غريب الحديث

أبو عُبيد القاسم بن سلاّم

الأحاديث المسندة

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم [وصلَّى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم] أخبرنا الشَّيخ الإمام الأوحد، رئيس الدِّين تاج الإسلام أبو بكر عبد الرزَّاق بن على ابن الحسين الكرمانىُّ، متَّعنا الله ببقائه، قال: أخبرنى أبو علىّ محمد بن سعيد بن إبراهيم بن نبهان الكاتب "ببغداد" في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسمائة، قال: أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، قال: أخبرنا أبو محّمد دعلج ابن أحمد السِّجستانىُّ، قال أخبرنا أبو الحسن على بن عبد العزيز البغوىُّ، قال:

1 - قال أبو عبيد [القاسم بن سلام -رحمه الله-] في حديث النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "زويت لى الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمَّتى ما زوى لى منها" [قال] حدثناه إسماعيل بن إبراهيم، ثنا أيُّوب، عن أبى قلابة، أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال ذلك في حديث فيه طول. قال أبو عبيد: سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى التيمى -من تيم قريش مولًى لهم -

يقول: زويت: جمعت، ويقال: انزوى القوم بعضهم إلى بعض: إذا تدانوا، وتضاُّموا، وانزوت الجلدة في النار: إذا انقبضت، واجتمعت. قال أبو عبيد: ومنه الحديث الآخر: "إنَّ المسجد لينزوى من النُّخامة كما تنزوى الجلدة في النَّار" إذا انقبضت واجتمعت قال أبو عبيد: ولا يكاد يكون الانزواء إلا بانحراف مع تقبُّض، قال "الأعشى": يزيد يغضُّ الطرف عنى كأنَّه ... زوى بين عينيه علَّى المحاجم فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقنى إلاَّ وأنفك راغم

2 - [و] قال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. "إنَّ منبرى هذا على ترعة من ترع الجنَّة". [قال] حدَّثناه إسماعيل بن جعفر [المدنىُّ]، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبى سلمة بن عبد الرَّحمن، [عن أبى هريرة]، عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، أنَّه قال ذلك. قال أبو عبيدة: التُّرعة: الرَّوضة تكون على المكان المرتفع خاصًة، فإذا كانت في المكان المطمئنِّ، فهي روضة. [و] قال أبو زياد الكلابىَّ: أحسن ما تكون الرَّوضة على المكان الذي فيه غلظ وارتفاع ألم تسمع قول "الأعشى":

ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل قال [أبو زياد]: والحزن: ما بين "زبالة" إلى ما فوق ذلك مصعِّدًا في بلاد "نجد" وفيه ارتفاع وغلظ. [و] قال أبو عمرو الشَّيبانىُّ: التُّرعة: الدَّرجة. قال أبو عبيد: وقال غيرهم: الترعة: الباب، كأنَّه قال: منبرى هذا على باب من أبواب الجنَّة. [قال]: حدَّثنا حسان بن عبد الله، [قال حدَّ] ثنا يعقوب بن عبد الرَّحمن القارى، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد [الساعدىِّ]، أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "إنَّ منبرى هذا على ترعة من [2/ب] ترع الجنَّة". قال: فقال سهل بن سعد: أتدرون ما التُّرعة؟ هي الباب من أبواب الجنَّة.

قال أبو عبيد: وهو الوجه عندنا. [قال]: وحدَّثنى علُّى بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بن عمير، عن بعض [بنى] أبى المعلَّى -رجل من الأنصار- عن أبيه، عن جدِّه، أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "إنَّ قدمىَّ على ترعة من ترع الحوض" [أى درجة من درج الحوض] 3 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-أنَّه قال:

"خير النَّاس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، كلَّما سمع هيعًة طار إليها" ويروى: "من خير معاش رجل ممسك بعنان فرسه [فى سبيل الله] " [قال]: حدَّثناه عبد الله بن جعفر، عن أبى حازم، عن بهجة بن عبد الله بن بدر، [عن أبى هريرة]، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال أبو عبيدة: الهيعة [6]: الصَّوت الَّذى تفزع منه، وتخافه من عدو. [وقال]: وأصل هذا من الجزع. يقال: رجل هاع لاع، وهائع لائع: إذا كان جبانًا ضعيفًا. وقد هاع يهيع هيوعًا وهيعانًا.

قال أبو عبيد: وقال الطرمَّاح بن حكيم [الطائيُّ]: أنا ابن حماة المجد من آل مالك ... إذا جعلت خور الرِّجال تهيع أى تجبن، والخور: الضِّعاف، والواحد خوَّار. [قال أبو عبيد]: وفي الحديث: "أو رجل فى شعفة فى غنيمته حتَّى يأتيه الموت" قوله: شعفة: يعنى رأس الجبل. 4 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم -: "ليس فى الجبهة، ولا فى النَّخَّة، ولا فى الكسعة صدقة". قال: حدَّثناه ابن أبى مريم، عن حَّماد بن زيد، عن كثير بن زياد الخراسانى

يرفعه. وعن غير حمَّاد [بن زيد]، عن جوبير، عن الضَّحَّاك يرفعه. قال أبو عبيدة: الجبهة: الخيل، والنَّخَّة: الرَّقيق، والكسعة: الحمير. قال الكسائىُّ وغيره فى الجبهة والكسعة مثله. وقال الكسائىِّ: هى النَّخَّة -برفع النون- وفسَّرها هو وغيره فى مجلسه: البقر العوامل. [و] قال الكسائىُّ: [و] هذا كلام أهل تلك الناحية كأنَّه يعنى أهل الحجاز وما وراءها إلى اليمن. وقال الفرَّاء: النَّخَّة: أن يأخذ المصَّدِّق دينارًا بعد فراغه من الصَّدقة. قال وأنشدنا:

عمِّى الَّذى منع الدِّينار ضاحيًة ... دينار نخَّة كلب وهو مشهود قال أبو عبيد: وحدَّثنا نعيم بن حَّماد، عن ابن الدَّراودىِّ المدينىِّ، عن أبى حرزة القاصِّ يعقوب بن مجاهد، عن سارية [7] الخلجىِّ، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "أخرجوا صدقاتكم، فإن الله [-عز وجلَّ-] قد أراحكم من الجبهة، والسَّجَّة، والبجَّة" وفسَّرها: أنَّها كانت آلهة يعبدونها فى الجاهليَّة.

وهذا خلاف ما [جاء] فى الحديث الأول، والتفسير فى الحديث، والله أعلم أيهما المحفوظ من ذلك. 5 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ رجلاً أتاه، فقال: يا رسول الله! "إنِّى أبدع بى فاحملنى". قال: حدَّثناه أبو اليقظان عمَّار بن محمَّد، عن الأعمش، عن أبى عمرو الشَّيبانىِّ، عن أبى مسعود الأنصارىِّ، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ رجلاً أتاه، فقال: "يا رسول الله! إنىِّ أبدع بى، فاحملنى".

قال أبو عبيدة: يقال للرَّجل إذا كلَّت ركابه، أو عطيت، وبقى منقطعًا به: قد أبدع به. وقال الكسائىُّ مثله، وزاد فيه: ويقال: أبدعت الرِّكاب: إذا كلَّت، وعطبت. وقال بعض الأعراب: لا يكون الإبداع إلاَّ بظلع. يقال: أبدعت به راحلته: إذا ظلعت. [قال أبو عبيد]: وهذا ليس باختلاف، وبعضه شبيه ببعض. 6 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ "قريشًا"

كانوا يقولون: "إنَّ محمَّدًا صنبور" قال: حدَّثناه محمَّد بن أبى عدىٍّ -لا أعلمه إلاَّ عن داود بن أبى هند- الشَّكُّ من أبى عبيد- عن الشَّعبىِّ، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال أبو عبيدة: الصُّنبور: النَّخلة تخرج من أصل النَّخلة الأخرى لم تغرس. وقال الأصمعىُّ: الصُّنبور: النُّخلة تبقى منفردة، ويدقُّ أسفلها، قال: ولقى رجل رجلاً من العرب، فسأله عن نخله، فقال: صنبر أسفله [8] وعشَّش أعلاه: يعنى دق أسفله، وقلَّ سعفه، ويبس. قال أبو عبيد: فشبَّهوه بها، يقولون: إنَّه فرد ليس له ولد ولا أخ، فإذا مات انقطع ذكره.

قال [أبو عبيد]: وقول الأصمعىِّ فى الصُّنبور أعجب إلىِّ من قول أبي عبيدة لأنَّ النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم يكن أحد من أعدائه من مشركى العرب، ولا غيرهم يطعن عليه فى نسبه، ولا اختلفوا [فيه] أنه أوسطهم نسبًا [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]. [قال أبو عبيد: و] قال أوس بن حجر، يعيب قومًا: مخلَّفون ويقضى الناس أمرهم ... غسُّ الأمانة صنبور فصنبور

[قال أبو عبيد: فى غسُّو ثلاثة أوجه: غسو، وغش، وغشى، ويروى غش الملامة قال: ويروى: أهل الملامة أيضا] وقال أبو عبيد: والصُّنبور أيضًا فى غير هذا: القصبة الَّتى تكون فى الأداوة من حديد أو رصاص يشرب منها [بها]. 7 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه سأل رجلاً أراد الجهاد معه [فقال له]: هل فى أهلك من كاهل؟ -ويقال: من كاهل- فقال: نعم. قال: حدَّثناه إسماعيل بن إبراهيم، عن خالد الحذَّاء، عن أبى قلابة، عن

مسلم بن يسار، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال أبو عبيدة: هو مأخوذ من الكهل، يقول: هل فيهم من أسنَّ، وصار كهلاً؟ قال أبو عبيدة: يقال منه: رجل كهل، وامرأة كهلة، وأنشدنا [العذافر]: * ولا أعود بعدها كريَّا * * أمارس الكهلة والصَّبيَّا * 8 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال:

"ما يحملكم على أن تتايعوا فى الكذب كما يتتايع الفراش فى النار" قال: حدَّثناه ابن أبى مريم، عن داود [9] العطَّار، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه قال: "ما يحملكم على أن تتايعوا فى الكذب كما يتتايع الفراش فى النَّار". قال أبو عبيدة: التَّتايع: التَّهافت فى الشَّيء، والمتابعة عليه. يقال للقوم: قد تتابعوا فى الشَّئ: إذا تهافتوا فيه، وأسرعوا إليه.) قال أبو عبيد: ومنه قول الحسن بن علىِّ [-رضى الله عنهما-]: "إنَّ عليَّا أراد أمرًا، فتتابعت عليه الأمور، فلم يجد منزعًا": يعنى فى أمر الجمل.

ومنه الحديث المرفوع فى الرَّجل يوجد مع المرأة. قال: حدَّثنا هشيم بن بشير، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: لمَّا نزلت [هذه الآية]: {والَّذين يرمون المحصنات، ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدًة، ولا تقبلوا لهم شهادًة أبدًا} قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! "أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلاً، فقتله، أتقتلونه، وإن أخبر بما رأى جلد ثمانين؟ أفلا يضربه بالسَّيف؟ فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "كفى بالسَّيف شا". قال أراد أن يقول: شاهدًا، ثمَّ أمسك، وقال: "لولا أن يتتايع فيه الغيران والسَّكران".

قال أبو عبيد: كره أن يجعل السيف شاهدًا، فيحتجَّ به الغيران والسَّكران، فيقتلوا، فأمسك عن ذلك. قال أبو عبيد: ويقال فى التَّتابع: إنَّه اللَّجاجة، وهو يرجع [10] إلى هذا المعنى. وقال أبو عبيد: ولم نسمع التتابع فى الخير إنَّما سمعناه فى الشَّرِّ. 9 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "من أزلَّت إليه نعمة فليشكرها". قال: حدَّثناه يحيى بن سعيد، عن السَّائب بن عمر، عن يحيى بن عبد الله بن صيفى، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال ذلك. قال أبو عبيدة: قوله: أزلَّت إليه: يقول: أسديت إليه، واصطنعت عنده. يقال منه: أزللت إلى فلان نعمًة فأنا أزلها إزلالاً.

وقال أبو زيد الأنصارى مثله، وأنشدنا أبو عبيدة لكثيِّر [عزَّة] وإنىِّ، وإن صدَّت لمثن وصادق ... عليها بما كانت إلينا أزلَّت قال أبو عبيد: و [يروى]: لدينا [أزلَّت]. قال: وقد رواه بعضهم: "من أنزلت إليه نعمة" وليس هذا بمحفوظ ولاله وجه فى الكلام. 10 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنه مر بقوم يربعون حجرًا" قال: حدَّثنيه محمد بن كثير، عن حمَّاد بن سلمة، عن ثابت البنانىِّ، عن عبد الرَّحمن بن عجلان رفعه: "أنَّه مرِّ بقوم يربعون حجرًا".

وفى بعض الحديث يرتبعون [حجرًا]، فقالوا: "هذا حجر الأشدَّاء" فقال: "ألا أخبركم بأشدِّكم؟ "من ملك نفسه عند الغضب". قال أبو عبيدة: الرَّبع أن يشال الحجر باليد، يفعل ذلك؛ لتعرف به شدَّة الرَّجل، يقال ذلك فى الحجر خاصًة. قال أبو محمّد الأموىُّ: أخو يحيى بن سعيد، فى الرَّبع مثله. قال أبو عبيد: ومن هذا الباب حديث ابن عبّاس، الذى يرويه ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس:

"أنَّه مرَّ بقوم [وهم] يتجاذون حجرًا -ويروى: يجذون حجرا، فقال: عمَّال الله أقوى من هؤلاء". وكلُّ هذا من الرَّفع والإشالة، وهو مثل الرَّبع. قال [أبو عبيد]: وحدَّثنا أبو النَّضر، عن اللَّيث بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عامر بن سعد، أنَّ النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-مرَّ بناس يتجاذون مهراسًا، فقال: "أتحسبون الشِّدَّة فى حمل الحجارة؟ إنَّما الشِّدَّة أن يمتلئ أحدكم غيظًا، ثمَّ يغلبه". وقال الأموىُّ: المربعة أيضًا: العصا التى تحمل بها الأحمال حتى توضع على ظهور الدَّوابّ.

قال [أبو عبيد]: وأنشدنا الأموىُّ: * أين الشِّظاظان وأين المربعه * * وأين وسق النَّاقة المطبَّعه * قوله: الشَّظاظان: هما العودان الَّلذان يجعلان فى عرى الجوالق، المطبَّعة: المثقَّلة [ويروى الجلنفعة]. 11 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه نهى عن الصَّلاة إذا تضيَّفت الشَّمس للغروب".

قال: حدَّثناه ابن مهدى، عن موسى بن علِّى بن رباح -قال أبو عبيد: أهل مصر، يقولون: علىّ. وأهل العراق، يقولون: على -عن أبيه، عن عقبة بن عامر [الجهنى] قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- ينهانا أن نصلِّى فيها، وأن نقبر فيها موتانا: إذا طلعت الشَّمس حتَّى ترتفع، وإذا تضيَّفت للغروب، ونصف النهار". قال أبو عبيدة: قوله: تضيَّفت: [يعنى] مالت للمغيب. يقال منه: قد ضاقت، فهى تضيف ضيفا: إذا مالت. قال أبو عبيد: ومنه سمِّى الضَّيف ضيفًا. يقال منه: ضفت فلانًا: إذا ملت إليه، ونزلت به. وأضفته، فأنا أضيفه: إذا أملته إليك، ونزلته عليك؛ ولذلك قيل:

هو مضاف إلى كذا وكذا: أى [هو] ممال إليه، قال امرؤ القيس: فلمَّا دخلناه أضفنا ظهورنا ... إلى كلِّ حارىٍّ جديد مشطَّب [4/ب]: أى أسندنا ظهورنا إليه، وأملناها، ومنه قيل للدَّعىِّ: مضاف؛ لأنَّه مسند إلى قوم ليس منهم ويقال: ضاف السَّهم يضيف: إذا عدل عن الهدف، وهو من هذا. وفيه لغة أخرى ليست فى الحديث: صاف السَّهم بمعنى ضاف، قال أبو زبيد [الطائى] يذكر المنيَّة: كلُّ يوم ترميه منها برشق ... فمصيب أوصاف غير بعيد فهذا بالصاد، وأمَّا الذى فى الحديث فبالضَّاد. قال أبو عبيد: الرِّشق: الوجه من الرَّمى: إذا رموا وجهًا بجميع سهامهم،

قالوا: رمينا رشقًا، والرَّشق: المصدر. يقال [منه]: رشقت رشقًا. 12 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنه نهى عن الكالئ بالكالئ". حدَّثنيه زيد بن الحباب، عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن [عبد الله] بن عمر، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه نهى عن الكالئ بالكالئ". قال أبو عبيدة: يقال: هو النَّسيئة بالنَّسئة، مهموز. قال أبو عبيد: ومنه قولهم: أنسأ الله فلانًا أجله، ونسأ [الله] فى أجله -بغير ألف- قال [وقال] أبو عبيدة: يقال فى الكالى: تكلَّات كلاة: إذا استنسأت نسيئة والنسيئة، التأخير أيضا، ومنه قوله [تعالى]: {إنما النسئ زيادة فى الكفر}. إنما هو تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر.

وقال الأموىُّ فى الكلأة مثله. وقال الأموىُّ: يقال: بلَّغ الله بك أكلأ العمر: يعنى آخره وأبعده. وهو من التأخير [أيضا]. قال أبو عبيد: [و] قال الشاعر يذمُّ رجلًا: وعينه كالكالئ الضِّمار .. يعنى بعينه: حاضره وشاهده، فالحاضر من عطيَّته كالضمَّار، وهو الغائب الذى لا يرجى قال: أبو عبيد: وقوله: النسيئة بالنَّسيئة فى وجوه كثيرة من البيع منها: أن يسلِّم الرَّجل إلى الرجل مائة درهم إلى سنة فى كرٍّ من طعام، فإذا انقضت السَّنة، وحلَّ الطَّعام عليه، قال الَّذى عليه الطَّعام للدَّافع ليس عندى طعام، ولكن بعنى هذا الكرَّ بمائتى درهم إلى شهر، فهذه نسيئة انتقلت إلى نسيئة، وكلُّ ما أشبه هذا. ولو كان قبض الطَّعام منه، ثمَّ باعه منه أو من غيره بنسيئة لم يكن كالئًا بكالئ.

قال أبو عبيد: ومن الضمار قول "عمر بن عبد العزيز" فى كتابه إلى "ميمون بن مهران" فى الأموال التى كانت فى بيت المال من المظالم أن يردَّها، ولا يأخذ زكاتها: "فإنَّه كان مالاً ضمارًا" (5/ 1): يعنى لا يرجى. [قال]: سمعت كثير بن هشام يحدِّث عن جعفر بن برقان، عن ميمون. قال أبو عبيد: [و] قال الأعشى: أرانا إذا أضمرتك البلا ... دنجفى، وتقطع منَّا الرَّحم 13 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قال لعبد الله بن عمرو بن العاص، وذكر قيام اللَّيل، وصيام النَّهار، فقال: "إنَّك إذا فعلت ذلك هجمت عيناك، وتفهت نفسك".

قال أبو عبيدة: قوله: تفهت نفسك: أعيت، وكلَّت، ويقال للمعنى: منفَّة، ونافه، وجمع النَّافه نفَّه. قال أبو عمرو: وهجمت [14] عينك: غارت ودخلت. قال أبو عبيد: ومنه [قيل]: هجمت علىَّ وهجمت على القوم: إذا دخلت عليهم، وكذلك هجم عليهم البيت: إذا سقط عليهم. قال أبو عمرو: [و] نفهت نفسك: أى أعيت [وكلَّت] مثل قول أبى عبيدة.

وقال رؤبة [بن العجَّاج] يذكر بلادًا والمهارى: * به تمطَّت غول كلِّ ميله * - بنا حراجيج المهارى النُّفَّه * يعنى المعيية، واحدتها نافه ونافهة، وقوله: [كل] ميله: يعنى البلاد التى تولِّه النَّاس فيها، كالإنسان الواله المتحير. 14 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّ رجلاً سأله، فقال: "يا رسول الله! إنَّا نصيب هوامى الإبل". قال: حدَّثناه يحيى بن سعيد، عن حميد الطويل، عن الحسن، عن مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن أبيه، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-أنَّه سئل عن

ذلك، فقال: "ضالَّة المؤمن أو المسلم حرق النَّار". قال أبو عبيدة: قوله: الهوامى: المهملة التى لا راعى لها، ولا حافظ. يقال منه: ناقة هامية، وبعير هام، وقد همت تهمى هميًا: إذا ذهبت على وجوهها فى الأرض لرعى أو غيره. وكذلك كلُّ ذاهب وسائل من ماء أو مطر، وأنشد لطرفة، ويقال للمرقِّش: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى أى تسيل، وتذهب.

وقال أبو عمرو مثله، أو نحوه. [وقال] الكسائىُّ، وأبو زيد: همت عينه تهمى هميًا: إذا سألت، ودمعت، وهو من ذلك أيضًا. قال أبو عبيد: وليس هذا من الهائم. إنَّما يقال من الهائم: هام يهيم، وهى إبل هوائم، وتلك الَّتى فى الحديث هوامى، إلَّا أن تجعله من المقلوب، كما قالوا: جذب وجبذ، وضبَّ وبضَّ: إذا سال الماء وغيره، وأشباه ذلك. 15 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:

"أنَّه أتى بكتف مؤرَّبة، فأكلها، وصلَّى، ولم يتوضَّأ". يروى عن حاتم بن أبى [15] صغيرة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، يرفعه: أنَّ النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فعل ذلك. قال أبو عبيدة، وأبو عمرو: المؤرَّبَّة: هى الموفَّرة الَّتى لم ينقص منها شئ قال أبو عبيد: يقال منه: أربَّت الشَّيء تأريبًا: إذا وفَّرته، ولا أراه أخذ إلاَّ من الإرب، وهو العضو. يقال [منه]: قطعَّته إربًا إربًا: أى عضوًا عضوًا، قال أبو زبيد فى المؤرَّب: وأعطى فوق النصف ذو الحقِّ منهم ... وأظلم بعضًا أو جميعًا مؤرَّبا قال أبو عبيد: ويروى: وأظلم نصفًا.

وقال الكميت بن زيد الأسدىُّ. ولانتشلت عضوين منها يحابر ... وكان لعبد القيس عضو مورّب قال أبو عبيد: عضو وعضو لغتان ... مؤرَّب: أى نامُّ لم ينقص منه شيء، والشِّلو أيضًا: العضو. ومنه حديث "علِّى" فى الأضحيَّة: "إيتى بشلوها الأيمن". 16 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر".

قال: حدَّثنيه يزيد، عن الدستوائىِّ، عن يحيى بن أبى كثير، عن ابن المسيَّب، عن سعد، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. وليس فى حديث "سعد" الصَّفر قال: وحدَّثنى حجَّاج، عن حماد بن سلمة، وابن جريج، عن أبى الزُّبير، عن جابر [بن عبد الله]، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. وزاد فيه: "ولا غول". وفسَّر "جابر" الصَّفر: دوابَّ البطن. قال: وحدَّثنى شجاع بن الوليد [16]، عن ابن شبرمة، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة، عن النَّبىِّ [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]. قال: وحدَّثنيه إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة يرفعه. دخل حديث بعضهم فى بعض.

قال أبو عبيدة: سمعت يونس يسأل رؤبة بن العجَّاج عن الصَّفر، فقال: هى حيَّة تكون فى البطن تصيب الماشية والناس. قال: وهى أعدى من الجرب عند العرب. قال أبو عبيد: فأبطل النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّها تعدى. ويقال: إنَّها تشتد على الإنسان إذا جاع، وتؤذيه، قال أعشى باهلة يرثى رجلاً: لا يتأرَّى لما فى القدر يرقبه ... ولا يعضُّ على شرسوفه الصَّفر. قال أبو عبيد: ويروى: لا يشتكى الساق من أين ولا وصم ... ولا يعضُّ على شرسوفه الصَّفر ويروى: ولا وصب.

قال أبو عبيدة فى الصَّفر أيضًا: يقال: إنه [هو] تأخيرهم المحرَّم إلى صفر فى تحريمه. قال: وأمَّا الهامة: فإنَّ العرب كانت تقول: إنَّ عظام الموتى تصير هامًة، فتطير. وقال أبو عمرو فى الصَّفر مثل قول "رؤية" وقال فى الهامة مثل قول أبى عبيدة، إلاَّ أنَّه قال: كانوا يسمُّون ذلك الطائر الذى يخرج من هامة الميِّت إذا بلى: الصَّدى. قال أبو عبيد: وجمعه أصداء، وكلُّ هذا قد جاء فى أشعارهم، قال أبو دؤاد الإيادىِّ: سلِّط الموت والمنون عليهم ... فلهم فى صدى المقابر هام فذكر الصَّدا والهام جميعًا. وقال لبيد يرثى أخاه أربد: فليس النَّاس بعدك فى نقير ... ولا هم غير أصداء وهام

وهذا كثير فى أشعارهم [لا يحصى]. فردَّ النَّبىُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ذلك. [و] قال أبو زيد فى الصَّفر: مثل قول أبى عبيدة الأول. [و] قال أبو زيد: الهامَّة -مشدَّدة الميم- يذهب إلى واحدة الهوام، وهى دوابُّ الأرض. قال أبو عبيد: ولا أرى أبا زيد حفظ هذا، وليس له معنى. ولم يقل أحد منهم فى الصَّفر إنَّه من المشُّهور غير أبى عبيدة، والوجه فيه التَّفسير الأول. 17 - قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال للنِّساء: "لا تعذِّبن أولادكنَّ بالدَّعر".

وهو من حديث ابن عيينة، عن الزهرىِّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أمِّ قيس بنت محصن، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال أبو عبيدة: هو غمز الحلق، وذلك أنَّ الصَّبىَّ تأخذه العذرة، وهو وجع يهيج فى الحلق [وذلك] من الدَّم، فإذا عولج منه صاحبه، قيل: عذرته فهو معذور، قال جرير بن الخطفى: *غمز الطَّبيب نغانغ المعذور* والنَّغانغ: لحمات تكون عند اللَّهوات، واحدتها تغنغ. والدَّغر: أن ترفع المرأة ذلك الموضع بأصبعها. يقال منه: دغرت أدغر دغرًا. قال أبو عبيد: ويقال للنَّغانغ أيضًا اللَّغانين، واحدها لغنون، واللغاديد واحدها لغدود، ويقال: لغد فمن قال لغد للواحد، قال للجميع ألغاد.

ومن الدَّغر حديث علىِّ [بن أبى طالب -رضى الله عنه-]: "لا قطع فى الدَّغرة". [قال]: حدَّثناه الأنصارى عن عوف، عن خلاس، عن على. والمحدِّثون يقولون: الدَّغرة -بفتح الغين- ويفسِّرها الفقهاء أنَّها الخلسة. قال أبو عبيد: وهى مأخوذة عندى من الدَّفع أيضًا، وهى الدَّغرة -بجزم الغين- وإنَّما هو توثب المختلس، ودفعه نفسه على المتاع، ليختسله ويقال فى مثل: "دغرا لاصفَّا" يقول: ادغروا عليهم، ولا تصافُّوهم. ويروى: "دغرى لاصفَّى" مثل "عقرا خلقًا"، و"عقرى حلقى".

18 - (و) قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا يترك فى الإسلام مفرج". (قال): هو من حديث حفص، عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جدَّه. قال: وحدَّثنى حمَّاد بن عبيد، عن جابر، عن الشَّعبىِّ، أو عن أبى جعفر محمَّد ابن علىٍّ -الشَّك من أبى عبيد- عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "العقل على المسلمين عامَّة، ولا يترك فى الإسلام مفرج". قال: حمَّاد: فقلت [6 - ب/د] لجابر: ما المفرج؟ قال: هو الرجل يكون فى القوم من غيرهم، فحقَّ عليهم أن يعقلوا عنه، وقال غير حمَّاد: مفرح -بالحاء. [وقال]: حدَّثنا حجاج، عن ابن جريج، أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-

قال: "وعلى المسلمين ألا يتركوا مفدوحًا فى فداء أو عقل". وقال فى حديث غيره: مفروحًا. قال الأصمعىُّ: والمفرح -بالحاء- هو الذى قد أفرحه الدين: يعنى أثقله. يقول: يقضى عنه دينه من بيت المال، ولا يترك مدينًا، وأنكر قولهم: مفرج -بالجيم- وقال أبو عمرو: المفرح [-بالحاء-] هو المثقل بالدَّين أيضا، وأنشد [نا]: إذا أنت لم تبرح تؤدِّى أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع يعنى أثقلتك. وقال الكسائىُّ فى لمفرح: مثله، أو نحوه. قال [أبو عبيد]: وسمعت محّمد بن الحسن يقول: هو يروى بالحاء والجيم.

فمن قال: مفرح -بالحاء- فأحسبه قال فيه مثل قول هؤلاء. ومن قال: مفرج -بالجيم- فإنَّه القتيل يوجد فى أرض فلاة [و] لا يكون عند قرية. [يقول]: فإنَّه يودى من بيت المال، ولا يبطل دمه. وعن أبى عبيدة: المفرج -بالجيم- أن يسلم الرَّجل، ولا يوالى أحدًا. يقول: فتكون جنايته على بيت المال؛ لأنَّه لا عاقلة له، فهو مفرج [-بالجيم-] وقال بعضهم: هو الذى لا ديوان له. 19 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فى الثَّوب المصلب: "أنَّه كان إذا رآه فى ثوب قضبه".

قال: حدَّثنيه ابن عليه، عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين قال: نبئت عن دفرة أمِّ عبد الله بن أذينة، أنَّها قالت: كنَّا نطوف مع "عائشة" فرأت ثوبًا مصلَّبًا، فقالت: إنَّ رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- كان إذا راه فى ثوب قضبه. قال الأصمعى: يعنى قطع موضع التصليب، والقضب: القطع. [قال]: ومنه قيل: اقتضبت الحديث: إنَّما هو انتزعته، واقتطعته. قال أبو عبيد: وإياه عنى "ذو الرُّمَّة" بقوله يصف الثَّور: كأنَّه كوكب فى إثر عفرية ... معوَّم فى سواد اللَّيل منقضب [20] أى متقطع من مكانه. وقال القطامىُّ يصن الثَّور أيضًا: فغدا صبيحة صوبها متوجِّسا ... شئز القيام يقضِّب الأغصانا [يعنى يقطعها].

20 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قال لعائشة، وسمعها تدعو على سارق سرقها، فقال: "لا تسبِّخى عنه بدعائك عليه". قال: حدَّثناه ابن مهدىٍّ، عن سفيان، عن حبيب بن أبى ثابت، عن عطاء، عن عائشة، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال الأصمعى: [لا تسبِّخى] يقول: لا تخفِّفى عنه بدعائك عليه. وهذا مثل الحديث الآخر: "من دعا على من ظلمه، فقد انتصر". وكذلك كلُّ من خفِّف عنه شيء فقد سبِّخ عنه. [قال]: يقال: اللَّهمَّ سبِّخ عنى الحمَّى: أى سلَّها، وخفِّفها.

قال أبو عبيد: ولهذا قيل لقطع القطن إذا ندف: سبائخ، ومنه قول "الأخطل" يصف القنَّاص والكلاب. فأرسلوهنَّ يذرين التُّراب كما ... يذرى سبائخ قطن ندف أوتار يعنى ما يتساقط من القطن. قال أبو زيد والكسائى: يقال سبَّخ الله عنا الأذى: يعنى كشفه وخفَّفه. ويقال لريش الطائر الذى يسقط: سبيخَّ؛ لأنه يغسل، فيسقط عنه. 21 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- "لأن يمتلئ جوف أحدكم قبحًا حتَّى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا" يروى [ذلك] عن عوف، عن الحسن يرفعه.

قال: وحدَّثنيه أيضًا حجَّاج، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن محّمد بن سعد، عن أبيه سعد بن أبى وقاص، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. مثل حديث "عوف" سواء. قال الأصمعىُّ: قوله: حتَّى يريه: هو من الورى على مثال الرَّمى. يقال منه: رجل مورى [مشدَّد] غير مهموز [21] وهو أن بدوى جوفه، وأنشد: *قالت له وريا إذا تنحنح* *تدعو عليه بالورى* وأنشدنا الأصمعى أيضًا "للعجَّاج" يصف الجراحات: *عن قلب ضجم تورِّى من سبر*

يقول: إن سبرها إنسان أصابه منها الورى من شدَّتها. والقلب: الآبار، واحدها قليب، وهى البشر شبَّه الجراحة بها. [و] قال "أبو عبيدة" فى الورى مثله إلا أنَّه قال: هو أن يأكل القيح جوفه وأنشدنا غيره لعبد بنى الحسحاس يذكر النِّساء: وراهنَّ ربى مثل ما قد وريتنى ... وأحمى على أكبادهن المكاويا [قال أبو عبيد]: وسمعت يزييد بن هارون يحدِّث [بحديث] عن الشَّرقى ابن القطامىِّ، عن مجالد، عن الشَّعبىَّ أن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "لأن يمتلىَّ جوف أحدكم قيحًا حتَّى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا". يعنى من الشعر الذى [قد] هجى به النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال أبو عبيد: والذى عندى فى هذا الحديث غير هذا القول؛ لأنَّ الذى هجى به النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لو كان شطر بيت لكان كفرًا، فكأنَّه إذا حمل وجه

الحديث على امَّتلاء القلب منه، أنَّه قد رخص فى القليل منه. ولكن وجهه عندى أن يمتلئ قلبه [من الشِّعر] حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن، وعن ذكر الله، فيكون الغالب عليه من أىِّ الشِّعر كان. فأما إذا كان القرآن والعلم الغالب عليه، فليس جوف هذا عندنا ممتلئا من الشعر. 22 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إن الإسلام ليأرز إلى [22] المدينة كما تأزر الحيَّة إلى حجرها". قال الأصمعى: قوله: يأزر: ينضمُّ إليها، ويجتمع بعضه إلى بعض فيها وأنشدنا لرؤية يذم رجلاً:

*فذاك بخال أروز الأرز* يعنى أنَّه لا ينبسط للمعروف، ولكنَّه ينضمُّ بعضه إلى بعض. قال الأصمعىُّ: وأخبرنى عيسى بن عمر -عن أبى الأسود الدُّولىِّ أنَّه قال: إنَّ فلانًا إذا سئل أرز، وإذا دعى اهتزَّ -أو قال: انتهز، شكَّ أبو عبيد -قال: يعنى أنَّه إذا سئل المعروف تضامَّ، وإذا دعى إلى طعام أو غيره ممَّا يناله اهتزَّ لذلك، [و] قال "زهير": بآرزة الفقارة لم يخنها ... قطاف فى الرِّكاب ولا خلاء الآرزة: الشديدة المجتمع بعضها إلى بعض: يعنى الناقة، والفّقارة: فقارة

الصلب. قال أبو عبيد: سمعت الكسائىَّ يقول: الدُّولىَّ، وقال ابن الكلبىِّ: الدِّيلىَّ، وهو الصَّواب عندنا. 23 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قال لابن مسعود: "إذنك علَّى أن ترفع الحجاب، وتستمع سوادى حتَّى أنهاك". قال: حدَّثناه حفص، عن الحسن بن عبيد الله النَّخعىِّ، عن إبراهيم بن سويد، عن عبد الرَّحمن بن يزيد، عن عبد الله [بن مسعود] عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال الأصمعىُّ: السِّولد: السِّرار. يقال منه: ساودته مساودًة وسوادًا: إذا ساررته، ولم يعرفها -برفع السِّن. سوادًا. قال أبو عبيد: ويجوز الرَّفع، وهو بمنزلة جوار وجوار، فالجوار المصدر، والجوار: الاسم

وقال الأحمر: هو من إدناه سوادك من سواده، وهو الشَّخص. قال أبو عبيد: وهذا [23] من السِّرار أيضًا؛ لأنَّ السِّرار لا يكون إلاَّ بإدناء السّواد من السواد، [و] أنشدنا الأحمر: من يكن في السِّواد والدَّد والإغرا ... م زيرًا فإنَّنى غير زير قوله: زيرًا: هو الرَّجل يحبُّ مجالسة النِّساء ومحادثتهنَّ. [قال أبو عبيد]: وسئلت بنت الخسِّ: لم زنيت، وأنت سيِّدة نساء قومك؟ قالت: قرب الوساد، وطول السِّواد، والدَّد، والَّلهو، واللَّعب. [قال أبو عبيد: والدَّدُّ: الَّلهو والَّلعب]. ومنه حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ما أنا من دد، ولا الدَّد منِّى". قال: حدَّثناه نعيم بن حمَّاد، عن ابن الدَّراوردىِّ، عن عمرو بن أبى عمرو،

عن رجل قد سمَّاه، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال ذلك. قوله: الدَّد: هو الَّلعب والَّلهو. قال الأحمر: وفى الدَّد ثلاث لغات: يقال: هذا دد على مثال يد ودم. وهذا ددًا [على] مثال قفًا وعصا وهذا ددن [على] مثال حزن. قال الأعشى: أترجل من ليلى، ولمَّا تزوَّد ... وكنت كمن قضى الُّلبانة من دد وقال عدىُّ بن زيد: أيُّها القلب تعلَّل بددن ... إنَّ همى فى سماع وأذن 24 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم فى أشراط الساعة.

قال الأصمعىُّ: هى علاماتها، قال: ومنه الاشتراط الذى يشترط الناس بعضهم على بعض، إنَّما هى علامة يجعلونها بينهم؛ ولهذا سمِّيت الشُّرط؛ لأنَّهم جعولا لأنفسهم علامًة يعرفون [24] بها. وقال غيره فى بيت أوس بن حجر، وذكر رجلاً تدلىَّ من رأس جبل بحبل إلى نبعة؛ ليقطعها، ويتَّخذ منها قومًا: فأشرط فيها نفسه، وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكَّلا قال: هو من هذا أيضًا، يريد أنَّه جعل نفسه علمًا لذلك الأمر. 25 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنّه أتى على بئر ذمَّة". قال: حدَّ ثنيه أبو النَّصر، عن سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن يونس، عن البراء بن عازب، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

قال الأصمعىُّ: الذَّمَّة: القليلة الماء، يقال: هى بئر ذمَّة، وجمعها ذمام. قال أبو عبيدة: قال ذو الرُّمَّة يصف عيون الإبل أنَّها قد غارت من طول السَّير: على حميريَّات كأنَّ عيونها ... ذمام الرَّكايا أنكرتها المواتح قوله: أنكزتها: يعنى أنفدت ماءها، والمواتح: المستقية. وفي الحديث: قال "الراء بن عازب": "فنزلنا فيها ستَّة ما حًة". قال: والماحة واحدهم ماتح، وهو الذى إذا قلَّ ماء الرَّكيَّة حتى لا يمكن أن يعترف منها بالدَّلو، نزل رجل، فغرف منها بيديه، فيجعله فى الدَّلو، فهذا المائح، قال ذو الرُّمَّة: ومن جوف ماء عرمض الحول فوقه ... متى يحس منه ما تح القوم يثفل وقال الشَّاعر: * يأيَّها المائح دلوى دونكا * * إنِّى رأيت الناس يحمدونكا * والمائح فى أشياء سوى هذا.

26 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ رجلاً أتاه، فقال: يا رسول الله [25] إنَّا نركب أرماثًا فى البحر، فتحضر الصَّلاة، وليس معنا ماء إلاَّ لشفاهنا، أفنتوضَّأ بماء البحر؟ فقال: "هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ ميتته". قال: حدثناه هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن المغيرة، عن عبد الله بن أبى بردة، عن رجل من بنى مدلج، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال أبو عبيد: وغير "هشيم" يجعل فى هذا الإسناد مكان رجل من بنى مدلج، عن "أبى هريرة" عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-

قال الأصمعىُّ: الأرماث: خشب يضمُّ بعضها إلى بعض، ويشدُّ، ثمَّ تركب، يقال لواحدها: رمث وجمعها أرماث. والرَّمث فى غير هذا أن تأكل الإبل الرِّمث، فتمرض عنه. قال الكسائى: يقال منه إبل رمثة ورماثى. ويقال: إبل طلاحى وأراكى: إذا أكلت الأراك والطَّلح، فمرضت عنه. وأنشدنا أبو عبيد لبعض الهذليين، ويقال: إنَّه لأبى صخر: تمنَّيت من حبىِّ بثينة أنَّنا ... على رمث فى البحر ليس لنا وفر قال أبو عبيد: أى مال، ويروى: على رمث فى الشَّرم، وهوموضع فى البحر، يقال: إنه لجَّة البحر. 27 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنا فرطكم على الحوض".

قال: حدَّثناه إبراهيم بن سليمان أبو إسماعيل مؤدب آل [أبى] عبيد الله، عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت جندب بن سفيان، يقول: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنا فرطكم على الحوض". وقال بعضهم: جندب بن عبد الله، وهو هذا. قال الأصمعىُّ الفرط والفارط: المتقدِّم فى طلب الماء، يقول: أنا أتقدَّمكم إليه. ويقال: منه: فرطت القوم فأنا أفرطهم، وذلك إذا تقدَّمهم [26]؛ ليرتاد لهم الماء، ومن هذا قولهم فى الدُّعاء فى الصَّلاة على الصَّبىَّ [الميِّت]: اللَّهمَّ اجعله لنا فرطًا: أى أجرًا متقدِّما، [و] قال الشَّاعر: فأثار فارطهم غطاطًا جثَّمًا ... أصواته كتراض الفرس

يعنى أنه لم يجد فى الركيَّة ماءً، إنَّما وجد غطاطًا، وهو القطا، وجمع الفارط فرَّاط، قال القطامىُّ: فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجَّل فرَّاط لورَّاد [و] قال أبو عبيد: يقال: صحاب وصحابة وصحبة وصحب، فإذا كسرت الصاد فلا هاء فيه. ويقال: أفرطت الشَّئ: [أى] نسيته [وأخَّرته]، قال الله تبارك وتعالى -: {وأنَّهم مفرطون}. وفرط الرَّجل فى القول: [إذا تعجَّل]، قال الله [-تبارك وتعالى]: {إنَّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}. 28 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه أعطى النِّساء

اللَّواتى غسَّلن ابنته حقوه، فقال: "أشعرنها أيَّاه". قال: حدَّثناه هشيم، عن منصور وخالد، وهشام أو عن اثنين من هؤلاء، عن حفصة، عن أمِّ عطيَّة، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال أبو عبيد: قال الأصمعىُّ: الحقو: الإزار، وجمعه حقىُّ

قال أبو عبيد: ولا أعلم الكسائىَّ إلاَّ وقد قال لى مثله أو نحوه ومن ذلك حديث "عمر" [رضى الله عنه]: "لا تزهدن فى جفاء الحقو، فإن يكن ما تحته جافيًا فإنَّه أستر له، وإن يكن ما تحته لطيفًا فهو أخفى له". يحدثه ابن عليَّة عن، أيُّوب، عن ابن سيرين، عن عمر. [قال أبو عبيد]: أراد "عمر" بالحقو الإزار: يعنى أن تجعله المرأة جافيا تضاعف عليه الثِّياب؛ لتستر مؤخَّرها. وقوله فى الحديث الأوَّل [27] أشعرنها إيَّاه، يقول: اجعلنه شعارها الذى يلى جسدها. 29 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ رجلا أتاه، فقال: "يا رسول الله! تخرَّقت عنَّا الخنف، وأحرق بطوننا التَّمر".

قال: حدَّثناه أبو معاوية عن داود بن أبى هند، عن أبى حرب بن أبى الأسود، رفعه. [قال أبو عبيد]: وقد خولف أبو معاوية فى إسناده فى داود بن أبى هند، عن رجل آخر يقال: إنَّه طلحة بن عبيد الله بن كريز، وطلحة رجل من خزاعة. قال الأصمعىِّ: الخنف واحدها خنيف، وهو جنس من الكتَّان أرادأ ما يكون منه، قال الشَّاعر يذكر طريقًا: علا كالخنيف السَّحق يدعو به الصَّدى ... له قلب عفَّى الحياض أجون ويروى .......................... ... له قلب عاديَّة وصحون يعنى الطريق شبَّهه بالخنيف: أى علا طريقًا كالخنيف. والسَّحق: الخلق من الثِّياب. ومنه قول "عمر": "من زافت عليه دراهمه، فليأت به السُّوق، فليقل: من يبيعنى بها سحق ثوب أو كذا وكذا؟ ولا يخالف النَّاس عليها أنَّها جياد".

وقال أبو زبيد [الطائىُّ]: وأباريق شبه أعناق طير الما ... ء قد جيب فوقهنَّ خنيف يعنى الفدام الَّذى تقدم به الأباريق، [و] قوله: [قد] جيب شبَّهه بالجيب. ومن الفدام حديث "بهز". قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "إنَّكم مدعوُّون يوم القيامة مقدَّمًة أفواهكم بالفدام".

يعنى أنَّهم منعوا الكلام حتَّى تكلَّم أفخاذهم، فشَّه ذلك بالفدام الذى يشدُّ [28] [به] على الفم. قال أبو عبيد: وبعضهم يقول: الفدام -بالفتح- ووجه الكلام الفدام -بكسر الفاء-. وفى الحديث: "ثمَّ إنَّ أولَّ ما يبين عن أحدكم لفخذه ويده". 30 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. "أنَّه دخل على "عائشة أم المؤمنين" وغى البيت سهوة عليها ستر". قال الأصمعىُّ: السَّهوة كالصُّفَّة تكون بين يدى البيت. وقال غيره من "أهل العلم": السَّهوة شبيه بالرَّفِّ أو الطَّاق، يوضع فيها الشئ قال أبو عبيد: وسمعت غير واحد من "أهل اليمن" يقول: السَّهوّة عندنا بيت

صغير منحدر فى الأرض، وسمكه مرتفع من الأرض شبيه بالخزانة الصَّغيرة يكون فيه المتاع. [قال أبو عبيد: وقول "أهل اليمن" عندى أشبه ما قيل فى السَّهوة] [و] قال أبو عمرو فى الكنَّة والسدَّة نحو قول الأصمعىِّ فى السَّهوة، وقال: هى الظلَّة تكون بباب الدَّار، قال: والكنَّة مثل ذلك. [و] قال الأصمعىُّ فى الكنَّة: هو الشئ يخرجه الرَّجل من حائطه كالجناح ونحوه. قال أبو عبيد: ومن السُّدُّة حديث أبى الدَّرداء الذى يحدِّثه ابن المبارك، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدَّرداء، عن أبى الدَّرداء، قال: "من يغش سدد السُّلطان يقم ويقعد".

ومنه حديث عروة بن المغيرة: "أنَّه كان يصلِّى فى السُّدَّة" يعنى سدَّة المسجد الجامع، وهى الظِّلال الَّتى حوله: يعنى صلاة الجمعة مع الإمام. قالوا: وإنَّما سمِّى إسماعيل السدِّىَّ: لأنَّه كان تاجرًا يبيع فى سدَّة المسجد الخمر. قال أبو عبيد: وبعضهم يجعل السُّدَّة الباب نفمه. 31 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه نهى عن حلوان الكاهن" قال: حدَّثناه ابن مهدىٍّ، عن مالك عن الزُّهرىِّ، عن أبى بكر بن عبد الرَّحمن بن

الحارث بن هشام، عن أبى مسعود الأنصارىِّ، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال: وحدَّثناه الواقدى عن معمر بإسناده قال الأصمعىُّ: الحلوان: هو مايعطاه الكاهن، ويجعل له على كهانته. يقال منه: جلوت الرَّجل [أحلوه] حلوانًا: إذا حبوته بشيء، وأنشد [نا] الأصمعىُّ لأوس بن حجر يذمُّ رجلاً كأنِّى حلوت الشِّعر يوم مدحته ... صفا صخرة صمَّاء يبسًا بلالها ألا تقبل المعروف منى تعاورت ... منولة أسيافًا عليك ظلالها فجعل الشعر حلوانًا مثل العطاء، ومنولة أمَّ شمخ وعدىٍّ ابنى فزارة، وأظن مازنًا أيضًا. [و] قال أبو عبيدة: الحلوان: الرِّشوة والرُّشوة

يقال منه حلوت: أى رشوت، قال الشاعر: فمن راكب ألوه رحلاً وناقًة ... يبلِّغ عنى الشِّعر إذ مات قائله [و] قال غيره: والحلوان أيضًا أن يأخذ الرَّجل من مهر ابنته لنفسه، قال: وهذا عار عند العرب، قالت امرأة تمدح زوجها: لا يأخذ الحلوان من بناتيا ... 32 - قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فى صفة أهل الجنَّة: "ومجامرهم الألوَّة". قال]: حدَّثناه ابن أبى مريم، عن ابن لهيعة، عن أبى يونس مولى أبى هريرة، عن أبى هريرة، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

قال [أبو عبيد]: وحدَّثنا أبو الأسود، عن "ابن لهيعة" عن بكير، عن نافع، قال: كان "ابن عمر" يستجمر بالألوَّة غير مطرَّاة، والكافور يطرحة مع الألوَّة. ثمّ يقول: هكذا رأيت النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يصنع. قال الأصمعىُّ: هو العود الذى يتبخَّر به، وأراها كلمًة فارسيَّة عرِّبت. قال أبو عبيد: وفيها لغتان [30]: الألوَّة والألوَّة -بفتح الألف وضمِّها- 33 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فى الحيَّات:

"اقتلوا ذا الطُّفيتين والأبتر". قال: حدَّثناه أبو اليقظان، عن ليث بن أبى سليم-، عن ابن بريدة، عن أبيه. قال: وحدّثناه أبو صالح، عن اللَّيث بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال الأصمعىُّ: الطُّفية: خوصة المقل، وجمعها طفى، قال: وأراه شبَّه الخطَّين اللَّذين على ظهره بخوصتين من خوص المقل، وأنشد لأبى ذؤيب:

عفت غير نوى الدار ما إن تبينه ... وأقطاع طفى قد عفت فى المعاقل وقال غيره: الأبتر: القصير الذَّنب من الحيَّات [وغيرها]. 34 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قال لأبى بردة بن نيار فى الجذعة التى أمره أن يضحِّى بها: "ولا تجزى عن أحد بعدك". قال: أخبرناه هشيم وإسماعيل، ويزيد هؤلاء أو بعضهم، عن داود بن أبى هند، عن الشَّعبىِّ، عن البراء [بن عازب]، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

قال الأصمعى: هو مأخوذ من قولك: قد جزى عنِّى هذا الأمر، فهو يجزى عنِّى -ولا همز فيه -ومعناه: لا تقضى عن أحد بعدك، يقول: لا تجزى: لا تقضى، وقال الله -تبارك وتعالى-: {واتَّقوا يومًا لا تجزى نفس عن نفس شيئًا} هو من هذا. ومنه حديث يروى عن عبيد بن عمير أنَّ رجلاً كان يداين النَّاس، وكان له كاتب ومتجاز، فكان يقول له: إذا رأيت الرَّجل معسرًا، فأنظره، فغفر الله له. [قال أبو عبيد]: والمتجازى: المتقاضى. قال الأصمعىُّ: "أهل المدينة" يقولون [31]: أمرت فلانًا يتحازى [لى] دينى على فلان: أى يتقاضاه. قال: وأمَّا قوله: أجزأنى الشَّئ إجزاءً، فمهموز، ومعناه: كفانى، وقال الطَّائىُّ:

لقد آليت أعذر فى جداع ... وإن منِّيت أمَّات الرِّباع بأنَّ الغدر فى الأقوام عار ... وأنَّ المرء يجزأ بالكراع جداع: الَّسنة الَّتى تجدع كلَّ شيء: أى تذهب به. [وقوله] يجزأ [بالكراع] أى يكتفى بها. ومنه قول النَّاس: اجتزأت بكذا وكذا، وتجزأت به: أى اكتفيت به. 35 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين سئل: متى تحلُّ لنا الميتة؟ فقال: "ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا، أو تحتفئوا بها بقلاً، فشأنكم بها".

قال: حدَّثناه محمَّد بن كثير، عن الأوزاعىِّ، عن حسَّان بن عطية، عن أبى واقد اللَّيثىَّ، أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله! : إنَّا نكون فى الأرض، فتصيبنا بها المخمصة، فمتى تحلُّ لنا الميتة؟ فقال: "ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلاً، فشأنكم بها". قال الأصمعىُّ: لا أعرف تحتفئوا، ولكنىِّ أراها تختفوا بها بقلًا: أى تقتلعونه من الأرض. ويقال: اختفيت الشئ: [أى] أخرجته. قال أبو عبيد: ومنه سمِّى النَّبَّاش المختفى؛ لأنَّه يستخرج الأكفان وكذلك: خفيت الشئ: أى أخرجته، قال امرؤ القيس [بن حجر] يصف حضر الفرس، وأنَّه استخرج الفأر من حجرتهنَّ، كما يستخرجهنَّ المطر: خفاهنَّ من أنفاقهنَّ كأنَّما ... خفاهنَّ ودق من سحاب مركَّب

قال أبو عبيد: وقد كان الكسائىُّ يحدِّث عن محمَّد بن سهل الأسدىِّ، عن وقاء ابن إياس، عن سعيد بن جبير أنَّه كان يقرأ: "إنَّ السَّاعة آتية أكاد أخفيها" [-بفتح الألف-]: أى أظهرها. قال أبو عبيد: وسألت عنها أبا عمرو، فلم يعرف [فيها بالحاء] تحتفئوا، وسألت أبا عبيدة، فلم يعرفها. قال أبو عبيد: ثم بلغنى عن أبى عبيدة أنَّه قال: هو من الحفا، والحفأ مقصور مهموز، وهو أصل البردىِّ الأبيض الرَّطب منه، وهو يؤكل، فتأويله أبو عبيدة فى قوله "تختفئوا" يقول: ما لم تقتلعوا هذا بعينه، فتأكلوه. قال [أبو عبيد]: وأخبرنى الهيثم بن عدىٍّ أنه سأل عنها أعرابيًّا، فقال: فلعلَّها: تجتفئوا -بالجيم-. قال أبو عبيد: يعنى أن يقتلع الشَّئ، ثم يرمى به.

يقال: جفات الرَّجل: إذا صرعته، وضربت به الأرض -مهموز. قال أبو عبيد: وبعضهم يرويه: ما لم تحتفُّوا بها، يشدِّد الفاء، فإن كان هذا محفوظًا، فهو من احتففت الشئ كما تحفُّ المرأة وجهها من الشَّعر. [قال]: وأمَّا قوله: ما لم تصطبحوا أو تعتبقوا: فإنَّه يقول: إنَّما لكم منها الصَّبوح وهو الغداء، أو الغبوق، وهو العشاء، يقول فليس لكم أن تجمعوهما من الميتة. 36/ ومن ذلك الحديث سمرة بن جندب. قال [أبو عبيد]: حدَّثنا معاذ [بن معاذ]، عن ابن عون قال: رأيت عند الحسن كتاب سمرة لبنيه: إنَّه يجزئ من الاضطرار أو الضَّارورة صبوح أو غبوق. 36 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قال [33] للأنصاريَّة، وهو يصف لها الاغتسال من المحيض: "خذى فرصًة ممسَّكًة، فتطهَّرى بها".

فقالت "عائشة" أم المؤمنين: يعنى تتبَّعى بها أثر الدَّم. قال: حدَّثناه عبد الرَّحمن، عن أبى عوانة، عن إبراهيم بن المهاجر، عن صفيَّة بنت شيبة، عن عائشة أنَّها ذكرت نساء الأنصار، فأثنت عليهنَّ خيرًا، وقالت لهنَّ معروفًا، وقالت: لمَّا نزلت سورة النُّور عمدن إلى حجز أو حجوز مناطقهنَّ، فشققنها، فجعلن منها خمرًا وأنَّه دخلت منهنَّ امرأة على النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فسألته عن الاغتسال من المحيض، ثم ذكر الحديث.

قال الأصمعىُّ: الفرصة: القطعة من الصُّوف أو القطن أو غيره، وإنَّما أخذ من فرضت الشَّئ: أى قطعته، ويقال للحديدة التى تقطع بها الفضَّة مفراض؛ لأنها تقطع، وأنشد الأصمعىُّ للأعشى: وأدفع عن أعراضكم وأعيركم ... لسانًا كمفراص الخفاجىِّ ملحبا يعنى بالملحب كلَّ شيء يقشر ويقطع [الَّلحم والخفاجىُّ: رجل من بنى خفاجة]. 37 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين دخل عليه عمر [رضى الله عنه]. فقال: يا رسول الله: لو أمرت بهذا البيت فسفر.

[قال]: وكان فى بيت فيه أهب وغيرها. قال الأصمعىُّ: قوله: سفر: يعنى كنس. ويقال: سفرت البيت وغيره: إذا كنسته، فأنا أسفره سفرًا. ويقال للمكنسة: المسفرة. قال: ومنه سمِّى ما سقط من الورق: السَّفير؛ لأنَّ الرِّيح تسفره: أى تكنسه [34] قال "ذو الرمة": وحائل من سفير الحول جائله ... حول الجراثيم فى ألوانه شهب

ويروى: وحائل من شفير الحول حائله يعنى الورق، وقد حال: تعيَّر لونه وأبيضَّ، والجائل: ما جال بالريح فذهب وجاء والجراثيم: كل شيء مجتمع، والواحدة جرثومة. قال أبو عبيد: وقد تكون الجرثومة أصل الشيء. منه الحديث المرفوع: قال: حدَّثناه عفيف بن سالم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، يرفعه، قال: "الأزد جرثومة العرب، فمن أضلَّ نسبة فليأتهم". قال أبو عبيد (: وقد روى فى الأهب حديث آخر: "أنَّ عمر دخل على النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفى البيت أهب عطنة) ".

وهى الجلود واحدها إهاب. والعطنة: المنتنة الرّيح، وجاء فى حديث آخر: أنَّه دخل عليه، وعنده أفيق". والأفيق: الجلد الَّذى لم يتم دباغه، وجمعه أفق. يقال: أفيق وأفق مثل أديم وأدم، وعمود وعمد، وإهاب وأهب. قال: ولم نجد فى الحروف فعيلاً ولا فعولاً يجمع على فعل إلاَّ هذه الأحرف. [و]: إنما تجمع على فعل مثل: صبور وصبر، [وشكور وشكر]. 38 - وقال أبو عبيد فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "كل صلاة ليست فيها قراءة فهى خداج".

قال: حدَّثناه إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال الأصمعىُّ: الخداج: النُّقصان مثل خداج النَّاقة: إذا ولدت ولدًا ناقص الخلق، أو لغير تمام. ويقال: أخدج الرَّجل صلاته [35] فهو مخدج، وهى مخدجة، ومنه قيل لذى الثُّديَّة: [إنَّه] مخدج اليد: يعنى [أنَّه] ناقصها. قال: حدَّثناه إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علىٍّ [رضى الله عنه] فى ذى الثُّديَّة: "أنَّه مخدج اليد" قال: يعنى ناقصها.

ويقال: خدجت النَّاقة: إذا ألقت ولدها قبل أوان النِّتاج، وإن كان تامَّ الخلق، وأخدجت الناقة: إذا ألقته ناقص الخلق، وإن كان لتمام الحمل. وإنَّما أدخلوا الهاء فى ذى الثُّديَّة، وأصل الثَّدى ذكر، لأنَّه كأنَّه أراد لحمًة من ثدى، أو قطعه من ثدى، فصغَّر على هذا المعنى، فأنَّث. وبعضهم يرويها ذا اليدية -بالياء-. قال أبو عبيد: ويقال: ولد تمام وتمام، وقمر تمام وتمام، وليل تمام لاغير. 39 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فى صدقة النخل: "ما سقى منه بعلاً قفيه العشر".

قال: حدَّثنيه أبو النَّضر، عن اللَّيث بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشجِّ، عن بسر بن سعيد، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال الأصمعىَّ: البعل: ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقى سماء ولا غيرها، فإذا سقته السَّماء، فهو عذى. قال: ومن البعل قول النَّابغة فى صفة النَّخل: من الواردات الماء بالقاع تستقى ... بأذنابها قبل استقاء الحناجر فأخبر أنَّها تشرب بعروقها، فأراد بالأذناب: العروق. قال: وقال عبد الله بن رواحة: هن لك لا أبالى نخل سقى ... ولا بعل وإن عظم الأتاء [36] يقال: سقىى وسقى، فالسَّقى -بالفتح- الفعل، والسِّقى -بالكسر- الشّرب قال: والأتاء: ما خرج من الأرض من الثَّمر أو غيره.

يقال: هى أرض كثيرة الأتاء: أى كثيرة الرَّيع من الثَّمر وغيره قال: وأمَّا الغيل، فهو ما جرى فى الأنهار، وهو الفتح أيضًا. قال: والغلل: الماء بين الشَّجر. وقال أبو عبيدة والكسائى فى البعل: هو العذى، و [هو] ماسقته السَّماء. قال أبو عمرو: والعثرى: العذى أيضًا. وقال بعضهم: السَّيح: الماء الجارى مثل الغيل، سمِّى سيحًا: ؛ لأنَّه

يسيح فى الأرض: أى يجرى:

40 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فى قوم يخرجون من النَّار "فينبتون كما تنبت الحبَّة فى حميل السَّيل". قال الأصمعىُّ: الحميل: ما حمله السَّيل من كلِّ شئٍ، وكلُّ محمول فهو جميل، كما يقال للمقتل قتيل، ومنه قول عمر [بن الخطاب -رحمه الله-]: "فى الجميل لا يورَّث إلاَّ ببيِّنة" إنَّما سمِّى جميلًا؛ لأنَّه يحمل من بلاده صغيرًا، ولم يولد فى الإسلام.

وأمَّا الحبَّة، فكل نبت له حبُّ، فاسم الحبِّ منه الحبَّة. وقال الفرَّاء: الحبَّة بذور البقل. وقال أبو عمرو: الحبَّة: نبت ينبت فى الحشيش صغار. وقال الكسائىُّ: الحيَّة: حبُّ الرَّياحين. وواحدة الحبَّة حبَّة قال: وأمِّا الحنطة، ونحوها، فهو الحبُّ لا غير. [قال أبو عبيد] وفى الحميل تفسير آخر هو أجود من هذا. يقال: إنّما سمِّى الحميل الذى قال "عمر" حميلاً؛ لأنه محمول النَّسب، وهو أن يقول الرجل: هذا أخى أو أبى أو ابنى فلا يصدَّق عليه إلاَّ ببينة؛ لأنه يريد بذلك أن يدفع ميراث مولاه الذى أعتقه، ولهذا قيل للدَّعىِّ جميل، قال الكميت [37] علام نزلتم من غير فقر ... ولا ضرَّاء منزلة الحميل

يعاتب "قضاعة" فى تحوَّلهم إلى اليمن" هذا هو الصَّحيح عندنا. 41 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مازالت أكلة "خيبر" تعادُّنى، فهذا أوان قطعت أبهرى".

قال: حدِّثت به عن سفيان بن عيينة، عن العلاء [بن أبى العلاء، عن ابن] أبى العبَّاس، عن أبى جعفر يرفعه. قال الأصمعىُّ: هو من العداد، وهو الشَّئ الذى يأتيك لوقت. وأصله من العدد لوقت، مثل الحمَّى الرِّبع والغبِّ، وكذلك السَّمُّ الَّذى يقتل لوقت. وقال أبو زيد مثل ذلك أو نحوه. قال أبو عبيد: [وكلُّ شئٍ معلوم، فإنَّه يعادُّ صاحبه لأيَّام، وأصله من العدد حتَّى يأتى وقته الذى يقتل فيه]، ومنه قول الشَّاعر: يلاقى من تذكُّر آل نيلى ... كما يلقى السَّليم من العداد يعنى اللَّديغ. قال الأصمعىُّ: إنَّما سمِّى اللَّديغ سليمًا؛ لأنَّهم تطيَّروا. من اللديغ، فقلبوا المعنى، كما قالوا للحبشىِّ أبو البيضاء، وكما قالوا للفلاة: مقارة تطيرَّوا إلى الفوز، وهى

مهلكة [ومهلكة]. وذلك؛ لأنُّهم تطيَّروا. والأبهر: عرق مستبطن الصُّلب، والقلب متصل به، فإذا انقطع لم تكن معه حياة، وأنشد الأصمعىُّ لابن مقبل: وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم الغلام وراء الغيب بالحجر شبَّه وجيب قلبه بصوت حجر، واللدم: الضَّرب، وقال بعضهم: وإنَّما سمِّى التدام النساء من هذا. 42 - [و] قال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فى قوله للذى تخطَّى رقاب النَّاس يوم الجمعة: "رأيتك آذيت وآنيت"

قال: حدَّثناه هشيم، قال: أخبرنا منصور، ويونس، عن الحسن أنَّ رجلاً جاء يوم الجمعة، ورسول [38] الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يخطب، فجعل يتخطىَّ رقاب الناس حتى صلَّى مع النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فلما فرغ من صلاته، قال له: "ما جمَّعت يا فلان؟ فقال: يا رسول الله! أما رأيتنى جمَّعت معك؟ فقال: "رأيتك آذيت، وآنيت". قال الأصمعىُّ: قوله: آنيت: يعنى أخرت المجئ، وأبطأت، قال: ومنه قول الحطيئة: وآنيت العشاء إلى سهيل ... أو الشِّعرى فطال بى الأناء ومنه قيل للمتمكِّث فى الأمور: متأنٍّ.

ويقال: جمعة، وجمعة. 43 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه نهى أن يقال: بالرِّفاء والبنين". قال: حدَّثناه أبو النَّضر هاشم بن القاسم، عن شيخ له قد سمَّاه، عن الحسن، عن عقيل بن أبى طالب، عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال الأصمعىُّ: الرِّفاء يكون فى معنيين، يكون من الاتفاق، وحسن الاجتماع. قال: ومنه أخذ رفء الثَّوب؛ لأنَّه يرفأ، فيضمُّ بعضه إلى بعض، ويلأم بينه ويكون الرِّفاء من الهدوء، والسُّكون، وأنشد لأبى خراش الهذلىِّ: رفونى وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم [رفونى] يقول: سكَّنونى.

[و] قال أبو زيد: الرِّفاء: الموافقة، وهى المرافاة بلا همز، وأنشد: ولمَّا أن رأيت أبا رويم ... يرا فينى، ويكره أن يلاما 44 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه كان إذا مرَّ بهدف مائل، أو صدف مائل أسرع المشى". قال: حدَّثناه ابن عليَّة، عن حجَّاج بن أبى عثمان الصَّوَّاف قال: حدثنا يحيى [39]- ابن أبى كثيرٍ، قال: بلغنى ذلك عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال الأصمعىُّ: الهدف كلَّ شئٍ عظيم مرتفع. [و] قال غيره: وبه شبِّه الرَّجل العظيم، فقيل له هدف، وأنشد:

إذا الهدف المعزال صوَّب رأسه ... وأعجبه ضفو من الثَّلَّة الخطل والثَّلة: جماعة الغنم، والضَّفو: من الضَّافى، وهو الكثير، والخطل: المسترخية الآذان، وبها سمِّى الأخطل. وقال غير الأصمعىِّ: الصَّدف نحو من الهدف، ومنه قول الله -جلَّ ثناؤه-. ["حتَّى إذا] ساوى بين الصَّدفين". 45 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه نهى عن لحوم الجلالة". قال الأصمعىُّ: هى التى تأكل العذرة من الإبل.

وقال: هى الجلَّة [بالفتح، قال]: وأصل الجلَّة: البعر، فكنَّى بها عن العذرة. ويقال منه: خرج الإ ماء يجتللن: إذا خرجن يلتقطن البعر. 46 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فى الغائط: "اتَّقوا الملاعن وأعدُّوا النُّبل". قال: حدَّثناه محمد بن الحسن، عن عيسى بن أبى عيسى الحنَّاط، عن الشَّعبىّ

عمَّن سمع [عن] النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول ذلك. قال الأصمعىَّ أراها كذا -بضمِّ النون، وبفتح الباء- قال: ويقال: تبِّلنى أحجار الاستنجاء: أى أعطنيها، ونبِّلنى [40] عرقًا أى أعطنيه، لم يعرف منه الأصمعىُّ إلَّا هذا. قال [أبو عبيد]: سمعت محمد بن الحسن يقول: النبل: هى حجارة الاستنجاء. قال أبو عبيد: والمحدِّثون يقولون: النَّبل -بالفتح- ونراها إنَّما سمِّيت نبلاً لصغرها، وهذا من الأضداد فى كلام العرب أن يقل للعظام نبل وللصِّغار نبل. قال وحدَّثنى إسحاق بن عيسى [الطَّباع] قال: سمعت القاسم بن معن يقول: إنَّ رجلاً من العرب توفِّى فورثه أخوه إبلاً، فعَّيره رجل بأنَّه قد فرح بموت أخيه؛ لما ورثه، فقال الرَّجل: إن كنت أزننتنى بها كذبًا ... جزء فلا قيت مثلها عجلا

أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودًا شصائصا نبلا والشَّصائص: الَّتى لا أّلبان لها، والنبل فى هذا الموضع: الصِّغار الأجسام، فنرى أنَّه إنَّما سمِّيت حجارة الاستنجاء نبلاً لصغرها. والعرق: القدرة من اللَّحم. 47 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "عائد المريض على مخارف الجنَّة حتَّى يرجع".

قال: حدَّثناه أبو إسماعيل المؤدِّب، عن عاصم الأحول، عن أبى قلابة، عن أبى الأشعث الصَّنعانىِّ، عن أبى أسماء الرَّحبِّى، عن ثوبان رفعه. قال الأصمعُّى: المخاوف واحدها مخرف، وهو جنى النَّخل، وإنَّما سمِّى مخرفًا؛ لأنَّه يخترف منه: أى يجتنى منه. ومنه حديث أبى ضلحة حين نزلت: {من ذا الَّذى يقرض الله قرضًا حسنًا}: قال: "إنَّ لى مخرفًا: وإنِّى قد جعلته [41 [صدقًة". قال: حدَّثناه الأنصارىُّ، عن حميد عن أنس، قال: قال أبو طلحة: "إن لى مخرفًا، وإنِّى قد جعلته صدقًة".

قال: فقال النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "اجعله فى فقراء قومك". قال الأصمعىُّ: وأمَّا قول عمر [-رحمه الله-]: "تركتم على مثل مخرفة النَّعم". فليس من هذا فى شئٍ إنَّما أراد بالمخرفة الطَّريق قال أبو كبير الهذلىُّ: فأجزته بأقلَّ تحسب أثره ... نهجًا أبان بذى فريغ مخرف

أفلَّ: سيف به فلول [وأثره: الوشى الَّذى فيه] ونهجًا ونهجًا [واحد، والنَّهج، أجود]. قال أبو عمرو فى مخارف النَّخل مثله أو نحوه، قال: ويقال منه: اخرف لنا: أى اجن لنا. 48 - وقال أبو عبيد فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- "أنَّه سار ليلًة حتَّى

ابهار الليل، ثم سار حتى تهور الليل."

قال: حدثناه هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت البنانيّ عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قال الأصمعي: قوله ابهار الليل: يعني انتصف الليل، وهو مأخوذ من بهرة الشيء أي وسطه. وقوله: ثم سار حتى تهور الليل: يعني أدبر، وانهدم، كما يتهور البناء وغيره، فيسقط. قال غيره: ومنه قول الله -جل ثناؤه-: "على شفا جرف هار فانهار به". 49 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال للشفاء: "علمىّ حفصة رقية النّملة". قال: حدثناه إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن المنكدر، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الشفاء بذلك:

قال أبو عبيد: قال الأصمعي: هي قروح تخرج في الجنب وغيره. قال: وأما النملة: فهي النميمة [42] يقال: رجل نمل إذا كان نمامًا 50 - [و] قال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه سئل عن الأضبط". قال الأصمعي: هو الذي يعتمل بيديه جميعًا، يعمل بيساره كما، يعمل بيمينه وقال أبو عمرو: مثله. قال أبو عبيد: يقال من ذلك للمرأة ضبطاء، وكذلك كل عامل بيديه جميعا، قال معن بن أوس يصف الناقة: عذا فرة ضبطاء تخدي كأنها ... فنيق غدا يحمى السّوام السّوارحا [قال]: وهو الذي يقال له: أعسر يسر، والمحدثون يقولون: أعسر أيسر

وكذلك يروى أن عمر [بن الخطاب -رضي الله عنه] كان كذلك. 51 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قيل له لمّا نهى عن ضرب النسلء: "ذئر النساء على أزواجهن". يحدث به ابن عيينة، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ذلك. قال الأصمعيّ: يعني نفرن ونثرن، واجترأن. يقال منه: امرأة ذائر على مثال فاعل، مثل الرجل، [و] قال عبيد بن الأبرص:

ولقد أتانا عن تميم أنهم ... ذئروا لقتلى عامر وتغضّبوا يعني نفروا من ذلك، وأنكروه، ويقال: أنفوا. 52 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره". قال أبو عبيد: وفي هذا الحديث اختلاف [وبعضهم يرفعه و] بعضهم لا يرفعه. يقول عن مطرف بن عبد الله بن الشخير. قال الأصمعي: قوله: [ذهب] حبره وسبره: هو الجمال والبهاء. يقال: فلان [43]-حسن الحبر والسبر، وقال ابن احمر، وذكر زمانًا قد مضى: لبسنا حبره حتى اقتضينا ... لأعمال وآجال قضينا

ويروي: حتى اقتنصنا: يعني لبسنا جماله وهيئته. وقال غيره: فلان حسن الحبر والسبر: إذا كان جميلاً حسن الهسئة -بالفتح جميعًا. قال أبو عبيد: وهو عندي بالحبر أشبه؛ لأنه مصدر حبرته حبرًا: أي حسنته. قال الأصمعي: وكان يقال لطفيل الغنوى في الجاهلية المحبّر؛ لأنه كان يحسن الشعر ويحبره. قال: وهو مأخوذ عندي من التحبير، وحسن الخطّ والمنطق. [قال]: والحبار: اثر الشيء، وأنشد: * لا تملأ الدّلو وعرّق فيها * ألا ترى حبار من يسقيها قوله: عرق فيها: أي اجعل فيها ماءً قليلاً، ومنه قيل: طلاء معرّق، [معرق. ويقال: أعرق، وعرق].

وأما الحبر من قول [الله جل ثناؤه: "من] الأحبار والرهبان" فإن الفقهاء يختلفون فيه. فبعضهم يقول: حبر، وبعضهم يقول حبر. وقال الفراء: إنما هو حبر، يقال ذلك: للعالم. قال وإنما قيل: كعب الحبر لمكان هذا الحبر اذلي يكتب به، وذلك أنه كان صاحب كتب. قال الأصمعي: لا أدرى هو الحبر أو الحبر للرجل العالم. 53 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال في عمر [بن الخطاب رحمه اللخ]: "فلم أر عبقريًّا يفرى فريه". قال حدثناه إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمر و، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقري، فقال: يقال: هذا عبقري قوم، كقولك: هذا سيد قوم وكبيرهم [وشديدهم] وقويهم، ونحو من هذا [44] قال أبو عبيد: [و] إنما أصل هذا فيما يقال: أنه نسب إلى عبقر، وهي أرض تسكنها الجن، فصارت مثلاً لكل منسوب إلى شيء رفيع، قال زهير [بن أبي سلمى]: بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يومًا أن ينالوا فيستعلوا وقوله: يفرى فريه، كقولك، يعمل عمله، ويقول قوله، ونحو هذا، وأنشد الأحمر: قد أطعمتي دقلاً حوليّا مسوسّا مدودا حجريّا قد كنت تفرين به الفريا

أي كنت تكثرين فيه القول، وتعظمينه، ومنه قول الله -تبارك وتعالى- " [لقد جئت] شيئا فريا": أي شيئًا عظيمًا. ويقال في عبقر: إنها أرض يعمل فيها البرود؛ ولذلك نسب الوشى إليها، قال ذو الرمة يدكر ألوان الرياض: حتى كأن رياض القفّ ألبسها ... من وشى عبقر تجليل وتنجيد ومن هذا قيل للبسط عبقرية، إنما نسبت إلى تلك البلاد. ومنه حديث عمر: "أنه كان يسجد على عبقري". [قيل له: على بساط؟ قال نعم]. 54 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم:

"وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم". قال: حدثناه يزيد، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير. أسنده "يزيد"، ورواه: يقتل خبطًا -بالخاء قال الأصمعي: الحبط: هو أن تأكل الدابة، فتكثر حتى ينتفخ لذلك بطنها، وتمرض عنه.

يقال منه: [قد] حبطت تحبط حبطًا. وقال أبو عبيدة مثل ذلك أو نحوه. و[قال]: إنما سمى الحارث بن مازن بن تميم الحبط [45]، لأنه كان في سفر، فأصابه مثل هذا، وهو أبو هؤلاء الذين يسمون الحبطات من بنى تميم، فينسب فلان الحبطى. [قال: و] إذا نسبوا إلى الحبط: حبطى، وإلى سلمة: سلمى، وإلى شقرة: شقرى، وذلك أنهم كرهوا كثرة الكسرات، ففتحوا. وأما الذي رواه "يزيد": يقتل خبطًا -بالخاء-، وهذا ليس بمحفوظ، إنّما ذهب إلى التخبط، وليس له وجه. قال أبو عبيد: وأما قوله: أو يلم: فإنه يعني يقرب من ذلك. ومنه الحديث [الآخر] في ذكر أهل الجنة قال: "فلولا أنه شيء قضاه الله له لألمّ أن يذهب بصره". يعني لما يرى فيها، يقول: لقرب أن يذهب بصره.

55 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الحساء: "إنه برتو قؤاد الحزين، ويسرو عن فؤاد السقيم". قال: حدثناه إسماعيل بن إبراهيم، عن محمد بن السائب بن بركة، عن أمه، عن عائشة [-رحمها الله-] عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قال الأصمعي: يعن يبقوله: يرتو [فؤاد الحزين]: يشده ويقويه قال أبو عبيد: ومنه قول "لبيد" يذكر كتيبة، أو درعًا: فخمة ذفراء ترتي بالعرى ... قردمانيا وتركًا كالبصل يعني الدروع أن لها عرًى في أوساطها، فيضم ذيلها إلى تلك العرى، وتشد

لتشمر عن لابسها، فذاك الشد هو الرتو، وهو. معنى قول "زهير": ومفاضة كالنهي تنسجه الصب ... بيضاء كفت فضلها بمهند يعني أنه علق الدرع بمعلاق في السيف. وقوله: يسرو: [أي] يكشف عن فؤاده، ولهذا قيل: سريت الثوب عن [46] الرجل إذا كشفته، ويقال: سريت، سروت، قال "ابن هرمة": سراً ثوبه عنك الصبا المتخايل [وقرب للبين الخليط المزامل]

56 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى أن يستطيب الرجل بيمينه". قال: الاستطابة: الاستنجاء، وإنما سمى استطابة من الطيب. يقول: يطيب جسده مما عليه من الخبث بالاستنجاء. يقال منه: [قد] استطاب الرجل، فهو مستطيب، وأطاب نفسه، فهو مطيب [و] قال "الأعشى" يذكر رجلاً: * يا رخمًا قاظ على مطلوب * يعجل كف الخارئ المطيب

57 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أنه بعث "ابن مربع الأنصاريّ" إلى "أهل عرفة"، فقال: "اثبتوا على مشاعركم هذه، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم". قال [أبو عبيد]: حدثنيه سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن يزيد بن شيبان، قال: "أتانا ابن مربع، ونحن وقوف بالموقف بمكان يباعده "عمرو" فقال: أنا رسول الله إليكم، ثم ذكر ذلك". قال أبو عبيد: الإرث أصله من الميراث [و] إنما هو ورث، فقلبت الواو ألفًا مكسورة لكسرة الواو، كما قالوا للوسادة: إسادًة، وللوشاح: إشاح، وللو كاف:

إكاف، وقال الله -تبارك وتعالى-: "وإذا الرسل أقتت" وأصلها من الوقت، فجعلت الواو ألفًا مضمومًة لضمة الواو، كما كسرت في تلك الأشياء لكسرة الواو [47]، فكأنّ معنى الحديث: أنكم على بقية من ورث إبراهيم، وهو الإرث، وقال الحطيئة [يمدح قومًا]: فإن تك ذا عز حديث فإنهم ذوو إرث مجد لم تخنه زوافره 58 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر أيام التشريق فقال: "إنها أيام أكل وشرب وبعال"

قال [أبو عبيد]: البعال: النكاح، وملاعبة الرجل أهله. يقال للمرأة: هي تباعل زوجها بعالاً ومباعلة: إذا فعلت ذلك معه، وقال "الحطيئة" يمدح رجلاً. وكم من حصان ذات بعل تركتها ... إذا الليل أدجى لم تجد من تباعله يقول: إنك قد قتلت زوجها، أو أسرته. قال "الكسأييّ": أيام أكل وشرب. [قال أبو عبيد]: وكان يحدث فيه بحديث سمعته يخبره عن يحيى بن سعيد -شيخ له- عن جعفر بن محمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعث مناديًا، فنادى في أيام التشريق: "إنها أيام أكل وشرب [وبعال] ". [قال أبو عبيد]: وكذلك كان "الكسائي" يقرأ: "فشاربون شرب الهيم".

59 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر فضل إسباغ الوضوء في السبرات. قال [أبو عبيدة]: السبرة: شدّة البر، وبها سمى الرجل سبرة، وجمعها سبرات، وقال "الحطيئة" يذكر إبله، وكثرة شحومها: عظام مقيل الهام غلب رقابها ... يباكرن حد الماء في السبرات مهاريس يروى رسلها ضيف أهلها ... إذا النار أبدت أوجه الخفرات

يعني شدة الشتاء مع الجدوبة. يقول: فهذه الإبل لا تجزع من برد الماء، لسمنها، واكتناز لحومها. وقد كان ذكر في هذه القصيدة قومه، فنال منهم، ففيها يقول له عمر [رحمه الله] فيما يروى: "بئس الرجل أنت، [48] تهجو قومك، وتمدح إبلك" 60 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن القزع". قال: حدثناه أبو النضر، عن أبي خيثمة، عن عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، يرفعه. قال أبو عبيد: القزع [هو] أن يحلق رأس الصبي، وتترك منه مواضع فيها الشعر متفرقة.

وكذلك كل شيء يكون قطعًا متفرقة، فهو قزع، ومنه قيل لقطع السحاب في السماء قزع. وكذلك حديث علي [-رضي الله عنه-] حين ذكر فتنة تكون، قال: "فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه، فيجتمعون إليه كما يجتمع قزع الخريف". يعني قطع السحاب، وأكثر ما يكون ذلك في زمن الخريف، وقال "ذو الرمة" يذكر ماءً، وبلادًا مقفرًة ليس فيها أنيس، ولا شيء إلا القطا: ترى عصب القطا هملا عليه ... كأن رعالة قزع الجهام والجهام: السحاب الذي لا ماء فيه. 61 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله [-تبارك وتعالى-ي: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتهم عليه".

قال: حدثناه أبو اليقظان عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال "الأحمر" وغيره: قوله: بله معناه: كيف ما أطلعتهم عليه. وقال "الفراء": معناه: كيف ما أطلعتهم عليه، ودع ما أطلعتهم عليه. قال أبو عبيد: وكلاهما معناه جائز، [و] قال في ذلك "كعب بن مالك الأنصاري" يصف السيوف: تذر الجماجم ضاحيًا هاماتها ... بله الأكف كأنها لم تخلق [49] قال "أبو عبيد": والأكف تنشد بالخفض والنصب، والنصب على معنى: دع الأكف. [ودع أجود]، قال "أبو زبيد الطائ": حمال أثقال أهل الود آونة ... أعطيهم الجهد منى بله ما أسمع

وقال "ابن هرمة": تمشي القطوف إذا غنىّ الحداة بها مثى النجيبة بله الجلة النجبا 62 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه بعث سرية أة جيشًا، فأمرهم: "أن يمسحوا على المشاوذ والتساخين" قال: سمعت "محمد بن الحسن" يحدثه عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال: وسمعت يحيى بن سعيد القطان يحدثه بهذا الإسناد [مثله] إلا أن "يحيى" قال: على العصائب والتساخين.

قال: التساخين: الخفاف. والمشاود: العمائم، وأحدها مشوذ، قال "الوليد بن عقبة بن أبي معيط": إذا ما شددت الرأس منى بمشوذ ... فغيك منى تغلب ابنة وائل وكان ولي صدقات "بني تغلب". قال أبو عبيد: والعصائب هي العمائم أيضا، وقال "الفرزدق": وركب كأن الريح تطلب منهم ... لها سلبًا من جذبها بالعصائب يعني أن الريح تنقض لي عمائمهم من شدتها، فكأنها تسليهم إياها

63 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيما سرية غزت فأخفقت كان لها أجرها مرتين". قال: حدثناه مروان بن معاوية، عن إبراهيم بن أبي حصن، عمن حدثه، يرفع الحديث. قال: الإخفاق أن تغزو فلا تغنم شيئا، وقال عنترة يذكر فرسه: فيخفق مرة، ويفيد أخرى .... ويفجع ذا الضغائن بالأريب [50] يقول: إنه يغنم مرة، ولا يغنم أخرى، وكذلك كل طالب حاجة إذا لم يقضها، فقد أخفق يخفق إخفاقًا، وأصل ذلك في الغنيمة. 64 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-:

"من سأل وهو غنى جاءت مسألته يوم القيامة خدوشًا أو حموشًا أو كدوحا في وجهه" قيل: وما غناه؟ قال: "خمسون درهمًا أو عدلها من الذهب". قال: حدثينه الأعجمي، عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن ابن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: الخموش هي مثل الخدوش في المعنى أو نحو منها. يقال: خمشت المرأة وجهها تخمشة خمشًا وخموشًا. قال أبو عبيد: تخمشه وتخمشه جميعًا، قال "لبيد" يذكر نساءً في مأتم عمه "أبي براء": * يخمشن حر أوجه صحاح * في السلب السود وفي الأمساح

قوله: السلب واحدها سلاب، يريد الثياب السود التي تلبسها النساء في المآتم وقوله: كدوحًا يعني آثار الخدوش، وكل أثر من خدش أو عضّ أو نحوه، فهو كدح ومنه قيل لحمار الوحش مكدح: ؛ لأن الحمر يعضضنه. وفي هذا الحديث من الفقه أن الصدقة لا تحل لمن له خمسون درهمًا أو عدلها من الذهب لا يعطى من زكاة، ولا غيرها من الصدقة خاصًة. وقال أبو عبيد في حديث آخر مرفوع: "من سأل [الناس] وله أوقية، فقد سأل الناس إلحافًا". قال: أخبرنيه يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد يرفعه إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو عبيد: فالأوقية أربعون درهمًا [51].

فهذان الحديثان أصل لمن تحل له الصدقة، ولمن لا تحل. قال أبو عبيد: وحدثنا ابو يوسف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، قال: يعطي من الزكاة من له المسكن والخادم، وشك أبو عبيد في الفرس. قال أبو عبيد: وذلك إذا لم يكن به غنى عنه. 65 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في وصىّ اليتيم: "أنه يأكل من ماله غير متأثل مالاً".

قال: حدثناه إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، يسنده قال [أبو عبيد]: المتأثل: الجامع. وكل شيء له أصل قديم أو جمع حتى يصير له أصل، فهو مءثل، ومأثل، قال لبيد [بن ربيعة]. لله نافلة الأجل الأفضل ... وله العلا، وأثيث كل مؤثل وقال "امرو القيس": ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وأثلة الشيء: أصله، وأنشد للأعشى: ألست منتهيًا عن نحت أئلتنا ... ولست ضائرها ما أطت الإبل ومن ذلك حديث عمر [-رضي الله عن-] في أرضه "بخيبر" التي أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحبس أصلها، ويجعلها صدقة، ففعل،

واشترط، فقال: "ولمن وليها أن يأكل منها، ويوكل صديقًا غير متأثل فيه". قال: حدثنيه معاذ، والأنصاري، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنهما قالا: غير متمول، وغيرهما يقول: متأثل. وفي هذا الحديث من الفقه أن الرجل إذا وقف وقفًا، فأجب أن يشترط لنفسه، أو لغيره فيه شرطًا سوى الوجه الذي جعل الوقف [52] فيه، كان له ذلك بالمعروف. ألا تراه يقول: ويؤكل صديقًا. فهذا ليس من الوقف في شيء.

ثم اشترط شرطًا آخر، فقال: غير متأثل، أو قال [غير] متمول فيه، فإنما هو بالقصد والمعروف، وكذلك الشرط على والى اليتيم. 66 - [و] قال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن رجلاً أوصى بنيه، فقال: إذا مت فأحرقوني بالنار، حتى إذا صرت حممًا فاسحقوني، ثم ذروني في الريح لعلى أضل الله".

قال: حدثناه ابن عليه، عن بهز بن حكم، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال أبو عبيد: الحمم: الفحم واحدتها حممة، وبه سمى الرجل حممة، [و] قال "طرفة": أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه [وقوله: أضل الله، يقول: أضل عنه، فلا يقدر على]. 67 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا فرعة، ولا عتيرة".

قال: حدثناه سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، يرفعه. قال أبو عمرو: هي الفرعة والفرع -بنصب الراء- قال: وهو أول ولد تلده الناقة، وكانوا يذبحون ذلك لألهتهم في الجاهلية، فنهوا عنه، وقال أوس بن حجر يذكر أزمًة في سنة شديدة البرد: وشبه الهيدب العبام من ال ... أقوام سقبًا مجللاً فرعا. يعني أنه قد لبس جلده من شدة البرد. ويقال: قد أفرع القوم: إذا فعلت إبلهم ذلك. قال "أبو عبيد": وأما العتيرة: فإنها الرجبية، وهي ذبيحة كانت تذبح في رجب يتقرب بها أهل الجاهلية، ثم جاء الإسلام، فكان على ذلك حتى نسخ بعد. قال "أبو عبيد": ومنه حديث "مخنف بن سليم". قال: حدثينه معاذ، عن ابن عون، قال: حدثني أبو رملة، عن مخنف بز سليم [53] قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:

"إن على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة". قال: والحديث الأول فيما نرى ناسخ لهذا. يقال منه عترت أعتبر عترًا، [و] قال الحارث بن حلزة اليشكرى يذكر قومًا أخذوهم بذنب غيرهم، فقال: عننا باطلاً وظلمًا كما تعـ ... تر عن حجرة الربيض الظباء قوله: عننًا: يعني اعتراضًا. وقوله: كما تعتر: يعني العتيرة في رجب، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا صلب أحدهم أمرًا نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا، وهي العتائر، فإذا ظفر به، فربما ضن بعنمه، وهي الربيض

فيأخذ عددها ظباء، فيذبحها في رجب مكان الغنم، فكانت تلك عتائره، فضرب هذا مثلاً، يقول: أخذتمونا بذنب غيرنا كما أخذت الظباء مكان الغنم. 68 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة بهمًا". قال أبو عمرو: البهم واحدها يهيم، وهو الذي لا يخلط لونه سواه من سواد كان أو غيره. قال "أبو عبيد": فمعناه عندي أنه أراد بقوله: بهمًا، يقول: ليس فيهم شيء من الأعراض والعاهات التي تكون في الدنيا من العمى، والعرج والجذام والبرص، وغير ذلك من صنوف الأمراض والبلاء، ولكنها أجساد مبهمة مصححة لخلود الأبد. وفي بعض الحديث تفسيره: قيل: وما البهم؟ قال: ليس معهم شيء.

قال أبو عبيد: وهذا أيضًا من هذا المعنى. يقول [54]: إنهم أجساد لا يخالطها شيء من الدنيا، كما أن البهم من الألوان لا يخلطه غيره. 69 - [و] قال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان إذا أراد سفرًا ورى بغيره". قال أبو عمرو: [و] التورية: الستر. يقال منه: وريت الخبر أوريه توريه: إذا سترته، وأظهرت غيره.

قال أبو عبيد: ولا أراه إلا مأخوذًا من وراء الإنسان؛ لأنه إذا قال وريته، فكأنه إنما جعله وراءه حيث لا يظهر. قال أبو عليد: وحدثنا ابن عليه، عن داود، عن الشعبي في قول [الله عز وجل]: "ومن وراء إسحاق يعقوب" قال: الوراء: ولد الولد. 70 - [و] قال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية حين صالح "أهل مكة"، وكتب بينه وبينهم كتابا، فكتب فيه: "ألا إغلال ولا إسلال، وأن بينهم عيبة مكفوفة". قال أبو عمرو: الإسلال: السرقة، يقال: في بني فلان سلة إذا كانوا يسرقون. والإغلال: الخيانة. وكان أبو عبيدة يقول:

يقال: رجل مغل مسل: أي صاحب سلة وخيانة. ومنه قول "شريح": "ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان يعني الخائن. وقال "النمر بن تولب" يعاتب امرأته "جمرة" في شيء كرهه منها، فقال: جزى الله عنا جمرة ابنة نوفل ... جزاء مغل بالأمانة كاذب قال أبو عبيد: وأما قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن".

فإنه يروي: لا يغل، ولا يغل. فمن قال: يغل -بالفتح- فإنه يجعله من الغل وهو الضغن والشحناء. ومن قال: يغل -بضم الياء- جعله من الخيانة من الإغلال. وأما الغلول [55] فإنه من المغنم خاصة. يقال منه: قد غل يغل غلولاً، ولا نراه من الأول ولا [من] الثاني. ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة: أغل يغل. ومن الغل: غل يغل. ومن الغلول: غل يغل بضم الغين. فهذه الوجوه مختلفة. قال الله [-عز وجل-]: "وما كان لنبي أن يغل". ولم نسمع أحدًا قرأها بالكسر. وقرأها بعضهم: "يغل"، فمن قرأها بهذا الوجه، فإنه يحتمل معنيين:

أن يكون يغل: يخان: يعني أن يؤخذ من غنيمته. ويكون يغل ينسب إلى الغول. وقد قال بعض المحدثين: قوله: لا إغلال: أراد لبس الدروع، ولا إسلال: أراد سل السيوف. ولا أعرف لهذا وجهًا، ولا أدرى ما هو؟ 71 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-:

"من نوقش الحساب عذب". قال: المناقشة: الاستقصاء في الحساب حتى لا يترك منه شيء. ومنه قول الناس: انتقشت منه جميع حقي، وقال الحارث بن حلزة يعاتب قومًا: أو نقشتم فالنقش يجشمه القوم وفيه الصحلح والأبراء يقول: لو كانت بيننا وبينكم محاسبة ومناظرة عرفتم الصحة والبراءة. [قال]: ولا أحسب نقش الشوكة من الرجل إلا من هذا، وهو استخراجها حتى لا يترك في الجسد منها شيء، قال الشاعر: لا تنقشن برجل غيرك شوكة ... فتقى برجلك رجل من قد شاكها قوله: شاكها: يعني دخل في الشوك.

يقال: شكت الشوك فأننا أشاكه: إذا دخلت فيه. فإن أردت أنه أصابك، قلت: شاكني الشوك، فهو يشوكني شوكًا. وإنما سمى المنقاش؛ لأنه [55] ينقش به، أي يستخرج به الشوك. 72 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إن الجفاء والقسوة في الفدادين". قال أبو عمرو: هي الفدادين -مخففة- واحدها فدان- مشدد- وهي البقر التي تحرث. يقول: إن أهلها أهل قسوة وجفاء، لبعدهم من الأمصار والناس. فال أبو عبيد: ولا أرى "أبا عمرو" حفظ هذا، وليس (الفدادين) من

هذا في شيء، ولا كانت العرب تعرفها، إنما هذا للروم وأهل الشام، وإنما افتتحت الشام بعد النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. ولكنهم الفدادون -بالتشديد- وهم الرجال، والواحد فداد. وقال "الأصمعي": هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم، وأموالهم، ومواشيهم، وما يعالجون منها. وكذلك قال "الأحمر". قال: ويقال منه: فد الرجل يفد فديداً: إذا اشتد صوته [قال]: وأنشدنا * أنبئت أخوالي بني يزيد * ظلمًا علينا لهم فديد وكان أبو عبيدة يقول غير ذلك كله. قال: الفدادون: المكثرون من الإبل الذي يذك أحدهم المائتين منها إلى الألف يقال له: فداد إذا بلغ لك، وهم مع هذا جفاة أهل خيلاء.

قال أبو عبيد: ومنه الحديث الذي يروى أن الأرض إذا دفن فيها الإنسان قالت له: "ربّما مشيت على فدادًا ذا مال كثير وذا خيلاء". قال أبو عبيد: وفي حديث آخر عن زياد بن أبي زياد الجصاص، عن الحسن، عن قيس بن عاصم المنقرى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الأول أنه قال: "إلا من أعطى في نجدتها ورسلها" [57] قال أبو عبيدة: فنجدتها أن تكثر شحومها، وتحسن حتى يمنع ذلك

صاحبها أن ينحرها نفاسة بها، فصار ذلك بمنزلة السلاح لها تمتنع به من ربها، فتلك نجدتها. وقد ذكرت العرب ذلك في أشعارها، قال "النمر بن تولب": أيام لم تأخذ إلى رماحها ... إبلى بجلتها ولا أبكارها فجعل شحومها وحسنها رماحًا نمتنع بها من أن تتسر. وقال "الفرزدق" يذكر أنه نحر إبله [على عجلة]: فمكنت سيفي من ذوات رماحها ... غشاشًا ولم أحفل بكاء وعائيا [قوله غشاشًا: يعني على عجلة] [وقال أبو عبيدة]: وأما قوله: رسلها فهو أن يعطيها، وهي تهون عليه؛

لأنه ليس فيها من الشحوم، والحسن ما يبخل به، فهو يعطيها رسلاً، كقولك: جاء فلان على رسله، وتكلم بكذا وكذا على رسله: أي مستهينًا به. [قال أبو عبيد]: فمعنى الحديث، أنه أراد: من أعطاها في هاتين الحالتين في النجدة والرسل: أي على مشقة من النفس، وعلى طيب منها، وهذا كقولك: في العسر واليسر، والمنشط والمكره. قال أبو عبيد: ظن بعض الناس أن الرسل ها هنا اللبن، وقد علمنا أن الرسل اللبن، ولكن ليس هذا بموضعه، ولا معنى له أن يقول: في نجدتها ولبنها، وليس هذا بشيء. 73 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-:

"أنه نهى عن المجر". قال: حدثنيه زيد بن الحباب، عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عسر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو زيد: المجر: أن يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة. يقال منه: أمجرت في البيع إمجارًا. قال أبو عبيد: [و] قال أبو عمرو: والغدوى: أن يباع البعير أو غيره بما يضرب هذا الفحل في عامه، [قال]: وأنشدني للفرزدق يذكر قومًا [58]:

ومهور نسوتهم إذا ما أنكحوا ... غدوى كل هبنقع سبال وقال غير "أبي عمرو": غدوى- بالذال-. قال أبو عبيد: وأما حديثه أنه: "نهى عن [بيع] الملاقيح والمضامين" فإن الملاقيح ما في البطون، وهلا الأجنة، والواحدة منها ملقوجة، وأنشدني، "الأحمر"، "لما لك بن الريب": * إنا وجدنا طرد الهوامل * خيرًا من التأنان والمسائل * وعدة العام وعام قابل * ملقوحة في بكن ناب حائل

يقول: هي ملقوحة فيما يظهر لي صاحبها، وإنما أمها حامل، فالملقوحة هي الأجنة التي في بطونها. وأما المضامين: فما في أصلاب الفحول، [و] كانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة، وما يضرب الفحل في عامه، أو في أعوام. [قال أبو عبيد]: وأما حديثه: أنه "نهى عن حبل الحبلة". فإنه ولد ذلك الجنين الذي في بطن الناقة. قال: "حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نهى عن بيع حبل الحبلة". قال ابن علية: هو نتاج النتاج.

[قال أبو عبيد]: والمعنى في هذا كله واحد، أنه غرر، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه البيوع كلها؛ لأنها غرر. 74 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرحم، قال: "هي شجنة من الله". قال "أبو عبيدة": يعني قرابة مشتبكة كاشتباك العروق. قال أبو عبيد: وكأن قولهم: "الحديث ذو شجون" منه، إنما هو تمسك بعضه ببعض. وقال غيره من أهل العلم: يقال: هذا شجر متشجن: إذا التف بعضه ببعض، وهو من هذا. قال: وأخبرني يزيد بن هارون، عن حجاج بن أرطاة: قال: الشجنة كالغصن [59] يكون من الشجرة، أو كلمة نحوها.

قال أبو عبيد: وفيه لغتان شجنة وشجنة، وإنما سمى الرجل شجنة بهذا. 75 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن الإقعاء في الصلاة" [حدثنا يزيد بن هارون، وابن أبي عدى، أو أحدهما، عن حسين المعلم، عن بديل ابن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-]. وقال "أبو عبيدة": الإقعاء: جلوس الرجل على إليتيه ناصبًا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع.

قال أبو عبيد: وأما تفسير أصحاب الحديث، فإنهم يجعلون الإقعاء: أن يضع الرجل أليتيه على عقبيه بين السجدتين. وهذا عندي هو الحديث الذي فيه عقب الشيطان الذي جاء فيه النهي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن "عمر": "أنه نهى عن عقب الشيطان". قال أبو عبيد: وتفسير أبي عبيدة في الإقعاء أشبه بالمعنى؛ لأن الكلب إنما يقعى كما قال. وقد روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أكل مقعيًاش فهذا يبين لك أن الإقعاء هو هذا، وعليه تأويل كلام العرب

وأما القرفصاء: فإنه أن يجلس الرجل كجلوس المحتبي، ويكون احتباؤخ بيديه يضعهما على ساقيه، كما يحتبى الثوب تكون يداه مكان الثوب، وهذا في غير صلاة ومما يبين [لك] أن عقب الشيطان هو أن يجلس الرجل على عقبيه حديث يروى عن "عمر" [رحمة الله] حدثنا عمر بن سعيد، عن محمد بن شعيب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري بن هشام، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن "عمر" قال: "لا تسدلوا ثيابكم في الصلاة، ولا تخطوا نحو القبلة، فإنها خطوة الشيطان، وإذا سلمتم فانصرفوا، ولا تقدموا". 76 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كتب لوائل بن حجر الحضرميّ" ولقومه:

من محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى الأقيال العباهلة من "أهل حضر موت" بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة على التّيعة شاة، والتيمة لصاحبها، وفي السيوب الخمس، لا خلاط، ولا وراط، ولا شناق، ولا شعار، ومن أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام". قال حدثناه سعيد بن عفير، عن ابن لهيعة، عن أشياخه من "حضر موت" يرفعونه. وقال: حدثنيه: يحيى بن بكير، عن بقية، يسنده. قال "أبو عبيدة" وغيره من أهل العلم -دخل كلام بعضهم في بعض، في الأقيال العباهلة. قال: الأقيال: ملوك باليمن دون الملك الأعظم، وأحدهم قيل، يكون ملكًا على قومه، ومخلافه، ومحجره. والعباهلة: الذين قد أقروا على ملكهم لا يزالون عنه، وكذلك كل شيء أهملته فكان مهملاً لا يمنع مما يريد، ولا يضرب على يديه، فهو معبهل ومتعبهل، قال تأبّط شرّا:

متى تبغني ما دمت حيًّا مسلمًا ... تجدني مع المسترعل المتعبهل فالمسترعل: الذي يخرج في الرعيل، وهي الجماعة من الخيل وغيرها. والمتعبهل: الذي لا يمنع من شيء، وقال الراجز يذكر الإبل أنها قد أرسلت على الماء ترده، كيف شاءت، فقال: عباهل عبهلها الوارد وقوله: في التيعة شاة، فإن التيعة الأربعون من الغنم. والتيمة، يقال: إنها الشاة الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى. ويقال: إنها الشاة تكون لصاحبها في منزله يحتلبها، وليست بسائمة، وهي الغنم الربائب التي يروى فيها عن "إبراهيم" أنه قال: "ليس في الربائب صدقة". قال: حدثناه "هشيم" عن "مغيرة" عن "إبراهيم" أنه كان لا يرى في الربائب صدقة.

[و] قال أبو عبيد: وربما احتاج صاحبها إلى لحمها، فيذبحها، فيقال عند ذلك: قد تام الرجل [61] واتّامت المرأة، [و] قال الحطيئة يمدح "آل لأى": فما تتّام جارة آل لأي ولكن يضمنون لها قراها يقول: لا تحتاج إلى أن تذبح تيمتها. [و] قال: والسيوب: الركاز. [قال]: ولا أراه أخذ إلا من السيب وهو العطية، يقول هو من سيب الله [-عز وجل- ومن] عطائه. و[أما] قوله: لاخلاط ولا وراط: فإنه يقال: إن الخلاط إذا كان بين الخليطين عشرون ومائة شاة: لأحدهما ثمانون، وللآخر أربعون، فإذا جاء المصدق، فأخذ منها شاتين، رد صاحب الثمانين على صاحب الأربعين -أراه قال- ثلث شاة، فتكون عليه شاة وثلث، وعلى الآخر ثلثا شاة.

وإن أخذ المصدق من العشرين والمائة شاة واحدة رد صاحب الثمانين على صاحب الأربعين ثلث شاة، فتكون عليه ثلثا شاة، وعلى الآخر ثلث شاة. هذا قوله: لا خلاط. قال أبو عبيد: والقول فيه عندي أنه لا يأخذ من العشرين والمائة إذا كانت بين نفسين أو ثلاثة إلا شاة واحدة؛ لأنه إن أخذ شاتين، ثم ترادّا كان قد صار على صاحب الثمانين شاة وثلث، وهذا خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل في عشرين ومائة إذا كانت ملكًا لواحد شاة، وهؤلاء يأخذون من صاحب الثمانين شاة وثلثًا. وهذا في المشاع والمقسوم سواء، [عندي] إذا كانا خليطين، أو كانوا خلطاء. فهذا تفسير قوله: لا خلاط، وهو تفسير قوله في الحديث الآخر: "وما كان من خليطين، فإنهما يترادّان بينهما بالسوية".

والوارط: الخديعة والغش. ويقال: إن قوله: لا خلاط ولا وراط كقوله: لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع. وقوله: لا شناق: فإن الشنق ما بين الفريضتين [62] وهو ما زاد من الإبل على الخمس إلى العشر، وما زاد على العشر إلى خمس عشرة. يقول: لا يؤخذ من ذلك شيء. وكذلك جميع الأشناق [يعني في الصدقة والدّيات]، وقال "الأخطل" يمدح رجلا: قرم تعلق أشناق الديات به ... إذا المئون أمرت فوقه حملا

وقوله: من أجى فقد أربى، فالإجباء: بيع الحرث قبل أن يبدو صلاحه. 77 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه دخل على عائشة [رضي الله عنها] وعلى الباب قرام: ستر". ال: القرم: الستر الرقيق، فإذا خيط فصار كالبيت، فهو كلة، وقال "لبيد" يصف الهودج: من كل محفوف يظل عصيه ... زوج عليه كلة وقرامها فالعصي: عيدان الهودج، والزوج: النمط، ويقال للستر الرقيق أيضًا: الشف، وكذلك كل ثوب رقيق يستشف ما خلفه، فهو شف. ومنه حديث "عمر": "لا تلبسوا نساءكم الكتان، أو قال: القباطيّ، فإنه إلا يشف، فإنّه يصف".

يقول: إن لم ير ما خلفه، فإنه يصف خلقها لرقته. ومنه حديث "ابن عباس" قال: أخبرني به أبو معاوية، عن أبي حيان التيمى، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: "رأيت على ابن عباس ثوبًا سابريّا أستشف ما وراء" وجمع الشف شفوف، [و] قال "عدى بن زيد": زانهن الشفوف ينضحن بالمس ... ك وعيش مفانق وحرير: 78 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا سافر سفرًا، قال: "اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكون، وسوء المنظر في الأهل والمال".

قال: حدثنيه عباد بن عباد، وأبو معاوية، عن عاصم الأحوال، عن عبد الله [63] بن سرجي المخزومي، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. أما قوله: من وعثاء السفر: فإن الوعثاء شدة النصب والمشقة، وكذلك هو في المأثم، قال "الكميت" يعاتب "جذامًا" على انتقالهم بنسبهم من "خزيمة ابن مدركة". وكان يقال: نه جذام بن أسدة بن خزيمة أخي أسد بن خزيمة، فانتقلوا إلى اليمن فيما أخبرني "ابن الكلبي" فقال "الكميت": وأين أبنها منا ومنكم وبعلها ... خزيمة والأرحام وعثاء حوبها يقول: إن قطيعة الرحم مأثم شديد وإنما أصل الوعثاء من الوعث، وهو الدهس والمشي يشتد فيه على صاحبه فصار مثلا لكل ما يشق على فاعله.

وقوله: وكآبة المنقلب، يعني أن ينقلب من سفره إلى منزله بأمر يكتئب منه، أصابه في سفره، أو مما يقدم عليه. وقوله: الحور بعد الكون: هكذا يروى بالنون. قال: وأخبرني عباد بن عباد، قال: سئل "عاصم" عن هذا، فقال: ألم تسمع قوله: حار بعد ما كان؟ يقول: إنه [كان] على حال جميلة، فحار عن ذلك، أي رجع. وهو في غير هذا الحديث: الكور - بالراء-. وزعم "الهيثم" أن "الحجاج بن يوسف" بعث فلانًا -قد سماه- على جيش، وأمره عليهم إلى الخوارج، ثم وجهه بعد ذلك إليهم تحت لواء غيره، فقل له الرجل: هذا الحوار بعد الكور. فقال له "الحجاج": ما قولك: الحور بعد الكور؟ فقال: النقصان بعد الزيادة. ومن قال هذا أخذه من كور العمامة، يقول: قد تغيرت حاله، وانتقضت

كما ينتقض كور العمامة بعد الشد، وكل هذا قريب بعضه من [64] بعض في المعنى. 79 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يصّلى، ولجوفه أزير كأزيز المرجل من البكاء". قال: حدثني ابن مهديّ، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخير، عن أبيه، أنه رأى ذلك من النّبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: الأزيز، يعني غليان جوفه بالبكاء، وأصل الأزيز الالتهاب والحركة. وكأن قوله [عز وجل]: "إنّا أرسلنا الشّياطين تؤزهم أزا" من هذا، أي تدفعهم وتسوقهم، وهو من التحريك.

80 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أنه رأى في إبل الصدقة ناقًة كوماء، فسأل عنها، فقال المصدّق: إنّى ارتجعتها بإبل فسكت". قال: حدثناه هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلا أن هتسيمًا، قال: أخذتها، وقال غيره: ارتجعتها بإبل. قال أبو عبيدة: الارتجاع أن يقدم الرجل المصر بإبله، فيبيعها، ثم يشترى

بثمنها مثلها، أو غيرها، فتلك هي الرجعة التي ذكرها "الكميت" [في شعره] وهو يصف الأثافى، فقال: جرد جلاد معطّفات على الـ ... أورق لا رجعة ولا جلب وإن ردّ إبلة إلى منزله من غير أن يشتري بها شيئًا، فليس برجعة. وكذلك هذا في الصدقة إذا وجبت على رب المال أسنان من الإبل، فأخذ المصدّق مكانها أسنانًا [65] فوقها، أو دونها، فتلك التي أخذ رجعة؛ لأنه ارتجعها من التي وجبت على ربّها. 81 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مشا أمتى المطيطاء، وخدمتهم "فارس" و"الروم" كان بأسهم بينهم".

[قال أبو عبيد]: وهذا الحديث حدثينه الحجّاج [بن محمد]، عن الفرج ابن فضالة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، يرفعه. قال "الأصمعي" وغيره: المطيطاء: التبختر، ومد اليدين في الممشى، والتمطة من ذلك؛ لأنه إذا تمطى مد يديه. ويروى في تفسير قوله [جل وعز]: "ثم ذهب إلى أهله يتمطّى" أنه التبختر، ويقال للماء الخاثر في أسفل الحوض: المطيطة؛ لأنه يتمطط: يعنى يتمدد، وجمعه مطائط. [و] قال حميد الأرقط: * خبط النهال سمل المطائط ومن جعل التمطى من المطيطة، فإنه يذهب بها مذهب تظنيت من الظن، وتضقيت من التقضض، كقول "العجاج": * تقضى البازى إذا البازى كسر يريد تقضض البازى، وكذلك يقول: التمطّى، يريد التمطّط.

82 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى أن يبال في الماء الدائم، ثم يتوضّأ منه". قال: حدثناه "أبو يوسف" عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قال: وحدثناه، يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى أن يبال في الماء الرّاكد، وأن يغتسل فيه من جنابه". قال "الأصمعى" وبعضه عن "أبي عبيدة": الدائم: هو الساكن، وقد دام الماء يدوم، و [قد] أدمته أنا إدامًة: إذا سكنته، وكل شيء سكنته، فقد أدمته، وقال الشاعر:

تجيش علينا قدرهم، فنديمها ... ونفثؤها عنا إذا جميها غلا قوله: فنديمها: نسكنها، ونفثؤها: نكسرها بالماء أو غيره. وهذا مثل ضربة، [أي] إنا نطفئ شرهم عنا. ويقال للطائر: إذا صف جناحيه في الهواء وسكنهما، ولم يحركهما كطيران الحدإ والرخم: قد دوم الطائر تدويمًا، وهو من هذا أيضًا؛ لأنه إنما سمى بذلك لسكونه، وترك الخفقان بجناحيه. 83 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن لبس القسىّ".

قال: حدثنى به يزيد، عن محمد بن عمرو، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن "علّى" يرفعه. قال [أبو عبيد]: وحدثني القاسم بن مالك، عن عاصم بن كليب، عن أبي بردة، نحو حديث "يزيد". قال "عاصم": فسألنا عن القسي، فقيل: هي ثياب يؤتي بها من "مصر" فيها حرير وكان "أبو عبيدة" يقول: نحوًا من ذلك، [ولم يعرفها الأصمعي]. وأصحاب الحديث يقولون: القسي. قال أبو عبيد: أما أهل مصر فيقولون: القسي تنسب إلى بلاد يقال لها القس وقد رأيتها. وقال الأصمعى: وأمّا الخمائص، فإنّها ثياب من خز أو صوف معلم، وهي سود كانت من لباس النّاس. قال: والمسانق: فراء طوال الأكمام واحدتها مستقة، قال: وأصلها بالفارسية مشتة، فعربت.

وعن "أبي عبيدة" قال: وأما المروط، فإنها أكسية من صوف أو خزّ كان، يؤتزر بها. قال "الأصمعي": وأما المطارف، فإنها أردية خز مربعة لها أعلام. قال أبو عبيد: [67] فإذا كانت مدورة على خلقة الطيلسان، فهي التي كانت تسمى الجنية، وتلبسها النساء. [و] قال "الأمويّ": والقراقل: فمص النساء، واحدها قرقل، وهو الذي يسميه الناس قرقرًا. وقال "الكسائي": والثياب الممشقة هي المصبوغة بالمضق، وهو المغرة قال: والثياب الممصرة هي التي فيها شيء من صفرة ليس بالكثير. وقال "أبو زيد الأنصاري": والسيراء: برود يخالطها الحرير. وقال غير هؤلاء: القهز ثياب بيض يخالطها حرير أيضًا، وقال "ذو الرمة"

يصف البزاة، أو الصقورة بالبياض، فقال: من الزرق أوصقع كأن رؤوسها ... من القهر والقوهى بيض المقانع قال "أبو عبيد": وأما المياثر الحمر التي جاء فيها النهي، فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير. وأما الحلل: فإنها برود اليمن من مواضع مختلفة منها. والحلة إزار ورداء، لا تسمى حلة حتى تكون ثوبين؛ ومما يبين ذلك حديث "عمر" أنه رأى رجلا عليه حلة قد ائتزر بأحدهما، وارتدى بالأخرى فهذان ثوبان. ومن ذلك حديث "معاذ بن عفراء" أن "عمر" [-رحمه الله-] بعث إليه بحلة، فباعها، واشترى بها خمسة أرؤس من الرقيق، فأعتقهم، ثم قال: إن رجلاً آثر قشرتين يلبسها على عتق هؤلاء لغبين الرأي ...

قال: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن ابن سيرين، عن أفلح -مولى أبي أيوب- أن عمر بعث إلى "معاذ بن عفراء" بحلة. قال "أفلح": تأمرني أن أبيعها، وأشترى بها رقيقًا، فبعتها، واشتريت له خمسة [68] أروس، قال: فأعتقهم، ثم قال: إن رجلا اختار قشرتين على عتق هؤلاء لغبين الرأي". فقال: قشرتين: يعني ثوبين. 84 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أ، هـ نهى عن المحاقلة والمزابتة". قال: حدثناه هشيم، قال: أخبرنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن المحاقلة والمزابنة".

قال [أبو عبيد]: سمعت غير واحد ولا اثنين من أهل العلم ذكر كل واحد منهم طائفة من هذا التفسير. قالوا: المحاقلة [والحقل]: بيع الزرع، وهو في سنيله بالبر، وهو مأخوذ من الحقل، والحقل: هو الذي يسميه أهل العراق "القراح"، وهو في مثل يقال-: "لا تنبت البقلة إلا الحلقة". قالوا: والمزابنة: بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر. وإنما جاء النهي في هذا؛ لأنه في الكيل، وبس يجوز شيء من الكيل والوزن إذا كانا من جنس واحد إلا مثلاً بمثل، ويداً بيد، وهذا مجهول لا يعلم أيهما أكثر. [قال]: ورفض في العراب. قال: والعرايا: واحدتها عرية، وهي التخلة يعربها صاحبها رجلاً محتاجاً. والإعراء: أن يجعل له ثمرة عامها.

يقول: فرخص لرب النخل أن يبتاع ثمر تلك النخلة من النعرى بتمر لموضع حاجته. وقال بعضهم: بل هو الرجل تكون له نخلة وسط نخل كثير لرجل آخر، فيدخل رب النخلة إلى نخلته، فربما كان مع صاحب النخل الكثير أهله في النخل، فيؤذيه بدخوله، فرخص لصاحب النخل الكثير أن يشتري ثمر تلك النخلة من صاحبها قبل أن يجده يتمر؛ لئلا يتأذى به. قال "أبو عبيد" والتفسير الأول أجود؛ لأن هذا ليس فيه إعراء، إنما هي نخلة يملكها ربها؛ فكيف تسمى عرية؟ ومنه الحديث [96] الآخر أنه كان يأمر الخراص أن يخفضوا في الخرص، ويقول: "إن في المال العربة والوصية"

قال: حدثناه يزيد، عن جرير بن حازم، عن قيس بن سعد، عن "مكحول" قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث الخراص، قال: "خففوا في الخرص، فإن في المال العرية والوصية". ومما يبين ذلك قول شاعر الأنصار يصف النخل: ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح يقول: إنا نعريها الناس. وحديثه "أنه نهى عن المخابرة" قالوا: هي المزارعة بالنصف، والثلث، والربع، وأقل من ذلك، وأكثر

وهو "الخبر" أيضًا وكان "أبو عبيدة" يقول: لهذا سمى الأكار الخبير؛ لأنه يخابر الأرض، والمخابرة هي الموأكرة. قال: ولهذا سمى الأكار؛ لأنه يؤاكر الأرض. [قال]: وأما حديثه: "أنه نهى عن المخاضرة"- فإنه نهى [عن] أن تياع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وهي خضر بعد، ويدخل في المخاضرة أيضًا بيع الرطاب والبقول وأشباهها، ولهذا كره من كره بيع الرطاب أكثر من جزة واحدة. وهذا مثل حديثه "أنه نهى عن بيع الثمر قبل أن يزهو، وزهوه أن يحمر أو يصفر".

قال أبو عبيد: حدثني عمر بن يونس بن القاسم اليمامي، عن أبيه، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن "أنس"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن المخاضرة" [قال أبو عبيد]: وفي حديث آخر أنه: "نهى عن بيعة قبل أن يشقح] والتشقيح هو الزهو أيضًا، وهو معنى قوله: "حتى يأمن من العاهة" والعاهة الآفة تصيبه. وأما حديثه الآخر: "أ، هـ نهى عن المنابذة والملامسة" ففي كل واحد منهما قولان: أما المنابذة: فيقال: إنها أن يقول الرجل [70] لصاحبه: انبذ إلى الثوب أو غيره من المتاع، أو أنبذه إليك، وقد وجب البيع بكذا وكذا. ويقال: إنما هو أن يقول الرجل: إذا نبذت الحصاة، فقد وجب البيع، وهو معنى قوله: "أنه نهى عن بيع الحصاه". والملامسة: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك، فقد وجب البيع

بكذا وكذا. ويقال: بل هو أن يلمس [الرجل] المتاع من وراء الثوب، ولا ينظر إليه، فيقع البيع على ذلك. وهذه بيوع كان أهل الجاهلّة يتبايعونها، فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها؛ لأنها غرر كلّها. 85 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "خير ما تداويتهم به اللدود، والسّعود، والحجامة، والمشي". قال: حدثناه يزيد، عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس، يرفعه. قال "الأصمعي": اللدود: ما سقى الإنسان في أحد شثّي الفم.

ومنه الحديث الآخر: "أنه لد في مرضه -صلى الله عليه وسلم- وهو مغمًى عليه، فلمّا أفاق، قال: لا يبقى في البيت أحد إلا لد، إلا عمى العباس" قال أبو عبيد بفنرى -والله أعلم- أنه [إنمّا] فعل ذلك عقوبًة لهم؛ لأنهم فعلوه من غير أن يأمرهم به. قال "الأصمعي": وإنمّا أخذ اللدود من لديدي الوادي، وهما جانباه، ومنه قيل للرجل: هو يتلدد: إذا التفت عن جانبيه يمينًا وشمالا. ويقال: لددت الرجل ألأده لدا: إذا سقيته ذلك. وجمع اللدود ألدة، [و] قال عمرو بن أحمر الباهلي: شربت الشكاعي والتددت ألدًة ... وأقبلت أفواه العروق المكاويا فهذا هو اللدود. وأما الوجور: فهو في وسط الفم [71]

86 - وقال "أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في صلح "أهل نجران": "أنه ليس عليهم ربية ولادم" [و] هكذا الحديث -بتشديد الباء والياء-. قال [أبو عبيد و] بلغى ذلك عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار. قال "الفراء": إنما هي ربية -مخففة- أراد بها الرّبا. قال أبو عبيد: يعنى أنه صالحهم على أن وضع عنهم الرّبا الذي كان عليهم في الجاهلّية والدّماء التي كانت عليهم يطلبون بها. قال "الفراء": ومثل ربية من الربا: حبية من الاحتباء سماع من العرب.

يعني أنهم [قد] تكلموا بها بالياء، فقالوا: ربية، وحبية، ولم يقولوا: حبوة، وربوة، وأصلهما الواو من الحبوة والربوة. قال أبو عبيد: والذي يراد من [هذا] الحديث أنه أسقط عنهم كل دم، كانوا يطلبون به [في الجاهلية]، وكل ربًا كان عليهم إلا رؤوس الأموال، فإنهم يردونها كما قال الله [عز وجل]: "فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون، ولا تظلمون" وهذا مثل حديثه الآخر: "ألا إنّ كل دم، ومال، ومأثرة كانت في الجاهلية، فإنها تحت قدمي هاتين إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج". يعني أنه أقرهما على حالهما.

والسدانة في كلام العرب: الحجابة، والسادن: الحاجب. وهم السدنة للجماعة. 87 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الناس مؤمن مزهد". قال: حدثناه "أبو معاوية" عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر شيئًا في المملوك، إذا أطاع الله، وأطاع مواليه. قال: فذكرت ذلك "لكعب" فقال: "ليس عليه حساب، ولا مؤمن مزهد". قال "الأصمعي" أو "أبو عمرو" [72]- وأكبر ظني أنه الأصمعي-: المزهد: القليل الشيء؛ وإنما سمى مزهدًا؛ لأن ما عنده يزهد فيه ما قلته. يقال منه: قد أزهد الرجل إزهادًا: إذا كان كذلك، قال "ألأعشى" يمدح قومًا.

بحسن محاورتهم جارة لهم. فقال. فلن يطلبوا سرها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها فالسر هو النكاح [ها هنا]. قال [الله]- تبارك وتعالى-: " [ولكن] لاتوا عجوهن سرّا". وقال امرو القيس [بن حجر]: ألا زعمت بسباسة اليوم ... كبرت، وألا يشهد السر أمثالي فأراد "الأعشى": أنهم لا يتزوجونها لعناها، ولا يتركونها لقلة مالها، وهو الإزهاد. 88 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "خمروا آنيتكم، وأوكوا أسقيتكم، وأجيفوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح،

وأكفتوا صبيانكم، فإن للشياطين انتشارًا وخطفة". يعنى بالليل. قال: حدّثينه عباد بن عباد، عن كثير بن شنظير، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، يرفعه. قال "ألأصمعي" و "أبو عمرو": قوله: خمروا آنيتكم: التخمير: التغطية. ومنه الحديث الآخر: "أنه أتى بإناء من لبن، فقال: لولا خمرته، ولو بعود تعرضه عليه".

قال "الأصمعي": تعرضه [-بضم الراء-]. قال "الأصمعي" و "أبو عمرو": وقوله: وأوكوا أسقيتكم: الإيكاء: الشد، واسم السير أو الخيط الذي يشد به السقاء: الوكاء. ومنه حديث اللقطة: "واحفز عفاصها ووكاءها، فإن جاء ربها، فادفعها إليه". وقوله: واكفثوا صبيانكم: يعني ضموهم إليكم، واحبسوهم في البيوت [73] وكل شيء ضممته إليك، فقد كفتّه، ومنه قول "زهير" يصف الدرع، وأن صاحبها ضمها إليه، فقال: ومفاضة كالّنهي تنسجه الصبا ... بيضاؤ كفت فضلها بمهند

واللنهى جميعا. يعني أنه علقها بالسيق، فضمها إليه، وقال الله -تبارك وتعالى-: "ألم تجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتا". يقال: إنّها تضمهم إليها ما داموا أحياء على ظهرها، فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها. قال: وأخبرني إسماعيل بن مجالد بن سعيد، عن "بيان" قال: كنت أمشى مع "الشعبي" يظهر الكوفة، فالتفت إلى بيوت الكوفة، فقال: هذه كفات الأحياء، ثم التفت إلى المقبة، فقال: وهذه كفات الأموات. يريد تأويل قوله: "ألأم نجعل الأرض كفاتًا. أحياء وأمواتًا". وفي حديث آخر: "ضموا فواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء". [وأما المحدثون، فيقولون: قحمة].

[و] قوله: الفواشي: كل شيء منتشر في المال مثل الغنم السائمة والإبل وغيرها. وقوله: حتى تذهب فحمة العشاء: يعني شدة سواد الليل وظلمته، وإنما يكون ذلك في أوله، حتى إذا سكن فورة قلت الظلمة. وقال "الفراء": يقال: فحموا عن العشاء، يقول: لا تسيروا في أوله حين تفور الظلمة ولكن أمهلوا حتى يسكن ذلك، وتعتدل الظلمة، ثم سيروا، [و] قال "لبيد": واضبط الليل إذا طال السرى ... وتدجى بعد فور واعتدل 89 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر المظالم التي وقعت فيها "بنو إسرائيل" والمعاصي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يدى الظالم، وتأطروه على الحق أطرًا" [قال "أبو عمرو" وغيره [74]: قوله: تأطروه، يقول: تعطفوه عليه،

وكل شيء عطفته على شيء، فقد أطرته: تأطره أطرًا، قال "طرفة" يصف ناقة، ويذكر ضلوعها: كأن كناسي ضالة يكنفانها ... وأطر قسى تحت صلب مؤيد شبه انحناء الأضلاع بما حنى من طرفي القوس، وقال المغيرة بن حبناءء التميمي: وأنتم أناس تقصمون من القنا ... إذا مار في أكتافكم وتأطرا يقول: إذا تثنى فيها. 90 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لي خمسة أسما: أنا محمد، وأحمد، والماحي: يمحو الله بي الكفر، والحاشر: أحشر الناس على قدمي، والعاقب". قال: حدثينه "يزيد" عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قال يزيد: فسألت "سفيان" عن العاقب؟ فقال: آخر الأنبياء. قال أبو عبيد: وكذلك كل شيء خلف بعد شيء فهو عاقب [له].

وقد عقب يعقب عقبًا وعقوبًا، ولهذا قيل لولد الرجل بعده: هو عقبه. وكذلك آخر كل شيء عقبه. ومنه حديث "عمر" [-رحمه الله-]: أنه سافر في عقب رمضان، فقال: "إن الشهر قد تسعسع، فلو صمنا بقيته". قال "الأصمعي": يقال: فرس ذو عقب: إذا كان باقي الجرى. وكذلك العاقبة من كل شيء آخره، وهي عواقب الأمور. قال أبو عبيد: ويروى عن "أبي حازم" أنه قال: "ليس لملول صديق، ولا لحسود غنًى، والنظر في العواقب تلقيح للعقول". 91 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان في سفر، ففقدوا الماء. فأرسل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "علّيا" وفلانًا يبغيان الماء، فإذا هما بامرأة على بعير لها بين مزادتين [75] أو سطحتين، فقالا لها: انطلقي إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.

فقالت: إلى هذا الذي يقال له الصابئ؟ قالا لها: هو الذي تعنين". قال: حدثينه مروان الفزاري، عن عوف، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران ابن حصين، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قال "الأصمعي"، وبعضه عن "الكسائي" و "أبي عمرو" وغيرهم: قوله: بين مزادتين: المزادة هي التي تسميها الناس الرّاوية.

وإنمّا الرّاوية: البعير الذي يستقى عليه [الماء]، وهذه هي المزادة. والسطحية نحوها أصغر منها هي من جلدين، والمزادة أكبر منها. والشعيب: نحو من المزادة. قال أبو عبيد: وأما قولها: الصابئ: فإن الصابئ عند العرب الذي قد خرج من دين إلى دين. يقال: [قد] صبأت في الدين: إذا خرجت منه، ودخلت في غيره، ولهذا كان المشركون يقولون للرجل إذا أسلّم في زمن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: قد صبأ فلان.

ولا أظن الصابئين سموا إلا من هذا؛ لأنهم فارقوا دين اليهود والنصارى، وخرجوا منهما إلى دين ثالث -والله أعلم-. وفي الحديث، قال: فكان المسلمون يغيرون على من حول هذه المرأة، ولا يصيبون الصرم الذي هي فيه. قال أبو عبيد: قوله: الصرم: يعني الفرقة من الناس ليسوا بالكثير، وجمعه أصرام، قال "الطرماح": يا دار أفوت بعد أصرامها. عامًا وما يبكيك من عامها 92 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان بالحديبية، فأصابهم عطش، قال: فجهشنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

قال "الأصمعي": الجهش الذي يفزع الإنسان إلى الإنسان. [و] قال غيره: وهو مع فزعه كأنه يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وأبيه، وقد تهيأ للبكاء. قال أبو عبيد، والأصمعي، والأموي، وأبو عمرو، وغيرهم، ومن ذلك قول لبيد [بن ربيعة]: قالت تشكي إلى النفس مجهشة. وقد حملتك سبعًا سبعيد فإن تزادي ثلاثًا تبلغي أملًا. وفي الثلاث وفاء للثمانينا 93 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- "أن مسجده كان مربدًا ليتيمين في حجر معاذ بن غفراء، فاشتراه منهما معوذ بن عفراء فجعله

للمسلمين، فبناه رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-] مسجدًا". قال: حدثنيه يزيد، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين. قال "الأصمعي": المربد: كل شيء حبست به الإبل، ولهذا قيل: مربد النعم الذي [كان] بالمدينة، وبه سمي مربد البصرية، إنما كان موضع سوق الإبل، وكذلك كل ما كان من غير هذه المواضع [أيضًا] إذا حبست به الإبل، فهو مربد، وأنشدنا "الأصمعي": عواصى إلا ما جعلت وراءها عصا مربد تغشى نحورًا وأذرعًا

يعني بالمربد ها هنا: عصا جعلها معترضة على الباب تمنع الإبل من الخروج سماها مربدًا لهذا. والمربد أيضًا مواضع التمر مثل الجرين، والبيدر للحنطة. والمربد بلغة "أهل الحجار"، والجرين لهم أيضًا، والأندر "لأهل الشام"، والبيدر "لأهل العراق". 94 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين". قال: حدثنيه عبد الرحمن بن مهدي، عن "سفيان"، عن "أبي إسحاق"، عن "أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد". قال أبو عبيد هكذا قال "عبد الرحمن" وهو عندي: "أمية بن عبد الله بن خالد ابن أسيد"

قال "عبد الرحمن": يعني بقوله: [كان] يستفتح بصعاليك المهاجرين، [أي] أنه كان يستفتح القتال بهم. قال أبو عبيد: كأنه يتيمن بهم، والصعاليك: هم الفقراء، والاستفتاح: هو الاستنصار، ويروى في تفسير قوله [عز وجل]: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} يقول: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر. ويروى: أن امرأة من العرب كان بينها وبين زوجها خصومة، فقالت: بيني وبينك الفتاح: تعني الحاكم؛ لأنه ينصر المظلوم على الظالم. 95 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنه كان في سفر، فشكي إليه العطس، فقال: "أطلقوا لي غمري فأني به". قال "الكسائي" و"الأحمر" أو غيره: الغمر: القعب الصغير، قال "أعشي باهلة"، يمدح رجلًا.

تكفيه حزة فلذ إن ألم بها. من الشواء، ويروي شربه الغمر. يقال منه: قد تغمرت: إذا شربت شربًا قليلًا. وأما الغمر: فالرجل الجاهل بالأمور، والجمع منها جميعًا أغمار. والغمر: السخيمة والشحناء، تكون في القلب. والمغمر: مثل الغمر. والغمر: الماء الكثير، ومنه قيل للرجل الجواد: غمر: 96 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النعمان بن مقرن قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أربعمائة راكب من "مزينة" فقال

النبي -صلى الله عليه وسلم- "لعمر": "قم فزودهم". فقام "عمر" ففتح غرفة له فيها تمر كالبعير الأقرم". هكذا الحديث. وقال: حدثنيه هشيم بن بشير، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن "النعمان" قال: وحدثنا يزيد بن هارون، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي 87/ حازم، عن دكين بن سعيد أو سعيد -شك أبو عبيد- قال: قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ذكر مثل هذه القصة. قال أحدهما: "فإذا تمر مثل الفصيل الرابض". وقال الآخر: "مثل البعير الأقرم"

قال: فقال "عمر": يا رسول الله! إنما هي أصوع. ما يقيظن بني قال: "قم فزودهم". قال أبو عمرو: لا أعرف الأقرم، ولكني أعرف المقرم، وهو البعير المكرم الذي لا يحمل عليه، ولا يدلل، ولكنه يكون للفحلة. قال: وأما البعير المقروم، فهو الذي به قرمة، وهي سمة تكون فوق الأنف تسلخ منه جلده، ثم تجمع فوق أنفه، فتلك القرمة. يقال منه: قرمت البعير أقرمه قرمًا.

قال أبو عبيد: وإنما سمي السيد الرئيس من الرجال المقرم؛ لأنه شبه بالمقرم من الإبل؛ لعظم شأنه وكرمه عندهم، قال "أوس بن حجر": إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب أخر مقرم. أراد: إذا هلك سيد منا خلف مكانه آخر. واما قول "عمر" [-رحمه الله] ما يقيظن بني، فإنه يعني أنه لا يكفيهم لقيظهم، والقيظ: هو حمارة الصيف، يقول: ما يصيفهم. يقال: قيظي هذا الطعام، وهذا الثوب: إذا كفاك لقبظك، وكان الكسائي" ينشد هذا الرجز لبعض الأعراب: من يك ذابت فهذا بني مقيظ مصيف مشتى يقول: يكفيني للقيظ، والصيف، والشتاء

[79] وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعث إلى "ضباعة" وذبحت شاة فطلب منها، فقالت: ما بقي منها إلا الرقبة، وإني لاستحي، أن أبعث إلى رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-] بالرقبة، فبعث إليها: "أن أرسلي بها، فإنها هادية الشاة، وهي أبعد الشاة من الأذى". قال: حدثناه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الرحمن الأعرج، يرفعه. قال "الأصمعي" وغير واحد: الهادي من كل شيء: أوله وما تقدم منه؛ ولهذا قيل: أقبلت هوادي الحمل: إذا بدت أعناقها؛ لأنها أول شيء [يتقدمها] من أجسادها. وقد تكون الهوادي أول رعيل يطلع منها؛ لأنها المتقدمة

يقال منها: [قد] هدت تهدي: إذا تقدمت. وقال "عبيد بن الأبرص" يذكر الخيل: وغداة صبحن الجفار عوابسًا ... يهدي أوائلهن شعت شزب. أي يتقدمهن. وقال "الأعشى" يذكر عشاه، ومشيه بالليل: إذا كان هادي الفتي في البلاد ... صدر القناة أطاع الأميرا وقد يكون إنما سمى العصي هاديًا؛ لأنه يمسكها بيده، فهي تهديه تتقدمه. وقد يكون من الهداية: أي أنها تدله على الطريق. وكذلك الدليل يسمى هاديًا؛ لأنه يقدم القوم، ويتبعونه، ويكون أن يهديهم للطريق. 98 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قومًا شكوا إليه سرعة فناء طعامهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتكيلون أم تهيلون"؟

قالوا: نهيل. قال: "فكيلو، ولا تهيلو". قال: حدثنيه أبو إسماعيل إبراهيم بن سليمان مودب آل أبي عبيد الله، عن أبي الربيع، مولى آل عمر بن الخطاب [-رضي الله عنه-]. قوله: ولا تهيلوا: يقال لكل شيء أرسلته من رمل أو تراب، أو طعام، أو نحوه: قد هلته أهيله هيلًا: إذا أرسلته فجرى [80] وهو طعام مهيل. وقال الله -تبارك وتعالى-: {وكانت الجبال كثيبًا مهيلًا}. ومنه حديث "العلاء بن الحضرمي" [-رحمه الله-]: أنه أوصاهم عند موته، وكان مات في سفر، فقال: "هيلو على هذا الكثيب، ولا تحفروا لي فأحبسكم". فتأويل الحديث المرفوع: أنهم كانوا لا يكيلون طعامهم يصبونه صبًا، فنهاهم عن ذلك.

99 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذي يشرب في إناء من فضة: "وإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". قال: حدثناه إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن رجل [قد] سماه ونسبه، عن أم سلمة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو عبيد: أصل الجرجرة: الصوت، ومنه قيل للبعير إذا صوت هو يجرجر، قال "الأغلب العجلي" يصف فحلًا يهدر، ويقال: إنه "لدكين". وهو إذا جرجر بعد الهب جرجر في حنجرة كالحب.

وهامة كالمرجل المنكب فكان معنى الحديث في قوله: يجرجر في بطنه: يعني صوت وقوع الماء في الجوف وإنما يكون ذلك عند شدة الشرب. قال "الراعي" يذكر شرب الإبل وأنهم سقوهم، فقال: فسقوا صوادي يسمعون عشبة .. للماء في أجوافهن صليلًا يعني صوت الجرع ...

100 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن قتل شيء من الدواب صبرًا". قال: حدثناه هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قال: وحدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو زيد، وأبو عمرو، وغيرهما: قوله: صبرًا: هو الطائر، أو غيره من ذوات الروح، يصبر حيًا، ثم يرمى، حتى يقتل. قال أبو عبيد: وأصل الصبر: الحبس، وكل من حبس شيئًا، فقد صبره ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في رجل أمسك رجلًا وقتلته آخر، قال: "اقتلوا القاتل، واصبروا الصابر". قال: سمعت عبد الله بن المبارك، يحدثه عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، يرفعه قوله: اصبروا الصابر، يعني احبسوا الذي حبسه للموت حتى يموت. ومنه قيل للرجل يقدم، فتضرب عنقه: قتل صبرًا: يعني أنه أمسك على الموت، وكذلك لو حبس رجل نفسه عن شيء يريده، قال: صبرت نفسي، قال "عنتزة" يذكر حربًا كان فيها: فصبرت عارفة لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع يعني أنه حبس نفسه.

قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم: يمين الصبر، وهو أن يحبس السلطان الرجل على اليمين حتى يحلف بها. ولو حلف إنسان من غير إحلاف ما قيل [له] حلف صبرًا. وأما المجثمة التي نهى عنها، فإنها المصبورة أيضًا، ولكنها لا تكون إلا في الطير والأرانب، وأشباه ذلك مما يجثم؛ لأن الطير يجثم بالأرض وغيرها: إذا لزمته ولبدت عليه، فإن حبسها إنسان، قل: قد جثمت، أي فعل ذاك بها، وهي مجثمة. فإذا فعلته هي من غير فعل أحد، قيل [قد] جثمت تجثم جثومًا، وهي جاثمة.

101 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد". قال حدثنيه هشيم، قال: أخبرناه مغيرة، ومجالد، عن الشعبي، عن وراد كاتب "المغيرة بن شعبة" قال. كتب "معاوية" إلى "المغيرة" أن أكتب إلى بشيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فكتب إليه "المغيرة": أني سمعته يقول إذا انصرف من الصلاة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما [82] أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". قال "هشيم": وأخبرنا "عبد الملك بن عمير"، قال: سمعت "ورادًا" كاتب المغيرة [بن شعبة]. يحدث بهذا الحديث، عن المغيرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

[قال أبو عبيد]: قوله: الجد -بفتح الجيم- لا غير، وهو الغنى والحظ في الرزق. ومنه قيل: لفلان في هذا الأمر جد: إذا كان مرزوقًا منه. فتأويل قوله: لا ينفع ذا الجد منك الجد: أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، إنما ينفعه العمل بطاعتك. وهذا كقوله -تبارك وتعالى-: "يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم". وكقوله: {وما أموالكم، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، إلا من آمن وعمل صالحًا}. ومثله كثير. وكذلك حديثه الآخر. قال: حدثنيه ابن ممم أن التيمي. عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة ابن زيد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قمت ممم فإذا عامة ممم، وإذا أصحاب الجد محبوسون". ممم في الدنيا والغنى.

وقد روي عن "الحسن" و"عكرمة" في قوله {-تبارك وتعالى-}: "وأنه تعالى جد ربنا". قال أحدهما: غناه. وقال الآخر: عظمته. قال: وحدثني محمد بن عمر الواقدي، عن ابن جريج، عن، عطاء، عن ابن عباس، قال: "لو علمت الجن أن في الإنس جدًا، ما قالت: {تعالى جد ربنا}. [قال أبو عبيد]: يذهب "ابن عباس" إلى أن الجد إنما هو الغني، ولم يكن يرى أن أبًا الأب جد، إنما هو عنده أب. ويقال منه للرجل إذا كان له جد في الشيء: رجل مجدود، ورجل محفظوظ. من الحظ، قالهما "أبو عمرو". وقد زعم بعض الناس [أنه] إنما هو: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" -بكسر الجيم-.

والجد إنما هو الاجتهاد في العمل. وهذا والتأويل خلاف ما دعا الله [-عز وجل-] إليه المؤمنين، ووصفهم به، لأنه قال يف كتابه: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات، واعملوا صالحًا} فقد أمرهم بالجد والعمل الصالح. وقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا}. وقال [-سبحانه-]: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون .... }. إلى آخر الآيات. وقال [-سبحانه-]: "جزاء بما كانوا يعملون" في آيات كثيرة. فكيف يحثهم على العمل، وينعتهم به، ويحمدهم عليه، ثم يقول: إنه لا ينفعهم.

102 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه سأل رجلًا، فقال: ما تدعو في صلاتك؟ فقال الرجل: "أدعو بكذا وكذا، وأسال ربي الجنة، وأتعوذ به من النار، فأما دندنتك، ودندنة معاذ، فلا نحسنها". قال: حدثنيه عبد الله بن إدريس، عن الأعمش، عن أبي صالح، و"ليث" عن "مجاهد". قال "ابن إدريس" قال "الأعمش" في حديثه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حولهما ندندن". قال: وقال "ليث": "عنهما ندندن". قال أبو عبيد، الدندنة: أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته به، ولا تفهمه عنه؛ لأنه يخفيه.

وإنما أراد أن هذا الذي تسمعه منا، إنما هو من أجل الجنة والنار، فهذه الدندنة. والهينمة نحو من تلك، وهي أخفى منها. ومن ذلك حديث "عمر [-رضي الله عنه-] الذي يروي عنه في إسلامه: "أنه أتى منزل أخته "فاطمة" امرأة "سعيد بن زيد"، وعندها "خباب" وهو يعلمها سورة "طه" فاستمع على الباب، فلما دخل، قال: "ما هذه الهينمة التي سمعت"؟ يقال منه: هينم الرجل يهينم هينمة. وكذلك هتلمت هتملة بمعناها. وقال "الكميت": ولا أشهد الهجر والقائلية ... إذا م بهينمة هتملوا. 103 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه كان إذا

قام للتهجد [84] يشوص فاه بالسواك. قال: حدثناه هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي وائل، عن حذيفة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: يشوص، الشوص: الغسل، وكل شيء غسلته فقد شصته تشوصه شوصًا والموص: الغسل أيضًا مثل الشوص. يقال: مصته أموصه موصًا. ومنه قول "عائشة" [-رضي الله عنها-] في "عثمان" [-نضر الله وجهه-]: "مصتموه كما يماص الثوب، ثم عدوتم عليه، فقتلتموه".

قال: سمعت أبا يوسف" يحدثه بإسناد له. تعني بقولها: مصتموه: ما كانوا استعتبوه، فأعتبهم فيه، ثم فعلوا به ما فعلوا. قال "أبو عبيد": فذلك الموص، تقول: خرج نقيًا مما كان فيه: 104 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات". قال: حدثنيه إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

[قال أبو عبيد]: قوله: تفلات: التفلة: التي ليست متطيبة، وهي المنتنة الريح. يقال منه: نفلة، ومنفال، قال "امرو القيس". إذا ما الضجيج ابتزها من ثيابها تميل عليه هونه غير متفال وقال "الكميت": فيهن آنسة الحديث حيية ... ليست بفاحشة ولا متفال. ومما يبين ذلك حديث "زينب" امرأة "عبد الله" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمسن طيبًا".

105 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه صلى فأوهم في صلاته. فقيل له: يا رسول الله! كأنك أوهمت في صلاتك؟ فقال: "وكيف لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته". قال: حدثنيه هشيم، عن إسماعي بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، يرفعه. قال "الأصمعي": جمع الرفغ أرفاغ، وهي الآباط، والمغابن من الجسد، يكون ذلك [85] في الإبل والناس. قال أبو عبيد: ومعناه في الحديث: ما بين الأنثيين وأصول الفخدين، وهو من المغابن.

وما يبين ذلك حديث "عمر" [-رحمه الله-]: "إذا التقى الرفغان فقد وجب الغسل". قال: حدثنيه محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن عطية بن قيس، عن "عمر" [رحمه الله]. قال أبو عبيد: أراد: إذا التقى ذلك من الرجل والمرأة، ولا يكون هذا إلا بعد التقاء الختانين. فهذا يبين [لك] موضع الرفغ. فمعنى الحديث المرفوع: أنه أراد أن أحدكم يحك ذلك الموضع من جسده، فيعلق درنه ووسخه بأصابعه، فيبقى بين الظفر والأنملة. وإنما أنكر من ذلك طول الأظفار، وترك قصها. يقول: فلولا أنكم لا تقصونها حتى تطول ما بقى الرفغ هناك. هذا وجه الحديث. وما يبين ذلك حديثه الآخر، واستيطأ الناس الوحي، فقال:

"وكيف لا يحتبس الوحي، وأنتم لا تقلمون أظفاركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون براحمكم". قال: حدثناه أبو محياة، عن منصور، عن مجاهد، يرفعه. قال "الأصمعي" يقال: أوهم الرجل في كتابه وفي كلامه يوهم إبهامًا: إذا ما أسقط منه شيئًا. ويقال: وهم يوهم: إذا غلط. ويقال: وهم إلى الشيء يهم وهمًا: إذا ذهب وهمه إليه. 106 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر، الخوارج.

قال: حدثنيه إسماعيل بن جعفر، ويزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، قال: جئت أبا سعيد الخدري، فقلت: هل سمعت رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-] يذكر الخوارج؟ فقال: سمعته يذكر قومًا يتفقهون في الدين يحقر أحدكم صلاته عند صلاته، وصومه عند صومه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّمية، فأخذ سهمه، فنظر في [86] نصله، فلم ير شيئًا، ثم نظر في رصافه فلم ير شيئًا، ثم نظر في القذذ، فتمارى: أيرى شيئًا، أم لا"؟

قال الأصمعى، وغيره؛ قوله: الرمية: هي الطويدة التي يرميها الصائد، وهي كل دابة مرمية. وقوله: نظر في كذا كذا، فلم ير شيئًا: يعني أنه أنفذ سهمه منها حتى خرج وندر، فلم يعلق به من دمها شيء من سرعته، فنظر إلى النصل، فلم ير فيه دمًا، ثم نظر إلى الرصاف، وهي العقب التي فوق الرعظ، والرعظ: مدخل النصل في السهم تلم ير دمًا. وواحدة الرصاف رصفّة. والقذذ: ريش السهم كل واحدة منها قذة. ومنه الحديث الآخر: "هذه الأمة أشبه المم ببني إسرائيل يتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة" يعني كما تقدر كل واحدة منهن على صاحبتها. فتأويل الحديث المرفوع: أن الخوارج يمرقون من الدين مروق ذلك السهم من الرمية. يعني أنه دخل فيها، ثم خرج منها لم يعلق [به] منها شيء.

فكذلك دخول هؤلاء في الإسلام، ثم خروجهم منه، لم يتمسكوا منه بشيء [قال]: وفي حديث آخر قال: حدثنيه محمد بن أبي عدى، عن سلمة ابن علقمة، عن ابن سيرين قال: نبئت عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله! ألهم آية أو علامة يعرفون بها؟ قال: "نعم، التسبيد فيهم فاش". قال أبو عبيد: فسألأت "أبا عبيدة" وعن التسبيد؟ فقال: هو ترك التدهن، وغسل الرأس. وقال غيره: إنما هو الحلق، واستئصال الشعر. قال أبو عبيد: وقد يكون الأمران جميعًا، قال "النابغة" [الذبياني] " في قصر الشعر، يذكر فرخ القطاة حين حمم ريشه:

تسقي أزيغب ترويه مجاجتها ... في حاجب العين من تبيده زبب يعني البتسبيد: طلوع الزغب. و[قد] روى في الحديث مما يثبت قول "أبي عبيدة" حديث [عن] "ابن عباس" قال: حدثينه يحيى بن سعد، و "حجاج" كلاهما عن "ابن جريج" عن محمد بن عباد بن جعفر، قال: "رأيت" ابن عباس" قدم "مكة" مسبدًا رأسه [87] فأتى الحجر، فقلبه، ثم سجد عليه". قال أبو عبيد: فالتسبيد ها هنا ترك التدهن والغسل. وبعضهم يقول: التسميد -بالميم- ومعناهما واحد.

107 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أتى كظامة قوم، فتوضأ، ومسح على قدميه". قال: حدثناه هشيم، قال: أخبرنا يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، أنه رأى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك. [قال أبو عبيد]: وقد خولف هشيم في هذا الإسناد. وكان "شريك" فيما بلغني يحدث بهذا الحديث عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. فسئل "هشيم" عن الكظامة.

فقال: السقاية. قال أبو عبيد: وسألت عنها "الأصمعي" وأهل العلم من "أهل الحجاز" فقالوا: هي آبار تحفر، ويباعد ما بينها، ثم يخرق ما بين كل بئرين بقناة تؤدى الماء من الأولى إلى التي تليها، حتى يجتمع الماء إلى آخرهن. وإنما ذلك من عوز الماء، ليبقى في كل بئر ما يحتاج إليه أهلها للشرب، وسقى الأرض، ثم يخرج فضلها إلى التي تليها، فهذا معروف عند "أهل الحجاز". ومنه حديث عبد الله بن عمرو. قال: حدثينه هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: "إذا رأيت "مكة" قد بعجت كظائم، وساوى بناؤها رؤوس الجبال، فاعلّم أن الأمر قد أظلك، فخذ حذرك. 108 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-:

"ليست الهرة بنجس، إنما هي من الطوافين أو الطوافات عليكم" [قال]: وكان يصغى لها الإناء. قال: حدثينه سفيان بن عيينة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن امرأة، عن أبي قتادة، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: من الطوافين أو الطوافات عليكم: إنما جعلها بمنزلة المماليك، ألا تسمع قول الله -تبارك وتعالى-: "يا أيها الذين آمنوا [88] ليستأذنكم الذين/ ملكت أيمانكم" إلى قوله: "ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم" وقال [-عز وجل-] في موضع آخر: "يطوف عليهم ولدان مخلدون".

فهؤلاء الخدم. فمعنى الحديث أنه جعل الهّرة كبعض الطوّافين. ومن هذا قول "إبراهيم": "إنمّا الهرّة كبعض أهل البيت". ومثله قول "ابن عباس": "إنمّا هي من متاع البيت". وأمّا حديث "ابن عمر": أنه كان يكره سور الهرة، فإنه إنّما ذهب إلى أنه سبع له ناب. وكذلك حديث "أبي هريرة": 109 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أقرّوا الطّير على مكناتها".

وبعضهم يقول: "مكناتها". قال أبو زياد الكلابي، وأبو طيبة الأعرابي، وغيرهما من الأعراب، أو من -قال منهم: لا نعرف للطّير مكنات، وإنمّا هي الوكنات، قال "أمرؤ القيس": وقد أغتدى والّير في وكناته ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل وواحد الوكنات وكنة، وهي موضع عشّ الطائر ويقال له أيضًا: وكر -بالراء-. فأما الوكن -بالنون- فهو العود الذي يبيت عليه الطّائر. قالوا: فأمّا المكنات: فهي بيض الضباب، وواحدتها مكنة. يقال منه: قد مكنت الشبة وأمكنت، فهي ضبة مكون: إذا جمعت البيض.

ومنه حديث "أبي وائل": "ضبة مكون أحب إلى من دجاجة سمينة". وجمع المكنة مكنات ومكن. قال أبو عبيد [و] هكذا روى الحديث، وهو جائز في الكلام، وإن كان المكن للضباب أن تجعل للطّير تشبيهًا بذلك كالكلّمة تستعار، فتوضع في غير موضعها، ومثله كثير في كلام العرب، كقولهم مسافر الحبش، وإنَّما المسافر للإبل، وكقول "زهير" يصف الأسد: * له لبد أظفاره لم تقلم* وإنمّا هي المخالب. وكقول "الأخطل": * وفروة ثفر الثّورة المتاضجم

[89] وإنمّا الثفر للسباع. وقد يفسر هذا الحديث على غير هذا التفسير. يقال: أقروا الطّير على مكناتها، يراد: على أمكنتها، ومعناه الطير التي يزجر بها. يقول: فلا تزجوا الطّير، ولا تلتقوا إليها، أقروها على مواضعها التي جعلها الله [تبارك وتعالى] بها: أي إنّها لا تضر ولا تنفع، ولا تعدوا ذلك إلى غيره. وكلاهما له وجه، ومعنى والله أعلم. 110 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما أذن الله لشيء كأذنه لنبيّ يتغنى بالقرآن [أن] يجهر به".

قال: حدثناه إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: كأذنه: يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيّ يتغنى بالقرآن. قال: حدثناه "حجاج"، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله [- عز وجل-]: "وأذنت لربها وحقت" قال: استمعت أو سمعت -شك أبو عبيد-. قال [أبو عبيد]: وحدثناه أبو معاوية، عن معرف بن واصل، عن حبيب بن أبي ثابت في قوله: "وأذنت لربها" قال: استمعت أو سمعت. يقال: أذنت للشيء آذن له أذنًا: إذا استمعت، [أو سمعت له] قال "عدىّ بن زيد": أيهّا القلب تعلّل بددن ... إن همىّ في سماع وأذن وقال "عدىّ" أيضًا:

في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذى مشار يريد بقوله: يأذن: يستمع. بعضهم يرويه: "كإذبة لنبيّ يتغنى بالقرآن" -بكير الألف- يذهب به إلى الإذن من الاستئذان، وليس لهذا وجه [عندي]. وكيف يكون إذنه في هذا أكثر من إذنه في غيره، والذي أذن له فيه من توحيده وطاعته، والإبلاغ عنه أكثر وأعظم من الإذن في قراءة يجهر بها. وقوله: يتغنّى بالقرآن: إنّما مذهبه عندنا تحزين القراءة [90]. ومن ذلك حديث الآخر الذي يروى عن شعبة، عن معاوية بن قرة، عن عبد الله بن مغفل، أنه رأى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقرأ سورة الفتح، فقال:

"لولا أن يجتمع النّاس علينا لحكيت تلك القراءة، وقد رجع ". ومما يبين ذلك حديث يروى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أنه ذكر أشراط الساعة، فقال: "بيع الحكم، وقطعية الرحم، والاستخفاف بالدم، وكثرة الشرط، وأن يتخذ القرآن مزامير، يقدمون أحدهم، وليس بأقرائهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء". قال: سمعت "أبا يوسف" يحدثه عن ليث، عن عثمان بن عمير، عن زاذان، عن عابس الغفاري، أنه سمع النبيّ [صلى الله عليه وسلم] يقول ذلك. قال: وحدثنا ابن عليه، عن ليث، عن طاووس، قال: "أقرأ الناس للقرآن أخشاهم لله [-عز وجل-]. فهذا تأويل حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: [ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي] يتغنى بالقرآن [أن] يجهر به.

وهو تأويل قوله: "وزينوا القرآن بأصواتكم". قال: وأخبرني "يحيى بن سعيد"، عن "شعبة"، قال: نهاني "أيوب" أن أتحدث بهذا الحرف: "زينوا القرآن بأصواتكم". [قال أبو عبيد]: وإنما كره "أيوب" ذلك مخالفة أن يتسأول على غير وجهه [قال]: وأمّا حديث رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-]: ليس منّا من لم يتغن بالقرآن". فليس هو عندى من هذا، إنّما هو من الاستغناء، وقد فسرناه في موضع آخر".

111 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان إذا سجد جافى عضديه حتى يرى من خلفه عفرة إبطيه". [قال] حدثناه إسماعيل بن جعفر، عن داود بن قيس، عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال "أبو زيد" و"الأصمعي" و"أبو زياد"، أو من قال منهم: العفرة: البياض، وليس بالبياض الناصع الشديد، ولكنه لون الأرض، ومنه قيل للظّباء: عفر، إذا كانت ألوانها كذلك. وإنما سميت بعفر الأرض [91]، وهو وجهها.

قال "الأحمر": يقال: ما على عفر الأرض مثله: أي على وجهها. وكذلك الشاة العفراء. يروى عن "أبي هريرة" أنه قال: "لدم عفراء في الأضحية أحب إلى من دم سوداوين" وبعضهم يرويه عنه: "لدم بيضاء أحب إلى من دم سوداوين". فهذا يفسر ذلك. ويقال: عفرت الرجل في التراب: إذا مرغته فيه تعفيرًا. والتعفير في غير هذا أيضًا. يقال للوحشية: هي تعفّر ولدها، وذلك إذا أرادت فطامه: قطعت عنه الرضاع يومًا أو يومين، فإن خافت أن يضره ذلك ردته إلى الرّضاع أيامًا، ثمّ أعادته إلى الفظام، تفعل ذلك به مرّات حتّى يستمر عليه. فذلك التعفير، وهو معفّر، قال "لبيد" يذكره:

لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمن طعامها 112 - وقال أبو عبيد في حديث النبّي -صلى الله عليه وسلم-: "من أدخل فرسا بين فرسين، فإن كان يؤمن أن يسبق فلا خير فيه، وإن كان لا يؤمن أن يسبق فلا بأس به". قال: حدثناه عباد بن العوّام، والفزارى، ويزيد بن هارون كلّهم عن -سفيان بن حسين عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النّبي -صلى الله عليه وسلّم-

قال أبو عبيد: وكان سفيان بن حسين، لا يرفعه. قال: سمعت محمد بن الحسن، وغير واحد دخل تفسير بعضهم في بعض، قالوا: هذا في رهان الخيل. والأصل منه أن يسبق الرجل صاحبه بشيء مسمى على أنّه إن سبق لم يكن له سيء، وإن سبقه صاحبه أخذ الرهن، فهذا هو الحلال؛ لأن الرهن إنّما من احدهما دون الآخر. فإن جعل كل واحد منهما لصاحبه وهنا أيهما سبق أخذه، فهذا القمار المنهى عنه. فإن أرادا أن يدخلا بينهما شيئًا: ليحل لكلّ واحد منهما رهن صاحبه جعلا معهما فرسًا ثالثًا لرجل سواهما، وهو الذي [92] ذكرناه في أول الحديث: "من أدخل فرسا بين فرسين". وهو الذي يسمى المحلّل، ويسمّى الدّخيل، فيضع الرجلان الأولان رهنين منهما، ولا يضع الثالث شيئًا، ثم يرسلون الأفراس الثّلاثة. فإن سبق أحد الأوّلين أخذ رهنه ورهن صاحبه، فكان طيّبا له. وإن سبق الدّخيل، ولم يسبق واحد من هذين أخذ الرّهنين جميعًا. وإن سبق هو لم يكن علي شيء.

فمعنى قوله: "إن كان لا يؤمن أن يسبق، فلا بأس به": يقول: إذا كان رائعًا جوادًا لا يأمنان أن يسبقهما، فيذهب بالرّهنين، فهذا طيّب لا بأس به. وإن كان بليدّا بطيئًا قد أمنا أن يسبقهما، فهذا قمار؛ لأنّهما كأنّهما لم يدخلا بينهما شيئًا، أو كأنّهما إنّما أدخلا حمارًا، أو ما أشبه ذلك ممّا لا يسبق هذا وجه الحديث. وهو تفسير قول "جابر بن زيد". قال: حدثنا سفيان [بن عيينة] عن عمرو قال: قيل "لجابر بن زيد": إن أصحاب "محمد" [-صلى الله عليه وسلم-] كانوا لا يرون بالدّخيل بأسًا. فقال: كانوا أعف من ذلك. 113 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-:

"لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". قال: حدثنيه ابن مهدي، عن سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبد الله بن أبي قنادة، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. و[حدثنا] يزيد بن هارون عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مثله. قوله: فإن الله [عز وجل] هو الدهر [هذا] ممّا لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه، وذلك أن "أهل التّعطيل" يحتجون به على المسلمين.

قال أبو عبيد: وقد رأيت بعض من يتعم بالزندقة والدّهرية يحتج بهذا الحديث، ويقول: ألا تراه يقول: فإنّ الله هو الدّهر؟ فقلت: وهل كان أحد يسب الله [عز وجل] في آباد الدّهر؟ ! وقد قال "الأعشى" في الجاهلية الجهلاء: استأثر الله بالوفاء، وبالحمد وولّى الملامة الرّجلا وإنّما تأويله عندي -والله أعلم- أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر، وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت، أو هرم، أو تلف مال، أو غير ذلك، فيقولون: [93] أصابتهم قوارع الدّهر، وأبادهم الدّهر، وأتى عليهم الدّهر، فيجعلونه الذي يفعل ذلك، فيذمونه عليه، وقد ذكروه في أشعارهم، قال الشاعر يذكر قومًا هلكوا: فاستأثر الدّهر الغداة بهم ... والدّهر يرمينى وما أرمى يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم وسلتنا ما لست تعقبنا ... يا دهر ما أنصفت في الحكم

وقال "عمرو بن قميئة": رمتى بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برام فلو أنها نبل إذا لا تقيتها ... ولكنّما أرمى بغير سهام على الرّاحتين مرّة وعلى العصا ... أنوء ثلاثاً بعدهن قيامس فأخبر أن الدّهر فعل به ذاك، يصف الهرم وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- بذلك عنهم في كتابه [الكريم]، ثم كذبهم يقولهم، فقال: "وقال ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدّهر". ثال الله -تبارك وتعالى-: "وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون". فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر": على تأويل: لا تسبوا الذي يفعل بكم هذه الأشياء، ويصيبكم بهذه المصائب، فإنكم إذا سببتم فاعلها، فإنّما يقع السب على الله -تبارك وتعالى- لأنه الفاعل لها لا الدهر. فهذا وجه الحديث -إن شاء الله- لا أعرف له وجها غيره.

114 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه دخل على "عائشة" [رضي الله عنها]، وعندها رجل، فقالت: إنه أخى من الرضاعة، فقال: "انظرن ما إخوانكن، فإنّما الرضاعة من المجاعة" قال أخبرنيه ابن مهدىّ، عن سفيان، عن أشعت بن أبي الشّعتاء، عن أبيه، عن مسروق [94]، عن عائشة [رضي الله عنها]، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: إنّما الرضاعة من المجاعة، يقول: إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن، إنما هو الصبي الرضيع، فأما الذي يشبعه من جوعه الطعام، فإن أرضعتموه فليس ذلك برضاع.

فمعنى الحديث: أنه إنما الرضاع ما كان في الحولين قبل الفطام. وهذا مثل حديث "أبي هريرة" و "أم سلمة": "إنما الرضاع ما كان في [الثدى قبل الفطام] " ومنه حديث "عمر [بن الخطاب -رضي الله عنه-]: "إنمّا الرضاعة رضاعة الصغر". وكذلك حديث "عبد الله" فيه. وعامة الآثار على هذا: أن الرضاعة بعد الحولين لا تحرم شيئًا. 115 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى رجلا يمشى بين القبور في نعلين، فقال: "يا صاحب السبتين اخلع سبتيك".

[قال]: وهذا حديث بلغني عن الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، عن بشير بن نهيك، عن ابن الخصاصية عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: في النعال السبتية. قال "أبو عمرو": هي المدبوغة بالقرظ. وقال "الأصمعي": هي المدبوغة. قال أبو عبيد: وإنما ذكرت السبتية؛ لأن أكثرهم في الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة، إلا أهل السعة منهم، ألا ترى أنهم كانوا يمدحون الرجل بلبسها. لأنهم كانوا لا يحسنون الدباغ، ولا يلبسها إلا أهل الجدة منهم، كانوا يشترونها من اليمن والطائف، ونحوهما، قال عنترة يمدح رجلا. بطل كأنّ ثيابه في سرحه ... يحذى نعال السّبت ليس بتوأم

وقد زعم بعض الناس أن نعال السبت هي هذه المحلوقة الشعر، والأمر عندى على ما قال "الأصمعي" [و "أبو عمرو"]. 116 - وقال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "نعم الإدام الخل".

قال: حدثنيه يزيد، عن حجاج بن أبي زينب، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. قال [أبو عبيد]: سمعت "محمد بن الحسن" يقول في هذا: إنما سماه إداما؛ لأنه يصطبغ به، وكل شيء سابغ به لزمه اسم الإدام. يعني مثل الخل، والزّيت، والمرّى، واللبن، وما اشبهه. قال: فإن حلف حالف ألا يأكل إداما، فأكل بعض ما يصطبغ به، فهو حانث. وفي حديث آخر أنه قال: "ما أقفر بيت، أو قال: طعام فيه خل". وقال أبو زيد، وغيره: هو مأخوذ من القفار، وهو كل طعام يؤكل بلا أدم. يقال: أكلت اليوم طعامًا قفارًا: إذا أكله غير مأدوم. ولا أرى أصله مأخوذًا إلاّ من القفر من البلاد، وهي التي لا شيء بها، ولا كلأ بها.

117 - قال أبو عبيد في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذة غمر على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع مع أهل البيت لهم". قال: حدثناه مروان الفزارى، عن شيخ من أهل الجزيرة، يقال له يزيد بن أبي زياد. قال أبو عبيد: وهو يزيد بن سنان، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، ترفعه. قوله خائن ولا خائنة، فالخيانة تدخل في أشياء كثيرة سوى الخيانة في المال منها: أن يؤتمن الرجل على فرج، فلا يؤدى فيه الأمانة. وكذلك إذا استودع سرّا يكون إن أفشاه فيه عطب المستودع، أو فيه شينه

وكذلك إن اؤتمن على حكم بين اثنين، أو فوقهما، فلم يعدل. وكذلك إن غلّ من المغنم، فالغال في التفسير: الخائن؛ لأنه يقال في قوله: "وما كان لنبي أن يغل": قال: "يخان". وممّا يبين لك أن السر أمانة حديث يروى عن النبي -صلى الله عليه وسم-: "إذا حدث الرجل الرجل بالحديث، ثم التفت، فهو أمانة" فقد سمّاه رسول الله [-صلى الله عليه وسلم- أمانة]، ولم يسكتمه،

فيكف إذا استكتمه" ومنه قوله (-عليه السلام-): "إنمّا تجالسون بالأمانة" ومنه الحديث الآخر: "من أشاع [على مؤمن] فاحشة، فهو مثل من أبداها" فصار ها هنا كفاعلها، لإشاعته إيّاها، وهو لم يستكتمها إيّاه. فهذه [69] الخصال كلها، وماضاهاها، لا ينبغي أن يكون أصحابها عدولا في الشّهادات على تأويل هذا الحديث. وأمّا قوله: ولا ذى غمر على أخيه، فإن الغمر الشحناء والعداوة، وكذلك الإحنة. وممّا يبين ذلك حديث عمر [-رضي الله عنه-]: "أيمّا قوم شهدوا على رجل لحد، ولم يكن ذلك بحضرة صاحب الحد، فإنما شهدوا عن ضغن".

وتأويل هذا الحديث على الحدود التي فيما بين الناس، وبين الله [-عز وجل-] كالزنا والسرقة، وشرب الخمر. قال [أبو عبيد]: وسمعت "محمد بن الحسن" يجعل في ذلك وقتا لا أحفظه، يقول: فإن أقاموا الشهادة بعد ذلك بطلت شهادتهم. فأما حقوق الناس فالشهادة فيها جائزة أبدًا لا ترد، وإن تقادمت. وأمّا الظنين في الولاء والقرابة، فالذي يتهم بالدّعاوة إلى غير أبيه أو المنولى غير مواليه.

قال أبو عُبيد: وقد يكون أن يتَّهم في شهادته لقريبه كالوالد للولد (والولد للوالد) ومن وراء ذلك. قال: حدّثناه حفص بن غياث، عن محمَّد بن زيد بن مُهاجر، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- بعث مناديًا حتى انتهى إلى الثّنيّة. "أنَّه لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، واليمين على المدعي عليه". فمعنى الظَّنين هاهنا: المتَّهم في دينه. وأمَّا قوله: ولا القانع مع أهل البيت لهم: فإنَّه الرجل يكون مع القوم في حاشيتهم كالخادم لهم والتّابع والأجير، ونحوه. وأصل القنوع: الرَّجل يكون مع الرجل يطلب فضله، ويسأله معروفه. يقول: فهذا إنّما يطلب معاشه من هؤلاء، فلا تجوز شهادته لهم

[وقد] قال الله- تبارك وتعالى-: {فكلوا منها} وأطعموا القانع والمعتر" فالقانع في التفسير: الّذي يسأل، والمعترّ: الذي يتعرَّض، ولا يسأل، ومنه قول "الشماخ": لمالُ المرء يُصلحُه فيغنى ... مفاقره أعف من القنوع يعني: مسألة الناس [97]. وقال "عدىُّ بن زيد": وما خنت ذا عهد وأيت بعهده ... ولم أحرم المضطّرّ إذ جاء قانعًا يعني سائلًا. ويُقال من هذا: قد قنع الرّجل يقنع قنوعًا. وأمّا القانع: الراضي بما أعطاه الله [-سبحانه-] فليس من ذلك.

يُقال [منه]: قد قنعت أقنع قناعة، -فهذا بكسر النُّون-، وذاك - فتحها- وذاك من القنوع، وهذا من القناعة. 118 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته: "إنَّ الزَّمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السَّنة اثنا عشر شهرًا منها أربعةٌ حرم: ثلاثة متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرك، ورجب "مضر" الذي بين جمادى، وشعبان". قال: حدَّثناه ابن عليَّة، عن أيوب، عن ابن سرين، عن أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم.

قوله: [إن الزَّمان] قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض". يقال: إن بدء ذلك كان -والله أعلم- أنّ العرب كانت تحرّم الشهور الأربعة، وكان هذا ممّا تمسّكت به من ملة "إبراهيم" [-عليه السّلام وعلى نبيّنا-]، فربَّما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم، فيكرهون أن يستحلّون المحرّم. وهذا هو النسئ الذي قال الله -تبارك وتعالى-: {إنّما النّسئ زيادة في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلُّونه عامًا، ويحرّمونه عامًا ... } إلى آخر الآية. وكان ذلك في "كنانة" هم الذي كانوا ينسأون الشهور على العرب. والنّسئ: هو التأخير. ومنه قيل: بعث الشيء بنسيئه.

فكانوا يمكثون بذلك زمانًا يُحرّمون صفرًا، وهم يريدون به المحرم. ويقولون: هو أحد الصفرين. قال أبو عبيد: وقد تأوّل بعض النّاس قول النّبي -صلى الله عليه وسلّم-: "لا صفر" على هذا. ثمَّ يحتاجون أيضًا إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرَّم، فيؤخِّرون تحريمه إلى ربيع، ثمَّ يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك فكذلك، يتدافع شهرًا بعد شهر، حتى استدار التحريم على السَّنة كلَّها، فقام الإسلام، وقد رجع المحرّم إلى موضعه الذي وضعه الله [-تبارك وتعالى-] به، وذلك بعد دهر طويل، فذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلّم-: "إن الزَّمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض". يقول: رجعت الأشهر الحرم إلى مواضعها، وبطل النسيء. وقد زعم بعض النَّاس أنّهم كانوا يستحلُّون المحرَّم عامًا، فإذا كان من قابلٍ

ردُّوه إلى تحريمه. والتَّفسير الأوَّل أحبُّ إليَّ؛ لقول النبيِّ [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]: "إنَّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض"، وليس في التفسير الأخير استدارة. [قال أبو عُبيد]: وعلى هذا التفسير الذي فسَّرناه قد يكون قوله: "يحلونه عامًا، ويحرمونه عامًا" مُصدِّاقًا؛ لأنَّهم إذا حرَّموا العام المحرم، وفي قابل صفر، ثمَّ احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضًا أحلّوه، وحرموا الذي بعده، فهذا تأويل قوله في هذا التفسير: "يحلُّونه عامًا، ويحرّمونه عامًا". قال أبو عبيد: وفي هذا تفسير آخر، يُقال: إنه في الحج. قال: حدَّثناه سفيان بن عُيينة عن ابن أبي نُجيح، عن مُجاهد، في قوله: "ولا جدال في الحجِّ" قال: قد استقرَّ الحجّ في ذي القعدة لا جدال فيه، وفي غير حديث سفيان يُروى عن "معمر" عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال: كانت العرب في الجاهليّة يحجّون عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجَّة، فلمَّا كانت السَّنة التي حجَّ فيها "أبو بكر" [-رضي الله عنه-] قبل حجَّة

النَّبيِّ [-صلى الله عليه وسلَّم-] كان الحجُّ في السَّنة الثَّانية من ذي القعدة، فلمَّا كانت السَّنة الَّتي حجَّ فيها النَّبيُّ [-صلَّى الله عليه وسلَّم-] في العام المقبل عاد الحجُّ إلى ذي الحجَّة. فذلك قوله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]: "إن الزَّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض". يقول: قد ثبت الحجُّ في ذي الحجَّة. 119 - وقال أبو عبيد في [99] حديث النبيَّ -صلى الله عليه وسلَّم-: "لأهل القتيل أن ينحجزوا الأدنى فالأدنى، وإن كانت امرأة".

وهذا حديث يروى عن الأوزاعي، عن حصن، عن أبي سلمة، عن عائشة [-رضي الله عنها-]، عن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-. وذلك أن يُقتل القتيل، وله ورثة رجالٌ ونساء، يقول: فأيّهم عفا عن دمه من الأقرب فالأقرب من رجل أو امرأة فعفوه جائز؛ لأنَّ قوله: [أن] ينحجزوا: يعني يكفُّوا عن القود، وكذلك كلُّ من ترك شيئًا، وكفَّ عنه، فقد انحجز عنه. وفي هذا الحديث تقوية لقول "أهل العراق" أنَّهم يقولون: لكلِّ وارث أن يعفو عن الدَّم من رجل أو امرأة، فإذا عفا بعضهم سقط القود عن القاتل، وأخذ سائر الورثة حصصهم من الدّية. وأمّا "أهل الحجاز" فيقولون: إنّما العفو والقود إلى الأولياء خاصة، وليس للورثة الذين ليسوا بأولياء من ذلك شيء، يتأوَّلون قول الله -تبارك وتعالى-: "ومن قتل مظلومًا، فقد جعلنا لوليَّه سلطانًا". قال أبو عبيد: وقول "أهل العراق" في هذا أحبّ إليَّ [في القتيل].

120 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيّ -صلى الله عليه وسلّم-: "الإيمان يمان والحكمة يمانية". قال: حدّثناه إسماعيل بن جعفر، عن محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلّم. قوله: الإيمان يمان، وإنّما بدأ الإيمان من "مكة"؛ أنّها مولد النبي -صلى الله عليه وسلّم- ومبعثه، ثمّ هاجر إلى "المدينة"، ففي ذلك قولان: أما أحدهما، فإنه يقال: إن "مكة" من أرض "تهامة"، ويقال: إن "تهامة" من أرض اليمن، ولهذا يسمّى ما وإلى "مكة" من أرض "اليمن" واتصل بها: التهائم، فكأن "مكة" على هذا التفسير يمانية، فقال: "الإيمان" على هذا.

والوجه الآخر أنّه يروى في الحديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلَّم- إنَّما قال هذا الكلام، وهو يومئذٍ "بتبوك" ناحية الشَّام، و"مكَّة" [100] والمدينة حينئذٍ بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحية اليمن، وهو يريد "مكَّة" و"المدينة"، فقال: "الإيمان يمان": أي هو من هذه الناحية، فهما وإن لّم يكونا من "اليمن"، فقد يجوز أن تُنسبا إليها إذا كانتا من ناحيتها، وهذا كثير في كلامهم فاش ألا تراهم، قالوا: الرُّكن اليماني؟ فنُسب إلى اليمن، وهو "بمكَّة"؛ لأنّه مما يليها. قال: وأنشدني "الأصمعي" للنابغة يذمُّ "يزيد بن الصعق" وهو رجل من "قيس" فقال: وكنت أمينة لو لم تحنه ... ولكن لا أمانة لليماني وذلك أنَّه كان مما يلي "اليمن". وقال "ابن مُقبل": وهو رجل من "بني العجلان" من "بني عامر بن صعصة": طاف الخيال بنا ركبًا يمانينا ... ودون ليلى عواد لو تعدّينا فنسب نفسه إلى "اليمن" لأنّ الخيال طرقه، وهو يسير نلاحيتها؛ ولهذا قالوا: سُهيل اليماني، لأنه يرى من ناحية "اليمن".

قال أبو عبيد: وأخبرني هشام بن الكلبي أنَّ "سهيل بن عبد الرحمن بن عوف" تزوَّج الثُّريَّا بنت فلان من "بني أميَّة" من العبلات، وهي أميَّة الصغرى، فقال "عمر بن أبي ربيعة". أنشدنيه عنه "الأصمعي": أيُّها المنكح الثُّريا سُهيلًا ... عمرّك الله كيف يلتقيان هي شآمية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني قال أبو عبيد: فجعل النُّجوم لهما مثلًا لاتّفاق أسمائهما بالنُّجوم، ثم قال: هي شآمية يعني الثُّريا التي في السماء، وذلك أن الثُّريا إذا ارتفعت اعترضت ناحية الشآم مع الجوزاء حتى تغيب تلك الناحية. قال: وسهيل إذا استقل يماني؛ لأنه يعلو من ناحية اليمن، فسمى تلك [101] شآميةً وهذا يمانيًا، وليس منهما شآمي، ولا يمان، إنّما هما نجوم السماء ولكن نسب كلُّ واحد منهما إلى ناحيته، فعلى هذا تأويل قول "النبي" -صلى الله عليه وسلم- "الإيمان يمان".

ويذهب كثير من الناس في هذا إلى الأنصار، يقول: هم نصّروا الإيمان وهم يمانية، فنسب الإيمان إليهم على هذا المعنى، وهو أحسن الوجوه عندي. [قال أبو عبيد]: ومما يبيّن ذلك حديث النبي -صلَّى الله عليه وسلم-[أتاكم أهل اليمن] هم ألين قلوبًا وأرقُّ أفئدةً: الإيمان يمان والحكمة يمانية". ومنه أيضًا قول النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار". 121 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبُّوا أصحابي، فإنَّ أحدكم لو أنفق ما في الأرض ما أدرك مدَّ أحدهم، ولا نصيفه".

قال: حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلّم-. قوله: "مد أحدهم، ولا نصيفه": يقول: لو أنفق أحدكم ما في الأرض ما بلغ مثل مدٍّ يتصدق به أحدهم، أو ينفقه، ولا مثل نصفه. والعرب تسمِّي النصف النَّصيف، كما قالوا في العشر: عشير، وفي الخُمس: خميس، وفي التُّسع: تسيع، وفي الثُّمن: ثمن، قآلها "أبو زيد"، والأصمعي وأنشدنا "أبو الجرَّاح [العقيليُّ] ": وألقيت سهمي بينهم حين أوختوا ... فما صار لي في القسم إلاَّ ثمينها واختلفوا في السُّبع والسُّدس والرُّبع، فمنهم من يقول: سبيع، وسديس، وربيع. ومنهم من لا يقول ذلك. ولم نسمع أحدًا منهم يقول في الثَّلث شيئًا من ذلك، وقال الشاعر في النَّصيف يذكر امرأة: لم يغذها مدُّ ولا نصيف

ولا تميرات ولا تعجيف لكن غذاها الَّلبن الخريف المحض والقارص والصَّريف [102] قال أراد أنَّها منعَّمة في سعة، لم نغذ بمدِّ تمر، ولا نصفه، ولكن بألبان اللِّقاح وقوله: تعجيف: يعني أن تدع طعامها، وهي تشتهيه لغيرها، وهذا لا يكون إلاَّ من العوز والقلَّة. والنصيف. في غير هذا: الخمار. ومنه حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الحور العين قال: "ولنصيف إحداهنَّ على رأسها خير من الدنيا، وما فيها"، قال "النَّابغة": سقط النَّصيف، ولم ترد إسقاطه ... فتناولته؛ واتَّقتنا باليد

122 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في الرِّجل الَّذي عضَّ يد رجل، فانتزع يده من فيه، فسقطت ثناياه، فخاصمه إلى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "فطلَّها". قال: حدَّثناه يزيد بن هارون، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين. قال: وحدَّثناه: حجَّاج، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن يعلى بن أميَّة، عن يعلى، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال "الكسائي" وأبو زيد": قوله: طلَّها: يعني أهدرها وأبطلها. قال أبو زيد: يقال: قد طُلَّ دمه، وقد طلَّه الحكم، وهو دم مطلول. قال: ولا يقال طل دمه، لا يكون الفعل للدَّم.

