكون بالدوريات الإستطلاعية «2» . كان على هذه الدوريات الإستطلاعية، استكشاف الطرق، ودراسة مداخل ومخارج المدينة لرصد تحركات العدو من أي من السبل المتصلة بالمدينة. بلغ جيش المسلمين غاية القوة والمنعة وهم قليل بسبب قوة العزيمة، والثقة بنصر الله، والرغبة في رضوانه من جنات النعيم من دار المقامة، وكانوا نتيجة تحقيرهم شأن الدنيا موزعين ومولعين بنعيم الآخر، فكانوا لذلك مسارعين للطاعات، مقبلين على الجهاد بالنفوس والنفائس. إن الذي تهون عليه نفسه، وينافح عن عقيدة، ويذب عن قضية يعتقدها لا يصرفه توجس، ولا يفت في ساعده شكيمة خصم مماري، أو متلدد مداري. وكان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين غزوة، قاتل منها في تسع غزوات. كما كانت بعوثه وسراياه ثمانية وثلاثين من بعث وسرية، وكان آخر بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد إلى الشام. باستعراض هذه الغزوات المتلاحقة، والمواقع الشرسة والملاحم الدامية تنجلي وتتبلور الصورة في أسمى وأجلى معانيها من البذل والفداء وكسب المذخور، واجتناب المحظور، ونقض الباطل ودحض الضلال وطرح الفساد وتطويح الوثنية.

_ (1) - القعساء: الثابتة المنيعة. (2) - كل ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيه سماه المؤرخون (غزوة) سواء حارب فيها أم لم يحارب، وسموا ما خرج فيه أحد قادتة سرية.

وليس هناك كالصبر مطية النجاة، مهما طال المدى، وبعدت الشقة فمن كان الصبر مطيته، والجلد حليته، وركب ليل الأهوال حجلا لمراميه، خليق أن ينال بمراده ويهنأ بمقصوده. إن الدنيا رخيصة هينة عند أرباب البصائر المشحوذة والهمم العالية، فإنهم يدركون حقيقتها المجردة، وهي دار ظعن وارتحال، وتحول ومزايلة، إلى الأبدية الدائمة غير المشكوك فيها. هذه الدنيا من الدنية، من أضرب عنها وقعد عنها أتته راغمة، ومن أبصر إليها أعمته، ومن بصر بها وتأبى عليها نجا وفاز. ومن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. بنصر الله ويقينه وتمام نعمته، وكمال أمره يكون النصر والظهور والفلج والغلبة لأوليائه وأحبابه، والهوان والمذلة والتوهين لأعدائه الموتورين، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وقد أصبحوا جزرا لسيوف الحق الأبلج، مسوقين للموقف المحتوم وقد شربوا كئوسا روية وقد عللوا ونهلوا منها خابطين في الفتن الهوج المدمرة التي تأكل اليابس والأخضر. وبدراسة هذه الغزوات والوقائع والمجالدات الصارمة مع أعداء الإسلام ندرك مدى معاناة الحق والصدق من أهل اللجاجة والباطل، لكن رحمة الله قريب من المحسنين، ولينصرن الله من ينصره، ومن يجمعه الله لا يفرقه إنسان ولا بد أن ينتصر المظلوم وينتصف من الظالم مهما طال المدى، مهما اصفر ورق الأمل، ومهما كان اغورار الماء، أو الإياس من الثمر. هذا والخير أردت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. السيد الجميلي المعادي- القاهرة- مصر رمضان المعظم 1414 هـ/ مارس 1993 م.

الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالقتال عاش المسلمون في المدينة يحدق بهم الخطر من كل جانب، ويعتورهم الظلم والبغي والعدوان، يسومهم المشركون والكفار العذاب من كل صوب ومن كل ناحية لذلك أذن لهم عندئذ بالقتال. روي عن أبي بن كعب- رضي الله عنه- قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه. قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «1» . ولم يكن الإذن بالقتال إلا لدفع الظلم، وردع الفساد، وإقامة شعائر الله تعالى. وقال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ «2» .

_ (1) - الحج (22/ 39) (2) - الحج (22/ 41) قال ابن عباس- رضي الله عنهما: - «هم المهاجرون والأنصار، والتابعون لهم بإحسان» أ. هـ. وكان هذا في مقام ذكر استحقاقهم بنصر الله وتأييده. راجع أيضا المعنى عن ابن كثير في المختصر (2/ 584) .

خريطة رقم (1) طريق الهجرة طريق الهجرة الجادة المعتدلة

خريطة رقم (2) مكة المكرمة

سرية حمزة إلى سيف البحر

إن الثابت الراجح نزول هذا الإذن بالقتال بالمدينة بعد الهجرة وليس بمكة. ولعل السبب المباشر وراء البعوث والغزوات، والسرايا إنما هو إثبات قوة المسلمين، وصلابة شوكتهم، وقوة عارضتهم، وأنهم لم يصبحوا ضعفاء. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرمل: «رحم الله امرآ أراهم اليوم من نفسه قوة» . لذلك فقد كان أهم مقصود الغزوات والسرايا إثبات عزة المسلمين، وقوتهم ورفعة شأنهم. لقد بدأ المسلمون نشاطهم العسكري ليدفعوا آثار الضعف والوهن والإستخذاء، وحتى يكف المشركون أيضا عن إنزال الأذى بالمسلمين الذين في مكة. سرية حمزة إلى سيف البحر كان أول لواء في شهر رمضان للسنة الأولى من الهجرة الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وبالتحديد على رأس سبعة أشهر في مارس 623 م سنة ثلاث عشرة وستمائة بعد ميلاد المسيح. أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب «1» ، ومعه حليفه أبو مرتد كناز الفنوي الذي حمل اللواء الأبيض. كان قوام هذا اللواء ثلاثا وثلاثين ولكن الصحيح أنهم ثلاثون رجلا من المهاجرين، وقد انطلقوا ليعترضوا عيرا قادمة من الشام لقريش، وكان فيهم أبو جهل بن هشام. كانت قوة العير ثلاثمائة رجل، أي عشرة أضعاف قوة المسلمين وما أن بلغوا

_ (1) - أنظر ترجمة حمزة بن عبد المطلب في صفة الصفوة لأبه الجوزى (1/ 144) والرمض الأنف للسهيلي (1/ 185) وتاريخ الخميس (1/ 164) وكتاب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم للسيد الجميلي ص 69 وما بعدها.

سرية عبيدة بن الحارث

سيف البحر من ناحية العيص «1» ، حتى اصطف كل فريق متأهبين للقتال. لكن مجدي بن عمرو الجهني الذي كان حليفا لكلا الفريقين قد مشى بين كليهما حتى حال بين المصادمة فانصرف الفريقان ولم يقتتلوا «2» . سرية عبيدة بن الحارث ثم بعث عليه الصلاة والسلام بسرية إلى بطن «رابغ» «3» تحت قيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب، في أربعة أيام خلون من شوال على رأس ثمانية أشهر من العام الأول للهجرة المشرفة، وكان قوام تلك السرية ستين راكبا من المهاجرين، ولم يكن من بينهم أنصاري واحد، فالتقى المهاجرون بأبي سفيان بن حرب في مائتين شاكين السلاح مكفرين في لئامهم «4» . كان اللواء الأبيض للمهاجرين معقودا بيد مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب بن بن عبد مناف. تقابل الفريقان، وترامى كل منهما الآخر لكن لم يصطفا لقتال، ولم ينتصفوا «5»

_ (1) - العيص: مكان ناحية الجرا الأحمر بين المروة وينبع. (2) - راجع السيرة النبوية لأبة هشام (2/ 393) وتاريخ الطبرى (2/ 120) والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 6) . (3) - تقع رابغ على بعد عشرة أميال من الججفة. (4) - اللئام: جمع لامة. (5) - إنتصنوا السيوف: إستلوها.

غزوة الأبواء (غزوة ودان)

السيوف، وإنما لم يتعد الأمر مجرد مناوشة وكان ثمة سعد بن أبي وقاص في المهاجرين، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله. وانتهى الموقف بانصراف الفريقين على حاميتهم «1» . سرية سعد بن أبي وقاص «2» إلى الخرّار «3» في ثمانية رهط من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو، قيل إنهم كانوا عشرين راكبا، ثم اعترضوا عيرا لقريش، ولما أن بلغ الخرار من أرض الحجاز يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى صبحوا المكان صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس «4» ونقل عن ابن هشام أن من أهل العلم من ذكر أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة «5» . غزوة الأبواء «6» (غزوة ودّان) وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكانت في صفر على رأس اثنى

_ (1) - السيرة النبوية لابن هشام (2/ 390) والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 7) . (2) - راجع ترجمته في صفة الصفوة لأبه الجوزي (1/ 138) والإصابة ت (3187) والكنى والأسماء (1/ 11) وحلية الأولياء (1/ 92) (3) - الخرار: واد معروف من أودية المدينة، وقيل هي آبار المحجة بالقرب من خم. (4) - راجع السيرة النبوية لابن هشام (2/ 396) بتحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 7) وابن سيد الناس (1/ 225) (5) - السيرة النبوية السابق (2/ 396) وتاريخ الطبرى (2/ 120) ، وزاد المعاد لأبه قيم الجوزية (3/ 164) . (6) - الأبواء: قرية بينها وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلا.

غزوة بواط

عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج في المهاجرين ليس فيهم أنصاري واحد ليعترض عيرا لقريش، وكان ذلك لا ثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حتى بلغ (ودّان) «1» يريد قريشا وبني ضمرة، ثم إنه لما بلغ الأبواء لم يلق كيدا. وكان الذي وادعه منهم عليهم سيدهم في زمانه فخشي ابن عمرو الضمري، على ألا يغزو بني ضمرة، ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعا ولا يعينوا عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا. وكانت غيبته خمس عشرة ليلة «2» . غزوة بواط ثم كانت غزوة بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، ثم خرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي، ومائة رجل من قريش، والفان وخمسمائة بعير، فبلغ (بواطا) «3» . وبين المدينة وبواط نحو أربعة برد فلم يلق صلى الله عليه وسلم كيدا فرجع إلى المدينة «4» .

_ (1) - ابن سعد (2/ 8) وابن هشام (2/ 394) وزاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 164، 165) . (2) - راجع ابن سيد الناس (1/ 224) وتاريخ الطبرى (3/ 121) والطبقات الكبرى لابن سعد (82) وزاد المعاد (3/ 164) و (165) . (3) - في الطبقات الكبرى (بواط) وهي جبال من جبال جهينة من ناحية رضوى، وهي قريب من ذى خشب مما يلي طريق الشام. (4) - تاريخ الطبرى (3/ 122) والطبقات الكبرى (2/ 8، 9) .

غزوة كرز بن جابر الفهري

غزوة كرز بن جابر الفهري ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوته هذه لطلب كرز بن جابر الفهري، في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره، وكان حمل لواءه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه- وكان لواء أبيض، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وكان كرز بن جابر قد أغار على سرح المدينة فاستاقه، وكان يرعى بالحمى «1» وقد طلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ واديا يقال له (سفوان) «2» من ناحية بدر، وفاته كرز؛ فلم يلحقه، فرجع لى المدينة. غزوة العشيرة «3» ثم غزا صلى الله عليه وسلم قريشا، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان ذلك في جمادي الآخرة على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره، وكان حمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان لواء أبيض، وخرج في خمسين ومائة، وقيل: في مائتين من المهاجرين، ممن انتدب، ولم يكره أحدا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها؛ يعترضون عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام وكان قد جاء الخبر بفصولها من مكة فيها أموال قريش، فبلغ ذا العشيرة «4» ، وهي لبني مدلج بناحية ينبع «5» ، فوجد

_ (1) - وردت في الطبقات الكبرى (2/ 9) : بالجماء- والجماء جبل ناحية العقيق إلى الجرف، بينه وبين المدينة ثلاثة أميال. (2) - أنظر تاريخ الطبرى (3/ 122) ووردت (سفوان) فيه بلفظ (هفوان) وهذا تحريف من النساخ. (3) - في الطبقات الكبرى: (2/ 9) غزوة ذي العشيرة. (4) - وقيل العشيراء بالمد، وقيل: العسيرة بالمهملة. (5) - بين ينبع والمدينة تسعة برد.

سرية عبد الله بن جحش الأسدي

العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها أيضا حين رجعت من الشام فساحلت على البحر، وبلغ قريشا خبرها فخرجوا يمنعونها، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فواقعهم وقتل منهم من قتل. وهي ذات الشوكة التي وعده الله إياها، ووفى له بوعده. وبذى العشيرة كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أبا تراب «1» . سرية عبد الله بن جحش الأسدي ثم بعث سرية عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في شهر رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، وكان بعثه في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان بعيرا إلى بطن نخلة، يرصدون عيرا لقريش فوردت عليه، فها بهم أهل العير، وأنكروا أمرهم. وفي هذه السرية سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين وكان النبي صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا، وأمره ألاينظر فيه إلا بعد أن يسير يومين، ثم ينظر فيه، ولما فتح الكتاب وجد فيه: - «إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم» فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت، فليرجع، فمضوا كلهم.

_ (1) - في هذه الغزوة وادع صلى الله عليه وسلم بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا. راجع ابن سعد (2/ 9، 10) وابن هشام (2/ 395، 396) وزاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 166) وتاريخ الطبري (2/ 122) .

فلما كان أثناء الطريق،! ضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، وبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان ونوفل: ابنا عبد الله بن المغيرة، والحاكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم أجمعوا على ملاقاتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام. وأنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوا «1» ، واشتد تعنت قريش واستنكارهم لذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا؛ فقالوا: قد أحل محمد الشهر الحرام. واشتد على المسلمين ذلك حتى أنزل الله تعالى: - يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ؟ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «2» . يقول الحق تبارك وتعالى: هذا الذي أنكرتموه عليهم، وإن كان كبيرا، فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصد عن سبيله، وعن بيته، وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به أكبر

_ (1) - قيل: لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير والأسيران ولم يأخذ من ذلك شيئا، وعندئذ سقط في أيدى القوم وظنوا أنهم هلكوا. (2) - البقرة (2/ 217) أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام: هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر الحرام. وقوله تعالى قتال فيه كبير) أي القتال فيه عظيم عند الله. والفتنة في الآية هي الشرك وهذا المعنى ما انتهى إليه وتواطأ عليه أكثر علماء السلف رضي الله عنهم أجمعين.

عند الله من قتالهم في الشهر الحرام. وذلك كقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ «1» وقوله تعالى أيضا: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» . أي إن مال شركهم، وعاقبته وآخر أمرهم، إلا أن أنكروه وتبرؤوا منه «3» . قال ابن اسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن الله عز وجل قسّم الفيء حين أحله، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه الله، وخمسا إلى الله ورسوله، فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع من تلك العير. قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون. وقال ابن اسحاق: ويقال صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

_ (1) - البقرة (2/ 193) راجع ذلك المعنى ومعاني كلمة الفتنة في القرآن في تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 215. (2) - الأنعام (6/ 23) . (3) - الفتنة لفظ مشترك ينسحب ويقع على كثير من المعاني، وبالإحصاء على وجه التحديد، وقع على خمسة عشر وجها: - فالفتنة هي الإختبار، والفتان هو الشيطان لقوله: (وفتناك فتونا) العنكبوت 3. وبمعنى الشرك كما في قوله: (والفتنة أشد من القتل) وبمعنى الكفر لقوله (ابتغاء الفتنة) آل عمران 7، وبمعنى العذاب لقوله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ) العنكبوت 10، وبمعنى الإحراق بالنار كقوله: (فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) البروج 10، وبمعنى القتل لقوله (أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) النساء 101، وبمعنى الصد، بقوله (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) المائدة 49، وبمعنى الضلالة لقوله (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) المائدة 44، وبمعنى المعذرة لقوله (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) الانعام 23، وبمعنى العبرة، كقوله تعالى: - «لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يونس 85، وبمعنى الجنون (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) القلم 6، وبمعنى العقوبة كقوله (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) النور 63. وبمعنى الرسن ومنه: - (يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) براءة 126، وبمعنى القضاء لقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) الأعراف 155.

غزوة بدر الكبرى

غزوة بدر الكبرى «1» لما كان من أمر انصراف عير قريش من الشام في رمضان من تلك السنة، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر هذه العير، بصبحة أبي سفيان بن حرب، وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة، وكانوا أربعين رجلا، وهي حافلة بأموال كثيرة لقريش. ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إلى هذه العير وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج والنهوض فورا، ولم يحتفل لها احتفالا بليغا، لأنه خرج مسرعا من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي ومرتد ابن أبي مرتد الفنوي يعتقبون بعيرا، وزيد بن حارثة، وابنه، وكبشة موالى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا، وأبو بكر وعمر، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم فلما كان بالروحاء «2» رد أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب، والآخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وسار، فلما قرب من الصفراء، بعث بسيس بن عمرو الجهني، وعدي ابن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير، وأما أبو سفيان «3» ، فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ (1) - السياق نقلا من زاد المعاد (3/ 171) وما بعدها بتصرف، وانظر غزوة بدر أيضا في سيرة ابن هشام (2/ 401- 481) والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 11) وما بعدها وتاريخ الطبري (2/ 131) . (2) - الروحاء: - بفتح الراء وسكون الواو- قرية تقع على قرابة أربعين ميلا من المدينة. (3) - قال ابن إسحاق: - «وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الناس من الركبان: أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك» أ. هـ. من سيرة ابن هشام بتصرف (2/ 401) .

خريطة رقم (3) موقعة بدر

وقصده إياه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة، مستصرخا قريش بالنفير إلى عيرهم؛ ليمنعوه من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخ أهل مكة؛ فنهضوا مسرعين وأوعبوا «1» في الخروج لم يتخلف منهم أحد، انسابوا مهروعين من بطون قريش إلا بني عدي، حيث لم يخرج منهم أحد، وخرجوا من ديارهم كما قال الله تعالى: بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «2» وأقبلوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بحدهم وحديدهم، تحادّه وتحاد رسوله» ، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم انثيال القرشيين عليه قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها؛ تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة» . جاؤوا على حرد قادرين، وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يريدون من أخذ غيرهم وقتل من فيها، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي، والعير التي كانت معه، فجمعهم الله على غير ميعاد، كما قال الله تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «3» . لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا؟ وكان إنما يعنيهم؛ لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود «4» في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم. فقال سعد بن معاذ: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا

_ (1) - أوعب القوم: إذ أخرجوا جميعا للغزو. (2) - الأنفال (8/ 47) . (3) - الأنفال (8/ 42) . (4) - تأمل قول العرب (الأحمر والأسود) وهذا هو العربي الفصيح من التعبير، ونحن نرى من الأخطاء اللغوية الشائعة من يقول: (الأبيض والأسود) فإن أحدا من فصحاء العرب لم يقل ذلك بحال.

ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن «1» حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان، لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك. وقال له المقداد: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، وكلنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرّ بما سمع من أصحابه، وقال: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم» . فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، ولما أنه قد نجا، وأحرز العير كتب إل قريش: أن ارجعوا، فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم، فأتاهم الخبر، وهم بالجحفة، فهموا بالرجوع، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدرا، فنقيم بها، ونطعم من حضرنا من العرب، وتخافنا العرب بعد ذلك، فأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع، فعصوه، فرجع هو وبنو زهرة، فلم يشهد بدرا زهرى، فاغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعا معظما، وأرادت بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع فساروا، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عشيا أدنى ماء من مياه بدر، فقال: «اشيروا عليّ من المنزل» فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أنا عالم بها وبقلبها، إن رأيت أن نسير إلى قلب قد عرفناها، فهي كثيرة الماء، عذبة، فننزل عليها ونسبق القوم إليها، ونغوّر ما سواها من المياه. وسار المشركون سراعا يريدون المياه، وبعث عليا، وسعدا والزبير إلى بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فسألهما

_ (1) - الظعن: الإرتحال.

أصحابه: من أنتما؟ قالا: نحن سقاة لقريش، فكره ذلك أصحابه، وودوا لو كانا لعير أبي سفيان، فلما سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: أخبراني، أين قريش؟ قالا: وراء هذا الكثيب. فقال: كم القوم؟ فقالا: لا علم لنا، فقال: كم ينحرون كل يوم؟ فقالا: يوما عشرا، ويوما تسعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين تسعمائة إلى الألف. فأنزل الله عز وجل من تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلّا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطّأ به الأرض، وصلّب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط على قلوبهم، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطر الليل، وصنعوا الحياض، ثم غوّروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض. وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا يكون فيها تل يشرف على المعركة، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان فما تعدى أحد منهم موضع إشارته «1» . فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - «اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها جاءت تحادك، وتكذب رسولك» ثم قام ورفع يديه، واستنصر ربه وقال: - «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» فالتزمه الصديق من ورائه، وقال: يا رسول الله، أبشر، فو الذي نفسي بيده، لينجزن الله لك ما وعدك» «2» . وقد أخرج البخاري «3» في صحيحه من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-

_ (1) - راجع صحيح مسلم (1779) من حديث أنس، مسند الإمام أحمد (1/ 117) من حديث علي- رضي الله عنه- (2) - أخرجه الإمام مسلم في الصحيح (1763) من حديث عمر. (3) - أخرجه النجاري (4/ 111/ 2915) في كتاب الجهاد عن أبن عباس. وعنه أيضا في التفسير- باب تفسير سورة اقتربت الساعة وانشق القمر (6/ 254/ 4875) .

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: - «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك. فخرج وهو يقول: - «سيهزم الجمع ويولون الدبر» . استنصر المسلمون الله تعالى واستغاثوه.. وأخلطوا له، وتضرعوا إليه، فأوحى الله إلى ملائكته: - «أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب» «1» . وكان الحق سبحانه وتعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: - أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «2» . فقيل: إن المعنى أنهم ردف لكم، وقيل يردف بعضهم بعضا أرسالا، لم يأتوا دفعة واحدة. قال الإمام ابن قيم الجوزية «3» : - فإن قيل: ها هنا ذكر أنه أمدهم بألف، ومن سورة آل عمران قال: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «4» . فكيف الجمع بينهما؟؟؟ قيل إنه قد اختلف من هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف، والذي بخمسة الآلاف على قولين: -

_ (1) - الأنفال (8/ 12) . (2) - الأنفال (8/ 9) تقول العرب: أردف الرجل إذا أركبه على عجز دابته خلفه، وتقول ردفته.، إذا ركبت خلفه. (3) - زاد المعاد (3/ 177) . (4) - آل عمران (3/ 124- 125) وقوله تعالى: مسومين: أي معلمين بعلامة الحرب، وهو مأخوذ من السيما، وقال صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر تلك: - «تسوموا فإن الملائكة قد تسومت» مخاطبا بذلك أصحابه- راجع تفسير الطبري (6/ 16) .

