غرر الخصائص الواضحة

الوطواط

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل اللسان عنوان عقل الانسان وآلة تظهر سر الجنان بفصيح العبارة وصريح البيان وصلاته وسلامه على سيدنا محمد المجتي من سرة عدنان المبعوث بجوامع الكلم الشاملة لأنواع البيان الباهرة بفصاحتها عقول ذوي الفطن والأذهان والمخصوص بمحاسن الشيم المتممة لمكارم الأخلاق ومزايا الاحسان والحائز في حلبات الاصطفاء قصبات الرهان وعلى آله وصحبه فروع شجرته الباسقة الأفنان وفراقد سماء رسالته أعيان السادات وسادات الأعيان صلاة وسلاماً دائمين ما دام طرف القلم مقاداً بعنان البنان وبعد فإني لما رأيت تغير معاني الأخلاق دالاً على تباين مباني الأعراق والنفوس تتفاوت في ميلها إلى أغراضها على حسب اختلاف جواهرها وأعراضها حداني غرض اختلج في سري وأمل اعتلج في صدري على أن أجمع كلاماً في المحامد والمذام المتخلقة بها نفوس الخواص والعوام وأجعله كتاباً يغني اللبيب عن الخليل والنديم ويخبر بالحديث والقديم فشمرت عن ساق الجد وحسرت عن ساعد الكد وعمدت إلى حسان الكتب المجموعة في ضروب الأدب فتصفحت مضمونها وتلمحت فنونها واستفتحت عيونها واستبحت أبكارها وعونها وجمعت في هذا الكتاب من زواهر أسدافها وجواهر أصدافها ملح فكاهات جلت عرائس المعاني في حلل موشاة وأظهرت نفائس المحاسن في أنواع من البراعة مغشاة وأزاهر بيان يغدو المتلفظ بها غايات ويروح المتحفظ بها صاحب آيات وجعلته شاملاً لمصايد شواردها ناهلاً من الفضائل أعذب مواردها محتوياً من إحراز الألفاظ على درر منظومة تستفتح النواظر بلمحات سلكها ومن أسرار المعاني على سرر مختومة تستروح الخواطر

بنفحات مسكها. أحاديث لو صيغت لألهت بحسنها عن الدر أو شمت لأغنت عن المسك وكسوته من الأخبار بزة رفيعة وأبدعت فيما أودعت فيه من الفكاهات الرائقة البديعة من نوادر مطربات وأبيات مهذبات هي للأوراق شموس مشرقات ولألئ أنوارها بارقات ألفاظها أرق من النسيم وأروق من التسنيم مفرد كما أزهرت روضات حسن وأثمرت ... فأضحت وعجم الطير فيها تغرّد وجنبته خرافات الأخبار ومطوّلات الأسمار لئلا تسأمه عند المطالعة النفوس ولئلا يكون ذكرها وضحاً في غرر الطروس وجعلته ستة عشر باباً تسفر عن وجه الابداع نقاباً وجعلتها متضادة لتضاد الأخلاق والشيم وتباين الأقدار والهمم كل باب يشتمل على ثلاثة فصول في ثلاثة معان تفك بلطائفها من أدهم الهم كل قلب عان وهذه الفصول قلائد أجناس فصلت بلآلئ أنواعها ومعاهد إيناس نصبت أشراك النفوس برباعها فجاءت فصولاً تعبر عن حسان فنونها ومعانيها وتغبر في وجه عائبها وشانيها وقدمت في أبواب المحامد فصلاً في مدائحها ليتنسم المتأمل عرف اليمن من فواتحها وأتبعته فصلاً ثانياً فيما ذكر عن المتخلقين بها من أزهار خمائل الأخبار وأبكار عقائل الأفكار الفائقة باختبارها درر الأمثال السائرة الرائقة في اختيارها فهي عن غرر المفاخر سافرة وعززت بثالث في ذم ما مدح من الأخلاق لسبب يطرأ عليها إذ البدر يطرأ عليه الخسوف والمحاق والشيء بالشيء يعرف فيذكر بعد ان كان يجهل وينكر فربما تجاذبت الأحاديث أذيالها فطلبت من المنمق أشكالها ولا غرو فالحديث كما يقال شجون وأحسنه ما جذل جده برقيق الهزل مقرون على أنني لم آل جهداً في إضافة كل شيء إلى ما يشاكله ويلائمه

ويضاهيه في المعنى ويساهمه مما يجري في هذا الاسلوب ولا يخرج عن المقصود والمطلوب ورتبت فصول أبواب المذام على العكس من أبواب المحامد والمآثر وأطلعت في دياجي مساويها من محاسن الملح الأنجم الزواهر ترتيباً لا يرتاب في جودته أريب وتقريباً يؤمن به من كل ما يريب فأبوابه على اختلافها بائتلافها في الحسن نظائر وبعضها لبعض ضرائر إن ازدهى الحسن باباً منها بتقسيمه ووصفه تنفس الآخر عن حسن ترصيعه وطيب عرفه مفرد ضدّان لما استجمعا حسناً ... والضدّ يظهر حسنه الضدّ وسددته جهدي رجاء أن يصيب صميم الآمال والأعراض وخوفاً أن تصرفه النفوس عند النقد بالصد عنه والاعراض ووسمته بغرر الخصائص الواضحة وعرر النقائص الفاضحة اسم يكون لحلة أدبه طرازاً معلماً وبمكنون أسراره معلناً ومعلماً إذ الكتاب لا يعلم ما في باطنه إلا من سمة عنوانه كما أن الانسان يعلم ما في قلبه من لفتات وجهه وفلتات لسانه وأنا راغب لمن وقف على هذا الكتاب من سراة الأعيان والكتاب القاطفي أزهار الآداب من جنان الخواطر العاطفي نفار الألباب في عنان النوادر أن لا يفوق لهدف الاختيار سهم الاختبار وأن يحدق إليه بصر الاعتقاد عند الانتقاد فأي جواد لا يكبو وأي مهند لا ينبو ومع هذا فإن لسان التقصير عن القيام بالعذر قصير والمصنف وإن استعان في تنقيح ما ألف بمالك وعقيل معرض لطاعن وحاسد إلا أن يتاح له عاذر ومقيل مفرد وإني لأرجو أن يفخم أمره ... من الناس حرّ شأنه الصفح والستر

والله أسأل أن يكسبه دلاً معشقاً يكون به لداء القلوب محظياً ويكسيه حسناً ورونقاً حتى يكون بعيون العقول مرعياً وللافهام مرضياً وبه أستعين على سبيل الرشاد فيما نحوت فهو المعين بهدايته لتحقيق ما رجوت ولما انتهى بنا جواد قريحتنا إلى غاية البيان عن المراد وحاز قصب السبق في مضمار النطق بالسداد رأينا صواباً أن نعقبه بذكر مقدمة في حض الانسان على الدأب في طلب المعالي ليظفر بالحظ الأوفر من الشرف المتعالي تكون أسالما قصدنا فيه التحرير والتحبير من الكشف عن ماهية الأخلاق وحقيقة معانيها وكيفية صورها ومبانيها بقول شاف وتلخيص كاف وهو مما اخترناه من كلام الحكماء الاعلام أولى البصائر والأحلام قالوا الخلق عادة للنفس يفعلها الانسان بلا روية وهي نوعان جميل محمود وقبيح مذموم والأخلاق المحمودة وإن كانت في بعض الناس غريزة فإن الباقين يمكن أن يصيروا إليها بالرياضة والألفة ويرتقوا إليها بالتدرب والعادة فإنهم وإن لم يكونوا على الخير مطبوعين صاروا به متطبعين والفرق بين الطبع والتطبع أن الطبع جاذب منفعل والتطبع مجذوب مفتعل تتفق نتائجهما مع التكلف ويفترق تأثيرهما مع الاسترسال وقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادة الحسنة ولا الأخلاق الجميلة ونفسه مع ذلك تتشوف إلى المنقبة وتتأفف من المثلبة لكن سلطان طبعه يأباه عليه واستعصاؤه مع تكلف ما ندب إليه يختار العطل منها على التحلي ويستبدل الحزن على فواتها بالتسلي فلا ينفعه التأنيب ولا يردعه التأديب وسبب ذلك على ما قرره المتكلمون في الأخلاق أن طبع المطبوع أملك للنفس التي هي محله لاستيطانه إياها وكثرة إعانته لها والأدب طار على المحل غريب فيه قال الشاعر في ذلك إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع أدب الأديب

وقال آخر ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها وأما الذي يجمع الفضائل والرذائل فهو والذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم وقد تكتسب الأخلاق من معاشرة الاخلاء فإن صلاحها من معاشرة الكرام وفسادها من مخالطة اللئام ورب طبع كريم أفسدته معاشرة الأشرار وطبع لئيم أصلحته مصاحبة الأخيار وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وقال علي رضي الله عنه لولده الحسن الأخ رقعة في ثوبك فانظر بم ترقعه وقال بعض الحكماء في وصية لولده يا بني احذر مقارنة ذوي الطباع المرذولة لئلا يسرق طباعك من طباعهم وأنت لا تشعر ثم أنشد واصحب الأخيار وارغب فيهم ... ربّ من صاحبته مثل الجرب فإذا كان الخليل كريم الأخلاق حسن السيرة طاهر السريرة فبه في محاسن الشيم يقتدي وبنجم رشده في طرق المكارم يهتدي. وإذا كان سيء الأعمال خبيث الأقوال كان المعتبط به كذلك ومع ذلك فواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه ويكد في الهواجر ويسهر الليالي إلى أن يرتقي شرفات المجد والمعالي فقد قيل من شمر عن ساق الجد وجد مفتاح الجد ومن كلام الثعالبي لا يحصل برد العيش الأبحر النصب ولله در الوزير أبي القاسم الحسين بن علي المغربي حيث قال سأعرض كل منزلة ... يعرض دونها العطب