وأجاز "الكسائي": طلَّ دمه: أي هدر. وكان أبو عبيدة: يقول: فيه ثلاث لغات: طلَّ دمه، وطلَّ دمه، وأطلَّ دمه. قال أبو عبيد: وفي هذا الحديث من الفقه أنَّه من ابتدأ رجلًا بضرب، فاتَّقاه الآخر بشيء يريد به دفعه عن نفسه، فعاد الضَّرب على البادي أنَّه هدر؛ لأنَّ الثاني إنَّما أراد دفعه عن نفسه، ولم يرد غيره. وهذا أصل هذا الحكم. 123 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- "أنَّه رخِّص للمحرم في قتل العقرب، والفأرة والغراب والحدإ، والكلب العقور". قال: حدَّثناه إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلَّم- قال:

"خمس من قتلهنَّ وهو حرام، فلا جناح عليه" ثم ذكر ذلك. قوله: "الكلب العقور" قال: بلغني عن سفيان بن عيينة أنَّه قال: معناه كلُّ سبع يعقر، ولم يخص به الكلب. قال أبو عبيد: وليس للحديث عندي مذهب إلا ما قال "سفيان" لما رخص الفقهاء فيه من قتل المحرم السبع العادي عليه. ومثل قول "الشعبي"، "وإبراهيم": من حل بك فاحلل به. يقول: إن المحرم لا يقتل، فمن عرض لك، فحلَّ بك، فكن أنت أيضًا به حلالًا. وكأنهم إنما اتبعوا هذا الحديث في الكلب العقور. ومع هذا أنه قد يجوز في الكلام أن يقال للسبع كلب؛ ألا ترى أنهم يروون في المغازي أن "عتبة بن أبي لهب" كان شديد الأذى للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال [النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلم-]: "اللهمّ سلِّط عليه كلبًا من كلابك" فخرج "عتبة" إلى "الشام" مع أصحاب له، فنزل منزلًا، فطرقهم الأسد، فتخطى إلى "عتبة [بن أبي لهب] " من بين أصحابه فقتله، فصار الأسد ها هنا قد لزمه اسم الكلب.

وهذا مما يثبِّت ذلك التأويل. ومن ذلك قول الله - تبارك وتعالى-: {وما علَّمتم من الجوارح مكلَّبين} فهذا اسم مشتقٌّ من الكلب، ثم دخل فيه صيد الفهد، والصقر، والبازيِّ، فصارت كلُّها داخلة في هذا الاسم، فلهذا قيل لكل جارح، أو عاقر من السِّباع: كلب عقور. 124 - وقال أبو عبيد في حديث النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن". كان "سفيان بن عيينة"، يقول معناه: من لم يستغن به، ولا يذهب به إلى الصوت، وليس للحديث عندي وجه غير هذا؛ لأنه في حديث آخر كأنه مفسّر.

قال حدثني شبابة، عن حسام بن مصكّ، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن نهيك أو ابن أبي نهيك قال حسام فلقيت عبد الله بن نهيك أو ابن أبي نهيك فحدثني أنه دخل على "سعد" وعنده متاع رثٌّ [104]، ومثال رثٌّ، فقال: ال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن". قال أبو عبيد، فذكره رثاثة المتاع والمثال عند هذا الحديث، ينبئك أنَّه إنَّما أزاد الاستغناء بالمال القليل، وليس الصوت من هذا في شيء. ويبيِّن ذلك حديث "عبد الله". قال: حدَّثناه ابن مهديِّ، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سليم بن حنظلة، عن "عبد الله" قال: "من قرأ سورة "آل عمران" فهو غنيُّ". قال: وحدَّثناه الأشجعيٌّ، عن مسعر، قال: حدَّثنا جابر -قبل أن يقع فيما وقع فيه- عن الشعبيِّ، عن عبد الله أنَّه قال: "نعم كنز الصعلوك سورة "آل عمران" يقوم بها من آخر الليل". قال أبو عبيد: فأرى الأحاديث كلَّها إنَّما دلَّت على الاستغناء. ومنه الحديث الآخر: "من قرأ القرآن، فرأى أنَّ أحدًا أعطى أفضل ممّا أعطى، فقد عظَّم صغيرًا، وصغَّر عظيمًا".

ومعنى الحديث أنَّه لا ينبغي لعامل القرآن أن يرى أنَّ أحدًا من أهل الأرض أغنى منه، ولو ملك الدنيا برحبها. ولو كان وجهه كما يتأوَّله بعض النَّاس أنَّه الترجيع بالقراءة وحسن الصوت لكانت العقوبة قد عظمت في ترك ذلك أن يكون: من لم يرجِّع صوته بالقرآن، فليس من النَّبيِّ [-صلى الله عليه وسلم-] حين قال: "ليس منَّا من لَّم يتغنَّ بالقرآن". وهذا لا وجه له. ومع هذا أنَّه كلام جائز فاشٍ في كلام العرب وأشعارها، أن يقولوا: تغنَّيت تغنِّيًا، وتغانيت تغانيًا بمعنى استغنيت، قال "الأعشى": وكنت امرأ زمنًا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التَّغنّ يريد الاستغناء، أو الغنى. وقال "المغيرة بن حبناء التميمي" يعاتب أخًا له: كلانا غنىٌّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيًا يريد: أشد استغناء.

فهذا وجه الحديث -إن شاء الله تعالى-. وأما قوله: ومثال [105] رثٌّ: فإنَّه الفراش، قال "الكميت": بكل طوال السَّاعدين كأنَّما ... يرى بسرى اللَّيل المثال الممهَّدا 125 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "الكمأة من المنِّ وماؤها شفاء للعين".

قال: حدَّثناه عنبسة بن عبد الواحد الأمويُّ، عن عبد الملك بن عمر، عن عمرو بن حريث، عن سعيد بن زيد، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: الكماَّة من المنِّ، يقال: -والله أعلم- أنَّه إنَّما شبِّهها بالمنِّ الذي كان يسقط على بني "إسرائيل" لأنَّ ذلك كان ينزل عليهم عفوًا بلا علاج منهم، إنَّما كانوا يصبحون، وهو بأفنيتهم، فيتناولونه. وكذلك الكمأة ليس على أحد منها مؤونة في بدر، ولا سقى، ولا غيره، وإنِّما هو شيء ينشئه الله [-سبحانه]- في الأرض حتَّى يصير إلى من يجتنبه. وقوله: وماؤها شفاء للعين، يقال: إنَّه ليس معناه أن يؤخذ ماؤها بحتا، فيقطر في العين، ولكنه يخلط ماؤها في الأدوية التي تعالج العين. فعلى هذا يوجَّه الحديث.

126 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه". قوله: ليُّ: هو المطل. يقال: لويت دينه ألويه ليّا وليَّانا، قال "الأعشى". يلو ينني ديني النَّهار وأقتضى ... ديني إذا وقذ النُّعاس الرقَّدا وقال "ذو الرمة": نطيلين لياني وأنت مليَّة ... وأحسن يا ذات الوشاح التَّقاضيا وقوله: الواجد: يعني الغنىَّ الَّذي يجد ما يقضى [دينه]. ومما يصدِّقه حديث النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مطل الغنىِّ ظلم". وقوله: يحل عقوبته وعرضه: فإن أهل العلم - يتأولون بالعقوبة الحبس في السجن،

وبالعرض أن يشتدَّ [106] لسانه. وقوله: فيه نفسه، ولا يذهبون في هذا: إلى أن يقول في حسنه شيئًا. وكذلك وجه الحديث عندي. ومما يحقِّق ذلك حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لصاحب الحقِّ اليد واللِّسان". قال [أبو عبيد]: وسمعت "محمد بن الحسن" يفسِّر اليد: اللُّزوم، واللِّسان: التَّقاضي. قال أبو عبيد: وفي هذا الحديث باب من الحكم عظيم. قوله: "ليُّ الواجد"، فقال: الواجد، فاشترط الوجد، ولم يقل: ليُّ الغريم؛ وذلك أنَّه قد يكون أن يكون غريمًا، وليس بواجد. وإنَّما جعل العقوبة على الواجد خاصَّة، فهذا يبيِّن لك أنَّه من لَّم يكن واجدًا، فلا سبيل للَّطالب عليه بحبس، ولا غيره حتَّى يجد ما يقضى. وهذا مثل قوله الآخر في الذي اشترى ثمارًا، فأصيبت،

فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للغرماء: "خذوا ما قدرتم له عليه، وليس لكم إلاَّ ذلك". 127 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه سئل عن البتع فقال: "كلُّ شرب أسكر فهو حرام".

[قال]: حدَّثنيه ابن مهدي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة [-رضى الله عنها-]، عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال أبو عبيد: وقد جاءت في الأشربة آثار كثيرة بأسماء مختلفة عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه، وكلُّ له تفسير. فأوَّلها الخمر، وهو ما غلى من عصير العنب، فهذا ما لا اختلاف في تحريمه بين المسلمين، إنَّما الاختلاف في غيره. ومنها السَّكر، وهو نقيع التَّمر الَّذي لم تمسَّه النَّار. وفيه يروى عن عبد الله بن مسعود أنَّه قال: "السَّكر خمر". قال: وكذلك حدثَّنا هشم، عن مغيرة، عن إبراهيم، والشَّعبيِّ، وأبي رزين قالوا: "السَّكر خمر، ". وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير: "السَّكر خمر إلاَّ أنَّه ألأم من الخمر". قال: حدَّثنيه هُشيم، عن ابن شبرمة، عن أبي زرعة.

ومنها "البتع"، وهو الذي جاء [107] فيه الحديث عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلم، وهو نبيذ العسل، ومنها "الجعة": وهو نبيذ الشعير. ومنها "المزر": وهو من الذُّرة. قال: حدثنيه أبو المنذر إسماعيل بن عمر الواسطي، عن مالك بن مغول، عن أكيل مؤذَّن إبراهيم، عن الشَّعبيِّ، عن ابن عمر، أنَّه فسَّر هذه الأربعة - الأشربة وزاد: والخمر من العنب، والسَّكر من التَّمر. قال أبو عبيد: ومنها "السُكوكة" وقد روى [فيه -] عن الأشعريِّ "التَّفسير، فقال: إنَّه من الذُّرة. قال: حدَّثناه حجاج، ومحمد بن كثير، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن صفوان بن محرز، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يخطب، فقال: [إنَّ]

خمر "المدينة" من البسر والتّمر، وخمر "أهل فارس" من العنب، وخمر "أهل اليمن" ... البتع، وهو من العسل، وخمر "الحبش" السكركة. قال أبو عبيد: ومن الأشربة أيضًا "الفضيخ" وهو ما افتضخ من البسر من غير أن تمسه النار. وفيه يروى عن ابن عمر، ليس بالفضيخ، ولكنَّه الفضوخ. [قال أبو عبيد]: وفيه يروى عن أنس [بن مالك] أيضًا أنَّه قال: "نزل تحريم الخمر وما كان غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ. قال: حدَّثنيه ابن عُليَّة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس. قال أبو عبيد: فإن كان مع البسر تمر، فهو الذي يُسمى الخليطين،

وكذلك إن كان زبيبًا وتمرًا فهو مثله. ومن الأشربة "المنصَّف" وهو أن يطبخ عصير العنب قبل أن يغلى حتَّى يذهب نصفه، وقد بلغني أنَّه يُسكر، فإن كان يُسكر فهو حرام، وإن طبخ حتَّى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه، فهو "الطلاء". وإنَّما سُمّي بذلك؛ لأنه بطلاء الإبل في ثخنه وسواده. وبعض العرب يجعل الطِّلاء الخمر بعينها، يُروى أنَّ "عبيد بن الأبرص" قال في مثل له: هي الخمر تُكنى لعمري الطِّلا ... كما الذّيب يُكنى أبا جعده وكذلك "الباذق" قد يسمى به الخمر و [هو] المطبوخ، وهو الذي يروى فيه الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّه سئل عن الباذق، فقال: سبق "محمّد" [-صلَّى الله عليه وسلَّم-] الباذق، وما أسكر فهو حرام.

وإنما قال [108] ابن عباس -رحمه الله- ذلك؛ لأنَّ الباذق كلمة فارسيَّة عُرَّبت، فلم يعرفها. وكذلك "البختج" أيضًا إنَّما هو اسم بالفارسيَّة عرَّب، وهو الذي يروى فيه الرُّخصة، عن "إبراهيم". قال: حدَّثناه هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، أنه أهدى له "بختج" خاثر، فكان ينبذه يلقى فيه العكر. قال أبو عبيد: وهو الذي يسمِّه الناس [اليوم] الجمهوريَّ، وهو إذا غلا، وقد جُعل فيه الماء فقد عاد إلى مثل حالة الأولى لو كان غلا وهو عصير لم يخالطه الماء، لأنَّ السُّكر الَّذي كان زائله أراه قد عاد إليه، وأنَّ الماء الذي خالطه لا حرامًا. ألا ترى أنَّ عمر -رضي الله عنه- إنّما أحلَّ الطِّلاء حين ذهب سكره وشرُّه، وحظُّ شيطانه، وهكذا يروى عنه.

فإذا عاوده ما كان فارقه، فما أغنت عنه النَّار والماء، وهل كان دخولهما ها هنا إلاَّ فضلًا. ومن الأشربة نقيع الزَّبيب، وهو الَّذي يروي فيه عن سعيد بن جبير وغيره: "هي الخمر أحييتها". قال أبو عبيد: وهذا الجمهوريُّ عندي شرٌّ منه، ولكنَّه ممَّا أحدث الناس بعد، وليس ممَّا كان في دهر أولئك، فيقولوا فيه. ومن الأشربة "المقدِّيُّ" وهو شراب من أشربة "أهل الشَّام"، وزعم الهيثم [بن عديِّ] أن عبد الملك بن مروان، كان يشربه، ولست أدري من أي شيء يعمل غير أنَّه مسكر ومنها شراب يقال له: "المزَّاء"، وقد جاء في بعض الحديث ذكره، وقالت فيه الشُّعراء، قال "الأخطل" يعيب قومًا:

بئس الصُّحاة، وبئس الشَّرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزَّاء والسُّكر قال [أبو عبيد] وقد أخبرني محمَّد بن كثير أنَّ "لأهل اليمن" شرابًا يقال له: "الصَّعف"، وهو أن يشدخ العنب، ثم يلقى في الأوعية حتَّى يغلى، فجهَّا لهم لا يرونها خمرًا لمكان اسمها. قال أبو عبيد: وهذه الأشربة المسمَّاة كلُّها عندي كناية [109]، عن اسم الخمر، ولا أحسبها إلَّا داخلة في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أن ناسا من أمَّتي يشربون الخمر باسم يسمُّونها به". قال أبو عبيد: وقد بقيت أشربة سوى هذه المسماة ليست لها أسماء منها: نبيذ الزَّبيب بالعسل، ونبيذ الحنطة، ونبيذ التِّين، وطبيخ الدَّبس، وهو عصير التَّمر، فهذه كلُّها لاحقة عندي بتلك المسمَّاة في الكراهة، وإن لَّم تكن سمِّيت؛ لأنَّها كلَّها

تعمل عملًا واحدًا في السُّكر، والله أعلم بذلك. قال: وممَّا يبيِّنه قول عمر بن الخطَّاب -رحمه الله-: "الخمر ماخامر العقل". قال: حدَّثناه ابن عليَّة، ويحي بن سعيد كلاهما عن أبي حيَّان التَّيمِّي، عن الشَّعبيِّ، عن ابن عمر، قال: خطب "عمر" فقال: "إنَّ الخمر نزل تحريمها، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتَّمر، والحنطة، والشَّعير، والعسل، والخمر ماخامر العقل". وقد أخبرني يحي بن سعيد [القطَّان]، عن عبد الله بن المبارك في رجل صلَّى وفي ثوبه من النَّبيذ المسكر مثل قدر الدَّرهم أو أكثر أنَّه يعيد الصَّلاة.

128 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الأوعية التي نهى عنها النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "من الدُّباَّء، والحنتم والنَّقير، والمزقت". وقد جاء تفسيرها كلها، أو أكثرها في الحديث. قال: حدَّثناه يزيد بن هارون، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن

أبي بكرة، قال: أمَّا الدُّبَّاء: فإنَّنا معاشر "ثقيف" كنَّا "بالطَّائف" تأخذ الدُّبّاة، فنخرط فيها عناقيد العنب، ثمَّ ندفنها حتَّى تهدر، ثمَّ تموت. وأمَّا النَّقير فإنَّ "أهل اليمامة" كانوا ينقون أصل النَّخلة، ثمَّ يشدخون فيه الرُّطب والبسر، ثمَّ يدعونه حتَّى يهدر، ثمَّ يموت. وأمَّا الحنتم: فجرار حمر كانت تحمل إلينا فيها الخمر. قال أبو عبيد: أمَّا في الحديث فحمر، وأمَّا في كلام العرب فخضر، وقد يجوز أن يكونا جميعًا. وأمَّا المزقَّت: فهذه الأوعية الَّتي [110] فيها الزَّقت.

قال أبو عبيد: فهذه الأوعية الَّتي جاء فيها النَّهي، وهي عند العرب على ما فسَّرها "أبو بكرة" وإنمَّا نهى عنها كلَّها لمعنى واحد أنَّ النَّبيذ يشتدُّ فيها حتَّى يصير مسكرًا، ثمَّ رخَّص فيها وقال: "اجتنبوا كل مسكر" فاستوت الظُّروف كلُّها، ورجع المعنى إلى المسكر، فكلُّ ما فيها وفي غيرها من الأوعية بلغ ذلك، فهو المنهي عنه. وما لم يكن فيه منها ولا من غيرها مسكرًا فلا بأس به. وممَّا يبيِّن ذلك قول "ابن عبَّاس": "كلُّ حلال من كلِّ ظرف حلال، وكل حرام في كلِّ ظرف حرام" وقول غيره: "ما أحل ظرف شيئًا ولا حرمه". ومن ذلك قول "أبو بكرة": أأن أخذت عسلًا، فجعلته في وعاء خمر أإنَّ ذلك ليحرمه، أو أخذت خمرًا فجعلته في سقاء أإنَّ ذلك ليحلُّها.

129 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلَّم- أنَّه عطس عنده جلان، فشمَّت أحدهما، ولم يشمِّت الآخر، فقيل له: يا رسول الله! عطس عندك رجلان فشمَّتَّ أحدهما، ولم تشمِّت الآخر، فقال: "إنَّ هذا حمد الله، وإنَّ هذا لم يحمد الله" [- عز وجل -] قال: حدَّثناه ابن عليَّة، عن سليمان التَّيميِّ، عن أنس بن مالك، عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم. قوله: شمَّت: يعني دعا له، كقولك: "يرحمكم الله، أو يهديكم الله ويصلح بالكم" والتَّشميت هو الدُّعاء، وكلُّ داع لأحد بخير فهو مشمِّت له.

ومنه حديثه الآخر، يُّروي عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، - أراه - عن عبد الله ابن عمرو بن هند، أنَّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلَّم - لما أدخل "فاطمة" على "علىِّ" قال لهما: "لا تحدثا شيئًا حتى آتيكما، فأتاهما، فدعا لهما، وشمَّت عليهما، ثمَّ خرج". وفي هذا الحرف لغتان سمِّت، وشمَّت، والشِّين أعلى في كلامهم وأكثر [111]. 130 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم "الصَّوم في الشِّتاء الغنيمة الباردة".

قال: حدَّثنيه ابن مهديِّ: عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن نمير بن عريب، عن عامر ابن مسعود يرفعه. قال "الكسائيُّ" وغيره: قوله: الغنيمة الباردة، إنمَّا وصفها بالبرد؛ لأن الغنيمة إنمَّا أصلها من أرض العدوِّ، ولا ينال ذلك إلاَّ بمباشرة الحرب والاصطلاء بحرها. يقول: فهذه غنيمة ليس فيها لقاء حرب ولا قتال. وقد يكون أن يسمىَّ باردة؛ لأنَّ صوم الشِّتاء ليس كصوم الصَّيف الذي يقاسي فيه العطش، والجهد، وقد قيل في مثل: "ولِّ حارَّها من تولَّى قارَّها". يضرب للرجل يكون في سعة وخصب [و] لا ينيلك منه شيئًا، ثمَّ يصير منه إلى أذى ومكروه، فيقال: دعه حتَّى يلقى شرَّه، كما لقى خيره. فالقارُّ: هو المحمود، وهو مثل الغنيمة الباردة، والحارُّ: هو المذموم المكروه.

131 - وقال عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- "أنه خرج في مرضه الذي مات فيه يهادي بين اثنين حتَّى أدخل المسجد". يعني أنَّه كان يعتمد عليهما من ضعفه وتمايله، وكذلك كلُّ من فعل ذلك بأحد، فهو يهاديه، قال "ذو الرمَّة" يصف امرأة تمشي بين نساء يماشينها: يهادين جمَّاء المرافق وعثة ... كليلة حجم الكعب ريَّا المخلخل وإذا فعلت المرأة ذلك، فتمايلت في مشيتها من غير أن يماشيها أحد، قيل: في تهادي. قاله "الأصمعي" وغيره.

ومن ذلك قول "الأعشى": إذا ما تأتَّي تريد القيام ... تهادي كما قد رأيت البهيرا 132 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- "اتقوا الله في النسِّاء، فإنَّهنَّ عندكم عوان". قوله: عوان، واحدتها عانية، وهي الأسيرة. يقول: إنمَّا هنَّ عندكم بمنزلة الأسراء. ويقال للرجل من ذلك: هو عان، وجمعه عناة [112].

ومنه حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكُّوُّا العاني" يعني الأسير، ولا أظنُّ هذا مأخوذًا إلا من الذُّلِّ والخضوع؛ لأنَّه يقال لكلِّ من ذلَّ واستكان: قد عنا يعنو، وقال الله - تبارك وتعالى -: "وعنت الوجوه للحي القيُّوم". والاسم من ذلك العنوة، قال "القطاميُّ" يذكر امرأة: ونأت بحاجتنا وربت عنوة ... لك من مواعدها التي لم تصدق [يقول استكانة لها، وخضوعًا لمواعدها ثم لا تصدق]. ومنه قيل: أخذت البلاد عنوة، إنما هو بالقهر والإذلال وقد يقال للأسير أيضًا: الهدىُّ، قال "المتلمِّس" يذكر "طرفة" ومقتل "عمرو بن هند" إياه بعد أن كان سجنه: كطريفة بن العبد كان هديهم ... ضربوا صميم قذاله بمهند

وأظنُّ المرأة إنما سميت هديَّا لهذا المعنى؛ لأنها كالأسيرة عند زوجها، قال "عنترة": ألا يا دار عبلة بالطَّويِّ ... كرجع الوشم في كفِّ الهدىِّ وقد يكون أن تكون سمِّيت هديِّا: لأنها تهدي إلى زوجها، فهي هدى: فعيل في موضع مفعول، فقال: هدىِّ، يريد مهدَّية. يقال منه: هديت المرأة إلى زوجها أهديها هداء بغير ألف، قال "زهير ابن أبي سلمى المزنيُّ]: فإن تكن النَّساء مخَّبآت ... فحقَّ لكلَّ محصنة هداء يعني أن تهدي إلى زوجها، وليس هذا من الهدَّية في شيء لا يقال من الهدية إلا أهديت إهداء، ومن المرأة هديت. وقد زعم بعض الناس أن في المرأة لغة أخرى: أهديت والأول أفشى في كلام مهم وأكثر.

133 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه مر هو وأصحابه، وهم محرمون بظبي حاقف في ظلِّ شجرة فقال: "يا فلان! قف هاهنا حتى يمرَّ الناس، لا يربه/ [113] أحد بشيء". قال: حدثناه هشيم، ويذيد [بن هارون]، عن يحي بن سعيد، عن محمد ابن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.

وقال يزيد: عن عمير، عن البهزي، عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- صح. قوله حاقف: يعني الذي قد أنحنى، وتثنى في نومه، ولهذا قيل للرمل إذا كان منحنيًا حقف، وجمعه أحقاف، ويقال في قول الله -تبارك وتعالى-: {إذ أنذر قومه بالأحقاف}: إنما سمِّيت منازلهم بهذا؛ لأنها كانت بالرمال. وأمَّا في بعض التفسير في قوله [سبحانه] "بالأحقاف" قال: بالأرض، وأمَّا المعروف في كلام العرب، فما أخبرتك، قال "امرؤ القيس": فلما أجزنا ساحة الحيِّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل وواحد الحقاف حقف. ومنه يقال للشيء إذا انحنى: قد احقو قف، قال "العجاج": مر الليالي زلفًا فزلفا سماوة الهلال حتَّى احقوقفا

134 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- "أنه لم يصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقيَّة ونشِّ". وهذا حديث يروى عن سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، يرفعه. قوله في الأوقية والنَّشِّ: يروى تفسيرهما عن "مجاهد". قال: حدثنيه يحي بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الأوقيَّة أربعون، والنَّشُّ عشرون، والنواة خمسة. ومنه حديث عبد الرحمن بن عوف - رحمه الله -. قال: حدثنيه إسماعيل بن جعفر، وإسماعيل بن عليَّة، وهشيم كلهم عن

حميد، عن أنس، أنَّ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- رأى على عبد الرحمن [بن عوف] وضرًا من صفيرة، فقال: "مهيم"؟ قال: تزوجت امرأة من الأنصار على نواة من ذهب. فقال: "أو لم ولو بشاة". قوله: نواة يعني خمسة دراهم. وقد كان بعض الناس يحمل معنى هذا أنه أراد قدر نواة من ذهب، كانت قيمتها خمسة دراهم، ولم يكن ثم ذهب، إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة، كما تسمى الأربعون أوقية [114] وكما تسمى العشرون نشَّا.

وفي هذا الحديث من الفقه أنه يردُّ قول من قال لا يكون الصداق أقل من عشرة دراهم. ألا ترى أنَّ النبَّي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم ينكر عليه ما صنع. وفيه من الفقه أيضًا: أنه لم ينكر عليه الصفَّرة لما ذكر التزويج. وهذا مثل الحديث الآخر أنَّهم كانوا يرخِّصون في ذلك للشابِّ أيام عرسه. وقوله: "مهيم" كأنها كلمة يمانيَّة معناها: ما أمرك؟ وما هذا الذي أرى بك، ونحو هذا من الكلام.

135 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه كان إذا دخل الخلاء قال: "أللهم إلِّى أعوذ بك من الرِّجس النِّجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم". قوله: الرِّجس النِّجس، زعم الفراء أنهم إذا بدأوا بالنجس، ولم يذكروا الرجس، فتحوا النُّون والجيم، وإذا بدأوا بالرِّجس، ثم أتبعوه النِّجس، كسروا النُّون. وقوله: الخبيث المخبث، فالخبيث: هو ذو الخبث في نفسه، والمخبث: هو الذي أصحابه وأعوانه خبثاء.

وهذا مثل قولهم: فلان قويُّ مقر، فالقرىُّ في بدنه، والمقويُّ: أن تكون دابته قوَّية، قال ذلك "الأحمر". وكذلك قولهم: هو ضعيف مضعف، فالضعيف في بدنه، والمضعف في دابته، وعلى هذا كلام العرب. وقد يكون المخبث أيضًا أن يخبث غيره: أي يعلِّمه الخبث، ويفسده. وأما الحديث الآخر: "أنه كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إنِّي أعوذ بك من الخبث والخبائث". قال: حدثناه هشيم، وابن علَّية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: الخبث: يعني الشَّرَّ، وأما الخبائث: فإنها الشياطين. وأما الخبث بفتح الخاء والباء - فما تنفى النار من ردئ الفضَّة [115] ولحديد. ومنه الحديث المرفوع: "إن الحمى تنفي الذُّنوب كما ينفي الكير الخبث".

136 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم: "أنه بينا هو يمشي في الطريق إذ مال إلى دمث فبال [فيه]، وقال: "إذا بال أحدكم فليرتد لبوله". قال: حدثناه عباد بن عباد، عن شعبة، عن أبي التياح، عن رجل قدم مع "ابن عباس" ["البصرة"] أنَّ أبا موسى [الأشعريِّ] كتب إلى "ابن عباس" بذلك. قوله: دمث: يعني المكان الليّن السهل. وقوله: فليرتد لبوله: يعني أن يرتاد مكانًا ليِّنًا منحدر ليس بصلب، فينتضح عليه، أو مرتفعًا، فيرجع إليه.

وفي البول حديث آخر، قال: حدثناه عبَّاد بن عبَّاد أيضًا عن واصل مولى أبي عيينة، قال: كان يقال: "إذا أراد أحدكم البول، فليتمخر الريح" يعني أن ينظر من أين مجراها فلا يستقبها، ولكن يستدبرها كيلا ترَّد عليه البول، وأما المخر: فهو الجري، يقال: مخرت السفينة تمخر مخرًا: إذا جرت كان الكسائيُّ" يقول ذلك. ومنه قوله [-عز وجل-]: {وترى الفلك مواخر فيه}: يعني جواري. 137 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه لما رأى الشمس قد وقبت، قال: "هذا حين حلها".

قال: حدثناه محمد بن ربيعة، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، رفعة. قوله: وقنت: يعني غابت ودخلت موضعها، وأصل الوقب الدخول. يقال: وقب الشيء يقب وقوبًا، ووقبًا: إذا دخل. ومنه قول الله -تبارك وتعالى-: {ومن شرِّ غاسق إذا وقب} هو في التفسير: الليل إذا دخل. وفي حديث آخر أنه القمر. قال: حدثناه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن عائشة [- رضي الله عنها -] قالت: أخذ رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-] بيدي، فأشار إلى القمر [116] فقال:

"تعوَّذي بالله من هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب". وقد يكون أن يكون وصفه بذلك؛ لأنه يغيب كما قال في الشمس حين وقبت: يعني غابت. 138 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "ألظُّوا بياذا الجلال والإكرام". وبعضهم يرويه: "ألظُّوا بذي الجلال والإكرام". يروي هذا الحديث عن عوف، عن الحسن، يرفعه. قوله: ألظوا: يعني الزموا ذلك، والإلظاظ: اللُّزوم للشيء والمثابرة عليه.

يقال: ألظظت به ألظُّ إلظاظًا، وفلان ملظُّ بفلان: إذا كان ملازمه لا يفارقه، فهذا بالظاء، وبالألف في أوله. وأمَّا لططت - بالطاء - في غير هذا الحديث، فإنه بغير ألف. يقال: لططت الشيء ألطُّه لطَّا، معناه: سترته، وأخفيته، قال "الأعشى": ولقد ساءها البياض فلطَّت ... بحجاب من دوننا مصدوف ويروى: "مصروف". قال أبو عبيد وقد يكون اللَّطُّ أيضًا في الخبر أن تكتمه، وتظهر غيره، وهو من السّتر أيضًا، ومنه قول عباد بن عمرو الذُّهليِّ: وإذا أتاني سائلِّ لم أعتلل ... لألط من دون السوام حجابي

139 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنيِّ قد نهيت عن القراءة في الرُّكوع والسُّجود، فأما الرُّكوع، فعظِّموا الله فيه، وأما السُّجود، فأكثروا فيه من الدُّعاء، فإنه قمن أن يستجاب لكم". قال: حدثناه إسماعيل بن جعفر، عن سليمان بن سحيم، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن أبيه، عن ابن عباس، عن النَّبيِّ [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]. قوله: قمن: كقولك: جدير، وحرىٌّ أن يستجاب لكم. يقال: فلان قمن أن يفعل ذاك، وقمن أن يفعل ذاك، فمن قال: قمن أراد المصدر، فلم يثنِّ، ولم يجمع، ولم يؤنِّث.

يقال: هما قمن أن يفعلا ذاك، وهم قمن أن يفعلوا ذاك، وهن قمن أن يفعلن ذاك، ومن قال: قمن أراد النعت، فثنى، وجمع، فقال: هما قمنان، وهم قمنون، ويؤنِّث [117] على هذا، ويجع. وفيه لغتان، يقال: هو قمن أن يفعل ذاك، وقمين أن يفعل ذاك، قال "قيس ابن الخطيم الأنصاريُّ": إذا جاوز الاثنين سرُّ فإنه ... بنثِّ وتكثير الوشاة قمين 140 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في المغازي، وذكر قومًا من أصحابه كانوا غزاة، ققتلوا، فقال رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]: "يا ليتني غودرت مع أصحاب نحص الجبل"

فالنُّحص: أصل الجبل وسفحه، وقوله: غودرت، يقول: ليتني تركت معهم شهيدًا مثلهم، وكلُّ متروك في مكان فقد غردر فيه. ومنه قوله [-عزَّ وجلَّ-]: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها}: أي لا يترك شيئًا. وكذلك أغدرت الشيء تركته، إنَّما هو أفعلت من ذلك، قول الراجز: هل لك والعائض منك عائض في هجمة يغدر منها القابض

قال "الأصمعي": القابض هو السائق السريع السوق. يقال: قبض يقبض قبضًا: إذا فعل ذلك. وقوله: يغدر منها، يقول لا يقدر على ضبطها كلِّها من كثرتها ونشاطها حتَّى يغدر بعضها: [أي] يتركه. 141 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المبعث حين رأى "جبريل" [- عليه السَّلام -]، قال: "فجئثت [منه] فرقًا". ويقال: فجئثت. قال "الكسائيُّ": المجؤُوث والمجثوث جميعًا: المرعوب الفزع. قال: وكذلك المزوود، وقد جئث، وجث، وزئد.

قال فأتى "خديجة" [- رحمها الله -]، فقال: "زملوني". قال: فأتت "خديجة" ابن عمها "ورقة بن نوفل" وكان نصرانيًّا، قد قرأ الكتب، فحدثته بذلك، وقالت: إنِّي أخاف أن يكون قد عرض له. فقال: لئن كان ما تقولين حقًّا، إنَّه ليأتيه النَّاموس الذي كان يأتي موسى -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو عبيد: والناموس هو صاحب سرِّ الرَّجل الذي يطلعه على باطن أمره، ويخصُّه بما يسترد عن غيره. يقال منه: نمس الرجل ينمس نمسًا، وقد نامسته [118] منامسة، إذا ساررته، قال "الكميت": فأبلغ يزيد إن عرضت ومنذرًا ... وعمَّهما والمستسرَّ المنامسا فهذا من النَّاموس. وفي حديث آخر في غير هذا المعنى: القاموس، فذلك قاموس البحر، وهو وسطه، وذلك لأنَّه ليس موضع أبعد غورًا في البحر منه، ولا الماء فيه أشدَّ انقماسًا منه في وسطه.

وأصل القمس الغوص، قال "ذو الرُّمَّة" يذكر مطرًا عند سقوط الثُّريَّا: أصاب الأرض منقمس الثُّريَّا ... بساحية، وأتبعها طلالا أراد أنَّ المطر كان عند سقوط الثُّريَّا، وهو منقمسها، إنَّما خصَّ الثُّريَّا؛ لأنَّ العرب، تقول: ليس شيء من الأنواء أغزر من نوء الثُّريَّا، فأبطل الإسلام جميع ذلك. وقوله: بساحية: يعني أنَّ المطر يسحو الأرض: يقشرها، ومنه قيل: سحوت القرطاس، إنَّما هو قشرك إيَّاه والطِّلال جمع طلِّ. 142 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه سئل عن اللُّقطة، فقال: "إحفظ عفاصها ووكاءها، ثمَّ عرِّفها [سنة] فإن جاء صاحبها فادفعها إليه". قيل: فضالَّة الغنم؟ قال: "هي لك، أو لأخيك، أو للذِّئب". قيل: فضالَّة الإبل؟

فقال: "مالك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشَّجر، حتَّى يلقاها ربُّها". قال حدَّثناه إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبد الرَّحمن، عن "يزيد" مولى "المنبعث"، عن زيد بن خالد الجهنيِّ، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-. أمَّا قاله: احفظ عفاصها ووكاءها: فإنَّ العفاص هو الوعاء الذي تكون فيه النَّفقة، إن كان من جلد أو خرقة، أو غير ذلك؛ ولهذا يسمىَّ الجلد الذي يلبسه رأس القارورة العفاص؛ لأنَّه كالوعاء لها، وليس هذا بالصمام.

إنَّما الصمام الذي يدخل في فم [119] القارورة، فيكون سدادا لها. وقوله: وكاءها: يعني الخيط الذي تشدُّ به" يقال منه: أوكيّنها إيكاء، وعصتها عفصًا: إذا شددت العفاص عليها، فإن أردت أنَّك جعلت لها عفاصًا، قلت أعفصتها إعفاصًا. وإنَّما أمر الواجد لها أن يحفظ عفاصها ووكاءها؛ ليكون ذلك علامة للُّقطة، فإن جاء من بتعرَّفها بتلك الصِّفة دفعت إليه. وهذه سنَّة من رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-] في اللُّقطة خاصَّة -لا يشبهها شيء من الأحكام- أنَّ صاحبها يستحقُّها بلا بيِّنة، ولا يمين، ليس إلاَّ بالمعرفة بصفتها. وأمَّا قوله في ضالَّة الغنم: هي لك، أو لأخيك، أو للذِّئب: فإنَّ هذا رخصة منه في لقطة الغنم. يقول: إن لَّم تأخذها أنت أخذها إنسان غيرك، أو أكلها الذئب: أي فخذها. قال أبو عبيد: وليس هذا عندنا فيما يوجد منها قرب الأمصار ولا القرى،

إنَّما هذا أن توجد في البراري، والمفاوز التي ليس قربها أنيس؛ لأن تلك التي توجد قرب القرى والأمصار، لعلَّها تكون لأهلها. [قال "أبو عبيد"]: وهذا عندي أصل لكل شيء يخاف عليه الفساد مثل الطعام والفاكهة ممَّا إن ترك في الأرض لم يلتقط فسد، أنَّه لا بأس بأخذه. وأمَّا قوله في ضالَّة الإبل: مالك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، فإنَّه لم يغلِّط في شيء من الضوّالِّ تغليظه فيها. وبذلك أفتى "عمر بن الخطَّاب [-رضي الله عنه-] "ثابت بن الضَّحَّاك". وكان وجد بعيرًا، فسأل "عمر"، فقال: اذهب إلى الموضع الَّذي وجدته فيه، فأرسله قال حدَّثناه هشيم، قال أخبرنا يحي بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن "عمر" [-رحَّمة الله عليه-] وقوله: معها حذاؤها وسفاؤها: يعني بالحذاء أخفافها، يقول: أنَّها تقوى على السَّير وقطع البلاد. وقوله: سقاؤها: يعني أنَّها تقوى على ورود المياه [120] تشرب، والغنم لا تقوى على ذلك وهذا الَّذي جاء في الإبل من التغليظ هو تأويل قوله في الحديث آخر: "ضالَّة المسلم حرق النَّار". قال حدثنيه يحي بن سعيد، عن حميد، عن الحسن، عن مطرف عن أبيه، قال:

قال رجل يا رسول الله! : "إنَّا نصيب هوامي الإبل". فقال رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]: "ضالَّة المسلم حرق النَّار". وهذا مثل حديثه الآخر: "لا يؤوي الضَّالَّة إلاَّ ضالٌّ". وبعض النَّاس يحمل معنى هذين الحديثين على اللُّقطة، يقول: وإن عرَّفها فلا تحلُّ له أبدًا. وأمَّا أنا فلا أرى اللَّقطة من الضالَّة في شيء لأنَّ الضَّالَّة لا يقع معناها إلاَّ على الحيوان خاصَّة، هي التَّي تضلُّ. وأمَّا اللَّقطة فإنَّه إنَّما يقال فيها: سقطت أو ضاعت، ولا يقال: ضلت. وممَّا يبيِّن ذلك أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - رخَّص في أخذ اللُّقطة على أن يعرِّفها، ولم يرخِّص في الإبل على حال، وكذلك البقر والخيل والبغال والحمير، وكلُّ ما كان منها يستقلُّ بنفسه، فيذهب، فهو داخل في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-:

"ضالَّة المسلم حرق النَّار" وفي قوله: "لا يؤوى الضالَّة إلاَّ ضالُّ". وأمَّا حديثه في اللُّقطة: "ما كان في طريق ميتاء، فإنَّه يعرِّفها سنة". فالميتاء: الطَّريق العامر المسلوك. ومنه حديثه - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين توفيِّ ابنه "إبراهيم" فبكى عليه، وقال: "لولا أنَّه وعد حقًّ، وقول صدق، وطريق ميتاء، لحزنَّا عليك يا إبراهيم أكثر من حزننا هذا". قوله: ميتاء: هو الطَّريق، ويعني بالطَّريق ها هنا الموت: أي إنَّه طريق يسلكه النَّاس كلُّهم، وبعضهم يقول: طريق مأتيُّ، فمن قال ذلك، أراد: أنَّه يأتي

عليه النَّاس [كلُّهم [، فيجعله من الإتيان، وكلاهما معناه جائز. وأمَّا قوله في الحديث الآخر: "أشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ثمَّ لا تكتم، ولا تغيِّب فإن جاء صاحبها، فادفعها إليه، وإلاَّ فهو مال الله يؤتيه من يشاء". قال: حدثنا يزيد، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن [121] عياض بن حمار، عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهذا في اللُّقطة خاصة، دون الضوال من الحيوان. 143 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ - صلَّى اله عليه وسلَّم -: "من سره أن يسكن بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإنَّ الشَّيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".

قال: حدثنيه النضر بن إسماعيل، عن محمد بن سوقة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر - رحمه الله - أنَّه قال ذلك في خطبته "بالجابية" ورفع الحديث. قوله: بحبوحة [الجنَّة] يعني وسط الجنَّة، وبحبوحة كلِّ شيء وسطه وخياره قال جرير بن الخطفي: قومي تميم هم القوم الَّذي هم ... ينفون تغلب عن بحبوحة الدار. ويقال منه: قد تبحبحت في الدار: إذا توسَّطتها، وتمكَّنت منها. 144 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّه ضحَّى بكبشين أملحين".

قال: حدَّثناه "هشيم"، ويزيد، عن حجاج، عن أبي جعفر، رفعه. قال "الكسائيُّ" و "أبو زيد" وغيرهما: قوله: أملحين: الأملح هو الَّذي فيه بياض سواد ويكون البياض أكثر [منه]. ومنه الحديث الآخر: "إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهل النار النَّار أتى بالموت كأنَّه كبش أملح، فيذبح على الصِّراط، ويقال: خلود لا موت". وكذلك كلُّ شعر وصوف، ونحوه كان فيه بياض، وسواد، فهو أملح. قال الراجز لكلِّ دهر قد لبثت أثوبًا حتى اكسي الرَّأس قناعًا أشيبا أملح لا لذَّا ولا محببًا وحديثه الآخر في الأضاحي أنَّه: "نهى أن يضحَّي بالأعضب القرن والأذن".

قال: حدثنيه "ابن مهدِّي" عن شعبة، عن قتادة، عن جريِّ بن كلب، عن "على"، رفعه. قوله: الأعضب: هو المكسور القرن. ويروى عن "سعيد بن المسيب" أنَّه قال: هو النِّصف، فما فرقه، وبهذا كان يأخذ "أبو يوسف" في الأضاحي. وقال "أبو زيد" فإن انكسر القرن الخارج، فهو أقصم والأنثى قصماء [122] وإذا انكسر الداخل فهو أعضب. قال "أبو عبيد": وقد يكون الأعضب في الأذن أيضًا، فأمَّا المعروف ففي القرن، قال "الأخطل": إنَّ السيوف غدوَّها ورواحها ... تركت هوازن مثل قرن الأعصب والأنثى عضباء.

وأمَّا ناقة النَّبيِّ [-صلَّى الله عليه وسلَّم-] التي كانت تسمى العضباء، فليس من هذا، وإنَّما ذاك اسم لها سميت به. وأمَّا القصواء: فإنَّها المشقوقة الأذن. وقال "أبو زيد": هي المقطوعة طرف الأذن، والذَّكر منها مقصى ومقصوُّ، وهذا على غير قياس، قاله "الأحمر". وكان القياس أن يقال أقصى مثل: عشواء وأعشى وأمَّا حديثه الآخر "أنَّه نهى عن العجفاء الَّتي لا تنفى في الأضاحي" فإنَّه يقول: ليس بها نقىُّ من هزالها، وهو المخُّ.

يقال منه: ناقة منقية: إذا كانت ذات نقي، قال "الأعشى": حاموا على أضيافهم فشووالهم ... من لحم منقية ومن أكباد 145 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّه لما أتاه "ما عز بن مالك" فأقرَّ عنده بالزَّنا ردَّه مرتَّين، ثم أمر برجمه، فلمَّا ذهبوا به، قال "يعمد أحدهم إذا غزا النَّاس، فينب كما ينب التيس، يخدع إحداهنَّ بالكثبة. لا أوتي بأحد فعل ذلك إلاَّ نكلَّت به". وهذا حديث يورى عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: سماك: فحدثت بذلك سعيد بن جبير، فقال: ردَّه أربع مرَّات.

قال "شعبة": فقلت لسماك: ما الكثبة؟ قال: القليل من اللَّبن. قال أبو عبيد: والكثبة عندنا كلُّ شيء مجتمع، وهو مع اجتماعه قليل، من لبن كان أو طعام، أو غيره، وجمع الكثبة كثب، وقال "ذو الرُّمَّة" يذكر أرطاة عندها بعر الصيران، فقال: ميلاء من معدن الصيران قاصية ... أبعارهنَّ على أهدافها كثب [123] فالصِّيران: جماعات البقر، واحدها صوار وصوار. والأهداف: جوانبها واحدها هدف، وهو المشرف من الرمل. والكثب: جمع كثبة، يقول: على كلِّ هدف كثبة، وهو ما أجتمع من أبعارها. وفي هذا الحديث من الفقه: أنَّه ردَّه أربع مرَّات، كما روى "سعيد بن جبير"، و [هذا] هو المحفوظ عندنا عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلَّم- والمعمول به أنَّه لا يصدَّق على إقراره حتَّى يقرَّ أربع مرَّات، ثم يقام عليه الحدُّ.

146 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قيل له: "إنَّ صاحبًا لنا أوجب". وهذا حديث يروى عن إبراهيم بن أبي عبلة الشَّاميِّ، عن فلان بن الغريف، قال: قلنا لواثلة بن الأسقع حدثنا عن رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-] حديثًا ليست فيه زيادة ولا نقصان. فقال: ومن يستطيع أن يحدِّث حديثًا ليست فيه زيادة إلا أنا. "أتينا رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-] يومًا، فقلنا: إنَّ صاحبًا لنا أوجب فقال: "مروه فليعتق رقبة". قوله: أوجب: يعني ركب كبيرة أو خطيئة موجبة يستوجب بها النَّار. يقال في ذلك للرَّجل: قد أوجب، وكذلك الحسنة يعملها توجب له الجنَّة. فيقال لتلك الحسنة، و [تلك] السَّيِّئة موجبة. ومنه حديثه في الدَّعاء: "اللَّهمَّ إنَّي أسألك موجبات رحمتك".

ومنه حديث "إبراهيم": "كانوا يرون أنَّ المشي إلى المسجد في اللَّيلة المظلمة ذات المطر والرِّيح أنَّها مرجبة". قال [أبو عبيد]: حدَّثناه جرير، عن أبي معشر، عن إبراهيم. قال "أبو عبيد": وهذا من أعجب ما يجئ من الكلام: أن يقال للرَّجل: قد أوجب، وللحسنة والسيِّئة قد أوجبت. وهذا مثل قولهم: قد تهيَّبني [الشَّيء]، وقد تهيبَّت الشَّيء بمعنى واحد، وقال الشَّاعر: [وهو تميم بن مقبل]: وما تهَّيبني الموماة أركبها ... إذا تجاوبت الأصداء بالسَّحر [124] أراد: وما أتهيَّبها.

147 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ امرأة أتته، فقالت [يا رسول الله]: إنَّ ابني هذا به جنون يصيبه عند العداء والعشاء قال: فمسح رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-] صدره، ودعا له، فثعَّ ثعَّة، فخرج من جوفه جرو أسود فسعى ... وهذا حديث يروى عن حَّمَّاد بن سلمة، عن فرقد السبخيِّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: فثعَّ ثعَّة: يعني قاء قبئة. يقال للرَّجل: قد ثعَّ ثعَّة، وقد ثععت يا رجل: إذا قاء، ويقال أيضًا للقئ:

قد أتاع الرَّجل إتاعة: إذا قاء أيضًا، فهو متيع، والقيء متاع، قال "القطامي" وذكر الجراحات: [وظلَّت تعبط الأيدي كلومًا] تمجُّ عروقها علقًا متاعًا 148 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قدم عليه وفد "هوازن" يكلِّمونه في سبى "أوطاس" أو "حنين" فقال رجل من "بني سعد بن بكر"، يا محمد! إنَّا لو كنَّا ملحنا "للحارث بن أبي شمر" أو "للنُّعمان بن المنذر" ثمَّ نزل منزلك هذا منَّا، لحفظ ذلك لنا، وأنت خير المكفولين، فاحفظ ذلك". وهذا الحديث يروى في المغازي عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدِّه، يرفعه.

قال "الأصمعيُّ" وغيره، قوله: ملحنا: يعني أرضعنا، وإنمَّا قال السَّعدي هذه المقالة؛ لأن رسول الله - صلّى الله عليه وسلَّم - كان مسترضعًا فيهم. قال "الأصمعيَّ": والملح هو الرضاع، وأنشد لأبي الطَّمحان، وكانت له إبل يسقى قرمًا من ألبانها، ثمَّ إنَّهم أغاروا عليها، فأخذوها، فقال: وإنِّي لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعت أغبرا يقول: [إني] أرجو أن تحفظوا ما شربتم من ألبانها، وما بسطت من جلودكم بعد أن كنتم مهازيل، فسمنتم، وانبسطت له جلودكم بعد تقبُّض. وأنشدنا لغيره: جزى الله ربُّك ربُّ العبا ... د والملح ما ولدت خالده [125] قال: يعني بالملح الرَّضاع.

قال أبو عبيد: الرَّضاعة - بالفتح - لا اختلاف فيها بالهاء. قال: ويقال: الرَّضاع والرِّضاع، والرَّضاع أحب إلى بفتح الراء. 149 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وقع الذُّباب في الطَّعام - وفي غير هذا الحديث في الشَّراب - فامقلوه، فبانَّ في أحد جناحيه سمًّا وفي الآخر شفاء، وإنَّه يقدِّم السَّم، ويؤخَّر الشِّفاء". قال: حدَّثنيه يزيد [بن هارون]، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدريِّ عن النَّبِّي -صلى الله عليه وسلم-.

قوله: فامقلوه: يعني فاغمسوه في الطعام والشَّراب؛ ليخرج الشِّفاء كما أخرج الدَّاء، والمقل: هو الغمس، يقال للرَّجلين: هما يتماقلان: إذ تغاطَّا في الماء. والمقل في غير هذا: النَّظر، يقال: ما مقلته عيني مذ اليوم. والمقلة أيضًا الحصاة الَّتي يقدَّر بها الماء إذا قلَّ، فيشربونه بالحصص. قال: تلقى الحصاة في الإناء، ويصبُّ عليها الماء حتىَّ يغمرها، فيشربونه، فيكون ذلك حصَّة لكلِّ إنسان، وذلك في المفاوز. 150 - وقال أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّه كان إذا رأى مخيلة أقبل، وأدبر وتغَّير" قالت عائشة [-رضى الله عنها-] فذكرت ذلك

له، فقال: "وما يدرينا لعلَّه كقوم ذكرهم الله [-عزَّ وجلَّ-]: "فلمَّا رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم [قالوا هذا عارض ممطرنا] " وإلى قوله: "عذاب أليم". قال: حدَّثنيه روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عائشة [رضى الله عنها] عن -النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم-: قوله: مخيلة، المخيلة: السحابة نفسها، وجمعها مخايل، وقد يقال للسَّحاب أيضًا: الخال. فإذا أرادوا أن السَّماء قد تغيَّمت، قالوا: قد أخالت فهي مخيلة -بضمِّ الميم- وإذا أرادوا السَّحابة نفسها، قالوا: هذه مخيلة بالفتح.

151 - وقال "أو عبيدٍ" فى حديث النبى -صلّى الله عليه وسلّم-: أن رجلًا، قال: يا رسول الله! إنِّى أعمل العمل أسرهُّ، فإذا اطُّلع عليه سرنى، فقال: قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "حبيب بن أبى ثابت" عن "أبى صالح" رفعه. قال: وحدثنى "ابن مهدى" عن "سفيان" عن "حبيب" [عن "أبى سلمة"]، عن "أبى صالح" يرفعان الحديث.

قال " [عبد الرحمن] ين مهدى"": وجهه [عندى] أنَّه إنَّما يسرُّ إذا اطّلع عليه، ليستن به من بعده. قال "أبو عبيدة": يعنى أنه ليس يسر به؛ ليزكى، ويثنى عليه خيرٌ، وليس للحديث عندى وجه إلّا ما قال "عبد الرّحمن"؛ لأن الآثار كلها تصدقه [و] من ذلك الحديث المرفوع: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها" ..

أفلست ترى أنّ الأحر الثّانى إنّما لحقه بأن عمل بسنّته. وممّا يوضَح ذلك حديث آخر: أنّ رجلًا قام من اللّيل يصلّى، فرآه جارٌ له، فقام يصلّى، فغفر للأوّل [يعنى] لأنّ هذا استنّ به. وقد حمل بعض الناس هذا الحديث على أنّه إنّما يؤجر الأحر الثّانى؛ لأنّه يفرح بالتّزكية والمدح. وهذا من شرّ ما جمل عليه الحديث؛ ألا ترى أن الأحاديث كلها إنّما جاءت بالكراهة لأن يزكّى الرّجل فى وجهه؟ ومن ذلك حديث النبى -صلى الله عليه وسلم- أنّه سمع رجلًا يثنى على آخر، فقال: "قطعت ظهره، لو سمعها ما أفالح".

ومن ذلك قوله: "إذا رأيتم المدّاحين، فاحثوا فى وجوههم التراب". ومنه حديث "عمر" [رضى الله عنه] حين كان يثنى عليه

وهو جريح، فقال: "المغرور من غررتموه، لو أنّ لى ما فى الأرض [جميعًا]، لافتديت به من هول المطّلع". وفى هذا من الحديث ما لا يحصى. 152 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبى -صلى الله عليه وسلم-: أنّه قال: "استعيذوا بالله من طمع يهدى إلى طبع".

قال: حدّثنيه "محمد بن عمر" عن "عبد الله بن عامر الأسلمىّ" عن "الوليد بن عبد الرحمن الجرشى" عن "جبير بن (127) نفير" عن "معاذ" عن النبى -صلى الله عليه وسلم-. قوله: إلى طبع، الطّبع: الدّنس والعيب، وكلّ شينٍ فى دينٍ أو دنيا، فهو طبع. يقال منه: رجلٌ طبع.

ومنه حديث "عمر بن عبد العزيز": "لا يتزوج من الموالى فى العرب إلا الأشر البطر، ولا يتزوّج من العرب فى الموالى إلا الطمع الطبع". قال: حدّثنيه "الأشجعىّ" وأسنده إلى "عمر بن عبد العزيز". وقال "الأعشى" يمدح "هوذة بن علّى الحنفىّ": لها أكاليل بالياقوت فصلها ... صواغها لا ترى عيبًا ولا طبعا

153 - وقال "أبو عبيد فى حديث النبى -صلى الله عليه وسلم-: أنه مرّ على أصحاب الدّركلة فقال: "خذوا يا بنى أرفدة؛ حتى تعلم اليهود والنصارى أن فى ديننا فسحةٌ". قال: فبيناهم كذلك إذ جاء "عمر" فلما رأوه ابذعرّوا".

قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "عبد الرحمن بن إسحاق" عن الشعبىّ" رفعه. قوله: ابذعرّوا: يعنى تفرّقوا، وفرّوا. يقال: ابذعرّ القوم ابذعرارًا، وقال "الأخطل": فطارت شلالًا وابذعرت كأنها ... عصابة سبي خاف أن يتقسّما والذى يراد من هذا الحديث الرخصة فى النظر إلى اللهو.

وليس فى هذا حجة للنظر إلى الملاهى المنهىّ عنها من المزاهر، والمزامير، إنما هذه لعبة للعجم. قال "أبو عبيد": اللّعبة: الشئ الذى يلعب به، واللّعبة: اللون من اللعب. 154 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن ذبائح الجنّ".

قال: حدّثينه "عمر بن هارون" عن "يونس بن يزيد الأيلّى" عن "الزّهرىّ" يرفع الحديث. قال: فذبائح الجن أن تشترى (128) الدار، أو تستخرج العين، وما أشبه ذلك، فتذبح لها ذبيحةٌ للطّيرة. قال "أبو عبيد": وهذا التّفسير فى الحديث، ومعناه":

أنهم يتطيرون إلى هذا الفعل مخافة أنّهم إن لّم يذبحوا، فيطعموا أن يصيبهم فيها شئ من الجنّ يؤذيهم، فأبطل النبى -صلى الله عليه وسلم- هذا، ونهى عنه. 155 - وقال "أبو عبيدة" فى حديث النبى -صلى الله عليه وسلم-: "لا يوردنّ عاهةٍ على مصحّ".

قال: حدثناه "علّى بن عاصم" عن "عبيد الله بن أبى حميد" عن "أبى المليح" رفعه. قوله: ذو عاهةٍ: يعنى الرجل يصيب إبله الجرب، أو الدّاء. فقال: لا يوردنّها على مصحٍّ، وهو الذى إبله أو ماشيته صحاح، بريئة من العاهة. وقد كان بعض الناس يحمل هذا الحديث على أن النهى فيه للمخافة على الصحيحة من ذات العاهة أن تعديها.

وهذا شر ما حمل عليه الحديث؛ لأنه رخصة فى التَّطير، وكيف ينهى النّبى -صلى الله عليه وسلم- عن هذت للتّطيّر، وهو يقول: "الطيرةُ شركُ". ويقول: "لا عدوى، ولا هامة" فى لآثارٍ عنه كثيرِة. قال: ولكن وجهه عندى -والله أعلم- أنه خاف أن ينزل بهذا الصحاح من أمر الله ما نزل بتلك، فيظنّ المصحّ أن تلك أعدتها،

فيأثم فى ذلك؛ ألّا تراه يقول فى حديث آخر، وقال له أعرابىٌ: النّقبة تكون بمشفر البعير، فتجرب له الإبل كلها. قال: "فما أعدى الأوّل؟ ". فها مفسّر لذاك الحديث. قال: وقد بلغنى عن "مالك" فى حديث له رواه فى هذا.

فقالوا: ما ذاك يا رسول الله؟ قال: "إنّه أذى". قال "أبو عبيد": ومعنى الأذى عندى: المأثم أيضًا لنا ظنّ من العدوى.

156 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "يأتى على الناس زمان (129) يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع. [و] خير الناس يومئذ مؤمنٌ بين كريمين".

قال: حدثناه "مصعب بن المقدام: عن "سفيان" عن "معمر" عن" "الزّهرىّ" يرفعه. قوله: بين كريمين، قد أكثر الناس فيه، فمن قائل يقولك: بين الحجّ والجهاد. وقائل يقول: بين فرسين يغزو عليهما. وآخر، يقول: بين فرسين يغزو عليهما. وآخر، يقول: بين بعيرين يستقى عليهما، ويعتزل أمر النّاس. وكلُّ هذا له وجهٌ حسنٌ. قال "أبو عبيد": ولكنى لم أحد أول الحديث يدل على هذا. ألاا تراه يقول: "يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع"

وهو عند العرب: العيد أو اللّئيم. قال "أبو عبيد": ولكنى أرى وجهه: بين أبوين مؤمنين -كريمين، فيكون قد اجتمع له الإيمان والكرم فيه وفى أبويه. ومما يصدّق هذا: الحديث الآخر أنه قال: "من أشراط الساعة أن يرى رعاء الغنم رءوس الناس، وأن يرى العراة الجوّع يتبارون فى البنيان، وأن تلد الأمة ربها، وربتها".

قال: "حدثنيه "مروان [بن معاوية] الفزارى" عن "عوفٍ" عن "شهر بن حوشب" عن "أبى هريرة" عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-. قوله: "ربها وربتها: يعنى الإماء اللواتى يلدن لمواليهن، وهم ذوو أحسابٍ، فيكون ولدها كأبيه فى الحسب، وهو ابن أمةٍ. 157 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- "من سمّع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه، وحقره، وصغره". قال: حدثنيه "ابن مهدى" عن "سفيان" أسنده.

قال "أبو زيدٍ الأنصارىّ": يقال: سمعت بالرجل تسميعًا: ندت به-، وشهرته، وفضحته. وقد بلغنى عن " [عبد الله [ين المبارك" أنه رواه [عن بعضهم]:

"سمّع الله به أسامع خلقه". فإن كان هذا محفوظًا، فإنه أراد جمع السمع أسمع، ثم جمع الأسمع أسامع، يريد أن الله (130) [-عز وجل-] يسمّع أسماع الناس بهذا الرجل يوم القيامة. قال" أبو عبيد": ومن قال: سامع خلقه، جعله من نعت الله -تبارك وتعالى- وقال "أبو عبيد": أسامع خلقه أجود وأحسن فى المعنى. 158 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبى -صلّى الله عليه وسلّم-

حين استأذن عليه "أبو سفيان"، فحجبه، ثم أذن له، فقال: "ما كدت تأذن لى حتى تأذن لحجارة الجلهمتين". فقال: يا أبا سفيان! أنت كما قال القائل: "وكلّ الصيد فى جوف الفرإ". أو قال: "فى بطن الفرإ" الشكّ من -"أبى عبيدٍ". قال "الأصمعىّ": الفرأ مهموز مقصور، قال: وهو حمار الوحش.

قال: وجمع الفرإ: فراء ممدود، وأنشدنا [في نعت الحرب]: بضرب كآذان الفراء فضوله ... وطعنٍ كإيزاغ المخاض تبورها

أراد أن الضرب بالسيف يقع بالأجساد، فيكشط عنها اللّحم، فيبقى متدلّيًا كآذان الحمر. وقوله: "كإيزاغ المخاض": يعنى قذف الإبل بأبوالها، فهى توزغ به، [وذلك] إذا كانت حوامل، شبه الطعن به. وقوله: تبورها: تخبرها أنت. وإنما مذهب هذا الحديث إنه أراد -صلّى الله عليه وسلّم- أن يتألفه بهذا الكلام، وكان من المؤلفة قلوبهم. فقال: "أنت فى الناس كحمار الوحش فى الصيد"، يعنى أنها طلها دونه.

وقول "أبى سفيان": حجارة الجهلمتين: أراد جانبى الوادى. والمعروف فى كلام العرب الجلهتان. قال "الأصمعى": والجهلة: ما استقبلك من جروف الوادى، وجمعها جلاه، وقال "لبيد": فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجهلتين ظباؤها ونعامها

ويروى: [فعلا] فروع "بالنصب أيضًا. وقال الشناخ": كأنها وقد بدا عوارض والليل بين قنوين رابض بجلهة الوادى قطًا نواهض (131) قال: ولم أسمع بالجلهمة إلا فى هذا الحديث، وما جاءت إلّا ولها أصل.

والمعروف من هذا جلهة. 159 - وقال: أبو عبيدٍ" فى حديث النبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- أن رجلًا تفوّت على أبيه فى ماله، فأتى النبى -صلّى الله عليه وسلم-: - أو "أبا بكرٍ"، أو "عمر" فذكر ذلك له، فقال: "اردد على ابنك فإنما هو سهم من كنانتك".

قال: حدثناه غير واحد عن "هشام بن عروة" عن "أبيه". قوله: تفوّت مأخوذ من الفوت، إنما هو تفعل منه، كقولك من القول: تقول، ومن الحول: تحوّل، ومعناه: أنّ الابن فات أباه بمال نفسه، فوهبه، وبذّره، فمن ذلك قال: "اردده على ابنك، فإنما هو سهم من كنانتك، يقول: ارتجعه من موضعه، فرده إلى ابنك، فإنه ليس له أن يفتات عليك بماله".

ومنه حديث "عبد الرحمن بن أبى بكر" حين زوّجت "عائشة" ابنته من "المنذر بن الزبير: وهو غائب"، فأنكر ذلك، وقال: "أمثلى يفتات عليه فى بناته؟ ". أى أفات بهنّ، وهو غير مهموز.

وكذلك كلّ من أحدث دونك شيئًا، فقد فاتك به، قال "معن ابن أوس" يعاتب امرأته: فإن الصُّبح منتظر قريبٌ ... وإنك بالملامة لن تفاتى وفى هذا الحديث من الفقه أن الولد وماله من كسب الوالد. ومما يصدّقه الحديث الآخر، قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "إبراهيم" عن "الأسود" عن "عائشة" عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: "إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه".

قال: وحدثنا " [يحيى بن زكريا] بن أبى زائدة" عن -"الأعمش" عن "عمارة بن عميرٍ" عن "عمته" عن "عائشة" (132) عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- مثل ذلك. وكان "سفيان بن عيينة" يحتج فى ذلك بآياتٍ من القرآن، قوله [سبحانه]: "ليس على العمى حرجٌ، ولا على الأعرج ولا على المريض حرجٌ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم" حتى ذكر القرابات كلها إّلا الولد، فقال:

"ألا تراه إنما ترك ذكر الولد؛ لأنه لمّا قال: أن تأكلوا من بيوتكم" فقد دخل فيه مال الولد. وقال "سفيان"": ومنه قوله [عز وجل]: "إنّى نذرت لك ما فى بطنى محررّا" [قال]: فهل يكون النذر إلّا فيما يملك العبد؟ قال "أبو عبيد": فهذا التأويل حجةٌ لمن قال: "مال الولد لأبيه" مع الحديث الذى ذكرناه عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلم-. وأما حجّة من قال: "كلّ أحدٍ أحقّ بماله" فإنه يحتجُّ بالفرائض يقول: ألا ترى أن رجلًا لو مات، وله أبٌ، وورثةٌ، لم يكن لأبيه

إلّا السدس، كما سمى الله [-عز وجل-]، ويكون سائر المال لورثته، فلو كان أبوه يملك مال ابنه لحازه كلّه، ولم يكن لورثة الابن شيءٌ من ولدٍ ولا غيره. ومع هذا حديث يروى عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلم-: "كل أحدٍ أحقّ بماله من والده وولده، والناس أجمعين". قال: حدثناه "هشيم"، قال: أخبرنا "عبد الرحمن بن يحي"، عن "حبان بن أبى جبلة"، عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- بذلك.

160 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أن رجلًا أتاه، فقال: يا رسول الله! إنّ أمىّ افتلتت نفسها فماتت، ولم توص، أفأتصدّق عنها؟ فقال: "نعم".

وهذا حديث يروى عن "هشام بن عروة" عن "أبيه" عن -"عائشة" عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: قوله: "افتلتت [نفسها] يعنى ماتت فجاءةً، لم تمرض، فتوصى، ولكنّها أّخت فلتةً، وكذلك كلُّ (133) أمرٍ فعل على غير تمكُّثٍ، وتلبثٍ، فقد افتلت، والاسم منه الفلتة.

ومنه قول "عمر" [رضى الله عنه] فى بيعة "أبى بكر": "إنها كانت فلتةً، فوقى الله شرها". إنما معناه: البغتة، وإنما عوجل بها مبادرة انتشار الأمر والشّقاق حتى لا يطمع فيها من ليس لها بموضع، فكانت تلك الفلتة هى التى وقى الله بها الشّر المخوف، وقد كتبناه فى غير هذا- الموضع.

161 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أن رجلين اختصما إليه فى مواريث، وأشياء قد درست. فقال -صلّى الله عليه وسلم-: "لعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيءٍ من حقّ أخيه، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار". فقال كلّ واحدٍ من الرّجلين: يا رسول الله! حقِّى هذا لصاحبى. فقال: "لا". ولكن اذهبا، فتوخيا، ثُم استهما، ثُمّ ليحلّل كلّ واحدٍ منكما صاحبه".

قال: حدّثناه "صفوان بن عيسى" عن "أسامة بن زيدٍ" عن "عبد الله بن رافعٍ" عن "أمّ سلمة: عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-

قوله: "لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض": يعنى أفطن لها وأجدل، واللّحن: الفطنة -بفتح الحاء. ومنه قول "عمر بن عبد العزيز": "عجبت لمن لاحن النّاس كيف لا يعرف جوامع الكلم، ويقال منه: رجلٌ لحنٌ إذا كان فطنّا، قال" "لبيدٌ" يذكر " [رجلًا] كاتبًا: متعوّدٌ لحنٌ يعيد بكلفِّه ... قلمًا على عسبٍ ذبلن وبان واللحن فى أشياء سوى هذا. [منه] الخطأ فى الكلام، وهو بجزم الحاء.

يُقال منه: قد لحن الرّجل لحنًا. ومنه قول "عمر" -رضى الله عنه-: قال حدثناه "أبو معاوية" عن "عاصم" عن "مورِّق" عن "عمر" [رحمه الله] قال: "تعلَّموا اللّحن، والفرائض، والسّنن كما تعلَّمون القرآن". [قال أبو عبيد: وحدثناه "الدَّقيعىُّ محّمد بن عبد الله" عن "يزيد ابن هارون" عن "عاصم الأحول" عن "مورِّق"].

ومنه حديث "أبى العالية": "كنت أطوف مع "ابن عبّاسٍ" وهو يعلّمنى لحن الكلام". وإنما سمّاه لحنًا؛ لأنَّه إذا بصَّره الصَّواب (134) فقد بصَّره اللَّحن. ومن اللحن [أيضًا] قول الله -تبارك وتعالى-: "ولتعرفنَّهم فى لحن القول" فكأن تأويله -والله أعلم- فى فحواه، وفى معناه، وفى مذهبه. وفى هذا الحديث من الفقه قوله: "اذهبا، فتوخَّيا"، يقول: توخيَّا الحقَّ، فكأَنه قد أمر الخصمين بالصّلح. وقوله: "استهما" أى اقترعا، فهذا حجةٌ لمن قال بالقرعة فى الأحكام.

قال الله -تبارك وتعالى- فى قصة "يونس": "فساهم فكان من المدحضين"، وقال [- عز وجل -] فى قصة "مريم" [-عليها السلام-]: "إذ يلقون أقلامهم أيُّهم أقلامهم أيّهم يكفل مريم". فكلُّ ها حجةٌ فى القرعة. وفى الحديث من الفقه أيضاً أنه لا يحلُّ للمقضىّ له حرامٌ، وإن قضى له القاضى بذلك؛ ألا تراه يقول: "من قضيت له بشئٍ من حقّ أخيه، فإنما أقطع له تطعةً -من النار".

وممّا يبيّن ذلك حكمه فى ابن أمة "زمعة" حين قضى به للفراش فجعله أخا "سودة بنت زمعة" فى القضاء، ثمّ أمرها أن تحتجب منه.

162 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "المرء أحقُّ بضقبه".

قال: حدثناه "سفيان بن عيينة" عن "إبراهيم بن ميسرة" عن "عمرو بن الشريد" عن "أبى رافع" عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: قوله: "أحقُّ بصقبه": يعنى القرب. ومنه حديث "علىٍّ" -رضى الله عنه-: "أنه كان إذا أتى بالقتيل قد وجد بين قريتين حمله على أصقب القريتين إليه".

وقال: ابن قيس الرُّقيات": كوفيةٌ نازحٌ محلَّتها ... لا أممٌ دارها ولا صقب قال: الأمم: الموضع القاصد القريب، ومنه قيل للشئ إذا كان مقاربًا: هو أمرٌ مؤامٌ، وكأن الصب أقرب منه. وإنما معنى الحديث فى قوله: "المرء أحقُّ بصقبه": أن الجار أحقُ بالشُّفعة (135) إذا كان جارًا، ولم نسمع فى الآثار بحديث أثبت فى الشُفعة للجار من هذا.

وحديث آخر يرويه "سمرة بن جندبٍ" عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "أنه قضى بالجوار". وسائر الأحاديث أنّ الشّفعة للشريك. فهذان الحديثان حجّة لمن قضى للجار بها. وقد يجوز أن يقال للشريك [فى الدار] أيضًا جارٌ، وهو أصقب الجيران إليك.

ففيه حجَّةٌ لمن قال: بالشُّفعة للشَّريك دون الجار. وحجَّةٌ [أيضًا] لمن قال: الشُّفعة للجار؛ لأنَّ المعنى يحتملهما. 163 - وقال: "أبو عبيد" فى حديث النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل نجسًا". قال: حدثنيه "زيد بن الحباب" عن "حماد بن سلمة" عن

"عاصم بن المنذر" عن "عبيد الله بن عبد الله بن عمر" عن "أبيه" عن النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلَّم- قوله: "قلَّتين": يعنى من هذه الحباب العظام، واحدتها قلّةٌ، وهى معروفةٌ بالحجاز وقد تكون بالشآم، وجمعها قلال. قال أبو عبيدٍ: ويقال: هى جرَّةٌ من هذه الجرار العظام، قال "حسَّان بن ثابت" يرثى رجلاً: وأقفر من حضَّاره ورد أهله ... وقد كان يسقى فى قلالٍ وحنتم

وقال "الأخطل": يمشون حول مكدم قد كدَّحت ... متنيه حمل حناتم وقلال [قال أبو عبيد]: فهذا تأويل القلّتين، وهو يردّ قول من قال فى الماء: "إذا بلغ كرًّا لم يحمل نجسًا".

قال: حدَّثناه "ابن عليَّة" عن " ابن عونٍ" عن "ابن سيرين". قال "أبو عبيدٍ" وسمعت "أبا يوسف" يفسِّر ما ينجس من الماء ممّا لا ينجسُ، فقال: هو أن يكون الماء فى حوضٍ عظيم، أو غديرٍ، أو ما أشبه ذلك، فيبلغ من كثرته أنَّه إذا حرِّك منه جانب، لم يضرب الجانب الآخر، فهذا عنده لا يحمل نحسًا، فإن بلغ اضطرابه إلى (136) الجانب الآخر، فهذا قد ينجس. ولا أعلمنى إلَّا قد سمعت "محمد بن الحسن" يقول مثله أو نحوه. قال "أبو عبيد": حسبتهما يذهبان من الكرِّ إلى أنَّ الماء يكرُّ

بعضه على بعض فحدَّثت به "الأصمعىَّ"، فأنكر أن يكون هذا من كلام العرب، أن يقال: قد بلغ الماءُ كرًّا، إذا كان يكرُّ عليك. وذهب "الأصمعىُّ" بالكرِّ إلى المكيال الذى يكال به، كأنه يقول: إذا كان فيما تحرزه، وتقدرِّه مثل ذلك. وهذا عندى وجه [ذلك] الحديث- والله أعلم. 164 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "من كانت له إبلٌ، أو بقرٌ، أو غنمٌ، ولم يوؤدِّ زكاتها بطح لها يوم القيامة بقاعٍ قرقرٍ تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها كلما نفدت أُخراها عادت عليه أولاها".

قال: حدثناه "حجاج" عن "ابن جريجٍ" عن "أبى الزبير" عن "جابر" عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-:

قوله: "بقاعٍ قرقرٍ". قال "الأصمعى" القاع: المكان المستوى ليس فيه ارتفاعٌ ولا انخفاضٌ. وقال "أبو عبيد": وهو القيعة أيضًا، قال الله -تبارك وتعالى- "كسراب بقيعة"، ويقال: إن القيعة جمع قاعٍ. والقرقر: المستوى أيضًا.

وقال" "عبيد بن الأبرص" -يصف الإبل: هدلا مشافرها، بحًّا حناجرها ... تزجى مرابيعها فى قرقرٍ ضاحى فالقرقر: المكان المستوى، والضاحى: الظاهر البارز للشمس. وقد روى فى بعض الحديث بقاع قرقٍ، وهو مثل القرقر فى المعنى، أنشدنا الآخر فى سير الإبل: كأن أيديهنَّ بالقاع القرق أيدى جوارٍ يتعاطين الورق

شبه بياض أيدى الإبل ببياض أيدى الجورى (137). 165 - وقال: أبو عبيدٍ" فى حديث النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "لا تصروا الإبل والغنم،

ومن اشترى مصراةً، فهو بآخر النظرين؛ إن شاء ردَّها، وردَّ معها صاعًا من تمرٍ".

قال: حدثناه "هشيمٌ" قال: أخبرنا "مغيرة" عن "إبراهيم" عن "أبى هريرة" عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: قوله: "مصرَّاه": يعنى الناقة، أو البقرة، أو الشاة التى قد صرَّى اللبن فى ضرعها. يعنى حقن فيه، وجمع أيامًا، فلم تحلب. وأصل التصرية: حبس الماء وجمعه. يُقال: قد صريت الماء، وصريته، قال "الأغلب". رأت غلامًا قد صرى فى فقرته. ماء الشباب عنفوان شرَّته.

ويُقال: هذا ماءٌ صرَّى، مقصورٌ، قال "عبيد [بن الأبرص] ": يا رب ماءٍ صرًى وردته ... سبيله خائفٌ جديب ويُقال: منه سميِّت المصرَّاة، كأنَّها اجتمعت. وكان بعض الناس يتأوَّل فى المصرَّاة: أنَّه من صرار الإبل، وليس هذا من ذاك فى شئٍ.

لو كان من ذاك، لقال مصروةً، وما جاز أن يقال ذلك فى البقر والغم؛ لأن الصِّرار لا يكون إلَّا للإبل. وفى حديث آخر: "أنه نهى عن بيع المحفلَّة". وقال: "إنها خلابةٌ". فالمحفَّلة: هى المصرَّاة بعينها. قال: حدَّثنا "يزيد" عن "سليمان التَّيمىِّ" عن "أبى عثمان النهدىِّ" عن "ابن مسعودٍ" قال: "من اشترى محفَّلةً، فردها.

فليرد معها صاعًا [من تمرٍ]. قال "أبو عبيد": وإنما يمِّيت محفَّلةً؛ لأن اللَّبن [قد] حفِّل فى ضرعها، واجتمع، وكلُّ شيءٍ كثَّرته فقد حفَّلته. ومنه قيل: قد احتفل القوم: إذا اجتمعوا، وكثروا؛ ولهذا سمى محفل القوم، وجمع المجفل محافلٌ. وقوله: "لا خلابة" [يعنى الخداع].

يُقال منه: خليته أخلبه خلابةً: إذا خدعته (138). ومنه حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفرٍ" عن "عبد الله بن دينارٍ" عن "ابن عمر" أن رجلًا كان يخدع فى البيع، فقال له رسول الله-صلَّى الله عليه وسلم-: "إذا بايعت، فقل: لا خلابة".

وفى حديث المصراة والحفَّلة أصلٌ لكلِّ من يبع سلعةً، وقد زينها بالباطل أن البيع مردودٌ إذا علم به المشترى؛ لأنه غشٌّ وخداعٌ. وقوله: "ويردُّ معها صاعًا"؛ كأنه إنما جعله قيمةً لما نال المشترى من اللبن. وكان "أبو يوسف" يقول: إنما عليه القيمة.

166 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم- أنه قال: "مالى أراكم تدخلون على قلحًا".

قال: حدثينه "الأبَّار عمر بن عبد الرحمن أبو حفصٍ" عن "منصور بن المعتمر" لا أعلمه إلّا عن "أبى علَّى الصقيل" عن "جعفر ابن تمام بن عباس بن عبد المطلب" رفعه. قوله: "قلحًا"، الواحد منهم أقلح، والمرأة قلحاء، وجمعهما قلحٌ، والاسم منه القلح. قال "الأعشى" يذمُّ قومًا، ويصفهم بالدَّرن، وقلَّة التَّنظُّف: قد بنى اللَّؤم عليهم بيته ... وفشا فيهم مع اللُّؤم القلح

وهى صفرةٌ تكون فى الأسنان، ووسخٌ يركبها من طول ترك السِّواك. ومعنى الحديث أنه حثهم على السِّواك، فقال: تدخلون علَّى غير مستاكين حتى صار كالقلح فى أسنانكم. [قال أبو عبيد]: ومنه حديثه الآخر أن الناس استبطأُوا الوحى، فقال رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلم-]: "وكيف لا يبطئ، وأنتم لا تسوِّكون أفواهكم، ولا تقلِّون -أظفاركم، ولا تنقون براجمكم".

قال: حدثنيه "أبو محيَّاة يحيى بن يعلى" أو "يعلى بن يحيى" [-شك ألو عبيدٍ-] عن "منصورٍ" عن "مجاهدٍ" يرفعه.

167 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: أن رجلًا أتاه (139) وهو يقاتل العدو، فسأله سيفًا يقاتل به، فقال له: "فلعلك إن أعطيتك أن قوم فى الكيُّول". فقال: لا. فأعطاه سبفًا، فجعل يقاتل به، وهو يرتجز، ويقول: إنى امرؤٌ عاهدنى خليلى الا أقوم الدهر فى الكيُّول أضرب بسيف الله والرسول فلم يزل يقاتل حتى قتل.

وهذا حديث يروى عن "شعبة" و"إسرائيل" كليهما عن -"أبى إسحاق السبيعى" عن "هنيجة بن خالدٍ، أو غيره، يرفعه. قوله: "الكيَّول"، يعنى مؤخر الصفوف، سمعته من عدةٍ من أهل العلم، ولم أسمع هذا الحرف إلا فى هذا الحديث. 168 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-

انه قال للنساء: "إنكن أكثر أهل النار؛ وذلك لأنكنَّ تكثرون اللعن، وتكفرن العشير". قوله: "تكفرن العشير": يعنى الزوج، سمِّى عشيرًا؛ لأنه يعاشرها، وتعاشره، وقال الله -تبارك وتعالى-: "لبئس المولى ولبئس العشير"، وكذلك حليلة الرجل هى امرأته، وهو حليلها،

سمِّيا بذلك؛ لأن كل واحد منهما يحالُّ: يعنى أنهما يحلَّان فى منزل واحد، وكذلك كلُّ من نازلك أو جاورك، فهو حليلك، وقال الشاعر: ولست بأطلس الثوبين يصبى ... حليلته إذا هدأ النِّيام فهو ما هنا لم يرد بالحليلة امرأته؛ لأنه ليس عليه بأسٌ أن يصبى امرأته، إنما أراد جارته؛ لأنها تحالُّه فى المنزل. ويُقال أيضًا: إنما سمِّيت الزوجة حليلةَ؛ لأن كل واحدٍ منهما محل إزار صاحبه.

وكذلك الخليل سمِّى خليلًا؛ لأنه يخالُّ صاحبه من الخلة، وهى (140) الصداقة يقال منه: خاللت الرجل خلالًا، ومخالةً، ومنه قول "امرئِ القيس". ولست بمقلىِّ الخلال ولا قال يريد بالخلال المخالة ومنه الحديث المرفوع: قال: حدثنيه "ابن مهدىًّ" عن "زهير بن محمد" عن "موسى ابن وردان" عن "أبى هريرة" عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-

أنه قال: "إنما المرء بخليله -أو [قال]: على دين خليليه -الشَّك من "أبى عبيد" -فلينظر امرؤ من يخالّ". [قال]: وكذلك القعيد من المقاعدة، والشريب والأكيل من المشاربة والمؤاكلة، وعلى كلُّ هذا الباب. 169 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: حين خرج هو و"أبو بكرٍ" مهاجرين إلى "المدينة" من "مكة"، فمرا

"بسراقة بن مالك بن جعشم" فقال: هذان "فرُّ قريش" ألا أردُّ على قريشٍ فرَّها؟ قال: حدثناه "معاذ بن معاذٍ" عن "ابن عون" عن "عمير ابن إسحاق". قوله: فرُّ قريش: يريد الفارَّين من "قريش". يقال منه: رجلٌ فرٌّ، ورجلان فرٌّ، ورجالٌ فرٌّ، ولا يثنى، ولا يجمع، قال "أبو ذؤيبٍ" يصف صائدًا أرسل كلابًا على ثورٍ، فحمل عليها

الثور، ففرَّت منه، فرماه الصائد، ليشغله عن الكلاب، فقال: فرمى لينقذ فرَّها، فهو له ... سهمٌ فأنفذ طرَّيته المنزع يعنى السهم أنفذ طرَّتيه، وهما جانباه. وفي حديث "سراقة" من غير حديث "ابن عون": "أنه طلبهما، فرسخت قوائم دابته فى الأرض، فسألهما أن يخلِّيا عنه، فخرجت قوائمها، ولها عثانٌ".

قال: حدثناه "محمد بن كثير" عن "معمر" عن "الزهرىِّ" يسنده إلى النبِّى -صلى الله عليه وسلم-: قوله: "عثانٌ": أصله الدُّخان، وجمع العثان عواثنٌ، وجمع الدخان دواخنٌ، وهذا جمع على غير قياسٍ، ولا نعلم فى الكلام شيئًا يشبههما. وإنما أراد بقوله (141): أولها عثانٌ الغبار، شبَّه غبار قوائمها بالدخان. 170 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم- فى قول الله -تبارك وتعالى-: "كتب عليكم القصاص فى القتلى

الحرُّ بالحرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى". قال: كان بين حيَّين من العرب قتالٌ، وكان لأحد الحيَّين طولٌ على الآخرين، فقالوا: لا نرضى إلَّا أن نقتل بالعبد منا الحرَّ منهم وبالمرأة الرجل [منهم]. قال: فأمرهم النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم- أن يتباءوا.

قال: حدثناه "هشيمٌ" عن "داود بن أبى هند" عن "الشعبىَّ" يرفعه. قال "أبو عبيد": هكذا قال "هشيمٌ": "يتباؤوا" والصواب عندنا: يتباوأوا، على مثال يتقاولوا.

وفى حديثٍ آخر "لهشمٍ" أن النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم- قال: "الجراحاتُ بواءٌ". يعنى أنها متساويةٌ فى القصاص، وأنه لا يقتصُّ مجروحٌ إلَّا من جارحه الجانى عليه بعينه، وأنه مع هذا لا يؤخذ له إلَّا مثل جراحته سواءٌ، فذلك هو البواء. قالت "ليلى الأخيليَّة فى مقتل "توبة بن الحميِّر": فإن تطن القتلى بواءً فإنَّكم فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر. ويقال منه: قدباء فلانٌ بفلانٍ: إذا قتل به، وهو يبوء به، وأنشدنى "الأحمر" لرجل قتل قاتل أخيه، فقال: فقلت له بؤ بامرئٍ لست مثله ... وإن كنت قنعانًا لمن يطلب الدما

[قال]: يقول: أنت وإن كنت فى حسبك مقنعًا لكلِّ من طلبك بثأره، فلست مثل أخى. وإذا أقصَّ، السلطان أو غيره رجلًا من رجل، قال: أبأت فلانًا -بفلان، قال "طفيلٌ الغنوىُّ": أبأنا بقتلانا من القوم ضعفهم ... وما لا يعدُّ من أسيرٍ مكلَّب وزعم "الأصمعى" أنَّ المكلَّب هو المكبَّل من المقلوب. وقال غيره (142): المكلَّب: هو المشدود بالكلب، وهو القدُّ

171 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "المتشبِّع بنا لا يملك كلابس ثوبى زورٍ".

ولا أعلمه إلَّا من حديث "سفيان بن عيينة" عن "هشام ابن عروة" عن "فاطمة بنت المنذر" عن "أسماء بنت أبى بكر" عن النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم-: قوله: "المتشبُّع بما لا يملك"، يعنى: المتزيِّن بأكثر مما عنده، يتكثر بذلك، ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون للرجل، ولها ضرَّةٌ، فتشبَّع بما تدّعى من الحظوة عند زوجها بأكثر مَّما عنده [لها] تريد بذلك غيظ صاحبتها، وإدخال الأذى عليها. وكذلك هذا فى الرِّجال أيضًا.

وأما قوله: "كلابس ثوبى زورٍ": فإنَّه عندنا الرجل يلبس الثَّياب تشبه ثياب أهل الزُّهد فى الدُّنيا يريد بذلك النَّاس، ويظهر من التَّخشُّع والتَّقُّشف أكثر مما فى قلبه منه، فهذه ثياب الزُّور والرَّياء. وفيه وجهٌ آخر إن شئت أن يكون أراد بالثَّياب الأنفس، والعربتفعل ذلك كثيرًا. يقال [منه]: فلان نقىٌّ الثياب: إذا كان بريئّا من الدنس والآثام، وفولانٌ دنس الثَّياب: إذا كان مغموصا عليه فى دينه.

قال "امرؤالقيس" يمدح قومًا: ثياب بنى عوفٍ طهارى نقيَّةً ... وأوجههم بيض المسافر غرَّان يريد بثيابهم أنفسهم، أنها مبرأةٌ من العيوب، وكذلك قول "النَّابغة" فى قومٍ يمدحهم: رقاق النِّعال طيبٌ حجزاتهم ... يحيَّون بالرَّيحلت يوم السَّباسب

يريد بالحجزات: الفروج أنَّها عفيفةٌ، ونرى -والله أعلم- أنَّ قول الله -تبارك وتعالى-: "وثيابك فطهِّر" من هذا، وقال الشَّاعر يذُمُّ رجلًا: (143). لا همَّ إنَّ عامر بن جهم أو ذم حجَّا فى ثيابٍ دسم يعنى أنَّه حجَّ، وهو متدنِّسٌ بالذُّنوب.

172 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم- "أنه كان يشرب فى بيت "سودة" شرابًا كانت تعده له فيه عسلٌ.

فتواطت"عائشة و"حفصةٌ" وفى حديث "طلقٍ": فتواصت ثنتان من أزواجه -ولم يسمِّهما- إذا دخل عليهما أن تقولا: ما ريح المغافير؟ أأكلت مغافير؟

قال: فلمَّا قالتا ذلك له ترك الشراب الَّذى كان يشربه. قال: حدثناه: معاذٌ" عن "ابن عونٍ" عن "يوسف بن عبد الله بن أخت ابن سيرين" عن "طلق بن حبيب" يرفعه. قال الكسائىُّ، وأبو عمرٍو: قوله: "المغافير": شيءٌ شبيهٌ بالصَّمغ يكون فى الرّمث، وفيه حلاوةٌ. وقال "أبو عمرو": يقال منه: قد أغفر الرِّمث: إذا ظهر ذلك فيه. وقال "الكسائىُّ": يقال: خرج النَّاس يتمغفرون: إذا خرجوا يجتنونه من شجره، وواحد المغافير معفورٌ.

وقال "الفراء": فيه لغةٌ أخرى المغاثير -بالثَّاء-، وهذا مثل قولهم فى القبر: جدثٌ وجدفٌ، وكقولهم: فومٌ وثومٌ وما أشبهه فى الكلام مما تدخل فيه الفاء على الثاءِ، والثاء على الفاء. 173 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "أنَّه كوى "سعد بن معاذٍ" أو "أسعد بن زرارة" فى أكحله بمشقص.

ثم حسمه". قال "الأصمعىُّ": قوله: "المشقص" هو نصل السَّهم إذا كان طويلًا، وليس بالعريض. ومنه حديثه الآخر: "أنَّه قصَّر عند المروة بمشقص".

ومنه حديث "عثمان" -رضى الله عنه- حين دخل عليه فلان وهو محصورٌ، وفى يده مشقصٌ، فكان من أمره الذى كان". قال "أبو عبيد": فإذا كان عريضا ليس بطويل فهو معبلةٌ، وجمعه معابلٌ.

وأمَّا قوله: "ثمَّ حسمه"، فالحسم أصله القطع، ومنه قيل: حسمت هذا الأمر عن فلان: أى قطعته، وإنما أراد بالحسم أنه قطع الدم عنه. ومنه (144) حديث النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم- فى اللِّصِّ حين قطعه. قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفر" عن "يزيد بن خصيفة" عن "محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان" أن رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلم-] أتى بسارقٍ، فقال: "اقطعوه، ثم احسموه". قال: يعنى اكووه؛ لينقطع الدم.

قال "أبو عبيد": ولم نسمع بالحسم فى قطع السارق عن النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم- إلّا فى هذا الحديث. وكذاك حديثه-صلَّى الله عليه وسلم-: "عليكم بالصوم، فإنه محسمةٌ للعرق، مذهبةٌ للأشر". 174 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم- فى المخنَّث الذى كان يدخل على أزواجه، فقال "لعبد الله بن أبى أمية" أخى "أمِّ سلمة": إن فتح الله علينا الطائف غدًا دللتك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربعٍ وتدبر بثمانٍ". فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم-:

"لا يدخل هذا عليكن".

قال: حدثناه "ابن عليَّة" عن "روح بن القاسم" عن "هشام ابن عروة" عن أبيه، عن النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم. وأما حديثٍ يروى عن "الليث بن سعدٍ" بإسنادٍ له أن النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم- قال له: "ألا أراك تعقلُ هذا؟ لا يدخلنَّ ذا عليكن". قوله: تقبل بأربع: يعنى أربع عكنٍ فى بطنها، فهى تقبلُ بهنَّ.

وقوله: "تدبر بثمان": يعنى أطراف هذه العكن الأربع وذلك لأنها محيطةٌ بالجنبين حتى لحقت بالمتنين، من مؤخرها من هذا الجانب أربعة أطراف، ومن الجانب الآخر مثلها، فهذه ثمانٍ. وإنما أنَّث، فقال: بثمانٍ، ولم يقل: بثمانية، وواحد الأطراف طرفٌ وهو ذكرٌ؛ لأنه لم يقل: ثمانية أطرافٍ، فلو جاء بلفظ الأطراف لم يجد بدًّا من التذكير. وهذا كقولهم: هذا الثوبُ سبعٌ فى ثمانٍ. [والثمانُ] يراد بها الأشبار، فلم يذكِّرها لمَّا لم يأت بذكر الأشبار، والسبع

إنَّما يقع على الأذرع، فلذلك أنَّث، والذَراع أنثى. وكذلك قولهم: صمنًا من الشهر خمسًا. قال: سمعت "الكسائىَّ" و" أبا الجرَّاح" يقولانه. وقد علمنا أنه إنما يراد بالصَّوم الأيام دون الليالى، ولو ذكر الأيام لم يجد بجًّا من (145 - ) التذكير، فيقول: صمت خمسة أيام، كقول الله [-عز وجل-]: "سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً] ". فهذا ما فى الحديث من العربية. وفيه من الفقه دخوله [كان]، على أزواج النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- فإنه وإن كان مخنثاً، فإنه رجل يجب عليهم الاستتار منه. وإنما وجهه عندنا أنه كان عند النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- من غير أولى الإربة من الرجال؛ لقول الله [-عز وجل-]: "ولا يبدين زينتهنَّ إلّا لبعولتهن أو آبائهن ... " إلى قوله "أو التابعين غير أولى

الإربة من الرِّجال"؛ فلهذا كان ترك النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- إيَّاه أن يدخل على أواجه. فلما وصف الذى وصف من المرأة، علم أنه ليس من أولئك، فأمر بإخراجه. ألا تراه يقول له: "ألا أراك تعقل ما ها هنا؟ " فعند ذلك نهى عن دخوله عليهن.

وكذلك يروى عن "الشعبىِّ" أو "سعيد بن جبير" أنه قال فى غير أولى الإربة من الرِّجال، قال: "هو المعتوه". وهذا عندى أحسن، من قول "مجاهد". قال: حدثنا "ابن علية" عن "ابن أبى نجيح" عن "مجاهد" فى قوله: "غير أولى الإربة من الرجال" قال: الذى لا أرب له- فى النساء. قال "مجاهد": مثل فلان. [قال "أبو عبيد] ": وحديث النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- خلاف هذا. [ألا ترى أنه قد يكون لا أرب له فى النساء، وهو مع هذا يعقل أمرهنَّ، ويعرف مساوئهن من محاسنهن. والذى فى حديث النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- "أنه كان عنده لا يعقل هذا، فلما رآه قد عقله أمر بإخراجه"].

175 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- حين ذكر الفتن. فقال له "حذيفة": أبعد هذا الشرِّ خيرٌ؟ فقال: "هدنةٌ على دخن وجماعةٌ على أقذاءٍ".

هذا حدَّثنيه "أبو النَّضر هاشم بن القاسم" عن "سليمان بن المغيرة" عن "حميد بن هلال" عن "نصر بن عاصم الليثىِّ" عن "اليشكرىّ" عن "حذيفة" عن النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-: قوله: "هدنةٌ على دخنٍ": تفسيره فى الحديث: لا تردع قلوب قوم على ما كانت عليه"، ومذهب الحديث على هذا. وأصل الدخَّن أن يكون فى لون الدَّابة أو الثَّوب، أو غير ذلك كدورةٌ إلى سواد،

قال "المعطَّل الهدذلُّى" يصف السيف: لينٌ حسامٌ لا يليق ضريبةً ... فى متنه دخنٌ وأثرٌ أحلس (146) قوله: "دخنٌ" يعنى الكدورة إلى السواد.

[قال]: ولا أحسب الدَّخن أخذ إلَّا من الدُّخان، وهو شبيهٌ بلون الحديد فوجهه أنَّه يقول: تكون القلوب هكذا، لا يصفو بعضها لبعض ولا ينصع حبُّها كما كانت، وإن لَّم تكن فيهم فتنةٌ. وأمَّا قوله: "جماعةٌ على أقذاءٍ" فإنَّ هذا مثلٌ. يقول: "اجتماعهم على فيادٍ من القلوب"، وهو مشبهٌ بقذى

العين. 146 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-: "الغيرة من الإيمان، والمذاء من النِّفاق".

قال: حدَّثناه غير واحد، عن "داود بن قيس الفرَّاء" عن "زيد ابن أسلم" يرفعه. وبعضهم يقول: المذال- باللام- ولا أرى المحفوظ إلَّا الأول. وتفسيره عند الفقهاء: أن يدخل الرَّجل الرِّجال على أهله. وهذا هو الذى يروى في حديث آخر: أنه الذى يثال له: القنذع، والقنذع أيضًا، وهو الديُّوث. ولا أحسب هاتين الكلمتين إلَّا "بالسُّريانية". فإن كان المذاء هو المحفوظ، فإنَّه أُخذ من

المذى: يعنى أن يجمع بين الرِّجال والنِّساء، ثم يخلِّيهم يماذى بعضهم بعضًا مذاءً. [قال "أبو عبيد"]: لا أعرف للحديث وجهًا غيره. وقد حكى بعض أهل العلم أنَّه [قال]: يقال: أمذيت فرسى: إذا أرسلته يرعى.

ويقال: مذيته، فإن كان من هذا، فإنه يذهب به إلى ما أعلمتك [أنه يرسل الرِّجال على النِّساء] وهو وجهٌ. وأما المذال -باللَّام- فإن أصله أن يمذل الرجل بسِّرِّه، وقد يقال: يمذل: يعنى أن يقلق به حتى يظهره. وكذلك يقلق بمضجعه حتى يتحوَّل عنه، وبماله حتى ينفقه، قال "الأسود بن يعفر": ولقد أروح على التِّجار مرجَّلًا ... مذلًا بمالى ليِّنًا أجيادى يقول: أجود بمالى لا أقدر على إمساكه.

وقال "الرَّعى": ما بال دفِّك بالفراش مذيلا ... أقذًى بعينك أم أردت رحيلا وقال الآخر [وهو سابق]: فلا تمذل بسرِّكَ كلُّ سرٍّ ... إذا ما جاوز الاثنين فاشى (147) فهذا قد يخرج على معنى هذه الأشعار. يقول هذا قد قلق عن مضحعه حتى زال عنه، وأطلع الرِّجال على

سرِّه فيما بينه وبين أهله من قلقه به [وأنه زال لهم عن فراشه]. 177 - قال: أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم- حين سحر "أنه جعل سحره فى جفِّ طلعه، ودفن تحت راعوفة البئر".

من حديث ابن عيينة عن "هشام بن عروة" عن أبيه، عن "عائشة" [-رضى الله عنها]. قوله: "جفُّ طلعةٍ": يعنى طلع النَّخل، وجفُّه: وعاؤه الذَّى

يكون فيه، والجفُّ أيضًا فى غير هذا: هو شئٌ من جلود الإبل كالإناء يؤخذ فيه ماء السَّماء إذا جاء المطر، يسع نصف قربةٍ أو نحوه ومنه قول الرَّاجز: كلُّ عجوزٍ رأسها كالكفَّه تحمل جفًّا معها هرشفَّه فالجفُّ ها هنا ما أعلمتك. والهرشفَّة: يقال: إنها خرقةٌ؛ أو قطعة كساءٍ، أو نحوه تنشف بها.

الماء من الأرض، ثمَّ تعصره فى الجفِّ، وذلك فى قلَّة الماء. وبعضهم يقول: الهرشفَّة من نعت العجوز، وهى الكبيرة. والجفُّ أيضًا فى غير هذين: جماعة الناس، ومن ذلك، قول "النابعة": فى جفِّ تغلب واردى الأمرار

أى يريد جماعتهم. وكان "أبو عبيدة" يرويه: فى جفِّ "ثعلب". قال: يريد "ثعلبة بن سعدٍ". والجفة مثل الجفِّ، [وهى] الجماعة أيضًا. قال: ومنه حديثٌ بلغنى عن "شريكٍ" عن "أبى الجويرية" عن "ابن عبَّاسِ" قال: "لا نفل فى غنيمةٍ حتَّى تقسم جفة" أى كلَّها وأمَّا [قوله]: راعوفة البئر، فإنَّها صخرةٌ تترك فى أسفل البئر إذا احتفرت تكون ناتئةً هناك، فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقِّى عليها.

ويقال: بل هو حجرٌ ناتئٌ يكون على رأس البئر، يقوم عليه المستقى. وقد روى بعض المحدِّثين هذا الحديث أنَّه جعل سحره فى جبِّ طلعةٍ. لا أعرف الجبَّ إلَّا البئر الَّتى ليست بمطويَّة.

وكذلك قال "أبو عبيدة" وهو قول الله -تبارك وتعالى- فى كتابه: "فى غيابه الجبِّ" ولا أرى المحفوظ فى الحديث إلَّا الجفَّ [-بالفاء-]. قال "أبو عبيد": يقال: أروعوفة البئر وراعوفه. 178 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-: "عجب ربُّكم من إلِّكم وقنوطكم وسرعة إجابته إيَّاكم.

يروى هذا عن "عبد العزيز بن عبد الله بن أبى سلمة" بن أخى الماجشون، عن "محمد بن عمرٍو" يرفعه. ويرويه بعض المحدثين: "من أزلكم" وأصل الأزل: الشِّدَّة. قال: وأراه المحفوظ، فكأنَّه أراد من شدَّة قنوطكم ويأسكم فإن كان المحفوظ قوله: "من إلِّكم"، فإنِّى أحسبها من الِّكم، وهو أشبه بالمصادر.

يقال منه" ألَّ يؤلُّ ألاًّ، وأللًا وأليلًا: وهو أن يرفع الرَّجل صوته بالدُّعاء، أو يجأر فيه، وقد قال "الكميت" شيئًا شبيهًا بهذا، قال يمدح رجلًا: وأنت ما أنت فى غبراء مظلمة ... إذا دعت ألليها الكاعب الفضل

فقد يكون ألليها أنَّه أراد الأل، ثم ثنَّى، كأنه يريد صوتًا بعد صوت. ويكون ألليها: أن يريد حكاية أصوات النِّساء بالنَّبطيَّة إذا صرخن: وقد يقال لكلِّ شئٍ محدَّدٍ: هو مؤللٌ. قال "طرفة" يذكر أذنى الناقة، ويصف حدَّتهما وانتصابهما: مؤلَّلتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتى شاةٍ بحومل مفرد

والأل أيضًا فى غير هذا [الموضع]. قال "الأصمعىُّ": يقال: قد ألَّ الرَّجل فى السير (149) يؤلُّ إلاَّ: إذا أسرع. وكذلك: قد ألَّ لونه يؤلُّ ألاًّ: إذا صفا وبرق، وأظمُّ قول "أبى داؤدٍ الإيادىِّ" من أحد هذين، وذلك أنه ذكر فرسًا أنثى صاد عليها الوحش، فقال: فلهزتهنَّ بها يؤُلُّ فريصها ... من لمع رابئنا وهمَّ عوادى

يقول: لما لمع الرابئ إلينا بالوحش، ركبت الفرس فى آثارهن. 179 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم- "أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله! إن الأنصار قد فضلونا, إنهم آوونا، وفعلوا بنا، وفعلوا. فقال النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-: ألستم تعرفون ذلك لهم؟ قالوا: نعم.

قال: فإنَّ ذاك. قال "أبو عبيد": ليس فى الحديث غير هذا. قال: حدثناه "هشيمٌ" عن "يونس" عن "الحسن" يرفعه. قوله: فإنَّ ذاك، معناه -والله أعلم-: فإنَّ معرفتكم بصنيعهم وإحسانهم مكافأةٌ منكم لهم. كحديثه الآخر: "من أزلَّت إليه نعمةٌ، فليكافئ بها، فإن لَّم يجد فليظهر ثناءً حسنًا". فقال النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-: "فإن ذاك". يريد هذا المعنى. وهذا اختصارٌ من كلام العرب، يكتفى منه بالضَّمير؛ لأنه قد

علم معناه وما أراد به القائل، وهو من أفصح كلامهم. وقد بلغنا عن "سفيان الثورىِّ" قال: جاء رجلٌ إلى "عمر بن عبد العزيز" من "قريش" يكلمه فى حاجة له، فجعل يمتُّ بقرابته، فقال [له] "عمر": "فإن ذاك". ثم ذكر له حاجته، فقال [له]: "لعلَّ ذاك". لم يزده على أن قال: "فإنَّ ذاك" و"لعل ذاك". أى أنَّ ذاك كما قلت، ولعلَّ حاجتك أن تقضى. وقال "ابن قيس الرُّقيَّات": بكرت (علىَّ عواذلى) ... يلحيننى وألو مهنه ويقلن شيبٌ قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنَّه

(150) أى إنه قد كان كما تقلن. [قال أبو عبيد]: والاختصار فى كلام العرب كثيرٌ لا يحصى، وهو عندنا أعرب الكلام وأفصحه، وأكثر ما وجدناه فى القرآن. من ذلك قوله [-سبحانه-]: "فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق". إنما معناه -والله أعلم-: فضربه فانفلق. ولم يقل: فضربه، أنَّه حين قال: "أن اضرب بعصاك"، علم أنَّه قد ضربه.

ومنه قوله [-سبحانه-]: "ولا تحلقوا رءوسكم حتَّى يبلغ الهدى محلَّه فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيام". اختصر، واكتفى منه بقوله: "ولا تحلقوا رءوسكم". وكذلك قوله: "قال موسى أتقولون للحقِّ لمَّا جاءكم أسحرٌ هذا"؟ ولم يخبر عنهم فى هذا الموضع أنهم قالوا: إنه سحرٌ.

ولكن لمَّا قال: "أسحرٌ هذا" علم أنَّهم [قد] قالوا: "إنه سحرٌ". وكذلك قوله: "وجعل الله أندادًا ليضلَّ عن سبيله قل تمتَّع بكفرك فليلًا إنك من أصحاب النار أمن هو قانتٌ [آناء الليَّل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة]. يقال فى التفسير معناه: أهذا أفضل أمَّن هو قانتٌ؟ فاكتفى بالمعرفة بالمعنى.

وهذا أكثر من أن يحاط به. وأنشد "الأحمر" للأخطل: *لمَّا رأونا والصليب طالعا* *ومار سرجيس وموتًا ناقعا* *خلَّوا لنا "راذان" والمزارعا" *كأنما كانوا غرابًا واقعًا*

أراد: فطار فترك الحرف الَّذى فيه المعنى؛ لأنَّه قد علم ما أراد. 180 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-: "أنه نهى أن يدبِّح الرجل فى الصَّلاة كما يدبِّح الحمار". قوله: يدبِّح: هو أن يطأطئ الرَّجل رأسه فى الرُّكوع حتَّى يكون أخفض من ظهره.

وهذا كحديثه الآخر: "أنَّه كان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوِّبه". قال: حدَّثنيه "ابن أبى عدىٍّ" و"يزيد" عن "حسين المعلِّم" عن "بديل بن ميسرة" عن "أبى الجوزاء" عن "عائشة" عن النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-. وبعضهم يرويه: "لم يصوِّب رأسه، ولم يقنعه". يقول: لم يرفعه حتَّى (151) يكون أعلى من جسده، ولكن بين ذلك. ومنه حديث "إبراهيم" أنه كره أن يقنع الرجل رأسه فى الرُّكوع، أو يصوِّبه".

فالإقناع: رفع الرأس وإشخاصه، قال الله -تبارك وتعالى-: "مهطعين مقنعى رءوسهم". والَّذى يستحبُّ من هذا أن يستوى ظهر الرَّجل ورأسه فى الرُّكوع. كحديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-. قال": حدَّثنى "ابن مهدىٍّ" عن "سفيان" عن "أبى فروة الجهنىِّ" عن "عبد الرَّحمن بن أبى ليلى" قال: "كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- إذا ركع لو صبَّ على ظهره ماءٌ لاستقرَّ".

181 - وقال "أبو عبيدة" فى حديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم- فى لحوم الحمر الأهليَّة، أنَّه نهى عنها، ونادى مناديه بذلك، [قال] "فأجفأوا القدور".

هكذا يروى الحديث بالألف، وهو فى الكلام: "فجفأوا" بغير ألفٍ. ومعناه: أنَّهم كفأُوها أى قلبوها. يقال منه: جفأت الرَّجل وغيره: إذا احتملته، ثمَّ ضربت به الأرض. وكذلك الحديث الآخر: [قال]: فأمر بالقدور فكفئت

وبعض النَّاس يرويه: "فأكفئت". واللُّغة المعروفة بغير ألفٍ. يقال: كفأت القدر أكفؤها كفأً. 182 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-: "لا حمًى إلَّا فى ثلاثٍ: ثلَّة البئر، وطول الفرس، وحلقة القوم".

قوله: ثلَّة البئر: يعنى أن يحتفر الرَّجل بئرًا فى موضعٍ ليس بملك أحدٍ، فيكون له من حوالى البئر من الأرض ما يكون ملقًى لثلَّة البئر، وهو ما يخرج من ترابها، لا يدخل عليه فيه أحد حريمًا للبئر. والثلَّة فى غير هذا أيضًا هى جماعة الغنم وأصوافها، وكذلك الوبر أيضًا ثلَّةٌ. ومنه حديث "الحسن" فى اليتيم إذا كانت له ماشيةٌ: "أنَّ للوصىِّ أن يصيب من ثلَّتها ورسلها".

[قال]: فالثَّلة: الصُّوف. والرِّسل: اللَّبن؟ والثُّلَّة [فى غير هذا]: الجماعة [من الناس]؟ قال الله [-تبارك وتعالى-]: "ثُلَّةٌ من الأوَّلين وثلَّةٌ من الآخرين" (152) وأمَّا قوله: "فى طول الفرس": فإنَّه أن بكون الرَّجل فى العسكر، فيربط فرسه، فله من ذلك المكان مستدارٌ لفرسه فى طوله لا يمنع من ذلك، وله أن يحميه من النَّاس.

وقوله: "حلقة القوم": يعنى أن يجلس الرَّجل فى وسط الحلقة، فلهم أن يحموها [أن] لا يجلس فى وسطها أحدٌ. ومنه حديث "حذيفة": "الجالس فى وسط الحلقة ملعونٌ". قال: ويقال: هو تخطِّى الحلقة. 183 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلّى الله عليه وسلم-: إنَّه أتى "بأبى قحافة" وكأنَّ رأسه ثغامةٌ فأمرهم أن يغيرِّوه".

قال: حدَّثناه "عبَّاد بن عبادٍ" بإسناد له قد ذكره. [قال "أبو عبيد"]: قوله: "ثغامة"، يعنى نبتًا [أو شجرًا] يقال له: الثَّغام، وهو أبيض الثَّمر أو الزَّهر، فشبَّه بياض الشَّيب به قال "حسَّان لن ثابتٍ": إمَّا ترى رأسى تغيَّر لونه ... شمطًا فأصبح كالثَّغام المحمل

يعنى [بالممحل] الذى قد أصابه المحل، وهو الجدوبة. 184 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم- فى الشُّبرم، ورآه عند "اسماء بنت عميس" وهى تريد أن تشربه فقال: "إنه حارٌّ جارٌّ" وأمرها "بالسَّنا"

وبعضهم يرويه: "حارٌّ بارُّ". وأكثر كلامهم بالياء. قال "الكسائيُّ" وغيره: حارُّ من الحرارة، وبارٌّ إتباع كقولهم: عطشان نطشان. ": وجائعٌ نائعٌ ": وحسنٌ بسنٌ. ومثله كثيرٌ فى الكلام. وإنما سمِّى إتباعًا؛ لأن الكلمة الثانية إنما هى نابعةٌ للأولى على

وجه التوكيد لها، وليس يتكلم بالثانية منفردةٌ، فلهذا قيل: إتباعٌ وأما حديث"آدم"- صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قتل ابنه، فمكث مائة سنةٌ لا يضحك، ثم قيل له: "حيَّاك الله وبيَّاك فقال: وما بيَّاك؟ قيل: "أضحكك" قال: حدَّثناه "يزيد" عن "حسام بن مصكِّ" عن "عمَّار الدُّهنىِّ" عن "سعيد بن جبير" أو [عن] "سالم بن أبى الجعد"

شكَّ "أبو عبيدٍ" - (153) فإن بعض الناس يقول فى بيَّاك [إنما] هو إتباعٌ. وهو عندى على ما جاء تفسيره فى الحديث أنه ليس بإتباعٍ. وذلك أن الإتباع لا يكاد يكون بالواو، وهذا بالواو. ومن ذلك قول العبَّاس [بن عبد المطلب] فى زمزم: "إنًّى لا أحلُّها لمغتسل، وهى لشارب حلُّ وبلُّ"

ويقال: إنه أيضًا إتباع، وليس هو عندى كذلك لمكان الواو قال: وأخبرنى "الأصمعىُّ" عن "المعتمر بن سليمان" أنه قال: بل هو مباح بلغة "حمير". قال ["أبو عبيد" [: ويقال: بلُّ: شفاء من قولهم: [قد] بلَّ الرَّجل من مرضه وأبلَّ: إذا برأ.

185 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إن الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقَّها بورك له فيها".

[ويروى: إن هذا المال حلوٌ خضرٌ فمن أخذه بحقِّه .... ]. قال: حدثنيه "يزيد" عن "محمد عن عمرو" عن "المقبرىِّ" عن "عبيد سنوطًا" قال: دخلنا على "أمِّ محمد امرأة حمزة بن عبد المطلب فذكرت ذلك عن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-. [قال "أبو عبيد"]: قوله: "خضرةٌ": يعنى الغضة الحسنة، وكل شئٍ غضٍّ طرىٍّ فهو خضرٌ. وأصله من خضرة الشجر. ومنه قيل للرجل إذا مات، شابًا غضًا: قد اختضر. قال [أبو عبيد]: وحدثنى بعض أهل العلم: أن شيخًا كبيراً من العرب كان قد أولع به شابٌ من شبابهم، فكلما رآه

قال: [قد] أجزرت يا أبا فلان! يقول: قد آن لك أن تجزز، يعنى الموت. فيقول له الشيخ: أى بنىَّ! وتختضرون: أى تموتون شبابًا. ومنه قيل: خذ هذا الشئ خضرًا مضرًا. فالخضر: الحسن الغضُّ، والمضر إتباع. وقال الله -تبارك وتعالى-: "فأخرجنا منه خضرًا".

يقال: إنه الأخضر، وهو من هذا. وإنما سمِّى الخضر؛ لأنه كان إذا جلس فى موضع اخضرَّ- ما حوله. 186 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنه نهى عن اختناث الأشقية" (154).

قال: حدثنيه "يزيد عن ابن أبى ذئبٍ" عن "الزهرىِّ" عن- "عبيد الله" عن "أبى سعيدٍ" عن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم- قال "الأصمعى" وغيره: الاختناث: أن تثنى أفواهها، ثم يشرب منها. [قال]: وأصل الاختناث: التكسُّر والتثنِّى. ومنه حديث "عائشة" -رضى الله عنها- حين ذكرت وفاة النَّبيَّ

- صلَّى الله عليه وسلَّم- أنها قالت: "فانخنث فى حجرى، وما شعرت به". تعنى حين قبض [- صلَّى الله عليه وسلم-]، فانثنت عنقه، أو غيرها من جسده. ويقال من هذا: سمِّى المخنَّث [مخنثًا]؛ لتكسُّره.

وبِه سميت المرأَة خُنُثَ، يقول: إنها لينة تَتَثَنى. ومعنى الحديث فى النهىَ عن اختناث الأسقية يَفسر على وجهين: أحدهما: أَنه يُخَاف أَن يكونَ فيه دَابّة. قَال: حدَّثَني "ابن عُلَية" عن "أَيوب" قال: نبئت أن رجلا شرب من في سقاءٍ، فخرجت منه حية. والوجهُ الآخَر، أنه يقال: ينتنه ذلك.

قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "هشام بن عروة" عن "أبيه"، رفعه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن اختناث الأسقية، وقال: "إنه ينتنه". [قال أبو عبيد]: والذي دار عليه معنى الحديث أنه نهى أن يشرب من أفواهها. 187 - وقال: "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-:

"في العقيقة عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة". قال: حدثناه "ابن علية" عن "ابن جريج" عن "عبيد الله ابن أبي يزيد" عن أبيه عن "سباع بن ثابت" عن "أم كرز" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قوله: "العقيقة"، قال "الأصمعي" وغيره.

[العقيقة]: أصلها الشعر الذى يكون على رأس الصبىِّ حين يولد. وإنما سمِّيت الشاة التى تذبح عنه فى تلك الحال عقيقة؛ لأنه يحلق عنه هذا الشعر عند الذبح. ولهذا قيل فى الحديث: "أميطوا عنه الأذى". يعنى بالأذى ذلك الشعر أن يحلق عنه. وهذا مما قلت لك: إنهم

ربما سموا الشئ باسم غيره إذا كان معه أو من سببه. فسمِّيت الشاة عقيقة لعقيقة الشعر. وكذلك كل مولود من البهائم، فإن الشعر الَّى يكون عليه حين (155) يولد عقيقة وعقه. قال زهير [بن أبى سلمى] يذكر حمار وحش. أذلك أم أقب البطن جأب ... عليه من عقيقته عفاء

ويورى: فراء عفاء: يعنى صغار الوبر. أفلست ترى أن العقيقة ها هنا إنما هى الشعر لا الشاة؟ وقال "ابن الرِّقاع [العاملىُّ] " فى العقة يصف الحمار أيضًا: تحسَّرت عقة عنه فأنسلها ... واجتاب أخرى جديدًا بعد ما ابتقلا

يريد: أنه لما فطم من الرضاع، وأكل البقل ألقى عقيقته، واجتاب أخرى، وهكذا زعموا يكون. قال "أبو عبيد": والعقَّة فى الناس والحمر، ولم نسمعه فى غيرهما. 188 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ -صلِّى الله عليه وسلم-: أنه قال: "اجتمعت إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن ألاَّ يكتمن من أمر أزواجهن شيئًا". فقالت الأولى: زوجى لحم جمل غثٍّ على جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى.

ويروى: فينتقل. وقالت الثانية: زوجى لا أبثُّ خبرة، إنِّى أخاف ألَّا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره. قالت الثالثة: زوجى العشنَّق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلَّق. قال الرابعة: زوجى كليل تهامة لا حرُّ ولا قرُّ، ولا مخافة، ولا سآمة. قالت الخامسة: زوجى إن أكل لفّ، وإن شرب اشتفّ، ولا يولد الكف ليعلم البث. قالت السادسة: زوجى عياياء، أو غياياء.

هكذا يروى بالشكِّ - طباقاء، كل داء له دواء. شجَّك، أو فلَّك، أو جمع كلاًّ لك. قالت السابعة: زوجى إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد. قالت الثامنة: زوجى المسُّ مسّث أرنب، والرِّيح ريح زرنب. قالت التاسعة: زوجى رفيع العماد، طويل النِّجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النادى (156). قالت العاشرة: زوجى مالك، وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت

المزهر أيقنَّ أنهن هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجى "أبو زرع" وما "أبو زرع"؟ أناس من حلىٍّ أدنىَّ، وملأ من شحم عضدىَّ، وبجَّحنى فبجحت. وجدنى فى أهل غنيمة بشقٍّ، فجعلنى فى أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنقٍّ. وعنده أقول فلا أقبَّح، وأشرب فأتقمَّح. ويورى: فأتقنَّح. وأرقد فأتصبَّح. أمُّ "أبى زرع" وما أمُّ "أبى زرع"؟ عكومها رداح، وبيتها فيَّاح. ابن "أبى زرع"، فما ابن "أبى زرع"؟ كمسلِّ شطبة، وتشعبة ذراع الجفرة. بنت "أبى زرع"، فما بنت "أبى زرع"؟

طوع أبيها، وطوع أمِّها، وملء كسائها، وغيظ جارتها. جارية "أبى زرع"، فما جارية "أبى زرع"؟ لا ثبتُّ حديثنا تبثيثًا، ولا تنقل ميرتنا تنقيثًا، ولا تملأ بيتنا تعشيشًا. ويروى: تغشيشا. خرج "أبو زرع" والأوطاب تمخض، فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين.

فطلَّقنى، ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريًّا، وأخذ خطّيا، وأراح علىَّ نعما ثريًّا. وقال: كلى أمَّ زرع، وميرى أهلك. فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية "أبى زرع". قالت "عائشة" [رضى الله عنها]: فقال لى رسول الله -صلِّى الله عليه وسلم-: "كنت لك كأبى زرع لأمِّ زرع".

قال [أبو عبيد]: حدَّثنيه "حجَّاج"، عن "أبى معشر"، عن "هشام بن عروة" وغيره من "أهل المدينة"، عن "عروة"، عن "عائشة" [رضى الله عنها]، عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلمَّ-. وكان "عيسى بن يونس، يحدِّثه عن "هشام بن عروة"، عن أخيه "عبد الله بن عروة"، عن أبيه، عن "عائشة"، عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلمَّ-. قال "أبو عبيد": بلغنى ذلك عن "عيسى بن يونس" -["وحجَّاج"] وقد اختلفا فى حروف لا أقف عليها. قال "أبو عبيد": سمعت عدَّة من أهل العلم لا أحفظ عددهم يخبر كل واحد منهم ببعض تفسير هذا الحديث، ويزيد بعضهم

على بعض، قالوا: قول الأولى: [زوجى] لحم (157) جمل عثٍّ: تعنى المهزول. على رأس جبل: تصف قلَّة خيره وبعده مع القلَّة، كالشيء فى قلَّة الجبل الصَّعب لا ينال إلِّا بالمشقَّة؛ لقولها: لا سهل فيرتقى، تعنى الجبل. ولا سمين فينتقى: يقول: ليس له نقى، وهو المخُّ. قال "الكسائىُّ": فيه لغتان. يقال: نقوت العظم، ونقيته: إذا استخرجت النّشقى منه. قال "الكسائيُّ": وكلُّهم يقول: انتقيته. ومنه قيل للنَّاقة السَّمينة: منقية.

قال "الأعشى" يمدح قومًا: حاموا على أضيافهم فشووا لهم من لحم منقية ومن أكباد. ومن رواه: ينتقل، فإنَّه أراد: ليس بسمين، فينتقله النَّاس الى بيوتهم يأكلونه، ولكنَّهم يزهدون فيه.

و [أما] قول الثانية: زوجى لا أبثُّ خبره، إنَّى أخاف ألَّا أذره. إن أذكره أذكر عجره وبجره. فالعجر: أن ينعقد العصب، أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد. والبجر: نحوها إلَّا أنها فى البطن خاصَّةً، وواحدتها بجرة. ومنه قيل: رجل أبجر: إذا كان عظيم البطن. وامرأة بجراء وجمعها بجر. ويقال: لفلان بجرة.

ويقال: رجل أبجر: إذا كان ناتئ السُّرّة عظيمها. و[أما] قول الثَّالثة: زوجى العشنَّق، إن أنطق أطلَّق، وإن - أسِّكت أعلَّق. فالعشنَّق: الطَّويل، قاله "الأصمعىُّ". تقول: ليس عنده أكثر من طوله بلا نفع، فان ذكرت ما فيه من العيوب طلَّقنى، وإن سكتُّ تركنى معلَّقة لا أيِّمًا، ولا ذات بعل.

ومنه قول الله [-تبارك وتعالى-]: } فلا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلَّقة {. وقول الرابعة: زوجى كليل "تهامة" لا حرٌّ ولا قرٌّ، ولا مخافة ولا سآمة. تقول: ليس عنده أذًى، ولا مكروه. وإنَّما هذا مثل، لأنَّ الحرَّ والبرد كليهما فيه أذًى إذا اشتدا.

ولا مخافة: تقول: ليست عنده غائلة ولا شرٌّ أخافه (158). ولا سآمة: تقول: لا يسأمنى فيملَّ صحبتى. وقول الخامسة: زوجى إن أكل لفَّ، وإن شرب اشتفَّ [ويولج الكفَّ] فإن اللَّفَّ فى المطعم: الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتَّى لا يبقى منه شيئًا. والاشتفاف فى المشرب: أن يستقصى ما فى الإناء, ولا يسئر فيه سؤرًا. وإنما أخذ من الشفافة, وهى البقيَّة تبقى فى الإناء من الشراب, فإذا شربها صاحبها, قيل: اشتفَّها, وتشافَّها تشافًّا.

قال ذلك "الأصمعىُّ": [قال]: ويقال فى مثل من الأمثال: "ليس الرىُّ عن التشافِّ". يقول: ليس من لا يشتفُّ لا يروى, قد يكون الرىُّ دون ذلك. قال: ويروى عن "جرير بن عبد الله [البجلىِّ] " أنه قال لبنيه: "يا بنىَّ! إذا شربتم فأسئروا".

وقال فى حديث آخر: "فإنَّه أجمل". قال "أبو عبيد": وقولها: ولا يولج الكف ليعلم البث. قال: فأحسبه كان بجسدها عيب أو داء تكتئب به, لأن البثَّ هو الحزن فكان لا يدخل يده فى ثوبها؛ ليمسَّ ذلك العيب, فيشقَّ عليها, تصفه بالكرم.

وقول السادسة: زوجى عياياء- أو غياياء- طباقاء.

فأما غياياء- بالغين- فليس بشئ. إنما هو عياياء -بالعين-. والعياياء من الإبل الَّذى لا يضرب, ولا يلقح. وكذلك هو فى الرِّجال. والطباقاء: العيىُّ الأحمق الفدم, ومنه قول "جميل بن معمر" يذكر رجلًا: طباقاء لم يشهد خصومًا ولم يقد ... ركابًا إلى أكوارها حين تعكف.

وقولها: كلُّ داء له داء: أى كلُّ شئ من أدواء النَّاس, فهو فيه ومن أدوائه. وقول السابعة: زوجى إن دخل فهد, وإن خرج أسد. فإنِّها تصفه بكثرة النوم والغفلة فى منزله على وجه المدح له. وذلك أن الفهد كثير النوم.

يقال: "أنوم من فهد". والذى أرادت [به] أنه ليس يتفقَّد ما ذهب من ماله, ولا يلتفت إلى معايب البيت وما فيه, فهو كأنَّه ساه عن ذلك (159) ومما يبيِّن ذلك قولها: ولا يسأل عمَّا عهد: تعنى عما كان عندى قبل ذلك. وقولها: وإن خرج أسد. تصفه بالشَّجاعة, تقول: إذا خرج إلى البأس ومباشرة الحرب ولقاء العدوِّ أسد فيها. يقال: قد أسد الرجل واستأسد بمعنى.

وقول الثامنة: زوجى المسُّ مسُّ أرنب, والرِّيح ريح زرنب. فإنَّها تصفه بحسن الخلق, ولين الجانب, كمسِّ الأرنب إذا وضعت يدك على ظهرها. وقولها: الرِّيح ريح زرنب. فإن فيه معنيين. قد يكون أن تريد ريح جسده. ويكون أن تريد طيب الثناء فى النِّاس وانتشاره فيهم كريح الزَّرنب, وهو نوع من أنواع الطِّيب معروف.

قال "أبو عبيد": الثناء والثنا واحد إلَّا أن الثناء ممدود, والثنا مقصور. وقول التاسعة: زوجى رفيع العماد. فإنها تصفه بالشرف, وسناء الذِّكر. قال"أبو عبيد": سنا البرق, وسنا النبت مقصوران, والسناء من الشرف ممدود. وأصل العماد عماد البيت, وجمعه عمد, وهى العيدان التى تعمد بها البيوت وإنما هذا مثل: تعنى أن بيته رفيع فى قومه.

وأما قولها: طويل النِّجاد. فإنها تصفه بامتداد القامة. والنِّجاد: حمائل السيف, فهو يحتاج إلى قدر ذلك من طوله. وهذا مما تمدح به الشعراء. قال الشاعر: قصرت حمائله عليه فقلَّصت ... ولقد تحفَّظ قينها فأطالها وأما قولها: عظيم الرماد فإنها تصفه بالجود وكثرة الضِّيافة من لحم الإبل ومن غيرها من اللحوم, فإذا فعل ذلك عظمت ناره، وكثر وقودها, فيكون الرماد فى الكثرة على قدر ذلك.

وهذا كثير فى أشعارهم. وقولها: قريب البيت من النادى. تعنى أنه ينزل بين ظهرانى الناس, ليعلموا مكانه, فينزل به الأضياف, ولا يستبعد منهم, ويتوارى فرارًا من نزول النوائب, والأضياف به. وهذا المعنى أراد زهير [بن أبى سلمى المزنىُّ] بقوله لرجل يمدحه: (160). يسط البيوت لكى يكون مظنَّة ... من حيث توضع جفنة المسترفد قوله: يسط [البيوت]: يعنى يتوسط البيوت, ليكون مظنًة: يعنى معلمًا.

يقال: فلان مظنَّة لهذا الأمر, أى معلم له. [قال]: ومنه قول "النابغة": * فإن مظنَّة الجهل الشَّباب * ويروى: السِّباب. وقول العاشرة: زوجى مالك. وما مالك؟ مالك خير من ذلك. له إبل قليلات المسارح, كثيرات المبارك.

تقول: إنه لا يوجهِّهنَّ ليسرحن نهارًا إلَّا قليلًا, ولكنَّهن يبرَّكن بفنائه, فإن نزل به ضيف لم تكن الإبل غائبًة عنه, ولكنها بحضرته, فيقريه من ألبانها ولحومها. وقولها: إذا سمعن صوت المزهر ... أيقن أنهن هوالك. فالمزهر: العود الذى يضرب به. قال "الأعشى" يمدح رجلًا: جالس حوله الندامى فما ينـ ... فكُّ يؤتى بمزهر مندوف.

فأرادت المرأة أن زوجها قد عود إبله إذا نزل به الضِّيفان أن ينحر لهم, ويسقيهم الشَّراب, ويأتيهم بالمعازف, فإذا سمعت الإبل ذلك الصَّوت علمن أنَّهن منحورات. فذلك قولها: أيقنَّ أنَّهنَّ هوالك. وقول الحادية عشرة: زوجى أبو زرع, وما أبو زرع؟ أناس من حلىٍّ أذنىَّ.

تريد حلاَّنى قرطًة وشنوفًا تنوس بأذنىَّ. والنَّوس: الحركة من كلُّ شئ متدلِّ. يقال منه: قد ناس ينوس نوسًا. وأناسه غيره إناسًة. قال: وأخبرنى "ابن الكلبىِّ" أن "ذا نواس" ملك اليمن

إنَّما سمى بهذا لضفيرتين كانتا له تنوسان على عاتقيه. وقولها: ملأ من شحم عضدىَّ. لم ترد العضد خاصَّة. إنَّما أرادت الجسد كلَّه. تقول: إنه أسمننى بإحسانه إلىَّ, فإذا سمنت العضد سمن سائر الجسد. وقولها: بجَّحنى فبجحت. أى فرَّحنى ففرحت. وقد بجح الرَّجل يبجح: إذا فرح. (161). قال " أبو عبيد" بجح يبجح, وبجح يبجح.

وقال "الرَّاعى": وما الفقر من أرض العشيرة ساقنا ... إليك ولكنَّا بقرباك نبجح وقولها: وجدنى فى أهل غنيمة بشقٍّ. والمحدِّثون يقولون: بشقٍّ تعنى أنَّ أهلها كانوا أصحاب غنم ليسوا بأصحاب خيل ولا إبل.

وشقٌّ: موضعٌ. قالت: فجعلنى فى أهل صهيل وأطيط, تعنى أنَّه ذهب بى إلى أهله, وهم أهل خيل وإبل, لأن الصَّهيل أصوات الخيل, والأطيط أصوات الإبل. وقال "الأعشى" فى الأطيط: ألست منتهيًا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطَّت الإبل يعنى: حنَّت وصوَّتت. وقد يكون الأطيط, فى غير الإبل أيضًا.

ومنه حديث "عتبة بن غزوان" حين ذكر باب الجنة, فقال: ليأتينَّ عليه زمان وله "أطيط" يعنى الصَّوت بالزَّحام. وقولها: ودائس ومنقٍّ. فإنَّ بعض النَّاس يتأوله دياس الطعام. وأهل الشام يقولون: الدِّراس- بالرَّاء. يقولون: قد درس الناس طعامهم يدرسونه. وأهل العراق يقولون [قد] داسوا يدوسون.

قال "أبو عبيد": ولا أظن واحدًة من هاتين الكلمتين من كلام العرب ولا أدرى ما هو. فإن كان كما قيل: فإنَّها أرادت أنهم أصحاب زرع. وهذا أشبه بكلام العرب. وأما قول المحدِّثين: منقٌّ. فلا أدرى ما معناه. ولكنِّى أحسبه منقّ.

فإن كان هذا [هكذا] , فإنها أرادته من تنقية الطعام. أى دائس للطعام, ومنقٍّ له. وقولها: عنده أقول فلا أقبَّح, وأشرب فأتقمح. تقول: لا يقبح علىَّ قولى [بل] يقبل منِّى. وأما التقمُّح فى الشَّراب, فإنه مأخوذ من النَّاقة المقامح. قال "الأصمعىُّ": هى الُّتى ترد الحوض فلا تشرب. قال" أبو عبيد": فأحسب قولها: فأتقمَّح: أى أروى حتَّى أدع الشُّرب من شدة الرِّىِّ.

قال "أبو عبيد": ولا أراها قالت هذا, إلا من عزة الماء عندهم. وكلُّ رافع رأسه, فهو مقامح وقامح. وجمعه قماح. قال "بشر بن أبى خازم" يذكر سفينًة كان فيها (162): ونحن على جوانبها قعود ... نغضُّ الطَّرف كالإبل القماح. فإن فعل ذلك بإنسان فهو مقمح. وهو فى التَّنزيل: {إلى الأذقان فهم مقمحون}.

وبعض النَّاس يروى هذا الحرف: أشرب فأتقنَّح [بالنون] ولا أعرف هذا الحرف, ولا أرى المحفوظ إلَّا بالميم. وقولها: أمُّ "أبى زرع", فما أمُّ "أبى زرع"؟ عكومها رداح.

فالعكوم: الأحمال والأعدال الَّتى فيها الأوعية من صنوف الأطعمة والمتاع, واحدها عكم. وقولها: رداح. تقول: هى عظام كثيرة الحشو. ومنه قيل للكتيبة إذا عظمت: رداح, قال "لبيد": وأبِّنَّا ملاعب الرِّماح ... ومدره الكتيبة الرَّداح

[قال "أبو عبيد": وأبِّنا: يأمر ابنتيه بالبكاء على أبى براء عمِّه, والتأبين المدح بعد الموت, ولا يكون للحىِّ تأبين]. ومن هذا قيل للمرأة رداح: إذا كانت عظيمة الأكفال. وقولها: ابن "أبى زرع", وما ابن "أبى زرع"؟ كمسلِّ شطبة.

فإن الشَّطبة أصلها ما شطب من جريد النخل, وهو سعفه, وذلك أنه يشقَّق منه قبضان دقاق تنسج منه الحصر. يقال منه للمرأة التى تفعل ذلك: شاطبة, وجمعها شواطب. قال"قيس بن الخطيم [الأنصارى] ": ترى قصد المرَّان يلقى كأنه ... تذرُّع خرصان بأيدى الشواطب.

فأخبرت المرأة انه مهفف, ضرب اللحم. شبهته بتلك الشطبة. وهذا مما يمدح به الرجل وقولها: وتكفيه ذراع الجفرة. فإنَّ الجفرة: الأنثى من أولاد الغنم, والذَّكر جفر ومنه قول "عمر -رضى الله عنه-" فى اليربوع يصيبها

المحرم جفرة" والعرب تمدح الرجل بقلة الطُّعم والشُّرب. ألا تسمع قول "أعشى باهلة": تكفيه حزة فلذ إن ألمَّ بها ... من الشِّواء ويروى شربه الغمر وقولها: جارية "أبى زرع", وما جارية "أبى زرع"؟ لا تبث حديثنا تبثيثا.

وبعضهم يرويه: لا تنثَّ حديثنا تنثيثًا (163) وأحدهما قريب المعنى من الآخر, أى لا تظهر سرَّنا. وقولها: لا تنقل ميرتنا تنقيثًا. تعنى الطَّعام لا تأخذه, فتذهب به, تصفها بالأمانة. والتَّنقيث: الإسراع فى السير. قال "الفراء": يقال: خرج فلان ينتقث: إذا أسرع فى سيره وقولها: خرج "أبو زرع" والأوطاب تمخض. فالأوطاب: أسقية اللبن, واحدها وطب.

قال: فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين. تعنى أنها ذات كفل عظيم, فإذا استلقت نتأ الكفل بها عن الأرض حتى تصير تحتها فجوة يجرى فيها الرُّمان. [قال "أبو عبيد"]: وبعض الناس يذهب بالرُّمانتين إلا أنهما الثديان.

وليس هذا بموضعه. قال: فطلقنى, ونكحها. ونكحت بعده رجلا سريًّا, ركب شريًّا. تعنى الفرس أنه يستشرى فى سيره, تعنى [أنه] يلجُّ ويمضى [فيه] بلا فتور ولا انكسار. ومن هذا قيل للرَّجل إذا لجَّ فى الأمر: قد شرى فيه, واستشرى فيه. وقولها: أخذ خطِّيًّا. تعنى الرُّمح, سمِّى خطِّيًّا, لأنه يأتى من بلاد ناحية البحرين, يقال لها: الخطُّ, فنسبت الرماح إليها.

وإنما أصل الرِّماح من الهند, ولكنها تحمل إلى الخطِّ فى البحر, ثم تفرّق منها فى البلاد. وقولها: نعمًا ثريًّا. تعنى الإبل, والثرىُّ: الكثير من المال وغيره. قال" الكسائىُّ": يقال: قد ثرى بنو فلان بنى فلان يثرونهم إذا كثروهم, فكانوا أكثر منهم. 189 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىَّ -صلَّى الله عليه وسلم-:

" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه, ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه".

قال: حدَّثنيه "شبابة" عن "ورقاء بن عمر" عن "أبى الزِّناد" عن "الأعرج" عن "أبى هريرة" عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث يحمله أكثر الناس على كراهة الموت, ولو كان الأمر هكذا (164) لكان ضيِّقًا شديدًا, لأنَّه بلغنا عن غير واحد من الأنبياء [-عليهم السلام-] أنَّه كرهه حين نزل به. وكذلك كثير من الصَّالحين. وليس وجهه عندى أن يكون يكره علز الموت وشدَّته, هذا لا يكاد يخلو منه أحد, ولكنَّ المكروه من ذلك الإيثار للدُّنيا, والرُّكون إليها, والكراهة أن يصير لى الله [-عزَّ وجلَّ-] , وإلى الدار الآخرة,

ويؤثر المقام فى الدُّنيا. وممَّا يبيِّن ذلك أنَّ الله- جلَّ ثناوه- قد عاب قومًا فى كتابه بحبِّ الحياة [الدُّنيا] , فقال [-سبحانه-]: "إنَّ الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدُّنيا واطمأنُّوا بها". وقال [-عزَّ وجلَّ-]: {ولتجدنَّهم أحرص النَّاس على حياة ومن الَّذين أشركوا يودُّ أحدهم لو يعمَّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب}.

وقال [-سبحانه-]: "ولا يتمنَّونه أبدًا بما قدَّمت أيديهم". فى آى كثير. فهذا الدَّليل على أنَّ الكراهة- للقاء الله- تبارك وتعالى- ليس بكراهة الموت, إنما هو الكراهة للنُّقلة عن الدُّنيا إلى الآخرة, ومخافة العقوبة لما قدَّمت أيديهم. وقد جاء بيان ذلك فى حديث. قال: حدَّثنى "يحيى بن سعيد" عن "زكريَّاء" قال: حدَّثنا- "عامر" عن "شريح بن هانئ" عن "عائشة" [-رضى الله عنها-] قالت:

قال رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلم-]: "من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه, ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه, والموت دون لقاء الله". قال "أبو عبيد": أفلا ترى أنَّ الموت غير اللقاء. وإنَّما وقعت الكراهة على اللِّقاء دون الموت. وقد روى فى حديث آخر أنَّه قيل له: كلُّنا نكره الموت, فقال: "إنَّه إذا كان ذلك كشف له".

وهذا شبيه بذلك المعنى أيضًا. 190 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: "أنه أتى بلبن إبل أوارك وهو "بعرفة", فشرب منه". أتاه به "العباس [بن عبد المطَّلب] "- رضى الله عنه. قال: حدَّثناه "هشيم" عن "أبى بشر" عن "عكرمة". [قال: وحدَّثناه] "ابن عليَّة" عن "أيُّوب" عن "عكرمة" عن "ابن عباس" (165) إلَّا أنه قال: أرسلت به "أمُ الفضل".

قال "الكسائيُّ" وغيره: قوله: الأوارك: هى الإبل المقيمة فى الأراك تأكله. يقال منه: قد أركت تأرك وتأرك أروكًا: إذا أقامت فيه. وهى إبل آركة مثال فاعلة, وجمعها أوارك. قال: الكسائىُّ": فإن اشتكت بطونها عنه, قيل: هى إبل أراكى. فإن كان ذلك من الرِّمث, قيل: رماثى.

وإن كان من الطَّلح, قيل: طلاحى. وفى هذا الحديث من الفقه أنهم [إنما] أرادوا أن يعرفوا: أصائم رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلم-] بعرفة, أم غير صائم؟ . لأن الصوم هنا يكره لأهل "عرفة خاصًة, مخافة أن يضعفهم عن الدُّعاء. ومَّما يبيِّن ذلك حديث "ابن عمر"- رحمة الله عليه. قال: حدَّثناه "ابن عليَّة" عن "ابن أبى نجيح" عن "أبيه" قال: سئل "ابن عمر" عن صوم [يوم] , "عرفة"؟ فقال:

حججت مع رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلم-] فلم يصمه, ومع "أبى بكر" فلم يصمه, ومع "عمر" فلم يصمه, ومع "عثمان" فلم يصمه. وانا لا أصومه, ولا آمر بصيامه, ولا أنهى عنه. 191 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبى- صلَّى الله عليه وسلم-: أنَّه سئل: أىُّ الصُّوم أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: "شهر الله المحرَّم".

قال: حدَّثناه "هشيم", عن "منصور" عن " الحسن" يرفع الحديث. قوله: شهر الله المحرَّم, أراه قد نسبه إلى الله تبارك وتعالى- قد علمنا أنَّ الشُّهور كلَّها لله- جل ثناوه-, ولكنَّه إنَّما ينسب إليه- تبارك وتعالى- كلُّ شئ يعظَّم

ويشرَّف. وكان "سفيان بن عيينة" يقول: إنَّ قول اله- تبارك وتعالى-: } واعلموا أنَّما غنمتم من شئ فأنَّ الله خمسه {. وقوله [-عز وجل-]: } ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللِّه وللرَّسول {فنسب المغنم والفئ إلى نفسه, وذلك أنَّهما أشرف الكسب, إنَّما هما بمجاهدة العدوِّ.

ولم يذكر ذلك عند الصَّدقة فى قوله: } إنما الصدقات للفقراء والمساكين {. ولم يقل: لله وللفقراء, لأنَّ الصَّدقة أوساخ النَّاس, واكتسابها مكروه إلَّا للمضطرِّ إليها. قال "أبو عبيد": فكذلك قوله: "شهر الله المحرَّم" إنما هو على جهة التَّعظيم له, وذلك لأنَّه جعله حرامًا (166) لا يحلُّ فيه قتال, ولا سفك دم. وفى بعض الحديث: "شهر الله الأصمُّ".

ويقال: إنَّما سماه الأصمَّ, لأنه حرَّمه, فلا يسمع فيه قعقعة سلاح, ولا حركة قتال, وقد حرَّم غيره من الشُّهور, وهو ذى القعدة, وذو الحجَّة, والمحرَّم, ورجب. ولم يذكر فى هذا الحديث غير المحرم. وذلك فيما نرى- والله أعلم- لأن فيه يوم عاشوراء. ففضَّله بذلك على ذى القعدة ورجب, وأما ذو الحجَّة, فنرى أنه إنما ترك ذكره عند الصِّيام, لأن فيه العيد, وأيام التشريق.

وأمَّا الحديث الآخر فى ذكر الأشهر الحرم, فقال: "ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان". فإنَّما سمَّاه "مضر", لأن "مضر" كانت تعظِّمه وتحرِّمه, ولم يكن يستحلُّه أحد من العرب إلا حيَّان: "خثعم, وطييء" فإنَّهما كانا يستحلَّان الشُّهور. فكان الذين ينسأون الشُّهور أيام الموسم يقولون: حرَّمنا عليكم القتال فى هذه الشُّهور إلَّا دماء المحلِّين, فكانت العرب تستحلُّ دماءهم خاصًة فى هذه الشُّهور لذلك. 192 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-:

"أنَّه نهى عن جداد اللَّيل, وعن حصاد الليل". [ويروى: جذاذ]: قال: حدَّ ثنيه "الفزارىُّ مروان بن معاوية" و "يحيى بن سعيد" كلاهما عن "جعفر بن محمد" عن "أبيه" عن "علىِّ بن حسين" [-رحمه الله-] يرفعه.

قوله: "نهى عن جداد اللَّيل", يعنى أن يجدَّ النخل ليلًا والجدد: الصرام. يقال: إنَّه إنما نهى عن ذلك ليلًا لمكان المساكين أنهم كانوا يحضرونه, فيتصدَّق عليهم منه لقوله [-تبارك وتعالى-]: {وآتوا حقه يوم حصاده}. فإذا فعل ذلك ليلًا, فإنما هو فارٌّ من الصدقة, فنهى عنه لهذا. ويقال: بل نهى لمكان الهوامِّ ألَّا تصيب النَّاس إذا حصدوا- أو جدوا ليلا. والقول الأول أعجب إلىَّ, ولله أعلم. 193 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: الذى يحدِّثه عنه "البراء بن عازب"- رحمه الله- قال: " كنا إذا

صلينا معه [-صلَّى الله عليه وسلم-] فرفع رأسه من الرُّكوع, قمنا خلفه صفونًا, فإذا سجد تبعناه". قال: حدَّثناه "هشيم" قال: أخبرنا "العوام بن حوشب", عن "عذرة بن الحارث" عن "البراء". قوله: صفونًا, يفسَّر الصَّافن تفسيرين. فبعض النَّاس (167) يقول: كلُّ صافٍّ قدميه قائمًا فهو صافن. ومَّما يحقِّق ذلك حديث "عكرمة.

قال: حدَّثناه "عبد الرحمن بن مهدى" عن "إسماعيل بن مسلم العبدىِّ" عن "مالك بن دينار" قال: رأيت "عكرمة" يصلِّى, وقد صفن بين قدميه, واضعًا إحدى يديه على الأخرى. والقول الآخر: أن الصافن من الخيل الذى قد قلب أحد حوافره, وقام على ثلاث قوائم. وممَّا يحقِّق ذلك قوله [- سبحانه-]: } فاذكروا اسم الله عليها صوافن {, هكذا هى فى قراءة "ابن عباس" - رحمه الله- وفسَّرها: معقولة إحدى يديها على ثلاث قوائم.

قال: حدَّثناه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "أبى ظبيان" عن "ابن عباس". قال: وحدَّثنى "كثير بن هشام" عن "جعفر بن برقان" عن "ميمون بن مهران" قال فى قراءة "ابن مسعود" "صوافن" قال: يعنى قيامًا. قال" أبو عبيد": فقد اجتمعت قراءة "ابن عباس" و "ابن مسعود" على "صوافن". قال: وحدَّثنى "ابن مهدىٍّ" عن "سفيان" عن "منصور" عن مجاهد قال: من قرأها "صوافن" أراد: معقولًة. ومن قرأها "صوافَّ" أراد: أنَّها قد صفَّت يديها. وكلاهما له معنًى.

وقد روى عن "الحسن" غير هاتين القراءتين. قال: حدَّثنا "هشيم" عن "منصور" عن "الحسن" أنه قرأ: "صوافى" [-غير منوّن بالياء-] , وقال: خالصة لله. [قال "أبو عبيد]: كأنه يذهب إلى جمع صافية. 194 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-: "تخيَّروا لنطفكم".

قال: حدَّثناه "أبو معاوية" عن "المختار بن منيح الثَّقفىِّ" عن "قتادة" عن "عروة" رفعة. قوله: "تخيَّروا لنطفكم" يقول: لا تجعلوا نطفكم إلَّا فى طهارة. [إلَّا] ألَّا تكون الأم- يعنى أمَّ الولد- لغير رشدة, أو أن تكون فى نفسها كذلك. ومنه الحديث الآخر: "أنَّه كره أن يسترضع بلبن الفاجرة". وممَّا يحقِّق ذلك حديث "عمر بن الخطّاب" - رضى الله عنه-: "أنَّ اللَّبن يشبَّه عليه".

وقد روى ذلك عن (168) "عمر بن عبد العزيز" أيضًا. فإذا كان ذلك يتَّقى فى الرَّضاع من غير قرابة ولا نسب, فهو فى القرابة أشدُّ وأوكد. 195 - وقال"أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا تعضية فى ميراث إلَّا فيما حمل القسم". قال: حدَّثنيه "حجَّاج" عن "ابن جزيج" عن "صديق ابن موسى" عن "محمَّد بن أبى بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم" عن أبيه, رفعه.

قوله: "لا تعضيه فى ميراث": يعنى أن يموت المِّيت, ويدع شيئًا إن قسم بين ورثته إذا أراد بعضهم القسمة كان فى ذلك ضرر عليهم, أو على بعضهم. يقول: فلا يقسم. والتعضية: التفريق, وهو مأخوذ من الأعضاء. يقال: عضَّيت اللَّحم: إذا فرَّقته. ويروى عن "ابن عبَّاس"- رضى الله عنهما- فى قوله [-عزَّ وجلَّ-]: } الَّذين جعلوا القرآن عضين {. قال: آمنوا ببعضه, وكفروا ببعضه.

وهذا من التعضية أيضًا, أنهم فرَّقوه. والَّشئ الذى لا يحتمل القسم مثل الحبَّة من الجوهر, أنها إن فرِّقت, لم ينتفع بها, وكذلك الحمَّام يقسم, وكذلك الطيلسان من الثِّياب, وما أشبه ذلك من الأشياء. وهذا باب جسيم من الحكم. ويدخل فيه الحديث الآخر: "لا ضرر ولا ضرار فى الإسلام". فإن أراد بعض الورثة قسم ذلك دون بعض, لم يجب إليه، ولكنِّه يباع, ثمَّ يقسم ثمنه بينهم. 196 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-:

"إن العرش على منكب "إسرافيل" وإنَّه ليتواضع لله حتى يصير مثل الوصع". قال: حدَّثنيه "أحمد بن عثمان" عن "ابن المنذر" عن "عبد الله ابن المبارك" عن "اللَّيث بن سعد" عن "عقيل" عن "ابن شهاب الزُّهرىِّ" يرفعه. يقال فى الوصع: إنه الصَّغير من أولاد العصافير. ويقال: هو طائر شبيه بالعصفور الصَّغير فى صغر جسمه.

197 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: حين سأله أبو رزين العقيلىُّ (169): أين كان ربُّنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال: "كان فى عماء, تحته هواء, وفوقه هواء".

قال: حدثناه "يعقوب بن إسحاق الفارسىُّ" وغيره عن "حمَّاد ابن سلمة" عن "يعلى بن عطاء" عن "وكيع بن حدس". وكان "هشيم" يقول فى غير هذا الحديث: "عدس" [لهذا الرَّجل] عن عمِّه "أبى رزين [العقيلى] " عن النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: قوله: "فى عماء", العماء فى كلام العرب: السَّحاب الأبيض. قاله "الأصمعىُّ" وغيره, وهو ممدود. د وقال "الحارث بن حلِّزة [البشكرىُّ] ": وكأنَّ المنون تردى بنا أعـ ... صم صمٍّ ينجاب عنه العماء.

يقول: هو فى ارتفاعه قد بلغ السَّحاب, فالسَّحاب ينشقُّ عنه. وقوله: أعصم, يقول: نحن عصم فى عزِّنا, وامتناعنا مثل الأعصم, من أرادنا بالمنون, فكأنَّما يريد أعصم. وقال "زهير" يذكر ظباء أو بقرا: يشمن بروقه وبرُّش أرى الـ ... ـجنوب على حواجبها العماء.

وإنَّما تأوَّلنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عندهم, ولا ندرى كيف كان ذلك العماء, وما مبلغه, والله أعلم بذلك. وأمَّا العمى فى البصر, فإنَّه مقصور, وليس هو من معنى الحديث فى شئ.

198 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ- صلَّى الله عليه سلم-: أن رجلًا حلب عنده ناقًة. فقال له النَّبىُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-: "دع داعى اللَّبن". قال: حدثناه "أبو المنذر إسماعيل بن عمر" عن "سفيان" عن "الأعمش" عن "عبد الله بن سنان" عن "ضرار بن الأزور" عن النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: قوله: "دع داعى اللَّبن", يقول: أبق فى الضَّرع قليلًا, لا تستوعبه

كلَّه فى الحلب, فإنَّ الذى تبقيه فيه يدعو ما فوقه من اللَّبن, فينزله. وإذا استنفض كلُّ ما فى الضَّرع أبطا عنه الدَّرُّ بعد ذلك. 199 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: "لا تناجشوا, ولا تدابروا".

قال: حدَّثناه "هشيم" عن "مغيرة" عن "إبراهيم" عن "أبى هريرة" عن النبىِّ- (170) صلَّى الله عليه وسلم-: قوله: "لا تناجشوا": هو فى البيع أن يزيد الرجل فى ثمن السلعة و [هو] لا يريد شراءها, ولكن ليسمعه غيره فيزيد لزيادته. وهو الذَّى يروى فيه عن "عبد الله بن أبى أوفى" قال: "الناجش آكل ربًا خائن", وأما التَّدابر: فالمصارمة والهجران مأخوذ من أن يولِّى الرَّجل صاحبه دبره, ويعرض عنه بوجهه, وهو التقاطع. قال" حمرَّة بن مالك الصُّدائىُّ" يعاتب قومه: أأوصى أبو قيس بأن يتواصلوا ... وأوصى أبوكم ويحكم أن تدابروا

200 - وقال" أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: أنه قال: "لا تماروا فى القرآن فإن مراءً فيه كفر".

قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفر" عن "يزيد بن خصيفة" عن "مسلم بن سعيد مولى بن الحضرمِّى". وقال غيره: عن "يسر بن سعيد" عن "أبى جهيم الأنصارىِّ" عن النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: قال: وحدثناه" يزيد بن هارون" عن "زكريَّا بن أبى زائدة" عن "سعد بن إبراهيم" عن "أبى سلمة" عن "أبى هريرة" عن النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: قال "أبو عبيد": ليس وجه هذا الحديث عندنا على الاختلاف فى التأويل, ولكنه عندنا على الاختلاف فى اللَّفظ, أن يقرأ الرَّجل القراءة على حرف, فيقول له الآخر: ليس هو هكذا, ولكنَّه هكذا على خلافه. وقد أنزلهما الله جميعًا.

يعلم ذلك بحديث النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: "أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلُّ حرف منها شاف كاف". ومنه حديث "عبد الله بن مسعود": "إياكم والاختلاف والتنطع

فإنَّما هو كقول أحدكم: هلمَّ، وتعال". فإذا جحد هذان الرَّجلان كلُّ منهما، ما قرأ صاحبه، لم يؤمن أن يكون ذلك قد أخرجه الى الكفر لهذا المعنى. ومنه حديث "عمر" -رضى الله عنه-: قال: حدثناه "معاذ [ين معاذ] " عن [ابن عون] عن "أبى عمران الجونىَّ" عن "عبد الله بن الصامت" عن "عمر"، قال: "اقرءوا القرآن ما اتَّفقتم، فإذا اختلفتم، فقوموا عنه".

قال: وحدَّثنا "حجَّاج" عن "حماد بن (171) زيد" عن "أبى عمران الجونىِّ" عن "جندب بن عبد الله" أنَّه قال مثل ذلك. ومنه حديث "أبى العالية": قال: حدَّثنا "ابن عليَّة" عن "شعيب بن الحبحاب" عن "أبى العالية الرَّياحىِّ" أنَّه كان إذا قرأ عنده إنسان, لم يقل: ليس هو هكذا. ولكن يقول: أمَّا أنا فأقرأ هكذا. قال: "شعيب", فذكرت ذلك "لإبراهيم" فقال: أرى

صاحبك قد سمع أنَّه من كفر بحرف منه فقد كفر به كلِّه. 201 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنه قال: "ما نزل من القرآن آية إلَّا لها ظهر وبطن, وكل حرف حدٌّ, وكل حدٍّ مطلع". قال: حدَّثنيه "حجَّاج" عن "حمَّاد بن سلمة" عن "علىِّ بن زيد"

عن "الحسن", يرفعه إلى النِّبىَّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-: قال: فقلت: "يابا سعيد", ما المطَّلع؟ قال: يطَّلع قوم يعملون به. قال "أبو عبيد": فأحسب قول "الحسن هذا, إنما ذهب به إلى قول "عبد الله بن مسعود" فيه. قال: حدثنى "حجاج" عن "شعبة" عن "عمرو بن مرَّة" عن "مرَّة" عن "عبد الله" قال: "ما من حرف- أو قال: آية- إلَّا قد عمل بها قوم, أولها قوم سيعلمون بها". فإن كان "الحسن" ذهب إلى هذا فهو وجه. وإلَّا فإن المطَّلع فى كلام العرب على غير هذا الوجه. وقد فسرناه فى موضع آخر, وهو المأتى الذى يؤتى

منه حتى يعلم علم القرآن من ذلك المأتى والمصعد. وأمَّا قوله: "لها ظهر وبطن". فإنَّ النَّاس قد اختلفوا فى تأويله. فيروى عن "الحسن" أنَّه سئل عن ذلك, فقال: "إنَّ العرب تقول: قد قلَّبت أمرى ظهرًا لبطن. وقال غيره: الظهر: هو لفظ القرآن, والبطن: تأويله. وفيه قول ثالث, وهو عندى أشبه الأقاويل بالصواب. وذلك أنَّ الله- تبارك وتعالى- قد قصَّ عليك من نبإ "عاد" و"ثمود" وغيرهما من القرون الظَّالمة لأنفسها, فأخبر بذنوبهم,

وما عاقبهم بها, فهذا هو الظَّهر. إنَّما هو حديث حدَّثك به عن قوم, فهو فى الظَّاهر خبر. وأمَّا الباطن منه, فإنَّه صيَّر ذلك الخبر عظًة لك, وتحذيرًا وتنبيهًا أن تفعل فعلهم, فيحل بك ما حل بهم من عقوبته, ألا ترى أنه لما أخبرك عن قوم "لوط" وفعلهم, وما أنزل بهم إن فى ذلك ما يبيِّن (172) أنَّ من صنع ذلك عوقب بمثل عقوبتهم. وهذا كرجل قال لك: إنَّ السُّلطان أتى بقوم قتلوا, فقتلهم, وآخرين شربوا الخمر فجلدهم, وآخرين سرقوا, فقطعهم. فهذا فى الظاهر إنما هو حديث حدثك به. وفى الباطن أنه قد وعظك بذلك, وأخبرك أنه يفعل ذلك بمن أذنب تلك الذُّنوب. فهذا هو البطن على ما يقال, والله أعلم.

202 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: "إذا تمنَّى أحدكم فليكثر فإنَّما يسأل ربَّه". قال: حدثناه "يحى بن سعيد" عن "هشام بن عروة" عن "أبيه" عن "عائشة" [رضى الله عنها] عن النبىِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-:

قال "أبو عبيد": وقد جاء فى هذا الحديث الرُّخصة عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فى التمنِّى, وهو فى التنزيل نهى, قال الله -تبارك وتعالى-: "ولا تتمنَّوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض". ولكلٍّ وجه غير وجه صاحبه. فأمَّا التَّمنِّى المنهىُّ عنه, فأن يتمنَّى الرَّجل مال غيره أن يكون ذلك له, ويكون ذاك خارجًا منه على جهة الحسد من هذا له, والبغى عليه.

وقد روى فى بعض الحديث ما يبيِّن هذا. قال: حدثنى "كثير بن هشام" عن "جعفر بن برقان" عن "ميمون بن مهران" قال: مكتوب فى الحكمة, أو قال: فيما أنزل الله [عزَّ وجلَّ] على "موسى" [عليه السلام]: "ألَّا تتمنى مال جارك, ولا امرأة جارك". فهذا المكروه الذى فسرناه. وأما المباح, فأن يسأل الرجل ربَّ أمنيَّته من أمر دنياه وآخرته. قال "أبو عبيد": فجعل التمنَّى هاهنا المسألة, وهى الأمنية التى

أذن فيها, لأن القائل إذا قال: ليت الله يرزقنى كذا وكذا, فقد تمنَّى ذلك الشَّئ أن يكون له, ألا تراه يقول- تبارك وتعالى-: {واسألوا الله من فضله}. وهو تأويل الحديث الذى فيه الرُّخصة. 203 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: "أنَّ عمَّ الرَّجل صنو أبيه".

يعنى أن أصلهما واحد. وأصل الصِّنو, إنما هو فى النخل. قال: حدثنا "شريك" عن "أبى إسحاق" عن "البراء بن عازب"

فى قوله [سبحانه]: } صنوان (173) وغير صنوان { قال: الصِّنوان: المجتمع, وغير الصِّنوان: المتفرِّق. وفى غير هذا الحديث هما النخلتان يخرجان من أصل واحد, فشبِّه الأخوان بهما. والعرب تجمع الصِّنو صنوانًا, والقنو قنوانًا على لفظ الاثنين بالرفع, وإنما يفترقان فى الإعراب, لأن نون الاثنين

مخفوضة, ونون الجميع يلزمها الإعراب فى كلِّ وجه. 204 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: "الزُّبير ابن عمَّتى, وحوارىَّ من أمَّتى".

قال: حدَّثناه "أبو معاوية" عن "هشام بن عروة" عن "محمد ابن المنكدر" عن "جابر [بن عبد الله] " عن النبىِّ [- صلَّى الله عليه وسلم-]: يقال- والله أعلم-: إن أصل هذا إنما كان بدؤه من الحواريِّين أصحاب "عيسى بن مريم" [صلوات الله عليه وعلى نبيِّنا] وإنما سمُّوا حواريِّين, لأنهم كانوا يغسلون الثياب. يحوِّرونها, وهو التبييض. يقال: حوَّرت الشيء: [إذا] بيَّضته.

ومنه قيل: امرأة حوارية: إذا كانت بيضاء, قال الشاعر: فقل للحواريَّات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلَّا الكلاب النوابح قال وكان "أبو عبيدة" يذهب بالحواريَّات إلى نساء الأمصار دون أهل البوادى. وهذا عندى يرجع إلى ذلك المعنى, لأنَّ عند هؤلاء من البياض ما ليس عند أولئك, فسماهن حواريات لهذا. فلما كان "عيسى ابن مريم".

صلَّى الله عليه وسلَّم- نصره هؤلاء الحواريُّون, فكانوا شيعته, وأنصاره دون الناس, فقيل: فعل الحواريُّون كذا, ونصره الحواريُّون بكذا, جرى هذا على ألسنة الناس حتى صار مثلًا لكلِّ ناصر, فقيل: حوارىُّ, إذا كان مبالغا فى نصرته تشبيهًا بأولئك. هذا كما بلغنا- والله أعلم. وهذا مَّما قلت لك: إنهم يحوِّلون اسم الشئ إلى غيره إذا كان من سببه. 205 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ- صلَّى الله عليه وسلم-: "لا يموت لمؤمن ثلاثة أود (174) فتمسُّه النار إلَّا تحلَّة

القسم". قال: حدثنيه "أبو النضر" عن "عبد العزيز بن عبد الله ابن أبى سلمة" عن "الزُّهرى" عن "ابن المسيَّب" عن "أبى هريرة"

عن النبىَّ -صلَّى الله عليه وسلّ! م-: قال: نرى أن قوله: "تحلَّة القسم", يعنى قول الله- تبارك وتعالى-: } وإن منكم إلَّا واردها كان على ربِّك حتمًا مقضيًّا {. يقول: فلا تردها إلَّا بقدر ما يبرُّ الله قسمه فيه.

وفى هذا باب من العلم, أنَّه أصل للرَّجل يحلف ليفعلنَّ كذا وكذا, ثمَّ يفعل منه شيئًا دون شيء, ليبرَّ فى يمينه, كالرَّجل يحلف ليضربنَّ مملوكه, فيضربه ضربًا دون ضرب, فيكون قد برَّ فى القليل كما يبرُّ فى الكثير. ومنه ما قصَّ الله- تعالى- من نبإ "أيوب" [-عليه السلام-] حين حلف ليضربنَّ امرأته مائًة, فأمره الله [-عز وجلَّ-] بالضِّغث ولم يكن "أيوب"- صلَّى الله عليه- نواه حين حلف.

206 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أنجع الأسماء عند الله أن يتسمّى الرجل باسم ملك الأملاك".

هو من حديث "ابن أبى الزّناد" أو غيره، عن "أبى الزّناد" عن الأعرج، عن "أبى هريرة" عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وبعضهم يرويه: "إنّ أخنع الأسماء". فمن رواه "أنخع" أراد أقتل الأسماء وأهلكها له. والنخع: هو القتل الشّديد. ومنه النخع في الذّبيحة: أن يجوز بالذبح إلى النّخاع. ومن روى: "أخنع" أراد أشد الأسماء ذّ، وأوضعها عند الله [-تعالى-] إذ تسمى باسم ملك الأملاك، فوضعه ذلك عند الله. والخانع: الذليل الخاضع. وكان "سفيان بن عيينة" يفسر قوله: "ملك الأملاك".

قال: هو مثل قولهم شاهان شاه، وما أشبهه، أى أنه ملك الملوك. وقال غير "سفيان": بل هو أن يتسمّى الرجل بأسماء الله [-عز وجل-]، كقوله: الرحمان، والجبار، والعزيز قال: فالله [-عز وجل-] هو ملك الأملاك، لا يجوز أن يسمّى بهذا الاسم غيره. وكلا القولين له وجه، والله أعلم. 207 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلّم-: "إذا مرّ أحدكم بطربالٍ مائل، فليسرع المشى".

يروى هذا عن "حمّاد بن سلمة" عن "حبيب" عن "يحي ابن أبى كثير" (175) يرفعه. قوله: "الطّربال": كان "أبو عبيدة" يقول: هو شبيه بالمنظر من مناظر العجم كهيئة الصومعة، والبناء المرتفع،

وقال "جرير": ألوى بها شذب العروق مشذّب ... فكأنما وكنت على طربال يقال منه: وكن يكن: إذا جلس. 208 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: إنه كان يقول في مرضه: "الصلاة وما ملكت أيمانكم". فجعل يتكلم، وما يفيص بها لسانه.

قال: حدّثناه "يزيد" عن "همّام" عن "قتادة" عن "صالح أبى الخليل" عن "سفينة" عن "أمّ سلمة" عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-:

قوله: وما يفي صبها لسانه، يقول: ما يبين بها كلامه. يقال: ما يفيص فلان بكلمة: إذا لم يقدر على أن يتكلم بها ببيان. قاله "الأصمعىّ"، وغيره. 209 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلّى الله عليه وسلم-: "تمسّحوا بالأض، فإنّها بكم برّة". يروى ذلك عن "عوف بن أبى جميلة" عن "أبى عثمان الفهدىّ" يرفعه.

قوله: "تمسّحوا بها"، يعنى: الصلاة عليها والسجود. يقول: أن تباشرها بنفسك فى الصلاة من غير أن يكون بينك وبينها شيء تصلّى عليه. وإنّما هذا عندنا على وجه البرّ، ليس على أنّ من ترك ذلك كان تاركًا للسّنة. وقد روى عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وغيره من أصحابه [-رحمهم الله-] أنه كان يسجد على الخمرة.

فهذا هو الرّخصة، وذاك على وجه الفضل. وقد روى عن "عبد الله [-بن مسعود-] " أنه كره أن يسجد الرجل على شيءٍ دون الأرض. ولكنّ الرّخصة فى هذا أكثر من الكراهة. وأمّا قوله: "فإنّها بكم برّة"، يعنى أنّه منها خلقهم، وفيها معايشهم، وهى بعد الموت كفاتهم. فهذا وأشباه له كثيرة من برّ الأرض بالنّاس.

قال "أبو عبيدٍ": وقد تأوّل بعضهم قوله: "تمسّحوا بالأرض" على التيّم، وهو وجه حسن. 210 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- (176): "كلّ مولد يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه".

قال: حدّثناه "إسماعيل بن جعفر" عن "العلاء بن عبد الرحمن" عن "أبيه" عن "أبى هريرة" عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: قال: وحدّثناه "ابن عليّه" عن "يونس" عن "الحسن" عن "الأسود بن سريع" عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلم-. [قال أبو عبيد]: فسألت محمد [بن الحسن] عن تفسير هذا الحديث، فقال: كان هذا فى أوّل الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد.

قال "أبو عبيد": كأنّه يذهب إلى أنّه لو كان يولد على الفطرة، ثمّ مات قبل أن يهوّده أبواه، أو ينصّراه ماورثهما، ولا ورثاه؛ لأنّه مسلم، وهما كافران. وكذلك ما كان يجوز أن يسبى. يقول: فلما نزلت الفرائض، وجرت السنن بخلاف ذلك، علم أنه يولد على دينهما. هذا قول "محمّد بن الحسن". وأما "عبدالله بن المبارك" فإنّه بلغنى أنه سئل عن تأويل هذا الحديث، فقال: تأويله: الحديث الآخر أنّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- سئل عن أطفال المشركين، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". يذهب إلى أنهم إنّمّا يولدون على ما يصيرون إليه من إسلامٍ أو كفرٍ. فمن كان فى علم الله [عزّ وجل] أن يصير مسلمًا، فإنّه يولد على الفطرة.

ومن كان علمه فيه أن يموت كافرًا، ولد على ذلك. [قال أبو عبيد]: ومما يشبه هذا الحديث حديثه الآخر أنّه قال -صلّى الله عليه وسلّم-: يقول الله -تبارك وتعالى-: "إنى خلقت عبادى جميعًا حنفاء، فاجتالهم الشيّاطين عن دينهم، وجعلت مانحلتهم من رزق، فهو لهم حلال فحرّم عليهم الشّيطان ما أحلت لهم".

فكأنه يريد قول الله -تبارك وتعالى-: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالًا. قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون". يروى فى التفسير عن "مجاهد" فى قوله [عز وجلّ]: "فجعلتم منه حرامًا وحلالًا" أنّها (177/) البحائر والسيّب. قال "أبو عبيد: يعنى ما كانوا يحرّمون من ظهورها وألبانها،

والانتفاع بها. وفيها نزلت هذه الآية: "ما جعل الله من بحيرة وسائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ". 211 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: أنّه كان يقول في دعاءٍ له: "ربّ تقبّل توبتى، واغسل حوبتى".

قال: حدّثنيه "ابن مهدى" عن "سفيان" عن "عمرو بن مرّة" عن "عبد الله بن الحارث" عن "طليق بن قيسٍ" عن "ابن عباسٍ" عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: قوله: "حوبتى": يعنى المآثم، وهو من قوله [-عز وجل-]: "إنه كان حوبًا كبيرًا". وكلّ مأثمٍ حوب، وحوب، والواحدة حوبة.

ومنه الحديث الآخر: "أنّ رجلًا أتى النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: إنى أتيتك لأجاهد معك. قال: ألك حوبة؟ قال: نعم. قال: ففيها فجاهد".

يروى ذلك عن "أشعث بن عبد الملك" عن "الحسن" يرفعه. يعنى: ما تأثم فيه إن ضيّعته من حرمةٍ. وبعض أهل العلم يتأوّله على الأمّ خاصّةً. وهى عندى كل حرمةٍ تضيع إن تركتها من أمً، أو أختٍ، أو بنتٍ، أو غير ذلك. قال "الأصمعىّ": فالعرب تقول: بات فلان بحيبة سوءٍ: إذا بات بشدّةٍ وحالٍ سيّئةٍ. [قال]: ويقال: فن يتحوّب من كذا وكذا: إذا كان يتغيّظ

منه، ويتوجّع، قال "طفيل الغنوى": فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر ... من الغيظ فى أكبادنا والتحوب قال "أبو عبيد": والتحوّب فى غير هذا: التأثّم أيضًا من الشّيء، وهو من الأول، وبعضه قريب من بعضٍ. 212 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنه مرّ وأصحابه على إبلٍ لحىً يقال لهم: "بنو الملوّح"،

أو "بنو المصطلق" قد عبست فى أبوالها من السّمن، فتقنّع بثوبه، ثمّ مرّ". لقول الله [-تبارك وتعالى-]: "ولا تمدّنّ عينيك إلى ما متّعنا (178) به أزواجًا منهم ... " إلى آخر الآية. قال: حدثنيه "أبو النّضر" عن "عكرمة بن عمّار" عن "يحيى ابن أبى كثيرٍ" يرفعه. قوله: "عبست فى أبوالها [من السّمن] ": يعنى أن تجفّ

أبوالها وأبعارها على أفخاذها، وذلك إنّما يكون من كثرة الشّحم، فذلك العبس. قال "جرير" يذكر امرأةً أنها كانت راعيةً: ترى العبس الحولّى جونًا بكوعها ... لها مسكًا من غير عاج ولا ذبل

[ويروى: مسك]. 213 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "على كلّ سلامى من أحدكم صدقة، ويجزى فى ذلك ركعتان يصلّيهما من الضّحى".

قال [أبو عبيد]: لا أعلمنى إلا سمعته من "يزيد" [يرويه] عن "مهدىّ بن ميمون" عن "واصل" مولى " أبى عيينة" عن "يحيى ابن عقيل" عن "يحيى بن يعمر" عن "أبى الأسود" عن "أبى ذرً" عن النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: قوله: "سلامى"، فالسمة فى الأصل عظم يكون فى فرسن البعير. ويقال: إنّ آخر ما يبقى فيه المخّ من البعير إذا عجف فى السّلامى والعين، فإذا ذهب منهما، لم تكن له بقيّة بعد.

قال الراجز: يشتكين عملًا ... ما أنقين ما دام مخّ فى سلامى أو عين وقوله: ما أنقين من النقى وهو المخّ. فكأنّ معنى الحديث: أنه على كلّ عظمٍ من عظام ابن آدم صدقة، وأنّ الرّكعتين تجزيان من تلك الصّدقة. 214 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-

حين قيل له: هذا "علىّ" و "فاطمة" قائمين بالسّدّة، فأذن لهما، فدخلا، فأغدف عليهما خميصةً سوداء".

[قال أبو عبيد]: لا أعلمنى إلّا حدّثنيه "هوذة" عن "عوف" عن "عطّية أبى المعدّل الطّفاوى" عن "أبيه"، عن "أمّ سلمة" ترفعه. قوله: "أغدف عليهما"، يعنى أرسل. ومنه قيل: أغدفت المرأة قناعها: إذا أرسلته على وجهها؛ لتستره وقال "عنترة": إن تغد فى دونى القناع فإنّنى ... طبّ بأخذ الفارس المستلئم

وقد روى فى حديثٍ آخر: "أنّ قلب المؤمن أشدّ اضطرابًا من الذّنب يصيبه من العصفور حين يغدف به". فبعض الناس يحمله على هذا المعنى. فإن كان منه، فهو أن تلقى عليه الشّبكة أو الحبالة، فيصطاد، كما يرسل الستر، وغيره، وليس هو بشيءٍ أشبه منه بهذا. 215 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- فى ذكر المنافقين، وما فى التنزيل من ذكرهم، ومن ذكر

الكفّار يقال -والله أعلم-: إنّما سمّى المنافق منافقًا؛ لأنّه نافق كاليربوع، وإنّما هو دخوله نافقاءه. يقال منه: قد نفق فيه، ونافق، وهو جحره، وله جحر آخر، يقال له: القاصعاء، فإذا طلب قصّع، فخج من القاصعاء، فهو يدخل فى النافقاءٍ، ويخرج من القاصعاء، أو يدخل فى القاصعاء، ويخرج

من النّافقاء. فيقال: هكذا يفعل المنافق، يدخل فى الإسلام، ثمّ يخرج منه من غير الوجه الذى دخل فيه. وأمّا الكافر، فيقال -والله أعلم-: إنّه إنّما سمّى كافرًا؛ لأنّه متكفّر بالله كالمتكفّر بالسّلاح، وهو الّذى قد ألبسه السّلاح حتّى غطىّ كلّ شيءٍ منه، فكذلك غطىّ الكفر قلب الكافر. ولهذا قيل للّيل: كافر؛ لأنّه ألبس كلّ شيءٍ، قال "لبيد" يذكر الشّمس: حتّى إذا ألقت يدًا فى كافر ... وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

[الثّغور: الخلل]. وقال أيضًا: *فى ليلة كفر النّجوم غمامها* يقول: غطّاها السحاب.

وقد يقال فى المنافق [أيضًا]: إنّما سمّى منافقًا للنّفق، وهو السّرب فى الأرض، والتّفسير الأول أعجب إلىّ (180). ويقال فى الكافر: سمّى بذلك للجحود، كما يقال: كافرنى فلان حقّى: إذا جحدنى. 216 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلم- فى تلبية الحجّ: "لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك".

قال: حدّثنيه "ابن عليّة" عن "أيوب" عن "نافع" عن "ابن عمر". قال: وحدثنيه "يحيى بن سعيد" عن "جعفر" عن "أبيه"، عن "جابر بن عبد الله". قال: وحدّثنيه "عبد الله بن داود" عن "الأعمش" عن

"عمارة" عن "أبى عطيّة" عن "عائشة" [-رضى الله عنها-]. وبعضهم عن "عبد الرحمن بن يزيد" عن "عائشة" كلّهم يحدّث بذلك عن النّبىّ -صلّى الله عليه وسلم-: قوله: "لبّيك"، تفسير التّلبية فى الحديث أنّها استجابة. وكان "الخليل بن أحمد" [-رحمه الله-] يفسّر: أن أصل التّلية الإقامة بالمكان. قال: يقال: ألببت بالمكان: إذا أقمت به، ولببت لغتان. قال: ثم قلبوا الباء الثانية إلى الياء استثقالًا، كما قالوا: تظنّيت، وإنّما أصلها: تظنّنت

وكما قال "العجّاج": *تقضّى البازى إذا البازى كسر* وإنّما أصلها: تقضّضت. قال: فقالوا على هذا: لبيت، وأصلها: ألببت أو لبّبت. فكأنّ قولهم: لبّيك، أى أنا عبدك، أنا مقيم معك، قد أجبتك على هذا، وما أشبهه من المعنى.

ثمّ ثنّوه للتوكيد، فقالوا: لبّيك اللهم لبّيك، أى أقمت عندك إقامةً بعد إقامة، وإجابة بعد إجابة. هكذا يحكى هذا التفسير عن "الخليل". ولم يبلغنا عن أحد أنه فسّره غيره، إلّا من اتّبعه، فحكى عنه. 217 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم".

قال: حدّثناه "أبو معاوية" عن "حجّاج بن أرطاة" عن "قتادة" عن "الحسن" عن "سمرة [بن جندب] " عن النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: يقال: فيه قولان: أحدهما: أنه يريد بالشّيوخ الرّجال المسانّ أهل الجلد منهم- والقوة (181) على القتال، ولا يريد الهرمى. يبيّن ذلك حديث "أبى بكرٍ" -رحمه الله- حين أوصى "يزيد بن أبى سفيان" فقال: "لا تقتل شيخًا كبيرًا".

وقوله: "شرخهم"، يريد الّباب، ومعناه فى هذا القول: الصغار الذين لم يدركوا، فصار تأويل الحديث: "اقتلوا الرّجال، واستحيوا الصّغار". وأما التّفسير الآخر، فإنّه يريد بالشّيوخ الهرمى الّذين إن سبوا لم ينتفع بهم للخدمة. واستحيوا الشّباب: يعنى أهل الجلد من الرّجال الذين يصلحون للملك والخدمة. قال "حسان [بن ثابت] " فى الشّرخ: إنّ شرخ الّباب والشّعر الأسـ ... ود ما لم يعاص كان جنوبا

وقوله: : استحيوا"، إنما هو استفعلوا من الحياة، أى دعوهم أحياءً لاتقتلوهم. ومنه قول الله -تبارك وتعالى- فيما يروى فى التفسير: "يذبّح أبناءهم ويستحي نساءهم".