أحدهما: أنه كان يوم أحد، وكان إمدادا معلقا على شرط، فلما فات شرطه، فات الإمداد «1» . ثانيهما: أنه كان يوم بدر «2» . والقائلون بهذا حجتهم أن السياق يدل على ذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى قال: - وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا «3» . ثم قال عز من قائل: - وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ قال هؤلاء: فلما استغاثوا أمدهم بتمام ثلاثة آلاف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف، لما صبروا واتقوا، فكان التدريج، ومتابعة الإمداد أحسن موقعا، وأقوى لنفوسهم، وأسر لها من أن يأتي به مرة واحدة وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة. قالت الفرقة الأولى: المقصة في سياق أحد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها، فإنه سبحانه قال: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «4» . كذلك قوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ «5» . ثم يقول بعدها: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فذكرهم نعمته عليهم لما نصرهم يوم بدر، وهم أذلة،

_ (1) - هذا قول الضحاك ومقاتل، وإحدى الروايتين عن عكرمة. (2) - وهو قول أبن عباس- رضي الله عنهما- ومجاهد، وقتادة، والرواية الآخرى عن عكرمة. وهذا اختاره طائفة من المفسرين. (3) - آل عمران (3/ 123- 125) . (4) - آل عمران (3/ 121) . (5) - آل عمران (3/ 123) .

ثم عاد إلى قصة أحد، وقد أخبرهم عن قول رسوله لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى: وهذا بخمسة آلاف، وإمداد بدر بألف وهذا معلق على شرط، وذلك مطلق. والقصة في سورة آل عمران هي قصة أحد مستوفاة مطولة، وفيها ذكرت بدر اعتراضا. والقصة مذكورة مستوفاة مطولة في سورة الأنفال، ولذلك سميت سورة الأنفال ب (سورة بدر) عند بعض العلماء. فالسياق في (آل عمران) غير السياق في الأنفال، ويوضح هذا أن قوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا «1» . وقد قال مجاهد: إنه يوم أحد، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر، وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد. والله تعالى أعلم. وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هناك، وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية، فلما أصبحوا، أقبلت قريش في كتائبها، واصطف الفريقان، فمشى حكيم بن حزام، وعتبة بن ربيعة في قريش، أن يرجعوا ولا يقاتلوا فأبى ذلك أبو جهل، وجرى بينه وبين عتبة كلام أحفظه «2» ، وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب دم أخيه عمرو، فكشف عن إسته «3» ، وصرخ واعمراه، فحمي القوم ونشبت الحرب، وعدّل رسول صلى الله عليه وسلم الصفوف، ثم رجع

_ (1) - آل عمران (3/ 125) . (2) - أحفظه: أوجده، وأثار حفيظته. (3) - الإست: الدبر. وفتحة الشرج.

إلى العريش هو وأبو بكر- رضي الله عنه- خاصة وقام سعد بن معاذ في قوم من الأنصار على باب العريش يحمون رسول صلى الله عليه وسلم. وخرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة يطلبون المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، عبد الله بن رواحة، وعوف، ومعوذ ابنا عفراء، فقالوا لهم: من أنتم؟ فقالوا: من الأنصار قالوا: أكفاء كرام، وإنما نريد بني عمنا، فبرز إليهم علي، وعبيدة بن الحارث وحمزة، فقتل علي قرنه الوليد، وقتل حمزة قرنه عتبة، وقيل شيبة، واختلف عبيدة وقرنه ضربتين، فكرّ عليّ وحمزة على قرن عبيدة فقتلاه، واحتملا عبيدة، وقد قطعت رجله فلم يزل ضمنا حتى مات بالصفراء. وكان علي يقسم بالله لنزلت هذه الآية فيهم: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «1» . ثم حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب، واشتد القتال وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء والإبتهال ومناشدة ربه عز وجل حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: بعض مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك. فأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، وأخذ القوم النعاس في حال الحرب، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» . وجاء النصر، وأنزل الله جنده وأيد الله رسوله والمؤمنين ومنحهم أكتاف المشركين أسرى وقتلى، فقتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين. ولما عزموا على الخروج، ذكروا ما بينهم وبين بني كنانة من الحرب، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة المدلجي (سراقة ابن مالك) وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا، والشيطان جار لهم، لا يفارقهم، فلما تعبأوا للقتال، ورأى

_ (1) - الحج (22/ 19) .

عدو الله جند الله قد نزلت من السماء، فرّ ونكص على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا لا تفارقنا؟، فقال: إني أرى ما لا ترون. إني أخاف الله والله شديد العقاب. وصدق في قوله: «إني أرى ما لا ترون» وكذب في قوله: «إني أخاف الله» وقيل: كان خوفه على نفسه أن يهلك معه، وهذا أظهر. ولما رأى المنافقون، ومن في قلبه مرض قلة حزب الله، وكثرة أعدائه ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة، وقالوا: «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» «1» فأخبر سبحانه وتعالى أن النصر بالتوكل عليه، لا بالكثرة ولا بالعدد، والله عزيز لا يغالب، حكيم ينصر من يستحق النصر، وإن كان ضعيفا فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه. ولما دنا العدو، وتواجه القوم، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فوعظهم، وذكرهم بما لهم في الصبر والثبات من النصر، والظفر العاجل، وثواب الله الآجل وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله فقام عمير بن الحمام فقال: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال نعم، بخ بخ «2» ؟ قال: لا، والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: - «فإنك من أهلها» قال: فأخرج ثمرات «3» من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل من تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل، فكان أول قتيل. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء كفيه من الحصباء فرمى به وجوه العدو «4» ، فلم تترك

_ (1) - الأنفال (8/ 49) . (2) - بخ بخ: فيه لغتان:؛ إسكان الخاء، وكسرها منونا، وهي إسم فعل بمعنى أستحسن، وهي تطلق لتعظم الأمر وتخفيفه، ويكون ذلك في الخير. (3) - أخرج تمرات من قرنه: أي أخرجها من جعبة النشاب. (4) - وقد أخرج الإمام الطبراني بسنده من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: «ناولني كفا من حصى فناوله، فرمى به وجوه القوم، فما بقى أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء، فنزلت: - «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» الأنفال (8/ 17) .

رجلا منهم إلا ملأت عينيه، وشغلوا بالتراب في أعينهم، وشغل المسلمون بقتلهم. وفي حديث عبد الله بن صعير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فأخذ كفا من الحصى بيده، ثم خرج فاستقبل القوم فقال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها ثم قال لأصحابه: (احملوا، فلم تكن إلا الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديدهم، وأسر من أسر منهم) . أنزل الله تعالى في شان هذه الرمية، على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: - «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) «1» . وقد ظن طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد، وإثباته لله، وإنه هو الفاعل الحقيقي، وهذا غلط وفساد منهم من وجوه عديدة مذكورة عند أكثر أهل العلم من المفسرين وفي غير هذا الموضع. كانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم، قال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وسوط الفارس فوقه يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا، فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمعه، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة) «2» . وقال أبو داود المازني: «إني لأتبع رجلا من المشركين؛ لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري» «3» .

_ (1) - الأنفال (8/ 17) معنى الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ثبت له إبتداء الرمي، وقد نفى الله عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال. (2) - أخرجه مسلم في الصحيح (1763) من حيث عمر- رضي الله عنه-. (3) - أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 30) .

وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب «1» أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، ما أراه من القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم» وأسر من بني عبد المطلب ثلاثة: العباس، وعقيل، ونوفل ابن الحارث «2» . وثبت أن إبليس لما رأى ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه، فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يظنه سراقة بن مالك، فوكزه في صدر الحارث، فألقاه، ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر، ورفع يديه وقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي، وخاف أن يخلص وينتهي إليه القتل، فأقبل أبو جهل ابن هشام فقال: يا معشر الناس، لا يهز منكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتية وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال. ولألقين رجلا منكم قتل رجلا منهم، ولكن خذوهم «3» أخذا؛ حتى نعرفهم سوء صنيعهم. واستفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتلنا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحبّ إليك، وأرضى عندك فانصره اليوم، فأنزل الله عز وجل: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ «4» . ولما وضع المسلمون أيديهم في العدو يقتلون ويأسرون، وسعد ابن معاذ واقف

_ (1) - راجع ترجمة العباس بن عبد المطلب في: صفة الصفوة لابن الجوزي (1/ 203) وتهذيب ابن عساكر (7/ 226) وتاريخ الخميس (1/ 165) . (2) - أخرجه أحمد (1/ 117) من حديث علي- رضى الله عنه. (3) - خذوهم: إئسروهم، والأخيذ هو المأسور. (4) - الأنفال (8/ 19) .

على باب الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العريش متوشحا بسيفه في ناس من الأنصار رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كأنك تكره ما يصنع الناس؟» قال: أجل، والله كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين. وكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال. ولما بردت الحرب، وولى القوم مدحورين مهزومين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل» ؟ فانطلق ابن مسعود، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، وأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل؟ فقال: لمن الدائرة اليوم؟ فقال: لله ولرسوله، وهل أخزاك الله، يا عدو الله؟ فقال: وهل فوق رجل قتله قومه؟ فقتله عبد الله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلته، فقال: «الله الذي لا إله إلا هو، فرددها ثلاثا، ثم قال: «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق، أرنيه» فانطلقنا، فأريته إياه، فقال: هذا فرعون هذه الأمة «1» . وأسر عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف، وابنه عليا، فأبصره بلال، وكان أمية يعذبه بمكة، فقال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، ثم استوخى «2» جماعة من الأنصار واشتد عبد الرحمن بهما يحرزهما منهم، فأدركوهم، فشغلهم عن أمية بابنه ففرغوا منه ثم لحقوهما فقال له عبد الرحمن: أبرك، فبرك، فألقى نفسه عليه، فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه، وأصاب بعض السيوف رجل عبد الرحمن بن عوف. قال له أمية قبل ذلك: من الرجل المعلم في صدره بريشة نعامة؟ فقال: ذلك حمزة بن عبد المطلب، فقال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل؟ وكان مع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، فلما رآه أمية، قال له: أنا خير لك من هذه الأدراع فألقاها وأخذه، فلما قتله الأنصار، كان يقول: يرحم الله بلالا، فجعني بأدراعي، وبأسيري.

_ (1) - أخرجه البخاري مختصرا ومسلم في الصحيح (1800) والإمام أحمد في المسند (3/ 115) من حديث أنس. (2) - إستوخى: إستصرخ.

وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم جزلا من حطب فقال: - «دونك هذا، فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفا طويلا شديدا أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به، حتى قتل في الردة أيام أبي بكر. ولقي الزبير عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مدجج في السلاح لا يرى منه إلا الحلق، فحمل عليه الزبير بحربته، فطعنه في عينه فمات، فوضع رجله على الحربة، ثم تمطى فكان الجهد أن نزعها وقد انثنى طرفاها. قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه فسأله إياها عمر، فأعطاه إياها، فلما قبض عمر، أخذها، ثم طلبها عثمان، فأعطاه إياها، فلما قبض عثمان، وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، وكانت عنده حتى قتل «1» . قال رفاعة بن رافع: «رميت بسهم يوم بدر، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا لي، فما آذاني منها شيء» . ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: - «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني، وأخرجتموني وآواني الناس» . ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر، فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: - «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما تخاطب من أقوام قد جيّفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب» «2» .

_ (1) - أخرجه البخاري في الصحيح. (2) - أخرجه البخاري (5/ 187/ 3980) عن ابن عمر في المغازي وفي نفس الباب عن ابن شهاب (5/ 203/ 4026) .

ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثا، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا. ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم مؤيدا منصورا، قرير العين بنصر الله وتمام نعمته وفضله، ومعه الأسارى والغنائم، ثم قسم الغنائم، وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة، ثم لما نزل بعرق الظبية ضرب عنق عقبة بن أبي معيط. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مؤيدا مظفرا منصورا قد خافه كل عدو له بالمدينة، وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهرا. وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المهاجرين ستة وثمانون رجلا، ومن الأوس واحد وستون رجلا، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا، وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج، وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة، وأصبر عند اللقاء؛ لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة، وجاء النفير بغتة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضرا) «1» . فاستأذنه رجال ظهورهم في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم فأبى. ولم يكن عزمهم على اللقاء، ولا أعدوا له عدته، ولا تأهبوا له أهبته، ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدر والأسارى في شوال.

_ (1) - أخرجه الإمام مسلم في الصحيح (1901) والإمام أحمد في المسند (3/ 136) من حديث أنس من مالك.

غزوة بني سليم

غزوة بني سليم «1» ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد فراغه بسبعة أيام إلى غزوة بني سليم، واستعمل على المدينة سباغة بن عرفطة، وقيل ابن أم مكتوم، فبلغ ماء يقال له (الكدر) فأقام عليه ثلاثا، ثم انصرف ولم يلق كيدا. لما رجع فل المشركين إلى مكة موتورين، نذر أبو سفيان ألايمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج في مائتي راكب حتى أتى العريضة في طرف الدينة، وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي، فسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، فلما أصبح قطع أسوارا من النخل، وقتل رجلا من الأنصار وحليفا له، ثم كرّ راجعا، وندر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في طلبه، فبلغ قرقرة الكدري، وفاته أبو سفيان، وطرح الكفار سويقا كثيرا من أزوادهم، يتخففون به، أخذها المسلمون، فسميت غزوة السويق «2» . وكان ذلك بعد بدر بشهرين، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية ذي الحجة، ثم غزا نجدا يريد غطفان «3» ، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان- رضي الله عنه- وأقام هناك صفرا كله من السنة الثالثة، ثم انصرف ولم يلق حربا. فأقام بالمدينة ربيعا الأول، ثم خرج يريد قريشا، ثم استخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فبلغ بحران معدنا بالحجاز من ناحية القرى ولم يلق حربا، فأقام هنالك ربيعا الآخر، وجمادى الأول، ثم انصرف إلى المدينة «4» .

_ (1) - زاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 189) وابن سيد الناس (1/ 294) وشرح المواهب اللدنية (4541) ، بتصرف وزيادة. (2) - راجع غزوة السويق في: - ابن سيد الناس (1/ 344) . (3) - ابن سيد الناس (/ 303) . (4) - ابن سيد الناس (1/ 304) .

غزوة بني قينقاع

غزوة بني قينقاع «1» ثم غزا بني قينقاع، وكانوا من يهود المدينة، فنقضوا عهده؛ فحاصرهم خمس عشرة ليلة حتى نزلوا على حكمه، فشفع فيهم عبد الله بن أبي، وألحّ عليه، فأطلقهم له، وهم قوم عبد الله بن سلام، وكانوا سبعمائة مقاتل، وكانوا صاغة وتجارا. سرية قتل كعب بن الأشرف «2» كان كعب بن الأشرف رجلا من اليهود، وكانت أمه من بني النضير، وكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، فلما كانت وقعة بدر ذهب إلى مكة، وجعل يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين، ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - «من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله» فانتدب له محمد بن مسلمة، وعبّاد بن بشر، وأبو نائلة، واسمه سلكان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاع، والحارث بن أوس، وأبو عيسى بن جبر، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ما شاؤوا من كلام يخدعونه به. فذهبوا إليه في ليلة مقمرة، وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الفرقد، فلما انتهوا إليه، قدّموا سلكان بن سلامة إليه؛ فأظهر له موافقته على الإنحراف عن رسول

_ (1) - ابن سيد الناس (1/ 294) والطبقات الكبرى (2/ 28) و (2/ 29) وزاد المعاد (3/ 190) والسياق من الأخير. (2) - زاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 191) والطبقات الكبرى (2/ 31، 32) وما بعدها.

غزوة أحد

الله صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه ضيق حاله، فكلمه في أن يبيعه وأصحابه طعاما، ويرهنونه سلاحهم، فأجابهم إلى ذلك. ثم رجع سلكان إلى أصحابه، فأخبرهم، فأتوه، فخرج إليهم من حصنه، فتماشوا، فوضعوا عليه سيوفهم، ووضع محمد بن مسلمة مغولا «1» ، كان معه في ثنّته «2» فقتله، وصاح عدو الله صيحة شديدة أفزعت من حوله وأوقدوا النيران، وجاء الوفد حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، وهو قائم يصلي، وجرح الحارث ابن أوس ببعض سيوف أصحابه، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبرىء، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل من وجد من اليهود لنقضهم عهده، ومحاربتهم لله ورسوله. غزوة أحد «3» لما دارت على الظالمين الدوائر في غزوة بدر، وراح أشراف قريش بين قتيل وجريح وأسير أخيذ، فظل أبو سفيان بن حرب يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، ويجمع الجموع ويحشد الحشود، قيل: إنه جمع زهاء ثلاثة آلاف من قريش، والحلفاء، والأحابيس وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا، وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبا من جبل أحد بمكان يقال له (عينين) وكان ذلك يوم السبت لسبع ليال خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره، أي من السنة الثالثة.

_ (1) - المغول: حديدة دقيقة لها حد ماض، وقفا. (2) - الثنة: ما كان دون السرة، وفوق العانة. (3) - بتصرف من زاد المعاد (3/ 192) وراجع أيضا ابن هشام (3/ 41) بتحقيق الدكتور الشيخ أحمد حجازي السقا، طبقة دار التراث العربي. وتاريخ الطبري (2/ 187) .

استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن دخلوها، قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وقد وافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي، وكان هو الرأي السديد، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهض ودخل بيته، ولبس لأمته، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك، وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقى في المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا وهو بالمدينة، رأى أن في سيفه ثلمة، ورأى بقرا تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأوّل الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة «1» . فخرج عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، حتى إذا صار بالشوط بين المدينة وأحد، تقاعس وتدابر وانخذل عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر، وقال: تخالفني وتسمع غيري، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا، قالوا: لو تعلم أنكم تقاتلون، لم نرجع، فرجع عنهم، وسبهم، وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود، فأبى، وسلك حرة بني حارثة وقال: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب» ؟ فخرج به بعض الأنصار حتى سلك في حائط لبعض المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحل لك أن تدخل في

_ (1) - ابن هشام في السيرة النبوية (3/ 43) .

خريطة رقم (4) معركة أحد

حائطي إن كنت رسول الله، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال: «لا تقتلوه، فهذا أعمى القلب أعمى البصر» . ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح يوم السبت، تعبّأ للقتال، وهو في سبعمائة، فيهم خمسون فارسا، واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين عبد الله بن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم وألا يفارقوه، ولو رأى الطير تتخطف العسكر وكانوا خلف الجيش، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل، لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم. وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه «1» من حديث البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، وقال: «لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا» «2» ، فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا، فلا تعينونا» . وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يومئذ وأعطى اللواء مصعب بن عمير، ثم جعل على إحدى المجنتين «3» الزبير ابن العوام «4» ، وعلى الآخرى المنذر بن عمرو، واستعرض الشباب يومئذ، فردّ من استصغره عن القتال، وكان منهم عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وأشيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأجاز من رآه مطيقا، وكان منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة «5» .

_ (1) - الصحيح (5/ 214/ 4043) وأبو داود في السنن، والإمام أحمد في المسند. (2) - ظهرنا: انتصرنا. (3) - المجنتين: مثنى مفرده مجنة. (4) - راجع ترجمة الزبير بن العوام في الطبقات الكبرى، والعشرة المبشرون بالجنة للسيد الجميلي- طبعة دار الكتاب العربي- بيروت. (5) - قيل: أجاز من أجاز لبلوغه خمس عشرة سنة، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ، وقالت طائفة من العلماء: إنما أجاز من أجاز لإطاقته، ورد من رد لعدم إطاقته، ولا تأثير للبلوغ في ذلك إنما العبرة بالطاقة والإحتمال.

ثم تعبّأت قريش في ثلاثة آلاف، وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي دجانة سماك بن خرشة، وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق، واسمه عبد عمرو بن صيفي، وكان يسمى «الراهب» فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم «الفاسق» وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، شرق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة؛ فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه، فكان أول من لقي المسلمين فنادى قومه، وتعرف إليهم، فقالوا له: - لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا، وكان شعار المسلمين يومئذ أمت» «1» . وأبلى يومئذ أبو دجانة الأنصاري، وطلحة بن عبيد الله، وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وأنس بن النضر، وسعد بن الربيع. وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزم عدو الله وولّوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، وقالوا: يا قوم، الغنيمة، فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغرة، وكرّ فرسان المشركين فوجدوا الثغر خاليا، قد خلا من الرماة، فجازوا منه فتمكنوا حتى أقيل آخرهم، فأحاطوا بالمسلمين، فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولى الصحابة وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيتة اليمنى، وكانت السفلى، وهشموا البيض على رأسه «2» ، ورموه بالحجارة

_ (1) - أخرجه أبو داود في السنة (3/ 74/ 2596) و (3/ 100/ 2638) وأخرجه الدارمي في السنة (2/ 219) . (2) - أخرجه البخاري (6/ 69/ 71) ومسلم (1790) من حديث سهل بن سعد.

حتى وقع على شقه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ عليّ بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وكان الذي تولى أذاه صلى الله عليه وسلم عمرو بن قمئة، وعتبة بن أبي وقّاص. وقيل إن عبد الله بن شهاب الزهيري عم محمد بن مسلم ابن شهاب الزهيري هو الذي شجّه. وقتل مصعب بن عمير بين يديه، فدفع اللواء لعلي بن أبي طالب، ونشبت خلقتان من خلق المغفر في وجهه فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح، وعضّ عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، وأدرك المشركون يريدون ما الله حائل بينهم وبينه، فحال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا، ثم جادلهم طلحة حتى أجهضهم عنه، وترّس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردها عليه بيده، وكانت أصح عينيه وأحسنها، وصرخ الشيطان بأعلى صوته: إن محمدا قتل ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وفرّ أكثرهم، وكان أمر الله قدرا مقدورا. ومرّ أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟، فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد، إني لأجد ريح الجنة من دون أحد، فقاتل حتى قتل، ووجد به سبعون ضربة «1» ، وقد جرح عبد الرحمن بن عوف «2» نحوا من عشرين جراحة. أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ (1) - أنظر زاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 198) . (2) - راجع ترجمة عبد الرحمن بن عوف في: حلية الأولياء (1/ 98) والإصابة ت (5171) وصفة الصفوة لابن الجوزي (1/ 135) .