فإن أسلم رجعت وقد ... ظفرت وأنجح الطلب وإن أعطب فلا عجب ... لكلّ منية سبب وقال عمرو بن العاصي المرء حيث يجعل نفسه إن رفعها ارتفعت وإن وضعها اتضعت وقال الشاعر وما الحرّ إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل وقال بعض الحكماء النفس عروف غروف ونفور ألوف متى ردعتها ارتدعت ومتى حملتها حملت وإن أهملتها فسدت وقال الشاعر صبرت على اللذات حتى تولت ... وألزمت نفسي هجرها فاستمرّت وجرّعتها المكروه حتى تجرّدت ... ولو حملته جملة لاشمأزت وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت وكانت على الآمال نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي على الترك ولت وقال آخر والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع وقالوا الفخر بالنفس والأفعال لا بالأعمام والأخوال وقالوا الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية وقال عامر بن الطفيل وإني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب فما سوّدتني عامر عن ورائه ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب

وقال أبو الطيب المتنبي لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبجدّي فخرت لا بجدودي وقالوا كن عصامياً لا عظامياً ومعناه لا تفتخر بشرف آبائك ولكن بما يؤثر من أنبائك وعصام المشار إليه كان رجلاً سوقة ثم صار حاجباً للنعمان ابن المنذر فسئل عن سبب وصوله إلى هذه المنزلة العالية والرتبة الحالية فقال نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والاقداما وصيرته ملكاً هماماً وقالوا شرف الأعراق يحتاج إلى شرف الأخلاق ولا حمد لمن شرف نسبه وسخف أدبه يحكي في هذا أن رجلاً من بني هاشم تخطى رقاب الناس في مجلس أحمد بن أبي دواد فقال له أحمد يا بني الأدب ميراث الأشراف ولست أرى عندك من سلفك ميراثاً فاستحسن كلامه من حضر مجلسه شاعر وإذا افتخرت بأعظم مقبورة ... فالناس بين مكذب ومصدّق فأقم لنفسك في انتسابك شاهداً ... بحديث مجد للقديم محقق آخر إذا ما الحيّ عاش بذكر ميت ... فذاك الميت حيّ وهو ميت ومن يك بيته بيتاً رفيعاً ... وهدّمه فليس لذاك بيت ابن الرومي وما الحسب الموروث لا ذرّ ذرّه ... يفيد الفتى الابا خر مكتسب

فلا تتكل إلا على ما فعلته ... ولا تحسبنّ المجد يورث بالنسب وليس يسود المرء إلا بنفسه ... وإن عدّ آباء كراما ذوي حسب إذا المرء لم يثمر وإن كان شعبه ... من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب وقال آخر يهجو رجلاً شريفاً من كان يعمر ما شادت أوائله ... فأنت تهدم ماشادوا وماسمكوا ما كان في الحق أن تأتي فعالهم ... وأنت تحوي من الميراث ما تركوا وقال آخر يزين الفتى أخلاقه ويشينه ... وتذكر أخلاق الفتى وهو لا يدري وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي وإني رأيت الوسم في خلق الفتى ... هو الوسم لا ما كان في الشعر والجلد وقال أبو الطيب مقتفياً أثره ومصدقاً خبره وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق وقال بعض من له في الحكمة فصل المقال منبها على ما تدرك به رتبة الكمال الانسان التام من نزع عن نفسه ربقة المساوي والملاوم وبذ بمجده المساوي والمقاوم وهذا الحد قلما ينتهي إليه انسان وإذا انتهى الانسان إلى هذا كان بالملائكة أشبه منه بالناس لأن الانسان مضروب بأنواع الشر مستول عليه وعلى طبعه ضروب النقص والكمال وإن كان بعيداً لا ينال فإنه ممكن وذلك إن الانسان إذا صرف عزيمته وأعطى الاجتهاد حقه كان ممكناً وهو أن يكون راغباً بجميع مناقبه وخصائصه متيقظاً لصرف معايبه ونقائصه واردة طرائقه شرعة المكارم الصافية رافلة خلائقه في أبراد المحامد الضافية

مستعملاً كل فضيلة متجنباً كل رذيلة مجتهداً في بلوغ القصوى وقمع النفوس عما تحب وتهوى عاشقاً لصورة الجمال مستلذاً بمحاسن الخلال يرى الكمال دون محله والتمام أقل أوصافه ونبله فقد قيل قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً أو إنساناً وقد أمكنه أن يكون ملكاً قال المتنبي ولم أر في عيوب الناس شيأ ... كنقص القادرين على التمام وقال علي بن مقلة وإذا رأيت فتى بأعلى قمة ... في شامخ من عزة المترفع قالت لي النفس العروف بفضلها ... ما كان أولاني بهذا الموضع والمنهج القويم الموصل إلى الثناء الجميل أن يستعمل الانسان فكره وتمييزه فيما ينتج عن الأخلاق المحمودة والمذمومة منه ومن غيره ومن أخذ نفسه بما استحسن منها واستملح وصرفها عما استهجن منها واستقبح فقد قيل له كفاك تهذيباً وتأديباً لنفسك ترك ما كرهه الناس من غيرك وقيل لعيسى عليه السلام من أدبك قال ما أدبني أحد رأيت جهل الجاهل فتجنبته إذا أعجبتك خلال امرئ ... فكنه تكن مثل من يعجبك وليس على المجد والمكرمات ... إذا جئتها حاجب يحجبك وقالوا من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك هو الأحمق بعينه لا تلم المرء على فعله ... فأنت منسوب إلى مثله من ذمّ شيأ وأتى مثله ... فإنما دل على جهله

الباب الأول في الكرم وفيه ثلاثة فصول

ويقال الانسان يضارع الملك بقوة الفكر والتمييز ويضارع البهيمة بقوة الشهوة والغذاء فمن صرف همته إلى رتبة الفكر والتمييز حتى يرى بهما عاقبة فعله فحقيق أن يلحق بالملائكة فيسمى ملكاً لطهارة أخلاقه ومن صرف همته إلى رتبة القوة الشهوانية بإيثار اللذة البدنية يأكل كما تأكل الانعام فحقيق أن يلحق بالبهائم فيصير إما غمراً كثور أو شرهاً كخنزير أو ضرياً ككلب أو حقوداً كجمل أو متكبراً كنمر أو رواغاً كثعلب أو جامعاً لذلك كشيطان ولقد صدق من قال وإذا الفتى ساس الأمور بعلمه ... وأعين بالتأديب والتهذيب سمت الأمور به فيبرز سابقاً ... في كل حال مشهد ومغيب اللهم كما خلقت الانسان بقدرتك في أحسن تقويم وأعليته باختصاصك له ذروة التكريم وهديته بإرادتك نجدى الخير والشر وصرفته بقضائك في عناني النفع والضر روض اللهم جوامح نفوسنا إلى اقتفاء أثر الأكارم واقتناء ما يبعث على حمدها من صنوف المكارم وذد اللهم سوائم طباعنا عن مراتع الملاوم ومرابع ما يتوجه به علينا لوم اللوائم فإليك الخذلان والعون وبيدك أزمة المكان والكون وهذا أوان انشقاق كمائم هذا الكتاب عما أكنته من زهرات الآداب واهتصار أفنان فنونه الدانية القطاف المتسقة بأنواع التحف والألطاف الباب الأول في الكرم وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في وصف الأخلاق الحسان المتخلقة بها نفوس الأعيان الفصل الثاني في ذكر الصنائع والمآثر المفصحة عن أحساب الأكابر الفصل الثالث في ذم التخلق بالاحسان إذا لم يوافق القلب اللسان الباب الثاني في اللؤم وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في ذم من ليس له خلاق وما اتصف به من قبيح الأخلاق الفصل الثاني في ذكر الفعل والصنيع الدالين على لؤم الوضيع الفصل الثالث في أن من تخلق باللؤم انتفع وعلا على الكرام وارتفع