218 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنّ رفقةً جاءت، وهم يهرفون بصاخبٍ لهم، ويقولون: يا رسول الله! ما رأينا مثل فلان، ما سرنا إلاّا كان فى قراءة، ولا نزلنا إلا كان فى صلاةٍ". قال: حدثناه "ابن عليّة" عن "أيوب" عن "أبى قلابة" يرفعه. قولهم: يهرفون به: يمدحونه، ويطنبون فى ذكره. يقال منه: هرفت بالرّجل أهرف هرفًا.

ويقال فى مثل من الأمثال: "لا تهرف قبل أن تعرف". 219 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنه كره الشّكال فى الخيل".

قال: حدثنيه "يحيى بن سعيد" عن "سفيان [الثّورىّ] " عن "سلم بن عبد الرّحمن" عن "أبى زرعة" عن "أبى هريرة"، عن النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: قوله: "الشّكال": يعنى أن تكون ثلاث قوائم منه محجلةً، وواحدة مطلقة. وإنّما أخذ هذا من الشّكال الذى يشكل به الخيل. شبّه به؛ لأنّ الشّكال إنّما يكون فى ثلاث قوائم (182)، أو أن

تكون الثلاث مطلقةً، ورجل محجّلة، وليس يكون الشّكال إلّا فى الرّجل، ولا يكون فى اليد. 220 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىّ -صلّى الله عليه وسلم-: أنه قال: "إنّى لأكره أن أرى الرجل ثائرًا فريص رقبته، قائمًا على مريّته يضربها". قال: بلغنى عن "ابن عيينة" عن "يحيى بن سعيدٍ" عن "حميد

ابن نافع" عن "أمّ كلثوم بنت أبى بكر" ترفعه. قال "الأصمعىّ": الفريصة هى اللّحمة التى تكون بين الجنب، والكتف التى لا تزال ترعد من الدّابّة، وجمعها فرائص [وفريص]. قال "أبو عبيد": وهذا الذى قاله "الأصمعىّ" هو المعروف فى كلام العرب. ولا أحسب الذى فى الحديث إلّا غير هذا، كأنّه إنما أراد عصب الرقبة، وعروقها؛ لأنها هى التى تثور فى الغضب، -والله أعلم-.

221 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: أنه قال: "المسلمون هينون لينون كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرةٍ استناخ". قوله: "الأنف" يعنى الذى قد عقره الخطام إن كان بخشاش

أو برةٍ، أو خزامةٍ فى أنفه، فهو ليس يمتنع على قائده فى شيءٍ للوجع الذى به. وكان الأصل فى هذا أن يقال: مأنوف؛ لأنّه مفعول به. كما يقال: مصدور للّذى يشتكى صدره، ومبطون للّذى- به البطن. وكذلك مرءوس، ومفئود، ومفخوذ، وكذلك جميع ما فى الجسد على هذا. ولكن هذا الحرف جاء شاذًا عنهم. وقال بعضهم: الجمل الأنف هو الذلول، ولا أرى أصله إلّا من هذا.

222 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنه خطبهم على راحلته، وإنّها لتقصع بجرتّها".

قال حدّثنيه "يزيد" عن "ابن أبى عروبة" عن "قتادة" عن "شهر بن حوشب" عن "عبد الرّحمن بن غنم" عن "عمرو (183) ابن خارجة" شهده من النبىّ -صلّى الله عليه وسلم-: قوله: "تقصع بجتها"، القصع: ضمّك الشيء على الشيء، حتى تقتله، أو تهشمه. ومنه قصع القملة. ومنه قيل للغلام إذا كان بطئ الشباب: قصيع. يقول: إنه مردّد الخلق بعضه إلى بعض، فليس يطول. وإنما قصع الجرة شدة المضغ، وضم بعض الأسنان على بعض. والجرة ما تجتره الإبل فتخرجه من أجوافها؛ لتمضغه، ثم تردّه

فى أكراشها بعد الجرة، أى بعد أن تجترّه. وفى هذا الحديث من الفقه خطبته -صلّى الله عليه وسلم- على ظهر الناقة. وهذا رخصة فى الوقوف على الدواب إذا كان ذلك لحاجة إليه.

قال: وأخبرنى "عبد الرحمن بن مهدى" عن "مالك بن أنس" قال: الوقوف على ظهور الدوابّ "بعرفة" سنة، والقيام على الأقدام رخصة. 223 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىّ -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يأكل فى معى واحد، والكافر يأكل فى سبعة أمعاءٍ".

قال: حدثنيه "حجاج" عن "ابن جريج" عن "أبى الزبير" عن "جابرٍ" عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلم-: قال: وحدثناه "هشيم" عن "مجالدٍ" عن "أبى الودّاك" عن "أبى سعيد الخدرىّ" عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلم-:

قال: وحدثنيه "يحيى بن سعيد" عن "عبيد الله" عن "نافع" عن "ابن عمر". كلّهم عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلم-. قوله: "فى معّى واحد"، نرى ذلك -والله أعلم- لتسمية المؤمن عند طعامه، فتكون فيه البركة، وأن الكافر لا يفعل ذلك. ويرون أن وجه [هذا] الحديث -والله أعلم- أنه [إنما] كان هذا خاصًا لرجل بعينه كان يكثر الأكل قبل إسلامه، ثم أسلم، فنقص ذلك [منه].

فذكر ذلك للنبىّ -صلّى الله عليه وسلم-، فقال [فيه]: هذه المقالة. قال "أبو عبيدٍ": "أهل مصر" يرون أن صاحب هذا الحديث، هو "أبو بصرة الغفارىّ". قال "أبو عبيد": ولا نعلم للحديث وجهًا غير هذا؛ لأنّك قد ترى من المسلمين من يكثر أكله، ومن الكفار من يقلّ ذلك (184) منه.

وحديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- لا خلف له، فلهذا وجه على هذا الوجه. وقد روى عن "عمر" -رضى الله عنه- أنّه كان يأكل الّاع من التّمر، فأى المؤمنين كان له كإيمان "عمر" -رحمه الله عليه-.

224 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلم- فى صفته: أنّ عليّا [-رضى الله عنه-] كان إذا نعته [-صلّى الله عليه وسلم-] قال: "لم يكن بالطّويل الممّغط، ولا القصير المتردّد، لم يكن بالمطهّم، ولا المكلثم، أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، ششن الكفّين، والقدمين، دقيق المسربة، إذا مشى تقلّع، كأنّما يمشى فى صببٍ،

وإذا التفت التفت معًا، ليس بالسّبط، ولا الجعد القطط،

قال: حدّثنيه "أبو إسماعيل المؤدّب" عن "عمر" مولى "غفرة" عن "إبراهيم بن محمد بن الحنفيّة" قال: كان "على [بن أبى طالب] " إذا نعت النبى -صلّى الله عليه وسلّم- قال ذلك. وفى حديث آخر، قال: حدّثناه إسماعيل بن جعفر، قال: "كان أزهر ليس بالأبيض الأمهق".

وفى حديث آخر: "كان فى عينيه شكلة". وفى حديثٍ آخر: "كان شبح الذّراعين". [قال أبو عبيد]: قال "الكسائىّ" والأصمعىّ وأبو عمرو، وغير واحد، ذكر كلّ واحد منهم بعض تفسير هذا الحديث. قوله: "ليس بالطويل الممّغط، يقول: ليس بالبائن الطّول.

"ولا القصير المتردّد": يعنى الذى قد تردّد خلقه بعضه على بعض [وهو مجتمع] ليس بسبط الخلق: يقول: فليس هو كذاك، ولكن ربعة بين الرجلين وهكذا صفته [-صلّى الله عليه وسلم-] فى حديث آخر: "أنه ضرب اللحم بين الرجلين".

وقوله: ليس بالمطهّم"، قال "الأصمعىّ": المطهّم: التامّ كل شيءٍ منه على حدته، فهو بارع الجمال. وقال غير الأصمعىّ: المكلثم: المدوّر الوجه، يقول: فليس كذاك، ولكنه مسنون. وقوله: "مشرب"، يعنى الذى قد أشرب حمرة. والأدعج العين: الشديد (185) سواد العينين.

قال الأصمعىّ: الدعجة هى السّواد. [قال]: والجليل المشاش: العظيم رؤوس العظام مثل الرّكبتين والمرفقين، والمنكبين. وقوله: الكتد هو الكاهل، وما يليه من جسده.

وقوله: ششن الكفّين والقدمين، يعنى أنّها إلى الغلظ وقوله: إذا مشى تقلّع كأنما يمشى فى صبب: الصبب: الانحدار، وجمعه أصباب، قال "رؤبة": *بل بلدٍ ذى صعد وأصباب*

بل فى معنى ربّ. وقوله: ليس بالسّبط، ولا الجعد القطط، فالقطط: الشديد الجعودة مثل أشعار الحبش. والسّبط: الّذى ليس فيه تكسّر. يقول: هو جعد رجل. وقوله: كان أزهر، الأزهر: [الأبيض] النّيّر البياض الذى يخالط بياضه حمرة.

وقوله: ليس بالأمهق، فالأمهق: الشديد البياض الّذى لا يخالط بياضه شئ من الحمرة، وليس بنيّر، ولكن كلون الجصّ، أو نحوه. يقول: فليس هو كذلك. وقوله: فى عينيه شكلة، فالشّكلة كهيئة الحمرة تكون فى بياض العين،

قال الشاعر: ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الطير شكلًا عيونها والشّهلة غير الشّكلة، وهى حمرة فى سواد العين.

والمرهة: البياض لا يخلطه غيره. وإنّما قيل للعين التى ليس فيها كحل: مرهاء، لهذا المعنى. وقوله: أهدب الأشفار: يعنى طويل الأشفار.

وقوله: شبح الذّراعين: يعنى عبل الذّراعين عريضهما. والمسربة: الشّعر المستدقّ ما بين اللّبّة إلى السرّة،

قال الذّهلىّ": الآن لمّا ابيضّ مسربتى ... وعضضت من نابى على جذم [ترجو الأعادى أن ألين لها ... هذا تخيّل صاحب الحلم] 225 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- حين أتاه "عمر" فقال: إنّا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا. أفترى أن نكتب بعضها؟ (186) فقال: "أمتهوّكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنّصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيةً، ولو كان "موسى" حيًا ما وسعه إلّا اتّباعى".

قال: حدّثناه "هشيم" قال: أخبرنا "مجالد" عن "الشّعبىّ" عن "جابر بن عبد الله"، عن النبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-. وتفسير هذا الحرف فى حديث آخر: قال: حدّثناه "معاذ" عن "ابن عونٍ" عن "الحسن" يرفعه، نحو ذلك. قال: قال "ابن عونٍ":

فقلت "للحسن": ما متهوّكون؟ فقال: متحيّرون. قال أبو عبيد: يقول: أمتحيّرون أنتم فى الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنّصارى؟ . قال "أبو عبيد": فمعناه أنّه كره أخذ العلم من أهل الكتاب. وأما قوله: "لقد جئتكم بها بيضاء نقيّةً"، فإنّه أراد الملّة

الحنيفيّة، فلذلك جاء التأنيت، كقول الله -تبارك وتعالى-: "وذلك دين القيّمة". إنّما هى فيما يفسّر: الملّة الحنيفيّة. 226 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبىّ -صلّ الله عليه وسلم-: أنّه لمّا خرج إلى "مكّة" عرض له رجل، فقال: "إن كنت تريد النّساء البيض والنّوق الأدم فعليك "ببنى مدلج"

فقال: "إنّ الله منع منّى "بنى مدلجٍ" بصلتهم الرّحم، وطعنهم فى ألباب الإبل". وبعضهم يرويه: "لبّاب الإبل". قال: حدّثنيه "حمّاد بن خالدٍ" عن "هشام بن سعد" عن "زيد بن أسلم" رفعه. قوله: "وطعنهم فى ألباب الإبل": فقد يكون الألباب فى معنيين: أحدهما: أن يكون أراد جمع اللّبّ، ولبّ كلّ شئٍ خالصه، كقولك: لبّ الطّعام، ولب النّخلة، وغير ذلك.

يقول: فإنّما ينحرون خالص إبلهم وكرائمها. والوجه الآخر: أن يكون أراد جمع اللّبب، وهو موضع النّحر من كلّ شئٍ، ونرى أنّ لبب الفرس إنّما سمّى به لهذا. ولهذا قيل: لبّبت فلانًا: إذا جمعت ثيابه عند صدره، ونحره، ثم جررته. قال "أبو عبيد": وإنّما وصفهم أنّهم أهل جودٍ بأموالهم، وصلة لأرحامهم والذى يراد من الحديث أن الإحسان والصّلة يدفعان السّوء والمكروه قال "أبو عبيد": وإن كان المحفوظ هو اللّبّات، فاللّبّة: موضع النّحر، وجمعها لبّات.

227 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (187) "إن مّما أدرك النّاس من كلام النّبوّة إذا لم نستحى فاصنع ما شئت".

[قال]: حدثناه "جرير بن عبد الحميد" عن "منصور" عن "ربعىّ بن حراشٍ" عن "أبى مسعود الأنصارى" عن النّبىّ -صلّى الله عليه وسلم. قال "جرير": معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير، فيدعه حياءً من النّاس كأنّه يخاف مذهب الرّياء. يقول: فلا يمنعنّك الحياء من المضىّ لما أردت. وقال "أبو عبيدٍ": والذى ذهب إليه "جرير" معنى صحيح فى مذهبه، وهو شبيه بالحديث الآخر: "إذا جاءك الشيطان، وأنت تصلّى، فقال: إنك ترائى، فزدها طولًا".

وكذلك قول "الحسن": ما أحد أراد شيئًا من الخير إلّا سار فى قلبه سورتان، فإذا كانت الأولى منهما لله [-عزّ وجلّ-] فلا تهيدنّه الآخرة. وفى هذا أحاديث، والمعنى فيه قائم. ولكنّ الحديث الأول ليس يجئ سياقه ولا لفظه على هذا التفّسير، ولا على هذا يحمله النّاس. إنّما وجهه عندى أنّه أراد بقوله: "إذا لم تستحى فاصنع ما شئت" إنما هو: من لم يستحى صنع ما شاء، على جهة الذّمّ لترك الحياء، ولم يرد بقوله: "فاصنع ما شئت" أن يأمره بذلك أمرًا. وهذا جائز فى كلام العرب أن تقول: افعل كذا وكذا، وليس

تأمره بذلك أمرًا، ولكنه أمر بمعنى الخبر. ألم تسمع حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "من كذب علىّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار". ليس وجهه أنّه أمره بذلك. هذا ما لا يكون. إنّما معناه: من كذب علىّ متعمّدًا تبوّأ مقعده من النّار. [أى]

كان له مقعده من النّار، إنّما هى لفظة أمر على معنى الخبر، وتأويل الجزاء. وإنّما يراد من الحديث أنّه يحثّ على الحياء، ويأمر، به ويعيب تركه. 228 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: أنّه أتى بوشيقة يابسةٍ من لحم صيدٍ، فقال: "إنّى حرام".

قال: حدّثناه "أبو وكيعٍ" [عن الجرّاح بن مليح] عن "قيس ابن مسلمٍ" عن رجلٍ من "بنى هاشمٍ". قال "أبو وكيع": أحسبه "الحسن بن محمّد"، رفعه. قوله: "الوشيقة": اللّحم يؤخذ فيغلى إغلاءةً، ثم يحمل فى الأسفار (188) ولا ينضج، فيتهرّأ. وزعم بعضهم أنّه بمنزلة القديد لا تمسّه النار.

يقال منه: قد وشقت اللّحم أشقه وشقًا واتّشقت اتّشاقا، وقال الشاعر: إذا عرضت منها كهاة سمينة ... فلا تهد منها واتّشق وتجبجب الجبجبة: أن يصرّ اللّحم فى كرشٍ فى تنّورٍ وتصرّ فيه الأبزار.

229 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- في لبن الفحل: "أنه يحرّم".

قال: سمعت "محمّد بن الحسن" وغيره من أهل العلم يفسّرونه: الرّجل يكون له المرأة، وهى مرضع بلبنه. قال "أبو عبيدٍ": وأمّا فى كلام العرب، فيقولون: مرضع بلبانه. قالوا: فكلّ من أرضعته بذلك اللّبن، فهو ولد زوجها محرّمون عليه وعلى ولده من ولد تلك المرأة، ومن ولد غيرها؛ لأنّه أبوهم جميعًا. وبيان ذلك فى حديث "ابن عبّاس" -رضى الله عنهما-. قال: سمعت "ابن مهدىّ" يحدّث عن "مالك" عن "الزّهرىّ" عن "عمرو بن الشّريد" عن "ابن عبّاس" [-رحمه الله-] أنه سئل عن رجل كانت له امرأتان، فأرضعت إحداهما جارية، والأخرى غلامًا. أيحلّ للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال: لا! اللّقاح واحد.

قال "أبو عبيد": فهذا تأويل لبن الفحل. وكذلك حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم- قبل هذا فيه بيان أيضًا. قال: حدّثنا "عبد الله بن إدريس"، و "أبو معاوية" عن "هشام

ابن عروة" عن "أبيه" عن "عائشة" [-رضى الله عنها-] قالت: استأذن عليها "أبو القعيس" بعد ما حجبت، فأبت أن تأذن له. فقال: أنا عمّك أرضعتك امرأة أخى، فأبت أن تأذن له، حتّى جاء رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له. فقال: "هو عمّك، فليلج عليك".

230 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكتفئ ما فى صحفتها، فإنذما لها ما كتب لها، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض".

قال: حدّثناه "هشيم" قال: أخبرنا "مغيرة" عن "إبراهين" عن "أبى هريرة"، رفعه. قوله: "لا تسأل المرأة طلاق أختها": يعنى ضرّتها. وقوله: "لتكتفئ ما فى صحفتها": أصل الصحفة: (189) القصعة، وجمعها صحاف. وقوله: "لتكتفئ" إنّما هو مثل.

يقول: لا تميل حظّ تلك إلى نفسها؛ لتصيّر حظّ أختها من زوجها كله لها. وإنّما قوله: لتكتفئ، تفتعل من كفأت القدر وغيرها: إذا كببتها، ففرّغت ما فيها. وقوله: "ولا تناجشوا": فإنّ النّجش أن يعطى الرّجل صاحب السّلعة بسلعته أكثر من ثمنها، وهو لا يريد شراءها، إنّما يريد أن

يسمعه غيره مّمن لا بصر له بها، فيزيد لزيادته. وفيه الحديث الآخر، عن "ابن أبى أوفى": "إن الناجش آكل ربًا خائن". وقوله: "لا يبع على بيع أخيه": قد فسّرناه فى غير هذا الموضع. 231 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنه قضى أن الخراج بالضمان".

قال: حدّثناه "مروان الفزارىّ" عن "ابن أبى ذئب" عن "مخلد ابن خفاف" عن "عروة" عن "عائشة" عن النّبىّ -صلّى الله عليه وسلم-. معناه -والله أعلم-: الرّجل يشترى المملوك يستغلّه، ثم يجد به عيبًا كان عند البائع،

فقضى أنه يرد العبد على البائع بالعيب، ويرجع بالثمن فيأخذه، وتكون له الغلة طيبة، وهي الخراج. وإنما طابت له الغلة، لأنه كان ضامنا للعبد لو مات، مات من مال المشترى، لأنه في يده. وهذا مفسر في حدييث "لشريح". قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "الشيباني" عن "الشعبي": أن رجلا اشترى من رجل غلاما، فأصاب من غلته، ثم وجد به داء كان عند البائع، فخاصمه إلى "شريح" فقال: رد [ذا] الداء بدائه ولك الغلة بالضمان.

قال "أبو عبيد": ألآ ترى أنه قد ألزمه أن يرده بدائه، هذا لتعلم أنه لو مات كان من مال المشترى، فلهذا طابت له الغلة. [قال]: وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أصل لكل من ضمن شيئا، أنه يطيب له الفضل إذا كان ذلك على وجه المبايعة لا على الغصب.

232 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "ليس على مسلم جزية".

قال: حدثناه "مصعب بن المقدام" عن "سفيان" عن "قابوس ابن أبى ظبيان (190) " عن "أبيه" يرفعه. فإنّ معناه: الذّمّىّ يسلم، وله أرض خراجٍ، فترفع عنه جزية أسه، ويترك على أرضه.

يؤدي عنها الخراج. ومن ذلك حديث "عمر" و"على" - رضي الله عنهما -. قال: حدثنا "ابن مهدي" عن "حماد بن سلمة"، عن "عبيد الله ابن رواحة"، قال: حدثني "مسروق" أن رجلا من الشعوب أسلم، فكانت تؤخذ منه الجزية، فأتى "عمر" فأخبره، فكتب ألا تؤخذ منه الجزية.

قال "أبو عبيد": الشعوب ها هنا العجم، وفي غير هذا الموضع أكثر من قبائل العرب. فالشعوب العجم، والشعوب: المنية -بالنصب-. قال: حدثنا "هشيم" قال: أخبرنا "سيار" عن "الزبير ابن عدى" قال: أسلم "دهقان" على عهد "على" [-رحمه الله-] فقال له: "إن أقمت في أرضك رفعنا الجزية عن رأسك، وأخذناها من أرضك، وإن تحولت، فنحن أحق بها". فهذا وجه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجزية.

وإنّما احتاج النّاس إلى هذه الأحاديث فى زمن "بنى أميّة"؛ لأنّه يروى عنهم أنّ الرّجل من أهل الذّمّة من أهل السواد، كان يسلم، فلا يسقطون الجزية عن الرأس، ويأخذونها منه مع الجزية من أرضه، وكان "الحجّاج" يحتجّ فيه، ويقول: إنّما هم فيّنا وعبيدنا، فإذا أسلم عبد الرجل، فهل يسقط عنه الإسلام

الضريبة؟ وكان "خالد بن عبد الله [القسرىّ] " يخطب به فيما يحكى عنه على المنبر، ولهذا استجاز من استجاز من القرّاء الخروج عليهم مع "ابن الأشعث". 233 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النّبىّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة".

قال "أبو عبيد": [وقد اختلف فى هذا الحديث]، فبعضهم يقول: الميزان ميزان [أهل] "المدينة".

والمكيال مكيال أهل "مكة". قال: حدثنيه "أبو المنذر إسماعيل بن عمر" عن "سفيان" عن "حنظلة" عن "طاووس" عن "ابن عمر" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. يقال: إن هذا الحديث أصل لكل شيء من (191) الكيل والوزن إنما يأتم الناس فيهما بأهل "مكة" وأهل "المدينة" وإن تغير ذلك في سائر الأمصار. ألا ترى أن أصل التمر "بالمدينة" كيل، وقد صار وزنا في كثير من الأمصار. وأن السمن عندهم وزن، وهو كيل في بعض الأمصار. فلو أسلم رجل تمرا في حنطة لم يصلح؛ لأنه كيل في كيل. وكذلك السمن إذا أسلمه فيما يوزن لم يصلح؛ لأنه وزن في وزن.

والذى يعف أصل الكيل والوزن أنّ كلّ ما لزمه اسم المختوم، والقفيز، والمكّوك، والمدّ، والصذاع، فهو كيل. وكلّ ما لزمه اسم الأرطال والأواقىّ، فهو وزن. ألا تسمع حديث "عمر" [-رضى الله عنه-] فى الأوقىّ حين قال فى عام الرّمادة وكان يأكل الخبز بالزّيت، فقرقر بطنه،

فقال: " قرقر ما شئت! فلا يزال هذا دأبك ما دام السمن يباع بالأواقىّ. فهذا يبيّن أن أصل السمن وزن، إلّا أن يريد بالأرطال المكاييل، فإن المكيال قد يسمى رطلّا. 234 - وقال "أبو عبيدٍ" فى حديث النبىّ -صلّى الله عليه وسلم- حين أهدى إليه "عياض بن حمارٍ" قبل أن يسلم، فردّه، وقال: "إنّا لا نقبل زبد المشركين".

قال: حدثناه "هشيم" و"ابن علية" عن "ابن عون" عن "الحسن" يرفعه. قال "ابن عون": فقلت "للحسن": ما زبد المشركين؟ فقال: رفدهم. [قال]: وهكذا هو عندنا في الكلام. يقال منه: زبدت الرجل أزبده زبدا: إذا رفدته، ووهبت له.

235 - وقال: "أبو عبيد" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في المزارعة: أن أحدهم كان يشترط ثلاثة جداول، والقصارة، وما سقى الربيع. فنهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.

قال: حدَّثناه "جرير" عن "منصور" عن "مجاهد" عن "أسيد ابن ظهير" عن "رافع بن خديج" عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم. فقوله: "يشترط عليه ثلاثة جداول": يعنى أنَّها كانت تشترط على المزارع أن يزرعها خاصَّةً لربِّ المال. وأمَّا القصارة: فإنَّه ما بقى فى السُّنبل من الحبِّ، بعد ما يداس. وأهل "الشام" يسمُّونه القصرى.

وكذلك يروى فى حديث عن "جابر بن عبد الله": قال: حدَّثنيه "أبو النضر" عن "أبى خيثمة" عن "أبى الزُّبير" عن "جابر [ابن عبد الله] قال: كنا نخابر على عهد النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم- فنصيب من القصرىِّ، ومن كذا وكذا. فقال النَّبىُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه".

وأمَّا "ما سقى الرَّبيع"، فإن الربيع النهر الصغير مثل الجدول، والسَّرىِّ ونحوه، وجمعه أربعاء. وإنما كانت هذه شروطًا يشترطها ربُّ الأرض لنفسه خاصًة سوى الشرط على الثُّلث والربع. فنرى أن نهى النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن المزارعة، إنما كان لهذه الشُّروط، لأنها مجهولة لا يدرى أتسلم أم تعطب. فإذا كانت المزارعة على غير هذه الشُّروط بالثُّلث أو الرُّبع أو النِّصف فهى طيِّبة إن شاء الله [-تعالى-]. وعلى هذا رخص فيها من رخص من أهل العلم.

236 - وقال "أبو عبيدة" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "إن الله يحبُّ النَّكل على النَّكل". قيل: وما النَّكل على النَّكل؟ قال: "الرجل القوىُّ المجرب، المبدى المعيد، على الفرس

القوىِّ المجرِّب- أو المجرَّبَ شك هو- المبدئ المعيد". قال: حدثنيه "محمد بن كثير" عن "الأوزاعىِّ" عن "يحيى ابن أبى عمرو الشيبانىِّ". قال "ابن كثير": أكبر ظنِّى أنه رفعه.

قال "أبوعبيد": وغير "ابن كثير" يقول عن "أبى هريرة" ولا يرفعه. قوله: "النَّكل"، قال "الفرَّاء": يقال: رجل نكل ونكل. قال: ومعناه قريب من التَّفسير الَّذى فى الحديث. قال: ويقال أيضا: رجل بدل وبدل، ومثل ومثل، وشبه وشبه. لم نسمع فى فعل وفعل غير هذه الأربهة الأحرف. وقوله: "المبدئ المعيد": الذى قد أبدأ فى غزوة، وأعاد أى قد غزا مرًة بعد مرة، وجرَّب الأمور: أعاد فيها وأبدأ. 237 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم- أن رجلًا أتاه، فقال: يا رسول الله أكلتنا الضَّبع.

فقال النبىُّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "غير ذلك أخوف عندى أن تصبَّ عليكم الدُّنيا صبًّا؛ ".

قال: حدثنيه "حجَّاج" عن "المسعودىِّ" عن (193) "حبيب ابن أبى ثابت" عن "عبيدة بن أبى لبابة" عن "أبى الدرداء" عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: قوله: "الضبع": هى السنة المجدبة. ولها أسماء أيضًا، وهى الأزمة والَّلزبة، ويقال لها أيضًا: كحل، إلَّا أن الضبع بالألف والَّلام، ولم نسمع فى هذه الأحرف إلَّا بغير ألف ولام كأنها اسم موضوع،

قال "سلامة بن جندل" يمدح قومًا: قوم إذا صرحَّت كحل بيوتهم ... مأوى الضِّياف ومأوى كلِّ قرضوب قال أبو عبيد، ويروى: ....... بيوتهم ... عزُّ الذَّليل ومأوى كلِّ قرضوب والقرضوب فى هذا البيت: الفقير والجميع قراضبة. ويقال فى غير هذا الموضع: القراضبة: اللصوص،

واحدهم قرضاب. ويقال: قرضاب وقرضوب، وصعلوك، وسبروت واحد [وهم المحاويج]. وفال الشاعر فى الضَّبع: أبا خراشة أمَّا أنت ذا نفر ... فإن قومك لم تأكلهم الضَّبع

[يعنى السَّنة المجدبة]. 238 - وقال "أبوعبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "من سرَّه أن يذهب كثير من وحر صدره فليصم شهر الصَّبر، وثلاثة أيَّلم من كلٍّ شهر".

قال: حدَّثناه "يزيد" عن "الجريرىِّ" عن "أبى العلاء"

عن أعرابى من "بنى زهير بن أقيش" عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-. قال "الكسائى" و "الأصمعىُّ" قوله: وحر صدره: غشُّه وبلابله. ويقال: إنَّ أصل هذا دويِّبة، يقال لها: الوحرة، وجمعها وحر. شبِّهت العداوة والغلُّ بذلك. والوغر شبيه به أيضًا. يقال منه: قد وغر صدر فلان عليك يوغر وغرًا، ووحر يوحر وحرًا.

[قال "الأصمعى": يقال: رجل سمح لا غير، وجبل وغر لا غير (أى بفتح السين والواو وسكون الوسط منهما) لا يقال: سمح ولا وغر (أى بالكسر)]. 239 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "من تعلَّم القرآن، ثم نسيه لقى الله، وهو أجذم".

قال: حدَّثنيه "حجَّاج" عن "شعبة" عن "يزيد بن أبى زياد" عن "عيسى بن فائد" قال: حدَّثنى من سمع "سعد بن عبادة" يقول: قال النَّبىُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "من تعلَّم القرآن ثم نسيه لقى الله أجذم". قوله: "أجذم" (194) هو المفطوع اليد. يقال منه: [قد] جذمت يده تجذم جذمًا: إذا انقطعت، وذهبت.

وإن قطعتها أنت، قلت: جذمتها جذمًا، فأنا أجذمها. ومن ذلك حديث "على [بن أبى طالب] " -رضى الله عنه-: "من نكث بيعته لقى الله يوم القيامة أجذم، ليست له يد" فهذا يفسِّر لك الأجذم. قال: أخبرنيه "يزيد" عن "شريك" عن "أبى إسحاق" عن

"علىٍّ بن ربيعة" عن "علٍّ" قال "المتلمِّس": وهل كنت إلّاَ مثل قاطع كفِّه ... بكفٍّ له أخرى فأصبح أجذما

240 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذى تحدِّثه عنه "قيلة" حين خرجت إليه، وكان عم بناتها أراد أن يأخذ بناتها منها

قالت: فلمَّا [أن] خرجت بكت هنيَّة منهنَّ، هى أصغرهن حديباء، كانت قد أخذتها الفرصة، وعليها سبيِّح لها من صوف. فرحمتها، فحملتها معها، فبيناهما ترتكان إذ انتفجت الأرنب، فقالت الحديباء: الفصية! والله لا يزال كعبك عاليًا! قالت: وأدركنى عمُّهن بالسيف، فأصابت ظبته طائفًة من قرون رأسيه، وقال ألقى إلىَّ ابنة أخى يا دفار! فألقيتها إليه، ثمَّ انطلقت إلى أخت لى ناكح فى "بنى شيبان" أبتغى الصحابة إلى رسول الله

[-صلَّى الله عليه وسلم-]، فبينما أنا عندها ليلة تحسب عنِّى نائمة، إذ دخل زوجها من السامر، فقال: وأبيك لقد أصبت "لقيلة) صاحب صدق: "حريث بن حسَّان الشيبانىَّ". فقالت أختى: الويل لى، لا تخبرها، فتتَّبع أخا "بكر بن وائل" بين سمع الأرض وبصرها، ليس معها رجل من قومها. قالت: فصحبته صاحب صدق، حتى قدمَّنا على رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فصلَّيت معه الغداة، حتَّى إذا طلعت الشمس دنوت، فكنت إذا رأيت رجلًا ذا رواء وذا قشر، طمح بصرى إليه، فجاء رجل (195) فقال: السَّلام عليك يا رسول الله. فقال رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]: وعليك السلام، وهو قاعد القرفصاء، وعليه أسمال مليَّتين، ومعه عسيِّب نخلة مقشو غير خوصتين من أعلاه.

قالت: فتقدَّم صاحبى، فبايعه على الإسلام، ثم قال: يا رسول الله! اكتب لى "بالدهناء". فقال: يا غلام! اكتب له. قالت: فشخص بى، وكانت وطنى ودارى. فقلت: يا رسول الله! الدَّهناء مقيَّد الجمل، ومرعى الغنم، وهذه نساء "بنى تميم" وراء ذلك. فقال: "صدقت المسكينة. المسلم أخو المسلم يسعهما الماء، والشجر، ويتعاونان على الفتَّان". قال "أبو عبيد": ويروى: "الفتان". وقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أيلام ابن هذه أن يفصل الخطَّة، وينتصر من وراء الحجزة". [قال أبو عبيد]: قولها: أخذتها الفرصة:

هى الرِّيح التى يكون منها الحدب، والعامة تقولها بالسِّين، وأما المسموع من العرب، فبالصَّاد. و[أما] قولها: "عليها سبيِّح لها": فإنَّه ثوب بعمل من الصوف لا أحسبه يكون إلَّا أسود. وقولها: ترتكان، يعنى أنهما ترتكان بعيريهما: إذا أسرعا فى السَّير.

يقال: قدرتك البعير يرتك رتكًا ورتكانًا. وأرتكته أنا، فأنا أرتكه إرتاكًا. وقولها: فقالت "الحديباء": الفصية! والله لا يزال كعبك عاليًا، فإنها تفاءلت بانتفاج الأرنب.

والأصل فى الفصية: الشئ تكون فيه، ثم تخرج منه إلى غيره ومن هذا قيل: تفصَّيت من كذا وكذا، أى خرجت منه. فكأنها أرادت أنَّها كانت، فى ضيق وشدة من قبل عمِّ بناتها، فتفصَّت، وخرجت منه إلى السعة. ألا تسمع إلى قولها: والله لا يزال كعبك عاليًا. وأما قولها: فأدركنى عمُّهن بالسيف، فأصابت ظبته بعض قرون رأسيه، فإن ظبته حدُّه، وجمعه ظبات وظبون، وهو ما يلى الطرف منه، ومثله ذبابة.

قال "الكميت": يرى الرَّاءون بالشَّفرات منَّا ... كنار أبى حباحب والظُّبينا وقول الرجل للمرأة: ألقى إلىَّ ابنة أخى يا دفار، فالدَّفار: المنتنة (196) ومنه قيل للأمة يا دفار. ومنه قول "عمر" [-رضى الله عنه-]: "يا دفراه". وزعم "الأصمعىُّ" أن العرب تسمِّى الدنيا "أمَّ دفر". وقولها: تحسب عنِّى نائمة، فإنها أرادت: تحسب أنِّى نائمة.

وهى لغة "بنى تميم"، قال "ذو الرُّمة": أعن ترسمت من خرقاء منزلًة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم أراد "أأن" فجعل مكان الهمزة عينًا. وقول أخت "قيلة": لا تخبرها فتتبع أخا "بكر بن وائل" بين سمع الأرض وبصرها. فإنَّ بعضهم يقول: بين طولها وعرضها وهذا معنى يخرج. ولكنَّ الكلام لا يوافقه، ولا أدرى ما الطُّول والعرض من السمع والبصر، ولكن وجهه عندى [-والله أعلم-] أنها أرادت: أن الرجل يخلو

بها ليس معها أحد يسمع كلامها، ولا يبصرها إلَّا الأرض القفر. فصارت الأرض خاصًة كأنها هى التى تسمعها وتبصرها دون الأشياء والناس. وإنَّما هذا مثل ليس على أن الأرض تسمع وتبصر. وقد روى عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم- أنه أقبل من سفر، فلمَّا رأى "أحدًا" قال: "هذا جبل يحبُّنا ونحبُّه". والجبل ليست له محبة. ومنه قول الله [-عز وجلَّ-]: "جدارًا يريد أن ينقضَّ" والجدار ليست له إرادة.

والعرب تكلم بكثير من هذا النَّحو. كان "الكسائىُّ" يحكى عنهم أنهم يقولون: "منزلى ينظر إلى منزل فلان"، و "دورنا تناظر". ويقولون: "إذا أخذت فى طريق كذا وكذا، فنظر إليك الجبل فخذ يمينًا عنه". وإنما يراد بهذا كلَّه قرب ذلك الشئ منه. ومنه حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "لا تراءى ناراهما" ومثل هذا فى الكلام كثير.

وقول "قيلة": كنت إذا رأيت رجلًا ذا رواء وذا قشر طمح بصرى إليه، [أحسب أنه رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلم-]: الرُّواء: المنظر، والقشر: اللِّباس. وقولها: نظرت، فإذا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قاعد القرفصاء عليه أسمال مليَّتين، ومعه عسيِّب نخلة مقشوُّ. فإن القرفصاء جلسة المحتبى، إلا أنه لا يحتبى (197) بثوب، ولكن يجعل يديه مكان الثوب. وأما الأسمال: فإنها الأخلاق، والواحد منها سمل.

ويقال: قد سمل الثوب، وأسمل، لغتان. والعسيِّب: جريد النخل، والمقشوُّ: المقشور. قاله "الفراء": يقال: قشوت وجهه، أى قشرته. ومنه حديث "معاوية" أنه دخل عليه، وهو يأكل لياءً مقشى. وقولها: فلما ذكر "الدهماء" شخص بى. يقال للرجل إذا أتاه أمر يقلقه، ويزعجه: قد شخص به. ولهذا قيل للشَّئ الناتئ: شاخص. ولهذا قيل: شخوص البصر: إنما هو إرتفاعه.

ومنه شخوص المسافر: إنما هو خروجه من مكانه، وحركته من موضعه. وقول النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "ويتعاونان على الفتَّان". ويقال: الفتَّان والفتات. فمن قال: الفتان، فهو واحد، وهو الشيطان. ومن قال: الفتان، فهو جمع يريد الشياطين وواحدها فاتن. والفاتن: المضل عن الحقِّ، قال الله -تبارك وتعالى-: {فإنكم

وما تعبدون. ما أنتم عليه بفاتنين. إلَّا من هو صال الجحيم}. قال: حدَّثناه "ابن عليَّة" عن "خالد الحذَّاء" قال: سألت عنها "الحسن" فقال: "ما أنتم عليه بمضلِّين. إلَّا من هو صال الجحيم". قال: إلِّا من كتب عليه أن يصلى. قال: وحدَّثنا "حجَّاج" عن "ابن جريح" عن "مجاهد" مثله.

وقوله [-صلَّى الله عليه وسلَّم-]: "أيلام ابن هذه أن يفصل الخطَّة": يعنى أنه نزل به أمر ملتبس مشكل لا يهتدى له، أنه لا يعيا به، ولكنه يفصله حتى يبرمه، ويخرج منه، وإنَّما وصفه بجودة الرأى. وقوله: "وينتصر من وراء الحجزة: فإن الحجزة الرجال الذين يحجزون بين النَّاس، ويمنعون بعضهم من بعض. يقول: فهذا إن ظلم بظلامة كان لظالمه من يمنعه من هذا. فإنَّ عند هذا من المنعة والعزِّ، ما ينتصر من ظالمه، وإن كان أولئك قد حجزوه عنه حتَّى يستوفى حقَّه.

وفى هذا الحديث أنَّ النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حمده على دفع الظلم عن نفسه، وترك الاستخذاء فى ذلك. وفى التنزيل ما يصدِّق هذا، قال الله -تبارك وتعالى-: {والَّذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون}. قال: حدثنى "ابن مهدى" عن "سفيان" (197) عن "منصور" عن "إبراهيم" فى هذه الآية، قال: كانوا يكرهون أن يستذلُّوا. 241 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا تحرِّم الإملاجة ولا الإملاجتان".

قال "الكسائىُّ" و "أبو الجرَّاح" وغيرهما: ["قوله: الإملاجة والإملاجتان"]: يعنى المرأة ترضع الصَّبىَّ مصَّةً،

أو مصَّتين، والمصُّ هو الملج. يقال [منه]: قد ملج الصَّبىُّ أمَّه يملجها ملجًا. ومن هذا قيل: رجل مصّان، وملجان، ومكَّان [ومقَّان]. وكلُّ هذا من المصِّ، يعنون: أنَّه يرضع الغنم من اللُّوم، ولا يحتلبها فيسمع صوت الحلب ولهذا قيل: لئيم راضع.

فإن أردت أن تكون المرأة هى الَّتى ترضع، فتجعل الفعل لها، قلت: قد أملجت صبيَّها إملاجًا. فذلك قوله: "الإملاجة والإملاجتان". يعنى أن تمصَّه هى لبنها. قال "أبو عبيد": يقال: ملج يملج، وملج يملج. وأما حديث "المغيرة بن شعبة": "لا تحرِّم العيفة".

فإنَّا لا نرى هذا محفوظًا، ولا نعرف العيقة فى الرَّضاع، ولكنَّا نراها العفَّة، وهى بقية اللبن فى الضَّرع بعد ما يمتكُّ أكثر ما فيه. وقد يقال لها: العفافة، قال "الأعشى" يصف ظبيًة وغزالها: وتعادى عنه النهار فما تعـ ... ـجوه إلَّا عفافه أو فواق

[قال "الأصمعىُّ": العفافة: ما فى الضَّرع من اللَّبن قبل نزول الدِّرَّة، والغرار: آخرها]. يقال: قد امتكَّ الفصبل ما فى ضرع أمِّه: إذا لم يبق فيه من اللَّبن شيئًا. وهذا حديث ثبت عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-.

أنَّه قال: "لا تحرِّم الإملاجة، ولا الإملاجتان". وفى حديث آخر: "لا تحرِّم المصَّة، ولا المصَّتان". قال: حدَّثناه "إسماعيل بن إبراهيم" عن "أيوب" عن

"ابن أبى مليكة" عن "عبد الله بن الزُّبير" عن "عائشة" [-رضى الله عنها-] عن النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. والذى أجمع عليه أهل العلم من أهل الحجاز والعراق أن المصَّة الواحدة تحرِّم. وحديث رسول الله [-صلَّى الله عليه وسلم-] إذا ثبت أولى بأن يعمل به ويتَّبع.

242 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: أنه قال: "دخلت امرأة فى هرَّةٍ ربطتها، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض".

قال: حدثنيه "إسماعيل بن جعفر" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" (199) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قوله: خشاش [الأرض] فالخشاش: الهوام، ودواب الأرض، وما أشبهها. فهذا بفتح الخاء. وأما الخشاش -بالكسر- فخشاش البعير، وهو العود الذي يجعل في أنفه. قال: "الأصمعي": الخشاش: ما كان في العظم منه، والعران:

ما كان فى اللَّحم، والبرة: ما كان فى المنخر. قال "أبو عبيدة": والخزامة: هى الحلقة التى تجعل فى أنف البعير فإن كانت من صفر فهى برةُّ، وإن كانت من شعر فهى خزامة. وقال غير "أبى عبيدة": وإن كان عودًا فهو خشاش.

قال "الكسائىُّ": يقال من ذلك كلِّه: خزمت البعير، وعرنته، وخششته، وهو مخزومُّ، ومعرون، ومخشوش. ويقال من البرة خاصَّةً بالألف: أبريته، فهو مبرًى، وناقة مبراة. 243 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "فصل [ما] بين الحلال والحرام الصوت والدُّفُّ

فى النِّكاح". قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "أبو بلح" عن "محمد ابن حاطب" عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-.

أمَّا الدُّفُّ، فهو هذا الذى تضرب به النِّساء. وقد زعم بعض الناس أن الدَّف لغة. فأما الجنب فالدَّفُّ لا اختلاف فيه بالفتح. وقوله: "الصوت". فإن الناس يختلفون فيه، فبعض الناس يذهب به إلى السَّماع. وهذا خطأ فى التأويل على رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم-. إنَّما معناه عندنا: إعلان النِّكاح، واضطراب الصوت به، والذِّكر فى الناس، كما يقال: فلان قد ذهب صوته فى الناس.

وكذلك قال "عمر" -رحمه الله-: "أعلنوا هذا النِّكاح، وحصِّنوا هذه الفروج". 244 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "لا تولَّه والدة عن ولدها، ولا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة".

قال: حدَّثناه "أبو معاوية" عن "حجَّاج بن أرطاة" عن "الزُّهرىِّ" يرفعه. قوله: "لا تولَّه والدة عن ولدها".

فالتَّوليه: أن يفرَّق بينهما فى البيع. وكلُّ أنثى فارقت ولدها، فهى واله. قال "الأعشى" يذكر بقرًة أحلَّ السِّباع ولدها: فأقبلت والهًا ثكلى على عجل ... كل دهاها وكلُّ عندها اجتمعا وقوله: "لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة". فالحائل: التى [قد] وطئت (200)، فلم تحمل. يقال: حالت الناقة والمرأة، وغير ذلك: إذا كانت غير حامل، فهى تحول حيالًا.

والجمع من ذلك حول، وحولل، وهذا على غير قياس. ويقال فى الحولل: إنه مصدر. يقال: حالت حيالًا وحوللًا، فزادوا لامًا، كما زادوا الدَّال فى السُّودد، وإنَّما أصلها دال واحدة. وكذلك قولهم: عوطط مثل حولل فى المعنى.

وكذلك الحرب إذا خمدت بعد وقود، قيل: حاالت حيالًا. وإن هاجت بعد ذلك، قيل: [قد] لفحت عن حيال. وأما قوله: "ولا حامل حتى تضع". فإنه فى السَّبى: أن تسبى المرأة، وهى حامل، فلا يحلُّ وطؤها، حتى تضع [ما فى بطنها]، وكذلك فى الشِّراء [أيضا]. وكذلك الحائل فى الشراء، والسَّبى جميعًا. وكذلك فى الهبة والصَّدقة وغير ذلك. 245 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:

"لا يأخذنَّ أحدكم متاع أخيه لاعبًا جادًّا". قال: حدَّثنيه "شبابة" عن "ابن أبى ذئب" عن "عبد الله ابن السَّائب بن يزيد" عن "أبيه" عن "جدَّه" عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:

[قال]: قوله: "لاعبًا جادًّا": يعنى أن يأخذ متاعه لا يريد [به] سرقته، إنما يريد إدخال الغيظ عليه. يقول: فهو لاعب فى مذهب السَّرقة. [وهو] جاد فى إدخال الأذى والرَّوع عليه. وهذا مثل حديثه: "لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا".

[هذا] ومثل حديثه: "إذا مرَّ أحدكم بالسهام، فليمسك بنصالها". ومثل حديثه: "أنَّه مرَّ بقوم يتعاطفون سيفًا، فنهاهم عنه".

وكلُّ هذا كراهة لروعة المسلم، وإدخال الأذى عليه، وإن كان الآخر لا يريد قتله، ولا جرحه. 246 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه نهى أن يمنع نقع البئر".

قال: حدَّثنيه "يزيد" عن "محَّمد بن إسحاق" عن "محمَّد ابن عبد الرَّحمن" عن "عمرة" عن "عائشة" [-رضى الله عنها-] عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم: يعنى فضل الماء من موضعه الَّذى يخرج منه العين، أو غير ذلك من قبل أن يصير فى إناء أو وعاء لأحد. فإذا صار ذلك (201)، فصاحبه أحقُّ به، وهو مال

من ماله. وأما حديثه الآخر، أنَّه فال: "من منع فضل الماء، ليمنع به فضل الكلإ، منعه الله فضله يوم القيامة". هو من حديث "يزيد" عن "هشام" عن "الحسن" يرفعه.

قال: وحدَّثنا "أبو النَّضر" عن "ليث بن سعد" عن "أبى الزِّناد" عن "الأعرج" عن "أبى هريرة" عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "لا يمنع فضل الماء، ليمنع به فضل الكلإ". فإنَّها هى البئر تكون فى بعض البوادى، ويكون قربها كلأ، فربما سبق إليها بعض النَّاس، فمنعوا من جاء بعدهم، فإذا منعوهم الماء، فقد منعوهم الكلأ، لأنَّهم إذا أرعوها الكلأ، ثمَّ لم يرووها من الماء قتلها العطش. فهذا تأويل قوله: "من منع فضل الماء، ليمنع به فضل الكلأ

منعه الله فضله يوم القيامة". ومنه الحديث الآخر من حديث "هشيم" عن "عوف" عن "رجل" عن "أبى هريرة" لا أدرى أرفعه أم لا. قال: "حريم البئر أربعون ذراعًا من حواليها لأعطان الإبل والغنم" قال: "وابن السبيل أول شارب لا يمنع فضل الماء، ليمنع به فضل الكلإ". قال "أبو عبيد": معناه: هذه البئر الَّتى وصفنا تكون فى قرب الكلإ ليست فى ملك أحد، فليس ينبغى أن تناخ فيها إبل،

ولا تشغل بغنم ولا غيره أربعين ذراعًا فى كلِّ جوانبها إلَّا للواردة قطُّ، قدر ما ترد وتعطن. فإذا انقطع ذلك، فلا حقَّ لها فيه. ويكون "ابن السَّبيل" أحقَّ به حتَّى يسقى، ثمَّ الَّذى يأتى بعده كذلك أيضًا. فهذا قوله: "وابن السَّبيل أوَّل شارب". قال "أبو عبيد": وقد يكون فضل الماء أيضًا: أن يسقى

الرَّجل أرضه، فيفضل بعد ذلك ما لا يحتاج إليه، فليس له أن يبيع فضل ذلك الماء. كذلك يروى عن "عبد الله بن عمرو". 247 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- "فى ذكر أسنان الإبل، ما جاء منها فى الصَّدقة، وفى الدِّية، وفى الأضحيَّة".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال "الأصمعىُّ"، و "أبو زياد الكلابىُّ"، و "أبو زيد الأنصارىُّ، وغيرهم دخل كلام بعضهم فى [كلام] بعض". قالوا: أوَّل أسنان الإبل: إذا وضعت النَّاقة. فإن كان ذلك فى أول النِّتاج فولدها ربع، والأنثى ربعة. وإن كان فى آخره، فهو هبع [والأنثى هبعة]. ومن الرُّبع حديث "عمر" -رضى الله عنه- حين سأله رجل

من الصَّدقة، فأعطاه ربعًة يتبعها ظئراها. وهو فى كلِّ هذا حوار. فلا يزال (202) حوارًا حولًا، ثمَّ يفصل. فإذا فصل عن أمِّه، فهو فصيل، والفصال هو الفطام. ومنه الحديث: "لا رضاع بعد فصال".

فإذا استكمل الحول، ودخل فى الثَّانى، فهو "ابن مخاض"، والأنثى "بنت مخاض" وهى الَّتى تؤخذ فى خمس وعشرين من الإبل صدقًة عنها. وإنَّما سمِّى ابن مخاض، لأنَّنه قد فصل عن أمِّه، ولحقت أمُّه بالمخاض، وهى الحوامل، فهى من المخاض، وإن لَّم تكن حاملًا، فلا يزال "ابن مخاض" السَّنة الثانية كلَّها. فإذا استكملها، ودخل فى الثَّالثة فهو "ابن لبون"، والأنثى "بنت لبون".

وهى التى تؤخذ فى الصدقة إذا جازت الإبل خمسًا وثلاثين. وإنَّما سمِّى "ابن لبون"، لأنَّ أمَّه كانت أرضعته السنة الأولى، ثم كانت من المخاض السَّنة الثانية، ثمَّ وضعت فى الثَّالثة، فصار بها لبن، فهى لبون، وهو "ابن لبون" والأنثى "بنت لبون". ولا يزال كذلك السَّنة الثالثة كلَّها. فإذا مضت الثَّالثة، ودخلت الرَّابعة، فهو حينئذ حقٌّ، والأنثى حقَّةُّ. وهى الَّتى تؤخذ فى الصَّدقة إذا جازت الإبل خمسَا وأربعين. ويقال: إنَّه إنَّما سمَّى "حقَّا"، لأنَّه قد استحقَّ أن يحمل عليه، ويركب

يقال: هو حقٌّ بين الحقَّة، وكذلك الأنثى حقَّةٌّ. قال "الأعشى": بحقَّيها ربطت فى اللَّجيـ ... ـين حتَّى السَّديس لها قد أسنَّ

اللَّجين: ما تلجَّن من الورق، وهو أن يدقَّ حتىَّ يتلزَّج، ويلصق بعضه ببعض. فلا يزال كذلك حتَّى يستكمل الأربع، ويدخل فى السَّنة الخامسة فهو حينئذ جذع، والأنثى جذعة. وهى الَّتى تؤخذ فى الصدقة إذا بلغت الإبل خمسًا وسبعين. ثم ليس فى الصَّدقة سن من الأسنان من الإبل فوق الجذعة. فلا يزال كذلك حتى تمضى الخامسة.

فإذا مضت الخامسة، ودخلت السَّنة السَّادسة، وألقى ثنيَّته حينئذ ثنىُّ، والأنثى ثنيَّة. وهو أدنى ما يجوز من أسنان الإبل فى النَّحر. هذا من الإبل (203) والبقر. والمعز لا يجزى منه فى الأضاحى إلَّا الثَّنىُّ فصاعدًا. وأمَّا الضَّأن خاصَّةً، فإنَّه يجزى منه الجذع، لحديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-[فى ذلك].

وأما الدِّيات، فإنَّها يدخل فيها "بنات المخاض" و "بنات اللَّبون" و "الحقاق" و "الجذاع" هذا فى الخطأ. فأمَّا فى شبه العمد، فإنها حقاق وجذاع. وما بين"ثنيَّة" إلى بازل عامها كلِّها خلفة، والخلفة الحامل. وتفسير ذلك أنَّ الرَّجل خطأً، وهو أن يتعمَّد غيره، فيصيبه، فتكون الدِّية على عاقلته أرباعًا. خمس وعشرون "بنت مخاض"، وخمس وعشرون "بنت لبون" وخمس وعشرون حقًة، وخمس وعشرون جذعًة.

وبعض الفقهاء يجعلها أخماسًا: عشرين "بنت مخاض"، وعشرين "بنت لبون" وعشرين "ابن لبون" ذكرًا، وعشرين حقَّةً، وعشرين جذعًة. فهذا الخطأ. وأما شبه العمد: فأن يتعمَّد الرَّجل الرجل بالشئ لا يقتل مثله، فيموت منه. ففيه الدِّية مغلَّظًة أثلاثًا. ثلاث وثلاثون حقَّةً، وثلاث وثلاثون جذعًة، وأربع وثلاثون ما بين ثنيَّة إلى بازل عامها، كلُّها خلفة. ثمَّ لا يزال الثَّنىُّ من الإبل ثنيَّا حتى تمضى السَّادسة. فإذا مضت، ودخل فى السَّابعة، فهو حينئذ رباع،

والأنثى رباعية. فلا يزال كذلك حتىَّ تمضى السَّابعة. فإذا مضت [السَّابعة]، ودخل فى الثامنة [و] ألقى السِّنَّ الَّتى بعد الربَّاعية، فهو حينئذ سديس، وسدس، لغتان. وكذلك الأنثى، لفظهما فى هذه الِّسِّ واحد. فلا يزال كذلك حتى تمضى الثَّامنة. فإذا مضت الثَّامنة، ودخل فى التَّاسعة فطر نابه، وطلع، فهو حينئذ بازل. وكذلك الأنثى بازل بلفظه.

فلا يزال بازلًا حتَّى تمضى التاسعة. فإذا مضت [التاسعة]، ودخل فى العاشرة، فهو حينئذ مخلف، ثم ليس له اسم بعد الإخلاف. ولكن يقال: بازل عام، وبازل عامين. ومخلف عام، ومخلف عامين إلى ما زاد على ذلك. فإذا كبر فهو عود، والأنثى عودة (204). فإذا هرم، فهو قحر للذكر.

أمَّا الأنثى، فهى النَّاب والشارف. ومنه الحديث [الآخر] فى الصدقة: "خذ الشَّارف والبكر". وفى أسنان الإبل أشياء كثيرة، وإنَّما كتبنا منها ما جاء فى هذا الحديث. 248 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "فى الموضحة، وما جاء عن عيره فى الشِّجاج".

قال "الأصمعىُّ" وغيره: دخل كلام بعضهم فى بعض. [قالوا أو من قال منهم]: أوَّل الشِّجاج الحارصة: وهى الَّتى تحرص الجلد، يعنى التى تشقُّه قليلًا. ومنه قيل: حرص القصَّار الثوَّب: إذا شقَّه. وقد يقال لها: الحرصة أيضًا.

قال ["أبو عبيد"]، وسمعت "إسحاق الأزرق" يحدِّث عن "عوف" قال: شهدت فلانًا، قد سمَّاه "إسحاق": يعنى بعض قضاة أهل "البصرة" قضى فى حرصتين بكذا وكذا. ثم الباضعة: وهى الَّتى تشقُّ اللَّحم تبضعه بعد الجلد. ثم المتلاحمة: وهى التى [قد] أخذت فى اللحم، ولم تبلغ السِّمحاق. والسِّمحاق: جلدة، أو قشرة رقيقة بين العظم واللحم. قال "الأصمعىُّ": "وكل قشرة رقيقة [أو جلدة رقيقة] فهى سمحاق. فإذا بلغت الشَّجة تلك القشرة حتَّى لا يبقى بين العظم وبين

اللحم غيرها. فتلك الشَّجة هى السِّمحاق. وقال "الواقدىُّ": هى عندنا الملطى قال: وقال غيره: هى الملطاة.

قال: وهى التى جاء فيها الحديث: "يقضى فى الملطى بدمها". [قال "أبو عبيد"]: ثم الموضحة، وهى التى يكشط عنها ذلك القشر، أو يشقُّ حتى يبدو وضح العظم، فتلك الموضحة.

وليس فى شئ من الشِّجاج قصاص، إلَّا فى الموضحة خاصَّةً، لأنَّه ليس منها شئ له حدُّ ينتهى إليه سواها. وأمَّا غيرها من الشِّجاج، ففيه ديتها". ثم الهاشمية، وهى الَّتى تهشم العظم. ثم المنقِّلة، وهى التى ينقل منها فراش العظام. ثمَّ الآمَّة، وهى التى يقال لها: المأمومة، وهى الَّتى تبلغ أم الرَّأس، يعنى الدِّماغ. قال [" .. أبو عبيد"]: يقال فى قوله: "يقضى فى الملطى:

بدمها": [يعنى] أنَّه إذا شجَّ الشاجُّ حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشَّجَّة سلعة شجَّ، ولا يستأنى بها. قال: وسائر الشِّجاج يستأنى بها حتَّى ينظر إلى ما يصير أمرها، ثم يحكم فيها حينئذ. (205) قال "أبو عبيد": والأمر عندنا فى الشَّجاج كلِّها والجراحات كلِّها أنَّه يستأنى بها. قال: "حدَّثنا هشيم" عن "حصين"، قال: قال عمر ابن عبد العزيز": "مادون الموضحة خدوش فيها صلح". قال "أبو عبيد": ومن الشِّجاج أيضًا عن غير هؤلاء الَّذين سمَّينا: الدَّامية: وهى الَّتى تدمى من غير يسيل منها دم:

ومنها الدَّامعة: وهى أن يسيل منها دم. 249 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، أنَّه كان إذا استفتح القراءة فى الصَّلاة قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزة، ونفثه، ونفخه. فقيل: يا رسول الله!

ما همزه، ونفثه، ونفخه؟ فقال: أمَّا همزة فالموتة. وأمَّا نفثه: فالشِّعر. وأما نفخه: فالكبر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فهذا تفسير من النبىِّ -صلَّى الله عليه وسلم- ولتفسيره [-صلى الله عليه وسلم-) تفسير أيضًا. فالموتة: الجنون، وإنَّما سمَّاه همزًا، لأنَّه جعله من النَّخس والغمز، وكل شئ دفعته، فقد همزته. وأمَّا الشِّعر، فإنَّه سمَّاه نفثًا، لأنَّه كالشَّئ ينفثه الإنسان من فيه، مثل الرُّقية ونحوها. وليس معناه إلَّا الشِّعر الَّذى كان المشركون يقولونه فى النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه، لأنه قد رويت عنه رخصة

الشِّعر من غير ذلك الَّذى قيل فيه وفى أصحابه. وأما الكبر فإنَّما سمِّى نفخًا، لما يوسوس إليه الشيطان فى نفسه، فيعظِّمها عنده، ويحقِّر الناس فى عينيه حتى يدخله لذلك الكبر والتجبر والزهو. 250 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه قال "لعلّى": "إنَّ لك بيتًا فى الجنَّة، وإنَّك ذو قرنيها".

[قال أبو عبيد" وقد] كان بعض أهل العلم يتأوَّل هذا الحديث، أنَّه ذو قرنى الجنَّة: يريد ذو طرفيها. وإنَّما تأول ذلك، لذكره الجنة فى أول الحديث. وأمَّا أنا فلا أحسبه أراد ذلك -والله أعلم-، ولكنه أراد: إنَّك ذو قرنى هذه الأمَّة، فأضمر الأمة، وهذا سائر كثير فى القرآن، وفى كلام العرب وأشعارهم، أن يكنوا عن الاسم. من ذلك قول الله -جل ثناؤه-: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة [ولكن يؤخِّرهم إلى أجل مسمى}].

وفى موضع آخر: {ما ترك عليها من دابة}. فمعناه عند النَّاس: الأرض، وهو لم يذكرها. وكذلك قوله: {حتَّى توارت بالحجاب}. يفسِّرونه أنَّه أراد الشَّمس فأضمرها (ولم يذكرها). وقد يقول القائل: "ما بها أعلم من فلان". يعنى القرية، والمدينة، ونحو ذلك (206). وقال "حاتم": أما وىَّ ما يغنى الثَّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يومًا، وضاق بها الصَّدر

يعنى النَّفس، ولم يذكرها. وإنَّما اخترت هذا التفسير على الأوَّل لحديث عن "عليٍّ" نفسه هو عندى مفسِّر له، ولنا. وذلك أنَّه ذكر "ذا القرنين"، فقال: دعا قومه إلى عبادة الله [عز وجل]، فضربوه على قرنيه ضربتين، وفيكم مثله. ["أبو عبيد"]: فنرى أنَّه أراد، بقوله هذا نفسه، أى

إنِّى أدعو إلى الحقِّ حتَّى أضرب على رأسى ضربتين، يكون فيهما قتلى. 251 - وقال "أبو عبيد": فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه كان يصلِّى من اللَّيل، فإذا مرَّ بآية فيها ذكر الجنَّة سأل، وإذا مرَّ بآية فيها ذكر النَّار تعوَّذ، وإذا مرَّ بآية فيها تنزيه لله سبحَّ"

قوله: تنزيه: يعنى ما ينزَّه عنه -تبارك وتعالى- من أن يكون له شريك أو ولد، وما أشبه ذلك. وأصل التَّنزُّه: البعد مما فيه الأدناس، والقرب إلى ما فيه الطَّهارة، والبراءة، ومنه قول "عمر" [-رضى الله عنه] حين كتب إلى "أبى عبيدة" [-رضى الله عنه-].

"إنَّ الأردنَّ أرض غمقة، وإنَّ الجابية أرض نزهة، فاظهر بمن معك من المسلمين إليها". قال "أبو عبيد": إنَّما أراد بالغمقة ذات النَّدى والوباء وأراد بالنزهة البعد من ذلك. ثمَّ كثر استعمال الناس للنُّزهة فى كلامهم حتى جعلوها فى البساتين، والخضر. ومعناه راجع إلى ذلك الأَصل. 252 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:

"أنَّ العين وكاء السَّه فإذا نام أحدكم فليتوضَّأ". وفى حديث آخر: "فإذا نامت العين استطلق الوكاء". [قال: حدَّثنيه "نعيم بن حمّاد" عم "بقية بن الوليد" عن "الوضين بن عطاء" عن "محفوظ بن علقمة" عن "عبد الرَّحمن

ابن عائذ" عن "علّى" عن النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: العين وكاء السَّه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء"]. قوله: "السَّه"، يعنى حلقة الدُّبر. والوكاء: أصله هو الخيط أو السَّير الذى يشدُّ به رأس القربة. فجعل اليقظة للعين مثل الوكاء للقربة. يقول: فإذا نامت العين استرخى ذلك الوكاء، فكان منه الحدث.

وقال الشَّاعر فى السَّه: شأتك قعين غثُّها وسمينها ... وأنت السَّه السُّفلى إذا دعيت نصر (207) قال "أبو عبيد": "نصر" قبيلة من "بنى أسد". وقال آخر: أدع فعيلًا باسمها لا تنسه ... إن فعيلًا هى صئبان السَّه 253 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إن آخر من يدخل الجنَّة لرجل يمشى على الصِّراط، فينكبُّ مرَّةً، ويمشى مرَّةً، وتسفعه النار [مرة].

فإذا جاوز الصِّراط ترفع له شجرة، فيقول: يارب! أدننى من هذه [الشجرة] أستظلُّ بها، ثمَّ ترفع له أخرى، فيقول مثل ذلك. ثم يسأله الجنَّة. فيقول الله [-تبارك وتعالى-]: ما يصريك منِّى أى عبدى؟ أيرضيك أن أعطيك الدُّنيا ومثلها معها".

قوله: "يصريك". يقول: يقطع مسألتك منِّى. وكل شئ قطعته ومنعته، فقد صريته.

قال الشاعر [وهو ذو الرُّمة]: [فودَّعن مشتاقًا أصبن فؤاده] ... هواهنَّ - إن لَّم يصره الله قاتله. 254 - وقال "أبو عبيد" فى حديث النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أن مصدِّقًا أتاه بفصيل مخلول فى الصَّدقة.

فقال النَّبىِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنظروا إلى فلان أتانا بفصيل مخلول" فبلغه. فأتاه بناقة كوماء". قوله: المخلول: هو الهزيل الذى قد خلُّ جسمه. وأظنُّ أن أصل هذا أنَّهم ربَّما خلُّو لسان الفصيل لكيلا يرضع من أمِّه متى ما شاء، حتَّى يطلقوا عنه الخلال، فيرضخ حينئذ، ثمَّ يفعلون به مثل ذلك أيضًا، فيصير مهزولًا لهذا.

255 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلِّى الله عليه وسلمَّ- في الملاعنة قال: (إن جاءت به سبطّا قضيء العين كذا وكذا، فهو "لهلال بن أمية".

فالقضئ العين، هو الفاسدها. ومنه يقال: قد قضئ الثَّوب، وتقضَّأ، مهموزٌ: إذا تفزَّر وتمسَّى قال "الأحمر": يقال للقربة إذا تشقَّقت، وبليت: إنَّها - قضئةٌ.

256 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبيَّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ- حين انكسفت الشمس على عهده، وذلك حين ارتفعت قيد رمحين أو ثلاثة اسودَّت حتىَّ آضت كأنها تنُّومةٌ، فذكر حديثا طويلاً في صلاة النَّبيَّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-يومئذٍ وخطبته.

فالتنومة: من نبات الأرض فيه سوادٌ، أو في ثمره، وهو ممَّا تأكله النّعام، وجمعها تنُّومٌ. ومنه قول "زهير" يذكر الظَّلم، فقال: أصكَ مصلَّم الأذنين أجنى ... له بالسيِّ تنُّوم وآء

وقوله: "اجنى"، أي صار له جنًى. والتَّنَّوم، والآء ضربان من النَّبات. وقوله: "آضت": يعني صارت. قال "زهيرٌ" يذكر أرضًا قطعها، فقال: قطعت إذا ما الآل آذ كأنَّه ... سيوفٌ تنحَّى تارةً ثمَّ تلتقى

257 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيَّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-حين أتاه "عديٌّ بن حاتم" قبل إسلامه، فعرض عليه الإسلام، فقال له "عديٌّ": إنِّي من دينٍ. وقال له النَّبيَّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: " إنّك تأكل المرباع، وهو لا يحلٌّ لك في دينك. وقال له النَّبيَّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: إنَّك من أهل دينٍ يقال لهم: الرَّكوسيَّة".

فيروي تفسير الرَّكوسيَّة عن "ابن سيرين" أنَّه قال: "هو دينٌ بني النَّصارى والصَّابئين " فقوله: "من دينٍ"، يريد: من أهل دينٍ. وأمَّا [قوله]: "المرباع"، فإنَّه شيءٌ

كان يخصُّ به الرَّئيس في مغازيهم يأخذ ربع الغنيمة خالصًا له دون أصحابه. وكذلك يروى في حديثٍ آخر عن "عديِّ بن حاتم" [أنَّه] قال: "ربعت في االجاهليَّة، وخمست في الإسلام". وقد كان للرَّئيس مع المرباع أشياء أيضًا سواهٌ، قال الشَّاعر يمدح رجلاً: لك المرباع فيها والصّفايا ... وحكمك والنَّشيطة والفضول

فالمرباع: ما وصفنا. والصَّفايا: واحدها صفيُّ، وهو ما يصطفيه لنفسه، أي يختاره من الغنيمة أيضًا قبل القسم. وحكمه: ما احتكم فيها من شيءٍ كان له. والنَّشيطة: ما مرُّوا به غزاتهم على طريقهم سوى المغار الذي قصدوا له. والفضول: ما فضل عن القسم، فلم يمكنهم ان يبعِّضوه صار له أيضًا. فكل هذه الخلال كانت لرؤساء الجيوش من الغنائم. وفي الحديث: "أنّ النَّاس كانوا علينا ألبًا واحدًا".

فالألب: أن يكونوا مجتمعين على عداوتهم. يقال "بنو فلان" ألبٌ على "بني فلان": إذا كانوا يدًا واحدةً عليهم بالعداوة. ويقال: تألّي القوم [تألبُّاً].

258 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيَّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-أنه قال: "يخرج قوم (209) من "المدينة" إلى "اليمن" والشَّام" أو "العراق" يبسُّون. و"المدينة" خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون". قوله: "يبسُّون": هو أن يقال: في زجر الدابَّة "بس. بس"

[أو "بس. بس" وأكثر ما يقال بالفتح]. وهو صوت الزَّجر للسوق إذا سقت حمارًا، او غيره. وهو من كلام "أهل اليمن". وفيه لغتان: بست وأبست. فيكون على هذا القياس يبسُّون، ويبسُّون. 259 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبِّي-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: أنه مرَّ برجل يعالج طلمًة لأصحابه في سفر، وقد عرق، وأذاه وهج النار، فقال [النبيُّ]-صلِّى الله عليه وسلمَّ-:

" لا يصيبه حرُّ جهنم أبدًا ". يروى عن "بقية بن الوليد" عن "أبي عمر السُّلفي" عن "بديل الشِّهالِّي" يرفعه. قوله: "الطُّلمة": يعني الخبزة، وهي التي يسمِّيها النناس الملَّة. وإنَّما الملَّة: اسم الحفرة نفسها. فأما التي تمل فيها، فهي الظُّلمة، والخبزة

والمليل. وأكثر من يتكلَّم بهذه الكلمة "أهل الشَّام" والثغور، وهي مبتذلةٌ عندهم والذي يراد من هذا الحديث: أنَّه حمد الرَّجل على أن خدم أصحابه في السَّفر: يعني خبز لهم. 260 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: أنه قال في مرضه الَّذي مات فيه: "أجلسوني في مخضب فاغسلوني".

قال "أبو عبيد": فالمخضب: هو مثل الإجَّاتة التي يغسل فيها الثِّياب، ونحوها. وقد يقال له:

المركن أيضًا. ومنه حديث "حمنة بن جحش" أنَّها كانت تجلس في مركن لأختها "زينب" وهي مستحاضةٌ، حتَّى تعلو صفرة الدَّم الماء. 261 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: أنَّه سئل عن الفرع، فقال:

[هو] حقٌّ، وأن تتركه حتى يكون "ابن مخاض" - أو "ابن لبون" زخزبًّا خيرٌ من أن تكفأ إناءك، وتولِّه ناقتك، وتذبحه يلصق لحمه بوبره".

يروى عن "معمر" و"سفيان بن عيينة" عن زيد بن أسلم" عن رجل من "بني ضمرة" عن عمِّة، عن النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-قوله: "الفرع": هو أول شيءٍ تنتجه النَّاقة، فكانوا يجعلونه لله [-عزَّ وجلَّ-] فقال النَّبيُّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "هو حقٌّ ". ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد، فكره (210) ذلك، وقال: دعه حتى يكون "ابن مخاض" أو "ابن لبون"، فيصير له طعم، والزخزبُّ: هو الذي قد غلط جسمه، واشتد لحمه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: "خيرٌ من ان تكفأ إناءك " يقول: إنَّك إذا ضبحته حين تضعه أمّثه بقيت الأمُّ بلا ولد ترضعه، فانقطع لذلك لبنها. يقول: فإذا فعلت ذلك، فقد كفأت إناءك، وهرقته. وإنَّما ذكر الإناء ها هنا لذهاب اللَّبن ومن هذا قول "الأعشى" يمدح رجلاً: ربَّ رفد هرقته ذلك اليوم ... وأسرى من معشر أقتال فالرِّفد: هو الغناء الضَّخم. فأراد بقوله: هرقته ذلك اليوم، أي أنك استقت الإبل، فتركت أهلها ذاهبًة ألبانهم، فارغًة آنيتهم منها.

وأمَّا قوله: "تولِّه ناقتك": فهو ذبحه ولدها. وكلُّ انثى فقدت ولدها، فهي والهٌ. ومنه الحديث الآخر في السبي: "أنه نهى ان تولَّه والدةٌ عن ولدها". يقول: لا يفرَّق بينهما في البيع وإنَّما جاء هذا النهي من النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ- في الفرع أنَّهم كانوا يذبحون ولد النَّاقة اوَّل ما تضعه [أمُّه]، وهو بمنزلة الغراء.

ألا تسمع إلى قوله: يختلط أو يلصق لحمه بوبره ففيه ثلاث خصال من الكراهة: إحداهنَّ: أنَّه لا ينتفع بلحمه. والثَّانية: إذا ذهب ولدها ارتفع لبنها. والثَّالثة: أنه يكون [قد] فجعها به، فيكون آثمًا. فقال [النبيُّ]-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "دعه حتَّى يكون "ابن مخاض" وهو ابن سنة أو "ابن لبون" وهو ابن سنتين، ثمَّ اذبحه حينئذ - فقد طاب لحمه، واستمتعت بلبن أمِّه سنًة، ولا يشقُّ عليها مفارقته؛ لأنَّه قد استغنى عنها، وكبر". وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-حين قال "لسعد" يوم "أحد":

"ارم فداك أبي وأمِّي". قال "سعدٌ": فرميت رجلاً بسهمٍ فقتلته، ثمُّ رميت

بذلك السَّهم أعرفه، حتى فعلت ذلك، وفعلوه مرات. فقلت: هذا سهمٌ مباركٌ مدميًّ، فجعلته في كنانتي. [قال]: فكان عنده حتَّى (211) مات [-رحمه الله-]. يروى تفسير هذا الحرف في الحديث نفسه. قالوا: المدمَّي: هو الذي يرمى به الرجل العدو، ثم يرميه العدوُّ بذلك السهم بعينه، ولم أسمع هذا التفسير إلاَّ في الحديث

والمدمَّى في الكلام: هو من الألوان التي فيها سوادٌ أو حمرةٌ. 263 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-:

أنه قال: "اللَّهم اسقنا " فقال "أبو لبابة " فقال: يا رسول الله! "إنَّ التَّمر في المرابد". فقال رسول الله-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "اللَّهم اسقنا حتَّى يقوم " أبو لبابة" عريانًا يسدُّ ثعلب مربده بإزاره أو بردائه. قال: فمطرنا حتَّى قام "أبو لبابة"، فنزع إزاره، فجعل يسدٍّ به ثعلب مربده.

وهذا من حديث "عليِّ بن عاصم " عن "عبد الرَّحمن بن حرملة" عن "سعيد بن المسيَّب " عن النبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ. [قال "أبو عبيد"]: قوله: "المربد": هو الَّذي يجعل فيه التَّمر عند الجداد، قبل أن يدخل على المدينة، ويصير في الأوعية. وثعلبة: هو جحره الذي يسيل منه ماء

المطر، أي أصاب التَّمر وهو هناكز 264 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "لا صروة في الإسلام". الصرورة في هذا الحديث: هو التبتُّل وترك النكاح.

يقول: ليس ينبغي لأحد أن يقول: لا أتزوج. [يقولٍ]: ليس هذا من أخلاق المسلمين، وهو مشهور من كلام العرب [وأشعارها]. قال "النابغة الذبيانيُّ": لو انها عرضت لأشمط راهبٍ ... عبد الإله صرورة متأبد لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدًا وإن لَّم يرشد

قال "أبو عيد ": ويرشد. يعنى لراهب التارك للنِّكاح. يقول: لو نظر إلى هذه المرأة افتتن بها. والذي تعرفه العامة من الصَّرورة أنَّه الَّذي لم يحجج قطُّ. وقد علمنا أنَّ ذلك قد يسمَّى بهذا الاسم إلاَّ أنَّه ليس واحدٌ منهما بدافع للآخر، والأوَّل أحسنهما وأغربهما.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

265 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: " في حريسة الجبل أنه (212) لا قطع فيها ". [قال أبو عبيد]: فالحريسة تفسر تفسيرين: فبعضهم يجعلها السَّرقة نفسها. تقول: حرست أحرس حرسًا:

إذا سرق، فيكون المعنى أنَّه ليس فيما يسرق من الماشية بالجببل قطعٌ، حتَّى يؤويها المراح. والتفسير الآخر: أن تكون الحريسة هي المحروسة، فيقول: ليس فيما يحرس بالجبل قطع؛ لأنَّه ليس بموضع حرزٍ، وإن حرس. 266 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-:

[أنَّه قال]: " إيَّاكم وخضراء الدِّمن. قيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسناء في منبت السُّوء " وهذا يروى عن "يحيى بن سعيد بن دينارٍ [شيح من أهل المدينةٍ] عن "أبي وجزة يزيد بن عبيدٍ" عن "عطاء بن يزيد" عن "أبي سعيد الخدريِّ " ان النَّبي-صلِّى الله عليه وسلمَّ - قال ذلك.

قال "أبو عبيد ": نراه أراد فساد النسب إذا خيف أن يكون لغير رشدة. وهذا مثل حديثه الآخر: "تخيَّروا لنطفكم ". وإنَّما جعلها خضراء الدِّمن تشبيهًا بالشجرة الناضرة في دمنة البعر، وأصل الدِّمن: ما تدمِّنه الإبل والغنم من أبعارها، وأبوالها. فربما نبت فيها النبات الحسن، وأصله في دمنة. يقول: فمنظرها حسنٌ أنيقٌ، ومنبتها فاسدٌ، قال "زفر بن الحارث الكلابُّي ": فقد ينبت المرعى على دمن الثَّرى ... وتبقى حزازات النُّفوس كما هيا ضربة مثلاً للجرل يظهر مودًة، وقلبه نغلٌ بالعداوة.

267 - وقال " أبو عبيد " في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: أنَّ رجلاً قصَّ عليه رؤيا: قال: فاستاء لها، ثم قال: " خلافة نبوَّة، ثمَّ يؤتى الله الملك من يشاء ".

قال: حدَّثناه "حجَّاجٌ " عن حمَّاد بن سلمة " عن "عليِّ بن زيد ابن جدعان " عن "عبد الرحمن بن أبي بكرة" عن أبيه، عن النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ - قال: قوله: "استاء لها " إنَّما هو من المساءة [أي أنَّ الرُّيا ساءته، فاستاء لها]، إنَّما أراد افتعل منها. كما تقول من الهمِّ: اهتمَّ لذلك. ومن الغمِّ: اغتمَّ. كذلك تقول من المساءة:

استاء [لها]. قال "أبو عبيدٍ": وإنَّما نرى مساءته كانت لمت ذكر ممَّا يكون من الملك بعد الخلافة. [قال "أبو عبيد "]: وبعضهم يرويه: (213) فاستآلها فمن روى هذه الرِّواية فمعناها التأوُّل، إنمَّا هو استفعل من ذلك، وهو وجهٌ حسنٌ غير مدفوعٍ.

268 - وقال "أبو عبيد " في حديث النَّبيِّ - في المختالات المتبرِّجات: "لا يدخل الجنَّة منهنَّ إلاَّ مثل الغراب الأعصم ". وهذا [حديثٌ] يروى عن "موسى بن عليِّ بن رباحٍ " عن "أبيه " رفعه. قال "أبو عبيد " [الغراب] الأعصم: هو الأبيض اليدين

ولهذا قيل للوعول: عصمٌ، والأنثى منهنَّ عصماء، والذَّكر أعصم. وإنَّما هو لبياض في أيديها. فوصف فلَّة من يدخل الجنَّة منهن. قال "أبو عبيد ": وهذا الوصف في الغربان عزيزٌ، لا يكاد يوجد إنَّما أرجلها حمرٌ. وأمَّا هذا الأبيض البطن والظَّهر، فإنَّما هو الأبقع، وذلك كثيرٌ. وليس هو الَّذي ذكر في الحديث. [قال "أبو عبيد "]: فنرى أن مذهب الحديث أنَّ من يدخل الجنَّة من النِّساء قليلٌ كقلَّة الغربان العصم عند الغربان السُّود والبقع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

269 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ- حين سأل عن سحائب مرت، فقال: " كيف ترون قواعدها وبواسقها، [ورحاها]، أجونٌ ام غير ذلك؟ أم كيف ترون رحاها؟

ثمَّ سأل عن البرق، فقال: أخفوًا، أم وميضًا، أم يشقُّ شقًّا؟ فقالوا: يشقُّ شقًّا. فقال رسول الله-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: جاءكم الحيا ". قال ["أبو عبيد "]: فالقواعد: هي أصولها المعترضة في آفاق السماء. وأحسبها مشبهًة بقواعد البيت، وهي حيطانه، والواحدة منها

قاعدةٌ. وقال الله - عزَّ وجلَّ-: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ". واما البواسق: ففروعها المستطيلة إلى وسط السَّماء، وإلى الأفق الآخر وكذلك كلُّ طويل، فهو باسقٌ، قال الله -تبارك وتعالى-: "والنخل باسقات [لها طلعٌ نضيدٌ] ". والخفو: هو الاعتراض من البرق في نواحي الغيم وفيه لغتان يقال: خفا البرق يخفوا خفوًا، ويخفى خفيًا (214).

والوميض: أن يلمع قليلاً، ثم يسكن، وليس له اعتراضٌ، قال "امرؤ القيس ": أصاح ترى برقًا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبيِّ مكلل وأما الذي يشقُّ شقًّا: فاستطالته في الجوِّ إلى وسط السماءٍ من غير أن يأخذ يمينًا ولا شمالاً. وأمَّا قوله: "اجونٌ أم غير ذلك " فإن الجون هو الأسود المحمومي وجمعة جونٌ.

وأما قوله: "كيف ترون رحاها؟ ": فإن رحاها: استدارةٌ السحابة في السماء، ولهذا قيل: رحا الحرب، وهو الموضع الذي يستدار فيه لها. 270 - وقال " أبو عبيد، في حديث النَّبي-صلِّى الله عليه وسلمَّ-في قوله: " كلُّكم بنو آدم طفُّ الصاع لم تملئوه، ليس لأحد على أحدٍ فضلٌ إلاَّ بالتقوى، ولا تسابُّوا، فإنما السُّبة أن يكون الرجل فاحشًا - بذيًّا جبانًا".

يروى عن "موسى بن عليٍّ" عن "أبيه" عن النبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: قال ["أبو عبيد"]: فالطف: هو أن يقرب الإناء من الامتلاء من غير أن يمتلئ. يقال: هذا طفُّ المكيال وطفافه: إذا كرب أن يملأه. ومنه التَّطفيف في الكيل، إنَّما هو نقصانه.

أي أنه لم يملأ إلى شفتيه، إنما هو [إلى] دون ذاك. وقال " الكسائيُّ ": يقال منه: إناءٌ طفانٌ، إذا فعل ذلك به في الكيل. 271 - ووقال "أبو عبيد " في حديث النبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: " حين أتى "عبد الله بن رواحة" أو غيره من أصحابه.

يعوده. فما تحوَّز له عن فراشه " قال: قوله: "تحوَّز " هو التَّنحِّى. وفيه لغتان: التحَّوُّز، والتَّحيُّز.

قال الله - تبارك وتعالى دكره-: "أو متحيِّزًا إلى فئة ". فالتَّحوُّز: التَّفعُّل. والتحيُّز: التفعيل. قال "القطامى" يصف عجوزًا استضافها، فجعلت تروغ عنه فقال: تحوَّز منِّى خشيةً أن أضيفها ... كما انحازت الأفعى مخافة ضارب (215) وإنَّما أراد من هذا الحديث: أنه لم يقم له، ولم يتنح عن صدر فراشه؛ لأن السُّنة أن الرجل أحقُّ بصدر دابته وصدر فراشه.

272 - وقال "أبو عبيد " في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ- في قوله: "ما تعدُّون الرقوب فيكم؟ قالوا: الذي لا يبقى له ولدٌ. فقال: بل الرقوب: الذي لم يقدِّم من ولده شيئًا "

قال ["أبو عبيد "]: وكذلك معناه في كلامهم، إنَّما هو على فقد الأولاد قال الشاعر: فلم ير خلق قبلنا مثل أمِّنا ... ولا كأبينا عاش وهو رقوبٌ وقال: "صخر الغيِّ ": فما إن وجد مقلات رقوب ... بواجدها إذا يغزو تضيف قال "أبو عبيد ": فكأنَّ مذهبه عندهم على مصائب الدُّنيا، فجعلها رسول الله-صلِّى الله عليه وسلمَّ - على فقدهم في الآخرة.

وليس هذا بخلاف ذاك في المعنى، ولكنه تحويل الموضع إلى غيره. وهذا نحو الحديث الآخر: "إن المحروب من حرب دينه". ليس هذا ألاَّ يكون من سلب ماله ليس بمحروب إنما هو على تغليظ الشأن. يقول: إنما الحرب الأعظم ان يكون في الدِّين، وإن كان ذهاب المال قد يكون حربًا، ومنه قول أبي دؤاد [الإياديِّ]: لا أعدُّ لإقتار عدمًا ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام لم يرد أنَّ اجتياج المال ليس بعدم، ولكنَّه أراد أنَّ هذا الفقر الآخر أجلُّ منه.

ومما يقوِّى مذهب قوله في الرقوب، قول الله -جل ثناؤه-: "لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهم أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها " ألا ترى أنهم قد يعقلون امر الدُّنيا، ويبصرون فيها، ويسمعون؟ إلاَّ انَّ معناها في التفسير أمر الآخرة. 273 وقال " أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ - في قوله للرجل الذي قال له، وهو (216) بقسم الغنائم: إنَّك لم تعدل في القسم. فقال النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: " ويحك! فمن يعدل عليك بعدي؟ ثم قال النَّبيُّ صلِّى الله عليه وسلمَّ-: سيخرج من ضئضيء هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم

يمرقون من الدين كما يمرق السَّهم من الرَّميَّة "

قال [" أبو عبيد "]: الضِّئضئ: هو أصل الشَّيء ومعدنه. قال الكميت ": رأيتك في الضَّنء من ضئضئ ... أحلَّ الأكابر فيه الصِّغارا [قال أبو عبيد: وفيه لغة أخرى: "الضَّنء " بالفتح].

274 - وقال "أبو عبيد " في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "ملعونٌ من غيَّر تخوم الأرض"

قال ["أبو عبيد "]: التُّخوم هي الحدود والمعالم. والمعنى في ذلك يقع في مضوعين: الأول منهما: ان يكون ذلك في تغيير حدود الحرم التي حدَّها - "إبراهيم " خليل الرحمن - صلوات الله وسلامه عليه-. والمعنى الآخر: أن يدخل الرَّجل في ملك غيره من الأرض فيحوزه ظلمًا وعدوانًا. ومنه الحديث الآخر: "من سرق من الأرض شبرًا طوِّقه [الله]

يوم القيامة من سبع أرضين ". قال "أبو عبيد": وأمَّا قوله: التُّخوم، فإن فيه قولين: فأمَّا أصاب العربيَّة، فيقولون: هي التَّخوم مفتوحة التَّاء، ويجعلونها واحدة. وأمَّا "أهل الشَّام " فيقولون: التُّخوم - بضم التَّاء - يجعلونها جمعًا، والواحدة منها في قولهم: تخم،

وقال الشَّاعر: يا بنيَّ التَّخوم لا تظلموها ... إنَّ ظلم التَّخوم ذو عقَّال 275 - وقال " أبو عبيد " في حديث النبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-:

أنه رأى امرأةً تطوف بالبيت عليها مناجد من ذهب، فقال: "أيسرُّك أن يحليك الله مناجد من نار؟ قالت: لا. قال: فأدِّى زكاته ". قال ["أبو عبيد"]: أراه أراد الحلِّي المكلَّل بالفصوص، وأصله من النُّجود، وكلُّ شيءٍ زخرفته بشيءٍ، فقد نجدته ومنه نجد البيوت (217) بالثِّياب، إنَّما هو

تزيينها بها. ولهذا سمِّى عامل ذلك الشَّئ نجَّادًا، قال "ذو الرُّمَّة " يصف الرِّاض يشبِّهها بنجود البيت، فقال: حتَّى كأنَّ ريال القفِّ ألبسها ... من وشى عبقر تجليلٌ وتنجيد وفي هذا الحديث من الفقه: أنَّه لم يكره لها أن تطوف المرأة بالبيت وهي لابسةٌ الحلى. ألا تراه لم ينهها عنه؟

276 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: أنَّه سمع رجلاً حين فتحت جزيرة العرب، أو قال: فتحت "مكة" يقول: أبهو الخيل فقد وضعت الحرب أوزارها. فقال رسول الله-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: " لا تالون تقاتلون الكفَّار حتَّى يقاتل بقيَّتكم الدَّجَّال ".

[قال "أبو عبيدٍ"]: قوله: "أبهوا الخيل": يقول: عطِّلوها من الغزو. وكلُّ إناءٍ فرَّغته، فقد أبهيته. ومنه قيل للبيت الخالي: باه. ولهذا قيل في أمثالهم: إنَّ المعزى تبهى ولا تبنى ". وذلك أنَّها تصعد على الأخبية، فتخرِّقها حتَّى لا يقدر على سكناها. وهى مع هذا لا تكون الخيام من أشعارها، إنَّما تكون من الصُّوف والوبر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

277 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "يحمل النَّاس على الصِّراط يوم القيامة، فتتقادع بهم جنبتا الصِّراط تقادع الفراش في النَّار ".

[قال "أبو عبيد "]: التَّقادع هو التَّتابع والتَّهافت في الشَّيء. ويقال للقوم إذا مات بعضهم في إثر بعض: قد تقاعدوا. فالمعنى أنَّهم يتهافتون في النَّار والله أعلم. 278 - وقال "أوب عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "قابلوا النِّعال".

[قال "أبو عبيد"]: يريد أن يعمل عليها القبل، واحدها قبال، وهو مثل الزِّمام يكون في وسط الأصابع الأربع ومنه حديثه "أن نعله كانت لها قبالان".

يعني هذا الَّذي وصفناه [وهو] الزِّمام. ويقال لها: نعلٌ مقابلةٌ ومقبلةٌ وقد فسَّر بعضهم (218) قوله: "قابلوا النِّعال": أن تثنى ذؤابة الشِّراك إلى العقدة. والأوَّل عندي هو التَّفسير [والله أعلم]

279 - وقال "أوب عبيد" في حديث النبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: أن رجلاً من "أهل اليمن" قال له: يا رسول الله! إنا أهل قاه، فإذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه، فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شرابٍ يقال له: المزر. فقال: أله نشوةٌ؟ قال: نعم قال: فلا تشربوه ".

قال: القاه: سرعة الإجابة، وحسن المعاونة، يعني أن بعضهم كان يعاون بعضًا في أعمالهم، وأصله الطاعة، ومنه قول "رؤبة

[ابن العجَّاج، ويقال: إنَّها لأبي النَّجم]. * تالله لولا النار أن نصلاها * * أو يعدو النَّاس عليها الله * * لما سمعنا لأمير قاها * * [ما خطرت سعدٌ على قناها] * قال: يريد الطاعة، ومنه قول المخبَّل": [وسدُّوا نحور القوم حتى تنهنوا ... إلى ذي النُّهي] واستيقهوا للمحلَّم

أي أطاعوه، إلاّض أنه مقلوبٌ، قدَّم الياء، وكانت القاف قبلها، وهذا كقولهم: جبذ وجذب. 280 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "أنَّه سئل: أيُّ النَّاس أفضل؟ فقال: الصادق اللِّسان، المخموم القلب ".

قالوا: هذا الصَّادق اللِّسان قد عرفناه، فما المخموم القلب؟ فقال: هو النَّقيُّ الَّذي لا غلَّ فيه ولا حسد " قال " أبو عبيد ": التفسير هو في الحديث، وكذلك هذا عند العرب.

ولهذا قيل: خممت البيت: إذا كنسته. ومنه سمِّيت الخمامة، وهي مثل القمامة والكناسة. 281 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "أنَّ امرأةً أتته، فقالت: إنِّي رأيت في المنام كأنَّ جائز بيتي انكسر. فقال: خير. يرد الله غائبك. فرجع زوجها. ثمَّ غاب، فرأت مثل ذلك، فلم تجد النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ - ووجدت "أبا بكر" [-رضي الله عنه-]، فأخبرته، فقال: يموت زوجك.

ذكرت ذلك للنَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-، فقال. هل قصصتها على أحد؟ قالت: نعم. قال: هو كما قيل لك.

قال "أبو عبيد": الجائز في كلامهم [هي] الخشبة التي يوضع عليها أطراف الخشب، وهي التي تسمَّى بالفارسية: التِّير.

282 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيّش-صلِّى الله عليه وسلمَّ -: "أنَّه كان يتعوَّذ من الأيهمين". [قال "أبو عبيد"]: يقال: إنَّهما السَّيل والحريق.

ويقال في أحدهما: إنَّه الجمل الصَّئول الهائج، وإنما سمِّى أيهم، لأنَّه ليس ممَّا يستطاع دفعه، ولا ينطق، فيكلَّم، أو (219) يستعتب. ولهذا قيل للفلاة التي لا يهتدى فيها للطريق يهماء، وقال "الأعشى": ويهماء باللَّيل غطشى الفلاة ... يؤنسنى صوت فيَّادها 283 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-:

" أنه أمر بالتَّلحِّى، ونهى عن الاقتعاظ ". قال "أبو عبيد": أصل هذا في لبس العمائم، وذلك أن العمامة يقال لها: المقعطة. فإذا لاثها المعتمُّ على رأسه، ولم يجعلها تحت حنكه، قيل: اقتعطها، فهو المنهيُّ عنه. وإذا أدارها تحت الحنك، قبل: تلحَّاها تلحِّيًا، وهو المأمور به.

وكان "طاووس" يقول: تلك عمَّة الشَّيطان. يعني الأولى.

284 - وقال " أبو عبيد" في الحديث النبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "أنه قضى ألاَّ شفعة في فناءٍ، ولا طريقٍ، ولا منقبة، ولا ركح، ولا رهو".

[قال "أبو عبيد"]: قوله: "المنقبة": هو الطريق الضَّيق يكون بين الدَّارين، لا يمكن أن يسلكه أحد. والرُّكح: ناحية البيت من ورائه، وربَّما كان فضاءً لا بناء فيه. والرَّهو: الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر أو غيره.

ومنه الحديث الآخر: "أنَّه لا يباع نقع البئر، ولا رهو الماء". فمعنى الحديث في الشُّفعة: أن من كان شريكًا في هذه المواضع الخمسة، وليس بشريك في الدار نفسها، فإنه لا يستحقُّ بشيءٍ منها شفعةً. وهذا قول "أهل المدينة": أنَّهم لا يقضون بالشُّفعة إلاَّ للشَّريك المخالط. فأما "أهل العراق" فإنَّهم يرونها لكلِّ جار ملاصق، وإنَّ لم يكن شريكًا. 285 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-

أنَّه قال: " لا تتمكَّكوا على غرمائكم ". أو قال: "لا تمكِّكوا غرماءكم". قال ["أبو عبيد"]: التمكُّك: الاستقصاء والإلحاح في الاقتضاء، واستيفاء الحقِّ حتَّى لا يدع منه شيئًا. وأصل هذا في الرَّضاع. يقال [منه]: قد امتك الفصيل لبن أمِّه: إذا استنفد ما في الثَّدي، فلم يبق فيه شيئّا. وكذلك تمكَّكها.

286 - وقال" اوب عبيد " في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "أنه لعن القاشرة، والمقشورة".

[قال "أبو عبيد"]: نراه أراد هذه الغمرة التي يعالج بها النِّساء وجوهن حتى ينسحق أعلى الجلد، ويبدو ما تحته من البشرة. وهذا شبيهٌ بما جاء في النامصة والمتنمِّصة، والواشمة والموتشمة، وقد فسرناه في غير هذا الموضع. 287 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ- حين قال "لعديِّ بن حاتم" عند (220) إسلامه: " أمَّا يفرُّك منِّي: إلاَّ أن يقال: لا إله إلاَّ الله ".

هكذا يقولها بعض المحدِّثين وليس إعرابها كذلك، إنما هي: "أما يفرُّك - بضمِّ الياء وكسر الفاء - وهو من الفرار. يقال منه: قد أفررت فلانًا إفرارًا: إذا فعلت به فعلاً يفرُّ منه.

288 - وقال "أبو عبيد " في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "أنَّه كان شبح الذِراعين ". [قال " أبو عبيد "].

الشَّبح: العريض ومنه قيل: شبحت العود، إذا نحتَّه، وعرَّضته. فهو شبحٌ، ومشبوحٌ. 289 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ- حين قال "لسعد بن معاذ" عند حكمه في "بني قريظة": "لقد كمت [فيهم] بحكم الله من فوق سبعة أرقعة".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[قال "أبو عبيد ": واحدها رقيعٌ، وهو اسم سماء الدُّنيا. وكذلك هو في غير هذا الحديث. وأحسبه جعلها أرقعةً؛ لأن كلَّ واحدة منها هي رقيعٌ للَّتي تحتها مثل منزلة: هذه التي تلينا منها. 290 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: أنَّه قال: "لا تقوم السَّاعة حتَّى يظهر الفحش، والبخل، ويخوَّن الأمين، ويؤتمن الخائن، وتهلك الوعول؛ وتظهر التُّخوت. قالوا: يا رسول الله! وما الوعول؟ وما التُّحوت؟ قال: الوعول: وجوه النَّاس وأشرافهم.

والتُّحوت: الذين كانوا تحت أقدام النَّاس لا يعلم بهم.

291 - وقال" أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: أنَّه كتب "لحارثة بن قطن" ومن "بدومة الجندل" من "كلب": "إنّ لنا الضَّاحية من البعل، ولكم الضَّامنة من النَّخل، لا تجمع سارحتكم، ولا تعدُّ فاردتكم، ولا يحظر عليكم النَّبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات".

قال "أبو عبيد": قوله: "الضَّاحية" يعني الظَّاهرة الَّتي في البرِّ من النَّخل. والبعل: الَّذي يشرب بعروه من غير سقى سماءٍ. والضَّامنة: ما تضمَّنها أمصارهم وقراهم من النَّخل. وقوله "لا يجمع بين سارحتكم".

يقول: لا يجمع بين متفرقٍ. ويقال فيه قولٌ آخر: إنَّها لا تجمع إلى المصدِّق عند المياه، ولكن يتبعها حيث كانت، فيأخذ صدقتها. وقوله " ولا تعدُّ فاردتكم". يقول: لا تنضمُّ الشَّاة المنفردة إلى الشَّاء، فيحتسب - بها (221) في الصَّدقة.

وقوله: "ولا يؤخذ منكم عشر البتات": يعني المتاع. يقول: ليس عليه زكاةٌ. 292 - قال " أبو عبيد " في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: " أنَّه نهى عن فصع الرُّطبة ".

قال "أبو عبيد": الفصع: هو أن يخرجها من قشرها. يقال: فصعتها أفصعها فصعًا.

293 - قال " أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ-صلِّى الله عليه وسلمَّ-: "لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام". قالوا: الجلب في شيئين:

يكون في سباق الخيل، وهو أن يتَّبع الرَّجل فرسه، فيركض خلفه، ويزجره، ويجلَّب عليه، ففي ذلك معونة للفرس على الجري، فنهى عن ذلك. والوجه الآخر في الصَّدقة: أن يقدم المصدِّق، فينزل موضعًا، ثمَّ يرسل إلى المياه، فتجلب أغنام [أهل] تلك المياه عليه، فيصدَّقها هناك، فنهى عن ذلك. ولكن يقدم عليهم، فيصدِّقهم على مياههم، وبأفنيتهم. قال "أبو عبيد": وأمَّا الجنب: فأن يجنب الرَّجل خلف فرسه الَّذي سابق عليه فرسًا عريًا ليس عليه أحد.

فإذا بلغ قريبًا من الغاية ركب فرسه العرى، فسبق عليه؛ لأنه أقلُّ إعياءً وكلالًا من الذي عليه الراكب. وأمَّا الشِّغار: فالرَّجل يزوِّج أخته أو ابنته على أن يزوِّجه الآخر أيضًا ابنته أو أخته، ليس بينهما مهر غير هذا، وهي المشاغرة كان أهل الجاهليَّة يفعلونه. يقول الرَّجل للرَّجل: شاغرني، فيفعلان ذلك، فنهى عنه. 294 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبي -صلى الله عليه وسلم-:

"من أشاد على مسلم عورًة يشينه بها بغير حقًّ شانه الله بها في النار يوم القيامة". - قال: حدَّثناه "أبو معاوية" عن "عبد الله بن ميمون" عن "موسى ابن مسكين"، عن "أبي ذرٍّ" عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال "أبو عبيد" قوله: "أشاد": يعني رفع ذكره بها، ونوَّه به، وشهره بالقبيح. وكذلك كلُّ شيءٍ رفعته، فقد أشدته.

ولا أرى البنيان المشَّيد إلَّا من هذا. يقال: أشدت البنيان، فهو مشاد. وشيدته، فهو مشيَّد: إذا رفعته، وأطلته. وأمَّا البناء المشيد من قوله [-تعالى-]: "وبئر معطَّلة وقصر مشيد". فإنَّه من غير المشيّد هذا. هو الَّذي قد بنى بالشِّيد [وهو الجصُّ].

295 - قال "أبو عبيد" في حديث (222) النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه كان يعوِّذ "الحسن" و"الحسين": "أعيذكما بكلمات الله التَّامَّة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كلِّ عين لامَّةٍ".

قال: حدثنيه "يزيد [بن هارون] " عن "سفيان [الثَّوري] " عن "منصور" عن "المنهال بن عمرو" عن "سعيد بن جبير" عن "ابن عباس" عن "النبيِّ" -صلَّى الله عليه وسلم. قال "أبو عبيد": "الهامَّة" يعني الواحدة من هوامِّ الأرض، وهي دوابُّها المؤذية.

وقوله: "لامَّة"، ولم يقل ملمَّة. وأصلها من ألممت إلمامًا، فأنا ملمٌّ. يقال ذلك للشَّيء تأتيه وتلمُّ به. وقد يكون هذا من غير وجه: منها ألَّا تريد طريق الفعل؛ ولكن تريد أنَّها ذات لمم، فتقول على هذا: لامَّة كما قال الشاعر: كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب.

وإنَّما هو منصب. فأراد به أنه ذو نصب. ومنه قول الله -تبارك وتعالى-: "وأرسلنا الرِّياح الواقح" واحدتها لاقحٌ. على معنى أنَّها ذات لقح. ولو كان على مذهب الفعل، لقال: ملقح؛ لأنَّها تلقح السحَّاب والشَّجر. وقد روى عن "عمر" -] رضي الله عنه-[في بعض الحديث: "لا أوتي بحالًّ ولا محلًّ له إلَّا رجمتهما".

فقال: حالٌ -إن كان محفوظًا- وهو من أحللت المرأة لزوجها، وإنما الكلام أن تقول: محلٌّ.

296 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "من بنى] لله [مسجدًا ولو مثل مفحص قطاة، بني له بيتٌ في الجنَّة". قال: حدَّثنيه "الفزاريُّ" عن "كثير المؤذن" قال: سمعت "عطاء بن أبي رباح" يحدِّث عن "عائشة" عن النَّبيِّ -صلِّى الله عليه وسلَّم-. قال: وحدَّثنا "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "إبراهيم التَّيميِّ" عن أبيه، عن "أبي ذرٍّ" مثله، ولم يرفعه.

قال "أبو عبيد": قوله: "مفحص قطاة" يعني موضعها الذي تجثم فيه. وإنَّما سمَّاه: مفحصًا؛ لأنَّها لا تجثم حتَّى تفحص عنه التُّراب، وتصير إلى موضع مطمئنٍّ مستوٍ. ولهذا قيل: فحصت عن الأمور إذا أكثرت المسألة عنها، والنَّظر

فيها حتَّى تصير منها إلى أن تنكشف لك، وإلى ما (223) تقنع به، وتطمئنُّ إليه منها. 297 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه قنت شهرًا في صلاة الصُّبح بعد الرُّكوع يدعو على "رعل" و"ذكوان".

قال: حدَّثناه "معاذ بن معاذ [العنبريُّ] " عن "سليمان التيميِّ" عن "أبي مجلز" عن "أنس بن مالك" عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

قال "أبو عبيد" قوله: "قنت [شهرًا] " هو ها هنا القيام قبل الرُّكوع أو بعده في صلاة الفجر يدعو. وأصل القنوت في أشياء: فمنها القيام، وبهذا جاءت الأحاديث في قنوت الصَّلاة؛ لأنَّه إنَّما يدعو قائمًا. ومن أبين ذلك الحديث الآخر: قال: حدَّثنا "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "أبي سفيان" عن "جابر" قال: سئل النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أيُّ الصَّلاة أفضل؟ فقال: "طول القنوت".

يريد: طول القيام. ومنه حديث "ابن عمر": قال: حدَّثني "يحيي [بن سعيد] " عن "عبيد الله

[ابن عمر] " عن "نافع" عن "ابن عمر" أنه سئل عن القنوت فقال: "ما أعرف القنوت إلَّا طول القيام، ثمَّ قرأ: "أمَّن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا". قال "أبو عبيد": وقد يكون القنوت في حديث "ابن عمر" هذا: الصَّلاة كلَّها؛ ألا تراه يقول: ساجدًا وقائمًا. ومما يشهد على هذا الحديث المرفوع: قال: حدَّثنيه "إسماعيل بن جعفر" عن "محمَّد بن عمرو" عن "أبى سلمة" عن "أبي هريرة" عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال. "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصَّائم".

قال "أبو عبيد": يريد بالقانت المصلِّى، ولم يرد القيام دون الرُّكوع والسُّجود وقد يكون القنوت: أن يكون ممسكًا عن الكلام في صلاته، ومنه حديث "زيد بن أرقم" قال: حدثنا "هشيم" قال: أخبرنا "إسماعيل بن أبي خالد" عن "الحارث بن شبيلٍ" عن "أبي عمرٍو الشَّيبانيِّ" عن "زيد بن أرقم" قال: "كنَّا نتكلم في الصَّلاة يكلِّم أحدنا صاحبه إلى جنبه حتَّى نزلت هذه الآية: "وقوموا لله قانتين"، فأمرنا بالسُّكوت، ونهينا عن الكلام. ] قال [: والقنوت أيضًا: الطَّاعة لله] تعالى [.

قال: حدَّثني "يحيي] بن سعيد [" عن "وائل بن داود" عن "عكرمة" في قوله]-تعالى-[: "كلٌّ له قانتون"- قال: الطَّاعة.

298 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: أنه قال: "الكيِّس من دان نفسه (224)، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله"

هو من حديث "أهل الشام" عن "أبي بكر بن أبي مريم" عن "ضمرة ابن حبيب" عن "شداد بن أوس" عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: قوله: "دان نفسه". الدين يدخل في أشياء، فقوله ها هنا: "دان نفسه". يقول يعني: أذلَّها، أي استعبدها. يقال: دنت القوم أدينهم: إذا فعلت ذلك بهم، قال "الأعشى يمدح قومًا: هو دان الرِّباب إذ كرهوا الدِّيـ ... ن دراكًا بغزوة وصيال ثم دانت بعد الرِّباب وكانت ... كعذاب عقوبة الأقوال

فقال: هو دان الرِّباب؛ يعني أذلَّها، ثم قال: دانت بعد الرِّباب، أي ذلَّت له، وأطاعت: ] والدين لله -تعالى-: إنما هو طاعته والتعبُّد له [. والدِّين أيضًا: الحساب، قال الله]-تبارك وتعالى-[في الشُّهور:

"منها أربعة حرم ذلك الدِّين القيِّم". ولهذا قيل ليوم القيامة: "يوم الدِّين"؛ إنما هو يوم الحساب، وأما قول "القطامِّي": ] رمت المقاتل من فؤادك [بعدما ... كانت نوار تدينك الأديانا فهو من الإذلال أيضًا. و] قد [يكون قوله: "من دان نفسه"؛ أي حاسبها من الحساب. والدِّين أيضًا: الجزاء، من ذلك قوله: "كما تدين تدان".

299 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنه قال: "مثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيَّته، يجول، ثم يرجع إلى آخيَّته، وإنَّ المؤمن يسهو، ثمَّ يرجع إلى الإيمان". قال: بلغني ذلك عن "ابن المبارك" عن "سعيد بن أبي أيُّوب" عن "عبد الله بن الوليد" عن "أبي سليمان اللَّيثي" عن "أبي سعيد الخدريِّ"، يرفعه. قال "أبو عبيد": قوله: "آخيَّته".

الآخيَّة: العروة التي تشدُّ بها الدَّابَّة، وتكون في وتد، أو سكة مثبتة في الأرض. 300 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنه دخلت عليه عجوزٌ، فسأل بها،

فأحفى، وقال: إنها كانت تأتينا أزمان "خديجة" وأنَّ حسن العهد من الإيمان". ] هو [من حديث "ابن المبارك" قال: بلغني ذلك عنه عن "إبراهيم بن محمَّد بن (225) عبد الرَّحمن بن ثوبان" عن "محمَّد ابن زيد بن مهاجر" يرفعه. قال "أبو عبيد": والعهد في أشياء مختلفة.

فمنها الحفاظ ورعاية الحرمة والحقِّ، وهو هذا الَّذي في الحديث. ومنه الوصيَّة] وهو [أن يوسى الرَّجل إلى غيره، كقول "سعد" حين خاصم "عبد بن زمعة" في "ابن أمته" فقال: "ابن أخي عهد فيه إلىَّ أخي، أي أوصى إلىَّ] فيه [. وقال الله -تبارك وتعالى-: } ألم أعهد إليكم يا بني آدم {يعني الوصيَّة والأمر. ومن العهد أيضًا: الأمان، قال الله]-تعالى-[: "لا ينال عهدي الظالمين"، وقال: } فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم {.

ومن العهد أيضًا: اليمين يحلف بها الرَّجل، يقول: علَّى عهد الله. ومن العهد أيضًا: أن تعهد الرَّجل على حال، أو في مكان، فتقول: عهدي به في مكان كذا وكذا، وبحال كذا وكذاه، وعهدي به يفعل كذا وكذا. وأما قول النَّاس: أخذت عليه عهد الله، وميثاقه، فإنَّ العهد ها هنا اليمين، وقد ذكرناه. 301 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه قال: "الحجُّ المبرور ليس له ثوابٌ دون الجنَّة. قيل: يا رسول الله! ما برُّه؟ قال: العجُّ والثَّجُّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال: حدثناه "إسماعيل بن عيَّاش" عن "إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة" عن "محمَّد بن المنكدر" عن "جابر" عن "النَّبيِّ" -صلَّى الله عليه وسلَّم-: قال "أبو عبيد": قوله: "العجُّ": يعني رفع الصوت بالتلبية. ومنه الحديث الآخر أن "جبريل" -عليه السلام- أتى النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: "مر أصحابك برفع الصَّوت بالتَّلبية، فإنه من شعار الحج".

يقال منه: عججت فأنا أعجُّ عجًّا وعجيجًا. وقوله: "والثَّجُّ"، يعني: نحر الإبل، وغيرها، وأن يثجُّوا دماءها، وهو السَّيلان ومنه قول الله]-تبارك وتعالى-[: "وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجًا". وكذلك حديثه] الآخر [حين سألته المستحاضة فقالت:

"إنِّي أثجُّه ثجًّا"، تعني: سيلانه وكثرته. 302 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أن النَّوَّاس بن سمعان" سأله عن البرِّ والإثم، فقال. "البر حسن الخلق، والإثم ما حكَّ في نفسك، وكرهت - أن (226) يطَّلع عليه النَّاس".

وهذا يروى عن "معاوية بن صالح" عن "عبد الرحمن بن جبير ابن نفير" عن "أبيه" عن "النَّوَّاس بن سمعان" عن "النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلم-. قال "أبو عبيد قوله: "ما حكَّ في نفسك". يقال: حكَّ في نفسك الشيء: إذا لم تكون منشرح الصَّدر به، وكان في قلبك منه شيءٌ.

ومنه حديثه الآخر: "الإثم: ما حكَّ في صدرك، وإن أفتاك عنه النَّاس وأفتوك".

ومنه حديث "عبد الله": "الإثم جوازُّ القلوب". يعني ما حزَّ في نفسك وحكَّ فاجتنبه، فإنَّه الإثم. 303 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنه كان يقول: "اللَّهمَّ إنِّي أسألك غناي وغنى مولاي".

قال: حدَّثنيه "يحيي بن سعيد" و"يزيد" عن "يحيي ابن سعيد" عن "محمَّد بن يحيي بن حبَّان" عن عمِّه واسع] بن حبَّان [يرفعه. قال "أبو عبيد": قوله: "غنى مولاي": المولى عند كثير من النَّاس هو ابن العمِّ خاصَّةً. وليس هو هكذا. ولكنَّه الوليُّ، فكلُّ ولّي للإنسان فهو مولاه،

مثل الأب، والأخ، وابن الأخ، والعمِّ، وابن العم، وما وراء ذلك من العصبة كلِّهم. ومنه قوله -عزَّ وجلَّ-: "وإنِّي خفت الموالى من ورائي" ومما يبيِّن ذلك: أنَّ المولى كلُّ ولِّى حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطلٌ".

أراد بالمولى الولي. وقال الله]-تبارك وتعالى-[: } يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئًا". أفتراه إنَّما عنى ابن العمِّ خاصَّةً، دون سائر أهل بيته؟ وقد يقال للحليف أيضًا: مولًى، قال "النَّابغة الجعديُّ": موالى حلف لا موالى قرابة ... ولكن قطينًا يسألون الأتاويا

الأتاوي: جمع إتاوة، وهي الخراج. 304 - وقال "أبو عبيد" في حديث "أبو أيُّوب": "نهانا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن نستقبل القبلة ببول أو غائط فلمَّا قدمنا الشَّام، وجدنا مرافقهم قد استقبل بها القبلة، فكنا ننحرف، ونستغفر الله".

قال: حدَّثناه "إبراهيم بن سعد" عن "الزهريِّ" عن "عطاء

ابن يزيد" عن "أبي أيُّوب" عن "النَّبيِّ" -صلَّى الله (227) عليه وسلم-: قال "أبو عبيد": قوله: "مرافقهم": يعني الكنف، واحدها مرفقٌ. وفي حديث غير "إبراهيم بن سعد": "وجدنا مراحيضهم قد استقبل بها القبلة" فهي تلك أيضًا، واحدها مرحاض. وهي المذاهب أيضًا، واحدها مذهبٌ.

ومنه الحديث الَّذي يرويه عنه "المغيرة بن شعبة" أنَّه كان معه في سفر قال: "فنزل، فأبعد المذهب". كل هذا كناية عن موضع الغائط.

305 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذي يرويه "أبو أيُّوب" أيضًا: قال "أبو أيُّوب": ما أدرى ما أصنع بهذه الكراييس، وقد نهى رسول الله]-صلَّى الله عليه وسَّلَّم-[أن تستقبل القبلة ببول أو غائط".

فالكراييس واحدها كرياسٌ، وهو الكنيف الذي يكون مشرفًا على سطح بقناة إلى الأرض. وإذا كان أسفل، فليس بكرياس. 306 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه كان يدلع لسانه "للحسن بن علّي" فإذا رأى الصَّبي

حمرة لسانه بهش إليه". قال: حدَّثناه "يزيد" عن "محمَّد بن عمرو" عن "أبي سلمة" يرفعه. قوله: يهش إليه": يقال للإنسان إذا نظر إلى الشَّيء، فأعجبه، واشتهاه، فتناوله، وأسرع إليه، وفرح به: قد بهش إليه، وقال "المغيرة بن حبناء التَّميميُّ" يمدح رجلًا: سبقت الرِّجال الباهشين إلى النَّدى ... فعالًا ومجدًا، والفعال سباق

307 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنه قرأ عليه "أبيُّ] بن كعب [" فاتحة الكتاب، فقال: "والذي نفسي بيده ما أنزل في التَّوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزَّبور ولا في الفرقان مثلها، إنَّها للسَّبع من المثاني والقرآن العظيم الَّذي أعطيته".

قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفر" عن "العلاء بن عبد الرَّحمن" عن "أبيه" عن "أبي هريرة" عن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: قال "أبو عبيد": وجدت المثاني على ما جاء في الآثار، وتأويل القرآن في ثلاثة أوجه فهي في أحدها: القرآن كلُّه.

منها قول الله -تبارك وتعالى- (228): } الله نزَّل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني] تقشعرُّ منه [". فوقع المعنى على القرآن كلِّه. قال "أبو عبيد": ويقال: إنَّما سمِّى المثاني؛ لأنَّ القصص والأنباء ثنِّيت فيه. ومنه هذا الحديث أيضًا، ألا تسمع إلى قوله: "إنها للسَّبع من المثاني".

يريد تأويل قوله]-تعالى-[: "ولقد آتيناك سبعًا من المثاني] والقرآن العظيم [". فالمعنى -والله أعلم- أنَّها السَّبع الآيات من القرآن.

وهي في العدد ستُّ، وقال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "سبعٌ". ويروى أنَّ السَّابعة "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم" فإنَّها تعدُّ آيًة في فاتحة الكتاب خاصَّةً يحقِّق ذلك حديث "ابن عبَّاس": قال: حدَّثناه "حجَّاجٌ" عن "ابن جريج" عن "أبيه" عن "سعيد بن جبير" عن "ابن عبَّاس" في قوله: "ولقد آتيناك سبعًا من المثاني". قال: هي فاتحة الكتاب. قال: وقرأها علىَّ "ابن عبَّاس" وعدَّ فيها "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم". فقلت لأبي: أأخبرك "سعيد بن جبير" عن "ابن عبَّاس" أنَّ "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم" آية من كتاب الله؟ قال: نعم.

قال "أبو عبيد": فهذا أحد الوجوه من المثانى، أنه القرآن كله. وقال بعض النَّاس] بل [فاتحة الكتاب هي السَّبع من المثانى. واحتجَّ بأنها تثنَّى في الصَّلاة في كلِّ ركعة. وفي وجه آخر: أنَّ المثانى ما كان دون المئين، وفوق المفصَّل من السُّور

قال: حدَّثنا "جرير" عن "منصور" عن "إبراهيم" قال: قدم "علقمة" "مكَّة"، فطاف بالبيت أسبوعًا، فصلَّى عند المقام ركعتين قرأ فيهما بالسَّبع الطُّول. ثمَّ طاف أسبوعًا، ثمَّ صلَّى ركعتين قرأ فيهما بالمئين. ثم طاف أسبوعًا، ثم صلَّى ركعتين قرأ فيهما بالمثانى.

ثم طاف أسبوعًا، ثمَّ صلَّى ركعتين قرأ فيهما بالمفصَّل. ومن ذلك حديث "ابن عبَّاس"] رضي الله عنهما [حين قال "لعثمان": "ما حملكم على أن عمدتم إلى "سورة براءة" وهي من المئين، وإلى "الأنفال" وهي من المثانى، فقرفتم بينهما، ولم تجعلوا بينهما سطر "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم" وجعلتموها. في السبع الطُّول؟ (229) فقال "عثمان": إنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان إذا

أنزلت عليه السُّورة، أو الآية، يقول: "أجعلوها في الموضع الَّذي يذكر فيه كذا وكذا" وتوفِّي رسول الله]-صلَّى الله عليه وسلَّم-[ولم يبيِّن لنا. قال "أبو عبيد": أحسبه قال: "أين نضعها"؟ وكانت قصَّتها شبيهًة بقصَّتها، فلذلك قرنت بينهما. قال "أبو عبيد": فالمثانى في هذين الحديثين تأويلهما: ما نقص من المئين.

308 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه قال: "بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، ليس هو نسيها، ولكن نسِّى. واستذكروا القرآن، فلهو أشدُّ تفصِّيًا من صدور الرِّجال من النَّعم من عقلها".

قال: حدَّثناه "الأبَّار محمَّد بن عبد الرَّحمن" عن "منصور": عن "أبي وائلٍ" عن "عبد الله يرفعه. قال "أبو عبيد": يقال: إنَّ وجه هذا الحديث إنمَّا هو التارك لتلاوة القرآن الجافي عنه.

ومَّما يبيِّن ذلك قوله: "واستذكروا القرآن". وفي حديثٍ آخر: "تعهَّدوا القرآن". فليس يقال هذا إلَّا للتَّارك. وكذلك حديث "الضَّحَّاك] بن مزاحم [": قال: حدَّثنا "ابن المبارك" عن "عبد العزيز بن أبي روَّاد" قال: "سمعت الضَّحَّاك بن مزاحم" يقول: ما من أحد تعلَّم القرآن، ثمَّ نسيه إلَّا بذنبٍ يحدثه؛ لأنَّ الله]-تبارك وتعالى-[يقول: } وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" وإنَّ نسيان القرآن من أعظم المصائب {.

قال "أبو عبيد": إنَّما هذا على التَّرك، فأمَّا الذَّي هو دائبٌ في تلاوته حريصٌ على حفظه، إلَّا أن النِّسيان يغلبه، فليس من ذاك في شيءٍ. ومَّما يحقِّق ذلك أن النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان ينسَّى الشَّيء من القرآن حتَّى يذكَّره. من ذلك حديث "عائشة" -رضي الله عنها-. قال: حدثنيه "أبو معاوية" عن "هشام بن عروة" عن "أبيه" عن "عائشة" -رضي الله عنها- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- سمع قراءة رجل في المسجد، فقال: "ماله -رحمه الله-: لقد أذكرني آيات كنت أنسيتها من سورة

كذا وكذا".

309 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّ رجلًا أتاه بضباب قد احترشها، فقال: إنَّ أمَّةً قد مسخت، فلا أدري لعل هذه منها".

قال: حدثنيه (230) "ابن مهدي" عن "شعبة" عن "عديِّ ابن ثابت" عن "زيد بن وهبٍ" عن "ثابت بن وديعة". قال "أبو عبيد": قوله: "] قد [احترشها": هو أن يأتي جحر الضَّبِّ، فيدخل فيه عودًا أو شيئًا، فيحرِّكه، حتَّى يسمع الضَّبُّ، فيظن أنَّه حيَّة تريد أن تدخل عليه الجحر. والحيَّة زعموا أنَّها تدخل عليه الجحر، فتستخرجه منه.

قال: ومنه قيل هذا المثل: "أظلم من الحيَّة". فإذا سمع صوت تلك الحركة أخرج ذنبه إليها؛ ليضربها به، فربُّما قطعها بإثنين، فإذا رآه المحترش قد أخرج ذنبه قبض عليه حتَّى يجتذبه. فهكذا تحترش الضباب، فيما تقول الأعراب.

وفي هذا الحديث من الفقه أنَّه لم يدع أكل الضَّبِّ على التَّحريم له، ولكن للتَّقذُّر. 310 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الضَّالَّة إذا كتمها. قال: "فيها قرينتها مثلها، إن أدَّاها بعد ما كتمها أو وجدت عنده فعليه مثلها".

قال: حدثنيه "حجاج" عن "ابن جريج" قال: حدَّثني "عمرو ابن مسلم" قال: سمعت "طاووسًا" و"عكرمة" يقولان: قال رسول الله]-صلَّى الله عليه وسلَّم-[ذلك. قال "أبو عبيد": قوله: "فيها قرينتها مثلها" يقول: إن وجد رجلٌ ضالَّةً وهي من الحيوان خاصَّةً يعني الإبل، والبقر، والخيل، والبغال، والحمير، يقول: فكان ينبغي له ألَّا يؤويها.

فإنه لا يؤوي الضَّالَّة إلَّا ضالُّ. وقال: "ضالَّة المسلم حرق النَّار". فإن لَّم ينشدها حتَّى توجد عنده أخذها صاحبها-، وأخذ أيضًا منه مثلها. وهذا عندي على وجه العقوبة والتَّأديب له. وهو مثل قوله في منع الصَّدقة:

"إنَّا آخذوها وشطر إبله عزمةٌ من عزمات ربِّنا". وهذا كما قضى "عمر" -رحمه الله- على "حاطب". قال: حدَّثنا "عبَّاد بن عبَّاد" عن "محمَّد بن عمرو" عن

"يحيي بن عبد الرَّحمن بن حاطب" عن "أبيه" أنَّ عبيدًا له سرقوا ناقًة لرجل من "مزينة" فنحروها، فأمر "عمر" بقطعهم. ثمَّ قال: ردُّوهم علىَّ. وقال "لحاطب": "إنِّي أراك تجيعهم" ثم قال "للمزنيِّ": كم كانت قيمة ناقتك؟ قال: طلبت منِّي بأربعمائة درهم. فقال "لحاطب": اذهب (231) فادفع إليه ثمانمائة درهم". فأضعف عليه القيمة عقوبًة له. لا أعرف للحديث وجهًا غير هذا. قال "أبو عبيد": وليس الحكَّام على هذا اليوم، إنَّما يلزمونه القيمة.

311 - وقال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين ذكر أشراط السَّاعة، فقال: "من أشراطها كذا وكذا، وأن ينطق الرويبضة. قيل يا رسول الله! وما الرويبضة؟ فقال: الرَّجل التَّافه ينطق في أمر العامَّة".

قال: حدثنيه "يزيد" عن "عبد الملك بن قدامة"] عن "إسحاق ابن أبي الفرات" [عن "المقبريِّ" عن "أبي هريرة" رفعه. قال "أبو عبيد": قوله: "التَّافه": يعني الخسيس الخامل من النَّاس، وكذلك كلُّ خسيس، فهو تافه.

ومنه قول "إبراهيم": "تجوز شهادة العبد في الشَّيء التَّافه" ومنه قول "عبد الله" في القرآن: "لا يتفه، ولا يتشانُّ". وتأويل حديث النبي -صَّلى الله عليه وسلَّم- هذا مثل الحديث الآخر: "لا تقوم السَّاعة حتَّى يكون أسعد النَّاس لكع بن لكع". وهو العبد والسِّفلة.

ومنه قيل للأمة: يا لكاع! ويروى عن "عمر" -رحمه الله- أنَّه كان إذا رأى أمًة متقنِّعة ضربها بالدِّرَّة. وقال: "يا لكاع: لا تشبَّهي بالحرائر". ويقول: "اكشفي رأسك". وكذلك يقال للرَّجل: يا خبث، وللأنثى: يا خباث، وكذلك: غدر وغدار من الغدر. ومنه حديث "المغيرة بن شعبة" ورأى "عروة بن مسعود"] عمَّه [يكلِّم "النَّبيَّ" -صَلَّى الله عليه وسلَّم- ويتناول لحيته يمسّها، فقال: "أمسك يدك عن لحية النَّبيِّ]-صلَّى الله عليه وسلَّم-[قبل ألَّا تصل إليك".

فقال "عروة": يا غدر! وهل غسلت رأسك من غدرتك إلَّا بالأمس؟ وممَّا يثبت حديث الرويبضة الحديث الآخر، أنَّه قال: "من أشراط السَّاعة أن يرى رعاء الشَّاة رءوس النَّاس، وأن ترى العراة الجوَّع يتبارون في البنيان، وأن تلد المرأة ربَّها وربَّتها".

312 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه بعث مصدِّقًا فانتهى إلى (232) رجلٍ من العرب له إبلٌ، فجعل يطلب في إبله، فقال له: ما تنظر؟ قال: بنت مخاض، أو بنت لبون. فقال: إنِّي لأكره أن أعطي الله من مالي مالًا ظهر فيركب، ولا لبن فيحلب، فاخترها ناقة".

قال: حدَّثناه "هشيمٌ" قال: أخبرنا "يونس" عن "الحسن" يرفعه. قال "أبو عبيد": قوله: "فاخترها ناقًة" يريد: فاختر- منها ناقًة.

والعرب تقول: اخترت بني فلان رجلًا، يريدون: اخترت منهم رجلًا. قال الله]-عزَّ وجلَّ-[: } واختار موسى قومه سبعين رجلًا] لميقاتنا [{. يقال] هو [: التفسير: إنَّما هو اختار موسى من قومه سبعين رجلًا. وقال "الرَّاعي" يمدح رجلًا: اخترتك النَّاس إذ رثَّت خلائقهم ... واعتلَّ من كان يرجى عنده السُّول

فقال: اخترتك الناس، يريد: من النَّاس. 313 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنه سئل عن الإبل فقال: "أعنان الشياطين لا تقبل إلَّا مولِّيًة، ولا تدبر إَّلا مولِّيًة، ولا يأتي نفعها إلَّا من جانبها الأشأم". [-قال أبو عبيد-]: من حديث يروى عن "أبي عوانة" عن "قتادة" يرفعه إلى النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: قوله: "أعنان الشَّياطين".

قال: بلغني عن "يونس بن حبيب البصريِّ" أنَّه قال: أعنان كل شيءٍ: نواحيه. وأمَّا الَّذي نحكيه نحن فأعناء الشَّيء نواحيه. قالها "أبو عمرٍو" وغيره من علمائنا. فإن كانت الأعنان محفوظًة، فإنَّه أراد أن الإبل من نواحي -الشياطين أنَّها على أخلاقها وطبائعها. وهذا شبيه بالحديث الآخر: "أنَّها خلقت من الشَّياطين".

وفي حديث ثالث: "إنَّ على ذروة كلِّ بعير شيطانًا". وقوله: "لا تقبل إلَّا مولِّيًة، ولا تدبر إلَّا مولِّيًة". فهذا عندي كالمثل الذي يقال فيها: "إنَّها إذا أقبلت أدبرت وإذا أدبرت أدبرت". وذلك لكثرة آفاتها، وسرعة فنائها.

وقوله: "لا يأتي خيرها إلَّا من جانبها الأشأم" يعني الشِّمال، ويقال لليد الشِّمال الشؤمى.] قال الشاعر: وأنحى على شؤمى يديه فذادها ... بأظمأ من فرع الذؤابة أسحما [ ومنه قول الله -جلَّ ثناؤه-: "وأصحاب المشأمة] ما أصحاب المشأمة [" يريد أصحاب الشِّمال.

ومعنى قوله: "لا يأتي نفعها إلَّا من هناك" يعني أنَّها لا تحلب، ولا تركب (233) إلَّا من شمالها، وهو الجانب الِّذي يقال له: الوحشيُّ في قول "الأصمعيِّ" لأنَّه الشِّمال. قال: واليمين هو الإنسيُّ، والأنسيُّ أيضًا. وقال بعضهم: لا ولكنَّ الإنسيَّ هو الَّذي يأتيه النَّاس في الاحتلاب والرُّكوب، والوحشيُّ هو الأيمن؛ لأنَّ الدَّابَّة لا تؤتي من جانبها الأيمن إنما تؤتى من الأيسر.

قال "أبو عبيد": وهذا هو القول عندي لا غير. وقال "زهيرٌ" يذكر بقرًة أفزعتها الكلاب، فانصرفت، فقال: فجالت على وحشيِّها وكأنَّها مسربلةٌ من رازقيٍّ معضَّد

وقال "ذو الرمة" يصف ثورًا في مثل تلك الحال: فانصاع جانبه الوحشيَّ وانكدرت ... يلحبن لا يأتي المطلوب والطَّلب يعني بالطَّلب: الكلاب. فعلى هذا أشعارهم. إنَّما هو الجانب الوحشي الأيمن؛ لأن الخائف إنَّما يفرُّ من موضع المخافة إلى موضع الأمن. 314 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. "في الأنف إذا استوعب جدعه الدِّيَّة".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال: أخبرنا "هشيمٌ" قال: أخبرنا "ابن أبي ليلى" عن "عكرمة بن خالد" رفعه. قوله: "استوعب": يعني: استؤصل. وكذلك كلُّ شيءٍ اصطلم، فلم يبق منه شيء فقد أوعب، وهو الاستيعاب. يقال منه: قد أوعبته فهو موعب، قال "أبو النَّجم". (يجدع من عاداه جدعًا موعبا) (بكرٌ وبكرٌ أكرم النَّاس أبا) وكذلك القوم إذا شخصوا جميعًا في غزوٍ، أو في غيره. يقال: قد أوعبوا. قال "عبيدٌ": أنبئت أنَّ بني جديلة أوعبوا ... نفراء من سلمى لنا وتكتَّبوا

ومنه قول "حذيفة" في الجنب قال: "ينام قبل أن يغتسل فهو أوعب للغسل". قال: حدَّثناه "جرير" عن "مغيرة" عن "إبراهيم" عن "حذيفة". قال "أبو عبيد": يعني أنَّه أحرى أن يخرج كل بقيَّةٍ في ذكره من الماء. 315 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنه قال: "نزِّل القرآن على سبعة أحرف كلُّها كاف شاف".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وبعضهم يرويه: "فاقرءوا كما علِّمتم". قال: حدثناه "هشيمٌ" (234) و"يحيي بن سعيد" عن "حميد" عن "أنس" عن "أبيّ بن كعب" عن "النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال: وحدَّثني "ابن مهديٍّ" عن "مالك بن أنس" عن "الزُّهريِّ" عن "عروة" عن "عبد الرَّحمن بن عبد] القاريِّ [" عن "عمر" عن "النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال "أبو عبيد": قوله: "سبعة أحرف" يعني: سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه: هذا لم يسمع به قطُّ. ولكن يقول: هذه اللُّغات السَّبع متفرِّقةٌ في القرآن: فبعضه نزل بلغة "قريش"،

وبعضه بلغة "هوازن"، وبعضه بلغة "هذريا"، وبعضه بلغة "أهل اليمن". وكذلك سائر اللُّغات. ومعانيها في هذا كلِّه واحدةٌ. وممَّا يبيِّن لك ذلك قول "ابن مسعود". قال: حدَّثني "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "أبي وائل" عن "عبد الله" قال: "إنِّي قد سمعت القراءة، فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علِّمتم، إنَّما هو كقول أحدكم: هلمَّ، وتعال".

وكذلك قال "ابن سيرين": "إنَّما هو كقولك: هلمَّ، وتعال، وأقبل"، ثمَّ فسَّره "ابن سيرين" فقال في قراءة "ابن مسعود": "إن كانت إلَّا زقيًة واحدًة" وفي قراءتنا "] إن كانت إلَّا [صيحًة واحدًة". والمعنى فيهما واحد. وعلى هذا سائر اللُّغات. وقد روى في حديث خلاف هذا. من حديث "اللَّيث بن سعد" عن "عقيل" عن "ابن شهاب" عن "سلمة بن أبي سلمة" عن "أبيه" يرفعه، قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف: حلال، وحرام، وأمر، ونهي،

وخبر ما كان قبلكم، وخبر ما هو كائن بعدكم، وضرب الأمثال". قال "أبو عبيد": ولسنا ندري ما وجه هذا الحديث؛ لأنَّه شاذ غير مسند، والأحاديث المسندة المثبتة تردُّه. ألا ترى أنَّ في حديث " عمر" الَّذي ذكرناه في أوَّله

أنَّه قال: "سمعت "هشام بن حكيم بن حزام" يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها -وقد كان "النَّبيُّ" -صلَّى الله عليه وسلَّم- أقرأنيها. فأتيت به "النَّبيَّ" -صلَّى الله عليه وسلَّم- فأخبرته. فقال له: اقرأ. فقرأ تلك القراءة، فقال: "هكذا أنزلت". ثم قال لي: اقرأ، فقرأت قراءتي. فقال: "هكذا أنزلت". ثم قال: إن هذا القرآن نزل (235) على سبعة أحرف فاقرءوا منه ما تيَّسر". وكذلك حديث "أبي بن كعب" هو مثل حديث "عمر" أو "نحوه". فهذا يبيِّن لك أن الاختلاف إنما هو في اللفظ، والمعنى واحدٌ.

ولو كان الاختلاف في الحلال والحرام لما جاز أن يقال في شيءٍ هو حرامٌ هكذا نزل ثم يقول آخر في ذلك بعينه: إنه حلال، فيقول: هكذا نزل. وكذلك الأمر والنهي. وكذلك الأخبار: لا يجوز أن يقال في خبر قد مضى إنه كان كذا وكذا، فيقول: هكذا نزل. ثم يقول آخر بخلاف ذلك الخبر، فيقول: هكذا نزل. وكذلك الخبر المستأنف، كخبر القيامة، والجنة، والنار. ومن توهم أن في هذا شيئًا من الاختلاف، فقد زعم أن القرآن يكذِّب بعضه بعضًا، ويتناقض. فليس يكون المعنى في السبعة الأحرف إلِّا على اللُّغات لا غير. بمعنى واحد لا يختلف فيه في حلال، ولا حرامٍ، ولا خبر، ولا غير ذلك.

قال "أبو عبيد": إلَّا أنه في بعض الحديث: "نزل القرآن على خمسة" وليس فيه ذكر أحرف.

فهذا] قولٌ [قد يحتمل المعنى الذي في حديث الليث. 316 قال "أبو عبيد" في حديث "النبيِّ" صلِّى الله عليه وسلم: "من شرِّ ما أعطى العبد أو كلامٌ هذا معناه -شحٌّ هالعٌ وجبنٌ خالعٌ" يروي هذا عن "موسى بن عليِّ] بن رباح [" عن "أبيه"

عن "عبد العزيز بن مروان" عن "أبي هريرة" عن "النبي"- صلِّى الله عليه وسلم- قال "أبو عبيد": أمَّا قوله: "الهالع" فإنه المحزن، وأصله من الجزع. قال "أبو عبيدة": والاسم منه الهلاع، وهو أشد الجزع. وقد روى عن "الحسن" في قوله: "إنَّ الإنسان خلق هلوعًا". قال: بخيلًا بالخير ويرى عن "عكرمة" أنَّه قال: "ضجورًا". قال "أبو عبيد": وقد يكون البخل والضَّجر من الجزع.

و"الجبن الخالع": الَّذي يخلع قلبه من شدَّته. 317 - قال "أبو عبيد" في حديث "النبيِّ" -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه سئل عن حريسة الجبل.

فقال: "فيها غرم مثلها، وجلداتٌ نكالًا، فإذا آواها المراح، ففيها القطع" (236).

قال: حدَّثناه "ابن عليَّة" عن "ابن جريج" عن "عمرو ابن شعيب" يرفعه. قال "أبو عبيد: قلت: إنَّما هذا في الإبل والبقر، والغنم، فإنَّها ربَّما أدركها اللَّيل وهي في الجبل لم تصل إلى مراحها فلا قطع على سارقها فإذا آواها المراح، فكانت في حرز ولها حافظٌ، فعلى سارقها القطع. وفي هذا الحديث من الفقه أنَّه حيث ذكر القطع لم يذكر غرم السَّارق. 318 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين ذكر الدَّجَّال فقال: "جفال الشَّعر" في صفة ذكرها.

قال: حدَّثنيه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "شقيق" عن "حذيفة" عن "النَّبيِّ" -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال "أبو عبيد": قوله: "الجفال": يعني الكثير الشَّعر، قال "ذو الرُّمَّة" يصف شعرًا: وأسود كالأساود مسبكرًّا ... على المتنين منسدرًا جفالا

المسبكرُّ: المسترسل، وقد يكون أيضًا المعتدل المستقيم في غير هذا] الموضع [. والمنسدر: المنصبُّ. وبعضهم يرويه: "منسدلًا" من السدل، وهما سواء. وفي حديث آخر في الدَّجَّال: "رأسه حبكٌ حبكٌ".

يقال: هي الطَّرائق، ومنه قول] الله -تبارك وتعالى-[: "والسَّماء ذات الحبك".

319 - قال "أبو عبيد" في حديث "النَّبيِّ" -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه قال: "ليس أحدٌ يدخل الجنَّة بعمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلَّا أن يتغمدني الله برحمته".

قال "الأصمعيُّ": قوله: "] إلَّا أن [يتغمَّدني": يلبسني، ويغشِّيني، قال "العجَّاج": (يغمِّد الأعداء جونًا مردسا قال: يعني أنَّه يلقي نفسه عليهم، ويركبهم، ويغشِّيهم نفسه ويقبل عليهم. والمردس: الحجر الَّذي يرمي به.

يقال: ردست أردس ردسًا: إذا رميت. قال "أبو عبيد": ولا أحسب قوله: "يتغمَّدني" إلَّا مأخوذًا من غمد (237) السَّيف؛ لأنَّك إذا غمدته، فقد ألبسته إيَّاه، وغشَّيته به. 320 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لولا بنو إسرائيل ما خنز الطَّعام، ولا أنتن اللَّحم، كانوا يرفعون طعام يومهم لغدهم".

قوله: "خنز": يعني أنتن، وفيه لغتان. يقال: خنز يخنز، وخزن يخزن مقلوبٌ. كقولهم: جبذ وجذب، قال "طرفة": ثم لا يخزن فينا لحمها ... إنَّما يخزن لحم المدَّخر

وفي نتن اللَّحم أيضًا لغاتٌ في غير الحديث. يقال: صلَّ اللَّحم وأصلَّ، وخمَّ] اللحم [وأخمَّ، وثنت] اللَّحم [ونثت كل هذا إذا أروح، وتغَّير. وبعض المحدِّثين لا يرفع هذا الحديث. قال: حدثنيه "حجَّاج" عن "ابن جريج" عن "عمرو بن دينار" عن "عكرمة" لم يرفعه. ورفعه غيره.

321 - قال "أبو عبيد" في حديث "النَّبيِّ" -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين ذكر المدينة، فقال: "من أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ".

قال: سمعت "هشيمًا" يحدِّثه عن شيخ له قد سمَّاه عن "مكحول" قال: الصَّرف: التَّوبة، والعدل: الفدية. وفي القرآن ما يصدِّق هذا التفسير قوله: "وإن تعدل كلَّ عدل] لا يؤخذ منها [".

وقوله: "لا يقبل منها عدلٌ] ولا تنفعها شفاعة [" فهذا من قول "النبيِّ"]-صلَّى الله عليه وسلم-[: "لا يقبل منه عدلٌ". فأمَّا الصَّرف فلا أدرى أقوله: "فما تستطيعون صرفًا ولا نصرًا" من هذا أم لا. وبعض الناس يحمله على هذا. ويقال: إن الصرف النَّافلة، والعدل: الفريضة. قال "أبو عبيد": والتَّفسير الأول أشبه بالمعنى.

وقوله: "من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا": فإن الحدث: كلّ حدِّ لله يجب على صاحبه أن يقام عليه. وهذا شبيهٌ بحديث "ابن عبَّاس" في الرَّجل يأتي حدًّا من الحدود ثم يلجأ إلى الحرم، أنَّه] قال [: "لا يقام عليه الحدُّ في الحرم، ولكنَّه لا يجالس، ولا يبايع، ولا (238) يكلَّم حتَّى يخرج منه، فإذا خرج منه أقيم عليه الحدُّ". فجعل "النَّبيّ" -صلَّى الله عليه وسلَّم- حرمة "المدينة" كحرمة "مكَّة" في المآثم.

في صاحب الحدِّ أنَّه لا يؤويه أحد حتى يخرج منها، فيقام عليه الحدٍّ، وليس حكمها في الحدود في الدنيا سواءٌ؛ لأنَّ الحدود لا تقام في "مكَّة" إلَّا لمن أصابهما "بمكَّة". ولكنها في المآثم سواءٌ. 322 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَّه كره عشر خلال فيها: تغيير الشَّيب -يعني نتفه- وعزل الماء عن محلِّه، وإفساد الصَّبِّي غير محرِّمه".

قال: حدَّثناه "جريرٌ" عن "الرُّكين بن الرَّبيع" عن "القاسم بن حسَّان" عن عمِّه "عبد الرحمن بن حرملة" عن "ابن مسعود" عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. قال "أبو عبيد: أمَّا "تغيير الشَّيب" فإنَّ تفسيره في الحديث أنَّه نتفه. وأمَّا "عزل الماء عن محلِّه": فإنَّه العزل عن النِّساء في النِّكاح. وأمَّا "إفساد الصَّبيِّ غير محرِّمه": فإن إفساد الصَّبيِّ أن يجامع الرَّجل المرأة وهي ترضع، وهول الغيل والغيلة. ومنه حديثه.

-صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة". وقد ذكرناه في غير هذا الموضع. وقوله: "غير محرمة": يعني أنَّه كرهه كراهًة، ولم يبلغ به التَّحريم. 323 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:

ما من أمير عشرة إلَّا وهو يجيء يوم القيامة مغلولًة يداه إلى عنقه حتَّى يكون عمله هو الَّذي يطلقه أو يوتغه". قوله: "يطلقه": معناه ينجيه. وقوله: "يوتغه": يهلكه. يقال: وتغ الرَّجل: يوتغ وتغًا إذا هلك.

وقد أوتغه غيره. و] قد [يكون أيضًا "أن يتغيه" في معنى "يوتغه". وبعضهم يرويه بالقاف. فأما من رواه] يتغقه [بالقاف فإنَّه لا وجه له عندنا ولا نعرفه.

324 - قال "أبو عبيد" في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: "] إنَّ الشَّيطان ليعقد [على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد، فإذا قام من اللَّيل فتوضَّأ انحلَّت عقدةٌ". قال "أبو عبيد": القافية: هي القفا، فكأنَّ معناه أنَّ على قفا أحدكم ثلات عقد للشَّيطان.

وإنَّما قيل لآخر حرف من بيت الشِّعر قافيةٌ؛ لأنَّه خلف (239) البيت كلِّه وهي كلمةٌ تقفو البيت، فهي قافيةٌ.

325 - قال "أبو عبيد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه كتب "لثقيف" حين أسلموا كتابًا فيه. "أن لهم ذمَّة الله، وأنَّ واديهم حرامٌ عضاهه وصيده وظلمٌ فيه، وأنَّ ما كان لهم من دين إلى أجل فبلغ أجله، فإنَّه لياطٌ مبرَّأ من الله، وأنَّ ما كان لهم من دين في رهن وراء عكاظٌ، فإنَّه يقضي إلى رأسه، ويلاط بعكاظ، ولا يؤخَّر". قال "أبو عبيد": قوله: "لياطٌ مبَّرأٌ من الله". أصل اللِّياط كلُّ شيء ألصقته بشيء فقد لطته به.

واللِّياط ها هنا: الرِّبا الَّذي كانوا يربون في الجاهلَّية سمِّى لياطًا؛ لأنَّه شيءٌ لا يحلُّ ألصق بشيء، فأبطل النَّبيُّ]-صلَّى الله عليه وسلَّم-[ذلك الرِّبا، وردَّ الأمر إلى رأس المال كما قال الله]-تبارك وتعالى-[في كتابه: "فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون".

بهذا الحديث وتفسير غريبه والتعليق عليه ينتهي بعون الله وفضله وتوفيقه "الجزءُ الثاني" من تحقيقي لكتاب غريب حديث الإمام "أبي عبيد القاسم بن سلام" ويتلوه إن شاء الله الجزءُ الثالث من هذا التحقيق وأوله الحديث رقم 326 قال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنُّه قيل له يومًا في المسجد: يا رسول الله! هده. فقال: بل عرشٌ كعرش موسى". قال "أبو عبيد": قوله: هذه "كان" سفيان بن عيينة" يقول: معناه: أصلحه. وتأويله كما قال .. " وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. المدينة المنورة في مساء الإثنين 5 من جمادي الأولى 1404 هـ 6 من فبراير 1984 م حسين محمد محمد شرف

بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثالث من كتاب "غريب الحديث" "لأبي عبيد القاسم بن سلام" وأوله "الحديث": قال "أبو عبيد" في حديث -النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قيل له يومًا في المسجد: يا رسول الله! هِدْهُ. فقال: "بل عرش كعرش موسى". "المحقق"

326 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه قيل له [يومًا] في المسجد: يا رسول الله! هِدْهُ. فقال "بل عرش كعرش موسى".

قال "أبو عبيد": قوله: "هِدْهُ": كان "سفيان بن عيينة" يقول: معناه: أصلحه. وتأويله كما قال. وأصله: أنه يراد به الإصلاح بعد الهدم. وكل شيءٍ حركته فقد هِدْتَه تهيده هيدًا. فكأن المعنى أنه يهدم، ثم يستأنف بناؤه، ويصلح. 327 - وقال أبو عبيد في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال؛ "من منحه المشركون أرضًا، فلا أرض له".

وهذا الحديث يروى عن "بقية بن الوليد" عن "وزير بن عبد الله الخولاني" عن "محمد بن الوليد الزبيدي" عن "الزهري" عن "سعيد بن المسيب" عن "عمر بن الخطاب" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم- قوله: "من منحه المشركون أرضًا، فلا أرض له". قال "أبو عبيد": وجهه عندنا -والله أعلم- أن الذمي يمنح المسلم أرضًا، والمنيحة: العارية؛ ليزرعها. وقوله: "فلا أرض له": يعني أن خراجها على ربها المشرك، ولا يسقط الخراج عنه منحته المسلم إياها، ولا يكون على المسلم خراجها. وهذا مثل حديثه الآخر: "ليس على المسلم جزية". يروى ذلك عن "قابوس بن أبي ظبيان" عن "أبيه" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-.

328 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر الله -تبارك وتعالى- فقال: "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره" هذا يروى عن "الأعمش" عن "عمرو بن مرة" عن "أبي عبيدة" عن "أبي موسى" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-

يقال في السبحة: إنها جلال وجهه ونوره، ومنه قيل: سبحان الله إنما هو تعظيم له، وتنزيه. وهذا الحرف قوله: "سبحات" -ألم نسمعه إلا في هذا الحديث. 329 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أكبر الكبائر [عند الله] أن تقاتل أهل صفقتك، وتبدل سنتك، وتفارق أمتك". قال: حدثناه "حجاج" عن "حماد بن سلمة" عن "علي بن زيد ابن جدعان" عن "الحسن" يرفعه.

قال: قتاله أهل صفقته: أن يعطى الرجل عهده وميثاقه، ثم يقاتله. وتبديل سنته: أن يرجع أعرابيًا بعد هجرته. ومفارقته أمته: أن يلحق بالمشركين. قال "أبو عبيد": وهذا التفسير كله في الحديث ولا أدري: أهو عن "الحسن" أو غيره؟ 330 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله

عليه وسلم- أنه قال: "لا تغار التحية". فالغرار: النقصان، وأصله من غرار الناقة، وهو أن ينقص لبنها. يقال: قد غارت [الناقة] فهي تغار. فمعنى الحديث: أنه لا ينقص السلام. ونقصانه: أنه يقال: السلام عليك، وإذا سلم عليك، أن تقول: وعليك. والتمام: أن تقول: السلام عليكم.

وإذا رددت أن تقول: وعليكم، وإن كان الذي تسلم عليه أو ترد عليه واحدًا وكان "ابن عمر" يرد كما يسلم عليه. 331 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في بعض أسفاره: "تحينوا نوقكم". [قال أبو عبيد]: قال "أبو عمرو": التحيين: أن تحلبها مرةً واحدةً.

يقال: قد حينها: إذا جعل لها ذلك الوقت، قال "المخبل": إذا أفنت أروى عيالك أفنها ... وإن حينت أربى على الوطب حينها 332 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "فلعل طبا أصابه ثم نشره بـ (قل أعوذ برب الناس). قال "أبو عبيد": قال "الأصمعي": الطب: السحر، وإنما كنى عن السحر بالطب كما كنى عن اللديغ بالسليم.

والطب: الرجل [العالم] الحاذق بالأمور، وقال "عنترة": إن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم فالمستلئم: الذي قد لبس لأمته، واللامة: الدرع. 333 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد".

قوله: "عفراء"، الأعفر: الأبيض ليس بشديد البياض. والنقي: الحواري، والمعلم: الأثر، قال الشاعر: يطعم الناس إذا ما أمحلوا ... من نقي دوقه أدمه 334 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين دفع من عرفات [يسير] العنق، فإذا وجد فجوة نص".

قال "أبو عبيد": النص: التحريك حتى يستخرج من الدابة أقصى سيرها". قال الشاعر: تقطع الخرق يسير نص

335 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أفاض وعليه السكينة/ فأوضع في وادي محسرٍ".

قال "أبو عبيد": الإيضاع: سير مثل الخبب، وهو من سير الإبل، يقال له؛ الإيضاع، وقال الشاعر: إذا أعطيت راحلةً ورحلاً ... ولم أوضع فقام على ناعي 336 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه كلما امرأةً قبطيةً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مرها فلتتخذ تحتها غلالةً، لا تصف حجم عظامها".

يقول: إذا لصق الثوب بالجسد أبدى عن خلقها. 337 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن التلقي، وعن ذبح ذوات الدر، وعن ذبح قنى الغنم".

قال "أبو عبيد": ذوات الدر: ذوات اللبن. وقنى الغنم: التي تقتني للولد أو اللبن. يقال: قنْوةٌ وقُنْوةٌ، والمصدر منه القنيان والقنيان، وقال الشاعر: لو كان للدهر مال كان متلده ... لكان للدهر صخر مال قنيان والتلقي: أن يتلقى الرجل الأعراب تقدم بالسلعة، ولا تعرف سعر السوق فتبيعها رخيصةً".

338 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه أتى برجل نعت له الكي، فقال: "اكووه أو ارضفوه" قال: الرضف: الحجارة تسخن، ثم يكمد بها.

339 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "ألا أنبئكم ما العضه؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هي النميمة.

قال "أبو عبيد": وكذلك هي عندنا، قال الشاعر: أعوذ بربي من النافثا ... ت في عقد العاضه المعضه 340 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "من رأى مقتل "حمزة"؟

فقال رجل أعزل: أنا رأيته". قال "أبو عبيد": الأعزل: الذي لا سلاح معه، وقال "الأحوص": وأرى المدينة حين كنت أميرها ... أمن البرئ بها ونام الأعزل 341 - وقال أبو عبيد، في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "لزيدٍ": "أنت مولانا" فحجل.

قال "أبو عبيد": الحجل: أن يرفع رجلاً، ويقفز على الأخرى من الفرح. وقد يكون بالرجلين جميعًا إلا أنه قفز، وليس بالمشي. 342 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه أتى بهدية في أديمٍ مقروظ.

يعني المقروظ: المدبوغ بالقرظ. 343 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله من غير منار الأرض".

قال "أبو عبيد": المنار: التي تضرب على الحدود فيما بين الجار والجار. فتغييره أن يدخله في أرض جاره؛ ليقتطع به من أرضه شيئًا". 344 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صل الله عليه وسلم حين قال: "وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم".

قال "أبو عبيد": الحصائد: ما قاله اللسان، وقطع به على الناس. 345 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي"

-صلى الله عليه وسلم-: أنه غضب غضبًا شديدًا حتى يخيل إلي أن أنفه يتمزع. قال "أبو عبيد": ليس يتمزع بشيءٍ، ولكني أحسبه يترمع وهو أن تراه كأنه يرعد من شدة الغضب. 346 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي"

صلى الله عليه وسلم: "أن الشمس تطلع ترقرق". يعني: تدور، وتجيء وتذهب.

347 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أتى حائش نخل، أو حشا فقضى حاجته". قال ["أبو عبيد"]: الحائش: جماعة النخل، وهو البستان، والحش جماعة النخل أيضًا، وفيه لغتان: يقال: حَشُّ وحُشٌّ. 348 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه أهدى إليه هديةً، فلم يجد شيئًا يضعه عليه، فقال:

"ضعه، بالحضيض فإنما أنا عبد أكل كما يأكل العبد". قال "أبو عبيدٍ": الحضيض: الأرض، والحضيض: منقطع الجبل إذا أفضيت منه إلى الأرض. وفي بعض الحديث أن رجلاً كتب: أن العدو بعرعرة الجبل، ونحن بحضيضه: إنما هو أسفله عند منقطعه. 349 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً قال: يا رسول الله: مالي ولعيالي هارب ولا قارب غيرها".

قال "أبو عبيد": إنما هذا مثل، يقول: ليس لي شيء. وأصل الهارب: الذي قد هرب في الأرض. والقارب: الذي يطلب الماء. 350 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "إن عقبة بن عامرٍ" قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه فروج من حريرٍ".

قال: هو القباء الذي فيه شق من خلفه. 351 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أنس بن مالك" قال: أقاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يهودي قتل جويريةً على أوضاحٍ لها.

قال "أبو عبيدٍ": يعني: حلى فضة. 352 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "اهتف بالأنصار. قال: فهتفت بهم، فجاؤا حتى أطافوا به، وقد وبشت قريش

أوباشًا وأتباعًا". قال "أبو عبيد": الأوباش: الأخلاط من الناس.

353 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن أعرابيًا بال في المسجد، فقال [النبي -صلى الله عليه وسلم-]: "إن هذا المسجد لا يبال فيه، إنما بنى لذكر الله والصلاة، ثم أمر بجسل من ماءٍ فأفرغ على بوله.

قال "أبو عبيد": فالسجل: الدلو. 354 - وقال "أبو عبيد": في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى في بيت "أم سلمة" جاريةً ورأى بها سفعةً، فقال: "إن بها نظرةً، فاسترقوا لها".

قال "أبو عبيد": قوله: "سفعةً" يعني: أن الشيطان أصابها، وهو من قول الله [عز وجل]: (كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية). وحديث "ابن مسعودٍ" أنه رأى رجلاً، فقال: "إن بهذا سفعةً من الشيطان" وهو من هذا. 355 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه لما فتح "مكة". قال: "لا تغزى "قريش" بعدها".

قال "أبو عبيد": إنما وجه هذا عندنا أنه يقول: لا تكفر "قريش" بعد هذاحتى تغزى على الكفر. ومنه الحديث الآخر: "لا يقتل قرشى صبرًا". قال "أبو عبيد": ليس معناه -والله أعلم- أنه نهى أن يقتل إذا استوجب القتل. وما كانت "قريش" وغيرهم في الحق [عنده] إلا سواء.

ولكن وجهه، إنما هو على الخبر، أنه لا يرتد قرشي، فيقتل صبرًا على الكفر. 356 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس منا من غشنا".

قال ["أبو عبيد"]: فبعض الناس يتأوله: أنه يقول: ليس منا: أي [ليس] من أهل ديننا. يعني: أنه ليس من أهل الإسلام. وكان "سفيان بن عيينة" يرويه عن غيره أنه قال: ليس منا: أي [ليس] مثلنا، وهذا تفسير لا أدري ما وجهه؛ لأنا قد علمنا أن من غش، ومن لم يغش ليس يكون مثل "النبي" [-صلى الله عليه وسلم-] فكيف يكون من غشنا ليس مثلنا؟ . وإنما وجهه عندي -والله أعلم- أنه أراد: ليس منا، أي ليس هذا من أخلاقنا ولا من فعلنا، إنما نفى الغش أن يكون من أخلاق الأنبياء والصالحين.

وهذا شبيه بالحديث الآخر: "يطبع المؤمن على كل شيءٍ إلا الخيانة والكذب" إنهما ليسا من أخلاق الإيمان. وليس هو على معنى أنه من غش، أو من كان خائنًا فليس بمؤمنٍ، ومثله كثير في الحديث. 357 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن شبر الجمل". يروى ذلك عن "سعيد بن السائب" عن "إبراهيم بن ميسرة" أنه بلغه عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم- ذلك

قال "أبو عبيد": قوله: "شبر الجمل"، يعني أخذ الأجر على ضرابه. ومثل ذلك: "أنه نهى عن عسب الفحل. فالعسب هو الكراء للضراب. قال "أبو عبيد": ومما يبين ذلك، حديث يروى عن "سفيان الثوري" عن "أبي معاذ"، قال: "كنت تياسًا، فقال لي "البراء بن عازب": "لا يحل لك عسب الفحل".

ويروى عن "معمر" عن "قتادة" أنه كره عسب الفحل لمن أخذه، ولم ير به بأسًا لمن أعطاه. 358 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: أنه ندب الناس إلى الصدقة، فقيل له: قد منع "أبو جهمٍ" و"خالد بن الوليد" و"العباس" عم النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما "أبو جهمٍ" فلم ينقم منا إلا أن أغناه الله ورسوله من فضله. وأما "خالد" فإن الناس يظلمون "خالدًا" إن "خالدًا" قد جعل رقيقه ودوابه حبسًا في سبيل الله. وأما "العباس" عم رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-] فإنها

عليه، ومثلها معها. قال "أبو عبيدٍ": يروى هذا عن "ورقاء بن عمر" عن "أبي الزناد" عن "الأعرج" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة". قال "أبو عبيدٍ" [قوله]: "فإنها عليه ومثلها معها" نراه -والله أعلم- أنه كان أخر عنه الصدقة عامين، وليس وجه ذلك

إلا أن يكون من حاجةٍ "بالعباس" إليها، فإنه [قد] يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر، ثم يأخذها منه بعد. ومن هذا حديث "عمر" أنه أخر الصدقة عام الرمادة، فلما أحيا الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. وأما الحديث الذي يروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنا قد تعجلنا من "العباس" صدقة عامين فهو عندي من هذا أيضًا، إنما تعجل منه أنه أوجبها عليه، وضمنها إياه، ولم يقبضها منه، فكانت دينًا على العباس [-رحمه الله-]؛ ألا ترى أن "النبي" [-صلى الله عليه وسلم-] يقول: "فإنها عليه ومثلها معها".

359 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- في كتابه "لأكيدر": "هذا كتاب من "محمد" رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-] "لأكيدر" حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام مع "خالد ابن الوليد" سيف الله في "دومة" الجندل وأكنافها. إن لنا الضاحية من الضحل والبور، والمعامي، وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح. ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور بعد الخمس، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها عليكم، بذلك عهد الله وميثاقه".

قال "أبو عبيد": قوله: "خلع الأنداد" يعني الآلهة التي جعلها المشركون لله أندادًا. وقوله: "الضاحية من الضحل" فالضاحية: ما ظهر وبرز، وكان خارجًا من العمارة. والضحل: القليل من الماء، والبور: الأرض التي لم تزرع. والمعامي: الأرض المجهولة. والأغفال: نحوها واحدتها غفل. "والحلقة": السلاح، والدروع". وأما قوله: "الضامنة من النخل" فإن الضامنة ما كان داخلاً في العمارة. والمعين: الظاهر من الماء. وقوله: "لا تعدل سارحتكم": السارحة: الماشية التي تسرح، وترعى، وهو من قوله -جل وعز- "حين تريحون وحين تسرحون".

وقوله: لا تعدل: يقول: لا تصرف عن مرعى تريده. وقوله: " [و] لا تعد فاردتكم": يعني الزائدة على ما تجب فيه الزكاة يقول: لا تعد عليكم تلك في الزكاة حتى تنتهي إلى الفريضة الأخرى. وقوله: "لا يحظر عليكم النبات": يقول: لا تمنعون من الزراعة حيث شئتم.

360 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "وقبض له الأرض: يعني جمعها له". 361 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- قال: "يؤتى بالدنيا بقضها وقضيضها". يعني: كل ما فيها.

قال "أبو عبيد" ويروى بالكسر أيضًا "بقضها". قال: وأحسبها لغة. 362 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- في الرجل الذي استعمله، فأهدى له، فقال: هذا لي. فقال: "ألا جلس في حفش أمه، فينظر أكان يهدي إليه شيء".

قال "أبو عبيدة": الحفش: الدرج، وجمعه أحفاش. قال "أبو عبيدٍ": شبه بيت أمه في صغره بالدرج. [قال أبو عبيدٍ]: وليس هذا الحرف [في كل الحديث هو] في بعض الحديث [في بيت أمه]. 363 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أن رجلاً شكا إليه امرأته، فقال: "اللهم أر بينهما".

يعني: ثبت الود، ومكنه، ومنه قول "أعشى باهلة": لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا يعض على شرسوفه الصفر لا يتأرى: يقول: لا يتلبث، ولا يحتبس ويطمئن. [قال "أبو عبيدٍ"]: وبعضهم يروى هذا الحديث عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا بهذا الدعاء "لعلي" و"فاطمة" [رضي الله عنهما].

364 - وقال "أبو عبيد" في حديث يروى عن "موسى ابن علي بن رباح" عن "حبان بن أبي جبلة" قال: لا أدري أرفعه أم لا؟ قال: "من دعا دعاء الجاهلية، فهو من جثا جهنم". قال: واحدة الجثا جثوه، وهو -بضم الجم، وهو الشيء المجموع، قال "طرفة [بن العبد] ": ترى جثوتين من ترابٍ عليهما ... صفائح صم من صفيح موصد يصف قبرين. فكأن معنى الحديث أنه من جماعات جهنم، أي من الزمر التي تدخلها.

هذا فيمن قال: "من جثا" فخفف الياء. ومن قال: "جثى جهنم" فشدد الياء، فإنه يريد الذين يجثون على الركب، واحدها جاث، وجمعه جثي -بتشديد الياء- قال الله -عز وجل-: "ثم لنحضرلهم حول جهنم جئيا" وهذا أحب إلي من الأول. 365 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وجد أحدكم طخاءً على قلبه، فليأكل السفرجل".

قال "أبو عبيد": الطخاء: ثقل وغشى [يتجلاه وكل شيء ألبس شيئًا فهو طخاء]. يقال منه: ما في السماء طخاء؛ أي سحاب وظلمة، والطخية: الظلمة، قال "النابغة": فلا تذهب بعقلك طاخيات ... من الخيلاء ليس لهن باب 366 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث ["النبي" -صلى الله عليه وسلم- الذي] يرويه [عنه] " واثلة بن الأسقع" قال: "كنت من أهل الصفة، فدعا "النبي" -صلى الله عليه وسلم-

يومًا بقرص، فكسره في صحفة، ثم صنع فيها ماءً سخنًا وصنع فيها ودكًا، وصنع منه ثريدةً، ثم سغسغها، ثم لبقها، ثم صعبنها" قوله: "لبقها" يعني جمعها بالمقدحة، وهي المغرفة. و"سغسغها": أفرغ عليها زغلةً من سمن، فرواها [بها]، وفرقها فيها. قال: و"صعنبها": يعني رفع رأسها.

367 - وقال "أبو عبيدٍ" في هذا الحديث: "إن الشيطان نشوقًا ولعوقًا ودسامًا". فالدسام: ما سد به الأذن. يقال منه: دسمت الشيء دسمًا: إذا سددته. واللعوق في الفم. والنشوق في الأنف. 368 - وقال "أبو عبيد" في هذا الحديث: أنه قال: "مثل العالم كالحمة يأتيها البعداء، ويتركها القرباء،

فبينما هم كذلك إذ غار ماؤها، فانتفع بها قوم، وبقي قوم يتفكنون" يعني: يتندمون، والتفكن: التندم. 369 - وقال "أبو عبيد" في حديث [النبي صلى الله عليه وسلم] "لو أن أحدهم دعى إلى مرماتين لأجاب، وهو لا يجيب إلى الصلاة". يقال: إن المرماة ما بين ظلفي الشاة.

قال "أبو عبيدٍ": وهذا حرف لا أدري ما وجهه إلا أنه هكذا يفسر -والله أعلم-. وفي بعض الحديث: "لو أن رجلاً ندا الناس إلى مرماتين، أو عرق أجابوه. فمن قال: "ندا" جعله من النادي، وهو المجلس. يقال: ندوت القوم أندوهم. قال "أبو عبيد": وفيها لغة أخرى: "مرماة" [بفتح الميم] 370 - وقال "أبو عبيد" في حديثه [عليه السلام] في خلايا النحل: "أن فيها العشر".

قال: هي المواضع التي يعسل فيها النحل، وهي مثل الراقود ونحوه يعمل لها من طينٍ أو غيره، واحدتها خلية. 371 - وقال "أبو عبيد" في حديثه: [صلى الله عليه وسلم]: "ما تعدون فيكم الصرعة"؟

قال: فالصرعة: الذي يصرع الرجال. 372 - و [قال "أبو عبيدٍ"] في حديث آخر قال: "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى". يقول: إذا وجد الفصيل حر الشمس على الرمضاء. يقول: فصلاة الضحى تلك الساعة.

373 - وقال "أبو عبيد" في حديث آخر: قوله: "فوردناه على جد جدٍ متدمن". قال: قوله: "جدجد" وإنما المعروف من كلامهم الجد، قال "الأعشى": ما جعل الجد الظنون الذي جنـ ... ـــنب صوب اللجب الماطر وكان "الأصمعي" يقول: الجد: البئر الجيدة الموضع من الكلإ.

وأما الجدجد، فإنه عندنا دويبة، وجمعها جداجد. وأما المتدمن: فالماء الذي قد سقطت فيه دمن الإبل والغنم، وهي أبعارها. 374 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديثٍ آخر، قوله: "اللهم إنا نعوذ بك من الألس والألق، والكبر والسخيمة". قوله "الألس": هو اختلاط العقل. يقال منه قد ألس الرجل، فهو مألوس.

وأما "الألق" فإني لا أحسبه أراد إلا الأولق: والأولق: الجنون، وقال "الأعشى": وتصبح عن غب السرى وكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق يصف ناقته، يقول: هي من سرعتها كأنها مجنونة وإن كان أراد الكذب، فهو الولق. ويروى عن "عائشة" أنها كانت تقرأ: "إذ تلقونه بألسنتكم" يقال من هذا: قد ولقت ألق ولقًا. وأما السخيمة" فهي الضغينة والعداوة. 375 - و [قال "أبو عبيدٍ"] في حديث آخر قال: "قاموا صتيتين".

أي جماعتين. يقال: قد صات القوم. مشدد. 376 - و [قال "أبو عبيدٍ"] في حديث آخر: "في الوعثاء". قال: الوعثاء: الأرض ذات الوعث. وقد أوعث القوم [أي] صاروا في الوعث

377 - و [قال "أبو عبيدٍ"] في حديث آخر قال: يقال: "اللهم غبطًا لا هبطًا". قال: يعني نسألك الغبطة، ونعوذ بك أن نهبط عن حالنا. وهو مثل قوله: "الحور بعد الكور". 378 - و [قال "أبو عبيد"] في حديث آخر: "اللهم المم شعثنا". أي اجمع ما تشتت من أمرنا.

يقال لممت الشيء ألمه لما أي جمعته. 379 - [و] قال "أبو عبيد" في حديث آخر، قال: يسلط عليهم موت طاعونٍ ذفيف [يحوف القلوب]. وقوله: "ذفيف": هو المجهز الذي يذفف عليهم، ويقتلهم كما يذفف على الجريح. 380 - [قال "أبو عبيد"]: وحديثه في الرثع". قال: الرثع: الحرص الشديد.

381 - [قال: "أبو عبيدٍ"]: وقوله: "الخريف" إنما سمي الخريف خريفًا؛ لأنه تخترف فيه الثمار. ويقال: أرض مخروفة: أي أصابها مطر الخريف.

382 - وقال ["أبو عبيدٍ"] في حديثه: "أما سمعته من "معاذٍ" يدبره عن رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-]. قال "أبو عبيدٍ": قوله: يدبره؛ أي يحدثه. 383 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تجيء البقرة، وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان

أو غيايتان". قال "الأصمعي": الغيابة كل شيءٍ أظل الإنسان فوق رأسه مثل السحابة، والغبرة، والظل ونحوه. يقال: غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلوه به. قال "الكسائي"، و"أبو عمرو" في الغياية مثله. ولم يذكرا

قوله: غايا بالسيف، قال "لبيد": فتدليت عليه قافلاً ... وعلى الأرض غيايات الطفل 384 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين قال "لعمرو بن العاص": "وأزعب لك زعبةً من المال". قال: حدثنا "سعيد بن عبد الرحمن الجمحي" عن "موسى بن علي بن رباح" عن "أبيه" عن "عمرو بن العاص"، قال: أرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

"أن اجمع عليك سلاحك وثيابك، ثم ائتني، فأتيته، وهو يتوضأ، فقال: "يا عمرو! إني أرسلت إليك لأبعثك في وجه يسلمك الله فيه ويغنمك، وأزعب لك زعبةً من المال". [قال]: فقلت: يا رسول الله! ما كانت هجرتي للمال، وما كانت إلا لله ورسوله. قال: فقال: نعما بالمال الصالح للرجل الصالح".

قال "الأصمعي" قوله: "وأزعب لك زعبةً" أي أعطيك دفعةً من المال. قال: "والزعب هو الدفع". يقال: جاءنا سيل يزعب زعبًا، أي يتدافع. وقال "الأصمعي": يقال: جاءنا سيل يرعب الوادي -بالراء-، أي يملأه. قال ["أبو عبيدٍ"]: وأما الذي في الحديث فبالزاي. قال "أبو عبيد": وقول "الأصمعي" يرعب الوادي [بالراء] ليس من هذا.

385 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أن رجلاً كان واقفًا معه، وهو محرم، فوقصت به ناقته في أخاقيق جرذان فمات".

قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "أبو بشرٍ" عن "سعيد بن جبيرٍ" عن "ابن عباس" أن رجلاً كان واقفًا مع "النبي" -صلى الله عليه وسلم فوقصت به دابته أو راحلته، وهو محرم". فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه، وكفنوه، ولا تخمروا وجهه [ورأسه] فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا". أو قال: ملبدًا. وقال غير "هشيم" فوقصت به ناقته في أخاقيق جرذان. قال: سمعت "المسيب" يذكر هذا الحرف. قال "الأصمعي": إنما هي لخاقيق واحدها لخقوق، وهي شقوق في الأرض.

قال "أبو عبيد": والوقص: كسر العنق. ومنه قيل للرجل: أوقص إذا كان مائل العنق قصيرها. ومن ذلك حديث "علي" [رضي الله عنه] "في القارصة والقامصة والواقصة".

قال: حدثنا "ابن أبي زائدة" عن "مجالد بن سعيد" عن "الشعبي" عن "علي" [رضي الله عنه] أنه قضى في القارصة والقامصة والواقصة بالدية أثلاثًا. قال "ابن أبي زائدة": وتفسيره؛ أن ثلاث جوارٍ كن يلعبن، فركبت إحداهن صاحبتها، فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت، فسقطت الراكبة، فوقصت عنقها، فجعل "علي" [كرم الله وجهة] على القارصة ثلث الدية، وعلى القامصة الثلث، وأسقط الثلث. يقول: لأنه حصة الراكبة، يقول: لأنها أعانت على نفسها. ومنه قولهم، وقصت الشيء، أي كسرته، قال "ابن مقبل" يذكر الناقة: فبعثتها تقص المقاصر بعد ما ... كربت حياة النار للمتنور

قوله: تقص: تكسر وتدق، وواحدة المقاصر مقصرة. قال "أبو زياد" قوله: مقصرة من قصر العشى. قال "أبو عبيد" وهو عندي من اختلاط الظلام. 386 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من صلق أو حلق".

قال "الأصمعي": والصلق بالصاد هو الصوت الشديد. وقال غيره: بالسين، ومنه قوله -تبارك وتعالى-: "سلقوكم بألسنة حدادٍ". وقال "الأعشى": فيهم الخصب، والسماحة والنجد ... ة فيهم، والخاطب السلاق ويروى: المسلاق".

387 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "لاثنى في الصدقة". قال "الأصمعي": هو مقصور -بكسر الثاء-: يعني ألا تؤخذ في السنة مرتين. وقال "الكسائي" في "الثنا": مثله.

قال "أبو عبيدٍ": وقال في ذلك "كعب بن زهير" أو "معن ابن أوس" يذكر امرأته، وكانت لامته في بكرٍ نحره: أفي جنب بكرٍ قطعتني ملامةً ... لعمري لقد كانت ملامتها ثنا يقول: إن هذا ليس بأول لومها. قد فعلته قبل هذا، وهذا ثنىً بعده. 388 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما هو جبرئيل وميكائيل كقولك: عبد الله وعبد الرحمن"

قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "إسماعيل بن رجاء" عن "عمير" مولى "ابن عباس" [عن "ابن عباس"] قال: "إنما هو جبرئيل وميكائيل، كقولك عبد الله وعبد الرحمن". وغير "أبي معاوية" يرفعه، ولم يرفعه. "أبو معاوية". قال "الأصمعي": معنى "إيل" معنى الربوبية، فأضيف "جبر" و"ميكا" إليه. [فقال: جبرئيل وميكائيل].

وقال "أبو عمرو": جبر: هو الرجل: قال "أبو عبيد": فكأن معناه: عبد إيل رجل إيل مضاف إليه. فهذا تأويل قوله: عبد الرحمن وعبد الله. قال: حدثني "عفان بن عبد الوارث" عن "إسحاق بن سويدٍ" عن "يحيى بن يعمر" أنه كان يقروها "جبرإل" ويقول: جبر هو عبد، وإل هو الله. قال: وحدثني "عبد الرحمن بن مهدي" و"الأشجعي" عن "سفيان" عن "ابن أبي نجيح" عن "مجاهد" في قوله: عز ذكره-: "لا يرقبون في مؤمنٍ إلا ولا ذمة". إلا، قال: الله.

قال: وحدثنا "إسماعيل بن مجالدٍ" عن "بيانٍ" عن "الشعبي" في قوله: "لا يرقبون في مؤمنٍ إلا". قال: الإل: إما الله، وإما كذا وكذا، أظنه قال: العهد. قال "أبو عبيد": ويروى عن "ابن إسحاق" أن وفد "بني حنيفة" لما قدموا على "أبي بكرٍ" [رضي الله عنه] بعد مقتل "مسيلمة" ذكر لهم "أبو بكر" قراءة "مسيلمة" فقال: إن هذا الكلام لم يخرج من "إل". قال "أبو عبيد": كأنه يعني الربوبية.

قال: والإل في غير هذين الموضعين القرابة، وأنشد لحسان [ابن ثابت الأنصاري]: لعمرك إن إلك في قريشٍ ... كإل السقب من رأل النعام قال "أبو عبيدٍ": فالإل ثلاثة أشياءٍ: الله -جل ثناؤه-، والعهد، والقرابة. 389 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى أن يضحي بشرقاء أو خرقاء، أو مقابلة،

أو مدابرة، أو جدعاء". قال: حدثناه "أبو بكر بن عياش" عن "أبي إسحاق" عن "شريح بن النعمان" عن "علي بن أبي طالب" [كرم الله وجهه] أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك".

قال "الأصمعي": الشرقاء في الغنم: المشقوقة الأذن باثنين. والخرقاء: أن يكون في الأذن ثقب مستدير. والمقابلة: أن يقطع من مقدم أذنها شيء، ثم يترك معلقًا لايبين، كأنه زنمة. ويقال لمثل ذلك من الإبل المزنم، ويسمى ذلك المعلق الرعل. قال: والمدابرة أن يفعل ذلك بمؤخر الأذن من الشاة. وقال غير "الأصمعي": وكذلك إن بان ذلك من الأذن أيضًا، فهي مقابلة ومدابرة، بعد أن يكون قد قطع. والجدعاء: المجدوعة الأذن .. 390 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا توضأت فأنثر، وإذا استجمرت فأوثر .. ".

قال: حدثناه "عبد الرحمن" عن "سفيان" عن "منصور" عن "هلال بن يسافٍ" عن "سلمة بن قيس" قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك.

قال "الأصمعي": فسر "مالك" قوله: "استجمرت أنه الاستنجاء [بالأحجار] قال: ولم أسمعه من غيره. [قال "أبو عبيد"]: وقال "محمد بن الحسن": هو الاستنجاء [بالحجارة]. وقال "أبو زيد": هو الاستنجاء بالأحجار. وقال "الكسائي" و"أبو عمرو": هو الاستنجاء أيضًا. 391 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- في المرأة: "أنها وضيئة قتين".

قال "الأصمعي": القتين: هي القليلة الطعم. يقال منه: امرأة قتين بينة القتن. "قال أبو زيدٍ": وكذلك الرجل. وقد قتن قتانة. قال "أبو عبيد": قال "الشماخ" يذكر ناقةً: وقد عرقت، مغابنها وجادت ... بدرتها قرى جحن قتين

يعني أنها عرقت، فصار عرقها قرى للقراد. والجحن: السيء الغذاء. والقتين: القليل الطعم. 392 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين بال عليه "الحسن" [رضي الله عنه] فأخذ من حجره فقال: "لا تزرموا ابني".

قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "يونس" عن "الحسن" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى "بالحسن بن علي"، فوضع في حجره، فبال عليه، فأخذ، فقال "لا تزرموا ابني" ثم دعا بماء، فصبه عليه".

قال "الأصمعي": الإزرام: القطع. يقال للرجل إذا قطع بوله: قد أزرمت بولك. وأزرمه غيره: قطعه. وزرم البول نفسه: إذا انقطع. قال "أبو عبيد": قال الشاعر، يقال: إنه "لعدي بن زيدٍ" أو "لسواد بن زيد بن عدي [بن زيد] ". أو كماء المثمود بعد جمامٍ ... زرم الدمع لا يؤوب نزورا فالزرم: القليل المنقطع. والمثمود: الذي قد ثمده الناس: أي ذهبوا به، فلم يبق منه إلا قليل. والجمام: الكثير. قال "أبو عبيدٍ": السنة عندنا أن يغسل بول الجارية. ويصب على بول الغلام [ماء] ما لم يطعم.