فأشار إليه أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصّمّة الأنصاري، وغيرهم، فلما استندوا إلى الجبل، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف على جواد له يقال له: العوذ زعم عدو الله أنه يقتل عليه صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فطعنه بها فجاءت في ترقوته، فكرّ عدو الله منهزما، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز، لماتوا أجمعون، وكان يعلق فرسه بمكة ويقول: أقتل عليه محمدا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: - «بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى» فلما طعنه تذكر عدو الله قوله: أنا قاتله. فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح، فمات منه في طريقه إلى مكة «1» . وجاء علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء ليشرب منه فوجده آجنا، فرده وغسل عن وجهه الدم، وصب على راسه، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هنالك، فلم يستطع لما به فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالسا، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار. وشد حنظلة الغسيل، وهو حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان، فلما تمكن منه، حمل على حنظلة شداد بن الأسود فقتله وكان جنبا، فإنه سمع الصيحة وهو على امرأته، فقام من فوره إلى الجهاد، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر، وجعل الفقهاء هذا حجة أن الشهيد إذا قتل جنبا فإنه يغسل اقتداء بالملائكة «2» . وقتل المسلمون حامل لواء المشركين، فرفعته لهم عمرة بنت علقمة الحارثية؛ حتى اجتمعوا إليه، وقاتلت أم عمارة وهي نسيبة بنت كعب المازنية قتالا شديدا،

_ (1) - أخرجه الحاكم (3/ 204، 205) . (2) - هذا رأي أي حنيفة وأحمد، لكن مالكا والشافعي قالا: إنه لا يغسل لعموم الدليل، ولأنّ ذلك لو كان واجبا لما سقط بغسل الملائكة.

وضربت عمرو بن قمئة بالسيف ضربات فوقته درعان كانتا عليه، وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها. وكان عمرو بن ثابت المعروف بالأصيرم من بني عبد الأشهل يأبي الإسلام، فلما كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي سبقت منه له، فأسلم وأخذ سيفه، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقاتل فأثبت بالجراح ولم يعلم أحد بأمره، فلما انجلت الحرب طاف بنو عبد الأشهل في القتلى، يلتمسون قتلاهم، فوجدوا الأصيرم وبه رمق يسير، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم ما جاء به، لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ماترون، ومات من وقته فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هو من أهل الجنة» قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاة قط «1» . ولما خبا سعير الحرب، وأطفأ الله جمرتها، وأباد خضراءها وقلم أظفارها، أشرف أبو سفيان على الجبل مناديا: - أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه، ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة، لعلمه وعلم قومه أن قوام الإسلام بهم، فقال: أما هؤلاء، فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوءك، فقال: قد كان في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤني، ثم قال: اعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبونه؟» فقالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل» ثم قال: لنا العزّى ولا عزّى لكم. قال: «ألا تجيبونه؟» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم» «2» .

_ (1) - أخرجه أبن هشام في السيرة. (2) - أخرجه الإمام البخاري في الصحيح (7/ 269) والإمام أحمد في المسند (1/ 288) . 1-

أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوابه عند افتخاره بالهته، وبشركه الفاحش، تعظيما للتوحيد، وإقرارا به في مواجهة الوثنية المقبوحة، وإعلاما بعزة الله معبود المسلمين الموحدين، وقوة جانبه، ولم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابته عند ما قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ بل لقد روي أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك، فقال لا تجيبوه، لأن كلمهم لم يكن بر وبعد في طلب القوم، ونار غيظهم بعد متوقدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمي عمر بن الخطاب، واشتد غضبه، وقال: كذبت يا عدو الله، فكان في هذا الإعلام من الإذلال، والشجاعة، وعدم الجبن، والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم، وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأته وقومه جديرون بعدم الخوف منهم، وقد أبقى الله لهم ما يسوؤهم منهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنه وظن قومه أنهم أصيبوا من المصلحة وغيظ العدو، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدا واحدا، فكان سؤاله عنهم، ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده، فصبر له النبى صلى الله عليه وسلم حتى استوفى كيده، ثم انتدب له عمر، فرد سهام كيده عليه، وكان ترك الجواب أولا عليه أحسن، وذكره ثانيا أحسن، وأيضا فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانة له، وتصغيرا لشأنه، فلما منّته نفسه موتهم، وظن أنهم قد قتلوا، وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل كان في جوابه إهانة له، وتحقير، وإذلال، ولم يكن هذا مخالفا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه» «1» فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمد؟ أفيكم فلان؟، أفيكم فلان؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء، فقد قتلوا، وبكل حال، فلا أحسن من ترك إجابته أولا، ولا أحسن من إجابته ثانيا. ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فأجابه عمر، فقال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار «2» .

_ (1) - زاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 202، 203) . (2) - حديث حسن أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 287، 288 و 463) من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-.

قال ابن عباس- رضي الله عنهما- ما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موطن نصره يوم أحد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبين من ينكر كتاب الله، إن الله يقول: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ «1» . ولقد أنزل الله تعالى عليهم النعاس أمنة منه في غزوة بدر وأحد، والنعاس في الحرب وعند الخوف دليل على الأمن، وهو من الله، وفي الصلاة ومجالس الذكر والعلم من الشيطان. ثم إنه ثبت تدخل الملائكة وقتالهم مع المسلمين في غزوة أحد فورد في الحديث الصحيح المتفق عليه عند البخاري ومسلم «2» عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهم ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد» . وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: «من يردهم عنا، وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه، فقال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنصفنا أصحابنا» «3» .

_ (1) - آل عمران (3/ 152) تحسونهم: تستأصلونهم بالقتل، يقال: سنة حسوس: إذا أتت على كل شيء. وجراد محسوس إذا قتله البرد. راجع المعنى تفصيلا في لسانه العرب (7/ 352) وفي الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم أتى بجراد محسوس» . راجع أيضا تفسير الطبرى (7/ 279) وقال ابن عباس: الحس القتل. (2) - النجاري (7/ 277) ومسلم (2306) . (3) - مسلم في صحيحه (1789) وهذا الحديث مروي فيه (أصحابنا) على وجهين أولا: النصب على المفعولية،. مع سكون الفاء ثانيا: رفع أصحابنا على الفاعلية مع فتح الفاء. ووجه النصب أن يؤدي معنى: «ما أنصفت قريش الأنصار» . أما وجه الرفع فالمراد بالأصحاب الذين فروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفرد في النفر القليل السبعة الذين قتلوا، وكلاهما تأويل معقول مقبول.

لقد صعد المشركون الجبل، واستولوا على ناحيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «اجنبهم» يقول: ارددهم، فقال: كيف أجنبهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثا، فأخذ سعد سهما من كنانته، فرمى به رجلا فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه، فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي، فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه. وثبت عن أبي حازم، أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دووي، كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلى بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها، فألصقتها فاستمسك الدم» «1» . في هذه الموقعة كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشجّ في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» . انهزم الناس، واندحروا، لكن أنس بن النضر لم ينهزم، فقال: - «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء- يعني المشركين ثم تقدم، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم.

_ (1) - أخرجه البخاري في الصحيح ومسلم (1790) . (2) - آل عمران (3/ 128) والحديث أخرجه البخاري في الصحيح ومسلم (1791) والترمذي في جامعه الصحيح (3005) و (3006) وابن ماجة في السنن (4028) والإمام أحمد في المسند (3/ 201) .

لقد انهزم المشركون أول النهار، فصرخ فيهم إبليس! أى عباد الله، أخزاكم الله، فارجعوا من الهزيمة فاجتلدوا. كان حذيفة «1» رضي الله عنه وأبوه في هذه الموقعة، فلما رأى المسلمين يريدون قتله، وهم يظنون أنه من المشركين، فقال حذيفة: أي عباد الله! أبي، فلم يفهموا قوله، حتى قتلوه، فقال: يغفر الله لكم، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه، فقال: قد تصدقت بديته على المسلمين، فزاد ذلك حذيفة خيرا عند النبي صلى الله عليه وسلم. وقال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي:: «إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو باخر رمق، وفيه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم. فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قل له: يا رسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لاعذر لكم عند الله، إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيكم عين تطرق، وفاضت نفسه من وقته «2» . مرّ رجل من المهاجرين برجل من الأنصار يتشحط في دمه، وهو ينوء ويكبو وجراحه تثعب دما، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «3» .

_ (1) - راجع ترجمة حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه- في: - تهذيب ابن عساكر (4/ 93) وصفة الصفوة لابن الجوزي (1/ 249) وتاريخ الإسلام (2/ 152) «وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم» السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وللسيد الجميلي ص 237 وما بعدها. (2) - زاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 207) . (3) - آل عمران (3/ 144) .

وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم مقولة رائعة دقيقة وهي قوله: «اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي، وأذني، ثم تسألني: فيم ذلك فأقول فيك» «1» . وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له من البنين الشباب أربعة يغزون مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا، فلما توجه إلى أحد، أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، وو الله إني لأرجو أن أستشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد» وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة» «2» . لقد ورد في غزوة أحد ستون آية من سورة آل عمران تبدأ بالآية الواحدة والعشرين ومائة وهي قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ آل عمران (121) حتى آخر القصة. أحكام فقهية، ونظرات وخواطر نفسية حول غزوة أحد من هذه الأحكام الفقهية، والنظرات والخواطر النفسية التي يعتبرها، ويعتبر بها المعتبرون، ويأخذ بها أولو الحجا والفهم وأهل الممارسة والدربة: -

_ (1) - حديث صحيح على شرط الشيخين. (2) - فخرج عمرو بن الجموح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أحد، فاستشهد فيها رضي الله عنه وأرضاه.

- أنه يجوز الإنغماس في العدو، كما انغمس أنس بن النضر وغيره. يجوز أن يصلي الإمام قاعدا إذا جرح في المعركة وعلى المسلمين أن يصلوا خلفه قعودا، وذكر ابن قيم الجوزية «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في أحد واستمر على ذلك حتى وفاته «2» . إذا قتل المسلم نفسه فهو في النار، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في (قزمان) الذي أبلى بلاء حسنا مشهودا يوم أحد، فلما اشتدت به الجراح نحر نفسه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «هو من أهل النار» «3» . السنة في الشهيد ألايغسّل، ولا يصلى عليه «4» ، ولا يكفن في غير ثيابه، لكن يدفن إلا أن يسلب هذه الثياب فيجوز أن يكفن في غيرها. إذا كان الشهيد جنبا فإن الملائكة، تتعهد وتتكفل بغسله مثلما غسلت الملائكة حنطلة بن أبي عامر. يدفن الشهداء في مصارعهم، فلا ينقلون إلى مكان آخر، فإن قوما نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر برد القتلى إلى مصارعهم «5» . يستفاد أيضا غزوة أحد أن من الجائز أن يدفن الرجلان أو الثلاثة في القبر

_ (1) - زاد المعاد (3/ 211، 212) بتصرف. (2) - لكن مالكا ومحمدا بن الحسن قالا: إن ذلك لا يصح صلاة القادر على القيام خلف القاعدة وقال الشافعي والحنفية: يصلون خلفه قياما. أنظر الشوكاني (3/ 159) . (3) - وقد ذكره البخاري في الصحيح ومسلم (112) . (4) - وقد ورد عن أنس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مر بحمزة وقد مثل به، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره يعني شهداء أحد» وسنده حسن وقدرواه أبو داود في السنن (3/ 500/ 3137) وقال بعض العلماء: إنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على غيره إستقلالا، وهذا لا ينافي الصلاة عليه مقرونا مع غيره. راجع أيضا الزيلعي (2/ 309) . (5) - أخرج أبو داود 3/ 514/ 3165) والترمذي (1717) وغيره عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرهم أن يرجعوا بالقتلى فيدفنوها في مصارعها حيث قتلت» .

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن، فإن أشاروا إلى رجل قدّمه في اللحد» «1» . وقد دفن عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد. أسوأ العواقب يكون من العصيان، وعدم الإنقياد للأوامر، لأن ما نزل بالمسلمين في أحد من البلاء إنما كان من جراء عدم انقيادهم، وعصيانهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. أن الإدالة في الحرب مرة لنا ومرة علينا مقصودها الأسمى وغايتها الأسنى إنما هي الإبتلاء وتمحيص النفوس، وسبر غور إيمانها ويقينها وثباتها على الحق، واستسلامها لأمر الله، وبهذا يتميز الصادقون من غير الصادقين، لكن العاقبة للرسل. وكما قال تعالى: «والعاقبة للمتقين» . إن المنازل والمراقي والدرجات العالية التي أعدها الله تعالى لأوليائه وأهل كرامته لا بد أن تكون غالية الثمن، وإن مهدها هو صدق اليقين بالله تعالى، وموافقة الأمر والنهي، والجهاد الخالص الصادق غير المشوب. كما أسلفنا وقعت غزوة أحد في يوم السبت لسبعة أيام خلون من شوال سنة ثلاث كما تقدم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقية شوال، وذلقعدة وذلحجة، والمحرم. ثم إنه لما استهل هلال المحرم كان نما إلى علمه عليه الصلاة والسلام أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما يستنفران الناس، ويؤلبانهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث أبا سلمة، وعقد له لواء، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار والمهاجرين، فأصابوا إبلا وشاء، ولم يلقوا كيدا.

_ (1) - البخاري في صحيحه. وأبو داود (3/ 501/ 3138) وابن ماجة فى السنن (1514) والترمذي في الجامع الصحيح (1036) والتسائي (4/ 62) من حديث جابر.

غزوة حمراء الأسد

غزوة حمراء الأسد ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم حمراء الأسد يوم الأحد لثماني ليال خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره، قالوا: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد مساء يوم السبت، بات تلك الليلة على بابه ناس من وجوه الأنصار، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح يوم الأحد، أمر بلالا أن ينادي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس. قال جابر بن عبد الله: إن أبي خلفني يوم أحد على أخوات لي؛ فلم أشهد الحرب فأذن لي أن أسير معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال غيره، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل، فدفعه إلى علي بن أبي طالب، ويقال إلى أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- وخرج وهو مجروح في وجهه، ومشجوج في جبهته، ورباعيته قد شظيت وشفته السفلى قد كلمات في باطنها، وهو متوهن منكبه الأيمن من ضربة ابن قمئة، وركبتاه مجحوشتان، وحشد أهل العوالي، ونزلوا حيث أتاهم الصريخ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا، وخرج الناس معه، فبعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد، وهي من المدينة على عشرة أميال طريق العقيق، متياسرة عن ذي الحليفة، إذا أخذتها في الوادي، وللقوم زجل وهم يأتمرون بالرجوع، وصفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك، فبصروا بالرجلين، فعطفوا عليهما، فعلوهما، ومضوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد، فدفن الرجلين في قبر واحد، وهما القرينان، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد. وذهب صوت معسكر المسلمين، ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله بذلك عدوهم، وجعل الدائرة النفسية عليه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فدخلها يوم الجمعة، وقد غاب خمس ليال، وكان استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم.

سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي

سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي ثم سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي إلى قطن وهو جبل بناحية فايد به ماء لبني أسد بن خزيمة في هلال المحرم وعلى رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنه بلغ رسول الله عليه الصلاة والسلام أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد صارا في قومهما، ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا سلمة، وعقد له لواء، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار، وقال: سر حتى تنزل أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تلاقي عليك جموعهم؛ فخرج فأغذ السير ونكب عن سنن الطريق، ولا حب السبيل، وسبق الأخبار، ثم انتهى إلى أدنى قطن، فأغار على صرح لهم فضموه، وأخذوا رعاء لهم مماليك ثلاثة وأفلت سائرهم، فجاؤوا جمعهم فحذروهم؛ فتفرقوا في كل ناحية، ففرق أبو سلمة أصحابه ثلاث فرق في طلب النّعم والشاء، فابوا إليه سالمين، قد أصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا أحدا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة. سرية عبد الله بن أنيس ثم بعث سرية عبد الله بن أنيس الى سفيان بن خالد بن نبيح الهزلي بعرنة، وكان خروجه من المدينة يوم الإثنين لخمس ليال خلون من المحرم، على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجره، وذلك لأنه بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن سفيان بن خالد الهزلي ثم اللحياني، وكان ينزل (عرنة) وما والاها في ناس من قومه وغيرهم، قد جمع الجموع لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبعث عليه الصلاة والسلام عبد الله بن أنيس ليقتله، فقال: صفه

سرية بئر معونة

لي يا رسول الله، قال: إذا رأيته هبته، وفرقت منه وذكرت الشيطان. قال: وكنت لا أهاب الرجال، واستأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقول: فأذن لي فأخذت سيفي وخرجت أعتزي لخزاعة حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي ووراءه الأحابيش، ومن انضوى إليه فعرفته بنعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهبته فرأيته فرأيتني أقطر فقلت صدق الله ورسوله، فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك قال: أجل إني لأجمع له، فمشيت معه، وحدثته، واستحلى حديثي، حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه، حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته فقتلته، وأخذت رأسه، ثم دخلت غارا في الجبل، وضربت العنكبوت عليّ، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين. ثم خرجت فكنت أسير الليل، وأتوارى بالنهار حتى قدمت المدينة، فوجدت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد فلما رآني قال: أفلح الوجه، قلت: أفلح وجهك يا رسول الله، فوضعت رأسه بين يديه، وأخبرته خبري، فدفع إليّ عصا وقال: تحضر بهذه في الجنة، فكانت عنده، فلما حضرته الوفاة أوصى أهله أن يدرجوها في كفنه ففعلوا. وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم. سرية بئر معونة «1» أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة بقية شوال، وذي القعدة وذي الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر الخبر، في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد.

_ (1) - زاد المعاد (3/ 247) وابن سيد الناس (2/ 40) .

وكان سبب ذلك أن أبا البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهو ملاعب الأسنة وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الإسلام فلم يسلم، ولم يبعد وقال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى اهل نجد فدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك فقال صلّى الله عليه وسلم: إني اخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا جارهم؛ فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة، وهو الذي يلقب المعتق ليموت في أربعين رجلا من المسلمين، وقد قيل: في سبعين من خيار المسلمين منهم، الحارت بن الصمة، وحرام بن ملحان، أخو أم سليم، وهو خال أنس بن مالك، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق وغيرهم فنهضوا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم، ثم بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عدو الله وعدو رسوله صلّى الله عليه وسلم عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، ثم عدا عليه فقتله، ثم استنهض بني عامر إلى قتال الباقين، فأبوا أن يجيبوه، لأن أبا براء أجاره، فاستغاث عليهم بني سليم، فنهض معه عصية ورعل وذكوان، وهم قبائل من بني سليم؛ فأحاطوا بهم فقتلوا كلهم رضوان الله عليهم إلا كعب بن زيد أخو بني دينار ابن النجار، فإنه ترك في القتلى، وفيه رمق، فارتث «1» من القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق- رضي الله عنه. وكان عمرو بن أمية في سرح المسلمين ومعه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح فنظر إلى الطير تحوم على العسكر فنهض إلى ناحية أصحابه، فإذا الطير تحوم على القتلى، والخيل التي أصابتهم لم تزل بعد، فقال المنذر بن محمد إلى عمر بن أمية: فما ترى؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، فقاتل حتى

_ (1) - يقال أرتث الرجل: رفع وبه جراح من المعركة وفيه بقية من حياة.

غزوة بني النضير

قتل، وأخذ عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبره أنه من مضر جزّ ناصيته عامر بن الطفيل، وأطلقه عن رقبة كانت على أمه، وذلك لعشرين بقيت من صفر مع الرجيع في شهر واحد. فرجع عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني كلاب، وقيل من بني سليم حتى نزلا مع عمرو بن اميه في ظل كان فيه، وكان معهما عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو، فسألهما من أنتما؟ فانتسبا له، فأمهلهما حتى إذا ناما عاد عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه أصاب ثأرا من قتل أصحابه. فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخبره بذلك فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد قتلت قتيلين لأدينهما» «1» وهذا سبب غزوة بني النضير. غزوة بني النضير ونهض رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه الى بني النضير مستعينا بهم في دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية فلما كلمهم قالوا: نعم، فقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر، وعلي ونفر من أصحابه إلى جدار من جدرانهم، فاجتمع بنو النضير وقالوا: من رجل يصعد على ظهر البيت فيلقي على محمد صخرة، فيقتله فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فأوحى الله تعالى بذلك إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم، فقام ولم يشعر بذلك أحد من أصحابه ممن معه، فلما استلبثه «2» أصحابه- رضي الله عنهم، قاموا فرجعوا إلى المدينة، وأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرهم بما أوحى الله تعالى إليه

_ (1) - راجع زاد المعاد لإبن قيم الجوزية (3/ 246- 248) وابن سيد الناس (2/ 46) وجوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 142، والسيرة النبوية لابن هشام (3/ 134) وما بعدها وتاريخ الطبري (2/ 219) . (2) - إستلبثه أصحابه: إستراثوه وإستبطؤه، لأنه غاب عنهم، وتأخر عليهم بعد أن استأذن منهم.

غزوة ذات الرقاع

مما أراده اليهود، وأمر أصحابه بالتهيؤ لحربهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم «1» . ثم نهض لابن النضير في أول السنة الرابعة للهجرة، فحاصرهم ست ليال، وحينئذ نزل تحريم الخمر، فتحصنوا منه في حصون فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقطع النخل، وإحراقها ودسّ عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير إنا معكم إن قاتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغتروا بذلك، فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح فاحتملوا بذلك إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، وكان ممن سار معهم إلى خيبر أكابرهم حي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع، فدنت لهم خيبر، فقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين خاصة إلا أنه أعطى منها أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، وكانا فقيرين. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلين هما يمين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهد، أسلما فأحرزا أموالهما، وذكر أن ياسين بن عمير جعل جعلا لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش لما همّ به في رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي قصة بني النضير نزلت سورة الحشر. غزوة ذات الرقاع «2» أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد بني النضير بالمدينة شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى الأولى في صدر السنة الرابعة بعد الهجرة، ثم غزا نجدا، يريد بني محارب وبني ثعلبة

_ (1) - راجع زاد المعاد (3/ 248) بتصرف. (2) - زاد المعاد (3/ 250، 251) حتى (254) .

بن سعد بن غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري «1» أو عثمان بن عفان «2» رضي الله عنهما- ونهض حتى نزل نخلا. وإنما سميت هذه الغزوة ذات الرقاع لأن أقدامهم- رضي الله عنهم نقبت «3» وكانوا يلفون عليها الخرق، ولذلك سميت ذات الرقاع. لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنخل جمعا من غطفان فتواقفوا إلا أنه لم يكن حرب، وصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ صلاة الخوف، وفي انصرافهم من تلك الغزوة أبطأ جمل جابر، فنخسه عليه السلام فانطلق متقدما للركاب، وابتاعه منه عليه السلام، ثم رده عليه ووهبه الثمن وزيادة قيراط. فلم يزل عند جابر- رضي الله عنه- متبركا به حتى أخذه أهل الشام في جملة ما انتهبوه بالمدينة في وقعة الحرة المشئومة. وفي هذه الغزوة أتى أيضا رجل من بني محارب بن خصقة اسمه غورث بن الحارث، فأخذ سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهزه، فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال: الله، فرد غورث السيف مكانه، فنزل في ذلك: - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ «4» . وفي هذه الغزوة رمى رجل من المشركين رجلا من الأنصار كان ربيئة «5» لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فجرحه وهو يقرأ سورة من القرآن، فتمادى في القراءة ولم يقطعها لما أصابه وفي هذه الغزوة قصرت الصلاة وكذلك أيضا ولد في هذا العام سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ابن فاطمة الزهراء رضي الله عنها.