الباب الثالث في العقل وفيه ثلاثة فصول

الباب الثالث في العقل وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في مدح العقل وفضله وشرف مكتسبه ونبله الفصل الثاني في ذكر أنواع الفعل الرشيد الدال على العقل المشيد الفصل الثالث في أن هفوات العقال لا يغضى عنها ولا تقال الباب الرابع في الحمق وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في ذم الجهالة والجنون وما اشتملا عليه من الفنون الفصل الثاني في ذكر النوادر الصادرة عن مجانين البادية والحاضرة الفصل الثالث في احتجاج الأريب المتحامق على أن الحمق أزكى الخلائق الباب الخامس في الفصاحة وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في أن الفصاحة والبيان أزين ما تحلت به الأعيان الفصل الثاني فيما يتحلى به ألباب الأدباء من بلاغات الكتاب والخطباء الفصل الثالث في أن معرفة حرفة الأدب مانعة من ترقى أعالي الرتب الباب السادس في العي وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول فيما ورد عن ذوي النباهة في ذم العي والفهاهة الفصل الثاني فيمن قصر باع لسانه عن ترجمة ما في جنانه الفصل الثالث في أن اللسن المكثار لا يأمن آفة الزلل والعثار الباب السابع في الذكاء وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في مدح الفطن والأذهان المعظمة من قدر المهان الفصل الثاني في ذكر البداهة البديعة والأجوبة المفحمة السريعة الفصل الثالث فيمن سبق بذكائه وفطنته إلى ورود حياض منيته الباب الثامن في التغفل وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في ذم البلادة والتغفل من ذوي التعالي والتنزل الفصل الثاني فيمن تأخرت منه المعرفة ونوادر أخبارهم المستظرفة الفصل الثالث في أن أنواع التغفل والبله ستور على الأولياء مسبله الباب التاسع في السخاء وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من الباب الأول الفصل الأول في أن التبرع بالنائل من أشرف الخلال والشمائل الفصل الثاني في ذكر منح الأماجد الأجواد وملح الوافدين والقصاد الفصل الثالث في ذم السرف والتبذير إذ فعلهما من سوء التدبير الباب العاشر في البخل وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في ذم الامساك والشح وما فيهما من الشين والقبح الفصل الثاني فيما استملح من نوادر المبخلين من الأراذل والمبجلين الفصل الثالث في مدح القصد في الانفاق خوف التعيير بالاملاق الباب الحادي عشر في الشجاعة وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في مدح الشجاعة والبسالة وما فيهما من الرفعة والجلالة الفصل الثاني في ذكر ما وقع في الحروب من شدائد الأزمات والكروب الفصل الثالث في ذم التصدي للهلكة ممن لا يطيق بها ملكة الباب الثاني عشر في الجبن وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في أن خلتي الجبن والفرار مما يشير بني الأحرار الفصل الثاني فيمن جبن عند اللقاء خوف الموت ورجاء البقاء الفصل الثالث فيمن ليم على الفرار والأحجام فاعتذر بما ينفي عنه الملام الباب الثالث عشر في العفو وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في مدح من اتصف بالعفو عن الذنب المتعمد والسهو الفصل الثاني فيمن حلم عند الاقتدار وقبل من المسئ الاعتذار الفصل الثالث في ذم العفو عمن أساء وانتهك حرمات الرؤساء الباب الرابع عشر في الانتقام وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في التشفي والانتقام ممن أحضر قسراً في المقام الفصل الثاني في ذكر من ظفر فعاقب بأشد العقوبة ومن راقب الفصل الثالث في أن الانتقام لحدود الله خير فعلات من حكمه الله وولاه الباب الخامس عشر في الاخوة وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في مدح اتخاذ الاخوان فإنهم العدد والأعوان الفصل الثاني فيما يدين به أهل المحبة من شرائع العوائد المستحبة الفصل الثالث في ذم الثقيل والبغيض بما استحن من النثر والقريض الباب السادس عشر في العزلة وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في ذم الاستئناس بالناس لتلون الطباع وتنافي الأجناس الفصل الثاني فيما يحض على الوحدة والاعتزال من ذميم الخلائق والخلال الفصل الثالث فيما يختم به هذا الكتاب من دعاء نرجو أن يسمع ويجاب الباب الأول في الكرم وفيه ثلاثة فصول في وصف الأخلاق الحسان المتخلقة بها نفوس الأعيان قال الله تعالى ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في الميزان شيء أثقل عند الله من الخلق الحسن وما حسن الله خلق رجل وخلقه فأدخله النار وقال علي كرم الله وجهه نعم الحسب الخلق الحسن وقال الحسن البصري سعة الأخلاق منحة من الله فإذا أراد الله بعبد خيراً منحه خلقاً حسناً وقال عليه الصلاة والسلام من لانت كلمته وجبت محبته وحسنت احدوثته وظمئت القلوب إلى لقائه وتنافست في مودته وقالوا أحسن الشيم ما تشام منه بارقة الكرم وأوصى حكيم ولده فقال يا بني إن مكارم أخلاقك تدل على شرفك وطيب أعراقك سمع بعض الأعراب يقول لولده أبني إنّ البرّ شيء هين ... وجه طليق وكلام لين وفي بعض الكتب القديمة الأخلاق الصالحة ثمرات العقول الراجحة وقالوا من حسنت أخلاقه درت أرزاقه وقيل لبعض الأدباء متى يبلغ الرجل

وعلى ذكر الحجاب وإن لم يكن من الباب

ذروة الكمال قال إذا اتقى من خلقه وجاد بما رزقه واختار من القول أصدقه وحسن في كل الأحوال خلقه فذاك الذي أنهج إلى الكمال طرقه ويقال إن في التوراة يقول الله تعالى يا موسى ليكن وجهك بساماً وكلامك ليناً تكن أحب إلى الناس وإلي ممن يعطيهم الذهب والفضة وقال ابن الرومي له محيا جميل يستدلّ به ... على جميل وللبطنان ظهران وقلّ من أضمرت خيراً طويته ... إلا وفي وجهه للخير عنوان وما أصدق قول القائل وما اكتسب المحامد طالبوها ... بمثل البشر والوجه الطليق وفي بعض الآثار المروية عن ابن عباس أن موسى عليه السلام قال يا رب أمهلت فرعون أربعمائة سنة يكذب رسلك ويجحد آياتك فأوحى الله إليه إنه كان حسن الخلق سهل الحجاب فأحببت أن أكافئه وعلى ذكر الحجاب وإن لم يكن من الباب كانت العرب تقول ما شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدة الحجاب للولي ولا أهيب للرعية والعمال من سهولة الحجاب لأن الرعية إذا وثقت من الولاة بسهولة الحجاب أحجمت عن الظلم وإذا وثقت بشدة الحجاب تهجمت على الظلم وركب القوي الضعيف فخير خلال الولاة سهولة الحجاب وصف أخلاق أهل الوفاق فلان خلقه كنسيم الأسحار على صفحات الأنوار أخلاق قد جمعت الحرية أطرافها وفرشت المروأة أكنافها أخلاق تجمع الأهواء المتفرقة على محبته وتؤلف الآراء المشتتة في مودته أخلاق هي المسك لولا فأرته والورد

عيون من مكارم الأخلاق الدالة على طيب الأعراق

لولا مرارته والماء لولا إسراعه إلى الكدر والروض لولا حاجته إلى المطر قد جمع شرف الأخلاق إلى طيب الأعراق له خلق على الأيام يصفو ... كما رقت على الزمن العقار آخر خلق سهول المكرمات سهوله ... وتوعر الأيام من أوعاره إن لاح فهو الصبح في أنواره ... أو فاح فهو الروض في نوّاره المتنبي صفت مثل ما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله آخر موفق لسبيل الرشد متبع ... يزينه كل ما يأتي ويجتنب تسمو إليه عيون كلما انفرجت ... للناس وجهة الأبواب والحجب له خلائق بيض لا يغيرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب عيون من مكارم الأخلاق الدالة على طيب الأعراق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهو ما أوصاه به ربه عز وجل في قوله خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فلما امتثل أمر ربه وناطقه بشغاف قلبه أثنى على فعله بقوله تنويهاً بفضله الجسيم وإنك لعلى خلق عظيم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا من وصل من قطعه وعفا عمن

ظلمه وأعطى من حرمه وقال الحسين بن مطير يفتخر أحب مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وإن أعابا وأصفح عن سباب الناس حلماً ... وشرّ الناس من يهوى السبابا ومن هاب الرجال تهيبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا وقال الأحنف بن قيس واسمه الضحاك وقيل صخر لبنيه ألا أدلكم على المحمدة الخلق السحيح والكف عن القبيح وقال أكثم بن صيفي لولده يا بني ذللوا أخلاقكم للمطالب وقودوها على المحامد وعلموها المكارم ولا تقيموا على خلق تذمونه من غيركم وصلوا من رغب إليكم وتخلقوا بالجود يلبسكم المحبة ولا تعتقدوا البخل فتتعجلوا الفقر وقيل لحممة بن رافع الدوسي من أكرم الناس قال من إذا قرب منح وإذا بعد مدح وإذا ظلم صفح وإذا ضويق سمح وقالوا من الأخلاق التي تزين ولا تشين وتحض على المكرمات وتعين نشر البشر وترك الكبر ونصر الحر وسلامة الصدر وقال جعفر بن محمد الصادق خير السادة أرحبهم ذراعاً عند الضيق وأعدلهم حلماً عند الغضب وأبسطهم وجهاً عند المسئلة وأرحمهم قلباً إذا سلط وأكثرهم صفياً إذا قدر وقال عامر العدواني يا معشر عدوان الخير ألوف عروف وإنه لن يفارق صاحبه حتى يفارقه وإني لم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم وقال يزيد بن المهلب استكثروا من الحمد فإن الذم قلما ينجو منه أحد ومن رغب في المكارم صبر على المكاره واجتنب المحارم ويقال المكارم موصولة بالمكاره فمن أراد مكرمة احتمل مكروهاً وقال أبو الشيص عشق المكارم فهو معتمد لها ... والمكرمات قليلة العشاق

وأقام سوقاً للثناء ولم يكن ... سوق الثناء يعدّ في الأسواق بث الصنائع في البلاد فأصبحت ... يجبي إليه مكارم الأخلاق وقال أبو الطيب المتنبي تلذ له المروأة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام ولله در القائل الحمد شهد لا يرى مشتاره ... يجنيه إلا من نقيع الحنظل غلّ لحامله ويحسبه امرؤ ... لم يوه عاتقه خفيف المحمل وقال علي بن الفضل لو قرب الدرّ على جلابه ... ما نجح الغائص في طلابه ولو أقام لازماً أصدافه ... لم تكن التيجان في حسابه ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه ... إلا وراء الهول من عبابه من يعشق العلياء يلقى عندها ... ما لقى المحب من أحبابه وقال الشاعر دعيني أنل ما لا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصعب والصعب في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل

من روائع عادات السادات ووشائع سادات العادات

وقال الأشعث بن قيس واسمه معد يكرب لقومه إنما أنا رجل منكم ليس لي فضل عليكم ولكني أبسط لكم وجهي وأبذل لكم مالي وأحفظ حريمكم وأقضي حقوقكم وأعود مريضكم وأشيع جنائزكم فمن فعل مثل هذا فهو مثلي ومن زاد عليه فهو خير مني ومن قصر عنه فأنا خير منه قيل له وما هذا قال أحضكم على مكارم الأخلاق من روائع عادات السادات ووشائع سادات العادات السخاء والنجدة والمروأة فالسخاء التبرع بالنائل قبل الحاف السائل والنجدة الذب عن الجار والاقدام عند الكريهة والمروأة حفظ الرجل دينه وإحراز نفسه عن الدنس إلى غير ذلك من الأخلاق الجميلة التي هي بالمدح كفيلة وسنذكر جملة منها فيما سيأتي وقبل أسباب السودد سبعة العقل والحلم والصيانة والصدق والعلم والسخاء وأداء الأمانة وأضيف إلى ذلك الصبر والتواضع والعفاف تلك عشرة كاملة هي لمحاسن الشيم شاملة وقال ابن عمر ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحابة أسود من معاوية فقيل له أهو خير من أبي بكر وعمر قال هما خير منه وهو أسود منهما لحلمه وجوده فأنا معشر قريش نعد الحلم والجود السودد ويحكي أن رجلاً رأى معاوية وهو صغير يلعب مع الصبيان فقال إني أظن هذا الغلام سيسود قومه قالت أمه هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه وقيل السيد من أورى ناره وحمى معاره ومنع جاره وأدرك ثاره وقال النبي صلى الله عليه وسلم اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا الأمانة إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم وذكر أن عبد الملك بن مروان دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص فسلم ثم جلس فلم يلبث أن قام قال معاوية ما أكمل مروأة هذا الفتى قال عمرو إنه أخذ بأخلاق أربعة وترك أخلاقاً أربعة أخذ بأحسن البشر إذا ألقى