يروى ذلك من ثلاثة أوجه عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-

393 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- "أنه أتى بعرقٍ من تمرٍ".

[قال: حدثنا "ابن أبي عدي" عن "أشعث" عن "ابن سيرين" عن "ابن عباس" أن "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أتى بعرق من تمرٍ"]. قال "الأصمعي": أصل العرق السفيفة المنسوجة من الخوص قبل أن يجعل منها زبيل، فسمي الزبيل عرقًا لذلك.

قال: ويقال له العرقة أيضًا. قال: وكذلك كل شيء مصطف مثل الطير إذا صفت في السماء، فهي عرقة. وقال غير "الأصمعي": وكذلك كل شيءٍ مضفورٍ، فهو عرق. قال: وقال "أبو كبيرٍ الهذلي": نغدو فنترك في المزاحف من ثوى ... ونمر في العرقات من لم يقتل يعني نأسرهم، فنشدهم في العرقات، وهي النسوع.

394 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "إن أبغضكم إلى الثرثارون المتفيهقون".

قال: حدثنا "يزيد [بن هارون] عن داود بن أبي هند" عن "مكحولٍ" عن "أبي ثعلبة الخشني" قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون". قال "الأصمعي": أصل الفهق: "الامتلاء، فمعنى المتفيهق: الذي يتوسع في كلامه، ويفهق به فمه، ونحو ذلك، قال "الأعشى": تروح على آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق يعني الامتلاء. وقال غيره: الثرثار: المكثار في الكلام.

وقال "الفراء" مثل قول "الأصمعي" أو نحوه. قال "أبو عبيدٍ": وقد جاء تفسير الحديث فيه، قالوا: يا رسول الله: وما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون". [قال "أبو عبيدٍ": ] وهذا يؤول إلى المعنى الذي فسره "الأصمعي" وغيره؛ لأن ذلك، إنما يكون من التكبر.

395 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- في "مكة": "لا تزول حتى يزول أخشباها". [يروى عن "عباد بن عوام" عن "ابن إسحاق" عن "مجاهد" عن "ابن عمر" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول حتى يزول أخشباها"]. قال "الأصمعي": الأخشب: الجبل.

قال "أبو عبيدٍ": وأراه يعني الغليظ، وأنشد "الأصمعي": تحسب فوق الشول منه أخشبا يعني: البعير، شبه ارتفاعه فوق النوق بالجبل. 396 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" بـ صلى الله عليه وسلم-: "أنه دخل على "عائسة" [-رضي الله عنها-] تبرق أسارير وجهه".

قال: حدثناه "حجاج" عن "ابن جريج" عن "ابن شهاب الزهري" عن "عروة" عن "عائشة" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-. وكان "ابن عيينة" يحدثه عن "الزهري" ولا يذكر أسارير وجهه. قال "أبو عمروٍ": هي الحطوظ التي في الجبهة مثل التكسر فيها، واحدها سرر، وسر. وجمعه أسرار وأسرة.

قال ["أبو عبيدٍ"]: وكذلك الخطوط في كل شيءٍ، قال "عنترة": بزجاجةٍ صفراء ذات أسرة ... قرنت بأزهر في الشمال مفدم ثم الأسارير جمع الجمع. قال "الأصمعي": في الخطوط التي في الكف هي مثلها، قال "الأعشى": فانظر إلى كف وأسرارها ... هل أنت إن أوعدتني ضائري يعني: خطوط باطن الكف.

397 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يحلى بنات فلان -وكن في حجره- رعاثًا من ذهبٍ". قال: حدثناه "صفوان بن عيسى" و"عبد الله بن جعفر" عن "محمد بن عمارة" عن "زينب بنت نبيط" عن "أمها" قالت: "كنت أنا وأختاي في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يحلينا.

قال "ابن جعفرٍ": رعاثًا من ذهبٍ ولؤلؤ. وقال "صفوان": يحلينا التبر واللؤلؤ. قال "أبو عمروٍ": وواحد الرعاث رعثة ورعثة، وهو القرط. [قال]: "والرعث أيضًا في غير هذا: العهن من الصوف.

398 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: في "التحيات لله". قال: حدثنا "هشيم" قال: أخبرنا "حصين" و"مغيرة" و"الأعمش" عن "أبي وائل" عن "عبد الله" قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-] قلنا: السلام على الله، السلام على فلان، السلام على فلان، فقال لنا: قولوا: "التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ... إلى آخر التشهد. فإنكم إذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالحٍ [لله] في السماوات والأرض" ...

قال: "أبو عمرو": التحية: الملك، قال "عمرو بن معد يكرب": أسيرها إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بجند

يعني: على ملكه. وأنشد "لزهير بن جنابٍ الكلبي": ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية يعني: الملك. قال "أبو عبيدٍ: " والتحية في غير هذا السلام. 399 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين رمى المشركين بالتراب، وقال: "شاهت الوجوه".

قال: حدثنا "عبد الواحد بن زيادٍ" عن "الحوت بن حصين" عن "عبد الرحمن بن القاسم". عن "أبيه" عن "عبد الله بن مسعودٍ" أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- رمى المشركين بالتراب، فقال: "شاهت الوجوه، ما فيهم أحد إلا يشكو القذى في عينيه". قال "أبو عمرو": يعني قبحت. يقال منه: شاه وجهه يشوه شوهًا، [وشوهةً]. وشوهه الله فهو مشوه.

ويقال منه: رجل أشوه، وامرأة شوهاء. 400 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أن رجلاً كان في بصره سوء، فمر على بئر عليها خصفة، فوقع فيها، فضحك القوم في الصلاة فأمرهم بإعادة الوضوء والصلاة". قال: حدثنا: "هشيم" قال أخبرنا "خالد" و"هشام بن حسان" أو أحدهما عن "حفصة" عن "أبي العالية" أن رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- كان يصلي. فأقبل رجل في بصره سوء، فمر ببئرٍ عليها خصفة، فوقع فيها، فضحك بعض من كان خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة". قال "أبو عمرو": الخصفة: الجلة التي تعمل من الخوص للتمر، وجمعها خصاف. قال: وقال "الأخطل" يذكر قبيلة من القبائل تبيع بنيها بالخصاف وبالتمر

401 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين تكلم الرجل خلفه في الصلاة. قال الرجل: "فبأبي هو وأمي ما كهرني ولا شتمني". قال: حدثنا: "إسماعيل بن إبراهيم" عن "الحجاج بن أبي عثمان" عن "يحيى بن أبي كثير" عن "هلال بن أبي ميمونة" عن "عطاء بن يسار" عن "معاوية بن الحكم السلمي" قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعطس بعض القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، وجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، قلت: واثكل أمياه مالكم تصمتونني؟ لكني سكت. فلما قضى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] صلاته،

فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله، ولا بعده كان أحسن تعليمًا منه ما ضربني ولا شتمني، ولا كهرني" قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي للتسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن". أو كالذي قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. قال "أبو عمرو": وقوله: "ولا كهرني" الكهر: الانتهار. يقال منه: كهرت الرجل فأنا أكهره كهرًا. وقال "الكسائي": وفي قراءة عبد الله [بن مسعودٍ] ":

"فأما اليتيم فلا تكهر" قال "أبو عبيد": والكهر في غير هذا ارتفاع النهار. ومنه قول "عدي بن زيد": فإذا العانة في كهر الضحى ... [معها أحقب ذو لحمٍ زيم] [العانة: حمر الوحش]. 402 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل نفسًا معاهدةً لم يرح رائحة الجنة".

قال: حدثناه "إسماعيل بن إبراهيم" عن "يونس بن عبيد" عن "الحكم بن الأعرج" عن "الأشعث بن ثرملة" عن "أبي بكرة" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل نفسًا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يجد ريحها". وقال غير "إسماعيل": لم يرح رائحة الجنة".

قال "أبو عمرو" هو من رحت الشيء فأنا أريحه إذا وجدت ريحه. وقال "الكسائي": لم يرح رائحة الجنة. قال هو من [قولك]: أرحت الشيء فأنا أريحه. "الأصمعي": قال: لا أردي هو من رحت أم أرحت. قال "أبو عبيد": وأنا أحسبها من غير هذا كله أراه لم يرح -بالفتح-، قال "أبو كبير الهذلي"، أو غيره: وماءٍ وردت على زورةٍ ... كمشي السبنتي يراح الشفيفا

ويروى على زورة، وزورة أجود، وهي من الازورار. السبنتي: النمر، سمي بذلك لشدته، والشفيف: الريح الباردة. وقوله: يراح: يجد الريح فهذا يبين لك أنه من رحت أراح، فيقال منه: لم يرح رائحة الجنة. 403 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تميلها الريح مرة هكذا، ومرة هكذا ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية على الأرض حتىي كون انجعافها مرة".

قال: حدثناه "عبد الرحمن بن مهدي" عن "سفيان" عن "سعيد بن إبراهيم" عن "ابن كعب بن مالك" عن "أبيه" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ذلك. قال "عبد الرحمن" انجعافها أو انخعافها. [قال "أبو عبيدٍ": ليس انخعافها بشيءٍ].

قال "أبو عمرو": هي الأرزة -مفتوحة الراء- من الشجر الأرزن. والانجعاف: الانقلاع. ومنه قل: جعفت الرجل: إذا صرعته، فضربت به الأرض، ولم يعرفها بالخاء -يعني انخعافها. وقال "أبو عبيدة": هي الآرزة مثال فاعلة، وهي الثابتة في الأرض. قال: وقد أرزت تأرز [أروزًا]. والمجذية: الثابتة في الأرض أيضًا. قال "أبو عبيدة": فيها لغتان، يقال: جذت تجذو، وأجذت تجذي.

وقال "أبو عبيدة" في الانجعاف مثل قول "أبي عمرو" أيضًا. قال "أبو عبيدٍ": والأرزة عندي غير ما قال "أبو عمرو" و"أبو عبيدة" إنما هي "الأرزة" -بتسكين الراء- وهو شجر معروف بالشام، وقد رأيته. يقال له الأرز واحدتها أرزة، وهو الذي يسمى "بالعراق" الصنوبر، وإنما الصنوبر ثمر الأرز، فسمي الشجر صنوبرًا من أجل ثمره. والخامة: الغضة الرطبة، قال الشاعر: إنما نحن مثل خامة زرع ... فمتى يأن يأت محتصده قال "أبو عبيدٍ" والمعنى -فيما نرى- أنه شبه المؤمن بالخامة

التي تميلها الريح؛ لأنه مرزًا في نفسه، وأهله وولده وماله. وأما الكافر، فمثل الأرزة التي لا تميلها الرياح، والكافر لا يرزأ شيئًا حتى يموت، [فإن رزئ لم يؤجر عليه] فشبه موته بانجعاف تلك، حتى يلقى الله بذنوبه، وهي جمة. 404 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه قال للنساء: "إنكن إذا جعتن دقعتن، وإذا شبعتن خجلتن". قال "أبو عمرو": الدقع: الخضوع في طلب الحاجة والحرص عليها. والخجل: الكسل والتواني في طلب الرزق.

وقال غيره: أخذ الدقع من الدقعاء، وهو التراب، يعني أنهن يلصقن بالأرض من الخضوع. والخجل مأخوذ من الإنسان يبقى ساكنًا لا يتحرك، ولا يتكلم. ومنه قيل للإنسان: قد خجل إذا بقى كذلك. [قال أبو عبيدٍ]: قال "الكميت": ولم يدقعوا عندما نابهم ... لوقع الحروب، ولم يخجلوا يقول: لم يخضعوا للحروب، ولم يستكينوا، ولم يخجلوا: أي لم يبقوا فيها باهتين كالإنسان المتحير الدهش، ولكنهم جدوا فيها، وتأهبوا [لها].

وقال غيره: لم يخجلوا: يبطروا، ولم يأشروا. وذلك معنى حديث. النبي [صلى الله عليه وسلم]: إذا شبعتن خجلتن: أي أشرتن وبطرتن. قال "أبو عبيدٍ": وهذا أشبه الوجهين بالصواب. قال ["أبو عبيدٍ"]: وأما حديث "أبي هريرة": "أن رجلا مر بوادٍ خجل مغن معشبٍ" فليس من هذا، ولكنه الكثير النبات الملتف. 405 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يتخولهم بالموعظة مخافة السآمة عليهم".

قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "أبي وائل" عن "عبد الله" قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا". قال "أبو عمرو": يتخولهم: أي يتعهدهم بها، والخائل: المتعهد للشيء، والمصلح له، والقائم به. قال "أبو عبيدٍ": و"أهل الشام" يمسون القائم بأمر الغنم والمتعهد لها الخولي.

ولم يعرفها "الأصمعي" وقال: أظنها بالنون: "يتخونهم" قال: وهو التعهد أيضًا، قال: ومنه قول "ذي الرمة": لا ينعش الطرف إلا ما تخونه ... داعٍ يناديه باسم الماء مبغوم [قوله تخونه] يعني تعهده. وقال "الفراء": الخائل: الراعي للشيء والحافظ له. وقد خال يخول خولاً. قال "أبو عبيدٍ": وأخبرني "يحيى بن سعيدٍ [القطان] " عن "أبي عمرو بن العلاء" أنه كان يقول [إنما هو] يتخولهم بالموعظة: أي ينظر حالاتهم التي ينشطون فيها للموعظة والذكر، فيعظهم فيها، ولا يكثر عليهم فيملوا.

406 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان إذا مشى كأنما يمشي في صببٍ".

قال: حدثنا "أبو إسماعيل المؤدب" عن "عمر" مولى "غفرة" عن "إبراهيم بن محمد بن الحنفية" قال: كان "علي" [رضي الله عنه] إذا وصف "النبي" -صلى الله عليه وسلم- ذكر كذا وكذا، ثم ذكر هذا الكلام فيه". قال "أبو عمرو": الصبب: ما انحدر من الأرض، وجمعه أصباب، قال رؤبة [بن العجاج]: بل بلدٍ ذي صعدٍ وأصبابٍ بل في معنى رب. 407 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "يجيء كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا أقرع".

قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفر" عن "عبد الله بن دينار" عن "ابن عمر" [عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-]. قال: وحدثنا "هاشم بن القسم" عن "عبد العزيز ابن عبد الله بن أبي سلمة" عن "عبد الله بن دينار" عن "ابن عمر" عن "النبي" [صلى الله عليه وسلم] قال يجيء كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا".

وفي أحد الحديثين "أقرع". قال "أبو عمرو": هو ههنا الذي لا شعر على رأسه. وقال غير "أبي عمرو": الشجاع: الحية، وإنما سمي [شجاعًا] أقرع؛ لأنه يقري السم ويجمعه في رأسه حتى يتمعط منه شعره، قال الشاعر يذكر حية ذكرًا: قرى السم حتى انماز فروة رأسه ... عن العظم صل فاتك اللسع مارده وفي حديث آخر: "شجاعًا أقرع له زبيبتان".

وهما النكتتان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. ويقال في الزبيبتين: إنهما الزبدتان اللتان تكونان في الشدقين. إذا غضب الإنسان، أو أكثر من الكلام حتى يزبد. قال [أبو عبيدٍ] وحدثني شيخ من أهل العلم عن "أم غيلان بنت جرير بن الخطفي" أنها قالت: ربما أنشدت أبي حتى يذبب شدقاي، قال الراجز: إني إذا مازبب الأشداق وكثر الضجاج واللقلاق ثبت الجنان مرجم وداق

اللقلاق: الصوت. قال "أبو عبيدٍ": وهذا التفسير عندنا أجود من الأول. قال "أبو عمرو": وأما قولهم: ألف أقرع، فهو التام. 408 - وقال أبو عبيدٍ في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: أنه أمر بصدقةٍ أن توضع في الأوفاض".

قال "أبو عمرو": الأوفاض: [هم] الفرق من الناس والأخلاط. وقال "الفراء": [الأوفاض]: هم الذين مع كل واحد منهم وفضة، وهي مثل الكنانة يلقي فيها طعامه. قال "أبو عبيدٍ": وبلغني عن "شريك" وهو [الذي] روى هذا الحديث، أنه قال: هم أهل الصفة.

قال "أبو عبيدٍ": وهذا كله عندنا واحد؛ لأن أهل الصفة إنما كانوا أخلاطًا من الناس من قبائل شتى. وقد يمكن أن يكون مع كل واحد منهم وفضة كما قال "الفراء". وقال بعضهم: "الأوقاص" وهو عندنا خطأ في هذا الموضع إلا في الفرائض. 409 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: في الشهداء. قال: ومنهم أن تموت المرأة بجمعٍ".

قال "أبو زيد": يعني أن تموت، وفي بطنها ولد. وقال "الكسائي"، مثل ذلك. قال: ويقال أيضًا: بجمع لم يقله إلا "الكسائي". وقال غيرهما: وقد يكون التي تموت بجمعٍ أن تموت، ولم يمسسها رجل لحديث آخر يروى مرفوعًا: "أيما امرأةٍ ماتت بجمع لم تطمث، دخلت الجنة".

قال: حدثناه رجل من "أهل الكوفة" عن "عبد الله بن المبارك" عن "الحكم بن هشام الثقفي" عن "غطيف بن أبي سفيان" عن "النبي" [صلى الله عليه وسلم] أنه قال ذلك. قال "أبو عبيد" قوله: "لم تطمث" لم تمسس. وهكذا هو في تفسير قوله: "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان". وقال الشاعر يذكر ماءً ورده: وردناه في مجرى سهيلٍ يمانيًا ... بصعر البرى من بين جمعٍ وخادج فالجمع: الناقة التي في بطنها ولد. والخادج: التي قد ألقت ولدها.

410 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحد من الناس عرضت عليه الإسلام إلا كانت له عنده كبوة غير "أبي بكرٍ" فإنه لم يتلعثم". قال "أبو زيد": يقول: لم ينتظر ولم يتمكث. يقال: تلعثم الرجل: إذا تمكث في الأمر، وتأنى، وتردد فيه. وقوله: "كبوة" عن غير "أبي زيدٍ" هي مثل الوقفة تكون عند الشيء يكرهه الإنسان يدعى إليه أو يراد منه.

ومنه قيل: قد كبا الزند، فهو يكبو إذا لم يخرج شيئًا. والكبوة في غير هذا السقوط للوجه، قال "أبو ذويب" يصف ثورًا رمى فسقط: فكبا كما يكبو فنيق تارز ... بالخبت إلا أنه هو أبرع ويروى "أضلع". 411 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه خطب الناس يوم النحر، وهو على ناقةٍ مخضرمة".

قال: حدثناه "غندر" محمد بن جعفر، عن "شعبة" عن "عمرو ابن مرة" عن "مرة" عن رجل من أصحاب "النبي". -صلى الله عليه وسلم-. قال "أبو عبيدة": المخضرمة: التي [قد] قطع طرف أذنها. ومنه يقال للمرأة المخفوضة: مخضرمة.

412 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يلطح أغيلمة بني عبد المطلب ليلةً المزدلفة، ويقول: أبيني لا ترموا جمرةً العقبة حتى تطلع الشمس".

قال: حدثنا "عبد الرحمن بن مهدي" عن "سفيان" عن "سلمة بن كهيل" عن "الحسن العرني" عن "ابن عباس" قال: بعثنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أغيلمة بني عبد المطلب من جمع بليلٍ، ثم جعل -صلى الله عليه وسلم- يلطح أفخاذنا، ويقول: أبيني! لا ترموا جمرةً العقبة حتى تطلع الشمس". قال "أبو عبيدة": اللطح الضرب. يقال منه: لطحت الرجل بالأرض. قال غير "أبي عبيدة": هو الضرب ليس بالشديد ببطن الكف ونحوه.

قال "أبو عبيدٍ": وقوله: أبيني! تصغير بني، يريد: يا بني، قال الشاعر: إن يك لا ساء فقد ساءني ... ترك أبينيك إلى غير راع 413 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "في السقط يظل محبنطيًا على باب الجنة".

قال "أبو عبيدة": المحبنطي بغير همز هو المتغضب المستبطي للشيء، والمحبنطي بالهمز: العظيم البطن المنتفح. قال: ومنه قيل للعظيم البطن: حبنطي. قال ["أبو عبيدٍ"]: وسألت "الأصمعي" عنه فلم يقل فيه شيئًا. وقال: السقط والسقط لغنان. وعن "أبي عبيدة": سقط، وسقط، وسقط، وكذلك في الرمل والنار.

قال "أبو عبيد": ولم أعلم أحدًا يقول بالفتح غيره. وزعم "الكسائي" أن احبنطيت واحبنطأت لغتان. 414 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم".

قال: حدثناه "غندر" عن "شعبة" عن "عمرو بن مرة" عن "أبي البختري" ... قال: حدثني من سمع النبي -صلى الله عليه وسلم. يقول: "لا يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم". قال "أبو عبيدة" يقول: حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم. وفيه لغتان، يقال: أعذر الرجل إعذارًا: إذا صار ذا عيب وفسادٍ، وكان بعضهم يقول: عذر يعذر بمعناه، ولم يعرفه "الأصمعي". قال "أبو عبيدٍ": ولا أرى هذا أخذ إلا من العذر يعني [أن] يعذروا من أنفسهم، فيستوجبوا العقوبة، فيكون لمن يعذبهم [إذاً الحجة و] العذر في ذلك.

وهو كالحديث الآخر: "لن يهلك الله إلا هالك". قال: "أبو عبيد": ومنه قول "الأخطل": فإن تك حرب ابنى نزار تواضعت فقد عذرتنا في كلابٍ وفي كعب ويروى: "أعذرتنا" أي فقد جعلت لنا عذرا فيما صنعنا. ومنه قول الناس: من يعذرني من فلان". قال "أبو عبيد" ومنه قولهم: عذير الحى من عدوا ... ن كانوا حية الأرض

ومنه قولهم: عذيرك من خليلك من مراد [قال "أبو عبيد"]: ويقال في غير هذا المعنى: أعذرت في طلب الحاجة: إذا بالغت فيها. وعذرت: إذا لم تبالغ. وأعذرت الغلاموعذرته لغتان، ومعناهما الختان. وعذرته: إّا كانت به العذرة، وهو وجع في الحلق فغمزته. 415 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم -: "أنه قام من الليل يصلى فحل شناق القربة".

قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "حصين" عن "حبيب ابن أبي ثابت"، عن "محمد بن علي بن عبد الله بن عباس" عن "أبيه" عن "ابن عباس" قال: "بت عند النبي -صلى الله عليه وسلم-[قال]: فقام من الليل يصلي، ثم ذكر هذا في حديث فيه طول. قال "أبو عبيدة": "شناق القربة": هو الخيط أو السير الذي تعلق به القربة على الوتر.

يقال منه: أشنقتها إشناقًا: إذا علقتها. وقال غيره: الشناق: خيط يشد به فم القربة. قال "أبو عبيدٍ": هذا أشبه القولين. قال "أبو عبيدٍ": ويقال أيضًا: أشنفت الناقة مثله، وذلك إذا مدها راكبها بزمامها إليه كما يكبح الفرس [باللجام]. قال: وقال "أبو زيدٍ" شنقت الناقة -بغير ألفٍ- أشنقها شنقًا. 416 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-:

"اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ، ثم أعرض وأشاح". قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "خيثمة" عن "عدي بن حاتم" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-.

قال "أبو عبيدة": قوله: وأشاح، يعني حذر من الشيء، وعدل عنه، وأنشدنا: [إذا سمعن الرز من رباح] شايحن منه أيما شياح ويقال، في غير هذا: قد أشاح: إذا جد في قتالٍ أو غيره. قال "أبو عبيدٍ" قال "أبو النجم" في الجد يذكر العير والأتن: قبا أطاعت راعيًا مشيحا لا منفشًا رعيًا ولا مريحًا

يقول: إنه جاد في طلبها وطردها. والمنفش الذي يدعها ترعى ليلاً بغير راع، يقول: فليس هذا الحمار كذاك، ولكنه حافظ لها، قال "عبيد بن الأبرص": قطعته غدوةً مشيحا ... وصاحي بازل خبوب يعني جادًا. وأنشد "أبو عبيدة" ["لأبي ذؤيب"]: بدرت إلى أولاهم فوزعتهم ... وشايحت قبل اليوم إنك شيح يعني الجد في القتال. قال "أبو عبيدٍ": وقد يكون معنى حديث النبي -صلى الله عليه

وسلم- حين أعرض وأشاح أنه الحذر كأنه كان ينظر إلى النار حين ذكرها، فأعرض لذلك. ويكون أنه أراد الجد في كلامه. والأول أشبه بالمعنى. 417 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أتاه "عمر" وعنده قبص من الناس. قال "أبو عبيدة" هم العدد الكثير قال "أبو عبيد" وقال "الكميت" في القبص: لكم مسجدا الله المزوران والحصا ... لكم قبصه من بين أثرى وأقترا

يقال: فعل ذاك فلان من بين أثرى وأقل؛ أي من بين كل مثرٍ ومقل. كأنه يقول: من بين الناس. قال "أبو عبيدٍ": القبصة في غير هذا بأطراف الأصابع دون القبضة والقبضة بالكف كلها. قال "أبو عبيدٍ": وكان "الحسن" يقرأ: "فقبصت قبصةً من أثر الرسول" -بالصاد. 418 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله كذا وكذا مرة".

قد سماه في الحديث. قال "أبو عبيدة": يعني أنه يتغشى القلب ما يلبسه. وقال غير "أبي عبيدة": كأنه يعني من السهو. وكذلك كل شيء تغشاه حتى يلبسه فقد غين عليه. قال "الأصمعي": يقال: غينت السماء غينًا [وغانت]. قال: وهو إطباق الغيم السماء، وأنشدنا هو أو غيره: كأني بين خافيتي عقاب ... أصاب حمامةً في يومٍ غين

419 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم -: "الأنصار كرشى وعيبتي، ولولا الهجرة لكنت رجلا من الأنصار" قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفر" عن "حميد" عن "أنس" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم -. قال "أبو زيد الأنصارى" يقال: عليه كرش من الناس يعنى جماعة [من الناس].

وقال غيره: فكأنه أراد أنهم جماعتى وصحابتى الذين أثق بهم، وأعتمد عليهم. وقال "الأحمر": يقال: هم كرش منثورة. وقال غير واحد: "عيبتى" عيبة [270] الرجل: موضع سره الذين يأتمنهم على أمره. قال "أبو عبيد": ومنه الحديث الآخر: "كانت خزاعة عيبة "النبي" - صلى الله عليه وسلم - مؤمنهم وكافرهم" وذلك لحلف كان بينهم في الجاهلية. قال "أبو عبيد" ولا أرى عيبة الثياب إلا مأخوذة من هذا؛ لأنه

إنما يضع فيها الرجل حر ثيابه، وخير متاعه، وأنفسه عنده. 420 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم".

قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفر" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة". وعن "العلاء بن عبد الرحمن" عن "أبيه" عن "أبي هريرة". أو بأحد هذين الإسنادين عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-. قال "الكسائي": قوله: "بيد" يعني: غير أنا أوتينا الكتاب من بعدهم. فمعنى "بيد" معنى "غير" بعينها. وقال "الأموي": "بيد" معناها "على"، وأنشدنا لرجل يخاطب امرأة: عمدًا فعلت ذاك بيد أني إخال لو هلكت لم ترني

يعني من الرنين يقول: على أني إخال ذاك. [قال "أبو عبيدٍ"]: وفيه لغة أخرى: "ميد" بالميم، والعرب تفعل هذا، تدخل الميم على الباء، والباء على الميم كقولك: أغمطت عليه الحمى وأغبطت. وقولهم: سبد رأسه وسمده، وهذا كثير في الكلام. وأخبرني بعض الشاميين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

"أنا أفصح العرب ميد أني من "قريش" ونشأت في "بني سعد ابن بكر". وفسره: أي من أجل. وبعض المحدثين يحدثه بأيدٍ أنا أعطينا الكتاب من بعدهم يذهب [به] إلى القوة، وليس له ها هنا معنى نعرفه. قال "أبو عبيد": وهذه الأقوال كلها بعضها قريب من بعض في المعنى مثل "غير" و"على". 421 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "من اطلع في بيتٍ بغير إذنٍ، فقد دمر".

قا: حدثناه "هشيم" عن "عوف" عن "الحسن" قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد دمر". قال "الكسائي": قوله: "دمر" يعنى دخل. يقول: لأن الاستئذان إنما هو من البصر. يقال منه: قد دمرت على القوم أدمر [عليهم] دمورا. قال: "أبو عبيد": ولا يكون الدمور إلا أن يدخل عليهم بغير إذن، فإن دخل بإذن فليس بدمور.

422 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم -: "من تعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا" قال: حدثناه "مروان بن معاوية [الفزارى"] عن "عوف" عن "الحسن" عن "عتى بن ضمرة السعدى" عن "أبى بن كعب" أنه سمع رجلا قال: يال فلان: ! فقال له: إعضض بهن أبيك، ولم يكن.

فقالوا له: يا أبا المنذر: ما كنت فحاشًا، فقال: إني سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: "من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا". قال "الكسائي": قوله: "تعزى يعني: انتسب، وانتمى كقولهم: يال فلانٍ ويال بني فلانٍ، قال "الراعي": فلما التقت فرساننا ورجالهم ... دعوا يال كلبٍ واعتزينا لعامر وقال "بشر بن أبي خازم [الأسدي] ": نعلو القوانس بالسيوف ونعتزي ... والخيل مشعرة النحور من الدم

يقال منه: عزوت الرجل وعزيته: إذا نسبته، وكذلك كل شيء نسبته إلى شيء، فهو مثله، وإن كان في غير الناس. قال "أبو عبيدٍ": وأخبرني "يحيى بن سعيد" عن "ابن جريج" أن "عطاء" حدثه بحديث. قال: فقلت "لعطاء" أتعزيه إلى أحدٍ، يعني: أتسنده إليه، وهو مثل النسبة. ومن هذا قوله: من لم يتعز بعزاء الله، فليس منا. يقول: من استغاث، فقال: يا للمسلمين، فهذا عزاء الإسلام. [قال]: ويقال: كنيت الرجل وكنوته لغتان. قال: وسمعت من "أبي زياد" ينشد "الكسائي": وإني لأكنو عن قذور بغيرها ... وأعرب أحيانًا بها فأصارح

423 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه سقط من فرس فجحش شقه".

قال: حدثناه "هشيم" عن "حميد" عن "أنس بن مالك" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-. قال "الكسائي": في جحش: هو أ، يصيبه شيء، فينسحج منه جلده، وهو كالخدش أو اكثر من ذلك. يقال منه: جحش يجحش، فهو مجحوش. 424 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه قال "لبلالٍ" يا بلال! ما عملك؟ فإني لا أراني أدخل الجنة،

فأسمع الخشفة، فأنظر إلا رأيتك". قال: حدثناه "جرير" عن "مغيرة" و"ابن شبرمة" عن "الحارث" عن "أبي زرعة بن عمرو بن جرير" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-.

قال "الكسائي": الخشفة: الصوت. قال "أبو عبيدٍ": أحسبه يعني ليس بالصوت الشديد. قال "الكسائي": يقال منه: قد خشف يخشف خشفًا: إذا سمعت له صوتًا أو حركةً. 425 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل عليين، كما ترون الكوكب الدري

في أفق السماء، وإن "أبا بكرٍ" و"عمر" منهم، وأنعما". قال: حدثناه "أبو إسماعيل" قال: حدثنا "عطية العوفي" عن "أبي سعيدٍ الخدري" وعن "مجالدٍ" عن "أبي الوداك" عن "أبي سعيد الخدري" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم. قال "الكسائي" قوله: "وأنعما" يعني: زادا على ذلك. قال: يقال من هذا: قد أحسنت إلي، وأنعمت أي زدت علي الإحسان. وكذلك قولهم دققت الدواء، فأنعمت دقه، أي بالغت في دقه وزدت.

قال "أبو عبيدٍ": وقال "ورقة بن نوفل" في "زيد بن عمرو ابن نفيل". رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا قال "أبو عبيدٍ": ورشدت أيضًا. قال: وقرأ "أبو عمروٍ" و"الكسائي" "درئ كسرًا وهمزًا" و"أهل المدينة" ضموا بغير همزٍ، وأما قراءة "حمزة" فبالضم والهمز.

426 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: حين قال "للمغيرة بن شعبة" وخطب امرأةً: "لو نظرت إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما".

قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "عاصم" عن "بكر بن عبد الله" عن "المغيرة بن شعبة" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-. قال "الكسائي": قوله: "يؤدم" يعني أن تكون بينهما المحبة والاتفاق. يقال منه: أدم الله بينهما على مثال فعل يأدمه أدمًا. وقال "أبو الجراح العقيلي" مثله. قال "أبو عبيدٍ": ولا أرى أصل هذا إلا من أدم الطعام؛ لأن صلاحه وطيبه إنما يكون بالإدم، وكذلك يقال طعام مأدوم.

قال: وأخبرني "يحيى بن سعيد" عن "عوفٍ" عن "ابن سيرين" في إطعام كفارة اليمين "أكلة مأدومة حتى يصدروا". قال: وحدثني بعض أهل العلم أن "دريد بن الصمة" أراد أن يطلق امرأته. فقالت: أبا فلانٍ! أتطلقني؟ فوالله لقد أطعمتك مأدومي، وأبثثتك مكتومي، وأتيتك باهلاً غير ذات صرار". فالباهل: الناقة التي ليست بمصرورة فلبنها مباح لمن حلب، فجلعت هذا مثلاً لمالها، تقول: فأبحتك مالي. قال "أبو عبيد": وفي الأدم لغة أخرى، يقال: آدم الله

بينهما يودمه إيدامًا فهو مؤدم بينهما، وقال الشاعر: والبيض لا يؤدمن إلا مودمًا أي لا يحببن إلا محببًا موضعًا لذلك. 427 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "البذاذة من الإيمان".

قال: حدثناه "يزيد" عن "محمد بن عمرو" عن "عبد الله بن أبي أمامة" يرفعه. قال "الكسائي": هو أن يكون الرجل متقهلاً رث الهيئة. يقال منه: رجل باذ الهيئة، أي في هيئته بذاذاة وبذة. ومنه الحديث الآخر. قال: حدثنيه "يحيى بن سعيدٍ" عن "ابن عجلان" عن "عياض ابن عبد الله بن سعد بن أبي سرح" عن "أبي سعيد الخدري" أن رجلاً دخل المسجد والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فأمره أن يصلي ركعتين، ثم قال: إن هذا دخل المسجد في هيئة بذةٍ، فأمرته أني يصلي ركعتين وأنا أريد أن يفطن له رجل فيتصدق عليه.

قال: وسمعت "ابن علية" يحدث عن "الجريري" قال: حدثت أن "أبا الدرداء" ترك الغزو عامًا، فأعطى رجلاً صرةً فيها دراهم، فقال: انطلق، فإذا رأيت رجلاً يسير من القوم حجرةً في هيئته بذاذة، فادفعها إليه. قال: ففعل، فرفع رأسه إلى السماء فقال: لم تنس "حديرًا"، فاجعل "حديرًا" لا ينساك. قال: فرجع إلى "أبي الدرداء" فأخبره، فقال: "ولي النعمة ربها". 428 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- "أن رجلاً أتاه الله مالاً، فلم يبتئر خيرًا".

قال: حدثناه "إسماعيل" وغيره عن "بهز بن حكيم" عن "أبيه" عن "جده" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم -: قال "الكسائي" في قوله: "لم يبتئر خيرا" يعنى لم يقدم خيرا. وقال "الأصمعى" نحوا من ذلك. وقال "الأموى": هو من الشئٍ يخبأ، كأنه لم يقدم لنفسه خيرا خبأه لها. يقال منه: بأرت الشيء، وابتأرته: إذا خبأته مثله. قال "الأموى": ومنه سميت الحفرة: البؤرة.

قال "أبو عبيد" وفى الابتئار لغتان: ابتأرت الشئ [275] وأتبرته ائتبارا وابتئارا، قال "القطامى": فإن لم تأتبر رشدا قريش ... فليس لسائر الناس ائتبار يعنى اصطناع الخير، وتقديمه، واتخاذه 429 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أمر أن تحفى الشوارب، وتعفى اللحى".

قال: حدثناه "هشيم" عن "عمر بن أبي سلمة؛ عن "أبيه" عن "أبي هريرة" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-. قال "الكسائي" قوله: تعفى: يعني توفر، وتكثر. قال "أبو عبيدٍ": يقال منه: قد عفا الشعر وغيره: إذا كثر يعفو، فهو عافٍ. وقد عفوته وأعفيته لغتان: إذا فعلت ذاك به، قال الله -تبارك وتعالى- "حتى عفوا"، [وقالوا] يعني كثروا.

ويقال في غير هذا: قد عفا الشيء: إذا درس، وانمحى، قال "لبيد [بن ربيعة] ": عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها [وهذا كثير في الشعر]. وعفا أيضًا: إذا أتى الرجل الرجل يطلبه حاجةً: فقد عفاه، فهو يعفوه وهو عافٍ. ومنه الحديث المرفوع: "من أحيا أرضًا ميتة، فهي له وما أصابت العافية منها، فهو له صدقة".

فالعافية ها هنا كل طالب رزقًا من إنسانٍ، أو دابةٍ أو طائر، أو غير ذلك. وجمع العافي عفاة، قال "الأعشى" يمدح رجلاً: تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن ويروى: "تطيف" [أيضًا] والمعتفي مثل العافي إنما هو مفتعل منه. 430 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى أن يصلي الرجل وهو زناء" محدود.

قال: حدثناه "أبو اليمان الحمصي" عن "أبي بكر بن أبي مريم" عن رجل قد سماه عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ذلك. قال "الكسائي": هو الحاقن بوله. يقال منه: قد زنأ بوله يزنأ زنوءا: إذا احتقن. وأزنأ الرجل بوله إزناءً: إذا حقنه. قال "أبو عبيدٍ": فهو الزناء ممدودًا. والأصل منه الضيق، وكل شيء ضيق قهو زناء، قال "الأخطل" يذكر حفرة القبر: وإذا قذفت إلى زناءٍ قعرها ... غبراء مظلمة من الأحفار

فكأنه إنما سمي الحاقن زناءً؛ لأن البول يجتمع، فيضيق عليه: 431 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: في الرجلين اللذين اختصما إليه، فقال: من قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعةً من النار.

فقال الرجلان كل واحد منهما يا رسول الله! حقي هذا لصاحبي. فقال: لا. ولكن اذهبا، فتوخيا، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه". قال: حدثناه "صفوان بن عيسى" عن "أسامة بن زيد" عن "عبد الله بن رافع" عن "أم سلمة" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم: قال "الكسائي": الاستهام: الاقتراع. يقال [منه]: استهم القوم، فسهمهم فلان يسهمهم سهمًا: إذا قرعهم. [و] قال "أبو الجراح العقيلي" مثله في الاستهام.

قال "أبو عبيدٍ": ومنه قول الله -جل ثناؤه-: "فساهم فكان من المدحضين" وهو من هذا فيما يروى في التفسير. وفي هذا الحديث من الفقه تقوية لحديث القرعة في الذي أعتق ستة مملوكين عند الموت لا مال له غيرهم، فأقرع النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم فأعتق اثنين، وأرق أربعةً وذلك؛ لأن الاستهام هو الاقتراع.

وفي هذا الحديث أيضًا قوله: "من قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعةً من النار. فهذا يبين لك أن حكم الحاكم لا يحل حرامًا. وهذا مثل حكمه في "عبد بن زمعة" حين قضى أنه أخوها؛ لأن الولد للفراش، ثم أمرها أن تحتجب عنه. 432 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-. "لا تبادروني بالركوع والسجود، فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا رفعت.

ومهما أسبقكم به إذا سجدت تدركوني إذا رفعت؛ إني قد بدنت. قال "أبو عبيدٍ": وهذا الحديث حدثني به "يحيى بن سعيد القطان" عن "ابن عجلان" عن "محمد بن يحيى بن حبان" عن "ابن محيريز" عن "معاوية" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-

قال: وحدثناه "هشيم" عن "يحيى بن سعيد" عن "محمد ابن يحيى" يرفعه. قال "هشيم" "بدنت" ولا أدري كيف قال "يحيى"؟ قال "الأموي": هو [قد] بدنت يعني كبرت، أسننت. يقال: بدن الرجل تبدينًا: إذا أسن، وأنشد [للكميت]: وكنت خلت الشيب والتبدينا والهم مما يذهل القرينا قال "أبو عبيدٍ": ومما يحقق هذا المعنى الحديث الآخر: "أنه كان يصلي بعض صلاته [بالليل] جالسًا، وذلك بعد ما حطمته السن

وفي حديث آخر بعد ما حطمتموه. وهذا يروى عن "عائشة" في "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: قال "أبو عبيدٍ": وأما قول "هشيم" قد بدنت، فليس لهذا معنىً غلا كثرة اللحم، وليست صفته [صلى الله عليه وسلم] فيما يروى عنه هكذا. إنما يقال في نعته: رجل بين الرجلين جسمه ولحمه. قال: هكذا حدثني "الفزاري" عن "عوفٍ" عن "يزيد الفارسي" عن "ابن عباس".

قال "أبو عبيدٍ": والأول أشبه بالصواب [في بدنت] والله أعلم. 433 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "سوآء ولود خير من حسناء عقيم". قال "الأموي": السوآء: القبيحة. ويقال: للرجل من ذلك: رجل أسوأ. وقال "الأصمعي" في السوآء مثله.

قال "أبو عبيدٍ": وكذلك كل كلمةٍ أو فعلةٍ قبيحةٍ، فهي سوآء. قال "أبو زبيدٍ" في رجل من "طيئٍ" نزل به رجل من "بني شيبان" فأضافه الطائي، وأحسن إليه، وسقاه، فلما أسرع الشراب في "الطائي" افتخر، ومد يده، فوثب عليه "الشيباني" فقطع يده، فقال ["أبو زبيد"]: ظل ضيفًا أخوكم لأخينا ... في شرابٍ ونعمةٍ وشواء لم يهب حرمة النديم وحقت ... يا لقومي للسوءة السوآء قال "أبو عبيدٍ" يخاطب بذلك "بني شيبان".

434 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-، وذكر أهل الجنة، فقال: "لا يتغوطون، ولا يبولون إنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل ريح المسك".

قال "الأموي": واحد الأعراض عرض، وهو كل موضعٍ يعرق من الجسد. يقال منه: فلان طيب العرض". [وقال "الأصمعي" يقال: فلان طيب العرض] أي طيب الريح. قال "أبو عبيدٍ": المعنى في العرض هاهنا أنه كل شيءٍ في الجسد من المغابن، وهي الأعراض، وليس العرض في النسب من هذا في شيءٍ.

435 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن عسب الفحل".

قال "الأموي": العسب: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل. يقال منه: عسبت الرجل أعسبه عسبًا: إذا أعطيته الكراء على ذلك. وقال غيره: العسب هو الضراب نفسه لقول الشاعر، وذكر قومًا أسروا له عبدًا فرماهم به: فلولا عسبه لتركتموه ... وشر منيحةٍ عسب معار

قال "أبو عبيدٍ": والوجه عندي ما قال "الأموي" أنه الكراء. ولو كان المعنى على الضراب نفسه، لدخل النهي على كل من أنزى فحلاً، وفي هذا انقطاع النسل. وأما قول الشاعر، فقد يجوز؛ لأن العرب قد تسمي الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه كما قالوا للمزادة راوية، وإنما الراوية البعير الذي يستقى عليه، فسميت المزادة راويةً؛ لأنها تكون عليه. وكذلك الغائط من الإنسان. كان "الكسائي" يقول: إنما سمي غائطًا؛ لأن أحدهم كان إذا أراد قضاء الحاجة، قال: حتى آتي الغائط، فأقضي حاجتي، وإنما أصل الغائط المطمئن من الأرض. قال: فثكر ذلك في كلامهم حتى سمي غائط الإنسان بذلك. وكذلك العذرة إنما هي فناء الدار، فسميت به؛ لأنه كان يلقي بأفنية الدور.

436 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أوصى "أبا قتادة" بالإناء الذي توضأ منه، فقال: ازدهر بهذا فإن له شأنًا".

قال "الأموي": قوله: ازدهر به: أي احتفظ به، ولا تضيعه، وأنشد: كما ازدهرت قينة بالشراع ... لأسوارها عل منها اصطباحًا يقول: كما احتفظت القينة بالشراع، وهي الأوتار، والواحدة شرعةً. وجمعه شرع وشرع، ثم الشراع جمع الجمع. والأسوار: هو الواحد من أساورة "فارس" وهم الفرسان. وليس تفسير الشرع من الأموي. قال الكسائي: إسوار وأسوار. قال "أبو عبيدٍ": وأظن قوله ازدهر كلمةً ليست بعريبة، كأنها نبطية، أو سريانية، فعربت.

437 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "عند وفاته أنه أغبطت عليه الحمى". قال "الأموي": يعني لزمته، وأقامت عليه. وقال "الواقدي": في هذا الحديث أصابته حمى مغمطة -بالميم- في معنى الباء. وقال "الأصمعي" أغمطت علينا السماء، أي دام قطرها، وهو من هذا. قال "أبو عبيدٍ": وهما لغتان، قد سمعناهما بالباء والميم.

وهذا مثل قولهم: سيد الرجل رأسه، وسمده: إذا استأصله في أشباهٍ لذلك كثيرة. 438 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: أنه بعث سريةً، فنهى فيها عن قتل العسفاء والوصفاء. قال: حدثناه "إسماعيل" عن "أيوب" قال: حدثني

رجل عن أبيه، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية كنت فيها، فنهى عن قتل العسفاء والوصفاء". قال "أبو عمرو": العسفاء: الأجراء، والواحد عسيف. ومنه الحديث الآخر: "أن رجلين اختصما إليه، فقال: أحدهما: إن ابني كان عسيفًا على هذا، وأنه زنى بامرأته" يعني كان أجيرًا.

قال: وأما الأسيف في غير هذا الحديث فإنه العبد. قال "أبو عبيدٍ": والأسيف أيضًا في غير هذا السريع الحزن والبكاء. ومنه حديث "عائشة" [رحمها الله] حين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبا بكر" أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه، فقالت: "إن "أبا بكر" رجل أسيف ومتى يقم مقامك لا يقدر على القراءةط. والأسوف مثل الأسيف. وأما الأسيف، فهو الغضبان المتلهف وعلى الشيء، قال الله -جل ثناؤه-: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا".

ويقال من هذا كله: قد أسفت آسف أسفًا. 439 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم، فيقتله". قال "الكسائي": التبيغ: الهيج. وقال غيره: أصله من البغي. قال يتبيغ يريد يتبغى، فقدم الياء وأخر الغين، وهذا كقولهم: جبذ وجذب، وما أطيبه وأيطبه، ومثله في الكلام كثير.

440 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "تراصوا بينكم في الصلاة لا تتخللكم الشياطين كأنها بنات حذفٍ". وهذا يروى عن "عبد الله" غير مرفوع. ومن وجه آخر مرفوعًا. قال "الكسائي": التراص أن يلصق بعضهم ببعضٍ حتى لا يكون بينهم خلل.

ومنه قول الله -جل ثناؤه-: "كأنهم بنيان مرصوص". وقوله: "بنات حذفٍ": هي هذه الغنم الصغار الحجازية واحدتها حذفة. ويقال: هي النقد أيضًا، واحدتها نقدة. وقد جاء تفسير الحذف في بعض الحديث عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: "أقيموا صفوفكم [وتراصوا] لا يتللكم الشياطين كأولاد الحذف. قيل يا رسول الله! وما أولاد الحذف؟ قال: ضأن سود جرد صغار تكون باليمن". قال "أبو عبيدٍ": وهو أحب التفسيرين إلي؛ لأن التفسير في نفس الحديث.

441 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "أن رجلاً أتاه وعليه مقطعات له". قال "الكسائي": المقطعات: هي الثياب القصار. قال "أبو عبيدٍ": وكذلك غير الثياب أيضًا.

ومنه حديث "ابن عباس" في وقت صلاة الضحى، قال "إذا تقطعت الظلال؛ وذلك لأنها تكون ممتدة في أول النهار، فكلما ارتفعت الشمس قصرت الظلال، فذلك تقطعها. ويروى أن "جرير بن الخطفي" كان بينه وبين "العجاج" اختلاف في شيءٍ فقال: أما والله لئن سهرت له ليلةً لأدعنه، وقل ما تغني عنه مقطعاته، أي أبيات الرجز، سماها مقطعت لقصرها. 442 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم-: "الثيب يعرب عنها لسانها، والبكر تستأمر في نفسها".

قال "أبو عبيدٍ" هذا الحرفُ يُروى في الحديث "يُعرب" - بالتخفيف-. وقال "الفراء": هو "يُعرب" - بالتشديد-.

يقال: عربت عن القوم: إذا تكلمتُ عنهم، واحتججتُ لهم. قال "أبو عبيدٍ": وكذلك الحديث الآخر في الذي قتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله، فقال القاتل: يا رسول الله! إنما قالها متعوذاً. فقال "النبي" - صلى الله عليه وسلم- فهلا شققت عن قلبه؟ فقال الرجل: هل كان يُبين لي ذلك شيئاً؟ فقال "النبي" [- صلى الله عليه وسلم-]: فإنما كان يُعرِّبُ عما في قلبه لسانه". قال: ومنه حديثٌ، قال: حدثناه "هُشيم" عن "العوام" عن "إبراهيم التيمي" قال: "كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبي حين يُعرب أن يقول: "لا إله إلا الله" سبع مراتٍ.

قال "أبو عبيدٍ" وليس هذا من إعراب الكلام في شيءٍ، إنما معناه أنه يبين ذلك القول ما في قلبه. وقد روي عن "عمر" أنه قال: ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يُخرقُ أعراض الناس ألا تعربوا عليه". وليس ذلك من هذا، وقد ذكرناه في موضعه. ومعنى "لا" صلة، إنما أراد ما يمنعكم أن تُعربوا [عليه].

443 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "ألنبي" - صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذجٌ من الذل".

قال "الفراءُ" قوله: بذج هو ولد الضأن وجمعه بذجانٌ، قال [أبو عبيدٍ]: وهذا معروفٌ عندهم، قال الشاعر: قد هلكت جارتنا من الهجم وإن تجع تأكل عتودا أو بذج [282] والبذج من أولاد الضأن، والعتودُ من أولاد المعز، وهو ما قد شبَّ وقوِيَ. ومن العتود حديثُ الرجل حين ذبح قبل الصلاة، فأمره "النبي"- صلى الله عليه وسلم- أن يعيد، فقال: عندي عتودٌ.

444 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: "أنه لعن النامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة".

قال "الفراء": النامصة: هي التي تنتف الشعر من الوجه. ومنه قيل للمنقاش: المنماص؛ لأنه يُنتف به [الشعر]. والمتنمصة: التي يُفعل بها ذلك قال "امرؤ القيس": تجبَّر بعد الأكل فهو نميص. يصف نباتاً قد رعته الماشية، فأكلته، ثم نبت منه بقدر ما يُمكن أخذه أي بقدر ما ينمص، وهو أن ينتف منه ويُجز.

وقال غير "الفراء": الواشرة: التي تشر أسنانها، وذلك أنها تفلجها، وتحددها حتى يكون لها أشر، والأشر تحدد ورقة في أطراف الأسنان. ومنه قيل: ثغر مؤشرٌ، وإنما يكون ذلك في أسنان الأحداث، وتفعله المرأة الكبيرة تتشبه بأولئك. وأما الواصلة والمستوصلة، فإنه في الشعر، وذلك أنها تصله بشعرٍ آخر. ومنه الحديث الذي يرويه "معاوية" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أيما امرأةٍ وصلت شعرها بشعر آخر كان زوراً". وقد رخصت الفقهاء في القرامل، وكل شيءٍ وصل به الشعر

ما لم يكن الوصل شعراً فلا بأس به. وأما قوله: الواشمة والمستوشمة، فإن الوشم في اليد، وذلك أن المرأة كانت تغرز ظهر كفها أو معصمها بإبرةٍ أو مسلةٍ حتى تؤثر فيه، ثم تحشوه ب الكحل أو بالنؤور، فيتخضر، تفعل ذلك بدارات ونقوش. يقال منه قد وشمت تشمُ وشماً، فهي واشمةٌ، والأخرى موشومةٌ، ومستوشمةٌ. ومنه حديث "أسماء بنت عُميس"، قال: حدثنا "هُشيمٌ" عن "إسماعيل بن أبي خالد" عن "قيسٍ بن أبي حازمٍ" قال: "دخلتٌ على "أبي بكرٍ" فرأيت "أسماء بنت عميس موشومة [283] اليدين. قال "أبو عبيد": ولا أُري هذا الفعل كان منها إلا في الجاهلية، ثم بقي فلم يذهب.

قال "أبو عبيدٍ": وإنما يُراد من [هذا] الحديث أنه رأى كفها، قال "لبيدٌ" [في الواشمة]. أو رجعُ واشمةٍ أُسفَّ نؤورها ... كِففاً تعرض فوقهن وشامها وقال الآخر: كما وُشم الرواهش بالنؤور وهذا في أشعارهم كثيرٌ لا يُحصى 445 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله

عليه وسلم- حين قال لعيينة أو لغيره، وطلب القودلولي له قتل: "ألا الغير تريد"؟ وقال بعضهم: "ألا تقبلُ الغير"؟ قال "الكسائي": الغيرُ: الديةُ، وهو واحدٌ مذكر، وجمعه أغيار. وقال غيره: ولا أعلمه إلا "أبا عمرو": والغير جمع الديات، والواحدة غيرةٌ. قال بعض "بني عُذرة": لنجدعن بأيدينا أنوفكم ... بني أميمة إن لم تقبلوا الغيرا

قال "أبو عبيدٍ": وإنما سميت الدية غيراً فيما نُرى من غير القتل؛ لأنه كان يجب القود، فغير القود ديةً، فسميت الديةُ غيراً. ويبين ذلك حديثٌ يروى عن "عبد الله" في الرجل الذي قتل امرأة، ولها أولياءٌ فعفا بعضهم، فأراد "عمر" أن يقيد من لم يعف منهم، فقال له "عبد الله": "لو غيرت بالدية كان في ذلك وفاءٌ لهذا الذي لم يعف، وكنت قد أتممت للعافي عفوه". فقال "عمر": كنيفٌ ملء عليماً". [قوله] كنيفٌ تصغيرُ كنفٍ وهو وعاءٌ للأداة التي يُعمل بها فشبهه في العلم بذلك، وإنما صغره على جهة المدح له عندنا كقول حُباب بن المنذر": أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب". وقولهم: فُلان صديقي، وهو يريد أخص أصدقائي.

446 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم- "أنه كان يُحنك أولاد [284] الأنصار". قال "لليزيدي": التحنيك أن يمضُغ التمر، ثم يدلكه بحنك الصبي داخل فمه. ويقال منه: حَنَكْتُهُ وحَنَّكْتُهُ - بتخفيف وتشديد- فهو محنوكٌ ومحنكٌ.

447 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أن رجلاً رغسه الله مالاً". قال "الأموي": رغسه: أكثر له منه، وبارك له فيه. قال "أبو عبيدٍ": يقال منه: رغسه الله يرغسه رغساً: إذا كان ماله نامياً كثيراً. وكذلك هو في الحسب وغيره، قال "العجاج" يمدح بعض الخلفاء: خليفةٌ ساس بغير تعس إمام رغسٍ في نصاب رغس والنصابُ: الأصل.

448 - وقال "أبو عبيدٍ"؛ في حديث "النبي"- صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن المكاعمة والمكامعة".

قال: حدثنيه "أبو النضر" عن "الليث بن سعدٍ" عن "عياش ابن عباس" رفعه. وذكر غيره بعض هذا الحديث. قال غير واحدٍ: أما المكامعة فأن يلثم الرجل صاحبه، أخذه من كعام البعير، وهو أن يُشدَّ فمهُ إذا هاج. يقال منه: كعمته أكعمه كعماً، فهو مكعومٌ، وكذلك. كل مشدود الفم فهو مكعومٌ، قال "ذو الرمة" يصف الفلاة: [بين الرجا والرجا من جنبِ واصية] ... يهماء خابطها بالخوف مكعوم

يُقال منه: قد شد الخوف فمه، فمنعه من الكلام، فجعل "النبي"- صلى الله عليه وسلم- اللثام حين يلثمه بمنزلة ذلك الكعام. وأما قوله: المكامعة، فهو أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحدٍ أخذه من الكميع والكمع، وهو الضجيعُ. ومنه قيل لزوج المرأة هو كميعها، قال "أوس بن حجر" يذكر أزمةً في شدة البرد: وهبتِ الشمال البليلُ وإذ ... بات كميعُ الفتاة ملتفعا [285] وقال "البعيثُ": لما رأيتُ الهم ضافٍ كأنه ... أخو لطفٍ دون الفراش كميعُ

449 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: في الرهط العرنيين الذين قدموا عليه المدينة، فاجتووها، فقال: "لو خرجتم إلى إبلنا، فأصبتم من أبوالها وألبانها. ففعلوا، فصحوا، فمالوا على الرعاء فتقلوهم، واستاقوا الإبل، وارتدوا عن الإسلام. فأرسل "النبي" - صلى الله عليه وسلم- في آثارهم، فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، وتُركوا بالحرة حتى ماتوا".

قال: حدثناه "هُشيمٌ عن "عبد العزيز بن صُهيب" و"حُميد الطويل" عن "أنس" قال: وحدثنا "إسماعيل بن جعفر" عن "حُميدٍ" عن "أنس" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم- جميعاً. قال: السملُ: أن تفقأ العين بحديدةٍ محماةٍ أو بغير ذلك. يُقال من ذلك: سملت عينه أسملها سمار.

[قال أبو عبيدٍ]: وقد يكون السملُ بالشوك، قال "أبو ذؤيب" يرثى بنين له ماتوا: فالعين بعدهم كأن حداقها ... سُملت بشوكٍ فهي عورٌ تدمع وقال "الشماخ" يصف أتاناً، ويذكر أن عينها قد غارت من شدة العطش: قد وكلت بالهدى إنسان ساهمةٍ ... كأنه من تمام الظمء مسمول قال: وقوله: "قاموا المدينة فاجتووها" قال "أبو زيد": يقال: اجتويت البلاد إذا كرهتها، وإن كانت موافقةً لك في بدنك. ويقال: استوبلتها إذا لم توافقك في بدنك، وإن كنت محباً لها

قال "أبو عبيد": وفي هذا الحديث من الفقه قول: "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. "لو خرجتم إلى إبلنا فأصبتم من أبوالها وألبانها". فهذا رُخصةٌ في شرب بول ما أُكِل لحمهُ، وهذا أصلُ هذا الباب. وكذلك لو وقع في ماء لم ينجس. وأما قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، فيروى - والله أعلم- أن هذا كان في أول الإسلام قبل أن تنزل الحدود [286] فنُسخ. ألا ترى أن المرتد ليس حده إ لا القتل، فأما السمل، فإنه مُثلةٌ، وقد نهى "النبي" [صلى الله عليه وسلم] عن المثلة. قال حدثنا "ابن مهديٌّ" عن "همامٍ" عن "قتادة" عن "ابن سيرين" قال: كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود.

قال "أبو عبيد": فنرى أن هذا هو الناسخ للأول والله أعلم. 450 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم. في الجنين أن "حمل بن مالك بن النابغة" قال له: إني كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنيناً ميتاً، وماتت. فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، وجعل في الجنين غرةً عبداً أو أمةً".

قال: "المسطح: عودٌ من عيدان الخباء أو الفسطاط أو نحوه، قال "مالك بن عوفٍ النضري": تعرض ضيطارو فعالة دوننا وما خير ضيطارٍ يقلب مسطحاً فالضيطار: الضخم من الرجال، فيقول: ليس معه سلاحٌ يقاتل به غير مسطحٍ. والجمع ضيطارون وضياطرة، قالها "أبو عمرو".

قال "أبو عبيد": وأما الغرة، فهو عبدٌ أو أمةٌ [و] قال في ذلك "مهلهلٌ": كُل قتيل في كُليبٍ غره حتى ينال القتل آل مُره يقول: كلهم ليس بكفءٍ "لكليبٍ" إنما هم بمنزلة العبيد والإماء إن قتلتهم، حتى أقتُل "آل مرة" فإنهم الأكفاء حينئذٍ. وأما قوله: "كنتُ بين جارتين لي" يُريد امرأتيه.

قال: حدثناه "يزيدُ" عن "هشامٍ" عن "ابن سيرين" قال: "كانوا يكرهون أن يقولوا: ضرةً، ويقولون: إنها لا تذهب من رزقها بشيءٍ، ويقولون: جارةٌ. وقال "أبو عبيدٍ" في حديثٍ آخر عن "عمر" [-رحمه الله-] أنه سأل عن إملاص المرأة، فقال "المغيرة بن شعبة": قضى فيه رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-] بغرةٍ" فهو مثل هذا [287]. وإنما سماه إملاصاً؛ لأن المرأة تُزلقه قبل وقت الولادة، وكذلك كل ما زلق، من اليد أو غيرها فقد ملص يملصُ ملصاً، وأنشدني "الأحمر": فرَّ وأعطاني رشاءً ملصا

يعني رطباً يزلق من اليد. فإذا فعلت أنت ذلك به، قلت: أملصته إملاصاً، فذلك قوله: إملاص المرأة [يعني أنها تزلقه]. 451 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليُصَل".

قال: حدثناه "ابنُ عُلية" و"يزيد" كلاهما عن "هشام بن حسان" عن "ابن سيرين" عن "أبي هريرة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. قالا: قوله: "فليُصلِّ" يعني يدعو لهم بالبركة والخير. قال "أبو عبيدٍ": وكذلك كل داعٍ، فهو مُصلٍّ، وكذلك هذه الأحاديث التي جاء فيها ذكرُ صلاة الملائكة، كقوله: "الصائمُ إذا أُكِل عناه الطعام صلت عليه الملائكة حتى يُمسي". وحديثه: "من صلى على النبي [-صلى الله عليه وسلم-] صلاةً صلت عليه الملائكة عشراً".

وهذا في حديثٍ كثيرٍ، فهو كله عندي الدعاء، ومثله في الشعر في غير موضع، قال "الأعشى": وصهباء طاف يهوديها ... وأبرزها وعليها ختم وقابلها الريحُ في دنها ... وصلى على دنها وارتسم يقول: دعا لها بالسلامة والبركة، يصف الخمر. وقال أيضاً: - تقول بنتي وقد قربتُ مرتحلاً ... يا رب جَنِّب أبي الأوصاف والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

يقول: ليكن لك مثل الذي دعوت لي به. قال "أبو عبيد": وأما حديث "ابن أبي أوفى" أنه قال أعطاني أبي صدقة ماله فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى". [288] فإن هذه الصلاة عندي الرحمة. ومنه قول الله [- عز وجل-]: "إن الله - وملائكته يصلون على النبي" فهو من الله رحمةٌ، ومن الملائكة دعاء

ومنه قولهم: "اللهم صل على محمد". قال: فالصلاة ثلاثة أشياء: الرحمة والدعاء والصلاة. 452 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: أنه خرج يريد حاجةً، فاتبعه بعض أصحابه، فقال: "تنح عنِّي فإن كل بائلة تفيخ". قال: حدثنيه "محمد بن ربيعة الكوفي الرواسي" عن "ابن جُريج" عن "عبد الله بن عبيد بن عمير" رفعه.

قال "أبو زيدٍ" الإفاخة: الحدثُ. يعني من خروج الريح خاصةً. يقال: قد أفاخ الرجل يفيخُ إفاخةً. وإذا جعلت الفعل للصوت قلت: قد فاخ يفوخُ. وأما الفوح بالحاء فمن الريح أن نجدها لا من الصوت. قال "أبو عبيدٍ" وكراهيةُ النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يكون قربه أحدٌ عند البول مثل حديثه الآخر: "أنه كان إذا أتى الحاجة استبعد [وتوارى] ". ويروى عن "أبي ذرٍ" أنه بال ورجلٌ قريبٌ منه فقال: "يا ابن أخي قطعت عليَّ لذة بيلتي".

كأنه استحيا من قُرب من معه، فمنعه ذلك من التنفس عند البول. 453 - قال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم في الاستنجاء "أنه كان يأمر بثلاثة أحجارٍ، وينهى عن الروث والرمة". قال: حدثنيه "يحيى بن سعيدٍ القطان" عن "أبن عجلان" عن "القعقاع بن حكيمٍ" عن "أبي صالحٍ" عن "أبي هُريرة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم قال "أبو عمروٍ" وغيره: أما الروث فروث الدواب.

وأما الرمة، فإنها العظام البالية، قال "لبيدٌ": والنيب إن تعرمني رمةً خلقاً ... بعد الممات فإني كنت أتثر قال: "أبو عبيدٍ": والرميمُ: مثل الرمة، قال الله - تبارك وتعالى-: "وضرب لنا مثلاً ونسي خلقهُ، قال من يُحيي العظام وهي رميمٌ". يقال منه: قد رم العظم وهو يرمُّ، ويروى [منه] أن

"أُبي بن خلف" أنه لما نزلت هذه الآية أتى بعظمٍ بال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فجعل يفته، ويقول: أترى الله يا "محمد" يُحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ [289] [قال "أبو عبيدٍ"]؛ وفي حديث آخر أنه نهى أن يُستنجى برجيعٍ أو عظمٍ. فأما الرجيعُ، فقد يكون الروث، والعذرة جميعاً، وإنما سُميَ رجيعاً؛ لأنه رجع عن حاله الأولى، بعد أن كان طعاماً أو علفاً إلى غير ذلك. وكذلك كل شيءٍ يكون من قول أو فعل يُرد، فهو رجيعٌ؛ لأن معناه مرجوعٌ، أي مردودٌ.

وقد يكون الرجيع الحجر الذي قد استنجى به مرة، ثم رجع إليه فاستنجى به، وقد روي عن مجاهد أنه كان يكره أن يستنجي بالحجر الذي قد استنجى به مرة. وفي غير هذا الحدث أنه أُتي بروثٍ في الاستنجاء، فقال: "إنه ركسٌ" وهو شبيه المعنى بالرجيع. يقال: ركستُ. الشيء وأركسته لغتان: إذا رددتهُ، قال الله - تبارك وتعالى-: "والله أركسهم بما كسبوا" وتأويله فيما نُري: أنه ردهم إلى كفرهم.

[قال: وفي الرجيع وجهٌ آخر أنه أراد الحجر الذي قد استُنجي به مرةً، وكره أن يُرجع إلى الاستنجاء به ثانيةً]. 454 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- "من بات على إجارٍ- أو قال: سطحٍ- ليس عليه ما يرد قدميه فقد برئت منه الذمة. ومن ركب البحر إذا التج- أو [قال] ارتج قال "أبو عبيد": وأكبر ظني أنه باللام التج- فقد برئت منه الذمة. أو قال: "فلا يلومن إلا نفسه-".

قال: حدثنيه "عبادُ بن عباد" عن "أبي عمران الجوني" عن "زهير بن عبد الله" يرفعه. قال "أبو عبيد": الإجار والسطحُ واحدٌ. ومن ذلك حديثُ "ابن عمر" قال: حدثنيه "هشيمٌ" عن "يحيى بن سعيد الأنصاري" وحدثنيه "يحيى بن سعيد القطان عن "عبيد الله بن عمر" كلاهما عن "محمد بن يحيى بن حبان" عن عمه "واسع بن حبان" عن "ابن عمر" قال: "ظهرت على "إجار" "لحفصة" [-رضي الله عنها-]- وقال بعضهم على سطح- فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- جالساً على حاجته مستقبلاً بيت المقدس مستدبراً الكعبة".

[قال "أبو عبيدٍ"]: وجمعُ الإجار أجاجيرُ وأجاجرةٌ، وهو [من] كلام أهل الشام وأهل الحجاز. 455 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان يسجدُ على الخُمرة". قال: حدثناه "هشيمٌ، وعباد بن العوام" عن "الشيباني" عن "عبد الله بن شداد" عن "ميمونة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-:

قال: "أبو عبيد": الخمرة شيء منسوج يعمل من سعف النخل ويرملُ بالخيوط وهو صغيرٌ على قدر ما يسجد عليه المصلي، أو فويق ذلك. فإن عظُمَ حتى يكفي الرجل لجسده كله في صلاة أو مضطجعٍ، أو أكثر [290] من ذلك، فهو حينئذ حصيرٌ، وليس بخمرةٍ. 456 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن اتطيين القبور وتقصيصها".

قال: حدثنيه "ابن عُلية" عن "أيوب" عن "أبي الزبير" عن "جابر بن عبد الله" أنه قال: نهى عن تقصيص القبور. فقيل له: عن "النبي" [- صلى الله عليه وسلم-]؟ فقال: ذاك أراد. قوله: التقصيص هو التجصيص، وذلك أن الجص يقال له: القصة. يقال منه: قصصت القبور والبيوت: إذا جصصتها. ومنه حديث "عائشة" [-رضي الله عنها] حين قالت للنساء: "لا تغتسلن من المحيض حتى ترين القصة البيضاء".

قال: حدثناه "إسماعيل بن عمر" عن "مالكٍ" عن "علقمة ابن أبي علقمة" عن "أمه" عن "عائشة". قال "أبو عبيد": ومعناه أن يقول؛ حتى تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتشي بها المرأة كأنها قصةٌ لا يخالطها صفرةٌ ولا تريةٌ. وقد قيل: إن القصة شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله والله أعلم. وأما التريةُ: فالشيء الخفي اليسير، وهو أقل من الصفرة والكدرة. ولا تكون الترية إلا بعد الاغتسال [والمحيض]، فأما ما كان في أيام الحيض فهو حيضٌ وليس بترية.

457 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: في المستحاضة أنه قال لها: "احتشي كرسفاً. قالت: إنه أكثر من ذلك إني أثجهُ ثجاً. قال: تلجمي، وتحيضي - في علم الله- ستاً أو سبعاً، ثم اغتسلي وصلي". قال: حدثنيه "يزيد بن هارون" عن "شريك" عن "عبد الله بن محمد بن عقيل" عن "إبراهيم بن محمد بن طلحة" عن عمه

"عمران بن طلحة" عن "أمه حمنةٌ بنت جحش" أنها استحيضت، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم- فأجابها بذلك. أما قوله: "احتشي كرسفاً" فإن الكرسف، القطن. وقولها: "أثجه ثجاً" هو من الماء [291] الثجاج، وهو السائل. ومنه الحديث المرفوع أنه سُئل عن [بِرِّ] الحج، فقال: "هو العج والثجُّ". فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: سيلان دماء الهدي. وقوله: "تلجمي" يقول: شدِّي لجاماً وهو شبيهٌ بقوله: "استثفري" والاستثفار مأخوذٌ من شيئين: يكون من ثفر الدابة أنه شبه هذا اللجام بالثفر لأنه يكون تحت ذنب الدابة. ويكون من الثفر، والثفر ويكون أصله للسباع، كما يقال للناقة حياؤها، وإنما هذه كلمةٌ استعيرت كما استعارها "الأخطل" في قوله:

جزى الله فيها الأعورين ملامةً ... وفروة ثفر الثورة المتضاجم فقال: ثفر للبقرة، وإنما هي للسباع. فكذلك نرى: "استثفري" أخذه من هذا إنما هو كنايةٌ عن الفرج. وقوله: "تحيضي" يقول: أقعدي أيام حيضك، ودعي فيها الصلاة والصيام، فهذا التحيض، ثم اغتسلي وصلي. وقال في حديث آخر: "دعي الصلاة أيام أقرائك". فهذا قد فسر التحيض. وقوله: أيام أقرائك يبين لك أن الأقراء إنما هي الحيض، وهذا

مما اختلف فيه "أهل العراق" و"أهل الحجاز". فقال "أهل العراق" إن قول الله [تعالى]: "يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ" إنما هي الحيض. وقال أهل الحجاز [إنما] هي الأطهار. فمن قال: إنها الحيض فهذا الحديث حُجةٌ له: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "دعي الصلاة أيام أقرائك". ومن زعم أنها الأطهار، فله حجةٌ أيضاً، يقال: قد أقرأت المرأة: إذا دنا حيضها، وأقرأت إذا دنا طهرها. زعم ذلك "أبو عبيدة" و"الأصمعي" و"عيرهما" وقد ذكر ذلك "الأعشى" في شعرٍ مدح به رجلاً غزا غزوةً غنم فيها وظفر: فقال [292]: مورثة عزاً، وفي الحي رفعةً ... لما ضاع فيها من مروء نسائكا

قال "أبو عبيد": فمعنى القروء ها هنا الأطهارُ: لأنه ضيع أطهارهن في غزاته. وآثرها عليهن، وشُغل بها عنهن. ومثله قول "الأخطل": قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار 458 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: "العجماء جبارٌ، والبشر جبارٌ، والمعدن جُبارٌ، وفي الركاز الخمس". قال: حدثنيه "إسماعيل بن جعفر" عن "محمد بن عمرو"

عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: قوله "العجماء"" يعني البهيمة وإنما سُميت عجماءُ، لأنها لا تتكلم.

قال: وسمعتُ "المباركبن سعيد بن مسروق" يُحدث عن "عمرو بن قيس" عن "الحسن" قال: "من ذكر الله [-تبارك وتعالى-] في السوق كان له من الأجر بعدد كل فصيح فيها وأعجم". فقال "المبارك" الفصيح: الإنسان، والأعجم: البهيمة. قال "أبو عبيدٍ": وكذلك كل من لا يقدر على الكلام، فهو أعجم ومستعجمٌ. ومن هذا حديثُ "عبد الله" "إذا كان أحدكم يصلي فاستعجمت عليه قراءته فلينم".

يعني: إذا انقطعت، فلم يقدر على القراءة من النعاس. ومنه قول "الحسن": "صلاة النهار عجماء". يقول: لا يسمع فيها قراءةٌ. وأما الجبار: فهو الهدر، وإنما جُعل جرحُ العجماء هدراً إذا كانت منفلتةً ليس لها قائدٌ، ولا سائقٌ، ولا راكبٌ. فإذا كان معها واحدٌ من هؤلاء الثلاثة، فهو ضامنٌ؛ لأن الجناية حينئذٍ ليست للعجماء، إنما هي جنايةُ صاحبها الذي أوطأها الناس. وقد رُوي ذلك عن "عليٍ" و"عبد الله" و"شريح" وغيرهم وأما الحديث المرفوع: "الرجل جبارٌ".

فإن معناه أن يكون الراكب يسير على دابته، فتنفح الدابة برجلها في سيرها فذلك [293] هدرٌ أيضاً، وإن كان عليها راكبٌ؛ لأن له أن يسير في الطريق وأنه لا يُبصر ما خلفهُ. فإن كان واقفاً عليها في طريق لا يملكه، فما أصابت بيدها أو برجلها أو غير ذلك فهو ضامنٌ على كُلِّ حال. وكذلك إن أصابت بيدها وهي تسيرُ، فهو ضامنٌ أيضاً. واليد والرجل في الوقوف سواء، هو ضامنٌ له. وأما قوله: "البئر جُبارٌ" فإن فيها غير قول: يقال: إنها البئر يعني يكتري عليها صاحبها رجلاً يحفرها في ملكه فتنهار على الحافر، فليس على صاحبها ضمانٌ. ويقال: هي البئر تكون في ملك الرجل. فيسقط فيها إنسانٌ أو دابةٌ، فلا ضمان عليه؛ لأنها في ملكه فهذا قولٌ يقال. ولا أحسب هذا وجه الحديث: لأنه لو أراد الملك لما خص البئر خاصةً دون الحائط والبيت والدابة وكل شيءٍ يكون في ملك الرجل، فلا ضمان عليه فيه.

ولكنها عندي: البئر العادية القديمة التي لا يعلم لها حافرٌ، ولا مالكٌ تكون بالبوادي، فيقع فيها الإنسان أو الدابة، فذلك، هدرٌ بمنزلة الرجل يوجد قتيلاً. بفلاة من الأرض لا يعلم له قاتلٌ فليس فيه قسامة ولا ديةٌ. وأما قوله: "المعدن جبارٌ" فإنها هذه المعادن التي يُستخرج منها الذهب والفضة، فيجيء قومٌ، يحتفرونها بشيءٍ مسمى لهم، فربما أنهار المعدن عليهم، فقتلهم، فيقول: دماؤهم هدرٌ؛ لأنهم إنما عملوا بأجرة. وهذا أصلٌ عاملٍ عمل عملاً بكراءٍ، فعطب فيه أنه هدرٌ لا ضمان على من استعمله. إلا أنهم إذا كانوا جماعةً ضمن بعضهم لبعضٍ على قدر حصصهم من الديةً. وقال "أبو عبيدٍ": ومن هذا لو أن

رجلين هدما حائطاً [بأجر] فسقط عليهما فقتل أحدهما كان على عاقله الذي لم يمت نصف الدية لورثة الميت، ويسقط عنه النصف؛ لأن الميت أعان على نفسه. وأما قوله [294]: "في الركاز الخُمس" فإن "أهل العراق" و"أهل الحجاز" اختلفوا في الركاز. فقال "أهل العراق": الركاز: المعادن كلها، فما استخرج منها من شيءٍ، فلمستخرجها أربعة أخماس مما أصاب، ولبيت المال الخمس. قالوا: وكذلك المال العادي يوجد مدفوناً هو مثل المعدن على قياسه سواء. وقالوا: إنما أصل الركاز المعدن، والمال العادي الذي قد ملكه الناس مشبةٌ بالمعدن. وقال "أهل الحجاز": إنما الركاز: المال المدفون خاصةً مما كنزه "بنو آدم" قبل الإسلام، فأما المعادن، فليست بركاز، وإنما فيها مثلُ ما في أموال المسلمين من الزكاة إذا بلغ ما أصاب مائتي درهم كان فيها خمسة دراهم [لبيت المال] وما زاد فبحساب ذلك. وكذلك الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً كان فيه نصف مثقال، وما زاد فبحساب ذلك.

459 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم- في الإهلال بالحج: قال: حدثنيه "إسماعيل بن جعفر" و"يحيى بن سعيد" عن "جعفر بن محمد" عن "أبيه" عن "جابر [بن عبد الله] عن "النبي - صلى الله عليه وسلم-: قال "الأصمعي" وغيره: الإهلال: التلبية، وأصل الإهلال [رفع] الصوت، وكل رافعٍ صوته، فهو مُهلٌّ.

قال "أبو عبيد": وكذلك قول الله - جل ثناؤه- في الذبيحة: "وما أُهل به لغير الله". هو ما ذُبح للآلهة، وذلك لأ، الذابح يسميها عند الذبح، فذلك هو الإهلال، وقال "النابغة الذبياني" يذكر درةٌ أخرجها الغواص من البحر، فقال: أو دُرةٌ صدفيةٌ غواصها ... بهجٌ متى يرها يُهل ويسجد يعني بإهلاله رفعه صوته بالدعاء والتحميد لله [-عز وجل-] إذا رأها. وكذلك الحديث في استهلال الصبي أنه إذا ولد لم يرث ولم يورث حتى يستهل صارخاً.

قال "أبو عبيدٍ": فالاستهلال: هو الإهلال. وإنما يراد من هذا [295] الحديث أن يُستدل باستهلاله على حياته؛ ليعلم أنه سقط حياً، فإذا لم يصح، [ولم يُسمع رفع صوته] وكانت علامةٌ أخرى يستدل بها على حياته من حركة يد، أو رجل، أو طرفة بعين فهو مثل الاستهلال، قال "ابن أحمر": يُهل بالفرقد ركبانها ... كما يُهل الراكب المعتمر قال "أبو عبيدٍ": [قوله]: المعتمر، أراد هاهنا من

العمرة، وهو في غ ير هذا المعتم. 460 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا قطع في ثمر ولا كثر". قال: حدثنيه "هُشيمٌ" و"يزيد" عن "يحيى بن سعيد"

عن "محمد بن يحيى بن حبان" عن "رافع بن خديج" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. قال "أبو عبيدة" وغيره: الكثر: جُمارُ النخل في كلام الأنصار وهو الجذب أيضاً. وقال "أبو عبيد": أما قوله "في الثمر" فإنه يعني الثمر المعلق في النخل الذي لم يُجدد، ولم يحرز في الجرين، وهو معنى حديث "عُمر" [-رضي الله عنه-]: "لا قطع في عام سنة ولا في عذقٍ مُعلق". والجرين هو الذي يسميه "أهل العراق" البيدر، ويسميه "أهل الشام" الأندر، ويسمى "بالبصرة" الجوخان. وقد يقال له أيضاً بالحجاز المربد والجرينُ. 461 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم- أنه خطب في حجته أو في عام الفتح، فقال:

"ألا إن كل دمٍ ومال ومأثرةٍ كانت في الجاهلية، فهي تحت قدمي هاتين، منها دم "ربيعة بن الحارث" إلا سدانه الكعبة وسقاية الحاج". قال: حدثنيه "يزيد" عن "سليمان التيمي" عن رجل رفعه إلى "النبي" [- صلى الله عليه وسلم-]. و[قال] غير "يزيد" عن "عوف" عن "الحسن" و"قسامة بن زهير" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-.

قال: وحدثناه "إسماعيل بن عياش" عن "ابن أبي حسين" رفعه. [قال "أبو عبيدٍ"]: وهو "عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين". [قال أبو عبيد]: قوله: المأثرة: هي المكرمةُ، ويقال: إنها إنما سميت مأثرة؛ لأنها تؤثر، يأثرها قرنٌ عن قرن، أي يُتحدث بها، كقولك: أثرتُ الحديث آثره أثراً؛ ولهذا قيل: حديثٌ مأثورٌ. ومأثرةٌ مفعلةٌ [من هذا]. وأما قوله: سدانةُ البيت، فإنه يعني خدمتهُ.

يقال منه: سدنته أسدُنه سدانةً. وهو رجلٌ سادنٌ من قومٍ سدنةٍ، وهم الخدم. فكانت السدانة واللواء [296] في الجاهلية في بني "عبد الدار". وكانت السقاية والرفادة إلى "هاشم بن عبد منافٍ" ثم صارت إلى "عبد المطلب" ثم إلى "العباس" فأقر رسول الله [- صلى الله عليه وسلم-] ذلك على حاله في الإسلام، والسدانة هي الحجابة. وأما [قوله]: دم ربيعة بن الحارث: فإن "ابن الكلبي" أخبرني أن "ربيعة" لم يُقتل، وقد عاش بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم دهراً إلى زمن "عمر [بن الخطاب- رضي الله عنه]-، ولكنه قتل له ابنٌ صغيرٌ في الجاهلية [قال: أحسبه كان يقال له "لباس"] فأهدر النبي [- صلى الله عليه وسلم-] دمه فيما أهدر.

قال: وإنما قال: دمُ "ربيعة [بن الحارث]؛ لأنه ولي الدم فنسبه إليه. وأما الرفادة فإنه شيء كانت قريش ترافد به في الجاهلية، فيخرج كل إنسان [منهم] بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالاً عظيماً أيام الموسم، فيشترون به الجزر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى ينقضي الموسم، وكان أول من قام بذلك وسنه "هاشم بن عبد منافٍ". ويقال: إنه إنما سُمي "هاشماً" لهذا؛ لأنه هشم الثريد، واسمه "عمرو"، وفيه قال الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال "مكة" مُسنتون عجاف ثم قام بعده "عبد المطلب" ثم "العباس" [- رضي الله عنه-]

فقام الإسلام؛ وذلك في يد "العباس" ثم كان في زمن "النبي" - صلى الله عليه وسلم- ثم لم تزل الخلفاء تفعل ذلك إلى اليوم. وقوله: "تحت قدمي هاتين" يعني أنه قد أهدر ذلك كله. وهذا كلام العرب. يقول الرجل للرجل إذا جرى بينهما شر، ثم أرادا الصلح: اجعل ذلك تحت قدميك أي أبطله، وارجع إلى الصلح. 462 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي"- صلى الله عليه وسلم- أن "سعد بن عبادة" أتاه برجلٍ [كان] في الحي مُخدجٍ سقيمٍ وُجد على أمة من إمائهم يخبث بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "خذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخٍ، فاضربوه به ضربةً".

قال: حدثنيه "يزيدُ" عن "محمد بن إسحاق" عن "يعقوب بن عبد الله بن الأشج" عن "أبي أمامة [297] بن سهل بن حنيفٍ" عن "سعيد بن سعد بن عبادة". قال "الأصمعي" وغير واحدٍ في المخدج: هو الناقص الخلق، ومنه قيل للمقتول "بالنهروان" في الخوارج مُخدجُ اليد. وأما العثكال فهو الذي يسميه الناس الكباسة، وفيه لغتان: عثكالٌ وعثكولٌ. و"أهل المدينة" يُسمونه العذق- بكسر العين-.

وأما العذقُ - بالفتح- فالنخلة نفسها، قال "امرؤ القيس" يصف شعر امرأة يشبهه بالعثكال [فقال]: وفرعٍ يزين المتن أسود فاحمٍ ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل والقنو هو العثكال أيضاً، وجمع القنو أقناء وقنوانٌ. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه عجل ضربه، فلم يمنعه سُقمه من إقامة الحد عليه. وفيه تخفيفُ الضرب عنه، ولا نرى ذلك إلا لمكان مرضه. وفيه أنه لم ينفه في الزنا. 463 - وقال "أبو عُبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- "من منح منحة ورقٍ، أو منح لبناً كان له كعدل رقبةٍ أو نسمة"

قال: حدثنيه "يحيى بن سعيد" عن "شُعبةً" قال: حدثنا "طلحة بن مصرفٍ" عن "عبد الرحمن بن عوسجة" عن "البراء بن عازب" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. قوله: "من منح منحةورقٍ، أو منح لبناً". فإن المنحة عند العرب على معنيين: أحدهما أن يُعطى الرجل صاحبه المال هبةً أو صلةً فيكون له. وأما المنحة الأخرى فإن للعرب أربعة أسماءٍ تضعها في موضع العارية، فينفع بها المدفوعة إليه، والأصل في ذلك كله لربها ترجع

إليه، وهي المنحة والعرية، والإفقار والإخبال، وكلها في الحديث إلا الإخبال. فأما المنحة: فالرجل يمنحُ أخاه ناقته أو شاته فيحتلبها عاماً أو أقل من ذلك أو أكثر ثم يردها، وهو تأويل هذا الحديث. وأما العرية: فالرجل يُعرى الرجل ثمر نخلةٍ من نخيله فيكون له الثمر عامة ذلك فهذه [298] العرية التي رخص النبي [صلى الله عليه وسلم-] في بيع ثمرها قبل أن تُصرم [بتمر]. وأما الإفقار: فأن يعطى الرجل الرجل دابته، فيركبها ما أحب في سفر أو حضرٍ، ثم يردها عليه، وهو الذي يروي- فيه الحديث

عن "عبد الله" أنه سُئل عن رجل استقرض من رجل دراهم، ثم إن المستقرض أفقر المقرض ظهر دابته، فقال "عبد الله": "ما أصاب من ظهر دابته فهورباً" قال حدثناه "هُشيمٌ" قال: أخبرنا "يونس" و"خالدٌ" عن "ابن سيرين" عن "عبد الله" بذلك يذهب إلى أنه قرضٌ جر منفعةً. وأما الإخبال: فإن الرجل منهم كان يُعطي البعير أو الناقة يركبها، ويجتز وبرها، وينتفع بها، ثم يردها، وإياه عني "زهير بن أبي سلمى" [فقال] لقوم يمدحهم: هنالك إن يُستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

يقال منه: أخبلتُ الرجل أخبله إخبالاً. وكان "أبو عبيدة" يقول: "هنالك إن يستخولوا المال يخولوا". من الخول. وفي حديث آخر يروى من حديث "عوفٍ" وغيره يُرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من منح منحةً وكوفاً فله كذا وكذا".

فالوكوف: الغزيرة الكثيرة الدر: ومن هذا قيل: وكف البيت بالمطر، وكذلك وكفُ العين بالدمع، وفي قوله: منحةً وكوفاً ما يبين لك أنه لم يرد بالمنحة الشربة يسقيها الرجل صاحبه، إنما أراد بالمنحة الناقة أو الشاة يدفعها إليه؛ ليحتلبها. ومن المنحة أيضاً أن يمنحه الرجل الرجل أرضه يزرعها. ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له أرضٌ فليزرعها، أو ليمنحها أخاه". قال "أبو عبيد": وأكثر العرب يجعل المنحة العارية خاصةً، ولا يجعل الهبة منحةً.

464 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث [299] النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرقٍ ظالمٍ حق". قال: "سمعتُ سعيد بن عبد الرحمن الجمحي" يُحدثه عن هشام بن عُروة" عن أبيه يرفعه. قال "الجمحي" قال "هشامٌ" العرقُ الظالمُ: أن يجيء الرجل إلى أرضٍ قد أحياها رجلٌ قبله، فيغرس فيها غرساً، أو يحدث فيها شيئاً: ليستوجب به الأرض.

هذا الكلام أو نحوه. قال "أبو عبيدٍ": فهذا التفسير في الحديث. ومما يحقق ذلك حديثٌ آخر، قال سمعت "عباد بن العوام" يحدثه عن "محمد بن إسحاق" عن "يحيى بن عروة" عن أبيه يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- مثل هذا الحديث. قال: قال "عروة": فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلاً غرس. في أرض رجل من الأنصار نخلاً، فاختصما إلى "النبي" - صلى الله عليه وسلم- فقضى للأنصاري بأرضه، وقضى على الآخر أن ينزع نخله. قال: فلقد رأيتها يُضرب في أصولها بالفؤوس وإنها لنخلٌ عُم". قال "أبو عبيدٍ": هذا الغارس في أرض غيره هو العرقُ الظالمُ.

وقوله: "نخلٌ عُم: هي التامة في طولها والتفافها، وواحدتها عميمةٌ. ومنه قيل للمرأة عميمةٌ إذا كانت كذلك في خلقها، وقال "لبيدٌ" يصف نخلاً: سُحقٌ يمتعها الصفا وسريه ... عم نواعم بينهن كروم فالسحق: الطوال، وقوله: يمتعها يعني يطولها، وهو مأخوذٌ من الماتع وهو الطويل من كل شيءٍ، والصفا: اسم نهرٍ، والسرى: النهر الصغير. وفي هذا الحديث من الحكم أنه من اغتصب رجلاً أرضاً أو داراً،

فغرس فيها، وبنى، وأنفق، ثم جاء ربها، فاستحقها بحكم حاكم أنه يُقضى على الغاصب بقلع ما أحدث فيها، وإن أضر ذلك به، ولا يقال للمستحق: اغرم له القيمة، ودع البناء على حاله، ولكن إنما له نقضه لا غير إلا أن يشاء المستحق ذلك، فهذا الأصلُ في حكم الغاصب. وفي حديث آخر زيادةٌ ليست في هذا. قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "هشام بن عروة" عن "عبيد الله بن عبد الرحمن" عن "جابر بن عبد الله" عن النبي [300]- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحيا أرضاً ميتةً فهي له، وما أكلت العافية منه، فهو له صدقةٌ".

فالواحد من العافية عافٍ، وهو كل من جاءك يطلب فضلاً أو رزقاً فهو معتفٍ وعافٍ، وقد عفاك يعفوك [عفواً] وجمعه عفاةٌ. وقال "الأعشى" يمدح رجلاً: تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصىر ببيت الوثن وقد تكون العافية في هذا الحديث من الناس وغيرهم. وبيان ذلك في حديث آخر، قال: حدثنيه "أبو اليقظان" عن "الأعمش" عن "أبي سفيان" عن "جابر بن عبد الله" عن "أم مبشرٍ الأنصارية" قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأنا في نخل لي فقال: "من غرسه؟ أمسلمٌ أم كافرٌ؟

قلت: لا بل مسلمٌ. فقال: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسانٌ، أو دابةٌ، أو طائرٌ، أو سبعٌ إلا كانت له صدقةٌ". 465 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". قال: حدثناه "هُشيمٌ" قال: أخبرنا "إسماعيل بن أبي خالدٍ" عن "زبيد اليامي" عن من أخبره عن "عبد الله بن مسعودٍ" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم- قوله: "نفث في روعي" هو كالنفث بالفم شبيهٌ بالنفخ.

وأما التفل فلا يكون إلا ومعه شيءٌ من الريق. ومن ذلك حديثه الآخر "أنه كان إذا مرض يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث". قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "مالك" عن "الزهري" عن "عروة" عن "عائشة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. وقال "عنترة": فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يُفقد فحق له الفقود

وقوله "روعي": معناه كقولك في خلدي، وفي نفسي، ونحو ذلك، فهذا بضم الراء، وأما الروع - بالفتح- فالفزع، وليس هو من هذا في شيء. 466 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. "تسعة أعشار الرزق [301] في التجارة، والجزء الباقي في السابياء". قال: حدثناه "هشيمٌ" قال: أخبرنا "داود بن أبي هند" عن "نعيم بن عبد الرحمن الأزدي" يرفعه. قال "هُشيمٌ": يعني بالسابياء النتاج.

قال "الأصمعي": السابياء: هو الماء الذي يخرج على رأس الولد إذا وُلد. وقال "أبو زيدٍ [الأنصاري] " ذلك الماء هو الحولاء ممدودٌ. قال: وأما الجلدةُ الرقيقة التي يكون فيها الولد فإنها السلا، ومنه قيل في المثل: "انقطع السلا في البطن" يُضرب في الأمر العظيم إذا نزل بهم. وقال "الأحمر"؛ السابياء، والحولاء، والسخد كله: الماء الذي يكون مع الولد [قال]: وهو ماءٌ غليظٌ. ومنه قيل للرجل إذا أصبح ثقيلاً مورماً: إنه لمسخدُ. قال "أبو عبيدٍ": ومعنى هذا الحديث، والذي يرجع إليه ما قال "هُشيمٌ" إنه إنما أراد النتاج، ولكن الأصل ما فسر هؤلاء؛

لأنه عُلم لِم سُمي النتاج السابياء. ومما يبين ذلك حديث "عمر" [- رحمه الله-] فيه: قال: حدثنيه "الأشجعي" [عبيد الله بن عبد الرحمن] عن "محمد بن قيسٍ" عن "أبي هند" عن "أبي ظبيان" وليس بالجنبي، قال: قال لي "عمر" [- رحمه الله-] ما مالك يا أبا ظبيان؟ ". قال: قلت: عطائي ألفان. قال: "اتخذ من هذا الحرث والسابياء قبل أن تليك غلمةٌ من قريش لا تعد العطاء معهم مالاً.

467 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من تعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا". قال: حدثنيه "الفزاري" عن "عوف" عن "الحسن" عن "عتي بن ضمرة السعدي" عن "أبي بن كعب" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-.

قوله: "عزاء الجاهلية": الدعوى للقبائل أن يُقال: بالتميم ويالعامر! وأشباه ذلك. ومنه حديثٌ يروى قال: سمعته من بعض أهل العلم أن رجلاً قال "بالبصرة": يالعامرٍ! فجاء النابغة الجعدي [302] بعُصيةٍ له، فأخذته شُرط "أبي موسى"، فضربه خمسين سوطاً بإجابته دعوى الجاهلية. ويقال منه: اعتزينا وتعزينا، قال "عبيدٌ [بن الأبرص] ": نُعليهمُ تحت العجا ... ج المشرقي إذا اعتزينا وقال "الراعي": فلما التقت فرساننا ورجالهم ... دعوا يا لكلبٍ واعتزينا لعامر

[وقال بشرُ بن أبي خازمٍ: نعلوا الفوارس بالسيوف ونعتزي ... والخيل مشعرةُ النحور من الدم] يقال منه: عزوت الرجل إلى أبيه وعزيتُه - لغتان- إذا نسبته إليه، وكذلك الحديث: إذا أسندته. [وكذلك كل شيءٍ نسبته إلى شيءٍ، فهو مثله، وإن كان في غير الناس]. قال [أبو عبيد]: أخبرني "يحيى بن سعيدٍ [القطان] " عن "ابن جُريجٍ" أن "عطاء" حدثه بحديثٍ. قال: فقلت لعطاءٍ: أتعزيه إلى أحدٍ؟ أي أتسنده إليه، وهو مثل النسبة.

[قال]: وأما الحديث الآخر قوله: "من لم يتعز بعزاءٍ الإسلام، فليس منا" فإن عزاء الإسلام أن يقول: يا للمسلمين! وكذلك يُروى عن "عمر" [- رضي الله عنه-] قال: "إنه ستكون للعرب دعوى قبائل، فإذا كان ذلك فالسيف السيف والقتل القتل حتى يقولوا: يا للمسلمين"! 468 - وقال أبو عُبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان إذا سجد جافي عضديه عن جنبيه، وفتخ أصابع رجليه".

قال حدثنيه "يحيى بن سعيد" عن "عبد الحميد بن جعفرٍ" عن "محمدبن عمرو بن عطاء" عن "أبي حُميدٍ" الساعدي عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: قال "يحيى": الفتخ أن يصنع هكذا، ونصب أصابعه، ثم غمز موضع المفاصل منها إلى باطن الراحة: يعني أنه كان يفعلُ ذلك بأصابع رجليه في السجود.

قال "الأصمعي": أصل الفتخ: اللين. وقال "أبو عبيد" ويقال للبراجم إذا كان فيه لينٌ وعرضٌ إنها لفتخٌ. ومنه قيل للعقاب فتخاءُ، لأنها إذا انحطت كسرت جناحيها وغمزتهما، وهذا لا يكون إلا من اللين، قال "امرؤ القيس" [303] يصف الفرس، يشبهها بالعقاب: كأني بفتخاء الجناحين لقوةٍ ... دفوفٍ من العقبان طأطأت شملال وقال آخر: كأنها كاسرٌ في الجو فتخاءُ وإنما سميت كاسراً لكسرها جناحيها إذا انحطت.

وفي هذا الحديث من الفقه أنه كان ينصب قدميه في السجود نصباً، ولولا نصبه إياهما لم يكن هناك فتخٌ، وكانت الأصابع منحنيةً، فهذا الذي يُراد من الحديث. وهو مثل حديثه الآخر: "أنه أمر بوضع الكفين ونصب القدمين في الصلاة". 469 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- في حديث ذكر فيه نعت أهل الجنة، فقال: "ويرفع أهل الغرف إلى غ رفهم في درةٍ بيضاء ليس فيها قصمٌ ولا فصمٌ".

قال: حدثنيه "أبو اليقظان" عن "ليث بن أبي سُليمٍ" عن "فلانٍ" عن "أنس بن مالك" رفعه. قوله: القصمُ - بالقاف- هو أن ينكسر الشيء، فيبين. يقال منه: قصمت الشيء أقصمه قصماً: إذا كسرته حتى يبين. ومنه الحديث الآخر: "استغنوا عن الناس ولو عن قصمة السواك". يعني ما انكسر منه إذا استيك به .. وأما الفصمُ - بالفاء- فهو أن ينصدع اغلشيء من غير أن يبين. يقال منه: فصمت الشيء أفصمه فصماً: إذا فعلت [ذلك]

به، فهو مفصومٌ، قال "ذو الرمة" يذكر غزالاً شبهه بدملج فضة: كأنه دُملجٌ من فضة نبهٌ ... في ملعبٍ من جواري الحي مفصومٌ وإنما جعله مفصوماً لتثنيه، وانحنائه، إذا نام ولم يقل: مقصوم، فيكون بائناً باثنين، قال: الله- تبارك وتعالى-: "لا انفصام لها". وأما الوصم - بالواو-[304] وليس هو في هذا الحديث، فإنه العيب يكون بالإنسان، وفي كل شيءٍ منه. يقال [منه]: ما في فلان وصمةٌ إلا كذا وكذا يعني العيب. وأما التوصيم، فإنه الفترة والكسل يكون في الجسد. ومنه الحديث: "إن الرجل إ ذا قام، يُصلي من الليل أصبح طيب النفس، وإن نام حتى

يصبح أصبح ثقيلاً موصماً" وقال "لبيدٌ": وإذا رمت رحيلاً فارتحل ... واعص ما يأمر توصيم الكسل 470 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم: "من فاتته صلاة العصر فكأنمنا وتر أهله وماله". قال: حدثناه "هُشيمٌ" قال: أخبرنا "حجاجٌ" عن "نافع" عن "ابن عمر" يرفعه.

قال "الكسائي" هو من الوتر، وذلك أن يجني الرجل على الرجل جنايةً، يقتل له قتيلاً، أو يذهب بماله وأهله، فيقال: قد وتر فلانٌ فلاناً أهله وماله. قال "أبو عبيدٍ": يقول: فهذا فيما فاته من صلاة العصر بمنزله الذي قد وُتر فذهب بماله وأهله. وقال غيره: قوله: وُتر أهله [وماله] يقول: نُقص أهله وماله، وبقي فرداً، وذهب إلى قوله: "ولن يتركم أعمالكم" يقول: لن ينقصكم يقال: قد وترته حقه: إذا نقصته. قال "أبو عبيدٍ": وأحد القولين قريب من الآخر. 471 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه جاء إلى البقيع ومعه مِخصرةٌ له" فجلس، ونكت بها

الأرض، ثم رفع رأسه، وقال: "ما من نفسٍ منفوسةٍ إلا وقد كُتب مكانُها من الجنة والنار". ثم ذكر حدثنثاً طويلاً في القدر. قال: حدثنيه "أبو حفصٍ الأبار" عن "منصورٍ" و"الأعمش"

عن "سعد بن عبيدة" عن "أبي عبيد الرحمن السلمي" عن "علي" عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. قوله: ومعه مخصرةٌ له: فإن المخصرة ما اختصر [به] الإنسان بيده فأمسكه [305] من عصاً أو عنزةٍ أو عُكازةٍ، وما أشبه ذلك. ومنه أن يُمسك الرجل بيد صاحبه، فيقال: فلانٌ مخاصرُ فلانٍ. ومنه حديث "عبد الله بن عمرو": "أنه كان عنده رجل من قريش، وهو مخاصره".

قال: أخبرنيه "محمد بن كثير" عن "الأوزاعي" أسنده. قال [أبو عبيد]: وأخبرني "مسلمة بن سهلٍ" شيخٌ من أهل العلم بإسنادٍ له لا أحفظه أن "يزيد بن معاوية" قال لأبيه "معاوية" ألا ترى "عبد الرحمن بن حسان" يُشببُ بابنتك؟ فقال "معاوية": وما قال؟ فقال: قال: هي زهراءُ مثلُ لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون قال "معاوية": صدق. فقال "يزيدُ": وقال: وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دون

قال [معاوية]: وصدق. قال فأين قوله؟ : ثم خاصرتها إلى القبة الخضرا ... ء تمشي في مرمرٍ مسنون قال "معاوية": كذب. قال "أبو عبيدٍ": قوله: خاصرتها: أي أخذت بيدها. قال "الفراء": يُقال: خرج القوم متخاصرين: إذا كان بعضهم آخذاً بيد بعض. وأما الحديث الذي يُروى: "أنه نهى أن يُصلي الرجل مختصراً".

فليس من هذا في شيءٍ، إنما ذاك أن يصلي وهو واضعٌ يده على خصره، فذلك يروى في كراهته حديثٌ مرفوعٌ. قال: حدثناه "عمرو بن هارون البلخي" عن "سعيد بن أبي عروبة" عن "قتادة" يرفعه. ويروى فيه الكراهة أيضاً عن "عائشة [-رضي الله عنها-] و"أبي هريرة" و [هو] في بعض الحديث "أنه راحة أهل النار".

472 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان لا يُصلي في شُعُر نسائه". قال: حدثناه "معاذ بن معاذٍ" عن "أشعث بن عبد الملك" عن "ابن سيرين" عن "عبد الله بن شقيقٍ" عن "عائشة" [- رضي الله عنها-] قالت: "كان رسول الله [- صلى الله عليه وسلم-] لا يُصلي في [306] شُعُرنا، ولا في لُحفنا".

قوله: الشعر: واحدها شعارٌ، وهو ما ولي جلد الإنسان من اللباس. وأما الدثار: فما فوق الشعار مما يُتدفأ به. وأما اللحاف: فكل ما تغطيت به فقد التحفت به. يُقال منه: لحفتُ الرجل ألحفه لحفاً: إذا فعلت ذلك به، قال "طرفة" [بن العبد]: ثم راحوا عبقُ المسك بهم ... يلحفون الأرض هُداب الأزر وفي هذا الحديث من الفقه: أنه إنما كره الصلاة في ثيابهن فيما

نرى- والله أعلم- مخافة أن يكون أصابها شيءٌ من دم الحيض، ولا، أعرفُ للحديث وجهاً غيره. فأما عرق الحائض والجنب، فلا نعلم أحداً كرهه، ولكنه لمكان الدم كما، كره "الحسنُ" الصلاة في ثياب الصبيان، وكره بعضهم الصلاة في ثوب اليهودي والنصراني، وذلك لمخافة أن يكون أصابه شيء من القذر، لأنهم لا يستنجون، وقد رُوي مع هذا الرخصة في الصلاة في ثياب النساء. قال: سمعت "يزيد" يُحدثه عن "هشام بن حسان" عن "الحسن" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يُصلي في مُروط نسائه، وكانت أكسيةً أثمان خمسة دراهم أو ستة، والناس على هذا.

473 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- "لقد هممت ألا أتهب إلا من قُرشيٍّ، أو أنصاريٍّ أو ثقفيٍّ". لا أعلمه إلا من حديث "ابن عيينة" عن "عمرو" عن "طاووس" وعن "ابن عجلان" عن "المقبري" يرفعان الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-. قوله: لا أتهبُ، يقولُ: لا أقبل هبةً إلا من هؤلاء. ومثال هذا من الفعل أفتعِلُ، كقولك من العدة: أتعدُ، ومن الصلة: أتصلُ، ومن الزنة اتزن.

قال "أبو عبيدٍ": ويقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- إنما قال هذه المقالة؛ لأن الذي اقتضاه الثواب من أهل البادية، فخص هؤلاء بالاتهاب [307] منهم؛ لأنهم أهل حاضرة، وهم أعلم بمكارم الأخلاق. وبيان ذلك في حديث آخر أنه قال: "لقد هممتُ ألا أقبل هبةً- أو قال: هديةً- إلا من "قُرشيٍّ"، أو "أنصاريٍّ" أو "ثقفيٍّ". قال: حدثنيه "يزيدُ" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. فهذا قد بَين لك أنه أراد بقوله: "لا أتهبُ": أي "لا أقبلُ هبةً.

وفي هذا الحديث [من الفقه] أنه - صلى الله عليه وسلم- كان يقبلُ الهدية والهبة، وليس هذا لأمير بعده من الخلفاء؛ لأنه يُروى عنه: "هدايا الأمراء غلولٌ". وبلغني عن "أبي المليح الرقي" عن "عمر بن عبد العزيز" أنه قال: "كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- هديةً، وللأمراء بعده رشوةً". 474 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- "أنه حرم ما بين لا بتي المدينة".

قال "الأصمعي": اللابة: الحرة، وهي الأرض قد ألبستها حجارةٌ سودٌ، وجمع اللابة لاباتٌ ما بين الثلاث إلى العشر، فإذا كثرت فهي اللاب واللوب لغتان. قال "بشر بن أبي خازمٍ" يذكر كتيبةً: معاليةٌ لا هم إلا محجرٌ ... وحرة ليلى السهلُ منها فلوبها

يُريدُ جمع لابة، ومثلُ هذا في الكلام قليلٌ ومنه: قارةٌ وقورٌ، وساحةٌ وسوحٌ. وفي حديثٍ آخر "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حرم ما بين "عير" إلى "ثور". وهما اسما جبلين بالمدينة. وقد كان بعض الرواة يحمل معنى بيت الحارث بن حلزة" في قوله: زعموا أن كل من ضرب العيير موالٍ لنا وأنا الولاء على هذا العير يذهبُ إلى كُلِّ من ضرب إليه، وبلغه. وبعض الرواة يحمله على أن العير الحمارُ. قال "أبو عبيدٍ": وهذا حديث "أهل العراق".

و"أهل المدينة" لا يعرفون بالمدينة جبلاً يقال له "ثور" وإنما "ثورٌ" "بمكة". فنُرى أن الحديث إنما أصله: "ما بين "عيرٍ" إلى "أُحدٍ". 475 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه أتاه [308] "مالك بن مُرارة الرهاوي" فقال [له]: يا رسول

الله! إني قد أُوتيت من الجمال ما ترى ما يسرني أن أحداً يفضلني بشراكين فما فوقهما فهل ذلك من البغي"؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنما ذلك من سفه الحق، وغمط الناس".

قال: حدثنيه "معاذ بن معاذٍ" عن "ابن عونٍ" عن "عمرو بن سعيدٍ" عن حميد بن عبد الرحمن عن "ابن مسعودٍ" عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: أما قوله: سفه الحق: فإنه أن يرى الحق سفهاً وجهلاً، قال الله - تبارك وتعالى-: "إلا من سفه نفسه". قال "أبو عبيد": وبعض المفسرين يقول في قوله [-تعالى-] "إلا من سفه نفسه" يقول "سفهها". وأما قوله: وغمط الناس: فإنه الاحتقار لهم، والازدراء بهم، وما أشبه ذلك.

وفيه لغةٌ أخرى في غير هذا الحديث غمص الناس - بالصاد- وهو بمعنى "غمط". ومنه حديثٌ يُروى عن "عبد الملك بن عُمير" عن "قبيصة بن جابرٍ" أنه أصاب ظبياً وهو محرمٌ، فسأل "عمر" فشاور "عبد الرحمن" ثم أمره أن يذبح شاةً. فقال "قبيصةُ" لصاحبه: والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره، وأحسبني سأنحرُ ناقتي، فسمعه "عمر" فأقبل عليه ضرباً بالدرة، وقال: أتغمص الفتيا وتقتل الصيد، وأنت مُحرمٌ، قال الله [- تبارك وتعالى-]: "يحكم به ذوا عدل منكم" فأنا "عمر" وهذا "عبد الرحمن". قال "أبو عبيد": فقوله: أتغمص الفتيا، يريد تحتقرها، وتطعن فيها.

ومنه يقال للرجل إذا كان مطعوناً عليه في دينه: إنه لمغموصٌ عليه. وفي هذا الحديث من الفقه أن "عمر" [- رحمه الله-] لم يحكم عليه حتى حكَّم معه غيره لقوله [-تعالى-] "يحكم به ذوا عدل منكم". وفيه أنه جعل في الظبي شاةً أو كبشاً، ورآه ندهُ من النعم. وفيه أنه لم يسأله: أقتله عمداً أم خطأ؟ ورآهما عنده سواءٌ في الحكم. وهذا غيرُ قول من يقول: إنما الجزاء في العمد. وفيه أنه لم يسأله: هل أصاب صيداً قبله أم لا؟ ولكنه حكم عليه، فهذا يرد قول من يقول: إنما يحكم عليه

مرةً واحدةً، فإن عاد لم يُحكم عليه، وقيل له: إذهب فينتقم الله [- تبارك وتعالى-] منك. 476 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث [309] النبي- صلى الله عليه وسلم-[أنه قال]: "لا يُعدى شيء شيئاً. فقال أعرابي: يا رسول الله! إن النقبة قد تكون بمشفر البعير، أو بذنبه في الإبل العظيمة، فتجرب كلها. فقال رسول الله [- صلى الله عليه وسلم-] فما أجرب الأول؟

قال: حدثنيه "أبو بدرٍ شجاعُ بن الوليد" عن "ابن شُبرمة" عن "أبي زرعة" عن "أبي هريرة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. قال "الأصمعي": النقبة: أول الجرب حين يبدو، يقال للناقة والجمل به نُقبةٌ، وجمعه نقبٌ. قال ["أبو عبيد"]: وأخبرني "ابن الكلبي" أن "دريد ابن الصمة" خطب الخنساء بنت عمرو" إلى أخويها "صخر"

و"معاوية" فوافقها، وهي تهنأ إبلاً لها، فاستأمرها أخواها فيه، فقالت: "أترونني كنت تاركةً بني عمي كأنهم عوالي الرماح، ومرتثةً شيخ بني جُشمٍ". فانصرف "دريدٌ" [وهو] يقول: ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم هانئ أينقٍ صهب متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب وفي الحديث أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر". وقد فسرناه في موضعٍ آخر.

477 - وقال أبو "عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثلاث من أمر الجالهية: الطعن [310] في الأنساب والنياحة والأنواء". قال "أبو عبيد" سمعت عدةً من أهل العلم يقولون: أما الطعن في الأنساب والنياحة فمعروفان. وأما الأنواء فإنها ثمانيةٌ وعشرون نجماً معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها من الصيف والشتاء والربيع والخريف يسقط منها في كل ثلاث

عشرة ليلةً نجمٌ في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته، وكلاهما معلومٌ مسمى، وانقضاء هذه الثمانية والعشرين كلها مع انقضاء السنة ثم يرجع الأمر إلى النجم الأول مع استئناف السنة المقبلة، فكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجمٌ؛ وطلع آخر، قالوا: لا بد من أن يكون عند ذلك مطرٌ ورياحٌ، فينسبون كل غيث يكون عند ذاك إلى ذلك النجم الذي يسقط حينئذٍ، فيقولون: مُطرنا بنوء الثريا، والدبران والسماك، وما كان من هذه النجوم، فعلى هذا فهذه هي الأنواء، وواحدها نوءٌ. وإنما سمي نوءاً؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق للطلوع، فهو ينوء نوءاً، وذلك النهوض هو النوء، فسمي النجم

به، وكذلك كل ناهضٍ بثقلٍ وإبطاءٍ، فإنه ينوء عند نهوضه. وقد يكون النوء السقوط. قال "أبو عبيدٍ": ولم أسمع أن النوء السقوط إلا في هذا الموضع. وقال الله - عز وجل-: "ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة" وقال "ذو الرمة" يذكر امرأةً بالعظم: تنوء بأخراها فلأياً قيامها ... وتمشي الهوينا من قريب فتبهر وقد ذكرت العرب الأنواء في أشعارها فأكثرت حتى جاء فيه النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. 478 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- "أن رجلاً كان يخدمه في سفرٍ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم: هل في أهلك من كاهل؟

قال: لا. ما هم إلا أصيبيةٌ صغارٌ. قال: ففيهم فجاهد. حدثنا "أبو عبيدٍ" قال: حدثنيه "ابن علية" [311] عن "خالدٍ" عن "أبي قلابة". عن "مسلم بن يسار" رفعه. قوله: "من كاهل" يعني: من أسن [وصار كهلاً] وهو من الكهل. يُقال: كاهل الرجل، واكتهل: إذا أسن، وكذلك يقال: اكتهل النبات: إذا تم طوله. وهو رجلٌ كهلٌ، وامرأةٌ كهلةٌ، قال الراجز: ولا أعود بعدها كريا أمارس الكهلة والصبيا

479 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل شهر رمضان صُفدت الشياطين، وفتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار".

حدثنا "أبو عبيدٍ": قال: حدثنيه "إسماعيل بن جعفر" عن "أبي سهيل نافع ابن مالك" عمِّ "مالك بن أنسٍ" عن "أبيه" عن "أبي هريرة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-. قال "الكسائي" وغيرُ واحدٍ: قوله: صفدت، يعني: شُدت بالأغلال، وأوثقت. يقال منه: صفدت الرجل، فهو مصفودٌ، وضفدته، فهو مصفدٌ.

فأما أصفدته بالألف إصفاداً، فإنه أن تُعطيه وتصله، والاسم من العطية ومن الوثاق جميعاً الصفد. قال "ألنابغة الذبياني" في الصفد يريد العطية: هذا الثناءُ لأن بُلغت معتبةً ... ولم أُعرض- أبيت اللعن - بالصفد بالصفد: يُريد لم أُعرض بالعطية، يقول: لم أمدحك لتعطيني. والجمع منهما [جميعاً] أصفادٌ، قال الله - تبارك وتعالى-:

"وآخرين مقرنين في الأصفاد" وقال "الأعشى" في العطية أيضاً يمدح رجلاً: نضيفته يوماً، فأكرم مقعدي ... وأصفدني على الزمانة قائدا يقول: وهب لي قائداً يقودني، والمصدر من العطية الإصفاد، ومن الوثاق الصفدُ والتصفيد. ويقال للشيء الذي يُوثق به الإنسان: الصفادُ، يكون من نسع أو قِد. وقال الشاعر يُعيرُ "لقيط بن زرارة" باسر أخيه "معبدٍ": هلا مننت على أخيك معبدٍ ... والعامري يقوده بصفاد [312]

480 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: "أن الله [- تبارك وتعالى-] جعل حسنات بني آدم أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ، وقال الله [-جل وعز-]: إلا الصوم فإن الصوم لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".

حدثنا "أبو عبيدٍ": قال: حدثنيه "أبو اليقظان" عن "إبراهيم الهجري" عن "أبي الأحوص" عن "عبد الله" يرفعه. قوله: "الصوم لي، وأنا أجزي به" [قال] وقد علمنا أن أعمال البر كلها له وهو يجزي بها، فنرى - والله أعلم- أنه إنما خص الصوم بأن يكون هو [- سبحانه-] الذي يتولى جزاءه؛ لأن الصوم ليس يظهر من ابن آدم بلسانٍ ولا فعل، فتكتبه الحفظةُ إنما هو نيةٌ في القلب، وإمساكٌ عن حركة المطعم والمشرب [والنكاح] يقول [- عز وجل-]: فأنا أتولى جزاءه على ما أُحب من التضعيف، وليس على كتابٍ كتب له.

ومما يُبين ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم-: "ليس في الصوم رياءٌ". حدثنا "أبو عبيدٍ" قال: حدثنيه "شبابةُ" عن "ليثٍ" عن "عُقيلٍ" عن "ابن شهابٍ" رفعه. وذلك أن الأعمال كلها لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم خاصةً، فإنما هو بالنية التي قد خفيت على الناس، فإذا نواها، فكيف يكون ها هنا رياء؟ هذا عندي وجه الحديث- والله أعلم. قال "أبو عبيد": وبلغني عن "سفيان بن عيينة" أنه فسر قوله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به". قال: لأن الصوم هو الصبر يصبرُ الإنسان على المطعم والمشرب

والنكاح، ثم قرأ: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ" يقول: فثواب الصوم ليس له حسابٌ يعلم من كثرته. ومما يقوى قول "سفيان" الذي يُروى في التفسير قول الله [تبارك وتعالى] "السائحون" [هو في التفسير] الصائمون. يقول: فإنما الصائم بمنزله السائح [ليس يتلذذ بشيءٍ]. وأما قوله: في الخلوف، فإنه تغير طعم الفم [وريحه] لتأخير الطعام، يُقال منه: خلف فمه يخلف خلوفاً، قاله "الأصمعي" و"الكسائي" وغيرهما ومنه حديثُ "عليٍّ" [رضي الله عنه] حين سُئل عن القُبلة للصائم، فقال: "وما أربك إلى خلوف فيها"

حدثنا [313] "أبو عبيد": قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "أبي إسحاق" عن "عُبيد بن عمرو [الخارفي] عن "علي". والصوم أيضاً في أشياء سوى هذا. يُقال للقائم الساكت صائمٌ، قال "النابغة الذبياني". خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلكُ اللجما ويقال للنهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة: قد صام النهار، قال "امرؤ القيس": فدعها وسل الهمَّ عنك بجسرةٍ ... ذمول إذا صام النهار وهجرا

حدثنا "أبو عبيدٍ" قال: وحدثنا "عباد بن العوام" عن "سليمان التيمي" قال: سمعتُ "أنس بن مالك" يقرأ: "إني نذرت للرحمن صوماً" و [يروى] "صمتاً". 481 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي"- صلى الله عليه وسلم-: "أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم"

حدثنا "أبو عبيدٍ" قال: حدثنيه "علي بن ثابت" عن "عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري" عن "أبيه" عن "جده" رفعه. قوله: المروح: أراد المطيب بالمسك، فقال: مروحٌ بالواو، وإنما هو من الريح، وذلك أن أصل الريح الواو، وإنما جاءت الياء لكسرة الراء قبلها، فإذا رجعوا إلى الفتح عادت الواو، ألا ترى أنهم قالوا: تروحتُ بالمروحة بالواو، وجمعوا الريح، فقالوا: أرواحٌ لما انفتحت الواو؟ وكذلك قولهم: قد أروح الماء، وغيره: إذا تغيرت ريحه. وفي هذا الحديث من الفقه أنه رخص في المسك أن يُكتحل به، ويتطيب به. وفيه أنه كرهه للصائم، وإنما وجه الكراهة [أن يكتحل به] أنه ربما خلص إلى الحلق.

وقد جاء في غير هذا الحديث الرخصة فيه، وعليه الناس: "أنه لا بأس بالكحل للصائم". 482 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم: "لعلكم ستدركون أقواماً يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى، فصلوا الصلاة للوقت الذي تعرفون، ثم صلوها معهم".

قال: حدثناه "أبو معاوية"، عن "الأعمش"، عن "إبراهيم ابن علقمة" و"الأسود" عن "عبد الله". أما قوله: "يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى" فإن في ذلك تفسيرين أحدهما يروى عن "الحسن بن محمد بن الحنفية". قال "أبو عبيدٍ": سمعت "مروان الفزاري" يُحدثه عنه أنه سُئل عن ذلك، فقال: ألم تر إلى الشمس إذا ارتفعت عن الحيطان، وصارت بين القبور كأنها لُجةٌ؟ فذلك شرق الموتى. قال "أبو عبيدٍ": يعني أن طلوعها وشروقها إنما هو تلك الساعة، وهما للموتى دون الأحياء. وأما التفسير الآخر، فإنه عن غيره. قال: هو أن يغص الإنسان بريقة، وأن يشرق به عند الموت، فأراد: أنهم كانوا يُصلون الجمعة، ولم يبق من النهار إلا بقدر ما بقي من نفس هذا الذي قد شَرِق بريقه.

وفي غير هذا الحديث زيادةٌ ليست في هذا. قال: حدثنا "أبو بكر بن عياش" عن "عاصم بن أبي النجود" عن "زر بن حُبيش" عن "عبد الله" عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في تأخير الصلاة مثل ذلك، إلا أنه لم يذكر شرق الموتى، وزاد فيه: فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون فيه، واجعلوا صلاتكم معهم سبحةً". قال "أبو عبيدٍ" يعني بالسبحة: النافلة. وبيان ذلك في حديث آخر، أنه قال: "واجعلوها نافلةً". وكذلك كل نافلة في الصلاة فهي سُبحةٌ.

ومنه حديثُ "ابن عُمر" أنه كان يُصلي سبحته في مكانه الذي يُصلي فيه المكتوبة. وقال الله - عز وجل-: "فلولا أنه كان من المسبحين" يروى في التفسير: من المصلين. وفي هذا الحديث من الفقه أنه يرد قول من خرج على السلطان ما دام يقيم الصلاة. فلو رُخص لهم في حالٍ لكان في هذه الحال إذا كانوا يصلون الصلاة لغير وقتها، فكيف إذا صلوها لوقتها؟ هذا يرد قولهم أشد الرد. وفي الحديث أيضاً ما يُبين لك اختلاف الناس فيمن صلى وحده، ثم أعاد في جماعة. فقال بعضهم: صلاته هي الأولى.

وقال بعضهم: بل هي التي صلاها في جماعة. فقد تبين لك في هذا الحديث أن صلاته المكتوبة هي الأولى، وأن التي بعدها نافلةٌ وإن كانت في جماعةٍ. 483 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه كانت فيه دُعابةٌ".

حدثنا "أبو عبيدٍ" قال: حدثنيه "ابن علية" عن "خالد الحذاء" عن "عكرمة". رفعه. قوله [314]: الدعابة يعني المزاح. وفيه ثلاث لغاتٍ: المزاحة، والمزاح، والمزحُ. وفي حديث آخر يروى عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إني لأمزح وما أقول إلا حقاً". وذلك فيما نرى مثل قوله: "اذهبوا بنا إلى فُلانٍ البصير نعوده" لرجل مكفوفٍ، أي البصير القلب.

ومثل قوله للعجوز التي قالت: "ادع الله أن يدخلني الجنة" فقال: "إن الجنة لا يدخلها العُجُزُ" كأنه أراد قول الله - عز وجل-: "إن أنشأناهن إنشاءً، فجعلناهن أبكاراً؛ عرباً أتراباً". يقول: فإذا صارت إلى الجنة فليست بعجوزٍ حينئذ. ومنه قوله لابن أبي طلحة، وكان له نُغرٌ فمات، فجعل يقول له: "ما فعل النغير يا أبا عمير". هذا وما أشبه المزاح، وهو حق كله. وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النغير: إنه أحل صيد المدينة وقد حرمها، فكأنه إنما حرم الشجر أن تُعضد، ولم يُحرم الطير كما حرم طير مكة.

قال "أبو عبيدٍ": وقد يكون وجهُ هذا الحديث أن يكون الطائر إنما أدخل من خارج المدينة إلى المدينة، فلم يُنكره لهذا. قال "أبو عبيد": ولا أُرى هذا إلا وجه الحديث. ومما يبين لك أن الدعابة المزاح، قوله لجابر بن عبد الله حين قال له: "أبكراً تزوجت أم ثيباً"؟ فقال: بل ثيباً. قال: "فهلا بكراً تُداعبها وتداعبك". وبعضهم يقول: "تلاعبها وتلاعبك".

قال "اليزيدي": يُقال من الدعابة: هذا رجل دعابة. وقال بعضهم: دعبٌ. وكان "اليزيدي" يقول: إنما هو المزاح، وينكر ما سواها. قال "أبو عبيدٍ": وإنما المزاح عندنا مصدر مازحته ممازحةً ومزاحاً. فأما مصدر مزحت فكما قال أولئك مزاحاً. 484 - وقال "أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار، وغابت الشمس فقد أفطر الصائم". [قال]: حدثناه "أبو معاوية" عن "هشام بن عروة" عن

"أبيه" عن "عاصم بن عمر" عن "عُمر [بن الخطاب- رضي الله عنه-] عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: وفي [315] هذا الحديث من الفقه أن الصائم إن أكل أولم يأكل فهو مفطرٌ: هذا يرد قول المواصلين، يقول: ليس للمواصل فضلٌ على الآكل؛ لأن الصيام لا يكون بالليل، فهو يفطر على كل حال أكل أو ترك. 485 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحابٌ، أو ظلمةٌ، أو هبوةٌ، فأكملوا العدة، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً، ولا تصلوا رمضان بيوم من شعبان" حدثنا "أبو عبيد" قال: حدثنا

"ابن أبي عدي" عن "حاتم بن أبي صغيرة" عن "سماك بن حرب" عن "عكرمة" عن "ابن عباس" عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: قوله: الهبوة: يعني الغبرة تحولُ دون رؤية الهلال، وكل غبرة هبوةٌ. ويقال لدقاق التراب إذا ارتفع قد هبا يهبو هبواً، فهو هابٍ. وكان "الكسائي" يُنشد هذه الأبيات، قال "الكسائي": أنشدني أشياخٌ من بني تميم يروونها عن أشياخهم عن "هوبر الحارثي": ألا هل أتى التيم بن عبد مناةٍ ... على الشيء فيما بيننا ابن تميم بمصرعنا النعمان يوم تألبت ... علينا تميمٌ من شطاً وصميم تزود منا بين أذناه ضربةً ... دعته إلى هابي التراب عقيم فقال: هابي [التراب] يعني ما ارتفع من التراب، ودق.

وقوله: بين أذناه: هي لغة "بلحارث بن كعبٍ" يقولون: رأيت رجلان. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم- "لا تستقبلوا الشهر استقبالاً": يقول؛ لا تقدموا رمضان بصيامٍ قبله، وهو قوله: "ولا تصلوا رمضان بيوم من شعبان". قال: وسمعت "محمد بن الحسن" يقول في هذا: إنما كره التقدم قبل رمضان إذا كان يراد به رمضان، فأما إذا كان يراد به التطوع فلا بأس به. قال "أبو عبيدٍ": وبيان هذا في حديث مرفوع. حدثنا "أبو عبيدٍ" قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفر" و"يزيد بن هارون" عن محمد بن عمرو" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" عن النبي [316]- صلى الله عليه وسلم- قال:

"لا تقدموا رمضان بيومٍ ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُم عليكم، فصوموا ثلاثين [يوماً] ثم أفطروا". وفي هذا الحديث من الفقه قوله: "فإن غُم عليكم" فعدوا ثلاثين، فجعله لا يجزئهم على غير رؤيةٍ أقل من ثلاثين. وفي هذا ما يبين لك أنه لا يجزئ في شيء تسعةٌ وعشرون إلا أن يكون ذلك على الرؤية. وكذلك لو كان على رجلٍ صوم شهرٍ في نذر أو كفارة، فصام مع الرؤية وأفطر معها، وكان الشهر تسعاً وعشرين أجزأه، وإن اعترض الشهر لم يُجزه أقل من ثلاثين، فهذا وما أشبهه على ذا. فحديث "أبي هريرة" أصل لكل شيءٍ من هذا الباب.

486 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم". حدثنا "أبو عبيدٍ" قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "إبراهيم بن مهاجر" عن "مجاهدٍ" عن "قائد السائب" عن "السائب" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-:

قال "أبو عبيدٍ": وحدثني "ابن مهدي" أيضاً عن "محمد بن مسلم" عن "إبراهيم بن ميسرة" عن "مجاهد" عن "قيس بن السائب" عن "أبيه" قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- شريكي، فكان خير شريك لا يدارئ ولا يمارى". وفي حديث "سفيان" قال "السائب" للنبي - صلى الله عليه وسلم-: "كنت شريكي فكنت خير شريكٍ لا تدارئ ولا تمارى". قوله: [- صلى الله عليه وسلم-]: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم": إنما معناه- والله أعلم- على التطوع خاصةً من غير علة من مرض ولا سواه.

ولا تدخل الفريضة في هذا الحديث؛ لأن رجلاً لو صلى الفريضة قاعداً أو نائماً، وهو لا يقدر إلا على ذلك كانت صلاته تامةً مثل صلاة القائم- إن شاء الله-؛ لأنه من عذر. وإن صلاها من غير عذرٍ قاعداً أو نائماً لم تجزه البتة، وعليه الإعادة، وهذا وجه الحديث. وأما قوله: "كنت لا تدارئ ولا تمارى" [317]. فإن المدارأة هاهنا مهموزة من دارأت، وهي المشاغبة والمخالفة على صاحبك، ومنها قول الله [-عز وجل-]. "وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها" يعني اختلافهم في القتيل.

ومن ذلك حديث "إبراهيم" أو "الشعبي" [شك أبو عبيد] في المختلعة إذا كان الدرء من قبلها، فلا بأس أن يأخذ منها. والمحدثون يقولون: هذا الدرو بغير همز، وإنما هو الدرؤ يا هذا من درأت قال: إذا كان الدرء من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها، وإن كان من قبله فلا يأخذ. يعني بالدرء: النشوز والإعوجاج والاختلاف. وكل من دفعته عنك، فقد درأته، قال "أبو زبيدٍ" يرثي ابن أخته: كان عني يرد درؤك بعد الليـ ... ـه شغب المستصعب المريد. يعني دفعك.

وفي حديث آخر أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: "كان لا يشارى ولا يمارى" فالمشاراة الملاجة، يقال للرجل: قد استشرى: إذا لج في الشيء، وهو شبيهٌ بالمدارأة. وأما المداراة في حسن الخلق والمعاشرة مع الناس، فليس من هذا. هذا غير مهموز وذاك مهموزٌ. وزعم "الأحمر" أن مداراة الناس تُهمز ولا تُهمز. قال "أبو عبيدٍ": والوجه عندنا ترك الهمز. وهو مأخوذٌ من الدرية، وهو الشيء يستتر به الصائد. 487 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة قتات".

حدثنا "أبو عبيدٍ": قال: حدثناه "أبو معاوية الضرير" عن "الأعمش" عن "إبراهيم" عن "همام بن الحارث" عن "حذيفة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: قال "الكسائي" و"أبو زيدٍ" أو أحدهما: قوله: "قتاتٌ" يعني النمام. يقال منه: فلانٌ يقت الأحاديث قتا، أي ينمها نما. وقال "الأصمعي" في الذي ينمي الأحاديث هو مثل القتات إذا كان يبلغ هذا عن هذا على وجه الإفساد والنميمة.

يقال منه: نميت- مشددةً- تنميةً. قال: وإذا كان إنما ببلغُ على وجه [318] الإصلاح وطلب الخير قيل منه: نميت الحديث إلى فلانٍ مخففةً، فأنا أنميه. قال "أبو عبيدٍ": ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: حدثناه "ابن علية" عن "معمرٍ" عن "الزهري" عن "حميد ابن عبد الرحمن بن عوف" عن "أمه أم كلثوم بنت عقبة"؛ عن "النبي"- صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس بالكاذب من أصلح بين الناس: فقال خيراً ونمى خيراً".

يعني: أبلغ ورفع، وكل شيءٍ رفعته فقد نميته، ومنه قول النابغة: فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له ... وانم القتود على عيرانة أُجد. ولهذا قيل: نمى الخضاب في اليد والشعر إنما هو ارتفع وعلا، فهو ينمي. وزعم بعض الناس أن ينمو لغةٌ. قال "أبو عبيدٍ": وبلغني عن "سفيان بن عيينة" أنه قال: "لو أن رجلاً اعتذر إلى رجل فحرف الكلام وحسنه ليرضيه بذلك لم يكن كاذباً". يتأول الحديث: "ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً ونمى خيراً" قال: فإصلاحه ما بينه وبين صاحبه أفضل من إصلاحه ما بين الناس. 488 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي"- صلى الله عليه وسلم- "أنه نهى عن كسب الزمارة".

حدثنا "أبو عبيدٍ": قال: حدثنيه "حجاجٌ" عن "حماد بن سلمة" عن "هشام بن حسان" و"حبيب بن الشهيد" عن "ابن سيرين" عن "أبي هريرة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-: قال "الحجاج": الزمارة: الزانية. قال "أبو عبيدٍ": فمعناه مثل قوله: "أنه نهى عن مهر البغي" والتفسير في الحديث.

ولم أسمع هذا الحرف إلا فيه، ولا أدري من أي شيءٍ أُخذ. قال "أبو عبيد": وقال بعضهم: هي الرمازة. وهذا عندي خطأ في هذا الموضع. إنما الرمازة في حديث آخر، وذلك أن معناها مأخوذٌ من الرمز، وهي التي تومئ بشفتيها أو بعينيها [319] فأي كسب لها ها هنا ينهى عنه. ولا وجه للحرف إلا ما قال "الحجاج": زمارة، وهو عندنا أثبت ممن خالفه إنما نهى رسول الله - صلى الله علهي وسلم- عن كسب الزانية، وبه نزل القرآن في قوله: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردنا تحصناً: لتبتغوا عرض الحياة الدنيا". فهذا العرض

هو الكسبُ، وهو مهر البغي الذي جاء فيه النهي، وهو كسب الأمة، كانوا يُكرهون فتياتهم على البغاء، ويأكلون كسبهن حتى أنزل الله [- تبارك وتعالى-] في ذلك النهي. قال "أبو عبيدٍ": حدثني "يحيى بن سعيد" عن "الأعمش" عن "أبي سفيان" عن "جابر". قال: كانت أمةٌ "لعبد الله بن أُبي" وكان يُكرهها على الزنا، فنزلت: "ولا تُكرهوا فتياتكم على

البغاء إن أردن تحصناً؛ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفورٌ رحيمٌ". قال "أبو عبيدٍ" المغفرة لهن لا للمولى. قال "أبو عبيدٍ": وحدثني "إسحاق الأزرق" عن "عوف" عن "الحسن" في هذه الآية قال: لهن والله. لهن والله. 489 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا ترفع عصاك عن أهلك". قال "الكسائي" وغيره؛ يقال: إنه لم يرد [بها] العصا التي يُضرب بها، ولا أمر أحداً قط بذلك، ولكنه أراد الأدب.

قال "ابو عبيدٍ": وأصل العصا الاجتماع والائتلاف، ومنه قيل للخوارج: قد شقوا عصا المسلمين، أي فرقوا جماعتهم. وكذلك قول "صلة بن أشيم" "لأبي السليل": "إياك وقتيل العصا". يقول: إياك أن تكون قاتلاً أو مقتولاً في شق عصا المسلمين. ومنه قيل للرجل إذا أقام بالمكان واطمأن به واجتمع إليه أمره: قد ألقى عصاه. وقال الشاعر: فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر وكذلك يقال: ألقى أرواقه وألقى بوانيه، فكأن وجه الحديث [320] أنه أراد بقوله: "لا ترفع عصاك عن أهلك" أي امنعهم من الفساد والاختلاف وأدبهم.

وقد يقال للرجل إذا كان رفيقاً حسن السياسة لما ولى: إنه للين العصا. قال "معن بن أوس المزني": عليه شريبٌ وادع لين العصا ... يساجلها جماته وتساجله ذكر ماءً وإبلاً ورجلاً يقوم عليها، فقال هذا. 490 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه لم يشبع من خبز ولحمٍ إلا على ضفف".

وبعضهم يقول: شظف. قال "أبو عبيدٍ": حدثنيه "محمد بن كثير" عن "عبد الله بن شوذبٍ" عن "مالك بن دينار" عن "الحسن" عن النبي- صلى الله عليه وسلم- إلا أن "ابن كثيرٍ" قال: "ضفف". قال "أبو زيدٍ": يقال في الضفف والشظف جميعاً: إنهما الضيق والشدة، يقول: لم يشبع إلا بضيق وقلة. وقال ابن الرقاع: ولقد أصبتُ من المعيشة لذة ... ولقيت في شظف الأمور شدادها ويقال في الضفف قول آخر. قالوا: هو اجتماع الناس، يقول: لم يأكل وحده، ولكن مع الناس. قال "الأصمعي": يقال: هذا ماءٌ مضفوفٌ، وهو الذي قد كثر عليه الناس. قال "أبو عبيدٍ" قال الشاعر: * لا يستقي في النزح المضفوف* * إلا مداراة القروب الجوف*

فالنزح: الماء القليل. والقروب: الدلاء التي يستقى بها على الإبل، والجوف: العظام الأجواف. قال "الأصمعي": ويقال أيضاً: ماءٌ مشفوهٌ: إذا كثر عليه الناس. وماءٌ مثمودٌ كذلك أيضاً إذا كثروا عليه حتى ينفذوه إلا أقله. ومنه قيل: رجلٌ مثمودٌ: إذا أكثر النكاح حتى يُنزف. 491 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام". حدثنا "أبو عبيدٍ" قال: حدثناه "الفزاري مروان بن معاويةً" عن "مجمع بن يحيى الأنصاري" عن من حدثه، يرفعه. قال "أبو عمرو" وغيره: يُقال: بللت رحمي أبُلها بلاً وبلالاً: إذا وصلتها ونديتها بالصلة.

وإنما شُبهت [321] قطيعة الرحم بالحرارة تطفأ بالبرد، كما قالوا: سقيته شربةً بردت بها عطشه. قال "الأعشى": أما لطالب نعمةٍ تممتها ... ووصال رحمٍ قد بردت بلالها وفي هذا الحديث من العلم أنه جعل السلام صلةً، وإن لم يكن بر غيره. 492 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".

[قال]: حدثنا [هـ]: "إسماعيل بن جعفر" عن "العلاء ابن عبد الرحمن" عن "ابيه" عن "أبي هريرة" عن النبي- صلى الله عليه وسلم-. قال "الكسائي" وغيره: بوائقه: غوائله وشره. يقال للداهية والبلية تنزل بالقوم: قد أصابتهم بائقةٌ. ومنه حديثه الآخر في الدعاء: "أعوذ بك من بوائق الدهر ومصيبات الليالي والأيام". قال "الكسائي": ويقال [منه]: باقتهم البائقة، فهي تبوقهم بوقاً.

ومثله: فقرتهم الفاقرة، وصلتهم الصالة بمعناها. [قال]: ويقال: رجلٌ صل إذا كان داهيةً منكراً شبه بالحية. 493 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "خير المال سكةٌ مأبورةٌ وفرسٌ مأمورةٌ". وبعضهم يقول: "مهرةٌ مأمورةٌ". حدثنا "أبو عبيدٍ": قال: حدثني غيرُ واحدٍ عن "أبي نعامة العدوي عمرو بن عيسى"، عن "مسلم بن بديلٍ"، عن "إياس بن زهيرٍ" عن "سويد بن هبيرة" عن النبي - صلى الله عليه وسلم.

أما قوله: سكةٌ مأبورةٌ، فيقال: هي الطريقة المستوية المصطفة من النخل. ويقال: إنما سميت الأزقة سككاً لاصطفاف الدور فيها كطرائق النخل. وأما المأبورة: فإنها التي قد لُقحت. يقال: أبرتُ النخل فأنا أبرها أبراً، وهي نخلٌ مأبورةٌ. ومنه الحديث المرفوع: "من باع نخلاً قد أُبرت- ويقال: قد أُبرت- فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع".

حدثنا "أبو عبيد" قال: حدثنا [322] "ابن علية" عن "ابن جريجٍ" عن "الزهري" عن "سالمٍ" عن "أبيه" عن النبي - صلى الله عليه وسلم. ويقال أيضاً: ابإيتبرت غيري إذا سألته أن يأبر لك نخلك، وكذلك الزرع. قال "طرفة": ولي الأصل الذي في مثله ... يُصلح الآبر زرع المؤتبر فالآبر: العامل، والمؤتبر: رب الزرع، والمأبور: الزرع والنخل الذي قد لُقح.

وأما الفرس أو المُهرة المأمورة، فإنها الكثيرة النتاج، وفيها لغتان. يقال: أمرها الله فهي مأمورةٌ، وآمرها ممدودة- فهي مؤمرةٌ. وقد قرأ بعضهم: "وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها" غير ممدودة فقد يكون هذا من الأمر، يُروى عن "الحسن" أنه فسرها: أمرناهم بالطاعة فعصوا. وقد يكون أمرنا بمعنى أكثرنا، وعلى هذا قال: فرسٌ مأمورةٌ. ومن قرأ: "آمرنا" فمدها، فليس معناها إلا أكثرنا. ومن قرأ: "أمرنا" - مشددة- فهو من التسليط، يقول: سلطنا

ويقال في الكلام: قد أمر القوم يأمرون: إذا كثروا، وهو من قوله: فرسٌ مأمورةٌ. 494 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "قلدوا الخيل، ولا تقلدوها الأوتار".

قال: بلغني عن "النضر بن شُميلٍ" أنه قال: عُرضت الخيلُ على "عبيد الله بن زياد" فمرت به خيل "بني مازن" فقال "عبيد الله": إن هذه لخيلٌ. قال: والأحنف [بن قيس] جالسٌ، فقال: إنها لخيلٌ لو كانوا يضربونها على الأوتار. فقال "فلان بن مشجعة المازني" قال: لا أعلمه إلا قال "خيثمة". قال: وبعض الناس يقول: هذا الذي رد على الأحنف "فلان ابن الهلقم": "أما يوم قتلوا أباك، فقد ضربوها على الأوتار". قال: "لم يُسمع للأحنف سقطةٌ غيرها". فمعنى الأوتار ها هنا الذحول. يقول: لا يطلبون عليها [323] الوتر الذي وتروا به في الجاهلية.

قال "أبو عبيدٍ": وهذا معنىً يذهب إليه بعض الناس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أراد ألا يطلبوا عليها الذحول. وغير هذا الوجه أشبه عندي بالصواب. قال "أبو عبيد": سمعت "محمد بن الحسن" يقول: إنما معناه: أوتار القسي كانوا يقلدونها تلك، فتختنق، فقال: لا تقلدوها بها. ومما يُصدق ذلك حديث "هُشيم" عن "أبي بشر" عن "سليمان اليشكري" عن "جابر" أن النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أمر أن تقطع الأوتار من أعناق الخيل".

قال: "أبو عبيدٍ": وبلغني عن "مالك [بن أنس] " أنه قال: إنما كان يُفعل بها ذلك مخافة العين عليها. قال "أبو عبيد": حدثنيه عنه "أبو المنذر الواسطي" يعني أن الناس كانوا يقلدونها؛ لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم- بقطعها يعلمهم أن الأوتار لا ترد من أمر الله - عز وجل- شيئاً. وهذا شبيه بما يُكره من التمائم.

495 - وقال "أبو عبيد" في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يبيع على بيع أخيه".

حدثنا "أبو عبيدٍ": قال: حدثنيه "يحي بن سعيد القطان"، عن "عبيد الله"، عن "نافعٍ"، عن "ابن عمر"، عن النبي- صلى الله عليه وسلم. قال "أبو عبيدٍ": وحدثناه "إسماعيل بن جعفر"، عن "محمد بن عمرو"، عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- بمثله أو نحوه. قال "أبو عبيدٍ": كان "أبو عبيدة" و"أبو زيد" وغيرهما من أهل العلم، يقولون: إنما النهي في قوله: "لا يبع على بيع أخيه" إنما هو لا يشترى على شراء أخيه، فإنما وقع النهي على المشتري لا على البائع؛ لأن العرب تقول: بعتُ الشيء بمعنى اشتريته. قال "أبو عبيدٍ": وليس للحديث عندي وجهٌ غير هذا؛ لأن البائع لا يكاد يدخل [324] على البائع. هذا قليلٌ في معاملة الناس

وإنما المعروف أن يُعطي الرجلُ الرجلَ بسلعته شيئاً، فيجيء مشترٍ آخر، فيزيد عليه ومما يبين ذلك ما تكلم الناس فيه من بيع من يزيدُ حتى خافوا كراهته. فقال: كانوا يتبايعونه في مغازيهم، فقد عُلم أنه في بيع من يزيدُ، إنما يدخل المشترون بعضهم على بعضٍ، فهذا يبين لك أنهم إنما طلبوا الرخصة فيه؛ لأن الأصل إنما هو على المشترين. قال "أبو عبيدٍ": وقد حدثني "علي بن عاصمٍ" عن "أخضر بن عجلان" عن "أبي بكر الحنفي" عن "أنس [بن مالك] " أن

النبي - صلى الله عليه وسلم- "باع قدح رجل وحلسه فيمن يزيد" فإنما المعنى ها هنا للمشترين أيضاً. ومثله أنه نهى عن الخطبة كما نهى عن البيع. فقد علمنا أن الخاطب إنما هو طالبٌ بمنزلة المشتري. فإنما وقع النهي على الطالبين دون المطلوب إليهم. وقد جاء في أشعار العرب أن قالوا للمشتري بائعٌ، قال: أخبرني "الأصمعي" أن "جرير بن الخطفي" كان يُنشد "لطرفة بن العبد": ......................... ... غدٌ ما غدٌ ما أقرب اليوم من غدِ ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد

قوله: لم تبع له: لم تشتر له. وقال "الحطيئة": وباع بنيه بعضهم بخشارة ... وبعت لذبيان العلاء بمالكا قوله: * وباع بنيه بعضهم بخشارة* هو من البيع يذمه به. وقوله: * وبعت لذبيان العلاء بمالكا*

يقول: اشتريت لقومك العلاء أي الشرف بمالك. قال: وبلغني عن "مالك بن أنس" أنه قال: إنما نُهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه إذا كان كل واحد من الفريقين قد رضي بصاحبه وركن إليه، فأما قبل الرضا فلا بأس أن يخطبها من شاء. 496 - وقال "أبو عبيدٍ" [325] في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: أنه قال ذات غداة: [إنه] أتاني الليلة آتيان فابتعثاني، فانطلقت معهما، فأتيا على رجلٍ مضطجع، وإذا رجلٌ قائمٌ عليه بصخرةٍ وإذا هو يهوي بالصخرة فيثلغ [بها] رأسه، فتدهدى الصخرة. قال: "ثم انطلقنا فأتينا على رجلٍ مستلقٍ، وإذا رجلٌ قائمٌ عليه بكلوبٍ، وغذا هو يأتي أحد شقي وجهه، فيشر شرٌ شدقه إلى قفاه". "ثم انطلقنا فأتينا على مثل بناء التنور فيه رجالٌ ونساءٌ يأتيهم لهب من أسفل، فإذا أتاهم اللهب ضوضوا".

فانطلقنا، وانتهينا إلى دوحة عظيمة، فقالا لي: ارق فيها، فارتقينا، فإذا نحن بمدينة مبنية بلبن ذهبٍ وفضةٍ فسما بصري صُعداً، فإذا قصرٌ مثل الربابة البيضاء". قال "أبو عبيدٍ": يروى ذلك عن "عوفٍ" عن "أبي رجاء" عن "سمرة بن جُندبٍ" عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. أما قوله: "رجلٌ مضطجعٌ ورجلٌ يهوي بصخرة فيثلغ بها رأسه"، فإنه يعني يشدخه. يقال: ثلغت رأسه أثلغه ثلغاً إذا شدخته. وقوله: "فيتدهدى الحجر" يعني يتدحرج. يقال: تدهدى الحجر وغيره تدهدياً: إذا تدحرج. ودهديته أنا أدهديه دهداةً ودهداءً: إذا دحرجته. قال: "الكسائي": وقوله: "كلوبٌ من حديد": هو الكلاب، وهما لغتان: كلوبٌ وكلابٌ، والجمع منهما: كلاليب. وقوله: "يُشرشر شدقه إلى قفاه": يعني يشققه ويقطعه.

قال: "أبو زبيد الطائي" يصف الأسد: يظل مغباً عنده من فرائس ... رفات عظامٍ أو غريضٌ مشرشر وقوله: "فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا يعني ضجوا وصاحوا، والمصدر منه الضوضاة غير مهموز. وأما الدوحة: فالشجرة العظيمة من أي شجرٍ كان. وأما قوله: "مثل الربابة البيضاء" فإنها السحابة التي قد ركب بعضها بعضاً، وجمعها ربابٌ. وبه سميت المرأة الرباب، وقال الشاعر [326]: سقى دار هندٍ حيث حلت بها النوى ... مسف الذرى دانى الرباب ثخين وأما الربابة - بكسر الراء- فإنها شبيهةٌ بالكنانة يكون فيها السهام قال "أبو ذؤيب" يصف الحمار والأُتن: وكأنهن ربابةٌ وكأنه ... يسرٌ يُفيض على القداح ويصدع قال: وبعض الناس يقول: الربابة: خرقةٌ أو جلدةٌ يجعل فيها القداح شبه الوعاء لها.

497 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين متينٌ فأوغل فيه برفق، ولا تُبغض إلى نفسك عبادة الله [تبارك وتعالى] فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى". حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثناه: أبو معاوية الضرير عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر رفعه. وغير أبي معاوية لا يرفعه. [قال أبو عبيد]: قال الأصمعي وغيره: قوله: "فأوغل فيه برفقٍ" الإيغال: السير الشديد والإمعان فيه. يقال منه: أوغلت أوغِلُ إيغالاً.

قال أبو عبيد قال "الأعشى" يذكر الناقة: تقطع الأمعز المكوكب وخداً ... بنواجٍ سريعة الإيغال وأما الوغول: فإنه الدخول في الشيء، وإن لم يبعد فيه، وكل داخلٍ فهو واغلٌ [ووغلٌ]. يقال منه: وغلتُ أغلُ وغلاً ووغولاً. ولهذا قيل للداخل على الشرب من غير أن يُدعى: واغِلٌ ووغلٌ. وأما قوله: "فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى": فإن الذي يُغذ السير ويتعب [نفسه] بلا فتور حتى تعطب دابته، فيبقى منبتاً منقطعاً به لم يقض سفره، وقد أعطب ظهره، فشبهه بالمجتهد في العبادة حتى يحسر.

ومن هذا حديث "سلمان" [- رحمه الله-]: "وشر السير الحقحقة" وقد قاله "مطرف بن الشخير" لابنه. حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثناه "ابن علية"، عن "إسحاق ابن سويدٍ" قال: تعبد "عبد الله بن مطرف" فقال له "مُطرفٌ": يا عبد الله: [327] العلمُ أفضلُ من العمل، والحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة". أما قوله: "الحسنة بين السيئتين": فإنه أراد أن الغلو في العمل سيئةٌ، والتقصير عنه سيئةٌ، والحسنة بينهما، وهو القصد، كما جاء في الحديث الآخر في فضل قارئ القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، فالغلو فيه التعمق، والجفاء عنه التقصير، وكلاهما

سيئةٌ، ومما يبين ذلك قول الله - تبارك وتعالى-: "ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط". وكذلك قوله: "لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً". ومما يشبه هذا الحديث قول "تميم الداري": حدثنا أبو عبيدٍ قال: حدثنا "عبد الله بن المبارك"، عن "الجريري" عن - "أبي العلاء" قال: قال "تميم الداري": "خذ من دينك لنفسك ومن نفسك لدينك؛ حتى يستقيم بك الأمر على عبادة تطيقها". وكان "إسماعيل بن علية" يحدثه عن "الجريري"، عن رجل عن "تميم [الداري] "، ولا يذكر "أبا العلاء". ومثل ذلك حديث يروى عن "بريدة الأسلمي" عن النبي

- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من يشاد هذا الدين يغلبه". حدثنا "أبو عبيد" قال: حدثنيه "يزيد" و"إسماعيل" جميعاً عن "عيينة بن عبد الرحمن" عن "أبيه" عن "بريدة" قال: "بينما أنا ماشٍ في طريق إذ أنا برجلٍ خلفي، فالتفت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأخذ بيدي، فانطلقنا، فإذا نحن برجلٍ يصلي يكثر الركوع والسجود. قال: فقال لي: يا بريدة! أتراه يرائي؟ ثم أرسل يده من يدي، وجمع يديه [جميعاً] وجعل يقول: "عليكم هدياً قاصداً، عليكم هدياً قاصداً؛ إنه من يشاد هذا الدين يغلبه".

498 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى [328] في النار، فتندلق أقتابُ بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيقال: مالك؟ فيقول: إني كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".

حدثنا أبو عبيد قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "شقيق" عن "أسامة بن زيد" عن النبي - صلى الله عليه وسلم. قال الأصمعي، و"الكسائي": الأقتاب: الأمعاء. [قال الكسائي]: واحدها قتبٌ. وقال الأصمعي: واحدها قتبةٌ. [قال]: وبها سمي الرجل قتيبة وهو تصغيرها. وقال أبو عبيدة: القتب: ما تحوي من البطن يعني استدار، وهو الحوايا. قال: وأما الأمعاء فإنها الأقصاب واحدها قصبٌ. قال أبو عبيد: وأما قوله: "فتندلق أقتاب بطنه" فإن الاندلاق

خروج الشيء من مكانه سلساً سهلاً، وكل شيءٍ ندر خارجاً، فقد اندلق، ومنه قيل للسيف: قد اندلق من جفنه: إذا شقه حتى يخرج منه. ويقال للخيل: قد اندلقت: إذا خرجت فأسرعت السير، قال "طرفة": دُلقٌ في غارةٍ مسفوحةٍ ... كرعال الطير أسراباً تمر 499 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-:

"أنه ادهن بزيتٍ غير مقتتٍ وهو محرمٌ". حدثنا أبو عبيد قال: حدثنيه "محمد بن كثير"، عن "حماد بن سلمة"، عن "فرقد السبخي"، عن "الحسن"، أو سعيد بن جبير، عن "بن عمر"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. [قال أبو عبيد]: قوله: "غير مقتت" يعني غير مُطيب. والمقتت: هو الذي فيه الرياحين يُطبخ بها الزيت حتى يطيب ويتعالج منه للرياح.

فمعنى الحديث أنه ادهن بالزيت بحتاً لا يخالطه شيء. وفي هذا الحديث من الفقه أنه كره الريحان أن يشمه المحرم. 500 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم: "ألا إن التبين من الله، والعجلة من الشيطان، فتبينوا". قال الكسائي وغيره [329]: التبين مثل التثبت في الأمور والتأني فيها. وقد روى عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ: "إذا ضربتم في سبيل الله فتثبتوا"، وبعضهم: "فتبينوا" والمعنى بعضه قريبٌ

من بعض. وأما البيان فإنه من الفهم وذكاء القلب مع اللين. ومنه الحديث المرفوع: إن من البيان سحراً. وذلك أن قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم قدموا على النبي- صلى الله عليه وسلم- فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عمراً عن الزبرقان [بن بدر] فأثنى عليه خيراً، فلم يرض

الزبرقان بذلك، وقال: والله يا رسول الله إنه ليعلم أنه أفضل مما قال، ولكنه حسدني [علي] مكاني منك، فأثنى عليه عمروٌ شراً، ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبتُ عليه في الأولى ولا في الآخرة، ولكنه أرضاني، فقلت بالرضا، ثم أسخطني فقلت بالسخط. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إن من البيان سحراً" فكأن المعنى- والله أعلم- أنه يبلغ من بيانه أن يمدح الإنسان فيصدق فيه، حتى يصرف القلوب إلى قوله، ثم يذمه، فيصدق فيه، حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنه قد سحر السامعين بذلك، فهذا وجه قوله: "إن من البيان سحراً". قال أبو عبيد: هو من حديث عباد بن عباد المهلبي، عن محمد بن الزبير [الحنظلي]. قال: وحدثني أبو عبد الله الفزاري، عن مالك بن دينار، قال:

ما رأيت أحداً أبين من الحجاج إن كان ليرقى المنبر، فيذكر إحسانه إلى أهل العراق، وصفحه عنهم، وإساءتهم إليه، حتى أقول في نفسي: والله إني لأحسبه صادقاً، وإني لأظنهم ظالمين له. 501 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: أن رجلاً أتاه، فشكا إليه الجوع، فأُتي النبي - صلى الله عليه وسلم- بشاةٍ مصلية، فأطعمه منها. حدثنا أبو عبيد قال: "حدثناه خلفُ بن خليفة"، "عن ليثٍ"، عن "مجاهد"، و"إبراهيم" إلا أنه قال: قال أحدهما [أُتي] بشاة مصلية، وقال الآخر: بقصعةٍ من ثريدٍ. قال الكسائي وغير واحد [330] قوله: مصلية يعني: مشوية.

يقال منه: صليت اللحم وغيره: إذا شويته. فأنا أصليه صلياً مثال: رميته أرميه رمياً: إذا فعلت ذلك وأنت تريد أن تشويه. فإن ألقيته فيها إلقاءً كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف. إصلاءً. وكذلك: صليته أصليه تصليةً، قال الله - تبارك وتعالى-: "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً، فسوف نصليه ناراً". وروي عن علي [كرم الله وجهه] أنه كان يقرأ: "ويصلى سعيراً". وكان الكسائي يقرأ به، فهذا ليس من الشي إنما هو من إلقائك إياه فيها، قال أبو زبيد الطائي:

فقد تصليت حر حربهم ... كما تصلى المقرور من قرس يعني البرد. يقال: قد صليت بالأمر فأنا أصلى به إذا قاسى حره وشدته. ويقال في غير هذا المعنى: صليت لفلانٍ بالتخفيف، وذلك إذا عملت له في أمرٍ تريد أن تمحل به [فيه] وتوقعه في هلكةٍ، والأصل من هذا المصالي، وهي شبيهٌ بالشرك يُنصبُ للطير وغيرها. وقد روي في حديثٍ من حديثِ أهل الشام: "أن للشياطين

مصالى وفخوخاً" يعني ما يصيد به الناس، وهو من هذا وليس- من الأول. 502 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- في السنة في الرأس والجسد قال: "قص الشارب، والسواك، والاستنشاق، والمضمضة، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والختان، والاستنجاء بالأحجار، والاستحداد"، وفي بعض الحديث "وانتقاص الماء".

فأما الاستحداد، فإنه حلق العانة. ومن ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم- حين قدم من سفر، فأراد الناس أن يطرقوا النساء ليلاً، فقال: "أمهلوا حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة". حدثنا "أبو عبيد" قال: حدثناه هشيمٌ عن سيار، عن الشعبي عن جابر بن عبد الله [331]، عن النبي - صلى الله عليه وسلم. وفي آخر هذا الحديث حرفٌ لا أحفظه عن هشيم. قال أبو عبيد:

حدثنيه إسحاق بن عيسى عنه أنه قال: "فإذا قدمتم فالكيس الكيس. قال أبو عبيد: فكأنه ذهب به إلى طلب الولد والنكاح. ونرى أن أصل الاستحداد- والله أعلم- إنما هو الاستفعال من الحديدة، يعني الاستحلاق بها، وذلك أن القوم لم يكونوا يعرفون النورة. وأما إحداد المرأة على زوجها فمن غير هذا، إنما هو ترك الزينة، والخضاب. فنراه مأخوذاً من المنع؛ لأنها قد منعت من ذلك. ومنه قيل للرجال المحارف محدودٌ؛ لأنه ممنوع من الرزق؛ ولهذا قيل للبواب حدادٌ؛ لأنه يمنع الناس من الدخول، قال "الأعشى": فقمنا ولما يصح ديكنا ... إلى جونةٍ عند حدادها

يعني صاحبها الذي يحفظها ويمنعها. والجونة: خابية الخمر. وفي إحداد المرأة لغتان: يقال: حدت على زوجها تَحُد وتَحِدُّ حداداً. وأحدت تُحِدُّ إحداداً. وأما قوله: "وانتقاص الماء" فإنا نُراه غسل الذكر بالماء، وذلك أنه إذا غُسل الذكر بالماء ارتد البول، ولم ينزل، وإن لم يُغسل نزل منه الشيء حتى يُستبرى. قال أبو عبيد: وليس معنى الحديث أنه سمى البول ماءً، ولكنه أراد انتقاص البول بالماء إذا غُسل به. 503 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم

أن قوماً مروا بشجرة فأكلوا منها، فكأنما مرت بهم ريحٌ فأخمدتهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "قرِّصوا الماء في الشنان ثم صبوا عليهم فيما بين الأذانين". قال أبو عبيد: سمعت يزيد، يحدثه، عن عاصمٍ الأحول، عن أبي عثمان النهدي يرفعه. قوله: قرِّسُوا يعني: بردوا، وفيه لغتان: القرس بفتح الراء، والقرس بجذمها، وقول الناس: قد قَرِسَ البردُ إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد. وأما حديثه الآخر [332] أن امرأةً سألته عن دم المحيض في الثوب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "قرِّصيه بالماء" فإن هذا

بالصاد يقول: قطعيه به، وكل مقطع فهو مقرصٌ، يقال للمرأة: قد قرصت العجين إذا قطعته لتبسطه. وأما قوله: "في الشنان" فإنها الأسقية [والقرب] الخلقان، يقال للسقاء شن وللقربة شنةٌ. وإنما ذكر الشنان دون الجدد لأنها أشد تبريداً. وقوله: "بين الأذانين" يعني أذان الفجر والإقامة، فسمى الإقامة أذاناً وقد فسرنا هذا في غير هذا الموضع. وفي هذا الحديث من الفقه أن هذا الفعل شبيهٌ بالنشرة، فجاءت فيه الرخصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في غير إصابة العين.

504 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "ماذا في الأمرين من الشفاء الصبر والثفاء". يقال: إن الثفاء هو الحرف. والتفسير هو في الحديث، ولم نسمعه في غير هذا المكان. وقد رويت أشياءٌ مثل هذا لم نسمعها في كلامهم ولا في أشعارهم إلا أن التفسير في الحديث. منه قوله: "أنه نهى عن كسب الزمارة". وتفسيره في الحديث: الزانية.

ومنه حديث سالم بن عبد الله أنه مر به رجلٌ معه صيرٌ، فذاق منه ثم سأل عنه كيف تبيعه؟ تفسيره في الحديث أنه الصحناء. وكذلك حديثه الآخر: "من اطلع من صير باب، ففقئت عينه فهي هدرٌ" فتفسيره في هذا الحديث أن الصير: الشق. ومن ذلك حديث عمر [رضي الله عنه] حين سأل المفقود الذي كانت الجن استهوته ما كان شرابهم؟ فقال: الجدف. وتفسيره في الحديث أنه ما لا يغطى، ويقال: هو نباتٌ يكون بأرض اليمن لا يحتاج الذي يأكله إلى أن يشرب عليه الماء، وفي

مثل هذا أحاديثٌ كثيرةٌ. 505 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه احتجم على رأسه بقرن حين طُب". حدثنا أبو عبيد قال: حدثاه "هُشيمٌ"، عن "حصين بن [333] عبد الرحمن" عن "عبد الرحمن بن أبي ليلى" رفعه. قوله: طُب يعني سُحِر. يقال منه: رجلٌ مطبوبٌ. ونرى أنه إنما قيل له مطبوبٌ؛ لأنه كُني بالطب عن السحر

كما كنوا عن اللديغ بالسليم، فقالوا: سليمٌ تطيروا إلى السلامة من اللدغ، وكما كنوا عن الفلاة وهي المهلكة التي لا ماء فيها، فقالوا: مفازةٌ تطيروا إلى الفوز من الهلاك. وأصل الطب: الحذق بالأشياء، والمهارة بها، يقال للرجل: طب وطبيبٌ إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المرض، قال عنترة: إن تُغدفي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم وقال علقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصيرٌ بأدواء النساء طبيب

قوله: تسألوني بالنساء، يريد عن النساء. ومنه قول [الله عز وجل]: "فاسأل به خبيراً". وكذلك قول الناس: "أتينا فلاناً نسأل به" هو من هذا [أي نسأل عنه]. 506 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "الطيرة، والعيافة، والطرق من الجبت".

حدثنا أبو عبيد قال: حدثناه مروان الفزاري، وإسحاق الأزرق أو أحدهما عن عوفٍ، عن حيان، عن قطن بن قبيصة، عن قبيصة بن المخارق الهلالي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم. قوله: "العيافة" يعني زجر الطير. يُقال منه: عفتُ الطير أعيفها عيافةً. ويقال في غير هذا: عافت الطيرُ تعيف عيفاً إذا كانت تحوم على الماء. وعاف الرجل الطعام يعافُه عيافاً، وذلك إذا كرهه. وأما قوله في الطرق فإنه الضرب بالحصا، ومنه قول "لبيد": لعمرُك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع

وبعضهم يرويه: "الضوارب بالحصا"، ومعناهما واحد. وأصل الطرق الضربُ، ومنه سُميت مطرقة الصانع والحداد؛ لأنه يطرق [بها 334]- أي يضرب بها، وكذلك عصا النجاد التي يضرب بها الصوف. والطرق أيضاً في غير هذا الموضع هو الماء الذي قد خوضته الإبل وبولت فيه، فهو طرقٌ ومطروقٌ. ومنه حديث "إبراهيم" أنه قال: "الوضوء بالطرق أحب إلى من التيمم" وأما الطروق، فإنه من الطارق الذي يطرق ليلاً. وأما الإطراق، فإنه يكون من السكوت، ويكون أيضاً من استرخاء في جفون العين.

يقال منه: رجلٌ مطرقٌ، قال الشاعر في "عمر بن الخطاب"- رضي الله عنه- يرثيه: وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفَّى سبنني أزرق العين مطرق وأما التطارق، فإنه اتباع القوم بعضهم بعضاً. يقال [منه]: قد تطارق القوم: إذا فعلوا ذلك. ومنه قيل للترسة المجان المطرقة يعني قد أُطرقت بالجلود والعقب. أي ألبسته، وكذلك النعل المطرقة هي التي قد أُطبقت عليها أخرى.

507 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه "نهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال. ونهى عن عقوق الأمهات ووأد البنات، ومنعٍ وهات" [قال أبو عبيد]: يُقال: إن قوله: "إضاعة المال" [أن] يكون في وجهين أما أحدهما وهو الأصل فما أنفق في معاصي الله - عز وجل- وهو السرف الذي عابه الله [تبارك وتعالى] ونهى عنه فيما أخبرني به

"ابن مهدي" أن كل ما أنفق في غير طاعة الله [سبحانه] من قليل أو كثير فهو سرفٌ. والوجه الآخر دفع المال إلى ربه وليس له بموضع، ألا تراه قد حصن أموال اليتامى، فقال [تبارك وتعالى]: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم، وأشهدوا عليهم". قال أبو عبيد: حدثنا "جرير بن عبد الحميد"، عن "منصور"، عن "مجاهد"، في قوله: "فإن آنستم منه رشداً" قال: العقل. حدثنا [335] أبو عبيد: قال: حدثنا "يزيد"، عن "هشام"، عن "الحسن" قال: صلاحاً في دينه وحفظاً لماله.

قال أبو عبيد: هذا هو الأصل في الحجر على المفسد لماله، ألا تراه قد أمره بمنع اليتيم ماله، فهل يكون الحجر إلا هكذا؟ ومنه قوله [تعالى]: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً". وكذلك قوله [سبحانه]: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكام" فهذا كله وأشباهه فيما نهى الله [سبحانه] عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم- من إضاعة المال. وقوله: "وكثرة السؤال" فإنها مسألة الناس أموالهم، وقد يكون أيضاً من السؤال عن الأمور، وكثرة البحث عنها، كما قال [سبحانه]: "لا تسألوا عن أشياء إن تبُد لكم تسؤكم".

وكما قال: "ولا تجسسوا". وأما قوله: "ووأد البنات" فهو من المؤودة، وذلك أن الرجال كانوا يفعلون ذلك ببناتهم في الجاهلية، كان أحدهم ربما ولدت له البنت فيدفنها، وهي حيةٌ حين تولد، ولهذا كانوا يُسمون القبر صِهراً أي [إني] قد زوجتها منه، قال الشاعر: سميتها إذ ولدت تموت والقبر صهرٌ ضامنٌ زميتُ يا بنت شيخ ماله سُبروت يقال: أرض سباريت، والواحدة سبروت، وهي الأرض التي لا شيء فيها.

قال أبو عبيد، فهذا ما في الحديث من الفقه. وفي قوله: "نهى عن قيل وقال" نحوٌ وعربيةٌ وذلك أنه جعل القال مصدراً، ألا تراه يقول: عن قيلٍ وقالٍ، فكأنه قال: عن قيل وقول، يُقال على هذا: قلت قولاً وقيلاً وقالاً. قال أبو عبيد: وسمعت الكسائي، يقول في قراءة "عبد الله": "ذلك عيسى بن مريم قال الحق [الذي فيه تمترون] " فهذا من هذا، كأنه قال: قول الحق. 508 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن التبقر في الأهل [336] والمال.

حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه "حجاج"، عن "شعبة"، عن "أبي التياح"، عن رجلٍ من طيئ، عن "ابن مسعودٍ"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وتفسيره في الحديث أن "ابن مسعود" رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "فكيف بمالٍ براذان ومالٍ بكذا، ومالٍ بكذا، يُريد الكثرة والسعة. قال الأصمعي: هو من هذا، وأصل التبقر: التوسع والتفتح.

قال: ومنه قيل: بقرت بطنه إنما هو شققته وفتحته. قال أبو عبيد: ومن هذا حديث "أبي موسى" حين أقبلت الفتنة بعد مقتل عثمان بن عفان [رضي الله عنه] فقال: "إن هذه الفتنة باقرةٌ كداء البطن لا يُدرى أنى يؤتى له". إنما أراد أنها مفسدة للدين، ومفرقةٌ بين الناس، ومشتتةٌ أمورهم. وكذلك معنى الحديث الأول أنه إنما أراد النهي عن تفرق الأموال في البلاد فيتفرق القلب لذلك. 509 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إن أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر".

حدثنا أبو عبيد: قال: حدثنيه "يحيى بن سعيدٍ"، و"محمد بن عمر الواقدي"، عن "ثور بن يزيد"، عن "راشد بن مسعد". قال يحيى: عن عبد الله بن لحىٍ. وقال محمد: عن "عبد الله بن لحىً"، عن "عبد الله بن قُرطٍ"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال أبو عبيد: هو عندنا لحىٌ- بالفتح- إلا أن تريد التصغير، فتقول: لحىٌ. وقوله: "يوم القر" يعني الغد من يوم النحر، وإنما سُمي

يوم القرِّ؛ لأن أهل الموسم يوم التروية وعرفة والنحر في تعب من الحج فإذا كان الغد من يوم النحر قروا بمنىً، فلهذا سُمي يوم القر، وهو معروفٌ من كلام أهل الحجاز. قال أبو عبيد: وسألت عنه أبا عبيدة وأبا عمرو فلم يعراه، ولا الأصمعي فيما أعلم. وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أُتي ببدناتٍ [337] خمسٍ أو ستٍ، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت لجنوبها، قال عبد الله بن قُرط: فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بكلمة خفيةُ لم أفهمها أو قال: لم أفقهها، فسألت الذي يليه، فقال: قال: من شاء فليقتطع. أما قوله: "يزدلفن إليه" فإنه من التقدم، وقال الله

[عز وجل]: "وأزلفنا ثم الآخرين". وفي هذا الحديث من الفقه أنه رخص في النهبة إذا كانت بإذن صاحبها وطيب نفسه؛ ألا تسمع إلى قوله: "من شاء فليقتطع" ففي هذا ما يبين لك أنه لا بأس بنهبة السكر في الأعراس، وقد كرهه عدةٌ من الفقهاء، وفي هذا رخصةٌ بينةٌ. 510 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن بعيرٍ شرد، فرماه بعضهم بسهم حبسه الله به عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها، فاصنعوا به هكذا".

قال أبو عبيد: حدثنيه "المبارك بن سعيدٍ"، عن أبيه، عن "عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج"، عن جده "رافع بن خديج"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم. قال الأصمعي وأبو عمرو وغيرهما دخل كلامُ بعضهم في بعض

قالوا: قوله: "أوابد كأوابد الوحش" يعني بالأوابد: التي قد توحشت ونفرت من الإنس يقال منه: قد أبدت تأبُدُ وتأبِدُ أبوداً، وتأبدت تأبداً. ومنه قيل للدار إذا خلا منها أهلها، وخلفتهم الوحش بها: تأبدت، قال "لبيد": عفت الديار محلها فمقامها ... بمنىً تأبد غولها فرجامها وفي هذا الحديث أنه قيل: يا رسول الله إنا نلقى العدو غداً، وليست لنا مُدىً، فبأي شيءٍ نذبح؟ فقال: "أنهروا الدم بما شئتم إلا الظفر والسن، فأما السن فعظمٌ وأما الظفر فمدى الحبش"

وقال بعض الناس [335] في هذا: يعني السن المركبة في فم الإنسان، والظفر المركب في أصبعه ليس بمنزوعٍ؛ لأنه إذا ذبح بذلك فهو خنقٌ. واحتج فيه بقول "ابن عباس" [رضي الله عنه] في الذي ذبح بظفريه "إنه إنما قتلها خنقاً". قال أبو عبيد: ومع هذا أنه ليس يمكن الذبح بالظفر والسن المنزوعين لصغرهما. وقال بعض الناس: لا بل المعنى في النهي واقعٌ على كل ذابح

بسنٍ أو ظُفرٍ منزوع أو غير منزوع؛ لأن الحديث مبهمٌ - والله أعلم- وفي حديث آخر أن "عدي بن حاتم" سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: إنا نصيد الصيد؛ فلا نجد ما نُذكي به إلا الظرار، وشقة العصا؟ فقال: "أمر الدم بما شئت". قال الأصمعي: الظرار: واحدها ظررٌ، وهو حجرٌ محددٌ، وجمعه: ظرارٌ وظرانٌ، قال "لبيدٌ" يصف الناقة أنها تنفي الحصى بخفها: بجسرةٍ تنجل الظران ناجيةٍ ... إذا توقد في الديمومة الظرر

[قوله]: تنجلُ: تدفع، وكل شيءٍ رميت به، فقد نجلته، قال حسان [بن ثابت]: نجلت به بيضاء آنسةٍ ... من عبد شمسٍ صلبة الخدم وقوله: "أمر الدم بما شئت" يقول: سيله واستخرجه، ومنه قيل: مريتُ الناقة فأنا أمريها مرياً: إذا مسحت ضرعها؛ لينزل اللبن. ومنه حديث "ابن عباس" [رضي الله عنهما] أنه سئل عن الذبيحة بالعود فقال: "كل ما أفرى الأوداج غير مثرد. حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه "ابن عُلية"، عن "أيوب"، عن "عِكرمة"، عن "ابن عباسٍ". قوله: ما أفرى الأوادج، يعني ما شقَّها وأسال منها الدم.

يقال: أفريتُ الثوب - بالألف - وأفريت الجلة: إذا شققتها فأخرجت منها ما فيها. فإذا قُلت: فريت - بغير ألفٍ- فإن معناه أن تقدر الشيء وتعالجه وتصلحه مثل النعل تحذوها، أو النطع أو القربة ونحو ذلك. يقال منه: فريتُ أفرى فرياً، ومنه قول "زهير": ولأنت تفرى ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفرى [339] وكذلك فريت الأرض: أي سرتها وقطعتها. وأما الأول بالألف أفريت أفرى إفراءً، فإنه من التشقيق على وجه الفساد. وقوله: "غير مثردٍ".

قال أبو زياد الكلابي في المثرد: الذي يقتل بغير ذكاةٍ. يقال: قد ثردت ذبيحتك إذا قتلتها من غير أن تُفرى الأوداج وتُسيل الدم. وأما الحديث المرفوع في الذبيحة بالمروة، فإن المروة حجارةٌ بيضٌ، وهي التي تُقدح منها النار. قالها الأصمعي وغيره. 511 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه سمع "عمر" يحلف بأبيه فنهاه عن ذلك. قال: "فما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً".

قال: أما قوله: ذاكراً، فليس هو من الذكر بعد النسيان، إنما أراد متكلماً به [بعدُ] كقولك: ذكرتُ لفلانٍ حديث كذا وكذا. وقوله: "آثراً" يريد: ولا مُخبراً عن غيري أنه حلف به يقول: لا أقول: إن فلاناً قال: وأبي لا أفعل كذا وكذا. ومن هذا قيل: حديثٌ مأثورٌ، أي يخبر به الناس بعضهم بعضاً. يُقال منه: أثرت الحديث فأنا آثره أثراً، فهو مأثورٌ وأنا آثرٌ على مثال فاعل، قال الأعشى: إن الذي فيه تماريتما ... بُيِّن للسامع والآثر

[يُروى: بيَّن وبُيِّن]. ومنه حديث ابن عمر حين سأل سلمة بن الأزرق، وحدثه سلمة بحديثٍ عن أبي هريرة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في الرخصة في البكاء على الميت، فقال له ابن عمر أأنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ قال: نعم. قال: وبأثره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم. قال: فالله ورسوله أعلم. حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفر"، عن "محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي"، عن "محمد بن عمرو بن عطاء" عن "ابن عمر".

قال أبو عبيد: محمد بن عمرو بن عطاء هو من بني عامر بن لؤي. قال أبو عبيد: ويقال [340] إن المأثرة مفعلة من هذا، وهي المكرمة وإنما أُخذت من هذا، أي إنها يأثرها قرنٌ عن قرنٍ يتحدثون بها. 512 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أن رجلاً قال له: يا رسول الله! إنا قومٌ نتساءل أموالنا [بيننا] فقال: "يسأل الرجل في الجائحة والفتق، فإذا استغنى أو كرب استعف".

حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه "محمد بن أبي عدي"، "ويزيد بن هارون" عن "بهز بن حكيم"، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. أما قوله: "استغنى أو كرب" يقول: أودنا من ذلك وقرُب منه، وكل دان قريبٍ فهو كاربٌ، قال الشاعر، وأراه لعبد القيس "بن خفاف البرجمي": أبُني إن أباك كارب يومه ... فإذا دُعيت إلى المكارم فاعجل وأما قوله: "في الجائحة" فإنها المصيبة تحل بالرجل في ماله فتجتاحه كله. وأما "الفتق" فالحرب تكون بين الفريقين، فتقع بينهما

الدماء والجراحات فيتحملها رجلٌ ليصلح بذلك بينهم، ويحقن دماءهم فيسأل فيها حتى يؤديها إليهم. ومما يبين ذلك حديثه الآخر: حدثنا أبو عبيد قال: حدثناه "ابن عُلية" عن "أيوب"، عن "هارون بن رياب"، عن "كنانة بن نعيم"، عن "قبيصة بن المخارق" عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثةٍ: رجلٍ تحمل بحمالةٍ بين قوم، ورجلٍ أصابته جائحةٌ فاجتاحت ماله، فيسأل حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيشٍ. ورجلٍ أصابته فاقةٌ حتى يشهد له ثلاثةٌ من ذوي الحي من قومه أن قد أصابته فاقةٌ، وأن قد حلت له المسألة. وما سوى ذلك من المسائل سُحتٌ".

أما قوله: رجل تحمل بحمالة، ورجل أصابته جائحة فعلى ما فسرت لك. وأما الفاقة: فالفقر. وقوله: سدادٌ من عيشٍ، فهو بكسر السين، وكل شيءٍ سددت به خللاً فهو سدادٌ، ولهذا سُمي سداد القارورة، وهو صمامها؛ لأنه يسد رأسها، ومنه سداد [341] الثغر إذا سُد بالخيل والرجال. قال الشاعر، وهو العرجي واسمه "عبد الله بن عمرو بن عثمان" وإنما سُمي العرجي؛ لأنه كان ينزل موضعاً يقال له: العرج [بناحية الطائف ليس بالمنزل الذي يُسمى العرج بين المدينة ومكة]: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر

وأما السداد -بالفتح- فإنما معناه الإصابة في المنطق أن يكون الرجل مسددا. يقال منه: إنه لذو سداد في منطقة وتدبيره، وكذلك الرمى، فهذا ما [جاء] في الحديث من العربية. وأما ما فيه من الفقه، فإنه أخبرك بمن تحل له المسألة، فخص هؤلاء الأصناف الثلاثة، ثم حظر المسألة على سائر الخلق. وأما حديث "ابن عمر": "إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو دم موجع" فإن هذه الخلال الثلاث هي تلك التي في حديث "أيوب"، عن "هارون بن رياب"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأعيانها إلا أن الألفاظ اختلفت فيهما، فلا أرى المسألة تحل في هذا الحديث أيضا إلا لأولئك الثلاثة بأعيانهم.

513 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هجرا" حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنيه "حجاج"، عن "المسعودى"، عن النبى - صلى الله عليه وسلم -. قال الكسائى، وبعضه عن الأصمعى، وعن غيرهما قالوا: الهجر: الإفحاش في المنطق والخنا ونحوه.