_ (1) - راجع ترجمة أبي ذر الفغاري في: - صفة الصفوة (1/ 238) وحلية الأولياء (1/ 156) وصحاية النبي صلى الله عليه وسلم للسيد الجميلي ص 249) . (2) - راجع ترجمة عثمان بن عضان في: - العشرة المبشرون بالجنة للسيد الجميلي ص 83- 100 وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ص 51 واليعقوبي (2/ 139) . (3) - نقبت: أي رقت جلود الأقدام، ولفّوا عليها رقاعا من قماش، ومنها جاءت التسمية «غزوة ذات الرقاع» . (4) - المائدة (5/ 11) . راجع أسباب النزول للسيوطي. (5) - الربيئة: العين، والذي يقوم بالإستطلاع.

غزوة بدر الآخرة

غزوة بدر الآخرة «1» قال ابن إسحاق: ثم خرج في شعبان إلى بدر، لميعاد أبي سفيان حتى نزله. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول الأنصاري. أقام صلّى الله عليه وسلم ثماني ليال ينتظر أبا سفيان بن حرب، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل (مجنة) من ناحية الظهران، وبعض الناس يقول: إنه قد بلغ عصفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب غيداق، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكن هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس، فسماهم المكيون جيش السويق «2» . وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده، فأتاه مخشى بن عمرو الضمري، وهو الذي كان يوادعه على بني ضمرة في غزوة (ودان) فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: نعم يا أخا بني صخرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جادلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك، قال: لا، والله يا محمد، مالنا بذلك منك من حاجة. فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينتظر أبا سفيان فمر به ابن أبي معبد الخزاعى، فقال وقد رأى ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وناقته تهوي به: قد نفرت من رفقتي محمد ... وعجوت من يثرب كالعنجد «3»

_ (1) - راجع سيرة ابن هشام (3/ 153) والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 59، 60) . (2) - وذلك لقولهم: إنما خرجتم تشربون السويق. (3) - العنجد: حب الزبيب.

تهوي على دين «1» أبيها الأتلد «2» ... قد جعلت ماء قديد «3» موعدي وماء ضجنان «4» لها ضحى الغد وقال عبد الله بن رواحة في ذلك: قال ابن هشام: أنشدنيها أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك قصيدة منها: - وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد ... لميعاده صدقا ولا كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم ... وأمركم السيىء الذي كان غاويا فإني وإن عنفتموني لقائل ... لما لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره ... شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا

_ (1) - دين: عادة ودربه. (2) - الأتلد: الأقدم. (3) - قديد: موضع قرب مكة. (4) - ضجنان: جبل بناصية تهامة، وقيل على بريد من مكة.

وقال حسان بن ثابت في ذلك: دعوا فلجات «1» الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض «2» الأوارك «3» بأيدي رجال هاجروا نجو ربهم ... وأنصاره حقا وأيدى الملائك إذا سلكت للغور «4» من بطن طالج «5» ... فقولا لها: ليس الطريق هنا لك أقمنا على الرس «6» النزوع ثمانيا ... بأرعن «7» جرار عريض المبارك بكل كميت «8» جوزه «9» نصف خلقه ... وقب «10» طوال مشرفات الحوارك «11» ترى العرفج «12» العامي «13» تذري «14» ... مناسم «15» أخفاق المطي الرواتك «16»

_ (1) - الفلجات: المياه الجارية. (2) - المخاض: الحوامل من الإبل. (3) - الأوارك: التي ترعى شجر الأراك. (4) - الغور: المنخفض من الأرض. (5) - طانج: مكان فيه رمل كثير. (6) - الرس: البئر. (7) - الأرعن: الجيش الكثير. (8) - الكميت: الفرس. (9) - جوزه: وسطه يريد بطنه. (10) - قب: ضامر. (11) - الحوارك: أعلى الأكتاف من الفرس. (12) - العرفج: نبات. (13) - العامي: الذي أتى عليه العام. (14) - تذري تطرح. (15) - مناسم: جمع منسم، طرف خف البعير. (16) - الرواتك: المسرعة.

فإن نلق في تطوافنا والتماسنا ... فرات بن حيّان يكن رهن هالك وإن نلق قيس بن امرىء القيس بعده ... يزد في سواد لونه لون حالك «1» فأبلغ أبا سفيان عني رسالة ... فإنك من غر «2» الرجال الصعالك «3» فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقال: أحسان أنا يا ابن آكلة الفقا «4» ... وجدك نفتال الخروق «5» كذلك خرجنا وما تنجو اليعافير «6» بيننا ... ولو وألت منا بشد مدارك إذا ما انبعثنا من مناخ حسبته ... مدمن أهل الموسم المتعارك أقمت على الرس النزوع تريدنا ... وتتركنا في النخل عند المدارك «7»

_ (1) - الحالك: الشديد السواد. (2) - الغر: البيض. (3) - الصعالك: الصعاليك، الفقراء لا مال لهم. (4) - الفقا: التمر. (5) - الخروق: الفلوات. (6) - اليعافير: أولاد الظبي. (7) - المدارك: المتتابع.

غزوة دومة الجندل

على الزرع تمشي خيلنا وركابنا ... فما وطئت ألصقناه بالدكادك «1» أقمنا ثلاثا بين سلع «2» وفارع ... بجرد الجياد والمطي الرواتك «3» جسبتم جلاد القوم عند قبابهم ... كمأخذكم بالعين أرطال آنك «4» فلا تبعث الخيل الجياد وقل لها: ... على نحو قول المعصم «5» المتماسك سعدتم بها وغيركم كان أهلها ... كوارث من أبناء فهر بن مالك فإنك لا في هجرة إن ذكرتها ... ولا حرمات الدين أنت بناسك غزوة دومة الجندل «6» خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة خمس، وذلك أنه بلغه أن بها جمعا

_ (1) - الدكادك: الرمال اللينة. (2) - سلع وفارع: إسما جبلين. (3) - الرواتك: المسرعة. (4) - الأنك: القصدير المذاب. (5) - المعصم: المستمسك بالشيء. (6) - ابن هشام (3/ 156) وزاد المعاد (3/ 255، 256) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 62/ 63) وابن سيد الناس (2/ 54) وتاريخ الطبري (3/ 41) وابن حزم ص 147. ودومة الجندل: يضم الدال، وأما دومة: بالفتح فمكان آخر.

غزوة المريسيع

كثيرا يريدون أن يدنوا من المدينة، وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة، وهي من دمشق على خمس ليال، فاستعمل على المدينة سباعة بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين، ومعه دليل من بني عذرة يقال له مذكور، فلما اقترب منهم، إذا هم مغربون وإذا أثاروا النّعم والشاء، فهجم على ما شيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب، وهرب من هرب، وجاء الخبر أهل دومة الجندل؛ فتفرقوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجد فيها أحدا، فأقام بها أياما، وبث السرايا، وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحدا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووادع في تلك الغزوة عينية بن حصن. غزوة المريسيع «1» ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا، وباقي العام، ثم غزا بني المصطلق، من خزاعة في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري «2» ، وقيل بل نميلة بن عبد الله الليثي، وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارون على ماء يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبى النساء والذرية، ومن ذلك السبي كانت جورية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها.

_ (1) - طبقات ابن سعد (2/ 63، 64، 65) وزاد المعاد (3/ 256) وابن هشام (3/ 214- 228) وابن حزم ص 161 وتسمى أيضا غزوة بني المصطلق. (2) - راجع ترجمة أبي ذر القفاري

وأصيب في هذه الغزوة هشام بن صبابة الليثي من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت خطأ وهو يظنه من العدو. وفي رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة قال عبيد الله بن أبي بن سلول: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» وذلك لشر وقع بين جهجاه بن مسعود الغفاري أجير عمر بن الخطاب، وبين سنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج، فنادى الغفاري: يا للمهاجرين، ونادى الجهني: يا للأنصار، وبلغ زيد بن الأرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة عبد الله بن أبي بن سلول فنزل في ذلك من عند الله تعالى سورة «المنافقون» . وتبرأ عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول من أبيه، وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت يا رسول الله الأعز وهو الأذل، والله- إن شئت- لتخرجنه يا رسول الله، ووقف لأبيه قرب المدينة، فقال: والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول، فتدخل حينئذ. وقال أيضا عبد الله بن عبد الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، وإني أخشى إن أمرت بذلك غيري لا تدعني نفسي أرى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله به، فأدخل النار إذا قتلت مسلما بكافر، وقد علمت الأنصار أني من أبرها بأبيه، ولكن يا رسول الله، إذا أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله، أحمل إليك رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، وأخبره أنه لا يسيء إلى أبيه. وفد من مكة قيس بن صبابة مظهرا إسلامه، وطلب دية أخيه هشام بن صبابة، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فأخذها، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، وفرّ إلى مكة كافرا وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله في فتح مكة، في جملة من أمر بقتلهم. كان شعار المسلمين يوم بني المصطلق أمت أمت، ولما علم المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية، أعتقوا كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق، كرامة لمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق بسببها أهل بيت من قومها قرابة المائة.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأزيد من عامين الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقا «1» ، فخرجوا ليتلقوه، ففزع فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم همّوا بقتله، فتكلم الناس في غزوهم، ثم أتى وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم قبل أن يلقاهم، معرفين أنهم إنما خرجوا متلقين له مكرمين لوروده فنزلت في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ «2» . وفي مرجع الناس من غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوه في حق أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها. قال ابن سعد: وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة، فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم. أنزل الله تعالى براءة عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- ما أنزل، وقد روي من طرق صحاح ما أنزل عنها في ذلك في قوله تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ «3» . وروي أن سعد بن معاذ كانت له في شيء من ذلك مراجعة مع سعد بن عبادة، وهذا وهم، لأن سعد بن معاذ مات إثر فتح قريظة من غير نكير في ذلك وبلا معارض، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة من الهجرة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة، أي بعد سنة وثمانية أشهر من موت سعد، وكانت المقاومة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة.

_ (1) - المصدق: العامل الذي يعين ويناط به جمع الزكاة من أصحابها. (2) - الحجرات (49/ 6) . (3) - النور (24/ 15، 16) .

غزوة الخندق (غزوة الأحزاب)

وذكر ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله، وغيره أن المقاول لسعد بن عبادة إنما كان أسيد بن حضير، وهذا هو الصحيح «1» . والوهم لم يعر منه أحد من بني آدم إلا من عصم الله تعالى. غزوة الخندق (غزوة الأحزاب) «2» ثم كانت غزوة الخندق في شوال من السنة الخامسة للهجرة، وهذا ما قاله المؤرخون وأصحاب المغازي، والثابت أنها كانت في السنة الرابعة، ويرجح ذلك حديث ابن عمر «عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» . ولذلك صح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة فقط- أي بين أحد والخندق- وأنها قبل دومة الجندل بلا أدنى شك في ذلك. وسببها أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم النضريون وهدى بن قيس، وأبو عمار- الوائليان، وهم حزب الأحزاب، خرجوا فأتوا مكة داعين إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواعدين من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون إلى (غطفان) فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عينية بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن

_ (1) - جوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 161- 163. (2) - زاد المعاد (3/ 269) وتاريخ الطبري.

رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من أشجع. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه صلى الله عليه وسلم بيده، وعمل معه فيه المسلمون طلبا للأجر والثواب والقربى من الحق سبحانه وتعالى وجهادا في سبيله. كانت في الخندق معجزات منها أن كدية صخر «1» عرضت في الخندق كلّت المعاول عنها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا الله تعالى، ونفح عليها ماء؛ فانهالت كالكثيب «2» . وأطعم النفر العظيم من تمر يسير إلى غير ذلك. ثم أقبلت الأحزاب حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة بين الجرف وزغاية في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وغيرهم، ونزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمة إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، وقد قيل في تسعمائة، ولعل الأخير هو الصحيح حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، فنزلوا هنالك والخندق بينهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في الآطام. وكان كعب بن أسد رئيس بني قريظة موادعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه حي بن أخطب، فلم يزل به، وكعب يأبى عليه حتى أثّر فيه، ونقض كعب عهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومال مع حي بن أخطب. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما علم الأمر- سعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة، وهما سيدا الأوس والخزرج وخوات بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وعبد الله بن رواحة،

_ (1) - كدية صخر: هي الصخرة العظيمة. (2) - الكثيب: ما تجرف من الرمل وانزاح.

خريطة رقم (5) معركة الخندق

أخا بني الحارث بن الخزرج؛ ليعرفوا الأمر، فلما بلغوا بني قريظة، وجدوهم مجاهرين مكاشفين بالغدر، ونالوا من النبي صلى الله عليه وسلم، فشاتمهم سعد بن معاذ، وانصرفوا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرهم إن وجدوا غدر بني قريظة حقا أن يعرضوا له الخبر ولا يصرحوا، فأتوا فقالوا: عضل والقارة تذكيرا بغدر القارة بأصحاب الرجيع، فعظم الأمر، وأحيط بالمسلمين من كل جهة، واستأذن بعض بني حارثة فقالوا: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، وخارجة عن المدينة، فأذن لنا نرجع إلى ديارنا، وهم أيضا بنو سلمة بالفشل، ثم ثبت الله كلنا الطائفتين، ورحم القبيلتين، وظل المشركون محاصرين المسلمين نحو شهر، ولم تقع بينهم حرب. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عيينة بن حصن بن حذيفة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة، وهما رئيسا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة، ثم جرت المراوضة والمراودة والمساومة في ذلك. لكن الأمر لم يتم، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة فقالا: يا رسول الله، أشيء أمرك الله به، فلا بد لنا منه؟ أم شيء تحبه فنصنعه، أم شيء تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، وقال: والله ما أصنع ذلك إلا انني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطيقون أن تأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ والله، لا نعطيهم إلا السيف. فصوّب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، وتمادوا على حالهم. ثم إن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان وضرار بن الخطاب أخو بني محارب بن فهر، خرجوا على خيلهم، فلما وقفوا على الخندق قالوا: هذه مكيدة،

والله ما كانت تعرفها العرب، وقد قيل: إن سلمان الفارسي «1» كان أشار به، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، فاقتحموه وجاورزوه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى المبارزة، فبارز علي بن أبي طالب عمروا فقتله، وخرج الباقون من حيث دخلوا، فعادوا إلى قومهم، وكان شعار المسلمين يوم الخندق (حم لا ينصرون) . وكانت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- مع أم سعد بن معاذ في حصن بني حارثة، وكان من أحصن حصون المدينة، وكانت صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فارغ، أطم حسان بن ثابت، في حين كان حسان بن ثابت وقتذاك مع الصبيان والنساء. ورمى في بعض تلك الأيام سعد بن معاذ بسهم قطع منه الأكحل، وكان رماه حبان بن قيس بن العرقة، وقيل بل رماه أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم «2» . لما صعب الأمر، وتعقدت الأحوال أتى نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة فخرج نعيم فأتى بني قريظة، وكان ينادمهم في الجاهلية، فقال: يا بني

_ (1) - راجع ترجمة سلمان الفارسي في: - الإصابة ت (3350) وصفة الصفوة (1/ 210) ومحاسن أصفهان (23) وتهذيب ابن عساكر (6/ 188) وحلية الأولياء (1/ 185) ومروج الذهب للمسعودي (1/ 320) . (2) - قيل إن سعد بن معاذ إذ أصيب في إكحله دعا وقال: - «اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عينى من بنى قريظة» .

قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيننا وبينكم، قالوا: صدقت، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا مثلكم، البلد بلدكم ولا تقدرون عن التحول عنه، وقريش وغطفان ليسوا كذلك، ولا مثلكم، إن رأوا ما يسرهم، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم، ولا طاقة لكم بمحمد، إن تركتم معه فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا، فقالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم نهضن إلى قريش، فقال لأبي سفيان: قد عرفتم صداقتي لكم، وبلغني أمر لزمني أن أعرفكموه، فاكتموا عني، قالوا: وما هو؟ قال: اعلموا أن اليهود قد ندموا على ما فسخوا من عهد محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أرسلوا إليه أن يأخذوا منكم رهنا يدفعون إلى محمد، ويرجعون معه عليكم، فشكرته قريش على ذلك. ثم نهض حتى أتى عطفان، فقال لهم مثلما قال لقريش، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة أربع أرسل أبو سفيان وغطفان إلى بني قريظة: إنا لسنا بدار مقام، فاغدوا للقتال فأرسل اليهود إليهم: إن اليوم يوم سبت، ومع ذلك لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فردوا إليهم الرسول، والله لا نعطيكم فاخرجوا معنا، فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم، فلما رجع الرسل إليهم بذلك قالوا: صدقنا والله نعيم، فأبوا من القتال معهم، وأرسل الله تعالى عليهم ريحا عظيمة كفأت قدورهم وآنيتهم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم حذيفة بن اليمان عينا فأتاه بخبر رحيلهم، ورحلت قريش وغطفان. فلما أن أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب الأحزاب، رجع عن الخندق إلى المدينة، ووضع المسلمون سلاحهم فأتاه جبريل عن الله تعالى بالنهوض إلى بني قريظة، وذلك بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم.

رأى قوم من المسلمين في ذلك اليوم جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي، على بغلة عليها قطيف الديباج ثم مر عليهم دحية بعد ذلك. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ألايصلي أحد العصر إلا في بني قريظة. نهض المسلمون، فوافاهم وقت العصر في الطريق، فقال بعض المسلمين: نصلي، ولم نؤمر بتأخيرها عن وقتها، وقال آخرون: لا نصليها إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصليها. فذكر أن بعضهم لم يصلوا العصر إلا ليلا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف من الطائفتين أحدا. أما التثريب والتعنيف واللوم والإنحاء فهو إنما يقع على العاصي المتعمد المعصية، وهو يعلم أنها معصية، وأما المتأول قصدا للخير، فهو وإن لم يصادف الحق، غير معنف وغير ملوم. والله سبحانه وتعالى يعلم أن قلوبهم جميعا مطبوعة على الطاعة، ولزوم أمر الله، وهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، وهو أعلم بمضمر الدخائل والنيات. رجع الخبر فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية إلى علي ابن أبي طالب- رضي الله عنه- واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل رسول الله صلى الله عليه وسلم حصونهم، فأسمع المسلمون سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له بألا يدنو منهم لأجل ما سمع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو رأوني لم يقولو من ذلك شيئا، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، أمسكوا عما كانوا يقولون، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبارهم يقال لها: (بئر أنا) وقيل (بئر أني) ثم حاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خصال، وهي: إما الإسلام.

- وإما قتل ذراريهم ونسائهم ثم القتال حتى يؤتى عليهم جميعا. وإما تبيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة السبت ظنا منهم أن المسلمين قد آمنوا منهم، وأبوا كل ذلك. ثم أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، فأرسله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما أتاهم اجتمع إليه رجالهم، والنساء والصبيان، فقالو له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم وأشار إليهم، إنه الذبح، ثم ندم أبو لبابة من وقته، وعلم أنه قد أذنب، فانطلق على وجهه، ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكتف نفسه إلى عمود من أعمدة المسجد وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عز وجل عليّ وعاهد الله تعالى ألايدخل أرض بني قريظة أبدا، ولا يكون بأرض خان الله ورسوله فيها، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو أتاني لاستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي يطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، فنزلت التوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر لبابة. والآية التي تيب فيها على أبي لبابة هي قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» . فتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقه بيده، وقيل إنه- رضي الله عنه- أقام مرتبطا بالجذع ست ليال، لا يحل إلا للصلاة. ونزل بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، إذ حكم فيهم بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم ليلة نزولهم ثعلبة، وأسيد ابنا سعية، وأسد بن عبيد وهم نفر من هذل من بنى عم قريظة والنضير.

_ (1) - التوبة (9/ 102) .

وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي، وكان قد أبى من الدخول معهم في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجا ولم يعلم أين وقع. فلما نزلت بنو قريظة على حكمه صلى الله عليه وسلم، قالت الأوس: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج وهؤلاء موالينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة بالمسجد تسكنها رفيدة الأسلمية، وكانت امرأة صالحة، تقوم على المرضى وتطبب وتداوي الجرحى، ليعوده النبي صلى الله عليه وسلم من قريب، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد ليؤتى به، فيحكم في بني قريظة، فأتى به على حمار، وقد وطىء له بوسادة أدم، وأحاط به قومه وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فقال لهم سعد: قد آن لسعد ألاتأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من معه إلى ديار بني عبد الأشهل، فنعى إليهم رجال بني قريظة، فلما أظل سعد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للمسلمين: قوموا إلى سيدكم، فقام المسلمون، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّاك أمر مواليك؛ لتحكم فيهم، فقال: عليكم بذلك، عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا- في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: إني أحكم فيهم أن تقتلوا الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة «1» . فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع سوق المدينة اليوم، فخندق بها خنادق، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق. وقتل يومئذ حيى بن أخطب اليهودي، والد أم المؤمنين صفية، وكعب بن أسد، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة، وقتل من نسائهم امرأة واحدة، وهي بنانة امرأة الحكم القرضي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد بن الصامت فقتلته. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت وترك كل من لم ينبت. وكان وهب صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن باطا، فاستحياهم، منهم عبد الرحمن بن الزبير، أسلم وله صحبة. ووهب أيضا صلى الله عليه وسلم رفاعة بن شامويل القرظي لأم المنذر سلمة بنت قيس من بني النجار، وقد كانت صلت القبلتين، فأسلم رفاعة وله صحبة، وكان ممن لم ينبت. واستحيا عطية القرظي، وله صحبة. وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهما، وكان الخيل يومئذ في المسلمين ستة وثلاثين فرسا. وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فلم تزل في ملكه، حتى مات صلى الله عليه وسلم. فكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة، متصلا بأول ذي الحجة في السنة الرابعة من الهجرة.

_ (1) - الأرقعة السبعة: هي السموات السبع، وأحدهما رقيع، وقيل إنها سميت بذلك لأن بعضها يرفع بعضا. وذهب أخرون إلى أن الرقيع هي السماء الدنيا فقط، وسميت بالرقيع لوجود النجوم فيها، كأنها مرقوعة بالنجوم.