وبأحسن الحديث إذا حدث وبأحسن الاستماع إذا حدث وبأيسر المؤنة إذا حولف وترك مزاح من لا يثق بعقله وترك مجالسة من لا يرجع إلى دينه وترك مخالطة لئام الناس وترك من الكلام كل ما يعتذر منه وقال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان بم بلغ فيكم الأحنف ما بلغ قال إن شئت أخبرتك بخلة واحدة وإن شئت بخلتين وإن شئت بثلاث قال فما الخلة قال كان أقوى الناس على نفسه قال وما الخلتان قال كان موقي الشر ملقي الخير قيل فما الثلاث قال كان لا يحسد ولا يبخل ولا يبغي وقال رجل للأحنف بم سودك قومك وما أنت بأشرفهم بيتاً ولا بأصبحهم وجهاً ولا بأحسنهم خلقاً قال بخلاف ما فيك يا ابن أخي قال وما ذاك قال بتركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك وقال عبد الملك لبنيه كلكم يترشح لهذا الأمر ولن يصلح له إلا من كان له سيف مسلول ومال مبذول ولسان معسول وعدل تطمئن إليه القلوب وأمن تستقر به في مضاجعها الجنوب وقيل لقيس بن عاصم المنقري بم سدت قومك قال ببذل القرى وترك المرا ونصرة المولى وروى علي رضي الله عنه قال لما أتينا بسبايا طيء كانت في النساء جارية هيفاء سمراء كحلاء لمياء خميصة الخصر هضيمة الكشح مصقولة المتن فلما رأيتها أعجبت بها فلما تكلمت أنستني بمقالها ما رأيته من جمالها فكان من كلامها أن قالت يا محمد هلك الوالد وغاب الوافد فإن رأيت أن تمن علي وتخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومها إن أبى كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويفشي السلام ولا يرد طالب حاجة أبداً فقال عليه الصلاة والسلام من أبوها قالوا حاتم طيء فقال عليه الصلاة والسلام لو كان أبوها مسلماً لترحمنا عليه خلواً عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ثم قال للمسلمين ما حازت أسنتها وحوته أعنتها غير التهيئة والابضاع فلو فعلوا لفعلت فقالوا يا رسول الله أمرنا لأمرك تبع فاصنع ما بدا لك فقال أعلى أصحابي وأهلك أعدائي وأبدل الأنصار بالمضاضة غضاضة وأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى أخيها عدي وكان بدومة الجندل فقالت إئت هذا

الرجل قبل أن تعلقك حبائله فإني رأيت هدياً ورأياً ستغلب به أهل الغلب رأيت خصالاً أعجبتني رأيته يحب الفقير ويفك الأسير ويرحم الصغير ويعرف حق الكبير وما رأيت أحداً أجود منه ولا أكرم صلى الله عليه وسلم وقال معاوية لا ينبغي للملك أن يكون كذاباً ولا حديداً ولا بخيلاً ولا جباناً ولا حسوداً فإنه إن كان كذاباً ووعد بخير لم يرج أو أوعد بشر لم يخف وإن كان حديداً مع القدرة هلكت الرعية وإن كان بخيلاً لم يناصحه أحد ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة وإن كان جباناً اجترأ عليه عدوه وضاعت ثغوره فذل وإن كان حسوداً لم يشرف أحداً ولا يصلح الناس إلا بأشرافهم ويقال ليس للملك أن يغضب لأن القدرة من وراء حاجته وليس له أن يكذب لأن أحداً يسترده حديثاً ولا أحد يكرهه على ما يريد وليس له أن يكون حقوداً الآن خطره عظيم عن المجازاة وقال عبد الله بن طاهر لا ينبغي للملك أن يظلم وبه يستدفع الظلم ولا أن يعجل ومنه تلتمس الأناة ولا أن يبخل ومنه يتوقع الجود وقالوا ينبغي للملك أن يكون سخياً لا يبلغ التبذير وحافظاً لا يبلغ البخل وشجاعاً لا يبلغ التهور ومحترساً لا يبلغ الجبن وقائلاً لا يبلغ الهذر وصموتاً لا يبلغ الغي وحليماً لا يبلغ العجز وقال أسماء ابن خارجة لا أشاتم أحداً ولا أرد سائلاً فإنما هو كريم أسد خلته أو لئيم أستر عرضي منه وروى البيهقي في كتابه شعب الايمان بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في ابنه وتكون في الابن ولا تكون في أبيه وتكون في العبد ولا تكون في سيده يقسمها الله لمن شاء من عباده صدق الحديث وصدق البأس وأن لا يشبع وجاره وصاحبه جائعان وإعطاء السائل والمواساة بالنائل والمكافأة بالصنائع وحفظ الأمانة وصلة الرحم والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء ومن أخلاقهم صون الوجه بقناع الحياء وعقل اللسان عن اللجاج والمراء الحياء دليل الدين الصحيح وشاهد الفضل الصريح وسمة الصلاح الشامل وعنوان الفلاح الكامل من كان فيه نظم قلائد المحامد ونسق وجمع من خلال الكمال ما افترق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء خلقاً وخلق هذا الدين الحياء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء من الايمان والايمان في الجنة وقال الحياء لا يأتي إلا بخير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيوا من الله حق الحياء قيل كيف ذلك يا رسول الله قال من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وذكر الموت والبلا وترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء فالحياء اسم جامع يدخل فيه الحياء من الله تعالى لأن ذمه فوق كل ذم ومدحه فوق كل مدح وقال يزيد ابن علي إني لأستحيي من الله تعالى أن أفضي إليه بشيء أخفيه من غيره والحياء من الناس يكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال من تقوى الله اتقاء الناس وقيل هو أن يستحيي منهم في سره كما يستحيي منهم في جهره وقيل من المروأة أن لا تعمل شيأ في السر يستحيا منه في العلانية وكان يقال أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عليك بالحياء والأنفة فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبت الخساسة وأما استحياء الرجل من نفسه فهو أن لا يأتي في الخلاء إلا ما يأتي في الملا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيأ عرفناه في وجهه وكان عثمان بن عفان قد خص من الحياء بأجل السهام ومنح منه بأوفر الأقسام وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تستحيي منه الملائكة الكرام قال الامام مالك رضي الله عنه إنه أول من ضرب الأبنية في السفر وقالوا من لا يستحيي من نفسه فجدير أن لا يستحيي من غيره وقالوا في حده الحياء التوقي من فعل المساوي خوف الذم ويقال الحياء خوف المستحيي من تقصير يقع به من غير من هو أفضل منه وقال عمرو بن بحر الجاحظ الحياء لباس سابغ وحجاب واق وستر من العيب وأخو العفان وحليف الدين ورقيب من العصمة وعين كالئة تذود عن الفحشاء وتنهى عن ارتكاب الأرجاس وسبب إلى كل جميل وقالوا من عفت أطرافه حسنت أوصافه ويقال لا ترض قول امرئ حتى ترضي فعله ولا ترض فعله حتى ترض عقله ولا ترض عقله حتى ترضي حياءه فإن ابن آدم مجبول على أشياء من كرم ولؤم فإذا قوى الحياء قوى الكرم وإذا ضعف الحياء قوى اللؤم وقال بشار بن برديس له أن يكون حقوداً الآن خطره عظيم عن المجازاة وقال عبد الله بن طاهر لا ينبغي للملك أن يظلم وبه يستدفع الظلم ولا أن يعجل ومنه تلتمس الأناة ولا أن يبخل ومنه يتوقع الجود وقالوا ينبغي للملك أن يكون سخياً لا يبلغ التبذير وحافظاً لا يبلغ البخل وشجاعاً لا يبلغ التهور ومحترساً لا يبلغ الجبن وقائلاً لا يبلغ الهذر وصموتاً لا يبلغ الغي وحليماً لا يبلغ العجز وقال أسماء ابن خارجة لا أشاتم أحداً ولا أرد سائلاً فإنما هو كريم أسد خلته أو لئيم أستر عرضي منه وروى البيهقي في كتابه شعب الايمان بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في ابنه وتكون في الابن ولا تكون في أبيه وتكون في العبد ولا تكون في سيده يقسمها الله لمن شاء من عباده صدق الحديث وصدق البأس وأن لا يشبع وجاره وصاحبه جائعان وإعطاء السائل والمواساة بالنائل والمكافأة بالصنائع وحفظ الأمانة وصلة الرحم والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء ومن أخلاقهم صون الوجه بقناع الحياء وعقل اللسان عن اللجاج والمراء الحياء دليل الدين الصحيح وشاهد الفضل الصريح وسمة الصلاح الشامل وعنوان الفلاح الكامل من كان فيه نظم قلائد المحامد ونسق وجمع من خلال الكمال ما افترق

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء خلقاً وخلق هذا الدين الحياء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء من الايمان والايمان في الجنة وقال الحياء لا يأتي إلا بخير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيوا من الله حق الحياء قيل كيف ذلك يا رسول الله قال من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وذكر الموت والبلا وترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء فالحياء اسم جامع يدخل فيه الحياء من الله تعالى لأن ذمه فوق كل ذم ومدحه فوق كل مدح وقال يزيد ابن علي إني لأستحيي من الله تعالى أن أفضي إليه بشيء أخفيه من غيره والحياء من الناس يكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال من تقوى الله اتقاء الناس وقيل هو أن يستحيي منهم في سره كما يستحيي منهم في جهره وقيل من المروأة أن لا تعمل شيأ في السر يستحيا منه في العلانية وكان يقال أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عليك بالحياء والأنفة فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبت الخساسة وأما استحياء الرجل من نفسه فهو أن لا يأتي في الخلاء إلا ما يأتي في الملا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيأ عرفناه في وجهه وكان عثمان بن عفان قد خص من الحياء بأجل السهام ومنح منه بأوفر الأقسام وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تستحيي منه الملائكة الكرام قال الامام مالك رضي الله عنه إنه أول من ضرب الأبنية في السفر وقالوا من لا يستحيي من نفسه فجدير أن لا يستحيي من غيره وقالوا في حده الحياء التوقي من فعل المساوي خوف الذم ويقال الحياء خوف المستحيي من تقصير يقع به من غي