يقال منه: أهجر الرجل يهجر إهجارا، قال الشماخ بن ضرار: كما جدة الأعراق ابن ضرة ... عليها كلاما جار فيه وأهجرا [قال أبو عبيد]: الأعراق والأعراض يرويان. قال أبو عبيد: ومنه حديث أبى سعيد الخدرى. حدثنا أبو عبيد قال: حدثناه "هشيم" عن "عبد الملك بن أبى سليمان" عن "أبى سعيد مولى أبى سعيد الخدرى" عن "أبى سعيد الخدرى" أنه كان يقول لبنيه: إذا طفتم بالبيت فلا [342] تلغوا، ولا تهجروا، ولا تقاضوا أحدا، ولا تكلموه هكذا. قال هشيم: [ولا] تهجروا.

قال أبو عبيد: ووجه الكلام عندنا: "تهجروا" في هذا الموضع لأن الإهجار كما أعلمتك من سوء المنطق وهو الهجر. وأما الهجر في الكلام، فإنه الهذيان مثل كلام المحموم والمبرسم. يقال منه: قد هجرت فأنا أهجر هجرا، وأنا هاجر، والكلام مهجور. وقد روى عن إبراهيم ما يثبت هذا القول. حدثنا أبو عبيد قال: حدثناه "هشيم" عن "مغيرة"، عن "إبراهيم" في قوله [سبحانه]: "إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا".

قال: قالوا فيه غير الحق، ألم تر إلى المريض إذا هجر قال غير الحق؟ حدثنا أبو عبيد قال: وحدثني "حجاج"، عن "ابن جريج"، عن "مجاهد" نحوه. 514 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "في إشعار الهدى". قال الأصمى: [الشعار] هو أن يطعن في أسنمتها في أحد الجانبين بمبضع أو نحو بقدر ما يسيل الدم، وهو الذي كان "أبو حنيفة" زعم يكرهه.

وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أحق أن تتبع. قال الأصمعى: أصل الإشعار العلامة يقول: فكأن ذلك إنما يفعل بالهدى؛ ليعلم أنه قد جعل هديا. قال أبو عبيد و [قد]: حدثناه "أبو معاوية" بما يبين ذلك. حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا "أبو معاوية" عن "الأعمش"، عن "إبراهيم"، عن "الأسود"، عن "عائشة" [رضي الله عنها] قالت: إنما تشعر البدنة؛ ليعلم أنها بدنة. قال الأصمعى: ولا أرى مشاعر الحج إلا من هذا؛ لأنها علامات له: وجاءت أم معبد الجهنى إلى "الحسن" فقالت [له]: إنك قد أشعرت ابنى فى الناس، أى إنك قد تركته كالعلامة فى الناس".

قال أبو عبيد: ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أن جبريل أتاه فقال: مر أمتك أن يرفعوا [343] أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعائر الحج". ومنه شعار العساكر، إنما يُسمون بتلك الأسماء علامةً لهم، ليعرف الرجل بها رفقته. ومنه حديث "عمر" حين رمى رجلٌ الجمرة فأصاب صلعته فسال الدم، ونادى رجلٌ رجلاً [فقال]: يا خليفة، فقال رجلٌ من "خثعم" أُشعر أمير المؤمنين دماً؟ أي أساله، ونادى رجلٌ: يا خليفة،

فقال: ليقتلن أمير المؤمنين، فتفاءل عليه القتل، فرجع، فقتل [رضي الله عنه]. 515 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب". قال "أبو عبيدة": جزيرة العرب ما بين حفر "أبي موسى" إلى أقصى "اليمن" في الطول، وأما العرض فما بين رمل "سيرين" إلى منقطع السماوة. وقال "الأصمعي": جزيرة العرب من أقصى "عدن أبين" إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن "جُدة"، وما والاها من ساحل

البحر إلى أطراف الشام. قال أبو عبيد: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بإخراجهم من هذا كله، فيرون أن "عمر" إنما استجاز إخراج أهل "نجران" من اليمن وكانوا نصارى إلى سواد العراق لهذا الحديث، وكذلك إخلاؤه أهل "خيبر" إلى الشام وكانوا يهوداً.

انتهى الجزء الثالث من كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام ويليه الجزء الرابع وأوله من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- فيمن خرج مجاهداً في سبيل الله: "فإن لسعته دابةٌ أو أصابه كذا وكذا فهو شهيد، ومن مات حتف أنفه- قال الذي سمع هذا الحديث من النبي- صلى الله عليه وسلم-: والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قطُّ قبل- رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - فقد وقع أجره على الله، ومن قُتل قعصاً، فقد استوجب المآب".

بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الرابع من كتاب "غريب الحديث" "لأبي عبيد القاسم بن سلام" وأوله "الحديث": "وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم: فيمن خرج مجاهداً في سبيل الله قال: فإن لسعته دابةٌ أو أصابه كذا وكذا فهو شهيدٌ ومن مات حتف أنفه ... فقد وقع أجره على الله، ومن قتل قعصاً فقد استوجب المآب". "المحقق"

516 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- فيمن خرج مجاهداً في سبيل الله. [قال]: فإن لسعته دابةً، أو أصابه كذا وكذا فهو شهيدٌ، ومن مات حتف أنفه- قال الذي سمع هذا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم-: "والله إنها لكلمةٌ ما سمعتها من أحدٍ من العرب قط قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقد وقع أجره على الله، ومن قتل قعصاً فقد استوجب المآب".

حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا يزيد: [344] عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن عتيك، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أما قوله "مات حتف أنفه" فهو أن يموت موتاً على فراشه من غير قتلٍ ولا غرقٍ، ولا سبُع، ولا غيره. وكذلك حديث "ابن عيينة" عن ابن أبي نجيح عمن سمع عبيد بن عمير، يقول في السمك: "ما مات حتف أنفه فلا تأكله" يعني الذي يموت منه في الماء، كأنه كره الطافي. قال: وقد رواه بعض أصحابنا عن سفيان بن عيينة: "ما مات حتفاً فيه" يعني في الماء. قال أبو عبيد: ولا أراه حفظ هذا عن ابن عيينة، وكلام العرب هو الأول. والقعص: أن يُضرب الرجل بالسلاح أو بغيره فيموت في مكانه قبل أن يريم،

فذلك القعص. يقال: أقعصته تقعصه إقعاصاً، وكذلك الصيد، وكل شيءٍ. وأما "المآب" فالمرجع، قال [تبارك وتعالى]: "وحسن مآبٍ". 517 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- "إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الركب أسنتها". حدثنا "أبو عبيد": قال: حدثنيه يزيد [بن هارون]، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. أما قوله: "الركب" فإنها جماعة الركاب، والركاب هي الإبل التي يُسار عليها، ثم تجمع الركاب، فيقال: رُكبٌ.

وأما قوله: "أسنتها" فإنه أراد الأسنان، يقول: أمكنوها من المرعى. [قال أبو عبيد]: وهذا كحديثه الآخر. قال أبو عبيد: حدثناه عنبسة بن عبد الواحد بن عبد الله بن سعيد بن العاص، عن يونس، عن الحسن، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الكلأ، وإذا سافرتم في الجدوبة فاستنجوا". وقوله الأسنة، ولم يقل الأسنان، وهكذا الحديث، ولا تعرف الأسنة في الكلام إلا أسنة الرماح، فإن كان هذا محفوظاً، فإنه أراد جمع السن، فقال: أسنان، ثم جمع الأسنان، فقال: أسنة [345] فصار جمع الجمع. هذا وجهه في العربية.

وقوله: فاستنجوا، يريد فانجوا إنما هو استفعال من النجاء. 518 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- في قتلى أحدٍ: "زملوهم في دمائهم وثيابهم" هو من حديث غير واحدٍ. عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: أما قوله: "زملوهم" فإنه يقول: لفوهم بثيابهم التي فيها دماؤهم وكذلك كل ملفوفٍ في ثياب فهو مزمل. ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- في المغازي في أول ما رأى.

"جبريل" [عليه السلام] فقال: "جُثت منه فرقاً" وبعضهم يقول: "جُثثت". قال "الكسائي": هما جميعاً من الرعب، يقال: رجل مجؤوثٌ ومجثوثٌ. قال: فأتى "خديجة" [رضي الله عنها] فقال: "زملوني". فإذا فعل الرجل ذلك بنفسه قيل: قد تزمل، وتدثر، فهو متزمل ومتدثر، فإذا أدغم التاء، قال: مزملٌ ومدثرٌ، وبهذا أنزل القرآن بالإدغام. وكذلك: "مُدكرٌ" إنما هو مذتكر، فأدغمت التاء، وأبدلت الذال دالاً. قال "أبو عبيد": وفي [هذا] الحديث من الفقه أن الشهيد إذا مات

في المعركة لم يُغسل، ولم ينزع عنه ثيابه. ألا تسمع إلى قوله: "زملوهم بثيابهم ودمائهم"؟ قال: إلا أني سمعت محمد بن الحسن يقول: ينزع عنه الجلد والفرو قال: وأحسبه قال: والسلاح، ويترك سائر ثيابه عليه. هذا إذا مات في المعركة، فإن رُفع وبه رمقٌ غسل وصلى عليه. قال: وأهل الحجاز لا يرون الصلاة على الشهيد إذا حُمل من المعركة ميتاً، ولا الغسل. وأهل العراق يقولون: لا يُغسل، ولكن يُصلى عليه. 519 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه أراد أن يُصلى على جنازةٍ فجاءت امرأةً معها مجمرٌ، فمازال يصيح بها حتى توارت بآدام المدينة". حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثناه هشيمٌ ويزيد، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ [346] سمع حنش بن المعتمر يحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم-

أما قوله: "آجام المدينة" فإنه يعني الحصون، وهذا كلام أهل الحجاز، واحدها أُجُمٌ، قال امرؤ القيس يصف شدة المطر: وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ ... ولا أجماً إلا مشيداً بجندل "قال أبو عبيدة": [إن] المشيد المعمول بالشيد، وهو الجص. وأما المشيد فهو المطول. وأهل الحجازي سمون الآجام أيضاً آطاماً وهي مثلها، واحدها أُطُمٌ. 520 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالباءة، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، فمن لم يقدر فعليه

بالصوم، فإنه له وجاء". حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. قال "أبو زيد" وغيره في الوجاء، يقال للفحل إذا رُضت أنثياه: قد وجئ وجاء [ممدودٌ] فهو موجوءٌ، وقد وجأته. فإن نُزعت الأنثيان نزعاً فهو خصيٍّ وقد خصيته خصاءً. فإن شُدت الأنثيان شداً حتى تندرا قيل: قد عصبته عصباً، فهو معصوبٌ.

قال أبو عبيد: فقوله: "فإنه له وجاء" يعني أنه يقطع النكاح؛ لأن الموجوء لا يضرب. وقد قال بعض أهل العلم: "وجاء" بفتح الواو مقصورٌ، يريد الحفا، والأول أجود في المعنى؛ لأن الحفا لا يكون إلا بعد طول مشيٍ أو عملٍ. والوجاء: الانقطاع من الأصل. قال: ويروى في حديثٍ آخر ما يشبهه. حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه ابن أبي عدي، عن حسينٍ المعلم، عن قتادة، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "صوموا ووفروا أشعاركم فإنها مجفرةٌ". يقول: مقطعةٌ للنكاح ونقصٌ للماء. يقال للبعير إذا أكثر الضراب [347] حتى ينقطع: قد جفر يجفر جفوراً، وهو جافرٌ، قال ذو الرمة يصف النجوم:

وقد عارض الشعري سهيلٌ كأنه ... قريع هجانٍ يتبع الشول جافر ويروى أيضاً: وقد لاح للساري سهيلً كأنه ... قريع هجانٍ عارض الشول جافر وفي هذا الحديث من العربية، قوله: "فعليه بالصوم" فأغرى غائباً ولا تكاد العرب تُغرى إلا الشاهد. يقولون: عليك زيداً، ودونك، وعندك، ولا يقولون: عليه زيداً إلا في هذا الحديث، فهذا حجة لكل من أغرى غائباً. 521 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال لسراقة بن جعشم: "ألا أدلك على أفضل الصدقة؟ ابنتك مردودةٌ عليك ليس لها كاسبٌ غيرك".

قال [أبو عبيد]: قال الأصمعي: المردودة: المطلقة. قال "أبو عبيد": وإنما هذا كنايةٌ عن الطلاق. وكذلك حديث "الزبير" [- رضي الله عنه-]. حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه أبو يوسف القاضي، عن هشام بن عروة، أن الزبير جعل دوره صدقةً، قال: وللمردودة من بناته أن تسكن غير مضرةٍ، ولا مضر بها، فإن استغنت بزوجٍ فلا شيء لها.

وأما المرأة الراجح، فإنها التي مات عنها زوجها، فرجعت إلى أهلها. وفي حديث الزبير من الفقه أن الرجل يجعل الدار والأرض وقفاً على قوم ويشترط أنه يزيد فيهم من شاء، وينقص منهم من شاء، فيجوز له ذلك. وإنما جاز هذا في الوقف خاصةٌ دون الصدقة النافذة الماضية؛ لأن حكمهما مختلفٌ. ألا ترى أن الوقف قد يجوز ألا يخرجه صاحبه من يده، وأن الصدقة لا تكون ماضية حتى تخرج من يد صاحبها في قول بعضهم. 522 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- في العُمري [348] والرقبى أنها لمن أعمرها، ولمن أرقبها ولورثتهما من بعدهما".

قال أبو عبيد: وتأويل العمري: أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمرك، أو يقول له: هذه الدار لك عمري. وقال أبو عبيد: وقد حدثني حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ في تفسير العمري بمثل ذلك أو نحوه. فأما الرقبى، فإن ابن علية حدثنا عن حجاج بن أبي عثمان، قال: سألت أبا الزبير عن الرقبى، فقال: هو أن يقول الرجل للرجل: إن مُت

قبلي رجع إليَّ، وإن مُت قبلك فهو لك. قال أبو عبيد: وحدثني ابن علية أيضاً عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: الرقبى: أن يقول [الرجل للرجل] كذا وكذا لفلان، فإن مات فهو لفلانٍ. قال أبو عبيد: وأصلُ العمري عندنا إنما هو مأخوذٌ من العمر. ألا تراه يقول: هو لك عمري أو عمرك. وأصل الرقبى من المراقبة، فكأن كل واحدٍ منهما إنما يرقب موت صاحبه، ألا تراه يقول: إن مُت قبلي رجعت إليَّ، وإن مت قبلك فهو لك؟ فهذا ينبئك عن المراقبة. والذي كانوا يريدون بهذا أن يكون الرجل يريد أن يتفضل على صاحبه بالشيء، فيستمتع منه ما دام حياً، فإذا مات الموهوب له لم يصل إلى ورثته منه شيءٌ، فجاءت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم- بنقص ذلك أنه من ملك شيئاً حياته، فهو لورثته من بعد موته. وفيه أحاديث كثيرةٌ.

حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمروٍ، عن طاوس عن حجرٍ المدري، عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قضى بالعُمري للوارث. حدثنا أبو عبيد: قال: وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن سليمان بن يسار أن طارقاً- أميراً كان على المدينة- قضى بالعُمري للورثة، عن قول جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. قال أبو عبيد [349]: وحدثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "العُمري جائزةً لأهلها".

حدثنا أبو عبيد: قال: وحدثنا ابن عُلية، عن ابن أبي نجيح، عن طاوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا رُقبى فمن أرقب شيئاً فهو لورثة المرقب". قال أبو عبيد: وهذه الآثار أصلٌ لكل من وهب هبة واشترط فيها شرطاً أن الهبة جائزةٌ، وأن الشرط باطل كالرجل يهب للرجل جارية على ألا تباع ولا توهب أو على أن يتخذها سريةً، أو على أنه إن أراد بيعها فالواهب أحق بها. هذا وما أشبهه من الشروط، فقبضها الموهوب له على ذلك وعوَّض الواهب منها فالهبة ماضيةٌ والشرط باطلٌ في ذلك كله. قال أبو عبيد: وكان مالك [بن أنس] يقول: إذا أعمر الرجل الرجل داراً، فقال: هي لك عمرك، فإنهما على شرطهما إذا مات الموهوب له رجعت إلى الواهب، إلا أن يقول: هي لك ولعقبك من بعدك.

523 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه سأل رجلاً فقال: "هل صمت من سرار هذا الشهر شيئاً؟ فقال: لا. قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين". حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه يزيد بن هارون، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن أخيه مطرفٍ، عن عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. قال الكسائي وغيره: السرار: آخر الشهر ليلة يستسر الهلال.

قال أبو عبيد: فربما استسر ليلةً، وربما استسر ليلتين إذا تم الشهر، وأنشدنا الكسائي: نحن صبحنا عامراً في دارها جُرداً تعادى طرفي نهارها عشية الهلال أو سرارها قال أبو عبيد: وفي لغة أخرى: سرر الشهر. وفي هذا الحديث من الفقه أنه إنما سأله عن سرار شعبان، فلما أخبره أنه لم يصم أمره أن يقضي بعد الفطر يومين. قال أبو عبيد: فوجه الحديث عندي - والله أعلم- أن هذا من نذرٍ كان على ذلك الرجل في ذلك الوقت، أو تطوع قد كان ألزمه نفسه، فلما فاته أمره بقضائه. لا أعرف للحديث وجهاً غيره. وفيه أيضاً أنه لم ير بأساً أن يصل رمضان بشعبان إذا كان لا يراد به رمضان، إنما يراد به التطوع، أو النذر يكون في ذلك الوقت.

ومما يشبه هذا الحديث حديثه الآخر: "لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين إلا أن يكون يوافق ذلك صومٌ كان يصومه أحدكم" فهذا معناه التطوع أيضاً. فأما إذا كان يريد به رمضان فلا؛ لأنه خلاف الإمام والناس. 524 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه مر بامرأةٍ مجح، فسأل عنها. فقالوا: هذه أمةٌ لفلانٍ. فقال: أيلم بها؟ فقالوا: نعم. فقال: لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه في قبره. كيف يستخدمه وهو لا يحل له أم كيف يورثه، وهو لا يحل له؟ "

حدثنا أبو عبيد: قال حدثناه يزيد، عن شعبةً، عن يزيد بن خمير، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفيرٍ، عن أبيه، عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم. أما قوله: "مجح" فإنها الحامل المقرب. وأما قوله: "كيف يستخدمه"؟ أو كيف يورثه؟ فإن وجه الحديث أن يكون الحمل قد كان ظهر بها قبل أن تسبى، فيقول: إن جاءته بولدٍ وقد وطئها بعد ظهور الحمل، لم يحل له أن يجعله مملوكاً، لأنه لا يدري [351] لعل الذي ظهر لم يكن حملاً، وإنما حدث الحمل من وطئه، فإن المرأة ربما ظهر

بها الحمل، ثم لا يكون شيئاً حتى يحدث الحمل بعد ذلك، فيقول: لا يدري لعله ولده. وقوله: "أم كيف يورثه؟ " يقول: لا يدري لعل الحمل قد كان بالصحة قبل السبي، فكيف يورثه؟ وإنما يراد من هذا الحديث أنه نهى عن وطء الحوامل من السبي حتى يضعن. 525 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه سأل عاصم بن عدي الأنصاري، عن ثابت بن الدحداح، وتوفي، "هل تعلمون له نسباً فيكم؟ فقال: لا، إنما هو أُتي فينا. قال: فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بميراثه لابن أخته".

حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه عباد بن عبادٍ، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن محمد بن يحي بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، رفعه. [قال أبو عبيد]: قال الأصمعي: أما قوله: أتى فينا، فإن الأتى الرجل يكون في القوم ليس منهمن، ولهذا قيل للسيل الذي يأتي من بلدٍ قد مُطر فيه إلى بلدٍ لم يُمطر فيه فذلك السيل أتى، قال العجاج: سيل أتى مده أتى يقال منه: أتيت السيل فأنا أؤتيه إذا سهلت سبيله من موضع إلى موضعٍ؛ ليخرج إليه. وأصل هذا من الغربة، ولهذا قيل: رجلٌ أتاوىٌّ إذ كان غريباً في غير بلاده.

ومنه حديث عثمان [رضي الله عنه] حين بعث إلى عبد الله بن سلام رجلين، فقال لهما: قولاً: إنا رجلان أتاويان. وقد قال بعض أصحاب الحديث في حديث ثابت بن الدحداح. إن عاصم بن عدي قال: إنما هو آتٍ فينا، فجعله من الإتيان، وليس هذا بشيء [352] والمحفوظ ما قلت لك: أُتيٍّ، بتشديد الياء. وفي [هذا] الحديث من الفقه أنه أعطى ميراثه ابن الأخت لما لم يوجد له وارث فورث ابن أخته، لأنه من ذوي الأرحام. وفيه أنه اكتفى بمسألة رجلٍ واحدٍ عن نسبه، ولم يسأل غيره. 526 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- وذكر فتنةً

تكون في أقطار الأرض كأنها صياصي بقرٍ". قوله: صياصي [بقرٍ]: يعني قرونها، وإنما سُميت صياصي، لأنها حصونها التي تحصن بها من عدوها، وكذلك كل من تحصن بشيءٍ فهو له صيصيةً، قال الله - عز وجل-: "وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم" يقال في التفسير: إنها حصونهم. وكذلك يقاللأصبع الطائر الزائدة في باطن رجله: صيصيةٌ، والصيصيةٌ في غير هذا: شوكة الحائك.

527 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- حين قال لعوف بن مالكٍ: "أمسك ستاً تكون قبل الساعة: أولهن موت نبيكم - صلى الله عليه وسلم- وكذا وكذا، وموتان يكون في الناس كقعاص الغنم، وهدنةٌ تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون بكم، فتسيرون إليهم في ثمانين غابةٌ تحت كل غابةٍ اثنا عشر ألفاً.

وبعضهم يقول: غاية". حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه هشيم، قال: أخبرنا بعلي بن عطاءٍ عن محمد بن أبي محمد، عن عوف بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم. [قال أبو عبيد]: أما قوله: "موتان يقع في الناس" فإن الموتان هو الموت، ويقال: وقع في المال موتانٌ: إذا وقع الموت في الماشي.

قاله الكسائي. وقال الفراء: وأما الموتان من الأرض، فإنه الذي لم [353] يُحي بعد. ومنه الحديث: "موتان الأرض لله [- تبارك وتعالى-] ولرسوله، فمن أحيا منها شيئاً فهو له". وأما القعاص، فهو داء يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت، ومنه أخذ الإقعاص في القتل، يقال: رميت الصيد فأقعصته: إذا مات مكانه. وأما الهدنة فالسكون والصلح. وقوله: "في ثمانين غابةً" من قالها بالباء، فإنه يريد الأجمة شبه كثرة الرماح بها ومن قال: غايةً، فإنه يريد الراية. قال "لبيد" يذكر ليلة سمرها، فقال:

قد بت سامرها وغاية تاجرٍ ... وافيت إذ رفعت وعز مدامها قوله: غاية تاجرٍ، يقول: إن صاحب الخمر كانت له رايةٌ يرفعها ليعرف بها أنه بائع خمرٍ. ويقال: بل أراد بقوله: غاية تاجر أنها غايةٌ متاعه في الجودة. وبعضهم يروى الحديث في ثمانين غيابة، وليس هذا بمحفوظٍ، ولا موضع للغياية ها هنا. 528 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنا برئٌ من كل مسلمٍ مع مشركٍ. قيل: لم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما".

حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثناه هشيمٌ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم يرفعه. قوله: "لا تراءى ناراهما" فيه قولان: أما أحدهما، فيقول: لا يحل لمسلمٍ أن يسكن بلاد المشركين فيكون منهم بقدر ما يرى كل واحدٍ منهما نار صاحبه. فجعل الرؤية في الحديث للنار ولا رؤية للنار، وإنما معناه أن تدنو هذه من هذه.

وكان الكسائي يقول: العرب تقول: داري تنظر إلى دار فلانٍ ودورنا تناظر. وتقول: إذا أخذت في طريق كذا وكذا، فنظر إليك الجبل فخذ عن يمينه أو عن يساره فهذا كلام العرب. وقال الله - تبارك وتعالى- وذكر الأصنام، فقال: "والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون [354] وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون" فهذا وجهٌ، وأما الوجه الآخر فيقال: إنه أراد بقوله: "لا تراءى ناراهما" يريد: نار الحرب، قال الله - عز وجل-: "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" يقول: فناراهما مختلفتان:

هذه تدعو إلى الله [سبحانه] وهذه تدعو إلى الشيطان، فكيف تتفقان؟ وكيف يساكن المسلم المشركين في بلادهم؟ وهذه حال هؤلاء وهؤلاء؟ ويقال: إن أول هذا [كان] أن قوماً من أهل مكة أسلموا، فكانوا مقيمين بها على إسلامهم قبل فتح "مكة" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم هذه المقالة فيهم، ثم صارت للعامة. 529 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه بعث مصدقاً فقال: لا تأخذ من حزرات أنفس الناس شيئاً. خذ الشارف والبكر وذا العيب". حدثنا أبو عبيدٍ قال: حدثناه أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه رفعه.

[قال أبو عبيد]: أما قوله: "من حزرات أنفس الناس" فإن الحزرة خيار المال، قال الشاعر: الحزرات حزرات النفس فيقول: لا تأخذ خيار أموالهم، خذ الشارف، وهي: المسنة الهرمة، والبكر، وهو: الصغير من ذكور الإبل، فقال: الشارف والبكر. وإنما السنة القائمة في الناس ألا يؤخذ في الصدقة إلا ابنة مخاضٍ، أو ابنة لبونٍ، أو حقةٌ، أو جذعة، ليس فيها سن فوق هذه الأربع ولا دونها. وإنما وجه هذا الحديث عندي - والله أعلم- أنه كان في أول الإسلام قبل أن يؤخذ الناس بالشرائع فلما قوي الإسلام واستحكم، جرت الصدقة على مجاريها ووجوهها. وأما حديث عمر [355] [رضي الله عنه]: "دع الربى والماخض والأكولة".

فإن الربى: هي القريبة العهد بالولادة، ويقال: هي في ربابها ما بينها وبين خمس عشرة ليلة، وأنشدني الأصمعي لبعض الأعراب: حنين أم البو في ربابها وأما الماخض فالتي قد أخذها المخاض لتضع. والأكولة: هي التي تُسمن للأكل ليست بسائمةٍ. والذي يروى في الحديث: الأكيلة. وإنما الأكيلة: المأكولة، يقال: هذه أكيلة الأسد والذئب، وأما هذه فإنها الأكولة.

وأما قول "عمر": "احتسب عليهم بالغذاء" فإنها السخال الصغار، واحدها غذى. قال: وأنشدني الأصمعي، قال: أنشدني أبو عمرو بن العلاء: لو أنني كنت من عادٍ ومن إرمٍ ... غذى بهم ولقماناً وذا جدن قال الأصمعي: وأخبرني خلف الأحمر أنه سمع العرب تنشده "غذي بهم" بالتصغير. قال أبو عبيدٍ: وأما الحديث الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم- بعث مصدقاً فأتى بشاةٍ شافعٍ، فلم يأخذها، وقال: "ائتني بمعتاطٍ" فإن الشافع التي معها ولدها سميت شافعاً؛ لأن ولدها شفعها، أو شفعته

هي، والشفع: الزوج، والوتر: الفرد. وأما المعتاط فالتي ضربها الفحل، فلم تحمل، يقال منه: هي معتاطٌ وعائطٌ وحائلٌ، وجمع العائط عوطٌ، وجمع الحائل حول. قال أبو عبيد: وسمعت الكسائي يقول: جمع العائط عوط وعوطط، وجمع الحائلحول وحولل. قال: وبعضهم يجعل حوللاً مصدراً، ولا يجعله جمعاً وكذلك عوطط. 530 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "تنكح المرأة لميسمها [356]، ولمالها، ولحسبها، عليك بذات الدين تربت يداك".

حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه ابن علية، عن عبيد الله بن العيزار، عن طلق بن حبيب رفعه. [قال أبو عبيد]: أما قوله "لميسمها" فإنه الحسن، وهو الوسامة ومنه قيل: رجلٌ وسيمٌ وامرأةٌ وسيمةٌ. وأما قوله: "تربت يداك" فإن أصله أن يقال للرجل إذا قل ماله: قد ترب، أي: افتقر، حتى لصق بالتراب، وقال الله - تبارك وتعالى-: (أو مسكيناً ذا متربة) فيرون- والله أعلم- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يتعمد الدعاء عليه بالفقر، ولكن هذه كلمة جارية على ألسنة العرب يقولونها وهم لا يريدون وقوع الأمر.

وهذا كقوله [صلى الله عليه وسلم] لصفية بنت حيي حين قيل له يوم النفر: إنها حائض. فقال: عقري حلقي ما أراها إلا حابستنا" فأصل هذا معناه: عقرها الله وحلقها. فقوله: عقرها يعني عقر جسدها، وحلقها أي أصابها الله بوجعٍ في حلقها. هذا كما تقول: قد رأس فلان فلاناً: إذا ضرب رأسه، وصدره: إذا أصاب صدره، وكذلك حلقه: إذا أصاب حلقه. قال أبو عبيد: إنما هو عندي عقراً حلقاً. قال: وأصحاب الحديث يقولون: عقري حلقي وقال بعض الناس: بل أراد النبي - صلى الله عليه وسلم-

بقوله: "تربت يداك" نزول الأمر به عقوبةً لتعديه ذوات الدين إلى ذوات المال والجمال. واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنما أنا بشرٌ، فمن دعوت عليه بدعوةٍ، فاجعل دعوتي عليه رحمةٌ له". والقول الأول أعجب إليَّ وأشبه بكلام العرب، ألا تراهم يقولون: لا أرض لك ولا أم لك، وهم قد يعلمون أن له أرضاً وأما، وزعم بعض العلماء أن قولهم: لا أباً لك ولا أب لك: مدحٌ، ولا أم لك: ذم. قال أبو عبيد: وقد وجدنا قوله لا أم لك قد وضع في موضع المدح أيضاً قال كعب بن سعد الغنوي يرثى أخاه: هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب [357]

وقد قال بعض الناس: إن قوله: تربت يداك، يريد به استغنت يداك من الغنى. وهذا خطأ لا يجوز في الكلام. إنما ذهب إلى المترب وهو الغني فغلط، ولو أراد هذا لقال: أتربت يداك؛ لأنه يقال: أترب الرجل: إذا كثر ماله، فهو متربٌ. وإذا أرادوا الفقر، قالوا: ترب بتربُ. 531 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أن امرأة توفى عنها زوجها، فاشتكت عينها فأرادوا أن يداووها، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها في بيتها إلى الحول، فإذا كان الحول فمر كلب رمته ببعرةٍ، ثم خرجت أفلا أربعة أشهرٍ وعشراً"؟

[قال أبو عبيد]: أما قوله: "مر كلبٌ رمته ببعرةٍ" يعني أنها كانت في الجاهلية تعتد سنةٌ على زوجها لا تخرج من بيتها، ثم تفعل ذلك في رأس الحول، لترى الناس أن إقامتها حولاً بعد زوجها أهون عليها من بعرةٍ يرمى بها كلبٌ وقد ذكروا هذه الإقامة عاماً في أشعارهم، قال بيد يمدح قومه: وهم ربيعٌ للمجاور فيهم ... والمرملات إذا تطاول عامها ونزل بذلك القرآن في أول الإسلام قوله [تعالى]: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ). ثم نُسخ ذلك بقوله: [سبحانه]: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً).

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- كيف لا تصبر إحداكن قدر هذا، وقد كانت تصبر حولاً؟ وهذا الحديث حدثناه يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاري، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- بهذا [358] أو ببعضه. 532 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- في [ابن] الملاعنة قال: "إن جاءت به أصيهب أثيبج حمش الساقين فهو لزوجها وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به".

حدثنا أبو عبيد قال: سمعت يزيد بن هارون يحدثه عن عباد بن منصورٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. [قال أبو عبيد]: أما قوله: أصيهب فهو تصغير أصهب، والأثيبج تصغير أثبج، وهو الناتئ الثبج، والثبج ما بين الكاهل ووسط الظهر، وهو من كل شيء وسطه وأعلاه. والحمش: الدقيق الساقين. والأورق: الذي لونه [ما] بين السواد والغبرة، ومنه قيل للرماد: أورق وللحمامة ورقاء، وإنما وصفه بالأدمة. وأما الخدلج فالعظيم الساقين. وأما قوله: الجمالى، فإنهم يروونها هكذا بفتح الجيم، يذهبون بها

إلى الجمال، وليس هذا من الجمال في شيء، ولو أراد ذاك لقال جميل ولكنه جمالى بضم الجيم، يعني أنه عظيم الخلق، شبه خلقه بخلق الجمل، ولهذا قيل للناقة: جمالية؛ لأنها تشبه بالفحل من الإبل في عظم الخلق، قال "الأعشى" يصف ناقةٌ: جمالية تغتلي بالرداف ... إذا كذب الآثمات الهجيرا وفي هذا الحديث من الفقه أنه لاعن بين المرأة وزوجها وهي حاملٌ، وقد كان بعض الفقهاء لا يرى اللعان بالحمل حتى تضع، فإن انتفى منه حينئذٍ لاعن، يذهب إلا أنه لا يدري لعل ذلك ليس بحملٍ، يقول: لعله من ريحٍ، وهذا رأى أبي حنيفة. وأما حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-[359] فإنما لاعن بينهما؛ لأنه قذفها قذفاً بالزنا، ولم يذكر حملاً، فلهذا أوقع اللعان. 533 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، ثم ذكرت أن فارس والروم يفعلونه فلا

يضرهم". قال أبو عبيد: بلغني هذا الحديث عن مالك بن أنس، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن جذامة بنت وهب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال أبو عبيدة، واليزيدي، وأظن الأصمعي، وغيرهم: قوله: الغيلة هو الغيل، وذلك أن يجامع الرجل المرأة وهي تُرضع. يقال منه: قد أغال الرجل وأغيل، والولد مغالٌ، ومغيلٌ. [قال أبو عبيد]: وأنشدني الأصمعي بيت امرئ القيس:

فمثلك حُبلى قد طرقت ومرضعٍ ... فألهيتها عن ذي تمائم مغيل هكذا روايته، وغيره يقول: "محول". ومنه الحديث الآخر: "لا تقتلوا أولادكم سراً، إنه ليدرك الفارس فيدعثره". يقول: يهدمه ويطحطحه بعدما قد صار رجلاً قد ركب الخيل، قال ذو الرمة يصف المنازل أنها قد تهدمت وتغيرت، فقال: آربها والمنتأى المدعثرا يعني بالمنتأى النؤى، وهو الحفير يُحفر حول الخباء للمطر، والمدعثر: المهدوم.

والعرب تقول في الرجل تمدحه: ما حملته أمه وضعاً، ولا أرضعته غيلاً ولا وضعته يتناً، ولا أباتته مئقاً. قوله: حملته وضعاً: يريد ما حملته على حيضٍ، وبعضهم يقول: تضعاً. وقوله ولا أرضعته غيلاً يعني أن توطأ وهي تُرضع. وقوله: ولا وضعته بتناً يعني أن تخرج رجلاه قبل يديه في الولادة، يقال منه: قد أيتنت المرأة فهي موتن، والولد موتن. وقوله: ولا أباتته مئقاً، وبعضهم يقول: ولا أباتته على مأقةٍ، فإنه شدة البكاء. 534 - وقال أبو عبيد [360] في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده".

حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن عن قيس بن عبادٍ، عن علي [كرم الله وجهه] عن النبي - صلى الله عليه وسلم. [قال أبو عبيد]: أما قوله: تتكافأ دماؤهم، فإنه يُريد تتساوى في القصاص والديات، فليس لشريفٍ على وضيعٍ فضلٌ في ذلك. ومن هذا قيل: في العقيقة عن الغلام شاتان مكافئتان، قال: والمحدثون يقولون: شاتان مكافأتان- يقول: متساويتان، وكل شيء ساوى شيئاً حتى يكون مثله فهو مكافئ [له]، والمكافأة بين الناس من هذا.

يقال: كافأت الرجل، أي فعلت به مثل ما فعل بي، ومنه الكفء من الرجال للمرأة- كفءٌ وكفئٌ-. يقال: إنه مثلها في حسبها، قال الله [تبارك وتعالى]: (ولم يكن له كفواً أحد). وأما قوله: يسعى بذمتهم أدناهم: فإن الذمة الأمان، يقول: إذا أعطى الرجل منهم العدو أماناً جاز ذلك على جميع المسلمين ليس لهم أن يخفروه كما أجاز عمر [رضي الله عنه] أمان عبدٍ على جميع أهل العسكر، وكان "أبو حنيفة" لا يجيز أمان العبد إلا بإذن مولاه. وأما حديث عمر [رضي الله عنه] فليس فيه ذكر مولى. ومنه قول سلمان الفارسي [رضي الله عنه] "ذمة المسلمين واحدة" والذمة هي الأمان. ولهذا قيل للمعاهد: ذميٌّ؛ لأنه قد أعطي الأمان على ماله ودمه؛ للجزية التي تؤخذ منه.

حدثنا أبو عبيد: قال: حدثنا هشيمٌ، عن محمد بن قيس، عن الشعبي قال: لم يكن لأهل السواد عهدٌ، فلما أخذت منهم الجزية صار لهم عهدٌ، أو قال: ذمةٌ. الشك من أبي عبيدٍ. وأما قوله: "يرد عليهم أقصاهم" فإن هذا في الغزو إذا دخل العسكر أرض الحرب، فوجه الإمام منه السرايا، فما غنمت من شيءٍ. جعل لها ما سمي لها، ورد ما بقي على أهل العسكر؛ لأنهم وإن لم يشهدوا الغنيمة ردءً للسرايا. وأما قوله: "وهم يدٌ على من سواهم": فإنه يقول: إن [361] المسلمين جميعاً كلمتهم ونصرتهم واحدةٌ على جميع الملل المحاربة لهم يتعاونون على ذلك ويتناصرون ولا يخذل بعضهم بعضاً. وأما قوله: "لا يقتل مؤمن بكافرٍ" فقد تكلم الناس في معنى هذا قديماً، فقال بعضهم: لا يقتل مؤمن بكافرٍ كان قتله في الجاهلية، وقالوا فيه غير هذا [أيضاً].

قال أبو عبيد: وأما أنا فليس له عندي وجهٌ ولا معنى إلا أنه لا يقاد مؤمن بذمي، وإن قتله عمداً، ولكن تكون عليه الدية كاملة في ماله. وأما رأي "أبي حنيفة" وجميع أصحابه، فإنهم يرون أن يقاد به لحديثٍ يروى عن "عبد الرحمن بن البيلماني". قال أبو عبيد: سمعت ابن أبي يحيى يحدثه عن ابن المنكدر، [عن عبد الرحمن]. قال أبو عبيد: وسمعت "أبا يوسف" يحدثه عن ربيعة الرأي كلاهما عن ابن البيلماني". ثم بلغني عن ابن أبي يحيى أنه قال: أنا حدثت ربيعة [الرأي] بهذا الحديث إنما دار الحديث على ابن يحيى، عن ابن المنكدر، عن عبد الرحمن

ابن البيلماني أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أقاد معاهداً من مسلمٍ، وقال: "أنا أحق من وفى بذمته". [قال أبو عبيد]: وهذا حديث ليس بمسندٍ، ولا يجعل مثله إماماً يُسفك به دماء المسلمين: قال أبو عبيد: وقد أخبرني عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الواحد بن زيادٍ. قال: قلت لزفر: إنكم تقولون: إنا ندرأ الحدود بالشبهات، وإنكم جئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها. قال: وما هو؟ قلت: المسلم يقتل بالكافر. قال: فاشهد أنت على رجوعي عن هذا. قال أبو عبيد: وكذلك قول أهل الحجاز لا يقيدونه به. وأما قوله: "ولا ذو عهدٍ في عهده": فإن ذا العهد: الرجل من أهل الحرب

يدخل إلينا بأمانٍ، فقتله محرم على المسلمين حتى يرجع إلى مأمنه، وأصل هذا من قول الله - سبحانه-: "وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه" فذلك قوله: "في عهده"، يعني: حتى يبلغ المأمن، أو الوقت الذي يوقته له، ثم لا عهد له. قال أبو عبيد: وحدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمرٍ، عن زياد بن مسلم، أن رجلاً من أهل الهند قدم "عدن" بأمانٍ، فقتله رجلٌ بأخيه، فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب أن يؤخذ منه خمسمائة دينارٍ، ويبعث بها إلى ورثة المقتول، وأمر بالقاتل أن يحبس. قال أبو عبيد: وهكذا كان رأي "عمر بن عبد العزيز [رحمه الله] كان يرى دية المعاهد نصف دية المسلم، فأنزل ذلك الذي دخل بأمان منزلة الذمي، المقيم مع المسلمين، ولم ير على قاتله قوداً، ولكن عقوبة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- لا يقتل مسلم بكافرٍ".

535 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن الإرفاه". حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثناه ابن علية، عن الجريري، عن عبد الله بن بريدة، قال ابن علية، قال الجريري: هو كثرة التدهن. قال أبو عبيد: وأصل هذا من ورد الإبل، وأنها إذا وردت كل يوم متى

[ما] شاءت، قيل: وردت رفهاً، قال ذلك الأصمعي. ويُقال: قد أرفه القوم: إذا فعلت إبلهم ذلك، فهم مرفهون، فشبه كثرة التدهن وإدامته به، وقال "لبيد" - يذكر نخلاً ثابتةٌ على الماء-: يشربن رفهاً عراكاً غير صادرةٍ ... فكلها كارعٌ في الماء مغتمر 536 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- "أنه كان جالساً القرفصاء".

قال أبو عبيد: وهذا حديثٌ يروى عن عبد الله بن حسان، عن جدتيه عن "قيلة" عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. قال أبو عبيدة: قوله: "القرفصاء" يعني أن يقعد الرجل قعدة المحتبى، ثم يحتبى بيديه يضعهما على ساقيه. وأما الإقعاء- الذي جاء فيه النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يُفعل في الصلاة- فقد اختلف الناس فيه. فقال أبو عبيدة: هو أن يُلصق اليتيه بالأرض، وبنصب ساقيه، ويضع يديه بالأرض. وأما تفسير الفقهاء، فهو أن يضع اليتيه على عقبيه بين السجدتين شبيهٌ بما يُروى عن العبادلة: عبد الله بن عباسٍ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير

[- رضي الله عنهم-]. قال أبو عبيدٍ: وقول أبي عبيدة أشبه بكلام العرب، وهو المعروف عندهم. وذلك بيِّن في بعض الحديث أنه نهى أن يُقعى الرجل كما يُقعى السبع، ويقال [363] كما يُقعى الكلب، وليس الإقعاء في السباع إلا كما قال أبو عبيدة. وقال أبو عبيد: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه أكل مرةً مقعياً، فكيف يمكن أن يكون فعل هذا وهو واضعٌ أليتيه على عقبيه. وأما الحديث الآخر: "أنه نهى عن عقب الشيطان في الصلاة" فإنه أن يضع

[الرجل] أليتيه على عقبيه في الصلاة بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء. وأما حديث عبد الله بن مسعود "أنه كره أن يسجد الرجل متوركاً أو مضطجعاً" حدثنا أبو عبيد: قال حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائلٍ، عن عبد الله. [قال أبو عبيد]: قوله: متوركاً: يعني أن يرفع وركيه إذا سجد حتى يُفحش في ذلك. وقوله: مضجعاً: يعني أن يتضام ويُلصق صدره بالأرض، ويدع التجافي في سجوده. ولكن يقول بين ذلك: ويُقال: التورك هو أن يُلصق أليتيه بعقبيه في السجود. وأما حديث "ابن عمر" [رحمه الله] أنه كان لا يُفرشح رجليه في الصلاة

ولا يُلصقهما". حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنيه حجاج، عن ابن جريج، عن نافعٍ، عن ابن عمر. قوله: يفرشح [رجليه]: فالفرشحة: أن يفرج بين رجليه في الصلاة ويباعد إحداهما من الأخرى، فيقول: لا تفعل ذلك، ولا تلصق إحداهما بالأخرى، ولكن بين ذلك. وأما افتراش السبع- الذي جاء فيه النهي-، فهو: أن يلصق الرجل ذراعيه بالأرض في السجود، فكذلك تفعل السباع. وأما التفاج: فإنه تفريج ما بين الرجلين.

ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بال تفاج. وفي بعض الحديث: قال بعض الصحابة: حتى نأوي له. وأما الفشجُ فهو دون التفاج، ومنه: حديث الأعرابي الذي دخل المسجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- فلما كان في ناحيةٍ منه فشج فبال. حدثنا أبو عبيد، قال: وحدثناه يزيد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وبعضهم يرويه: "فشج" بتشديد الشين.

537 - وقال أبو عبيدٍ في حديث [364] النبي - صلى الله عليه وسلم- حين أمر عامر بن ربيعة، وكان رأي سهل بن حنيفٍ يغتسل فعانه". حدثنا أبو عبيد: قال: حدثنيه حجاج: عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ، أن عامر بن ربيعة رأى سهل بن حنيفٍ يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم [قط] ولا جلد مخبأةٍ، فلبط به حتى ما يعقل

من شدة الوجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "أتتهمون أحداً؟ قالوا: نعم. عامر بن ربيعة، وأخبروه بقوله، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يغسل له. ففعل، فراح مع الركب". قال: قال الزهري: يؤتي الرجل العائن بقدح، فيدخل كفه فيه، فيمضمض، ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على كفه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على كفه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على قدمه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح بالأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي أصيب بالعين من خلفه صبةٌ واحدةٌ. قال أبو عبيدٍ: قوله: فلُبط به، يقول: صُرع. يقال: لُبط بالرجل يُلبط لبطاً: إذا سقط. ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه خرج وقريش ملبوطٌ

بهم" يعني أنهم سقوطٌ بين يديه. [قال]: وفي هذا لغةٌ أخرى ليست في الحديث، يقال: لبج به بمعنى لُبط به سواء. وقوله: فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يغسل له، فقد كان بعض الناس يغلط فيه، يظن أن الذي أصابته العين هو الذي يغسلُ، وإنما هو كما فسره الزهري، يغسل العائن هذه المواضع من جسده، ثم يصبه المعين على نفسه أو يصب عليه. [قال أبو عبيد]: ومما يبين ذلك حديث سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه إبراهيم بن سعد، عن أبيه سعد بن إبراهيم، أن سعد بن أبي وقاصٍ ركب يوماً فنظرت إليه امرأةٌ

فقالت: إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين"، فرجع إلى منزله، فسقط فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له. [قال أبو عبيد]: وأما قوله: ويغسل داخلة إزاره، فقد اختلف الناس في معناه، فكان [365] بعضهم يذهب وهمه إلى المذاكير، وبعضهم إلى الأفخاذ والورك. وليس هو عندي من هذا في شيءٍ. إنما أراد بداخلة إزاره طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده، وهو يلي الجانب الأيمن من الرجل؛ لأن المؤتزر إنما يبدأ إذا ائتزر بجانبه الأيمن، فذلك الطرف يباشر جسده، فهو الذي يُغسل. قال: ولا أعلمه إلا وقد جاء مفسراً في بعض الحديث هكذا. 538 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا يغلق الرهن".

حدثنا أبو عبيدٍ: قال حدثنيه ابن مهدي، عن مالك بن أنسٍ، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب. وعن إسرائيل، عن إبراهيم بن عامرٍ القرشي، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر، يرفعانه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-. [قال أبو عبيد]: قوله: "لا يغلق الرهن" قد جاء تفسيره عن غير واحد من الفقهاء. حدثنا أبو عبيد: قال: حدثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن إبراهيم في رجلٍ دفع إلى رجل رهناً، وأخذ منه دراهم، فقال الرجل: إن جئتك بحقك إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك بحقك. فقال إبراهيم: لا يغلق الرهن.

قال أبو عبيد: فجعله جواباً لمسألته. وقد رُوي عن طاوس نحو هذا. بلغني ذلك عن ابن عيينة، عن عمروٍ، عن طاوس. قال أبو عبيد: وأخبرني ابن مهدي، عن مالك بن أنسٍ، وسفيان بن سعيدٍ أنهما كانا يفسرانه على هذا التفسير. وقد ذهب بمعنى هذا الحديث بعض الناس إلى تضييع الرهن، يقول: إذا ضاع الرهن عند المرتهن فإنه يرجع على صاحبه، فيأخذ منه الدين، وليس يضره تضييع الرهن. وهذا مذهبٌ ليس عليه أهل العلم، ولا يجوز في كلام العرب أن يقال [للرهن] إذا ضاع: فقد غلق، إنما يقال: [قد] غلق إذا استحقه المرتهن فذهب به، وهذا كان من فعل أهل الجاهلية، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأبطله بقوله: "لا يغلق الرهن".

وقد ذكر بعض الشعراء ذلك في شعره، قال "زهيرٌ" يذكر امرأة [366]: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا يعني أنها [قد] ارتهنت قلبه، فذهبت به، فأي تضييع ها هنا. وأما الحديث الآخر في الرهن: "له غنمه، وعليه غرمه". حدثنا أبو عبيد: قال: حدثنيه كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب يرفعه أنه قال ذلك. [قال أبو عبيد]: وهذا أيضاً معناه معنى الأول لا يفترقان. يقول: يرجع الرهن إلى ربه، فيكون غنمه له، ويرجع رب الحق عليه بحقه، فيكون غرمه عليه، ويكون شرطهما الذي اشترطا باطلاً. هذا كله معناه إذا كان الرهن قائماً بعينه، ولم يضع، فأما إذا ضاع فحكمه غير هذا.

539 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "استحيوا من الله [تبارك وتعالى] ". ثم قال: الاستحياء من الله [تبارك وتعالى]: ألا تنسوا المقابر والبلى، وألا تنسوا الجوف وما وعى، وألا تنسوا الرأس وما احتوى". قال أبو عبيد: وهذا حديثٌ يُروى عن مالك بن مغولٍ، عن أبي ربيعة، عن الحسن يرفعه. [قال أبو عبيدٍ]: قوله: "ألا تنسوا الجوف وما وعى، والرأس وما احتوى" فيه قولان:

يُقال: أراد بالجوف البطن والفرج، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر: "إن أخوف ما أخاف عليكم الأجوفان". وكالحديث الذي يُروى عن "جُندب": "من استطاع منكم ألا يجعل في بطنه إلا حلالاً، فإن أول ما يُنتن من الإنسان بطنه". وقوله: [و] الرأس [وما احتوى] يريد ما فيه من السمع والبصر واللسان، ألا يستعمل ذلك إلا في حله. وأما القول الآخر يقول: لا تنسوا الجوف وما وعى، يعني القلب وما وعى من معرفة الله [تبارك وتعالى] والعلم بحلاله وحرامه ألا يضيع ذلك. ويريد بالرأس وما احتوى: الدماغ. وإنما خص القلب والدماغ؛ لأنهما مجتمع العقل ومسكنه. ومن ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجسد

لمضغةٌ إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت [367] فسد بها سائر الجسد، وهي القلب". 540 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن لبستين: اشتمال الصماء، وأن يحتبى الرجل بثوبٍ واحدٍ ليس بين فرجه وبين السماء شيء".

حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثنيه يزيد بن هارون، عن محمد بن عمروٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. [قال أبو عبيد]: قال الأصمعي: اشتمال الصماء عند العرب: أن يشتمل الرجل بثوبه، فيجلل به جسده كله، ولا يرفع منه جانباً، فيخرج منه يده وربما اضطجع فيه على هذه الحالة. قال أبو عبيد: كأنه يذهب إلى أنه لا يدري لعله يصيبه شيءٌ يريد الاحتراس منه، وأن يقيه بيديه، فلا يقدر على ذلك؛ لإدخاله إياهما في ثيابه، فهذا كلام العرب. وأما تفسير الفقهاء: فإنهم يقولون: هو أن يشتمل بثوبٍ واحدٍ ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجه. والفقهاء أعلم بالتأويل في هذا، وذلك أصح معنى في الكلام، والله أعلم.

541 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من الاختيال ما يحب الله [تبارك وتعالى] ومنه ما يُبغض الله [تبارك وتعالى]: فأما الاختيال الذي يُبغض الله، فالاختيال في الفخر والرياء، والاختيال الذي يحب الله في قتال العدو والصدقة". لا أعلمه إلا من حديث ابن عُلية، عن حجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن

أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن جابر بن عتيكٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم. [قال أبو عبيد]: أما قوله: الاختيال فإن أصله التجبر والكبر، والاحتقار للناس، يقول: فالله [تبارك وتعالى] يُبغض ذلك في الفخر والرياء، ويحبه في الحرب والصدقة. والخيلاء في الحرب: أن تكون هذه الخلال من التجبر [والكبر] على العدو، فيستهين بقتالهم، وتقل هيبته لهم، فيكون أجرأ له عليهم. ومما يبين ذلك حديث أبي دجانة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رآه في بعض المغازي، وهو يختال في مشيته، فقال: "إن هذه لمشيةٌ يبغضها الله إلا في هذا الموضع". وأما الخيلاء في الصدقة: فأن تعلو نفسه وتشرف، فلا تستكثر كثيرها ولا

يُعطي منها شيئاً إلا وهو له [368] مستقلٌ. وهذا مثل الحديث المرفوع: "إن الله يحب معالي الأمور- أو قال: معالي الأخلاق: شك أبو عبيد- ويبغض سفسافها". حدثنا أبو عبيد: قال: حدثناه أبو معاوية، عن حجاج، عن سليمان بن سحيم عن طلحة بن عبيد الله بن كريزٍ يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم. فهذا تأويل الخيلاء في الصدقة. والحرب؛ وإنما هو فيما يراد الله [تبارك وتعالى] به من العمل دون الرياء والسمعة.

542 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أن أبيض بن حمالٍ المأربي استقطعه الملح الذي بمأربٍ فأقطعه إياه، فلما ولى قال رجلٌ: يا رسول الله! أتدري ما أقطعته؟ إنما أقطعت له الماء العد. قال فرجعه منه. قال أبو عبيدٍ: وهذا حديث يروى عن محمد بن يحيى بن قيسٍ المأربي، عن أبيه، عن ثمامة بن شراحيل، عن سُمي بن قيسٍ، عن

شميرٍ، عن أبيض بن حمالٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. قال: وسأله أيضاً: "ماذا يحمي من الأراك؟ قال: ما لم تنله أخفاف الإبل". قال الأصمعي: قوله: الماء العد الدائم الذي لا انقطاع له [قال]: وهو مثل ماء العين، وماء البئر، وجمع العد أعدادٌ قال ذو الرمة يذكر امرأة انتجعت ماءً عداً؛ وذلك في الصيف إذا نشت مياه الغدر [فقال]: دعت مية الأعداد واستبدلت بها ... خناطيل آجال من العين خذل يعني: منازلها التي تركتها، فصارت بها العين.

وفي هذا الحديث من الفقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أقطع القطائع وقلما يوجد هذا في حديث مسندٍ. وفيه: أنه لما قيل له: "إنه ماءٌ عد" ترك إقطاعه، كأنه يذهب [به]- صلى الله عليه وسلم- إلى أن الماء إذا لم يكن في ملك أحدٍ أنه لابن السبيل وأن الناس فيه جميعاً شركاء. وفيه أنه حكم بشيء، ثم رجع عنه، وهذا حجةٌ للحاكم إذا حكم حكماً، ثم تبين له أن الحق في غيره، أن ينقض حكمه ذلك، ويرجع عنه. وفيه أيضاً أنه نهى أن يُحمى ما نالته أخفاف الإبل [369] من الأراك؛ وذلك أنه مرعى لها، فرآه مباحاً لابن السبيل، وذلك لأنه كلأ، والناس شركاء في الماء والكلأ. وما لم تنله أخفاف الإبل، كان لمن شاء أن يحميه حماه. 543 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- حين أمر بماعز بن مالك أن يُرجم، فلما ذهب به قال - صلى الله عليه وسلم-: "يعمد أحدهم إلى المرأة المغيبة، فيخدعها بالكثبة والشيء لا أوتي بأحدٍ منهم فعل ذلك إلا جعلته نكالاً".

وهذا حديث يروى عن شعبة، عن سماك بن حربٍ، عن جابر بن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم-. قال شعبة: فسألت "سماكاً" عن الكثبة، فقال: هو القليل من اللبن. قال أبو عبيد: وهو كذلك في غير اللبن أيضاً، وكل ما جمعته من طعام أو غيره، بعد أن يكون قليلاً، فهو كثبةٌ، وجمعه كثبٌ، قال ذو الرمة يذكر أرطاة عندها أبعار الصيران [فقال]: ميلاء من معدن الصيران قاصية ... أبعارهن على أهدافها كُثب

ويقال منه: كثبتُ الشيء أكثبه كثباً: إذا جمعته، فأنا كاثبٌ، قال أوس ابن حجر: لأصبح رتماً دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاثب يريد بالنبي: ما نبا من الحصا إذا دُق فندر، والكاثب: الجامع لما ندر منه. ويقال: النبي والكاثب: موضعان. 544 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- "إياكم والقعود بالصعدات إلا من أدى حقها".

حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثناه ابن عُلية، عن إسحاق بن سويدٍ العدوى عن يحيى بن يعمر يرفعه. قوله: الصعدات: يعني الطرق، وهي مأخوذة من الصعيد، والصعيد: التراب، وجمع الصعيد: صُعدٌ، ثم الصعدات جمع الجمع، كما تقول: طريق وطرقٌ، ثم طرقاتٌ [370]. قال الله - تبارك وتعالى-: (فتيمموا صعيداً طيباً). فالتيمم في التفسير والكلام: التعمد للشيء. يقال منه: أممت فلاناً أؤمه أماً، وتأممته، وتيممته، ومعناه كله تعمدته، وقصدت له، قال "الأعشى": تيممت قيساً وكم دونه ... من الأرض من مهمهٍ ذي شزن فقوله [سبحانه]: (فتيمموا صعيداً طيباً) هو في المعنى - والله أعلم-

تعمدوا الصعيد؛ ألا تراه يقول بعد ذلك: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) وكثر هذا في الكلام حتى صار التيمم عند الناس هو التمسح نفسه، وهذا كثيرٌ جائزٌ في الكلام أن يكون الشيء، إذا طالت صحبته للشيء سمي به، كقولهم: ذهبت إلى الغائط، وإنما الغائط أصله المطمئن من الأرض. ومنه الحديث الذي يُروى: "أنه نُهي عن عسب الفحل" وأصل العسب الكراء فصار الضراب عند الناس عسباً، ومثله في الكلام كثيرٌ. 545 - وقال أبو عبيدٍ في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال "توضئوا مما غيرت النار، ولو من ثور أقطٍ".

حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثناه إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، وعن محمد بن عمروٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أو بأحد هذين الإسنادين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قوله: "ثور أقطٍ: فالثور: القطعة من الأقط، وجمعه أثوارٌ، ويُروى أن "عمرو بن معد يكرب" قال: تضيفت بني فلانٍ، فأتوني بثورٍ وقوسٍ وكعبٍ" فأما قوله: ثورٌ، فهو: الذي ذكرنا، وأما القوس: فالشيء من

التمر يبقى في أسفل الجُلة، وأما الكعب: فالشيء المجموع من السمن. قال أبو عبيدٍ: وأما حديث عبد الله بن عمروٍ حين ذكر مواقيت الصلاة، فقال: "صلاة العشاء إذا سقط ثور الشفق" فليس من هذا، ولكنه [371] انتشار الشفق وثورانه. يُقال منه: قد ثار يثور ثوراً وثوراناً: إذا انتشر في الأفق، فإذا غاب ذلك حلت صلاة العشاء. وقد اختلف الناس في الشفق، فيروى عن عبادة بن الصامت، وشداد بن أوسٍ، وابن عباسٍ، وابن عمر أنهم قالوا: هو الحمرة. وكان مالك بن أنس، وأبو يوسف يأخذان بهذا. وقال عمر بن عبد العزيز، وغيره: هو البياض، وهو بقيةٌ من النهار، وكان أبو حنيفة يأخذ بهذا. قال أبو عبيد: الحمرة أحب إليَّ؛ لأن البياض إذا طلع فهو بقيةٌ من النهار.

546 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "لا غرار في صلاةٍ ولا تسليمٍ". فالغرار: هو النقصان، يقال منه للناقة إذا نقص لبنها هي مُغارٌ قالها الكسائي، وفي لبنها غرار. قال أبو عبيد: وأخبرني محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهري، قال: كانوا لا يرون بغرار النوم بأساً، يعني أنه لا ينقض الوضوء. قال الفرزدق في مرثيته الحجاج بن يوسف:

إن الرزية بن ثقيفٍ هالك ... ترك العيون ونومهن غرار أي قليلٌ. فكأن معنى هذا الحديث: لا نقصان في صلاةٍ، يعني في ركوعها وسجودها وطهورها، كقول "سلمان [الفارسي] ": الصلاة مكيال فمن وفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله [سبحانه] في المطففين. والحديث في مثل هذا كثيرٌ. فهذا الغرار في الصلاة. وأما الغرار في التسليم، فنراه أن يقول: السلام عليك، أو يرد فيقول: وعليك، ولا يقول: وعليكم. والغرار أيضاً في أشياء من الكلام سوى هذا، يقال لحد الشفرة والسيف، وكل شيءٍ له حدٌ فحده غرار. والغرار أيضاً: المثال الذي يُطبع عليه نصال السهام، قالها الأصمعي.

والغرار أيضاً: أن يغر الطائر الفرخ [372] غراراً، يعني أن يزقه. وقد روى بعض المحدثين هذا الحديث: "لا إغرار في صلاةٍ"- بألف- ولا أعرف هذا في الكلام، وليس له عندي وجه. ويقال: لا غرار في صلاةٍ [ولا تسليم] أي: لا نقصان في صلاةٍ، ولا تسليم في صلاة، أي: أن المصلى لا يُسلم، ولا يُسلم عليه. 547 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أن حكيم بن حزامٍ قال: بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا أخر إلا قائماً ....

قال أبو عبيد: وهذا يُروى عن شعبة، عن أبي بشرٍ، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزامٍ. وقد أكثر الناس في معنى هذا الحديث، وماله عندي وجهٌ إلا أنه أراد بقوله: لا أخر، أي لا أموت؛ لأنه إذا مات فقد خر وسقط. [وقوله]: إلا قائماً يعني إلا ثابتاً على الإسلام، وكل من ثبت على شيءٍ وتمسك به، فهو قائمٌ عليه، قال الله - تبارك وتعالى-: "ليسوا سواءٌ من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ يتلون آيات الله آناء الليل، وهم يسجدون" وإنما هذا من المواظبة على الدين، والقيام به. وقال [الله عز وجل]: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطارٍ يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينارٍ لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً). حدثنا أبو عبيدٍ قال: حدثنا حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في

قوله: "إلا ما دمت عليه قائماً، قال مواكظاً، أي مداوماً. قال أبو عبيد: ومنه قيل- في الكلام- للخليفة: هو القائم بالأمر، وكذلك فلانٌ قائمٌ بكذا وكذا: إذا كان حافظاً له متمسكاً به. وفي بعض الحديث أنه لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: أبايعك ألا أخر إلا قائماً، فقال: أما من قبلنا فلن تخر إلا قائماً. أي: لسنا ندعوك ولا نبايعك إلا قائماً، أي على الحق. 548 - وقال أبو عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- حين ذكر "مكة". فقال: "لا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد".

حدثنا أبو عبيدٍ: قال: حدثنا إسماعيل بن عياشٍ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين من بني نوفلٍ بن عبد منافٍ. ويزيد بن هارون، عن سليمان التيمي، عن رجلٍ. قال: وحدثناه غير واحد. قال أبو عبيد: فسألت عبد الرحمن بن مهديٍّ عن قوله: "لا تحل لقطتها إلا لمنشدٍ". فقال: إنما معناه لا تحل لقطتها، كأنه يريد البتة، فقيل له: إلا لمنشدٍ، فقال: إلا لمنشدٍ، وهو يريد المعنى الأول.

قال أبو عبيدٍ: ومذهب عبد الرحمن في هذا التفسير كالرجل يقول: والله لا فعلت كذا وكذا ثم يقول: إن شاء الله وهو لا يريد الرجوع عن يمينه، ولكنه لقن شيئاً فلقنه. فمعناه: أنه ليس يحل للملتقط منها إلا إنشادها، فأما الانتفاع بها فلا. وقال غيره: لا تحل لقطتها إلا لمنشدٍ، يعني طالبها الذي يطلبها، وهو ربها. يقول: فليست تحل إلا لربها. قال أبو عبيد: فهذا حسن في المعنى، ولكنه لا يجوز في العربية أن يقال للطالب منشدٌ، إنما المنشد المعرف، والطالب هو الناشد. يقال منه: نشدت الضالة أنشدها نشداناً: إذا طلبتها، فأنا ناشدٌ، ومن التعريف: أنشدتها إنشاداً، فأنا منشدٌ. ومما لك أن الناشد هو الطالب حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-.

أنه سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد، فقال: أيها الناشد غيرك الواجد. معناه لا وجدت، كأنه دعا عليه. وأماقول أبي دؤاد الإيادي وهو يصف الثور، فقال: ويصيخ أحياناً كما اسـ ... ـتمع المضل لصوت ناشد قال أبو عبيد: فإن الأصمعي أخبرني عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يعجب من هذا. وأحسبه قال - هو أو غيره-: إنه أراد بالناشد أيضاً: رجلاً قد ضلت دابته، فهو ينشدها: يطلبها ليتعزى بذلك. وفي هذا الحديث [374] قولٌ ثالثٌ. أنه أراد بقوله: إلا لمنشد: أنه إن لم ينشدها، فلا يحل له الانتفاع بها، فإذا أنشدها، فلم يجد طالبها حلت له. قال أبو عبيدٍ: ولو كان هذا هكذا لما كانت "مكة" مخصوصةً بشيءٍ دون البلاد لأن الأرض كلها لا تحل لقطتها إلا بعد الإنشاد، إن حلت أيضاً، وفي الناس من لا يستحلها. وليس للحديث عندي وجه إلا ما قال "عبد الرحمن": إنه ليس

لواجدها منها شيءٌ إلا الإنشاد أبداً، وإلا فلا يحل له أن يمسها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...............................................................

أحاديث الصحابة

أحاديث الصحابة [375] بسم الله الرحمن الرحيم [376] أحاديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه

549 - قال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- حين منعته العرب الزكاة، فقيل له: اقبل ذاك منهم، فقال: "لو منعوني عقالاً مما أدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه كما أقاتلهم على الصلاة". قال: حدثناه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: حدثنا مجالدٌ عن الشعبي بذلك في حديثٍ طويلٍ.

قال "أبو عبيد": ويقال - في غير هذا الحديث- أنه قال: "لو منعوني عناقاً لقاتلتهم عليه". قال "الكسائي": العقال صدقة عامٍ، يقال: قد أخذ منهم عقال هذا العام: إذا أُخذت منهم صدقته. قال الأصمعي: يُقال: بُعث فلانٌ على عقال بني فلانٍ: إذا بُعث على صدقاتهم. قال "أبو عبيد": فهذا كلام العرب المعروف عندهم. وقد جاء في بعض الحديث غير ذلك. ذكر الواقدي عن إبراهيم بن إسماعيل، عن عاصم بن عمر، عن قتادة "أن محمد بن مسلمة كان يعمل على الصدقة في عهد النبي- صلى الله عليه

وسلم- فكان يأمر الرجل إذا أتى بفريضتين أن يأتي بعقاليهما وقرانيهما". ويُروى عن حزام بن هشام، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب كان يأخذ مع كل فريضةٍ عقالاً ورواءً فإذا جاءت إلى المدينة باعها، ثم تصدق بتلك العُقل والأروية. قال: والرواء: الحبل الذي يُقرن به البعيران. وكان الواقدي يزعم أن هذا رأي مالك بن أنسٍ وابن أبي ذئب. قال الواقدي: وكذلك الأمر عندنا. فهذا ما جاء في الحديث. والشواهد في كلام العرب على القول الأول أكثر. قال: وهو عندي أشبه بالمعنى. قال: وأخبرني ابن الكلبي بإسنادٍ له، قال: استعمل "معاوية" ابن أخيه عمرو بن عتبة بن أبي سفيان على صدقات "كلبٍ" فاعتدى عليهم،

فقال عمرو بن العداء الكلبي [في ذلك]: سعى عقالاً فلم يترك لنا سيداً ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين لأصبح الحي أو باداً ولم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين قال "أبو عبيد": أوبادٌ، واحده وبدٌ، وهو الفقر والبؤس. وقوله: جِمالين: يُريد جمالاً هنا، وجمالاً هنا. وهذا الشعر يبين لك أن العِقال إنما هو صدقةُ عامٍ. وكذلك حديثٌ يروى عن "عمر"- رحمه الله-. قال: حدثنا عباد بن العوام، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، أو يعقوب بن عتبة، عن يزيد بن هرمز، عن ابن أبي ذبابٍ [أنه] قال: أُخر "عمر" الصدقة عام الرمادة، فلما أحيا الناس بعثني فقال: أعقل عليهم

عقالين، فاقسم فيهم عقالاً، وأتني بالآخر". قال "أبو عبيدٍ": فهذا شاهدٌ أيضاً أن العقال صدقة عام. وأما قوله: "عام الرمادة" فيقال: إنما سمي الرمادة؛ لأن الزرع والشجر والنخل وكل شيءٍ من النبات احترق، مما أصابته السنة فشبه سواده بالرماد. ويقال: بل الرمادة: الهلكة. يقال: قد رمد القوم، وارمدوا: إذا هلكوا، وهذا كلام العرب، والأول تفسير الفقهاء، ولكل وجه. 550 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكرٍ- رضي الله عنه- الذي رواه عنه هزيل بن شرحبيل في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: حدثنيه حجاج بن محمد، قال: حدثنا مالك بن مغولٍ عن طلحة بن مصرفٍ، قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى رسلو الله [صلى الله عليه وسلم-]؟ فقال: لا. فقلت: فكيف كان يأمر المسلمين بالوصية [378] ولم يُوص؟

فقال: أوصى بكتاب الله. قال: وقال هُزيل بن شرحبيل: أأبو بكرٍ يتوثب على وصي رسول الله [- صلى الله عليه وسلم-]؟ ود "أبو بكرٍ" أنه وجد عهداً من رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-] وأنه خُزم أنفه بخزامةٍ. قال: أبو عبيدة: "الخزامة: هي الحلقة التي تُجعل في أنف البعير، فإن كانت من صُفرٍ فهي برةً، وإن كانت من شعرٍ فهي خزامةٌ. وقال الأصمعي: الخشاش: ما كان في العظم والعرانُ: ما كان في اللحم فوق المنخر، والبرة: ما كان في المنخر. قال الكسائي: يقال من ذلك كله: خزمت البعير، وعرنته، وخششته، وهو

مخزومٌ ومعرونٌ، ومخشوشٌ. [قال]: ويقال من البُرة خاصةٌ: أبريته، فهو مُبرى، وناقةٌ مبراةٌ، هذا وحده بالألف. ومنه الحديث المرفوع "أنه أهدى له مائة بدنةٍ منها جملٌ - كان لأبي جهلٍ- في أنفه بُرةٌ من فضةٍ". 551 - وقال أبو عبيدٍ - في حديث أبي بكرٍ- رحمه الله-: "طوبى لمن مات في النأنأة".

قال: "حدثناه الفزاري (مروان بن معاوية)، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن طارقٍ بن شهابٍ، عن أبي بكر". قال أبو عبيدٍ: أما المحدثون فلا يهمزونه. قال الأصمعي: هي النأنأة - مهموزةٌ- ومعناها: أول الإسلام، وإنما سُمي بذلك؛ لأنه كان قبل أن يقوى الإسلام ويكثر أهله وناصره، فهو عند الناس ضعيفٌ. وأصل النأنأة: الضعفُ، ومنه قيل: رجلٌ نأنأ: إذا كان ضعيفاً، قال امرؤ القيس: يمدح رجلاً: لعمرك ما سعد بخلةٍ آثمٍ ... ولا نأنأٍ عند الحفاظ ولا حصر [39\ 79] قال أبو عبيد: ومن ذلك قول "علي"- رضي الله عنه- لسليمان ابن صردٍ، وكان تخلف عن يوم الجمل، ثم أتاه بعد، فقال له "علي": "تنأنأت، وتربعت، وتراخيت فكيف رأيت الله صنع"؟ قال: حدثنيه ابن مهدي، عن أبي عوانة، عن إبراهيم بن محمدٍ بن المنتشر، عن

أبيه، عن عبيد بن نضلة، عن سليمان بن صرد. قوله: تنأنأت [يريد] ضعفت واسترخيت. قال الأموي عبد الله بن سعيد: يقال: نأنأت الرجل إذا نهنهته عما يريد، وكففته عنه. كأنه يعني: أني حملته على أن ضعف عما أراد وتراخى. وقال غير هؤلاء من أهل العلم؛ إنما سمي أول الإسلام النأنأة؛ لأنه كان والناس ساكنون هادئون، لم تهج بينهم الفتن، ولم تشتت كلمتهم، وهذا قد يرجع إلى المعنى الأول، يقول: لم يقو التشتت والاختلاف والفتن، فهو ضعيفٌ لذاك. 552 - وقال أبو عبيد في حديث أبي بكر- رضي الله عنه-: "أنه أفاض من جمعٍ وهو يخرش بعيره بمحجنه".

قال: حدثت به عن ابن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن جبير بن الحويرث قال: رأيت أبا بكرٍ على قزح يخرش بعيره بمحجنه. قال الأصمعي: المحجن: العصا المعوجة الرأس. ومنه الحديث المرفوع: "أنه طاف بالبيت يستلم الأركان بمحجنه". قال: والخرش: أن يضربه بالمحجن، ثم يجتذبه إليه، يُريد بذلك تحريكه للإسراع في السير، وهو شبيهٌ بالخدش. قال أبو عبيد: وأنشدنا: إن الجراء تخترش ... في بطن أم الهمرش يعني أنها تخرشُ وهي في بطن أمها، يريد: جراء الكلبة. وقوله: تخترش إنما هو تفتعل من الخرش.

والذي يراد من هذا الحديث أنه أسرع [380] السير في إفاضته من جمعٍ. 553 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكرٍ- رضي الله عنه- أنه أوصى في مرضه، فقال: "ادفنوني في ثوبي هذين، فإنما هما للمهل والتراب". قال أبو عبيدة: المُهل في هذا الحديث: الصديد والقيح. والمهل في غير هذا: كل فلز أُذيب. والفلز: جواهر الأرض من: الذهب، والفضة، والنحاس، وأشباه ذلك: ومنه حديث ابن مسعودٍ. قال: حدثناه هشيمٌ، عن عوفٍ، عن الحسن، قال: سُئل ابن مسعودٍ عن المهل، فدعا بفضةٍ، فأذابها، فجعلت تميع وتلون، فقال: "هذا من أشبه ما أنتم راءون بالمُهل".

[قال أبو عبيد]: أراد تأويل هذه الآية: (وإن يستغيثوا يُغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه). قال أبو عبيد: وقوله: تميّع: تذوب، وكل ذائبٍ فهو مائعٌ. قال أبو عبيدة: والمُهل أيضاً - في غير هذا-: كل شيءٍ بتحات عن الخبزة من الرماد وغيره إذا أخرجت من الملة. قال: والملة: الحفرة التي تُمل فيها الخبزة. وقال أبو عمرو: المهل في شيئين: هو في حديث أبي بكر الصديق الصديد والقيح. وفي غيره: دُردي الزيت، لم يعرف منه إلا هذا. قال الأصمعي: حدثني رجلٌ- وكان فصيحاً- أن أبا بكرٍ قال: فإنما هما للمهلة والتراب [بالفتح]. قال: وبعضهم يكسر الميم: "للمهلة".

قال أبو عبيد: والذي أراد الناس في هذا الحديث من الفقه: أنه لا بأس أن يُكفن الميت في الشفع من الثياب، ألا تراه يقول: "في ثوبي هذين"؟ قال أبو عبيد: والغالب على أمر الناس فيه الوتر. وفيه أيضاً: أنه خلاف قول من يقول: إنهم يتزاورون في أكفانهم؛ ألا تراه يقول: فإنما هما للمهل والتراب؟ ومما يشهد على ذلك قول حذيفة [381] حين أتى بكفنه ربطتين، فقال: "الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إني لا ألبس إلا يسيراً حتى أبدل بهما خيراً منهما أو شراً منهما". منه قول محمد بن الحنفية: "ليس للميت من الكفن شيء إنما هو تكرمةٌ للحي". قال أبو عبيد: ويُروى في بعض الحديث أن أبا بكرٍ قال لعائشة: "في كم ثوباً كفن النبي - صلى الله عليه وسلم-؟ ". قالت: في ثلاثة أثوابٍ. قال: فادفنوني في ثوبي هذين مع ثوب كذا وكذا، فعلى هذه الرواية يذهب معنى الشفع من الثياب.

554 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكرٍ - رحمه الله- حين دُخل عليه وهو ينصنص لسانه، ويقول: "إن ذا أوردني الموارد". قال: حدثنيه ابن مهدي، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي بكرٍ. قال أبو عبيدٍ: وحدثنيه أبو نعيم، عن هشام بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن أبي بكرٍ بهذا الحديث إلا أن بعضهم قال: "يُنصنصُ" وقال بعضهم: "يُحرك". قال أبو عمرو: قوله: يُنصنصُ: يحركه ويقلقله، وكل شيءٍ حركته فقد نصنصته. وفيه لغةٌ أخرى - ليست في الحديث- بمعناه: نضنضت بالضاد [معجمة].

ومنه قيل للحية: نضناض، وهو: القلق الذي لا يثبت في مكانه؛ لشرته ونشاطه، قال الراعي: يبيت الحية النضناض فيها ... مكان الحب يستمع السرارا قال: وأخبرني الأصمعي أنه سأل أعرابياً- أو أعرابية- عن النضناض، قال: فأخرج لسانه فحركه لم يزد على هذا. وهذا كله يذهب إلى الحركة، فأما الحديث فبالصاد لا غير. 555 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكرٍ [رضي الله عنه]: "أنه أعطى عمر سيفاً محلى، قال: فجاءه عمر بالحلية قد نزعها، فقال: أتيتك بهذا لما يعررك من أمور [382] الناس". هكذا يُروى الحديث براءين من حديث الوليد بن مسلمٍ، عن الأوزاعي،

عن الزهري، عن ابن كعب بن مالكٍ، بلغني ذلك عنه. قال أبو عبيد: ولا أحسبه محفوظاً، ولكنه عندي "لما يعروك" بالواو، ومعناه: لما ينوبك من أمور الناس، ويلزمك من حوائجهم. وكذلك كل من أتاك لحاجةٍ، أو نائبةٍ نابته، فقد عراك، وهو يعروك عرواً، قال الراعي: قالت خليدة ما عراك ولم تكن ... بعد الرقاد عن الشئون سؤولا يُريد بقوله: "ما عراك" [أي] ما نزل بك، وما ألم بك، ونحو ذلك. ومنه قول الله [تبارك وتعالى]: "إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوءٍ". ومنه قيل: اعتراه الوجع وغيره، وقال معن بن أوسٍ يمدح رجلاً: رأى الحمد غُنماً فاشتراه بماله ... فلا البخل يعروه ولا الجهد جاهده أي: لا ينزل به البخل ولا يُصيبه. ومن قال: يعررك فليس يخرج إلا من أحد معنيين: من العُرة: وهي العذرة، أو من العر: وهو الجرب. وليس في الحديث موضعٌ لواحد من هذين.

ولو كان من أحدهما لم يكن أيضاً براءين، لكان لما يعرك؛ لأنه موضع رفعٍ، وليس بموضع جزمٍ فيظهر التضعيف. 556 - وقال أبو عبيد في حديث أبي بكرٍ [رضي الله عنه] حين قال: "والله إن عمر لأحب الناس إليَّ" ثم قال: كيف قلت؟ فقالت "عائشة": "قلت: والله إن عمر لأحب الناس إليَّ. فقال: "اللهم أعز! والولد الوط". قال: حدثنيه حجاج، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن أبي بكر. قوله: "الولد الوط: يعني ألصق بالقلب. وكذلك كل شيءٍ لصق بشيءٍ فقد لاط [به] يلوط لوطاً. ومنه حديث "ابن عباسٍ" في الذي سأله عن مال يتيمٍ - وهو واليه-: أيصيب من لبن إبله؟ فقال: "إن كنت تلوط حوضها، وتهنأ [382] جرباها، فأصب من رسلها".

يعني باللوط: تطيين الحوض وإصلاحه، وهو من اللصوق. ومنه قيل للشيء - إذا لم يوافق صاحبه-: ما يلتاط هذا بصفري؛ أي لا يلصق بقلبي، هذا إنما هو يفتعل من اللوط. ومنه حديث علي بن الحسين [رضي الله عنه]: "في المستلاط أنه لا يرث" يعني: الملصق في الرجل بالنسب، كأنه يعني الذي لغير رشدة. 557 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- الذي قالت فيه عائشة: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فوالله لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها: اشرأب النفاق، وارتدت العرب، فوالله ما اختلفوا في نقطةٍ إلا كان أبي حظها وغناءها في الإسلام.

وكانت مع هذا تقول: ومن رأي "عمر" علم أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذياً نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها". قال: حدثناه يزيد، ومعاذ كلاهما، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الواحد بن أبي عونٍ، عن القاسم بن مُحمدٍ، عن عائشة. قال الأصمعي وغيره: قولها: لهاضها: الهيض الكسر بعد جبور العظم، وهو أشد ما يكون من الكسر، وكذلك الناس في المرض بعد الاندمال، قال ذو الرمة: ووجه كقرن الشمس حر كأنما ... تهيض بهذا القلب لمحته كسرا

وقال القطامي: إذا ما قلت قد جُبرت صدوع ... تهاض وما لما هيض اجتبار وقولها: اشرأب النفاق، يعني: ارتفع وعلا، وكل رافعٍ رأسه مشرئبٌ. ومنه الحديث المرفوع: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت في صورة كبش أملح، ثم نودي يا أهل [384] الجنة، ويا أهل النار؛ فيشرئبون لصوته، ثم يذبح على الصراط، فيقال: خلودٌ لا موتٌ. وقال ذو الرمة- يذكر امرأة شبهها بظبيةٍ -: ذكرتك أن مرت بنا أم شادنٍ ... أمام المطايا تشرئب وتسنح وقولها في عمر: كان والله أحوزياً رواها بالزاي، وبعضهم يرويها بالذال- أحوذياً. قال الأصمعي: الأحوذي: المشمر في الأمور، القاهر لها، الذي لا يشذ عليه منها

شيءٌ، هذا وما أشبهه من الكلام، قال لبيد يصف حماراً وأتنا: إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها ... وأوردها على عوجٍ طوال [قال الأصمعي]: قوله: أحوذ جانبيها، يعني: ضمها، فلم يفته منها شيء قال: وأما "الأحوزي" فإنه السائق الحسن السياق، وفيه مع سياقه بعض النفار. وكان أبو عمرو يقول: الأحوذي: الخفيف، والأحوزي مثله، وقال "العجاج": يحوزهن وله حوزى كما يحوز الفئة الكمي وقولها: "نسيج وحده" يعني: أنه ليس له شبهٌ في رأيه، وجميع أمره. قال الراجز: جاءت به معتجراً ببرده سفواء تخدى بنسيج وحده

والعرب تنصبُ "وحده" في الكلام كله لا ترفعه ولا تخفضه إلا في ثلاثة أحرفٍ: "نسيج وحده، وعيير وحده، وجحيش وحده"، فإنهم يخفضونها ثم فسرت العلماء نصبه في قولهم: "وحده" فقال "أهل البصرة": إنما نصبوا وحده على مذهب المصدر، أي: توحد وحدهُ. وقال أصحابنا: إنما انتصب على مذهب الصفة. [قال أبو عبيد]: وقد يدخل فيه الأمران جميعاً [385]. 558 - وقال أبو عبيدٍ - في حديث أبي بكرٍ [رضي الله عنه] أنه مر بعبد الرحمن ابنه وهو يماظ جاراً له، فقال [له] أبو بكر: "لا تماظ جارك، فإنه يبقى، ويذهب الناس".

قال: بلغني هذا الحديث عن ابن المبارك، عن عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن أبي بكر. قوله: لا تماظ: المماظة: المشارة، والمشاقة، وشدة المنازعة مع طول اللزوم لذلك. يقال: ماظظت فلاناً أماظه مظاظاً ومماظة. 559 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكرٍ - رحمه الله- حين أتى على "بلال" وقد مُطي في الشمس، فقال لمواليه: "قد ترون عبدكم هذا لا يُطيعكم، فبيعونيه. قالوا: اشتره، فاشتراه بسبع أواقي، وأعتقه. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فحدثه. فقال: الشركة؟ فقال: يا رسول الله! إني أعتقته". قوله: "مُطى". قال الأصمعي: يعني مُد. وهكذا كان يُصنعُ به فيما يُروى إذا أرادوا تعذيبه بطحوه على الرمضاء. وكل شيء مددته فقد مطوته، ومنه المطو في السير، ولهذا قيل للرجل: يتمطى، إنما هو تمديده جسده.

وفي هذا الحديث من الفقه سؤال النبي - عليه السلام- إياه الشركة بعد الشرى. هذا في الرجل يشتري الشيء وحده ثم يشرك فيه غيره ممن لم يحضر معه الشرى. وهو حُجة لمن قال: الشركة بمنزلة البيع، لأنه لما أشركه في متاعه، فكأنه باعه نصفه. 560 - وقال أبو عبيد في حديث أبي بكر- رحمه الله- وقد كان شُكي إليه بعض عُماله، فقال: "أنا أقيد من وزعة الله"؟ الوزعة: جماعة الوازعِ، والوازعُ: الذي يكف الناس، ويمنعهم من الشر. يقال منه: وزعته، فأنا أزعه وزعاً [386]، ويروى في قول الله - تبارك وتعالى-: (فهم يوزعون) يعني يُحبس أولهم على آخره/، وهو من الكف والمنع.

ويُروى عن الحسن البصري أنه قال: "لا بد للناس من وزعةٍ"، يعني: من يكفهم، ويمنعهم من الشر، كأنه يعني السلطان. قال أبو عبيد: فكأن أبا بكرٍ إنما أراد أني لا أُقيدُ من الولاة الذين يزعون الناس عن محارم الله [تعالى]. يعني: إذا كان ذلك الفعل منهم بوجه الحكم والعدل، لا بوجه الجور. 561 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكرٍ الصديق [رضي الله عنه] أنه لما قَدِم وفد اليمامة بعد مقتل "مسيلمة" قال: "ما كان صاحبكم يقول؟ فاستعفوه من ذلك. فقال: لتقولن. فقالوا: كان يقول: يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الشراب تمنعين، ولا الماء تكدرين ... في كلامٍ من هذا كثيرٍ. فقال أبو بكرٍ: ويحكم! إن هذا لكلامٌ لم يخرج من إل ولا بر فأين ذُهب بكم. قوله: من إل: يعني من رب.

ويروى عن الشعبي أنه قال في قوله [سبحانه وتعالى]: "لا يرقبون في مؤمنٍ إلا ولا ذمةً". قال: الله، أو قال: ربا. ومما يبين هذا قوله: جبرئل وميكائل، إنما أضيف جبر وميكا إلى إل. وهو شبيه يقول ابن عباسٍ: - إنما هو كقولك: عبد الله، وعبد الرحمن- في جبرئل وميكائل. 562 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكرٍ [رضي الله عنه]- حين قال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان حين وجهه إلى الشام فقال-: "إنك ستجد قوماً [قد] فحصوا رؤوسهم فاضرب بالسيف ما فحصوا عنه، وستجد قوماً في الصوامع، فدعهم وما أعملوا أنفسهم له".

أما قوله: [قد] فحصوا رؤوسهم [فاضرب بالسيف ما فحصوا عنه] فهم الشمامسة الذين قد حلقوا رؤوسهم. وأما أصحاب الصوامع، فإنه يعني الرهبان. ونُرى أنه إنما نهى عن قتلهم [387]، لأنهم لا يسمعون كلام الناس ولا يعرفون أخبارهم، ولا يدلون المشركين على عورة المسلمين، ولا يخبرونهم بدخولهم أرضهم، فلذلك نهى عن قتلهم، ولو كانوا يعينون على الإسلام وأهله بشيءٍ، ما نهى عن قتلهم. 563 - وقال أبو عبيدٍ في حديث أبي بكر [رضي الله عنه] أنه لقى طلحة بن عبيد الله، فقال: "مالي أراك أصبحت واجماً؟ قال: كلمةٌ سمعتها من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] موجبةٌ لم أسأله عنها. فقال أبو بكر: أنا أعلم ما هي: "لا إله إلا الله".

يُروى عن جريرٍ، عن منصورٍ، عن أبي وائل، قال: حدثت أن أبا بكرٍ لقي طلحة بن عبيد الله، فقال له ذلك. أما قوله: أصبحت واجماً، فإن الواجم: المهتم الذي قد أسكته الهم، وعلته له كآبةٌ. يقال منه، قد وجم الرجل يجم وجوماً. [تمت أحاديث أبي بكرٍ رضي الله عنه]

أحاديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه

أحاديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه

564 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] أنه خرج من الخلاء، فدعا بطعامٍ، فقيل: ألا توضأ؟ فقال: "لولا التنطس ما باليت إلا أغسل يدي". قال: حدثناه ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عمر. فسئل ابن علية عن التنطس؟ فقال: هو التقذر. قال الأصمعي: هو المبالغة في الطهور، وكل من أدق النظر في الأمور، واستقصى علمها، فهو متنطس. ومنه قيل للمتطبب: النطاسي، والنطيس، وذلك لدقة نظره في الطب. وقال أبو عمرو نحو قول الأصمعي، وأنشد أحدهما للبعيث بن بشرٍ بصف شجةً أو جراحةً: إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت ... غثيثتها وازداد وهياً هزومها [388] [ويروى: النطاسي بالتفح].

الآسي: الطبيب. والغثيثة: ما يكون في الجرح من مدةٍ ودمٍ، وصديدٍ، ونحو ذلك. قوال رؤبة: وقد أكون مرةً نطيسا طباً بأدواء الصبا نقريسا والنقريس قريب المعنى من النطيس، وهو: القطن في الأمور، العالم بها. وقول ابن علية بأنه التقذر، هو راجعٌ إلى هذا المعنى. 565 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين سأل الأسقف عن الخلفاء، فحدثه، حتى انتهى إلى نعت الرابع، فقال: صدعٌ من حديدٍ، فقال عمر: وادفراه. قال: حدثنيه يزيد، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيقٍ، عن الأقرع مؤذن عُمر، عن عُمر. قال الأصمعي: كان حمادُ بن سلمة يقول: صدأ حديدٍ. قال: وهذا أشبه بالمعنى؛ لأن الصدأ له دفرٌ، والصدع لا دفر له. قال: والدفر هو النتن إذا قلته بالدال وجزم الفاء، قال:

ومنه قيل للدنيا: أم دفر، ولهذا يقال للأمة: يا دفار. قال: وأما الذفر- بالذال [معجمة] وفتح الفاء- فإنه يقال ذلك لكل ريحٍ ذكيةٍ من طيبٍ أو نتن ذفر. قال: ومنه قيل: مسكٌ أذفر. قال أبو عبيدٍ: وهذا ما يوصف به الذفر في شدة طيب الريح. وأما ما يقال في النتن، فقولهم في ذفر الإبط، وهو نتنه، وكذلك ذفر الحديد، وهو سهكه، قال عبيد بن الأبرص: بكتيبةٍ جاواء تر ... فل في الحديد له ذفر يعني: ريح الحديد وسهكه. 566 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر- رحمه الله-[389] حين قال عند موته: "لو أن لي ما في الأرض جميعاً لافتديت به من هول المطلع".

قال: حدثناه: معاذٌ، عن ابن عونٍ، عن ابن سيرين، عن عمر. قال الأصمعي: المطلع: هو موضع الاطلاع من إشرافٍ إلى انحدارٍ. قال أبو عبيد: فشبه ما أشرف عليه من أمر الآخرة بذلك. وقال يكون المطلع: المصعد من أسفل إلى المكان المشرف، وهذا من الأضداد. ومنه حديث "عبد الله" في ذكر القرآن: "لكل حرفٍ منه حد، ولكل حد مطلع". قال: حدثنيه: غندر [محمد بن جعفر]، عن شعبة، عن سلمة بن كهيلٍ، عن أبي الحوص، عن عبد الله. يُقال: معناه: لكل حد مصعد يُصعدُ إليه، يعني في معرفة علمه. ومنه قول جرير بن الخطفي:

إني إذا مُضر على تحديت .. لا قيت مطلع الجبال وعورا يعني مصعدها. وقال أبو عمرو: قوله: لكل حد مطلع، يقول: مأتى يؤتى منه، وهو شبيه المعنى بالقول الأول، يُقال: مطلع هذا الجبل من مكان كذا وكذا، أي مصعده ومأتاه. 567 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رحمه الله- "حين بعث حذيفة، وابن حنيفٍ إلى السواد، ففلجا الجزية على أهله". قال: حدثنيه كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرقان، عن ميمون بن مهران، عن عمر. قال الأصمعي: قوله: فلجا، يعني: قسما الجزية عليهم. قال: وأصل ذلك من الفلج، وهو المكيال الذي يُقال له الفالج، قال: وأصله "سرياني" يقال له بالسريانية، "فالفاً" فعرب فقيل: فالجٌ، وفلجٌ.

قال الجعدي يصف الخمر [390]: ألقى فيها فلجان من مسك دا ... رين وفلجٌ من فُلفلٍ ضرم يعني بضرمٍ مرارة طعم الفلفل. وإنما سُمي القسمة بالفلج، لأن خراجهم كان طعاماً. قال أبو عبيدٍ: فهذا الفلجُ، فأما الفُلجُ- بضم الفاء- فإنه: أن يفلج الرجل أصحابه: يعلوهم ويفوقهم. يُقال منه: قد فَلجَ يَفْلُجُ [فلجاً وفُلجاً]. وأما الفلج بفتح الفاء واللام، فهو النهر، قال الأعشى: فما فلجٌ يجري إلى جنب صعنبي ... له مشرعٌ سهلٌ إلى كل مورد والفلج في الأسنان أيضاً من الرجل الأفلج. 568 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رحمه الله] حين قال له حذيفة:

"إنك تستعين بالرجل الذي فيه" وبعضهم يرويه: "بالرجل الفاجر". قال: حدثنيه: يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن: أن حذيفة قال ذلك لعمر، فقال عمر: "إني أستعمله لأستعين بقوته، ثم أكون على قفانه". قال الأصمعي: قفان كل شيءٍ: جماعه، واستقصاء معرفته. يقول: أكون على تتبع أمره، حتى أستقصي علمه، وأعرفه. قال أبو عبيدٍ: ولا أحسبُ هذه الكلمة عربيةٌ، إنما أصلها: قبانٌ، ومنه قول العامة: فلان قبانٌ على فلانٍ: إذا كان بمنزلة الأمين عليه، والرئيس الذي يتتبع أمره، ويحاسبه، ولهذا سمي هذا الميزان الذي يقال له: القبان [القبان]. 569 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين قال لابن عباس - لشيءٍ شاوره فيه، فأعجبه كلامه، فقال عمر:

"نشنشةً من أخشن". هكذا كان سفيان بن عيينة يحدثه، عن عاصم بن كليبٍ، عن أبيه، عن ابن [391] عباس، عن عمر. وأما أهل العلم بالعربية فيقولون غير هذا. قال الأصمعي: إنما هو: شنشنةً أعرفها من أخزم وهذا بيت رجز تمثل به. قال: والشنشنة: قد تكون كالمضغة، أو القطعة تقطع من اللحم. وقال غير واحدٍ: بل الشنشنةُ: مثل الطبيعة والسجية.

فأراد عمر: أني أعرفُ فيك مشابه من أبيك في رأيه وعقله. ويقال: إنه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس [رحمه الله]. قال أبو عبيدٍ: وأخبرني ابن الكلبي أن هذا الشعر لأبي أخزم الطائي وهو جَد أبي حاتم الطائي، أو جد جده، وكان له ابن يقال له: أخزم، فمات، وترك بنين، فوثبوا يوماً على جدهم أبي أخزم، فأدموه، فقال: إن بني رملوني بالدم شنشنةً أعرفها من أخزم يقول: إن هؤلاء أشبهوا أباهم في طبيعته وخُلقه، وأحسبه كان به عاقاً. وقد يكون المعنى الآخر كأنه جعلهم قطعة منه، أي: أنهم بعضه. وقد تمثل بهذا الشعر أيضاً عقيل بن عُلقة المري في بعض ولده، وإنما تمثل به عمر تمثلاً. قال أبو عبيدة: يقال: شنشنةٌ، ونشنشة. وغيره ينكر نشنشة. 570 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-] يوم سقيفة بني ساعدة حين اختلفت الأنصار على أبي بكرٍ، فقال عمر:

"وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقوم بها بين يدي أبي بكر، قال: فجاء أبو بكرٍ، فما ترك شيئاً مما كنت زورته إلا تكلم به"، وهذا حديثٌ يرويه عدة عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: عن ابن عباسٍ: عن عمر. قال الأصمعي: التزوير: إصلاح الكلام، وتهيئته. قال أبو زيد: المزور من الكلام، والمزوق واحد، وهو المصلح المحسن. وكذلك الخط إذا قوم أيضاً. وكان أبو عبيدة يقول: المزوق من البيوت هو المصور [392]، وهو من هذا، لأنه مزين بالتصاوير. قال أبو عبيدة: وإنما قيل له: مزوقٌ؛ لأن أهل المدينة يُسمون الزئبق الزاووق. قال: والتصاوير قد تكون به، فمن ثم قالوا: بيتٌ مزوقٌ، أي: أنه مصورٌ بتصاوير يخالطها الزاووقُ.

ومنه حديث عبد الله بن عمرو: "إذا رأيت قريشاً قد هدموا البيت، ثم بنوه وزوقوه، فإن استطعت أن تموت فمت". 571 - وقال أبو عبيد في حديث [رضي الله عنه]: "حين ضرب الرجل الذي أقسم على "أم سلمة" ثلاثين سوطاً كلها يبضع ويحدر". قال: هو من حديث ابن عيينة، بلغني [ذلك] عنه، عن جامع بن أبي راشدٍ، عن أبي وائل: أن رجلاً كان له حقٌّ على "أم سلمة" فأقسم عليها، ثم ذكر الحديث.

قال الأصمعي: قوله: يبضع: يعني يشق الجلد، وقوله: يحدر: يعني يورم ولا يشق. وقد اختلف الأصمعي وغيره في إعرابه، فقال بعضهم: يحدر إحداراً، من أحدرت، وقال بعضهم: يحدر حدوراً من حدرتُ. وأظنهما لغتين، إذا جعلت الفعل للضرب. فأما إذا كان الفعل للجلد نفسه أنه الذي تورم، فإنهم يقولون: قد حدر جلده يحدر حدوراً، لا اختلاف فيه أعلمه، وقال عمر بن أبي ربيعة: لو دب ذرٌ فوق ضاحي جلدها ... لأبان من آثارهن حدورا يعني الورم. وكذلك يقال: حدرت السفينة [393] في الماء. وكل شيءٍ أرسلته إلى أسفل حدوراً وحدراً بغير ألفٍ، ولم أسمعه بالألف أحدرتُ. ومنه سميت القراءة السريعة الحدر؛ لأن صاحبها يحدرها حدراً، وأما الحدور- بفتح الحاء- فإنه الموضع المنحدر. يقال: وقعنا في حدورٍ منكرةٍ، كقولك: في هبوطٍ، وصعودٍ، كل هذا بالفتح. وقال الله- تبارك وتعالى-: (سأرهقه صعوداً). وكذلك الكؤود. ومنه حديثٌ يُروى عن أبي الدرداء: "إن بين أيدينا عقبةً كؤوداً، لا يجوزها إلا المخف.

572 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- حين قال- لمؤذن "بيت المقدس"-: "إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحذم". قال: حدثنيه الأنصاري محمد بن عبد الله، عن مرحوم العطار، عن أبيه، عن أبي الزبير - مؤذن "بيت المقدس"- أن عمر قال له ذلك. قال الأصمعي: الحذم: الحدر في الإقامة، وقطع التطويل. قال: وأصل الحذم في المشي إنما هو الإسراع منه، وأن يكون مع هذا كأنه يهوى بيديه إلى خلفه. وقال غيره: وهو كالنتف في المشي، شبيهٌ بمشي الأرنب، وأما الخدم - بالخاء- فهو: القطع. وقد يكون الجذم- بالجيم-: القطع أيضاً، ومنه قيل للأقطع: أجذم: قال "المتلمس": وهل كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما؟ !

وقد جذمتها: قطعتها. ومنه الحديث: "من قرأ القرآن، ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم" [394]، وأما الحديث، فهو بالحاء. 573 - وقال أبو عبيد في حديث عمر [رضي الله عنه] أنه قال: "لا يُقر رجلٌ أنه كان يطأ جاريته إلا ألحقت به ولدها، فمن شاء فليمسكها، ومن شاء فليسمرها". [قال أبو عبيد]: هكذا الحديث بالسين، من حديث ابن عُلية، عن أيوب، عن نافع: عن صفية، عن عمر. قال الأصمعي: أعرف التشمير- بالشين [معجمة]- هو الإرسال، قال: وأراه من قول الناس: شمرت السفينة: أرسلتها، قال: فحولت الشين إلى السين. قال أبو عبيدٍ: أما الشين، فكثيرٌ في الشعر وغيره، قال الشماخ يذكر أمراً نزل به: أرقتُ له في القوم والأمر ساطع ... كما سطع المريخ شمره الغالي

المريخ: السهم. والغالي: الرامي، والتشمير: الإرسال، فهذا كثير في كلامهم بالشين. وأما السين فلم نسمعه إلا في هذا الحديث، ولا أراها إلا تحويلا، كما قالوا: الرواسيم- بالسين- وهي في الأصل بالشين، كما قالوا، شمت الرجل وسمته. 574 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر- رضي الله عنه- أن رجلاً تخلل بالقصب، فنفر فمه، فنهى "عمر" عن التخلل بالقصب. قال: حدثناه القاسم بن مالك [المزني]، عن عبد الله بن الوليد المزني، عن عبيد الله بن الحسن، عن عبد الله بن معقلٍ المزني، عن عمر. قال الأصمعي: قوله: نفر فمه: يعني ورم. قال الكسائي مثل ذلك. قال أبو عبيد: ولا أرى هذا أخذ إلا من نفار الشيء من الشيء، إنما هو تجافيه عنه، وتباعده منه، فكأن اللحم لما أنكر الداء نفر منه، فظهر، فذلك نفاره [395].

575 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-]: "كذب عليكم الحج، كذب عليكم العمرة، كذب عليكم الجهاد ثلاثة أسفار كذبن عليكم". قال حدثناه ابن علية، عن إسحاق بن سويد، عن حُريث بن الربيع- يقال: هو أخو حجير بن الربيع- عن عمر. قال الأصمعي: معنى كذب عليكم معنى الإغراء، أي عليكم به. وكان الأصل في هذا أن يكون نصباً، ولكنه جاء عنهم بالرفع شاذاً على غير قياسٍ. قال: ومما يحقق لك أنه مرفوعٌ قول الشاعر: كذبت عليك لا تزال تقوفني ... كما قاف آثار الوسيقة قائف فقوله: كذبت عليك: إنما أغراه بنفسه، أي عليك بي، فجعل نفسه في موضع رفع، ألا تراه قد جاء بالتاء فجعلها اسمه.

وقال معقر البارقي: وذبيانيةٍ أوصت بنيها ... بأن كذب القراطف والقروف فرفع، والشعر مرفوع، ومعناه: عليكم بالقراطف، والقروف. قال أبو عبيد: القراطف: القطف، واحدها قرطفٌ، والقروف: الأوعية. قال أبو عبيد: ومما يحقق الرفع أيضاً قول عمر: "ثلاثة أسفارٍ كذبن عليكم ... ". [قال]: ولم أسمع في هذا حرفاً منصوباً إلا في شيءٍ كان "أبو عبيدة" يحكيه عن أعرابي نظر إلى ناقةٍ نضوٍ لرجلٍ، فقال: "كذب عليك البزر والنوى".

ولم أسمع [أحداً يحكي] في هذا نصباً غير قول أبي عُبيدة هذا. وقال ابن عُلية: قال إسحاق بن سويد: العرب تقول: كذب عليك العسل، كذب عليك كذا كذا، أي: عليك به. 576 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه]: "ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يُخرق [396] أعراض الناس ألا تُعربوا عليه! قالوا: نخاف لسانه. قال: ذلك أدنى ألا تكونوا شهداء! ". قال: حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائلٍ، عن زيد بن صوحان، عن عمر.

قال أبو زيد، والأصمعي: قوله: ألا تعربوا عليه يعني أن تفسدوا عليه كلامه، وتقبحوه له، قال أوسُ بن حجر: ومثل ابن عثم إن ذُحولٌ تذكرت ... وقتلى تياسٍ عن صلاحٍ تعرب قال أبو عبيدٍ: وتعرب يعني أنها تفسد المصالحة، وتنكل عنها. وقد يكون التعريب من الفحش، وهو قريبٌ من هذا المعنى. ومنه قول ابن عباسٍ. قال: حدثناه سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله [تعالى] "فلا رفث ولا فسوق". قال: الرفث الذي ذكر هاهنا ليس بالرفث الذي ذكر في موضعٍ آخر، هو التعريض بذكر النكاح، وهو العرابة في كلام العرب. وقوله: العرابةُ: كأنه اسمٌ موضوعٌ من التعريب، وهو ما قبح من الكلام وكذلك الإعراب، يقال منه أعربت إعراباً. ومنه قول عطاءٍ: إنه كره الإعراب للمحرم. قال: حدثنيه ابن مهدي: عن سفيان، عن علقمة بن مرثدٍ، عن عطاءٍ.

وقال رؤبة بن العجاج: والعرب في عفافةٍ وإعراب قوله: والعرب يعني المتحببات إلى الأزواج، واحدتها عروبٌ، والإعراب من الفحش، فمعناه أنه يقول: إنهن يجمعن العفافة عند الغرباء، والإعراب عند الأزواج. وهذا كقول الفرزدق: يأنسن عند بعولهن إذا خلوا ... وهموا إذا خرجوا فهن خفار وقد رُوي في بعض الحديث: "خير النساء المتبذلة لزوجها [397] الخفرة في قومها". 577 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عُمر [رحمه الله]: "أنه نهى عن الفرس في الذبيحة". قال: حدثناه مروان بن معاوية الفزاري، عن هشام الدستوائي، وحجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، ن المعرور الكلبي، عن عمر.

قال: وحدثناه عبد الله بن المبارك، عن الأوزاعي، عن المعرور الكلبي، عن عثمان بن عفان. قال أبو عبيدٍ: ولا أرى المحفوظ إلا حديث ابن المبارك. قال أبو عبيدة: الفرس هو النخع، يقال منه: [قد] فرست الشاة ونخعتها، وذلك أن تنتهي بالذبح إلى النخاع، وهو عظمٌ في الرقبة، ويقال: بل هو الذي يكون في فقار الصلب شبيه بالمخ، وهو متصل بالقفا. يقول: فنهى أن يُنتهى بالذبح إلى ذلك. قال أبو عبيد: أما النخعُ فهو على ما قال أبو عبيدة. وأما الفرس، فقد خولف فيه. يقال: هو الكسر، وإنما نهى أن تُكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد، ومما يبين ذلك أن في الحديث: "ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق". وكذلك حديث عمر بن عبد العزيز [رحمه الله]: "أنه نهى عن الفرس والنخع، وأن يستعان عن الذبيحة بغير حديدتها". أفلا ترى أن الكسر معونة عليها؟ ومع هذا إن الفرس معروفٌ في الكلام أنه الكسرُ.

ويقال: إنما سميت فريسة الأسد؛ لأنه يكسرها. قال [أبو عبيد]: الفرس بالسين: الكسر، وبالصاد: الشق. 578 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه]: "حين أتاه رجلٌ يسأله، فقال: هلكت وأهلكت. فقال عمر: اسكت، أهلكت وأنت تنث نثيت الحميت. وبعضهم يرويه بالميم "تمث" ولا أرى المحفوظ إلا بالنون. ثم قال: أعطوه ربعةً من الصدقة، فخرجت يتبعها ظئراها". قال: حدثنيه أزهر بن حفصٍ، عن قيل بن عرادة، عن جراد بن طارق، عن عمر. قال: وحدثنيه يزيد بن هارون، عن الصعق بن حزنٍ، عن قيل بن عرادة [398]، عن جراد بن شييطٍ - ولم يقل: ابن طارقٍ- عن عمر. وزاد فيه "يزيد" قال فقال: بعد ما أمر له بربعةٍ يتبعها ظئراها. قال: ثم أنشأ عمر يحدثنا بعد عن نفسه فقال: "لقد رأيتني أنا وأختاً لي، نرعى على أبوينا ناضحاً لنا، قد ألبستنا أمنا نقبتها، وزودتنا يمينتيها من الهبيد، فنخرج بناضحنا، فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى

أختي، وخرجت أسعى عرياناً، فنرجع إلى أمنا، وقد جعلت لنا لفيتةً من ذلك الهبيد فيا خصباه". قوله: تنث. النثيث: أن يعرق، ويرشح، من عظمه وكثرة لحمه. يقال منه: نث الرجل ينث نثيثاً، ويقال: نث الرجل الحديث ينثه نثاً، هذا بالضم وذاك بالكسر. وأما الحميتُ، فزعم الأحمر أنه الزق المشعر الذي يُجعل فيه السمن والعسل والزيت، وجمعه حمتٌ، وهو الذي يقال له: النحى، وجمعه أنحاءٌ. قال أبو عبيدٍ: وأما الزق الذي يُجعل فيه اللبن، فهو الوطب، وجمعه وطابٌ. وما كان منها للشراب، فهي الذوارع، واسم الزق يجمع ذلك كله. وأما ما كان للماء فهي الأسقية. وقوله: أعطوه ربعةً، فالربعةُ ما وُلد في أول النتاج، والذكر ربع. و[أما] قوله: ناضحاً لنا. الناضح: هو البعير الذي يُسنى عليه، فتسقى به الأرضون، والأنثى ناضحةٌ، قالها "الكسائي". وهي السانية أيضاً، وجمعها سوانٍ. وقد سنت تسنو، ولا يقال: ناضحٌ لغير المستقى.

وقوله: ألبستنا نقبتها: فإن النقبة: أن تؤخذ القطعة من الثوب قدر السراويل، فتجعل لها حجزةٌ مخيطةٌ من غير نيفق، وتُشد كما تُشد حجزة السراويل، فإذا كان لها [399] نيفقٌ وساقان، فهي سراويل، وإذا لم يكن لها نيفقٌ ولا ساقان ولا حجرةٌ، فهو النطاق، وذلك: أن تأخذ المرأة الثوب. فتشتمل به، ثم تشد وسطها بخيطٍ، ثم ترسل الأعلى على الأسفل، فهذا النطاق فيما فسره لي أبو زيادٍ الكلابي، وبه سُميت أسماء بنت أبي بكرٍ "ذات النطاقين" وقال بعض الناس: إنما سميت بذلك أنها كانت تطارق نطاقاً بنطاقٍ استتاراً. ويقال: بل كان لها نطاقان، فكان أحدهما عليها كما تنتطق المرأة. وكان الآخر تجعل فيه طعاماً تأتي به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأبا بكرٍ [رضي الله عنه] وهما في الغار. وقوله: زودتنا يمينتيها من الهبيد - هكذا جاء الحديث، ولكن الوجه في الكلام أن يكون يمينتيها - بالتشديد؛ لأن تصغير يمينٍ، وتصغير الواحدة يمينٌ بلا هاءٍ. وإنما قال: يمينتيها، ولم يقل: يديها، ولا كفيها؛ لأنه لم يُرد أنها جمعت كفيها ثم أعطتهما بجميع الكفين، ولكنه أراد أنها أعطت كل واحدٍ كفاً واحدةً بيمينها، فهاتان يمينان، [ولو جمعتهما لكانتا يميناً وشمالاً]. وأما قوله: الهبيد، فإنه حب الحنظل، زعموا أنه يعالج حتى يمكن أكله، ويطيب.

يقال منه: تهبد الرجل، وتهبد الظليم تهبداً: إذا أخذه من شجره. وأما اللفيتة، فإنها: ضربٌ من الطبيخ، لا أقف على حده، وأراه كالحساء ونحوه. 579 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين خرج إلى الاستسقاء، فصعد المنبر، فلم يزد على الاستغفار حتى نزل، فقيل له: إنك لم تستسق، فقال: "لقد استسقيت بمجاديح السماء". قال: حدثناه هشيمٌ، وأبو يوسف جميعاً قالا: أخبرنا مطرف [بن طريفٍ]، عن الشعبي، عن عمر. قال "أبو عمرو": المجاديح، واحدها مجدحٌ، وهو: نجم من النجوم كانت العرب: تقول: إنه يمطرُ به. كقولهم في الأنواء. قال [400]: فسألت عنه الأصمعي، فلم يقل فيه شيئاً، وكره أن يتأول على عمر مذهب الأنواء.

وقال الأموي: يقال فيه أيضاً: إنه المجدح - بالضم- وأنشدنا: وأطعن ب القوم شطر الملو ... ك حتى إذا خفق المجدح والذي يُراد من هذا الحديث أنه جعل الاستغفار استسقاءً، يتأول قول الله - تبارك وتعالى - (استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً). وإنما نُرى أن "عمر" تكلم بهذا على أنها كلمةٌ جاريةٌ على ألسنة العرب، ليس على تحقيق الأنواء، ولا [على] التصديق بها. وهذا شبيهٌ بقول ابن عباسٍ [رحمه الله]- في رجلٍ جعل أمر امرأته بيدها، فطلقته ثلاثاً، فقال: خطأ الله نوءها، ألا طلقت نفسها ثلاثاً". ليس هذا منه دعاءٌ عليها ألا تمطر، إنما هو على الكلام المقول. ومما يبين لك أن عمر أراد إبطال الأنواء، والتكذيب بها، قوله: "لقد استقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها الغيث" فجعل الاستغفار هو المجاديح، لا الأنواء.

580 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] "إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه، ولا يتخذ ثباناً". قال: حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهدٍ، عن عمر. قال: وحدثناه هشيمٌ، عن أبي بشر، عن مجاهدٍ، عن عمر. قال أحدهما: ولا يتخذ ثباناً. وقال الآخر: ولا يتخذ خبنةً. قوله: الثبان. قال أبو عمرو: هو الوعاء الذي يُحمل فيه الشيء، فإن حملته بين يديك فهو ثبانٌ. يقال [منه]: قد تثبنت ثباناً. فإن حملته على ظهرك فهو الحال: يقال منه: [قد] تحولت كسائي، إذا جعلت فيه شيئاً، ثم حملته على ظهرك. فإن جعلته في حضنك، فهو خُبنةٌ. ومنه الحديث المرفوع، قال: حدثناه أبو معاوية، عن هشامٍ بن سعدٍ، عن عمرو بن شعيبٍ يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- نحو هذا.

يقال منه: خبنت أخبن خبناً [401]. قال أبو عبيدٍ: وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر، الذي لا شيء معه ليشتري به، وهو مفسرٌ في حديثٍ آخر. قال: حدثناه الأنصاري محمد بن عبد الله، عن ابن جريج، عن عطاءٍ قال: رخص رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للجائع المضطر إذا مر بالحائط أن يأكل منه ولا [يتخذ] خبنةً. ومما يبين لك أنه إنما رخص لذلك خاصةً قوله: "ولا يتخذ خبنةً" أو "ولا يتخذ ثباناً". فلم يجعل له الثبان والخبنة إلا ما في بطنه قدر قوته، فكيف يرخص لأهل الزاد الواسع أن يصيبوا أموال الناس، وكذلك حديث "عمر" الآخر في الإبل يمر بها المسافر، قال: "يصوت يا راعي الإبل ثلاثاً، فإن جاء، وإلا فليشرب". فإنما هو للمضطر الذي يخاف الموت على نفسه، ولا يقدر على الشراء. ومما يبين ذلك حديثه في الأنصار الذين مروا بحي من العرب

فسألوهم القرى، فأبوا، فسألوا الشرى فأبوا، فضبوطهم، فأصابوا منهم، فأتوا "عمر" فذكروا ذلك له، فهم بالأعراب، وقال: "ابن السبيل أحق بالماء من التأني عليه". قال: حدثناه حجاجٌ، عن شعبة، عن محمد بن عبيد الله الثقفي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر. فهذا مفسر، إنما هو لمن لم يقدر على قرى ولا شراءٍ. وكذلك قال في الحديث الأول: ليصوت: يا راعي الإبل ثلاثاً؛ ليكون طلب القرى قبلُ. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحل لأحدٍ أن يحل صرار ناقةٍ إلا بإذن أهلها فإن خاتم أهلها عليها". قال: حدثناه شريكٌ، عن عبد الله بن عصمٍ، قال: سمعت أبا سعيد الخدري بقوله، فقيل لشريكٍ: أرفعه؟ فقال: نعم.

وقد روي عن ابن عمر، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في النهي عن ذلك أيضاً. فكل هذه تقويةٌ لمن كره أن يأخذ من الثمار أو الألبان إلا بإذن أهلها، والحديث في هذا كثيرٌ، وله موضعٌ غير هذا. 581 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر- رضي الله عنه-[402] "لو شئت لدعوت بصلاءٍ، وصنابٍ، وصلائق، وكراكر، وأسنمةٍ" وفي بعض الحديث وأفلاذٍ. قال: حدثناه أبو نوحٍ، عن جرير بن حازم، عن الحسن، عن عمر. قال أبو عمرو: الصلاء: الشواء؛ سمي بذلك؛ لأنه يُصلى بالنار.

قال والصناب: الخردل بالزبيب. قال: ولهذا قيل للبرذون صنابي؛ إنما شُبه لونه بذلك. قال: والسلائق- بالسين- وهو: كل ما سلق من البقول وغيرها. وقال غير أبي عمرو: هي الصلائق- بالصاد- ومعناها الخبز الرقيق. قال جرير [بن عطية بن الخطفي]: تكلفني معيشة آل زيدٍ ... ومن لي بالصلائق والصناب وأما الكراكر، فكراكر الإبل: واحدتها كركرةٌ، وهي معروفةٌ. وأما الأفلاذ، فإن واحدها فلذٌ: وهو القطعة من الكبد. ومنه حديث "عبد الله" حين ذكر أشراط الساعة، فقال: وتُلقى الأرض أفلاذ كبدها" قال "أعشى باهلة": تكفيه حزةُ فلذٍ إن ألم بها ... من الشواء ويروى شربه الغمر [وهو القعب الصغير].

وحديث "عمر" هذا في ذكر الطعام شبيهٌ بحديثه الآخر: "لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله [عز وجل] عاب قوماً فقال: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها". قال الأصمعي: قوله: يدهمق لي: الدهمقة: لين الطعام وطيبته ورقته، وكذلك كل شيءٍ لين، قال الأصمعي: وأنشدني خلفٌ الأحمر في نعت أرض فقال: حزنٌ روابي تُربه دهامق يعني تُربةٌ لينةٌ. وقال غيره: الدهمقة والدهقنة واحدٌ والمعنى في ذلك كالمعنى الأول سواءٌ؛ لأن لين الطعام من الدهقنة [403]. 582 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- أنه أراد أن يشهد جنازة رجلٍ، فمرزه "حذيفة" كأنه أراد أن يصده عن الصلاة عليها".

قال أبو عمرو: لم أسمع هذه الكلمة، وإنها لتشبه كلام العرب. فقال رجلٌ عنده من أهل اليمامة: هذه كلمةٌ عندنا معروفة باليمامة. يقال: مرزت الرجل مرزاً: إذا قرصه بأطراف أصابعه مرزاً رفيقاً. ليس بالأظفار. فإذا اشتد المرز حتى يكون له وجعٌ، فهو حينئذٍ قرصٌ، وليس بمرزٍ. 583 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- "لئن بقيت لأسوين بين الناس حتى يأتي الراعي حقه في صفنه لم يعرق فيه جبينه". قال أبو عمرو: الصفن: خريطةٌ تكون للراعي فيها طعامه وزناده، وما يحتاج إليه. وقال الفراء: هو شيء [يكون] مثل الركوة يتوضأ فيه. وقال أبو عبيدٍ: قال صخرٌ الهذلي [يصف ماء ورده]: فخضخضت صفني في جمةٍ ... خياض المدابر قدماً عطوفا

وقال أبو دؤاد [الإيادي يصف ماءٌ ورده]: هرقت في حوضه صفناً ليشربه ... في داثرٍ خلق الأعضاد أهدام وقد يمكن أن يكون ما قال أبو عمرو، والفراء جميعاً أن يكون يستعمل الصفن في هذا وفي هذا. وقد سمعت من يقول: هو الصفن- بفتح الصاد- وهي الصفنة أيضاً بالتأنيث. وحديث عمر هذا شبيهٌ بحديثه الآخر حين قال: "لئن بقيت إلى قابلٍ ليأتين كل مسلمٍ حقه أو قال: حظه- حتى يأتي الراعي بسرو حمير لم يعرق فيه جبينه". قال: حدثنيه ابن علية، عن أيوب، في حديثٍ طويلٍ، أوله عن عكرمة بن خالدٍ، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر. وبعضه عن أيوب، عن الزهري، [عن عمر].

قال أبو عمرو: قوله: بسرو حمير [404]: السرو: ما انحدر من حزونة الجبل، وارتفع عن منحدر الوادي، فما بينهما سروٌ. قال الأصمعي: وهو الخيف أيضاً، قال: وبه سمي خيف مني. وقال غيرهما: هو النعف أيضاً. ويروى عن عمر- في حديث ثالث- أنه قال: "لئن عشت إلى قابلٍ، لألحقن آخر الناس بأولهم، حتى يكونوا بباناً واحداً". قال: حدثنيه ابن مهديٍّ، عن هشامٍ بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر. قال ابن مهدي: يعني شيئاً واحداً. قال أبو عبيدٍ: وذاك الذي أراد فيما نُرى، ولا أحسب هذه الكلمة عربية، ولم أسمعها في غير هذا الحديث. 584 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] في أسيفع جهينة أنه خطب، فقال: "ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته، بأن يقال: سابق الحاج- أو قال: سبق الحاج- قادان معرضاً، فأصبح قد رين

به، فمن كان له عليه دين فليغد بالغداة، فلنقسم ماله بينهم بالحصص". قال: حدثنيه أبو النضر، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن ابن دلافٍ، عن عُمر. قال أبو زيدٍ الأنصاري: قوله: فادان معرضاً: يعني استدان معرضاً، وهو الذي يعترض الناس، فيستدين ممن أمكنه. قال الأصمعي: وكل شيءٍ أمكنك من عرضه، فهو معرضٌ لك، ومن هذا قول الناس: هذا الأمر معرضٌ لك، إنما هو بكسر الراء [بهذا المعنى]، ومنه قول عدي بن زيدٍ ... : سره حاله وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضاً والسدير [قال أبو عبيد]: ويروى: والنخل، ويروى: معرضٌ بالرفع [أيضاً].

قال أبو عبيدٍ: وقوله: فأصبح قد رين به. قال أبو زيدٍ: يقال: قد رين بالرجل ريناً: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قِبل له به. وقال القنائي الأعرابي: رين به: انقطع به [405]. قال أبو عبيدٍ: وهذا المعنى شبيهٌ بما قال أبو زيد؛ لأنه إذا أتاه ما لا قبل له به، فهو منقطع به، وكذلك كل ما غلبك وعلاك، فقد ران بك، وران عليك،

ومنه قول الله - عز وجل-: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). قال: حدثنا عباد بن القوام، عن عاصمٍ، عن الحسن في هذه الآية قال: هو الذنبُ على الذنبِ، حتى يسود القلب. [قال أبو عبيدٍ]: وهذا من الغلبة عليه أيضاً. وكذلك قول أبي زبيدٍ يصف رجلاً شرب حتى غلبه الشراب سكراً، فقال: ثم لما رآه رانت به الخمـ ... ـر ألا ترينه باتقاء فقوله: رانت به الخمر: أي غلبت على قلبه وعقله. قال الأموي: ويقال أيضاً: قد أران القوم، فهم مرينون: إذا هلكت مواشيهم، أو هُزلت، وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم، ولا يستطيعون احتماله. وفي هذا الحديث من الفقه أنه باع عليه ما له، وقسمه بين الغرماء. وهذا مثل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- في معاذ بن جبلٍ أنه كان رجلاً سخياً، فركبه الدين، فخلعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من ماله للغرماء. وبهذا يقضي أهل الحجاز، وبه كان يحكم أبو يوسف. فأما "أبو حنيفة" فإنه كان لا يرى أن يبيع عليه ماله، ولكنه كان يقول: يُحبس أبداً، حتى يموت، أو يقضي ما عليه [كان عنده، أو لم يكن].

585 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين قال لمولاه "أسلم" - ورآه يحمل متاعه على بعيرٍ من إبل الصدقة، فقال-: "فهلا ناقةً شصوصاً أو ابن لبون بوالاً". [قال أبو عبيدٍ: يروى] من حديث ابن عيينة، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسم [بن محمد]، عن أسلم، عن عمر. قال "الكسائي": الشصوص: التي قد ذهب لبنها. وكذلك قال "الأصمعي" واختلفا في الفعل من ذلك، فقال أحدهما: شصت الناقة تشص وتشص شصوصاً، وقال الآخر: أشصت تشص إشصاصاً: إذا ذهب لبنها. وهما لغتان بالألف وغير الألف [406]. وأما قوله "ابن لبون بوالاً" فسماه بولاً، والإبل كلها تبول، وإنما وصفه بالبول يقول: ليس عنده إلا البول، ما عنده ما ينتفع به من الظهر، ولا له ضرعٌ فيجلب لم يزد على أن كان بوالاً. 586 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين قيل

له: "إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد، فقال: "وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن على "أبي سليمان" ما لم يكن نقعٌ ولا لقلقلةً". قال: حدثناه جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي وائل، عن عمر. قال: وحدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن الحسن بن عمرو، عن أبي وائلٍ، عن عمر مثله، إلا أنه زاد فيه: "أن يسفكن من دموعهن وهن جلوسٌ". قال "الكسائي" في قوله: "نقعٌ ولا لقلقلةٌ": النقع: صنعة الطعام، يعني في المأتم يقال منه: نقعت أنقع نقعاً. قال أبو عبيد: وغير هذا التأويل أحب إلى منه، وذلك أن الكسائي ذهب بالنقع

إلى النقيعة، وإنما النقيعة عند غيره من العلماء صنعة الطعام عند القدوم من سفرٍ لا في المأتم، قال الشاعر: إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام يعني بالقدام القادمين من السفر. وقد قال بعضهم: القدام: الملك. والكلام الأول أشبه. والقدار: الجزار. وأما النقع الذي في حديث "عمر" فإنه عندنا رفع الصوت. على هذا رأيت قول الأكثر من أهل العلم، وهو أشبه بالمعنى. ومنه قول "لبيد": فمتى ينقع صراخٌ صادقٌ ... يحلبوها ذات جرسٍ وزجل يقول: متى ما سمعوا صارخاً أحلبوا الحرب. يقول: جمعوا له. وقوله: ينقع صراخٌ، يعني رفع الصوت، ومما يُحقق ذلك المعنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من صلق أو حلق أو خرق". فقوله: صلق يعني رفع الصوت، يقال: بالسين والصاد.

وقال بعضهم: يريد [407] عمر بالنقع: وضع التراب على الرأس، يذهب إلى أن النقع هو الغبار، ولا أحسب "عمر" ذهب إلى هذا، ولا خافه منهن وكيف يبلغ خوفه ذا، وهو يكره لهن القيام، فقال: يسفكن من دموعهن وهن جلوس. وقال بعضهم: النقع: شق الجيوب، وهذا الذي لا أدري ما هو ولا أعرفه، وليس النقع عندي في هذا الحديث إلا الصوت الشديد. وأما اللقلقة: فشدة الصوت، لم أسمع فيها اختلافاً. 587 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- حين أتاه "سلمان بن ربيعة الباهلي" يشكو إليه عاملاً من عماله، قال: "فأخذ الدرة، فضربه بها حتى أنهج". قال: حدثنيه حجاج، عن ابن جريج، عن هارون بن أبي عائشة المديني، عن عدي بن عدي، عن سلمان بن ربيعة، عن عمر. قال الكسائي: قوله: أنهج هو النفس، والبهر الذي يقع على الإنسان من الإعياء عند العدو، أو معالجة الشيء حتى ينبهر. يقال منه: قد أنهجت أنهج إنهاجاً، ونهجت أنهج نهجاً. قال أبو عبيدٍ: والنهج في غير هذا أيضاً. يقال: قد نهج الثوب وأنهج: إذا خلق.

والنهج: الطريق العامر، وهو المنهاج. قال أبو عبيدٍ: ونُرى أن "عمر" إنما ضرب "سلمان" من قبل أن يعرف صدق سلمان من كذبه أنه أراد تأديبه لينكله عن السعاية بأحدٍ إلى سلطانٍ، أو كره له الطعن على الأمراء، لا أعرف للحديث وجهاً غير هذين. ومع هذا أنه قد بلغنا أنه شكى إليه غير واحدٍ من عماله منهم: سعدٌ، وأبو موسى، والمغيرة وغيرهم، فلم يفعل بأحدٍ ممن رفع إليه ما فعل بسلمان. 588 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين قدم عليه أحد ابني ثورٍ فقال [408] "عمر": "هل من مغربة خبرٍ؟ ". قال: نعم؛ أخذنا رجلاً من العرب كفر بعد إسلامه، فقدمناه فضربنا عنقه، فقال: "فهلا أدخلتموه جوف بيتٍ، فألقيتم إليه كل يومٍ رغيفاً ثلاثة أيامٍ، لعله يتوب، أو يراجع [الله]. اللهم لم أشهد، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني".

قال: حدثناه إسماعيل بن جعفرٍ، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد القاري، عن أبيه، عن عمر. قوله: مغربة خبرٍ- يقال بكسر الراء وفتحها- قالها الأموي: [مغرية خبرٍ] بالفتح، وغيره بالكسر. وأصله فيما نُرى من الغرب، وهو البعد، ومنه قيل: دار فلانٍ غربةٌ. قال الشاعر: وشط ولي النوى إن النوى قذفٌ ... نياحةٌ غربةٌ بالدار أحياناً

ومنه قيل: شأوٌ مغربٌ، قال الكميت في المغرب: أعهدك من أولى الشبيبة تطلب ... على دبرٍ هيهات شأوٌ مغرب وفي هذا الحديث من الفقه: أنه رأى ألا يقتل الرجل مرتداً حتى يستتيبه، ثم وقت في ذلك ثلاثاً، ولم أسمع التوقيت في غير هذا الحديث. وفيه أنه لم يسأله: أولد على الفطرة، أو على غيرها؟ وقد رأى أن يستتاب، فهذا غير قول من يقول: إن وُلد على الفطرة لم يستتب. 589 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين قال: "الله ليضربن أحدكم أخاه بمثل آكلة اللحم، ثم يُرى أنى لا أقيده؟ والله لأقيدنه منه". قال: حدثناه يزيد، عن حجاج بن أرطاة، عن زيد بن جبير، عن جروة بن

حُميلٍ، عن عمر. قال يزيد: قال الحجاج: آكلة اللحم يعني عصاً محددةً. وقال الأموي: الأصل في هذا إنما هي السكين، وإنما شُبهت العصا المحددة بها. يعني الأموي أنها إنما سميت آكلة اللحم؛ لأن اللحم يُقطع بها. وفي هذا الحديث من الحكم أنه رأى القود [409] في القتل بغير حديدةٍ، وذلك إذا كان مثله يقتل. وهذا قول أهل الحجاز أن من تعمد رجلاً بشيء حتى قتله به أنه يُقاد به، وإن كان غير حديدةٍ. وكان "أبو حنيفة" لا يرى القود إلا أن يكون قتله بحديدةٍ، أو أحرقه بنارٍ. وقال أبو يوسف ومحمد [بن الحسن]: إذا ضربه بما يقتل مثله كالخشبة العظيمة، والحجر الضخم، فقتله، فعليه القود. 590 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين قال: "أعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون بأميرٍ، ولا يرضاهم أميرٌ".

قال: حدثنيه حجاجٌ، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن قارظٍ، عن عمر. قال: وحدثنا يزيدُ، عن هشامٍ، عن الحسن، عن عمر أنه قال: غلبني أهل الكوفة، أستعمل عليهم المؤمن فيضعف، وأستعمل عليهم الفاجر، فيفجر". قال الأموي: قوله: أعضل بي: هو من العضال، وهو الأمر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه. يقال: قد أعضل الأمر، فهو مُعضلٌ. ويقال: [قد] عضلت المرأة تعضيلاً: إذا نشب الولد، فخرج بعضه، ولم يخرج بعضٌ، فبقي معترضاً. وكان "أبو عبيدة" يحمل هذا على الإعضال في الأمر، ويراه منه، فيقول:

أنزلوا بي أمراً معضلاً، لا أقوم به، قال ذو الرمة: ولم أقذف لمؤمنةٍ حصانٍ ... بإذن الله موجبةً عضالا ويقال في غير هذا: عضل الرجل أخته وابنته يعضلها عضلاً: إذا منعها من التزويج، وكذلك: عضل الرجل امرأته، قال الله [تبارك وتعالى]: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) يقال في تفسيره: أنه أن يطلقها واحدةً، حتى إذا كادت تنقضي عدتها ارتجعها ثم طلقها أخرى، ثم كذلك الثانية والثالثة، يُطول عليها العدة، يضارها بذلك. ويقال في قوله: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا): إنه [من] هذا [أيضاً] [410]. 591 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين خطب [الناس]، فذكر الربا، فقال: "إن منه أبواباً لا تخفى على أحدٍ

منها: السلمُ في السن، وأن تباع الثمرة وهي مغضفةٌ لما تطب، وأن يباع الذهب بالورق نساءً". قال: حدثناه هشيمٌ، قال أخبرنا المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عمر. قال "أبو عمرو": المغضفةُ: المتدلية في شجرها، وكل مسترخٍ أغضف، قال: ومنه قيل للكلاب: غضف؛ لأنها مسترخيةُ الآذان. قال أبو عبيد: والذي قال أبو عمرو هو كما قال، ولكن "عمر" لم يكره من بيعها أن تكون مغضفةٌ فقط، إنما كره بيعها قبل أن يبدو صلاحها، فهي لا تكون في تلك الحال إلا مغضفةٌ في شجرها لم تجد، ولم تقطف، فهذا مثل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه "نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو" وزهوها أن تحمر أو تصفر. ومثله حديث أنس: أنه "كره بيعها حتى تشقح"، والتشقيح: مثل الزهو [أيضاً].

وكذلك الحديث الآخر: "حتى تأمن من العاهة". وهذا كله بمعنى واحدٍ. وإنما ذكر عُمر الإغضاف؛ لأنها إذا كانت غير مُدركةٍ فهي لا تكون إلا متدليةٌ، فكره أن تباع على تلك الحال، ثم يتركها المشتري في يد البائع حتى تطيب، فهذا المنهي عنه المكروه. وأما السلم في السن: فأن يُسلف الرجل في الرقيق والدواب، وكل شيءٍ من الحيوان، فهو مكروهٌ، في قول أهل العراق؛ لأنه ليس له حد معلومٌ كسائر الأشياء، وقد رخص فيه بعض الفقهاء مع هذا. 592 - قال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين خطب الناس، فقال: "ألا لا تغالوا صدق النساء؛ فإن الرجل يغالي بصداق المرأة حتى يكون ذلك لها في قلبه عداوةً، يقول: جشمت إليك علق القربة أو عرق القربة". قال: حدثناه يزيدُ، عن هشامٍ، عن ابن سيرين [411] عن أبي العجفاء السلمي، عن عمر.

قال: قال أبو العجفاء: وكنت رجلاً عربياً مولداً، فلم أدر ما علق القربة، أو عرق القربة. قال أبو عبيدٍ: وفي هذا الحرف اختلاف كبيرٌ. قال الكسائي: وعرق القربة: أن يقول: نصبتُ لك، وتكلفت حتى عرقت كعرق القربة، وعرقها: سيلان مائها. وقال أبو عبيدة: عرق القربة: أن يقول: تكلفت إليك ما لم يبلغه أحدٌ حتى تجشمت ما لا يكون، لأن القربة لا تعرقُ. قال [أبو عبيدٍ]: يذهب أبو عبيدة إلى مثل قول الناس: حتى يشيب الغراب، وحتى يبيض القار، ومثل قولهم: الأبلقُ العقوق، والعقوق: الحامل وأشباه ذلك مما علم أنه لا يكون. قال أبو عبيدٍ: ولأبي عبيدة فيه وجهٌ آخر. قال: فإذا قال: علق القربة، فإن علقها عصامها الذي تُعلق به، فيقول: تكلفت لك كل شيءٍ حتى عصام القربة.

قال أبو عبيدٍ: وحُكي لي عن "يونس البصري" أنه قال: عرق القربة منقعتها، يقول: جشمت إليك، حتى احتجت إلى نقع القربة، وهو ماؤها، يعني في الأسفار، وأنشد لرجلٍ أخذ سيفاً من رجلٍ، فقال: سأجعله مكان النون مني ... وما أعطيته عرق الخلال قال أبو عبيدٍ: يقول: لم أعطه عن مودةٍ من المخالة والصداقة، ولكن أخذته قسراً. والحديث في شعر بني عبسٍ، واضحٌ أنه أسره، وأخذ سيفه ذا النون. وقال غير هؤلاء من العلماء: عرق القربة: بقايا الماء فيها، واحدتها عرقة. ويروى عن "أبي الخطاب الأخفش" أنه قال: العرقة: السفيفة التي يجعلها الرجل على صدره إذا حمل القرية، سماها عرقةٌ، لأنها منسوجةٌ. قال "الأصمعي": عرق القربة: كلمةٌ معناها الشدة، قال: ولا أدري ما أصلها. قال الأصمعي: سمعت ابن أبي طرفة، - وكان من أفصح من رأيت- يقول: سمعت [412] شيخاننا يقولون: لقيت من فلانٍ عرق القربة: يعنون الشدة، وأنشدني [الأصمعي] لابن أحمر:

ليست بمشتمةٍ تُعد وعفوها ... عرق السقاء على القعود اللاغب قال أبو عبيدٍ: أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه، وليست بشتمٍ، فيأخذ صاحبها بها، وقد أبلغت إليه كعرق السقاء على القعود اللاغب. أراد بالسقاء القربة، فقال: عرق السقاء لما لم يُمكنه الشعر، ثم قال: على القعود اللاغب، وكان معناه أن تُعلق القربة على القعود في أسفارهم، وهذا المعنى شبيه بما كان "الفراء" يحكيه: زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء، فيعلقونه على الإبل، يتناوبونه، فكان في ذلك تعبٌ ومشقةٌ على الظهر، وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام. 593 - وقال أبو عبيد في حديث عمر - رضي الله عنه- أنه رفع إليه غلامٌ ابتهر جاريةٌ في شعره فقال: انظروا إليه، فلم يوجد أنبت، فدرأ عنه الحد".

قال: حدثناه ابن علية، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمر. وبعضهم يرويه عن "عثمان" [رحمه الله]. قوله: ابتهر: الابتهار: أن يقذفها بنفسه، فيقول: فعلت بها كاذباً، فإن كان [قد] فعل [بها] فهو الابتئار مهموزاً، قال الكميت: قبيحٌ بمثلي نعت الفتا ... ة إما ابتهاراً وإما ابتئارا يقول: فذكر ذلك مني قبيحٌ إن كنت فعلت [ذلك] أو لم أفعل. وإنما أخذ الابتئار من قولك: بُرت الشيء أبوره بوراً: إذا خبرته: وهذا افتعلت [413] منه. وفي هذا الحديث من الحكم، أنه رأى الإدراك بالإنبات، وهذا مثل حكم النبي - صلى الله عليه وسلم- في بني قريظة. قال: حدثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، قال: عرضت على رسول الله -[صلى الله عليه وسلم] يوم [بني] قريظة، فنظروا إليَّ، فلم أكن أنبت، فألحقني بالذرية، وهذا قولٌ يقول به بعض الحكام.

وأما الذي عليه العمل فحديث "ابن عمر" عن النبي - صلى الله عليه [وسلم]. [حدثنا أبو عبيدٍ] قال: حدثنا أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: عرضت على رسول الله - صلى الله عليه [وسلم] يوم بدرٍ .. وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني، وعُرضت عليه "يوم الخندق" وأنا ابن خمس عشرة، فأجازني. فهذا الحد بين الصغر والإدراك خمس عشرة، إلا أن يكون قبل ذلك احتلامٌ. 594 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- أنه قضى في الأرنب بحلانٍ، يعني إذا قتلها المحرم.

قال: حدثناه ابن مهدي، عن سفيان [الثوري]، عن سماك بن حربٍ، عن النعمان بن حميدٍ، عن عمر. قال "الأصمعي" وغيره: قوله: الحلان، يعني الجدي، وأنشدني [ذلك]: تُهدي إليه ذراع الجدي تكرمةٌ ... إما ذكياً وإما كان حلانا ويروى: "إما ذبيحاً" فالذبيح: الذي قد أسن، وأدرك أن يُضحى به، فهو يجوز أن يكون ذبيحاً وذبحاً. وأما قوله: وإما كان حلاناً، فإنه يعني الصغير الذي لا يُجزى في الأضحية. وأما الذكي فهو الذي يُذكى بالذبح. وقد سمعت في الحلان غير هذا. يقال: إن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا ولد له جديٌ حز ف يأذنه حزاً، أو قطع منها شيئاً، وقال: اللهم إن عاش فقني وإن مات فذكيٌّ. قال: فإن عاش الجدي فهو الذي أراد، وإن مات قال: قد كنت ذكيته بالحز، فاستجاز أكله بذلك.

وهذا التفسير يجوز في هذا الشعر. فأما "عمر" فإنه لم يرد بالحلان إلا الجدي نفسه، فجعله [414] اسمه، إن كان فيه الحز، أو لم يكن. يقول: على هذا المحرم - الذي قتل أرنباً- أن يذبح جدياً. وفي الحلان أيضاً لغةٌ أخرى: الحلام- بالميم- وربما شبهوا الميم بالنون، حتى يجعلوهما في قافيةٍ، قال: أنشدني "الأحمر": يا رب جعدٍ فيهم لو تدرين يضرب ضرب السبط المقاديم فجمع بين الميم والنون في قافيةٍ، وذلك لقرب مخرج أحدهما من الآخر. وهذا كقولهم: أغمطت عليه الحمى، وأغبطت، وقال "المهلهل": كل قتيل في كليب حلام حتى ينال القتل آل همام يقول: كلهم ناقصٌ ليس بكفءٍ لكليب، ولا فيهم وفاءٌ بدمه، كما أن الجدي ليس فيه وفاءٌ بالمسن، إلا آل همامٍ، فإنهم أكفاءٌ له، وفيهم وفاءٌ بدمه. قال أبو زيدٍ: والجفر أيضاً، من أولاد المعز: ما بلغ أربعة أشهرٍ، وفُصل عن أمه. ومنه حديث عمر أنه قضى في الضبع كبشاً، وفي الظبي شاةٌ، وفي اليربوع جفراً، أو جفرةً.

[حدثنا أبو عبيدٍ]، قال: حدثنيه ابن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عمر. وقال حسان بن ثابت [في رجلٍ جرح فسقط]: ومرنحٍ فيه الأسنة شرعاً ... كالجفر غير سميدع الأعمام وفي هذا الحديث من الفقه: أنه يرد قول من قال: لا يكون الهديُ أصغر من الجذع من الضأن، والثنيّ من المعز، يُشبههما بالأضاحي، ويقول: عليه القيمة يتصدق بها، وقول "عمر" [رحمه الله] أولى بالاتباع. 595 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-] أنه قال: حجة ها هنا، ثم احدج ها هنا حتى تفنى".

قال: حدثناه يحيى بن سعيد، عن ثابت بن يزيد الأودي، عن عمرو بن ميمونٍ، عن عمر. [قال] قوله: ثم احدج ها هنا، يعني إلى الغزو، والحدجُ: شد الأحمال وتوسيقها، يقال [415]: حدجت الأحمال وغيرها أحدجها حدجاً، والواحد منها حدجٌ، وجمعها حدوجٌ وأحداجٌ، قال "طرفة": كأن حدوج المالكية غُدوةٌ ... خلايا سفينٍ بالنواصف من دَدِ قال أبو عبيدٍ: دَدٍ: موضعٌ. وقال "الأعشى": ألا قل لميثاء ما بالها ... اللبين تُحدجُ أحمالها ويروى: أجمالها. وقوله: تحدج: يعني يُشد عليها. والذي يراد من [هذا] الحديث أنه فضل الغزو على الحج بعد حجة الإسلام. وقوله: حتى تفنى: يريد بالفناء الهرم، ومنه قول "لبيد":

حبائله مبثوثةٌ بسبيله ... ويفنى إذا ما أخطأته الحبائل قال أبو عبيدٍ: الحبائل: الموت، يقول: فإذا أخطأه الموت، فإنه يفنى، يعني الهرم. ومنه قيل للشيخ الكبير: فانٍ، أي هرمٌ. 596 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] أنه سافر في عقب رمضان، وقال: "إن الشهر قد تسعسع، فلو صمنا بقيته". وهذا الحديث يروى عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عمر. وهم يختلفون فيه، فبعضهم يقول: " [قد] تشعشع"- كلاهما شين - وبعضهم يقول: " [قد] تشعسع" - شينٌ وسينٌ - وبعضهم يقول: "تسعسع"- كلاهما سينٌ- والصواب عندنا "تسعسع"

[كلاهما بالسين] ومعناه: أنه أدبر وفنى إلا أقله، وكذلك يقال للإنسان إذا كبر ح تى يهرم فيولى: قد تسعسع، وقال "رؤبة" يذكر امرأة تخاطب صاحبتها: قالت وما تألو به أن ينفعا يا هندُ ما أسرع ما تسعسعا [من بعد ما كان فتى سرعرعا] يعني أنها أخبرت صاحبتها عن "رؤبة" أنه قد أدبر وفنى. [قال أبو عبيدٍ] فهذا الذي نعرفه [416]. فأما من قال: "تشعسع" فأظنه ذهب إلى الشاسع، يقول: إن الشهر قد ذهب وبَعُد، ولو كان من هذا المعنى لكان تشسع ولم يكن يزاد فيه عينٌ أخرى. والذي قال: "تشعشع" أظنه ذهب إلى الطول، كما قيل: ناقةٌ شعشعانةٌ، وعُنقٌ شعشعانٌ، وليس الوجه عندي إلا الأول.

597 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] أن رجلاً خطب، فأكثر، فقال عمر: "إن كثيراً من الخطب من شقاشق الشيطان". قال: حدثناه إسماعيل بن جعفر، عن حُميدٍ، عن أنسٍ، عن عمر. قال الأصمعي، وأبو عمرو، وغيرهما قوله: الشقاشق، واحدتها شقشقةٌ، وهي التي إذا هدر الفحل من الإبل العراب خاصة خرجت من شدقه، شبيهة بالرئة، وهي التي يقول فيها الأعشى: واقن فإني طبنٌ عالمٌ ... أقطع من شقشقة الهادر وهذا مثلٌ، يقول: إني أقطع لسان المتكلم الذي يهدر كما يهدر ذاك، فأسكته.

وقوله: اقن، يقول: الزم حظك، واسكت، يقال: قنيت حيائي: [أي] لزمته. قال أبو عبيدٍ: فشبه عمر إكثار الخاطب من الخطبة بهدر البعير في شقشقته، ثم نسبها إلى الشيطان، وذلك لما يدخل فيها من الكذب، وتزوير الباطل عند الإكثار من الخطب، وإن كان الشيطان لا شقشقة له، إنما هذا مثلٌ. 598 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين قدم "مكة" فأذن أبو محذورة، فرفع صوته، فقال: "أما خشيت يا أبا محذورة أن تنشق مريطاؤك". قال الأصمعي: المريطاء - ممدودةً-: وهي ما بين السرة إلى العانة، وكان الأحمر يقول: هي مقصورةٌ. وكان أبو عمرو يقول: تمد وتقصر. [قال أبو عبيدٍ]: ولا أُرى المحفوظ من هذا إلا قول الأصمعي. وهي كلمةٌ لا يتكلم بها إلا [417] بالتصغير، ولها نظائر في الكلام، قولهم: الثريا، لا يتكلم بها إلا بالتصغير، وكذلك الحميا، وهي: سورة الشراب ودبيبه في الجسد، وكذلك القصيري، وكذلك السكيت من الخيل، وهو: الذي يجيء آخر الخيل في السباق.

599 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] أنه سئل عن المذي، فقال: "هو الفطر، وفيه الوضوء". قال: حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن سليمان بن مسهرٍ، عن خرشة بن الحر، عن عمر. قوله: "الفطرُ" نُرى- والله أعلم- أنه إنما سمي فطراً؛ لأنه شبه بالفطر في الحلب، يقال: فطرت الناقة أفطرها [وأفطرها] فطراً وهو: الحلب بأطراف الأصابع، فلا يخرج اللبن إلا قليلاً، وكذلك يخرج المذي، وليس المني كذلك؛ لأنه يُخفذ به خذفاً. وقد قال بعضهم: إنما سمي المذي فطراً؛ لأنه شبهه بفطر ناب البعير. يقال: فطر نابه: إذا طلع، فشبه طلوع هذا من الإحليل بطلوع ذلك. وقد رُوي عن ابن عباسٍ [رحمه الله] في تفسير المني والمذي والودي.

قال: فالمني: هو الغليظ الذي يكون منه الولد. والمذي: الذي يكون من الشهوة تعرضُ بالقلب، أو من الشيء يراه الإنسان، أو من ملاعبته أهله. والودي: الذي يخرج بعد البول، ففي هذين الوضوء [الودي والمذي]. وفي المني وحده الغسل. ويقال من المني: أمنيت بالألف، لا أعرف فيه غير ذلك، ومنه قول الله - تبارك وتعالى-: (أفرأيتم ما تمنون) - بضم التاء- ولم أسمع أحداً قرأها بالفتح. وأما المذي، ففيه لغتان: مذيت وأمذيت. وأما الودى، فلم أسمع بفعلٍ اشتق منه، إلا في حديث يُروى عن "عائشة" [رحمة الله عليها] [418]. 600 - وقال أبو عبيدٍ في حديث [رضي الله عنه] أن صبياً قتل بصنعاء غيلةٌ، فقتل به عمر سبعةً، وقال: "لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم".

قال: حدثنيه يحيى بن سعيدٍ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن عمر. قوله: غيلة: هو أن يُغتال الإنسان، فيخدع بالشيء حتى يصير إلى موضعٍ يُستخفى له فإذا صار إليه قتله. وهذا الذي يقول فيه "أهل الحجاز" إنه ليس للولي أن يعفو عنه، يرون عليه القتل على كل حالٍ في الغيلة خاصةٌ. وأما "أهل العراق" فالغيلة عندهم وغيرها سواءٌ، إن شاء الولي عفا، وإن شاء قتل: فهذا تفسير الغيلة. وأما الفتك في القتل، فأن يأتي الرجل رجلاً وهو غارٌ مطمئن؛ لا يعلم بمكان الذي يريد قتله، حتى يفتك به، فيقتله، وكذلك لو كمن له في موضعٍ ليلاً أو نهاراً، فإذا وجد غرةً قتله. ومن ذلك حديث "الزبير" حين أتاه رجلٌ، فقال: "ألا أقتل لك "علياً"؟ فقال: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به.

فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه [وسلم]-: "قيد الإيمان الفتك، لا يفتك مؤمنٌ". قال: حدثناه ابن علية، عن أيوب، عن الحسن. ومنه حديث عمرو بن الحمق؛ قال: حدثناه ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي، عن رفاعة القتباني، قال: كنت مع المختار، فأردت قتله، فذكرت حديثاً حدثنيه عمرو بن الحمق عن النبي- صلى الله عليه [وسلم] أنه قال: "من آمن رجلاً ثم قتله، فأنا برئٌ منه، وإن كان المقتول في النار". قال: وحدثنيه يزيد، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن رفاعة، عن عمرو بن الحمق، عن النبي - صلى الله عليه [وسلم].

فهذا معناه أن يقتله من غير أن يعطيه الأمان. فأما إذا أعطاه الأمان، ثم قتله، فذلك الغدر، وهو شر هذه الوجوه كلها، وهو الذي يروى فيه [419] الحديث عن النبي [- صلى الله عليه وسلم-]: لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يقال: هذه غدرةُ فلانٍ". [حدثنا أبو عبيدٍ] قال: حدثناه إسماعيل بن جعفرٍ، عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه [وسلم]. ومن وجوه القتل أيضاً الصبر، وهو أن يؤخذ الرجل أسيراً، ثم يقدم، فيقتل، فهذا لم يقتل غيلةٌ ولا فتكاً ولا غدراً؛ لأنه أخذ بغير أمانٍ، فهذه أربعة أوجهٍ من أسماء القتل، هي الأصول التي فيها الأحكام خاصةٌ، وأما قتل الخطأ، فهو عند أهل العراق على وجهين: أحدهما: أن يرمي الرجل، وهو يتعمد صيداً أو هدفاً أو غير ذلك، فيصيب إنساناً بأي شيءٍ كان، من سلاحٍ أو غيره، فهذا عندهم [هو] الخطأ المحضُ. والدية فيه على العاقلة أربعاً: خمسٌ وعشرون حقةٌ، وخمسٌ وعشرون جذعةٌ، وخمسٌ وعشرون بنت مخاضٍ، وخمسٌ وعشرون بنت لبونٍ.

وبعضهم يجعلها أخماساً: عشرين حقة، وعشرين جذعة، وعشرين بنت لبونٍ، وعشرين بنت مخاضٍ، وعشرين ابن مخاضٍ. وبعض الفقهاء يجعل مكان عشرين ابن مخاض عشرين ابن لبونٍ. والوجه الآخر من الخطأ عندهم أن يتعمد الرجل إنساناً بشيءٍ لا يقتل مثله، فيموت منه، كالسوط والعصا والحجر الذي ليس بضخمٍ، فاسم هذا عندهم شبه العمد، وإنما سموه بذلك؛ لأنه لم يتعمده بما يقتل مثله. وقالوا: عمدٌ؛ لأنه تعمده وإن لم يرد قتله، فاجتمع فيه المعنيان، فسمي شبه العمد لهذا. ففي هذه الدية مُغلظةً: ثلثٌ حقاقٌ، وثلثٌ ما بين ثنيةٍ إلى بازل عامها، كلها خلفةٌ، والخلفة الحامل. وهذا في حديثٍ يُروى مرفوعاً، وعن عمر شيءٌ يشبهه، فهذا قول "أهل العراق" ويحتجون فيه بالأثر. قال [أبو عبيدٍ]: حدثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا خالدٌ، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة [420] بن أوسٍ، عن رجلٍ من أصحاب النبي - صلى

الله عليه وسلم-، عن النبي أنه خطب "يوم فتح مكة" فقال: "ألا وفي قتيل خطأ العمد ثلاثٌ وثلاثون حقةٌ، وثلاثٌ وثلاثون جذعةً، وأربعٌ وثلاثون ما بين ثنيةٍ إلى بازل عامها، كلها خلفة". 601 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-] أنه سئل عن حد الأمة، فقال: "إن الأمة قد ألقت فروة رأسها من وراء الدار". قال: حدثنا سفيانُ، عن عمرو بن دينارٍ، سمع عبد الله بن الحارث، يحدثه عن عمر.

قال "الأصمعي": الفروة: جلدة الرأس. قال أبو عبيدٍ: وهو لم يرد الفروة بعينها، وكيف تلقى جلدة رأسها من وراء الدار، ولكن هذا مثلٌ، إنما أراد بالفروة القناع. يقول: ليس عليها قناعٌ ولا حجابٌ، وأنها تخرج إلى كل موضعٍ يرسلها أهلها إليه، لا تقدرُ على الامتناع من ذلك، فتصيرُ حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور، مثل رعاية الغنم، وأداء الضريبة، ونحو ذلك، فكأنه رأى أنه لا حد عليها إذا فجرت، لهذا المعنى. وقد روي تصديق هذا في حديث مفسرٍ. قال [أبو عبيدٍ]: حدثناه يزيد، عن جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصمٍ، قال: تذاكرنا يوماً قول "عمر" هذا، فقال سعيد بن حرملة: إنما ذلك من قول "عمر" في الرعايا. فأما الإماء اللواتي قد أحصنهن مواليهن، فإنهن إذا أحدثن حددن. قال أبو عبيدٍ: الرعايا في الحديث، وأما في العربية فالرواعي.

602 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] أنه أتى بشاربٍ، فقال: "لأبعثنك إلى رجلٍ لا تأخذه فيك هوادةٌ، فبعث به إلى مطيع بن الأسود العدوي، فقال: إذا أصبحت غداً فاضربه الحد، فجاء "عمر" وهو يضربه ضرباً شديداً، فقال: قتلت الرجل! كم ضربته؟ قال: ستين. قال: أقص عنه بعشرين". [حدثنا أبو عبيدٍ] قال: حدثنيه أبو النضر، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت [421] عن أبي رافعٍ، عن عمر. [قال أبو عبيدٍ]: قوله: أقص عنه بعشرين، يقول: اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصاً بالعشرين التي بقيت، ولا تضربه العشرين. وفي هذا الحديث من الفقه: أن ضرب الشارب ضربٌ خفيفٌ. قال: وكذلك سمعت "محمد بن الحسن" يقول في القاذف والشارب. قال: وأما الزاني فإنه أشد ضرباً منهما. قال: والتعزير أشد الضرب.

وفي هذا الحديث أيضاً: أنه لم يضربه في سكره حتى أفاق، ألم تسمع قوله: "إذا أصبحت غداً فاضربه الحد". 603 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-] أن رجلاً أتاه، فذكر له أن شهادة الزور قد كثرت في أرضهم. فقال [عمر]: "لا يؤسر أحدٌ في الإسلام بشهداء السوء، فإنا لا نقبل إلا العدول". [حدثنا أبو عبيدٍ] قال: حدثنيه إسحاق [بن عيسى الأزرق]، عن مالك بن أنسٍ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، يرويه عن عمر. قال أبو عبيدٍ: قوله: لا يؤسر: يعني لا يُحبسُ، واصل الأسر: الحبس، وكل محبوسٍ فهو أسيرٌ.

وكذلك يروى عن مجاهدٍ في قوله [عز وجل]: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) قال: الأسير: المسجون. 604 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-] أنه جدب السمر بعد عتمةٍ". قال: حدثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، وأبي وائلٍ، عن حذيفة، عن عمر. قوله: جدب السمر: يعني عابه وذمه، وكل عائبٍ فهو جادبٌ، قال ذو الرمة: فيالك من خدُّ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيمٍ ومن خلق تعلل جادبه ويروى "ومن وجهٍ تعلل جادبه". يقول: لم يجد فيه مقالاً، فهو يتعلل بالشيء يقوله، وليس بعيبٍ. وهذا من عمر في كراهة السمر مثل حديثه الآخر، "أنه كان ينش الناس بعد

العشاء بالدرة، ويقول: انصرفوا إلى بيوتكم". [حدثنا أبو عبيدٍ] قال: حدثنيه حجاجٌ، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي رافعٍ [422] عن عمر. هكذا حدث به "ينش". [قال أبو عبيدٍ]: ونرى أن هذا ليس بمحفوظٍ، وقال بعض أهل العلم: إنما هو ينس - بالسين- يقول: يسوق الناس، والنس: هو السوق، ومنه قول "الحطيئة": وقد نظرتكم إيناء صادرةٍ ... للورد طال بها حوزي وتنساسي فالحوز: السير اللين. والتنساس: السير الشديد. يقول: مرةٌ أسوقها كذا، ومرة كذا. قال: أبو عبيدٍ: فإن كان هذا الحرف هكذا "ينش" فهذا تصحيفٌ بينٌ

على المحدث، ولكني أحسبه ينوش الناس، وهذا قد يقرب في اللفظ من "ينش"، ومعنى النوش صحيحٌ ها هنا، إنما هو التناول يقول: يتناولهم بالدرة. وقال الله - تبارك وتعالى-: (وأنى لهم التناوش من مكانٍ بعيدٍ) إذا لم يهمز، فهو من التناول. ومنه قيل: تناوش القوم في القتال، وكل من أنلته خيراً أو شراً فقد نشته نوشاً. ومنه حديث علي - رحمه الله- حين سئل عن الوصية، فقال: "نوشٌ بالمعروف". يعني أن يتناول الميت الموصى له بالشيء المعروف، ولا يجحف بماله. 605 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-] "هاجروا ولا تهجروا، واتقوا الأرنب أن يحذفها أحدكم بالعصا، ولكن ليذك لكم الأسل؛ الرماح والنبل".

قال: حدثناه أبو بكر بن عياشٍ، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيشٍ، قال: قدمت المدينة، فخرجت في يوم عيدٍ، فإذا رجل متلببٌ، أعسر أيسر، يمشي مع الناس كأنه راكبٌ؛ وهو يقول: كذا وكذا، فإذا هو عمر". قوله: هاجروا ولا تهجروا، يقول: أخلصوا الهجرة، ولا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحةٍ منكم، وهذا هو التهجر. وهذا هو التهجر. وهذا كقولك للرجل: هو يتحلم وليس [423] بحليمٍ، ويتشجع، وليس بشجاعٍ، أي: أنه يظهر ذلك وليس فيه. وقوله: "ليذك لكم الأسل الرماح والنبل" فهذا يرد قول من يقول: إن الأسل الرماح خاصةٌ، ألا تراه قد جعله النبل مع الرماح. وقد وجدنا الأسل في غير الرماح، إلا أن أكثر ذلك وأفشاه في الرماح.

وبعضهم يقول في هذا النبات الذي قال الله [تعالى] فيه لأيوب [عليه السلام]: (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث) إنما قيل له: الأسل؛ لأنه شبه بالرماح. وأما قوله: متلببٌ، فإنه المتحزم، وكل من جمع عليه ثيابه، وتحزم، فقد تلبب، وقال أبو ذؤيب: ونميمةً من قانصٍ متلببٍ ... في كفه جشءٌ أجش وأقطع يصف الحمر أنها سمعت نميمة القانص، والنميمة: الصوت، والجشء: القوس الخفيفة. وأما قوله: أعسر أيسر، فهكذا يُروى في الحديث، وأما كلام العرب، فإنه أعسر يسرٌ، وهو الذي يعمل بيديه جميعاً سواء، وهو الأضبط أيضاً. ويقال من اليسر: في فلانٍ يسرةٌ. 606 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رحمه الله- أنه أفطر

في رمضان، وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم نظر، فإذا الشمس طالعةٌ، فقال عمر: "لا نقضيه؛ ما تجانفنا فيه لإثمٍ". قال: حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن "عمر". قال أبو عبيدٍ: قوله: ما تجانفنا فيه لإثمٍ، يقول: ما ملنا إليه، ولا تعمدناه ونحن نعلمه، وكل مائلٍ فهو متجانفٌ، وجنفٌ. ومنه قوله [عز وجل]: (فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً) قال: ميلاً. قال [أبو عبيدٍ]: حدثناه هشيمٌ، عن عبد الملك، عن عطاء. وقال "لبيدٌ": إني امرؤٌ منعت أرومة عامرٍ ... ضيمى وقد جنفت على خصوم

وكذلك الجانئ- بالهمز-: هو المائل أيضاً. وقد جنأت عليه أجنا جنوءاً: إذا ملت، وقال كُثيرٌ: أعزةُ لو رأيت غداة بنتم ... جنوء العائدات على وسادى ويُروى: أغاضر. ومنه قول ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه [وسلم] رجم يهودياً ويهودية" قال ابن عمر: فلقد رأيته يجانئ عليها؛ يقيها الحجارة بنفسه. قال: حدثناه ابن علية، عن أيوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر. قال أبو عبيدٍ: نُرى أنه لم يجانئ عليها إلا وهما في حفرةٍ واحدةٍ، وقوله: يجانئ، يعني: ينحني. 607 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] أنه قال- لما مات "عثمان بن مظعونٍ" - على فراشه-: "هبته الموت عندي منزلةٌ" حين لم يمت شهيداً.

[قال] فلما مات رسول الله [- صلى الله عليه وسلم-] على فراشه، وأبو بكرٍ، علمتُ أن موت الأخيار على فرشهم". قال: بلغني هذا عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، رفعه إلى عمر. قال الفراء: قوله: هبته، يعني طأطأه ذلك عندي، وحط من قدره، وكل محطوطٍ شيئاً فقد هُبت، وهو مهبوتٌ. قال الفراء، وأنشدني "أبو الجراح": وأخرق مهبوت التراقي مُصعد الـ ... ـبلاعيم رخو المنكبين عُناب قال: فالمهبوت التراقي: المحطوط وناقصها، والعناب: العظيم الأنف. وقال الكسائي: يقال: رجلٌ فيه هبتةٌ: للذي فيه كالغفلة، وليس بمستحكم العقل.

قال أبو عبيدٍ: ولا أحسب هذا إلا من ذاك؛ لأنه محطوط العقل والرأي، ليس بتام الأمر. 608 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-] أن رجلاً من الجن لقيه، فقال: هل لك أن تصارعني، فإن صرعتني علمتك آيةٌ إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطانٌ، فصارعه، فصرعه عمر، فقال: إني أراك ضئيلاً شيختاً، كأن ذراعيك ذراعاً كلبٍ، أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم؟ أم أنتم من بينهم؟ فقال: إني منهم لضليعٌ، فعاودني [فعاوده]. قال [425] فصارعه فصرعه الإنسي. فقال: تقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقرأها أحدٌ إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خبجٌ كخبج الحمار".

[حدثنا أبو عبيدٍ] قال: حدثناه أبو معاوية، عن أبي عاصمٍ الثقفي، عن الشعبي، عن عبد الله بن مسعودٍ، قال: خرج رجلٌ من الإنس، فلقيه رجلٌ من الجن، ثم ذكر الحديث. قال: فقيل لعبد الله: أهو عمر؟ فقال: ومن عسى أن يكون إلا عمر. قال أبو عبيدٍ: قوله: ضئيلاً شيختاً: هما جميعاً النحيفُ الجسم الدقيق. ومنه قيل للأفعى: ضئيلةٌ؛ لأنه ليس يعظم خلقها كسائر الحيات، قال النابغة: فبت كأني ساورتني ضئيلةٌ ... من الرقش في أنيابها السم ناقع يعني الأفعى، وكذلك الشخت والشخيتُ: الدقيق، قال ذو الرمة "يصف الظليم": شخت الجزارة مثل البيت سائره ... من المسوح خدبٌ شوقبٌ خشب فالجزارة: عنقه وقوائمه، وهي دقاقٌ كلها. وقوله: إني منهم لضليعٌ. الضليعُ: العظيم الخلق. وقوله: إلا خرج وله خبجٌ. الخبجُ: الضراط، وهو الحبج أيضاً - بالحاء-، وله أسماءٌ سوى هذين كثيرةٌ.

ومن الضئيل الحديث المرفوع: "إن إسرافيل له جناحٌ بالمشرق، وجناحٌ بالمغرب، والعرش على جناحه، وإنه ليتضاءل الأحيان لعظمة الله [تبارك وتعالى] حتى يعود مثل الوصع". يقال في الوصع: إنه طائرٌ مثل العصفور، أو أصغر منه. 609 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه - أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةٌ وقنا عذاب النار" ماله هجيرى غيرها. قال: حدثنا أبو بكر [بن عياشٍ] عن عاصمٍ، عن حبيب بن صهبان أنه رأى عمر يفعل ذلك.

وقال الكسائي، وأبو زيدٍ - وغير واحدٍ - قوله: هجيراه: كلامه، ودأبه، وشأنه، وقال ذو الرمة يصف صائداً رمى حمراً، فأخطأها، فأقبل يتلهف، ويدعو بالويل والحرب، فقال [426]: رمى فأخطأ والأقدار غالبةٌ ... فانصعن والويل هجيراه والحرب قال أبو عبيدٍ: وللعرب كلامٌ على هذا المثال؛ أحرفٌ معروفةٌ [منها] قالوا: الهجيرى، وهي التي وصفنا. والخليفى، وهي الخلافة، وإياها أراد عمر [رضي الله عنه] بقوله: "لو أطيق الأذان مع الخليفى لأذنتُ". قال [أبو عبيدٍ] حدثناه هشيمٌ، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ، عن عمر. ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز-[رحمه الله]: "لا رديدي في الصدقة" يقول: لا تُرد.

ومما يقال في الكلام: "كانت بين القوم رمياً، ثم حجزت بينهم حجيزى" يريدون: كان بينهم رميٌ، ثم صاروا إلى المحاجزة. وكذلك الهزيمي: من الهزيمة، والمنيني: من المنة، والدليلي: من الدلالة، وأكثر كلامهم الدلالة، والخطيبي: من الخطبة، وهي كلها مقصورةٌ، ويدلك على ذلك قول عديٌ بن زيدٍ: لخطيبي التي غدرت وخانت ... وهن ذوات غائلةٍ لُحينا 610 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين قال للرجل الذي وجد منبوذاً، فأتاه به، فقال عمر: "عسى الغوير أبؤسا". فقال عريفه: يا أمير المؤمنين: إنه وإنه، فأثنى عليه خيراً. فقال: هو حُر، وولاؤه لك. قال: حدثناه يزيدُ، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سنينٍ أبي جميلة: أنه وجد منبوذاً، فأتى به عمر، ثم ذكر الحديث.

قال الأصمعي: "قوله: عسى الغوير أبؤسا" الأبؤس: جمع الباس، وأصل هذا أنه كان غارٌ فيه ناسٌ، فانهار [الغار] عليهم. أو قال: فأتاهم فيه عدو [لهم] فقتلوهم، فصار مثلاً لكل شيءٍ يخاف أن يأتي منه شر، ثم صغر الغار، فقيل: غوير. [حدثنا أبو عبيدٍ]، قال: وأخبرنا ابن الكلبي بغير هذا. قال: الغوير: ماءٌ لكلبٍ معروفٌ يسمى الغوير، وأحسبه قال: هو ناحية السماوة. قال: وهذا المثل إنما تكلمت به الزباء، وذلك أنها لما [427] وجهت قصيراً اللخمي بالعير، ليحمل لها من بُر العراق وألطافه، وكان يطلبها بزحل جذيمة الأبرش، فجعل الأحمال صناديق، وقد قيل: غرائر، وجعل في كل واحدٍ منها رجلاً معه السلاح، ثم تنكب بهم الطريق المنهج، وأخذ على الغوير، فسألت عن خبره، فأخبرت بذلك، فقالت: "عسى الغوير أبؤساً" تقول: عسى أن يأتي ذلك الطريق بشر، واستنكرت شأنه، حين أخذ على غير الطريق. قال [أبو عبيدٍ]: وهذا القول عندي أشبه صواباً من القول الأول.

وإنما أراد "عمر" بهذا المثل أن يقول للرجل: لعلك صاحب هذا المنبوذ، حتى أثنى عليه عريفه خيراً. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه جعل المنبوذ حراً، ولم يجعله مملوكاً لواجده، ولا للمسلمين. وأما قوله للرجل: لك ولاؤه؛ فإنما نراه فعل ذلك؛ لأنه لما التقطه، فأنقذه من الموت، وأنقذه من أن يأخذه غيره، فيدعى رقبته، جعله مولاه لهذا؛ لأنه كأنه الذي أعتقه. وهذا حكمٌ تركه الناس، وصاروا إلى أن جعلوا حراً، وجعلوا ولاءه للمسلمين، وجريرته عليهم. وفي هذا الحديث من العربية: أنه نصب أبؤساً، وهو في الظاهر في موضع رفعٍ، وإنما نرى أنه نصب؛ لأنه على طريق النصب، ومعناه، كأنه أراد: عسى الغوير أن يحدث أبؤساً، أو أن يأتي بأبؤسٍ، فهذا طريق النصب، ومما يبينه قول "الكميت": عسى الغوير بإباسٍ وإغوار 611 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] في الذي تدلى

بحبلٍ ليشتار عسلاً، فقعدت امرأته على الحبل، فقالت: لأقطعنه أو لتطلقني، قال: فطلقها. يعني ثلاثاً. فرفع إلى عمر، فأبانها منه. قال: حدثنيه يزيد عن عبد الملك بن قدامة الجمحي، عن أبيه، عن عمر. قوله: يشتار، المشتار: المجتنى للعسل. يقال منه: شُرت العسل أشوره شوراً، وأشرته [428] أشيره إشارةً، واشترت اشتياراً، قال "الأعشى": كأن جنياً من الزنجبيـ ... ـل بات بفيها وأرياً مشورا الأرى: العسل. والمشور: المجتني. فهذا من شرت. وقال "عدي بن زيدٍ":

في سماعٍ يأذن الشيخ له ... وحديثٍ مثل ماذيٍّ مشار والذي يُراد من هذا الحديث: أن عمر أجاز طلاق المكره، وهذا رأي أهل العراق، وقد رُوي عن عمر خلافه. ويروى عن علي وابن عباسٍ، وابن مر، وابن الزبير، وعطاءٍ، وعبد الله ابن عبيد بن عمير، أنهم كانوا يرون طلاقه غير جائزٍ، وهو رأي أهل الحجاز، وكثيرٍ من غيرهم، وحجتهم هذه الأحاديث. 612 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] أنه قال: "إن قريشاً تريد أن تكون مغوياتٍ لمال الله [تبارك وتعالى].

هكذا يروى الحديث بالتخفيف وكسر الواو، يحدثونه عن عوفٍ، عن الحسن، عن عمر. وأما الذي تكلم به العرب فالمغويات- بالتشديد وفتح الواو- وواحدتها مغواةٌ، وهي حفرةٌ كالزبية تحفر للذئب، ويجعل فيها جديٌ، إذا نظر إليه الذئب سقط يريده؛ فيصاد. ومن هذا قيل لكل مهلكةٍ: مغواةٌ، قال رؤبة: إلى مغواة الفتى بالمرصاد يعني إلى مهلكته ومنيته شبهها بتلك المغواة. وأما الزبية، فأنها تُحفر للأسد، وإنما تحفر في مكان مرتفعٍ، وكل حفرةٍ في ارتفاعٍ فهي زبيةٌ، ولهذا قيل: "بلغ السيل الزبا" وإنما تُجعل على الرابية لئلا يدخلها السيل. وإنما أراد "عمر" أن قريشاً تريد أن تكون مهلكةٌ لمال الله [عز وجل] كإهلاك تلك المغواة لما سقط فيها [429]. 613 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [- رضي الله عنه-] أنه قال:

فرقوا عن المنية، واجعلوا الرأس رأسين، ولا تُلثوا بدار معجزةٍ، وأصلحوا مثاويكم، وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم، وقال: اخشوشنوا واخشوشنوا، وتمعددوا". قال: حدثناه أبو بكر بن عياشٍ، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي العدبس الأسدي، عن عمر. قوله: "فرقوا عن المنية، واجعلوا الرأس رأسين"، يقول: إذا أراد أحدكم أن يشتري شيئاً من الحيوان؛ من مملوكٍ أو غيره من الدواب، فلا يغالين به، ولكن ليجعل ثمنه في رأسين، وإن كانا دون الأول، فإن مات أحدهما بقي الآخر. وقوله: "ولا تلثوا بدار معجزةٍ" فالإلثاث: الإقامة، يقول: لا تقيموا ببلدٍ قد أعجزكم فيه الرزقُ، ولكن اضطربوا في البلاد. وهذا شبيهٌ بحديثه الآخر: "إذا اتجر أحدكم في شيءٍ ثلاث مراتٍ، فلم يرزق منه، فليدعه".

[قال أبو عبيدٍ]: وقد يفسر هذا تفسيراً آخر، يقال: إنه أراد الإقامة بالثغور مع العيال. قال أبو عبيدٍ: يقول: فليس بموضع ذريةٍ، فهذا هو الإلثاث بدار معجزةٍ. وقوله: وأصلحوا مثاويكم. المثاوي: المنازل، يقال: ثويتُ بالمكان: إذا نزلت به، وأقمت، ولهذا قيل لكل نازلٍ: ثاوٍ. وهذا معنى قراءة "عبد الله": (لنثوينهم من الجنة غرفاً) أي: لننزلنهم. [قال]: وهكذا كان يقرأ الكسائي. وقوله: "وأخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم": يعني دواب الأرض؛ العقارب والحيات، يقول: احترسوا منهن، ولا يظهر لكم منهن شيء إلا قتلتموه. وقوله: "اخشوشنوا": هو من الخشونة في اللباس والمطعم. واخشوشبوا أيضاً شبيهٌ به، وكل شيءٍ غليظٍ خشنٍ، فهو أخشب وخشبٌ.

وهو من الغلظ، وابتذال النفس في العمل، والاحتفاء في المشي [430] ليغلظ الجسد، ويجسو. ومنه حديث النبي - صلى الله عليه [وسلم]- في مكة: "لا تزول حتى يزول أخشباها" والأخشب: الجبل، قال ذو الرمة- يصف الظليم-: شخت الجزارة مثل البيت ... سائره من المسوح خدبٌ شوقبٌ خشب وقوله: "تمعددوا" فيه قولان: يُقال: هو من الغلظ أيضاً، ومنه قيل للغلام إذا شب وغلظ: قد تمعدد، قال الراجز: ربيته حتى إذا تمعددا [يصف عقوق ابنه]. ويقال [في] تمعددوا: تشبهوا بعيش معدٌ، وكانوا أهل قشفٍ وغلظٍ في المعاش، يقول: فكونوا مثلهم، ودعوا التنعم، وزي العجم. وهكذا هو في حديثٍ له آخر: "عليكم باللبسة المعدية".

614 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه-: أنه كتب إلى خالد بن الوليد: "أنه بلغني أنك دخلت حماماً بالشام، وأن من بها من الأعاجم أعدوا لك دلوكاً عجن بخمرٍ، وإني أظنكم آل المغيرة ذرء النار". قال: حدثناه إسماعيل بن عياشٍ، عن حميد بن ربيعة، عن سليمان بن موسى، أن عمر كتب إلى خالدٍ بذلك. قوله: "ذرء النار"، ويُروى "ذرو [النار] ". فمن قال: "ذرء [النار]-بالهمز- فإنه أراد خلق النار، أي: إنكم خلقتم لها. من قولهم: ذرا الله الخلق برؤهم ذرءاً. ومن قال: "ذرو" فهو من ذرا يذرو، من قوله: تذروه الريح، أي: إنكم تذرون في النار ذرواً. وأما الدلوك، فهو: اسم الشيء يتدلك به، كما قالوا: السحور والفطور، وأشباه ذلك.

615 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه-: "أملكوا العجين، فإنه أحد الريعين". يُروى عن هشام بن عروة، عن أبي ليثٍ- مولى الأنصار- عن سعيد بن المسيب، عن عمر. قوله: أملكوا العجين، يقول [431]: أجيدوا عجنه وأنعموه، والريع: الزيادة، فالريع الأول: الزيادة عن الطحن، والريع الآخر: عند العجن. وفيه لغتان: يقال منه: أملكت العجين إملاكاً، وملكته أملكه ملكاً. 616 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] حين سأل الحارث بن كلدة: "ما الدواء؟ ". فقال: "الأزم". وكان سفيان بن عيينة يقول: الأزم: هو الحمية. قال أبو عبيدٍ: وذلك الذي أراد الحارث.

قال الأصمعي وغيره: وألص الأزم: الشدة، وإمساك الأسنان بعضها على بعض، ومنه قيل للفرس: قد أزم ع لى فأس اللجام: إذا قبض عليه، ولهذا سُميت السنة أزمةً: إذا أصابتهم فيها مجاعةٌ وشدةٌ، فأراد بالأزم: الإمساك عن المطعم. 617 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- عند الشورى حين طعن، فدخل عليه ابن عباسٍ فرآه مغتماً بمن يستخلف بعده، فجعل ابن عباسٍ يذكر له أصحابه، فذكر "عثمان" فقال: كلفٌ بأقاربه، قال: فعليٌّ؟ قال: ذلك رجلٌ فيه دعابةٌ. قال: فطلحةُ؟ قال: لولا بأوٌ فيه. قال: فالزبير؟ قال: وعقةٌ لقسٌ. قال: فعبد الرحمن بن عوف؟ قال: أوه! ذكرت رجلاً صالحاً، ولكنه ضعيفٌ، وهذا الأمر لا يصلح له إلا اللين من غير ضعفٍ، والقوى من غير عنفٍ. قال: فسعدٌ؟ قال: ذاك يكونُ في مقنبٍ من مقانبكم".

قال الكسائي، واليزيدي، وأبو عمروٍ وغيرُ واحدٍ دخل كلام بعضهم في بعض: قوله: "كلفٌ بأقاربه"، يعني شديد الحب لهم. وقوله: "فيه دعابةٌ"، يعني المزاح. وقوله: "لولا بأوٌ فيه" البأو: الكبر والعظمة، قال حاتمٌ [الطائي]: فما زادنا بأواً على ذي قرابةٍ ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر وقوله: "وعقةٌ لقسٌ" - وبعضهم يقول: "ضبسٌ"- ومعنى هذا كله: الشراسة وشدة الخلق، وخبث النفس. ومما يبين ذلك الحديث المرفوع: "لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي". [حدثنا أبو عبيدٍ] قال [432]: حدثنيه يحيى بن سعيدٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم.