فلما تم أمر بني قريظة، أجيبت دعوة الرجل الصالح سعد بن معاذ رضوان الله عليه، فانفجر عرقه فمات، وهو الذي اهتز عرش الرحمن لموته بعنى سرور حملة العرش بعروج روحه إلى بارئها، فسلام عليه في الصالحين.

شهداء يوم الخندق وشهداء يوم بني قريظة هذا اليومان متصلان، لم يكن بينهما فاصل ولذلك رأينا ذكر شهداء كل منهما معا. فقد أصيب يوم الخندق سعد بن معاذ من بني عبد الأشهل. وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو. وعبد الله بن سهل- وكلاهما من بني عبد الأشهل. ومن بني سلمة بن الخزرج: الطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمه. ومن بني دينار بن النجار بن الخزرج: كعب بن زيد، وقد أصابه سهم غرب «1» فأطاح به. وقد أصيب من المشركين يوم الخندق: من بني عبد الدار: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار. أصابه سهم، مات بسببه في مكة. وقيل به عثمان بن منبه ابن السباق. ومن بني مخزوم بن يقظة:

_ (1) - سهم غرب: سهم طائش لم يعرف مصدره.

بعث عبد الله بن أبي عتيك إلى قتل سلام بن أبي الحقيق (أبو رافع)

نوفل بن عبد الله بن المغيرة، اقتحم الخندق فقتل فيه. ومن بني عامر بن لؤي: عمرو بن عبدود. وابنه حسل بن عمرو من بني عامر بن لؤي. واستشهد يوم بني قريظة من المسلمين: خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث ابن الخزرج طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته ومات في الحصار أبو سنان بن محصن بن حرثان الأسدي أخو عكاشة بن محصن، فدفنه النبي صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قريظة التي يتدافن فيها المسلمون السكان ولم يصب غير هذين. ولم يغز كفار قريش المسلمين بعد الخندق، والحمد لله والفضل على ما أنعم. بعث عبد الله بن أبي عتيك إلى قتل سلام بن أبي الحقيق (أبو رافع) ولما فتح الله تعالى في الكافر الزنديق كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، رغبت الخزرج في مثل ذلك تزيدا في الأجر، والفناء في الإسلام فتذكروا أن سلامة بن أبي الحقيق من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمين على مثل حال كعب بن الأشرف، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم. فخرج إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة، وهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن الأسود حليف لهم من المسلمين. وأمّر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ونهاه عن قتل النساء والصبيان، فنهضوا حتى أتوا خيبر ليلا، وكان سلام ساكنا في دار مع جماعة، وهو في علية

منها، فتسوروا الدار، ولم يدعوا بابا من أبوابها إلا استوثقوا منه من خارج، ثم أبوا العلية التي هو فيها، فاستأذنوا عليه، فقالت امرأته من أنتم؟ فقالوا: أناس من العرب، فقالت: ذاكم صاحبكم، فادخلوا، فلما دخلوا، واغلقوا الباب على أنفسهم، أيقنت بالشر وصاحت، فهموا بقتلها، ثم تذكروا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء؛ فأمسكوا عنها ثم تعاوروه بأسيافهم وهو راقد على فراشه، أبيض في سواد الليل كأنه قبطية «1» . ووضع عبد الله بن عتيك سيفه في بطنه حتى أنفده، وعدو الله يقول: قطني قطني «2» . ثم نزلوا، وكان عبد الله بن عتيك سيىء البصر، فوقع، فوثئت رجله، فحمله أصحابه، حتى أتوا منهرا «3» منه مناهرهم. فدخلوا فيه واستتروا عن الأعين، وخرج أهل الآطام، وأوقدوا النيران في كل وجه وصوب، فلما يئسوا رجعوا، فقال المسلمون: كيف لنا، وأن نعلم أن عدو الله قد مات؟ فرجع أحدهم ودخل بين الناس ثم رجع إلى أصحابه، فذكر لهم أنه وقف مع الجماعة، وأنه سمع امرأته تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي، وقلت أنّى ابن عتيك بهذه البلاد! ثم إنها نظرت في وجهه، فقالت: قاض وإله يهود ... قال: فسررت، وانصرف إلى أصحابه يزف إليهم بشرى هلاك عدو الله. فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه وتداعوا في قتله، فقال صلى الله عليه وسلم: هاتوا سيوفكم فأروني إياها، فقال عن سيف عبد الله بن أنس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.

_ (1) - القبطية: هي ثياب من كتان، وهي منسوبة إلى القبط. (2) - قطني قطني: حسبي وكفاني. (3) - المنهر: هو الشق في الحصن، وهو نافذ ينبجس منه الماء.

غزوة بني لحيان

غزوة بني لحيان «1» أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزو بني قريظة بقية ذي الحجة ومحرم وصفرا، وربيعا الأول وربيعا الآخر، وجمادى الأولى، ثم خرج وهو في الشهر السادس من غزو بني قريظة في الشهر الثالث من السنة السادسة من الهجرة، كذا قالوا، والصحيح أنها السنة الخامسة- قاصدا إلى بني لحيان مطالبا بثأر عاصم بن ثابت، وخبيب بن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع، وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل، فسلك صلى الله عليه وسلم على غراب جبل بناحية المدينة على طريق الشام- إلى محيصن ثم إلى البتراء، ثم أخذ وسلك ذات اليسار، فخرج على (يين) «2» ، ثم على صخرات اليمام. ثم أخذ المحجة من طريق مكة، فأغذ السير حتى نزل (غران) «3» إلى أرض يقال لها: ساية. فوجدهم قد حضروا، وتمنعوا في رؤوس الجبال وشعافها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فاته غرتهم- في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث عليه الصلاة والسلام رجلين من أصحابه فارسين حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرى ورجع السلام الى المدينة قافلا إليها. غزوة ذي قرد «4» في غزوة بني لحيان قالت الأنصار: إن المدينة خالية منا، وقد بعدنا عنها،

_ (1) - جوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 159. وشرح المواهب اللدنية (2/ 146) وابن سيد الناس (2/ 83) وزاد المعاد (3/ 276) وتاريخ الطبري (2/ 254) بتصرف. (2) - يين: هو واد فيه عين بالقرب من المدينة. (3) - غران: واد بين أمج وعسفان، وهي منازل بنى لحيان. (4) - جوامع السيرة لابن حزم ص 159- 161، وتاريخ الطبري (2/ 255) بتصرف.

وشطت نواها، ونحن لا نأمن عدونا أن يخالفنا إليها، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن على كل نقب من أنقابها ملكا يحميها بأمر الله عز وجل، ثم قفل حينئذ، فما هو إلا أن نزل المسلمون المدينة، وبقوا ليالي، وأغار عليهم عيينة بن حصن، من بني عبد الله بن غطفان، فاكتسوا لقاحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها رجل من بني غفار، وامرأة منها أيضا فأجهزوا على الرجل الغفاري، وحملوا المرأة واللقاح. وقد كان أول من نذر بهم سلمة عمرو بن الأكواع الأسلمي، وكان ناهضا إلى الغابة، فلما علا ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار، فصاح فأنذر المسلمين، ثم نهض في آثارهم، فأبلى بلاء عظيما، ورماهم بالنبل حتى استنفذ ما كان بأيديهم، فلما وقعت الصيحة بالمدينة، فكان أول من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان المقداد بن الأسود، ثم عبّاد بن بشر بن وقسن من بني عبد الأشهل، وسعد بن زيد من بني عبد الأشهل، وأسيد بن ظهير أخو بني حارثة، وعكاشة بن محصن الأسدي، ومحرز بن نضلة الأسدي الآخرم، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، أخو بني سلمة، وأبو عياش بن زيد بن الصامت أخو بني زريق. فلما اجتمعوا جميعا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص، أو عائذ بن ماعص، وكان أحكم للفروسية من أبي عيّاش، وأول من لحق بهم: فمحرز بن نضلة الآخرم، فقتل رضي الله عنه، وكان على فرس لمحمود بن مسلمة من بني عبد الأشهل، أخذه إذ كان صاحبه غائيا، فلما قتل رجع الفرس إلى آرية «1» في بني عبد الأشهل وقيل: بل قتله عبد الرحمن بن عيينة بن حصن، فركب فرسه، ثم قتل سلمة عبد الرحمن، واسترجع الفرس «2» .

_ (1) - آرية: المكان الذي كان الفرس مربوطابه. (2) - كان إسم فرس المقداد: سبحة، وقيل: بل كان إسمه بعزجة، وفرس معاذ به رقسن: لماع، وفرس عكاشة بن محصن الأسدى: ذو اللمة، وفرس سعد به زيد: لاحق، وفرس أبي قتادة: جروة، وفرس أسيد بن ظهير: مسنون، وفرس أبي عياش: جلوة، والفرس الذي ركب الآخرم اسمه: الجناح.

سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء

وقد اندحر المشركون مغلولين، مدحورين ناكلين ناكبين مقموعين، وجعل الله تعالى الدائرة للمسلمين عليهم. بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء يقال له: ذو القرد ثم نحر ناقة من لقاحة المسترجعة، ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ويوما، ثم رجع إلى المدينة. وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتت المدينة نذرت أن تنحرها، فأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا نذر في معصية، ولا نذر لأحد فيما لا يملك، ثم أخذ عليه السلام ناقته. سرية محمد بن «1» مسلمة إلى القرطاء ثم كانت سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء «2» ، كان خرج لعشر ليال خلون من المحرم على رأس تسعة وخمسين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبعوثا في ثلاثين راكبا إلى القرطاء. والقرطاء هم بطن من بني بكر من كلاب. وأمره صلى الله عليه وسلم أن يشن عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، وأغار عليهم فقتل نفرا منهم، وهرب سائرهم واستاق نعما وشاء ولم يعرض للطعن، وانحدر إلى المدينة، فحمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء به، وقص على أصحابه ما بقي فعدلوا الجزور بعشر من الغنم، وكانت النعم مائة وخمسين

_ (1) - الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 78) . (2) - القرطاء: هم بطن من بنى بكر من كلاب، كانوا ينزلون البكرات بناحية حزية، وبين المدينة وحزية سبع ليال.

غزوة الغابة

بعيرا، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وغاب تسع عشرة ليلة، وقدم لليلة بقيت من المحرم. غزوة الغابة «1» ثم أغار عيينة بن حصين الفزاري في بني عبد الله بن غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم التي بالغابة، فاستاقها، وقتل راعيها، وهو رجل من عسفان، واحتملوا امرأته. قال عبد المؤمن بن خلف «2» : وهو غريب جدا فجاء الصريخ، ونودي: «يا خيل الله اركبي» «3» وكان أول ما نودي بها، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنعا من الحديد، وكان أول من قدم إليه المقداد بن عمرو في الدرع والمغفر، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء في رمحه وقال: «إمض حتى تلحقك الخيول، إنا على أثرك» واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم، وأدرك سلمة بن الأكوع القوم، وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل وهو يقول:

_ (1) - زاد المعاد (3/ 278) وما بعدها. بتصرف وزيادة. والغابة: موضع بالقرب من المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لأهل المدينة. (2) - وهو ابن أبي ذر. (3) - الحديث أخرجه أبو داود في السنن والعجلوني في كشف الخفاء (2/ 379/ 3170) والسخاوي في المقاصد الحسنة (1332) .

سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الغمر

خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرّضع «1» . حتى أنه انتهى إلى ذي قرد، وقد استنفذ منهم جميع اللقاح، وثلاثين بردة، قال سلمة: فلحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيل عشاء، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنفذت ما في أيديهم من السّرح، وأخذت بأعناق القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملكت فأسجح» «2» . ثم قال: «إنهم الآن ليقرون في غطفان» . ثم ذهب الصريخ بالمدينة إلى بني عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد ولم تزل الخيل تنساب آتية، والرجال على قدم وساق راجلين وعلى الإبل حتى انتهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذي قرد. وكانت غزوة الغابة بعد غزوة الحديبية «3» . سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الغمر ثم بعث عليه الصلاة والسلام سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الغمر غمر مرزوق «4» .

_ (1) - الرضع: اللئام، وكان العرب يقولون: فلأن لئيم راضع إذا كان موسوما باللؤم من طفولته، وهو عندهم كأنه رضع اللؤم من أمه صغيرا، أي إن اللؤم يخالط شحمه ولحمه وتكوينه. (2) - السجاحة: اليسر والسهولة، وهي الرفق في الأمر، فإنه متى تحققت النكاية بالعدو فإن العفو والسجاحة خليقان بالمنتصر. (3) - زعم ووهم جماعة من أهل السيرة والمغازي فقالوا أنها وقعت قبل الحديبية، ولكن الصحيح أنها كانت بعدها، والدليل على ذلك حديث مسلم (1807) . (4) - غمر مرزوق: ماء لبني أسد على ليلتين من فيد طريق الأول إلى المدينة- راجع هذه السرية في الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 84، 85) .

سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة

وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، وكان عكاشة مبعوثا في أربعين رجلا فخرج سريعا يغذو السير، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلقوا كيدا. سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة «1» ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر سنة ست من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعثه عليه الصلاة والسلام إلى بني ثعلبة، وبني عوال من ثعلبة، وهم بذي القصة «2» من عشرة نفر، فوردوا عليهم ليلا، فأحدق به القوم، وهم مائة رجل، فتراموا ساعة بالنبل، ثم حملت عليهم الأعراب بالرماح فقتلوهم، ووقع محمد بن مسلمة جريحا، ومر به رجل من المسلمين، فحمله حتى ورد به المدينة. سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة «3» . ثم سرية أبي عبيدة عامر بن الجراح إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، وبعث أبا عبيدة في أربعين رجلا من المسلمين، غذوا السير إلى ذي

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 85) . (2) - وبين ذي القصة وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا طريق الربذة. (3) - الطبقات الكبرى (2/ 86) .

سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم

القصة حتى وافوها مع عماية الصبح، فأغاروا عليها، فأعجزوهم هربا في الجبال، ثم أصاب رجلا واحدا فأسلم وتركه. فأخذ نعما من نعمهم ورثة من متاعهم، وقدم المدينة فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم ما بقي عليهم. سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم «1» ثم سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم في شهر ربيع الآخر سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، فسار زيد حتى ورد الجموم «2» ، فدلتهم امرأة اسمها حليمة على محلة من محال بني سليم، فأصابوا منها نعما وشاء وأسرى. سرية زيد بن حارثة إلى العيص «3» ثم سرية زيد بن حارثة إلى العيص «4» ، في جمادي الأولى سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت السرية من سبعين ومائة راكب، ذهبت لتعترض عيرا لقريش قد أقبلت من الشام، فأخذوها وما فيها، وقد أخذوا أيضا فضة كثيرة لصفوان بن أمية وأسروا كثيرا ممن كانوا في العير، منهم أبو العاص بن الربيع، وقدم بهم المدينة؛

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 86) . (2) - ناحية بطن نخل عن يسارها، وبطن نخل من المدينة على أربعة برد. (3) - الطبقات الكبرى (2/ 87) . (4) - العيص: بينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذى المروة ليلة واحدة.

سرية زيد بن حارثة إلى الطرف

فاستجار أبو العاص بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته، ونادت في الناس حين صلى أبوها صلى الله عليه وسلم الفجر، فقال عليه الصلاة والسلام: وما علمت بشيء من هذا، وقد أجرنا ما أجرت، ورد عليه ما كان أخذه منه. سرية زيد بن حارثة إلى الطرف «1» كانت في جمادى الآخرة سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، إذ بعث رسول الله عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة إلى الطرف «2» فخرج إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا؛ فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، ولاذوا بالفرار، وصبح زيد بالنعم المدينة، وكان قوامها عشرين بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال، وكان شعارهم «أمت أمت» . سرية زيد بن حارثة إلى حسمى «3» كانت في جمادى الآخرة سنة ست من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أغار عليهم

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 87) . (2) - الطرف: ماء قريب من المراصن، دون النخيل على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، طريق البقرة على المحجة. (3) - الطبقات الكبرى (2/ 88) . حسمى: تقع وراء وادي القرى.

سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى

زيد بن حارثة انتقاما لعدوانهم على دحية الكلبي، وأغار المسلمون على أولئك القوم في خمسمائة رجل ومعهم دحية، فنالوا منهم مبتغاهم وأوجعوهم ضربا وقتلا وإثخانا، وأغاروا على نعم لهم وما شيتهم ونسائهم، وقد أخذوا ألف بعير من النعم، وخمسة آلاف شاة، ومائة من النساء والصبيان. سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى «1» كانت سرية زيد بن حارثة في رجب سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم. سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل «2» وكانت في شعبان سنة ست من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دعا عليه الصلاة والسلام عبد الرحمن بن عوف، ثم أقعده بين يديه، وعممه بيده وقال: «أغز باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليدا، وقال: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم. وبد أن قدم عبد الرحمن ظل ثلاثة أيام في دومة الجندل يدعوهم إلى الإسلام فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي النصراني الذي كان رأسهم، ثم أسلم معه ناس كثير، ومن أقام منهم أقام على إعطاء الجزية.

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 89) . (2) - الطبقات الكبرى (2/ 89) .

سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك

ثم تزوج عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ، وقدم بها إلى المدينة، وهي أم أبي سلمة عبد الرحمن بن عوف. سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك «1» وكانت في شعبان سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، إذ بعث عليا بن أبي طالب- رضي الله عنه- في مائة رجل، حيث انتهى إلى الهمج «2» ، فأغاروا عليهم وأخذوا منهم خمسمائة بعير، وألفي شاة، وقد لاذت بنو سعد بالهروب بالظعن، ثم عزل الخمس وقسم سائر الغنائم على أصحابه، وقدم المدينة، ولم يلق كيدا. سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بوادي القرى «3» ثم سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بناحية وادي القرى «4» ، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم. وقد أخذوا أم قرفة، وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر، فأخذ الجارية سلمة بن الأكوع، فوهبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حزن بن أبي وهب، وقد عمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة وهي عجوز شمطاء فقتلها قتلا ذريعا.

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 89) . (2) - الهمج: ماء تقع بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال. (3) - الطبقات الكبرى (2/ 90) . (4) - وكانت: على سبع ليال من المدينة.

سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم

سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم «1» ثم سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر، وكان ذلك في شوال سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، وكانت على يد عبد الله بن رواحة من ثلاثة نفر سرا وكان قوام السرية ثلاثين رجلا، فشددوا عليه وقتلوا أصحابه كلهم إلا رجلا واحدا، ولم يصب أحد من المسلمين، والذين أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لهم: قد نجّاكم الله من القوم الظالمين. سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنين «2» ثم سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنين في شوال سنة ست من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، في عشرين فارسا نظير غدر ثمانية نفر منهم أسلموا ثم غدروا وقطعوا يد ورجل يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات. وانقض عليهم المسلمون فساقوهم أسرى إلى رسول الله مأخوذين، وفي المدينة أمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم فصلبوا، ونزل في ذلك قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ «3» .

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 92) . (2) - الطبقات الكبرى (2/ 93) . (3) - المائدة (5/ 33) .

غزوة الحديبية

سرية عمرو بن أمية الضمري «1» ثم سرية عمرو بن أمية الضمري، وسلمة بن أسلم بن حريس إلى أبي سفيان بن حرب بمكة، وذلك أن أبا سفيان بن حرب قال لنفر من قريش: ألا أحد يغتال محمدا، فإنه يمشي في الأسواق؟ فأتاه رجل من الأعراب فقال: قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأسرعه وأشده بطشا، وأسرعه شدا، فإن أنت قوّيتني خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر، وما أن أقبل على فعلته حتى سقط الخنجر منه وكان جذبه أسيد بن الحضير، فطلب الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمّنه وسأله عن دوافع غدره فحكى له ما كان من أمر أبي سفيان، وتحريضه على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فأسلم. غزوة الحديبية «2» كانت سنة ست من الهجرة، في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح «3» .

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 93، 94) (2) - الطبقات الكبرى (2/ 95) وجوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 164 وزاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 286) وتاريخ الطبري وابن سيد الناس (2/ 113) وشرح المواهب (2/ 179) . (3) - وهو قول الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقال هشام بن عروة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت في شوال. وهذا وهم لا دليل عليه، بل إنه منقوض لأن غزوة الفتح كانت في رمضان.

وقد ثبت في الحديث الصحيح عن أنس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، فذكر منها عمرة الحديبية» «1» . كان معه صلى الله عليه وسلم ألف وخمسمائة على أكثر الأقوال وقيل كانوا ألفا وثلاثمائة، وقيل غير ذلك والصواب هو ألف وخمسمائة وغير ذلك وهم لا دليل عليه. ولما شعر القرشيون بذلك استنفروا وأجمعوا أمرهم لصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام قد خرج بمن معه من الأنصار والمهاجرين، ومن اتبعه من العرب، وساق الهدى، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة؛ ليعلم أنه لم يخرج لحرب. تقدم المشركين خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم، فورد خبر ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعسفان، فسلك طريقا خرج منه في ظهورهم، وكان دليلهم فيه رجل من أسلم، وذلك ذات اليمين بين ظهري الحمض، في طريق أخرجه على ثنية المرار وهي مهبط الحديبية من أسفل مكة، فلما نما ذلك إلى علم القرشيين بقيادة خالد بن الوليد؛ كرّوا. فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك المكان من الحديبية بركت الناقة، فقال الناس: خلأت- أي حرنت- فقال صلى الله عليه وسلم: ما خلأت- وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك، فقيل له: يا رسول الله، ليس بالوادي ماء، فأخرج سهما من كنانته، فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء «2» حتى كفى جميع أهل الجيش، وقيل إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير ابن يعمر

_ (1) - حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري في الصحيح، ومسلم (1253) ، وأبو داود والترمذي في جامعه الصحيح (815) والإمام أحمد في المسند (3/ 134) . (2) - جاش بالرواء: فاض بالماء الكثير.