ر من هو أفضل منه وقال عمرو بن بحر الجاحظ الحياء لباس سابغ وحجاب واق وستر من العيب وأخو العفان وحليف الدين ورقيب من العصمة وعين كالئة تذود عن الفحشاء وتنهى عن ارتكاب الأرجاس وسبب إلى كل جميل وقالوا من عفت أطرافه حسنت أوصافه ويقال لا ترض قول امرئ حتى ترضي فعله ولا ترض فعله حتى ترض عقله ولا ترض عقله حتى ترضي حياءه فإن ابن آدم مجبول على أشياء من كرم ولؤم فإذا قوى الحياء قوى الكرم وإذا ضعف الحياء قوى اللؤم وقال بشار بن برد وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فاتركها وفي بطني انطواء فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء وقال بعض الأعفاء ورب قبيحة ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياء فكان هو الدواء لها ولكن ... إذا ذهب الحياء فلا دواء وقالوا لا يزال الوجه كريماً ما دام حياؤه ولم يرق باللجاج ماؤه وقالوا حياة الوجه بحياته كما أن حياة الغرس بمائه وقال ابن المعتز في كتاب الأدب من كساه الأدب ثوبه ستر عن الناس عيبه وقالوا فلان يتحدر من أسارير وجهه ماء الحياء وينير لألاء غرته حنادس الظلماء وقال الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم ليلى الأخيلية في توبة الحميري ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما حتى إذا رفع اللثام رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما

جوامع ممادح الأخلاق والشيم

ولابن المعتز ويظل صباغ الحياء بخدّه ... تعباً يصفر تارة ويورّد وقال آخر كريم وغض الطرف بعض صفاته ... ويدنو وأطراف الرماح دوان جوامع ممادح الأخلاق والشيم المتحلية بها ذوو الأصالة والكرم مدح أعرابي رجلاً فقال كان والله تعب في المكارم غير ضال في طرقها ولا متشاغل بغيرها عنها وقال آخر فلان لو وجد الكرم في يد غيره لعلم أنه ضالة له ومدح أعرابي رجلاً فقال كان والله صحيح النسب محكم الأدب من أي أقطاره أتيته انثنى إليك بكرم فعال وحسن مقال وذكر أعرابي رجلاً فقال كان الألسن والقلوب ريضت له فلا تنعقد إلا على وده ولا تنطق إلا بثنائه وحمده وقالوا فلان من شجر لا يختلف ثمره ومن ماء لا يأتلف كدره وسأل يحيى بن خالد رجلاً عن أبيه الفضل فقال تركته وماء الحياء يتحدر من أسارير وجهه وسيول الجود سائلة من فروج أنامله ولآلئ العلم منتثرة من مسارب منطقه نظم هذه الكلمات إبراهيم بن هلال الصابي في أبيات يمدح بها الوزير المهلبي له يد برعت جوداً بنائلها ... ومنطق درّه في الطرس منتثر فحاتم كامن في بطن راحته ... وفي أناملها سحبان مستتر وقال زرعة بن سنان مادحاً مآثره غرّو أيامه زهر ... وطلعته بدر وراحته بحر

وهذا غاية في التقسيم وقال ديك الجن يفتخر بمثل ذلك إن العلا شيمي والبأس من نقمي ... والمجد خلط دمي والصدق حشو فمي وقال النمر بن نوار مفتخراً لا يعلم اللامعات اللائحات ضحى ... ما تحت كشحي ولا يعلمن أسراري ولا أخون ابن عمي في حليلته ... ولا البعيد نأى عني ولا جاري وقال آخر يفتخر بنفسه وكان دميم الخلق أي قصيراً ألم تعلمي يا عمرك الله إنني ... كريم على حين الكرام قليل إذا كنت في القوم الطوال فضلتهم ... بعارفة حتى يقال طويل فإن لم يكن جسمي طويلاً فإنني ... له بالفعال الصالحات وصول وقال ابن حبيب المهمي إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي ... له مركب فضل فلا حملت رحلي ولم يك من زادي له نصف مزودي ... فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا رحل شريكين فيما نحن فيه وقد أرى ... عليّ له فضلاً بما نال من فضلي آخر وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركائب وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لأبعثها خفاً وأترك صاحبي إذا كنت رباً للقلوص فلا تدر ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب أنخها وأدرفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب

الأسباب المانعة من السيادة سبعة

وقال ملك بن نويرة الفزاري لا يبعد الله قوماً إن سألتهم ... اعطوا وإن قلت يا قوم انصروا نصروا وإن أصابتهم نعماء سابغة ... لم يبطروها وإن فاتتهم صبروا والكاسرون عظاماً لا جبار لها ... والجابرون عظاماً ليس تنكسر وقال مروان بن أبي حفيصة يمدح آل معن بن زائدة من أبيات هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ... ولو أحسنوا في النائبات وأجملوا الأسباب المانعة من السيادة سبعة الحداثة والبخل والزنا والظلم والحمق والفقر والكذب واعتبرت هذه الأسباب فوجدتها قد تفرقت في الأعيان الأماثل والسرات الأفاضل أما الحداثة فقد ساد أبو جهل وماطر شاربه ودخل دار الندوة وما استوت لحيته وأما البخل فقد ساد أبو سفيان وكان أبخل من نار الحباحب وقيل من أبي حباحب وأما الزنا فقد ساد عامر بن الطفيل وكان أزنى من قرد وأما الظلم فقد ساد كليب بن وائل وكان أظلم من حية وأما الحمق فقد ساد عيينة بن حصن وكان أظلم من دغة وأما الفقر فقد ساد أبو طالب وعتبة ابن ربيعة وكانا أفلس من ابن المذلق ولا يعرف في العرب والعجم كذاب ساد قط إلا المهلب بن أبي صفرة فإنه كان أكذب من فاختة وكان إذا أخذ في الحديث يقول أصحابه راح يكذب

شرح ما ذكر من الأمثال الواقعة في هذا المثال

شرح ما ذكر من الأمثال الواقعة في هذا المثال أما سيادة أبي جهل ودخوله دار الندوة فكانت دار الندوة نادي سادات قريش لا يدخلها إلا مسود وأما قولهم أبخل من أبي حباحب على أحد الروايتين فهو رجل من العرب كان لبخله يوقد ناراً ضعيفة فإذا أبصرها مستضئ أطفأها وعلى الرواية الأخرى فهي النار التي تقدحها الخيل بحوافرها وتوصف بالبخل لقلتها وعدم الانتفاع بها وأما قولهم أزنى من قرد فهو قرد بن عمرو بن معاوية الهذلي وقيل هو الحيوان المعروف وأما قولهم أظلم من حية فلأنها لا تتخذ لنفسها بيتاً بل كل حجر أمته هرب أهله منه وتركوه لها وأما قولهم أحمق من دغة فإنها مارية بنت مغنج وهو ربيعة ابن عجل ومن حمقها إنها تزوجت وهي صغيرة في بني العنبر بن تميم فحملت فلما أضر بها المخاض ظنت أنها تريد الخلاء فبرزت إلى بعض الغيطان فوضعت فاستهل الوليد فانصرفت إلى الرحل تظن أنها أحدثت فقالت لضرتها يا هنتاه أيفغر الجعرفاه قالت نعم ويدعو أباه ثم مضت الضرة وأخذت الولد إليها وربته وبنو العنبر يعيرون بذلك ويعرفون ببني الجعراء وأما قولهم أفقر من ابن المذلق فهو رجل من بني عبد شمس بن سعد بن زيد مناة لم يكن يجد بيته ليلة وأبوه وأجداده يعرفون بالافلاس وفي أبيه يقول الشاعر فإنك إن ترجو تميماً ونفعها ... كراجي الندى والعرف عند المذلق ويروى بالدال المهملة وأما قولهم أكذب من فاختة فلان حكاية صوتها هذا زمان الرطب تقول ذلك والطلع لم يطلع قال بعضهم أكذب من فاختة ... تصيح عند الكرب والنخل غير مطلع ... هذا أوان الرطب

الفصل الثاني من الباب الأول

وقالوا عشر خصال في أناس أقبح منها في غيرهم الفسق في الملوك والكذب في القضاة والخديعة في العلماء والغضب في الأبرار والغدر في الأشراف والسفه في الشيوخ والمرض في الأطباء والتهزي في الفقراء والشح في الأغنياء والفخر في الأعزاء الفصل الثاني من الباب الأول في ذكر الصنائع والمآثر المفصحة عن أحساب الأكابر قال خالد بن صفوان كان الأحنف بن قيس يفر من الشرف والشرف يتبعه لما تولى عبد الله بن طاهر بن الحسين خراسان بعد موت أبيه من قبل الواثق دخل عليه عبد الله بن خليد بن سعد المعروف بأبي العميثل بقصيدة يمدحه فيها ويهنئه بالولاية فجاء منها قوله يا من يؤمّل أن تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت واسمع اصدق وعفّ وبرّ وأنصف واحتمل ... واكفف وكاف ودار واحلم واشجع والطف ولن واشتدّ وارفق واتئد ... واحزم وجدّ وحام واحمل وادفع فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... وهديت للنهج الأسدّ المهيع آخر إن كنت ترغب في شأو الكرام فسر ... في الناس بالفضل والدين الذي شرعوا حافظ إذا غدروا واشجع إذا جبنوا ... واحلم إذا جهلوا وابذل إذا منعوا فمن مآثر ذوي الكرم في النجار الذب عن النزيل وحفظ الجار كما قيل الكريم يرعى حق اللحظ ويتعهد حرمة اللفظ وقالوا وجه الكريم جنة وكنفه جنة كان بعض الهاشميين إذا نزل به جار قال له يا هذا إنك قد