فالمعنى فيهما واحدٌ، ولكنه كره قبح اللفظ في خبثت. وقوله: "يكون في مقنبس من مقانبكم" فالمقنب: جماعة الخيل والفرسان، يريد: أن سعداً صاحب جيوشٍ ومحاربةٍ، وليس بصاحب هذا الأمر. وجمع المقنب مقانب، قال "لبيدٌ": وإذا تواكلت المقانبُ لم يزل ... بالثغر منا منسرٌ معلوم قال أبو عمرو: والمنسر ما بين ثلاثين فرساً إلى أربعين، ولم أره وقت في المقنب شيئاً. قال أبو عبيدٍ: مَنْسِرٌ ومنْسَرٌ. 618 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] في عام الرمادة، وكان عاماً أصابت الناس فيه السنة، فقال عمر: "لقد هممتُ أن أجعل مع كل

أهل بيتٍ من المسلمين مثلهم، فإن الإنسان لا يهلك على نصف شبعه. فقال له رجلٌ: لو فعلت ذلك يا أمير المؤمنين ما كنت فيها "ابن ثأدٍ". هكذا يُروى الحديث عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عمر. قال الفراء: إنما هو "ابن ثأداء" يعني الأمة، أي: ما كنت فيها ابن أمةٍ، وفيه لغتان: ثأداء، ودأثاء مقلوبٌ، مثل: جذب وجبذ، قال الكميت: وما كنا بنى ثأداء لما ... قضينا بالأسنة كل وتر وبعضهم يفسر "ابن ثأد" يريد الثدى، وليس لهذا وجهٌ، ولا نعرفه في إعرابٍ ولا معنىً. وفي هذا الحديث: أن عمر رأى المواساة واجبةٌ على الناس، إذا كانت الضرورة. 619 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] أنه صلى الفجر

بالناس، فقرأ بسورة يوسف، حتى إذا جاء ذكر يوسف [عليه السلام] سُمع نشيجه خلف الصفوف. قال: حدثنيه حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن علقمة بن وقاصٍ، عن عمر. إلا أنه قال "العتمة". ويروى أنه لما انتهى إلى قوله [433] [تعالى]: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) نشج. يقال: النشيجُ: مثل بكاء الصبي إذا ضُرب، فلم يخرج بكاءه، وردده في صدره ولذلك قيل لصوت الحمار: نشيجٌ. يقال منه: قد نشج ينشج نشجاً ونشيجاً. وإنما يراد من هذا الحديث أن يرفع الصوت بالبكاء في الصلاة، حتى يُسمع [الصوت] فلا يقطع ذلك الصلاة.

620 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- أنه أُتي في نساء أو إماءٍ ساعين في الجاهلية، فأمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم، ولا يسترقوا". قال: حدثناه ابن علية ومعاذٌ، عن ابن عونٍ، قال: أنبأني غاضرة العنبري أنهم أتوا عمر في ذلك. قال أبو عبيدٍ: وأخبرني الأصمعي أنه سمع ابن عونٍ يذكر هذا الحديث، قال: فقلت لابن عونٍ: إن المساعاة لا تكون في الحرائر، إنما تكون في الإماء. قال: فجعل ابن عونٍ ينظر إليَّ. قال أبو عبيدٍ: ومعنى المساعاة: الزنا، وإنما خُص الإماء بالمساعاة دون الحرائر؛ لأنهن كن يسعين على مواليهن، فيكسبهن لهم بضرائب كانت عليهن، وفي ذلك نزلت هذه الآية: (ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً) إلى آخر الآية.

قال [أبو عبيدٍ]: أخبرنيه يحيى بن سعيدٍ، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله، قال: كانت أمة لعبد الله بن أبي [بن سلولٍ]- وكان يكرهها على الزنا- فنزلت الآية: (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن [لهن] غفورٌ رحيم). [قال أبو عبيدٍ]: هكذا قرأها. قال: وحدثني إسحاق الأزرق، عن عوفٍ، عن الحسن في هذه الآية، قال: لهن والله. لهن والله. وقال الأعشى: يهب الجلة الجراجر كالبستا ... ن تحنو لدردقٍ أطفال والبغايا يركضن أكسية الإضـ ... ـريج والشرعبي ذا الأذيال يريد بالبغايا: الإماء؛ لأنهن كن يفجرن. وقوله: يهب الجلة، ويهب البغايا: يبين لك أن هذا لا يقع إلا على الإماء. قال أبو عبيدٍ [434]: وكان الحكم في الجاهلية أن الرجل إذا وطئ أمة رجلٍ فجاءت بولدٍ، فادعاه في الجاهلية، فإن حكمهم كان أن يكون ولده، لا حق النسب به، ولهذا المعنى اختصم عبد بن زمعة وسعد بن مالك في ابن أمة زمعة

إلى النبي - صلى الله عليه [وسلم]- فقال سعدٌ: ابن أخي، عهد إلى فيه أخي، وقال عبد بن زمعة: أخي، ولد على فراش أُبي، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالولد للفراش، وابطل ما كان من حكم الجاهلية أن يكون لاحق النسب. وقضى عمر أن الدعوى- إذا كانت في الإسلام، وليس سيد الجارية بالمدعي- للولد- كما ادعى عبد بن زمعة أخاه- أن يكون حراً لاحق النسب، وتكون قيمته على أبيه لمولى الجارية. ومنه حديثٌ له آخر، قال: حدثناه أبو معاوية، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سليمان بن يسارٍ، أن "عمر" كان يلحق أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام. قال أبو عبيدٍ: فإذا كان الوطء والدعوى جميعاً في الإسلام، فدعوته باطلةٌ، وهو مملوكٌ؛ لأنه عاهرٌ. وقال النبي - صلى الله عليه [وسلم]: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". [قال أبو عبيدٍ]: ولعمر [رحمه الله] أيضاً حكمٌ آخر في الرق، فيما

كانت العرب تسابي في الجاهلية، فيأتي الإسلام، والمسبي في يده كالمملوك له، فحكم "عمر" - في مثل هذا- أن يرد حراً إلى نسبه، وتكون قيمته عليه، يؤديها إلى الذي سباه؛ لأنه أسلم وهو في يده. قال: حدثنا أبو بكر بن عياشٍ، عن أبي حصينٍ، عن الشعبي، قال: لما قام "عمر" قال: ليس على عربي ملكٌ، ولسنا بنازعين من يد رجلٍ شيئاً أسلم عليه، ولكنا نقومهم الملة خمساً من الإبل. قال: فسألت "محمداً" عن تأويله، ففسره نحواً مما قلت لك، يعني أنه ليس على هؤءلا الذين سُبوا ملكٌ؛ لأنهم عربٌ، ثم قال: ولسنا بنازعين من يد رجلٍ شيئاً أسلم عليه. يقول: هذا الذي في يديه [من] السبي لا ننزعه من يده بلا عوضٍ؛ لأنه أسلم عليه، ولا نتركه مملوكاً وهو من العرب، ولكنه يقوم. قيمته [435] خمساً من الإبل للذي سباه، ويرجع إلى نسبه عربياً كما كان. ولعمر أيضاً في السباء حكمٌ ثالثٌ، وذلك أن الرجل من الملوك كان ربما غلب على البلاد، حتى يستعبد أهلها، فيجوز حكمه فيهم، كما يجوز في مماليكه، وعلى هذا عامة ملوك العجم اليوم- الذين في أطراف الأرض- يهب منهم من شاء، ويصطفي لنفسه ما شاء؛ ولهذا ادعى الأشعث بن قيسٍ رقاب "أهل

نجران"، وكان استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا أبوا عليه. قال: حدثناه ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، أن الأشعث خاصم "أهل نجران" إلى "عمر" في رقابهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا إنما كنا عبيد مملكةٍ، ولم نكن عبيد قن. قال: فتغيظ عليه "عمر"، وقال: أردت أن تغفلني. قال: وكذلك حدثناه معاذٌ، عن ابن عونٍ، عن ابن سيرين، عن "عمر" إلا أنه قال: قال له "عمر": أردت أن تعنتني. قال الكسائي: القن: أن يكون مُلك وأبواه، والمملكة: أن يغلب عليهم تملكاً، وليس سباءً. وفي هذا الحديث أصلٌ لكل من ادعى رقبة رجلٍ، وأنكر المدعى عليه أن القول قوله، ألا تراه جعل القول قول "أهل نجران"؟ ولعمر أيضاً في الولد حكمٌ آخر. قال: حدثنيه ابن مهديٍّ، عن سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سلمان بن يسارٍ، عن "عمر": أنه قضى في ولد المغرور غُرةً. يعني الرجل يُزوجُ رجلاً مملوكةٌ على أنها حرةٌ، فقضى أن يغرم الزوج لمولى الأمة غُرةٌ، ويكون ولده حراً، ويرجع الزوج على من غرهُ بما غرم.

621 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- أنه رأى جاريةً متكمكمةً، فسأل عنها، فقالوا: أمة آلا فلانٍ، فضربها بالدرة ضرباتٍ، وقال [436]: يالكعاء! أتتشبهين بالحرائر؟ يُروى [هذا] عن عوف بن أبي جميلة، عن أنس بن سيرين، عن "عمر". قال أبو عبيدٍ: قوله: "متكمكمةً" نُرى أنه إ نما أراد متكممةً، وأصله من الكمة وهي القلنسوة، فشبه قناعها بها، فقال متكمكمة، ولم يقل متكممة، كما قالوا: متجممة من الجمة، ومتعممة من العمة، والعرب تفعل هذا إذا اجتمعت الحروف من جنس واحدٍ، فرقوا بينها استثقالاً لجمعها، كما قالوا: كفكفت فلاناً عن كذا، وإنما أصلها: كففت، قال أبو زبيدٍ: ألم ترني سكنت إلى لإلكم ... وكفكفت عنكم أكلبي وهي عُقر وقال متممُ [بن نويرة]: ولكنني أمضي على ذاك مقدماً ... إذا بعض من يلقى الخطوب تكعكعا

وهو من كععتُ عن الأمر. ومنه قولهم: تصرصر الباب من الصرير، وإنما أصله تصرر [الباب]. وقوله: "يالكعاء" فيه لغتان: لكعاء، ولكاع. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه رأى أن تخرج الأمة بلا قناعٍ، فإذا برزت للناس كذلك، فكذلك ينبغي أن تكون في الصلاة بلا قناعٍ. ولهذا قال: "إبراهيم" في صلاة الأمة قال: تصلي كما تخرج إلى الأسواق. 622 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه-: "ورع اللص ولا تراعه" يُروى عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن "عمر". قال أبو عبيدٍ: يقول: إذا رأيته في منزلك فادفعه، واكففه بما استطعت، ولا تنتظر فيه شيئاً، وكل شيءٍ كففته فقد ورعته، قال أبو زُبيدٍ: وورعت ما يُكبى الوجوه رعايةٌ ... ليحضر خيرٌ أو ليقصر منكر

يقول: ورعت عنكم ما يكبى وجوهكم، يمتن بذلك عليهم. وقوله: "لا تراعه" يقول: لا تنتظره، وكل شيءٍ تنتظره، فأنت [تراعيه و] تراعاه، قال الأعشى [437]: فظللت أرعاها وظل يحوطها ... حتى دنوت إذا الظلام دنا لها يذكر امرأةً. ومنه قيل للصائم: هو يرعى الشمس: يعني أن تغيب، وكذلك الساهر يرعى النجوم. وقد فسره بعض الفقهاء، قال: قوله: "ورع" يقول: بره من السرقة، ولا تتهمه، يذهب به إلى الورع، وليس هذا من الورع في شيءٍ، إنما هذا رخصةٌ من "عمر" في الإقدام عليه، وكذلك يروى عن ابن عمر: أنه رأى لصاً في داره، فطلب السيف أو غيره من السلاح؛ ليقدم عليه. وكذلك يُروى عن ابن سيرين، أنه قال: "ما كانوا يمسكون عن اللص إذا دخل دار أحدهم تأثماً". 623 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر [رضي الله عنه] أن رجلاً أتاه،

فقال: إن ابن عمي شُج موضحةً، فقال: أمن أهل القرى، أم من أهل البادية؟ فقال: من أهل البادية. فقال عمر: "إنا لا نتعاقل المضغ بيننا". يُروى عن سفيان بن سعيدٍ، عن عمر بن عبد الرحمن المديني، عن أبي سلمة ابن سفيان المخزومي، عن أبي أمية بن الأخنس، عن "عمر" أنه قال ذلك. وهذا الحديث يحمله بعض أهل العلم على أن أهل القرى لا يعقلون عن أهل البادية، ولا أهل البادية عن أهل القرى. وفيه هذا التأويل: وزيادة أيضاً، أن العاقلة لا تحمل السن، والموضحة، والإصبع وأشباه ذلك مما كان دون الثلث في قول "عمر". وعلى هذا قول أهل المدينة إلى اليوم، يقولون: ما كان دون الثلث فهو في مال الجاني في الخطأ. وأما أهل العراق، فيرون [أن] الموضحة- فما فوقها- على العاقلة إذا كان خطأ، وما كان دون الموضحة فهو في مال الجاني.

وإنما سماها مضغاً فيما تُرى أنه صغرها وقللها، كالمضغة من الإنسان في خلقه. قال: وحدثنا حجاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن الزبير [438]، عن "عمر" قال: لا يعقل أهل القرى الموضحة، ويعقلها أهل البادية. 624 - وقال أبو عبيدٍ في حديث عمر - رضي الله عنه- أنه لما حصب المسجد، قال له فلانٌ: لم فعلت هذا؟ قال: "هو أغفر للنخامة، والين في الموطئ". قال: حدثت به عن عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عمن حدثه عن "عمر". قال الأصمعي: قوله: "أغفر للنخامة" يعني أنه أستر لها، وأشد تغطية. قال الأصمعي: وأصل الغفر التغطية، ومنه سُمي المغفر؛ لأنه يغفر الرأس، أي يلبسه ويغطيه.

قال: والمغفرة من الذنوب كذلك أيضاً: إنما هو إلباس الله الناس الغفران، وتغمدهم به. وفي هذا الحديث: الرخصة في البزاق في المسجد إذا دفن. 625 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" - رضي الله عنه- أن "الحارث بن أوس" سأله عن المرأة تطوف بالبيت ثُم تنفر من غير أن تطوف طواف الصدر إذا كانت حائضاً، فأفتاه أن تفعل ذلك. فقال "الحارث": كذلك أفتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. فقال له: "عمر": "أريت من يديك، أتسألني، وقد سمعته من رسول الله [- صلى الله عليه وسلم-] كي أخالفه"؟

وهذا من حديث "أبي عوانة" عن "يعلى بن عطاء" عن "الوليد بن عبد الرحمن" عن "الحارث بن أوسٍ الثقفي" عن "النبي" [-صلى الله عليه وسلم-]. ويُروى عن "حجاجٍ" عن "عبد الملك بن المغيرة" عن "عمرو بن عبد الله بن أوسٍ" عن "عمه الحارث بن أوسٍ" أن "النبي"- صلى الله عليه وسلم- رخص في ذلك. ويُروى من وجهٍ آخر: أن "النبي" [- صلى الله عليه وسلم-] رخص في ذلك. قوله: "أربت من يديك": هو عندي مأخوذٌ من الآراب، وهي أعضاء الجسد، ومنه قيل: قطعت الشاة إرباً إرباً، فكأنه أراد بقوله: أربت من يديك، أي: سقطت آرابك من اليدين خاصةٌ. وهو في حديثٍ آخر: "سقطت من يديك، ألا كنت حدثتنا بهذا"؟ فهذا تفسير أربت. وبعض الفقهاء يرويه خلاف هذه الرواية، يقول: إن "عمر" نهى أن تنفر حتى تطهر وتطوف؛ حتى حدثه "الحارث بن أوس" [439] بهذا الحديث عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم-.

626 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" - رضي الله عنه- أنه سمع رجلاً يتعوذ من الفتن، فقال [له] "عمر": "اللهم إني أعوذ بك من الضفاطة، أتسأل ربك ألا يرزقك أهلاً ومالاً، أو قال: أهلاً وولداً". هذا من حديث "جعفر بن عونٍ" عن "مسعرٍ" عن "أبي الضحى" يُسنده إلى "عمر". قوله: "أتسأل ربك ألا يرزقك أهلاً وولداً" معناه عندي [- والله أعلم-] قول الله - تبارك وتعالى-: (إنما أموالكم وأولادكم فتنةً) فأراد "عمر" هذه الآية. ومنه حديثه - حين سأل أصحاب "النبي" - صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيكم سمع قول "النبي" - صلى الله عليه وسلم- في الفتن"؟ قالوا: نحن. قال: "لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وماله"؟ قالوا: نعم. قال: "تلك يُكفرها الصيام، والصلاة والصدقة، ولكن أيكم سمع قوله

[صلى الله عليه وسلم] في الفتن التي تموج موج البحر"؟ فقال "حذيفة": أنا. فقال: "أنت لعمري". قال ["أبو عبيد"]: حدثنيه "يزيد" عن "أبي مالك" عن "ربعي" عن "حذيفة" عن "عمر" في حديثٍ طويلٍ. قال "أبو عبيد": فالذي كره "عمر" أن يتعوذ منه: الفتنة بالأهل والمال، ولم ينه عن التعوذ من الفتن التي تموج موج البحر. وقوله: "الضفاطة": يعني ضعف الرأي والجهل، يُقال منه: رجلٌ ضفيط. وقد قال بعض أهل العلم في حديث "ابن سيرين" أنه شهد نكاحاً فقال: "فأين ضفاطتكم"؟ فسره: أنه أراد الدف. وإنما نراه [أنه] سماه ضفاطة، لهذا المعنى: أي إنه لهوٌ ولعبٌ، وهو راجعٌ إلى ضعف الرأي والجهل.

ومنه حديثٌ "لابن سيرين" آخر: أنه كان ينكر قول من قال: "إذا قعد إليك الرجل فلا تقم حتى تستأذنه". قال: وبلغه عن رجل أنه استأذن، فقال: إني لأراه ضفيطاً. 627 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر"- رضي الله عنه-: "ما بال رجالٍ لا يزال أحدهم [440] كاسراً وساده عند امرأةٍ مغزيةٍ، يتحدث إليها، وتحدث إليه، عليكم بالجنبة؛ فإنها عفافٌ، إنما النساء لحم على وضمٍ، إلا ما ذُب عنه". قال: حدثنيه "يزيد" عن "محمد بن عمرو بن علقمة" عن "يحيى بن عبد الرحمن بن حاطبٍ" عن "أبيه" عن "عمر". قال "الكسائي" و"الأصمعي" وغيرهما: قوله: "مغزية": يعني التي قد غزا زوجها، يُقال: قد أغزت المرأة. إذا كان زوجها غازياً، فهي مغزيةٌ. وكذلك: أغابت، فهي مغيبةٌ: إذا غاب زوجها، ومثل هذا في الكلام كثيرٌ.

وقوله: "الجنبة"، يعني: الناحية. يقول: تنحوا عنهن، وكلموهن من خارج الدار، ولا تدخلوا عليهن، وكذلك كل من كان خارجاً. قيل: جنبةً. وهذا مثل حديثه الآخر: "لا يدخلن رجلٌ على امرأةٍ، وإن قيل حمؤها، ألا [إن] حمأها الموت" فالحمء: أبو الزوج. قال "الأصمعي": وفيه ثلاث لغاتٍ: هو حماها مثل قفاها، وحموها مثل أبوها، وحمؤها مقصورٌ مهموزٌ. وقوله: "الموت"، يقول: فلتمت ولا تفعل ذاك. فإذا كان هذا من رأيه في أبي الزوج، وهو محرمٌ، فكيف بالغريب؟ وقال الراعي في الجنبة: أخليد إن أباك ضاف وساده ... همان باتا جنبةٌ ودخيلا

يقول: أحدهما باطنٌ، والآخر ظاهرٌ. وأما قوله: "إنما النساء لحمٌ على وضمٍ". قال "الأصمعي": الوضم: الخشبة، أو البارية التي يوضع عليها اللحم، يقول: فهن في الضعف مثل ذلك اللحم الذي لا يمتنع من أحدٍ، إلا أن يُذب عنه. وقال "الكسائي" - أو غيره-: الوضم: كل ما وقيت به اللحم من الأرض. قال: ويقال: وضمت اللحم أضمه وضماً: إذا وضعته على الوضم، فإن أردت أنك جعلت له وضماً، قلت: أوضمته إيضاماً. وقال أبو زيد: يقال: أوضمت اللحم وأوضمت له. 628 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [- رضي الله عنه-]: أنه خطب الناس، فقال: "إن بيعة أبي بكرٍ [441] [- رضوان الله عليه-] كانت فلتةً وقى الله شرها".

قال ["أبو عبيدٍ"]: حدثنيه "أبو نوحٍ قرادٌ" عن "شعبة" عن "سعد بن إبراهيم" عن "عبيد الله بن عبد الله بن عتبة" عن "ابن عباسٍ" عن "عبد الرحمن بن عوفٍ" قال: خطبنا "عمر"، فذكر ذلك، وزاد فيه: "وإنه لا بيعة إلا عن مشورةٍ، وأيما رجلٍ بايع عن غير مشورةٍ، فلا يؤمر واحدٌ منهما؛ تغرة أن يقتلا". قال "شعبة": فقلت "لسعدٍ": ما تغرة أن يقتلا؟ فقال: عقوبتهما لا يؤمر واحدٌ منهما. قال "أبو عبيدٍ": وهذا مذهب ذهب إليه "سعدٌ" تحقيقاً لقول "عمر": "لا يؤمر واحدٌ منهما"، وهو مذهبٌ حسنٌ. ولكن التغرة في الكلام ليست بالعقوبة، وإنما التغرة: التغرير، يقال: غررتُ بالقوم تغريراً، وتغرةٌ، وكذلك يقال في المضاعف خاصةٌ، كقوله: حللت اليمين تحليلاً وتحلةٌ، قال الله - تبارك وتعالى-: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)، وكذلك: عللت المريض تعليلاً، وتعلةٌ، وإنما هذا في المضاعف في فعلت. وإنما أراد "عمر" أن في بيعتهما تغريراً بأنفسهما للقتل، وتعرضاً لذلك، فنهاهما عنه لهذا، وأمر ألا يؤمر واحدٌ منهما؛ لئلا يُطمع في ذلك، فيفعل هذا الفعل.

وأما قوله: "فلتةٌ": فإن معنى الفلتة: الفجاءة، وإنما كانت كذلك؛ لأنه لم ينتظر بها العوام، وإنما ابتدرها أكابر أصحاب "محمدٍ" - صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين، وعامة الأنصار، إلا تلك الطيرة التي كانت من بعضهم، ثم أصفقوا له كلهم، لمعرفتهم أن ليس لأبي بكرٍ منازعٌ، ولا شريكٌ في الفضل، ولم يكن يحتاج في أمره إلى نظرٍ، ولا مشاورةٍ؛ فلهذا كانت الفلتة، وبها وقى الله الإسلام وأهله شرها، ولو علموا أن في أمر "أبي بكرٍ" شبهةٌ، وأن بين الخاصة والعامة فيه اختلافاً، ما استجازوا الحكم عليهم بعقد البيعة، ولو استجازوه ما أجازوه الآخرون، إلا لمعرفة منهم به متقدمةٍ، فهذا تأويل قوله: "كانت فلتةٌ وقى الله شرها" [442]. 629 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر"- رضي الله عنه-: "أن العبد إذا تواضع رفع الله حكمته، وقال: انتعش نعشك الله، وإذا تكبر،

وعداً طوره وهصه الله إلى الأرض". قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "ابن عيينة" عن "محمد بن عجلان" عن "بكير بن الأشج" عن "معمر بن أبي حبيبة" عن "عبيد الله بن عدي بن الخيار" سمع "عمر" يقول ذلك. قال "أبو عبيدٍ": قوله: "وهصه الله"، يعني: كسره، ودقه، فهو يهصه وهصاً، وكذلك الوقص، وهو من الكسر أيضاً، وكذلك الوطس منه أيضاً. يقال: وهصتُ، ووقصتُ، ووطستُ، أهصُ، وأقصُ، وأطسُ، وهصاً، ووقصاً، ووطساً. وأما قوله: "عدا طوره"، يعني: قدره، وكل شيءٍ ساوى شيئاً في طوله فهو طوره، وطواره، يقال: هذا طوار هذا الحائط: أي على امتداده وقدره.

630 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [- رضي الله عنه-]: حين أتاه "قبيصة بن جابرٍ" فقال: إني رميت ظبياً، وأنا محرمٌ، فأصبت خششاءه، فركب ردعه، فأسن، فمات، فأقبل على "عبد الرحمن بن عوفٍ"، فشاوره، ثم قال: "اذبح شاةً". قال: أخبرنيه "ابن أبي أمية" عن "أبي عوانة" عن "عبد الرحمن بن عُميرٍ" عن "قبيصة" عن "عمر". قال "أبو عبيد": الخششاء: العظم الناشز خلف الأذن، وفيه لغتان خشاءٌ، وخششاءٌ. وقوله: "ركب ردعه"، يعني: أنه سقط على رأسه، وإنما أراد بالردع الدم، شبهه بردع الزعفران، وردع الزعفران: أثره، وركوبه إياه أن الدم سال، ثم خر الظبي عليه صريعاً، فهذا معنى قولهم: ركب ردعهُ.

وقوله: "أسن"، يعني أنه دير به؛ ولهذا يقال للرجل إذا دخل بئراً فاشتدت عليه ريحها حتى يصيبه دوارٌ، فيسقط: قد أسن يأسن أسناً، قال "زهيرٌ" [443]: يغادر القرن مصفراً أنامله ... يميل في الريح ميل الماتح الأسن الماتح: الذي ينزل البئر، فيغرف من مائها في الدلو إذا قل الماء. قال "أبو عبيدٍ": ويقال في معنى ركب ردعه، [أي] أنه لم يردعه شيءٌ، فيمنعه عن وجهه، ولكنه ركب ذاك، ومضى لوجهه، والرادع: هو المانع، كقول الناس: ردعت فلاناً عما يريد، أي منعته. 631 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [-رضي الله عنه-]: "أنه كان يستاك وهو صائمٌ، ولكنه كان يستاك بعودٍ قد ذوى".

قال: حدثناه "أبو حفصٍ الأبار" عن "منصورٍ" عن "أبي نهيكٍ" عن "زياد بن حديرٍ" أنه رأى "عمر" يفعل ذلك. قوله: "قد ذوى" يعني: يبس، وفيه لغتان: ذوى يذوي، و [بعضهم يقول] ذوى يذوي، والأول أجود، وهو عودٌ ذاوٍ، وقال "ذو الرمة": كأنما تفض الأحمال ذاويةٌ ... على جوانبه الفرصادُ والعنب وفي هذا الحديث من الفقه: الرخصة في الصائم يستاك، ولم يذكر فيه أول النهار، ولا آخره. 632 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [- رضي الله عنه-]: "حجوا بالذرية، ولا تأكلوا أرزاقها، وتذروا أرياقها في أعناقها". قال: حدثناه "يحيى بن سعيدٍ" و"يزيد بن هارون" عن

"سليمان بن حيان" عن "موسى بن قطنٍ" عن "آمنة بنت محرزٍ" عن "عمر". قوله: "لا تدعوا أرباقها في أعناقها": فجعل الحج عليها واجباً، وإنما ذكر الذرية، وليس على الذرية حج، قال "أبو عبيد": فقلت "ليحيى": ما وجه هذا الحديث؟ فقال: لا أعرفه. فقلت له: إنه لم يرد الصبيان، إنما أراد النساء، وقد يلزمهن اسم الذرية، وذكرت له حديث "سفيان الثوري" عن "أبي الزناد" عن "المرقع بن صيفي" عن "حنظلة الكاتب". قال: كنا مع رسول الله [444]- صلى الله عليه وسلم- في غزاةٍ، فرأى امرأةً مقتولةً، فقال: "هاه! ما كانت هذه تقاتل، الحق خالداً فقل [له]: لا تقتلن ذريةً، ولا عسيفاً" جعل النساء من الذرية، فعرف "يحيى" الحديث، وقال: نعم، وقبله. قال: "أبو عبيدٍ" فهذا يبين لك أن الذرية: النساء ها هنا.

وأما ذكره الأرباق، فإنه مثل، شبه ما قلدت [به] أعناقها من وجوب الحج بالأرباق التي تقلدها أعناق الأسارى، ومن ذلك قول "زهيرٍ". أشم أبيض فياضٌ يفكك عن ... أيدي العناة وعن أعناقها الربقا 633 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" - رضي الله عنه-: أنه وقف بين الحرتين - وهما داران لفلانٍ- فقال: "شوى أخوك، حتى إذا أنضج رمد". قال: حدثت به عن "ابن المبارك" عن "يونس" عن "الزهري" عن "عمر". قوله: "شوى أخوك": يقول: إنه لما أنضج شواءه، وجوده، ألقاه في الرماد، فأفسده.

وهذا مثلٌ يضرب للرجل يصطنع المعروف إلى الرجل، ثم يفسده عليه بالامتنان، أو أن يقطعها عنه، ولا يتمها له، وما أشبه ذلك من إفساد المعروف. 634 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" - رضي الله عنه-: "أنه كتب إليه في رجلٍ قيل له: متى عهدك بالنساء؟ فقال: البارحة. قيل: من؟ قال: أم مثواي. فقيل له: قد هلكت، قال: ما علمت أن الله حرم الزنا. فكتب "عمر" أن يستحلف: ما علم أن الله حرم الزنا، ثم يخلى سبيله". قال: حدثناه "مروان بن معاوية الفزاري" و"يزيد" عن "حميد بن بكر بن عبد الله" عن "عمر".

قوله: "أم مثواي" يعني: ربة منزله، والعرب تقول للرجل الذي هُم نزول عليه: هذا أبو منزلنا، وأبو مثوانا، وللمرأة: أم منزلنا، وأم مثوانا، والثواء: هو النزول بالمكان. يقال: ثويت بالمكان، وأثويت، لغتان. وأما قوله: "يُستحلف، ثم يخلى سبيله": فإنما يعذر بهذا الذي أسلم حديثاً، لا يعرف [445] الإسلام، ولا شرائعه، ولم يسكن بلاداً بها أهل الإسلام، فأما من كان على غير ذلك، فإنه لا يصدق، ويقام عليه الحد. 635 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [- رضي الله عنه-]: "تفقهوا، قبل أن تسودوا". قال: حدثناه "ابن علية"، و"معاذٌ" عن "أبي عونٍ" عن "ابن سيرين" عن "الأحنف بن قيسٍ" عن "عمر". قوله: "تفقهوا قبل أن تسودوا"، يقول: تعلموا العلم ما دمتم صغاراً قبل أن تصيروا سادةً رؤساء، منظوراً إ ليكم، فإن لم تعلموا قبل ذلك استحييتم

أن تعلموه بعد الكبر، فبقيتم جهالاً، تأخذونه من الأصاغر فيزرى ذلك بكم. وهذا شبيه بحديث "عبد الله": "لن يزال الناس بخيرٍ ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم، فقد هلكوا". وفي الأصاغر تفسيرٌ آخر، قال: بلغني عن "ابن المبارك" أنه كان يذهب بالأصاغر إلى أهل البدع، ولا يذهب إلى السن، وهذا وجهٌ. قال "أبو عبيدٍ": والذي أرى أنه في الأصاغر: أن يؤخذ العلم عمن كان بعد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم-، ويقدم ذلك على رأي الصحابة وعلمهم، فهذا أخذُ العلم عن الأصاغر. قال "أبو عبيد": ولا أرى "عبد الله" أراد إلا هذا. قال "أبو عبيدٍ": ولا أرى "عبد الله" أراد إلا هذا. 636 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" - رحمه الله-: "السائبة والصدقة ليومهما".

قال: حدثناه "ابن أبي عدي" و"يزيد" عن "سليمان التيمي" عن "أبي عثمان النهدي" عن "عمر". يعني بقوله: "ليومهما": يوم القيامة [اليوم] الذي كان أعتق سائبته وتصدق بصدقته له، يقول: فلا يرجع إلى الانتفاع بشيءٍ منهما بعد ذلك في الدنيا، وذلك كالرجل يعتق عبده سائبة [446]، ثم يموت المعتق ويترك، مالاً، ولا وارث له إلا الذي أعتقه. يقول: فليس ينبغي له أن يرزأ من ميراثه شيئاً إلا أن يجعله في مثله. وكذلك يروى عن "ابن عمر" أنه فعل بميراث عبدٍ له كان أعتقه سائبةً، وإنما هذا منهم على وجه الفضل والثواب، ليس على أنه محرمٌ؛ ألا ترى أنه إنما رده عليه الكتاب والسنة، فكيف يحرم هذا؟ ولكنهم كانوا يكرهون أن يرجعوا في شيءٍ جعلوه لله، إنما هذا بمنزلة رجلٍ تصدق على أمه - أو على أبيه - بدارٍ، ثم ماتا، فورثهما، فهو حلالٌ [له] وإن تنزه عنه، فهو أفضلُ. 637 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر"-[رضي الله عنه-]:

"لا تشتروا رقيق أهل الذمة وأرضيهم". قال: حدثناه "الأنصاري" عن "أبي عقيلٍ بشير بن عقبة" عن "الحسن" عن "عمر". قال: فقلت للحسن: ولم؟ قال: لأنهم فيءٌ للمسلمين. قال "أبو عبيدٍ": فهذا تأويل "الحسن"، وقد رُوي عن "عمر" شيءٌ مفسرٌ هو أحب إليَّ من هذا. قال: حدثناه "يحيى بن سعيدٍ" عن "سعيد بن أبي عروبة" عن "قتادة" عن "سفيان العقيلي" عن "أبي عياض" عن "عمر" قال: "لا تشتروا رقيق أهل الذمة، فإنهم أهل خراجٍ، يؤدي بعضهم عن بعضٍ، وأرضيهم فلا تبتاعوها، ولا يُقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله منه". قال "أبو عبيدٍ": فقول "عمر" فإنهم أهل خراجٍ، يؤدي بعضهم عن بعضٍ،

يبين لك أنهم ليسوا بفيءٍ، وأنهم أحرارٌ؛ ألا ترى أن السنة ألا تكون جزية الرؤوس إلا على الأحرار دون المماليك؟ فلو كانوا مماليك- كما قال "الحسن"- لم تكن عليهم جزية الرؤوس، وكانوا مع هذا لا تحل مناكحتهم، ولا مبايعتهم، ولا تجوز شهادتهم. وأما قول "عمر" يؤدي بعضهم عن بعضٍ، فلم يرد أن يكون الحر يؤدي عن مملوكه جزية رأسه، ولكنه أراد - فيما نُرى- أنه إذا كان له [447] مماليك، وأرضٌ، وأموالٌ ظاهرةٌ، كان أكثر لجزيته، وهكذا كانت سنته فيهم، إنما كان يضع الجزية على قدر اليسار، والعسر؛ فلهذا كره أن يُشترى رقيقهم. وأما شرى الأرض، فإنه ذهب فيه إلى الخراج، كره أن يكون ذلك على المسلمين؛ ألا تراه يقول: "ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله [منه] " وقد رخص في ذلك بعد عمر رجالٌ من أكابر أصحاب النبي [- صلى الله عليه وسلم-] منهم: "عبد الله بن مسعودٍ" كانت له أرضٌ "براذان" و"خباب بن الأرت" وغيرهما. 638 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [-رضي الله عنه-]

في قنوت الفجر قوله: "وإليك نسعى، ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك بالكافرين ملحق". قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "ابن أبى ليلى" عن "عطاء" عن "عبيد بن عمير" عن "عمر". قوله: "نحفد" أصل الحفد: الخدمة والعمل. يقال: حفد يحفد حفدا، قال "الأخطل": حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال أراد: خدمهن الولائد، وقال الشاعر: كلفت مجهولها نوقايمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا وقد روى عن "مجاهد" في قوله [-عز وعلا-]: {بنين حفدة}

أنهم الخدم، وعن "عبد الله" أنهم الأصهار. قال: حدثناه "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "عاصمٍ" عن "زر" عن "عبد الله" والله أعلم. وأما المعروف في كلامهم، فإن الحفد: الخدمة، فقوله: "نسعى ونحفد" هو من ذاك، يقول: إنا نعبدك، ونسعى في طلب رضاك، وفيه لغة أخرى، أحفد إحفاداً، قال "الراعي": مزايد خرقاء اليدين مسيفةٍ ... أخب بهن المخلفان وأحفدا فقد يكون قوله: "أحفدا": أخدما، وقد يكون أحفدا غيرهما: أعملا بعيرهما، فأراد "عمر" بقوله: "وإليك نسعى ونحفد": العمل لله بطاعته، وأما قوله [448]: "بالكفار ملحقٌ" هكذا يروى الحديث، وهو جائزٌ في الكلام أن يقال ملحقٌ، يريد: لاحقٌ؛ لأنهما لغتان، يقال: لحقت

القوم وألحقتهم بمعنى، كأنه أراد بقوله: ملحقٌ: لاحقُ، قاله "الكسائي" وغيره. 639 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [- رضي الله عنه-]: "لا تشتروا الذهب بالفضة إلا يداً بيدٍ، هاء وهاء، إني أخاف عليكم الرماء". قال: حدثناه "إسماعيل بن جعفرٍ" عن "عبد الله بن دينارٍ" عن "ابن عمر" عن "عمر". قوله: "الرماء"، يعني: الربا، وأصل الرماء: الزيادة، يقول: هو زيادةٌ على ما يحل، ومنه يقال: أرميت على الخمسين، - أي: زدت عليها- إرماءٌ. وكذلك يروى عن "عمر"- في بعض الحديث- أنه قال: "إني أخاف عليكم الإرماء"، فجاء بالمصدر، وقال الشاعر:

وأسمر خطياً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أرمى ذراعاً على العشر يقول: زاد على العشر ذراعاً، قال "الكسائي": والرماء ممدودٌ. 640 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [- رضي الله عنه-]: "أنه استشارهم في إملاص المرأة". قال: حدثنيه "حجاجٌ" عن "ابن جريجٍ" عن "هشامٍ بن عروة" عن "أبيه" عن "المغيرة بن شعبة" عن "عمر". قوله: "إملاص المرأة": هو أن تُلقى جنينها ميتاً. يقال منه: قد أملصت المرأة إملاصاً، وإنما سمي بذلك؛ لأنها تزلقه، ولهذا قالوا: أزلقت الناقة وغيرها، وكذلك كل شيءٍ زلق من يدك، فقد ملص يملص ملصاً، وأنشدني "الأحمر": فر وأعطاني رضاءٌ ملصا

يعني أنه يزلق من يدي، فإذا فعلت أنت ذاك به قلت: أملصته إملاصاً [449 ي. 641 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر"- رضي الله عنه-: "أنه أُتي بامرأةٍ مات [عنها] زوجها، فاعتدت أربعة أشهرٍ وعشراً، ثم تزوجت رجلاً، فمكثت عنده أربعة أشهرٍ ونصفاً، ثم ولدت ولداً، قال: فدعا "عمر" نساءً من نساء الجاهلية، فسألهن عن ذلك، فقلن: هذه امرأةٌ كانت حاملاً من زوجها الأول، فلما مات حش ولدها في بطنها، فلما مسها الزوج الآخر تحرك ولدها، قال: فالحق "عمر" الولد بالأول". قال "أبو عبيدٍ": بلغني هذا الحديث عن "مالك بن أنسٍ" عن "يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد" عن "محمد بن إبراهيم التيمي" عن "سليمان بن يسارٍ" عن "عبد الله بن عبد الله بن أبي أمية" عن "عمر". قوله: "حش ولدها في بطنها" يعني أنه يبس. يقال: قد حش يحش، وقد أحشت المرأة، فهي مُحش: إذا فعل ولدها ذلك، ومنه قيل لليد إذا شلت، ويبست: قد حشت.

قال "أبو عبيدٍ": وبعضهم يرويه "حش ولدها" - بضم الحاء-. وفي هذا الحديث من الفقه: أن الولد لما جاءت به لأقل من ستة أشهرٍ من يوم تزوجها الآخر لم يلحق به؛ لأن الولد لا يكون لأقل من ستة أشهرٍ، فلو جاءت به لأكثر من ستة [أشهرٍ] لحق بالآخر، فكان ولده. قال: وكذلك سمعت "أبا يوسف" يقول في هذا: ما بينها وبين سنتين أن الولد يلحق بالأول، ما لم تُقر المرأة بانقضاء عدةٍ قبل ذلك. 642 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [- رضي الله عنه-]: "أنه رُفع إليه رجلٌ قالت له امرأته: شبهني. فقال: كأنك ظبيةٌ، كأنك حمامةٌ. فقالت: لا أرضى حتى تقول: خليةٌ، طالقٌ. فقال ذلك. فقال "عمر": "خذ بيدها، فهي امرأتك".

قال: حدثناه "هشيمٌ": قال: أخبرنا "ابن أبي ليلى" عن "الحكم" عن "خيثمة بن عبد الرحمن" عن "عبد الله بن شهابٍ الخولاني" عن "عمر". قوله [450]: خليةٌ، طالقٌ: أراد الناقة تكون معقولة، ثم تطلق من عقالها ويخلي عنها، فهي خليةٌ من العقال، وهي طالقٌ؛ لأنها قد طلقت منه، فأراد الرجل ذلك، فأسقط عنه "عمر" الطلاق لنيته، وهذا أصل لكل من تكلم بشيءٍ يشبه [لفظه] لفظ الطلاق والعتاق، وهو ينوي غيره، أن القول فيه قوله، فيما بينه وبين الله [-تبارك وتعالى-] وفي الحكم على تأويل مذهب "عمر". وأما الذي يقول "أبو حنيفة" وأصحابه، فغير هذا. قال: سمعت "أبا يوسف" يقول- في أشباهٍ لهذا الكلام-: إذا كان في غضبٍ، أو جواب كلامٍ، لم أدينه في القضاء، وحكاه عن "أبي حنيفة" وقول "عمر" أولى بالاتباع.

643 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" - رحمه الله-: "أنه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم؟ قال: الفول، وما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. قال: يعني: ما لا يغطى من الشراب". وهكذا هو في الحديث. قال: حدثناه "هشيمٌ" قال: أخبرنا "داود بن أبي هندٍ" عن "أبي نضرة" عن "عبد الرحمن بن أبي ليلى" عن "عمر". قوله في تفسير الجدف: لم أسمعه إلا في هذا الحديث، وما جاء إلا وله أصلٌ، ولكن ذهب من كان يعرفه، ويتكلم به، كما قد ذهب من كلامهم شيءٌ كثيرٌ. وقد روي في تفسيره - أيضاً - غير هذا. زعم "علي بن عاصمٍ" عن "خالدٍ الحذاء" عن "أبي قلابة" أو عن "أبي نضرة" - شك أبو عبيد- عن "عبد الرحمن بن أبي ليلى" عن "عمر" مثل ذلك، إلا أنه قال في حديثه: الجدف: نباتٌ يكون باليمن،

يأكله الآكل فلا يحتاج معه إلى شرب ماءٍ.

644 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [-رضي الله عنه-]: "أن أصحاب "عبد الله" كانوا يرحلون إليه، فينظرون إلى سمته، وهديه، ودله [قال]: فيتشبهون به". قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "الأعمش" عن "إبراهيم" عن أصحاب "عبد الله" عن "عمر". قوله [451]: "إلى سمته": فالسمت يكون في معنيين، أحدهما: حسن الهيئة والمنظر في مذهب الدين، وليس من الجمال والزينة، ولكن تكون له هيئة أهل الخير، ومنظرهم.

وأما الوجه الآخر: فإن السمت: الطريق، يقال: الزم هذا السمت، وكلاهما له معنى جيدٌ، يكونُ: أن يلزم طريقة أهل الإسلام، ويكون: أن تكون له هيئة أهل الإسلام. وقوله: "إلى هديه ودله، فإن أحدهما قريب المعنى من الآخر، وهما من السكينة والوقار في الهيئة والمنظر، والشمائل، وغير ذلك، قال "الأخطل" يصف الثور والكلاب: حتى تناهين عنه سامياً حرجاً ... وما هدى هدى مهزومٍ وما نكلا يقول: لم يسرع إسراع المنهزم، ولكن على سكونٍ وحسن هديٍ. وقال "عديُّ بن زيدٍ" يمدح امرأةً بحسن الدل: لم تطلع من خدرها مبتغى خبـ ... ـب ولا ساء دلها في العناق ومنه حديث "سعدٍ" قال: حدثنا "ابن علية" عن "يونس" عن "عمرو بن سعيدٍ" قال: قال "سعدٌ": بينا أنا أطوف بالبيت، إذ رأيت امرأةً، فأعجبني دلها، فأردت أن أسأل عنها، فخفت أن تكون مشغولةً، ولا يضرك جمال امرأةٍ لا تعرفها.

645 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [- رضي الله عنه-]: "من لبد، أو عقص، أو ضفر، فعليه الحلق". هذا يروى عن "عمر" وعن "علي" وعن "ابن عمر". قال: حدثنا "هشيمٌ" قال: أخبرنا "حجاجٌ" عن "ابن أبي مليكة" عن "ابن الزبير" عن "عمر". قال "هشيمٌ": وأخبرنا "ليثٌ" عن "مجاهدٍ" عن "ابن عمر" مثله. قال: وحدثنا "حفص بن غياثٍ" عن "جعفرٍ" عن "أبيه" عن "علي" مثله. قوله: "لبد"، يعني: أن يجعل في رأسه شيئاً من صمغ وعسلٍ، أو

أحدهما، [453] ليتلبد، فلا يقمل، هكذا قال "يحيى بن سعيدٍ" وسألته عنه. وقال غيره: إنما التلبيد بقياً على الشعر؛ لئلا يشعث في الإحرام، فلذلك وجب عليه الحلق؛ شبيه بالعقوبة. وكان "سفيان بن عيينة" يقول بعض هذا. قال "أبو عبيد": وأما العقص والضفر، فهو: فتله، ونسجه. وكذلك التجمير. ومنه حديث "إبراهيم". قال: حدثنا "هشيمٌ" قال: أخبرنا "مغيرة" عن "إبراهيم" قال: "الضافر والملبد، والمجمر عليهم الحلق". وهذا الذي جاء في الضافر والمجمر يبين لك التلبيد أنه إنما يفعل ذلك بقيا على شعره؛ فلذلك ألزم الحلق. والعقص شبيهٌ بالضفر، إلا أنه أكثر منه، وهذا كله ضروبٌ من المشط. والعقص: أن يُلوى الشعر على الرأس؛ ولهذا قول النساء لها: عقصةٌ، وجمعها عقصٌ، وعقاصٌ، ومنه قول "امرئ القيس":

تضل العقاص في مثنى ومرسل 646 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه]: "ما تصعدتني خطبةً ما تصعدتني خطبة النكاح". قال: حدثنيه "حجاج" عن "حماد بن سلمة" عن "هشام بن عروة" عن "أبيه" عن "عمر". قوله: "ما تصعدتني" يقول: ما شقت علي، وكل شيء ركبته، أو فعلته بمشقةٍ عليك، فقد تصعدك، قال الله -تبارك وتعالى-: (ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء) ونرى أن أصل هذا من الصعود، وهي العقبة المنكرة الصعبة، يقال: وقعوا في صعودٍ منكرةٍ، وكؤودٍ مثله، وكذلك هبوط وحدور، وقال الله -تبارك وتعالى- (سأرهقه صعودًا). 647 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه]

في المضمضة للصائم، قال: "لا يمجه، ولكن يشربه، فإن أوله خيره". قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "منصورٍ" عن "سالم بن أبي الجعد" عن "عطاءٍ": أن "عمر" قال ذلك. قال "أبو عبيدٍ": هذه المضمضة: هي التي عند الإفطار، وإنما أراد أن يشرب قبل أن يمجه، فيذهب خلوف فمه. قال: وهكذا حدثناه "عباد بن العوام" عن "حصينٍ" عن "سالم بن أبي الجعد" أنه كره تلك المضمضة، وقال: ليشرب على خلقة فيه، وأما الصائم يشتد عطشه، فيمضمض، ثم يمجه؛ ليسكن العطش، فقد رويت فيه رخصة عن "عثمان بن أبي العاص" وهذه غير تلك. 648 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] أن "أسلم" كان يأتيه بالصاع من التمر، فيقول: "يا أسلم حت عنه قشره" قال: فأحسفه، فيأكله.

قال: حدثنيه "يزيد" عن "محمد بن مطرفٍ" عن "زيد بن أسلم" عن "أبيه" عن "عمر". قوله: "حت عنه" يقول: اقشره، وكل شيءٍ قشرته عن شيءٍ فقد حتته عنه. وقوله: "فأحسفه، فيأكله" هذا مأخوذ من الحسافة، وهي قشور التمر، ورديئه الذي تخرجه منه إذا نقيته. يقال منه: حسفت التمر أحسفه حسفًا. وفي هذا الحديث ما يبين لك أنهم كانوا يتوسعون في المطعم إذا أمكنهم. 649 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] أنه قال "لمالك بن أوس" [بن الحدثان]: "يا مال" إنه قد دفت علينا من قومك دافة، وقد أمرنا لهم برضخٍ، فاقسمه فيهم".

قال "أبو عمرو": الدافة: القوم يسيرون جماعةً، سيرًا ليس بالشديد، يقال: هم يدفون دفيفًا. ومنه الحديث المرفوع: "أن أعرابيًا قال: يا رسول الله: هل في الجنة إبل؟ فقال: نعم، إن فيها لنجائب تدف بركبانها في الجنة". 650 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] في الجالب، قال: "يأتي أحدهم به على عمود بطنه". قال "أبو عمرو": عمود بطنه: هو ظهره، يقال: إنه الذي يمسك البطن، ويقويه، فصار كالعمود له. قال "أبو عبيدٍ" والذي عندي في عمود بطنه: أنه أراد أن يأتي به على مشقةٍ وتعبٍ، وإن لم يكن ذلك على ظهره، وإنما هذا مثل.

651 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] "أنه سأل جيشًا: هل يثبت لكم العدو قدر حلب شاةٍ بكيئةٍ؟ فقالوا: نعم. فقال: غل القوم". [قال "أبو عبيد": قوله: "شاة بكيئة": هي القليلة اللبن. ويقال: ما كانت بكيئةً، ولقد بكؤت تبكؤ بكأً: إذا قل لبنها، وكذلك الإبل، قال الشاعر: وليأزلن وتبكؤن لقاحه ... ويعللن صبيه بسمار قوله: ليأزلن، أي: يصيبه الأزل، وهو الشدة، والسمار: اللبن الممزوج بالماء.

652 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] أنه مر "بضجنان" فقال: "لقد رأيتني بهذا الجبل احتطب مرةً، واختبط أخرى، على حمارٍ "للخطاب"، وكان شيخًا غليظًا، فأصبحت، والناس بجنبتي ليس فوقي أحد". قال: حدثناه "عباد بن عبادٍ" عن "محمد بن عمروٍ" عن "يحيى بن عبد الرحمن بن حاطبٍ" عن "أبيه" عن "عمر". وفي غير حديث "عبادٍ": "بجنبتي الناس، ومن لم يكن يبخع لنا بطاعة". قال "أبو زيدٍ": قوله: "يبخع لنا بطاعةٍ" قال: يقال: قد بخع الرجل للرجل بالطاعة: إذا أقر له بها، وانقاد.

وقوله: "اختبط": اضرب الخبط من الشجر، وهو علف الإبل. 653 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] أنه قال -في متعة الحج-: "قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلها وأصحابه، ولكني كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الأراك، ثم يلبون بالحج تقطر رؤوسهم". قال "أبو عبيد": المعرس: الذي يغشى امرأته، وأصله من العرس، شبه بذلك. وإنما نهى عن هذا؛ لأنه كره المتعة، [يقول]: فإذا حل من عمرته، أتى النساء، ثم أهل بالحج، فنهى عن ذلك، وقد رويت عنه الرخصة فيه. 654 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" -رحمه الله- أنه قال: "نعم المرء "صهيب" لو لم يخف الله لم يعصه".

قال "أبو عبيد": المعنى والوجه فيه: أن "عمر" [رضي الله عنه] أراد أن "صهيبًا" إنما يطيع الله [تبارك وتعالى] حبًا له، لا مخافة عقابه، يقول: فلو لم يكن عقاب يخافه ما عصى الله [عز وجل] أيضًا. ومثل ذلك حديث يروى عن بعضهم، أنه قال: "ما أحب أن أعبد الله لطمع في ثوابٍ، ولا مخافة عقابٍ، فأكون مثل عبد السوء، إن خاف مواليه أطاعهم، وإن لم يخفهم عصاهم، ولكني أريد أن أعبد الله حبًا له". 655 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه]: أنه أتى بسكران في شهر رمضان، فقال: "للمنخرين للمنخرين، أصبياننا

صيام وأنت مفطر". قال: حدثناه "أبو إسماعيل المؤدب" عن "الأجلح" عن "ابن أبي الهذيل" عن "عمر". قوله: "للمنخرين" معناه: الدعاء عليه، كقولك: بعدًا له وسحقًا، أي: أبعده الله، وأسحقه، وكذلك: كبه الله للمنخرين، ونحو هذا. ومنه حديث "عائشة" -حين قيل لها: إن فلانًا قتل، فقالت: "لليدين وللفم". أي: كبه الله ليديه وفمه، وقال "أبو المثلم الهذلي": أصخر بن عبد الله من يغو سادرًا ... يقل -غير شك- لليدين وللفم

656 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] أنه قال: "يا آل خزينة! أصبحوا" وفي بعض الحديث "حصبوا". قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "واصلٍ الأحدب" عن "المعرور" أنه سمع "عمر" يقول ذلك. [قال "أبو عبيد"]: يعني بذلك التحصيب، والتحصيب -إذا نفر الرجل من "منى" إلى "مكة" للتوديع-: أن يقيم بالشعب الذي يخرجه إلى الأبطح، حتى يهجع بها من الليل ساعة، ثم يدخل مكة، وكان هذا شيئًا يفعل، ثم ترك، وهو الذي قالت فيه "عائشة": "ليس التحصيب بشيء إنما كان منزلاً نزله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه كان أسمح للخروج". قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "هشام بن عروة" عن "أبيه" عن "عائشة". قال "ابن مهدي": فكأن "عمر" إنما خص "بني خزيمة" أن يقيموا بالأبطح حتى يصبحوا.

قال: حدثني "يحيى بن سعيدٍ" عن "شريكٍ" عن "زياد بن علاقة" عن "المعرور" عن "عمر"، قال: "من شاء فلينفر في النفر الأول، إلا "بني أسد بن خزيمة". قال "أبو عبيدٍ": فوجه هذا عندنا أنه إنما أراد "بني خزيمة"، وهم "قريش" و"كنانة" وليس فيهم "أسد": وذلك أن منازل "قريشٍ" و"كنانة" "الحرم" وما حوله، فكره لهم أن يعجلوا النفر؛ لقرب دارهم، ورخص لمن بعدت داره، وليست "لبني أسدٍ" هناك دار، إنما هم "بنجدٍ" فكيف خصهم بالكراهة؟ لا أعرف لهذا وجهًا إلا ما ذكرنا. قال "أبو عبيدٍ" والمحفوظ عندنا هو الأول الذي لا ذكر "لبني أسدٍ" فيه. 657 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] أنه كان يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، وقال: "ما من أيامٍ أقضى فيهن رمضان أحب إلي منها".

قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "الأسود بن قيسٍ" عن "أبيه" عن "عمر". قال "أبو عبيدٍ": نرى أنه كان يستحبه؛ لأنه كان لا يحب أن يفوت الرجل صيام العشر، ويستحبه نافلة، فإذا كان عليه شيء من رمضان كره أن يتنفل، وعليه من الفريضة شيء، فيقول: يقضيها في العشر، فلا يكون أفطرها، ولا يكون بدأ بغير الفريضة، فيجتمع له الأمران، وليس وجهه عندي أنه كان يستحب تأخيرها عمدًا إلى العشر، ولكن إنما هذا لمن فرط حتى يدخل العشر. وكان "علي" [رحمة الله عليه] يكره قضاء رمضان في العشر، وذلك لأن رأى "علي" [رحمة الله عليه] كان "علي" ألا يقضي رمضان متفرقًا، فيقول: إن صام العشر، ثم جاء العيد، وقد بقيت عليه أيام، لم يستقم له أن يصوم يوم النحر، لما فيه من النهي، ولم يستقم له أن يفطر، فيكون قد فرق قضاء رمضان وذلك عنده مكروه، فلهذا كره قضاء رمضان في العشر، إن شاء الله.

658 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] أنه لما توفى "النبي" -صلى الله عليه وسلم-، قام "أبو بكرٍ" فتلا هذه الآية في خطبته: (إنك ميت وإنهم ميتون). قال "عمر": "فعقرت حتى خررت إلى الأرض". قال "أبو عبيدٍ": قوله: "عقرت"، يقال للرجل إذا بقى متحيرًا دهشًا: قد عقر، وكذلك: بعل، وخرق، كل هذا بمعنىً. 659 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] أنه كتب إلى "أبي عبيدة" وهو بالشام -حين وقع بها الطاعون-: "إن

الأردن أرض غمقة، وأن الجابية أرض نزهة، فاظهر بمن معك من المسلمين إلى الجابية". قال "أبو عبيد": قوله: "غمقة" يعني: الكثيرة الأنداء والوبأ، وأما النزهة: فالبعيدة من الأنداء والوبأ، ولم يرد النزهة من الخضرة، والبساتين، إنما [أراد] البعد من الوبأ، وأصل التنزه هو التباعد، ومن هذا قيل: فلان ينزه نفسه عن الأقذار، إنما معناه: يباعد نفسه منها. [الوبأ مهموز مقصور]. 660 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه]: "أنه كان يسجد على عبقري".

قال حدثنيه "يحيى بن سعيدٍ" عن "سفيان" عن "توبة العنبري" عن "عكرمة بن خالد" عن "عبد الله بن عمار": أنه رأى "عمر" فعل ذلك. قال "يحيى": "هو عبد الله بن أبي عمار"، ولكن "سفيان" قال: "عبد الله بن عمار". قال "أبو عبيد": قوله: "عبقري" هو: هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش، والعبقري جمع، واحدته عبقرية، وكذلك الرفرف جمع، واحدته رفرفة، زعم ذلك "الأحمر". قال "أبو عبيد": وإنما سمي عبقريًا -فيما يقال-: إنه نسبه إلى بلادٍ يقال لها "عبقر"، يعمل بها الوشى، وقد ذكروا ذلك في أشعارهم، قال "ذو الرمة" يصف رياضًا ببلادٍ شبهها بوشى عبقر [فقال]: حتى كأن رياض القف ألبسها ... من وشى عبقر تجليل وتنجيد وقال "لبيد" في مثل هذا المعنى: وغيث بدكداكٍ بزين وهاده ... نبات كوشي العبقري المخلب يعني بالمخلب: الكثير الوشى.

قال "أبو عبيدٍ": وقد نسبت العرب إلى "عبقرٍ" غير الوشى أيضًا، فقال "زهير" يصف فرسانًا: بخيلٍ عليها جنة عبقرية ... جديرون يومًا أن ينالوا فيستعلوا وهو في الحديث المرفوع في ذكر "عمر": "فلم أر عبقريًا بفرى فرية". قال "أبو عبيد": فأراهم ينسبون إليها كل شيءٍ يريدون مدحه، ويرفعون قدره، وما وجدنا أحدًا يدري أين هذه البلاد، ومتى كانت، فالله أعلم. 661 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه]: "أنه رمى الجمرة بسبع حصياتٍ، ثم مضى، فلما خرج خرج من فضض الحصى، وعليه خميصة سوداء، أقبل على "سلمان بن ربيعة" فكلمه بكلامٍ، قد ذكره". قال: حدثنيه "حجاج" عن "ابن جريجٍ" عن "هارون بن أبي عائشة" عن "عدي بن عدي" عن "سلمان بن ربيعة" عن "عمر".

قال "أبو عبيد": قوله: "فضض الحصى" يعني: المتفرق المتكسر، وكل شيءٍ تفرق من شيءٍ، فقد انفض منه، وقال الله -تبارك الله-: (ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك). ومنه قول "عائشة" [رحمها الله] "لمروان": "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبيك كذا، وكذا، فأنت فضض منه". قال: حدثنيه "حجاج" عن "أبي معشرٍ". وكذلك الفضيض هو مثل الفضض. 662 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] حين قال لفلانٍ، وذكر شيئًا، فقال له "عمر": "بل تحوسك فتنة".

قال "العدبس الأعرابي الكناني": قوله: "بل تحوسك فتنة" يقول: تخالط قلبك، وتحثك، وتحركك على ركوبها". وقال "أبو عمروٍ" في الحوس، مثل قول "العدبس" أو نحوه. قال "أبو عبيد": الحوس، والجوس بمعنىً واحدٍ، وهو كل موضعٍ خالطته، ووطئته، فقد حسته، وجسته سواء، قال الله "تبارك وتعالى": (بعثنا عليكم عبادًا لنا أولى بأسٍ فجاسوا خلال الديار (وكان وعدًا مفعولاً). ومنه قول الشاعر: نجوس عمارةً ونكف أخرى ... لنا -حتى نجاوزها- دليل قوله: نجوس عمارةً، أي: نخالطها ونطؤها، حتى نبلغ ما نريد منها. ونكف أخرى، يقول: نأخذ في كفتها، وهي ناحيتها، ثم ندعها ونحن نقدر عليها. وقال "ابن الكلبي": العمارة: هي أكثر من القبيلة. قال "أبو عبيد": فهذا الجوس.

وقال "الحطيئة" في الحوس يذم رجلاً: رهط ابن افعل في الخطوب أذلة ... دنس الثياب قناتهم لم تضرس بالهمز من طول الثقاف وجارهم ... يعطي الظلامة في الخطوب الحوس يعني الأمور التي تنزل بهم، فتغشاهم، وتخلل ديارهم. 663 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] حين سئل عن الجراد، فقال: "وددت لو أن عندنا منه قفعةً، أو قفعتين". قال "أبو عبيد": القنعة: شيء شبيه بالزبيل، ليس بالكبير، يعمل من خوصٍ، وليست له عرىً، وهو الذي يسميه الناس "بالعراق" القفة.

664 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] حين أتاه "أذينة العبدي"، فقال له: إني حججت من "رأس هر" أو "خارك" أو بعض هذه المزالف، فقلت "لعمر": من أين اعتمر؟ فقال: ايت "عليا" [رحمة الله عليه] فاسأله"، فسألته، فقال: "من حيث ابدأت". قال "أبو عبيد": قوله: "رأس هر" أو "خارك": هما موضعان من ساحل "فارس" يرابط فيهما. وأما المزالف، فإن "أبا عمروٍ" قال: هي كل قريةٍ تكون بين البر وبلاد الريف، يقال لها: المزالف، قال: المذارع أيضًا، قال: يعني مثل "الأنبار"، و"عين التمر" و"الحيرة" وما أشبه ذلك.

665 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه]: حين قال: "لعن الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها، فباعوها". قال "أبو عبيد": جملوها، يعني: أذابوها، وفيه لغتان، يقال: جملت الشحم، وأجملته: إذا اذبته، واجتملته أيضًا، قال "لبيد":

وغلامٍ أرسلته أمه ... بألوكٍ فبذلنا ما سأل أو نهته فأتاه رزقه ... فاشتوى ليلة ريحٍ واجتمل 666 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" -رحمه الله-: "أنه نهى عن المكايلة" بالياء. قال "أبو عبيدٍ": والمحدثون يفسرونه: المقايسة، وإنما معناه المقايسة بالقول، وأصل ذلك إنما هو مأخوذ من الكيل في الكلامٍ، يعني أن تكيل له كما يكيل لك، وتقول له كما يقول لك، ويكون هذا في الفعل أيضًا. قال "أبو قيس بن الأسلت": لا نألم القتل ونجزي به الـ ... أعداء كيل الصاع بالصاع

فالذي أراد "عمر": الاحتمال، وترك المكافأة بالسوء. 667 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه]: "ليس الفقير الذي لا مال له، إنما الفقير الأخلق الكسب". قد تأوله بعضهم على ضعف الكسب، ولست أرى هذا شيئًا، من جهتين: إحداهما: أنه ذهب إلى مثل خلوقة الثوب، ولو أراد ذلك، لقال: الخلق الكسب؛ لأنه إنما يقال: ثوب خلق، ولا يقال: ثوب أخلق، إلا أن تريد أن الثوب فعل ذلك، فإنه [قد] يقال: قد خلق الثوب، وأخلق، ولا يقال: هذا ثوب أخلق. والجهة الأخرى: أنه إذا حمله على هذا، فقد رد المعنى إلى الفقر أيضًا، فكيف يقول: الفقير الذي لا مال له، والذي لا يكتسب المال.

ولكن وجهه عندي: أنه جعله مثلاً للرجل الذي لا يزرأ في ماله، ولا يصاب بالمصائب، وأصل هذا أنه يقال للجبل المصمت -الذي لا يؤثر فيه شيء-: اخلق" والصخرة خلقاء: إذا كانت كذلك، قال "الأعشى": قد يترك الدهر في خلقاء راسيةٍ ... وهيًا وينزل منها الأعصم الصدعا فأراد "عمر" أن الفقر الأكبر إنما هو فقر الآخرة، لمن لم يقدم من ماله شيئًا يثاب عليه هناك. وهذا كنحو حديث "النبي" -عليه السلام-: "ليس الرقوب الذي لا يبقى له ولد، إنما الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئًا". 668 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عمر" [رضي الله عنه] حين أراد أن يدخل الشام، وهي تستعر طاعونًا، فقال له أصحاب "النبي" -عليه السلام-: "إن من معك من أصحاب "النبي" [صلى الله عليه وسلم] قرحانون، فلا تدخلها".

[قال أبو عبيد]: القرحانون: أصله في الجدري، يقال للصبي إذا لم يصبه منه شيء: قرحان، فشبهوا من لم يصبه الطاعون، أو يكون من أهل بلادٍ ليس بها الطاعون، بالذي لم يصبه الجدري. يقال منه: رجل قرحان، وكذلك يقال للمرأة، وللجميع من الرجال: قوم قرحان، هذا أكثر كلام العرب، وقد قال بعضهم: قوم قرحانون على ما جاء في الحديث.

أحاديث عثمان بن عفان رضي الله عنه

أحاديث عثمان بن عفان رضي الله عنه

669 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث عثمان [بن عفان]-رحمه الله- حين أرسل "سليط بن سليطٍ" و"عبد الرحمن بن عتابٍ" إلى "عبد الله بن سلامٍ" فقال: "ايتياه، فتنكرا، وقولا: إنا رجلان أتاويان، وقد صنع الناس ما ترى، فما تأمر؟ فقالا له ذلك، فقال: لستما بأتاويين، ولكنكما فلان، وفلان، وأرسلكما أمير المؤمنين". قال: حدثناه "ابن علية" عن "أيوب" عن "ابن سيرين" عن "عثمان". قال "الكسائي": الأتاوى: الغريب الذي هو في غير وطنه، وأنشدنا -هو- "وأبو الجراح العقيلي"، أو أحدهما -يصف الإبل أنها قطعت بلادًا حتى صارت في القفار، فقال: يصبحن بالقفر أتاويات هيهات من مصبحها هيهات هيهات حجر من صنيبعات

[قال: تخفض هيهات، وترفع، وتنصب]. يقول: إنها أصبحت بالقفر غرائب في غير أوطانها، وأنشدوا "أتاوياتٍ" بالفتح، وأما الحديث فيروى بالضم: أتاويان، وكلام العرب بالفتح. وفي هذا الحديث من الفقه: قوله لهما: قولا: إنا رجلان أتاويان، وهما من أهل المصر، وهذا عندي من المعاريض، إنما أولته أنه أراد أنا غريبان في هذا المكان الذي نحن فيه الساعة، وكل من خرج إلى غير موضعه، فهو أتاوى. وهذا عندي شبيه بقول "إبراهيم" إنه كان متواريًا فكان أصحابه يدخلون عليه، فإذا خرجوا من عنده، يقول لهم إن سئلتم عني، فقولوا: لا ندري أين هو، فإنكم لا تدرون إذا خرجتم إلى أين أتحول، وإنما تحوله من موضعٍ في الدار إلى موضعٍ فيها آخر. وكقول غيره، وأتاه رجل يطلبه، فكره الخروج إليه، فأدار دارةً، ثم قال: قولوا: ليس هو ها هنا، وأشار إلى الدارة، وفي أشباهٍ لهذا من المعاريض كثيرة. 670 - وقال "أبو عبيد" في حديث "عثمان" -رحمه الله-:

قال: "إذا وقعت السهمان، فلا مكابلة". قال "الأصمعي": تكون المكابلة في معنيين: تكون من الحبس، يقول: إذا حدثت الحدود، فلا يحبس أحد عن حقه. وأصل هذا من الكبل، وهو القيد، وجمعه كبول، والمكبول: المحبوس، قال: وأنشدني "الأصمعي": إذا كنت في دارٍ يهينك أهلها ... ولم تك مكبولاً بها فتحول قال "الأصمعي": والوجه الآخر: أن تكون المكابلة من الاختلاط، وهو مقلوب من قولك: لبكت الشيء، وبكلته: إذا خلطته. يقول: فإذا حدت الحدود، فقد ذهب الاختلاط. قال "أبو عبيدة" هو من الكبل، ومعناه: الحبس عن حقه، ولم يذكر الوجه الآخر. قال "أبو عبيدٍ": وهذا عنده هو الصواب الذي أجمعا عليه. وأما التفسير الآخر، فإنه عندي غلط، لو كان من بكلت، أو لبكت لكان مباكلة أو ملابكة، وإنما الحديث مكابلةً. والذي في هذا الحديث من الفقه: أن "عثمان بن عفان" [رحمه الله] كان لا يرى الشفعة للجار، إنما يراها للخليط المشارك، وهو بين في حديث له آخر.

قال حدثناه "عبد الله بن إدريس" عن "محمد بن عمارة" عن "أبي بكر ابن حزمٍ" أو عن "عبد الله بن أبي بكرٍ" -الشك من "أبي عبيدٍ"- عن "أبان بن عثمان" عن "عثمان" قال: "لا شفعة في بئرٍ، ولا فحلٍ، والأرف تقطع كل شفعةٍ". قال "ابن إدريس": الأرف: المعالم. وقال "الأصمعي": هي المعالم والحدود، قال: وهذا كلام "أهل الحجاز". يقال منه: أرفت الدار والأرض تأريفًا: إذا قسمتها وحددتها. وقال "ابن إدريس": وقوله: "ولا شفعة في بئرٍ، ولا فحلٍ" قال: أظن الفحل فحل النخل. قال "أبو عبيد": وتأويل البئر عندنا: أن تكون البئر بين نفرٍ، ولكل رجلٍ من أولئك النفر حائط على حدةٍ ليس يملكه غيره، وكلهم يسقى حائطه من هذه البئر، فهم شركاء فيها، وليس بينهم في النخل شرك، فقضى "عثمان" أنه إن باع رجل منهم حائطه، فليس لشركائه في البئر شفعة في الحائط من أجل شركه في البئر.

وأما قوله: "في الفحل": فإنه من النخل، كما قال "ابن إدريس"، ومعناه: الفحل يكون للرجل في حائط قومٍ آخرين لا شرك له فيه إلا ذلك الفحل، فإن باع القوم حائطهم، فلا شفعة لرب الفحل فيه من أجل فحله ذلك. وقد يقال للحصير: فحل، وإنما نرى أنه إنما سمي فحلاً؛ لأنه يعمل من فحول النخل. ومن ذلك حديث يروى عن "النبي" -عليه السلام-: "أنه دخل على رجلٍ من الأنصار، وفي ناحية البيت فحل من تلك الفحول، فأمر بناحيةٍ منه فرشت، ثم صلى عليه".

قال: حدثناه "معاذ" عن "ابن عونٍ" أحسبه عن "أنس بن سيرين" عن "عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن "أنس [بن مالكٍ] ". إذا أنه قال في حديث معاذٍ: حصير، وفي حديث غيره فحل. يقال: إنما سمي الحصير فحلاً؛ لأنه يعمل من سعف الفحل من النخيل. وهو في بعض الحديث، قال: "وفي البيت حصير" فهذا مفسر، وقد دلك على أن الفحل في ذاك الحديث: الحصير. ويقال للفحل فحال، فإذا جمع قيل: فحاحيل. 671 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" [رحمه الله] أنه قال: "بلغني أن ناسًا منكم يخرجون إلى سوادهم، إما في تجارةٍ، وإما في جبايةٍ، وإما في جشرٍ، فيقصرون الصلاة، فلا تفعلوا، فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو".

قال: حدثناه "ابن علية" عن "أيوب" عن "أبي قلابة" قال: حدثني من قرأ كتاب "عثمان" -أو قرئ عليه- بذلك. قوله: الجشر: هم القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى، قال "الأخطل" يذكر قتل "عمير بن الحباب": يسأله الصبر من غسان إذ حضروا ... والحزن كيف قراه الغلمة الجشر يعرفونك رأس ابن الحباب وقد ... أمسى وللسيف في خيشومه أثر قوله: "الصبر" قال "ابن الكلبي": هي قبائل من "غسان" معلومةً مسماة، يقال لهم: "الصبر". قال: وكذلك "الحزن": هم قبائل من "غسان" أيضًا. قال "أبو عبيدٍ" وفي هذا الحديث من الفقه: أنه لم ير التقصير إلا لمن كانت غيبته تبلغ أن تكون سفرًا؛ ألا تراه يقول: "فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا".

وفي قوله: "أو بحضرة عدو": فقه أيضًا؛ أنه يقصر الصلاة، وإن كان مقيمًا، إذا كان بحضرة العدو. [ولك] فيه ثلاث لغاتٍ: قصر، وتقصير، وإقصار، والوجه عندنا قصر. 672 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" -رحمه الله-: "أنه غطى وجهه بقطيفة حمراء أرجوانٍ، وهو محرم". قال: حدثناه "ابن علية" عن "عبد الله بن أبي بكر بن حزمٍ" عن "عبد الله بن عامر بن ربيعة" أنه رأى "عثمان" يفعل ذلك. قوله: "الأرجوان": هو الشديد الحمرة، ولا يقال لغير الحمرة: أرجوان، والبهرمان: دونه بشيءٍ في الحمرة، والمفدم: المشبع حمرةً.

ومنه حديث "عروة" قال: حدثنيه "محمد بن كثيرٍ" عن "حماد بن سلمة" عن "هشام بن عروة" عن "أبيه" أنه كره المفدم للمحرم، ولم ير بالمضرج بأسًا. قال "أبو عبيدٍ" والمضرج: دون المشبع، ثم المورد بعده. قال "أبو عبيدٍ" وفي حديث "عثمان [رضي الله عنه] " من الفقه: أنه لم ير بالجمرة للمحرم بأسًا إذا لم يكن ذلك من طيبٍ. ومنه حديث "طلحة بن عبيد الله" [رحمه الله] أنه لبس ثوبين ممشقين، وهو محرم، فأنكر ذلك عليه "عمر" فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هما بمشقٍ. وكذلك حديث "جابر بن عبد الله": "كنا نلبس الممشق في الإحرام، إنما هو مدر".

وفي الحديث أيضًا رخصة في تغطية المحرم وجهه، كأنه يرى أن الإحرام إنما هو في الرأس خاصة. والناس على حديث "ابن عمر" في هذا لقوله: "إن الذقن من الرأس، فلا تخمروه" فصار الإحرام في الوجه والرأس جميعًا. قال: سمعت محمد [بن الحسن] يفتي بذلك، ويحدثه عن "مالكٍ" عن "نافعٍ" عن "ابن عمر". 673 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" [رحمه الله]: "أنه رفع إليه رجل قال لرجلٍ: يا بن شامة الوذر فحده".

من حديث "وهب بن جريرٍ" عن "أبيه" عن "حميد بن هلالٍ" عن "عثمان". قال ["أبو عبيد" و]: الوذرة: القطعة من اللحم مثل الفدرة، والوذر قطع واحدتها وذرة. قال "أبو عبيد": وهي كلمة معناها القذف، فكني عن القذف بها، وكانت العرب تساب بها. وكذلك إذا قال له: يا بن ذات الراية، وذلك أن النساء الفواجر في الجاهلية كن ينصبن لأنفسهن راياتٍ تعرف بها مواضعهن. قال "أبو عبيدٍ": وكذلك إذا قال: يا ابن ملقى ارحل الركبان، هذا كله كناية عن القذف، وإياه يريدون. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه إذا قذف رجل رجلاً بغير لفظ الزنا، إلا أن المعنى ذاك بعينه أنه والمصرح به سواء. وكذلك الحديث الآخر -عن غيره- في رجلٍ قال لرجلٍ: يا روسبي، فضربه الحد، فهذا شبيه بذاك.

وأما "أهل العراق" فلا يرون الحد إلا في التصريح بالزنا، وفي نفي الرجل عن أبيه. 674 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" -رحمه الله-: أنه لما نشم الناس فيه، جاء "عبد الرحمن بن أبزي" إلى "أبي بن كعبٍ"، فقال [له]: أبا المنذر ما المخرج؟ قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "أسلم المنقري" عن "عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي" عن "ابيه" إلا أن "ابن مهدي" قال: لما وقع الناس في أمر "عثمان"، وقال غيره: لما نشم الناس في أمر "عثمان". قوله: " [لما] نشم الناس" يعني: طعنوا فيه، ونالوا منه. قال: وأخبرني "الأصمعي" عن "أبي عمرو بن العلاء" أنه كان يقول في قول "زهيرٍ": تدراكتما عبسًا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

قال: هو من ابتداء الشر. يقال: قد نشم القوم في الأمر تنشيمًا: إذا أخذوا في الشر، ولم يكن يذهب إلى أن "منشم" امرأة، كما يقول غيره. قال: وأخبرنا "ابن الكلبي" في قوله "عطر منشم" قال: "منشم" امرأة من "حمير" أو قال: من "همدان"، وكانت تبيع الطيب، فكانوا إذا تطيبوا بطيبها اشتدت حربهم، فصارت مثلاً في الشر. 675 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" -رحمه الله-: "أنه بينما هو يخطب ذات يومٍ، فقام رجل، فنال منه، فوذاه "ابن سلامٍ" فاتذا، فقال له رجل: لا يمنعنك مكان "ابن سلامٍ" أن تسب نعثلاً، فإنه من شيعته". قال "ابن سلامٍ": فقلت له: لقد قلت القول العظيم يوم القيامة في الخليفة من بعد "نوحٍ".

قال: حدثنيه "يزيد" عن "مهدي بن ميمونٍ" عن "محمد بن عبد الله ابن أبي يعقوب" عن "بشر بن شغافٍ" عن "عبد الله بن سلامٍ". قال "الأموي" و"ابن الكلبي" وغيرهما، ذكر كل واحدٍ منهم بعض هذا الكلام. قوله: "فوذاه فاتدأ"، يقال: وذات الرجل: إذا زجرته، وقمعته، وقوله: "اتدأ" يعني: انزجر. وقوله: "أن تسب نعثلاً" قال "ابن الكلبي": إنما قيل له: نعثل؛ لأنه كان يشبه برجلٍ من أهل مصر اسمه "نعثل" وكان طويل اللحية، فكان "عثمان" إذا نيل منه وعيب، شبه بذلك الرجل؛ لطول لحيته، ولم يكونوا يجدون عيبًا غير هذا. وقال بعضهم: إن "نعثلاً" من أهل "أصبهان" ويقال في "نعثلٍ": إنه الذكر من الضباع. وأما قول: "ابن سلامٍ": "الخليفة من بعد نوحٍ": فإن الناس اختلفوا في معناه. وأما أنا فإنه عندي أنه أراد بقوله "نوحًا": "عمر بن الخطاب"، وذلك لحديث "النبي" -صلى الله عليه وسلم- حين استشار "أبا بكرٍ"

و"عمر" [رضي الله عنهما] في أساري "بدرٍ" فأشار عليه "أبو بكرٍ" بالمن عليهم، وأشار عليه "عمر" بقتلهم، فقال "النبي" [صلى الله عليه وسلم] وأقبل على "أبي بكرٍ": " إن إبراهيم كان ألين في الله من الدهن باللبن" ثم أقبل على "عمر"، فقال: "إن "نوحًا" كان أشد في الله من الحجر". قال "أبو عبيدٍ": فشبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أبا بكرٍ" "بإبراهيم" و"عيسى" حين قال: (إن تعذبهم، فانهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). وشبه "عمر" "بنوحٍ" حين قال: (لا تذر على الأر من الكافرين ديارًا). فأراد "ابن سلامٍ" أن "عثمان" خليفة "عمر". وقوله: "يوم القيامة"، أراد: يوم الجمعة، وذلك أن الخطبة كانت يوم جمعةٍ. ويبين ذلك حديث آخر، يروى عن "كعبٍ": "أنه رأى رجلاً يظلم رجلاً يوم جمعةٍ، فقال: "ويحك أتظلم رجلاً يوم القيامة؟ ".

676 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" [رحمه الله] أنه لما حصر كان "علي" [رضي الله عنه] يومئذ غائبًا في مالٍ له، فكتب إليه "عثمان": أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين، فإذا أتاك كتابي هذا فأقبل إلي، علي كنت أم لي. فإن كنت مأكولاً فكن خير آكلٍ ... وإلا فأدركني ولما أمزق قال ["أبو عبيدٍ"]: حدثنيه "أبو إبراهيم" -وكان من أهل العلم- بإسناد لا أحفظه. قوله: " [قد] بلغ السيل الزبى": فإنه زبى الأسد التي تحفر لها، وإنما جعلت مثلاً في بلوغ السيل إليها؛ لأنها إنما تجعل في الروابي من الأرض، ولا تكون في المنحدر، وليس يبلغها إلا سيل عظيم. وقوله: "وجاوز الحزام الطبيين"، يعني: أنه قد اضطرب من شدة السير حتى خلف الطبيين من اضطرابه، [ولا يمكنه النزول، فيشده، من شدة الحرب]، يضرب هذا المثل للأمر الفظيع الفادح الجليل.

وأما قوله: فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق فإن هذا بيت تمثل به لشاعرٍ من "عبد القيس" جاهلي، يقال له: "الممزق" وإنما سمي ممزقًا لبيته هذا، قال: وقال "الفراء": الممزق [بالفتح]. 677 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" [رحمه الله]: عند مقتله حين قال: "فتغاووا -والله- عليه حتى قتلوه". قال: حدثناه "ابن عليه" عن "ابن عونٍ" عن "الحسن" قال: أنبأني "وثاب"، ثم ذكر حديثًا طويلاً في مقتله. قوله: "فتغاووا عليه"، فالتغاوي: هو التجمع، والتعاون على الشر.

وأصله من الغواية أو الغي، يبين ذلك شعر لأخت "المنذر بن عمروٍ الأنصاري" قالته في أخيها، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث "المنذر بن عمروٍ الأنصاري" إلى "بني عامر بن صعصعة" فاستنجد "عامر بن الطفيل" عليه -وعلى أصحابه- قبائل من "سليم" من "عصية" و"رعلٍ" و"ذكوان"، فقتلوا "المنذر" وأصحابه، فهم الذين دعا عليهم "النبي" -صلى الله عليه وسلم- أيامًا، فقالت أخته ترثيه: تغاوت عليه ذئاب الحجاز ... بنو بهثةٍ وبنو جعفر "بهثة": من "بني سليم" و"جعفر" من "بني عامر بن صعصعة" ويقال من ذلك: غويت أغوى غيًا، وبعض الناس يقول: غويت أغوي لغة وليست بمعروفةٍ، [قال الله -عز وجل-: (اغويناهم كما غوينا)]. 678 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" [رضي الله عنه] حين قال فيه فلان بعرض به، قال: "إني لم أفر "يوم عينين".

فقال "عثمان" [رضي الله عنه]: "فلم تعيرني بذنبٍ؛ وقد عفا الله عنه". قال "أبو عبيد": "عينين" جبل بأحدٍ قام عليه "إبليس" فنادى أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد قتل. قال "أبو عبيد": وفي حديث المغازي: أن "النبي" -عليه السلام- كان أقام الرماة يوم أحدٍ على هذا الجبل. 679 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "عثمان" [رحمه الله] و"زيد بن ثابتٍ" في قولهما: "الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء".

قال "أبو عبيد": معناه: أن تكون الحرة امرأة مملوكٍ، فإن طلقها اثنتين بانت منه، حتى تنكح زوجًا غيره؛ لأنه إنما ينظر إلى الزوج، وهو مملوك، وطلاقه ثنتان. وقوله "والعدة بالنساء"، يقول: إنها تعتد عدة حرةٍ: ثلاث حيضٍ؛ لأنها حرة. قال "أبو عبيدٍ": وإن كانت مملوكة تحت حر، فإنها لا تبين منه بأقل من ثلاث؛ لأن زوجها حر، وتعتد حيضتين؛ لأنها مملوكة. وأما قول "علي" و"عبد الله" [رحمهما الله] فإنهما قالا: "الطلاق والعدة بالنساء". يقولان: لا تبين الحرة تحت المملوك بأقل من ثلاثٍ، كما تكون تحت الحر. وتبين الأمة تحت الحر باثنتين، لا ينظران إلى الرجل في شيءٍ من الطلاق والعدة، وإنما ينظران إلى سنة النساء، وهذا قول "أهل العراق"، وأما "أهل الحجاز" فيأخذون بقول "عثمان" و"زيدٍ".

وقد روى عن "ابن عمر" خلاف هذين القولين. قال: حدثناه "إبراهيم بن سعدٍ" عن "الزهري" عن "سالم بن عبد الله" عن "ابن عمر" قال: "يقع الطلاق بمن رق منهما". قال "أبو عبيدٍ": يقول: إن كانت مملوكة تحت حر بانت بتطليقتين؛ لأنها هي التي رقت، وكذلك إن كانت حرةً تحت عبدٍ بانت باثنتين أيضًا: لأنه هو الرقيق، وليس الناس على هذا.

أحاديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه

أحاديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه

680 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي بن أبي طالب" [رحمة الله عليه] قال: "لأن أطلي بجواء قدرٍ أحب إلي من أن أطلي بزعفرانٍ". هكذا يروى الحديث بجواء. هو من حديث "وكيعٍ" عن "كاملٍ أبي العلاء". قال: سمعت "الأصمعي" يقول: إنما هي جاوة القدر، وهي الوعاء التي تجعل فيه، وجمعها جئاء. وكان "أبو عمرو" يقول: هي الجياء والجواء، يعني: ذلك الوعاء أيضًا. وأما الخرقة التي تنزل بها القدر عن الأثافي، فهي الجعال. 681 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رحمة الله

عليه] حين أقبل يريد العراق، فأشار عليه "الحسن بن علي" أن يرجع، فقال: "والله، لا أكون مثل الضبع، تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد". قال: حدثناه "محمد بن الحسن" عن "أبي عاصمٍ الثقفي" عن "قيس بن مسلمٍ" عن "طارق بن شهابٍ" عن "علي". قال "الأصمعي": اللدم: صوت الحجر، أو الشيء يقع بالأرض، وليس بالصوت الشديد. يقال منه: لدمت الدم لدمًا، وقال الشاعر: وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم الغلام وراء الغيب بالحجر

قال: "الأبهر: عرق مستبطن الصلب، يقال: إن القلب متصل به، قال "أبو عبيدٍ": فشبه وجيب القلب بصوت الحجر يرمي به الغلام. وإنما قيل للضبع: إنها تسمع اللدم؛ لأنهم إذا أرادوا أن يصيدوها رموا في جحرها بحجرٍ، أو ضربوا بأيديهم باب الجحر، فتحسبه شيئًا تصيده، فتخرج؛ لتأخذه، فتصاد عند ذلك. وهي -زعموا- من أحمق الدواب، ويبلغ من حمقها أن يدخل عليها، فيقال لها: ليست هذه أم عامرٍ، فتسكت حتى تصاد. فأراد "علي": أني لا أخدع كما تخدع الضبع باللدم. ويقال: ليست هي أم عامرٍ. ويقال في التدام النساء: إنما هو مأخوذ من اللدمٍ، إنما هو افتعال منه. قال "الأصمعي": ويقال في غير هذا: لدمت الثوب وردمته: إذا رقعته. وكذلك قال "أبو عبيدة" في المردم. [قال]: ومنه قول الشاعر:

هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم قوله: متردمٍ، أي: مترقعٍ مستصلحٍ. 682 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه-: "لئن وليت" "بني أمية" لأنفضنهم نفض القصاب التراب الوذمة". قال: حدثنيه "غندر" عن "شعبة" عن "عمرو بن مرة" عن "أبي وائلٍ" عن "الحارث بن حبيشٍ" عن "علي". قال "الأصمعي": سألني "شعبة" عن هذا الحرف، وليس هو هكذا إنما هو "نفض القصاب الوذام التربة" قال: والوذام، واحدتها وذمة، وهي: الحزة من الكرش أو الكبد. قال: ومن هذا قيل لسيور الدلاء: الوذم: لأنها مقدودة طوال. قال: والتربة: التي قد سقطت في التراب، فتتربت، فالقصاب ينفضها. وقال "أبو عبيدة": نحو ذلك، قال: واحد الوذام وذمة، وهي الكرش؛ لأنها معلقة.

ويقال: هي غير الكرش أيضًا من البطون. قال: والوذم أيضًا: لحمات تكون في رحم الناقة تمنعها من الولد، [يقال منه: وذمت الناقة]. فإذا عولج ذلك منها قيل: وذمتها توذيمًا. 683 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله- حين مر "بعبد الله بن عتاب بن أسدٍ" مقتولاً "يوم الجمل" فقال: هذا يعسوب قريشٍ". قال "الأصمعي": اليعسوب: فحل النحل وسيدها، فشبهه في "قريشٍ" بالفحل في النحل. ومنه حديثه الآخر -حين ذكر الفتن، فقال-: "فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه، فيجتمعون إليه، كما يجتمع قزع الخريف".

قال: حدثنا بهذا الحديث الثاني "أبو النضر" عن "أبي خيثمة" عن "الأعمش" عن "إبراهيم التيمي" عن "الحارث بن سويدٍ" عن "علي". قال "الأصمعي": يريد بقوله: "يعسوب الدين" أنه سيد الناس في الدين يومئذٍ. وقوله: "قزع الخريف"، يعني: قطع السحاب التي تكون في الخريف، وكذلك القزع في غير هذا هي القطع أيضًا، ومنه القزع التي تكون في رؤوس الصبيان، وهو أن يحلق رأس الصبي، ويترك منه مواضع. قال "الأصمعي": واليعسوب أيضًا: طائر أكبر من الجرادة، وليس هو الذي في [هذا] الحديث، وهو الذي يشبه به الخيل والكلاب في الضمر، قال "بشر بن أبي خازمٍ" يذكر الصائد: أبو صبيةٍ شعثٍ بطيف بشخصه ... كوالح أمثال اليعاسيب ضمر يعني الكلاب. 684 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه- حين رأى فلانًا يخطب فقال: "هذا الخطيب الشحشح".

قال "أبو عمرو": هو الماهر بالخطبة، الماضي فيها. وقال "أبو عبيدٍ": وكل ماضٍ في كلامٍ أو سيرٍ، فهو شحشح. "الأموي" قال: الشحشح: المواظب على الشيء. وقال "الطرماح": كأن المطايا ليلة الخمس علقت ... بوثابةٍ تنضو الرواسم شحشح وقال "ذو الرمة": لدن غدوةً حتى إذا امتدت الضحى ... وحث القطين الشحشحان المكلف يعني الحادي [ويقال: إن الشحشح هو البخيل الممسك]. وقال الراجز يصف هدر البعير: فردد الهدر وما إن شحشحا 685 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه- "من وجد في بطنه رزًا، فلينصرف، فليتوضأ".

قال: حدثناه "حجاج" عن "يونس بن أبي إسحاق" عن "أبيه" عن "عاصم بن ضمرة" و"الحارث" عن "علي". قال "أبو عمروٍ": وإنما هو الأرز مثل أرز الحية، وهو دورانها، وانقباضها، فشبه دوران الريح في بطنه بذلك. وقال "الأصمعي": هو الرز، يعني: الصوت في البطن، من القرقرة ونحوها. قال "أبو عبيدٍ": والمحفوظ عندنا على ما قال "الأصمعي"، وعليه جاء الحديث، إنما هو الرز، وكذلك كل صوت ليس بالشديد نحو ذلك من الأصوات، فهو رز، قال "ذو الرمة" يصف بعيرًا يهدر في الشقشقة: رقشاء تنتاح اللغام المزيدا دوم فيها رزه وأرغدا

وقال "أبو النجم" يصف السحاب، والرعد، وغيره: كأن في ربابه الكبار رز عشارٍ جلن في عشار قال "أبو عبيدٍ": وفي من الفقه: أن ينصرف، فيتوضأ، ويبنى على صلاته ما لم يتكلم. وهذا إنما هو قبل أن يحدث، ولكن وجهه [عندي] إذا خاف الحدث قال: والذي اختار في هذا أن يتكلم، ويستقبل الصلاة. 686 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله- في

ذي الثدية المقتول "بالنهروان" -أنه مودن اليد، أو مثدن اليد، أو مخدج اليد". قال: حدثناه "ابن علية" عن "أيوب" عن "ابن سيرين" عن "عبيدة" عن "علي". قال "الكسائي" وغيره: المودن اليد: القصير اليد. يقال: أودنت الشيء: قصرته. قال: "أبو عبيدٍ": وفيه لغة أخرى: ودنته فهو مودون، قال "حسان" يذم رجلاً: وأمك سوداء مودونة ... كأن أناملها الحنظب والحنظب: ذكر الخنافس. وفيه لغتان: الحنظب، والحنظوب.

وقال غيره في اللغة الأولى: وقد طلقت ليلة كلها ... فجاءت به مودنا خنققيقا وبعضهم يرويه "موتنا". وقوله: "مثدن اليد" قال بعض الناس: نراه أخذه من ثندوة الثدي، وهي أصله، شبه يده في قصرها واجتماعها بذاك. قال "أبو عبيدٍ": فإن كان من هذا، فالقياس أن يقال: مثند؛ لأن النون قبل الدار في الثندوة، إلا أن يكون من المقلوب، فذلك كثير في الكلام. وأما قوله: "مخدج اليد" فإنه القصير أيضًا، أحد من إحداج الناقة ولدها، وهو: أن تلده لغير تمامٍ في خلقه. قال "الفراء": إنما قيل: "ذو الثدية" فأدخلت الهاء فيها، وإنما هي تصغير ثديٍ، والثدي ذكر؛ لأنها كأنها بقية ثديٍ قد ذهب أكثره، كما يقال: لحيمة، وشحيمة، فأنث على هذا التأويل. قال: وبعضهم يقول: "ذو اليدية". قال "أبو عبيدٍ": ولا أرى الأصل كان إلا هذا، ولكن الأحاديث كلها تتابعت بالثاء: "ذو الثدية".

687 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله- أن امرأة جاءته، فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها، فقال: "إن كنت صادقة رجمناه، وإن كنت كاذبة جلدناك". فقال: ردوني إلى أهلي غيري نغرة". قال: حدثناه "غندر" عن "شعبة" عن "سلمة بن كهيلٍ" عن "حجية" عن "علي". قال "الأصمعي": سألني "شعبة" عن هذا، فقلت: هو مأخوذ من نغر القدر، وهو: غليانها، وفورها. يقال منه: نغرت [القدر] تنغر، ونغرت تنفر: إذا غلت، فمعناه: أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة، ثم لم تجد عنده ما تريد. قال: ويقال منه: رأيت فلانًا يتنغر على فلانٍ، أي: يغلي جوفه عليه غيظًا. قال "أبو عبيد": وفي هذا الحديث من الفقه: أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد.

وفيه أيضًا: أنه إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد، ألا تسمع قوله: "وإن كنت كاذبة جلدناك". ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلاً بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلاً، وادعى شبهةً درئ عند الحد في هذا كله. وفيه أيضًا: أن رجلاً لو قذف رجلاً بحضرة حاكمٍ، وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف، حتى يجيء فيطلب حده؛ لأنه لا يدري، لعله يجيء، فيصدقه؛ ألا ترى أن "عليًا" لم يعرض لها. وفيه: أن الحاكم إذا قذف عنده رجل، ثم جاء المقذوف يطلب حقه، أخذه الحاكم بالحد بسماعه، ألا تراه يقول: "وإن كنت كاذبة جلدناك" [هذا؛ لأنه من حقوق الناس]. 688 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه-: أنه صلى بقومٍ، فأسوي برزخًا، وفي بعض الحديث أنه قرأ برزخًا، فأسوي حرفًا من القرآن".

قال: حدثنيه "نصر بن بابٍ" عن "الحجاج" عن "الحكم" عن "أبي عبد الرحمن السلمي" قال: ما رأيت أحدًا أقرأ من "علي" صلينا خلفه، فقرأ برزخًا، فأسقط حرفًا، فرجع، فقرأه، ثم عاد إلى مكانه". قال "الكسائي": قوله: "أسوي" يعني: أسقط، وأغفل. يقال: أسويت الشيء: إذا تركته وأغفلته. قال: والبرزخ: ما بين كل شيئين، ومنه قيل للميت: هو في البرزخ؛ لأنه بين الدنيا والآخرة. ومنه قول "أبي أمامة الباهلي" حين دفن ميتًا، فقرأ: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). فأراد "أبو عبد الرحمن" بالبرزخ ما بين الموضع الذي أسقط "علي" منه ذلك الحرف إلى الموضع الذي كان انتهى إليه. ومنه قول "عبد الله" أنه سئل عن الرجل يجد الوسوسة، فقال: "تلك برازخ الإيمان".

قال ["أبو عبيدٍ"]: حدثنيه "حجاج" عن "المسعودي عن "القاسم ابن عبد الرحمن" عن "عبد الله". قال "أبو عبيدٍ": وقال بعضهم: ما بين أول الإيمان وآخره. وفي هذا تقوية للحديث الآخر: "الإيمان ثلاث وسبعون شعبةً، أولها: الإيمان بالله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق". وقال بعضهم: هو ما بين اليقين والشك. فذاك برازخ الإيمان. 689 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رحمة الله عليه]

أنه قال لقومٍ، وهو يعاتبهم: "ما لكم لا تنظفون عذراتكم؟ ". وهذا الحديث [قد] يروى مرفوعًا، وليس بذاك المثبت من حديث "إبراهيم ابن يزيد المكي". قال "الأصمعي": العذرة: أصلها فناء الدار، وإياها أراد "علي". قال "أبو عبيدٍ": وإنما سميت عذرة الناس بهذا؛ لأنها كانت تلقى بالأفنية، فكنى عنها باسم الفناء، كما كنى بالغائط أيضًا، وإنما الغائط: الأرض المطمئنة، فكان أحدهم يقضي حاجته هناك، فسمي به، قال "الحطيئة" يذكر العذرة أنها الفناء، [فقال]: لعمري لقد جربتكم فوجدتكم ... قباح الوجوه سيء العذرات

يريد الأفنية أنها ليست بنظيفةٍ، وهذا مما يبين لك أصل العذرة ما هو. 690 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رحمة الله عليه]: أنه وكل "عبد الله بن جعفرٍ" بالخصومة، وقال: "إن للخصومة قحمًا". قال: حدثناه "عباد بن العوام" عن "محمد بن إسحاق" عن رجلٍ من "أهل المدينة" يقال له: "جهم" عن "علي". قال "أبو زياد الكلابي": القحم: المهالك. قال "أبو عبيد": ولا أرى أصل هذا إلا من التقحم؛ لأنه يتقحم المهالك، ومنه قحمة الأعراب، وهو: أن تصيبهم السنة، فتهلكهم، فهو تقحمها عليهم،

أو تقحمهم بلاد الريف. وقال "ذو الرمة" يصف الإبل، وشدة ما تلقى من السير حتى يجهضن: يطرحن بالأولاد أو يلتزمنها ... على قحمٍ بين الفلا والمناهل وقال "جرير [بن الخطفي] ": قد جربت مصر والضحاك أنهم ... قوم إذا حاربوا في حربهم قحم وفي هذا الحديث من الفقه: أنه أجاز أن يوكل الرجل غيره بالخصومة وهو شاهد، وكان "أبو حنيفة" لا يجيز هذا إلا لمريض أو غائب، وكان "أبو يوسف" و"محمد" يجيزانه، يأخذان بقول "علي" -رحمه الله-. 691 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه-:

"لا جمعة، ولا تشويق إلا في مصرٍ جامعٍ". قال: حدثناه "جرير" عن "منصور" عن "سعد بن عبيدة" عن "أبي عبد الرحمن السلمي" عن "علي". قال "الأصمعي" أراد بالتشريق: صلاة العيد، وإنما أخذه من شروق الشمس؛ لأن ذلك وقتها. قال "أبو عبيد": يعني أنه لا صلاة يوم العيد، ولا جمعة إلا على أهل الأمصار، وإنما سميت صلاة العيد تشريقًا لإشراق الشمس، وهو إضاءتها، لأن ذلك وقتها. ويقال: شرقت الشمس: إذا طلعت شروقًا، وأشرقت إشراقًا: إذا أضاءت. قال: وأخبرني "الأصمعي" عن "شعبة" قال: قال لي "سماك بن حربٍ" في يوم عيدٍ: اذهب بنا إلى المشرق؛ يعني إلى المصلى. قال "أبو عبيد": ومما يبين هذا المعنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: حدثني "ابن مهدي" عن "شعبة" عن "سيارٍ" عن

"الشعبي" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ذبح قبل التشريق فليعد". قال: وحدثنا "هشيم" قال: أخبرنا "سيار" عن "الشعبي" عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم- نحوه. وفي ذلك يقول "الأخطل": وبالهدايا إذا احمرت مذارعها ... في يوم ذبحٍ وتشريقٍ وتنحار قال "أبو عبيد": وأما قولهم: أيام التشريق، فإن فيه قولين: يقال: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي. ويقال: بل سميت به؛ لأنها كلها أيام تشريقٍ لصلاة يوم النحر، يقول: فصارت هذه الأيام تبعًا ليوم النحر، وهذا أعجب القولين إلي.

وكان "أبو حنيفة" يذهب بالتشريق إلى التكبير في دبر الصلوات، يقول: لا تكبير إلا على أهل الأمصار تلك الأيام، فيقول: من صلى في سفرٍ، أو في غير مصرٍ، فليس عليه تكبير. وهذا كلام لم نجد أحدًا يعرفه. أن التكبير يقال له: التشريق، وليس يأخذ به [أحد] من أصحابه -لا "أبو يوسف"، ولا "محمد"- كلهم يرى التكبير على المسلمين جميعًا، حيث كانوا في السفر والحضر، وفي الأمصار وغيرها. 692 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رحمة الله عليه]: "استكثروا من الطواف بهذا البيت، قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجلٍ من الحبشة أصعل أصمع، حمش الساقين، قاعدٍ عليها وهي تهدم". قال: حدثناه "يزيد بن هارون" عن "هشامٍ" عن "حفصة" عن "أبي العالية" عن "علي".

قال "الأصمعي": قوله: اصعل، هكذا يروى، فأما في كلام العرب، فهو صعل، بغير ألف، وهو الصغير الرأس، وكذلك الحبشة، ولهذا قيل للظليم: صعل، قال "عنترة" يصفه: صعل يعود بذي العشيرة بيضه ... كالعبد ذي الفرو الطوال الأصلم يعني المقطوع الأذن. قال: والأصمع: الصغير الأذن، يقال منه: رجل أصمع، وامرأة صممعاء. وكذلك غير الناس. ومنه حديث "ابن عباسٍ" "أنه كان لا يرى بأسًا أن يضحي بالصمعاء". قال: حدثناه "هشيم" عن "أبي حمزة" عن "ابن عباسٍ". قال "أبو عبيدٍ": يذهب "ابن عباسٍ" إلى أن هذا خلقة، ولو كانت مقطوعة الأذن ما أجزت. ويقال أيضًا -في غير هذا-: قلب أصمع: إذا كان ذكيًا فطنًا. و[قد] روى بعض الناس أن الأصعل بالألف لغة، ولا أدري عمن هو.

693 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه-: أنه أتاه قوم برجلٍ، فقالوا: إن هذا يؤمنا، ونحن له كارهون، فقال له "علي": "إنك لخروط، أتؤم قومًا هم لك كارهون؟ ". قال: حدثناه "أبو معاوية" عن "موسى بن قيسٍ" عن أشياخه، عن "علي". قال: وسمعت "محمد بن الحسن" يحدثه عن "موسى بن قيسٍ" عن "العيزار بن جرولٍ" عن "علي". قوله: خروط: يعني الذي يتهور في الأمور، ويركب رأسه في كل ما يريد بالجهل، وقلة المعرفة بالأمور، ومنه قيل: انخرط فلان علينا: إذا اندرأ عليهم بالقول السيء وبالفعل، قال "العجاج" يصف ثورًا مضى في سيره: فظل يرقد من النشاط كالبربري لج في انخراط

شبهه بالفرس البربري إذا لج في شدة السير. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه لم يقل له: إنه لا صلاة لك، ولم يأمره بالإعادة، إنما كره له ما صنع، ولم ير أن يحكم عليه باعتزالهم في الإمامة، إنما أنكر عليه فعله، فأفتاه فتوى، ولم يبلغنا أن أحدًا حكم بهذا حكمًا، ولكن فتيا، فأما الأذان، فقد بلغنا فيه حكم. قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "ابن شبرمة" قال: تشاح الناس في الأذان "بالقادسية" فاختصموا إلى "سعدٍ" فأقرع بينهم". 694 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه- "إذا بلغ النساء نص الحقائق -وبعضهم يقول: الحقاق- فالعصبة أولى".

قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "سلمة بن كهيلٍ" عن "معاوية بن سويد بن مقرنٍ" قال: وجدت في كتاب "أبي" عن "علي" ذلك. قال "أبو عبيد" يقول "عبد الرحمن": "معاوية بن سويد بن مقرنٍ" ويقول "أبو نعيم": غير ذلك، قال: وأظن المحفوظ قول "أبي نعيم" وليس فيه "ابن مقرنٍ". قوله: "نص الحقاق"، قال "أبو عبيد": وأصل النص: هو منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها، ومنه قيل: نصصت الرجل: إذا استقصيت مسألته عن الشيء، حتى تستخرج كل ما عنده، وكذلك النص في السير، إنما هو: أقصى ما تقدر عليه الدابة. فنص الحقاق، إنما هو: الإدراك؛ لأنه منتهى الصغر، والوقت الذي يخرج منه الصغير إلى الكبر يقول: فإذا بلغ النساء ذلك، فالعصبة أولى بالمرأة من أمها، إذا كانوا محرمًا، مثل الإخوة والأعمام، وبتزويجها، إن أرادوا، وهذا ما يبين لك أن العصبة والأولياء ليس لهم أن يزوجوا اليتيمة حتى تدرك، ولو كان لهم ذلك لم ينتظر بها نص الحقاق، وليس يجوز التزويج على الصغيرة إلا لأبيها خاصةً، ولو جاز لغيره ما احتاج إلى ذكر الوقت. وقوله: "الحقاق": إنما هو المحاقة: أن تحاق الأم العصبة فيهن، فذلك

الحقاق، تقول: أنا أحق، ويقول أولئك: نحن أحق، وهذا كقولك: جادلته جدالاً ومجادلةً، وكذلك: حاققته حقاقًا، ومحاقةً. قال: وبلغني عن "ابن المبارك" أنه قال: "نص الحقاق": بلوغ العقل، وهو مثل الإدراك؛ لأنه إنما أراد منتهى الأمر الذي تجب به الحقوق، والأحكام، فهذا العقل والإدراك، ولا عقل يعتد به قبل إدراكٍ، ومن رواه: نص الحقاق فإنه أراد جمع حقيقة وحقائق. 695 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه-: "سبق رسول الله" [صلى الله عليه وسلم]، وصلى "أبو بكرٍ" وثلث "عمر" وخبطتنا فتنة فما شاء الله".

قال: حدثناه "ابن مهدى" عن سفيان عن "أبى هاشم القاسم بن كثير" عن "قيس الخارفى" أنه سمع "عليا" يقول: ذلك. قوله: سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى "أبو بكر" قال "الأصمعى" إنما [480] أصل هذا في الخيل، فالسابق: الأول، والمصلى: الثانى الذى يتلوه. قال: وإنما قيل له: المصلى؛ لأنه يكون عند صلاة الأول، وصلاه: جانبا ذنبه عن يمينه وشماله، ثم يتلوه الثالث. ومما يبين أن أصله في الخيل حديث "بلال": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان سبق بين الخيل، فسأل رجل بلالا: من سبق؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما عنيت فى الخيل، فقال "بلال": وأنا عنيت في الخير". قال "أبو عبيد": ولم نسمع فى سوابق الخيل ممن يوثق بعلمه اسما لشئ

منها إلا الثاني والعاشر، فإن الثاني: اسمه المصلي، والعاشر: السكيت، وما سوى ذينك، فإنما يقال: الثالث، والرابع كذلك، إلى التاسع. 696 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله-: "أن الإيمان يبدأ لمظةً في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة". يروى ذلك عن "عوفٍ" عن "عبد الله بن عمرو بن هندٍ الجملي" عن "علي".

قوله: "لمظة" قال "الأصمعي": اللمظة، وهي: مثل النكتة ونحوها من البياض، ومنه قيل: فرس المظ: إذا كان بجحفلته شيء من بياضٍ. والمحدثون يقولون: لمظة بالفتح، وأما كلام العرب فبالضم، لمظة مثل دهمةٍ، وشهبةٍ، وحمرةٍ، وصفرةٍ، وما أشبه ذلك، وقد رواه بعضهم لمطةً -بالطاء- فهذا الذي لا نعرفه، ولا نراه حفظ. وفي هذا الحديث حجة على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص، ألا تراه يقول: "كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة" مع أحاديث في هذا كثيرةٍ، وعدة آيات من القرآن. 697 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رحمة الله عليه]: أن رجلاً أتاه وعليه ثوب من قهزٍ، فقال: إن بني فلانٍ ضربوا بني فلانٍ بالنكاسة. فقال "علي": صدقني سن بكره.

يروى عن "أبي عوانة" عن "مغيرة" عن "قدامة بن عتابٍ" -أو غيره- عن "علي". قال "الأصمعي" وغيره: هذا مثل تضربه العرب للرجل يأتي بالخبر على وجهه، ويصدق فيه. ويقال: إن أصل هذا أن الرجل ربما باع بعيره، فيسأله المشتري عن سنه، فيكذبه، فعرض رجل بكرًا له، فصدق في سنه، فقال الآخر: "صدقني سن بكره" فصار مثلاً لمن أخبر بصدقٍ. وقوله: "ثوب من قهزٍ": يقال: هي ثياب بيض، أحسبها يخالطها الحرير، قال ["أبو عبيد"]: ولا أرى هذه الكلمة عريبةً، وقد ذكرتها -مع هذا- العرب في أشعارها، قال "ذو الرمة" يصف البزاة البيض، فقال: من الزرق أو صقعٍ كأن رؤوسها ... من القهز والقوهي بيض المقانع وقال "أبو النجم العجلي" يصف الحمر، وبياض بطونها: كأن لو القهز في خصورها والقبطري اليض في تأزبرها قال "أبو عبيد": والقبطري.

698 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله-: وذكر آخر الزمان والفتن، فقال: خير أهل ذلك الزمان كل نومةٍ، أولئك مصابيح الهدى، ليسوا بالمساييح، ولا المذاييع البذر". يروى [ذلك] عن عوف [بن أبي جميلة الأعرابي]. قوله: نومةٍ، يعني: الخامل الذكر، الغامض في الناس، الذي لا يعرف الشر ولا أهله. وأما المذاييع: فإن واحدهم مذياع، وهو الذي غذا سمع عن أحدٍ بفاحشةٍ، أو رآها منه، أفشاها عليه، وأذاعها. والمساييح: الذين يسيحون في الأرض بالشر والنميمة، والإفساد بين الناس. والبذر أيضًا نحو ذلك، وإنما هو مأخوذ من البذر، يقال: بذرت الحب

وغيره: إذا فرقته في الأرض، فكذلك هذا ببذر الكلام بالنميمة، والفساد، والواحد منهم بذور. 699 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله-: في الرجل يكون له الدين الظنون، قال: "يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقًا". قال: حدثناه "يزيد بن هارون" عن "هشامٍ" عن "ابن سيرين" عن "عبيدة" عن "علي". قوله: "الظنون": هو الذي لا يدري صاحبه أيقضيه الذي عليه الدين أم لا؟

كأنه الذي لا يرجوه، وكذلك كل أمرٍ تطالبه ولا تدري على أي شيءٍ أنت منه، فهو ظنون، قال "الأعشى": ما جعل الجد الظنون الذي ... جنب صوب اللجب الماطر مثل الفراتي إذا ما جرى ... يقذف بالبوصي والماهر فالجد: البئر التي تكون في الكلأ، والظنون: التي لا يدري أفيها ماء أم لا؟ وفي هذا الحديث من الفقه: أنه من كان له دين على الناس، فليس عليه أن يزكيه حتى يقبضه، فإذا قبضه زكاه لما مضى، وإن كان لا يرجوه. وهذا يرد قول من قال: إنما زكاته على الذي عليه المال؛ لأنه المنتفع به، وهو شيء يروى عن "إبراهيم"، والعمل عندنا على قول "علي" رحمه الله. 700 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله-: "من أحبنا -أهل البيت- فليعد للفقر جلبابًا، أو تجفافًا".

يروى ذلك عن "عوفٍ" عن "عبد الله بن عمرو بن هندٍ" عن "علي". قال: وقد تأوله بعض الناس على أنه أراد: من أحبنا افتقر في الدنيا، وليس لهذا وجه؛ لأنا [قد] نرى من يحبهم فيهم ما في سائر الناس من الغنى والفقر، ولكنه عندي إنما أراد فقر يوم القيامة، يقول: ليعد ليوم فقره وفاقته عملاً صالحًا ينتفع به في يوم القيامة، وإنما هذا منه على وجه الوعظ والنصيحة له، كقولك: من أحب أن يصحبني، ويكون معي، فعليه بتقوى الله، واجتناب معاصيه، فإنه لا يكون لي صاحبًا إلا من كانت هذه حاله، ليس للحديث وجه غير هذا. 701 - قال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله-: أنه شيع سريةً أو جيشًا، فقال: "أعذبوا عن النساء".

يقول: امنعوا أنفسكم من ذكر النساء، وشغل قلوبكم -أو القلوب- بهن، شك "سعيد". يقول: فإن ذلك يكسركم عن الغزو، وكل من منعته شيئًا فقد أعذبته، وقال "عبيد بن الأبرص": وتبدلوا اليعبوب بعد إلههم ... صنمًا فقروا يا جديل وأعذبوا والعاذب والعذوب سواء ويقال للفرس وغيره: عذوب: إذا بات لا يأكل شيئًا، ولا يشرب؛ لأنه ممتنع من ذلك، قال "النابغة الجعدي" يصف ثورًا: فبات عذوبًا للسماء كأنه ... سهيل إذا ما أفردته الكواكب شبهه بسهيلٍ؛ لأن الكواكب تزول عنه، ويبقى منفردًا، ليس معه شيء منها، ويقال: العذوب: الذي بات ليس بينه وبين السماء ستر وكذلك العاذب. 702 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه-: "إن المرء المسلم ما لم يغش دناءةً يخشع لها إذا ذكرت، وتغرى به

لئام الناس -كالياسر الفالج- ينتظر فوزةً من قداحه، أو داعي الله، فما عند الله خير للأبرار". قال: حدثنيه "أبو بدرٍ" عن "عبد الرحمن بن زبيدٍ اليامي"، عمن حدثه عن "علي". ويروى أيضًا عن "عوفٍ"، عن رجلٍ من أهل الكوفة، عن "علي". قال "أبو عبيدة" و"أبو عمروٍ" و"الأصمعي" وغيرهم -دخل كلام بعضهم في بعض- قوله: الياسر: هو من الميسر، وهو: القمار الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، حتى نزل القرآن بالنهي عنه، في قوله [تعالى] (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) الآية. وكان أمر الميسر: أنهم كانوا يشترون جزورًا، فينحرونها، ثم يجزنونها أجزاءً، وقد اختلفوا في عدد الأجزاء، فقال "أبو عمروٍ": على عشرة أجزاء، وقال "الأصمعي": على ثمانية وعشرين جزءًا، ولم يعرف "أبو عبيدة"

لها عددًا، ثم يسهمون عليها بعشرة قداحٍ، لسبعةٍ منها أنصباء، وهي الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلي، وثلاثة منها ليست لها أنصباء، وهي: المنيح، والسفيح، والوغد، ثم يجعلونها على يدي رجلٍ عدلٍ عندهم، يجيلها لهم باسم رجلٍ رجلٍ، ثم يقتسمونها على قدر ما تخرج لهم السهام، فمن خرج سهمه من هذه السبعة التي لها أنصباء أخذ من الأجزاء بحصة ذلك، فإن خرج له واحد من الثلاثة، فقد اختلف الناس في هذا الموضع، فقال بعضهم: من خرجت باسمه لم يأخذ شيئًا، ولم يغرم، ولكن يعاد الثانية، ولا يكون له نصيب، ويكون لغوًا، وقال بعضهم: بل يصير ثمن هذه الجزور كله على أصحاب هؤلاء الثلاثة، فيكونون مقمورين، ويأخذ أصحاب السبعة أنصباءهم على ما خرج لهم، فهؤلاء الياسرون. قال "أبو عبيد": ولم أجد علماءنا يستقصون معرفة علم هذا، ولا يدعونه كله، ورأيت "أبا عبيدة" أقلهم ادعاءً لعلمه. قال "أبو عبيدة": وقد سألت عنه الأعراب، فقالوا: لا علم لنا بهذا؛ لأنه شيء قد قطعه الإسلام منذ جاء، فلسنا ندري كيف كانوا ييسرون. قال "أبو عبيدٍ": فالياسرون: هم الذين يتقامرون على الجزور، وإنما كان هذا في أهل الشرف منهم، والثروة ولجدة، وكانوا يفتخرون به، وقال "الأعشى" يمدح قومًا:

المطعمو الضيف إذا ما شتوا ... والجاعلو القوت على الياسر وقال "طرفة": فهم أيسار لقمانٍ إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزر وهو كثير في أشعارهم، فأراد "علي" بقوله: "كالياسر الفالج ينتظر فوزةً من قداحه، أو داعي الله، فما عند الله خير للأبرار" يقول: هو بين خيرتين: إما صار إلى ما يحب من الدنيا، فهو بمنزلة "المعلى" وغيره من القداح التي لها حظوظ، أو بمنزلة التي لا حظوظ لها -يعني الموت-، فيحرم ذلك في الدنيا، وما عند الله خير له. والفالج: القامر، يقال: قد فلج عليهم، وفلجهم، وقال الراجز في الفالج: لما رأيت فالجًا قد فلجا ومما يبين لك أنه أراد بالحرمان في الدنيا "المنيح" حديث يروى عن "جابر بن عبد الله" قال: "كنت منيح أصحابي يوم بدرٍ".

قال: حدثنيه "محمد بن عبيدٍ" عن "الأعمش" عن "أبي سفيان" عن "جابر". [قال] فكان أصحاب الحديث يحملون هذا على استقاء الماء لهم، وليس هذا من استقاء الماء في شيءٍ، إنما أراد أنه لم يأخذ سهمًا من الغنيمة يومئذٍ لصغر سنه، قال "العجاج" يذكر فرسًا سبق خيلاً: ساقطها بنفسٍ مريح عطف المعلى صك بالمنيح يعني أنه سبقها كما قمر المعلى المنيح، وقال "الكميت": فمهلاً يا قضاع فلا تكوني ... منيحًا في قداح يدي مجيل يعني في انتسابهم إلى اليمن، وتركهم النسب الأول.

703 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رحمة الله عليه] "يوم الجمل" وغاب عنه "سليمان بن صرد"، فبلغه عنه قول، فقال "سليمان": بلغني عن "أمير المؤمنين" ذرو من قولٍ، تشذرلي به من شتمٍ وإيعادٍ، فسرت إليه جوادًا". قال: حدثنيه "ابن مهدي" عن "مهدي بن ميمونٍ" عن "محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب" قال: حدثني عمي "ضبثم" عن "سليمان بن صرد". قوله: ذرو: هو الشيء اليسير من القول، كأنه طرف من الخبر، وليس بالخبر كله.

والتشذر: التهدد والتوعد، قال "لبيد" يذكر رجالاً، ويصف عداوة بعضهم لبعضٍ، فقال: غلبٍ تشذر بالذحول كأنها ... جن البدي رواسيًا أقدامها وقال "صخر بن حبناء" أخو "المغيرة بن حبناء": أتاني عن مغيرة ذرو قولٍ ... وعن عيسى فقلت له كذاكا وفي حديث آخر "لسليمان" قال: أتيت "عليًا" حين فرغ من مرحى الجمل، فلما رآني، قال: "تزحزحت، وتربصت، وتنأنأت، فكيف رأيت الله [عز وجل] صنع"؟ فقلت: يا أمير المؤمنين: إن الشوط بطين، وقد بقى من الأمور ما تعرف به صديقك من عدوك. قال: قال "سليمان": فلما قام قلت "للحسن بن علي": ما أغنيت عني شيئًا. فقال: هو يقول لك الآن هذا، وقد قال لي يوم التقى الناس، ومشى

بعضهم إلى بعضٍ: ما ظنك بامرئٍ جمع بين هذين الغارين ما أرى بعد هذا خيرًا". قال ["أبو عبيد"]: حدثنيه "ابن مهدي" عن "أبي عوانة" عن "إبراهيم بن محمد بن المنتشر" عن "أبيه" عن "عبيد بن نضلة" عن "سليمان بن صرد" عن "علي". قوله: "مرحى الجمل": يعني الموضع الذي دارت عليه رحا الحرب، قال الشاعر: فدرنا كما دارت على قطبها الرحى ... ودارت على هام الرجال الصفائح وقوله: "تزحزحت" أي تباعدت. وقوله: "وتنأنأت": يقول: ضعفت، وهو من قول "أبي بكرٍ" [رضوان الله عليه]: خير الناس من مات في النأنأة".

ومنه قيل للرجل الضعيف: نأنأ، وقد فسرناه في غير هذا الموضع. وقوله: "إن الشوط بطين": يعني البعيد. وقوله: "جمع بين هذين الغارين": فالغار: الجماعة من الناس الكثيرة، وكل جمعٍ عظيمٍ غار، ومنه قول "الأحنف" -يوم انصرف "الزبير" [رضي الله عنه] من وقعة الجمل، فقيل له: هذا "الزبير"، وكان "الأحنف" يومئذٍ "بوادي السباع" مع قومه قد اعتزال الفريقين جميعًا، فقال: "ما أصنع به إن كان جمع بين هذين الغارين، ثم انصرف، وترك الناس". 704 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رحمة الله عليه]: في الرجل الذي سافر مع أصحابٍ له، فلم يرجع حين رجعوا، فاتهم أهله أصحابه به، فرفعوهم إلى "شريحٍ" فسألهم البينة على قتله، فارتفعوا إلى "علي" فأخبروه بقول "شريح". فقال "علي": أوردها سعد وسعدً مشتمل يا سعد لا تروي بها ذاك الإبل

ثم قال: "إن أهون السقيى التشريع". قال: ثم فرق بينهم، وسألهم، فاختلفوا، ثم اقروا بقتله، فأحسبه، قال: فقتلهم به. قال: حدثنيه رجل لا أحفظ اسمه، عن "هشام بن حسان" عن "ابن سيرين" عن "علي". قوله: "أوردها سعد وسعد مشتمل": هذا مثل، يقال: إن أصله كان أن رجلاً أورد إبله ماءً لا تصل إلى شربه إلا باستقاء، ثم اشتمل، ونام، وتركها لم يستق لها، يقول: فهذا الفعل لا تروى به الإبل حتى يستقي لها. وقوله: "إن أهون السقي التشريع": هو مثل أيضًا، يقول: إن أيسر ما ينبغي أن يفعل بها أن يمكنها من الشريعة والحوض، ويعرض عليها الماء دون أن يستقي لها؛ لتشرب، فأراد "علي" بهذين المثلين أن أهون ما كان ينبغي

لشريحٍ أن يفعل: أن يستقصى في المسألة، والنظر، والكشف عن خبر الرجل، حتى يعذر في طلبه، ولا يقتصر على طلب البينة فقط، كما اقتصر الذي أورد إبله ماء ثم نام. وفي هذا الحديث من الحكم: أن "عليًا" امتحن في حد، ولا يمتحن في الحدود وإنما ذلك؛ لأن هذا من حقوق الناس، وكل حق من حقوقهم، فإنه يمتحن فيه، كما يمتحن في جميع الدعوى، وأما الحدود التي لا امتحان فيها، فحدود الناس فيما بينهم بين الله [تعالى] مثل: الزنا، وشرب الخمر، وأما القتل، و [كل] ما كان من حقوق الناس، فإنه وإن كان حدًا يسأل عنه الإمام، ويسقصى؛ لأنه من مظالم الناس وحقوقهم التي يدعيها بعضهم على بعضٍ، وكذلك كل جراحةٍ دون النفس، فهي مثل النفس، وكذلك القذف، هذا كله يمتحن فيه إذا ادعاها مدعٍ. وفي المثلين تفسير آخر: [قال "الأصمعي"]: يقال: إن قوله: أورها سعد وسعد مشتمل يقول: إنه جاء بإبله إلى شريعةٍ لا يحتاج فيها إلى استقاء الماء، فجعلت تشرب، وهو مشتمل بكسائه. وكذلك قوله: "إن أهون السقي التشريع": يعني أن يوردها شريعة الماء، فلا يحتاج إلى الاستقاء لها، [قال "أبو عبيد": وهو أعجب القولين إلي]

705 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله-: "كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه". قال: حدثنيه "أبو النضر" عن "أبي خيثمة" عن "أبي إسحاق" عن "حارثة بن مضرب" عن "علي". قال "الأصمعي": يقال: هو الموت الأحمر، والموت الأسود، قال: ومعناه: الشديد. قال: وأرى أصله مأخوذًا من ألوان السباع، كأنه من شدته سبع إذا أهوى إلى الإنسان، ويقال: هوى، وقال "أبو زبيدٍ" يصف الأسد: إذا علقت قرنًا خطاطيف كفه ... رأى الموت بالعينين أسود أحمرا قال "أبو عبيدٍ": فكأن عليًا أراد بقوله: "احمر البأس": أنه صار في الشدة والهول مثل ذلك ...

ومن هذا حديث "عبد الله بن الصامت" قال: "أسرع الأرض خرابًا البصرة ومصر، قيل: ما يخربهما؟ قال: القتل الأحمر، والجوع الأغبر". قال "الأصمعي" يقال: هذه وطأة حمراء: إذا كانت جديدًا، ووطأة دهماء: إذا كانت دارسة، قال "ذو الرمة": سوى وطأةٍ دهماء من غير جعدةٍ ... ثنى أختها في غرز كبداء ضامر فكأن المعنى في هذين الحديثين: الموت الشديد، مع ما يشبه به من ألوان السباع. 706 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله-: أنه خرج، والناس ينتظرونه للصلاة قيامًا، فقال: "مالي أراكم سامدين؟ . قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "فطر بن خليفة" عن "أبي خالدٍ الوالبي" عن "علي".

قوله: "سامدين": يعني القيام، وكل رافعٍ رأسه، فهو سامد. وقد سمد يسمد ويَسمد سمودًا. ومنه قول "إبراهيم" قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "مغيرة" عن "إبراهيم". قال: كانوا يكرهون أن ينتظروا الإمام قيامًا، ولكن قعودًا، ويقولون: ذلك السمود. قال "أبو عبيدٍ": والسمود أيضًا في غير هذا: اللهو والغناء، يقال: السامدون: اللاهون، ومنه قوله [تعالى] (وأنتم سامدون). قال: حدثنا "ابن مهدي" عن "سفيان" عن "أبيه" عن "عكرمة" عن "ابن عباس" في قوله: "سامدون" قال: الغناء في لغة "حمير" اسمدي لنا: غني لنا. 707 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه-: أنه خرج، فرأى قومًا يصلون، قد سدلوا ثيابهم، فقال: "كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم".

قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "خالد الحذاء" عن "عبد الرحمن بن سعيد بن وهبٍ" عن "أبيه" عن "علي". قوله: فهرهم: هو موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه كالعيد يصلون فيه، ويسدلون ثيابهم، وهي كلمة نبطية، أو عبرانية، أصلها "بهر"، فعربت بلفاء، فقيل: فهر. والسدل: هو من إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه من بين يديه، فإن ضمه، فليس بسدلٍ. وقد رويت فيه الكراهة عن "النبي" -صلى الله عليه وسلم. قال: حدثناه "هشيم" قال: أخبرنا "عامر الأحول" قال: سألت "عطاءً" عن السدل، فكرهه، فقلت: عن "النبي" [صلى الله عليه وسلم] فقال: نعم.

708 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رحمة الله عليه] "خير هذه الأمة النمط الأسود، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي". قال: حدثنيه "أبو بدرٍ" عن "خلف بن حوشبٍ" عن "الوليد بن قيسٍ" عن "علي". قال "أبو عبيدة" وغيره في النمط: هو الطريقة، يقال: الزم هذا النمط. قال: والنمط أيضًا: الضرب من الضروب والنوع من الأنواع، يقال: ليس هذا من ذاك النمط: أي من ذلك النوع، يقال هذا في المتاع والعلم، وغير ذلك. والمعنى الذي أراد "علي" أنه كره الغلو والتقصير، كالحديث الآخر حين ذكر حامل القرآن، فقال: "غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه".

فالغالي فيه: هو المتعمق، حتى يخرجه ذلك إلى إكفار الناس، كنحوٍ من مذهب الخوارج، وأهل البدع. والجافي عنه: التارك له، وللعمل به، ولكن القصد من [بين] ذلك. 709 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رضي الله عنه- حين أتى في فريضةٍ وعنده "شريح" فقال له "علي": "ما تقول أنت أيها العبد الأبظر"؟ . قوله: "الأبظر": هو الذي في شفته العليا طول، ونتوء في وسطها محاذي الأنف، وإنما نراه قال لشريحٍ: أيها العبد؛ لأنه [قد] كان وقع عليه سباء في الجاهلية. 710 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" [رضي الله عنه] حين أتاه "الأشعث بن قيسٍ" وهو على المنبر، فقال: غلبتنا

عليك هذه الحمراء، فقال: "علي": من يعذرني من هؤلاء الضباطرة، يتخلف أحدهم يتقلب على حشاياه، وهؤلاء يهجرون إلي، إن طردتهم إني إذاً لمن الظالمين، والله لقد سمعته يقول: ليضربنكم على الدين عودًا، كما ضربتموهم عليه بدءًا". قوله: "الحمراء": يعني العجم والموالي، سموا بذلك؛ لأن الغالب على ألوان العرب السمرة والأدمة، والغالب على ألوان العجم البياض والحمرة، وهذا كقول الناس: إذا أردت أن تذكر "بني آدم"، فقلت: أحمرهم وأسودهم: فأحمرهم: كل من غلب عليه البياض، وأسودهم: كل من غلب عليه الأدمة. وأما الضياطرة فهم: الضخام الذين لا غناء عندهم ولا نفع، واحدهم ضيطار. قال: ويروى عن "عمر" أنه كتب إلى أمراء الأجناد بالشام: "من أعتقتم من هذه الحمراء، فأحبوا أن يكونوا معكم في العطاء، فاجعلوهم أسوتكم". 711 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله- أنه صلى الجمعة بالناس ركعتين، ثم أقبل عليهم، فقال: "أتموا الصلاة".

قال: حدثنيه "الهيثم بن جميلٍ" عن "شريكٍ" عن "العباس بن ذريحٍ" عن "الحارث بن ثوبٍ" عن "علي". قوله: (وأتموا الصلاة): حمله بعض الفقهاء على أنه أراد: صلوا بعدها ركعتين؛ لتكون أربعًا، وهذا خلاف السنة؛ لأن "عمر" يقول: "الجمعة ركعتان تمام غير قصرٍ، على لسان "النبي" [صلى الله عليه وسلم]، وقد كان "النبي" صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين بعدهما في بيته؛ كراهة أن يظن الناس أنهما منها. ويروى عن "عمران بن حصين" أنه قيل له: إنك إنما تصلي بعد الجمعة ركعتين لتمام أربعٍ، فقال: لأن تختلف النيازك في صدري أحب إلي من أن أقول ذلك. ولكن وجهه عندي: أنه رأى منهم في صلاتهم خللاً، فأمرهم بإتمام الركوع والسجود، أو أن يكون بعضهم فاته الركوع كله، فأمره أن يصلي الظهر أربعًا، ليس يخلو عندي من أحد هذين الوجهين، والله أعلم. 712 - وقال "أبو عبيدٍ" في حديث "علي" -رحمه الله- في

ابنتين، وأبوين، وامرأة، فقال: "صار ثمنها تسعًا". قال: حدثناه "عبد الله بن المبارك" عن "الحسن بن عمرو الفقيمي" عن "الحكم بن عتيبة" عن "علي". قوله: "صار ثمنها تسعًا": أراد أن السهام عالت، حتى صار للمرأة التسع، ولها في الأصل الثمن، وذلك أن الفريضة لو لم تعل كانت من أربعة وعشرين [سهمًا] لا تخرج من أقل من ذلك، لاجتماع السدس والثمن فيها فلما عالت صارت من سبعةٍ وعشرين للابنتين الثلثان ستة عشر، وللأبوين السدسان ثمانية، وللمرأة الثمن ثلاثة، فهذه ثلاثة من سبعة وعشرين، وهو التسع، وكان لها قبل العول ثلاثة من أربعةٍ وعشرين، وهو الثمن.

حديث الزبير بن العوام رحمه الله

حديث الزبير بن العوام رحمه الله 713 - وقال «أبو عبيد» في حديث «الزبير [بن العوام»]- رحمه الله -: «أنه خاصم رجلا من الأنصار في سيول شراج الحرة إلى «النبى» - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا «زبير» احبس الماء حتى يبلغ الجدر». قال: حدثنيه «حجاج» , عن «ابن جريج» , عن «ابن شهاب» , عن «عروة» , عن «عبد الله بن الزبير». قال «الأصمعى»: الشراج مجارى الماء من الحرار إلى السهل, واحدها شرج.

وقال «أبو عمرو» مثل ذلك, أو نحوه. قال «الأصمعى»: وأما التلاع: فإنها مجارى أعلى الأرض إلى بطون الأودية, واحدتها تلعة. وكان «أبو عبيدة» يقول: التلعة قد تكون ما ارتفع من الأرض, وتكون ما انحدر, وهذا عنده من الأضداد. قال «أبو عبيد»: وأما الجدر: فهو الجدار, ومنه قول «ابن عباس» [- رحمه الله -] حين سئل عن الحطيم, فقال: هو الجدر. فيقول: احبس الماء في أرضك حتى تنتهى إلى الجدار, ثم أرسله إلى من هو أسفل [منك]. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه قضى في الماء إذا كان مشتركا بين قومٍ أن يمسك الأعلى حتى يبلغ الموضع الذي سمى, ثم يرسله إلى الأسفل, وكذلك قضى فى سيل «مهزور» وأدى «بنى قريظة» أن يحبسه حتى يبلغ الماء الكعبين, ثم يرسله, ليس له أن يحبسه أكثر من ذلك.

وهذا تأويل حديث «ابن مسعود»: «أهل الشرب الأسفل أمراء على أعلاه». 714 - وقال «أبو عبيد» في حديث «الزبير» - رحمه الله -: «أنه كان يتزود صفيف [493] الوحش, وهو محرم». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «هشام بن عروة» , عن «أبيه» , عن «الزبير» , إلا أنه قال: قديد, وقال غيره: صفيف. قال «الكسائى»: الصفيف: القديد. يقال منه: صففت اللحم أصفه صفًا: إذا قددته, قال «امرؤ القيس» فى وحش صادها, فطبخ له, وقدد: فظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل

الطهاة: الطباخون, والقدير: ما طبخ في القدور. ومما يبين أن الصفيف هو القديد أنه يسمى في بعض الحديث. وفي هذا الحديث من الرخصة في لحم الصيد يأكله المحرم إذا كان لم يقتله, ولم يعن على قتله. 715 - وقال «أبو عبيد» في حديث «الزبير» - رحمه الله -: «أنه رأى فتية لعسا, فسأل عنهم, فقيل: أمهم مولاة للحرقة, وأبوهم مملوك, فاشترى أباهم, فأعتقه, فجر ولاءهم». قال «الأصمعى»: اللعس: الذين في شفاهم سواد, وهو مما يستحسن, يقال منه: رجل العس, وامرأة لعساء, والجماعة منها لعس. وقد لعس يلعس لعسا, قال «ذو الرمة» يذكر امرأة: لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثاث وفى أنيابها شنب

قال «أبو عبيد»: الشنب: رقة في الأسنان, وحدة من كثرة الماء. قوله: الحواء, واللمياء: هما نحو من اللعساء, والاسم من اللمياء اللمى وفي هذا الحديث من الفقه أن المملوك إذا كانت عنده امرأة حرة مولاة لقوم, فولدت له أولادًا, فهم موال لموالى أمهم ما دام الأب مملوكًا, فإذا عتق الأب جر الولاء, فكان ولاء ولده لمواليه.

قال: حدثنا «سفيان بن عيينة» , عن «الأعمش» , عن «إبراهيم» قال: قال «عمر» في ذلك: إذا عتق الأب جر الولاء. قال [494]: حدثنا «سفيان» عن «حميد» عن «محمد بن إبراهيم» أن «عثمان» [رضى الله عنه] قضى به «للزبير». 716 - قال «أبو عبيد» في حديث «الزبير» [- رحمه الله -]: «أن رجلاً أتاه فقال: ألا أقتل لك «عليا»؟ قال: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به: قال: سمعت «رسول الله» - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قيد الإيمان الفتك, لا يفتك مؤمن».

قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «الحسن» , عن «الزبير». قوله: «الفتك»: يعنى أن يأتى الرجل صاحبه, وهو غار غافل حتى يشد عليه, فيقتله, وإن لم يكن أعطاه أمانا قبل ذلك, ولكن ينبغى [له] أن يعلمه ذلك قبل, وكذلك كل من قتل رجلا غارًا, فهو فاتك به, قال: المخبل [السعدى] فى «النعمان» وكان بعث إلى «بنى عوف بن كعب» جيشا في الشهر الحرام, وكانوا آمنين غارين لمكان الشهر, فقتل فيهم, وسبى فقال: «المخبل السعدى»: وإذ فتك النعمان بالناس محرمًا ... فملئ من عوف بن كعب سلاسله قال «الأصمعى»: قوله: «محرما» ليس يعنى من إحرام الحج, ولكنه الداخل في الشهر الحرام, ومنه قول «الراعى»: قتلوا «ابن عفان» الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مخذولا وإنما جعله محرما, لأنه قتل فى آخر ذى الحجة, ولم يكن محرما بالحج, يقال: أحرمنا: دخلنا في الشهر الحرام, وأحللنا: دخلنا في الشهر الحلال, وقال «زهير»:

جعلن القنان عن يمين وحزنه ... وكم بالقنان من محل ومحرم وليس هذا من إحرام الحج. 717 - وقال «أبو عبيد» في حديث «الزبير» [- رحمه الله -]: «أنه كان يوكى بين الصفا, والمروة». فقد ذهب بعض الناس في هذا إلى أنه [كان] يستريح في طوافه بينهما حتى [95] يوكى الشئ يشده. وإنما هو عندى من إمساك الكلام, أنه يوكى فيه, فلا يتكلم. ويحكى عن أعرابى أنه سمع رجلًا يتكلم, فقال: أوك حلقك: يعنى شد فمك, واسكت, فلا تكلم. وإنما كره «الزبير» الكلام في السعى بينهما, كما كره كثير من الفقهاء الكلام في الطواف بالبيت, فشبه هذا بذلك.

وفيه تفسير آخر: أنه يروى عنه, قال: كان بوكى ما بين الصفا والمروة سعيًا, فإن كان هذا هو المحفوظ, فإن وجهه أن يملأ ما بينهما سعيًا, لا يمشى على هيئته في شئ من ذلك, وهذا مشبه بالسقاء أو غيره بملأ ماء, ثم يوكى عليه حيث انتهى الامتلاء.

حديث طلحة بن عبيد الله [رحمه الله] 718 - وقال «أبو عبيد» في حديث «طلحة بن عبيد الله» [- رحمه الله -] حين قام إليه رجل بالبصرة, فقال: «إنا أناس بهذه الأمصار, وإنه أتانا قتل أمير, وتأمير آخر, وأتنا بيعتك, وبيعة أصحابك, فأنشدك الله ولا تكن أول من غدر. فقال «طلحة»: أنصتونى, ثم قال: إنى أخذت, فأدخلت في الحش وقربوا, فوضعوا اللج على قفى, فقالوا: لتبايعن, أو لنقتلنك, فبايعت, وأنا مكره». قال: حدثناه «ابن علية» قال: حدثنا «أبو مسلمة سعيد بن يزيد» , عن «أبى نضرة» , عن «طلحة». قوله: «اللج» , قال «الأصمعى»: يعنى السيف, قال: وترى أن اللج: اسم سمى به السيف كما قالوا: الصمصامة, وذو الفقار, ونحوه.

ويقال فيه قول آخر: شبهه بلجة البحر في هوله, يقال: هذا لج البحر, وهذه لجة البحر. وأما «الحش»: فالبستان, وفيه لغتان: الحش, والحش, وجمعه حشاش, وإنما سمى موضع الخلاء حشا بهذا, لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين. وأما قوله: «أنصتونى»: فهو مثل قوله: انصتوا لى. يقال: أنصته, وأنصت له [496] مثل: نصحته, ونصحت له. وقوله: «قفى» هى لغة «طيئ» , وكانت عند «طلحة» امرأة طائية, ويقال: إن «طيئ» لا تأخذ من لغة أحد, ويؤخذ من لغاتها. 719 - وقال «أبو عبيد» في حديث «طلحة» - رحمه الله - حين رأى عليه «عمر» ثوبين مصبوغين, وهو محرم, فقال: ما هذا؟ فقال: ليس به بأس يا أمير المؤمنين, إنما هو بمشق». قال حدثنيه «ابن علية» , عن ***, عن «نافع» , عن «أسلم» , عن

«عمر» [- رضى الله عنه -] و «طلحة» [- رحمه الله -]. قوله: «المشق»: يقال منه: ثوب ممشق, وهو المصبوغ بالمغرة, وكذلك قول «جابر بن عبد الله»: «كنا نلبس في الإحرام الممشق, إنما هى مدرة, وليس بطيب» , فلذلك رخص أن يلبسها المحرم. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه إنما كرهت الثياب المصبغة في الإحرام إذا كانت [قد] صبغت بالطيب كالورس, والزعفران, والعصفر, وما كان ليس بطيب, فلا بأس به. ومنه حديث «عثمان» أنه غطى وجهه بقطيفة حمراء أرجوان, وهو محرم, وإنما كانت مصبوغة ببضع هذه الأصباغ الحمر من غير طيب. وإنما كره «عمر» [رضى الله عنه] ذلك له ألا يراه الناس لبس ثوبًا مصبوغًا, فيلبس الناس المصبغة في الإحرام. 720 - وقال «أبو عبيد» في حديث «طلحة» [- رحمه الله -]

حين قال «لابن عباس» [- رحمه الله -]: «هل لك أن أناحبك, وترفع «النبى» - صلى الله عليه وسلم -». هو من حديث «هشيم» , عن «خالد بن صفوان» , عن آخر قد سماه. قوله: «أناحبك» كان «الأصمعى» يقول: ناحبت الرجل: إذا حاكمته, وقاضيته إلى رجل. قال «أبو عبيد»: وأصل النحب: النذر, والشئ يجعله الإنسان على نفسه قال «لبيد»: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل يقول: أعليه نذر في طول سعيه؟ , ويروى في قول الله - تبارك وتعالى -: {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} إن ذلك نزل في قوم كانوا تخلفوا

[497] عن «بدر» فجعلوا على أنفسهم لئن لقوا العدو ثانية ليقاتلن حتى يموتوا فقتلوا, أو قتل بعضهم «يوم أحد» , ففيهم نزلت: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر}. 721 - وقال «أبو عبيد» في حديث «طلحة» , [قال]: «خرجت بفرس لى أنديه». قال «الأصمعى» و «أبو عمرو»: التندية: أن يورد الرجل فرسه الماء حتى يشرب, ثم يرده إلى المرعى ساعة يرتعى, ثم يعيده إلى الماء. قال «الأصمعى»: والإبل في ذلك مثل الخيل, قال: واختصم حيان من العرب في موضع, فقال أحد الحيين: مسرح بهمنا, ومخرج نسائنا, ومنذا خيلنا, وقال الشاعر يصف بعيرًا:

* قريبة ندوته من محمضه* يعنى الموضع الذى تندو فيه. قال «أبو عمرو»: فإذا أردت أن الفرس فعل ذلك هو, ولم تفعله به, قلت: قد ندا يندو ندوًا, والندوة, والمندى واحد, وهو الموضع الذى يرعى فيه بعد السقى.

حديث عبد الرحمن بن عوف [رحمه الله]

حديث عبد الرحمن بن عوف [رحمه الله] 722 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الرحمن بن عوف» [- رحمه الله -]: «أنه طلق امرأته, فمتعها بخادم سوداء, حممها إياها». قال: حدثنا «هشيم» , عن «محمد بن إسحاق» , عن «سعد بن إبراهيم» , عن «أبيه» , عن «عبد الرحمن». قوله: «حممها إياها»: يعنى متعها بها بعد الطلاق, وكانت العرب تسميها التحميم. قال: حدثنا «هشيم» قال: أخبرنا «مغيرة» , عن «إبراهيم» قال: كانت العرب تسمى المتعة التحميم, قال الراجز: * أنت الذى وهبت زيدًا بعدما * * هممت بالعجوز أن تحمما * يعنى أن أطلقها, وأمتعها. قال «الأصمعى»: التحميم في ثلاثة أشياء: هذا أحدها.

ويقال: حمم الفرخ: إذا نبت ريشه, وحممت وجه [498] الرجل: إذا سودته بالحمم. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه أراد قول الله - تبارك وتعالى -: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين} و {حقًا على المحسنين} , ولهذا قال «شريح» لرجل طلق امرأته: لا تأب أن تكون من المتقين, ولا تأب أن تكون من المحسنين. ولم يجبره عليها, إنما أفتاه فتيا. وأما الذى يجبر عليها, فالتى تطلق قبل الدخول, ولم يسم لها صداق, لقول الله - تبارك وتعالى -: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره, وعلى المقتر قدره}.

حديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه

حديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه 723 - وقال «أبو عبيد» في حديث «سعد»: «أنه كان يدمل أرضه بالعرة». قال: حدثناه «يزيد» , عن «حماد بن سلمة» , عن «محمد بن إسحاق» , عن «عبد الله بن بابى» قال: كان «سعد» يحمل مكتل عرة إلى أرض له, هكذا قال «يزيد» «بابى» , قال: وكلام العرب «ابن بابا» , ويقال: «ابن باباه» أيضا.

قال: وحدثنا «عباد بن العوام» , عن «ابن إسحاق» , عن «عبد الله بن بابا» عن سعد مثل ذلك, إلا أنه قال: قال «سعد»: «مكتل عرة مكتل بر». قال «الأصمعى»: قوله: «عرة»: يعنى عذرة الناس, قال: ومنه قيل: قد عر فلان قومه بشر: إذا لطخهم به. قال «أبو عبيد»: وقد يكون عرهم من العر أيضا ... وهو الجرب: أعداهم شره ولصق بهم, قال: «الأخطل»: ونعرر بقوم عرة يكر هونها ... ونحيا جميعًا أو نموت فنقتل وقال «الأحمر» في قوله: «يدمل أرضه»: أى يصلحها, ويحسن معالجتهما ومنه قيل للجرح: [قد] اندمل, إذا تماثل وصلح, ومنه قيل: داملت

الرجل: إذا دارأته, ويقال: داريته, لتصلح بينك, وبينه, 499/ قال: وأنشدنى [499] «والأحمر» «لأبى الأسود الديلى» شنئت من الإخوان من لست زائلًا ... أدامله دمل السقاء المخرق ويقال للسرجين: الدمال, لأن الأرض تصلح به, وقال «الكميت»: رأى إرة منها تحش لفتنةٍ ... وإيقاد راج أن يكون دمالها 724 - وفال «أبو عبيد» في حديث «سعد» - رضى الله عنه - حين قال: «لقد رد رسول الله - صلى الله عليه [وسلم]- التبتل على «عثمان بن مظعون» ولو أذن لنا لاختصينا».

قوله: «التبتل»: يعنى ترك النكاح, ومنه قيل «لمريم» البكر البتول, لتركها التزويج, وأصل البتل: القطع, ولهذا قيل: بتلت الشئ: أى قطعته, ومنه قيل للصدقة: يبينها الرجل من ماله صدقة بتة بتلة: أى قد قطعها صاحبها من ماله, وبانت منه. فكأن معنى الحديث أنه الانقطاع من النسل, فلا يتزوج, ولا يولد له, وقال: «ربيعة بن مقروم الضبى» يصف راهبا: لو أنها عرضت لأشمط راهب ... في رأس شاهقة الذرى متبتل

يعني أنه لا يتزوج, ولا يولد له, وقد روى في قول الله - تبارك وتعالى -: {وتبتل إليه تبتيلا}. قال: حدثناه «هشيم» , عن فلان - رجل قد سماه -, عن «الحسن» في قوله [- عز وجل -] {وتبتل إليه تبتيلا}: أى أخلص إليه إخلاصًا, ولا أرى الأصل إلا من هذا. يقول: انقطع إليه بعملك, ونيتك, وإخلاصك. وقال «الأصمعى»: يقال للنخلة إذا كانت فسيلتها قد انفردت نمها, واستغنت عنها: مبتل, ويقال للفسيلة نفسها: البتول. 725 - وقال «أبو عبيد» في حديث «سعد» - رحمه الله - حين قيل له: إن فلانًا ينهى عن المتعة, فقال: «قد تمتعنا مع رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] وفلان كافر بالعرش».

قال: حدثنا «مروان بن معاوية الفزارى» , عن «سليمان التيمى» , عن «غنيم بن قيس» , عن «سعد». قوله: «العرش»: يعنى بيوت «مكة» , سميت العرش, لأنها عيدان تنصب, ويظلل عليها, وقد يقال لها أيضًا: عروش, ومنها [500] حديث «ابن عمر» «أنه كان يقطع التلبية في العمرة إذا نظر إلى عروش «مكة». فمن قال: عرش, فواحدها عريش, وجمعه عرش, مثل قليب وقلب, وسبيل وسبل, وطريق وطرق, ومن قال: عروش, فواحدها عرش, وجمعه عروش مثل: فلس وفلوس, وسرج وسروج, ولم يرد «سعد» بقوله:

كافر بالعرش معنى قول الناس: كافر بالله, وكافر بالنبى [- صلى الله عليه وسلم -] إنما أراد أنه كافر, وهو يومئذ مقيم بالعرش بمكة, ولم يسلم ولم يهاجر, كقولك: فلان كافر «بأرض الروم»: أى كافر, وهو مقيم بها. 726 - وقال «أبو عبيد» في حديث «سعد» [- رحمه الله -]: «لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا الحبلة, وورق السمر, ثم أصبحت «بنو أسد» تعزرنى على الإسلام, لقد ضللت إذًا, وخاب عملى».

أصل التعزير هو التأديب, ولهذا سمى الضرب دون الحد تعزيرًا, وإنما هو أدب, فكأن هذا القول من «سعد» حين شكاه «أهل الكوفة» إلى «عمر» حين قالوا لا يحسن الصلاة, فسأله «عمر» عن ذلك, فقال: إنى لأطيل بهم في الأوليين, وأحذف فى الأخريين, وما آلو عن صلاة رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -]. فقال «عمر»: كذلك عهدنا الصلاة.

وفي حديث آخر, قال: كذاك الظن بك «أبا إسحاق». قال «أبو عبيد»: وقد يكون التعزير في موضع آخر لا يدخل ها هنا, وهو تعظيمك الرجل, وتبجيلك إياه, ومنه قول الله - تبارك وتعالى - {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه}. وأما قول «سعد»: «في الحبلة والسمر» فإنهما نوعان من الشجر أو النبات.

حديث أبي عبيدة بن الجراح رضى الله عنه

حديث أبي عبيدة بن الجراح رضى الله عنه 727 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى عبيدة بن الجراح» [- رحمه الله -] حين قال له «عمر» [- رضى الله عنه -]: «ابسط يدك فلأبايعك» فقال «أبو عبيدة»: ما رأيت - أو قال: ما سمعت - منك فهة في الإسلام قبلها, أتبايعنى وفيكم الصديق [- رضى الله عنه -] ثانى اثنين؟ » [501]. قال: حدثناه «هشيم» و «يزيد» أو أحدهما, عن «العوام بن حوشب» , عن «إبراهيم التيمى». قوله: «فهة»: هى مثل السقطة, والجهلة, ونحوها. يقال منه: رجل فه وفهيه, وفهه.

وقد فههت يا رجل تفه فهاهه, وقد يكون ذلك من العى أيضا, قال الشاعر: فلم تلفنى فها ولم تلف حجتى ... ملجلجة أبغى لها من يقيمها

حديث العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه

حديث العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه 778 - وقال «أبو عبيد» في حديث «العباس [بن عبد المطلب» - رحمه الله -] قال: «كان «عمر» [- رضى الله عنه -] لى جارًا, فكان يصوم النهار, ويقوم الليل, فلما ولى قلت: لأنظرن الآن إلى عمله, فلم يزل على وتيرة واحدة حتى مات». قال: حدثنيه «الهيثم بن عدى» , عن «يونس بن يزيد الأيلى» , عن «الزهرى». قال «أبو عبيدة»: «الوتيرة»: المداومة على الشئ, وهو مأخوذ من التواتر والتتابع, قال: والوتيرة في غير هذا الحديث: الفترة عن المشى والعمل.

قال «زهير» يصف بقرة في [شدة] حضرها: نجاء مجد ليس فيه وتيرة ... وتذبيبها عنها بأسحم مذود قال: والوتيرة أيضًا: غرة الفرس إذا كانت مستدبرة. قال «الكسائى»: فإذا طالت, فهى الشادخة, وأنشدنا: * سقيا لكم يا نعم سقيين اثنين * * شادحة الغرة نجلاء العين * 729 - وقال «أبو عبيد» في حديث «العباس» - رضى الله عنه - وحديث ابنه «عبد الله» فى «زمزم»: لا أحلها لمغتسل, وهى حل لشارب وبل».

قال: حدثنا «أبو بكر بن عياش» , عن «عاصم بن أبى النجود» , عن «زر بن حبيش» أنه سمع «العباس بن عبد المطلب» يقول ذلك. قال: وحدثنى «ابن مهدى» , عن سفيان» , عن «عبد الرحمن بن علقمة» أنه سمع «عبد الله بن عباس» يقول ذلك. قال: وحدثنا «يحيى بن سعيد» , عن «عبد الرحمن [502] بن علقمة» أنه سمع «عبد الله بن عباس» يقول ذلك. قال: وحدثنا «يحيى بن سعيد» , عن «عبد الرحمن بن حرملة» قال: سمعت «سعيد بن المسيب» يحدث أن «عبد المطلب بن هاشم» حين احتفر «زمزم» قال ذلك, وذلك أنه جعل لها حوضين: حوضا للشرب, وحوضًا للوضوء, فعند هذا قال: لا أحلها لمغتسل. وإنما نراه نهى عن هذا أنه نزه المسجد أن يغتسل فيه من جنابة. وأما قوله: «بل»: فإن «الأصمعى» قال: كنت أقول في «بل» إنه

إتباع, كقولهم: عطشان نطشان, وجائع نائع, [وحسن بسن] حتى أخبرنى «معتمر بن سليمان» أن بل - في لغة حمير -: مباح. قال: «أبو عبيد»: وهو عندى على ما قال «معتمر» , لأنا قلما وجدنا الإتباع يكون بواو العطف, وإنما الإتباع بغير واو, كقولهم: جائع نائع, وعطشان نطشان, وحسن بسن, وما أشبه ذلك, إنما يتكلم به بغير واوٍ. وقد كان بعض النحويين يقول في حديث «آدم» [- عليه السلام -] أنه لما قتل أحد ابنيه أخاه, مكث مئة سنة لا يضحك, ثم قيل له: حياك الله وبياك, قال: وما بياك؟ قال: أضحكك». قال: حدثنيه «يزيد» , عن «حسام بن مصك» , عن «عمار الدهنى» , عن

«سعيد بن جبير» , أو عن «سالم بن أبى الجعد» شك «أبو عبيد» بذلك. فقال: وما بياك؟ قال: أضحكك. فقوله: بياك: أضحكك يبين لك أنه ليس بإتباع, إنما هى كلمة أخرى. قال: ويقال: إن بل: شفاء, كما يقال: بل الرجل من مرضه: إذا برا, وأبل, واستبل: إذا برا. قال «أبو عبيد»: ومما يحقق هذا المعنى, قوله في «زمزم»: إنها طعام طعم, وشفاء سقم.

حديث خالد بن الوليد رضى الله عنه

حديث خالد بن الوليد رضى الله عنه 730 - وقال «أبو عبيد» في حديث «خالد بن الوليد» حين خطب الناس, فقال: «إن «عمر» استعلمنى على الشام, وهو له مهم, فلما ألقى الشام بوانيه, وصار بثنية وعسلا عزلنى, واستعمل غيرى». فقال رجل: هذا والله هو [503] الفتنة. فقال «خالد»: أما و «ابن الخطاب» حى فلا, ولكن ذاك إذا كان الناس بذى بلى, وذى بلى». قال: حدثناه عدة عن «الأعمش» , عن «أبى وائل» , عن «عزرة بن قيس» قال: خطبنا «خالد» , ثم ذكر ذلك. قوله: «ألقى الشام بوانيه»: إنما هو مثل, فيقال للإنسان إذا اطمأن بالمكان

واجتمع له أمره: قد ألقى بوانيه, وكذلك يقال: ألقى أرواقه, وألقى عصاه, قال الشاعر: فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر وقوله: «صار بثنية وعسلا» فيه قولان: يقال: البثنية: حنطة منسوبة إلى بلاد معروفة بالشام من أرض «دمشق» يقال لها: البثنية. والقول الآخر: أنه أراد بالبثنية اللينة, ولك أن الرملة اللينة يقال أنها: بثنة, وتصغيرها بثنية, وبها سميت المرأة بثينة. فأراد «خالد»: أن الشام لما اطمأن, وهدأ, وذهبت شوكته, وسكنت الحرب منه, وصار لينا لا مكروه فيه, فإنما هو خصب, كالحنطة والعسل - عزلنى واستعمل

غيرى, قال ذلك كله, أو عامته «الأموى». وكان «الكسائى» و «الأصمعى» يقولان نحو ذلك. وأما قوله: «وكان الناس بذى بلى وذى بلى»: فإنه يعنى تفرق الناس, وأن يكونوا طوائف من غير إمام يجمعهم, وبعد بعضهم من بعض, وكذلك كل من بعد منك حتى لا تعرف موضعه, فهو بذى بلى, وفيه لغة أخرى: بذى بليان, ويروى عن «عاصم بن أبى النجود» , عن «أبى وائل»: «بذى بليان». قال «أبو عبيد»: الذى يرويه عن «عاصم» يقول: «بذى بليان» , والصواب «بليان» , وكان «الكسائى» ينشد هذا البيت في وصف رجل يطيل النوم, فقال: ينام ويذهب الأقوام حتى ... يقال أتوا على ذى بليان يعنى أنه أطال النوم, ومضى أصحابه في سفرهم حتى صاروا إلى موضع [504] لا يعرف مكانهم من طول نومه. قال «أبو عبيد»: وقد رواه بعضهم: ألقى الشام نواتيه, وليس هذا بشئ, إنما النواتى - في كلام أهل الشام: الملاحون الذين في البحر خاصة. 731 - وقال «أبو عبيد»: في حديث «خالد» [- رحمه الله -] حين

كتب إلى مرازية «فارس» مقدمه العراق: «وأما بعد فالحمد لله الذى فض خدمتكم, وفرق كلمتكم, وسلب ملككم». قال: حدثناه «ابن أبى زائدة» , عن «مجالد» , عن «الشعبى» , عن «خالد» قوله: «فض خدمتكم»: يعنى كسر, وفرق, وكل متكسر متفرق, فهو منفض, قال الله - تبارك وتعالى - {لانفضوا من حولك}. وقوله: «خدمتكم» إنما هو مثل, وأصل الخدمة: الحلقة المستدبرة المحكمة, ومنه قليل للخلاخيل: خدام, قال الشاعر: كان منا المطاردون على الأخـ ... ـرى إذا أبدت العذارى الخداما

فشبه «خالد» اجتماع أمرهم كان, واستيساقهم بذلك, فلهذا قال: فض خدمتكم: أى فرقها بعد اجتماعها. 732 - وقال «أبو عبيد» في حديث «خالد» [- رحمه الله -] فى غزاة «بنى جذيمة» من [بنى] «كنانة» يوم فتح مكة, وكان أسر منهم قومًا, فلما كان الليل نادى مناديه: «من كان معه أسير فليدافه». قال «الأموى» و «أبو عمرو»: قوله: «فليدافه»: يعنى ليجهز عليه. يقال منه: داففت الرجل دفافًا ومدافة, وهو إجهازك عليه, قال «العجاج» - أو «رؤبة» - فى رجل يعاتبه: * لما رآنى أرعشت أطرافى * * كان مع الشيب من الدفاف *

ويروى: «الذفاف» بالذالز وكان «الأصمعى» يقول: تداف القوم: إذا ركب بعضهم بعضا. وقال «أبو عبيد»: ولا أراه مأخوذًا إلا من هذا. وفيه [505] لغة أخرى: فليدافه مخففة. يقال منه: دافيته, وهو فيما يقال: «لغة جهينة». ومنه الحديث المرفوع: «أنه أتى بأسير, فقال لقوم منهم: اذهبوا به فأدفوه». يريد الدفء من البرد, فذهبوا به, فقتلوه, فوداه رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] يروى هذا عن «مجالد» , عن رجل من «جهنية». قال: فذكرته «للشعبى» فعرفه. وفيه لغة أخرى ثالثة بالذال, يقال: دفقت عليه تدفيقا: إذا أجهزت عليه.

ومنه حديث «على» [- رحمه الله -] أنه نادى مناديه «يوم الجمل»: «لا يذفف على جريح, ولا يتبع مدبر». حدثناه «شريك» , عن «السدى» , عن «عبد خير» , عن «على» أنه نادى مناديه «يوم الجمل» بذلك. والذفاق: هو السم االقتل.

حديث أبى ذر الغفارى رضى الله عنه

حديث أبى ذر الغفارى رضى الله عنه 733 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبي ذر» - رحمه الله - حين عرض عليه «عثمان» [- رحمه الله -] الإقامة معه بالمدينة, فأبى, فاستأذنه إلى «الربذة» فقال: «عليكم معشر «قريش» بدنياكم فاغذموها». قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «سليمان بن المغيرة» , عن «حميد بن هلال, عن «عبد الله بن الصامت» , عن «أبى ذر». قال «الأصمعى»: الغذم: هو الكل بجفاء وشدة نهم يقال منه: غدمت أغذم غذما, وقال «الأحمر» يقال: اغتذم الحوار ما فى ضرع أمه, وذلك: إذا استوعبه, فلم يبق فيه شيئًا, وهو من الأول, يقال: غذم, واغتذم. قال «أبو عبيد»: وكذلك: امتكه, وكل آكل شيئًا, أو شاربه برغب

ونهم, فقد غذمه, واغتذمه. 734 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى ذر» - رحمه الله - أن «النبى» صلى الله عليه وسلم ذكر ليلة القدر, فقال: «هى فى رمضان في العشر الأواخر». قال «أبو ذر»: فاهتبلت غفلنه, فقلت: «أى ليلة هى» قال: حدثنيه «عمر بن يونس اليمامى» , عن «عكرمة بن عمار اليمامى» , عن «أب زميل» , عن «مالك بم مرثد» , عن «أبيه» , عن

«أبى ذكر» [عن «النبى» - صلى الله عليه وسلم -] قوله: «اهتبلت»: الاهتبال: مثل قولك: تحينت غفلته, واقترضتها, واحتلت لها حتى وجدتها, كالرجل يطلب الفرصة في الشئ, قال «الكميت»: [506] وقالت لى النفس الشعب الصدع واهتبل ... لإحدى الهنات المضلعات اهتبالها ويروى: «المعضلات» أى استعد لها, واحتل. يقال منه: رجل مهتبل, وهبال. 735 - وقال «أبو عبيد» «فى حديث «أبى ذر» - رحمه الله - حين ذكر القيام في شهر رمضان مع «النبى» - صلى الله عليه وسلم - قال: «فلما كانت ليلة ثالثة بقيت قام بنا حتى خفنا أن يفوتنا الفلاح. قيل: وما الفلاح؟ قال: السحور وأيقظ في تلك الليلة أهله وبناته ونساءه».

وقال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «داود بن أبى هند» , عن «الوليد ابن عبد الرحمن الجرشى» , عن «جبير بن نفير» قال: حدثنا «أبو ذر» قال: شهدت مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] شهر رمضان, فلم يقم بنا فى شئ من الشهر حتى إذا كانت ليلة سابعة بقيت قام بنا إلى ثلث الليل, ثم لم يقم بنا ليلة سادسة بقيت, فلما كانت ليلة خامسة بقيت قام إلى شطر الليل, فقلنا: يا رسول الله: لو نقلتنا هذه. فقال: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلته». قال: ثم لم يقم بنا ليلة رابعة بقيت, فلما كانت ليلة ثالثة بقيت قام بنا حتى خفنا أن يفوتنا الفلاح. قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور.

قال: وأيقظ في تلك الليلة أهله, وبناته, ونساءه». قال: قوله: «الفلاح» تفسير في الحديث, وهو على ما قيل, وأصل الفلاح: البقاء, قال: «الأضبط بن قريع السعدى» في الجاهلية الجهلاء: لكل هم من الهموم سعه ... والمسى والصبح لا فلاح معه يقول: ليس مع كر الليل والنهار بقاء. [قال]: ومنه قول «عبيد [بن الأبرص]: أفلح بما شئت فقد يبلغ بالضعف وقد يخدع الأريب يقول: عش بما شئت من عقل أو حمق, فقد يرزق الأحمق, ويحرم العاقل. وقد يقال: إنما قيل لأهل الجنة: مفلحون, لفوزهم ببقاء الأبد في الجنة.

فكان معنى الحديث: أن السحور به بقاء الصوم, فلهذا سماه فلاحًا. 736 - وقال «أبو عبيد» في حديث [507] «أبى ذر» [- رحمه الله -] أنه مر به قوم بالربذة, وهم محرمون, وقد تزلعت أيديهم وأرجلهم, فسألوه: بأى شئ نداوبها؟ فقال: بالدهن». قال: حدثنيه «غندر» , عن «شعبة» , عن «أشعث» بن أبى الشعثاء» , عن «مرة بن خالد» , عن «أبى ذر». [قال أبو عبيد]: قوله: «تزلعت أيديهم»: تشققت, والتزلع: الشقاق. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه رخص لهم بالدهن, ما لم يكن فيه طيب, فإذا كان فيه طيب, وجبت فيه الكفارة. 737 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى ذر» [- رحمه الله -] عند إسلامه, وكان قد «مكة» هو وأخوه, فذكر أنه كان يمشى نهاره,

فإذا كان الليل سقطت كأنى خفاء». [قال أبو عبيد] فالخفاء ممدود: وهو الغطاء, وكل شئ عطيته بشئ من كساء أو ثوب, أو غيره, فذلك الغطاء: هو خفاء, وجمعه أخفية, قال «ذو الرمة»: عليه زاد واهدام وأخفية ... فد كاد يجترها عن ظهره الحقب وفي هذا الحديث أنه قال: «نافر أخى رجلا» فالمنافرة: أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه, ثم يحكما بينهما رجلا, كفعل «علقمة بن علاثة» و «عامر بن الطفيل» حين تنافرا إلى «هرم بن قطبة الفزارى» وفي ذلك يقول «الأعشى» يمدح «عامرًا» ويحمل على «علقمة»:

قد قلت شعرى فمضى فيكما ... واعترف المنقور للنافر فالمنقور: المغلوب, والنافر: الغالب. وقد نفره ينفره, وينفره نفرا: إذا غلب عليه. 738 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى ذر» [- رحمه الله -] أنه قال: إن خليلى - صلى الله عليه وسلم - قال: إن ما دون جسر جهنم طريق ذو دحض ومزلة».

الدحض: الزلق, والمزلة, مثله, يقال: مزلة, ومزلة. [لغتان].

حديث عمار بن ياسر رضى الله عنه

حديث عمار بن ياسر رضى الله عنه 739 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عمار [بن ياسر» - رحمه الله]- حين أوجز الصلاة [508] وقال: إنى كنت أغاول حاجة لى». قال «أبو عمرو»: المغاولة: المبادرة في السير وغيره, وقال «جرير» يذكر رجلًا, أغارت عليه الخيل: عاينت مشعلة الرعال كأنها ... طير تغاول في شمام وكورا وقال «معن [بن أوس]» يصف الناقة: تشج بنا العوجاء كل تنوفة ... كأن لها بسوا بنهى تغاوله

قال «أبو عبيد»: ونهى أيضًا. قال «أبو عبيد»: وأصل هذا من الغول: وهو البعد, يقال: هون الله عليك غول هذا الطريق: يعنى البعد, والغول أيضًا من الشئ يغولك: يذهب بك, قال «لبيد» بذكر ثورًا: وببرى عصيا دونها متلبئة ... يرى دونها غولًا من الرمل عائلا وفي هذا الحديث من الفقه: التجوز في الصلاة إذا كان ذلك بإتمام الركوع والسجود, وقد روى عنه في هذا حديث آخر. قال: حدثناه «أبو بكر بن عياش» , عن «عاصم بن أبى النجود» , عن «زر» عن «عمار» أنه سئل عن ذلك فقال: «إنى بادرت الوسواس».

قال «أبو عبيد» فرأى تعجيل الصلاة مع السلامة أقرب إلى البر من طولها مع الوسوسة. وكذلك حديث «الزبير». قال: حدثنا «إسحاق الأزرق» , عن «عوف» , عن «أبى رجاء العطاردى» , عن «الزبير» أنه قيل له: ما بالكم يا أصحاب «محمد» أخف الناس صلاة, فقال: «إنا نبادر الوسواس». 740 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عمار» [- رحمه الله -] أنه لبس تبانا, أو صلى في تبان, وقال: إنى ممثون». قال: حدثناه «مروان بن معاوية» , عن «العلاء بن المسيب» , عن «أبيه» , عن «عمار». قال: الكسائى»: الممثون: الذى يشتكى مثانته. يقال منه: رجل مثن وممثون. [قال أبو عبيد]: وكذلك إذا ضربته على مثانته.

[و] يقال: مثنته أمثنه وأمثنه مثنًا, فهو ممثون. وهذا مثل قولهم إذا اشتكى رأسه, أو ضرب على رأسه [509] قيل: مرؤوس, ومن الفؤاد مفؤود, وعلى هذا عامة ما فى الجسد, ولهذا قيل للذى به المشى مبطون, وكذلك مصدور: إذا كان يشتكى صدره. ومنه قول «عبيد الله بن عبد الله بن عتبة» حين قال له «عمر بن عبد العزيز»: «حتى متى هذا الشعر»؟ فقال: «عبيد الله»: * لابد للمصدور من أن يسعلا* قال «أبو عبيد»: سمعت «عبد الله بن إدريس» يحدثه. 741 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عمار» [- رحمه الله -] أنه ذكر عنده أن «أبا موسى» كره كسر القرن في الأضحية, فقال: الخصاء أشد منه, ولا بأس به».

قال: حدثناه «هشيم» و «أبو معاوية» و «يزيد» كلهم عن «حجاج» , عن «عمير بن سعيد» أنه سمع «عمارًا» يقوله. قال «أبو زيد»: الخصاء: أنه تسل أنثييه سلًا. فإن رضضتهما رضا, ولم تخرجهما, فذلك الوجاء, وقد وجأته وجاء. فإن شققت الصفن - والصفن - فأخرجتهما بعروقهما, فذلك المثن, وقد مثنته مثنًا, فهو ممثون. وإن شددتهما حتى يسقطا من غير نزع, فهو العصب, وقد عصبته عصبًا, فهو معصوب.

حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه

حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه 742 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن مسعود» [- رحمه الله -]: «جردوا القرآن, ليربو فيه صغيركم, ولا ينأى عنه كبيركم, فإن الشيطان يخرج من البيت تقرأ فيه سورة البقرة» قال: حدثنيه «غندر» و «حجاج» , عن «شعبة» , عن «سلمة بن كهيل» , عن «أبى الأحوص» , عن «عبد الله». [قال «أبو عبيد»: و] قد اختلف الناس في تفسير قوله: «جردوا القرآن». فكان «إبراهيم» يذهب به إلى نقط المصاحف. قال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «مغيرة» , عن «إبراهيم» أنه كان يكره نقط المصاحف, ويقول: جردوا القرآن, ولا تخلطوا به غيره.

[قال «أبو عبيد»]: وإنما نرى [أن] «إبراهيم» كره هذا مخافة أن ينشأ نشء يدركون المصاحف منقوطة, فيرون أن النقط من القرآن [510] ولهذا المعنى كره من كره الفواتح والعواشر. قال: حدثنا «أبو بكر بن عياش» , عن «أبى حصين» , عن «يحيى بن وثاب» , عن «مسروق» , عن «عبد الله» أنه كره التعشير في المصحف, وهذا وجه تأويل قوله: جردوا القرآن.

وقد روى في حديث آخر عن «عبد الله» أن رجلًا قرأ عنده, فقال: استعيذ بالله من الشيطان الرجيم, فقال «عبد الله»: جردوا القرآن». وقد ذهب به كثير من الناس إلى أن يتعلم وحده, وتترك الأحاديث. قال «أبو عبيد»: وليس هذا عندى بوجه, وكيف يكون «عبد الله» أراد هذا, وهو يحدث عن «النبى» [- صلى الله عليه وسلم -] بحديث كثير, ولكنه عندى ما ذهب إليه «إبراهيم» , وما ذهب إليه «عبد الله» نفسه. وفيه وجه آخر هو عندى من أبين هذه الوجوه, أنه أراد بقوله: «جردوا القرآن» أنه حثهم على ألا يتعلم شئ من كتب الله تبارك وتعالى غيره, لأن ما خلا القرآن من كتب الله - جل ثناؤه - إنما تؤخذ عن «اليهود» و «النصارى» وليسوا بمأمونين عليها, وذلك بين في حديث [آخر] من

«عبد الله» نفسه. قال: حدثناه «محمد بن عبيد» , عن «هارون بن عنترة» , عن «عبد الرحمن بن الأسود» , عن «أبيه» قال: أصبت أنا و «علقمة» صحيفة فانطلقنا إلى «عبد الله» , فقلنا: هذه صحيفة فيها حديث حسن, قال: فجعل «عبد الله» يمحوها بيده, ويقول: {نحن نقص عليك أحسن القصص} ثم قال: «إن هذه القلوب أوعية, فاشغلوها بالقرآن, ولا تشغلوها بغيره». وكذلك حديث الآخر: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ, فعسى أن يحدثوكم بحق, فتكذبوا به, أو بباطل فتصدقوا به, كيف يهدونكم, وقد أضلوا أنفسهم» ومنه حديث «النبى» - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه «عمر» بصحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب, فغضب, وقال: «أمتهوكون فيها يا بن الخطاب» والحديث في كراهة هذا كثير.

فأما مذهب من ذهب إلى ترك أحاديث «النبى» - صلى الله عليه وسلم - فهذا باطل, لأن فيه إبطال السنن [511]. ومما يبين ذلك حديث «عمر» حين وجه الناس إلى العراق, فقال: «جردوا القرآن, وأقلوا الرواية عن رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] وأنا شريككم». قال: حدثناه «أبو بكر» , عن «أبى حصين» يرفعه إلى «عمر» وذلك أنه كان روى الكراهة في هذا عن «النبى» - عليه السلام -. ففى قوله: «أقلوا الرواية عن رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -]» أنه لم يرد بتجريد القرآن ترك الرواية عن «النبى» - صلى الله عليه وسلم - وقد رخص في القليل منه, فهذا يبين أنه لم يأمر بترك حديث «النبى» - صلى الله عليه وسلم - ولكنه أراد عندنا علم أهل الكتب, للحديث الذى سمع من

«النبى» - عليه السلام - فيه حين قال: «أمتهوكن فيها يا بن الخطاب؟ » ومع هذا أنه كان يحدث عن «النبى» [- صلى الله عليه وسلم -] بحديث كثير. 743 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «لا يكونن أحدكم إمعة, قيل: وما الإمعة؟ قال: الذى يقول: أنا مع الناس». قال «أبو عبيد»: لم يكره «عبد الله» نم هذا الكينونة مع الجماعة, ولكن أصل الإمعة: هو الرجل الذى لا رأى له ولا عزم, فهو يتابع كل أحد على رأيه, ولا يثبت على شئ, وكذلك الرجل الإمرة: هو الذى يوافق كل إنسان على ما يريد من أمره كله. ويروى عن «عبد الله» أنه قال: كنا نعد الإمعة في الجاهلية: الذى يتبع الناس إلى الطعام من غير أن يدعى, وإن الإمعة فيكم اليوم المحقب الناس دينه, والمعنى الأول يرجع إلى هذا.

744 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «إن التمائم والرقى والتولة من الشرك». قال: حدثناه «غندر» , عن «شعبة» , عن «الحكم» , عن «إبراهيم» , عن «عبد الله». قال «الأصمعى»: هى التولة - بكسر التاء - وهو الذى يحبب المرأة إلى زوجها. قال [أبو عبيد]: ولم أسمع على هذا المثال في الكلام غير حرف واحد

قال: يقال: هذا شئ طبية: يعنى الشئ الطيب. قال «أبو عبيد»: وإنما أراد بالرقى والتمائم عندى ما كان بغير لسان العربية مما لا يدرى ما هو, فأما الذى يحبب المرأة إلى زوجها, فهو عندنا من السحر. 745 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن مسعود» [- رحمه الله -]: «إنكم مجموعون في صعيد [512] واحد, يسمعهم الداعى, وينفذهم البصر». قال: حدثنيه «معاذ» , عن «ابن عون» , عن «أبى وائل» , عن «ابن مسعود».

قال «الأصمعى»: هكذا سمعت «ابن عون» يقولها: وينفذهم. يقال منه: أنفذت القوم: إذا حرفتهم, ومشيت في وسطهم, قال: فإن جزتهم حتى تحلفهم قلت: نفذتهم أنفذهم. «أبو زيد» قال: ينفذهم البصر إنفاذًا: إذا جاوزهم. وقال «الكسائى»: يقال: نفذنى بصره ينفذنى: أى بلغنى وجازنى. قال «أبو عبيد»: فالمعنى أنه ينفذهم بصر الرحمن - تبارك وتعالى - حتى يأتى عليهم كلهم, ويسمعهم داعيه. 746 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] قال: «انتهيت إلى «أبى جهل» يوم بدر وهو صريع, فقلت: قد أخزاك الله يا عدو الله, فوضعت رجلى على مذمره, فقال: يا رويعى الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا, لمن الدبرة؟ فقلت: لله ولرسوله.

قال: ثم احتززت رأسه, وجئت به إلى رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] قال «الأصمعى»: المذمر: هو الكاهل والعنق, وما حوله إلى الذفرى, ومنه قيل للرجل الذى يدخل يده في حيا الناقة, لينظر أذكر في جنينها أم أنثى: مذمر, لأنه يضع يده ذلك الموضع, فيعرفه, قال «ذو الرمة» [يصف الإبل]: حراجيج مما ذمرت في نتاجها ... بناحية الشحر الغرير وشدقم يعنى أنها من إبل هؤلاء, فهم يذمرونها, قال «الكميت»: وقال المذمر للناتجين ... متى ذمرت قبلى الأرجل يقول: إن التذمير إنما هو في الأعناق لا في الأرجل. وأما المدمر - بالدال - فإنه الصائد يقتر للصيد, يدخن بأويار الإبل

وغيرها حتى لا يجد الصيد ريح الصائد فينقر, قال «أوس بن حجر»: فلاقى عليها من صباح مدمرًا ... لناموسه من الصفيح سقائف وفي حديث «لعبد الله» آخر, أنه لما قال «لأبى جهل» ما قال, قال «أبو جهل»: «أعمد من سيد قتله قومه». يروى ذلك عن «زيد بن أبى أنيسة» , عن «أبى [513] إسحاق» , عن «عمرو ابن ميمون» , عن «عبد الله». قوله: «أعمد»: يقول: هل زاد على سيد قتله قومه؟ : أى هل كان إلا هذا؟ . يقول: إن هذا ليس بعار. وكان «أبو عبيدة» يحكى عن العرب «أعمد من كيل محق»: أى هل زاد

على هذا؟ بلغنى ذلك عن «أبى عبيدة» , قال: وقال «ابن ميادة المرى»: تقدم «قيس» كل يوم كريهة ... وينثى عليها في الرخاء ذنوبها وأعمد من قوم كفاهم أخوهم ... صدام الأعادى حين قلت نيوبها يقول: هل زدنا على أن كفينا إخواننا. 747 - وقال «أبو عبيد» في حديث عبد الله - رحمه الله - وذكر القرآن, فقال: «لا يتقه, ولا يتشان»

قوله: لا يتقه, [قال «أبو عمرو»]: هو من الشئ التافه, وهو الخسيس الحقير. ومنه قول «إبراهيم»: تجوز شهادة العبد في الشئ التافه, يقول: فلا يكون القرآن كذاك. وقوله: «لا يتشان»: يقول: لا يخلق, وهو مأخوذ من الشن, وهو الجلد الخلق البالى. ومن ذلك حديث «عائشة» [- رحمها الله -] وذكرت جلد شاة ذبحوها, فقالت: «فنبذنا فيه حتى صار شنًا»: أى صار خلقا. والقرية: شنة, والجمع من ذلك شنان. وفي حديث له آخر: «لا يخلق عن كثيرة الرد» فهذا يبين لك أنه غض

أبدًا جديد, وفيه لغتان يقال: خلق وأخلق. 748 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [رحمه الله] أنه أتاه «زياد بن عدى» وقال بعضهم: «[زياد بن] عدى» فوطده إلى الأرض, وكان رجلًا مجبولًا عظيمًا, فقال «عبد الله»: أعل عنى, أو عال عنى. فقال: لا, حتى تخبرنى متى يهلك الرجل, وهو يعلم. فقال: «إذا كان عليه إمام - أو قال أمير - إن أطاعه أكفره, وإن عصاه قتله». قال: حدثناه «إسحاق الأزرق» , عن «عوف» , عن «أبى المنهال» , عن «أبى العالية» , عن «زياد بن عدى» , أنه فعل ذلك بعبد الله. قال «أبو عمرو»: الوطد: غمزك الشئ في الأرض, وإثباتك إياه, يقال منه: وطدته أكده [514] وطدا: إذا وطئته, وغمزته, وأثبته, فهو موطود.