بن دارم بن عمرو بن واثلة بن سهم بن مازن بن سلامان بن أسلم بن أقصى بن أبي حارثة، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . ثم سعى الفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الكفار من القرشيين، حتى أتاه سهيل بن عمرو، فقاضاه على أن ينصرف عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتاه معتمرا، ثم دخل مكة وأصحابه بلا سلاح، حاشا السيوف في القرب فقط. فيقيم بها ثلاثا لا مزيد عليها، على أن يتم بينهما الصلح الموصول لمدة عشرة أعوام يخالط الناس بعضهم بعضا ويداخلون بعضهم البعض آمنين، ولكن هذا مشروط بأن من يأتي المسلمين من الكفار مسلما يرد إلى الكفار، أما الذي يرتد من المسلمين إلى الكفار فلا يرد، وكان هذا أمرا شاقا صعبا على المسلمين قبوله، وكان أمر الله مفعولا. لقد كان صلح الحديبية أمرا لا مندوحة عنه، ولا مصرف ولا تحويل عن طريقه ليعيد المسلمون حساباتهم، ويرتبوا أوراقهم، وليعمدوا إلى تنسيق صفوفهم وأمورهم حتى يأتيهم أمر الله. وقد جرى الصلح بين المسلمين، وأهل مكة على وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، حتى إذا كان العام القادم المقبل قدمها، وخلّوا بينه وبين مكة، فأقام بها ثلاثا، وأن لا يدخلها إلا بسلاح الراكب، والسيوف في القرب، وأن من آتانا من أصحابك لا نرده عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة «2» . وأنه لا إسلال ولا إغلال «3» ، فقالوا: يا رسول الله، نعطيهم «4» هذا؟ فقال عليه الصلاة

_ (1) - وقيل: بل نزل به البراء بن عازب. البدن: الناقة. (2) - العيبة: التي يودعها المرء حر متاعه، ومصون ثيابه، والمقصود بالعيبة المكفوفة: الصدور السليمة، والنيات الصادقة في الإلتزام بالإتفاقية كعهد وميثاق. (3) - لا إسلال ولا إغلال: الإسلال السرقة، والإغلال من الغلول أي الخيانة. (4) - كره سهيل بن عمرو أن يكتب صدر الصحيفة «محمد رسول الله» وأبى علي بن أبي طالب كاتب الصحيفة أن يمحو «رسول الله صلى الله عليه وسلم» بيده، فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بيده وأمره أن يكتب «محمد بن عبد الله» .

والسلام: من أتاهم منا فأبعده الله، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم جعل الله له فرجا ومخرجا «1» . وفي غزوة الحديبية أنزل الله تعالى فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام أو الصدقة، أو النسك في شأن كعب بن عجرة. وفيها أيضا دعا صلى الله عليه وسلم للمخلفين ثلاثا بالمغفرة، وللمقصرين مرة واحدة، وفيها أيضا تحروا البدنة عن سبعة ونحروا البقرة عن سبعة. وفي غزوة الحديبية نزلت سورة الفتح، وفيها أيضا دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم «2» . وكان عليه الصلاة والسلام قبل تمام الصلح قد بعث عثمان بن عفان رسولا إلى مكة، وشاع أن المشركين قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبايعة على الموت، وأن لا يفروا عن القتال، وهذه هي «بيعة الرضوان» التي كانت تحت الشجرة «3» . وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» فكان هذا تبشيرا بالفوز بالنجاة من النار. وبعد أن تم الصلح، وانعقدت الإتفاقية، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحروا، ويحلوا؛

_ (1) - أخرجه أبو داود (3/ 210/ 2766) والإمام أحمد في المسند (4/ 325) ينحوه. وكان أتى أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه، وقال عليه الصلاة والسلام «إن الله سيجعل له فرجا» . (2) - وكان في الشرط المعقود بينهم أن من شاء أن يدخل في عقده عليه الصلاة والسلام دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش دخل. وكان قوم من قريش أتوا- قيل كانوا بين الأربعين إلى الثلاثين فأرادوا الإيقاع بالمسلمين، فأخذوا أخذا، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم العتقاء الذين ينتمون إليهم العتقيون. (3) - قال تعالى: - «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» الفتح (48/ 18) فإن أولئك المبايعين تحت الشجرة مرضي عنهم بنص القرأن الكريم، فطوبى لهم وحسن ماب، فإن من رضي الله عنه شمله رضوانه ورحمته.

ففعلوا يعد إيباء كان منهم وتوقف أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وفقهم الله تعالى ففعلوا، وقيل: إن الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خراش بن أمية بن المفضل الخزاعي. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية هاربا، وكان ممن حبس بمكة، وهو ثقفي من بني ثقيف حليف لبني زهرة، فبعث إليه الأزهر بن عبد عوف عم عبد الرحمن بن عوف، والأخنس بن شريق الثقفي، رجلا من بني عامر بن لؤى ومولى لهم، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمه إليهم فاحتملاه، فلما صار بذي الحليفة نزلوا، فقال أبو بصير لأحد الرجلين، أراني هذا السيف، فلما صار بيده ضرب به العامري فقتله، وفر المولى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما وقع، وأضل أبو بصير، فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتتن فيه، أو يعبث بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل أمه سعر الحرب «1» ، لو كان له رجال ... فعلم أبو بصير أنه سيرده، فخرج حتى أتى سيف البحر، موضعا يقال له العيص «2» . فقطع على رفاقهم «3» ثم استضاف إليه كل من ندّ وفر من قريش ممن أراد الإسلام؛ فاذوا قريشا، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يضمهم إلى المدينة. وأنزل الله تعالى بفسخ الشرط المذكور في ردّ المثياق والعهد، ومنع سبحان عز وجل من ردهن، ثم بعد ذلك نسخت براءة كل ذلك، ولله الحمد والمنة. وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فأتى أخواها عمارة والوليد، ابنا عقبة، فمنع الله تعالى من رد النساء، وحرّم الله تعالى حينئذ على المؤمنين الإمساك

_ (1) - سفر الحرب: سجرها وموقدها. (2) - وهو موقع من ناحية ذي المروة على طريق قريش إلى الشام. (3) - الرفاق: جمع رفقة وهم المسافرون وأكثر ما تسمى (رفقة) إذا نهضوا في طلب الزياد بالإمتيار أي في طلب الميرة.

غزوة خيبر

بعصم الكوافر، فانفسخ نكاحهن من المسلمين، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. غزوة خيبر «1» أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مرجعه من الحديبية ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في بقية من المحرم غازيا إلى خيبر، وذلك قرب آخر السنة السادسة من الهجرة. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم نميلة بن عبد الله الليثي، ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب، وقيل: إنها كانت راية بيضاء وسلك على عصر «2» ؛ فبنى له بها مسجدا، ثم على الصهباء ثم نزل بواد يقال له الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم- وكانت غطفان قد أرادت إمداد يهود خيبر فلما خرجوا أسمعهم الله تعالى من ورائهم حسّا راعهم، فانصرفوا وبدالهم فأقاموا في أماكنهم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الآطام والحصون، والأموال مالا مالا، فأول حصونهم افتتح حصن اسمه (ناعم) ، وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى فقتلته. ثم (القلموس) حصن بني أبي الحقيق وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيى بن أخطب أم المؤمنين، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وبنتي عم لها، فوهب عليه السلام صفية لدحية، ثم ابتاعها منه بتسعة أرؤس، وجعلها عند أم سليم حتى اعتدت وأسلمت، ثم أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، لا

_ (1) - جوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 167، وزاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 316) وما بعدها، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 106 وما بعدها وتاريخ الطبري (2/ 298) . (2) - عصر: بكسر ثم سكون، ويروى بفتحتين، والأول أشهر وأكثر، واختاره ياقوت: وهو جبل بين المدينة، ووادي الفرع.

صداق لها غيره، فصارت بعد ذلك سنة مستحبة لكل من أراد أن يفعل ذلك إلى يوم القيامة. وفي غزوة خيبر حرّم صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية، وأخبر أنها رجز، وأمر بالقدور فألقيت وهي تفور، بلحومها، وأمر بغسل القدور بعد، وأحلّ حينئذ لحوم الخيل، وأطعمهم إياها، ثم فتح حصن الصعب بن معاذ، ولم يكن بخيبر حصن أكثر طعاما منه، ولا أوفر ودكا «1» منه وآخر ما افتتح عليه السلام من حصونهم (الوطيح) و (السلالم) حاصرهما بضع عشرة ليلة، وكان شعار المسلمين يوم خيبر (أمت أمت) . ووقف إلى بعض حصونهم أبو بكر وعمر- رضوان الله عليهما- فلم يفتحاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية إلى علي- رضوان الله عليه وكرم الله وجهه- ففتحه، وكان أرمد «2» ، فتفل في عينيه فبرىء. وكان فتح خيبر، الأرض كلها، وبعض الحصون عنوة- وهي الأكثر- وبعضها صلحا على الجلاء؛ فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن عزل الخمس، وأقر اليهود على أن يعتملوها بأموالهم وأنفسهم، ولهم النصف من كل ما يخرج منها من زرع أو ثمر، ويقرهم على ذلك ما بدا له، فبقوا على ذلك حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدة خلافة أبي بكر، وجمهور خلافة عمر، فلما كان آخر خلافته، بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في مرضه الذي مات فيه ألايبقي في جزيرة العرب دينان، فأمر بإجلائهم عن خيبر، وغيرها من بلاد العرب، وأخذ المسلمون ضيعهم من مقاسم خيبر، فتصرفوا فيها، وكان متولي قسمتها بين أصحابها جبار بن صخر من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار. ومن فتح خيبر أهدت يهودية تسمى زينب بنت حارث امرأة سلام بن مشكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية قد جعلت فيها السّمّ،

_ (1) - الودك: دهن اللحم الذي يستخرج منه، ويطلق الودك عموما على الدسم. (2) - أرمد: مصاب بالرمد في عينيه.

فتح خيبر

خريطة رقم (6) فتح خيبر

وكان أحب شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اللحم الذراع، فتناول صلى الله عليه وسلم، فلاك منها مضغة، وكان معه عليه السلام بشر بن البراء بن معروف من بني سلمة فأكل منه، وازدرد لقمة، فقال عليه السلام: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. ولفظ لقمة، ثم دعا باليهودية، فاعترفت، ومات بشر من أكلته تلك، رضوان الله عليه، ولم يقتل عليه السلام هذه المرأة اليهودية، وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربعمائة رجل، ومائتى فارس، ووقع سهم الزبير بن العوام بالخوع من النطاط، ووقع أيضا بالنطاط سهم بني بياضة، وبني الحارث بن الخزرج، ووقع بنو عوف بن الخزرج ومزينة من ناعم من النطاط، ووقع سهم عاصم بن عدي أخي بني عجلان، مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم عبد الرحمن بن عوف، وسهام بني ساعدة، وبني النجاة، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، وغفار وأسلم، وعمر بن الخطاب، وبني سلمة، وبني حارثة وجهينة، وتقيف من العرب،: في الشق. وكان عبيد بن أوس من بني حارثه بن عوف عرف يومئذ بعبيد السهام لكثرة ما اشترى من سهام الناس يومئذ اشترى عمر مائة سهم بخيبر، فهي صدقته الباقية إلى اليوم، وإلى يوم القيامة. شهداء يوم خيبر ربيعة بن أكثم بن سخبرة بن عمرو بن كليز بن عامر ابن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة. ثقف بن عمر بن صميط بن ثعلبة بن عبد الله بن غنم ابن دودان. رفاعة بن سروح.

وهؤلاء كلهم من بني أمية بن عبد شمس. ومسعود بن ربيعة من القارة، حليف بني زهرة. وعبد الله بن الهبيب- وقيل ابن الهبيب بن أهيب ابن سحيم بن غيرة من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حليف بني أسد بن عبد العزى، وابن أختهم. بشر بن البراء بن معرور من بني سلمة، مات من السم الذي أكله من الشاة المصلية التي أكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الشاة المسمومة. فضيل بن النعمان من بني سلمة أيضا. مسعود بن سعد بن قيس بن خلدة بن عامر ابن زريق. محمود بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة ابن الحارث بن الأوس حليف لبني عبد الأشهل. أبو ضياح ثابت بن أمية بن أمرىء القيس بن ثعلبة بن عمرو بن عوف، من أهل قباء. مبشر بن عبد المنذر بن دينار بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف. الحارث بن حاطب. أوس بن قتادة. عروة بن حرة بن سراقة. أوس بن القائد. أنيس بن حبيب. ثابت بن أثلة. طلحة.

- الأسود الراعي، واسمه أسلم. كل هؤلاء من بني عمرو بن عوف. ومن بني غفار: عمارة بن عقبة بن حارثة بن غفار بن مليل بن ضميرة أصابه سهم. ومن أسلم: عامر بن الأكوع. وإثر فتح خيبر، قدم من الحبشة: جعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وابناهما عبد الله بن جعفر، ومحمد بن جعفر. خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، مع امرأته أمينة بنت خلف، وابناهما سعيد وأمة. عمرو بن سعيد بن العاص، وكانت امرأته فاطمة بنت صفوان الكنانية، قد ماتت بأرض الحبشة. معيقيب بن أبي فاطمة، وهو الذي ولي بيت المال لعمر، وهو حليف آل عتبة بن ربيعة. الأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. جهم بن قيس بن عبد شرحبيل، وابناه عمرو بن جهم، وخزيمة بنت جهم، وهو من بني عبد الدار. وكانت امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود قد هلكت بأرض الحبشة. والحارث بن خالد بن صخر من بني تميم بن مرة، وكانت امرأته ريطة بنت الحارث بن جبيلة، هلكت بأرض الحبشة. عثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي.

فتح فدك

- محمية بنت جزء الزبيدي، حليف لبني سهم. ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس. معمر بن عبد الله بن نضلة. من بني عدي بن كعب. أبو حاطب بن عامر بن عبد شمس من بني عامر بن لؤي. مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس، من بني عامر ابن لؤي، ومعه امرأته عمرة بنت سعد بن وقدان بن عبد شمس العامرية. وكان أتى سائر مهاجرة الحبشة قبل ذلك بسنتين وكان هؤلاء المذكورون آخر من يقي بها. فتح فدك «1» لما اتصل بفدك، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهلها مثل ما فعل بأهل خيبر، إذ بعثوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنهم، ويتركوا الأموال، فأجابهم عليه الصلاة والسلام إلى ذلك، فكانت مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركب، فلم تقسم لذلك، ووضعها صلى الله عليه وسلم حيث أمره الحق سبحانه وتعالى. وكانت أرض فدك «2» هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق منها على نفسه، ويعول منها صغير بني هاشم ويزوج منها أيمهم «3» .

_ (1) - جوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 173. وفدك حصن قريب من خيبر على ست ليال من المدينة. (2) - راجع أيضا زاد المعاد لابن قيم الجوزية وإبن هشام. (3) - الأيم: من لا زوج لها بكرا كانت أم ثيبا، ومن لا امرأة له.

سرية عمر بن الخطاب إلى تربة

سرية عمر بن الخطاب إلى تربة «1» وكانت هذه السرية في شعبان سنة سبع من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بعث عمر رضي الله عنه في ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن بتربة، وهي بناحية العلاء على أربع ليال من مكة طريق صنعاء ونجران. ولما أن جاءهم عمر رضي الله عنه ونزل محالهم فلم يلق أحدا منهم، فانصرف إلى المدينة، ولم يلق كيدا «2» . سرية أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- إلى بني كلاب بنجد «3» وقد بعث أبا بكر رضي الله عنه إلى بني كلاب بنجد، ناحية ضربة في شعبان سنة سبع من مهاجرة صلى الله عليه وسلم. وكان شعار المسلمين في هذه السرية (أمت أمت) .

_ (1) - ابن سعد (2/ 117) . (2) - راجع نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ محمد الخضري بتحقيق عدنان مولود المغربي ط. مكتبة الغزال، ومؤسسة مناهل العرفان ص 201. (3) - ابن سعد (2/ 117، 118) .

سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى فدك

سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى فدك «1» وقد أرسل عليه الصلاة والسلام بشير بن سعد الأنصاري لقتال بني مرة بناحية فدك. فلما ورد بلادهم لم ير منهم أحدا، ثم انحدر إلى المدينة أما القوم فكانوا في الوادي، فلما جاءهم الصريخ أدركوا بشيرا ليلا وهو يتراجع، فتراموا بالنبل، وفي الصباح اقتتل الفريقان قتالا شرسا عنيفا حتى قتل أكثر المسلمين وجرح بشير جرحا غائرا شديدا، وما لبث أن أفلت من الأعداء حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر ما كان وما نزل به. سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة «2» وكانت هذه السرية في شهر رمضان سنة سبع من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، وكان بين الميفعة وبين المدينة ثمانية برد، وكان غالب مبعوثا في مائة وثلاثين رجلا، وكان دليلهم يسرد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) - ابن سعد (2/ 118) . راجع أيضا نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ محمد الخضري ص 200. (2) - الطبقات الكبرى (2/ 119) ونور اليقين ص 200.

فتح وادي القرى

وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، وقد ظن أسامة أنه قالها تعوذا من السيف فعاتبه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: هلا شققت عن قلبه؟!! ثم قال لأسامة: كيف تقابل لا إله إلا الله يوم القيامة «1» ؟!!. فتح وادي القرى «2» انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادي القرى فأصيب بها غلام اسمه (مدعم) أصابه سهم غرب فقتله؛ فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه الآن نارا، أو كما قال عليه الصلاة، افتتحها عنوة وقسمها. عمرة القضاء «3» فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، أقام بها شهري ربيع، وشهري جمادي ورجبا، وشعبان ورمضان وشوالا، فبعث في خلال ذلك السرايا، ثم خرج في ذي القعدة في السنة السابعة من الهجرة، قاصدا العمرة، على ما عاهد عليه قريشا حين

_ (1) - لأن المسلم مأخوذ بظاهره، أما السرائر فإن الله يتولاها، ويجازي عليها ويحاسب بها. (2) - جوامع السيرة لابن حزم ص 173. (3) - جوامع السيرة النبوية ص 173 والسيرة النبوية لابن هشام.

سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار

الحديبية وخرج أكابر قريش عن مكة عداوة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فأتم عليه السلام عمرته، وتزوج هنالك بعد إحلاله ميمونة بنت الحارث، خالة ابن عباس- رضي الله عنهما، وخالد ابن الوليد، فلما تمت الثلاث أوجبت عليه قريش أن يخرج عن مكة، ولم يمهلوه حتى يا بني بأم المؤمنين، فخرج فبنى عليها بسرف، وهناك ماتت أيام معاوية بن أبي سفيان، وبها دفنت، وقبرها هناك لا يزال مشهورا حتى اليوم. سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار «1» وكانت هذه السرية في شوال سنة سبع من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد عقد لواء لبشير بن سعد الأنصاري، وبعث معه ثلاثمائة رجل، ساروا الليل، وكمنوا النهار حتى أتوا يمن وجبار، ... فنزلوا بسلاح، ثم دنوا من القوم، وأصابوا منهم نعما كثيرا وشاء، وتفرق الرعاء، وانفضوا ولم يلق بشير من أحد منهم، فرجع بالأسلاب والغنائم وأسر منهم رجلين وقدم بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما، فأرسلهما. سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم «2» ثم هذه السرية في ذي الحجة سنة سبع من هجرته صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم قد

_ (1) - ابن سعد (2/ 120) وما بعدها. (2) - ابن سعد (2/ 123) . نور اليقين ص 204.

سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد

بعثه في خمسين رجلا إلى بني سليم، وقد تقدمه عين لهم وكانوا مستعدين له، ولما أن واجههم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، ثم تراموا بالنبل ساعة، ولما أحرقوهم وأحصروهم، وقتل نفر كثير، وقد أصيب ابن ابي العوجاء جريحا مع القتلى، ثم قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول صفر سنة ثمان. سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد «1» كانت في صفر سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غالب بن عبد الله الليثي أحد بني كلب بن عوف في سرية، وأمرهم بأن يشنوا الغارة على بني الملوح بالكديد، وهم من بني ليث. وفي هذه يقول الراجز من المسلمين: أبي أبو القاسم إن تعز بي ... في خضل نباته مغلولب صفر أعاليه كلون المذهب قيل: كانوا بضعة عشر رجلا، وقيل كان شعارهم يومئذ (أمت أمت) . سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك «2» هذه السرية بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بها في صفر سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم. وقد هيّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام وقد قال له: سر حتى تنتهي إلى مصاب

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 124) . (2) - ابن سعد (2/ 126) .

غزوة مؤتة

أصحاب بشير بن سعد فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم، وهيأ معهم مائتي رجل وعقد له لواء، فقدم غالب بن عبد الله الليثي من الكديد من سرية قد ظفره الله عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير: اجلس! وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل، وخرج أسامة بن زيد فيها حتى انتهى إلى مصاب أصحاب بشير وخرج معه علية بن زيد فيها فأصابوا نعما منهم وقتلوا منهم قتلى. غزوة مؤتة «1» فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء، أقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وربيعا، ثم بعث في جمادي الأولى من السنة الثامنة من الهجرة، بعث الأمراء الى الشام. وكان أسلم قبل ذلك، وبعد الحديبية، وبعد خيبر عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة وهم من أكابر قريش. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش زيد بن حارثة، فإن أصابه قدره؛ فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، فإن أصابه قدر فعلى الناس عبد الله بن رواحة، وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وودعهم، ثم انصرف ونهضوا، فلما بلغوا معان من أرض الشام، أتاهم الخبر أن هرقل ملك الروم، قد نزل أرض بني ماب، وهي الأرض المذكورة في كتب بني إسرائيل، وأنهم كانوا يغاورونهم في أيام دولتهم، وأنهم من بني لوط عليه

_ (1) - جوامع السيرة النبوية ص 174، وتاريخ الطبري (2/ 318) والسيرة النبوية لابن هشام (4/ 284) .

السلام، وهي أرض (البلقاء) : في مائة ألف من الروم، ومائة ألف أخرى من نصارى أهل الشام من لحم وجذام، وقبائل قضاعة من بهراء وبلى، وبلقين، وعليهم رجل من بني إراشة من بلى يقال له مالك بن راقلة، فأقام المسلمون في معان ليلتين، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا؛ فيأمرنا بأمره، أو يمدنا، فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم، إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون- الشهادة- وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، وما نقاتلهم، إلا بهذا الذي أكرمنا الله تعالى به، فانطلقوا فهي إحدى الحسنيين، إما ظهور، وإما شهادة، فوافقه الجيش على هذا الرأي. ثم نهضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقوا الجموع المذكورة مع هرقل إلى جنب قرية يقال لها (مشارف) ، وسار المسلمون في قرية يقال لها (مؤتة) فجعل المسلمون على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاري، وقيل عبادة، واقتتلوا، فقيل: الأمر الأول: زيد بن حارثة ملاقيا بصدره الرماح، والراية في يده، فأخذها جعفر بن أبي طالب، ونزل عن فرس شقراء وقيل إنه عقرها، فقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بيسراه، فقطعت، فاحتضنها، فقتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأخذ عبد الله بن رواحة الراية، وتردد عند النزول بعض التردد، ثم صمم فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، وقال: يا معشر المسلمين: اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: لا، فأخذها خالد بن الوليد، وانحاز بالمسلمين، فأنذر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأمراء المذكورين قبل ورود الخبر في يوم قتلهم بعينه. أسماء من استشهدوا في غزوة مؤتة: زيد بن حارثة. جعفر بن أبي طالب. عبد الله بن رواحة.

سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسي

- مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة من بني عدي بن كعب. وهب بن سعد بن أبي سرح من بني حسل، ثم من بني عامر بن لؤي. عباد بن قيس، وهو وعبد الله بن رواحة من بني الحارث بن الخزرج. الحارث بن النعمان بن إثاف بن نضلة بن عوف بن غنم، بن مالك بن النجار. سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء بن مبذول، من بني مازين بن النجار. أبو كليب، وقيل أبو كلاب. وأخوه جابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول. وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أقصى من بني النجار. هؤلاء من ذكر منهم. وقيل إن عدد المسلمين يوم مؤتة كان ثلاثة آلاف. سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسّي «1» ثم سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسى في شهر ربيع الأول سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم. وكانت السرية تقع في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن.

_ (1) - ابن سعد (2/ 127) والسّي على خمس ليال من المدينة، وتقع ناحية ركبة من وراء المعدن.

سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح

وقد أمره صلى الله عليه وسلم بالإغارة عليهم، وكان يسير الليل، ويكمن النهار حتى صبحهم وهم غارون، فأصابوا نعما كثيرا وشاء، واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، واقتسموا الغنيمة، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا، وعدلوا البعير بعشر من الغنم، وكانت السرية غابت خمس عشرة ليلة. سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح «1» وهذه السرية كان صلى الله عليه وسلم بعثها في شهر ربيع الأول سنة ثمان من مهاجرة عليه الصلاة والسلام. بعث كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا. وقد دعوا القوم إلى الإسلام فلم يستجيبوا؛ فرموهم ورشقوهم بالنبال، ثم قاتلوهم قتالا شديدا. وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزم على أن يبعث إليهم من يقتض منهم، فبلغه أنهم تحولوا عن منزلهم؛ فعدل عن ذلك. سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل «2» ثم سرية عمر بن العاص إلى ذات السلاسل، وهي وراء وادي القرى وبين

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 127) . ذات أطلاح: وهي من وراء وادي القرى. (2) - الطبقات الكبرى (2/ 131) بتصرف، وزاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 386)

سرية الخبط وأميرها أبو عبيدة عامر بن الجراح

المدينة وبينها عشرة أيام، وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم. وقد بعثه صلى الله عليه وسلم وعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وقد بعثه في ثلثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا، وأمرهم أن يستعينوا بمن يمر بهم من بني عذرة وبلقين، فسار الليل وكمن النهار حتى قارب القوم، بلغه أنهم مستعدون مجتمعون فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فأرسل إليه أبا عبيدة بن الجراح في مئتين وعقد له لواء ومعها سراة المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر، وأمره أن يلحق بعمرو. سرية الخبط وأميرها أبو عبيدة عامر بن الجراح «1» أميرها أبو عبيدة عامر بن الجراح- رضي الله عنه- وكانت في رجب سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار وفيهم عمر بن الخطاب إلى حي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر، وبينهم وبين المدينة خمس ليال، فأصابهم في الطريق جوع شديد، فأكلوا الخبط، وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم، وألقى لهم البحر حوتا عظيما فأكلوا منه وانصرفوا ولم يلقوا كيدا.

_ (1) - ابن سعد (2/ 132) راجع أيضا نور اليقين ص 207، 208 بتصرف، وزاد المعاد (3/ 389) .

سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة

سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة «1» الخضرة وهي أرض محارب بنجد، وقد أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بن ربعي الأنصاري ومعه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، وأمره أن يشن عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، فهجم على حاضر منهم جليل، فأحاط بهم فصرخ رجل منهم: يا خضرتي وقاتل منهم رجال، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا النعم، فكانت الإبل مائتي بعير، والغنم ألفي شاة، وسبوا سبايا كثيرة، وجمعوا الغنائم، فأخرجوا الخمس، فعزلوه، وقسموا ما بقي من أهل السرية فأصاب كل رجل منهم اثنا عشر بعيرا. سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى بطن إضم «2» ثم سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى بطن إضم في أول شهر رمضان سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم. إذ بعث عليه الصلاة والسلام قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم، وهي فيما بين ذي خشب وذي المروة وبينها وبين المدينة ثلاثة برد. وكانت في السرية محلم بن جثامة الليثي، فمر عامر بن الأظبط الأشجعي

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 132) بتصرف. (2) - الطبقات الكبرى (2/ 133) بتصرف.

سرية خالد بن الوليد إلى العزى

فسلم بتحية الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله وسلبه بعيره ومتاعه، ووطب لبن كان معه، فلما لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم نزل فيهم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. سرية خالد بن الوليد إلى العزى «1» وفر الخامس من مقامه عليه الصلاة والسلام بمكة ولخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، من مهاجرة صلى الله عليه وسلم بعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها فخرج في ثلاثين فارسا لهدم هيكل العزى، حتى انتهوا إليها، فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد وهو مغتاظ، فجرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عارية سوداء ناشرة رأسها، فجعل السادن يصيح بها فضربها خالد فجدلها باثنين، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: نعم تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا. سرية عمرو بن العاص إلى سواع «2» وقد أرسل صلى الله عليه وسلم سرية عمرو بن العاص إلى سواع في شهر رمضان المعظم سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم.

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 145) بتصرف. وزاد المعاد (3/ 415) . (2) - الطبقات الكبرى (2/ 146) بتصرف ثم نور اليقين ص 218.

سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة

بعث صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة عمرو بن العاص إلى سواع، وهو صنم هذيل؛ ليهدمه، قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لم؟ قال: تمنع، قلت: حتى الآن، أنت في الباطل!! ويحك، وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئا «1» . سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة «2» سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة في شهر رمضان سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، إذ بعثه عليه الصلاة والسلام حين فتح مكة سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، وكان بالمشلل للأوس والخزرج وغسان، فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلي يهدمها، فخرج في عشرين فارسا، حتى انتهى إليها فهدمها. سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة «3» ثم سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة، وكانوا بأسفل مكة على ليلة

_ (1) - ولما حدث ذلك قال للسادن: كيف رأيته؟ قال السادن: أسلمت لله!! فسبحان الله (2) - ابن سعد (2/ 146، 147) بتصرف. ونور اليقين ص 219. (3) - ابن سعد (2/ 147) .

بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم بطن نخلة فقال: اقتلوا ما لم تسمعوا مؤذنا أو تروا مسجدا، إذ لحقنا رجلا فقلنا له: أكافر أو مسلم؟ فقال: إن كنت كافرا فمه! قلنا له: إن كنت كافرا قتلناك! قال: دعوني أقض إلى النسوان حاجة، قال: إذ دنا إلى إمراة منهن فقال لها: أسلمي حبيش، على نفد العيش، فقالت: نعم حييت عشرا وسبعا وترا، وثمانيا تترى!! قال: فقربناه، فضربنا عنقه، قال: فجاءت، فجعلت ترشفه حتى ماتت عليه! وقال سفيان: وإذا امرأة كثيرة النحض.

ناحية يلملم، في شوال سنة ثمان من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، وهو يوم القميصاء. وقد بسط ابن سعد في طبقاته الكبرى فليراجعها ثمة من شاء ذلك، وفيها إسهاب ضربنا عنه صفحا. وثبت عن عبد الله المزني عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم بطن نخلة فقال: اقتلوا ما لم تسمعوا مؤذنا أو تروا مسجدا، إذ لحقنا رجلا فقلنا له: أكافر أو مسلم؟ فقال: إن كنت كافرا فمه! قلنا له: إن كنت كافرا قتلناك! قال: دعوني أقض إلى النسوان حاجة، قال: إذ دنا إلى إمراة منهن فقال لها: أسلمي حبيش، على نفد العيش، فقالت: نعم حييت عشرا وسبعا وترا، وثمانيا تترى!! قال: فقربناه، فضربنا عنقه، قال: فجاءت، فجعلت ترشفه حتى ماتت عليه! وقال سفيان: وإذا امرأة كثيرة النحض «1» . فتح مكة «2» أقام عليه السلام بعد مؤتة جمادى ورجبا، ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض عهد قريش المعقود يوم الحديبية، وهو أن خزاعة كانت في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنها وكافرها وكانت كفار بني بكر بن عبد مناف بن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بن عبد مناف على قوم من خزاعة، على ماء لهم يقال له الوتير بأسفل مكة، وكان سبب ذلك أن رجلا يقال له مالك بن عباد الحضرمي حليفا لآل الأسود بن رزن،

_ (1) - النحض: اللحم والشحم. (2) - جوامع السيرة ص 177، بتصرف وزاد المعاد (3/ 442) وسيرة ابن هشام (4/ 279) وتاريخ الطبرى (2/ 323) .

كان خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، وذلك قبل الإسلام بمدة، فعدت بنو بكر بن عبد مناة رهط الأسود بن رزن على رجل من بني خزاعة، فقتلوه بمالك بن عياد، فعدت خزاعة على سلمة وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن رزن، فقتلوهم، وهؤلاء الإخوة أشراف بني كنانة كانوا يودون في الجاهلية ديتين، ويودي سائر قومهم دية دية وكل هذه المقاتل كانت قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام حجز ما بين من ذكرنا، واشتغل الناس به فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية أمن الناس بعضهم بعضا؛ فاغتنم بنو الديل من بني بكر بن عبد مناة تلك الفرصة، وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي بمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناف، وليس كلهم تابعه، جاء حتى بيت خزاعة، وهم على الوتير، فاقتتلوا، ورفضت قريش بني بكر بالسلاح، وأعانهم قوم من قريش، بأنفسهم مستخفين، وانهزمت خزاعة إلى الحرم، فقال قوم نوفل بن معاوية: يا نوفل: الحرم، اتق الله إلهك، فقال الكافر: لا إله له اليوم، والله يا بني كنانة، إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة يقال له منبه، وانجحرت في دور مكة فدخلوا دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم اسمه (رافع) وكان هذا نقضا للعهد الواقع يوم الحديبية. فخرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفيثين مما أصابهم به بنو بكر بن عبد مناة وقريش، فأجابهم، وأنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد، ويزيد في المدة، وأنه سيرجع بغير حاجة، وندبت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليشد العقد، ويزيد في المدة، فلقي بديل بن ورقاء بعسفان، فكتمه بديل مسيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه إنما صار في خزاعة على الساحل، فنهض أبو سفيان حتى أتى المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين، فذهب ليقعد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته دونه، فقال لها في ذلك فقالت: هو

خريطة رقم (7) فتح مكة المكرمة

من أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس عليه، فقال: لقد أصابك بعدي شر يابنية، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فكلمه، فلم يجبه بكلمة، ثم ذهب أبو سفيان إلى أبي بكر الصديق، فكلمه أنه يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتى له، فأبى أبو بكر من ذلك. فلقى عمر فكلمه في ذلك، فقال عمر: أنا أفعل ذلك؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، فدخل علي على بيته، فوجد عنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحسن وهو صبي فكلمه فيما أتى له، فقال له علي: والله ما نستطيع أن نكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر قد عزم عليه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس؟ فقالت: ما بلغ بني ذلك وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: يا أبا سفيان أنت سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، فقال: أترى ذلك مغنيا عني شيئا، قال: ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك سواه، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: ايها الناس، إنني قد أجرت بين الناس، ثم ركب فانطلق راجعا إلى مكة حتى قدم إليها، وأخبر قريشا بما فعل وبما لقي، فقالوا له: ما جئت بشيء، وما زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك. ثم أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سائر إلى مكة، فأمرهم بالتجهيز لذلك، ودعا الله تعالى أن يأخذ عن قريش بالأخبار «1» . فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم فيه بقصد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، فدعا علي بن أبي طالب والزبير والمقداد وهم فرسان، فقال لهم: انطلقوا إلى روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب لقريش، فانطلقوا، فلما أتوا المكان الذي وصف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا المرأة، فأناخوا بها، ففتشوا رحلها كله فلم يجدوا شيئا، فقالوا: والله ما كذب رسول الله،

_ (1) - نص الحديث: اللهم خذ العيون والأخبار عن قرية حتى نبغتها في بلادها.

فقال علي: والله لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فحلت قرون رأسها، فأخرجت الكتاب منها، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرىء عليه قال: ما هذا يا حاطب؟ فقال حاطب: يا رسول الله، والله ما شككت في الإسلام، ولكن ملصق في قريش، فأردت أن اتخذ عندهم يدا يحفظونني بها في شأفتي بمكة وولدي وأهلي، فقال عمر: دعني يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر؟ لعل الله تعالى قد أطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، واستخلف على المدينة آبارهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وذلك لعشر خلون من رمضان، فصام حتى بلغ الكديد بين عسفان وأمج فأفطر بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته علانية ليراه الناس، وأمر بالفطر، فبلغه صلى الله عليه وسلم أن قوما تمادوا على الصيام، فقال: أولئك العصاة، فكان هذا نسخا لما تقدم من إباحة الصيام في السفر. ولم يسافر النبي صلى الله عليه وسلم بعدها في رمضان أصلا فهذا الحكم في السفر ناسخ لما قبله، ولم يأت بعد شيئا ينسخه، ولا حكم يرفعه. فلما نزل من الظهران ومعه من بني سليم ألف رجل، ومن مزينة ألف رجل، وثلاثة رجال، وقيل من بني سليم سبعمائة، ومن غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة وطوائف من قيس وأسد، وتميم وغيرهم، ومن سائر القبائل أيضا جموع. وقد أضفى الله تعالى أيضا عن قريش الخبر لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم وجسون وجلون خائفون، وقد خرج أبو سفيان، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام الأخبار. وقد كان العباس بن عبد المطلب هاجر في تلك الأيام، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فبعث ثقله إلى المدينة، وانصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا، فالعباس

من المهاجرين من قبل الفتح. وقيل بل لقيه بالحجفة. وذكر أيضا أن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أمية بن المغيرة أخا أم سلمة أم المؤمنين لقياه بنيق العقاب مهاجرين فاستأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأذن لهما، فكلمته أم سلمة، فأذن لهما فأسلما. فلما نزلوا بمر الظهران أسفت نفس العباس على ذهاب قريش إن فاجأهم الجيش قبل أن يأخذوا لأنفسهم، فيستأمنوا، فركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ونهض فلما أتى إلادراك، وهو يطمع أن يرى حطابا أو صاحب لبن يأتي بمكة فينذرهم، فبينما هو يمشي كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان، وبديل بن ورقاء، وهما يتساءلان، وقد رأيا نيران عسكر النبي صلى الله عليه وسلم، وبديل يقول لأبي سفيان هذه والله نيران خزاعة، فيقول له أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون لها هذه النيران، فلما سمع العباس كلامه ناداه: يا أبا حنظلة، فميز أبو سفيان صوته، فقال أبو الفضل؟ قال: نعم، فقال له أبو سفيان: ما الشأن؟ فداك أبي وأمي، فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وأصبح قريش، فقال له أبو سفيان: وما الحلية؟ فقال له العباس: والله إن ظفر بك ليقتلنك، فارتدف حلفي وانهض معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردف العباس فأتى به العسكر، فلما مر على نار عمر نظر عمر إلى أبي سفيان فميزه، فقال أبو سفيان: عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسابق العباس، فسبقه على البغلة، وكان عمر- رضي الله عنه- بطيئا في الجري، فدخل العباس ودخل عمر على أثره، وقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان ودخل عمر على أثره، وقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بلا عقد، فائذن لي أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله، قد أجرته، فراده عمر الكلام، فقال العباس: مهلا يا عمر، فلو كان من بني عدى ابن كعب ما قلت هذا، ولكنه من بني عبد مناف، فقال عمر: مهلا فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أبّ إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد

عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمله إلى رحله، ويأتيه به صباحا، ففعل العباس ذلك، فلما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يأن لك: ألم تعلم ألاإله إلا الله؟ فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك، وأوصلك، والله لقد ظننت أنه لو كان معه إله غيره لقد أغنى، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك ألم تعلم أني رسول الله؟؟ فقال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!! أما هذه ففي النفس منها شيء حتى الآن، فقال له العباس: ويحك، أسلم قبل أن تضرب عنقك ... فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فأجعل له شيئا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن وهذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من كان لا يقاتل، من أهل مكة، بنص جلي لا إشكال فيه ولا لبس ولا غموض، فإن مكة مؤمنة بلا شك، ومن تمّ لم تؤخذ عنوة بوجه من الوجوه، ولو آمن مسلم من أي المسلمين قرية من دار الحرب على أن يغلقوا أبوابهم ولا يقاتلوا على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، لكان أمانا صحيحا، وللزم ذلك كل مسلم، ولحرمت دماؤهم وأموالهم وديارهم، وللزمهم الإسلام أو الجلاء إلا أن يكونوا كتابيين، فيباح لهم القرار على الجزية والصغار، فكيف آمان رسول الله صلى الله عليه وسلم!! ... فمن قال: إن مكة صلح على هذا المعنى، فقد صدق، ومن قال: إنها صلح على أنهم دافعوا وامتنعوا حتى صالحوا، فقد أخطأ، وأما من قال: عنوة فقد أخطأ على كل حال. والصحيح اليقين المحض أنها مؤمنة على دمائهم، وذراريهم وأموالهم، ونسائهم إلا من قاتل أو استثنى فقط.

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس أن يوقف أبا سفيان بخطم الجبل «1» أو الوادي، ففعل ذلك العباس، وعرض على أبي سفيان القبائل، قبيلة قبيلة، إلى أن جاء موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، رضوان الله عليهم خاصة كلهم في الدروع، والبيض، فقال أبو سفيان: - من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، فقال: والله، مالأحد بهؤلاء من قبل، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، فقال العباس: إنها النبوة، يا أبا سفيان، قال: فهذا إذن، فقال العباس: يا أبا سفيان، النجاء إلى قومك ... النجاء إلى قومك، أي أسرع إليهم وأعلمهم بما رأيت. فأسرع أبو سفيان، فلما أتى مكة عرّفهم بما أحاط به، ثم أخبرهم بتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من دخل داره أو المسجد، أو دار أبي سفيان. وتأبش «2» قوم ليقاتلوا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رتّب الجيش، وكان قد جعل الراية بيد سعد بن عبادة ثم بلغه أنه قال: اليوم يوم الملحمة.. اليوم تستحل الحرمة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع الراية إلى الزبير بن العوام، وقيل إلى علي بن أبي طالب، وقيل إلى قيس بن سعد بن عبادة، وكان الزبير على الميسرة، وخالد ابن الوليد على الميمنة، وفيها أسلم وغفار، ومزينة وجهينة، وكان أبو عبيدة بن الجراح على مقدمة موكب النبي صلى الله عليه وسلم، وسرّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من طوى، وأمر الزبير بالدخول من ذى كدا في أعلى مكة، وأمر خالد بالدخول من الليط أسفل مكة، وأمرهم بقتال من قاتلهم، وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، قد جمعوا جميعا بالخندق ليقاتلوا فناوشهم أصحاب خالد القتال وأصيب من المسلمين رجلان

_ (1) - خطم الجيل: مقدمته. وكذا خطم كل شيء مقدمته وأوله، وخطم الداية: مقدم أنفها، وهنا يقصد به شيء يخرج من الجبل يضيق به الطريق. (2) - تأبش قوم: أي تجمعوا وتازروا وتظاهروا مع بعضهم البعض لقتال المسلمين.

وهما: كرز بن جابر من بني محارب بن فقر، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أحرم الخزاعي، حليف بني منقذ، شذّ عن جيش خالد فقتل، وأصيب أيضا من المسلمين سلمة بن الميلاء الجهني، وقتل من المشركين نحو ثلاثة عشر رجلا ثم انهزموا، وكان شعار المسلمين يوم الفتح وحنين والطائف فشعار الأوس يا بني عبيد الله، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن. وآمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس كما ذكرنا حاشا عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، ومقيس بن صبابة، وقينتي بن خطل، وهما فرتنا وصاحبتها، وسارة مولاة لبني عبد المطلب. فأما ابن خطل- وهو من بني تميم الأدرم بن غالب كان أسلم، وبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعث معه رجلا من المسلمين، فعدا عليه وقتله، ولحق بالمشركين- فوجد يوم الفتح وقد تعلق بأستار الكعبة، فقتله سعيد بن حريث المخزومي، وأبو برزة الأسلمي. أما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لحق بمكة، فاختفى، وأتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أخاه من الرضاعة فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت عليه السلام ساعة، ثم أمنه وبايعه، فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هلّا قام إليه بعضكم فضرب عنقه؟ فقال رجل من الأنصار: هلّا أو مأت إلينا؟، فقال: ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين، فعاش حتى استعمله عمر، ثم ولّاه عثمان مصر، وهو الذي غزا افريقيا. ولم يظهر منه بعد إسلامه إلا خير وصلاح ودين. وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمين، فاتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فردته فأسلم، وحسن إسلامه. أما الحويرث بن نقيذ، وكان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي بن أبي طالب بمكة يوم الفتح.

وأما مقيس بن صبابة فكان أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله لقتله أخاه خطأ فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي، وهو ابن عمه. وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، واستؤمن للآخرى فأمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاشت إلى أن ماتت بعد ذلك بمدة، وكانتا تغنيان بهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما سارة فاستؤمن لها أيضا فأمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاشت إلى أن أطأها رجل فرسا بالأبطح فماتت. واستتر رجلان من بني مخزوم عند أم هاني بنت أبي طالب فأمنتهما، فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها لها وكان علي رضوان الله عليه قد أراد قتلهما، وقيل إنهما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية أخو أم سلمة، فأسلما وكانا من خيار المسلمين وطاف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة، ودعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة بعد أن ما نعت أم عثمان دونه، ثم أسلمته فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، ومعه أسامة بن زيد، وبلال وعثمان بن طلحة، ولا أحد معه، وأغلقوا الأبواب، وتمواحينا، وصلىّ صلى الله عليه وسلم في داخلها، ثم خرج وخرجوا، وردّ المفتاح إلى عثمان بن طلحة، وأبقى له حجابة البيت فهي في ولده إلى وقت قريب، في ولد شيبة بن عثمان بن طلحة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر الصورة التي داخل الكعبة وخارجها، وتكسير الأصنام التي حول الكعبة وبمكة، وأذن له بلال على ظهر الكعبة، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح فأخبر أنه قد وضع ماثر الجاهلية حاشا سدنة البيت، وسقاية الحاج، وأخبر أن مكة لم يحل القتال فيها لأحد قبله، ولا لأحد من بعده، وأنها لم تحل لأحد غيره، ولم تحل له إلا ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس لا يسفك فيها دم.