اخترتني جاراً واخترت داري داراً فجناية يدك علي دونك فاحتكم علي حكم الصبي على أهله وهذا مثل تضربه العرب في التزام ما يحكم به عليها وذلك أن الصبي إذا كان عزيزاً في أهله حمله الدلال على طلب ما يستحيل وجوده ويصعب مرامه فهم أبداً يسعون في تحصيل أغراضه وآرابه ليظفروا برضاه ويقدموه على أترابه وكان حارثة بن مر يسمى مجير الجراد وذلك أنه نزل بفنائه جراد فغدا أهل الحي إليه ليدفعوه عنهم فمنعهم منه وقال لهم ما تريدون منه قالوا نريد قتله فإنه نزل بجوارك فقال أما إذ سميتموه جاري فوالله لا تصلون إليه أبداً وطردهم عنه وكان ثور بن شحمة العنبري يسمى مجير الطير فكانت الطير لا تصاد بأرضه ولا تضار وحكى أن زياداً الأعجم وفد على المهلب فأكرمه وأنزله على أبيه فجلسا يوماً يشربان في بستان فغنت حمامة على فنن فطرب لها زياد فقال له حبيب إنها فاقدة ألف كنت أراه معها فقال زياد هو اشد لشوقها ثم أنشد تغني أنت في ذممي وعهدي ... وذمّة والدي أن لا تضاري وعشك أصلحيه ولا تخافي ... على زغب مصغرة صغار فإنك كلما غنيت صوتاً ... ذكرت أحبتي وذكرت داري فأمّا يقتلوك طلبت ثأراً ... لأنك يا حمامة في جواري فضحك حبيب ثم قال يا غلام هلم القوس فجاء بها فنزع لها بسهم فأصابها فوقعت ميتة فنهض زياد مغضباً وقال أخفرت أبا بسطام ذمتي وقتلت جاري وشكاه إلى المهلب فغضب على حبيب وقال أما علمت أن جار أبي لبابة جاري وذمته ذمتي والله لألزمنك دية الحرو أخذ له من ماله ألف دينار فقال فيه من أبيات ذكر القصة فيها جاء منها قوله فلله عيناً من رأى كقضية ... قضى لي بها شيخ العراق المهلب قضى ألف دينار لجار أجرته ... من الطير إذ يبكي شجاه ويندب ولما ولي صالح بن علي مصر من قبل ابن أخيه أبي العباس السفاح خرج عليه رجاء بن روح بفلسطين مع عمه الحكم بن ضبعان وكان على شرطة مصر

فأرسل إليهم أبا عون ومحمد بن أشعث الخزاعي بعسكر فهزما الحكم وبلغ صالح ابن علي أن رجاء بن روح دخل مصر واستجار بمحمد بن معاوية فأجاره فأرسل إليه فحضر فقال ألم أكرمك ألم أشرفك قال بلى قال فكان جزائي منك أن أجرت عدوي قال وما ذاك أيها الأمير قال رجاء بن روح وابنه قال أصلح الله الأمير اختر واحدة من اثنتين لي فيهما براءة أما أن أثلج صدرك بيمين أو ترسل رجلاً من ثقاتك يفتش منازلي قال وتحلف قال نعم فأحلفه بطلاق زوجته وعتق عبيده ومشيه إلى مكة راجلاً حافياً فحلف له ثم انصرف إلى منزله وأعلم زوجته فاعتزلت عنه وقالت له لا تنقطع عني لئلا يشعر بك فلما عزل صالح عن مصر ورجع إلى بغداد أظهر محمد بن معاوية طلاق زوجته وأعتق رقيقه ومشى إلى مكة كما شرط عليه ولما كان يوم فتح مكة لجأ الحرث بن هشام إلى منزل أم هانئ أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستجيراً بها فدخل عليها علي فخبرته الخبر فأخذ السيف ليقتله فقالت أم هانئ يا ابن أم قد أجرته فلم يلتفت إلى قولها فوثبت فقبضت على يديه وقالت والله لا تقتله وقد أجرته فلم يقدر علي أن يرفع قدمه عن الأرض وجعل يتفلت منها فلا يقدر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم إليها فقالت يا رسول الله ألا ترى إني أجرت فلاناً فأراد علي أن يقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت ولا تغضبي علياً فإن الله يغضب لغضبه أطلقي عنه فأطلقت عنه فقال عليه الصلاة والسلام يا علي غلبتك امرأة فقال والله يا رسول الله ما قدرت أرفع قدمي من الأرض فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لو أن طالباً ولد الناس كانوا شجاعاً ومن أحسن ما يحكي في هذا الباب أهدر المهدي دم رجل كان يسعى في فساد دولته وجعل لمن يقتله أو يأتيه به مائة ألف درهم فاختفى الرجل زماناً ثم ظهر مستنكراً خائفاً يترقب فبصر به رجل في بعض دروب بغداد فعرفه وأخذ بيده وقال بغية أمير المؤمنين فاجتمع الناس عليه وجهدوا على أن يطلقوه منه

فلم يقدروا فمر به وهو في تلك الحالة معن بن زائدة فناداه يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فوقف الرجل وقال للرجل الذي تعلق به ما شأنك قال بغية أمير المؤمنين الذي جعل لمن يقتله أو يأتيه به مائة ألف درهم فقال معن لبعض علمائه انزل عن دابتك واحمله عليها وانطلق به إلى منزلي فقال الرجل أتحول بيني وبين بغية أمير المؤمنين فقال معن اذهب إلى أمير المؤمنين وأخبره أنه عندي فذهب الرجل وأوصل الخبر إلى المهدي فبعث إليه من يحضره فركب معن وقال لمن خلفه من غلمانه في منزله لا يخلص إلى هذا الرجل أحد وفيكم عين تطرف فلما دخل على المهدي سلم فلم يرد عليه السلام وقال له أتجير علي قال نعم قال ونعم أيضاً فقال معن يا أمير المؤمنين لقد قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفاً في أيام كثيرة عرف فيها بلائي وعنائي فما رأيتموني أهلاً لأن يوهب لي رجل واحد استجار بي فأطرق المهدي ملياً ثم رفع رأسه وقد سرى عنه وقال لقد أجرنا من أجرت يا أبا الوليد فقال معن فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه فقال قد أمرنا له بخمسين ألفاً فقال يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء تكون على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم فأجزل له الصلة قال قد أمرنا له بمائة ألف درهم قال عجلها له فإن خير البر عاجله فعجلت فأخذها وانصرف بها إلى الرجل ولم ير المهدي وجهه والمثل المضروب في هذا الباب جار كجار أبي دواد وذلك أن أبا دواد نزل بكعب بن مامة وكان كعب إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه وأهله وحماه ممن يقصده وإن هلك له شيء أخلفه عليه وإن مات وأراه التراب فجاوره أبو دواد الأيادي فتعلم منه فكان يفعل بجاره ما فعل كعب به فضرب به المثل ونسي كعب قال علي بن العباس بن جريج الرومي هو المرء أمّا ماله فمحلل ... لعاف وأمّا جاره فمحرم

من صنيع من زكت في الكرم أرومه

وقال شبيب بن البرصاء وجاراتنا ما دمن فينا عزيزة ... كأروى ثبير لا يحل اصطيادها يكون علينا نقضها وضمانها ... وللجاران كانت تريد ازديادها وقال مروان بن أبي حفصة هم المانعون الجار حتى كأنما ... لجارهم فوق السماكين منزل ولآخر الباذلون الندى والناس باخلة ... والمانعون وحق الجار يخترم من صنيع من زكت في الكرم أرومه صون المضيم بنفسه من عدو يرومه ورد في بعض الآثار أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود اسمع مني والحق أقول من لقيني بحسنة واحدة حكمته في رحمتي قال داود يا رب وما تلك الحسنة قال من فرج عن مكروب كربته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب الآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ويقال من كفارات عظائم الذنوب إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب وقيل أفضل المعروف إغاثة الملهوف ومن أمثالهم رب أخ لك لم تلده أمك فمن الأخبار في ذلك ما حكى إن حاتماً الطائي مر بأرض غزة فناداه أسير يا أبا سفانة أكلني القد والأسار والقمل فقال ما أنا بأرض قومي وقد أخطأت إذ نوهت باسمي ولا معي ما أفديك به ثم قال للذي هو في يده خل

عنه سبيله واجعلني في القد مكانه ففعل وبعث إلى قومه فأتوه بما فدى به نفسه وذكر إن بني كلب بن وبرة أغاروا على حي من أحياء العرب فقتلوا منهم عشرة أنفس غيلة فاستنجدوا عليهم وقالوا أما الثأر وأما الديات فسألوهم المهلة في ذلك إلى أجل فأجابوا فخرج بنو كلب يسألون قبائل العرب المعونة حتى قدموا أرض تميم فقروا ماء ماء وحيا حيا فلم يجدوا أحداً يدفع عنهم ولا يعينهم وكانوا زهاء مائة نفس فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة بن عدي فسألوه ذلك فقال قولوا شعراً وخذوها فلم يكن فيهم من يقول شعراً فتركوه ومضوا فأتوا على بني مجاشع فمروا بواد قد امتلأ إبلاً وبه صعصعة جد الفرزدق وهو بفناء إبل له فسألوه القرى فقال لكم البذل قبل القرى ما الذي جئتم فيه فأخبروه بأمرهم فأعطاهم عشر ديات ثم أنزلهم وأضافهم فقالوا أرشدك الله من سيد أرحتنا من طول التعب ولو عرفناك لقصدناك وصعصعة هذا أول من ترك وأد البنات وفداهن بماله وكفت العرب عن وأدهن من بعد ومما يمتزج بما ذكرناه امتزاج اللبن بالماء القراح ويتعلق به تعلق الأنامل بالراح ما حكاه الجهشياري في كتاب الوزراء إنه لما تفرق الأمر عن مروان بن محمد الجعدي طلب عبد الحميد بن يحيى كاتبه وكان صديقاً لعبد الله بن المقفع ففاجأه الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا عليهما أيكما عبد الحميد فقال كل واحد منهما أنا خوفاً أن ينال صاحبه مكروه وخشى عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع ما يكره فقال لهم تثبتوا فإن في عبد الحميد علامات يعرف بها فأرسلوا إلى مرسلكم من يستوصفها منه فأينا وجدتموها فيه فخذوه ففعلوا فوصف لهم عبد الحميد بعلامات اشتمل عليها بدنه فأخذ وحمل إلى أبي العباس السفاح فولي عقوبته عبد الجبار بن عبد الرحمن فكان يحمي له طشتاً ويضعه على رأسه فلم يزل يفعل به ذلك حتى مات وقيل غير ذلك وأنا ذاكره فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وقريب من هذه الحكاية ما حكاه صاحب المستجاد قال لما أحرق جامع مصر ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه فأحرقوا لهم خانا كانوا يبيعون فيه الزيت فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخان وكتب رقاعاً فيها القتل وفيها القطع وفيها الجلد ونثرها عليهم فمن وقعت في يده رقعة فعل به ما فيها فوقعت في حجر رجل رقعة فيها القتل فلما قرأها بكى وقال والله لولا