قال «الشماخ بن ضرار التغلبى»: فالحق ببجلة ناسيهم وكن معهم ... حتى يعيروك مجدًا غير موطود [قال «أبو عبيد»]: «بجلة»: حى من بنى سليم, تقول: بجلى إذا نسيت إليهم. وبعضهم يقول في هذا الحديث: إن «زيادًا» أتاه, فأطره إلى الأرض, فإن كان هذا هو المحفوظ, فإن الأطر: العطف, والأول أجود في المعنى. وقوله: «مجبول»: هو العظيم الخلق. وقوله: «أعلى عنى»: أى ارتفع, قال «الكسائى»: يقال: أعل عن الرسادة, وعال عنها: أى تنح عنها. 749 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: أنه

رأى رجلًا شاخصًا بصره إلى السماء فى الصلاة, فقال: «ما يدرى هذا لعل بصره سيلتمع قبل أن يرجع إليه». قال: حدثناه «هشيم» , عن «حصين» , عن «إبراهيم» , عن «عبد الله». قال «أبو عمرو»: يلتمع: مثل يختلس. يقال: التمعنا القوم: أى ذهبنا بهم, وقال «القاطى»: زمان الجاهلية كل حى ... أبرنا من فصيلتهم لماعا قال «أبو عبيد»: ومن هذا قيل: قد التمع لونه: إذا ذهب, ومثله انتقع, وامتقع, واللمعة في غير هذا: هو الموضع الذى لا يصيبه الماء فى الغسل أو الوضوء من الجسد. 750 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] قال: كنا عند «النبى» - عليه السلام - ذات ليلة فأكرينا فى الحديث, ثم

ذكر حديثا طويلًا في أشراط الساعة». قال: حدثناه «عبد الوهاب بن عطاء» بإسناد له, عن «عبد الله» في حديث طويل. قال «أبو عمرو»: قوله: أكرينا: يعنى أطلنا, وكل شئ أطلته أو أخرته فقد أكريته, وكان «أبو عبيدة» ينشد بيت «الحطيئة»: وأكريت العشاء إلى سهيل ... أو الشعرى فطال بى الأناء وغيره يرويه: * وآنيت العشاء إلى سهيل* وقال «ابن أحمر» يذكر الظل نصف النهار, فقال: * والظل لم يقصر ولم يكرى *

يقول: هو على طول صاحبه قائم معه, كما قال «الأعشى»: إذا الظل أحرزته الساق يقول: لم ينكسر الفئ فيزداد, ولم ينقص عن صاحبه. [وقال «العجاج»: * وانتعل الظل فصار جوربا *] 751 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن مسعود» [- رحمه الله -]: أن طول الصلاة وقصر الخطبة مثنة من فقه الرجل». قال: حدثنيه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «أبى وائل» , عن «عبد الله».

قال «أبو يزيد»: قوله: مئنة: كقولك: مخلقة لذاك, ومجدرة لذاك, ومحراة, ونحو ذلك. قال «الأصمعى»: قد سألنى «شعبة» عن هذا, فقلت: مئنة, يقول: هو علامة لذاك, وخليق لذاك. قال «أبو عبيد»: يعنى أن هذا مما يعرف به فقه الرجل, ويستدل به عليه, وكذلك كل شئ ذلك على شئ, فهو مئنة له, قال الشاعر: فتهامسوا سرًا فقالوا عرسوا ... من غير تمئنة لغير معرس يقول: قالوا ذلك القول فى غير موضع تعريس, ولا علامة تدلهم عليه. 752 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «عليكم بالعلم, فإن أحدكم لا يدرى متى يختل إليه». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «أبى وائل» , عن «عبد الله».

قال «الأصمعى»: يقول: متى يحتاج إليه, وهو من الخلة والحاجة. قال: وأمل على أعرابى وصيته, فقال: «وإن نخلاتى للأخل الأقرب» يعنى الأحوج من أهل بيته. وكان «الكسائى» يذهب إلى الخلة, والخلة من النيات, ما أكلته الإبل من غير الحمض. قال «الأصمعى»: والعرب تقول: الخلة خيز الإبل, والحمض فاكهتها, وهو كل نبت فيه ملوحة, فإذا ملت الخلة حولت إلى الحمض, لتذهب عنها تلك الملالة, ثم تعاد إلى الخلة. قال «أبو عبيد»: فأراد «الكسائى» [516] بقوله: متى يختل إليه: أى متى يشتهى إلى ما عنده كشهرة الإبل للخلة. وقول «الأصمعى» فى هذا أعجب إلى, وأشبه بالمعنى, قال «كثير»:

فما أصبحت نفسى تبثك ما بها ... ولا الأرض لا تشكو إليك اختلالها ويروى: تبثك لغتان: يعنى لا تشكو حاجتها. يقال: أبثثته ما فى نفسى وبثثته. 753 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] في الذى لدغ وهو محرم بالعمرة, فأحصر, فقال «عبد الله»: «ابعثوا بالهدى, واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار فإذا ذبح الهدى «بمكة» حل هذا». قال: حدثناه «عباد بن العوام» عن «أبان بن تغلب» , عن «عبد الرحمن ابن الأسود» , عن «أبيه» , عن «عبد الله». قال «الكسائى»: الأمار: العلامة التى يعرف بها الشئ, يقول:

اجعلوا بينكم يوما تعرفونه, لكيلا تختلفوا, وفيه لغتان: الأمار والأمارة, قال: وأنشدنا «الكسائى»: إذا طلعت شمس النهار فإنها ... أمارة تسليمى عليك فسلمى وفى هذا الحديث من الفقه أنه جعل المرض إحصارًا كحصر العدو, وأجاز ذلك في العمرة, وقد كان بعض أهل العلم لا يرى للمعتمر رخصة في الإحصار, يقول: لا يزال مقيما على إحصاره محرمًا حتى يطوف بالبيت, يذهب إلى أن العمرة لا وقت لها كوقت الحج. وقول «عبد الله» هو عندنا الذى عليه العمل. 754 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» أنه: أتى بسكران أو شارب فقال: «تلتلوه, ومزمزوه».

قال «أبو عمرو»: هو أن يحرك, ويزعزع, ويستنكه حتى يوجد منه الريح, ليعلم ما شرب. وهو التلتلة, والترترة, والمزمرة بمعنى واحد, وجمع التلتلة تلاتل, وهى الحركات, قال «ذو الرمة» يصف بعيرًا [517]: بعيد مساف الخطو غوج شمردل ... تقطع أنفاس المهارى تلاتله يقول: إنها تسير بسيره, فهو يتلتلها في السير, لتدركه. قال «أبو عبيد»: وهذا الحديث بعض أهل العلم ينكره, لأن الحدود إذا جاء صاحبها مقرًا بها, فإنه ينبغى للإمام ألا يسمع منه, وأن يرده ويعرض عنه كما جاء في الأثر عن رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] فى «ما عز بن مالك» حين أقر بالزنا وكالحديث الآخر: «اطردوا المعترفين» ,

فكيف يكون أن يتلتل, ويمزمز حتى يظهر سكره, وهو يؤمر أن يستر على نفسه, فإن كان هذا محفوظًا, فينبغى أن يكون فعله «عبد الله» برجل مولع بالشراب يدمنه, فاستجازه لذلك. 755 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «إذا قال الرجل لامرأته: «استفلحى بأمرك, أو أمرك لك, أو الحقى بأهلك, فقبلوها, فواحدة بائنة». قال: حدثناه «يحيى بن سعيد» , عن «شعبة» , عن «أبى حصين» , عن «يحيى بن وثاب» , عن «مسروق» , عن «عبد الله». قال «أبو عبيد»: فسألت «الأصمعى» و «أبا عمرو» عن قوله: «استفلحى بأمرك» فلم يثبتا معرفته, وشكا فيه.

وكان «أبو عبيدة» يقول: هو مثل قولك: أظفرى بأمرك, وفوزى بأمرك, واستبدى بأمرك, هذا ونحوه من الكلام. قال «أبو عبيد»: ولا أحسب قول «عبيد الأسدى»: أفلح بما شئت فقد يبلغ بالضعف وقد يخددع الأريب إلا من هذا, إنما أراد: أظفر بما شئت, فز بما شئت, عش بما شئت من عقل وحمق, فقد يرزق الأحمق, ويحرم العاقل. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه جعل ما لم يكن فيه ذكر الطلاق مصرحًا طلاقًا بائنًا, وبهذا كان «أبو حنيفة» و «أبو يوسف» و «محمد» يفتون. وقد روى عن «عبد الله» خلاف هذا [518] أنه قال في هذه الخصال الثلاث التى في هذا الحديث: هى تطليقة, ولم يذكر بائنة.

[قال «أبو عبيد»]: كان «شريك» يحدثه عن «أبى حصين» بمثل إسناد «شعبة» ونرى أن المحفوظ إنما هو حديث «شريك» , لأنه يروى عن «عبد الله» ما يصدقه أنه كان لا يرى طلاقًا بائنًا إلا فى خلع أو إيلاء. 756 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن مسعود» [- رحمه الله -]: «أنه باع نفاية بيت المال, وكانت زبوقًا, وقسيانًا بدون وزنها, فذكر ذلك «لعمر» , [رضى الله عنه] فنهاه, وأمره أن يردها». قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «مجالد» , عن «الشعبى» , عن «عبد الله». قال «الأصمعى»: واحد القسيان [درهم] قسى - مخففة السين مشددة الياء - على مثال: شقى. قال «الأصمعى»: فكأنه إعراب قاشى.

ومنه حديثه الآخر: ما يسرنى دين الذى يأتى الصراف بدرهم قسى». قال «أبو زبيد» يذكر حفر المساحى: لها صواهل في صم السلام كما ... صاح القسيات في أيدى الصياريف ويقال منه: قد قسا الدرهم يقسو. ومنه حديث «لعبد الله» آخر أنه قال لأصحابه: أتدرون كيف يدرس العلم - أو قال: - الإسلام؟ - فقالوا: كما يخلق الثوب, أو كما يقسو الدرهم, فقال: «لا, ولكن دروس العلم بموت العلماء». وفي هذا الحديث من الفقه: أن «عمر» كره أن يباع الدرهم الزائف بدون وزنه,

لأنه وإن كان فيه نحاس, فإنه في حد الدراهم, والغالب عليه الفضة, فكره الفضة إلا بمثل وزنها سواء. 757 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» - رحمه الله -: «ما مصلى لامرأة أفضل من أشد مكان في بيتها ظلمة إلا امرأة قد يئست من البعولة, فهى فى منقلبها». قال: حدثنيه «المبارك بن سعيد» , عن أبيه «سعيد بن مسروق» , عن «أبى عمرو الشيبانى» , عن «عبد الله». قال «الأموى»: المنقل: الخف. قال «أبو عبيد»: وأحسبه الخلق, وأنشدنى «الأموى» «للكميت»: وكان الأباطح مثل الإرين ... وشبه بالحفوة المنقل

[519] الإرين: واحدتها إرة, وهى: الحذرة يوقد فيها النار للخبزة أو غيرها, وإنما وصف شدة الحر, يعنى أنه يصيب صاحب الخف ما يصيب الحافى من الرمضاء, والذى أراد «عبد الله» بقوله: «فهى في منقلبها»: يعنى أنها ممن تخرج إلى الأسواق والحوائج, فهى أبدًا لابسة خفيها. فأما التى لم تيأس من البعولة, فهى لازمة لبيتها فلا [تخرج] , فرخص للعجائز في الصلاة في المساجد, وكرهه للشواب. [قال «أبو عبيد»]: وقوله: «منقل» لولا أن الرواية اتفقت في الحديث, والشعر جميعًا على فتح الميم, ما كان وجه الكلام عندى إلا كسرها.

758 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] حين ذكر القيامة, وأن الله - تبارك وتعالى - يظهر للناس, قال: فيخر المسلمون للسجود, قال: وتعقم أصلاب المنافقين, فلا يقدرون على السجود». قال: حدثنيه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «سلمة بن كهيل» , عن «أبى الزعراء» , عن «عبد الله بن مسعود». قوله: تعقم: يعنى تيبس مفاصلهم, والمفاصل هى المعاقم, يقال للفرس إذا كان شديد معاقد الأرساغ: إنه لشديد المعاقم, قال «النابغة» يذكر فرسًا: تخطو على معج عوج معاقمها ... يحسبن أن تراب الأرض منتهب وإنما يقال للمرأة: معقومة الرحم من هذا, لأنها كأنها مشدودتها. وفي حديث آخر: «وتبقى أصلاب المنافقين طبقًا واحدًا». وهو من هذا أيضًا, قال «الأصمعى»: الطبق: فقار الظهر, واحدتها طبقة,

وجمعها طبق, يقول: فصار كله فقارة واحدة, فلا يقدرون على السجود. 759 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن مسعود» [- رحمه الله -]: «أن الرجل ليتكلم بالكلمة في الرفاهية من سخط الله ترد به بعد ما بين السماء والأرض». قال: حدثنيه «محمد بن يزيد» و «يحيى بن سعيد» , عن «إسماعيل» , عن «قيس» , عن «عبد الله». قال «أبو زياد الكلابى»: الرفاهية: السعة في المعاش والخصب, وهذا أصل الرفاهية, فأراد «عبد الله»: أنه يتكلم بهذه [520] الكلمة في تلك الرفاهية والإتراف في دنياه مستهينا بها, لما هو فيه من النعمة, فيسخط الله عليه. قال «أبو عبيد»: وفي الرفاهية لغة أخرى: الرفاغية, وليس هو في الحديث. يقال: هو فى رفاهية ورفاغية من العيش. 760 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله - أنه] قال: «سدرة المنتهى: صبر الجنة».

قال «أبو عبيدة»: صبرها: أعلاها, وكذلك صبر كل شيء: أعلاه, وجمعه أصبار, قال «النمر بن تولب» يصف روضة: عزبت وباكرها الربيع بديمة ... وطفاء تملؤها إلى أصبارها يعنى إلى أعاليها, وهى جماعة الصبر. وقال «الأحمر»: الصبر: جانب الشئ, وفيه لغتان: صبر وبصر, كما قالوا: جذب, وجبذ. قال «أبو عبيد»: وقول «أبى عبيدة» أعجب إلى أن يكون في أعلاها من أن يكون في جانبها. 761 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] «أن امرأته سألته أن يكسوها جلبابًا, فقال: إنى أخشى أن تدعى جلباب الله الذى جلببك به. قالت: وما هو؟ قال: بيتك. قالت: أجنك من أصحاب «محمد» تقول: هذا. قال: حدثنيه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «طارق بن عبد الرحمن» ,

عن «حكيم بن جابر» , عن «عبد الله». قال «الكسائى» وغيره: قولها: أجنك: تريد من أجل أنك, فتركت «من» , والعرب تفعل ذلك تدع «من» مع «أجل» , تقول: فعلت ذاك أجلك: بمعنى من أجلك, قال «عدى بن زيد»: أجل أن الله قد فضلكم ... فوق ما أحكى بصلب وإزار أراد من أجل, وأراد بالصلب: الحسب, وبالإزار: العفة. ويروى أيضًا: * فوق من أحكا صلبًا بإزار *

أحكا: يريد: شده, يقال: أحكات [521] العقدة: إذا أحكمتها عقدًا. وقولها: أجنك, فحذفت الألف واللام, كقوله: {لكن هو الله ربى} يقال: إن معناه - والله أعلم - لكن أنا هو الله ربى فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء التشديد لذلك, وأنشد «الكسائى»: نهنك من عبسية لو سيمة ... على هنوات كاذب من يقولها أراد: لله إنك لوسمية, فأسقط إحدى اللامين من لله, وحذف الألف, وكذلك اللام «من أجل» حذفت, كما قال: * لاه ابن عمك والنوى تعدو* [فحذف اللام, وهو من هذا أيضا]. 762 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]:

«قاروا الصلاة». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «أبى الضحى» , عن «مسروق» , عن «عبد الله». قوله: «قاروا الصلاة»: كان بعض الناس يذهب به إلى الوقار, ولا يكون من الوقار قاروا, ولكنه من القرار, كقولك: قد قر فلان يقر قرارًا وقرورًا, ومعناه السكون, وإنما كره «عبد الله»: العبث, والحركة في الصلاة, وهذا كحديثه الآخر يحدث به عن «جرير» , «الأعمش» , عن «تميم بن سلمة» , عن «أبى عبيدة بن عبد الله» أنه كان إذا صلى لم يظرف, ولم يتحرك منه شئ, قال: وكان من أشبه صلاة «يعبد الله». قال [«أبو عبيد»]: ومنه حديث «ابن عمر»: «خياركم ألاينكم مناكب في الصلاة». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «ليث» , عن «نافع» , عن «ابن عمر». 763 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]

في ذكر القيامة حين ينفخ في الصور - قال: «فيقومون فيجبون تجبية رجل واحد قيامًا لرب العالمين». قال: حدثناه «ابن مهدى»: عن «سفيان» , عن «سلمة بن كهيل» , عن «أبى الزعراء» , عن «عبد الله». قوله: «فيبجون» , التجبية تكون في حالين: إحداهما أن يضع يديه على ركبتيه, وهو قائم, وهذا هو المعنى الذى هو [522] فى هذا الحديث, ألا تراه يقول: «قياما لرب العالمين»؟ . والوجه الآخر: أن ينكب على وجهه باركًا, وهذا الوجه المعروف عند الناس, وقد حمله بعض الناس على قوله: فيخرون سجودًا لرب العالمين. فجعل السجود هو التجبية, وهذا هو الذى يعرفه الناس. 764 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» - رحمه الله -: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس, من لا يعرف معروفًا, ولا ينكر منكرًا, يتهارجون كما تهارج البهائم كرجراجة الماء الخبيث التى لا تطعم».

قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «شعبة» , عن «أبى قيس» , عن «هذيل ابن شرحبيل» , عن «عبد الله». قال «الأصمعى»: قوله: يتهارجون, يقول: يتسافدون. يقال: بات فلان يهرجها, والهرج في غير هذا: الاختلاط والقتل, وأما قوله: «كرجراجة الماء» فهكذا يروى الحديث, وأما الكلام, فإن العرب تسميه الرجرجة: وهى بقية الماء في الحوض الكدرة المختلطة بالطين, لا يمكن شربها, ولا ينتفع بها. وإنما تقول العرب: الرجراجة للكتبية التي تموج من كثرتها, ومنه قيل للمرأة: رجراجة, لتحرك جسدها, وليس هذا من الرجرجة في شئ. وأما قوله: «التى لا تطعم» يقول: لا يكون لها طعم ولا تأخذ الطعم, وهو تفتعل من هذا, كقولك: يطلب من الطلب, ويطرد من الطرد.

765 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن مسعود» [- رحمه الله -]: «لأن أزاحم جملًا قد هنئ بقطران أحب إلى من أن أزاحم امرأة عطرة». قال: حدثنيه «ابن ***, عن «سفيان» , عن «سلمة بن كهيل» , عن «أبى الزعراء» , عن «عبد الله». قال «الكسائى»: قوله: قد هنئ: يعنى طلى, يقال منه: هنأت البعير أهناه, وأهنته لغتان: إذا طلبته هنأ. قال: والهنء في غير هذا: العطية, والهنء الاسم. والهنء المصدر, يقال منه [523]: هنأته أهنئه: إذا أعطيته شيئًا, قاله «الأموى». ويقال لى مثل: «إنما سميت هانئًا لتهنئ» ,] قال [منه]: هنأته

أهنئه ليس غير. 766 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن مسعود» [- رحمه الله -]: «ما شبهت ما غير من الدنيا إلا بثغب ذهب صفوه, وبقى كدره». قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «أبى خيثمة» , عن «الأعمش» , عن «شقيق» , عن «عبد الله». قوله: ما غير: يعنى ما بقى, والغابر: هو الباقى, ومنه قول الله - تبارك وتعالى -: {غلا عجوزًا في الغابرين}: يعنى ممن تخلف, فلم يمض مع «لوط» [- عليه السلام -] قال «عبيد الله بن عمر» «يوم صفين» , وكان مع «معاوية»:

* أنا عبيد الله بنمينى عمر * * خير قريش من مضى ومن غير * * بعد رسول الله والشيخ الأغر * يقول: خير من مضى, وخير من بقى. قال «أبو عبيد»: وحدنثى «الأبار» , عن «منصور» , عن «شقيق» , عن «عبد الله» مثل حديث «أبى النضر» , عن «أبى خيثمة» , وفى أوله قال: قد سألنى رجل عن شئ ما دريت ما أجيبه, قال: ما ترى في رجل شاب مؤد نشيط يخرج مع امرائنا, فلعلهم يعزمون علينا في أشياء لا نحصيها». قال: المؤدى: التام السلام الشاك. وقوله: «إلا بثغب» الثغب: الموضع المطمئن في أعلى الجبل يستنقع فيه ماء المطر, قال «عبيد بن الأبرص» يذكر امرأة: ولقد تحل بها كأن مجاجها ... ثغب يصفق صفوه بمدام 767 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن مسعود»

[- رحمه الله -] حين ذكر الفتنة, فقال: «الزم بيتك». قيل: فإن دخل على بيتى؟ قال: «فكن مثل الجمل الأورق الثفال الذى لا ينبعث إلاكرها, ولا يمشى إلاكرها». قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «المسعودى» , عن «على بن مدرك» , عن «أبى الرواع» , عن «عبد الله». [قال «أبو عبيد»: وبعض أصحاب الحديث يقول: عن «أبى الرواع» , والوجه «الرواع»]. قال «الأصمعى»: الأورق: الذى في لونه بياض إلى سواد, ومنه قيل للرماد: أورق, وللحمامة ورقاء, [قال]: وهو أطيب الإبل لحمًا [524] وليس

بمحمود عند العرب فى عمله وسيره, وأما الثقال: فهو الثقيل البطئ. قال «أبو عبيد»: وإنما خص «عبد الله» الأورق من بين الإبل لما ذكر من ضعفه عن العمل, ثم اشترط الثفال أيضًا, فزاده إبطاء وثقلًا, فقال: كن في الفتنة مثل ذلك, وهذا إذا دخل عليك, وإنما أراد «عبد الله» بهذا: التثبيط عن الفتنة, والحركة فيها. 768 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] أنه سار سبعا من «المدينة» إلى «الكوفة» في مقتل «عمر» [-رضى الله عنه-]. قال: حدثناه «أبو بكر بن عياش» , عن «عاصم بن أبى النجود» , عن «المسيب بن رافع» قال: سار إلينا «عبد الله» سبعا من «المدينة» فصعد المنبر, فقال: إن «أبا لؤلؤة» قتل أمير المؤمنين «عمر». قال: فيكى الناس, قال: «ثم إنا أصحاب «محمد» اجتمعنا, فأمرنا «عثمان» , ولم نأل عن خيرنا ذا فوق».

قوله: «ذافوق»: يعنى السهم الذى له فوق, وهو موضع الوتر, وإنما نراه قال: «خيرنا ذا فوق» , ولم يقل: «خيرنا سهمًا» , لأنه قد يقال: له سهم, وإن لم يكن أصلح فوقه, ولا أحكم عمله, فهو سهم, وليس بتام كامل حتى إذا أصلح عمله, واستحكم, فهو حينئذ سهم ذو فوق, فجعله «عبد الله» مثلًا «لعثمان» [- رضى الله عنه -]. يقول: إنه خيرنا سهمًا تامًا فى الإسلام والسابقة والفضل, فلهذا خص ذا الفوق. 769 - وقال «أبو عبيد» , في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] أن رجلًا كان في أرض له إذ مرت به عنانة ترهيا, فسمع فيها قائلًا يقول: إبتى أرض فلان فاسقيها». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «شقيق بن سلمة» , عن «مسروق» , عن «عبد الله». قال «الأصمعى» وغيره: قوله: ترهيأ: يعنى أنها قد تهيأت للمطر, فهى

تريد ذلك, ولما تفعل بعد. قال: ومنه قيل: قد ترهيأ القوم فى أمرهم: إذا هموا به, ثم أمسكوا عنه, وهم يريدون أن يفعلوه. قال «أبو عبيد»: وأما العنانة: فهى السحابة, وجمعها عنان. ومنه [525] قيل في بعض الحديث: «لو بلغت خطيئته عنان السماء» يريدون السحاب. وبعضهم يقول: أعنان السماء بإدخال الألف في أوله, فإن كان المحفوظ أعنان, فإن الأعنان النواحى, وأعنان كل شئ: نواحيه. قال: هكذا بلغنى عن «يونس» , وأما العنان: فهو السحاب. 770 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]:

«إياكم وهوشات الليل, وهوشات الأسواق». وبعضهم يقول: «هيشات السوق». قال: حدثناه «على بن عاصم» , عن «خالد» , عن «أبى معشر» , عن «إبراهيم» , عن «علقمة» , عن «عبد الله». قال «أبو عبيدة»: الهوشة: الفتنة, والهيج, والاختلاط. ومنه يقال: قد هوش القوم: إذا اختلطوا, وكذلك كل شئ خلطته: فقد هوشته, قال «ذو الرمة» يصف المنازل, وأن الرياح قد اختلفت فيها حتى عفتها, وغيرتها, وخلطت بعض آثارها ببعض, فقال: تعفت لتهتان الشتاء وهو شت ... بها نائجات الصيف شرقية كدرا ومن هذا حديث آخر. قال: بلغنى عن «ابن علاثة» بإسناده له يرفعه إن كان

محفوظًا. قال: «من أصاب مالًا من مهاوش أذهبه الله في نهابر». قال: فالمهاوش: كل مال أصيب من غير حله كالسرقة, والغصب, والخيانة, ونحو ذلك, فهو شبيه بما ذكروا من الهوشات, بل هو منها. وأما النهابر: فإنها المهالك في هذا الموضع, وبعض الناس يرويها: «من أصاب مالًا من نهاوش» - بالنون - ولا أعرف هذا, والمحفوظ عندى بالميم. 771 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]:

«إذا ذكر الصالحون فحى هلا بعمر». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , «أبى معشر» , أن «عبد الله» قال: ذلك. قال: وحدثناه «مروان بن معاوية» , عن «قنان بن عبد الله النهمى» , عن «عبد الرحمن بن أبى عبيد» , أنه سمع «عليا» يقول: مثل ذلك في «عمر». قال «أبو عبيد»: «النهمى» من «همدان». قال «أبو عبيدة»: معناه عليك بعمر, ادع «عمر»: أى إنه من هذه الصفة. قال «أبو عبيدة»: وسمع «أبو مهدية الأعرابى» رجلًا يدعو رجلا بالفارسية يقول له: زوذ, فقال: ما يقول؟ قال: قلنا: يقول: عجل.

قال: ألا يقول له: حى هل: أى هلم وتعال. قال [526] «الأحمر»: في «حى هل» ثلاث لغات, يقال: حى هل بفلان - بجزم اللام - وحى هلا بفلان, بحركة بالنون, قال «لبيد» بذكر صاحبًا له فى سفر كان أمره بالرحيل, فقال: يتمارى فى الذى قلت له ... ولقد يسمع قولى حيهل وقد يقولون: حى, من غير أن يقولون: هل, من ذلك قولهم في الأذان: حى على الصلاة, حى على الفلاح, إنما هو دعاء إلى الصلاة والفلاح. وقال «ابن احمر»: انشأت يسأل غلامه: كيف أخذ الركب؟ . 772 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]

في مسح الحصا في الصلاة, قال مرة: «وتركها خير من مئة ناقة لمقلة». قال: حدثنيه «محمد بن كثير» , عن «الأوزاعى» أن «عبد الله» قال ذلك. قال «أبو عبيد»: قوله: «مئة ناقة لمقلة» المقلة: هى العين, يقول: تركها خير من مئة ناقة يختارها الرجل على عينه ونظره كما يريد. قال «ابن كثير»: قال «الأوزاعى»: وإنما معنى قوله: خير من مئة ناقة, يقول: لو كانت لى فأنفقتها فى سبيل الله, وفى أنواع البر. قال «الأوزاعى»: وكذلك كل شئ جاء في الحديث من مثل هذا. قال «أبو عبيد»: ولا أعلم لهذه الأحاديث معنى إلا ما قال «الأوزاعى» مثل قول «عمر»: «لأن أكون علمت كذا وكذا أحب إلى من حمر النعم, وأحب إلى من خراج مصر» وما أشبه ذلك. وإنما تأويله على أنى أقدمه في أبواب البر, وليس معناه على الاستمتاع به, والاقتناء له في الدنيا, ألا ترى أن «عمر» يقول عند موته: «لو أن لى

طلاع الأرض ذهبا, لافتديت به من هول المطلع». أفلست تعلم أنه لم يرد بالذهب الاستمتاع في الدنيا؟ . وهو بين في حديث «الحسن» أيضًا, قال: حدثني «أبو عثمان أحمد بن عثمان» , عن «عبد الله بن المبارك» , قال: حدثني «زائدة» , عن «هشام» , عن «الحسن» , قال: إن كان [527] الرجل ليصيب الباب من أبواب العلم, فينتفع به, فيكون خيرًا له من الدنيا لو كانت له فجعلها في الآخرة, فهذا قد بين لك المعنى. وأما قول «عمر»: «لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا»: يعنى ملأها حتى يطالع أعلاه أعلى الأرض, فيساويه, ومما يبين ذلك قول «أوس» في القوس يصف معجسها, أنه ملء الكف فقال: كتوم طلاع الكف لا دون ملئها ... ولا عجسها عن موضع الكف أفضلا وفي عجسها أربع لغات: [يقال]: عجس, وعجس, وعجس, ومعجس أيضًا.

773 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن مسعود» [- رحمه الله -] في الذى أتاه, فقال: إنى [قد] تزوجت امرأة شابة, وإنى أخاف أن تفركنى. فقال «عبد الله»: «إن الحب من الله, والفرك من الشيطان, فإذا دخلت عليك, فصل ركعتين, ثم ادع بكذا, وكذا». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «أبى وائل» , عن «عبد الله». قال «الأعمش»: فذكرته لإبراهيم, فقال مثله. قوله: أخاف الفرك: فإن الفرك: أن تبغض المرأة زوجها, وهذا حرف مخصوص به المرأة والزوج, ولم أسمعه في غير ذلك.

يقال: فركته تفركه فركًا, وهى امرأة فروك, وفارك, وجمعها فوارك, قال «ذو الرمة» يصف الإبل: إذا الليل عن نشز تجلى رمينه ... بأمثال أبصار النساء الفوارك شبه الإبل بالنساء الفوارك, لأنهن يبغضن أزواجهن, فهن ينظرن إلى الرجال ويستشرفن لهم, لأنهن لسن بقاصرات على الأزواج. يقول: فهذه الإبل تصبح وقد سارت ليلها كله, وهن فى رميهن بأعينهن, وقلة انكسار جفونهن من النشاط والقوة على السير مثل أولئك, فهذه قصة التى لا يحظى زوجها عندها. فإذا لم تخظ هى عنده, وأبغضها, قيل: صلفت عند زوجها تصلف صلفًا, فهذا هو الصلف عند العرب. وقد وضعت العامة هذه الكلمة في غير موضعها. ويقال منه: امرأة صلفة من نسوة صلفات [528] وصلائف, قال «القطامى» يذكر امرأة: لها روضة في القلب لم يرع مثلها ... فروك ولا المستعيرات الصلائف

774 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن مسعود» [- رحمه الله -] , وذكر الربا, فقال: «وإنه وإن كثر, فهو إلى قل». قال «أبو عبيد»: وهو القلة والقل لغتان بمعنى واحد, يقول: هو وإن كثر فليست له بركة, وأحسبه ذهب إلى قول الله - تبارك وتعالى - {يمحق الله الربا ويربى الصدقات} , وقال الشاعر في القل: كل بنى حرة مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد وقال «الأعشى»: فأرضوه منى ثم أعطوه حقه ... وما كنت قلًا قبل ذلك أزيبا

ونظير هذا الحرف: الذل والذلة, وهما بمعنى من الإنسان الذليل, فأما الذل: فمن اللين. 775 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «إذا وقعت فى «آل حم» وقعت في روضات دمثات, أتأنق فيهن» بعنى: سور. قال: حدثنيه «الأشجعى» , عن «مسعر بن كدام». قال «أبو عبيد»: لا أدرى أسنده «مسعر» إلى غيره أم لا؟ . قال: وحدثناه «الأشجعى» , عن «مسعر» , قال: مر رجل بأبى الدرداء وهو يبنى مسجدًا, فقال: «أبنيه لآل حم». قال «الأشجعى»: وقال «مسعر»: كن يسمين العرائس. قال «أبو عبيد»: وحدثنى «حجاج بن محمد» , عن «أبى معشر» , عن «محمد

ابن قيس» , قال: رأى رجل سبع جوار حسنات مزينات في النوم, فقال: لمن أنتن؟ بارك الله فيكن, فقلن: نحن لمن قرأنا, نحن آل حم. قال «أبو عبيد»: وحدثنى «الأشجعى» أيضًا, عن «سفيان بن عيينة» , عن «ابن أبى نجيح» , عن «مجاهد» قال: قال «عبد الله»: «آل حم ديباج القرآن» قال «الفراء»: قوله: «آل حم»: إنما هو كقولك: آل فلان, وآل فلان, كأنه نسب السورة كلها إلى حم. وأما قول العامة: «الحواميم» فليس من كلام العرب [529] ألم تسمع قول «الكميت»: وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقى ومعزب فهكذا رواها «الأموى» بالزاى, وكان «أبو عمرو» يرويها بالراء.

وأما قول «عبد الله»: «في الروضات»: فإنها - البقاع التى تكون فيها صنوف النبات من رياحين البادية, وغير ذلك, ويكون فيها أنواع النور والزهر, فشبه حسنهن بآل حم. وقوله: «أتأنق فيهن»: يعنى أتتبع محاسنهن, ومنه قيل: منظر أنيق: إذا كان حسنًا معجبًا, وكذلك قول «عبيد بن عمير»: «ما من عاشية أشد أنقا, ولا أبعد شبعًا من طالب علم, طالب العلم جائع على العلم أبدًا». ومما يحقق قولهم في «آل حم» أن السورة منسوبة إليه, حديث يروى عن «النبى» - صلى الله عليه وسلم - قال: حدثنى «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «أبى إسحاق» , عن «المهلب بن أبى صفرة» , عمن سمع «النبى» - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن بيتم الليلة, فقولوا: حم لا ينصرون» قال «أبو عبيد»: هكذا يقول المحدثون بالنون, وأما في الإعراب, فبغيرنون, كأنه قال: اللهم لا ينصروا, يكون دعاء, ويكون جزاء.

حم: اسم من أسماء الله. 776 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» أن رجلًا أتى رجلًا وهو جالس عند «عبد الله» فقال: إنى تركت فرسك يدور كأنه في فلك. فقال «عبد الله» للرجل: «اذهب فافعل به كذا وكذا». قال: حدثناه «يزيد» , عن «أبى مالك الأشجعى» , عن «هلال بن يساف» ,

عن «عبد الله» إلا أنه قال: يتمرغ, وقال غيره: كأنه في فلك. وفي بعض الحديث أنه قال له: «إن فلانًا لقع فرسك» أى: أصابه بعين. ويقال: لقعت فلانًا بالبعرة: إذا رميته بها, ولم نسمعه إلا في إصابة العين, وفي البعرة. وقوله: «في فلك» فيه قولان: فأما الذى تعرفه العامة, فإنه شبهه بفلك السماء الذى تدور عليه النجوم, وهو الذى يقال له: القطب, شبه بقطب الرحى. وقال بعض الأعراب: الفلك: هو الموج إذا ماج في البحر فاضطرب, وجاء وذهب, فشبه الفرس في اضطرابه بذلك, وإنما كانت عين أصابته. 777 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] فى الوصية [530]: «هما المربان: الإمساك في الحياة, والتبذير في الممات». قوله: «هما المريان» [أى] هما الخصلتان المرتان, والواحدة منهما المرى, وهذا

كقولك في الكلام: الجارية الصغرى والكبرى, وللثنتين الصغريان والكبريان, فكذلك المريان, وإنما نسبهما إلى المرارة, لما فيهما من المآثم كالحديث المرفوع: أن رجلًا أتى «النبى» - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الصدقة, فقال: «وأنت صحيح شحيح, تأمل العيش, وتخشى الفقر, ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا, ولفلان كذا, ولفلان كذا». ومنه قول «الحسن» , قال: حدثنيه «مروان بن معاوية الفزارى» , عن «وائل ابن داود» قال: سمعت «الحسن» يقول: لا أعلمن ما ضن أحدكم بماله حتى إذا كان عند موته ذعذعه هاهنا وهاهنا». 778 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]:

«يوشك ألا يكون بين شراف, وأرض كذا وكذا جماء ولا ذات قرن». قيل: وكيف ذلك؟ قال: يكون الناس صلامات يضرب بعضهم رقاب بعض». قال: حدثناه «حجاج» , عن «المسعودى» , عن «ابن عبد الله بن جعدة» , عن «أبى عبيدة بن عبد الله» , عن «أبيه». قوله: صلامات: يعنى الفرق من الناس يكونون طوائف, فتجتمع كل فرقة على حيالها تقاتل الأخرى, وكل جماعة, فهى صلامة, قال: وأنشدنا «أبو الجراح»:

* صلامة كحمر الأبك * * لا ضرع فينا ولا مذك * يريد: مذكيا, وأنشدنا غير «أبى الجراح»: * جرية كحمر الأبك* الجرية: إذا كانوا متساوين, والجرية: هم الجماعة أيضًا, يقال: عليه جرية من العيال. وفى هذا المعنى حديث آخر, قال: حدثنيه «حجاج» أيضًا, عن «حماد» بن سلمة» , عن «حميد» قال: «كان يقال: لا تقوم الساعة حتى يكون الناس برازيق» يعنى جماعات, وأنشدنى «ابن الكلبى» لبعض «بنى تميم» [جهمة بن جندب ابن العنبر بن عمرو بن تميم] رردنا جمع سابور وأنتم ... بمهواة متالفها كثير [531] تظل جياده متمطرات ... برازيقا تصبح أو تغير

يعنى جماعات الخيل. 779 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله, [- رحمه الله -]: «حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم» يعنى: ما أحدوا النظر إليك. يقال للرجل: قد حدجنى ببصره: إذا أحد النظر إليه, ومنه الحديث الذى يروى في المعراج: «ألم تروا إلى ميتكم حين يحدج ببصره, فإنما ينظر إلى المعراج من حسنه» , وقال «أبو النجم»: تقتلنا منا عيون كأنه ... عيون المها ما طرفهن بحادج يقول: إنها ساجية الظرف. والذى يراد من هذا الحديث أنه يقول: حدثهم ما داموا يشتهون حديثك, ويرمونك بأبصارهم, فإذا رأيتهم يغضون, أو ينظرون يمينًا وشمالًا فدعهم من حديثك, فإنهم قد ملوه.

وهذا شبيه بالحديث المرفوع: «أنه كان يتخولنا بالموعظة مخافة السامة علينا». 78 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «أن «موسى» [- عليه السلام -] لما أتى «فرعون» أتاه, وعليه زرمانقة». قال: حدثنيه «حجاج» , عن «يونس بن أبى إسحاق» , عن «أبيه» , عن «عمرو بن ميمون» , عن «عبد الله». قوله: زرمانقة: يعنى جبة صوف, ولا أحسبها عربية, أراها غير عربية, والتفسير هو في الحديث, ولم أسمعه في غير هذا الحديث. 781 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]

«عليكم بحبل الله, فإنه كتاب الله». قال: حدثناه «جرير» , عن «منصور» , عن «أبى وائل» , عن «عبد الله». قوله: «عليكم بحبل الله» نراه أراد تأويل قوله: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} يقول: فالاعتصام بحبل الله: هو ترك الفرقة, واتباع القرآن. وأصل الحبل في كلام العرب يتصرف على وجوه: فمنها العهد, وهو الأمان, وذلك أن العرب كانت يخيف بعضها بعضًا في الجاهلية [522] فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا من سيد القبيلة, فيأمن به ما دام في تلك القبيلة, حتى ينتهى إلى الأخرى, فيفعل مثل ذلك أيضًا يريد بذلك الأمان, فمعنى الحديث أنه يقول:

عليكم بكتاب الله, وترك الفرقة, فإنه أمان لكم, وعهد من عذاب الله وعقابه, وقال «الأعشى» يذكر مسيراله, وأنه كان يأخذ الأمان من قبيلة إلى قبيلة, فقال لرجل يمتدحه: وإذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها والحبل في غير هذا الموضوع: المواصلة, وقال «امرؤ القيس»: إنى يحبلك واصل حبلى ... وبربش نبلك رائش نبلى وهو كثير في الشعر. والحبل - أيضا - من الرمل: المجتمع منه, الكثير العالى. 782 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] أنه قيل له: إن فلانًا يقرأ القرآن منكوسًا, فقال: «ذلك منكوس القلب».

قال: حدثناه «أبو معاوية» و «وكيع» , عن «الأعمش» , عن «أبى وائل» , عن «عبد الله». قوله: «يقرؤه منكوسًا» , يتأوله كثير من الناس أنه أن يبدأ الرجل من آخر السورة, فيقرأها إلى أولها, وهذا ما أحسب [أن] أحدًا يطيقه, ولا كان هذا في زمن «عبد الله» ولا عرفه, ولكن وجهه عندى أن يبدأ من آخر القرآن من المعوذتين, ثم يرتفع إلى البقرة, كنحو مما يتعلم الصبيان فى الكتاب, لأن السنة خلاف هذا, يعلم ذلك بالحديث الذى يحدثه «عثمان» [- رحمه الله -] عن «النبى» - عليه السلام - أنه كان إذا أنزلت عليه السورة, أو الآية, قال: ضعوها في الموضع الذى يذكر فيه كذا وكذا, ألا ترى أن التأليف الآن في هذا الحديث من رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] , ثم كتبت المصاحف على هذا؟ . ومما يبين لك ذلك أنه ضم «براءة» إلى «الأنفال» , فجعلها بعدها, وهى أطول, وإنما ذلك للتأليف فكان [533] أول القرآن فاتحة الكتاب, ثم البقرة

إلى آخر القرآن. فإذا بدأ من المعوذتين صارت فاتحة الكتاب آخر القرآن فكيف تسمى فاتحته وقد جعلت خاتمته. وقد روى عن «الحسن» و «ابن سيرين» من الكراهة فيما [هو] دون هذا. قال [أبو عبيد]: حدثنى «ابن أبى عدى» , عن «أشعث» , عن «الحسن» و «ابن سيرين» أنهما كانا يقرآن القرآن من أوله إلى آخره, ويكرهان الأوراد قال: وقال «ابن سيرين»: تأليف الله خير من تأليفكم. قال «أبو عبيد»: وتأويل الأوراد: أنهم كانوا أحدثوا أن جعلوا القرآن أجزاء, كل جزء منها فيه سور مختلفة من القرآن على غير التأليف, جعلوا السورة الطويلة مع أخرى دونها في الطول, ثم يزيدون كذلك حتى يتم الجزء, ولا يكون فيه سورة منقطعة, ولكن تكون كلها سورًا تامة, فهذه الأوراد التي كرهها «الحسن» و «محمد» , والنكس أكثر من هذا وأشد, وإنما جاءت الرخصة في تعليم الصبى, والأعجمى من المفصل,

لصعوبة السور الطوال عليهما, فهذا عذر, فأما من قد قرأ القرآن وحفظه, ثم تعمد أن يقرأه من آخره إلى آوله, فهذا [هو] النكس المنهى عنه, وإذا كرهنا هذا فنحن للنكس من آخر السورة إلى أولها أشد كراهة, إن كان ذلك يكون. 783 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] أنه دخل على رجل مريض, فرأى جبينه يعرق, فقال «عبد الله»: «موت المؤمن بعرق الجبين تبقى عليه البقية من الذنوب, فيكافأ بها عند الموت». قال: حدثناه «معاذ» , عن «ابن عون» , عن «أبى معشر» , قال: دخل «ابن مسعود» , ثم ذكر الحديث. وكان «ابن علية» , يحدثه عن «يونس بن عبيد» , عن «أبى معشر» , عن «إبراهيم» , عن «علقمة» , عن «عبد الله» , مثله إلا [534] أنه قال: فيحارف بها عند الموت. كان «أبو عبيدة» يقول: المحارفة: المقايسة, ولهذا قيل

للميل الذى تسير به الجراحات, والشجاج: محراف, قال «القطامى» يصف طعنة, أو شجة: إذا الطبيب بمحرا فيه عالجها ... زادت على النقر أو تحريكها ضجما يقول: إذا قاسها بميله ازدادت فسادًا وعظمًا. فكان المعنى الحديث أن المؤمن يقايس بذنوبه عند الموت, فيشتد عليه, ليكون ذلك كفارة له. 784 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] أن رجلًا أتاه, فقال «عبد الله» حين رآه: إن بهذا سفعة من الشيطان, فقال له الرجل: ألم أسمع ما قلت؟ ثم قال له «عبد الله»: نشدتك بالله, هل ترى أحدًا هو خيرًا منك؟ قال: لا. قال «عبد الله»: فلهذا قلت ما قلت».

وهذا من حديث «ابن المبارك» , عن «ابن أبى ذئب» , عن «مسلم بن جندب» , عن «الحارث بن عمرو الهذلى» , قال: كنا عند «ابن مسعود» فجاءه رجل, فذكر ذلك. قوله: «سفعة من الشيطان»: أصل السفع: الأخذ بالناصية, قال الله - تبارك وتعالى -: {كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية} فالذى أراد «عبد الله»: أن الشيطان قد استحوذ على هذا, وأخذ بناصيته, فهو يذهب به في العجب كل مذهب, حتى ليس يرى أن أحدًا خير منه. وهذا مثل حديث «النبى» - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في بيت «أم مسلمة» جارية, ورأى بها سفعة, فقال: «إن بها نظرة, فاسترقوا لها» يعنى بقوله: سفعة: أن الشيطان قد أصابها. 785 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «إن هذا القرآن مأدبة الله, فتعلموا من مأدبته».

قال: حدثناه «أبو اليقظان» , عن «إبراهيم الهجرى» , عن «أبى الأحوص» , عن «عبد الله». قال: وحدثنيه «حجاج» , عن «شعبة» , عن «عبد الملك بن مسيرة» , عن «أبى الأحوص» , عن «عبد الله» , قال: «إن هذا [535] القرآن مأدبة الله, فمن دخل فيه, فهو آمن». قوله: «مأدبة الله» فيه وجهان, يقال: مأدبة ومأدبة, فمن قال: مأدبة أراد [به] الصنيع يصنعه الإنسان, فيدعو إليه الناس. يقال منه: أديت على القوم آدب أدبا, وهو رجل آدب, مثال فاعل, قال طرفة بن العبد»: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر وإنما تأويل الحديث أنه مثل, شبه القرآن بصنيع صنعه الله للناس لهم فيه خير ومنافع, ثم دعاهم إليه, وقال «عدى بن زيد» يصف المطر والرعد, فقال:

زجل ويله يجاويه دف ... ف لخون مأدوبة وزمير فالمأدوبة [هى] التى قد صنع لها الصنيع, فهذا تأويل من قال: مأدبة. فأما من قال: مأدبة, فإنه يذهب به إلى الأدب يجعله من ذلك, ويحتج بحديثه الآخر: «إن هذا القرآن مأدبة الله, فتعلموا من مأدبته» , وكان «الأحمر» يجعلهما لغتين: مأدبة بمعنى واحد, ولم أسمع أحدًا يقول هذا غير والتفسير الأول أعجب إلى. 786 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «لأن أعض على جمرة حتى تبرد, - أو قال: حتى تطفأ - أحب إلى من أن أقول لأمر قضاه الله [على]: ليته لم يكن».

قال: حدثنا «أبو بكر بن عياش» , عن «أبى حصين» , عن «يحيى ابن وثاب» , عن «مسروق, عن «عبد الله». قال: وحدثنا «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «أبى حصين» , عن «إبراهيم» , عن «عبد الله». قوله: «ليته لم يكن»: ليس وجهه عندى أن يكون عامًا في كل شئ, ولا إياه أراد «عبد الله» , ولو كان هذا في الأشياء كلها لان ينبغى إذا أذنب الرجل ذنبًا ألا يندم عليه, ولا يقول: ليتنى لم أكن فعلته, وكيف يكون هذا و «عبد الله» نفسه يحدث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الندم توبة» فهل الندم إلا أن يتمنى أن الذى كان منه لم يكن؟ ولكن وجهه عندى: أنه أراد المصائب خاصة التى يؤجر عليها العبد, كالمصائب [536] في الأبدان والأهل والمال, لأنه إذا تمنى أن ذلك لم يكن, فكأنه لم يرض بقضاء الله عليه, ولا يأمن أن يكون أجره قد حبط, ولكنه يرضى, ويسلم لأمر الله وقضائه. ومما تمنى الناس مما كان أنه لم يكن قول «مريم»: [يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيا} وقول «عمر»: «ليت أمى لم تلدنى» , وقول «عبد الله»: «ليتنى كنت طائرًا بشراف» , وقول «عائشة»: «ليتنى

كنت حيضة ملقاة» وقول «بلال»: «ليت بلالًا لم تلده أمه» ومثل هذا كثير, ولا تجده في شئ من المصائب للدنيا أنه تمنى أن الذى كان لم يكن. قال «أبو عبيد»: فأما الأشياء التى يوزر عليها العبد, فإنه كلما تمنى ألا يكون عملها, واشتد ندمه عليها كان أقرب له إلى الله. 787 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «صفقتان في صفقة ربا». قال: حدثناه «عبد الرحمن» , عن «سفيان» , عن «سماك» , عن «عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود» , عن «أبيه» ذلك. قال: معناه أن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا الثوب بالنقد بكذا, وبالتأخير بكذا, ثم يفترقان على هذا الشرط.

ومنه حديث «النبى» - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيعتين في بيعة» فإذا فارقه على أحد الشرطين بعينه, فليس ببيعتين في بيعة. 788 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -] أنه أوصى إلى «الزبير» وإلى ابنه «عبد الله بن الزبير» وقال في وصيته: «إنه لا تزوج امرأة من بناته إلا بإذنها, ولا تحضن «زينب» امرأة «عبد الله» عن ذلك». قال: سمعت «محمد بن الحسن» , يحدثه عن «المسعودى» , عن «أبى عميس» , عن «عامر بن عبد الله بن الزبير» , عن «أبيه».

قوله: لا تحضن: يعنى لا تحجب عنه, ولا يقطع دونها. يقال: حضنت الرجل عن الشئ: إذا اختزلته [دون]. قال «أبو عبيد»: ومنه حديث «عمر» يوم أتى سقيفة «بنى ساعدة» للبيعة, قال: «فإذا إخواننا من الأنصار يريدون أن يختزلوا الأمر دوننا, ويحضنونا عنه». وفي الحديث من الفقه: أنه يبين لك أنه ليس إلى الأوصياء من النكاح شئ, إنما النكاح إلى الأولياء دون الأوصياء, ولو كان النكاح إلى [537] الوصى ما احتاج «عبد الله» إلى أن يشترط إذن «الزبير» و «ابنه». 789 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «لا أعرفن أحدكم جيفة ليل قطرب نهار».

يقال: إن القطرب دويبة لا تستريح نهارها سعيًا, تشبه «عبد الله» الرجل يسعى نهاره في حوائج الدنيا, فإذا أمسى كالًا مزحفًا, فينام ليله حتى يصبح لمثل ذلك, فهذا جيفة ليل قطرب نهار. ويروى عن «عمر بن العبد العزيز» أنه كان يتمثل بهذين البيتين: نهارك يا مغرور سهو *** ... وليلك نوم والردى لك لازم وسعيك فيما سوف تكره غيه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم 790 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن مسعود» [- رحمه الله -]: «لا غلت في الإسلام». قال: وحدثناه «شريك» , عن ***, عن ***, عن «عبد الله» , قوله: لا غلت: معناه لا غلط, والعرب تقول: قد غلت الرجل في حسابه وغلط في منطقه, *** في المنطق, *** في الحساب, وبعض الناس يجعلهما لغتين, والتفسير الأول أجود عندى, لأن فيه خير حديث على هذا اللفظ.

قال: حدثنا «يزيد بن هارون» , عن «هشام» , عن «ابن سيرين» , عن «شريح» , أنه كان لا يجيز الغلت. قال: وحدثنا «هشيم» , عن «مغيرة» , عن «إبراهيم» قال: لا يجوز التغلت. وإنما تأويل هذا كالرجل يقول: اشتريت منك هذا الثوب بمئة, ثم تجده قد اشتراه بأقل من ذلك, يقول: فلا يجوز ذلك, يرد إلى الحق, ويترك الغلت, هذا وما أشبهه في المعاملات كلها. 791 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله» [- رحمه الله -]: «إنما هو رحل وسرج, فرحل إلى بيت الله, وسرج في سبيل الله». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «ابن أبى نجيح» , عن «مجاهد» , عن «ابن مسعود». قوله: «فرحل إلى بيت الله»: أراد أن البيت إنما يزار على الرحال, كأنه كره المحمل, وذلك أنه مما أحدث الناس.

وكذلك حديث «عمر»: «إذا حططتم [538] الرحال, فشدوا السروج». ومما يبين لك أن الحج على الرحال أفضل, قول «طاوس» قال: حدثنا «فضيل بن عياض» , عن «ليث» , عن «طاوس» قال: «حد الأبرار على الرحال». وكذلك قول «إبراهيم» قال: حدثنا «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «خالد الحنفى» , قال: اختلفت أنا و «ذر» في المحمل والرحل- أو القتب - أيهما أفضل؟ فسألت «إبراهيم» , فقال: صاحب الرحل أفضل. ومنه حديث «ابن عمر» أنه رأى رجلًا يسير بين جوالقين, فقال: «لعل هذا أن يكون حاجا». [قال «أبو عبيد»]: ففى حديث «عمر» , «وابن مسعود» من

العلم أن الغزو لا يكون للفارس إلا بالسروج, ولا يكون صاحب الإكاف فارسًا.

أحاديث حذيفة [بن اليمان] [رحمه الله]

أحاديث حذيفة [بن اليمان] [رحمه الله] 792 - وقال «أبو عبيد» في حديث «حذيفة» - رحمه الله - أنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين, قد رأيت أحدهما, وأنا انتظر الآخر, حدثنا أن الأمانة نزلت فى جذر قلوب الرجال, ثم نزل القرآن, فعلموا من القرآن, وعلموا من السنة. قال: ثم حدثنا عن رفع الأمانة, فقال: ينام الرجل النومة, فتقبض الأمانة من قلبه, فيظل أثرها كأثر الوكت, ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه, فيظل أثرها كأثر المجل, كجمر دحرجته على رجلك فتراه منتبرًا, وليس فيه شئ, ولقد أتى على زمان, وما أبالى أيكم بايعت, لئن كان مسلمًا ليردنه على إسلامه, ولئن كان يهوديًا أو نصرانيًا ليردنه على ساعيه, فأما اليوم فما كنت لأبايع إلا فلانًا أو فلانًا».

قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «زيد بن وهب» , عن «حذيفة». قال «الأصمعى» و «أبو عمرو» وغيرهما: قوله: جذر قلوب الرجال: الجذر: الأصل من كل شئ, قال «زهير»: وسامعتين تعرف العتق فيهما ... إلى جذر مدلوك الكعوب محدد يعنى قرن بقرة وصفها.

وقال «أبو عمرو»: وهو الجذر - بالكسر -[539]. وكان «الأصمعى» وغيره يقولون: هو بالفتح. وقوله: «كأثر الوكت»: الوكت هو أثر الشئ, اليسير منه. قال: «الأصمعى»: يقال للبسر إذا بدأ فيه الإرطاب: بسر موكت. وأما المجل: فهو أثر العمل في الكف يعالج بها الإنسان الشئ حتى يغلظ جلدها, يقال منه: مجلت يده, ومجلت لغتان. وأما المنتبر: فالمتنفط. وقوله: «أتى على زمان وما أبالى أيكم بايعت»: كان كثير من الناس يحمله على بيعة الخلافة, وهذا خطأ في التأويل, وكيف يكون على بيعة الخلافة وهو يقول: «لئن كان يهوديًا أو نصرانيًا ليردنه على ساعيه». فهل يبايع على الخلافة اليهودى والنصرانى؟ ومع هذا أنه لم يكن يجوز أن يبايع كل واحد, فيجعله خليفة, وهو لا يرى أو لا يرضى بأحد بعد

«عمر». فكيف يتأول هذا عليه؟ إنما مذهبه فيه أنه أراد مبايعة البيع والشرى, إنما ذكر الأمانة وأنها قد ذهبت من الناس, يقول: فلست أثق اليوم بأحد أتمنه على بيع ولا شرى إلا فلانًا وفلانًا [يقول]: لقلة الأمانة في الناس. وقوله: «ليردنه على ساعيه»: يعنى الوالى الذى عليه, يقول: ينصفنى منه, إن لم يكن له إسلام [يرده على] , وكل من ولى شيئًا على قوم, فهو ساع عليهم, وأكثر ما يقال ذلك في ولاة الصدقة, وهم السعاة, قال الشاعر: سعى عقالًا فلم يترك لنا سيدًا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين سعى عليها: عمل عليها. 793 - وقال «أبو عبيد» في حديث «حذيفة» - رحمه الله -:

«تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير, فأى قلب أشريها نكتت فيه نكتة سوداء, وأى قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض, وقلب أسود مريد, كالكوز مجخيا - وأمال كفه - لا يعرف معروفًا, ولا ينكر منكرًا». قال: حدثناه «يزيد بن هارون» , عن «أبى مالك الأشجعى» , عن «ربعى بن حراش» , عن «حذيفة». قال «أبو عمرو» و «أبو زياد الكلابى» وغيرهما: قوله: مريد: هو لون بين السواد والغيرة, وهو لون النعام [540] ومنه قيل للنعام: ريد, فقالوا: مريد مثل محمر, ومصفر, ومبيض, وقالوا للجميع: ريد, كما قيل: حمر, وصفر, وخضر. وأما قوله: كالكوز مجخيا: فإن المجخى: المائل, قال «أبو زياد»: يقال

عنه: قد جخى الليل: إذا مال, ليذهب. قال «أبو عبيد»: ولا أحسبه أراد مع ميله إلا أن يكون منخرق الأسفل, فشبه به القلب الذى لا يعى خيرًا, كما لا يثبت الماء في الكوز المنخرق, وكذلك يروى في التفسير في قوله [- جل وعز -]: {أفئدتهم هواء} قال: لا تعى شيئًا, وقال الشاعر في المجخى: كفى سوأة ألا تزال مجخيا ... على شكوة وفراء في استك عودها 794 - وقال «أبو عبيد» في حديث «حذيفة»: إن من أقرا الناس للقرآن منافقًا لا يدع منه واوًا ولا ألفًا, يلفته بلسانه كما تلفت البقرة الخلى بلسانها». قال: حدثنيه «الفزارى مروان بن معاوية» , عن «إسماعيل بن ابى خالد» , عن «حكيم بن جابر» , عن «حذيفة».

قوله: يلفته: اللفت: اللى, يقال: لفت الشئ, وقتلته لغتان بمعنى [واحد]. وفي حديث آخر: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذى يلفت الكلام كما تلفت البقرة الخلى بلسانها». قال «أبو عبيد»: والخلى: الحشيش, وهو مقصور, ومنه الحديث المرفوع: «لا يختلى خلاها»: يقول: لا يحش حشيشها: يعنى «مكة». قال «الأصمعى»: ومنه سميت المخلاة, لأنه يجعل فيها الخلى, وهو: الحشيش اليابس.

795 - وقال «أبو عبيد» في حديث «حذيفة»: «ما بينكم وبين أن يرسل عليكم الشر فراسخ إلا موت رجل, وهو «عمر». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «شقيق» , عن «حذيفة». قوله: «فراسخ»: بلغنى عن «النضر بن شميل» أنه قال: يقال لكل شئ كثير دائم لا فرجة فيه: فرسخ, وقال بعض الأعراب: «أغضنت علينا السماء أيامًا يعين ما فيها فرسخ» فالعين: أن يدوم [541] المطر أياما. وقوله: ما فيها فرسخ: يقول: ليست فيها فرجة, ولا اقلاع. ويقال: انتظرتك فرسخًا من النهار: يعنى طويلًا, ولا أرى الفراسخ أخذت إلا من هذا. 796 - وقال «أبو عبيد» في حديث «حذيفة» حين ذكر الفتنة, فقال:

«أتتكم الدهيماء ترمى بالنشف, ثم التى تليها ترمى بالرضف». قال: حدثنا «يزيد» , عن «الوليد بن جميع» , عن «أبى الطفيل» , عن «حذيفة». قوله: «الدهيماء»: نراه أراد الدهماء, فصغرها, مثل حديثه الآخر: «لتكونن فيكم أيتها الأمة أربع فتن: الرقطاء, والمظلمة, وفلاتة, وفلاتة». فالمظلمة: مثل الدهماء, وبعض الناس يذهب بها إلى الدهيم, فإن كانت

من الدهيم فإن الدهيم: الداهية. ويقال: إن سببها أن ناقة كان يقال لها: الدهيم, فغزا قوم قومًا, فقتل منهم سبعة إخوة, فحملوا على الدهيم. فصارت مثلًا في كل داهية وبلية. وأما النشف: فإنها حجارة سود على قدر الأفهار كأنها محترقة, قالها «الأصمعى». وقال «أبو عمرو»: هى التى تدلك بها الأرجل. وأما الرضف: فإنها الحجارة المحماة بالنار أو الشمس, واحدتها رضفة. ومنه الحديث المرفوع, قال: حدثنيه «أبو نوح» , عن «شعبة» , عن «سعد بن إبراهيم» , عن «أبى عبيدة» , عن «عبد الله» , عن «النبى» - عليه السلام -: «أنه كان إذا جلس فى الركعتين الأوليين, كأنه على الرضف». وقال الراجز:

* أفلح من كانت له هرشفه * * ونشفه يملأ منها كفه * ويقال في النشفة - في غير هذا الحديث -: إنها الخرقة التى ينشف بها ماء المطر من الأرض, ثم يعصر في الأوعية, وهذا الحديث يروى عن «عبد الله» , و «حذيفة» , جميعًا. قال: حدثناه «اليمامى عمر بن يونس» , عن «عكرمة بن عمار» , عن «يحيى ابن أبى كثير» , عن «عبد الله» مثله, وزاد فيه: «والذى نفسى بيده [543] ما أجد لى ولكن إلا أن نخرج منها كما دخلنا فيها». قال «أبو عبيد»: يقول: إنا كنا قبل أن تهيج الفتنة لم نتلبس من الدنيا بشئ, فليس ينجينا منها إلا أن تنجلى عنا, وحالنا حينئذ كحالنا الساعة, لم نلتبس منها بشئ, فهذا هو الخروج منها كما دخل فيها, يعنى الفتنة. 797 - وقال «أبو عبيد» في حديث «حذيفة»: «إن الله يصنع صانع

الحزم, ويصنع كل صنعة». فإن الحزم: شئ شبيه بالخوص, وليس بخوص, وبعض الناس يقول: هو خوص المقل, وهو أدق منه وألطف, وهو هذا الذى تعمل منه أحفاش النساء. وفى هذا الحديث تكذيب لقول «المعتزلة» الذين يقولون: إن أعمال العباد ليست بمخلوقة, ومما يصدق قول «حذيفة ويكذب قول أولئك قول الله - تبارك وتعالى -: {والله خلقكم وما تعملون} ألا ترى أنهم كانوا ينحتون الأصنام, ويعملونها بأيديهم, ثم قال لهم: {والله خلقكم وما تعملون} وكذلك قول «حذيفة»: «ويصنع كل صنعة».

798 - وقال «أبو عبيد» في حديث «حذيفة» فى الذى يجد البلل» قال: أخبرنا «هشيم» قال: أخبرنا «ابن عون»: عن «ابن سيرين» , عن «حذيفة» أنه قال - في الذى يجد البلل بعد الاستبراء -: «ما هو وهذا عندى إلا سواء, وأخرج طرف لسانه». قال «أبو عبيد»: وهذا قد يكون في شيئين: أحدهما أن يكون قد أصابته جنابة, فبال بعدها, واستبرأ, واغتسل, ثم رأى بللًا, فيقول: ليس ذلك من الجنابة إذا كان بعد البول, كما روى عن «على» [- رضى الله عنه -] أنه قال: إذا اغتسل, ثم رأى شيئًا بعد ذلك, فإن كان بال قبل الغسل, فعليه الوضوء, وإذا لم يكن بال, فهذه بقية من جنابته, وعليه إعادة الغسل, فهذا أحد الوجهين. والوجه الآخر: ألا تكون هاهنا جنابة, ولكنه رجل بال واسبترأ, وتوضأ, ثم رأى بللًا, فيقول: ليس هذا بشئ, يذهب [543] إلى مثل قول «عمر»:

«إنى أجده يتحدر منى مثل الخرزة, فما أباليه» ومثل قول «ابن عباس»: «إنما ذلك من الشيطان, فإذا توضأت, فرش ثوبك, فإن رأيت شيئًا, فقل: هو منه» فأراد «حذيفة» هذا المذهب أنه ليس يبول, إنما هو من الشيطان. 799 - وقال «أبو عبيد» في حديث «حذيفة» أنه قال: «ما بقى من المنافقين إلا أربعة» فقال رجل: فأين الذين يبعقون لقاحنا, وينقبون بيوتنا؟ فقال «حذيفة»: «أولئك هم الفاسقون - مرتين -». [قال «أبو عبيد»]: قوله: يبعقون لقاحنا: يعنى ينحرون إبلنا, فيسيلون دماءها. يقال: قد انبعق المطر: إذا سال وكثر.

أحاديث سلمان الفارسى رحمه الله

أحاديث سلمان الفارسى رحمه الله 800 - وقال «أبو عبيد» في حديث «سلمان الفارسى»: «أحيوا ما بين العشاءين, فأنه يحط عن أحدكم من جزئه, وإياكم وملغاة أول الليل, فإن ملغاة أول الليل مهدنة لآخره». قال: حدثناه «مروان بن معاوية» , عن «يحيى بن ميسرة الأحمسى» , عن «العلاء بن بدر» , عمن حدثه عن «سلمان». قال «أبو زيد» وغيبره: قوله: «ملغاة»: من اللغو, وكثرة الحديث, والمهدنة: من الهدنة, وهى السكون, يقال منه: هدنت أهدن هدونًا: إذا سكنت, فلم تتحرك, والذى أراد «سلمان»: أنه إذا سهر أول الليل, ولغا, ذهب به النوم في آخره, فمنعه من القيام للصلاة, وبعضهم يرويه: «مهدرة أول الليل» في موضع «ملغاة» , وهو قريب المعنى من ذلك.

وقوله: «أحيوا ما بين العشاءين»: فإنه أراد المغرب والعشاء, سماهما عشاءين, وقد فسرنا في غير هذا الموضع, وهذا مثل قول «عائشة» [- رحمة الله عليها -]: «الأسودان: التمر والماء» وإنما السواد للتمر وحده, وكقولهم: «سنة العمرين» وإنما هما: «أبو بكر» و «عمر» , وهكذا كلام العرب إذا كان الشئ مع غيره فربما سموهما جميعًا باسم أحدهما. 801 - وقال «أبو عبيد» في حديث «سلمان» [- رحمه الله -]: «وليات [544] رجل يعطى القيان البيض, وبات آخر يقرأ القرآن, ويذكر الله [تعالى] لرأيت أن ذاكر الله أفضل». قال: حدثناه «معاذ» , عن «سليمان التيمى» , عن «أبى عثمان» , عن «سلمان». قال «أبو عمرو» وغيره: قوله: القيان: واحدتها قينة, وهى الأمة,

وبعض الناس يظن القينة المغنية خاصة, وليس هو كذا, ولو كانت المغنية [خاصة] ما ذكرها «سلمان» في موضع الفضل والثواب, ولكن كل أمة عند العرب قينة, يبين ذلك قول «زهير»: رد القيان جمال الحى فاحتملوا ... إلى الظهيرة أمر بينهم لبك أراد: الإماء. وقال «أبو عمرو»: وكذلك كل عهد هو عند العرب قين, ويقال: إنما سميت الماشطة مقينة, لأنها تزين النساء, شبهت بالأمة, لأنها تصلح البيت وتزينه. 802 - وقال «أبو عبيد» في حديث «سلمان»: «من صلى بأرض قى فأذن وأقام [الصلاة] صلى خلفه من الملائكة مالا يرى قطراه, يركعون بركوعه, ويسجدون بسجوده, ويؤمنون على دعائه».

قال: حدثاه «هشيم» , و «أبو حفص الأبار» , كلاهما, عن «داود بن أبى عثمان» , عن «سلمان» , وزاد «أبو حفص» , عن «داود» , قال: فقلت «لأبى عثمان»: ما القى؟ قال: القفز. وقال «الأصمعى»: وهو كذلك, قال: وهو مأخوذ من القواء, قال «العجاج»: * قى تناصيها بلاد قى * قوله: تناصيها: تتصل بها, وأصلها مأخوذه من الناصية. وقوله: «قطراه»: طرفاه, والجمع: أقطار, ومنه قول الله - تبارك وتعالى -: {أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض} والقتر مثل القطر. 803 - وقال «أبو عبيد» في حديث «سلمان» حين دخل عليه «سعد» يعوده, فجعل يبكى, فقال «سعد»: ما يبكيك يا «أبا عبد الله»؟ قال: «والله ما أبكى جزعًا من الموت, ولا حزنًا على الدنيا, ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا ليكف [545] أحدكم مثل زاد الراكب,

وهذه الأساود حولى». قال: وما حوله إلا مطهرة, أو إجانة, أو جفنة». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «أبى سفيان» , [قال «أبو عبيد»: أراه] «طلحة بن نافع» , عن, «أشياخه» , عن «سلمان». قوله: الأساود: يعنى الشخوص من المتاع, وكل شخص سواد, من متاع أو إنسان أو غيره, ومنه الحديث الآخر: «إذا رأى أحدكم سوادًا بليل, فلا يكن أجبن السوادين فإنه يخافك كما تخافه» وجمع السواد أسودة, ثم الأساود جمع الجمع, قال «الأعشى»: تناهيتم عنا وقد كان فيكم ... أساود صرعى لم يوسد قتيلها

يريد بالأساود شخوص القتلى. 804 - وقال «أبو عبيد» في حديث «سلمان» أنه كان إذا تعار من الليل قال: «سبحان رب النبيين, إله المرسلين». قال: حدثناه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «عمرو بن مرة» , عن «سالم بن أبى الجعد» , عن «زيد بن صوحان» قال: بت عند «سلمان» , فكان يفعل ذلك. قال «زيد»: فذكرت ذلك له, فقال: يا «زيد» اكفنى نفسك يقظان, أكفلك نفسك نائمًا». قال «الكسائى»: قوله: تعار من الليل: يعنى استيقظ. يقال منه: قد تعار الرجل يتعار تعارًا: إذا استيقظ من نومه, ولا أحسب ذلك يكون إلا مع كلام أو صوت, وكان بعض أهل العلم يجعله مأخوذًا من عرار الظليم, وهو صوته, ولا أدرى أهو من ذلك أم لا. وقوله: «اكفنى نفسك يقظان أكفك نفسك نائمًا» يقول: لا تعص الله فى

اليقظ, وأنا أكفيك في النوم, إن النائم سالم لا يخاف عليه في النوم شئ من المآثم, وهذا مثل قول «عبد الله»: «لست أخاف عليكم النوم, إنما أخاف عليكم اليقظة». قال: حدثناه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «أبى حصين» , عن «يحيى ابن وثاب» , عن «مسروق» , عن «عبد الله».

أحاديث معاذ بن جبل رضى الله عنه

أحاديث معاذ بن جبل رضى الله عنه 805 - وقال «أبو عبيد» في حديث «معاذ بن جبل» أنه كان يقول باليمن: «إيتونى بخميس [546] أو لبيس آخذه منكم في الصدقة, فإنه أيسر عليكم, وأنفع للمهاجرين بالمدينة». قال «الأصمعى»: الخميس: الثوب الذى طوله خمس أذرع, كأنه يعنى الصغير من الثياب. قال «أبو عبيد»: ويقال له أيضًا: مخموس, مثل جريح ومجروح, وقتيلٍ ومقتول, وقال «عبيد» يذكر ناقته: هاتيك تحملنى وأبيض صارما ... ومذربا في مارن مخموس وكان «أبو عمرو» يقول: إنما يقال للثوب خميس, لأن أول من عمله ملك باليمن, يقال له الخمس أمر بعمل هذه الثياب, فنسيت إليه, وقال «الأعشى» يذكر نبات الأرض:

يومًا تراها كشبه أردية الـ ... خمس ويومًا أديمها نغلًا فهذا لبيت بصدق قول «أبى عمرو» وبيت «عبيد» يصدق قول «الأصمعى» , وكلاهما له وجه ومعنى. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه أخذ الثياب في الصدقة, وإنما هذا على وجه الرفق بهم إذا كان ذلك أمكن لهم من الذهب والفضة والطعام والماشية. وفيه أيضًا: حمله صدقة اليمن إلى المدينة, ألا تراه يقول: هو أنفع للمهاجرين بالمدينة, وأنما ذلك إذا استغنى عنها أهل البلد الذين تؤخذ منهم. 806 - وقال «أبو عبيد» في حديث «معاذ»: «أنه يتقدم العلماء يوم القيامة برتوة».

يقال فيها أقوال: فقال بعضهم: الرتوة: الخطوة. يقال: رتوت أرتو: إذا خطوت. ويقال: الرتوة: الرمية, ومما يحقق ذلك بيت «الحارث بن حلزة» , وذكر الجبل وارتفاعه, فقال: مكفهر على الحوادث لاتر ... توه للدهر مؤبد صماء يعنى الداهية,] قول: لا تخطاه الداهية ولا ترميه, فتصدعه أو تغيره [547] ولكنه باق على الدهر, والمكفهر: الذى تراكم بعضه على بعض, ومنه قيل للسحاب مكفهر, ومنه قول «عبد الله»: إذا لقيت الكافر فألقه بوجه منبسط مكفهر يقول: لأتلقه بوجه سائل, ولكن القه بوجه منقبض مزور. وقال بعض أهل العلم: الرتوة: البسطة.

وقال بعضهم أيضًا: الرتوة: نحو من ميل, وقد أكثر الناس فيها الاختلاف, فالله أعلم أى ذلك هو. 807 - وقال «أبو عبيد» في حديث «معاذ»: «من استخمر قومًا أولهم أحرار, وجيران مستضعفون, فإن له ما قصر في بيته حتى دخل الإسلام, وما كان مهملًا يعطى الخراج, فإنه عتيق, وإن كل نشر أرض يسلم عليها صاحبها, فإنه لا يخرج منها ما أعطى نشرها ربع المسقوى, وعشر المظمى, ومن كانت له أرض جادسة قد عرفت له فى الجاهلية حتى أسلم, فهى لربها». يروى عن «معمر» , عن «ابن طاوس» , عن «أبيه» , قال: «وجدناه ذلك فى كتاب معاذ». قوله: من استخمر: كان «عبد الله بن المبارك» يقول: استخمر: استعبد, وقال «محمد بن كثير»: هذا كلام عندنا معروف باليمن, لا يكاد يتكلم بغيره, يقول الرجل للرجل: أخمرنى كذا وكذا: أى أعطنيه هبة لى ملكنى إياه, ونحو هذا. فقول «معاذ»: من استخمر قومًا, يقول: أخذهم قهرًا, أو تملكًا عليهم, وهو كقول «ابن المبارك»: استعبدهم, يقول: فما

وهب الملك من هؤلاء لرجل, فقصره الرجل في بيته حتى جاء الإسلام, وهو عنده فهو له, وما كان مهملًا يعطى الخراج: يعنى الضريبة, فهو حر. وقوله: نشر الأرض: هو ما خرج من نباتها. والمسقوى: الذى يسقى بالسيح. والمظمى: الذى تسقيه السماء. وأما الأرض الجادسة: فهى التى لم تعمل, ولم تحرث. وقوله: ربع المسقوى: أراه: يعنى ربع العشر. 808 - وقال «أبو عبيد» في حديث «معاذ»: «بقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة [548] في صلاة العشاء حتى ظننا أنه قد صلى ونام, ثم خرج إلينا فذكر فضل تأخير صلاة العشاء» في حديث فيه طول. قال: حدثنيه «حجاج» , عن «جرير بن عثمان» , عن «راشد بن سعد» ,

عن «عاصم بن حميد» , أنه سمع «معاذًا» يقول ذلك. قوله: بقينا: قال «الأحمر»: يعنى انتظرنا, وتبصرنا. يقال منه: بقيت الرجل أبقيه بقيا, وأنشدنى «الأحمر» في نعت الخيل: * فهن يعلكن حدائداتها * * جنح النواصى نحو ألوياتها * * كالطير تبقى متداوماتها * [تبقى]: يعنى تنظر إليها. 809 - وقال «أبو عبيد» في حديث «معاذ»: «أنه ضحى بكبش أعرم».

قال: الأصمعى»: هو الأبيض الذى فيه نقط سود مع بياضه, والأنثى عرماء, وجمعها عرم. وأنشدنا «لمعقل بن خويلد الهذلى»: أيا معفقل لا توطئنك بغاضتى ... رؤوس الأفاعى في مراصدها العرم 810 - وقال «أبو عبيد» في حديث «معاذ» أنه أتى بوقص, هو باليمن, فقال: «لم يأمرنى فيه رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] بشئ». قال: حدثنيه «حجاج» , عن «ابن جريح» , عن «عمرو بن دينار» , عن «طاووس» , عن «معاذ». كان «أبو عمرو»: يقول: الوقص: هو ما وجبت فيه الغنم من [فرائض] الإبل في الصدقة ما بين الخمس إلى العشرين, فإذا بلغت خمسًا وعشرين,

ووجبت فيها بنت مخاض, فليس بوقص, فهذا عند «أبى عمرو» الوقص والشنق. ولا أرى «أبا عمرو» حفظ هذا. قال «أبو عبيد»: ولو كان هكذا ما قال «معاذ»: «لم يأمرنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه بشئ» , وكيف يقول ذاك, وسنة «النبى» - عليه السلام - أن فى خمس من الإبل شاة, وفي عشر شاتين, وفي خمس عشرة ثلاثًا, وفي عشرين أربعًا, ولكن الوقص عندنا: ما بين الفريضتين, وذلك ست من الإبل, وسبع, وثمان, وتسع, فما زاد بعد الخمس إلى التسع, فهو وقص, لأنه ليس فيه شئ, وكذلك ما زاد على العشر إلى أربع عشرة, وكذلك ما فوق ذلك, وجمع [549] الوقص أوقاص, وكذلك الشنق, جمعه أشناق, وقال «الأخطل»: قرم تعلق أشناق الديات به ... إذا المئون أمرت فوقه حملا وبعض العلماء يجعل الأوقاص في البقر خاصة, ولأشناق في الإبل خاصة, وهما جميعًا ما بين الفريضتين.

قال «أبو عبيد»: وهذا أحب القولين إلى. 811 - وقال «أبو عبيد» في حديث «معاذ»: «أوجب ذو الثلاثة والاثنين». هذا في الوالد إذا قدم ثلاثة أو اثنين وجبت له الجنة.

حديث عبادة بن الصامت رحمه الله

حديث عبادة بن الصامت رحمه الله 812 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبادة [بن الصامت» - رحمه الله -] «ألا ترون أنى لا أقوم إلا رفدًا, ولا آكل إلا ما لوق لى, وإن صاحبى لأصم أعمى, وما أحب أن أخلو بامرأة». قوله: لا أقوم إلا رفدا, يقول: لا أقدر على القيام إلا أن أرفد, فأعان عليه, وكل من أعان شيئًا حتى يرتفع, فقد رفده, ولهذا سميت رفادة السرج, لأنها تدعم السرج من تحته حتى يرتفع, ولهذا قيل: قد رفدت الرجل: إذا أعنته, وأحسنت إليه. وقوله: لا آكل إلا مالوق لى: هو مأخوذ من اللوقة: واللوقة: الزيدة في قول «الكسائى». و «الفراء». وقال «ابن الكلبى»: وهو الزيد بالرطب, وفيه لغتان: لوقة والوقة.

وأنشدنى لرجل من «عذرة»: وإنى لمن سالمتم لألوقة ... وإنى لمن عاديتم سم أسود وقال غيره: حديثك أشهى عندما من ألوقة ... تعجلها ظمآن شهوان للطعم والذى أراد «عبادة» بقوله: لوق لى: يقول: لين لى من الطعام حتى يصير كالزيد في لينه: يعنى أنه لا يقدر على غير ذلك من الكبر. وقوله: وإن [550] صاحبى لأصم أعمى: يعنى الفرج. أنه لا يقدر على شئ, ولا يعرفه. يقول: وأنا مع هذا أكره أن أخلو بامرأة.

حديث رافع بن خديج رحمه الله

حديث رافع بن خديج رحمه الله 813 - وقال «أبو عبيد» في حديث «رافع بن خديج»: «أنه اشترى من رجل بعيرًا ببعيرين فأعطاه أحدهما, وقال: آتيك بالآخر غدًا رهوًا». الرهو في مواضع: فأحدها: السير السهل المستقيم, وهذا موضعه, يقول: آتيك به عفوًا لا احتباس فيه. يقال: اعطيته المال سهوًا رهوًا, ومن السير قول «القطامى» - في نعت الركاب: يمشين رهوًا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل والرهو: الحقير يجتمع فيه الماء, وقد ذكرنا في حديث قبل هذا. والرهو: اسم طائر, يقال له: الرهو. والرهو أيضًا: الشئ المتفرق, ويفسر قول «الله» [- تبارك وتعالى -] {واترك البحر رهوًا} أنه تفرق الماء عنه.

حديث أبى الدرداء رحمه الله

حديث أبى الدرداء رحمه الله 814 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى الدرداء» في الركعتين بعد العصر: «ما أنا لأدعهما فمن شاء أن ينحضج فلينحضج». قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «شعبة» , عن «يزيد بن خمير» , عن «عبد الله ابن يزيد» , أو «ابن زيد» , عن «جبير بن نضير» , عن «أبى الدرداء». قال: قوله: أن ينحضج: يعنى أن ينقد من الغيظ, وينشق, ومنه قيل للرجل إذا اتسع بطنه, وتفتق: قد انحضج, ويقال أيضًا ذلك: إذا ضرب بنفسه الأرض, فإذا فعلت به أنت, قلت: قد حضجته. 815 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى الدرداء»: «أنه ترك الغزو

عامًا, فبعث مع رجل صرة, فقال: إذا رأيت رجلًا يسير من القوم حجرة, فى هيئته بذاذة, فادفعها إليه». قال: حدثنيه «ابن علية» , عن «الجريرى» , قال: حدثت [551] أن «أبا الدرداء» فعل ذلك. قال: قوله: حجرة: يعنى ناحية, وحجرة كل شئ: ناحيته, وجمعه حجرات, وقال الشاعر: يجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدًا للحوافر والبذاذة: الرثاثة في الهيئة. 816 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى الدرداء»: «أنه أتى باب «معاوية» فلم يأذن له, فقال: من يأت سدد السلطان يقم ويقعد, ومن يجد بابًا مغلقًا يجد إلى جنبه بابًا فتحًا رحبًا, إن دعا أجيب, وإن سأل أعطى».

قال: حدثت به عن «ابن المبارك» , عن «عبد الرحمن بن يزيد بن جابر» , عن «إسماعيل بن عبيد الله» , عن «أم الدرداء» , عن «أبى الدرداء». قال: قوله: سدد السلطان: واحدتها سدة, وهى السقيفة فوق باب الدار. وبعضهم يقول: السدة: الباب نفسه. وأما الفتح, فإن «الأصمعى» كان يقول: هو الواسع, ولم أره يذهب به إلى المفتوح, ولكن إلى السعة, قال «أبو عبيد»: يعنى بالباب الفتح: الطلب إلى الله ومسألته. 817 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى الدرداء»: «إن قارضت الناس قارضوك, وإن تركتهم لم يتركوك». يحدث به عن «ابن المبارك» , عن «مسعر» , عن «عون بن عبد الله» , عن «أبى الدرداء».

قوله: قارضتهم: يكون القرض في أشياء, فمنها: القطع, وبه سمى المقراض, لأنه يقطع به, وأظن قرض الفأر منه, لأنه قطع, وكذلك السير في البلاد: إذا قطعتها, قال «ذو الرمة»: إلى ظعن يقرضن أقواز مشرفٍ ... يمينًا وعن أيسارهن الفوارس ومنه قوله - عز وجل -: {وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال}. والقرض أيضًا: فى قول الشعر خاصة, ولهذا سمى القريض, وقال «أبو عبيد»: ومنه قول «عبيد بن الأبرص»: «حال الجريض دون القريض». ومنه قول «الأغلب [العجلى]»:

* أرجزا تريد أم قريضا * * كلاهما أجد مستريضا * ويروى: مستفيضا [بالفاء] [552]. والقرض: من أن يقرض الرجل صاحبه المال, والقراض: المضاربة - فى كلام «أهل الحجاز». فأما الذى أراد «أبو الدرداء» بقوله: إن قارضتهم قارضوك: فإنما ذهب إلى القول فيهم, والطعن عليهم, وهو من القطع, يقول: فإن فعلت بهم سوءًا فعلوا بك مثله, وإن تركتهم لم تسلم منهم, ولم يدعوك. 818 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى الدرداء»: «أنه رأى رجلًا بين عينيه مثل ثفنة العنز, فقال: لو لم يكن هذا كان خيرًا له».

قال: حدثناه «يحيى بن سعيد» , عن «ثور» , عن «أبى عون» , عن «أبى الدرداء» ذلك. قوله: الثفنة: هو ما ولى الأرض من كل ذى أربع إذا برك, ومنه قول الشاعر يصف الناقة: ذات انتباذ عن الحادى إذا بركت ... خوت على ثفنات محزئلات يعنى الركبتين والفخذين والكركرة, ولهذا قيل «لعبد الله بن وهب الراسبى» - رئيس الخوارج -: ذو الثفنات, لأن طول السجود كان قد أثر في ثفناته.

حديث الحباب بن المنذر [بن الجموح] رحمه الله

حديث الحباب بن المنذر [بن الجموح] رحمه الله 819 - قال «أبو عبيد» في حديث «الحباب بن المنذر» - يوم سقيفة بنى ساعدة حين اختلفت الأنصار في البيعة, فقال «الحباب» -: «أنا جذيلها المحكك, وعذيقها المرجب, منا أمير, ومنكم أمير». قال: حدثناه «عبد الله بن صالح» , عن «الليث بن سعد» , عن «عقيل بن خالد» , عن «ابن شهاب» , عن «عبيد الله بن عبد الله بن عتبة» , عن «ابن عباس» , عن «الحباب [بن المنذر]». قال «الأصمعى»: الجذيل: تصغير جذل أو جذل, وهو عود ينصب للإبل الجرباء, لتحتك به من الجرب, فأراد: أنه يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل بالاحتكاك بذلك العود. قال: والعذيق: تصغير العذق, والعذق إذا كان بفتح العين فهو النخلة نفسها فإذا مالت النخلة الكريمة بنوا من جانبها المائل بناء مرتفعًا يدعمها,

لكيلا تسقط, فذلك الترجيب. قال: وإنما صغرهما, فقال: جذيل وعذيق على وجه المدح, وأنه وصفهما [553] بالكرم. قال: وهذا كقولهم: فلان فريخ قريش, وكالرجل تحضه على أخيه, فتقول: إنما هو بنى أمك. قال «أبو عبيد»: وأنشدنا «أبو القاسم الحضرمى» لبعض الأنصار فى المرجب يصف النخل: ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح يعنى من الجائحة. ويقال: قوله: بسنهاء: يقول: لم تصبها السنة المجدية, والرجيبية: من المرجب والترجيب, والعرايا: الرجل يعرى نخله, وقد فسرناه فى

غير هذا الموضع, وقال «سلامة بن جندل» يذكر الخيل, ويصف المرجب: والعاديات أسابى الدماء بها ... كأن أعناقها أنصاب ترجيب قال «أبو عبيد»: وهذا يفسر تفسيرين: أما أحدهما: أن يكون شبه انتصاب أعناقها بهذا الجدار المبنى, وشبه النخلة بالعود الذي يرجب بها. والتفسير الآخر: أن يكون أراد الدماء التى تذبح في رجب.

حديث زيد بن ثابت رحمه الله

حديث زيد بن ثابت رحمه الله 820 - وقال «أبو عبيد» في حديث «زيد بن ثابت» [- رحمه الله -] حين أمره «أبو بكر» [-رضى الله عنه -] أن يجمع القرآن, قال: «فجعلت أتتبعه من الرقاع, والعسب, واللخاف». قال: حدثنيه «ابن مهدى» , عن «إبراهيم بن سعد» , عن «الزهرى» , عن «عبيد بن السباق» , عن «زيد بن ثابت». قال «الأصمعى»: اللخاف: واحدتها لخفة, وهى: حجارة بيض رقاق, والعسب: واحدها عسيب, وهو: سعف النخل, و «أهل الحجاز» يسمونه الجريد أيضًا, وأما العواهن - عند أهل الحجاز - فإنها: التى تلى قلبة النخل, وهى عند أهل نجد: الخوافى.

821 - وقال «أبو عبيد» في حديث «زيد بن ثابت» [- رحمه الله -]: «أنه دخل على رجل بالأسواف, وقد صاد نهسًا, فأخذه من يده, فأرسله». النهس: طائر, والأسواف: موضع بالمدينة, وإنما يراد من هذا الحديث أنه كره صيد «المدينة» , لأنها مثل حرم «مكة». 822 - وقال «أبو عبيد» في حديث «زيد بن ثابت» [- رحمه الله -]: «أنه كان من أفكه الناس إذا خلا مع [554] أهله, وأزمتهم في المجلس». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «ثابت بن عبيد» , عن «زيد بن ثابت». قوله: من أفكه الناس: الفاكه في غير شئ, وهو هاهنا: المازح,

والاسم منه الفكاهة, وهى المزاحة. والفاكه - في غير هذا -: الناعم, وكذلك يروى فى قوله [تعالى]: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} فالفاكه: الناعم والفكه: المعجب, فأما قوله: {فظلتم تفكهون} فهو من غير هذا, يروى أنه تندمون. 823 - وقال «أبو عبيد» في حديث «زيد بن ثابت» - أو «ابن أرقم» -: «أنه كان لا يحيى من شهر رمضان إلا ليلة سبع عشرة, فيصبح كان السخد على وجهه». قال: يعنى الماء الذى يكون مع الولد, شبه تورم وجهه, وتهيجه به, ويقال منه: رجل مسخد. 824 - وقال «أبو عبيد» في حديث «زيد بن ثابت»: «فى العين

القائمة إذا يخقت مئة دينار». يحدثونه عن «بكير بن الأشج» , عن «سليمان بن بشرا» , عن «زيد بن ثابت». يقال: البخق: أن تخسق بعد العور, فأراد أنها إن عورت ولم تنخسف, فصار لا يبصر بها إلا أنها قائمة, ثم فقئت بعد, ففيها مئة دينار.

أحاديث أبى سعيد الخدرى رحمه الله

أحاديث أبى سعيد الخدرى رحمه الله 825 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى سعيد الخدرى»: «لو سمع أحدكم ضغطة القبر لجزع أو خرع». يقول: انكسر, وضعف, وقال «الأصمعى»: ومنه قيل للنبت اللين الذى يتثنى: خروع, أى نبت كان. [قال]: ولهذا قيل للمرأة اللينة الجسد: خريع, وكان غيره يذهب بالخريع إلى الفجور, وليس يذهب به «الأصمعى» إلى ذلك, إنما يذهب به إلى اللين. 826 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى سعيد الخدرى» في الربا, ووضع يديه على أذنيه, وقال: «استكتا إن لم أكن سمعت «رسول الله»

- صلى الله عليه وسلم -[555] يقول: «الذهب بالذهب, والفضة بالفضة مثل بمثل». قوله: استكتا: يقول: ضمتا, والاستكاك: الصمم, وقال «عبيد بن الأبرص»: دعا معاشر فاستكت مسامعه ... يا لهف نفسى لو يدعو بنى أسد قال «أبو عبيد»: يجوز مثل بمثل, ومثلُا بمثل.

أحاديث عمرو بن العاص [رحمه الله]

أحاديث عمرو بن العاص [رحمه الله] 827 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عمرو بن العاص» حين قدم على «عمر» [رضى الله عنه] من «مصر» وكان واليه عليها, قال: كم سرت؟ قال: عشرين. فقال «عمر»: «لقد سرت سير عاشق». فقال «عمرو»: «إنى والله ما تأبطتنى الإماء, ولا حملتنى البغايا في غبرات المآلى». فقال «عمر»: والله ما هذا بجواب الكلام الذى سألتك عنه, وإن الدجاجة لتفحص في الرماد, فتضع لغير الفحل, والبيضة منسوبة إلى طرقها. فقام «عمرو» متربد الوجه». قال: حدثت بذلك عن «المبارك بن سعيد» , عن «نوح بن جابر» , عن خاله «رياش الحمانى» , عن «عمر» , و «عمرو». قوله: ولا حملتنى البغايا في غبرات المآلى: أما البغايا: فإنها الفواجر,

والمآلى في الأصل خرق سود تمسكهن النوائح إذا نحن, يشرن بها بأيديهن. وقال «زيد الخيل» في رجل حمل عليه, فاستغاث به, فتركه, فقال: ولولا قوله يا زيد قدنى ... إذا قامت نوبرة بالمآلى وواحدتها مثلاة, وإنما أراد «عمرو» خرق المحيض, فشبهها بتلك المآلى. وأما الغبرات: فإنها البقايا, واحدها غافر, ثم يجمع غبرا, ثم غبرات جمع الجمع, وقد يقال للباقى من اللبن غبر, ثم يجمع الغبر أغبارًا, قال «الحارث ابن حلزة»: لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدرى من الناتج 828 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عمرو»: «أنه لما عزله «معاوية» عن مصر جاء [556] فضرب فسطاطه قريبًا من فسطاط «معاوية» ,

فجعل يتزبع لمعاوية». قال: التزيع: التغيظ, يقال للرجل إذا كان فاحشًا سيئ الخلق: متزبع, قال «متمم بن نوبرة» يرثى أخاه: وإن تلقه في الشرب لا تلق فاحشًا ... على القوم ذا قاذورة متزبعا 829 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عمرو بن العاص»: أن «ابن الصعبة» ترك منه بهار, في كل بهار ثلاثة قناطير ذهب, وفضة». قوله: بهار, في كل بهار ثلاثة قناطير ذهب, وفضة». قوله: بهار: أحسبها كلمة غير عربية, أحسبها قبطية, والبهار في كلامهم: ثلاثمئة رطل, والقناطير: واحدها

قنطار, وقد اختلف الناس في القنطار, فيروى عن «معاذ» أنه قال: ألف ومئتا أوقية, وعن غيره أنه قال: سبعون ألف دينار, وبعضهم يقول: ملء مسك ثور ذهبًا. وقوله: «ابن الصعبة»: يعنى «طلحة بن عبيد الله». 830 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عمرو بن العاص» , فى «عبد الرحمن ابن عوف» حين مات, فقال «عمرو»: «هنيئًا لك «ابن عوف» , خرجت ببطنتك من الدنيا لم يتغضغض منها شئ». التغضغض: النقصان, يقال: تغضغض الماء: إذا نقص, وغضفضته: إذا نقصته. قال «الأحوص»:

سأطلب بالشام الوليد فإنه ... هو البحر ذو التيار لا يتغضغض يقول: لا ينقص, والذى أراد «عمرو»: أن «عبد الرحمن» سيق الفتن, ومات وافر الدين لم ينقص منه شئ, وكان موت «عبد الرحمن» قبل موت «عثمان» [- رحمه الله -] حين تكلم فيه الناس.

حديث عتبة بن غزوان [رحمه الله]

حديث عتبة بن غزوان [رحمه الله] 831 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عتبة بن غزوان» [- رحمه الله -] أنه خطب الناس, فقال: إن الدنيا قد آذنت بصرم, وولت حذاء, فلم يبق منها إلا صبابة [557] كصبابة الإناء». قال «أبو عمرو» وغيره: [قوله]: الحذاء: السريعة الخفيفة التى قد انقطع آخرها, ومنه قبل للقطاة: حذاء, لقصر ذنبها مع خفتها, قال «النابغة الذببانى» يصفها: حذاء مدبرة سكاء مقبلة ... للماء فى النحر منها نوطة عجب ومن هذا قيل للحمار القصير الذنب: أحذ. وقوله: إلا صبابة: فالصبابة: البقية اليسيرة تبقى في الإناء من الشراب,

فإذا شربها الرجل قال: قد تصاببتها, وقال «الشماخ ابن ضرار التغلبى]»: لقوم تصاببت المعيشة بعدهم ... أشد على من عفاء تغيرا فشبه ما بقى من العيش ببقية الشراب يتمززه, ويتصابه.

حديث عقبة بن عامر [رحمه الله]

حديث عقبة بن عامر [رحمه الله] 832 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عقبة بن عامر»: «أنه كان يختضب بالصبيب». يقال: إنه ماء ورق السمسم أو غيره من نبات الأرض, قد وصف لى بمصر, ولون مائه أحمر, يعلوه سواد, ومنه قول «علقمة بن عبدة»: فأوردتها ماء كأن جمامه ... من الأجن حناء معًا وصبيب

حديث شداد بن أوس [رحمه الله]

حديث شداد بن أوس [رحمه الله] 833 - وقال «أبو عبيد» في حديث «شداد بن أوس»: «يا نعايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية». هكذا يحدثه المحدثون: يانعايا [العرب]. قال «الأصمعى» وغيره: قوله: «يا نعايا» إنما هو في الإعراب: يا نعاء العرب. تأويلها: انع العرب. يأمر بنحبهم, كأنه يقول: قد ذهبت العرب, كقول «عمر» [-رضى الله عنه-]: وقد - والله - علمت متى تهلك العرب: إذا ساسها من لم يدرك الجاهلية, ولم يصحب الرسول [صلى الله عليه وسلم]». قال: حدثنا «الحسين بن عازب» , قال: حدثناه «شبيب بن غر قدة» , عن [558] «المستظل بن حصين» , قال: سمعت «عمر» يقول: ذلك.

قال «أبو عبيد»: وأما خفض نعاء, فهو مثل قولهم: قطام, ودراك, ونزال, قال «زهير»: ولأنت أشجع من أسامة إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر وقال غيره: * دراكها من إبل دراكها * * قد نزل الموت على أوراكها * و[قال]: كان «أبو عبيدة» ينشد: تراكها بالتاء: أى اتركوها, وإنما المعنى: أنزلوا وأدركوا, وكذلك قول «الكميت» في نعاء, وذكر «جذام»

وانتقالهم إلى «اليمن» بنسبهم, فقال: نعاء جذاما غير موت ولا قتل ... ولكن فراقًا للدعائم والأصل وبعضهم يرويه: «يا نعيان العرب» , فمن قال هذا, فإنه يريد المصدر نعيته نعيًا, ونعيانًا, وهو جائز حسن. وأما قوله: والشهوة الخفية, فقد اختلف الناس فيها, فذهب بها بعضهم إلى شهوة النساء, وغير ذلك من الشهوات, وهو عندى ليس بمخصوص بشئ واحد, ولكنه في كل شئ من المعاصى يضمره صاحبه, ويصر عليه, فإنما هو لإصرار, وإنما لم يعمله. [قال «أبو عبيد»]: وقال بعضهم: هو الرجل يصبح معتزمًا على صيام التطوع, ثم يجد طعامًا طيبًا, فيفطر من أجله, قال «أبو عبيد»: أظن «ابن عيينة» كان يذهب إلى هذا.

حديث أبى واقد الليثى [رحمه الله]

حديث أبى واقد الليثى [رحمه الله] 834 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى واقد الليثى»: «تابعنا الأعمال, فلم نجد شيئًا أبلغ في طلب الآخرة من الزهد في الدنيا». قال: حدثناه «يزيد» , عن «محمد بن عمرو» , عن «يحيى بن عبد الرحمن» , عن «أبى واقد». قال «أبو زيد» وغيره: تابعنا الأعمال: يقول: أحكمناها وعرفناها, يقال للرجل إذا أتقن الشئ وأحكمه: قد تابع عمله, وكان «أبو عمرو» يقول مثل ذلك أو نحوه.

أحاديث أبى موسى الأشعرى [رحمه الله]

[559] أحاديث أبى موسى الأشعرى [رحمه الله] 835 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى موسى الأشعرى»: «إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا, وكائن عليكم وزرًا, فاتبعوا القرآن, ولا يتبعنكم القرآن, فإنه من يتبع القرآن يهبط على رياض الجنة, ومن يتبعه القرآن يزخ في قفاه حتى يقذف به في نار جهنم». قال: حدثناه «هشيم» , و «ابن علية» , كلاهما عن «زياد بن مخراق» , عن «ابن إياي» , عن «أبى كنانة» , عن «أبى موسى الأشعرى». قوله: اتبعوا القرآن: أى اجعلوه أمامكم, ثم اتلوه, كقوله [- جل وعز -]: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته}. قال: حدثنا «عباد بن العوام» , عن «داود بن أبى هند» , عن «عكرمة» في قوله: «يتلونه حق تلاوته» , قال: يتبعونه حق اتباعه, ألا ترى أنك تقول:

فلا يتلو فلانًا: {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها}. قال «أبو عبيد»: [و] أما قوله: «لا يتبعنكم القرآن». فإن بعض الناس يحمله على معنى لا يطلبنكم القرآن بتضييعكم إياه, كما يطلب الرجل صاحبه بالتبعة, وهذا معنى حسن يصدقه الحديث الآخر: «إن هذا القرآن شافع مشفع, وماحل مصدق» , فجعله بمحل يصاحبه إذا لم يتبع ما فيه, والماحل: الساعى. وفيه قول آخر - هو عندى أحسن من هذا - قوله: «ولا يتبعنكم القرآن». يقول: لا تدعوا العمل به, فتكونوا قد جعلتموه وراء ظهوركم, وهو أشد موافقة للمعنى الأول, لأنه إذا اتبعه كان بين يديه, وإذا خالفه كان خلفه, ومن هذا قيل: لا تجعل حاجتى بظهر: أى لا تدعها فتكون خلفك. ومن ذلك حديث يروى عن «الشعبى» , قال: حدثنا «الأشجعى, عبيد الله بن عبد الرحمن» , عن «مالك بن مغول» , عن «الشعبى» فى قوله: {فبنذوه

وراء ظهورهم} قال: أما إنه كان بين أيديهم, ولكن نبذوا العمل به, فهذا يبين لك أن من رفض شيئًا فقد جعله وراء ظهره. وقوله: يزخ في قفاه: يدفعه, يقال: زخخته أزخه زخا. 836 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى موسى الأشعرى» أنه تذاكر هو و «معاذ» [560] قراءة القرآن, فقال «أبو موسى»: «أما أنا فأتفوقه تفوق اللقوح». قال: حدثنيه «غندر» , عن «شعبة» , عن «سعيد بن أبى بردة» , عن «أبيه» , عن «أبى موسى الأشعرى». قوله: أتفوقه: يقول: لا أقرأ جزئى بمرة, ولكن أقرا منه شيئًا بعد شئ في آناء الليل والنهار, فهذا التفوق, إنما هو مأخوذ من فواق الناقة, وذلك أنها تحلب, ثم تترك ساعة حتى تدر, ثم تحلب, يقال منه: قد فاقت تفوق فواقًا, وفواقًا, وفيقة, وهى ما بين الحليتين. قال «امرؤ القيس» يذكر المطر, وأنه يمطر ساعة بعد ساعة:

فأضحى يسح الماء من كل فيقة ... يكب على الأذقان دوح الكنهبل ومن هذا الحديث المرفوع: «أنه قسم الغنائم يوم بدر عن فواق» كأنه أراد أنه فعل ذلك في قدر فواق ناقة, وفيها لغتان: فواق وفواق, وكذلك يقرأ هذا الحرف: {مالها من فواق} - بالفتح والضم -, ويقال في قوله: إنه قسم الغنائم يوم بدر عن فواق: يعنى التفضيل, أنه جعل بعضهم فيها أفوق من بعض, على قدر غنائهم يومئذ.

حديث عبد الرحمن بن سمرة

حديث عبد الرحمن بن سمرة [ابن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف - رحمه الله] 837 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الرحمن بن سمرة» في يوم جمعه أنه قال: «ما خطب أميركم؟ فقيل له: أما جمعت؟ فقال: منعنا هذا الرزغ». قال: حدثنيه «يحيى بن سعيد» , عن «سعيد بن أبى عروية» , عن «قتادة» , عن «كثير» مولى «ابن سمرة» أن «ابن سمرة» قال له: ذلك. قال «أبو عمرو» وغيره: قوله: الرزغ: هو الطين والرطوبة. يقال: قد أرزغت السماء, وأرزغ المطر: إذا جاء منه ما يبل الأرض, قال «طرفة»: وأنت على الأدنى صبًا غير قرة ... تذاءب منها مرزغ ومسيل

[تذاءب إذا جعله للمرزغ, فهو بالفتح والوجه الرفع] فهذا الرزغ, وأما الردغة فهى بالهاء, وهى: الماء والطين والوحل, وجمعها رداغ, والذى يراد من هذا الحديث الرخصة في التخلف في الأمطار والطين.

أحاديث أبي هريرة [رحمه الله]

أحاديث أبي هريرة [رحمه الله] 838 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبي هريرة» أنه أردف غلامه خلفه, فقيل له: لو أنزلته يسعى خلفك. فقال: «لأن يسير معى ضغثان من نار يحرقان منى ما أحرقا أحب إلى من أن يسعى غلامى خلفى». قال: حدثناه «هشيم» , عن «أبى بلج» , عن «صالح بن أبى سليمان» , عن «أبى هريرة». قال «أبو عبيد»: كان «الكسائى» [وغيره] يقول في الضغث: هو كل شئ جمعته, فحزمته من عيدان, أو قصب, أو غير ذلك. قال «أبو عبيد»: وهكذا يروى في قوله [- تعالى -]: {وخذ بيدك ضغثًا}: أنه كان حزمة من أسل ضرب بها امرأته, فبر بذلك يمينه, فترى أن الرماح إنما سميت الأسل لتحددها.

ويقال في أضغاث الأحلام إنما سميت بذلك, لأنها أشياء مختلطة يدخل بعضها في بعض, وليست كالرؤيا الصحيحة, فكان «أبا هريرة» إنما أراد نيرانًا مجتمعة تسير عن يمينه وعن شماله. 839 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «إن الشيطان إذا سمع الأذان خرج وله خصائص». قال: حدثنيه «حجاج» , عن «حماد بن أبى النجود» , عن «أبى صالح» , عن «أبى هريرة» قال: قال «حماد»: فقلت لعاصم: ما الحصاص؟ فقال: أما رأيت الحمار إذا صر بأذنيه, ومصع بذنبه, وعدا؟ فذلك حصاصه. وقال «الأصمعى»: الحصاص: شدة العدو وسرعته.

ويقال: هو الضراط في قول بعضهم, وقول «عاصم» أعجب إلى, وهو قول «الأصمعى» أو نحوه. 840 - وقل «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «أن رجلًا ذهبت له أينق, فطلبها, فأتى على واد خجل, مغن, معشب, فوجد أينقه فيه». قال «أبو عبيد»: يقال: إن الوادى الخجل: الكثير العشب الملتف, ومنه قيل: ثوب خجل [562] إذا كان طويلًا. والخجل في أشياء سوى هذا. وأما المغن: فإنه الذى فيه صوت الذباب, ولا يكون الذباب إلا في وادٍ مخصب معشب, وإنما قال: مغن, لأن فى أصوات الذباب عنه, وهى شبيه بالبحة, ومنه قيل للظبى: أغن, وقال بعض الناس: ولهذا قيل للقرية الكثيرة الأهل والعشب: غناء.

841 - وقال «أبو عبيد» - في حديث «أبى هريرة» - قال: «لما نزل تحريم الخمر, كنا نعمد إلى الحلقانة, وهى التذنوبة, فتقطع ما ذنب منها, حتى يخلص إلى البسر ثم تفتضخه». قال: حدثناه «مروان بن معاوية» , عن «حاتم بن أبى صغيرة» , عن «أبى مصعب المدنى» , عن «أبى هريرة». قال «الأصمعى»: يقال للبسر إذا بدا فيه الإرطاب: بسر موكب, فإن كان ذلك من قبل ذنبها فهو المذنب, فإذا لان البسر, فهو ثعد, وواحدته ثعدة, فإذا بلغ الإرطاب نصفه فهو مجزع, فإذا بلغ ثلثيه فهو حلقان ومحلقن. 842 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق».

قال: حدثناه «يحيى بن سعيد» , عن «ثور» , عن «خالد بن معدان» , قال: قال «ثور»: حدثنيه رجل عن «أبى هريرة» يرفعه. قال «أبو عمرو»: الصوى: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافى المجهولة, فيستدل بتلك الأعلام على طرقها, وواحدتها صوة. وقال «الأصمعى»: الصوى: ما غلظ وارتفع من الأرض, ولم يبلغ أن يكون جبلًا, وقول «أبى عمرو» أعجب إلى فى هذا, وهو أشبه بمعنى الحديث, لأن الأرض المرتفعة لا تكون أعلامًا, وعلى هذا تأويل الأشعار, قال «لبيد»: ثم أصدرناهما في وارد ... صادر وهم صواه قد مثل [مثل]: يعنى اتنصب في وارد, الوارد والصادر يعنى به الطريق, وقال الشاعر: ودوبة غبراء خاشعة الصوى ... لها قلب عفى الحياض أجون [563]

يعنى البرية, [ويروى: قلب عادية وصحون] خاشعة الصوى, يقول: صواها قد خشعت, وتواضعت من طول الزمان, وقال «أبو النجم»: * بين طريق الرفق القوافل * * وبين أميال الصوى المواثل * [وهو كثير في الشعر]. قال «أبو عبيد»: فأراد أن للإسلام صوى: يعنى علامات وشرائع يعرف الإسلام بها كمنار الطريق, فذكر شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة, وغير ذلك من الشرائع. 846 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «إذا قام أحدكم من النوم, فليفرغ على يديه [ثلاثا] قبل أن يدخلها في الإناء».

قال: فقال له «قيس الأشجعى»: فإذا جئنا مهراسكم هذا فكيف نصنع به؟ فقال «أبو هريرة»: أعوذ بالله من شرك». قال: حدثناه «إسماعيل بن جعفر» , عن «محمد بن عمرو» , عن «أبى سلمة» , عن «أبى هريرة» يرفعه.

قال «الأصمعى» وغيره: المهراس: حجر منقور مستطيل عظيم كالحوض يتوضأ الناس منه, لا يقدر أحد على تحريكه. 844 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة» أنه سئل عن القبلة للصائم, فقال: «إنى لأرف شفتيها, وأنا صائم». قال: حدثناه «ابن أبى عدى» , عن «حبيب بن شهاب العنبرى» , عن «أبيه» عن «أبى هريرة». قوله: أرف: الرف: [هو] مثل المص والترشف ونحوه. يقال منه: رففت الشئ أرفعه رفًا. فأما برف - بالكسر - فهو من غير هذا, يقال: رف الشئ يرف رفًا ورفيفا: إذا برق لونه, وتلألأ, قال «الأعشى» يذكر ثغر امرأة: ومها ترف غروبه ... يشفى المتيم ذا الحراره وقد روى عن «أبى هريرة» فى حديث آخر أنه سئل: أتقبل, وأنت صائم؟

فقال: «نعم, وأكفحها» , وبعضهم يرويه: «نعم, وأقحفها». فمن قال: أكفحها [564] أراد بالكفح: اللقاء, والمباشرة بالجلد, وكل من واجهته, ولقيته كفة كفة, فقد كافحته كفاحًا ومكافحة, وقال «ابن الرقاع [العاملى]»: تكافح لوحات الهواجر والضحى ... مكافحة للمنخرين وللفم قال «أبو عبيد»: المنخرين - بالكسر - لا نعرف لها نظيرا في الكلام. فهذا البيت قد فسر قول «أبى هريرة». ومن رواه: أقحفها, فإنه [أراد] شرب الريق وترشفه. ومنه يقال: قد قحف الرجل الإناء: إذا شرب ما فيه.

845 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: أنه مر «بمروان» وهو يبنى بنيانا له, فقال: «ابنوا شديدًا, وأملوا بعيدًا, واخضموا, فسنقضم» قوله: «اخضموا فسنقضم» ,: الخضم: أشد في المضغ, وأبلغ من القضم, وهو بأقصى الأضراس, والقضم بأذنابها, وقال «أيمن بن خريم الأسدى» يذكر أهل العراق حين سار «عبد الملك» إلى «مصعب» , فقال: رجوا بالشقاق الأكل حضمًا فقد رضوا أخيرًا من أكل الخضم أن يأكلوا القضما يعنى: حين ظهر عليهم «عبد الملك». وإنما أراد «أبو هريرة» بهذا مثلًا ضربه يقول: استكثروا من الدنيا, فإنا سنكتفى منها بالدون, وهذا شبيه بقول «أبى ذر»: «عليكم [معشر] قريش بدنياكم, فاغذموها».

846 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «لو حدثتكم بكل ما أعلم لرميتمونى بالقشع». قال: حدثناه «إسماعيل بن جعفر» , عن «محمد بن عمرو» , عن «أبى سلمة» , عن «أبى هريرة». قال «الأصمعى» وغيره: القشع: الجلود اليابسة, [ولا يكون القشع أبدًا إلا يابسًا] والواحد منها قشع. قال «أبو عبيد»: وهذا على غير قياس العربية, ولكنه هكذا يقال. ومنه حديث «سلمة بن الأكوع» - في غزاة بنى فزارة - قال: «أغرنا عليهم فإذا

امرأة عليها قشع لها, فأخذتها, فقدمت بها المدينة». ومما يحقق ذلك قول «متمم بن نويرة» يرثى أخاه, [قال]: ولا يرما تهدى النساء لعرسه إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا

748 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «لتخرجنكم «الروم» منها كفرًا كفرا إلى سنبك نم الأرض, قيل: وما ذلك السنبك؟ قال: «حسمى جذام». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «على بن الحكم» , قال: حدثنى «أبو حسن» , عن «أبى أسماء الرحبى» , عن «أبى هريرة». قوله: كفرًا كفرًا: يعنى قرية قرية, وأكثر من يتكلم بهذه الكلمة «أهل الشام» يسمون القرية الكفر, ولهذا قالوا: «كفرتوثا» و «كفر تعقاب» و «كفر أبياء» وغير ذلك, إنما هى قرى نسبت إلى رجال.

وقد روى عن «معاوية» أنه قال: «أهل الكفور هم أهل القبور»: يعنى بالكفور القرى, يقول: إنهم بمنزلة الموتى, لا يشاهدون الأمصار والجمع, وما أشبهها. وأما قوله: سنبك من الأرض: فإنك السنبك أصله من سنبك الحافر, فشبه الأرض التى يخرجون إليها بالسنبك في غلظه, وقلة خيره. 848 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «أنه كانت رديته التأبط». قال: حدثناه «معاذ» , عن «ابن عون» , عن «عمير بن إسحاق» , عن «أبى هريرة». قوله: التأبط: هو أن يدخل رداءه تحت يده اليمنى, ثم يلقيه على عاتقه الأيسر كالرجل يريد أن يعالج الشئ فيتهيأ لذلك.

قال «أبو عمرو»: والاضطباع بالثوب مثله. يقال: قد اضطبعت بثوبى, وهو مأخوذ من الضبع, والضبع: العضد, ولهذا قيل: أخذ بضبعى الرجل. والالتفاع بالثوب: هو مثل الاشتمال, قال «الأصمعى»: هو أن يتجلل بالثوب كله. والاحتجاز: أن يشد ثوبه في وسطه, وإنما هو مأخوذ من الحجرة, ومنه حديث «النبى» - عليه السلام - أنه رأى رجلًا محتجزًا بحيل أبرق وهو محرم, فقال: «ويحك ألقه. ويحك ألقه». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «ابن أبى ذئب» , عن «صالح بن أبى حسان» , رفعه. والاعتجار: لى الثوب [566] على الرأس مع الجسد, وبه سمى معجر المرأة. والتلبب: أن يحترم بثوبه, ويجمعه عليه, ومنه حديث «عمر» [- رحمه الله -]: «أنه رنى ملتببًا».

والاضطغان: كالشئ تأخذه تحت حضنك, قاله «الأحمر» , وأنشدنى: * كأنه مضطغن صببًا * أى حامله في حجره. واشتمال الصماء: أن يتجلل بثوب واحد, ثم يرفع أحد جانبيه على عاتقه. هذا تفسير الفقهاء, وهو عند العرب أن يشتمل [بثوب واحد] فلا يرفع شيئًا بواحدة. 849 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة» أنه دخل على «عثمان» [- رحمه الله -] وهو محصور, فقال له: «طاب امضرب». قال: فأمره «عثمان» أن يلقى سلاحه. قال «الأصمعى»: أراد: طاب الضرب: يعنى أنه [قد] حل القتال,

وطاب, قال: وهذه لغة اليمن, أو قال: لغة حمير, قال: وأنشدنى: ذاك خليلى وذو يعاتبنى ... يرمى ورائى بامسهم وأم سلمه يريد: بالسهم [والسلمة] , والسلمة: واحدة السلام. ومنه الحديث المرفوع: «ليس من أمير أم صيام في امسقر»: يريد ليس من البر الصيام في السفر, وبعضهم يرويه [هكذا] بإظهار اللامات. 850 - وقال أبو عبيد في حديث «أبى هريرة» - أنه ذكر «النبى» - عليه السلام - في حديث له قال: «فنشغ» قال «أبو عمرو» وغيره: النشغ: الشهيق, وما أشبهه حتى يكاد يبلغ به

الغشى. يقال منه: قد نشغ ينشغ نشفًا. وقال «أبو عبيد»: وإنما يفعل ذلك الإنسان شوقًا إلى صاحبه, وأسفًا عليه, وحبًا للقائه, فنشغ, بالغين ليس فيه اختلاف. وقال «رؤبة» يمدح رجلًا, ويذكر شوقه إليه: [567] ... *عرفت أنى ناشغ في النشغ* * إليك أرجو من نداك الأسبغ * وأما قول «ذى الرمة»: إذا مرئية ولدت غلاما ... فالأم مرضع نشغ المحارا

و «الأصمعى» ينشده بالعين «نشع المحارا» وهو إيجارك الصبى الدواء أو غيره. قال «الأصمعى»: واسم ذلك الدواء: النشوع, وهو الوجور. [قال «أبو عبيد»: وغير «الأصمعى» ينشده بالغين - معجم -] والمحار: الصدف, واحدته محارة. 851 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: أنه كره السراويل المخرفجة». قال: حدثناه «القاسم بن مالك» بإسناد لا أحفظه. قال «الأموى»: يقال: تفسير المخرفجة في الحديث: أنها التي تقع على ظهور القدمين. قال «أبو عبيد»: وهذا تأويلها, وإنما أصل هذا مأخوذ من السعة. قال «الأموى»: ولهذا قيل: عيش مخرفج, إذا كان واسعًا رغدًا: قال «العجاج»:

* غراء سوى خلقها الخبرنجا * * مأد الشباب عيشها المخرفجا * قال «أبو عبيد»: وبعضهم يقول: المخرفشة, بالشين, وليس هذا بشئ, إنما المحفوظ بالجيم, والذى يراد من هذا الحديث أنه كره إسبال السراويل, كما يكره إسبال الإزار, والحديث في هذا قليل. 852 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «أن رجلًا سأله, فقال: إنى رجل مصراد, أفأدخل المبولة معى في البيت؟ فقال: نعم, وادخل في الكسر» من حديث «ابن علية» , عن «الجريرى».

قوله: مصراد: هو الذى يشتد عليه البرد, ويقل صبره عليه. وأما قوله: «وادحل» فإنه مأخوذه من الدحل, وهو: هوة تكون فى الأرض, وفي أسافل الأودية, فيها ضيق, ثم تتسع, قاله «الأصمعى». يقال: دحلت فيها أدخل دحلًا, وجمعها أدحال ودحلان [568] فشبه «أبو هريرة» جوانب الخباء ومداخله بذاك, يقول: صر فيها كالذى يصير في الدحل. وقوله: في الكسر: هو الشقة التى تلى الأرض من الخباء, ويقال: هى الشقة التى تكون في أقصى الخباء, وقال «الأخطل» [بذكر رجلًا]: وقد غبر العجلان حينا إذا بكى ... على الزاد ألقته الوليدة في الكسر وفيه لغتان: الكسر والكسر. 853 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «أن امرأة مرت به

متطيبة لذيلها عصرة, فقال: أين تريدين يا أمة الجبار؟ فقالت: أريد المسجد» وبعض أصحاب الحديث يروى: «عصرة». [قوله: لذيلها عصرة] أراد الغبار أنه قد ثار من سحبها, وهو الإعصار, قال الله - تبارك وتعالى -: {فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت}. وجمع الإعصار: أعاصير, [قال] وأنشدنى «الأصمعى»: وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير

وقد تكون العصرة من فوح الطيب, وهيجه, فشبهه بما تثير الريح من الأعاصير, فلهذا كره لها «أبو هريرة» إتيان المسجد. 854 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى هريرة»: «مثل المؤمن الضعيف كمثل خافت الزرع يميل مرة, ويعتدل أخرى». قال: حدثناه «يزيد» , عن «عمران بن حدير» , عن «بحر بن سعيد» , عن «بشير بن نهيك» , عن «أبى هريرة». قوله: الخافت: يعنى الذى قد لان ومات, ولهذا قيل للميت: قد خفت: إذا انقطع كلامه وسكت, قال الشاعر: حتى إذا خفت الدعاء وصرت ... قتلى كمنجدل من الغلان وهذا مثل الحديث المرفوع: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تميلها الريح مرة

هكذا ومرة هكذا». يعنى الفضة الرطبة [69 م]. قال «أبو عبيد»: وإنما يراد من هذا الحديث أن المؤمن مرزًا, تصيبه المصائب في نفسه, وأهله, وماله, وليس كما جاء الحديث في الكافر: «مثله كالأرزة المجذبة على الأرض حتى يكون اجعافها مرة». والأرزة شجر طويل يكون في جبل اللكام, وكذلك الجبال. وبعضهم يروى حديث «أبى هريرة»: «كمثل خافة الزرع» بالهاء, فإن كان هذا هكذا, فلا أدرى ما هو, ومن روى: «خافته الزرع» فهو مثل خافت, وهو الصواب. 855 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة» أنه قال لرجل:

«أحسن إلى غنمك, وامسح الرعام عنها, وأطب مراحها». قوله: الرعام: يعنى ما سال من أنوفها, يقال: شاة رعوم, والمراح: الموضع الذى يريحها إليه إذا أمسى. 856 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: أنه سئل عن الضبع, فقال: «الفرعل تلك نعجة من الغنم». قال: حدثناه «محمد بن ربيعة الرؤاسى» , عن «نصر بن أوس» , عن «عمه» , عن «أبى هريرة». قال «أبو عبيد»: أما الحديث فإنه هكذا: يروى أنه جعل الضبع الفرعل. وأما عند العرب: فإن الفرعل: ولد الضبع, وجمعه الفراعل,

قال «الأعشى» يذكر رجلًا قتل رجلًا: غادرته متجدلًا ... بالقاع تنهسه الفراعل وقال «الكميت»: وتجمع المتفرقو ... ن من الفراعل والعسابر فالفراعل: أولاد الضباع بعضها من بعض, والعسابر: أولاد الضباع من الذناب, واحدها عسبارة وعسبار. والذى يراد من هذا الحديث قوله: نعجة من الغنم, يقول: إنها حلال بمنزلة الغنم توكل. 857 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة» أنه قال: «لما افتتحنا «خيبر» إذا [57] أناس من يهود مجتمعون على خبزة [لهم] يملونها, فطردناهم عنها, فأخذنها, فاقتسمناها,

فأصابنى كسرة, وقد كان بلغنى أنه من أكل الخبز سمن, فلما أكلتها جعلت أنظر في عطفى هل سمنت؟ ». قال: حدثناه «إسماعيل بن جعفر» , عن «الربيع بن صبيح» , عن «يزيد الرقاشى» , عن «أبى هريرة». قال «الأصمعى» , وغير واحد: قوله خبزة: هى التى عند العامة الملة, وإنما الملة عند العرب: الحفرة التى فيها الخبزة, ولهذا قيل: يملونها: إذا عملوها في الملة, قلت: مللتها أملها ملا. قال «الأصمعى»: وإنما قيل: فلان يتملل على فراشه: إذا كان يتضور عليه, ولا يقر لأنه مأخوذ من الملة: أى كأنه على ملة, فهو قلق. 858 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «لم يكن يشغنلى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرس الودى ولا صفق

بالأسواق». قال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «يعلى بن عطاء» , عن «الوليد بن عبد الرحمن» , عن «أبى هريرة». قال «الأصمعى»: قوله: الودى: هى صغار النخل, واحدتها ودية, وقال الشاعر: نحن بغرس الودى أعلمنا ... منا بركض الجياد في السدف ويروى: في السلف. وهو أيضًا الفسيل, واحدته فسيلة, وجمع الفسيل فسلآن, وهو جمع الجمع. والأشاء أيضًا: صغار النخل, واحدته أشاءة, مهموز, وقال «العجاج»: * لاث بها الأشاء والعبرى *

859 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «أنه كان يسبح بالنوى المجزع» , [وبعضهم يرويه المجزع]. قال: حدثنيه «محمد بن ربيعة» , أو غيره, عن «عباد بن منصور» , عن شيخ صحب «أبا هريرة» , عن «أبى هريرة». قوله: المجزع: يعنى الذى قد حك بعضه حتى ابيض شئ منه, وترك الباقى على لونه, وكذلك كل أبيض مع أسود, فهو مجزع, وإنما أخذ من الجزع شبه به. والذى يراد من الحديث أنه كان يحصى تسبيحه, ويسبح بالنوى كنحو من فعل النساء. 860 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة» في «يأجوج» و «مأجوج»: «أنه يسلط عليهم النغف فيأخذ في رقابهم».

قال: حدثنيه «ابن أبى عدى» , عن «حبيب بن شهاب» , عن «أبيه» , عن «أبى هريرة». قال «االأصمعى»: هو الدود الذى يكون في أنوف الإبل والغنم, قال: وهو أيضًا الدود الأبيض الذى يكون فى النوى إذا أنقع, والواحدة نغفة, قال: وما سوى ذلك من الدود, فليس بنغف. 861 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة» حين ذكر حديثًا عن «النبى» - صلى الله عليه وسلم -, فقيل له: أسمعته من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال: «أنا من طهوى؟ ». قال «أبو عبيد»: هذا عندنا مثل ضربه, لأن الطهو في كلامهم إنضاج الطعام, يقال منه: طهوت اللحم أطهاه طهوًا, وهو رجل طاه من قوم طهاة, قال «امرؤ القيس»:

فظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قديرمعجل قال «أبو عبيد»: فنرى أن «أبا هريرة» جعل إحكامه للحديث, وإتقانه إياه, كالطاهى المجيد المنضج لطعامه, يقول: فما كان عملى إن كنت لم أحكم [أنا] هذه الرواية التى حكيتها عن «النبى» [- صلى الله عليه وسلم -] كإحكام ذلك الطاهى للطعام؟ قال «أبو عبيد»: وكان وجه الكلام أن يقول: فما طهوى, أو فما كان إذًا طهوى, ولكن الحديث جاء على هذا اللفظ. 862 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «يوشك أن يعمل عليكم بقعان أهل الشام».

قوله: بقعان: أراد البياض, لأن الخدم بالشام إنما هم الروم, والصقالبة, فسماهم بقعان للبياض, ولهذا قيل للغراب,: الأبقع, إذا كان فيه بياض وهو أخبث ما يكون من الغربان, فصار مثلًا لكل خبيث. 863 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة»: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا صغار الأعين, ذلف الأنلف».

قال «أبو عبيد»: هى التى فيها قصر. 864 - وقال «أبو عبيد» في حديث «أبى هريرة» أنه قال: «إذا رأيتك يا رسول الله قرت عينى, وإذا لم أرك تبغثرت نفسى». من حديث «عبد الوارث» [572] قال: حدثنا «هشام [بن أبى عبد الله] الدستواثى» , عن «قتادة» أن «أبا هريرة» قال: ذلك. قوله: تبغثرت نفسى: يعنى جاشت, وخبثت, ولقست.

حديث ابن عباس رضى الله عنهما

حديث ابن عباس رضى الله عنهما 865 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: أنه سئل عن رجل جعل أمر امرأته بيدها, فقالت: فأنت طالق ثلاثًا, لإقال «ابن عباس»: «خطأ الله نوءها, الأطلقت نفسها ثلاثًا؟ ». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «حبيب بن أبى ثابت» , عن «ابن عباس». قال «أبو عبيد»: النوء: هو النجم الذى يكون به المطر, فمن همز الحرف, فقال: خطأ الله [نوءها] , فإنه أراد الدعاء عليها: أى أخطاها المطر, ومن قال: خط الله نوءها, فلم يهمز فإنه يجعله من الخطيطة, وهى الأرض التى لا تنطر بين أرضين ممطورتين, وجمع الخطيطة: خطائط, وأنشدنى «أبو عبيدة»:

* على قلاص تختطى الخطائطا * قال «الأصمعى» في الخطيطة مثل ذلك, وكره الوجه الذى في الأنواء. قال «أبو عبيد»: ولم يقل «ابن عباس» هذا, وهو يريد الأنواء بعينها, إنما هى كلمة جارية على ألسنتهم, يقولونها من غير نية الدعاء, كقول «النبى» - صلى الله عليه وسلم: «عقرى حلقى» وكقوله: «تربت يداك» فكذلك مذهب «ابن عباس» , ولم يكن ممن يقر بالأنواء, ولا يقلبها. وكذلك حديث «عمر» [- رحمه الله -] حين صعد المنبر بيستسقى, فلم يزد على الاستغفار, وقال: «لقد استسقيت بمجاديح السماء». والمجاديح من النجوم. ولكنه تكلم على ما كانت العرب تكلم به, لم يرد غير هذا, وليس للحديث عندى وجه غيره.

866 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» أن رجلًا قال له: ما هذه الفتيا التى قد شغبت الناس». قال: حدثنيه «حجاج» , عن «شعبة» , عن «قتادة» , عن [573] «أبى حسان الأعرج» , أن رجلًا من «بلهجيم» قال ذلك «لابن عباس». قال «حجاج»: قال «شعبة»: أنا أقول: شغبت, ولا أدرى كيف هى. قال «حجاج»: إنما الصواب: شعبت, بالعين, ومعناها: فرقت [بين الناس]. [قال «أبو عبيد»]: وهى عندى كما قال «حجاج». قال «الأصمعى»: يقال: شعب الرجل أمره: إذا شتته, وفرقه, وأنشدنى لعلى بن الغدير [الغنوى في الشعب بمعنى التفرق]: وإذا رأيت المرء يشعب أمره ... شعب العصا ويلج في العصيان

فاعمد لما تعلو فمالك بالذى ... لا تستطيع من الأمور يدان قوله ها هنا: يشعب: يريد يفرق. قال «أبو عبيد»: ويشعب في غير هذا هو الاصلاح والاجتماع, وهذا الحرف من الأضداد, قال «الطرماح [بن حكيم»]: شت شعب الحى بعد التئام ... وشجاك اليوم ربع المقام إنما هو شت الجميع, ومنه شعب الصدع في الإناء, إنما هو إصلاحه وملاءمته. قال «أبو عبيد»: وإنما قال «شعبة»: شغبت الناس, لأنه ذهب إلى الشغب في الكلام, قال: والعين أحب إلى. 867 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: «لا يصلين أحدكم,

وهو يدافع الطوف والبول». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «حميد بن هلال» , عن «ابن عباس». قال «الأصمع»: الطوف: هو الغائط, قال: يقال لأول ما يخرج من بطن الصبى حين يولد قبل أن يطعم: العقى, وقد عقى يعقى عقيا. قال «الأصمعى»: فإذا طعم بعد العقى, فما خرج منه, فهو الطوف. يقال منه: قد طاف يطوف, وهو التغوط. قال «أبو عبيد»: ومن العقى قول «ابن عباس» أنه سئل عن امرأة دخلت على قوم, فأرضعت صبيًا, قال: «إذا عقى حرمت عليه, وما ولدت». قال: حدثنا «عبد الرحمن» , عن «سفيان» , عن «عبد الرحمن بن عابس» , عن «ابن عباس» بذلك. وإنما ذكر «ابن عباس» العقى ها هنا, ليعلم أن اللبن قد صار في جوفه [574] فلهذا جاء التحريم. قال «أبو عبيد»: العقى الاسم, والعقى المصدر.

868 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» في الذبيحة بالعود, قال: «كل ما أفرى الأوداج غير مثرد». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «عكرمة» , عن «ابن عباس». قال «أبو زياد الكلابى»: التثريد: أن تذبح الذبيحة بشئ لا حد له, فلا ينهر الدم, ولا يسيله, فهذا المثرد, وليس بذكى إنما هو قاتل, وإفراد الأوداج: تقطيعها, وتشقيقها, وكل شئ شققته, فقد أفريته, وما كان على وجه التقدير والتسوية, فإنه يقال منه: فريت, بغير ألف, وهو من غير الأول, قال «زهير»: ولأنت تفرى ما خلقت وبعـ ... ض القوم يخلق ثم لا يفرى

قال: فالخلق: التقدير, والفرى: القطع على وجه الإصلاحز وقد تأول بعض الناس هذا الحديث أن قوله: كل من الأكل, وهذا خطأ لا يكون, ولو أراد من الأكل أوقع المعنى على الشفرة, إذا قال: كل ما أفرى الأوداج, لأن الشفرة هى التى تفرى. [قال «أبو عبيد»]: وإنما معنى الحديث: أن كل شئ أفرى الأوداج من عود أو ليطة أو حجر, بعد أن يفريها, فهو ذكى غير مثرد. 869 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» أن رجلًا أتاه, فقال: إنى أرمى الصيد, فأصمى وأنمى, فقال: «ما أصميت فكل, وما أنميت فلا تأكل». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «الحكم» , عن

«مقسم» , عن «ابن عباس». قال: وحدثناه «غندر» , عن «شعبة» , عن «الحكم» , عن «عبد الله بن أبى الهذيل» , عن «ابن عباس» قال: ونرى أن المحفوظ هذا. قوله: ما أصميت فكل: الإصماء: أن يرميه فيموت بين يديه, ولم يغب عنه [وكذلك الإقعاص] والإنماء: أن يغيب عنه, فيموت, فيجده ميتًا. يقال منه: قد أنميت الرمية أنميها إنماء, فإن أردت أن تجعل الفعل [575] للرمية نفسها, قلت: قد نمت تنمى: أى غابت, ثم ماتت, ومنه قول «امرئ القيس» يصف رجلًا بجودة الرمى: فهو لا تنمى رميته ... ماله لا عد من نفره قوله: لا عد من نفره: فإنه دعاء عليه, وهو يمدحه, وهذا كقولك للرجل يفعل الشئ, أو يتكلم بالكلام يعجبك منه: ما له قاتله الله! أخزاه الله! فقال هذا,

وهو يريد غير معنى الدعاء عليه. وهذا مثل الذى فسرت لك في الحديث الأول من قوله: خطا الله نوءها أنه دعاء, وهو لا يريد مذهب الأنواء, إنما هو على مجرى كلامهم. وقوله: لا تنمى, يقول: لا تغيب عنه الرمية, تموت مكانها, والإقعاص مثل الإصماء. 870 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» حين ذكر «إبراهيم» [عليه السلام» وإسكانه «إسماعيل» [- عليه السلام -] وأمه «مكة» وأن الله [- تبارك وتعالى -] فجر لهما «زمزم» , قال: «فمرت رفقة من «جرهم» , فرأوا طائرًا واقعًا على جبل, فقالوا: إن هذا الطائر لعائف على ماء». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عمن حدثه, عن «سعيد بن جبير» , عن «ابن عباس» في حديث طويل.

قوله: عائف على ماء, كان «أبو عبيد» يقول في العائف هاهنا: هو الذى يتردد على الماء, ويحوم ولا يمضى, قال «أبو عبيد»: ومنه قول «أبى زبيد» وذكرإبلًا أو خيلًا قد أزحفت وتساقطت, فالطير تحوم عليها, فقال: كان أوب مساحى القوم فوقهم ... طير تحوم على جون مزاحيف فشبه اختلاف المساحى بأجنحة الطير. والعائف في أشياء سوى [576] هذا, منها: الذى يعيف الطير يزجرها, وهى العيافة, وقد عاف يعيف. والعائف أيضًا: الكاره للشئ المتقدر منه, ومنه الحديث المرفوع: أنه أتى بضب, فلم يأكل, وقال: «أعافه, ليس من طعام قومى». يقال من هذا:

يعاف [عيفا] ومن الأول والثانى: يعيف [عيفًا]. 871 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» حين قيل «لعكرمة» , وهو محرم: قم فقرد هذا البعير, فقال: إنى محرم, فقال: قم فانحره, فنحره, فقال «ابن عباس»: كم تراك الآن قتلت من قراد, ومن حلمة, ومن حمنانة؟ . قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «يحيى بن سعيد» , عن «عكرمة» , عن «ابن عباس». قال «الأصمعى»: يقال للقراد أصغر ما يكون للواحدة: قمقامة, فإذا كبرت فهى حمنانة, فإذا عظمت فهى حلمة, وجمع هذا كله قمقام, وحمنان, وحلم. والذى يراد من هذا الحديث أن «ابن عباس» لم ير بتقريد المحرم البعير يأسا.

قال «أبو عبيد»: التقريد: أن ينزع منه القردان باليد أو بالطين. 872 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» حين قيل له: «ااقرا» القرآن في ثلاث»؟ فقال: لأن اقرا «البقرة» في ليلة فأدبرها أحب إلى من أن أقرا كما تقول: هذرمة». قال: حدثنيه «حجاج» , عن «حماد بن سلمة» , عن «أبى جمرة» , عن «ابن عباس». قوله: هذرمة: يعنى السرعة في القراءة, وكذلك في الكلام, قال «أبو النجم» يذم رجلًا: * وكان في المجلس جم الهذرمة * * ليثا على الداهية المكتمة * 873 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» أنه سئل عن الطيب عند

الإحرام, فقال: أما أنا فاسغسغه في رأسى, ثم أحب بقاءه». قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «عيينة بن عبد الرحمن» , عن «أبيه» , عن «ابن عباس». قال «أبو زيد» و «الأصمعى»: السغسغة: هى التروية. يقال: سغسغت الطعام: إذا رويته دسمًا, وفرقته فيه, وبعضهم يرويه: أصعصعه فى رأسى: يذهب به إلى تفريقه في رأسه, وهذا يجوز أيضًا. ولكن المحفوظ عندنا هو الأول, وهو وجه الكلام [577]. 874 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: «ما كان الله لينقر عن قاتل المؤمن». قال: حدثناه «الأنصارى» , عن «محمد بن عمرو» , عن «أبى سلمة» , عن «ابن عباس».

قال «الأموى» أو غيره: قوله: ينقر: يعنى يقلع, وأنشدنا: * وما أنا عن أعداء قومى بمنقر * قال: وسألت «أبا عمرو» فلم يعرفه. 875 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: «إذا استقمت بنقد فبعت بنقد, فلا بأس به, وإذا استقمت بنقد, فبعت بنسيئة, فلا خير فيه». هكذا يحدثه «ابن عيينة» , عن «عمرو» , عن «عطاء» , عن «ابن عباس». قوله: استقمت: يعنى قومت, وهذا كلام أهل «مكة» يقولون: استقمت المتاع, يريدون: قومته, ومعنى الحديث: أن يدافع الرجل إلى الرجل الثوب, فيقومه ثلاثين ثم يقول: بعه بها, فما زدت عليها, فلك,

فإن باعه بأكثر من ثلاثين بالنقد, فهو جائز, ويأخذ ما زاد على الثلاثين, وإن باعه بالنسيئة بأكثر مما يبيعه بالنقد, فالبيع مردود لا يجوز. وقد كان «هشيم» يحدثه بقريب من هذا التفسير, إلا أنه كان يحدثه بغير لفظ «سفيان بن عيينة». قال: حدثنا «هشيم» قال: أخبرنا «عمرو بن دينار» , عن «عطاء» , عن «ابن عباس». أنه كان لا يرى بأسًا أن يدفع الرجل إلى الرجل الثوب, فيقول: بعه بكذا وكذا, فما زدت فهولك. قال «أبو عبيد»: وهذا عند من يقول بالرأى لا يجوز, لأنه عنده إجارة مجهولة, يقول: لا أدرى كم يزيد على ذاك, وهذا عندنا معلوم جائز, لأنه إذا وقت له وقتًا, فما كان وراء ذلك من قليل أو كثير, فالوقت يأتى عليه. وقد روى عن «أبى هريرة» ما هو أرخص من هذا, أنه أكرى نفسه من «بنت غزوان» بطعامه, وعقبة يركبها. فهذا توقيت أيضًا. 876 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» أنه سئل: «أى الأعمال أفضل؟ , فقال: [578] أحمزها».

يروى هذا عن «ابن جريح» , عمن يحدثه عن «ابن عباس». قوله: أحمزها: يعنى أمتنها وأقواها, يقال: رجل حميز الفؤاد, وحامز, قال «الشماخ» فى رجل باع قوسًا من رجل: فلما شراها فاضت العين عبرة ... وفي القلب حزاز من اللوم حامز [يروى] حزاز وحزاز - بفتح الحاء وضمها - والحزاز: ما حز فى القلب. 877 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» في رجل له أربع نسوة, فطلق إحداهن, ولم يدر أيتهن طلق, فقال: «ينالهن من الطلاق ما ينالهن من الميراث». قال: حدثناه «هشيم» , فقال: أخبرنا «أبو بشر» , عن «عمرو بن هرم» , عن «جابر بن زيد» , عن «ابن عباس». قوله: ينالهن من الطلاق ما ينالهن من الميراث: يقول: لو مات الرجل,

وقد طلق واحدة لا يدرى أيتهن هى, فإن الميراث يكون بينهن جميعًا لا يسقط منهن واحدة حتى تعرف بعينها, فكذلك إذا طلقها, ولم يمت, ولا يعلم أيتهن هى, فإنه يعتزلهن جميعًا إذا كان الطلاق ثلاثًا, يقول: فكما أورثهن جميعًا آمره باعتزالهن جميعا. 878 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» أنه سئل عن المستحاضة, فقال: «ذاك العاذل يغذو, لتستثفر بثوب, ولتصل». قال: حدثناه «حجاج» , عن «حماد بن سلمة» , عن «عمار بن أبى عمار» , عن «ابن عباس». قوله: العاذل هو اسم العرق الذى يخرج منه دم الاستحاضة, وقوله: يغذو: يعنى يسبل, يقال: إذا العرق وغيره يغذو, ومنه قيل: غذى البعير ببوله يغذى: إذا رمى به متقطعا.

وفي حديث آخر عن «ابن عباس»: «أنه عرق عاند, أو ركضة من الشيطان». قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «شعبة» , عن «عمار» مولى «بنى هاشم» , عن «ابن عباس». قوله: عاند: يعنى الذى قد عند وبغى, كالإنسان يعاند عن القصد, يقول: فهذا العرق في كثرة ما يخرج من الدم بمنزلته, قال «الراعى» [579]: ونحن تركنا بالفعالى طعنة ... لها عااند فوق الذراعين مسبل يعنى شدة خروج الدم من الطعنة. وقوله: ركضة من الشيطان: يعنى الدفعة, وأصل الركض الدفع, ومنه قيل للرجل: هو يركض الدابة, إنما هو تحريكه إياها, وقال الله - تبارك وتعالى -: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} 879 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» أنه دخل «مكة»

رجل من جراد, فجعل غلمان «مكة» يأخذون منه, فقال «ابن عباس»: «أما إنهم لو علموا لم يأخذوه». قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «أبو بشر» , عن «يوسف بن ماهك» , عن «ابن عباس». قوله: رجل من جراد: الرجل: الجماعة الكثيرة من الجراد خاصة, وهذا جمع على غير لفظ الواحد, ومثله في كلامهم كثير, وهو كقولهم لجماعة النعام: خيط, ولجماعة الظباء: إجل, ولجماعة البقر: صوار, وللحمير: عانة, وقال «أبو النجم» يصف الحمر في عدوها, وتطاير الحصى عن حوافرها, [فقال]: * كأنما المعزاء من نضالها * * رجل جراد عن خذالها * والذيى يراد من هذا الحديث أنه كره قتل الجراد في الحرم, وذلك لأنه كان عنده من صيد البر, وقال الله - تبارك وتعالى -: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما}.

880 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» وذكر «عبد الملك بن مروان» فقال: «إن «ابن أبى العاص» مشى القدمية, وإن «ابن الزبير» لوى ذنبه». قال «أبو عمرو»: قوله: القدمية: يعنى التبختر. قال «أبو عبيد»: وإنما هذا مثل, ولم يرد المشى بعينه, ولكنه أراد أنه ركب معالى الأمور, وسعى فيها, وعمل بها, وأن الآخر لوى ذنبه, فأراد أنه لم يبرز للمعروف, وبيدى له صفحته, ولكنه راغ عن ذلك, وتنحى. 881 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» حين قال «لأبى هريرة» وسئل [580] عن امرأة غير مدخول بها طلقت ثلاثًا, فقال: «لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره, فقال «ابن عباس»: طبقت». قوله: طبقت: أصله إصابة المفصل, ولهذا قيل لأعضاء الشاة طوابق,

وواحدها طابق, فإذا فصلها الرجل, فلم يخطئ المفاصل قيل: قد طبق, قال الشاعر يصف السيف: * يصمم أحيانًا وحينًا يطبق * يعنى يصمم في العظم, ويطبق: أى يصيب المفصل, وإنما أراد «ابن عباس» أنك أصبت وجه الفتيا, كما أصاب الذى لم يخطئ المفصل وطبق. 882 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» حين ذكر «آدم» [- عليه السلام -] ودخوله الجنة في آخر ساعة من النهار, قال: فلله ما غابت الشمس حتى أخرج منها». قال: حدثنيه «يزيد». وأسنده إلى «ابن عباس». قوله: فلله: يريد فوالله, والعرب تقول: لله لقد كان كذا وكذا, تريد:

والله, أنشدنا «الكسائى»: لهنك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذب من يقولها وقوله: لهنك: يريد والله إنك لو سيمة, فأسقط الواو من والله, وأسقط إحدى اللامين من لله, كما قال الآخر: * لاه بن عمك والنوى تعدو * أراد لله ابن عمك. 883 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: أمرنا أن نبنى المساجد جمًا, والمدائن شرفًا». قوله: جما: الجم: التى لا شرف لها, وأصل هذا في الغنم, يقال: شاة جماء: إذا لم تكن ذات قرن.

ومنه الحديث في يوم القيامة: «أنه يقتص للجماء من ذات القرن». ومن هذا قيل للرجل الذى لا رمح معه في الحرب: أجم, وجمعه جم, قال «الأعشى»: متى تدعهم لقراع الكما ... ة تأتك خيل لهم غير جم وكذلك البناء إذا لم يكن له شرف, فهو جم, وجمعه جم [581]. 884 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: أنه كان لا يرى بأسًا أن يضحى بالصمعاء». قال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «أبو حمزة» , عن «ابن عباس».

قال: الأصمعى»: الصمعاء: هى الصغيرة الأذن, والذكر أصمع. وأما حديث «طاووس» فى الهتماء يضحى بها: فإنها المكسورة الأسنان, ومنه قيل للرجل: أهتم. وأما قوله في المصرمة الأطباء: فإنها المقطوعة الضرع. قال: وكان «أبو عمرو» يقول: وقد تكون المصرمة الأطباء من انقطاع اللبن, وذلك أن يصيب الضرع شئ, فيكوى بالنار, فلا يخرج منه لبن أبدًا. 885 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: «إذا كانت عندك شهادة فسئلت عنها, فأخبر بها, ولا تقل حتى آتى الأمير, لعله يرجع, أو يرعوى». قال: حدثنيه «ابن مهدى» , عن «محمد بن مسلم» , عن «عمرو بن دينار» , عن «ابن عباس». قال «أبو عبيد»: يقول: لعل الذى عليه الحق إذا علم بشهادتك رجع, أو ارعوى عن رأيه, والارعواء: الندم على الشئ, والانصراف عنه, والترك

له, قال: «ذو الرمة»: إذا قلت عن طول الثنائى قد ارعوى ... أبى حبها إلا بقاء على الهجر 886 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» في «ذات عرق» قال: «هى حذو قرن». قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «ابن عون» , عن «ابن سيرين» , عن «ابن عباس» قال: «ذات عرق وزان قرن». [قال «أبو عبيد»]: قوله: حذو, ووزان بمعنى واحد, وإنما أراد أنها محاذيتها فيما بين كل واحدة منهما وبين «مكة» يقول: فمن أحرم من «ذات عرق» كان بمنزلة من أحرم من قرن, لأن الحديث عن «النبى»

- عليه السلام - في قرن أثبت منه فى «ذات عرق» , فأخبر «ابن عباس» أن هذا بمنزلة ذاك, فهو موازنة, وهو مأخوذ من الوزن: أى على وزنه. 887 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: «يتخارج الشريكان, وأهل الميراث». قال: حدثناه: «سفيان بين عيينة» , عن «عمرو» , لا أعلمه إلا «عن عطاء» , عن «ابن [582] عباس» , يقول: إذا كان المتاع بين ورثة لم يقتسموه, أو بين شركاء, وهو فى يد بعضهم دون بعض, فلا بأس بأن يتبايعوه, وإن لم يعرف كل واحد منهم نصيبه بعيينه, ولم يقبضه, ولو أراد رجل أجنبى أن يشترى نصيب بعضهم, لم يجز حتى يقبضه البائع قبل ذلك.

888 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: «قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى». قال: حدثنيه «أبو المنذر» , عن «سفيان» , عن «حبيب بن أبى ثابت» , عن «طاوس» , عن «ابن عباس». قوله: قصر الرجال: يعنى أنهم حبسوا على أربع, لم يؤذن لهم في نكاح أكثر منهن, وذلك لقول الله - تبارك وتعالى -: {وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}. قال: حدثنا «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «سعيد بن جبير» , فى هذه الآية, وذكروا اليتامى, فنزلت: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا} إلى قوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} , يقول: فكما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا ألا تعدلوا بين النساء. قال «أبو عبيد»: فهذا تأويل قوله: قصر الرجل على أربع من أجل أموال اليتامى.

889 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس»: «من شاء باهلته أن الله لم يذكر في كتابه جدا, وإنما هو أب». وفي حديث آخر: «من شاء باهلته أن الظهار ليس من الأمة, إنما قال الله [- عز وجل -]: {والذين يظاهرون من نسائهم}. قال: حدثينه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «ابن أبى ملكية». قال «ابن علية»: هو يشبه كلام «ابن عباس» , ولكن هكذا قال «أيوب» لم يجز به «ابن أبى مليكة». قوله: باهلته: من الابتهال, وهو الدعاء, قال الله - تبارك وتعالى -: {ثم نبتهل فنجل لعنة الله على الكاذبين} , وقال «لبيد»: فى قوم سادة من قومهم ... نظر الدهر إليهم فايتهل يقول: دعا عليهم بالموت, ومنه قيل: بهلة الله عليه: أى لعنة الله عليه

[قال] وهما [583] لغتان: بهلة الله [عليه] , وبهلة الله عليه. 890 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عباس» [و «الحسين»] حين أشار عليه ألا يخرج, فقال: «لولا أنى أكره لنصوتك». قال «أبو عبيد»: أى لأخذت بناصيتك.

حديث عبد الله بن عمر [رضى الله عنهما]

حديث عبد الله بن عمر [رضى الله عنهما] 891 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» حين قيل: «لو رأيت «ابن عمرو» ساجدًا لرأيته مقلوليًا». قال: المقلولى: المتجافى المستوفز, قال: وأنشدنى «الأحمر»: تقول إذا اقلولى عليها وأقردت ... ألاهل أخو عيش لذيذ بدائم وقال الآخر: * قد عجبت منى ومن يعيليا * * لما رأتنى خلقًا مقلوليا * قوله: يعيليا: تصغير يعلى, والمقلولى: المستوفز الذى ليس بمطمئن.

وبعض المحدثين كان يفسر مقلوليا,] قول: قال: كأنه على مقلى, وليس هذا بشئ, إنما هو من التجافى في السجود, كحديث «على» [- رضوان الله عليه -]: «وإذا صلى الرجل فليخو, وإذا صلت المرأة فلتحتفز». قال: حدثنيه «أبو نوح» , عن «يونس بن أبى إسحاق» , عن «أبيه» , عن «الحارث» , عن «على». قوله: فليخو: يعنى يتفتح ويتجافى حتى يخو ما بين عضدبه وجنبيه. وكالحديث المرفوع: «أنه كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه». وأما قول «على»: «إذا صلت المرأة فلتحتفز»: يقول: تضام إذا جلست وإذا سجدت. 893 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه نام وهو جالس

حتى سمع جخيفه, ثم قام, فصلى, ولم يتوضأ» قوله: جخيفة: يعنى الصوت, ولم اسمعه في الصوت إلا في هذا الحديث, والجخيف في غير هذا: الكحبر, وقد يكون الكثرة, قال الشاعر: أراهم بحمد الله بعد جخيفهم ... غرابهم إذا مسه الفتر واقعا فإن كان هذا الحرف محفوظًا, فإنه شبه غطيطه في النوم وكثرته بذلك. وهذا رخصة في النائم جالسًا أنه لا وضوء عليه, والحرف المعروف في هذا الموضع الفخيخ. ومنه حديث «ابن عباس» حين قال: بت عند النبى - صلى الله عليه وسلم -[584] فنام حتى سمعت فخيفخة, ثم صلى, ولم يتوضأ» , يريد بالفخيخ: الغطيط, والذى يراد من الجخيف هذا المعنى أيضًا.

قال «أبو عبيد»: والذى عندى في حديث النبى - عليه السلام -: أنه لا حجة فيه لأحد فعل ذلك, لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: «تنام عيناى, ولا ينام قلبى». قال: حدثنيه «يحيى بن سعيد» , عن «ابن عجلان» , عن «أبيه» , عن «أبى هريرة» , عن «النبى» - صلى الله عليه وسلم -. 893 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه كان يفضى بيديه إلى الأرض إذا سجد, وهما تضبان أو تقطران دما». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «نافع» , عن «ابن عمر».

قوله: تضبان: الضب: هو درن السيلان الشديد, يقال منه: ضب يضب, ويضب بيض, مثل جذب وجبذ, وقال «بشر بن أبى خازم»: وبنى تميم قد لقينا منهم ... خيلًا تضب لثاتها للمغنم والذى في حديث «ابن عمر» من الفقه: أنه لم ير الدم السائل ينقص الوضوء. وهذا شبيه بحديث «ابن عباس» أنه كان يقول: «إذا كان الدم كثيرًا, فإنه ينقض الوضوء, وإن لم يكن كثيرًا فاحشًا فلا». وكذلك فعل «ابن عمر» , لأن الضب سيل, وليس بالكثير. وفيه أيضًا: أنه أخرج يديه من كميه, ولم يسجد, وهما في الكمين, وقد رخص في ذلك غيره من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم -.

قال: حدثنا «حفص بن غياث» , عن «ليث» , عن «الحكم»: أن «سعدًا» صلى بالناس في مستقة يداه فيها. والمستقة: الفرو الطويل الكمين. 894 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» أن رجلًا قال له: «إن عندنا بيعًا له بالنقدر سعر, وبالتأخير سعر, فقال: ما هو؟ فقال: سرق الحرير. فقال: إنكم معشر أهل العراق تسمون أسماء منكرة, فهلا قلت: شقق الحرير, [585] ثم قال: إذا اشتريت, فكان لك, فبعه كيف شئت». قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «يونس بن عبيد» , عن «يزيد بن أبى بكر» , عن «ابن عمر». وقال «هشيم» مرة أخرى, عن «يزيد بن أبى بكر». قوله: سرق الحرير: هى الشقق أيضًا, كما قال «ابن عمر» إلا أنها البيض منها خاصة, قال الراجز: * ونسجت لوامع الحرور *

* سبائبا كسرق الحرير * والواحدة منها: سرقة. قال «أبو عبيد»: وأحسب أصل هذه الكلمة فارسية, إنما هو سره: يعنى الجيد, فعرب, فقيل: سرق, فجعلت القاف مكان الهاء, ومثله في كلامهم كثير, منه: قولهم للخروف: برق, وإنما هو بالفارسية بره, وكذلك يلمق إنما هو بالفارسية يلمه, يعنى القباء, والاستبرق مثله, إنما هو استبره: يعنى الغليظ من الديباج, وهكذا تفسير في القرآن. قال حدثناه «يحيى بن سعيد» , عن «ابن أبى عروبة» , عن «قتادة» , عن «عكرمة». [قال «أبو عبيد»]: فصار هذا الحرف بالفارسية فى القرآن مع أحرف سواه, وقد سمعت «أبا عبيدة» يقول: من زعم أن في القرآن لسانًا سوى العربية, فقدأعظم على الله القول, واحتج بقوله [- تعالى -]: {إنا جعلناه قرآنًا عربيًا} وقد روى عن «ابن عباس» و «مجاهد» و «عكرمة»

وغيرهم في أحرف كثيرة أنه من غير لسان العرب, مثل: سجيل, والمشكاة, واليم, والطور, وأباريق, وإستبرق, وغير ذلك, فهؤلاء أعلم بالتأويل من «أبى عبيدة» , ولكنهم ذهبوا إلى مذهب, وذهب هذا إلى غيره, وكلاهما مصيب, إن شاء الله, وذلك أن أصل هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل, فقال أولئك على الأصل, ثم لفظت به العرب بألسنتها, فعربته, فصار عربيًا بتعريبها إياه, فهى عربية في هذه الحال, عجمية الأصل, فهذا القول يصدق الفريقين جميعًا. وفي هذا الحديث من الفقه: أنه لم ير بأسًا أن يكون للبيع سعران: أحدهما بالتأخير, والآخر بالنقد, إذا فارقه على أحدهما, فأما إذا فارقه [586] عليهما جميعًا, فهو الذى قال «عبد الله» صفقتان في صفقة ربا, ومنه الحديث المرفوع: «أنه نهى عن بيعتين في بيعة». 895 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «حين دخل عليه «سعيد بن جبير» , فسأله عن حديث المتلاعنين, وهو مفترش برذعة رحله,

متوسد مرفقة ادم حشوها ليف أو سلب». قال: حدثنا «يزيد» , عن «عبد الملك بن أبى سليمان» , عن «سعيد بن جبير» , عن «ابن عمر». قال «يزيد»: السلب: ليف المقل. قال «أبو عبيد»: فسألت عن السلب, فقيل: ليس بليف المقل, ولكنه شجر معروف باليمين, تعمل منه الحبال, وهو أجفى من ليف المقل وأصلب. 896 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: أنه رأى [رجلًا] محرمًا قد استظل, فقال: «اضح لمن أحرمت له». قال: حدثناه «يزيد» , عن «العمرى» , عن «نافع» , عن «ابن عمر». قوله: أضح: المحدثون يقولونه بفتح الألف وكسر الحاء من أضحيت فأنا أضحى, وقال «الأصمعى»: إنما هو اضح لمن أحرمت له, بكسر الألف

وفتح الحاء من ضحيت, فأنا أضحى, وهو عندى على ما قال «الأصمعى» , لأنه إنما أمره بالبروز للشمس, وكره له الظلال, ومن هذا قوله [تبارك وتعالى]: {وأنك لا تظمًا فيها ولا تضحى}. وأما أضح فمن أضحيت, وإنما يكون هذا من الضحاء, يقال: أقمت بالمكان حتى أضحيت. ومن هذا قول «عمر» [- رحمه الله -] قال: حدثنيه «عبد الرحمن» , عن «سفيان» , عن «سماك بن حرب» , عن عمه «مسلمة» , قال: سمعت «عمر» يقول: «يا عباد الله أضحوا بصلاة الضحى». يعنى لا تصلوها إلا إلى ارتفاع الضحى, وحديث «ابن عمر» من غير هذا. 897 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه كان

لا يصلى في مسجد فيه قذاف». [قال «أبو عبيد»]: هكذا يحدثونه. قال «الأصمعى»: إنما هو قذف على مثال غرف, واحدتها [587] قذفة, وهى الشرف, وكذلك ما أشرف من رؤوس الجبال, فهى القذفات أيضًا, وقال «امرؤ القيس» يصف جبلًا. منيف يزل الطير عن قذفاته ... يظل الضباب فوقه متعصرا وبه شبهت الشرف. ومنه حديث «ابن عباس» [- رحمه الله -] أنه قال: «تبنى المدائن شرفًا, والمساجد جمًا». قال: سمعت «خلف بن خليفة» , يحدثه عن شيخ له قد سماه, عن

«ابن عباس». 898 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «إنى لأدنى الحائض إلى وما بى إليها صورة إلا ليعلم الله أنى لا أجتنبها لحيضها». قال: حدثناه «إسحاق الأزرق» , عن «الجريرى» , عن «أبى السليل» , عن «ابن عمر». قوله: صورة, يقول: ليس بى ميل إليها لشهوة, وأصل الصورة الميل, ومنه قيل للمائل العنق: أصور, قال «الأخطل» يذكر النساء: * فهن إلى بالأعناق صور *

أى: موائل, وقال «لبيد»: من فقد مولى تصور الحى جفنته ... أوزر, مال ورزء المال يجتبر يعنى أن الجفنة تميل الحى إليها ليطعموا, والذى أراد «ابن عمر» من إدناء الحائض: الخلاف على الكفار, لأن المجوس لا يدنون منهم الحائض, ولا تقرب أحدًا منهم. 899 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» ورأى قومًا في الحج لهم هيئة أنكرها, فقال: «هؤلاء الداج وليسوا بالحاج». قال «أبو عبيدة»: الداج: الذين يكونون مع الحاج, مثل الأجراء, والجمالين والخدم وأشباههم. وقال «الأصمعى»: إنما قيل لهم: داج, لأنهم يدجون على الأرض, والدججان: هو الدبيب في السير, قال: وأنشدنا «الأصمعى»:

* باتت تداعى قربًا أفايجا * تدعو بذاك الدججان الدارجا * يصف الإبل في طلب الماء. قال «أبو عبيد»: فالذى أراد «ابن عمر» [588] أن هؤلاء ليس عندهم شى إلا أنهم يسيرون ويدجون, ولا حج لهم. 900 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه أصابه قطع أو بهر, فكان يطبخ له الثوم في الحساء, فيأكله» قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «نافع» , عن «ابن عمر». قال «الكسائى»: القطع: الربو, قال «أبو عبيد»: وقال «أبو جندب الهذلى» يرثى رجلًا فقال: وإنى إذا ما آنس الناس مقبلًا ... يعادونى قطع جواه طويل يقول: إذا رأيت إنسانًا ذكرته, والجوى: هو الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن,

واللوعة نحوه. 901 - وقال «أبو عبيد» فيث حديث «ابن عمر» - حين سأله رجل عن «عثمان» فقال: أنشدك الله هل تعلم أنه فر يوم أحد, وغاب عن «بدر» وعن بيعة الرضوان؟ فقال «ابن عمر»: «أما فراره «يوم أحد» فإن الله [- تعالى -] يقول: {ولقد عفا الله عنهم} وأما غيبته عن «بدر» فإنه كانت عنده بنت النبى - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة, وذكر عذره في ذلك كله, ثم قال: اذهب بهذه تلآن معك». قال: حدثناه «أبو النضر» , عن «شيبان» , عن «عثمان بن عبد الله بن موهب» , عن «ابن عمر». قال «الأموى»: قوله: تلآن: يريد الآن, وهى لغة معروفة, يزيدون التاء فى

الآن, وفى حين, فيقولون: تلآن, وتحين, قال: ومنه قول الله - تبارك وتعالى -: {ولات حين مناص}. قال: إنما هى ولا حين مناص, قال: وأنشدنا «الأموى» «لأبى وجزة السعدى»: العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم وكان «الكسائى» «والأحمر» وغيرهما من أصحابنا يذهبون إلى أن الرواية: «العاطفونة» , فيقولون: جعل الهاء صلة, وهى في وسط الكلام, وهذا ليس يوجد إلا على السكت, فحدثت به «الأموى» فأنكره, وهو عندى على ما قال «الأموى» , ولا حجة لمن احتج بالكتاب في قوله {ولات} , لأن التاء منفصلة [589] من حين, لأنهم قد كتبوا مثلها منفصلًا أيضًا

مما لا ينبغى أن يفصل كقوله [- عز وجل -]: {يا ويلتنا ما لهذا الكتاب}. فاللام في الكتاب منفصلة من هذا, وقد وصلوا في غير موضع وصل, فكتبوا: «ويكأنه» وربما زادوا الحرف, ونقصوا, وكذلك زادوا ياء في قوله [تعالى]: {أولى الأيدى والأبصار}. فاليدى فى التفسير عن «سعيد بن جبير» أولوا القوة في الدين والبصر. قال «أبو عبيد»: فالأبد: القوة بلا ياء, والأبصار: العقول, وكذلك كتبوه فى موضع آخر: {داود ذا الأيد}. 902 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه كان يرمى فإذا أصاب خصلة, قال: أنابها أنا بها». قال: حدثناه «أبو معاوية» , و «وكيع» , كلاهما عن «الأعمش» , عن «مجاهد» أنه رأى «ابن عمر» يفعل ذلك.

قوله: أصاب خصلة: الخصلة: الإصابة في الرمى, يقال منه: خصلت القوم خصلًا وخصالا: إذا نضلتهم, وقال «الكميت» يمدح رجلًا: سبقت إلى الخيرات كل مناضلٍ ... وأحرزت بالعشر الولاء خصالها وقوله: أنا بها: يقول: أنا صاحبها. ومنه حديث «عمر» حين أتى بامرأة قد فجرت, فقال: «من بك؟ » , يقول: من صاحبك. ومنه الحديث المرفوع, حين أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - «سلمة بن صخر» فذكر أن رجلًا ظاهر من امرأته, ثم وقع عليها, فقال: «لعلك بذلك يا سلمة». فقال: نعم أنا بذلك, يقول: لعلك صاحب الأمر. 903 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: أنه رأى رجلًا بأنفه أثر السجود, فقال: «لا تعلب صورتك». يقول: لا تؤثر فيها أثرًا. يقال: علبت الشئ أعلبه علبا, وعلوبًا: إذا أثرت فيه, قال «ابن الرقاع»:

يتبعن ناجية كأن بذفها ... من غرض نسعتها علوب مواسم يعنى الآثار. 904 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» حين أتاه رجل فسأله, فقال: كما [590] لا ينفع مع الشرك عمل, فهل يضر مع الإسلام ذنب؟ فقال «ابن عمر»: «عش ولا تغتر» , ثم سأل «ابن عباس» فقال مثل ذلك. ثم سأل «ابن الزبير» , فقال مثل ذلك. قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «عبد الله بن أبى سعيد المقبرى» , عن «جده» , أو عن «أبيه» - الشك من «أبى عبيد» -. قوله: عش ولا تغتر إنما هو مثل, وأصله فيما يقال: إن رجلًا أراد أن يقطع مفازة بإبله, فاتكل على ما فيها من الكلأ, فقيل له: عش إبلك قبل أن تفوز بها, وخذ بالاحتياط. فإن كان فيها كلأ. فليس يضرك ما صنعت, وإن لم يكن فيها شئ كنت قد أخذت بالثقة. فأراد «ابن عمر» , و «ابن عباس» , و

«ابن الزبير» ذلك المعنى في العمل, يقولون: اجتنب الذنوب, ولا تركبها اتكالًا على الإسلام, وخذ فى ذلك بالثقة والاحتياط, قال «أبو النجم»: * عشى فعيل واصغرى فيمن صغر * * ولا تريدى الحرب واجترى الوبر * يقول: خذى بالثقة في ترك الحرب, وعليك بالإبل, فعالجيها, إنك لست بصاحبة حرب. 905 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» في الذى يقلد بدنته, فيضن بالنعل, قال: «يقلدها خرابة». هكذا حدثناه «مروان [بن معاوية] الفزارى» , عن «عاصم» , عن «أبى مجلز» , عن «ابن عمر» قال «مروان» , وقال «عاصم»: هى عروة المزادة. قال «أبو عبيد»: والذى يعرف فى الكلام أنها الخربة [وهى العروة, وجمعها الخرب] وإنما سماها خربة لاستدارتها, وكذلك كل ثقب مستدبر فهو خربة,

قال «الكميت» يذكر القطا, وأنهن يحملن الماء لفراخهن, فقال: يحملن فوق الصدور أسقية ... لغيرهن العصام والخرب يقول: إنما استقيتهن الصدور, وليس كأسقية الناس التى تحتاج إلى العصام والعرى, وكذلك كل [591] حجر في أذن أو غيرها, فهو خربة, قال «ذو الرمة» يصف ظليمًا: كأنه حبشى يبتغى أثرًا ... أو من معاشر في آذانها الخرب يعنى الثقب في آذان السند. 906 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» أنه شهد فتح «مكة» وهو ابن عشرين سنة, ومعه فرس حرون, وجمل جرور, وبردة فلوت, فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يختلى لفرسه, فقال: «إن عبد الله إن عبد

الله». هذا من حديث «ابن علية» , بلغنى عنه, عن «ابن نجيح» , عن «فلان» عن «ابن عمر». [قال]: وقال غيره: بردة فلوت, ورمح ثقيل. قوله: جمل جرور: يعنى الذى لا ينقاد, ولا يكاد يتبع صاحبه, وأما البردة مربع أسود فيه صغر. وقوله: فلوت: يعنى أنها صغيرة لا ينضم طرفاها, فهى تفلت من يده إذا اشتمل بها, ولا تثبت, قال «أبو زياد»: وهى النمرة. وقوله: يختلى لفرسه: ] عنى يحتش له, واسم الحشيش: الخلى. ومنه حديث «النبى» - صلى الله عليه وسلم - في مكة: «لا يختلى خلاها». 907 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» أنه قال لرجل: «إذا أتيت «منى» فانتهيت إلى موضع كذا وكذا, فإن هناك سرحة لم تعبل, ولم تجرد

ولم تسرف, سر تحتها سبعون نبيًا, فانزل تحتها». هذا يروى عن «الأعمش» , وعن «أبى الزناد» , عن «ابن عمر». قوله: سرحة: يعنى الواحدة من السرح, وهو شجر طوال. وقال «اليزيدى»: وقوله: لم تجرد, يقول: لم يصبها جراد. وقوله: لم تعبل, يقول: لم يسقط ورقها, يقال: عبلت الشجر عبلًا: إذا حتت عنه ورقه, وقد اعبل الشجر: إذا طلع ورقه. وكان «أبو عبيدة» يقول: ليس يقال للورق المنبسط عبل, إنما العبل ما انتفل, ودق , مثل الأثل والأرطى, وأشباه [592] ذلك, فإذا انبسط, فهو الورق, قال: والهدب: مثل العبل. قال «اليزيدى»: وقوله: لم تسرف: يعنى لم تصبها السرقة, وهى دويبة صغيرة تثقب الشجر, وتبنى فيه بيتًا, قال: وهى التى يضرب بها

المثل, فيقال: «فلان أصنع من سرفة» , وبعضهم يقول: ولم تسرح: ولا أدرى ما وجه هذا إلا أن يكون أرادبه: أنه لم تترك فيه الغنم والإبل تسرح فيه, وهو أن ترعاه, وفي بعض الحديث: أنها بالمأزمين من منى. وقوله: سر تحتها سبعون ن بيًا, يقول: قطع سررهم. وقال «الكسائى» السرور: ما قطع من الصبى فبان, والسرة: ما يبقى. وأما السرحة: فهى ضرب من الشجر معروف [له طول] , قال «عنترة» يذكر رجلًا: بطل كأن ثيابه في سرحةٍ ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم

قال «الكسائى»: قطع سره, وسرره, ولا يقال: قطع سرته. 908 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» أنه قال: «لو لقيت قاتل أبى فى الحرم ما لهدته». وبعضهم يرويها: «ما هدته». قمن قال: لهدته: أراد دفعته. يقال: لهدت الرجل الهدى لهدًا: إذا لكزته, ورجل ملهد: إذا كان يفعل به ذلك كثيرًا من ذله, قال «طرفة» يذم رجلًا: بطئ عن الداعى سريع إلى الخنا ... ذليل بإجماع الرجال ملهد يقول: من ذله يدفعه الناس فى صدره, فهو ملهد مدفع, فإن أراد مرة [واحدة] قال: ملهود.

ومن قال: هدته: يريد حركته, وأنشدنى «الأحمر»: حتى استقامت له الآفاق طائعة ... فما يقال له هيد ولا هاد أى لا يحرك, ولا يمنع من شئ, وفي بعض الروايات: «ما هجته». 909 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن عمر»: «أنه اشترى ناقة فرأى بها تشريم الظئار فردها». قال «أبو عبيد»: التشريم: هو التشقق [593] يقال للجلد إذا تشقق: قد تشرم, ولهذا قيل للمشقوق الشفة: أشرم, وهو شبيه بالعلم.

وكذلك حديث «كعب» أنه أتى «عمر بن الخطاب» [- رضى الله عنه -] بكاب وقد تشرمت نواحيه فيه التوراة, فاستأذنه أن يقرأه, فقال له «عمر»: إن كنت تعلم أن فيه التوراة التى أنزلها الله على «موسى» [- عليه السلام -] «بطور سيناء» فاقرأها آناء الليل والنهار». 910 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «فيمن قطع دوحة من الحرم, فأمره أن يعتق رقبة».

قال: حدثنيه «محمد بن عمر» , عن «عبد الله بن جعفر الزهرى» , عن «عبد الله ابن عثمان بن خثيم» , عن «نافع بن سرجس» , عن «ابن عمر». قال «أبو عبيد»: الدوحة: الشجرة العظيمة من أى الشجر كان, من طلح, أو سمر, أو قتاد, أو غير ذلك, بعد أن تكون عظيمة, وجمعها دوح, قال «امرؤ القيس» يذكر مطرًا. فأضحى يسح الماء من كل فيقة ... يكب على الأذقان دوح الكنهبل الكنهبل: اسم شجر معروف, والدوح: ما عظم منه. والذى يراد من هذا الحديث: أنه غلظ في شجر الحرم, فقال: عتق رقبة, والذى عليه قتيا الناس أن عليه قيمة ما قطع يتصدق به. 911 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه خرج إلى صور بالمدينة». قال «الأصمعى»: الصور: جماعة النخل الصغار, وهذا جمع على غير لفظ

الواحد وكذلك الحائش: جماعة النخل, وليس له واحد على لفظه. ومنه الحديث المرفوع: «أنه كان أحب ما استتر به إليه عند حاجته حائش نخل أو حائط» وقال «الأخطل»: وكأن ظعن الحى حائش قرية ... دانى الجناة وطيب الأثمار 912 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه كره الصلاة على الجنازة إذا طفلت الشمس». قال «الأصمعى»: قوله: طفلت: يعنى دنت للغروب, واسم تلك الساعة الطفل. قال «لبيد»: فتدليت عليه قافلًا ... وعلى الأرض غيابات الطفل

يعنى الظل عند المساء. 913 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «ابن عمر»: «أنه بعث رجلًا يشترى له أضحية, قال: اشتراه [كبشًا] كذا وكذا فحيلا». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «نافع» , عن «ابن عمر». قال «الأصمعى»: قوله: فحيلًا: هو الذى يشبه الفحولة فى خلقه ونبله, ويقال أيضًا: إن الفحيل: المنجب في ضرابه, ومنه قول «الراعى»: كانت هجائن منذر ومحرق ... أماتهن وطرقهن فحيلا الطرق: الضراب. والذى يراد من الحديث: أنه اختار الفحل على الخصى والنعجة, وطلب جماله ونبله مع هذا. 914 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه كان في غزاة بعثهم فيها

النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: «فحاص المسلمون حيصة» وبعضهم يقول: «فجاض المسلمون جيضة» وهذا حديث يحدثه غير واحد من الفقهاء عن «يزيد بن أبى زياد» , عن «عبد الرحمن بن أبى ليلى» , عن «ابن عمر». قال «الأصمعى»: المعنى فيهما واحد, وإنما هو الروغان, والعدول عن القصد, ومنه قوله [- عز وجل -]: {ما لهم من محيص} يقول: من محيد يحيدون إليه, ومنه قول «أبى موسى»: «إن هذه الحيصة من حيصات الفتن» كأنه أراد أنها روغة منها عدلت إلينا. قال «أبو عبيد»: والجيض نحو مئه, قال «القطامى» يذكر الإبل: وترى لحيضتهن عند رحلينا ... وهلا كان بهن جنة أولق

يعنى حين عدلن في السير. 915 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «أنه كان يأمر بالحجارة فتطرح في مذهبه, فيستطيب بها, ثم يخرج, فيغسل وجهه ويديه, وينضج فرجه حتى يخضل ثوبه». قال: حدثناه «أبو النضر» , عن «عبد العزيز بن عبد الله بن أبى سلمة» , عن «عبد الله بن دينار» , عن «ابن عمر». قوله: فى مذهبه: المذهب عند أهل المدينة: موضع الغائط. وقوله: يخضل ثوبه: يعنى يبله. يقال: أخضلت الثوب: إذا بللته, وهو خضل إذا كان رطبًا, قال «الجعدى»: كان فاهًا بعيد النوم خالطه ... خمر الفرات ت رى راووقها خضلا 916 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر»: «لا تبتع من مضطر شيئًا». قال «أبو عبيد»: وهذا حديث يروى عن «ليث» , عن «مجاهد» ,

عن «ابن عمر» من حديث «ابن إدريس» إن شاء الله. قال «ابن إدريس»: المضطر: المضطهد المكره على البيع. قال «أبو عبيد»: وهذا وجه الحديث, وقد كان بعض الناس يحمله على الفقير المحتاج, يذهب إلى أنه يبيع بأقل من الثمن لحاجته, ولست أرى هذا شيئًا, إنما هو كما قال «ابن إدريس» , ومع هذا أنه قد حكى عن «سفيان بن سعيد» شئ شبيه بالرخصة في بيع المضطر أيضا, قال: ربما كان الشراء منه خيرًا له, يذهب به إلى أنه لو أمسك الناس كلهم عن الشراء منه هلك فى العذاب. 917 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» أنه سئل عن فارة وقعت في سمن, فقال: «إن كان مائعًا, فألقه كله, وإن كان جامسًا فألق الفأرة وما حولها, وكل ما بقى». قال: حدثناه «هشيم» , عن «معمر بن أبان» , عن «راشد» , مولى

«قريش» , عن «ابن عمر». قوله: إن كان مائعًا: يعنى الذائب, ومنه سميت الميعة, لأنها سائلة. ويقال: ماع الشئ يميع, ويتميع [596]: إذا ذاب. ومنه حديث «عبد الله» أنه سئل عن المهل, فأذاب فضة, فجعلت تميع, وتلون, فقال: هذا من أشبه ما أنتم راؤون بالمهل. وقوله: وإن كان جامسًا: يعنى الجامد, وهما لغتان: جامس, وجامد, قال «ذو الرمة»: * وتقرى سديف الشحم والماء جامس * يعنى في الشتاء حين يجمد الماء.

918 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» , أنه أتته امرأة, فقالت: إن بنتى عريس, وقد تمعط شعرها, وأمرونى أن أرجلها بالخمر, فقال: «إن فعلت ذلك فألقى الله في رأسها الحاصة». قوله: الحاصة: يعنى ما يحص شعرها: يحلقه كله, فيذهب به, قال «أبو قيس بن الأسلت الأنصارى»: قد حصت البيضة رأسى فما ... اطعم نومًا غير تهجاع ومنه يقال: بين بنى فلان رحم حاصة: أى قد قطعوها وحصوها, لا يتواصلون عليها. وأما حديث «على» [- رحمة الله عليه -] أنه اشترى قميصًا, فقطع ما فضل عن أصابعه, ثم قال لرجل: «حصه» فإن هذا من غير الأول, هذا من الحوص, من الخياطة. وقد حاص يحوص.

وقوله: حصه: أى اكففه: يعنى كف الثوب. 919 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «ابن عمر»: «أنه كره للمحرمة النقاب, والقفازين». قال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «عبيد الله» , عن «نافع» , عن «ابن عمر». وكانت «عائشة» ترخص فيهما من غير حديث «هشيم». قال «أبو عبيد»: أما القفازان فإنهما شئ يعمل لليدين يحشى بقطن, ويكون له أزرار تزر على الساعدين من البرد تلبسه النساء, والناس على الرخصة فيه, لأن الإحرام إنما هو فى الرأس والوجه. 920 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» حين ذكر أن «النبى» - عليه السلام - سبق [597] الخيل, فقال «ابن عمر»: «كنت فارسًا يومئذ,

فسبقت الناس, فظفف بى الفرس مسجد «بنى زريق». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «نافع» , عن «ابن عمر». قوله: طفف بى مسجد بنى زريق: يعنى أن الفرس وثب به حتى كاد يساوى المسجد. ومنه قيل: إناء طفان, وهو الذى قد قرب أن يمتلئ, ويساوى أعلى المكيال, ولهذا سمى التطفيف في الكيل, قوله [- تعالى -]: {ويل للمطففين} ويروى عن «سلمان» أنه قال: «الصلاة مكيال فمن وفى وفى له, ومن طفف فقد علمتم ما قال الله [- عز وجل -] في المطففين». 921 - وقال «أبو عبيد» في حديث «ابن عمر» أنه سئل عن «رجل»

أهل بعمرة, وقد لبد وهو يريد الحج, فقال: «خذ من قنازع رأسك, أو مما يشرف منه». قوله: قنازع رأسك: يعنى ما ارتفع وطال, ولهذا سميت قنازع النساء. وهذا شبيه بحديثه الآخر حين قال: «خذ ما تطاير من شعرك»: يعنى ما طال منه, يقال: قد طال الشعر, وطار بمعنى.