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأصنام وهي مشددة بالرصاص، فأشار إليه بقضيب كان في يده وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. فما أشار لصنم منها إلا خر على وجهه. وتوقعت الأنصار أن يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأخبرهم أن المحيا محياهم، وأن الممات مماتهم. ومر بفضالة بن عمير بن الملوح الليثي، وهو عازم على أن يفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أستغفر الله، ووضع يده على صدره، فكان فضالة يقول: والذي بعثه بالحق، ما رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إليّ منه. وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن فأتبعه عمير بن وهب الجمحي بتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، فرجع فأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذره أربعة أشهر وكان ابن الزبعري السهمي الشاعر قد هرب إلى نجران، ثم رجع فأسلم، وهرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هاني بنت أبي طالب إلى اليمن فمات كافرا هناك. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة، يدعو إلى الإسلام، ويأمرهم بقتال من قاتل، وفي جملتهم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فقتل منهم وأخذ، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وبعث علياّ بمال لهم، فودّ لهم قتلاهم، وردّ إليهم ما أخذ منهم. ثم بعث خالد بن الوليد إلى العزى، وكان بيتا بنخلة، تعظمه قريش وكنانة وجميع مضر، وكان سدنته بنو شيبان، من سليم حلفاء بني هاشم فهدمه. وكان فتح مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان.

غزوة حنين

غزوة حنين «1» فلما بلغ فتح مكة هوازن جمعهم مالك بن عوف النّصري، واجتمع إليه ثقيف وقومه بنو نصر بن معاوية، وبنو جشم، وبنو سعد بن بكر، ويسير من بني هلال بن عامر، ولم يشهدها من قيس عيلان غير هؤلاء، وغاب عن ذلك عقيل وبشر ابنا كعب بن ربيعة بن عامر، وبنو كلاب بن ربيعة بن عامر، وسائر إخوته فلم يحضرها من كعب وكلاب أحد يذكر، وساق بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم وسيدهم فيما خلا دريد بن الصّمّة، وهو شيخ كبير لا ينتفع به، لكن يتيمن بمحضره، ورأيه السديد، وهو في هودج لضعف جسمه، ووهن قواه، وكان في ثقيف سيدان لهم في الأحلاف، قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك وأخوه أحمر بن الحارث، والرياسة في الجميع إلى مالك النصري، فحشد من ذكرنا، وساق مع الكفار أموالهم وما شيتهم ونساءهم وأولادهم، ليحموا بذلك في القتال والجلاد، فنزلوا بأوطاس، فقال لهم دريد: ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ فقالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم وعيالهم، فقال: أين مالك؟ فقيل له: هوذا. فسأله دريد: لم فعلت ذلك؟ فقال مالك: ليكون مع الناس أهلهم وأموالهم فيقاتلوا عنهم، فقال له دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيئا؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: ما فعل كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الجد والحد، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم

_ (1) - جوامع السيرة ص 187. بتصرف، وزاد المعاد لابن قيم الجوزية (3/ 465) وتاريخ الطبرى (2/ 344) وابن سيد الناس (2/ 187) وشرح المواهب اللدنية (3/ 5، 28) وسيرة ابن هشام (4/ 357) .

فعلتم كما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها من بني عامر؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، لا ينفعان ولا يضران! يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع ديارهم، وعلياء قومهم. ثم ألق الصباة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك، ومن وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. فأبى مالك ذلك وخالفت هوازن دريدا، واتبعوا مالك بن عوف، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يغب عني: يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع يتمنى لو كان شابا في هذه الحرب حتى يكون أكثر نشاطا وهمة، وانطلاقا؛ لأن المشيب موسوم بالوهن والفتور والخور في القوى الحيوية. وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء عبد الله ابن أبي حدرد الأسلمي، فأتى بعد أن عرف مذاهبهم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصدهم، واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية بن خلف دروعا، قيل مائة درع، وقيل أربعمائة درع. ثم خرج في اثنى عشر ألف مسلم، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح. ثم استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، ومضى عليه السلام وفي جملة من اتبعه: عباس بن مرداس في بني سليم، والضحاك ابن سفيان الكلابي، وجموع من بني عبس وذبيان. وفي مخرجه هذا «1» رأى جهال الأعراب شجرة خضراء، وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى «ذات أنواط» يخرج إليها الكفار يوما معروفا في العام، يعظمونه، فتصايح جهال الأعراب؛ يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: قلتم، والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: «اجعل لنا إلها

_ (1) - جوامع السيرة لابن حزم ص 189 وما بعدها.

كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون» «1» إنها السنن، لتركين سنن من كان قبلكم «2» . ثم نهض فلما أتى وادي حنين، وهو واد حدور من أودية تهامة، وهوازن قد كمنت في جنبتي الوادي، وكان ذلك في عماية الصبح «3» فحملوا على المسلمين، حملة رجل واحد، فولّى المنهزمون المغلولون لا يلوي أحد على أحد، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرجعوا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعلي والعباس، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وجماعة غيرهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، واسمها (دلدل) والعباس آخذ بحكمتها «4» . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب الشجرة، وكان العباس جهير الصوت جدا، ثم أمره أن ينادي: يا معشر المهاجرين، بعد ذلك. فلما نادى العباس بمن ذكرنا، وسمعوا الصوت، ذهبوا ليرجعوا، وكان الرجل منهم لا يستطيع أن يثني بعيره لكثرة المنهزمين، فيأخذ درعه ليلبسها، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره، ويكر راجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع حواليه منهم نحو المائة، استقبلوا هوازن، وحمي وطيس الحرب بينهم، وحين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب والفزع والوهل والجزع، فلم يملكوا أنفسهم، وقد رماهم صلى الله عليه وسلم بالحصباء بقبضة يده الشريفة، فما من أحد منهم إلا أصابته، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» «5»

_ (1) - الأعراف (7/ 138) . (2) - أي لتحذون حذوهم، وتسلكوا سبيلهم، وتنهجوا نهجهم. (3) - عماية الصبح: أوله، قبل انتشار الضوء. (4) - حكمة الدابة: لجامها، وشكيمتها وهي التي تكون على أنف الحصان. (5) - الأنفال (8/ 17) .

غزوة الطائف

انهزمت هوازن هزيمة منكرة، وقد استمرّ «1» القتل في بني مالك، وقد قتل منهم يومئذ سبعون رجلا. وفي هذه الغزوة قال عليه الصلاة والسلام: «من قتل قتيلا له عليه بينة، فله سلبه» . غزوة الطائف «2» ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين، في شوال سنة ثمان «3» . قال ابن حزم: لم يشهد عروة بن مسعود، ولا غيلان بن سلمة الثقفيان حصار الطائف ولا يوم حنين، وكان كلاهما بجرش يتعلمان صنعة المجانيق والدبابات. سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه من الجعرانة إلى الطائف على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على البحرة، وهي بحرة الرغاء من لية، فابتنى بها صلى الله عليه وسلم مسجدا، فصلى فيه. ثم نزل بالقرب من الطائف، فتحصنت منه ثقيف، وحار بهم المسلمون، فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال عن ذلك المنزل إلى موضع المسجد المشهور

_ (1) - استمر القتل: اشتد واحتدم. (2) - جوامع السيرة ص 192، وزاد المعاد (3/ 495) وابن هشام (4/ 357) . (3) - قال ابن سعد: قالوا: ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف، بعث الطفيل بن عمرو إلى ذى الكفين وهو صنم عمرو بن حممة الدوسى يهدمه، وأمره أن يستمد، ويوافيه بالطائف ففعل.

اليوم، وهو (وادي العقيق) فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة «1» وكان معه صلى الله عليه وسلم اثنتان من أمهات المؤمنين إحداهما أم سلمة رضي الله عنها. وقيل إن موضع المسجد اليوم بين منزلهما في موضع مصلاه صلى الله عليه وسلم، وقد تولى بناء ذلك المسجد عمرو بن أمية ابن وهب بن مالك الثقفي. وقد رماهم عليه الصلاة والسلام بالمنجنيق، ثم دخل نفر من المسلمين تحت دبابة ودنوا من الطائف، فصب عليهم أهل الطائف سكك الحديدة المحماة، ورموا بالنبل، فأصابوا منهم قوما. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب أهل الطائف ما خلا عنب ابن مسعود الذي استرحمه في ماله فكف عنه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» رحل عن الطائف، وكان يجير بن زهير أبي سلمى. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى الجعرانة، ثم أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين. ثم كان عدد سبي هوازن ستة آلاف نفس، وكان منهم الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة «3» ، فأكرمها النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت إلى بلادها مختارة لذلك. وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين، ثم أعطى من نصيبه من الخمس المؤلفة قلوبهم. وكان المؤلفة قلوبهم- مع حسن إسلامهم- متفاضلين في الإسلام، منهم

_ (1) - وهناك رأي يقول: بل يصنع عشرة ليلة وهو الصحيح الراجح من وجهة نظرنا. (2) - وحينئذ نزل أبو بكرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسلم، وعبيد من أهل الطائف، وقيل إن الأزرق، والد نافع بن الأزرق كان واحدا منهم. (3) - وهي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى، من بنى سعد بن بكر بن هوازن.

سرية الطفيل بن عمرو والدوسي إلى ذي الكفين

الفاضل المجتهد كالحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وغيرهم. وأتى كعب بن زهير تائبا معتذرا من ذنبه مادحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فعفا عنه «1» . سرية الطفيل بن عمرو والدوسي إلى ذي الكفين «2» ثم سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين، وهو صنم عمرو بن حممة الدوسي، في شوال سنة ثمان من مهاجره صلى الله عليه وسلم. وقد بعث به عليه الصلاة والسلام ليهدم هذا الصنم، وأمره أن يستمد قومه، يوافيه بالطائف، وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام، وكان قدم بدبابة ومنجنيق، وقال: يا معشر الأزد، من يحمل رايتكم؟ فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية النعمان بن بازية اللهبي. قال أصبتم. سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم «3» ثم سرية عيينة بن الحصن الفزاري إلى بني تميم، وكانوا فيما بين السقيا وأرض بني تميم، وذلك في المحرم سنة تسع من مهاجرة صلى الله عليه وسلم.

_ (1) - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، ثم جاءه في المسجد بعد صلاة الفجر، وأعلن إسلامه وأنشد بين يديه عليه الصلاة والسلام: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ ظعنوا ... إلا أعن غضيض الطرف مكمول (2) - الطبقات الكبرى (2/ 157) بتصرف. (3) - الطبقات الكبرى (2/ 160) وما بعدها.

سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم

وقد بعث عليه الصلاة والسلام عيينة بن حصن الفزاري في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، حتى أغار عليهم، وأخذ منهم أحد عشر رجلا. سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم «1» ثم سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم «2» من شهر صفر سنة تسع من مهاجره صلى الله عليه وسلم، وقد بعث قطبة في عشرين رجلا إلى حي من خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة عليهم فخرجوا على عشرة أبعرة يتعاقبونها، ويعتقبونها، فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم فجعل يصيح بالحاضر، ويحذرهم فضربوا عنقه ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين، وقتل قطبة بن عامر من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة. وكانت سهامهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل عشرا من الغنم، بعد أن أخرج الخمس. سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب «3» ثم سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب في شهر ربيع الأول سنة تسع من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، في جيش إلى قرطاء، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم،

_ (1) - ابن سعد (2/ 162) يتصرف. (2) - بناحية بيشه بالقرب من تربة. (3) - ابن سعد (2/ 162) بتصرف.

سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة

فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة، وسلمة على فرس له في غدير بالزج، فدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان، فسبه وسب دينه، فضرب الأصيد عرقوبي فرس أبيه فلما وقع الفرس على عقبيه، ارتكز سلمة على رمحه في الماء ثم استمسك به حتى جاءه أحدهم فقتله ولم يقتله ابنه. سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة «1» ثم سرية علقمة بن مجزر المدلجي إلى الحبشة في شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، إذ بلغه عليه الصلاة والسلام أن ناسا من الحبشة تراياهم أهل جدة، فأرسل إليهم علقمة بن مجزر في ثلثمائة فانتهى إلى جزيرة في البحر، وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهليهم، فأذن لهم فتعجل عبد الله بن حذاقة السهمي فيهم، فأمّره على من تعجل. سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس صنم طيء ليهدمه «2» ثم سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس، وهو صنم طيء ليهدمه، وكان ذلك

_ (1) - ابن سعد (2/ 163) بتصرف. (2) - ابن سعد (2/ 164) بتصرف.

غزوة تبوك

في شهر ربيع الآخر سنة تسع، إذ بعثه صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفلس ليهدمه، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر فهدموا الفلس، وخربوه، وملأوا أيديهم من السبي والنعم، والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد في خزانة الفلس ثلاثة أسياف رسوب والمخزوم واليماني، وثلاثة أدراع. سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الجناب أرض عذرة وبلى «1» وبعث صلى الله عليه وسلم سرية عكاشة بن محض الأسدي إلى الجناب، وهي أرض عذرة وبلى، في شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجرة صلى الله عليه وسلم. غزوة تبوك «2» هذه آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكان رجوعه من عمرته بعد حصار الطائف في آخر ذي القعدة من سنة ثمان من مهاجره صلى الله عليه وسلم، فأقام بالمدينة ذا الحجة،

_ (1) - ابن سعد (2/ 164) . (2) - جوامع السيرة النبوية ص 198، وما بعدها وشرح المواهب (3/ 62) ، وتاريخ الطبرى (2/ 373) وسيرة ابن هشام (4/ 379) وزاد المعاد (3/ 526) وابن سيد الناس (2/ 215) .

والمحرم، وصفرا، وجمادى الآخرة، فلما كان في رجب من سنة تسع من الهجرة، أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو الروم. وكان عام تسعة هذا عام قحط وجدب ومحل، وحر شديد حيث طاب أول الثمر. وكان عليه الصلاة والسلام يورّي «1» بكل غزوة غزا ما خلا غزوة تبوك هذه فإنه تكلم في أمرها تفصيلا وتبيينا، وذلك لمشقة الأحوال فيها، وبعد الشقة وقوة عارضة العدو الشرس. وكان الجد بن قيس أخا بني سلمة استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التأخر- وكان متهما- وهو غني شديد قوي، فإذن له عليه الصلاة والسلام، ثم أعرض عنه. وفيه نزل قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا «2» . وفي هذه الظروف العسرة التي أحدقت بجيش المسلمين وألحقت العنت بهم، وأنحت عليهم حتى إن كثيرا منهم نفقوا واحتسبوا أنفسهم عند الله تعالى، وكان أصاب المسلمين عطش شديد وأوام قاتل. وحث سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم الموسرين على الخير وتجهيز المعسرين، فكان عثمان ذو النورين سباقا إلى الخير حتى أنه أنفق عشرة آلاف دينار، وقدّم ثلاثمائة بعير، بأحلاسها وأقتابها «3» ، وخمسين فرسا.

_ (1) - يوري: لا يتكلم فيها صراحة، وإنما بأسلوب التوراة وقد ذكر مسلم في الصحيح (2769) «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت هذه الغزوة» ، وكان ذلك يقصد التعمية على العدو. (2) - التوبة (9/ 49) راجع أسباب النزول للواحدي بتحقيق السيد الجميلي ص 202، 203 وأسباب النزول للسيوطي ص 140، 141. وفيهما أن هذه الآية نزلت في جد بن قيس المنافق. (3) - الأحلاس: جمع حلس، وهو الكساء على ظهر البعير، والأقتاب: جمع قتب، وهو رحل على قدر سنام البيعر.

ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارض عن عثمان، فإني راض عنه» . وجاء أبو بكر- رضي الله عنه- بكل ما يملك وهو نحو أربعة آلاف درهم، ووضعة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله. أما تاجر الرحمن عبد الرحمن بن عوف فقد جاء بمائة أوقية من الذهب، والعباس وطلحة بن عبيد الله جاآ بمال كثير وغيرهم وغيرهم. ثم اجتمع رجال الإسلام وكان قوامهم ثلاثين ألفا، وكان ولىّ على المدينة محمد بن مسلمة، وعلى أهله علي بن أبي طالب، وتخلف كثير من المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن أبي، وقالوا: كيف يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد الشطون البعيد. واستأذن كثير من المنافقين، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم، واستأذنه الضعفاء فأذن لهم أيضا وكذلك المقلّون، فأذن لهم كذلك، إلا أن الله تعالى عاتبه على ذلك بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ «1» ثم قال في حقهم: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ «2» . ثم إنه سبحانه وتعالى حسر عنهم نقاب الكذب ونفى عنهم غلالة النفاق والوهل فقال يدحض أعذارهم غير الحقيقية والمنحولة بقوله تعالى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ «3» .

_ (1) - التوبة (9/ 43) . (2) - التوبة (9/ 45) . (3) - التوبة (9/ 46) قال ابن إسحاق: وجاء المعذرون من الأعراب، فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله تعالى، وقد ذكر لي أنهم نفر من بني غفار.

ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع المسير، وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية فتخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر وأخفى لم يعذرهم، ودفع حجتهم، ولم يقبل عذرهم؛ لأنهم كانوا يعتذرون بباطل. وعطش الناس عطشا شديدا؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالرى، فأمطرتهم سحابة غيداق فرووا جميعهم. في هذه الغزوة، ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى أبا ذر يتبع أثر الجيش ويقتصه يريد اللحاق به فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» . وصالح عليه الصلاة والسلام يحنة بن رؤبة صاحب أيلة على الجزية. وأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي، صاحب دومة، الذي اقتنصه وأرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنه، ورده، وصالحه على الجزية. وأقام عليه الصلاة والسلام بتبوك عشرين ليلة، لم يجاوزها ثم انصرف قافلا إلى المدينة. وفي منصرفه صلى الله عليه وسلم أمر بهدم مسجد الضرار، ثم أمر مالك بن الدخشم أخا بني سالم، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان بهدم المسجد وحرقه، فدخل مالك بن الدخشم منزله فأخرج منه شعلة نار، فأحرقا المسجد وهدماه. وكان رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة في شهر رمضان سنة تسع.

سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بنجران

سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بنجران «1» ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بنجران في شهر ربيع الأول سنة عشر من مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم. سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن «2» ثم سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن، يقال مرتين، إحداهما في شهر رمضان سنة عشر من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، وقد عقد له عليه الصلاة والسلام لواء أبيض، وعصمه بيده، وقال له: إمض ولا تلتفت، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فخرج في ثلاثمائة فارس، وكانت أول خيل دخلت إلى تلك البلاد، وهي بلاد مذحج، ففرق أصحابه فأتوا بنهب غنائم ونساء، وشاء وغير ذلك، وجمع على الغنائم، وقسمها على خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها لله، وأقرع عليها فخرج أول السهام سهم الخمس، وقسم علي على أصحابه بقية المغنم، ثم قفل فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قد قدمها للحج سنة عشر.

_ (1) - الطبقات الكبرى (2/ 169) . (2) - ابن سعد (2/ 169) بتصرف.

سرية أسامة بن زيد بن حارثة

سرية أسامة بن زيد بن حارثة «1» ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل أبني، وهي أرض السراة ناحية البلقاء وكان ذلك يوم الإثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من مهاجرة صلى الله عليه وسلم، إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم. وقد عقد لأسامة لواء بيده ثم قال: أغز باسم الله، في سبيل الله، فقاتل من كفر بالله!! فخرج بلوائه معقودا، وانضوى تحت هذا اللواء حشد من غفر من المهاجرين والأنصار، وأعلام الصحابة وأعيانهم وأكابرهم مثل أبي بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم، وغيرهم وغيرهم.

_ (1) - ابن سعد (2/ 189) وما بعدها.

الفهرس إهداء 7 المقدمة 11 الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالقتال 17 سرية حمزة إلى سيف البحر 20 سرية عبيدة بن الحارث 21 سرية سعد بن أبي وقاص 22 غزوة الأبواء (غزوة ودان) إلى الخرار 22 غزوة بواط 23 غزوة كرز بن جابر الفهري 24 غزوة العشيرة 24 سرية عبد الله بن جحش الأسدي 25 غزوة بدر الكبرى 30 غزوة بني سليم 43 غزوة بني قينقاع 44 سرية قتل كعب بن الأشرف 44 غزوة أحد 45 أحكام فقهية ونظرات نفسية حول غزوة أحد 57 غزوة حمراء الأسد 60 سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي 61 سرية عبد الله بن أنيس 61 سرية بئر معونة 62 غزوة بني النضير 64 غزوة ذات الرقاع 65 غزوة بدر الآخرة 67 غزوة دومة الجندل 71 غزوة المريسيع 72 غزوة الخندق (غزوة الأحزاب) 75

سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار 115 سرية ابن العوجاء السلمي إلى بني سليم 115 سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد 116 سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك 116 غزوة مؤتة 117 سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسي 119 سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح 120 سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل 120 سرية الخبط 121 سرية أبي قتادة الأنصاري إلى خضرة 122 سرية خالد بن الوليد إلى العزى 123 سرية عمرو بن العاص إلى سواع 123 سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة 124 سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة 124 فتح مكة 125 غزوة حنين 136 غزوة الطائف 139 سرية الطفيل بن عمر الدوسي إلى ذي الكفين 141 سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم 141 سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم 142 سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب 142 سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة 143 سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس صنم طيء ليهدمه 143 سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الجناب أرض عذرة وبلى 144 غزوة تبوك 144 سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بنجران 148 سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن 148

شهداء يوم الخندق وشهداء يوم بني قريظة 86 بعث عبد الله بن أبي عتيك إلى قتل سلام بن أبي الحقيق 87 غزوة بني لحيان 89 غزوة ذي قرد 89 سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء 91 غزوة الغابة 92 سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الغمر 93 سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة 94 سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة 94 سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم 95 سرية زيد بن حارثة إلى العيص 95 سرية زيد بن حارثة إلى الطرف 96 سرية زيد بن حارثة إلى حسمى 96 سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى 97 سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل 97 سرية علي بن أبي طالب إلي بني سعد بن بكر بفدك 98 سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بوادي القرى 98 سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم 99 سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنين 99 سرية عمرو بن أمية الضمري 100 غزوة الحديبية 100 غزوة خيبر 105 شهداء يوم خيبر 108 فتح فدك 111 سرية عمر بن الخطاب إلى تربة 112 سرية أبي بكر الصديق إلى بني كلاب بنجد 112 سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى فدك 113 سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة 113 فتح وادي القرى 114 عمرة القضاء 114

سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار 115 سرية ابن العوجاء السلمي إلى بني سليم 115 سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد 116 سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك 116 غزوة مؤتة 117 سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسي 119 سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح 120 سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل 120 سرية الخبط 121 سرية أبي قتادة الأنصاري إلى خضرة 122 سرية خالد بن الوليد إلى العزى 123 سرية عمرو بن العاص إلى سواع 123 سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة 124 سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة 124 فتح مكة 125 غزوة حنين 136 غزوة الطائف 139 سرية الطفيل بن عمر الدوسي إلى ذي الكفين 141 سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم 141 سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم 142 سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب 142 سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة 143 سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس صنم طيء ليهدمه 143 سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الجناب أرض عذرة وبلى 144 غزوة تبوك 144 سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بنجران 148 سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن 148 سرية أسامة بن زيد بن حارثة 149

§1/1