أم لي ما باليت فالتفت إليه شاب كان إلى جانبه فقال له في رقعتي الجلد ولا أم لي فخذ رقعتي وادفع إلي رقعتك فأبى عليه فأقسم أن لا بد ففعلاً فقتل هذا وجلد هذا وحكى الزبير بن بكار في كتابه الذي سماه الموفقيات قال استشهد باليرموك الحرث بن هشام وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو فأتوا بماء وهم صرعى وفيهم رمق فتدافعوه كلما دفع إلى رجل منهم قال إسق فلاناً حتى ماتوا ولم يشربوه مسلم بن الوليد يمدح من هذه خلقه يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود وقال عمارة بن حمزة ينسى مضرّته لنفع صديقه ... لا خير في شرف إذا لم ينفع البحتري يخونك ذو القربى مراراً وربما ... وفي لك عند العهد من لا تناسبه وحسب الفتى من نصحه ووفائه ... تمنيه أن يؤذي ويسلم صاحبه آخر قوم إذا حالفتهم ... لم تخش نائبة الصروف وإذا وصلت بحبلهم ... حبلاً أمنت من المخوف

من أمتن أسباب الحسب والديانة وفاء العهد وأداء الأمانة

وقال أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمى يمدح الأمين بحسن العهد والتذمم أخذت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان تغطيت من دهري بفضل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام عني لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني من أمتن أسباب الحسب والديانة وفاء العهد وأداء الأمانة قالوا الوفاء أفضل شمائل العبد وأوضح دلائل المجد وأقوى أسباب الاخلاص في الود وأحق الأفعال بالشكر والحمد وقالوا الوفاء أتم حميد الخلال ومنتهى غاية الكمال تمس الحاجة إليه وتجب المحافظة عليه ولقد صار رسماً دارساً وحلة لا تجد لها لابساً ومنقبة قل أن تجد فيها مستأنساً ولله در من قال وصادق الودّ صادق الخبر ... مغري برعي العهود مصطبر هذا الذي لا أزال أسمعه ... وما له في الزمان من أثر لو أن كفى بمثله ظفرت ... قاسمته في المتاع والعمر وقالوا من صحب الناس بلسان صادق وعاملهم بحسن الخلائق وألزم نفسه رعى العهود والمواثق فقد أرضى المخلوق والخالق ويقال بالوفاء تملك القلوب وتستدام الألفة بين المحب والمحبوب وقالوا من تحلى بالوفاء وتخلى عن الجفاء فذلك من اخوان الصفاء ولقد أحسن من قال إذا أنت محضت المودّة صافياً ... ولم تر عن وصل الصديق مجافيا ووفيت بالعهد الذي خانه الورى ... ولم أر مخلوقاً على العهد باقيا فقد حزت أسباب المكارم كلها ... وجدّدت للعليا رسوماً عوافيا

وقالوا الوفاء ضالة كثير ناشدها قليل واجدها كما قيل الوفاء من شيم الكرام والغدر من خلائق اللئام وقالوا إذا ترك الوفاء نزل البلاء ويقال من أودع الوفاء صدور الرجال ملك أعناقهم ومن أمثالهم في ذلك أوفى من السموأل وهو السموأل بن عادياء بن حياء اليهودي صاحب قصر تيماء المسمى بالأبلق الفرد ومن خبره أن امرأ القيس كان قاصداً للشأم فأودع السموأل أدراعه وكراعه فمات امرؤ القيس بأنقرة فقصد السموأل بعض ملوك غسان يطلب منه ما كان أودعه امرؤ القيس عنده فأبى أن يسلمه له فقال إن لم تسلمه ذبحت ولدك وكان قد أسره عند نزوله على القصر فقال أبلني الليلة ثم جمع أهله واستشارهم فكل أشار بأن يدفع إليه ما طلبه منه فلما أصبح قال له ليس إلى دفعها سبيل فافعل ما بدا لك فذبح الملك ولده ورحل عنه ثم إن السموأل وافى الموسم بالادراع فدفعها لورثة امرئ القيس وفيه يقول الأعشى يخاطب شريح بن السموأل بن عادياء وقيل شريح بن حصن بن السموأل وقيل شريح بن عمران بن السموأل من أبيات كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرّار بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدّار فسامه خطتي خسف فقال له ... قل ما بدا لك إني مانع جاري فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري فقال تقدمة إذرام يقتله ... أشرف سموأل فانظر في الدم الجاري أأقتل ابنك صبراً أو تجئ بها ... طوعاً فأنكر هذا أيّ إنكار فشك أوداجه والصدر في مضض ... عليه منطوياً كاللذع بالنار واختار ادراعه من أن يسببها ... ولم يكن عهده فيها بختار وقال لا أشتري عاراً بمكرمة ... فاختار مكرمة الدنيا على العار والصبر منه قديماً شيمة خلق ... وزنده في الوفاء الثاقب الواري

وفي ذلك يقول السموأل مفتخراً وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوامي وفيت وأوصى عادياً يوماً بأن لا ... تخرّب يا سموأل ما بنيت بنى لي عادياً حصناً حصيناً ... وماء كلما شئت اشتفيت والملك هو الحرث بن شمر الغساني وحدث الكندي في كتابه أخبار الأمراء بمصر قال لما ولي المطلب بن عبد الله إمارة مصر من قبل المأمون خوفه أهل مصر من إبراهيم بن نافع الطائي قبل الوصول إليه أن يثب عليه فطلبه المطلب فلم يقدر عليه واتهم به جماعة من قواد مصر وكان هبيرة بن هشام صاحب شرطة مصر يعرف المكان الذي اختفى فيه وكان إبراهيم ابن نافع قد أودع ماله عند هبيرة بن هشام فسعى بهبيرة إلى المطلب فأحضره وقال له ادفع إلي ما أودعه عندك إبراهيم فقد بلغني الثقة إن ماله مودع عندك وإن لم تجئني به أخذت ما فيه عيناك فأنكر فأوجعه ضرباً وهو يزيد إنكاراً فلما طال على المطلب جحود هبيرة وخاف عليه التلف تركه ثم لما سكن عن إبراهيم الطلب أخرجه هبيرة من مصر سراً ثم أرسل إليه ماله بعد ذلك مع التجار وفيه يقول سعيد بن عنين لعمري لقد أوفى وزاد وفاؤه ... هبيرة في الطائي وفاء السموأل وفاه المنايا إذ أتته بنفسه ... وقد برقت في عارض متهلل أتى الحجاج بقوم ممن خرج عليه فأمر بهم فضربت أعناقهم وأقيمت صلاة المغرب وقد بقي من القوم واحد فقال لقتيبة بن مسلم انصرف به معك حتى تغدو به علي قال قتيبة فخرجت والرجل معي فلما كنا ببعض الطريق قال لي هل لك في خير قلت وما ذاك قال إني والله ما خرجت على المسلمين ولا استحللت قتالهم ولكن ابتليت بما ترى وعندي ودائع وأموال فهل لك أن تخلي سبيلي وتأذن لي حتى آتي أهلي وأرد على كل ذي حق حقه وأوصي ولك

علي أن أرجع حتى أضع يدي في يدك قال قتيبة فعجبت له وتضاحكت لقوله قال فمضينا هنيهة ثم أعاد علي القول وقال إني أعاهد الله لك على أن أعود إليك قال قتيبة فوالله ما ملكت نفسي حتى قلت له اذهب فلما توارى عني شخصه أسقط في يدي فقلت ماذا صنعت بنفسي وأتيت أهلي مهموماً مغموماً فسألوني عن شأني فأخبرتهم فقالوا لقد اجترأت على الحجاج فبتنا بأطول ليلة فلما كان عند أذان الغداة إذا الباب يطرق فخرجت فإذا أنا بالرجل فقلت أرجعت قال سبحان الله جعلت لك عهد الله علي فأخونك ولا أرجع فقلت أما والله إن استطعت لأنفعنك وانطلقت به حتى أجلسته على باب الحجاج ودخلت فلما رآني قال يا قتيبة أين أسيرك قلت أصلح الله الأمير بالباب وقد اتفق لي معه قصة عجيبة قال ما هي فحدثته الحديث فأذن له فدخل ثم قال يا قتيبة أتحب أن أهبه لك قلت نعم قال هو لك فانصرف به معك فلما خرجت به قلت له خذ أي طريق شئت فرفع طرفه إلى السماء وقال لك الحمد يا رب وما كلمني بكلمة ولا قال لي أحسنت ولا أسأت فقلت في نفسي مجنون والله فلما كان بعد ثلاثة أيام جاءني وقال لي جزاك الله خيراً أما والله ما ذهب عني ما صنعت ولكن كرهت أن أشرك مع حمد الله حمد أحد ولما تفرق الأمر عن مروان بن محمد وأيقن بزوال ملكه وغلبة بني هاشم عليه قال لكاتبه عبد الحميد بن يحيى إني قد احتجت أن تكون مع عدوي فتظهر لهم الغدر بي فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إليك تمنعهم منك وتدعوهم إلى حسن الظن بك فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا فلا تعجز عن حفظ حرمتي بعد وفاتي فقال عبد الحميد إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأضرهما بي وما عندي إلا الوفاء حتى يفتح الله لك أو أقتل معك ثم أنشد أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يشمل الناس ظاهره فأمسك عنه ساعة وأعاد عليه القول ثانية فقال والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس فلم يزل معه حتى قتل وذلك في آخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة وله تسع وخمسون سنة وقتل ببوصير قرية