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص [رحمه الله]

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص [رحمه الله] 922 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عمرو» أنه عطس عند رجل, فشمته رجل, ثم عطس فشمته, ثم عطس, فأراد أن يشمته, فقال «عبد الله بن عمرو»: «دعه فإنه مضنوك». قال: حدثناه «غندر» , عن «شعبة» , عن «النعمان بن سالم» , عن «خالد بن أبى مسلم» , عن «عبد الله بن عمرو». قال «أبو زيد»: قوله: مضنوك: يعنى المزكوم, والاسم منه الضناك, وفيه لغات أيضًا, يقال: رجل مضؤود ومملوء, والاسم منهما

الضؤدة والملأة, قالهما «اليزيدى». ويقال منه: أضاده الله, وأزكمه [الله] , وأملاه كلها بالألف, فإذا وصفوا صاحبه قالوا: على مثال مفعول: مزكوم, ومضؤود, ومملوء, وكان القياس أن يكون على مثال مفعل, مثل: أكرمه الله, فهو مكرم, وكذلك مخموم ومسلول. يقال: أحمه الله, وأسله [الله] , فإذا لم يذكروا الله - تبارك وتعالى - قالوا: حم الرجل, وسل, وزكم, وضئد [598] , وملئ, كله بغير ألف, ثم بنى مفعول على هذا. 923 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عمرو»: «أن الله - تبارك وتعالى - أنزل الحق, ليذهب به الباطل, ويبطل به اللعب, والزفن, والزمارات, والمزاهر, والكنارات».

قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «عبد العزيز بن عبد الله بن أبى سلمة» , عن «هلال بن أبى هلال» , عن «عطاء بن يسار» , عن «عبد الله بن عمرو». قوله: المزاهر: واحدها مزهر, وهو العود الذى يضرب به, ومنه الحديث المرفوع في النسوة اللاتى ذكرن أزواجهن, فقالت واحدة منهمن, وذكرت زوجها وإبله, فقالت: إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك: تعنى أنه ينزل به الضيفان, فينحر لهم, ويسقيهم, ويأتيهم باللهو, قال «الأعشى» يمدح رجلًا: جالس حوله الندامى فما ينـ ... ـفك يؤتى بمزهر مندوف فهذا المزهر لا يختلف فيه.

وأما الكنارات فإنها يختلف فيها, فيقال: إنها العيدان - أيضًا, ويقال: بل الدفوف. وهو فى حديث مرفوع, قال: حدثنا «يزيد بن هارون» , عن «محمد بن إسحاق» , عن «يزيد بن أبى حبيب» , عن «عبد الله بن عمرو» , قال: «نهى «النبى» - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر, والميسر, والكوبة, والغبيراء, وكل مسكر» , وذكر فيه الكنارات أيضًا. فأما الكنارات فما ذكرنا, وأما الكوبة فإن «محمد بن كثير» أخبرنى أن الكوبة: النرد فى كلام أهل اليمن, وقال غيره: الطبل. وقال «ابن كثير»: لا أعرف الغبيراء, وقال غيره: الغبيراء: السكركة, وهو شراب يعمل من الذرة, والسكركة بالحبشية, وهو شرابهم. وأما الحديث الآخر: «إن الله يغفر لكل مذنب إلا لصاحب عرطبة أو كوبة». فقد قيل في العرطبة: إنها العود أيضًا, وأما الكوبة فما ذكرنا, فهذه

ثلاثة [599] أسماء في العود, والاسم الرابع البريط, ولا أعلم منها اسمًا عربيًا إلا المزهر وحده. 924 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عمرو» أنه قال: «من اكتتب ضمنًا بعثه الله - تبارك وتعالى - *** يوم القيامة». قال: وحدثنى به «إسحاق بن عيسى» , عن «ابن لهيع» , عن رجل قد سماه, عن «عبد الله بن عمرو». قال «أبو عمرو» و «الأحمر» وغيرهما: قوله: ضمنا: الضمن: الذى بـ:

الزمانة في جسده من بلاء, أو كسر, أو غيره, وأنشدنى «الأحمر»: ما خلتنى زلت بعدكم ضمنًا ... أشكو إليكم حموة الألم [الحموة من الحامى] والاسم من هذا: الضمن والضمان, وقال «عمرو بن أحمر الباهلى» وكان أصابه بعض ذلك فى نفسه: إليك إله الخلق أرفع رغبتى ... عياذًا وخوفًا أن تطيل ضمانيًا والضمان: الداء نفسه. قال «أبو عبيد»: ومعنى الحديث: أن يكتتب الرجل أن به زمانه وليست به, اعتلالًا بذلك, ليتخلف عن الغزو. 925 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عمرو»: «أنه بكى

حتى رسعت عينه». يعنى فسدت وتغيرت, وفيه لغتان, يقال: قد رسع الرجل ورسع, ويقال: رجل مرسع ومرسعة, ومنه قول «امرئ القيس»: أيا هند لا تنكحى بوهة ... عليه عقيقته أحسبا مرسعة وسط أرباعه ... به عسم يبتغى أرنبا ليجعل في رجله كعبها ... حذار المنية أن يعطبا فالمرسعة: الفاسدة عينه, والبوهة: الأحمق, والعقيقة: الشعر الذى يولد الصبى وهو عليه, والأحسب: الذى في شعره حمرة وبياض. 926 - وقال «أبو عبيد» في حديث «عبد الله بن عمرو»: «من أشراط الساعة أن يوضع [600] الأخيار, ويرفع الأشرار, وأن تقرأ المثناة

على رؤوس الناس, لا تغير, قيل: وما المثناة؟ قال: ما استكتب من غير كتاب الله». قال: حدثناه «إسماعيل بن عياش» , قال: حدثنى «عمرو بن قيس السكونى» , قال: سمعت «عبد الله بن عمرو» يقول ذلك. قال «أبو عبيد»: فسألت رجلًا من أهل العلم بالكتب الأولى - قد عرفها وقرأها - عن المثناة, لإقال: إن الأحبار والرهبان من بنى إسرائيل بعد «موسى» وضعوا كتابًا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله [- تبارك وتعالى -] فسموه «المثناة» , كأنه يعنى أنهم أحلوا فيه ما شاءوا, وحرموا فيه ما شاءوا على خلاف كتاب الله - تبارك وتعالى -, فبهذا عرفت تأويل حديث «عبد الله بن عمرو» , أنه إنما كره الأخذ عن أهل الكتب لذلك المعنى, وقد كانت عنده كتب وقعت إليه «يوم اليرموك» فأظنه قال هذا لمعرفته بما فيها, ولم يرد النهى عن حديث رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] وسنته, وكيف ينهى عن ذلك, وهو من أكثر أصحابه حديثًا عنه.

927 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عمرو» حين سئل عن الصدقة, فقال: «إنها شر مالٍ, إنها مال الكسحان والعوران». قال: حدثناه «على بن عاصم» , عن «الأخضر بن عجلان» , عن فلان, عن «عبد الله بن عمرو». قوله: الكسحان: واحدهم أكسح, وهو المقعد, يقال منه: كسح يكسح كسحًا, قال «الأعشى» يذكر قومًا سكروا: بين مخذول كريم جده ... وخذول الرجل من غير كسح يقول: إنما خذله السكر ليس من كسح به. ومعنى الحديث: أنه كره الصدقة إلا لأهل المزمانة, كالحديث الآخر: «لا تحل الصدقة لغنى, ولا لذى مرة سوى».

928 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عمرو»: «لنفس المؤمن أشد ارتكاضًا [601] من الخطيئة من العصفور حين يغدف به». من حديث «رشدين بن سعد» , عن «عمرو بن الحارث» أنه بلغه ذلك, عن «عبد الله بن عمرو». قوله: يغدف به: الإغداف: الإرسال للثوب والستر ونحوه, قال: «عنترة»: إن تغدفى دونى القناع فإننى ... طب بأخذ الفارس المستلئم يقول: إن ترسلى قناعك وتحتجبى منى, فإنى كذلك. وقوله: حين يغدف به يعنى حين ترسل عليه الشبكة, أو الحبالة, أو ما ينصب له. 929 - وقال «أبو عبيد» - فى حديث «عبد الله بن عمرو» -: «يوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم من أرض البصرة, فقال له «عبد الرحمن بن أبى بكرة»:

ثم مه؟ يعنى ثم نعود, أو يعودوا, أو يغدروا بكم؟ قال: نعم, وتكون لكم سلوة من عيش». قوله: سلوة من عيش: يعنى النعمة, قال «أمية بن أبى الصلت»: يا سلوة العيش لودام النعيم لنا ... ومن يعيش يلق روعات وأحزانا وقال «أبو عمرو»: البصرة في غير هذا: حجارة ليست بصلبة, والكذان مثله. قال «أبو عبيد»: وأما «عبد الله بن عمرو» فإنما أراد بلاد البصرة نفسها. 930 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عمرو» أنه قال: «لا تمسح الأرض إلا مرة, وتكرها خير من مائة ناقة كلها أسود المقلة».

ويروى عن «حاتم بن أبى صغايرة» , عن «عمرو بن دينار» , يسنده إلى «أبى ذر» , أنه قال مثل ذلك لعياش بن أبى ربيعة وفسره بعضهم, قال: إنما ذلك, لأن التراب والحصا يستبق إلى وجه الرجل إذا سجد, يقول: فدع ما سبق منه إلى وجهك. قال «أبو عبيد»: فلهذا كره تسوية الحصا.

حديث عمران بن حصين [رحمه الله]

حديث عمران بن حصين [رحمه الله] 931 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمران بن حصين» أنه أوصى عند موته: «إذا مت, فخرجتم بى, فأسرعوا المشى, ولا تهودوا كما تهود اليهود والنصارى». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «سلمة بن علقمة» , عن «الحسن» , عن «عمران بن حصين». قوله: لا تهودوا: التهويد: المشى الرويد, مثل الدبيب ونحوه, وكذلك التهويد في المنطق: هو الساكن, قال «الراعى» يصف ناقة: وخود من اللاتى يسمعن بالضحى ... قريض الردافى بالغناء المهود قال «أبو عبيد»: ونرى أن أصله من الهوادة.

932 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمران بن حصين»: «إن فى المعارض عن الكذاب لمندوحة». قوله: مندوحة: يعنى سعة وفسحة. قال «أبو عبيد»: ومنه قيل للرجل إذا عظم بطنه واتسع: قد انداح بطنه, واندحى لغتان. فأراد أن في المعاريض ما يستغنى به الرجل عن الاضطرار إلى الكذب, والمعاريض: أن يريد الرجل أن يتكلم بالكلام الذى إن صرح به كان كذبًا, فيعارضه بكلام آخر يوافق ذلك الكلام في اللفظ ويخالفه في المعنى, فيتوهم السامع أنه أراد ذلك, وهذا كثير فى الحديث. ومنه حديث «إبراهيم» أن رجلًا أتاه, فقال: إنى اعترضت على دابة, وإنها نفقت, ولست أعطى عطائى إلا أن أحلف أنها هى الدابة التى اعترضت

عليها, فقال «إبراهيم»: اذهب, فخذ دابة, فاعترض عليها بجسدك, ثم احلف أنها الدابة التى اعترضت عليها, وأنت تعنى اعتراضك بجسدك». قال: حدثناه «أبو المنذر» شيخ من أهل الكوفة, قال: حدثنا «قيس بن الربيع» , عن «الأعمش» , عن «إبراهيم». 933 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمران [بن حصين»]: «جذعة أحب إلى من هرمة, الله أحق بالفتاء والكرم». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «ابن سيرين» , عن «عمران». قوله: بالفتاء ممدود, وهو مصدر الفتى السن بين الفتاء, وقال الشاعر [603]: إذا بلغ الفتى مئتين عامًا ... فقد ذهب اللذاذة والفتاء ويروى: «فقد أودى» فقصر الفتى فى أول البيت, لأنه أراد الشاب من

الرجال, وهذا لا يكون أبدًا إلا مقصورًا, قال الله - تبارك وتعالى -: {سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} ويقال: فتى بين الفتاء, وفتى بين الفتوة.

حديث عبد الله بن مغفل [رضى الله عنه]

حديث عبد الله بن مغفل [رضى الله عنه] 934 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن مغفل» فى وصيته: «لا ترجموا قبرى». قال: حدثناه «إسحاق بن عيسى» , عن «أبى الأشهب» , عن «بكر بن عبد الله» , عن «عبد الله بن مغفل». المحدثون يقولون: لا ترجموا [قبرى] , قال «أبو عبيد»: وإنما هو «لا ترجموا» يقول: لا تجعلوا عليه الرجم, وهى الرجام: يعنى الحجارة, وكانوا يجعلونها على القبور, وكذلك هى إلى اليوم, حيث لا يوجد التراب, قال «كعب بن زهير»: أنا ابن الذى لم يخزنى فى حياته ... ولم أخزه حتى تغيب فى الرجم قال «أبو عبيد»: وقد تأوله بعضهم على النياحة والقول السيئ فيه, من

قول «أبى إبراهيم» «لإبراهيم»: {لأرجمنك} يعنى: لأقولن: فيك ما تكره, وإنما أراد «ابن مغفل» تسوية القبر بالأرض, وألا يكون مسنمًا مرتفعًا, وكذلك حديث «الضحاك» قال: حدثنا «هشيم» , عن «جويبر» , عن «الضحاك» , أنه قال فى وصيته: «وارمسوا قبرى رمسًا». وأما حديث «موسى بن طلحة» أنه شهد دفن رجل, فقال: «جمهروا قبره جمهرة» فهو غير ذلك: إنما أراد أن يجمع عليه التراب جمعًا, ولا يطين, ولا يصلح, والأصل من هذا جماهير الرمل, واحدها جمهور, وجمهورة, قال «الأصمعى»: الجمهور: الرملة المشرفة على ما حولها, وهى المجتمعة, وقال «ذو الرمة»: خليلى عوجًا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا فى المنازل

حديث سلمة بن الأكوع [رحمه الله]

حديث سلمة بن الأكوع [رحمه الله] [604] 935 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سلمة بن الأكوع»: «غزوت «هوازن» مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينما نحن نتضحى إذ أقبل رجل على جمل أحمر». قال: حدثناه «أبو النضر» , عن «عكرمة بن عمار» , عن «إياس بن سلمة» , عن «أبيه». قوله: نتضحى: يريد نتغدى, واسم ذلك الغداء: الضحاء, وإنما سمى بذلك, لأنه يؤكل في الضحاء, قال «ذو الرمة»: ترى الثور يمشى راجعًا من ضحائه ... بها مثل مشى الهبرزى المسرول والضحاء: ارتفاع النهار الأعلى, وهو ممدود مذكر, والضحى مؤنثة مقصورة, وهى حين تشرق الشمس.

حديث معاوية بن أبى سفيان [رحمه الله]

حديث معاوية بن أبى سفيان [رحمه الله] 936 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «معاوية بن أبى سفيان»: «أنه دخل عليه وهو يأكل لياء مقشى». قال: حدثنيه «الواقدى» بإسناد لا أحفظه. قال «الفراء»: المقشى: هو المقشر.] قال منه: قشوت العود وغيره: إذا قشرته, فهو مقشو, وقشيته فهو مقشى. قال «الواقدى»: واللياء: شئ يؤكل مثل الحمص أو نحوه, وهو شديد البياض, ويقال للمرأة إذا وصفت بالبياض: كأنها اللياء. 937 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «معاوية»: «أنه دخل على خاله «أبى هاشم بن عتبة» وقد طعن, فبكى, فقال: ما يبكيك يا خال؟ أوجع

يشترك أم على الدنيا»؟ قال: حدثناه «الأبار» , عن «منصور» , عن «أبى وائل» , عن «سرة ابن سهم» , عن «معاوية». قوله: يشترك: يعنى يقلقك, يقال منه: قد شئزت: إذا قلقت, ولم تقر, وأشازنى غيرى, وقال «ذو الرمة»: فيات يشئزه ثأد ويسهره ... تذأب الريح والوسواس والهضب قال «أبو عبيد»: هضبه وهضب, مثل: بدرة وبدر, وبضعة وبضع. 938 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «معاوية» أنه قدم من الشام, فمر بالمدينة فلم تلقه [605] الأنصار فسألهم عن ذلك, فقالوا: لم يكن لنا ظهر. قال: «فما فعلت نواضحكم؟ قالوا: حرثناها يوم بدر». قال «أبو عبيد»: يعنى هزلناها, يقال حرثت الدابة, وأحرثتها لغتان.

حديث عبد الله بن عامر [رحمه الله]

حديث عبد الله بن عامر [رحمه الله] 939 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عامر» حين مرض مرضه الذى مات فيه, فدخل عليه أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - وفيهم «ابن عمر»: فقال: ما ترون فى حالى؟ قالوا: ما نشك لك في النجاة, قد كنت تقرى الضيف, وتعطى المختبط». قال: حدثناه «يزيد» , عن «عمرو بن ميمون بن مهران». قال «أبو عبيد»: يعنى بالمختبط: الرجل [الذى] يسأله من غير معرفة كانت بينهما, ولا يد سلفت منه إليه, ولا قرابة.

حديث قيس بن عاصم [رحمه الله]

حديث قيس بن عاصم [رحمه الله] 940 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «قيس بن عاصم» حين أوصى بنيه عند موته, فقال: «انظروا هذا الحى من «بكر بن وائل» , ولا تعلموهم مكان قبرى, فإنه قد كانت بيننا وبينهم خماشات في الجاهلية». قال: حدثناه «حجاج» , عن «شعبة» أسنده إلى «قيس». قوله: الخماشات: يعنى الجنايات والجراحات, قال «ذو الرمة» يصف الحمار والأتن: رباع لها مذ أورق العود عنده ... خماشات ذخل ما يراد امتثالها

قال «أبو عبيد»: يقال للحاكم: أمثلنى منه, وأقصنى منه, وأقدنى منه. وأما قوله فى وصيته أيضًا: «فإنى كنت أغاولهم» فنرى أن المحفوظ: أغاورهم, وهو من الغارات: أن يغيروا عليه ويغير عليهم, فإن كان المحفوظ أغاولهم, فإن المغاولة: المبادرة. ومنه حديث «عمار بن ياسر» أنه صلى صلاة أسرع فيها, وقال: «إنى كنت أغاول حاجة لى». وأما قوله في وصيته: «وعليكم بالمال واحتجانه»: فإن الاحتجان: ضمك الشئ إلى نفسك, وإمساكك إياه, وهو [606] مأخوذ من المحجن, والمحجن: العصا المعوجة التى يجتذب بها الإنسان الشئ إلى نفسه.

حديث الأشج العبدى [رحمه الله]

حديث الأشج العبدى [رحمه الله] 941 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الأشج العبدى» أنه قال لبنيه أو غيرهم: «لا تبسروا, ولا تثجروا, ولا تعاقروا فتسكروا». يروى عن «عمران بن حدير». قوله: لا تبسروا, يقول: لا تخلطوا البسر بالتمر, فتنبذوهما جميعًا. يقال منه: بسرته أبسره بسرًا. وقوله: ولا تثجروا, يقول: لا تجعلوا ثجير البسر أيضًا مع التمر, وثجيره: أن ينبذ البسر وحده, ثم يؤخذ ثقله, فيلقى مع التمر, فكره هذا أيضًا

مخافة الخليطين. وقوله: ولا تعاقروا, يقول: لا تدمنوه فتسكروا, ونرى أن المعاقرة من عقر الحوض, وهو أصله عند مقام الشاربة, فيقول: لا تلزموه كلزوم الشاربة أعقار الحياض.

حديث سمرة بن جندب [رحمه الله]

حديث سمرة بن جندب [رحمه الله] 942 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سمرة بن جندب» حين أتى برجل عنين, فكتب فيه إلى «معاوية» فكتب: «أن اشتر له جارية من بيت المال, وادخلها معه ليلة, ثم سلها عنه» ففعل «سمرة» فلما أصبح قال: ما صنعت؟ قال: فعلت حتى حصحص فيه. قال: فسأل الجارية, فقالت: لم يصنع شيئًا, فقال: خل سبيلها يا محصحص». قال: حدثنيه «يزيد» , عن «عيينة بن عبد الرحمن» , عن «أبيه» , عن «سمرة». قوله: حصحص: الحصحصة: الحركة فى الشئ حتى يستمكن, ويستقر فيه, يقال: حصحصت التراب وغير: إذا حركته وفحصته يمينًا وشمالًا, قال «حميد بن ثور» يصف بعيرًا قد أثقل حمله, فهو يتحرك تحت الحمل عند النهوض, فقال: وحصحص فى صم الحصا ثفناته ... ورام القيام ساعة ثم صمما

الثفنات: كل شئ ولى الأرض من البعير إذا برك, وهن الركبتان, والفخذان [607] والكركة, ولهذا كان يقال «لعبد الله بن وهب» رئيس الخوارج فى زمن «على» [- رحمة الله عليه -]: «والثفنات» , لأن مساجده كانت قد دبرت من طول الصلاة مثل ثفنات البعير.

حديث عبد الله بن الزبير [رحمه الله]

حديث عبد الله بن الزبير [رحمه الله] 943 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن الزبير» أنه كان إذا سمع صوت الرعد لهى من حديثه, وقال: «سبحان من سبح الرعد بحمده, والملائكة من خيفته». قال: حدثناه «ابن مهدى» , عن «مالك بن أنس» , عن «عامر بن عبد الله بن الزبير» , عن «أبيه». قال «الكسائى» و «الأصمعى»: قوله: لهى من حديثه, يقول: تركه, وأعرض عنه, وكل شئ تركته فقد لهيت عنه, وأنشدنا «الكسائى»: اله نمها فقد أصابك منها ... حسرة تورث الأسى والدمارا وكذلك قول «الحس» حين سئل عن الرجل يجد البلل, فقال: اله عنه, قفال له

«حميد الطويل» - وهو الذى سأله -: إنه أكثر من ذلك, فقال: أتستدره لا أيا لك؟ أنه عنه». قال: حدثناه «هشيم» , عن «حميد» , عن «الحسن» , وكان «هشيم» يقول: اله عنه, كأنه يذهب به إلى اللهو, وليس هذا بموضع اللهو, إنما معناه: دعه. وقال «الكسائى»: يقال: اله منه وقال «الأصمعى» اله منه وعنه.

حديث مجالد بن مسعود أخى مجاشع [رحمه الله]

حديث مجالد بن مسعود أخى مجاشع [رحمه الله] 944 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مجالد بن مسعود» أنه نظر إلى «الأسود بن سريع» وكان يقص فى ناحية المسجد, فرفع الناس أيديهم, فأتاهم «مجالد» وكان فيه قزل, فأوسعوا له, فقال: «إى والله ما جئت لأجالسكم - وإن كنتم جلساء صدق - ولكنى رأيتكم صنعتم شيئًا, فشفن الناس [608] إليكم, فإياكم وما أنكر المسلمون». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «يونس» , عن «الحسن» قال: كان «الأسود» يقص فى ناحية المسجد, ثم ذكر الحديث. قال «الأصمعى»: القزل: هو أسوأ ***, وقال «أبو زيد»: هو أشد العرج. وأما قوله: فشفن الناس إليكم: فإن ن شفن: أن يرفع الإنسان طرفه ناظرًا إلى الشئ كالمتعجب منه, أو الكاره له, قال «القطامى» يذكر الإبل:

وإذا شفن إلى الطريق رأيته ... لهقا كشاكلة الحصان الأبلق

حديث عثمان بن أبى العاص [رحمه الله]

حديث عثمان بن أبى العاص [رحمه الله] 945 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عثمان بن أبى العاص»: «لدرهم ينفقه أحدكم من جهده خير من عشرة ألفٍ ينفقها أحدنا غيضًا من فيض». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «يونس» , عن «الحسن» , عن «عثمان». قوله: غيضا من فيض, يقول: إن أموالنا كثيرة, لإهى بمنزلة الماء الذى يغيض من كثرته, ثم يؤخذ منه حتى يغيض ذلك الفيض, والإناء ممتلئ على حاله, وإن أحدكم إنما يتصدق من قوته, ويؤثر على نفسه, فقليله أفضل من كثيرنا.

حديث تميم الدارى [رحمه الله]

حديث تميم الدارى [رحمه الله] 946 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «تميم الدارى» حين كلمه الرجل في كثرة العبادة, فقال «تميم»: «أرأيت إن كنت أنا مؤمنًا قويًا, وأنت مؤمن ضعيف, أفتحمل قوتى على ضعفك فلا تستطيع, فتنبت, أو أرأيت إن كنت أنا مؤمنًا ضعيفًا, وأنت مؤمن قوى, أئنك لشاطى حتى أحمل قوتك على ضعفى, فلا أستطيع فأنبت, ولكن خذ من نفسك لدينك, ومن دينك لنفسك, حتى يستقيم بك الأمر على عبادة تطيقها». هذا من حديث «ابن علية» , و «ابن المبارك» [609]. فأما «ابن علية» فرواه عن «الجريرى» , عن «رجل» , عن «تميم». وأما «ابن المبارك» , فرواه, عن «الجريرى» , عن «أبى العلاء» , عن «تميم». وكان «ابن المبارك» يقول: أثنك لشاطنى فيما بلغنى عنه, ولا نراه محفوظًا عن «ابن المبارك» وليس له معنى, إنما المحفوظ عندنا ما قال: «ابن علية»: أئنك لشاطى.

قال «أبو عبيد» قوله: أئنك لشاطى: اى أئنك لجائز على حين تحمل قوتك على ضعفى, وهو من الشطط والجور فى الحكم. يقول: إن كنت قويًا في العمل وأنا ضعيف أتريد أن تحمل قوتك على ضعفى حتى أتكلف مثل عملك, فهذا جور منك على, وقال الله - تبارك وتعالى -: {فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط} , وفيه لغتان: شططت وأشططت: إذا جار في الحكم.

حديث البراء بن عازب [رحمه الله]

حديث البراء بن عازب [رحمه الله] 947 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «البراء بن عازب»: فى السجود على أليتى الكف». قال: حدثناه «يحيى بن سعيد» , عن «سفيان» , عن «أبى إسحاق» , قال: سمعت «البراء» يقول ذلك. قوله: ألية الكف: يعنى أصل الإبهام, وما تحت ذلك من أسفل الراحة, ما غلظ منها.

حديث أم المؤمنين عائشة [رحمها الله]

حديث أم المؤمنين عائشة [رحمها الله] 948 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: أن أخاها «عبد الرحمن» مات فى منامه, وأن «عائشة» أعتقت عنه تلادًا من تلاده». قال: حدثناه «سفيان بن عيينة» , عن «يحيى بن سعيد» , عن «القاسم بن محمد» , عن «عائشة». قال «الأصمعى» وغيره: قوله: تلادًا من تلاده: التلاد: كل مالٍ قديمٍ يرثه الرجل عن آبائه أو مال استخرجه, كالدابة ينتجها, والرقيق يولدون فى ملكه, وما أشبه ذلك. ومنه حديث «الأشعث» أنه تزوج امرأة على حكمها, فوقعت فى تلاده الغوالى, فقال «عمر»: «إنما لها صدقة نسائها».

ومنه حديث «عبد الله» أنه قال فى سورة «بنى إسرائيل» و «الكهف» و «مريم» و «طه» و «الأنبياء»: هن من العتاق الأول, وهن من تلادى». قال: حدثنيه «محمد بن الحجاج» , عن «أبى إسحاق» , عن «عبد الرحمن ابن يزيد» , عن «عبد الله». قوله: تلادى, يقول: إنهن من قديم ما أخذت من القرآن, شههن بتلاد [610] المال. قال «أبو عبيد»: والتالد أيضًا هو التلاد, وهو المتلد, والرجل متلد. ومنه قول «عبد الله بن عتبة» حين اختصم إليه في لآلئ فى يد أحد الخصمين, فقال: هى للمتلد. قال: حدثناه «أبو بكر بن عياش» , عن «أبى حصين» , عن «عبد الله

ابن عتبة» أنه قضى بذلك. فهذا التالد وما أشبهه من المال, وهو التليد والمتلد. وأما الطارف والطريق, فهما جميعًا: ما استفاده الإنسان حديثًا ليس بقديم. يقال من الطريق: اطرفت, ومن التالد: اتلدت, قال «الأعشى» يذكر التلاد والطارف: والشربون إذا الذوارع أغليت ... صفو الفضال بطارف وتلاد وهو كثير فى الشعر والكلام. 949 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» أنها سئلت: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفضل بعض الأيام على بعض؟ فقالت: «كان عمله ديمة».

قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «مغيرة» , عن «إبراهيم» , عن «عائشة». قال «الأصمعى» وغيره: قوله: ديمة: أصل الديمة المطر الدائم مع سكون قال «لبيد»: باتت وأسبل واكف من ديمة ... يروى الخمائل دائمًا تسجامها قال «أبو عبيد»: فأخبر أن الديمة الدائم. قال «أبو عبيد»: فشهبت «عائشة» عمله في دوامه مع الاقتصاد, وليس بالغلو, بديمة المطر. ويروى عن «حذيفة» شبيه بهذا حين ذكر الفتن, فقال: إنها لآتينكم ديمًا ديمًا».

يعنى أنها تملأ الأرض مع دوام, قال «امرؤ القيس»: ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر قال «أبو عبيد»: ويجوز الخفض: وتدر. 950 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: «أنها كانت تحتبك تحت الدرع فى الصلاة». قال: حدثناه «حجاج» , عن «حماد بن سلمة» , عن «أم شبيب». عن «عائشة». قال «الأصمعى»: الاحتباك: الاحتباء, لم يعرف إلا هذا.

[611] قال «أبو عبيد»: وليس للاحتباء هاهنا موضع, ولكن الاحتباك: شد الإزار وإحكامه, يعنى أنها كانت لا تصلى إلا مؤتزرة, وكل شئ أحكمته, وأحسنت عمله فقد احتبكته. ويروى في تفسير قوله: {السماء ذات الحبك} حسنها واستواؤها, وقال بعضهم: ذات الخلق الحسن. ومنه الحديث المرفوع في الدجال: رأسه حبك حبك, ولهذا قيل للبعير أو الفرس إذا كان شديد الخلق: محبوك. 951 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» حين قالت «ليزيد بن الأصم الهلالى» ابن أخت «ميمونة» وهى تعاتبه: «ذهبت والله «ميمونة» ورمى برسنك على غاربك».

قال: حدثناه: «كثير بن هشام» , عن «جعفر بن برقان» , عن «يزيد بن الأصم» , عن «عائشة». قولها: «رمى برسنك على غاربك»: إنما هو مثل, أرادت: أنك مخلى سبيلك ليس لك أحد يمنعك مما تريد, وأصل هذا أن الرجل كان إذا أراد أن يخلى ناقته لترعى ألقى حبلها على غاربها, ولا يدعه ملقى في الأضل, فيمنعها من الرعى, ولهذا قال الناس فى رجل قال لامرأته: حبلك على غاربك: إنه طلاق إذا أراد ذلك, لأن معناه أنك مخلى سبيلك مثل تلك الناقة. 952 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» حين سئلت عن الميت يسرح رأسه, فقالت: «علام تنصون ميتكم؟ ». قال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «مغيرة» , عن «إبراهيم» , عن «عائشة». قولها: تنصون مأخوذ من الناصبة. تقول: نصوت الرجل أنصوه نصوًا: إذا مددت بناصيته, فأرادت «عائشة»: أن الميت لا يحتاج إلى تسريح الرأس,

وذلك بمنزلة الأخذ بالناصبة, قال «أبو النجم»: * إن يمس رأسى أشمط العناصى * * كأنما فرقه مناصى * 953 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: «كنت العب مع الجوارى بالبنات, فإذا رأين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انقمعن, قالت: فيسر بهن إلى». قال: حدثناه «وكيع» , عن «هشام بن عروة» , عن «أبيه» , عن «عائشة». قولها: انقمعن: قالت: تعنى دخلن البيت, وتغيبن. يقال للإنسان: قد [612] اقنمع وقمع: إذا دخل فى الشئ, أو دخل بعضه في بعض.

قال «الأصمعى»: ومنه سمى القمع الذى يصب فيه الدهن وغيره, لأنه يدخل فى الإناء. يقال منه: قمعت الإناء أقمعه. والذى يراد من الحديث: الرخصة في اللعب التى يلعب بها الجوارى, وهن البنات, فجاءت فيها الرخصة, وهى تماثيل, وليس وجه ذلك عندنا إلا من أجل أنها لهو الصبيان, ولو كان للكبار مكروها كما جاء النهى في التماثيل كلها وفى الملاهى. 954 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائش» ة: «إن للحم سرفًا كسرف الخمر». قال: حدثناه «محمد بن عمر الواقدى» , عن «موسى بن على» , عن «أبيه» , عن «عائشة». قال «أبو عمرو»: يقال: سرفت الشئ: أخطأته وأغفلته. وقال «أبو زياد الكلابى» فى حديثه: أردتكم فسرفتكم: أى أخطأتكم, وقال «جرير بن الخطفى» يمدح قومًا:

أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما فى عطائهم من ولا سرف يريد بالسرف: الخطأ, يقول: لم يخطئوا فى عطيتهم, ولكنهم وضعوها مواضعها. وقال «محمد بن عمر»: السرف فى هذا الحديث: الضراوة, يقال: للحم ضراوة مثل ضراوة الخمر, [قال «أبو عبيد»] وهذا عندى أشبه بالمعنى, وإن لم أكن سمعت هذا الحرف فى غير هذا الحديث, والذى يذهب إلى أن السرف الخطأ, يقول: إدمانه خطأ فى النفقة. 955 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» فى قول الله - تبارك [وتقدس] وتعالى -: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] قالت: القلب والفتخة. قال: حدثناه «عبد الرحمن بن مهدى» , عن «حماد بن سلمة» , عن «أم شبيب» , عن «عائشة».

قولها: الفتحة: تعنى الخاتم, وجمعها فتخات وفتخ, قالت امرأة فى عملٍ ذكرت أنها عملته: * يسقط منه فتخى فى كمى * تعنى الخواتيم. والذى يراد من هذا الحديث أنه لا بأس أن تبدى كفها, لأن الخاتم لا يرى إلا بإبائها, وقد روى عن «ابن عباس» فى هذه الآية أنها الكحل [613] والخاتم. قال: حدثناه «مروان بن شجاع» , عن «خصيف» , عن «عكرمة» , أو غيره [الشك من «أبى عبيد»] عن «ابن عباس». قالتأويل ها هنا أنه رخص في العينين والكفين, والذى عليه العمل عندنا فى هذا قول «عبد الله».

قال: حدثناه «عبد الرحمن» , عن «سفيان» , عن «أبى إسحاق» , عن «أبى الأحوص» , عن «عبد الله» , قال: هى الثياب. قال «أبو عبيد»: يعنى ألا يبدين زينتهن إلا الثياب. 956 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» [- رحمها الله -]: «لقد رأيتنا ومالنا طعام إلا الأسودان التمر والماء». قال: حدثناه «يزيد» , عن «محمد بن عمر» , عن «أبى سلمة» , عن «عائشة». قال «الأصمعى» , و «الأحمر» , و «ابن الكلبى» , وعدة من أهل العلم, ذكر كل واحد منهم بعض هذا الكلام دون بعض.

قولها: الأسودان, وإنما السواد للتمر خاصة دون الماء, فنعتتهما جميعًا ينعت أحدهما, وكذلك تفعل العرب في الشيئين يكون أحدهما مضمومًا مع الآخر, كالرجلين يكونان صديقين لا يفترقان, أو أخوين, وغير ذلك من الأشياء, فإنهم يسمونهما جميعًا باسم الأشهر منهما, ولهذا قال الناس: سنة العمرين, وإنما هما «أبو بكر» , و «عمر». قال: وأنشدنى «الأصمعى» و «ابن الكلبى» جميعًا فى مثل هذا «لقيس بن زهير بن جذيمة» يعاتب «زهدمًا» و «قيسًا» ابنى «جزء»: جزاءنى الزهدمان جزاء سوء ... وكنت المرء يجزى بالكرامه فقال: الزهمدان, وإنما هما «زهدم» و «قيس» , وأنشدنى «الأصمعى» لشاعر آخر يعاتب أخوين, يقال لأحدهما: «الحر» , والآخر «أبى» , فقال:

ألا من مبلع الحرين عنى ... مغلغلة وخص بها أبيا فقد بين لك أن أحدهما «أبى» وقد سماهما «الحرين» , وأبين من هذا كله قول الله - تبارك وتعالى -: {كما أخرج أبويكم من الجنة} وإنما هما أب وأم, وقال: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} , فكثر هذا في كلامهم, حتى قالوه فى الأرضن وغيرهما. قال: وأنشدنى «الأحمر»: * نحن سببنا أمكم مقربًا * * حين صبحنا الحيرتين المنون * يريد «الحيرة» و «الكوفة». ومنه قول «سلمان»: «أحيوا ما بين العشاءين» وإنما هما المغرب والعشاء ومنه الحديث المرفوع: «بين كل أذانين صلاة لمن شاء» وإنما هو الأذان

والإقامة, ومنه: «البيعان بالخيار مالم يتفرقا» , وإنما هو البائع والمشترى. قكل هذا حجة لمن قال: إن العمرين: «أبو بكر» و «عمر» وليس قول من يقول: إنما هما «عمر بن الخطاب» و «عمر بن عبد العزيز» بشئ, إنما هذا من قلة المعرفة بالكلام, وإنما قالوا: «العمرين» فيما نرى, ولم يغلبوا «أبا بكر» وهو المقدم على «عمر» , لأنه أخف فى اللفظ من أن يقولوا «أبو يكرين» واصح فى المعنى, وإنما شأن العرب ما خف على ألسنتها من الكلام. وقد حدثنى «الفراء» مع هذا عن «معاذ الهراء» وكان ثقة, قال: لقد قيل: سنة العمرين قبل خلافة «عمر بن عبد العزيز».

957 - وقال «أبو عبيد» - فى حديث «عائشة»: «توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحرى ونحرى, وبين حاقنتى وذاقنتى». [قال] بلغنى هذا الحديث عن «الليث بن سعد» , عن «يزيد بن عبد الله بن الهاد» , عن «موسى بن سرجس» , أو غيره, عن «القاسم بن محمد» , عن «عائشة». قال «أبو زيد» وبعضه عن «أبى عمرو» , وغيره. قولها: سحرى ونحرى: فالسحر: ما تعلق بالحلقوم, ولهذا قيل للرجل, إذا جبن: قد انتفح سحره, كأنهم إنما أرادوا الرئنة وما معها.

وأما الحاقنة: فقد اختلفوا فيها, فكان «أبو عمرو» يقول: هى النقرة التى بين الترقوة وحبل العاتق, قال: وهما الحاقنتان, قال: والذاقنة: طرف الحلقوم. وقال «أبو زيد»: يقال فى مثل: «لألحقن حواقنك بذواقنك». قال «أبو عبيد»: فذكرت ذلك للأصمعى, فقال: هى الحاقنة والذاقنة, ولم أره وقف منهما على حد معلوم, والقول عندى ما قال «أبو عمرو». قال «أبو عبيدة»: هو السحر, وقال «الفراء»: هو السحر, قال «أبو عبيد»: [615] وأكثر قول العرب على ما قال «أبو عبيدة». 958 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: «كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبًا فى شهر رمضان من قراف غير احتلام.

ثم يصوم». القراف: هاهنا الجماع, وكل شئ خالطته وواقعته فقد قارفته. ومنه قوله «لعائشة» - حين تكلم فيها أهل الإفك -: «إن كنت قارفت ذنبًا فتوبى إلى الله منه». ومنه الحديث المرفوع أن رجلًا شكا إليه وباء بأرض, فقال: «تحولوا عنها, فإن من القرف التلف» يعنى ما يخالطها من الوباء, يقول: إذا قارفتم الوباء كان منه التلف. فأردات «عائشة» [رحمها الله] أنه يقارف أهله بالجماع, ثم يصبح جنبًا, ثم يصوم.

ومنه يقال: قرفت فلانًا بكذا وكذا: أى اتهمته بانه قد واقعه, وقال «ذو الرمة» يذكر ببضة: نتوج ولم تقرف بما يمتنى له ... إذا نتجت ماتت وحى سليلها قوله: نتوج, يقول: هى حامل بالفرخ من غير أن يقارفها فحل, وقوله: يمتنى له من المنى, إذا نتجت: يعنى البيضة يخرج فرخها. وقوله: ماتت: يعنى البيضة تنكسر, ويحيا سليلها: يعنى الفرخ. 959 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» فيمن جعل ماله في رتاج الكعبة: «أنه يكفره ما يكفر اليمين». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «منصور بن عبد الرحمن الحجبى» , عن أمه «صفية» , عن «عائشة». قولها: رتاج الكعبة: الرتاج: هو الباب نفسه, وهى لم ترد الباب بعينه,

إنما أرادت من جعل ماله هديًا إلى الكعبة, أو فى كسوة الكعبة والنفقة عليها, ونحو ذلك, فرأت أنه يجزئه كفارة اليمين, وهذا رأى من اتبع الأثر, وقال به. وقد روى مثله عن «حفصة» و «ابن عمر» و «ابن عباس». قال «أبو عبيد»: فقول هؤلاء أولى بالتباع. وأما قولها: الرتاج: فكل باب رتاج, فإذا أغلق قيل: فد ارتج, ومن هذا قيل للرجال إذا لم يحضره منطق: قد ارتج عليه, يقول: كأنه قد انغلق عنه وجه المنطق. ومنه حديث «ابن عمر» , قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «نافع» , عن «ابن عمر» أنه صلى بهم المغرب, فقال: «ولا الضالين» ثم ارتج عليه. فقال «نافع» [616]: فقلت له: «إذا زلزلت» , فقال: «إذا زلزلت». وفى هذا الحديث الرخصة فى الفتح على الإمام, ألا ترى «ابن عمر» لم يعب عليه. وكذلك يروى عن «على» [- رضى الله عنه -]: «إذا استطعمكم الإمام فأطعموه».

قال: حدثناه «ابن علية» , عن «ليث» , عن «عبد الأعلى» , عن «أبى عبد الرحمن» , قال «إسماعيل»: أحسبه عن «على». قال «أبو عبيد»: هكذا خفظته أنا عنه, قال: ثم بلغنى يعد عنه أنه كان لا يشك فيه. قال: وحدثنا «هشيم» قال: أخبرنا «محمد بن عبد الرحمن» , عن «أبى جعفر القارى» قال: رأيت «أبا هريرة» يفتح على «مروان» فى الصلاة, وفى هذا أحاديث كثيرة. 960 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» فى المرأة توضأ, وعليها الخضاب, قالت: «اسلتيه وأرغميه». قال: حدثناه «هشيم» و «معاذ» , عن «ابن عون» , عن «أبى سعيد» ابن أخى أم المؤمنين «عائشة» من الرضاعة, عن «عائشة». قولها: أرغميه, تقول: أهينيه, وارمى به عنك, وإنما أصل هذا من

الرغام, وهو التراب, وأحسبه اللين منه, قال «لبيد»: كأن هجانها متأبضات ... وفى الأقران أصورة الرغام فكأن «عائشة» أرادت ألقيه فى التراب. 961 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» حين قالت: «خرجت أقفو آثار الناس يوم الخندق, فسمعت وئيد الأرض خلفى, فالتقت, فإذا أنا يسعد بن معاذ». قال: حدثناه «يزيد» , عن «محمد بن عمرو» , عن «أبيه» , عن «جده» , عن «عائشة» فى حديث طويل. قولها: وئيد الأرض: تعنى الصوت من شدة وطئه. وفى الحديث أن «النبى» - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف من الخندق, ووضع لأمته, أتاه «جبريل» [- عليه السلام -] , فأمره باالخروج إلى «قريظة».

اللأمة: الدرع, وجمعها لؤم على مثال فعل, وهذا على غير قياس, ومنها [617] قيل: قد استلام الرجل: إذا لبسها, فهو مستلئم. وفي الحديث أنها ذكرت جراحة «سعد» فقالت: «وقد كان رقا كلمه وبرا, فلم يبق إلا مثل الخرص» , والخرص: الحلقة الصغيرة من الحلى كحلقة القرط أو نحوها, ويقال لتلك الحلقة: الخوق, وأنشدنى «الأصمعى»: * كأن خوق قرطها المعقوب * * عغلى دباة أو على يعسوب *

ويقال أيضًا للشئ اليسير من الحلى: خريصيصة, يقال: ما عليها خريصيصة, وما عليها هلبسيسة, ولا يقال ذلك إلا فى الجحد, لا يقال فى الوجوب. وكذلك المقطع من الحلى إنما هو اليسير القليل, ومنه الحديث المرفوع: «أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «خالد الحذاء» , عن «ميمون القناد» , عن «أبى قلابة» , عن «معاوية» , عن «النبى» - صلى الله عليه وسلم -.

قال «أبو عبيد»: فسر لنا أن المقطع هو الشئ اليسير منه مثل الحلقة والشذرة ونحوها. 962 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» أن امرأة قالت لها: أاقيد جملى؟ . فقالت: نعم, فقالت: أأقيد جملى؟ , فلما علمت ما تريد, قالت: «وجهى من وجهك حرام». قال: حدثناه «يزيد» , عن «ابن عون» , عن «إبراهيم» , عن «الأسود» , عن «عائشة» ثم شك فى إسناده بعد. قولها: أأقيد جملى: تعنى زوجها, وتقييده: أن تؤخذه عن النساء, وإنما كرهت هذا, لأنه سحر, وهو شبيه يقول «عبد الله» في التولة: إنها شرك» إلا أن المؤخذ من البغض, والتولة من الحب, وكلاهما سحر, قال الله

-تبارك وتعالى -: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}. 963 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: «لا تؤدى المرأة حق زوجها, حتى لو سألها نفسها وهى على ظهر قتب لم تمنعه». قال «أبو عبيد» [618]: كنا نرى أن المعنى أن يكون ذلك, وهى تسير على ظهر البعير, فجاء التفسير فى بعض الحديث بغير ذلك, جاء: «أن المرأة كانت إذا حضر نفاسها أجلست على قتب, ليكون أسلس لولادتها». قال «أبو عبيد»: هذا بلغنى عن «ابن المبارك» , عن «معمر» , عن «يحيى ابن شهاب» , قال: حدثتنى امرأة أنها سمعت «عائشة» تقول ذلك. قال: قال «معمر»: فمن ثم جاء الحديث: «ولو كانت على قتب». وهذا أشبه بالمعنى من الذى كنا نراه, وأولى بالصواب. 964 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» قالت: «قدم وفد الحبشة, فجعلوا يزفنون ويلعبون, و «النبى» - صلى الله عليه وسلم - قائم ينظر

إليهم, فقمت, وأنا مستترة خلفه, فنظرت حتى أعييت, ثم قعدت, ثم قمت, فنظرت حتى أعييت, ثم قعدت, ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم ينظر, فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن المشتهية للنظر». قال: حدثنيه «محمد بن كثير» , عن «الأوزاعى» , عن «الزهرى» , عن «عروة» , عن «عائشة». قولها: فاقدروا قدر الجارية الحديثة: تقول: إن الجارية الحديثة السن, المشتهية للنظر هى شديد الحب للهو, تقول: فأنا مع حبى له قد قمت مرتين, حتى أعييت, ثم قعدت, و «النبى» - صلى الله عليه وسلم - فى ذلك كله قائم ينظر, فكم ترون أن ذلك كان تصف طول قيامه للنظر. وليس وجه هذا الحديث أن يكون فيه شئ من المعازف, ولا فيه ذكره, وليس فى هذا حجة فى الملاهى المكروهة, مثل المزاهر والطيول, وما أشبهها, لأن تلك بأعيانها قد جاءت فيها الكراهة, وإنما الرخصة فى الدف, وإنما هو كما قالت: الزفن واللعب.

965 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» حين قالت «لمسروق»: «سأخبرك برؤيا رأيتها, رأيت كأنى على طرب, وحولى يقر ريوض, فوقع فيها رجال يذبحونها». قال: حدثناه «على بن عاصم» , عن «حصين» , عن «أبى وائل» , عن «مسروق» , عن «عائشة». قال: «الأصمعى»: قولها: ظرب: هو أصغر من الجبل, وجمعه [619] ظراب. ومنه الحديث المرفوع, حين شكى إليه كثرة المطر, فقال: «اللهم حوالينا, فقوله: الإكام هى أصغر من الظراب أيضًا.

966 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: «كأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم». قال: حدثنيه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «إبراهيم» , عن «الأسود» , عن «عائشة». قال «أبو عبيد»: الوبيص: البريق. وقد وبص الشئ يبص وبيصًا, والبصيص مثله أو نحوه, يقال منه: بص يبص [بصبصا]. وإنما وجهه أنه تطيب قبل إحرامه, ثم أحرم, وهو عليه, فأما بعد الإحرام, فلايمسه حتى يرمى ويحلق. 967 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: «أنها كرهت أن تصلى المرأة عطلا, ولو أن تعلق فى عنقها خيطا». قال: حدثنيه «الفزارى» , عن «عبد الله بن سيار» , عن «عائشة بنت طلحة» , عن «عائشة».

قال «أبو عبيد»: قولها: عطل: تعنى التى لاحلى عليها, يقال: امرأة عطل وعاطل, قال «ذو الرمة» يصف الظبية, ويشبه المرأة بها, [فقال]: فعيناك عيناها ولونك لونها ... وجيدك إلا أنها غير عاطل ومنه حديث «لعائشة» آخر, وذكرت لها امرأة توفيت, فقالت: «عطلوها»: تعنى انزعوا حليها. 968 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: «الأقراء: الأطهار». قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «يحيى بن سعيد» , عمن حدثه, عن «عائشة». قال «الأصمعى» وبعضه عن «أبى عبيد» ة وغيره, يقال: قد أقرأت المرأة:

إذادنا حيضها, وأقرأت أيضًا: إذادنا طهرها. قال «أبو عبيد»: فأصل الأقراء إنما هو وقت الشئ إذا حضر, قال «الأعشى» يمدح رجلًا بغزوة غزاها: [فظفر فيها وغنم]: مورثة مالًا وفى الذكر رفعة ... لما ضاع فيها نم قروء نسائكا فالقرء هاهنا الأطهار, لأن النساء لا يؤتين إلا فيها, يقول: فضاع قروء نسائك باشتغالك عنهن بالغزو. وفى حديث آخر فى المستحاضة: أنها تدع الصلاة أيام أقرائها» , فالأقراء هاهنا الحيض. وهذا قول «أهل العراق» يرون الأقراء: الحيض فى عدة المطلقة. وبيت «الأعشى» فيه حجة لأهل الحجاز, لأنهم يرون الأقراء الأطهار فى العدة, وكلا القولين له معنى جائز فى كلامهم.

969 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة» - فى حديث الإفك - قالت: «والنساء يؤمئذ لم يهبلهن اللحم». قوله يهبلهن: أى لم يكثر عليهن, ويركب بعضه بعضًا حتى يرهلهن. يقال منه: أصبح فلان مهبلًا: إذا كان مورم الوجه متهبجًا. 970 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عائشة»: «كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يقبل ويباشر, وهو صائم, ولكنه كان أملككم لإربه». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الأعمش» , عن «مسلم بن صبيح» ,

عن «مسروق» , عن «عائشة». قال «أبو عبيد»: قولها: لإربه, هكذا يروى فى الحديث, وهو فى الكلام المعروف لأربه والأرب: الحاجة, أو لإربته, والإربة: الحاجة أيضًا, قال الله [- تبارك وتعالى -]: {غير أولى الإربة من الرجال} فإن كان هذا محفوظًا, ففيه ثلاث لغات: الأرب, والإربة, والإرب. وقد يكون الإرب - فى غير هذا - العضو, يقال له: إرب, ويقال منه: قطعته إربًا إربا. والإرب أيضًا: الخب والمكر, ومنه: الرجل يؤارب صاحبه, ومنه قول «قيس بن الخطيم»: أريت لدفع الحرب حتى رأيتها ... على الدفع لا تزداد غير تقارب

فقد يكون قوله: أريت, من معنيين: يكون من الأريب, وهو العاقل [621] العالم بالأشياء, يقول: كنت حاذقًا بدفعها حتى رأيتها [على الدفع] لا تزداد إلاقربًا, فقاتلت حينئذ. ويكون أريت من الإرب, وهو المكر والخديعة, قال «الأصمعى» ذلك أو بعضه. قال «أبو عبيد»: وفى هذا الحديث من الفقه قولها: «ولكنه كان أملككم لإربه» أنه لم يكره القبلة إنما كره ما يخاف منها, وكذلك المباشرة.

حديث أم سلمة [أم المؤمنين] [رحمها الله]

حديث أم سلمة [أم المؤمنين] [رحمها الله] 971 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أم سلمة»: «أنها كانت تكره للمحد أن تكتحل الجلاء» وهو عندنا الإثمد, سمى بذلك, لأنه يجلو البصر فيقويه, أو يجلو الوجه فيحسنه, قال بعض الهذليين: وأكحلك بالصاب أو بالجلا ... ففقح لذلك أو غمض والتفقيح: فتح العين, يقال للجرو: قد فقح: إذا فتح عينيه. 972 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أم سلمة» أن مساكين سألوها, فقالت: «يا جارية أيديهم تمرة تمرة».

قال: حدثناه «أبو النضر» , عن «شعبة» , عن «خليد بن جعفر» , عن «أم سلمة». قولها: أيديهم, تقول: فرقى فيهم, وهو من بددت الشئ تبديدًا. قال «الأصمعى»: يقال أبددتهم العطاء: إذا لم تجمع بين اثنين, وقال «أبو ذؤيب الهذلى» يصف الصائد والحمر, وأنه فرق فيها السهام, فقتلها, فقال: فأبدهن حتوفهن فهارب ... بذمائه أو بارك متجعجع ويروى عن بعض العرب أنه قال: إن لى صرمة أمنح منها, وأطرق, وأبد, وأفقر, وأقرن. قوله: أمنح: يعنى أن أعطى الرجل [622] الناقة يحتلبها, ولا تكون المنيحة إلا عارية. ولا يكون الإطراق إلا فى عارية الفحل للضراب خاصة, ولا يكون الإفقار إلا فى ركوب الظهر, وأما الإبداد فإنه يكون فى الهبة وغيرها إذا أردت واحدًا واحدًا, والقران: أن تعطى اثنين فما فوق ذلك.

حديث حمنة بنت جحش [رحمها الله] 973 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «حمنة بنت جحش»: «أنها كانت تجلس في المركن وهى مستحاضة, ثم تخرج, وهى عالية الدم». قال «الأصمعى»: المركن: هذه الإجانة التى تغسل فيها الثياب.

حديث صفية بنت أبي عبيد [رحمها الله]

حديث صفية بنت أبي عبيد [رحمها الله] 974 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «صفية بنت أبى عبيد»: «أنها اشتكت عينها وهى حاد على «ابن عمر» زوجها, فلم تكتحل». واختلف علينا فى الرواية عن «مالك». قال: فحدثنيه «أبو المنذر» , عن «مالك» , عن «نافع» , عن «صفية» أنه قال: «فلم تكتحل. حتى كادت عيناها ترمصان». قال: وحدثنى «إسحاق بن عيسى» , عن «مالك» , عن «نافع» , عن «صفية» , قال: «حتى كادت عيناها ترمضان» بالضاد. [قال] فإن كانت الرواية على ما قال «أبو المنذر» فإن المعنى فيه معروف, وهو الرمص الذى يظهر بمآق العين, إذا هاجت بالرمد, وتلصق منه الأشفار.

وإن كان المحفوظ بالضاد, فإنه عندى مأخوذ من الرمضاء, وهو أن يشتد الحر على الحجارة حتى تحمى, فيقول: هاج بعينها من الحر مثل ذلك. يقال منه: قد رمض الإنسان يرمض رمضًا: إذا مشى على الرمضاء, وهى الحصباء المحماة بالشمس, فشبه الحر الذى يظهر بالعينين بذلك.

أحاديث «التابعين» - رحمهم الله تعالى -

أحاديث «التابعين» - رحمهم الله تعالى -

حديث كعب الأحبار [رحمه الله]

حديث كعب الأحبار [رحمه الله] 975 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «كعب»: «شر الحديث التجيف». قال: حدثناه [623] «على بن عاصم» , عن «الجريرى» , عن «عبد الله بن شقيق» , عن «كعب». قال «الأصمعى»: التجديف: هو الكفر بالنعم, يقال منه: جدف الرجل تجديفًا. قال «الأموى»: هو استقلال ما أعطاه الله, قاله: ومثله أيضًا: قهل الرجل قهلًا, وهو مثل قو «الأصمعى» , معناهما واحد.

976 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «كعب» - حين ذكر «يأجوج» و «مأجوج» وهلاكهم - قال: «ثم يرسل الله - تبارك وتعالى - السماء فتنبت الأرض حتى إن الرمانة لتشبع السكن». قال: حدثناه «أبو النضر» , عن «سليمان بن المغيرة» , أسنده إلى «كعب». قوله: السكن - بتسكين الكاف -: هم أهل البيت, وإنما سموا سكنًا, لأنهم يسكنون الموضع, والواحد منهم ساكن وسكن, مثل: شارب وشرب, وسافر وسفر, قال «ذو الرمة»: فياكرم السكن الذين تحملوا ... عن الدار والمستخلف المتبدل وأما السكن بنصب الكاف, فهو كل شئ تسكن إليه وتأنس به, قال الله - تبارك وتعالى -: {خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها}. 977 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «كعب»: «أنه ذكر منازل الشهداء فى

التوراة ثلاثة. فقال: رجل كذا وكذا, ورجل خرج, وهو يريد أن يرجع, فأصابه سهم غرب ثم ذكر الثالث». قال: حدثنيه «الأشجعى» , عن «عمرو بن قيس» عمن حدثه عن «كعب». قال «الكسائى» «والأصمعى»: إنما هو سهم غرب - بفتح الراء - وهو السهم الذى لا يعرف راميه, فإذا عرف راميه, فليس بغرب. قال: والمحدثون يحدثونه - بتسكين الراء - والفتح أجود وأكثر فى كلام العرب. قال: والغرب أيضًا - بالفتح -: ريح الطين والحمأة, والغرب [624] أيضًا: شجر, قال «الأعشى»: إذا انكب أزهر بين السقاة ... تراموا به غربًا أو نضارًا

978 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «كعب»: «لو أن امرأة من الحور العين اطلعت إلى الأرض فى ليلة ظلماء مغدرة لأضاءت ما على الأرض». قال: بلغنى عن «ابن المبارك» , عن «صفوان بن عمرو» , عن «شريح ابن عبيد» , عن «كعب». قال «أبو عمرو» وغيره: المغدرة: الشديدة الظلمة. قال «أبو عبيد»: ولا أدرى من أى شئ أخذت, ويقال أيضًا: ليلة غدرة بينة الغدر - مثلها. 979 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «كعب»: «يجاء بجهنم يوم القيامة كأنها متن إهالة حتى إذا استوت عليها أقدام الخلائق نادى منادٍ: خذى أصحابك, ودعى أصحابى, قال: فتخسف بأولئك». قال: حدثناه «يزيد» , عن «الجريرى» , عن «أبى السليل» , عن

«غنيم بن قيس» , عن «أبى العوام» , عن «كعب». قال «أبو زيد»: الإهالة: كل شئ من الأدهان مما يؤتدم به, مثل: الزيت ودهن السمسم. وقال غير «أبى زيد»: الإهالة: ما أذيب من الأيلة والشحم أيضًا, ومتن الإهالة ظهرها إذا سكن الذائب منها فى الإناء. فإنما شبه «كعب» استواء الأرض بسكون جهنم قبل أن يصير الكفار فى جوفها بذلك, ومما يبنيه حديث «خالد بن معدان». قال [«أبو عبيد»]: حدثنا «مروان بن معاوية» قال: حدثنا «بكار بن أبى مروان» , عن «خالد بن معدان» قال: «لما دخل أهل الجنة, قالوا: يا رب ألم تكن وعدتنا الورود؟ قال: بلى, ولكنكم مررتم بجهنم وهى جامدة». قال: وحدثنا «الأشجعى» , عن «سفيان» , عن «ثور» , عن «خالد بن معدان» , مثله, إلا أنه قال: «خامدة» وإنما أرادوا تأويل قوله: {وإن منكم إلا واردها}.

فيقول: وردوها, ولم يصبهم من حرها شئ إلا ليبر الله [- تعالى -] فسمه. 980 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «كعب» حين قال [625] له «محمد ابن أبى حذيفة» وهما فى سفينة فى البحر: كيف تجد نعت سفينتنا هذه فى التوراة؟ فقال «كعب»: «لست أجد نعت هذه السفينة, ولكنى أجد فى التوراة أنه ينزو فى الفتنة رجل يدعى «فرخ قريش» له سن شاغية, فإياك أن تكون ذلك». يروى هذا عن «عوف» , عن «ابن سيرين» , عن «كعب». قوله: سن شاغية: هى الزائدة على الأسنان, يقال منه: رجل أشغى, وامرأة شغواء, والجميع شغو, وقد شغى الرجل يشغى شغًا مقصور.

حديث أبى أدريس الخولانى [رحمه الله]

حديث أبى أدريس الخولانى [رحمه الله] 981 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى إدريس الخولانى»: «من طلب صرف الحديث, ليبتغى به إقبال وجوه الناس لم يرح رائحة الجنة». هو من حديث «أبى عبد الرحمن المقرئ» , عن «سعيد بن أبى أيوب» , عن «عياش بن عياش» , عن «أبى إبراهيم الدمشقى» , عن «أبى إدريس

الخولانى». قوله: صرف الحديث: يعنى أن يزيد فيه ويحسنه, وأصل الصرف الزيادة, ومنه الصرف فى الدراهم, وهو أن يطلب فضلها وزيادتها.

حديث محمد بن الحنفية [رحمه الله]

حديث محمد بن الحنفية [رحمه الله] 982 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «محمد بن الحنفية»: «كل الجبن عرضًا». قال: حدثنيه «عبد الرحمن بن مهدى» , عن «سفيان» , عن «أبيه» , عن «أبى يعلى» , عن «ابن الحنفية». قال «الأصمعى»: قوله: عرضًا: يعنى اعترضه, واشتره ممن وجدته, ولا تسل عن عمله, أمن عمل أهل الكتاب هو؟ أم من عمل المجوس؟ ومن هذا قيل للخارجى: إنه يستعرض الناس يقتلهم, يقول: لا يسأل عن مسلم, ولا غيره. ومنه قيل: اضرب بهذا عرض الحائط: أى اعترضه حيث وجدت منه. قال «أبو عبيد»: ومن هذا حديث «ابن مسعود» [رحمه الله] أنه أقرض رجلًا دراهم, فأتاه بها, فقال «لابن مسعود» حين قضاه: إنى تجود

تهالك من عطائى, فقال «ابن مسعود»: اذهب بها فأخلطها, ثم ائتنا بها من عرضها». قال: حدثناه «هشيم» , قال: أخبرنا «سليمان التيمى» , عن «أبى عثمان [النهدى»] , عن «ابن مسعود». قال [626] «أبو عبيد»: يقول: اعترضها, فخذ من أيها وجدت. 983 - وقال «أبو عبيد» فى حديث [«محمد] بن الحنفية» فى قوله [- جل وعز -]: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} قال: «هى مسجلة للبر والفاجر». من حديث «ابن عيينة» , عن «سالم بن أبى حفصة» , عن «منذر» , عن «ابن الحنفية». قال «الأصمعى»: قوله: مسجلة: يعنى مرسلة, لم يشترط فيها بر دون فاجر. [قول]: فالإحسان إلى كل أحد جزاؤه الإحسان, وإن كان الذى

يصطنع إليه فاجرًا. وقد روى عن النبى - عليه السلام - شئ يدل على ذلك. قال: سمعت «إسماعيل» يحدث عن «أيوب» , قال: نبئت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على رجل قد قطعت يده فى سرقة, وهو فى فسطاط, فقال: من آوى هذا العبد المصاب؟ فقالوا: «فاتك». أو «خريم بن فاتك» فقال: «اللهم بارك على آل فاتك كما آوى هذا العبد المصاب». قال: وحدثنى «حجاج» , عن «ابن جريح» فى قوله: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا} قال: لم يكن الأسير على عهد رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -] إلا من المشركين. قال «أبو عبيد»: فأرى أن الله [- عز وجل -] قد أثنى على من أحسن إلى أسير المشركين. ومنه قول النبى [- صلى الله عليه وسلم -]: «إن الله [- عز وجل -]

كتب الإحسان على كل شئ, فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح».

حديث عبيد بن عمير [رحمه الله]

حديث عبيد بن عمير [رحمه الله] 984 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد بن عمير»: «أن أرواح الشهداء فى أجواف طير خضر تعلق فى الجنة». قال «الأصمعى»: قوله: تعلق: يعنى تناول بأفواهها من الثمر. يقال منه: قد علقت تعلق علوقًا, وقال «الكميت» يذكر ظبية أو غيرها: * إن تدن من فنن الألاءة تعلق * وفى بعض الحديث: «تسرح في الجنة» , ومعناه: ترتعى, قال الله - تبارك وتعالى -: {حين تريحون وحين تسرحون} [627].

985 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد بن عمير الليثى»: «الإيمان هيوب». فبعض الناس يحمله على أنه يهاب, وليس هذا بشئ, ولو كان كذلك, لقيل مهيب, ومع هذا أنه معنى ضعيف ليس فيه علم, إن لم يكن فى الحديث إلا أن المؤمن يهابه الناس, فما فى هذا من علم يستفاد. وإنما تأويل قوله: الإيمان هيوب: المؤمن هيوب يهاب الذنوب, لأنه لولا الإيمان ما هاب الذنوب, ولا خافها, فالفعل كأنه للإيمان, وإذا كان للإيمان, فهو للمؤمن, ألا تسمع إلى قوله: {إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا} إنما هيبته «مريم» بالتقوى, ويروى فى هذا عن «أبى وائل» أنه قال: قد علمت «مريم» أن التقى ذو نهية. ومنه قول «عمر بن عبد العزيز»: «التقى ملجم» فإنما هذا من قبل التقوى والإيمان, وهو جائز فى كلام العرب أن يسمى الرجل باسم الفعل, ألا تسمع إلى قوله: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} إنما تأويله فيما يقال - والله

أعلم - ولكن البر إيمان من آمن بالله, فقام الاسم مقام الفعل, فكذلك «الإيمان هيوب» , قام الإيمان مقام المؤمن. 986 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد بن عمير»: «أرض الجنة مسلوفة».

قال «الأصمعى»: هى المستوية, أو المسواة [شك أبو عبيد] , قال: وهذه لغة «أهل اليمن» , والطائف, وتلك الناحية, يقولون: سلفت الأرض أسلفها, ويقال للحجر الذى تسوى به الأرض مسلفة. قال «أبو عبيد»: وأحسبه حجرًا مدمجًا, يدحرج به على الأرض لتستوى. 987 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد بن عمير»: «أهل القبور يتوكفون الأخبار, فإذا مات الميت سألوه: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ ». من حديث «ابن عيينة» , عن «عمرو» , عن «عبيد بن عمير». قال «أبو عمرو»: يتوكفون: يتوقعون, والتوكف: التوقع. 988 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد بن عمير»: «إن الرجل ليسأل عن كل شئ حتى عن حية أهله». قوله: حية أهله: يعنى كل شئ حى مثل الدابة [628] , والهر, ونحو

ذلك, وإنما قال: «حبة» بالهاء فأنت, ولم يقل: حى, لأنه ذهب إلى كل نفس أو دابة حبة, فأنث لذلك. 989 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد بن عمير»: «فى الموقوذة إذا طرفت بعينها, أو مصعت بذنبها» قوله: مصعت بذنبها: يعنى أن تحركه, والمصع: التحريك. ومنه حديث «مجاهد» قال: «البرق مصع ملك يسوق السحاب». قال: حدثنيه «الفزارى» , عن «عثمان بن الأسود» , عن «مجاهد». ومما يصدق ذلك حديث «على» [- رضى الله عنه -] قال: «البرق مخاريق الملائكة». قال: حدثناه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «سلمة بن كهيل» , عن «ربيعة ابن الأبيض» , عن «على».

حديث يزيد بن شجرة [رحمه الله]

حديث يزيد بن شجرة [رحمه الله] 990 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «يزيد بن شجرة» - وكان «عمر» يبعثه على الجيوش - قال: فخطب الناس, فقال: «اذكروا نعمة الله عليكم, ما أحسن أثر نعمته عليكم إن كنتم ترون ما أرى من بين أحمر, وأصفر, وأخضر, وأبيض, وفى الرحال ما فيها, إلا أنه إذا التقى الصفان فى سبيل الله فتحت أبواب السماء, وأبواب الجنة, وابواب النار, وتزين الحور العين, فإذا أقبل الرجل بوجهه إلى القتال, قلن: اللهم ثبته, اللهم انصره, وإذا أدبر احتجبن منه, وقلن: اللهم اغفر له, فأنهكوا وجوه القوم فدى لكن أبى وأمى, ولا تخزوا الحور العين». قال: حدثناه «أبو حفص الإبار» و «أبو اليقظان» كلاهما عن «منصور» , عن «مجاهد» , عن «يزيد بن شجرة».

قوله: من بين أحمر, وأصفر, وأخضر: بعض الناس يحمله على زينة الحور العين, ولا أراه أراد ذلك, لأنه إنما ذكر الحور العين يعد ذا, ولكنه أراد عندى زهرة الأرض, وحسن نباتها, وهيئة القوم فى لباسهم, ومما يبين ذلك قوله: وفى الرحال ما فيها» , فذكرهم نعمة الله عليهم فى أنفسهم وفى أهاليهم. وقوله: ولا تخزوا الحور العين, ليس هو من الخزى, ولا موضع للخزى هاهنا, ولكنه من الخزاية, وهى الاستحياء. يقال من الهلاك: خزى الرجل يخزى خزيًاز ويقال من الهلاك: خزى الرجل يخزى خزيًا. ويقال من الحياء: خزى يخزى خزاية. [629] ويقال: خزيت فلانًا: إذا استحييت منه, قال «ذو الرمة» - فى الخزاية -

يذكر ثورًا: [فر من الكلاب ثم رجع إليها] خزاية أدركته بعد جولته ... من جانب الحبل مخلوطًا به الغضب وقال «القطامى» يذكر ثورًا فر من الكلاب ثم كر عليها: جرحًا وكر كرور صاحب نجدة ... خزى الحرائر أن يكون جبانا أراد: خزى الرجل الحرائر: أى استحيا منهن أن يفر, فالذى أراد «ابن شجرة» بقوله: لا تخروا الحور العين: أى لا تجعلوهن يستحيين منكم, ولا تعرضوا لذلك منهن. وقوله: «وانهكوا وجوه القوم» , يقول: اجهدوهم, أى: ابلغوا جهدهم, ولهذا قيل: نهكته الحمى تنهكه نهكًا ونهكة: إذا جهده, وأضنته.

حديث علقمة بن قيس [رحمه الله]

حديث علقمة بن قيس [رحمه الله] 991 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «علقمة بن قيس»: «أنه كان إذا رأى من أصحابه بعض الأشاش مما يعظهم». قال: حدثنيه «عبد الرحمن بن مهدى» , عن «سفيان» , عن «منصور» , عن «إبراهيم» , عن «علقمة». قال «الأصمعى» وغيره: قوله: الأشاش: يريد الهشاش, فجعل الهاء همزة, مثل: هرقت الماء, وأرقت الماءز قال «أبو عبيد»: والهشاش والهشاشة واحد, وهو أن يهش الإنسان اللشئ يشتهيه, وينشط له, وإنما يراد من هذا الحديث أنه كان إذا رأى منهم نشاطًا

وهشاشة للموعظة وعظهم, ولا يفعل ذلك فى غير هذه الحال, فيملهم, وهذا شبيه بحديث عبد الله, قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة مخافة السامة علينا».

حديث شريح بن الحارث [رحمه الله]

حديث شريح بن الحارث [رحمه الله] 992 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «شريبح» أنه: «كان لا يرد العبد من الادقان, وبرده من الإباق البات». قال: حدثناه «ابن أبى عدى» , عن «ابن عون» [630] و «هشام» , عن «محمد بن سيرين» , عن «شريح» و «يزيد» , عن «هشام» , عن «محمد» , عن «شريح». قال «يزيد»: الادفان: أن يأبق قبل أن ينتهى به إلى المصر الذى يباع فيه. فإن أبق من المصر: فهو الإباق الذى يرد منه. وقال «أبو زيد»: الادفان: أن يروغ من مواليه اليوم واليومين, يقال: عبد دفون: إذا كان فعولًا لذلك. وكان «أبو عبيدة» يقول: الادفان: ألا بغيب من المصر في غيبته. قال «أبو عبيد»: أما فى كلام العرب فهو على ما قال «أبو زيد» و «أبو عبيدة».

وأما [فى] الحكم فعلى ما قال «يزيد» إذا سبى فأبق قبل أن ينتهى به إلى الصر, فوجد فذاك ليس بإباق يرد منه, فإذا صار إلى المصر فأبق فهذا يرد منه فى الحكم وإن لم يغب عن المصر. 993 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «شريح»: أنه قضى فى رجلٍ نزع فى قوس لرجلٍ, فكسرها, فقال: «له شرواها».

قال «الكسائى» أو غيره: شرواها: مثلها, وشروى كل شئ: مثله. قال «أبو عبيد»: ولا أرى أصل هذا إلا مأخوذًا من الشرى, يقول: عليه ما يشترى به مثل الذى كسر, أو عليه مثل الذى كسر, وهذا قول لا يقول به من يقول بالرأى. وقد جاء مع حديث «شريح» فى هذا حديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فيه تقوية له, أنه كان عند امرأة من نسائه, فأهدت إليه امرأة من أزواجه قصعة فيها ثربد فكسرتها, قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «غارت أمكم» ثم انتظر حتى جاءت قصعة صحيحة, فبعص بها إلى صاحبة القصعة المكسورة. قال: سمعت «يزيد» , يحدث عن «أنس» , عن «النبى» - صلى الله عليه وسلم -.

حديث الربيع بن خثيم [رحمه الله]

حديث الربيع بن خثيم [رحمه الله] 994 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الربيع بن خثيم» أنه كان يقول لمؤذنه يوم الغيم: «أغسق أغسق». قال: حدثناه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «أبى إسحاق» , عن «بكر بن ماعز» , عن «الربيع بن خثيم». قال «أبو عبيد»: قوله: أغسق يقول [631]: أخر المغرب حتى يغسق الليل, وهو إظلامه, يعنى أنه يستحب تأخير المغرب فى اليوم المتغيم. وكذلك يروى عن «الحسن» ز قال: حدثنا «عباد بن عباد» , عن «هشام» , عن «الحسن» أنه كان يستحب تأخير الظهر, وتعجيل العصر, وتأخير المغرب فى يوم الغيم.

حديث مسروق بن الأجدع [رحمه الله]

حديث مسروق بن الأجدع [رحمه الله] 995 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مسروق [بن الأجدع]: «ما شبهت بأصحاب «محمد» - صلى الله عليه وسلم - إلا الإخاذ, تكفى الإخاذة الراكب, وتكفى الإخاذة الراكبين, وتكفى الإخاذة الفئام من الناس». قال: حدثناه «غندر» , عن «شعبة» , عن «عمر بن مرة» , عن «مسروق» قال «أبو عبيدة»: هو الإخاذ بغير هاء, وهو مجتمع الماء شبيه بالغدير, وقال «عدى بن زيد» يصف مطرًا: فاض فيه مثل االعهون من الرو ... ض وماضن بالإخاذ غدر

وجمع الإخاذ أخذ [وأخذ] , قال «الأخطل»: فظل مرتبئا والأخذ قد حميت ... قد ظن أن سبيل الأخذ مثمود [وقال «أبو عمرو» مثل ذلك, وأما الإخاذة بالهاء: فإنها الأرض يحوزها الرجل لنفسه, فيتخذها ويحييها, والفئام: الجماعة من الناس].

حديث مرة بن شراحيل [الهمدانى رحمه الله]

حديث مرة بن شراحيل [الهمدانى رحمه الله] 996 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مرة بن شراحيل الهمدانى»: «أنه عوتب فى ترك الجمعة, فذكر أن به وجعًا يقرى, ويجتمع, وربما ارفض فى إزاره». قال: حدثناه «معاذ» , عن «المسعودى» , عن «حمزة العبدى» , عن «مرة». قال «الأصمعى» وغيره: قوله: ارفض: يعنى أن يسيل ويتفرق, وكذلك الدمع يرفض من العين. وقوله: يقرى: [يعنى] يجمع المدة, وكذلك كل شئ جمعته فى شئ, مثل الماء تجوله من موضع إلى موضع, فإنه يقال منه: قد قريته أقريه [632].

ومنه حديث «هاجر» أم «إسماعيل» [- عليه السلام -] حين فجر الله لها زمزم, قال: «فقرت فى سقاء, أو شنة كانت معها». قال: سمعت «يحيى بن سعيد» , يحدثه عن «ابن حرملة» , عن «سعيد ابن المسيب» , فى حديث طويل. قوله: قرت: يعنى أنها حولت الماء فى الشنة, وجمعته فيها. وكذلك تقول: قربت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه, أقربه قربًا, ويقال للحوض: المقراة, لأنه يجمع فيه الماء.

حديث أبى وائل [رحمه الله]

حديث أبى وائل [رحمه الله] 997 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى وائل» حين دعاه «الحجاج» فأتاه, فقال له: أحسبنا قد روعناك؟ فقال «أبو وائل»: «أما إنى بت أقحز البارحة» , ثم ذكر كلامًا فيه طول. يعنى خروج الدم باستنانٍ وأنها تدفع التراب بشدة الدم, والمعروف: الذى له عرف من ارتفاعه. 998 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى وائل»: أنه صلى على امرأة [كانت] ترهق». قال: حدثناه «مروان بن معاوية افزارى» , عن «الزبرقان الأسدى» , عن

«أبى وائل». قوله: ترهق: يعنى تتهم وتؤبن بشر, يقال منه: رجل مرهق, وفيه رهق: إذا كان يظن به السوء, قال: وقال «معن بن أوس» يمدح رجلًا: كالكوكب الأزهر انشقت دجنته ... فى الناس لا رهق فيه ولا بخل [633] والمرهق فى غير هذا: الذى يغشاه الناس, وينزل به الضيفان, قال «زهير» يمدح رجلًا: ومرهق النيران يحمد في الـ ... لأواء غير ملعن القدر وأصل الرهق: أن يأتى الشئ, ويدنو منه, يقال: رهقت القوم, غشيتهم, ودنوت منهم, قال الله - تبارك وتعالى -: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة}

999 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى وائل» فى قول الله - عز وجل -: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} , قال: «دلوكها: غروبها». قال: وهو فى كلام العرب: «دلكت براح». قال: حدثناه «شريك» , عن «عاصم» , عن «أبى وائل». قال «أبو عبيد»: قوله: دلكت براح يقول: غابت وهو ينظر إليها, وقد وضع كفه على حاجبه, ومنه قول «العجاج»: * أدفعها بالراح كى تزحلفا * قال: حدثناه «محمد بن يزيد الواسطى» و «يزيد بن هارون» كلاهما, عن «العوام» , عن «إبراهيم» مولى «صخير» , عن «أبى وائل». قوله: أقحز: يعنى أنزى.

يقال: قد قحز الرجل فهو يقحز: إذا قلق, وهو رجل قاحز, وقال «رؤبة»: * إذا تنزى قاحزات القحز * وقال «أبو كبير» يصف الطعنة: مستنة سنن الفلو مرشة ... تنفى التراب بقاحز معرورف وقال غيره: * هذا مقام قدمى رياح * * غدوة حتى دلكت براح *

قال: وفيه لغة أخرى, يقال: دلكت براح يا هذا, مثل قطام وحذام, ونزال غير منونة. [قال «الكسائى»: يقال: هذا يوم راح: إذا كان شديد الريح] ومن قال: دلوكها: ريغها, ودلوكها: دحضها, فهما أيضًا ميلهاز وقال «الكسائى» - فى غير حديث «أبى وائل» -: الدلوك: ميلها بعد نصف النهار. قال: حدثنيه «يحيى بن سعيد» , عن «عبيد الله» , عن «نافع» , عن «ابن عمر». قال «أبو عبيد»: وأصل الدلوك: أن تزول عن موضعها, فقد يكون هذا فى معنى قول «ابن عمر» وقول «أبى وائل» جميعًا. وفى هذا الحديث حجة لمن ذهب بالقرآن إلى كلام العرب, إذا لم يكن فيه حكم, ولا حلال [634] ولا حرام, ألا تراه يقول: وهو فى كلام العرب: دلكت براح.

وقد روى مثل هذا عن «ابن عباس». قال: حدثنى «يحيى» , عن «سفيان» , عن «إبراهيم بن مهاجر» , عن «مجاهد» , عن «ابن عباس» , قال: «كنت لا أدرى ما فاطر السموات حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر, فقال أحدهما: أنا فطرتها: يعنى أنا ابتداتها». قال: وحدثنا «هشيم» , عن «حصين» , عن «عبيد الله بن عبد الله بن عتبة» , عن «ابن عباس»: «أنه كان يسأل عن القرآن, فينشد فيه الشعر». 1000 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى وائل»: «مثل قراء هذا الزمان كمثل غنم ضوائن ذات صوف, عجاف أكلت من الحمض, وشربت من الماء حتى انتفجت, أو انتفخت - الشك من «أبى عبيد» - فمرت برجل, فأعجبته, فقام إليها, فغبط منها شاة, فإذا هى لا تتقى, ثم غبط منها أخرى, فإذا هى

لا تنقى, فقال: أف لك سائر اليوم». قال: حدثت بن عن «ابن المبارك» , عن «معمر» , عن «سليمان الأعمش» , عن «أبى وائل». قال «الأحمر»: قوله: غبط: يعنى جسها. يقال: غبطت الشاة أغبطها غبطًا: إذا أضجعتها, ثم لمست منها الموضع الذى يعرف به سمنها من الهزال. وقال بعضهم: فعبط - بالعين - فمن قال بالعين, فإنه أراد الذبح, يقال: اعتبطت الإبل والغنم: إذا ذبحت أو نحرت من غير داء, ولهذا قيل للدم الخالص: عبيط, والعبيط: الذى يذبح من غير علة.

حديث عمرو بن ميمون [الأودى رحمه الله]

حديث عمرو بن ميمون [الأودى رحمه الله] 1001 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمرو بن ميمون»: «لو أن رجلًا أخذ شاة عزوزًا, فحلبها, ما فرغ من حلبها حتى أصلى الصلوات الخمس». قال «أبو عبيد»: إنما أراد التجوز فى الصلاة. قوله: شاة عزوزًا: هى الضيقة الإحليل, يقال منه: قد عزت الشاة, وتعززت [635] إذا صارت كذلك. وأما الواسعة الإحليل, فإنها الثرورو وقد ثرت تثر, وتثر, ثرًا.

حديث أبى ميسرة [رحمه الله]

حديث أبى ميسرة [رحمه الله] 1002 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى ميسرة»: «لو رأيت رجلًا يرضع فسخرت منه خشيت أن أكون مثله». قال: حدثناه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «أبى إسحاق» , عن «أبى ميسرة». قوله: يرضع: يعنى أن يرضع الغنم من ضروعها, ولا يحلب اللبن فى الإناء, وكانت العرب تعير بهذا الفعل, ولهذا قيل للرجل: لئيم راضع: أى إنه يرضع الغنم من لؤمه, وإنما يفعل ذلك لئلا يسمع صوت الحلب, فيطلب منه اللبن.

حديث زيد بن صوحان [- رحمه الله -]

حديث زيد بن صوحان [- رحمه الله -] 1003 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «زيد بن صوحان» حين ارتث يوم الجمل, فقال: «ادفنونى فى ثيابى, ولا تحسوا عنى ترابًا». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «الشيبانى» , عن «المثنى بن بلال» , عن «أشياخه» , عن «زيد». قوله: ارتث: هو أن يحمل من المعركة به رمق, فإن احتمل ميتًا فليس بارتثاث, ولهذا قالت «الخنساء» حين خطبها «دريد بن الصمة» فقالت: «أتروننى كنت تاركة بنى عمى كأنهم عوالى الرماح, ومرتثة شيخ «بنى جشم»؟ : أى أنى كنت أريد حمله مثل المرتث من المعركة, تعنى كبر سنه. وقوله: ولا تحسوا عنى ترابًا: يقول: لا تنفضوه.

ومن هذا قيل: حسست الدابة أحسها: إنما هو نفضك التراب عنهاز والحس [636]- فى غير هذا -: القتل, قال الله - تبارك وتعالىى -: {إذ تحسونهم بإذنه}. ومنه الحديث الذى يروى عن بعض أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - أو عن بعض أصحابه -: «أنه أتى بجراد محسوس, فأكله»: يعنى الذى قد مسته النار: أى قتلته. وأما من الحس, فهو بالألف, يقال منه: ما أحسست فلانًا إحساسًا.

حديث عبد الرحمن بن يزيد [رحمه الله]

حديث عبد الرحمن بن يزيد [رحمه الله] 1004 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الرحمن بن يزيد» أخى «الأسود ابن يزيد النخعى» , وسئل: كيف يسلم على أهل الذمة؟ فقال: «قل: انداريم». قال: حدثناه «فضيل بن عياض» , عن «منصور» , عن «إبراهيم» أنه قال: سألت «عبد الرحمن بن يزيد» , ثم ذكر ذلك. قال «أبو عبيد»: هذه كلمة فارسية معناها آدخل, ولم يرد أن يخصهم بالاستئذان بالفارسية, ولكنهم كانوا قومًا من المجوس من الفرس, فأمره أن يسلم عليهم بلسانهم. والذى يراد من الحديث أنه لم يذكر السلام قبل الاستئذان, ألا ترى أنه لم يقل: السلام عليكم, اندرايم. وفى الحديث أيضًا أنه رأى ألا يدخل عليهم إلا بإذن.

حديث الأحنف بن قيس [رحمه الله]

حديث الأحنف بن قيس [رحمه الله] 1005 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الأحنف بن قيس» حين قدم على «عمر» فى وفد من أهل البصرة, فقضى حوائجهم, فقال «الأحنف»: «يا أمير المؤمنين إن أهل هذه الأمصار نزلوا فى مثل حدقة البعير من العيون العذاب تأتيهم فوكههم لم تخضد, وإنا نزلنا سبغة نشاشة, طرف لها بالفلاة, وطرف لها بالبحر الأجاج, يأتينا ما يأتينا فى مثل مرئ النعامة, فإن لم ترفع خسيستنا بعطاء تفضلنا به على سائر الأمصار نهلك». قال: حدثناه «أبو النضر» , عن «أبى سعيد [637] المؤدب» , عن «حمزة» - من ولد «أنس بن مالك» -, عن «عمر» و «الأحنف». قوله: مثل حدقة البعير من العيون العذاب: يعنى كثرة مياههم وخصبهم, وأن ذلك عندهم كثير دائم, وإنما شبهه بحدقة البعير, لأنه يقال:

إن المخ ليس يبقى فى شئ من جسد البعير بقاءه فى السلامى والعين, وهو فى العين أبقى منه في السلامى أيضًا, ولذلك قال الشاعر: * لا يشتكين عملًا ما أنقين * * ما دام مخ فى سلامى أو عين * والسلامى: عظام صغار تكون في فراسن الإبل, وقد تكون فى الناسز ومنه الحديث الآخر: «على كل إنسان فى كل سلامى صدقة, ويجزئ من ذلك ركعتا الضحى». والسلامى: كل عظم مجوف ممًا صغر من العظام, ولا يقال لمثل الظنبوب, والزند, وأشباه ذلك: سلامى, إنما يقال لمثل هذا: قصب. والسلاميات تكون فى الناس فى الأيدى والأرجل.

وأما قوله: تأتيهم فواكههم لم تخضد: يعنى لقربها منهم, فهى تأتيهم غصتم تذهب طراءتها فتنثنى, وتنخضد, يقال للعود إذا انثنى, وهو رطب من غير أن ينكسر, فيبين: قد انخضد, وقد خضدته أنا. قال «أبو عبيد»: هكذا سمعتها فى الحديث تخضد, ويروى: تخضد, وهى عندى أجود. وقوله: سبخة نشاشة: يعنى ما يظهر من ماء السباخ, فينش فيها حتى يعود ملحًا. وقوله: فى مثل مرئ النعامة: يعنى مجرى الطعام والشراب, وليس بالحلقوم هو, غيره أدق منه, وأضيق.

وإنما هذا مثل ضربه, يقول: ليس يأتينا شئ إلا ضيقًا نزرًا على نحو ما يدخل فى مرئ النعامة.

حديث صلة بن أشيم [رحمه الله]

حديث صلة بن أشيم [رحمه الله] 1006 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «صلة بن أشيم»: «طلبت الدنيا مظان حلالها فجعلت لا أصيب منها إلا قوتًا, أما أنا فلا أعيل فيها, وأما هى فلا [638] تجاوزنى, فلما رأيت ذلك قلت: أى نفس أجعل رزقك كفافًا, فاربعى, فربعت, ولم تكد». قال: حدثناه «ابن عليه» , عن «يونس» , عن «الحسن» , عن «أبى الصهباء, صلة بن أشيم». قوله: مظان حلالها: يعنى مواضع الحلال, يقال: موضع كذا وكذا مظنة

من فلان: أى معلم منه, وقال «النابغة»: * فإن مظنة الجهل الشباب * ويروى: السباب: أى موضعه, ومعدنه. وأما قوله: فلا أعيل فيها: لا أفتقر. وقال «الكسائى»: يقال: قد عال الرجل يعيل عيلة: إذا احتاج وافتقر, وقال الله - تبارك وتعالى: {وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله} قال: وإذا أراد أنه كثر عياله, قيل: أعال يعيل, وهو رجل معيل. وأما قوله [عز وجل] {ذلك أدنى ألا تعولوا} فليس من الأول ولا الثانى, يقال: معناه: لا تميلوا, ولا تجوروا. قال: حدثنيه «يحيى بن سعيد» , عن «يونس بن أبى إسحاق» , عن

«مجاهد». والعول أيضًا: عول الفريضة, وهى أن تزيد سهامها, فيدخل النقصان على أهل الفرائض, [قال «أبو عبيد»] وأظنه مأخوذًا من الميل, وذلك أن الفريضة إذا عالت فهى تميل على أهل الفريضة جميعًا, فتنتقصهم. وقوله: «كفافًا فار بعى» يقول: اقتصرى على هذا, وارضى به. يقال للرجل: قد ربع على المنزل: إذا أقام عليه, وفلان لا يربع على فلان: إذا لم يقم عليه.

حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير [رحمه الله]

حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير [رحمه الله] 1007 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مطرف بن عبد الله بن الشخير» [رحمه الله]: «وجدت هذ العبد [ملقى] بين الله وبين الشيطان, فإن استشلاه ربه نجا, وإن خلاه والشيطان هلك». قوله: استشلاه: أى استنقذه, وأصل الاستشلاء: الدعاء, ومنه قيل: استشليت الكلب وغيره: إذا دعوته, قال «حاتم» يذكر ناقة له, اسمها «المزاح» أنه دعاها باسمها, فقال [639]: أشليتها باسم المزاح فأقبلت ... رتكًا وكانت قبل ذلك ترسف

فأراد «مطرف»: إن أغاثه الله فدعاه وأنقذه من هلكته فقد نجا, فذلك الاستشلاء, قال «القطامى» يمدح رجلًا: قتلت بكرًا وكلبًا واشتليت بنا ... فقد أردت بأن تستجمع الوادى قوله: اشتليت بنا واستشليت سواء فى المعنى, وكل من دعوته حتى تخرجه من مكان أو موضع فقد اشتليته. 1008 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مطرف»: «أنه خرج من الطاعون, فقيل له فى ذلك, فقال: هو الموت نحايصه, ولابد منه». قوله: نحايصه: يقول: نروغ عنه. يقال منه: قد حاص يحيص حيصًا, ومنه قوله: {ما لهم من محيص} ومثله حديث «ابن عمر» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهم فى

سرية قال: «فحاص المسلمون حيصة» وبعضهم يرويه: «فجاض المسلمون جيضة» وهما فى المعنى سواء, وقال «القطامى» يذكر الإبل عند رحيلها, فقال: وترى لجيضتهن عند رحيلنا ... وهلا كان بهن جنة أولق 1009 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مطرف» حين قال لابنه لما اجتهد فى العبادة: «خير الأمور أوساطها, والحسنة بين السيئتين, وشر السير الحقحقة». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «إسحاق بن سويد» , عن «مطرف».

قال «الأصمعى»: قوله: الحسنة بين السيئتين: يعنى أن الغلو فى العبادة سيئة, والتقصير سيئة, والاقتصاد بينهما حسنة. وقوله: شر السير الحقحقة: هو أن يلح فى شدة السير حتى تقوم عليه راحلته, أو تعطب, فيبقى منقطعًا به, وهذا مثل ضربه للمجتهد فى العبادة حتى يحسر.

حديث صفوان بن محرز [رحمه الله]

حديث صفوان بن محرز [رحمه الله] 1010 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «صفوان بن محرز»: «إذا دخلت بيتى, فأكلت رغيفًا, وشربت ع ليه من الماء, فعلى الدنيا العفاء». قوله: العفاء - ممدود -: هو الدروس والهلاك, قال «زهير» يذكر دارًا: تحمل أهلها عنها فبانوا ... على آثار ماذهب العفاء وهذا كقولهم: عليه الديار. وإنما دعا عليه أن يدبر فلا يرجع.

حديث أبى العالية [رحمه الله]

حديث أبى العالية [رحمه الله] 1011 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى العالية»: «اشرب النبيذ, ولاتمزر». من حديث «جرير» , عن «عاصم» , عن «أبى العالية». قوله: ولا تمزر: التمزر: أن يشرب قليلًا قليلا, ليسكر, يقول: فإنما ينبغى له أن يشربه بمرة حتى يروى كما يشرب الماء. وقال «الأموى»: التمزر: هو التذوق والشرب القليل, وأنشدنا لراجز يصف الخمر:

* تكون بعد الحسو والتمزر * * فى فمه مثل عصير السكر * قال «أبو عبيد»: والتمزز شبيه المعنى بالتمزز, يقال: تززت الشئ: إذا تمصصته قليلًا قليلًا, وقال «الأعشى»: تمززتها غير مستدبر ... على الشرب أو منكر ما علم يريد: ما علمت, أى ما علم المستدبر, رد علم على المستبدر, واسم المصة منها المزة. ومنه قول «طاوس» , قال: حدثناه «ابن عيينة» , عن «ابن طاوس» , عن «أبيه». قال: «المزة الواحدة تحرم». قال «أبو عبيد»: يعنى فى الرضاع: أن يمص منه اليسير.

حديث أبى المنهال سيار بن سلامة [رحمه الله]

حديث أبى المنهال سيار بن سلامة [رحمه الله] 1012 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى المنهال سيار بن سلامة» قال: «بلغنى أن فى النار أودية فى ضحضاح, فى تلك الأودية حيات أمثال أجواز الإبل, وعقارب أمثال البغال الخنس, إذا سقط إليهن بعض أهل النار أنشأن به نشطًا ولسبًا». وهذا يروى عن «عوف» , عن «أبى المنهال». قوله: ضحضاح: أصل الضحضاح فى الماء إذا كان قليلًا رقيقًا, فشبه قلة النار به, ومنه الحديث الذى يروى فى «أبى طالب»: أنه فى ضحضاح [641] من نار يغلى دماغه. وقوله: أجواز الإبل: يعنى أوساطها, وجوز كل شئ: وسطه, قال «الأعشى»: فقد اقطع الجوز جوز الفلا ... ة بالحرة البازل العنسل يعنى وسط الفلاة.

وقوله: أنشأن به نشطًا ولسبًا: النشط للحيات [واللسب للعقارب]. قال «الأصمعى»: النشط هو اللسع بسرعة واختلاس, يقال منه: قد نشطته الحية وانتشطته, وكذلك كل شئ قد اختلسته فقد أنتشطته, ومنه قيل للإبل التى يمر بها القوم فى سفرهم من غير أن يكونوا قصدوا إليها, فيستاقونها: النشيطة, قال الشاعر: يمدح رجلًا: لك المر باع فيها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول قال «أبو عبيد»: وأما اللسب, فيقال منه: لسبته العقرب تلسبه لسبًا: إذا لدغته كذلك قالها «الكسائى». قال: ويقال - أيضًا: أبرته تأبره أبرًا, وإنما نرى أنه أخذها من الإبرة, ووكعت تكع وكعًا, كله واحد. وأما الخنس: فالقصار الأنف.

حديث خالد الربعى [رحمه الله]

حديث خالد الربعى [رحمه الله] 1013 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «خالد الربعى»: «أن رجلًا من عباد «بنى إسرائيل» أذنب ذنبًا, ثم تاب, فثقب تقروته, فجعل فيها سلسلة, ثم أوثقها إلى آسية من أواسى المسجد». يروى هذا عن «عوف» , عن «خالد الربعى». قوله: آسية, الآسية: السارية, وجمعها أواسى, وهى الأساطين, وقال «النابغة» فى الأسية: فإن تك قد ودعت غير مذمم ... أواسى ملك أثبتتها الأوائل

وهكذا يروى عن «عبد الله بن مسعود» [رحمه الله] حين ذكر أشراط الساعة: فقال: «وترمى الأرض بأفلاذ كبدها» قيل: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال هذه الأواسى من الذهب والفضة». هكذا هو فى حديث «عوف» , عن «رجل» , عن [642] «عبد الله بن مسعود». وهو فى حديث «مجالد» , عن «الشعبى» , عن «ثابت بن قطبة» , عن «عبد الله» [قوله]: «أمثال هذه السوارى» وهما سواء. وأما أفلاذ كبدها, فواحدهما فلذ, وهو الحزة من الكبد, ومنه قول «أعشى باهلة»: تكفيه حزة فلذ إن ألم بها ... من الشواء ويروى شريه الغمر [قال «أبو عبيد»]: فالذى أراد «عبد الله» بأفلاذ كبدها: كنوز الذهب والفضة جعلها كأنها أكباد الأرض, والحزة والفلذة: القطعة.

حديث عبد الله بن خباب [رحمه الله]

حديث عبد الله بن خباب [رحمه الله] 1014 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن خباب» حين قتلته الخوارج على شاطئ نهر, فسال دمه في الماء, قال: «فما امذقر». قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «سليمان بن المغيرة» , عن «حميد بن هلال». قال «الأصمعى»: الامذقرار: أن يجتمع الدم, ثم يتقطع قطعًا, ولا يختلط بالماء. يقول: فلم يك كذلك, ولكنه سال, وامتزج بالماء.

حديث يحيى بن يعمر [رحمه الله]

حديث يحيى بن يعمر [رحمه الله] 1015 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «يحيى بن يعمر»: «أى مال أديت زكاته فقد ذهبت أبلته». هذا يروى عن «يزيد بن إبراهيم التسترى» , عن «أبى هارون الغنوى» , عن «يحيى بن يعمر». هكذا يروى أبلته, ونرى أن الصحيح منه إنما هو وبلته, فأبدل بالواو الألف, وهذا كقولهم: أحد, وإنما هو وحد, والوبلة: هى شره, ومضرته, وأصلها فى الطعام, وهى وخامته ومضرته, وهى هاهنا فى المآثم, يقول: فإذا أديت زكاته, فليس هو حينئذ بكنز يخاف فيه التبعة.

حديث وهب بن منبه

حديث وهب بن منبه 1016 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «وهب بن منبه»: «لقد تأبل «آدم» [- صلى الله عليه -] على ابنه المقتول [643] كذا وكذا عامًا لا يصيب «حواء». قوله: تأبل: هو تفعل من الأبول, وهو أن تجزأ الوحوش عن الماء فلا تقربه. يقال منه: قد أبلت تأبل أبولًا, وجزأت تجزأ جزءًا, سواءً. [قال «أبو عبيد»]: فشبه امتناع «آدم» من غشيان «حواء» بامتناع الوحش من ورود الماء إذا أبلت.

حديث سعيد بن المسيب [رحمه الله]

حديث سعيد بن المسيب [رحمه الله] 1017 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سعيد بن المسيب» قال: «فى حريم البئر البدى خمس وعشرون ذراعًا, وفى القليب خمسون ذراعًا». قال: حدثنيه «أبو النضر» , عن «ليث بن سعد» , عن «ابن شهاب» , عن «ابن المسيب». قال «الأصمعى»: البدى: التى ابتدئت فحفرت. قال «أبو عبيد»: يعنى أنها حفرت فى الإسلام, وليست بعادية, وذلك أن يحتفر الرجل البئر فى الأرض الموات التى لا رب لها, يقول: فله خمس وعشرون ذراعًا حواليهما حريمًا لها, ليس لأحد [من الناس] أن يحتفر فى تلك الخمس والعشرين الذراع بئرًا, وإنما شبهت هذه البئر بالأرض التى يحييها الرجل, فيكون مالكًا لها بحديث «النبى» - صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا [ميتة] فهى له».

وأما قوله: فى القليب خمسون ذراعًا: فإن القليب: البئر العادية القديمة التى لا يعلم لها رب ولا حافر, تكون بالبرارى, فيقول: ليس لأحد أن ينزل على خمسين ذراعًا منها, وذلك, لأنها عامة للناس, فإذا نزلها نازل منع غيره, وهذا لحديث رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -]: «لا يمنع فضل الماء, ليمنع به فضل الكلأ» , وإنما معنى النزول ألا يتخذها أحد دارًا, ويقيم بها, فأما أن يكون عابر سبيل فلان. 1018 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سعيد بن المسيب» أنه قال لرجل: «انزل أشراء الحرم». والأشراء: النواحى, وواحدها شرى - مقصور - وهى الناحية, قال «القطامى»: [644] لعن الكواعب بعد يوم وصلتنى ... بشرى الفرات وبعد يوم الجوسق 1019 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سعيد بن المسيب»: «أن «ابن

حرملة» سأله فقال: قتلت قرادًا وحنظبًا, فقال: «تصدق بتمرة». قال: حدثنيه «يحيى» , عن «ابن حرملة» , أنه سأل «ابن المسيب» عن ذلك. قوله: حنظب: يعنى الذكر من الخنافس, قال «حسان»: وأمك سوداء مودونة ... كأن أناملها الحنظب

حديث عروة بن الزبير [رحمه الله]

حديث عروة بن الزبير [رحمه الله] 1020 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عروة بن الزبير» أنه كان يقول في تلبيته: «لبيك ربنا وحنانيك». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «هشام بن عروة» , عن «أبيه». [قوله: حنانيك] يريد رحمتك, والعرب تقول: حنانك يا رب, وحنانيك يا رب بمعنى واحد, وقال «امرؤ القيس»: ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان يريد: رحمتك يا رب, وقال «طرفة»: * حنانيك بعض الشر أهون من بعض *

وروى عن «عكرمة» أنه قال فى قوله [- عز وجل -]: {وحنانًا من لدنا} , قال: الرحمة. وروى عن «ابن عباس» أنه قال: لا أدرى ما هو. قال: حدثنى «حجاج» , عن «ابن جريج» , عن «عمرو بن دينار» , عن «عكرمة» , عن «ابن عباس» , أنه قال فى قوله [- تعالى -]: {أصحاب الكهف والرقيم} قال: لا أدرى ما الرقيم, أكتاب أم بنيان؟ وفى قوله [- عز وجل -]: {وحنانًا من لدنا} , قال: والله ما أدرى الحنان. وأماقوله: لبيك: فإن تفسير التلبية عند النحويين - وفيما يحكى عن «الخليل» - أنه كان يقول: أصلها من البيت بالمكان: أقمت به, فإذا دعا الرجل صاحبه, فقال: لبيك, فكأنه قال: أنا مقيم عندك, أنا معك, ثم وكد ذلك فقال: لبيك اللهم لبيك, يعنى إقامة بعد إقامة, هذا تفسير «الخليل» [645] 1021 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عروة»: أنه كانت تموت له البقرة,

فيأمر أن يتخذ من جلدها جباجب». قال: هذا يروى عن «هشام بن عروة» , عن «أبيه». قال «أبو زيد»: هى الزيل من الجلود, واحدتها جبحبة, ولا أعلم «أبا عمرو» إلا [وقد] قال مثل ذلك, ثم بلغنى عنه أنه قال: وأما الجبجبة فالكرش يجعل فيها اللحم المقطع, ولا أرى هذا من حديث «عروة» , لأن الميتة لا ينتفع بكرشها, إنما المعنى عندى على الجلد, قال الشاعر: إذا عرضت منها كهاة سمينة ... فلا تهد منها واتشق وتجبجب يقول: اتخذ منها وشائق وجباجب, والكهاة من الإبل: العظيمة السمينة.

وقوله: إذا عرضت منها: من العارضة, وهى التى يصيبها الداء, فتنحر. قال «الأصمعى»: يقول: بنو فلان يأكلون العوارض: يعنى أنهم لا ينحرون إلا من داء يصيب الإبل, يعيبهم بذلك, والعبيط: التى تنحر من غير علة. قال «أبو عبيد»: والوشيقة: أن تقطع الشاة أعضاء, ثم تغلى إعلاءةً ولا يبلغ بها النضج كله, ثم ترفع فى الأكراش والأوعية فى الأسفار, وغيرها, وهو الذى يقال له: الخلع. 1022 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عروة بن الزبير»: «ليمنك, لئن كنت ابتليت لقد عافيت, ولئن كنت أخذت لقد أبقيت». قال: حدثناه «أبو معاوية» , عن «هشام بن عروة» , عن «أبيه». قوله: ليمنك وأيمنك: إنما هى يمين حلف بها, وهذا كقولهم: يمين الله كانوا يحلفون بها, قال «امرؤ القيس»:

فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو ضربوا رأسى لديك وأوصالى فحلف بيمين الله, ثم يجمع اليمين أيمنا, كما قال «زهير»: فتجمع أيمن مناومنكم ... بمقمة تمور بها الدماء ثم يحلفون بأيمن الله, فيقولون: أيمن الله لا أفعل ذلك, وأيمنك [646] يا رب: إذا خاطب ربه, فعلى هذا قال «عروة»: «ليمنك, لئن كنت ابتليت لقد عافيت» , فهذا هو الأصل فى أيمن الله, ثم كثر هذا فى كلامهم, وخف على ألسنتهم, حتى حذفوا النون, كما حذفوا من قولهم: لم يكن, فقالوا: لم يك, وكذلك قالوا: أيمن الله لأفعلن ذاك, وأيم الله لأفعلن ذاك, وفيها لغات سوى هذا كثيرة. 1023 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عروة بن الزبير» حين ذكر «أحيحة بن الجلاح» , وقول أخواله فيه: كنا أهل ثمة ورمة, حتى استوى على

عممه هكذا يحدثونه: أهل ثمه ورمه - بالضم - ووجهه عندى: أهل ثمه ورمه - بالفتح - واثم: إصلاح الشئ وإحكامه. يقال منه: ثممت أثم ثما. والرم من المطعم, يقال: رممت أرم رمًا, ومنه سميت مرمة الشاة, لأنها بها تأكل, وقال «هيمان بن قحافة» يذكر الإبل والبانها: * حتى إذا ما قضت الحوائجا * * وملأت حلابها الخلانجا * * منها ومثوا الأوصب النواشجا *

أراد: أنهم شدوها وأحكموها. وقوله: استوى على عممه: أراد طوله واستواء شبابه, ومنه يقال للنبات إذا طال: قد اعتم, وبه سميت المرأة التامة القوام والخلق: عميمة.

حديث القاسم بن محمد بن أبى بكر [رحمه الله]

حديث القاسم بن محمد بن أبى بكر [رحمه الله] 1024 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «القاسم بن محمد»: «لاحد إلا فى القفو البين». قال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «محمد بن إسحاق» , عن «القاسم بن محمد». قوله: القفو: يعنى القذف. يقال منه: قفوت الرجل أقفوه. ومنه حديث «حسان بن عطية». قال: حدثنا «محمد بن كثير» , عن «الأوزاعى» , عن «حسان» , قال: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه وقفه الله فى ردغه الخبال حتى يجئ بالمخرج منه». ومنه الحديث المرفوع: «نحن بنو النضر بن كنانة لا ننتفى من أبينا, ولا نقفو

أمنا». ويروى عن امرأة من العرب أنه قيل لها: إن فلانًا قد هجاك, فقالت: ما قفا, ولا لصا تقول: لم يقذفنى. وقولها: لصا: هو مثل قفا, يقال منه: رجل لاص, قال «العجاج»: * إنى امرؤ عن جارتى غنى * * عف فلا لاص ولا ملصى * [647] يقول: لا قاذف ولا مقذوف.

فالذى أراد «القاسم» أنه لا حد على قاذف حتى يصرح بالزنا, وهذا قول يقوله «أهل العراق» , وأما «أهل الحجاز» فيرون الحد في التعريض, وكذلك يروى عن «عمرو» [- رضى الله عنه -]. قال: حدثنا «محمد بن كثير» , عن «الأوزاعى» , عن «الزهرى» , عن «سالم» , عن «أبيه» , عن «عمر»: أنه كان يضرب فى التعريض الحد. [وقول «عمر» أولى بالاتباع].

حديث سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب [رحمه الله]

حديث سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب [رحمه الله] 1025 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سالم بن عبد الله» قال: كنا نقول فى الحامل المتوفى عنها زوجها أنها «ينفق عليها من جميع المال حتى تبنتم ما تبنتم». قال: حدثناه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «حبيب بن أبى ثابت» , أنه سمع «سالم بن عبد الله» يقول ذلك. قال «عبد الرحمن»: أراها خلطتم. قال «أبو عبيدة»: هذا من التبانة والطبانة, ومعناهما [جميعا]: شدة الفطنة والدقة فى النظر, يقال منه: رجل تبن طبن: إذا كان فطنًا دقيق النظر فى الأمور. وقال «أبو عمرو» مثل ذلك. وقد تتابنت فى الشئ تتابنا. قال «أبو عبيد»: ومنه الحديث المرفوع: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة يتبن

فيها يهوى بها فى النار». [و] هو عندى إغماض الكلام فى الجدل, والخصومات فى الدين. ومنه حديث «معاذ بن جبل» [- رحمه الله -]: «إياك ومغمضات الأمور». فالذى أراد «سالم» أنه يقول: كنا نقول: كذا وكذا حتى أدققتم النظر, فقلتم غير ذلك. 1026 - وقال «أبو عبيد»: وأما قول «سالم» حين دخل على «هشام [بن عبد الملك»] فقال: «إنك تحسن الكدنة» فخرج من عنده, فحم, فقال: «لقعنى الأحول بعينه».

وأما قوله: [حسن] الكدنة: فإن الكدنة اللحم, يقال منه: امرأة ذات كدنة. قال: وأخبرنى «الأحمر» , عن «أبى الجراح» قال: «رأيت «مية» , فإذا امرأة ذات كدنة, فقلت: أنت التى كان يشبب بك «ذو الرمة»؟ فقالت: إنه - والله - كان خيرًا منك». وأما قوله: لقعنى الأحول بعينه: يعنى «هشامًا» ,] قول: أصابنى ما أصابنى منها. يقال: لقعت الرجل بالبعرة: إذا رميته بها, ويقال: لقعت الرجل بعنى: إذا أصبته بعين.

حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر [رحمه الله]

حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر [رحمه الله] 1027 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الله بن عبد الله بن عمر» أنه كان عند «الحجاج» فقال: ما ندمت على شئ ندمى على ألا أكون قتلت «ابن عمر». فقال «عبد الله بن عبد الله»: أما والله لو فعلت ذلك لكوسك الله فى النار, رأسك أسفلك». قال: حدثناه «معاذ» , عن «ابن عوف» , قال: سمعت رجلًا يحدث «محمد ابن سيرين» بذلك فى حديث فيه طول. قوله: لكوسك الله: يعنى: لكيك الله على رأسك. يقال: كوسته على رأسه تكويسًا: إذا قلبته, وقد كاس هو يكوس: إذا فعل

ذلك, قالت «عمرة» - أخت «العباس بن مرداس» وأمها «الخنساء» - ترثى [648] أخاها, وتذكر أنه كان يعرقب الإبل حتى تركب رؤوسها, فقالت: فظلت تكوس على أكرع ... ثلاث وغادرت أخرى خضيبا يعنى القائمة التى عرقب, وهى مخضبة بالدم.

حديث أبى سلمة بن عبد الرحمن [بن عوف] رحمه الله

حديث أبى سلمة بن عبد الرحمن [بن عوف] رحمه الله 1028 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى سلمة بن عبد الرحمن [بن عوف»]: «كنت أرى الرؤيا أعرى منها غير أنى لا أزمل, فلقيت «أبا قتادة» فذكرت ذلك له». قوله: أعرى منها: هو من العرواء, وهى الرعدة عند الحمى, يقال منه: قد عرى الرجل فهو معرو: إذا وجد ذلك, فإذا تثاءب عليها فهى الثؤباءو فإذا تمطى منها فهى المطواء فإذا عرق بعد ذلك فهى الرحضاء. ومنه الحديث المرفوع: «أنه جعل يمسح الرحضاء عن وجهه فى مرضه الذى مات فيه [- صلى الله عليه وسلم -] فإذا أصابته الحمى الشديدة قيل: أصابته البرحاء.

حديث عمر بن عبد العزيز بن مروان [رحمه الله]

حديث عمر بن عبد العزيز بن مروان [رحمه الله] 1029 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمر بن عبد العزيز» أنه سئل عن السنة في قص الشارب, فقال: «أن تقصه حتى يبدوا الإطار». قال: حدثناه «مروان بن معاوية» , عن «عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز» , عن «أبيه». قوله: الإطار: يعنى الحيد الشاخص مابين مقص الشارب وطرف الشفة المحيط بالفم, وكذلك كل شئ محيط بشئ, فهو إطار له, قال «بشر بن أبى خازم [الأسدى»]: وحل الحى حى بنى سبيع ... قراضبة ونحن لهم إطار أى محدقون بهم».

1030 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمر بن عبد العزيز» أنه خطب «بعرفات» فقال: «إنكم قد أنضيتم الظهر, وأرملتم, وليس السابق اليوم من سبق بعيره ولا فرسه, ولكن السابق من غفر له». قال: حدثناه «يحيى بن زكريا» , عن «يحيى بن سعيد» , عن «عمر بن عبد العزيز». قوله: انضيتم الظهر يقول: هزلتم [649] ظهركم, وهى الدواب, ويقال للناقة المهزولة: نضو, ونضوة, وجمعها أنضاء, وقد أنضيتها إنضاء, قال «الأعشى»: أنضيتها بعدما طال الهباب بها ... تؤم هوذة لا نكسًا ولا ورعا والإرمال: إنفاد الزاد. ومنه حديث «إبراهيم»: «إذا ساق الرجل هديًا فأرمل, فلا بأس أن يشرب

من لبن هديه». والإنفاض: مثل الإرمال, يقال: قد أنقض القوم. ومنه حديث «أبى هريرة»: «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى سفر فأرملنا وأنفضنا». ويقال: قد أقوى الرجل, وأقفر, وأوحش كل هذا من نفاد الزاد, مثل الإرمال, ويقال فى ذهاب المال: أصرم, وأعدم. 1031 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمر بن عبد العزيز»: «أنه رفع إليه رجل قال لرجل: إنك تبوكها, يعنى امرأة ذكرها, فأمبر بضربه, فجعل الرجل يقول: أأضرب فلاطا؟ ». قوله: تبوكها: كلمة أصلها فى ضراب البهائم, فرأى «عمر» ذلك قذفًا, وإن لم يكن صرح بالزنا, وهذه حجة لمن رأى الحد فى التعريض. وأما قول الرجل: أأضرب فلاطًا؟ فالفلاط: الفجأة, وهذه لغة «لهذيل» ,

تقول: لقيت فلانًا فلاطًا, قال: وأظن [أن] الرجل كان منهم, وإنما نرى الرجل قال ذلك, لأنه لم يدر أن الكلمة كانت قذفًا, فجعل يتعجب لم يضرب بغير ذنب؟ أى: إنه أمر نزل به فجأة. 1032 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمر بن عبد العزيز»: «أنه كتب إلى «ميمون بن مهران» فى مظالم كانت فى بيت المال أن يردها على أربابها, ويأخذ منها زكاة عامها, فغنه كان مالًا ضمارًا». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» , عن «ميمون بن مهران». قال: وحدثنيه «كثير بن هشام» , عن «جعفر بن برقان» , عن «ميمون». قوله: الضمار: هو الغائب الذى لا يرجى, فإذا رجى فليس بضمار, قال «الراعى»: طلبن مزاره فأصبن منه ... عطاء لم يكن عدة ضمارًا [650]

وفى هذا الحديث من الفقه: أنه لم ير على المال زكاةً إذا كان لا يرجى, وإن مرت عليه السنون, ألا تراه إنما قال له: خذ منها زكاة عامهاز 1033 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمر بن عبد العزيز» أنه كتب إليه فى امراة خلقاء تزوجها رجل, فكتب إليه: «إن كانوا علموا بذلك, فأغرمهم صداقها لزوجها - يعنى الذين زوجوها - وإن كانوا لم يعلموا, فليس عليهم إلا أن يحلفوا ما علموا بذلك». قال «أبو عبيد»: الخلقاء: هى مثل الرتقاء, وإنما سميت خلقاء, لأنها مصمت, ولهذا قيل للصخرة الملساء: خلقاء, أى: ليس فيها وصم ولا كسر, قال «الأعشى»: قد يترك الدهر فى خلقاء راسيةٍ ... وهيًا وينزل منها الأعصم الصدعا

1034 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عمر بن عبد العزيز» أنه ذكر الموت, فقال: «غنظ ليس كالغنظ, وكظ ليس كالكظ». قوله: غنظ: هو أشد الكرب, وكان «أبو عبيدة» يقول: هو أن يشرف الرجل على الموت من الكرب, ثم يفلت منه. يقال منه: غنظت الرجل أغنظه غنظًا: إذا بلغت به ذلك, وقال الشاعر: ولقد لقيت فوارسًا من رهطنا ... غنظوك غنظ جرادة العيار

حديث مجاهد [رحمه الله]

حديث مجاهد [رحمه الله] 1035 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مجاهد»: «أنه كان يكره أن يتزوج الرجل امرأة رابه, وأن «عطاء» و «طاوسا» كانا لا يريان بذلك بأسًا». قال: حدثناه «يحيى بن سعيد» , عن «سيف بن سليمان» , عن «مجاهد» و «عطاء» و «طاوس». قوله: امرأة رابه: يعنى امرأة زوج أمه, وهو الذى تسميه العامة الربيب, وإنما الربيب ابن امرأة الرجل, فهو ربيب لزوجها, وزوجها الراب له, وإنما قيل له راب, لأنه يريبه, ويربه, وهو الغذاء والتربية, وابن المرأة هو المربوب, فلهذا قيل له: ربيب, كما يقال للمقتلو: قتيل [651] وللمجروح جريح, وكان «عمر بن أبى سلمة» يسمى ربيب «النبى» - صلى الله عليه وسلم -:

لأنه ابن امرأته «أم سلمة» , وقال «معن بن أوس» - وذكر ضيعة له كان جاراه فيها «عمر بن أبى سلمة» و «عاصم بن عمر بن الخطاب» , فقال: فإن لها جارين لن يغدرا بها ... ربيب النبى وابن خير الخلائف يعنى «عمر بن أبى سلمة» و «عاصم بن عمر بن الخطاب». 1036 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مجاهد»: «ما أصاب الصائم شوى إلا الغيبة والكذب». قال: حدثنيه «يحيى بن سعيد» , عن «الأعمش» , عن «مجاهد». قال «يحيى»: الشوى: هو الشئ الهين اليسير. قال «أبو عبيد»: وهذا وجهه, وإياه أراد «مجاهد» , ولكن لهذا أصل, وذلك أن الشوى نفسه من الإنسان والبهيمة إنما هو الأطراف, قال الله - تبارك وتعالى -: {[كلا إنها لظى} نزاعة للشوى} وإنما أراد بهذا أن

الشوى ليس بالمقتل, لأنه الأطراف, فالذى أراد «مجاهد» أن كل شئ أصابه الصائم فهو شوى ليس يبطل صومه, فيكون كالقتل له, إلا الغيبة والكذب, فإنهما يبطلان الصوم, مثل الذى أصاب المقتل, فقتل. 1037 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مجاهد»: «يغدو الشيطان بقيروانه إلى السوق, فيفعل كذا وكذا». من حديث «ابن عيينة» , عن «ابن نجيح» , عن «مجاهد». قوله: قيروانه: يعنى أصحابه, وكل قافلة أو جيش فهو قيروان, قال «امرؤ القيس»: وغارة ذات قيروان ... كأن أسرابها الرعال قال «أبو عبيد»: وأظن الكلمة فى الأصل فارسية, لأن «فارس» تسمى القافلة «كاروان» فعربت.

1038 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مجاهد»: «أن الحرم حرم مناه من السماوات السبع والأراضين السبع, وأنه رابع أربعة عشر بيتًا, فى كل سماء بيت, وفى كل أرض بيت, لو سقطت لسقط بعضها [652] على بعض». قال: سمعت «يزيد بن هارون» يحدثه, عن «جرير بن حازم» , عن «حميد الأعرج» , عن «مجاهد». قوله: مناه: يعنى قصده وحذاءه, يقال: دارى منى دار فلان: أى مقابلتها, وهو حرف مقصور. 1039 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «مجاهد»: «أنه كان لا يرى بأسًا أن يتورك الرجل على رجله اليمنى فى الأرض المستحيلة فى الصلاة». قال: سمعت «محمد بن كثير» يحدثه, عن «الأوزاعى» , عن «واصل بن أبى جميل» , عن «مجاهد». قال «ابن كثير»: المستحيلة: التى ليست بمستوية. قال «أبو عبيد»: وإنما سماها مستحيلة, لأنها استحالت عن الاستواء إلى العوج, وأما التورك على اليمنى, فإنه وضع الورك عليها.

ومنه حديث «إبراهيم»: «أنه كان يكره التورك فى الصلاة»: يعنى وضع الأليتين أو إحداهما على الأرض.

حديث عكرمة مولى ابن عباس [رحمه الله]

حديث عكرمة مولى ابن عباس [رحمه الله] 1040 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عكرمة»: «أنه كره الكرع فى النهر». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «عمارة بن أبى حفصة» , عن «عكرمة». قال «أبو زيد» وغيره: الكرع: أن يشرب [الرجل] بفيه من النهر من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء وكل شئ شربت منه من إناء أو غيره, فقد كرعت فيه. وبعضهم يجعل الكرع: أن يدخل النهر دخولًا, ثم يشرب, يذهب به إلى الأكارع, يقول: حتى تصير أكارعه فيه, وقال «ابن الرقاع» يذكر راعيًا, ويصفه بالرفق برعاية الإبل, فقال:

يسنها آبل ما إن يجزئها ... جزءًا شديدًا وما إن ترتوى كرعا 1041 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عكرمة» أنه سئل عن أذاهب من بر, وأذاهب من شعير, فقال: «يضم بعضها إلى بعض ثم تزكى». من حديث «ابن المبارك» , عن «معمر». قوله: الأذاهب: واحدها ذهب, وهو مكيال «لأهل اليمن» معروف عندهم وجمعه أذهاب, ثم تجمع الأذهاب أذاهب [653] جمع الجمع.

حديث إبراهيم النخعى [رحمه الله]

حديث إبراهيم النخعى [رحمه الله] 1042 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم النخعى» قال: «إن كاتن الليلة لتطول على حتى ألقاهم, وإن كنت لأرسه فى نفسى, وأحدث به الخادم». قال: حدثناه «عبد الرحمن» , عن «سفيان» , عن «منصور» , عن «إبراهيم». قال «الأصمعى»: قوله: أرسه, الرس: ابتداء الشئ, ومنه قيل للرجل: هو يجد رس الحمى, ورسيسها, وذلك حين تبدأ, فأراد «إبراهيم» بقوله: أرسه فى نفسى: يعنى أبتدئ بذكر الحديث ودرسه فى نفسى, ويحدث به خادمه يستذكر بذلك الحديث, قال «ذو الرمة»:

إذا غير النأى المحبين لم أجد ... رسيس الهوى من ذكرمية يبرح 1043 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم»: «حكم اليتيم كما تحكم ولدك». قال: حدثنيه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «منصور» , عن «إبراهيم». قوله: حكمه, يقول: امنعه من الفساد, وأصلحه كما تصلح ولدك, وكما تمنعه من الفساد, وكل من منعته من شئ, فقد حكمته وأحكمته لغتان, وقال «جرير»: ابنى حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إنى أخاف عليكم أن أغضبا يقول: امنعوهم من التعرض لى, ونرى أن حكمة الدابة إنما سميت لهذا المعنى, لأنها تمنع الدابة من كثير من الجهل.

1044 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم» قال: «يكره الشرب من ثلمة الإناء ومن عروته, قال: ويقال: إنها كفل الشيطان». قال: حدثناه «على بن عاصم» , عن «حصين» , عن «إبراهيم». قال «أبو عمرو» و «الكسائى»: الكفل: أصله المركب, وهو أن يدار الكساء حول سنام البعير, ثم يركب, يقال منه: اكتفلت البعير, فأراد «إبراهيم» أن العروة والثلمة مركب الشيطان, كما أن الكفل مركب للناس. ومن هذا حديث [654] يروى مرفوعًا فى العاقد شعره فى الصلاة: «أنه كفل الشيطان». قال: حدثنيه «الواقدى» , عن «ابن جريح» , عن «المقبرى» , عن «أبيه» , عن «أبى رافع» , عن «النبى» - صلى الله عليه وسلم -.

والكفل أيضًا - فى غير هذا الموضع -: هو الذى لا يقدر على ركوب الدواب, ولا أرى قول «عبد الله» إلا من هذا, ليس من الأول. قال: حدثنا «محمد بن يزيد» , عن «العوام بن حوشب» , قال: بلغنى عن «ابن مسعود» , وذكر فتنة, فقال: «إنى كائن فيها كالكفل آخذ ما أعرف, وتارك ما أنكر». يقول: كالرجل الذى لا يقدر على الركوب ولا النهوض فى شئ, فهو لازم بيته, وجمع الكفل أكفال, قال «الأعشى» يمدح قومًا: غير ميل ولا عواوير في الهيـ ... ـجاولا عزل ولا أكفال والكفل أيضًا: ضعف الشئ, قال الله - عز ذكره -: {يؤتكم كفلين من رحمته}. ويقال: إنه النصيب, وذو الكفل من الكافلة. 1045 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم»: «إذا تطيبت المرأة,

ثم خرجت كان ذلك شنارًا فيه نار». قال: حدثناه «مروان بن شجاع» , عن «مغيرة» , عن «إبراهيم». قوله: «شنار»: هو العيب, والعار, ونحوه, قال «القطامى» يمدح الأمراء: ونحن رعية وهم دعاة ... ولولا سعيهم شنع الشنار قال «أبو عبيد»: وشنع. 1046 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم» قال: «كانوا يكرهون الطلب فى أكارع الأرض. يرويه بعضهم عن «مغيرة» , عن «إبراهيم». قوله: الطلب فى أكارع الأرض: يعنى طلب الرزق فى التجارة أو غيرها, وأكارع الأرض: أطرافها, وكذلك أكارع كل شئ أطرافه, ولهذا سميت أكارع

الشاة. والذى يراد من هذا الحديث أنهم كرهوا شدة الحرص فى طلب الدنيا, كما روى عن «مجاهد» أنه كان يكره ركوب البحر إلا فى غزو أو حج أو عمرة, إلا ويذهب إلى كراهة ركوب البحر لشئ من طلب الدنيا من تجارة أو غيرها. [655] 1047 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم» فى المحرم يعدو عليه السبع, أو اللص, قال: «أحل بمن حل بك». قال: حدثناه «هشيم» , عن «مغيرة» , عن «إبراهيم». وقد روى عن «الشعبى» مثله. يقول: من ترك الإحرام وأحل بك, فقاتلك, فأحلل أنت أيضًا, به وقاتله, ولا تجعل نفسك محرمًا عنه, ويدخل فى هذا السبع واللص وكل من عرض لك. 1048 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم» فيمن ذبح, فأبان

الرأس قال: «تلك القفينة لا بأس بها». قال: حدثناه «ابن أبى عدى» , و «غندر» , عن «شعبة» , عن «مغيرة» , عن «إبراهيم». قوله: القفينة, كان بعض الناس يرى أنها التى تذبح من القفا, وليست بتلك. ولكن القفينة التى يبان رأسها بالذبح, وإن كان من الحلق. قال «أبو عبيد»: ولعل المعنى أن يرجع إلى القفا, لأنه إذا أبان لم يكن له بد من أن يقطع القا, وقد قالوا: القفن فى موضع القفا, فزادوا النون, قال الراجز [لابنه]: * أحب منك موضع الوشحن * * وموضع الإزار والقفن *

1049 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم»: «المعتقب ضامن لما اعتقب». قال: حدثناه «جرير» , عن «منصور» , عن «إبراهيم». قوله: المعتقب: هو الرجل يبيع الرجل شيئًا, فلا ينقذه المشترى الثمن, فيأبى البائع أن يسلم إليه السلعة حتى ينقده, فتضيع السلعة عند البائع, يقول: فالضمان على البائع, إنما ماتت السلعة من ماله, وليس على المشترى من الثمن شئ. 1050 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم»: أنه كان لا يرى بأسًا بالصلاة في دمة الغنم». هكذا سمعت «الفزارى» يحدثه عن «إسماعيل بن أبى خالد» , عن «إبراهيم». قال «أبو عبيد»: وإنما هو فى الكلام دمنة بالنون, والدمنة: ما دمنت الإبل

والغنم وما سودت من آثار البعر والأبوال, وجمعها دمن. والدمن فى غير هذا: الذحل, وكلاهما كثير فى الشعر والكلام, ويقال له: المباءة أيضًا. ومنه الحديث عن «النبى» [- صلى الله عليه وسلم -] أنه قال له رجل: «أأصلى فى مباءة الغنم, قال: نعم». 1051 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم» فى الرجل يقول: إنه لم يجد امرأته عذراء [656] قال: «لا شئ عليه, لأن العذرة قد تذهبها الحيضة والوثبة, وطول التعنس» قال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «مغيرة» , عن «إبراهيم» و «يونس» , عن «الحسن».

قال «الأصمعى»: التعنس: أن تمكث الجارية فى بيت أبويها لا تزوج حتى تسن. يقال منه: قد عنست, فهى تعنس تعنيسًا. قال «أبو عبيد»: وقال غيره: عنست تعنس, فإن تزوجت مرة فلا يقال: عنست, إنما يقال ذلك قبل التزويج, فهى معنسى وعانس. والذى يراد من الحديث أنه ليس بينهما لعان, لأنه ليس بقاذف. 1052 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم» , فى الوضوء بالطرق, قال: «هو أحب إلى من التيمم». هو من حديث «جرير» وغيره, عن «مغيرة» , عن «إبراهيم».

قوله: الطرق: هو الماء الذى يكون فى الأرض, فتبول فيه الإبل, هو مستنقع, يقال له: طرق ومطروق, قال الشاعر: ثم كان المزاج ماء سحابٍ ... لا جو آجن ولا مطروق الجوى: المنتن المتغير. ومنه حديث «يأجوج» و «مأجوج»: «أنهم يموتون فتجوى الأرض منهم»: أى تنتن. والآجن: المتغير أيضًا, وهو دون الجوى في النتن, وهو الذى يروى فيه الحديث عن «الحسن» و «ابن سيرين» رخص فيه «الحسن» , وكرهه «ابن سيرين» , وقال «زهير» [فى الجوى]: يسأت بنيئها وجوبت منها ... وعندى لو أردت لها دواء

1053 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم»: «ليس فى الربائب صدقة». قال: حدثناه «هشيم» , عن «مغيرة» , عن «إبراهيم». قوله: الربائب: هى الغنم التى يربيها الناس فى البيوت لألبانها, وليست بسائمة, واحدتها ربيبة. ومنه حديث «عائشة» [- رحمها الله -]: «ما كان لنا طعام إلا الأسودان: التمر والماء, وكان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب, فكانوا يبعثون إلينا من ألبانها». 1054 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «إبراهيم» فى الرجل [الذى] يبيع الرجل ويشترط [657] الخلاص, قال: «له الشروى».

قال: حدثنيه «غندر» , عن «شعبة» , عن «مغيرة» , عن «إبراهيم». قوله: الشرورى: يعنى المثل, وشروى كل شئ: مثله.

حديث سعيد بن جبير [رحمه الله]

حديث سعيد بن جبير [رحمه الله] 1055 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سعيد بن جبير»: «ليس فى جمل ظعينة صدقة». الظعينة: كل بعير يركب, ويعتمل [عليه] , وهذا هو الأصل, وإنما سميت المرأة ظعينة به, لأنها تركبه, فيقال: ذهبت الظعينة, وأقبلت الظعينة, وهى راكبته. وكان إقبالها وإدبارها به, فسميت به, كما سميت المزادة راوية, وإنما الراوية البعير, ومما يبين أن الظعينة البعير قول الشاعر: تبين خليلى هل ترى من ظغائن ... لمية أمثال النخيل المخارف [مية: امرأة] , وقد علمنا أن النساء لا يشبهن بالنخيل, وإنما يشبه بالنخيل الإبل التى عليها الأحمال.

والذى يراد من هذا الحديث: أنه يقول ليس فى الإبل العوامل صدقة, إنما الصدقة فى السائمة, وهذا قول يقوله: «أهل العراق» وأما «أهل الحجاز» , فيرون عليها ما يرون على السائمة. 1056 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سعيد بن جبير»: «ما ازلحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلًا, لأن الله - تبارك وتعالى - يقول: {وأن تصبروا خير لكم} قال: حدثناه «هشيم» قال: أخبرنا «أبو بشر» , عن «سعيد بن جبير». قوله: ما ازلحف, يقول: ما تنحى عن ذاك, وما تزحزح عنه إلا قليلًا, وفيه لغتان: ازحلف وازلحف, مثل: جذب وجبذ, قال «العجاج»: * والشمس قد كادت تكون دنفا * * ادفعها بالراح كى تزحلفا * فبدأ بالحاء قبل اللام.

1057 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سعيد بن جبير» أنه سئل عن مكاتب [658] اشترط عليه أهله ألا يخرج من المصر, فقال: «أثقلتم ظهره, وجعلتم الأرض عليه حيص بيص». قال: حدثت به عن «شريك». قال «الكسائى» و «الأصمعى»: أحدهما: حيص بيص - بكسر الحاء والباء - والآخر حيص بيص - بفتحهما - والمعنى فيهما: التضييق عليه, يقال للرجل إذا وقع فى الأمر [الذى] لا يطيقه, ولا مخرج له منه,: وقع فى حيص بيص, وحيص بيص.

1058 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «سعيد بن جبير» فى الشيخ الكبير والمرأة اللهثى وصاحب العطاش: «إنهم يفطرون فى رمضان, ويطعمون». قال: حدثنيه «ابن مهدى» , عن «سفيان» , عن «ثابت الحداد» , عن «سعيد». قوله: اللهثى: يعنى المرأة التى لا تصبر على العطش, والرجل منها لهثان, والاسم من ذلك اللهث واللهاث, قال «الراعى»: حتى إذا برد السجال لهاثها ... وجعلن خلف غروضهن ثميلا يصف الإبل. ويقال منه: لهث يلهث [لهثًا] , وإنما أجزأهم الإطعام, لأنهم لا يزدادون إلا شدة حال, وأما المريض الذى يبرأ, فلا يجزئه إلا القضاء.

حديث [عامر] الشعبى [رحمه الله]

حديث [عامر] الشعبى [رحمه الله] 1059 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عامر الشعبى» حين سئل عن رجل قبل أم امرأته, فقال: «أعن صبوح ترقق؟ حرمت عليه امرأته». يروى هذا الحديث عن «سفيان» , عن «أبى عبد الله الشقرى» , عن «الشعبى». قوله: عن صبوح ترقق: هذا مثل يضرب للرجل يظهر شيئًا, وهو يعرض بغيره. قال: وأخبرنى «أبو زياد الكلابى» بأصل هذا أن رجلًا نزل بقوم, فأضافوه, وأكرموه ليلته, فجعل يقول: إذا كان غد, وأصبنا من الصبوح مضيت لحاجتى, ففعلت كذا وكذا, وإنما يريد بذلك أن يوجب الصبوح عليهم, ففطنوا له, فقالوا: [659] «أعن صبوح ترقق» , فذهبت مثلًا لكل من قال شيئًا وهو يريد غيره.

وقوله: ترقق: أى يرقق كلامه, ويحسنه. فوجه الحديث أن «الشعبى» اتهم الرجل الذى سأله عن تقبيل أم امرأته, وهو يريد أن يهون عليه, فغلظه «الشعبى» , وظن أنه يريد ما وراء ذلك. 1060 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الشعبى» أنه قال: «ما جاءك عن أصحاب «محمد» - صلى الله عليه وسلم - فخذه, ودع ما يقول هؤلاء الصعافقة». أحسبه من حديث «ابن علية». قال «الأصمعى»: الصافقة: قوم يحضرون السوق للتجارة, ولا نقد معهم, وليست لهم رؤوس أموال, فإذا اشترى التجار شيئًا دخلوا معهم فيه, والواحد منهم صعفقى, وقال غير «الأصمعى»: صعفق, وكذلك كل من لم يكن له رأس مال فى شئ, وجمعهم صعافقة, وصعافيق, قال «أبو النجم»: * يوم قدرنا والعزيز من قدر * * وآبت الخيل وقضينا الوطر *

* من الصعافيق وأدركنا المئر* أراد بالصعافيق أنهم ضعفاء, ليست لهم شجاعة ولا قوة على قتالنا, وكذلك أراد «الشعبى» أن هؤلاء ليس عندهم فقه ولا علم بمنزلة أولئك التجار الذين ليس لهم رؤوس أموال. 1061 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الشعبى» أنه سئل عن رجل لطم عين رجل, فشرقت بالدم, ولما يذهب صوءها, فقال «الشعبى»: لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ... بأخفافها مأوى تبوأً مضجعا قال: بلغنى هذا الحديث عن «ابن عيينة». قال «أبو عبيد»: لم يزد «الشعبى» على هذا البيت, وهذا شعر «للراعى» يصف فيه الإبل, وراعيها, فقال: لها أمرها, يقول: للإبل أمرها فى المرعى,

يقول: إن الراعى يهملها فيه, ولا يحبسها عن شئ تريده, فهى تتبع ما تشتهى حتى إذا صارت إلى الموضع الذى يعجبها أقامت فيه, فإذا فعلت ذلك ألقى حينئذ عصاه, واضطجع, وهذا مثل ضربة «الشعبى» للعين المضروبة [660] يقول: إنها تهمل كما أهملت هذه الإبل, ولا يحكم فيها بشئ حتى تأتى على آخر أمرها: إما برء, وإما ذهاب, فإذا فعلت ذلك حكم حينئذ عليه فيها بقدر ما حدث, كما فعل هذا الراعى حتى أقامت الإبل قضى أمره وأقام معها واضطجع. 1062 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الشعبى»: «لا تعقل العاقلة عمدًا, ولا عبدًا, ولا صلحًا, ولا اعترافًا». قال: حدثناه «عبد الله بن إدريس» , عن «مطرف» , عن «الشعبى». قوله: عمدًا: يعنى أن كل جناية عمد ليست بخطأ, فإنها فى مال الجانى خاصة.

وكذلك الصلح: ما اصطلحوا عليه من الجنايات فى الخطأ, فهو أيضًا فى مال الجانى. وكذلك الاعتراف إذا اعترف الرجل بالجناية من غير بينة تقوم عليه, فإنها فى ماله, وإن ادعى أنها خطأ, لأنه لا يصدق الرجل على العاقلة. وأما قوله: ولا عبدًا, فإن الناس قد اختلفوا فى تأويل هذا, فقال لى «محمد بن الحسن»: إنما معناه أن يقتل العبد حسرًا, يقول: فليس على عاقلة مولاه شئ من جناية عبده, إنما جنايته فى رقبته أن يدفعه [مولاه] إلى المجنى عليه, أو يفديه, واحتج فى ذلك بشئ رواه عن «ابن عباس». قال «محمد بن الحسن»: حدثنى «عبد الرحمن بن أبى الزناد» , عن «أبيه» ,عن «عبيد الله بن عبد الله» , عن «ابن عباس» قال: «لا تعقل العاقلة عمدًا, ولا صلحًا, ولا اعترافًا, ولا ما جنى المملوك». قال «محمد»: أفلا ترى أنه قد جعل الجناية جناية المملوك؟ وهذا فى قول «أبى حنيفة».

وقال «ابن أبى ليلى»: إنما معناه أن يكون العبد يجنى عليه, يقتله حر أو يجرحه, يقول: فليس على عاقلة الجانى شئ, إنما ثمنه فى ماله خاصة. قال: فذاكرت «الأصمعى» ذلك, فإذا هو يرى القول فيه قول «ابن أبى ليلى» على كلام العرب, ولا يرى قول «أبى حنيفة» جائزًا, يذهب إلى أنه لو كان المعنى على ما قال لكان الكلام: لا تعقل العاقلة عن عبد [ولم يكن] , ولا تعقل عبدًا, وهو عندى كما قال «ابن أبى ليلى» [661] , وعليه كلام العرب. 1063 - وقال «أبو عبيد» في حيث [«عامر] الشعبى»: «يعتصر

الوالد على ولده فى ماله». يحدثه «ابن إدريس» , عن «إسماعيل بن أبى خالد» , عن «الشعبى». قوله: يعتصر, يقول: له أن يحبسه عنه, ويمنعه إياه, وكل شئ حبسته, ومنعته, فقد اعتصرته, قال «ابن أحمر»: وإنما العيش بريانه ... وأنت من أفنانه معتصر قال «أبو عبيد»: ويروى: مفتقر. ويقال: عصرت الشئ أعصره من هذا, قال «طرفة»: لو كان فى أملاكنا أحد ... يعصر فينا كالذى تعصر 1064 - وقال «أبو عبيد» فى حديث [«عامر] الشعبى»: أنه كره أن

يسف الرجل النظر إلى أمه وابنته وأخته». قال: الإسفاف: شدة النظر, وحدته, وكل شئ لزم شيئًا أو لصق به, فهو مسف, قال «عبيد» يذكر سحابًا قد تدلى حتى لصق بالأرض أو قرب منها: دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح

حديث الحسن البصرى [رحمه الله]

حديث الحسن البصرى [رحمه الله] 1065 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن» حين سئل عن القئ يذرع الصائم, فقال: هل راع منه شئ؟ فقال له السائل: ما أدرى ما تقول؟ فقال: هل عاد منه شئ». وكذلك القول فيه, يقال منه: راع الشئ يريع ريعًا. 1066 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن» فى إطعام المساكين لكفارة اليمين, قال: «يطعمهم وجبة واحدة».

قال: حدثناه «هشيم» , عن «يونس» و «منصور» , عن «الحسن». قال «الكسائى»: الوجبة: الأكلة الواحدة, يقال: فلان يأكل فى اليوم وجبة: إذا كانت له أكلة, قال «الكسائى»: وكذلك يقال: هل يأكل وزمة. قال «الأصمعى»: يقال من الوجبة: قد وجب الرجل على [662] نفسه الطعام: إذا جعل لنفسه أكلة فى اليوم. 1067 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن»: «لأن أعلم أنى برئ من النفاق أحب إلى من طلاع الأرض ذهبًا». قال «الأصمعى»: طلاع الأرض: ملؤها, يقال: قوس طلاع الكف: إذا كان عجسها يملأ الكف, وقال «أوس بن حجر» يصف قوسًا: كتوم طلاع الكف لا دون ملئها ... ولا عجسها عن موضع الكف أفضلا قال «أبو عبيد»: وأحسب الطلاع إنما هو أن يطالع الشئ الشئ, ليساويه, فجعل ملء الأرض يساوى أعلاها, وكذلك ما أشبهه. 1068 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن»: «لا بأس أن يسطو الرجل

على المرأة». قال: حدثناه «عباد بن عباد» , عن «هشام» , عن «الحسن». قال «عباد» , وقال «هشام»: وذلك إذا خيف عليها, ولم توجد امرأة تعالج ذلك منها, هذا وما أشبهه من الكلام. قال «أبو عبيد»: السطو: أن يدخل [الرجل] يده فى رحمها, فيستخرج الولد إذا نشب فى بطنها ميتًا, وقد يفعلون ذلك بالناقة, وربما أخرجوا الجنين مقطعًا. يقال منه: سطوت أسطو سطوًا. قال «أبو عبيد»: والسطو فى غير هذا: أن يسطو الرجل على غيره بالضرب والشتم والإساءة, يقال: سطوت عليه, وبه, قال الله [تبارك وتعالى]: {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا}

1069 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن»: «إذا استغرب الرجل ضحكًا فى الصلاة أعاد الصلاة». كان «أبو عمرو» , و «الأصمعى» يقول أحدهما: الاستغراب: هو القهقهة, وقال الآخر: هو الإكثار من الضحك. وكان «أبو عبيدة» يقول: أغرب الرجل ضحكًا, وأنشد بيت «ذى الرمة»: فما يغربون الشحك إلا تبسما ... ولا ينبسون القول إلا تخافيا [663] 1070 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن»: «ما من أحد عمل لله [عز وجل] عملًا إلا سار فى قلبه سورتان, فإذا كانت الأولى منهما لله فلا تهيدنه الآخرة». قال: سمعت «ابن عدى» يحدثه, عن «عوف» , عن «الحسن».

قوله: لا تهيدنه, يقول: لا تصرفنه عن ذاك, ولا تزيلنه. يقال منه: هدت الرجل أهيده هيدًا وهادًا: إذا زجرته عن الشئ, وصرفته عنه, وأنشدنى «الأحمر»: حتى استقامت له الآفاق طائعة ... فما يقال له هيد ولا هاد قوله: هيد ولا هاد: خفض فى موضع الرفع, وهذا على الحكاية, كقولك: مه, وصه, وغاق, ونحوه, وقد يروى بالرفع, وهو جائز, ومعناه أنه لا يمنع من شئ. ونرى أن حديث «النبى «- صلى الله عليه وسلم - من هذا حين قيل له فى المسجد: يا رسول الله هذه. فقال: «بل عرش كعرش موسى».

كان «سفيان بن عيينة» - فيما بلغنى عنه - يقول: معنى هده: أصحله. ومعنى هذا الحديث كما قال «سفيان» , ولكنه إصلاح بعد هدم الأول, فإنما هذه: أزل هذا عن موضعه, وابن غيره. والذى أراد «الحسن» بقوله: فلا تهيدنه الآخرة, يقول: إذا صحت نيته فى أول ما يريد *** من البر, فعرض له الشيطان, فقال: إنك تريد بهذا الرياء, فلا يمنعه ذلك من الأمر الذى قد تقدمت فيه نيته, وهذا شبيه بالحديث الآخر: «إذا أتاك الشيطان, وأنت تصلى, فقال: إنك ترائى, فزدها طولًا». 1071 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن» و «عبد الله بن شقيق العقيلى» حين ذكرا حديث «إبراهيم» النبى - صلى الله عليه - فقالا: «يأتيه أبوه يوم القيامة, فيسأله أن يشفع له, فيقول: خذ بحجزتى, فيأخذ [664] بحجزته, فتحين من «إبراهيم» - عليه السلام - التفاته إليه, فإذا هو بضبعان أمدر, فينتزع حجزته من يده, ويقول: ما أنت بأبى». قوله: ضبعان: هو الذكر من الضباع وهو الذبح أيضًا, ولا يقال للذكر ضبع,

إنما الضبع الأنثى خاصة. وقوله: أمدر, يقول: هو المنتفخ الجنين, العظيم البطن, قال «الراعى» يصف إبلاً لها قيم: وقيم أمدر الجنين منخرق ... عنه العباءة قوام على الهمل [أمدر الجنين: يعنى عظيمهما] ويقال الأمدر: الذى قد تترب جنباه من المدر, يذهب به إلى التراب: أى أصاب جسده التراب. وقال بعضهم: الأمدر: الكثير الرجيع الذى لا يقدر على حبسه, وقد يستقيم أن يكون المعنيان جميعًا فى ذلك الضيعان. 1072 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن»: «ما تشاء أن ترى أحدهم أبيض بضًا يملخ فى الباطل ملخصا, ينفض مذرويه, يقول: هانذا فارعرفونى». يروى ذلك - فيما أعلم - عن «أبى بكر الهذلى» , عن «الحسن».

قال «الأصمعى»: البض: الرخص الجدس, وليس هذا من البياض خاصة, ولكن من الرخاصة إن كان آدم أو أبيض, وكذلك المراة بضة. وأما قوله: يملخ: فإن الملخ: التثنى والتكسر, يقال: ملخ الفرس وغيره: إذا لعب. قال «رؤبة» يصف الحمار: * معتز التجليح ملأخ الملق * والملخ: أن ينتزع الشئ من موضعه انتزاعًا سهلًا. قال «الأصمعى»: ويقال منه: امتلخت اللجام من رأس الدابة: إذا نزعته منه نزعًا سهلًا. وأما المذروان: فإنهما فرعًا الأليتين, قال «عنترة»:

أنحوى تنفض استك مذرويها ... لتقتلنى فهأنذا عمارًا 1072 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن»: «المجالس ثلاثة: فسالم, وغانم, وشاجب».

[665] فالسالم: الذى لم يغنم شيئًا, ولم يأثم, والغانم: الذى قد غنم من الأجر, والشاجب: الآثم الهالك. يقال منه: قد شجب الرجل يشجب شجبًا وشجوبًا: إذا عطب وهلك فى دين أو دنيا, وفيه لغة أخرى: شجب يشجب شجبًا, وهذه أجود اللغتين, وأكثرهما, ومنه: قلت قلتا, ووتغ وتغًا, وتغب تغبًا, كله: إذا هلك, قالها «الكسائى» , وقال «الكميت»: ليلك ذا ليلك الطويل كما ... عالج تبريح غله الشجب وقد روى هذا الحديث عن غير «الحسن» , قال: سمعت «أبا النضر» يحدثه, عن «شيبان» , عن «آدم بن على» , قال: «سمعت أخا «بلال» - مؤذن النبى, صلى الله عليه وسلم - يقول: «الناس ثلاثة أثلاث: فسالم, وغانم, وشاجب, فالسالم: الساكت, والغانم: الذى يأمر بالخير, وينهى عن المنكر, والشاجب: الناطق بالخنا, والمعين على الظلم». هكذا فى الحديث, والتفسير الأول يرجع إلى هذا.

1074 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن»: «إذا كان الرجل أعزل فلا بأس أن يأخذ من سلاح الغنيمة, فيقاتل به, فإذا فرغ منه رده» ز قال: حدثناه «هشيم» , عن «أبى الأشهب» , عن «الحسن». قوله: أعزل: هو الذى لا سلاح معه. ومنه الحديث الذى يروى عن «الشعبى»: «أن زينب لما أجارت «أبا العاص» خرج الناس إليه عزلًا». وفى هذا الحديث من الفقه أنه رخص فى الانتفاع بالغنيمة عند موضع الضرورة إلى ذلك, وقد روى عن «عبد الله» أنه لما انتهى إلى «أبى جهل» وهو مثبت, قال: ضربته بسيفى فلم يعمل, فأخذت سيفه, فأجهزت عليه. [666] 1075 - وقال «أبو عبيد» في حديث «الحسن» فى الرجل يجامع المرأة, والأخرى تسمع, قال: «كانوا يكرهون الوجس». قال: حدثناه «عباد بن العوام» , عن «غالب القطان» , عن «الحسن».

الوجس: هو الصوت الخفى, وقد روى فى مثل هذا من الكراهة ما هو أشد منه, وهو فى بعض الحديث: «حتى الصبى فى المهد». وأما حديث «ابن عباس»: «أنه كان ينام بين جاريتين». قال [«أبو عبيد»]: سمعت «عباد بن العوام» يحدثه, عن «أبى شيبة» قال: سمعت «عكرمة» يحدثه, عن «ابن عباس» أنه كان ينام بين جاريتين. فإنما هذا عندى إنما هو على النوم, وليس على الجماع. 1076 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن» أنه سئل: «أيدالك الرجل المرأة؟ فقال: نعم, إذا كان ملفجا». قوله: يدالك, يعنى المطل بالمهر, وكل مماطل, فهو مدالك, والملفج:

المعدم الذى لا شئ له, يقال: قد الفج إلفاجًا, قال «رؤبة» يمدح قومًا: * أحسابكم فى العسرو الإلفاج * * شيبت يعذب طيب المزاج * والإصرام مثل الإلفاج, إلا أنه يقال منه مصرم, وكذلك: المزهد, والمحوج, والمعدم. 1077 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحسن»: «حادثوا هذه القلوب بذكر الله, فإنها سريعة الدثور, واقدعوا هذه الأنفس, فإنها طلعة». يروى عن «المبارك بن فضالة» , عن «الحسن» ز قوله: سريعة الدثور: يعنى دروس ذكر الله - تبارك وتعالى - منها, يقال

للمنزل وغيره إذا عفا دورس: قد دثر, فهو داثر, قال «ذو الرمة»: * أشاقتك أخلاق الرسوم الدواثر * وهو كثير فى الشعر. والدثور فى غير هذا: كثرة الأموال, واحدها دثر, يقال: هم أهل دثر ودثور, ومنه الحديث [667] الآخر حين قيل: يا رسول الله: ذهب أهل الدثور بالأجور وواحد الدثور دثر. وقوله: اقدعوها: يعنى كفوها وامنعوها, كما تقدع الدابة باللجام إذا كبحتها, قاله «الكسائى». وقوله: فإنها طلعة. هكذا الحديث, وقال «الأصمعى»: طلعة, وحكى عن بعض الماضين - وأحسبه «الزبرقان بن بدر» - أنه قال: أبغض

كنائنى إلى الطلعة الخبأة: يعنى التى تكثر الاطلاع والاختباء. والذى أراد «الحسن» أن النفوس تطلع إلى هواها, وتشتهيه حتى تردى صاحبها, يقول: فامنعوها من ذلك.

حديث محمد بن سيرين [رحمه الله]

حديث محمد بن سيرين [رحمه الله] 1078 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «محمد بن سيرين»: «كانوا لا يرصدون الثمار فى الدين, وينبغى أن يرصدوا العين فى الدين». من حديث «ابن المبارك» , قال: بلغنى عنه, عن «طلحة بن النضر» , قال: سمعت «ابن سيرين» يقول ذلك. [قال] فسره «ابن المبارك» أنه [أراد]: إذا كان على الرجل الدين وعنده من العين مثله, لم تجب عليه الزكاة, لأن ذلك الدين يكون قصاصًا بالعين, وإن كان عليه دين, وله ثمار مما تخرج الأرض التى عليها العشر, فإن ذلك الدين الذى عليه لا يكون قصاصًا بالعين ولكن يؤخذ منه عشر أرضه, لأن حكم الأرضين غير حكم الأموال, فهذا الذى أراد «ابن سيرين» ,

وقد كان غيره يفتى بغير هذا,] قول: لا تكون عليه زكاة فى أرضه أيضًا إذا كان عليه دين يقدر ذلك. 1079 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «ابن سيرين» أنه قال: «النقاب محدث». قال: حدثناه «هشيم» , عن «منصور» , عن «ابن سيرين». وهذا حديث قد تأوله بعض الناس على غير وجهه, يقول: إن النقاب لم يكن النساء يفعلنه [ولكن] كن يبرزن وجوههن, وليس هذا وجه الحديث, ولكن النقاب عند العرب هو الذى يبدو منه المحجر فإذا كان على طرف [668] الأنف, فهو اللفام, فإذا كان على الفم, فهو اللثام, ولهذا قيل: فلان يلثم فلانًا: إذا قبله على فمهز فالذى أراد «محمد» فيما نرى - والله أعلم - يقول: إن إبداءهن المحاجر محدث, إنما كان النقاب لاحقًا بالعين, أو أن تبدو إحدى

العينين والأخرى مستورة, عرفنا ذلك بحديث يحدثه «محمد» عن «عبيدة» أنه سأله عن قوله [- عز وعلا -]: {يدنين عليهن من جلابيبهن} قال: فقنع رأسه, وغطى وجهه, وأخرج إحدى عينيه, وقال: هكذا, فإذا كان النقاب لا يبدو منه إلا العينان قط, فذلك الوصوصة, واسم ذلك الشئ وصواص, وهو الثوب الذى يغطى به الوجه, قال الشاعر: * يا ليتها قد لبست وصواصًا * قال: وإنما قال «محمد» هذا, لأن الوصاوص والبراقع كانت لباس النساء, ثم أحدثن النقاب بعد. قال «أبو زيد»: تميم تقول: تلثمت على الفم, وغيرهم يقولون: تلفمت.

1080 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «ابن سيرين» أنه قال: لم يكن «على» [- رضى الله عنه -] يطن فى قتل «عثمان» [رضى الله عنه] , وكان الذى يطن فى قتله غيره, قال: فقيل له: فمن هو؟ قال: عمدًا أسكت عنه. قال: حدثنيه «إسحاق الأزرق» , عن «عوف» , عن «ابن سيرين» قوله: يطن: يقول: يتهم, وأصله من الظن, إنما هو يفتعل منه, يطتن, فثقلت الظاء مع التاء, فقلبت طاء, وقال الشاعر: وما كل من يطننى أنا معتب ... ولا كل ما يروى على أقول ومنه قول «زهير»:

هو الجواد الذى يعطيك نائله ... عفوًا ويظلم أحيانًا فيطلم إنما هوفيظتلم, و «أبو عبيدة» يرويها: فينظلم. 1081 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «ابن سيرين» قال: «لما ركب «نوح» [عليه السلام] السفينة حمل فيها من كل زوجين اثنين فلما أرفأت السفينة فقد حبلتين [669] كانتا مه, فقال له الملك [الذى كان معه]: ذهب بهما الشيطان». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «أيوب» و «هشام» , عن «ابن سيرين» فى حديث فيه طول. قوله: حبلتين: يعنى قضيبين من قضبان الكرم, يقال له: الحبلة والجفنة, وجمع الجفنة: جفن.

وقوله: أرفأت: هكذا يروى فى الحديث, وإعرابها عندنا أرفئت, يقال: قد أرفأت أنا السفينة أرفئها إرفاء. 1082 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «ابن سيرين»: «أن بنى إسرائيل كانوا يجدون «محمدًا» [- صلى الله عليه وسلم -] مبعوثًا عندهم, وأنه يخرج من بعض هذه القرى العربية, فكانوا يقتفرون الأثر فى كل قرية حتى أتوا يثرب, فنزل بها طائفة منهم». هذا يروى عن «عوف» , عن «ابن سيرين». قوله: يقتفرون الأثر: يتتبعون الآثار, ويطلبونها, وكل طالب أثر فهو مفتقر, ومنها يقال للقائف: هو يقتفر الأثر, وقال «ابن أحمر»: وإنما العيش بريانه ... وأنت من أفنانه مقتفر قال «أبو عبيد»: ويروى: معتصر.

حديث أبى قلابة [رحمه لله]

حديث أبى قلابة [رحمه لله] 1083 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى قلابة» , عن رجل من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم -: «كنا نتوضأ مما غيرت النار, وتمصمص من اللبن, ولا نمصمص من الثمرة». قال: حدثنيه «حجاج» , عن «حماد بن سلمة» , عن «أيوب» , عن «أبى قلابة» , عن رجل من الصحابة. قوله: نمصمص: المصمصة بطرف اللسان, وهى دون المضمضة, والمضمضة بالفم كله, وفرق ما بينهما شبيه بفرق ما بين القبضة والقبضة, فإن القبضة بالكف كلها, والقبضة بأطراف الأصابع, وكان «الحسن» يقرأ: {فقبصت قبصة}

1084 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «أبى قلابة» حين قال «لخالد الحذاء» وقدم من «مكة»: «بر العمل». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «خالد الحذاء» , قال: قدمت من «مكة» فلقينى «أبو قلابة» فقال لى: «بر العمل». قوله: بر العمل: إنما هو دعاء له بالبر, يقول: بر الله عملك: أى جعل حجك مبرورا, والمبرور: إنما هو مأخوذ من [670] البرك يعنى ألا يخالطه غيره من الأعمال التى فيها المآثم, وكذلك غير الحج أيضًا. ومنه الحديث المرفوع, قال: حدثناه «أبو معاوية» , و «مروان بن معاوية» كلاهما عن «وائل بن داود» , عن «سعيد بن عمير» , قال: سئل النبى - صلى الله عليه وسلم -: أى الكسب أفضل؟ فقال: عمل الرجل بيده, وكل بيع مبرور». قال «أبو عبيد»: فجعل النبى - صلى الله عليه وسلم - البر فى البيع: يعنى ألا يخالطه كذب, ولا شئ من المآثم.

حديث عطاء بن أبى رباح [رحمه الله]

حديث عطاء بن أبى رباح [رحمه الله] 1085 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عطاء» فى الوطواط يصيبه المحرم, قال: «ثلثا درهم». من حديث «ابن جريح» , عن «عطاء». قال «الأصمعى»: قوله: الوطواط - هاهنا - هو الخفاش, ويقال: إنه الخطاف, وهذا أشبه القولين عندى بالصواب, لحديث «عائشة» [- رحمها الله -]. قال: سمعت «إسحاق الرازى» يحدث عن «حنظلة بن أبى سفيان» , عن «القاسم بن محمد» , عن «عائشة» قالت: لما أحرق «بيت المقدرس» كانت الأوزاغ تنفخه بأفواهها, وكانت الوطاوط تطفئه بأجنحتها».

قال «أبو عبيد»: فهذه هى الخطاطيف, وقد يقال للرجل الضعيف: الوطواط, ولا أراه سمى بذلك إلا تشبيهًا بالطائر. وأما الأوزاغ: فهى التي أمر بقتلها, وواحدها وزغ, وهو الذى يقال [له]: سام أبرص, والأنثى من الوزغ: وزغة. 1086 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عطاء»: أنه سئل عن رجل أصاب صيدًا غهبا, فقال: «عليه الجزاء». يروى ذلك عن «ابن جريح» , عن «عطاء». قوله: غهبًا, الغهب: أن يصيبه غفلة من غير تعمد له. يقال: غهبت عن الشئ, أغهب عنه, غهبًا: إذا غفلت ع نه, ونسيته. وفى هذا الحديث من الفقه: أنه رأى الجزاء فى الخطأ كما يراه فى العمد.

1087 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عطاء»: «خفوا على الأرض». قال «أبو عبيد»: وجهه عندى أنه يريد بذلك فى السجود, يقول: لا ترسل نفسك عى الأرض إرسالًا ثقيلًا, فيؤثر فى جبهتك أثر السجود. ويبين ذلك حديث «مجاهد» أن «حبيب بن أبى ثابت سأله, فقال: إني أخاف أن يؤثر السجود فى [671] جبهتى, فقال: «إذا سجدت فتخاف»: يعنى خفف نفسك, وجبهتك على الأرض. وبعض الناس يقول: فتجاف, والمحفوظ عندى بالخاء من التخفيف. 1088 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عطاء»: «أنه سئل عن الرجل يذبح الشاة, ثم يأخذ منها يدًا أو رجلًا قبل أن تسيطر, فقال: «ما أخذ منها فهو ميتة».

قوله: تسبطر: يعنى أن تمتد بعد الموت, وكل ممتد فهو مسبطر. 1089 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عطاء»: «أنه كره من الجراد ما قتله الصر». قال: حدثنا «هشيم» [قال: أخبرنا] «حجاج» , عن «عطاء» بذلك. قال «أبو عبيد»: الصر: البرد الشديد, قال: ويروى فى تفسير قوله [جل وعلا]: {ريح فيها} قال: برد.

حديث ميمون بن مهران [رحمه الله]

حديث ميمون بن مهران [رحمه الله] 1090 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «ميمون بن مهران» حين كتب إلى «يونس بن عبيد»: «عليك بكتاب الله [- عز وجل -] فإن الناس قد بهوا به, واستخفوا, واستحبوا عليه الأحاديث, أحاديث الرجال». قال: سمعت «إسماعيل بن علية» يحدثه عن «يونس بن عبيد» , أن «ميمونًا» كتب إليه بذلك فى حديث فيه طول. قوله: بهوا به, هكذا قال «إسماعيل» وهو فى الكلام بهتوا به, مهموز, ومعناه: أنسوابه. يقال: بهأت بالشئ, فأنا أبهأ به, وكذلك بسأت به وبسئت: إذا أنست به. وإنما أراد «ميمون» أنهم قد أنسوا به حتى ذهبت هيبته من قلوبهم, وخرج إعظامه منها, وكذلك كل شئ أنست به, فإن هيبته تنقص من القلب.

حديث الزهرى [رحمه الله]

حديث الزهرى [رحمه الله] 1091 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الزهرى»: «الأذن مجاجة, وللنفس حمضة». المجاجة: التى تمج ما تسمع: يعنى أنها تلقيه, فلا تقبله إذا وعظت بشئ, أو نهيت عنه. وقوله: للنفس حمضة: الحمضة: الشهوة للشئ, وإنما أخذت من شهوة الإبل للحمض, وذلك [أنها] إذا ملت الخلة اشتهت الحمض, وهو: كل نبت فيه ملوحة, والخلة: ما لم تكن فيه ملوحة. قال «الأصمعى»: العرب تقول: الخلة خبز الإبل, والحمض فاكهتها. 1092 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الزهرى» [672]: «لا تناظر بكتاب الله, ولا بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».

قوله: لا تناظر, لم يرد لا تتبعه, ولا تنظر فيه, وليس ينبغى أن تكون المناظرة إلا بالكتاب والسنة, ولكن الذى أراد عندى: أنه جعله من النظير, وهو المثل,] قول: لا تجعل شيئًا نظيرًا لكتاب الله, ولا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أى: لا تتبع قول أحد وتدعهما. ويكون أيضًا فى وجه آخر: أن يجعلهما مثلًا للشئ يعرض, مثل قول «إبراهيم» كانوا يكرهون أن يذكروا الآية عن الشئ يعرض من أمر الدنيا, كقول القائل للرجل إذا جاء فى الوقت الذى يريد صاحبه: {جئت على قدرٍ يا موسى} هذا وما أشبهه من الكلام. 1093 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الزهرى»: أنه سئل عن الزهد فى الدنيا, فقال: «هو ألا يغلب الحلال شكره, ولا الحرام صبره». قال «أبو عبيد»: مذهبه عندى أنه أراد إذا أنعمت عليه نعمة من الحلال كان عنده من الشكر لله ما يقوم بتلك النعمة, حتى لا يعجز شكره عنها.

وإذا عرضت له فتنة من الحرام, كان عنده من الصبر عنها ما يمنع نفسه منها, فلا يركبها, فهذا عند «الزهرى» [من] الزهد فى الدنيا: الشكر على النعمة فى الحلال, والصبر على ترك الحرام. 1094 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الزهرى»: «أنه كان يستوشى الحديث» , أى: يستخرجه بالبحث والمسألة, كما يستوشى الرجل جرى الفرس, وهو ضربه إياه بعبيه, وتحريكه, ليجرى. 1095 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الزهرى» , أنه قال: «من امتحن فى حد فأمه, ثم تبرأ, فليست عليه عقوبة, وإن عوقب فأمه, فليس عليه حد, إلا أن يأمه من غير عقوبة». قوله: أمه: هو - ها هنا - الإقرار, ولم سمعه إلا فى هذا الحديث. والأمة فى غير هذا الموضع: النسيان, ومنه حديث «ابن عباس»

و «عكرمة» أنهما كانا يقرآن: {واذكر بعد أمه} [673]: أى بعد نسيان.

حديث عبد الملك بن مروان

حديث عبد الملك بن مروان 1096 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبد الملك بن مروان» أنه قال فى خطبته: «وقد وعظتكم فلم تزدادوا على الموعظة إلا استجراحاً». قال «الأصمعى»: قوله: إلا استجراحا, الاستجراح: النقصان. قال: وقال «ابن عون»: استجرحت هذه الأحاديث وكثرت: يعنى أنها كثيرة, وصحيحها قليل.

حديث الحجاج بن يوسف

حديث الحجاج بن يوسف 1097 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحجاج» حين قتل «ابن الزبير» , فأرسل إلى أمه «أسماء» يدعوها, فأبت أن تأتيه, فقام يتوذف حتى دخل عليها». قال: حدثناه «يزيد» , عن «الأسود بن شيبان» , عن «أبى نوفل بن أبى عقرب». قال «أبو عمرو»: التوذف: التبختر. وكان «أبو عبيدة» يقول: التوذف: الإسراع, لقول «بشر بن أبى خازم» يمدح رجلًا [بأنه] يهب النجائب, فقال: يعطى النجائب بالرحال كأنها ... بقر الصرائم والجياد توذف [أى: ويعطى الجياد]

1098 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحجاج بن يوسف» حين سأل «الشعبى» عن فريضة من الجد, فأخبره بقول الصحابة فيه, حتى ذكر قول «ابن عباس». فقال: «إن كان لنقابًا, فما قال فيها النقاب؟ ». يروى عن «عيسى بن يونس» , عن «عباد بن موسى» , عن «الشعبى». قال «أبو عبيد»: النقاب: هو العالم بالأشياء, المبحث عنها, الفطن الشديد الدخول فيهاو قال «أوس بن حجر» يمدح «فضالة» أو برثيه: نجيح جواد أخو مأقط ... نقاب يحدث بالغائب وبعضهم يحدثه: إن كان لمثقبًا, ولا نرى المحفوظ إلا الأول, وهو فى المعنى نحو منه.

1099 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحجاج» , أنه خطب فقال: «إباى وهذه السقفاء والزرافات». قال: بلغنى عن «ابن علية» , عن «ابن عون» , عن «الحجاج» [ذلك]. أما السقفاء فلا أعرفها, وأما الزرافات: فإنها المواكب والجماعات, وكل جماعة [674]: زرافة, قال «عدى بن زيد»: وبدل الفيج بالزرافة والـ ... أيام خون جم عجائبها قال «أبو عبيد»: خون: جمع خائن.

1100 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحجاج»: أنه أتى بسمكة, فقال للذى عملها: سمنها, فلم يدرما يريد, فقال له «عنبسة بن سعيد»: إنه يقول لك: بردها». قال: سمعت «الفراء» يحدثه بإسناده, وهذه كلمة أراها طائفية, يسمون التبريد التسمين. 1101 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «الحجاج» حين سأل «الحسن» [- رحمه الله -]: «ما أمدك يا «حسن»؟ فقال: سنتان من خلافة «عمر» [- رضى الله عنه -] , فقال: والله, لعينك أكبر من أمدك». قال: حدثناه «ابن علية» , عن «يونس» , عن «الحسن». قوله: أمدك: يعنى منتهى عمره, وامد كل شئ: منتهاه, وإنما أراد المولد. وقوله: والله لعينك,] قول: شاهدك ومنظرك أكبر من أمدك, وعين كل شئ

شاهده, وحاضره, ومنه قول الشاعر: * وعينه كالكالئ الضمار * يقول: ما أراد أن يعطيك حاضرًا, فهو مثل الغائب الذى لا يرجى. [قال «أبو عبيد»: لم يرد «الحسن» بقوله: سنتان مضتا, إنما أراد بقيتا].

حديث عبيد الله بن زياد

حديث عبيد الله بن زياد 1102 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد الله بن زياد» حين كتب إلى «عمر بن سعد بن أبى وقاص»: «أن جعجع بحسين [- رحمة الله عليه -]. قال «الأصمعى»: الجعجعة: الحبس, وإنما أراد: احبسه, قال: وقال «منتجع بن نبهان» فى قول الشاعر: * وباتوا بجعجاع جديب المعرج * قال: أراد مكانًا احتبسوا فيه, قال: ومنه قول «أوس بن حجر»:

* إذا جعجعوا بين الإناخة والحبس * وقال «أبو عمرو»: والجعجاع: الأرض, وكل أرض جعجاع. وقال غيره: هى الأرض الغليظة, ومنه قول «أبى قيس بن الأسلت»: من يذق الحرب يجد طعمها ... مرا وتتركه بجعجاع 1103 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد الله بن زياد» حين قال «لأبى برزة»: «أن [675] محمديكم هذا لدحداح». قال: حدثنيه «داود بن الزبرقان» بإسناد له. قال «أبو عمرو» مرة: إنما هو ذحذاح - بالذال -, ثم رجع عنه, وقال: بالدال, وكذلك الرواية بالدال, وهو الصواب: يعنى الرجل القصير المسمن.

حديث عاصم بن أبى النجود [رحمه الله]

حديث عاصم بن أبى النجود [رحمه الله] 1104 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عاصم بن أبى النجود»: «لقد أدركت أقوامًا يتخذون هذا الليل جملًا, يشربون النبيذ, ويلبسون المعصفر, منهم «زر» , و «أبو وائل». وهذا يروى عن «حماد بن زيد» , عن «عاصم» , عن «أبى وائل» , و «زر». قال «الأصمعى»: يقال للرجل إذا أحيا ليلته بالصلاة, أو سراها حتى أصبح: قد اتخذ الليل جملا.

حديث عبيد الله بن جحش

حديث عبيد الله بن جحش 1105 - وقال «أبو عبيد» فى حديث «عبيد الله بن جحش» حين تنصر بالحبشة, فلقيه بعض الصحابة, فكلمه فى ذلك, فقال «عبيد الله»: «إنا فقحنا وصأصأتم». قال «أبو عمرو» و «أبو زيد» , و «الفراء» , أو بعضهم, يقال: قد فقح الجرو: إذا فتح عينيه, وقال غيرهم فى قوله: صأصأتم, يقال: صأصأ الجرو: إذا لم يفتح عينيه فى أوان فتحه, فأراد «عبيد الله»: أنى أبصرت دينى, ولم تبصروا دينكم. قال «أبو عبيد»: «عبيد الله بن جحش» [هذا] زوج «أم حبيبة بنت أبى سفيان» قبل النبى - صلى الله عليه وسلم - كان تنصر بالحبشة, ومات على النصرانية.

أخبار لا يعرف أصحابها

أخبار لا يعرف أصحابها

وهذه أحاديث لا يعرف أصحابها *

وهذه أحاديث لا يعرف أصحابها * 1106 - وقال «أبو عبيد»: سمعت «محمد بن الحسن» يحدث بإسناد لا أحفظه عن رجل سماه, أو كناه, أحسبه «أبا الرباب» قال: «كنا بموضع كذا وكذا, فأتانا رجل فيه لخلخانية». قال «أبو عبيد»: اللخلخانية: العجمة, يقال: رجل لخلخانى, وامرأة لخلخانية: إذا كانا لا يفصحان, قال «البعيث بن بشر»: سيتركها إن سلم الله جارها ... بنو اللخلخانيات وهى رتوع أراد: بنى العجميات.

1107 - وفى حديث آخر قال «أبو عبيد»: «يحشر الناس على ثكنهم» [676]. الثكن: الجماعات, واحدتها ثكنة, قال «الأعشى»: يطارد ورقاء جونيةً ... ليدركها فى حمام ثكن يعنى: جماعات. فالذى فى الحديث فيما نرى أنهم يحشرون على ما ماتوا عليه. 1108 - وفى حديث آخر: «أن فلانًا كتب: إن العدو بعرعوة الجبل

ونحن بحضيضه». قال «الأصمعى»: العرعرة: أعلاه, والحضيض: أسفله عند منقطع الجبل, حين يفضى إلى الأرض, قال «امرؤ القيس» يذكر مرقبة كان عليها: فلما أجن الليل عنى غوارها ... نزلت إليه قائمًا بالحضيض [يعنى الفرس]

1109 - وفى حديث آخر أنه قال: «[إنما] مثل العالم كالحمة تكون فى الأرض يأتيها البعداء ويتركها القرباء, فبيناهم كذلك إذ غار ماؤها, فانتفع بها قوم, وبقى قوم يتفكنون». يعنى يتندمون, التفكن: التندم. والحمة: عين الماء فيها الماء الحار الذى يستشفى به. 1110 - وفى حديث آخرك يروى عن «حسان بن ثابت» - أو غيره - أنه كان إذا دعى إلى طعام, قال: «أفى عرس, أم خرس, أم إعذار؟ فإن كان فى واحد من ذلك أجاب, وإلا لم يجب».

قوله: عرس: يعنى طعام الوليمة, وأما الخرس: فالطعام الذى على الولادة, يقال: خرست على المرأة: إذا أطعمت فى ولادتها, واسم طعامها الذى تأكله هى: الخرسة, قال الشاعر يذكر أزمة: إذا النفساء لم تخرس ببكرها ... غلامًا ولم يسكت بحتر فطيمها الحتر: الشئ القليل الحقير: أى ليس لهم شئ يطعمون الصبى من شدة الأزمة. والإعذار: الختان, وفيه لغتان, يقال: عذرت الغلام, وأعذرته, وقال الشاعر:

* كل الطعام يشتهى ربيعة * * الخرس والإعذار والنقيعة * فأما الخرس والإعذار, فما فسرناه, وأما النقيعة: فالطعام يصنعه الرجل عند قدومه من سفره, قال الشاعر: إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام القدام: القادمون من سفر, و [يقال] القدام: الملك أيضًا, والقدار: الجزاء. 1111 - وفى حديث آخر: «إن للشيطان نشوقًا ولعوقًا ودسامًا».

فالدسام: ما تسد به الأذن, يقال منه: دسمت الشئ دسمًا: إذا سددته, واللعوق فى الفم, والنشوق فى الأنف. 1112 - وفى حديث آخر: «فى خلايا النحل أن فيها العشر». يروى بعضهم هذا عن «عمر» قال: هى المواضع التى تعسل فيها النخل, وهى مثل الراقود أو نحوه يعمل لها من طين وغيره, واحدتها خلية. 1113 - وفى حديث آخر: «ما تعدون فيكم الصرعة؟ ». فالصراعة: الذى يصرع الرجالز 1114 - وفى حديث آخر: قال «صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى» , يقول: إذا وجد الفصيل حر الشمس على الرمضاء, يقول: فصلاة الضحى تلك الساعة». 1115 - وفى حديث آخر: «فوردنا على جدجد متدمن». قال: قوله: جدجد, وإنما المعروف فى كلامهم الجد, قال «الأعشى»:

ما جعل الجد الظنون الذى ... جنب صوب اللجب الماطر وكان «الأصمعى» يقول: الجد: البئر الجيدة الموضع من الكلأ. قال «أبو عبيد»: وأما الجدجد: فإنه عندنا دويبة, وجمعها جداجد. وأما المتدمن: فالماء الذى [قد] سقطت فيه دمن الإبل والغنم, وهى أبعارها. 1116 - وفى حديث آخر: «قوله: اللهم إنا نعوذ بك من الألس, والألق, والكبر, والسخيمة». قوله: الألس: هو اختلاط العقل, يقال منه: قد ألس الرجل, فهو مألوس. وأما الألق, فإنى لا أحسبه أراد إلا الأولق, والأولق: الجنون, قال «الأعشى»: وتصبح عن غب السرى وكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق يصف ناقته, يقول: هى من سرعتها كأنها مجنونة, وإن كان أراد الكذب فهو الولق.

ويروى عن «عائشة» - رحمنها الله - أنها كانت تقرأ: {إذ تلقونه بألسنتكم} يقال من هذا: قد ولقت ألق ولقًا. وأما السخيمة: فهى الضغينة والعداوة. 1117 - وفى حديث آخر: «قال: قاموا صتيتين». أى جماعتين, يقال: قد صات القوم, مشددة. 1118 - وفى حديث آخر: «فى الوعثاء». قال: الوعثاء: الأرض ذات الوعث, وقد أوعث القوم: صاروا فى الوعث.

1119 - وفى حديث آخر: «قال: يقال: اللهم غبطا لا هبطا». يعنى: نسألك الغبطة, ونعوذ بك أن نهبط عن حالنا. هو مثل قوله: الحور بعد الكون, ويقال: الكور. 1120 - وفى حديث آخر: «اللهم المم شعثنا» أى: اجمع ما تشتت من أمورنا. يقال: لممت الشئ ألمه لما: إذا جمعتهز 1121 - وفى حديث آخر: «قال: يسلط عليهم موت طاعون ذفيفٍ [يحرف القلوب]». قال: الذفيف: هو المجهز الذى يذفف عليهم فيقتلهم, كما يذفف على الجريح. 1122 - وحديثه «فى الرثع».

الرثع: الحرص الشديد. 1123 - [وفى حديث آخر]: «وقوله: «الخريف» وإنما سمى الخريف خريفًا, لأنه تخترف فيه الثمار, ويقال: أرض مخروفة, أى أصابها مطر الخريف, وأرض مخرفة. 1124 - وفى حديث آخر: «أما سمعته من «معاذ» يدبره عن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». قوله: يدبره: يعنى يحدثه. 1125 - وقال «أبو عبيد» فى حديث النبى - صلى الله عليه وسلم -: «أنه قطع لنسائه خططهن».

أى جعله لهن فى حياته: أى منازلهن, وقال الله - عز وجل -: {وقرن فى بيوتكن} أى: لئلا يخرجن بعد موته. وهذا مما يدل أن «النبى» - صلى الله عليه وسلم - ... » 1126 - وفى حديث آخر: «وسئل عن قوله: كأنه جمع فيه خيلان».

قال: شبهه بالكف [إذا جمع] كما تقول: ضربه بجمع كفه: أى ضربه بها مضمومة. 1127 - [وفى حديث آخر]: وسئل عن قوله: «الناخلة من الدعاء». قال: المنتخلة. تم الكتاب

§1/1