من صعيد مصر وهو آخر ملوك بني أمية وكانت دولتهم ثلاثاً وتسعين سنة وأحد عشر شهراً وأياماً وهرب عبد الحميد إلى قرية تعرف بالأشمونين فاختفى بها فدل عليه وحمل إلى أبي العباس السفاح بأمان فلم يحظ عنده وقال الجهشياري قتل وقد ذكر آنفاً ومن أحسن ما تطرب به الأسماع ويلطف به كثيف الطباع ما يحكى إن معاوية بن أبي سفيان تزوج ميسون بنت مجدل ونقلها من البدو إلى الشأم وكانت كثيرة الحنين إلى أناسها والتذكر لمسقط رأسها فأنصت لها يوماً فسمعها تنشد لبيت تخفق إلا رياح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشفوف وأكل كسيرة في كسر بيتي ... أحبّ إليّ من أكل الرغيف وأصوات الرياح بكل فج ... أحبّ إليّ من نقر الدفوف وكلب ينبح الطرّاق دوني ... أحبّ إليّ من قط الوف وبكر يتبع الأطلال صعب ... أحبّ إليّ من بغل ردوف وخرق من بني عمي نحيف ... أحبّ إليّ من علج عنيف خشونة عيشتي في البدو أشهى ... إلى نفسي من العيش الظريف فما أبغي سوى وطني بديلاً ... فحسبي ذاك من وطن شريف فلما سمع معاوية الأبيات قال ما رضيت بي بنت مجدل حتى جعلتني علجاً عنيفاً ثم طلقها وردها إلى أهلها ويقال من الوفاء تشوق الرجل لاخوانه وحنينه إلى أوطانه وتلهفه على ما مضى من زمانه وقالوا الكريم يحن إلى جنابه كما يحن الأسد إلى غابه ويقال من علامة الكريم أن تكون نفسه إلى مولده تواقة وإلى مسقط رأسه مشتاقة شاعر أحب بلاد الله ما بين منعج ... إليّ وسلمى أن يجود سحابها

من أحاسن فعلات الأشراف الاتصاف بالعدل والإنصاف

بلاد بها نيطت على تمائمي ... وأوّل أرض مس جلدي ترابها وقالت الحكماء أرض الرجل ظئره وداره مهده والغريب كالغرس الذي زايل أرضه فهوذا ولا ينمى وذابل لا ينضر وفطرة الرجل معجونة بحب الأوطان مجبولة على تذكر ماضي الزمان وقد ذكر ابن الرومي السبب الموجب لحب الأوطان بقوله وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وقالوا ليس في الحيوان السانح أشد وفاء من الفاختة فإنها إذا مات الفها لا تزال تندبه ولا تألف غيره حتى تموت من أحاسن فعلات الأشراف الاتصاف بالعدل والإنصاف فالعدل قوام الدنيا والدين وسبب صلاح المخلوقين وله وضعت الموازين وهو المرغوب المألوف المؤمن من كل مخوف به تألفت القلوب والتأمت الشعوب وظهر الصلاح واتصلت أسباب النجاح وانعقلت عرى اليمن والفلاح وشمل الناس التناصف والتواصل والتعاطف وهو مأخوذ من الاعتدال الذي هو القوام والاستواء المتجانبان للميل والالتواء وهو ميزان الله في أرضه الذي يوفي به الحقوق ويرأب به الصدوع والفتوق وحقيقته وضع الأمور في مواضعها لا توضع الشدة مكان اللين وبضد ذلك ولا السيف مكان السوط وبالعكس من ذلك وإلى هذا أشار المتنبي في قوله ووضع الندى في موضع السيف بالعدى ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى والانصاف هو استيفاء الحقوق واستخراجها بالأيدي العادلة والسياسات الفاضلة وهو والعدل توأمان نتيجتهما علو الهمة وبراءة الذمة باكتساب

الفضائل واجتناب الرذائل فالانصاف استثمار والعدل استكثار فيصير الملك بالانصاف مستثمراً وبالعدل مستكثراً وما نقض ملك من إنصاف ولا جاه من إسعاف وقد قيل من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه وقيل عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان وروى الثقاة بأسانيد حسنة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة وعن عبد الرحمن بن عمرو بن العاص إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المقسطون على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن بما أقسطوا في الدنيا وقال حكيم لبعض الملوك أيها الملك إنما فخرك بإظهار وعدلك وإيثار فضلك لا بجمال بزتك وتمكن عزتك وفراهة مركبك وكثافة موكبك ويقال الملك يبقى على العدل والكفر ولا يبقى على الايمان والجور وإليه أشار الشاعر بقوله عليك بالعدل إن وليت مملكة ... واحذر من الجور فيها غاية الحذر فالملك يبقى على عدل الكفور ولا ... يبقى مع الجور في بدو ولا حضر دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فسلم فلم يرد عليه فقال لعبد الرحمن بن عوف أخاف أن يكون قد وجد علي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم عبد الرحمن أبا بكر في ذلك فقال إنه أتاني وبين يدي خصمان قد فرغت لهما سمعي وبصري وقلبي وعلمت أن الله سائلي عنهما وعما قالا وعما قلت ويقال إذا عدل السلطان في رعيته ثم جار على واحد لم يف عدله بجوره ويقال حق على من ملكه الله على بلاده وحكمه في عباده أن يكون لنفسه مالكاً وللهوى تاركاً وللغيظ كاظماً وللظلم هاضماً وللعدل في حالتي الرضا والغضب مظهراً وللحق في السر والعلانية مؤثراً وإذا كان كذلك ألزم النفوس طاعته والقلوب محبته وأشرق بنور عدله زمانه وكثر على عدوه

أنصاره وأعوانه ولقد صدق من قال لكل ولاية لا بدّ عزل ... وصرف الدهر عقد ثم حلّ وأحسن سيرة تبقى لوال ... على الأيام إحسان وعدل وقال عمرو بن العاص ملك عادل خير من مطر وابل وكان كسرى يقيم رجلين من موابذته عن يمينه وشماله إذا أراد النظر في أمور الناس فكان إذا زاغ حركاه بقضيب معهما وقالا له والرعية يسمعون أيها الملك أنت مخلوق لا خالق وعبد لا مولى وليس بينك وبين الله قرابة انصف الخلق وانظر لنفسك ويقال إنه كتب ثلاث رقاع في إحداها أمسك عضبك فإنك لست باله وإنك ستموت ويأكل بعضك بعضاً وفي الثانية إرحم عباد الله يرحمك الله وفي الثالثة احمل عباد الله على الحق فإنه لا يسعهم إلا ذلك وكان إذا جلس للناس عامة لينظر في أمورهم قام بعض الحجاب على رأسه وبيده الرقاع فإذا رآه غضب على أحدنا وله الرقعة الأولى فإن رآه تمادى على غضبه ناوله الثانية فإن لم ينته ناوله الثالثة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه في الموسم فإذا اجتمعوا قال يا أيها الناس إني لم أستعمل عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أعراضكم ولا من أموالكم شيأً إنما استعملتهم ليحجزوا بينكم ويردوا عليكم فيئكم فأيكم كانت له عندي مظلمة فليقم وصف أعرابي أميراً عادلاً فقال هو عالم برعيته عادل في أقضيته عار من الكبر قابل للعذر سهل الحجاب متحير إلى الصواب رفيق بالضعيف مكرم للشريف غير مجاف للقريب ولا مخيف للغريب وكان شمس المعالي قابوس بن وشمكير عادلاً في ملكه كان لا يؤتى بمفسد إلا أقام الحق عليه ولو أنه أقرب الناس إليه وقع جعفر بن يحيى إلى بعض عماله أنصف من وليت أمره وإلا أنصفه منك من ولي أمرك ووقع أخوه الفضل بئس الزاد إلى المعاد التعدي على العباد وسأل عمر بن عبد العزيز رجاء بن حيوة عن حال رعيته مع العمال فقال رأيت الظالم مقهوراً والمظلوم منصوراً والغني موفوراً والفقير مبروراً فقال الحمد لله

ومما اتفق على مدحه الأوائل والأواخر تواضع من حاز الفضائل والمفاخر

الذي وهب لي من العدل ما تطمئن إليه قلوب رعيتي وتعرض له متظلم في بعض الطرق فوقف له وأزال شكايته فقيل له هلا صرت حتى يستقر بك المنزل فقال الخير سريع الذهاب وخشيت أن أفوته بنفسي وإنما هي فرصة قدمت فيها العزم واستصحبت الحزم قال شاعر يمدح متولياً اتصف بهذه الخلة من الرؤساء الجلة لا تقدح الظنة في حكمه ... شيمته عدل وإنصاف يمضي إذا لم تلقه شبهة ... وفي اعتراض الشك وقاف ومما اتفق على مدحه الأوائل والأواخر تواضع من حاز الفضائل والمفاخر قالوا ينبغي لمن عظم قدره وامتثل نهيه وأمره وانتشر في الخافقين ذكره أن يكون للاعجاب مطرحاً وعن الكبر منتبذاً ومنتزحاً فإن همة الرجل العاقل الفاضل شريفة علية وباختفار ما أوتيت من رياسات الأموال والعمال ملية قال ذو النون من تطأطأ لقي رطباً ومن تعالى لقي عطباً وقال عروة بن الزبير التواضع من مصايد الشرف وكل نعمة محسود عليها إلا التواضع ويقال التواضع في الشرف أشرف من الشرف ويقال اسمان يتفق معناهما ويفترق لفظهما التواضع والشرف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين ويقول لو دعيت إلى كراع لأجبت وكان يخصف النعل ويحلب الشاة ويركب الحمار ردفاً ويرقع الثوب ويطحن مع الخادم إذا أعيت ويأكل معها ويحمل بضاعته من السوق ويسلم مبتدئاً ويصافح الغني والفقير ويخالط أصحابه ويحادثهم ويمازحهم ويلاعب صبيانهم ويجلسهم في حجره وما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك وقال لا تفضلوني على يونس ابن متي ولا ترفعوني فوق قدري فتقولون في ما قالت النصارى في المسيح إن الله اتخذني عبداً قبل أن

يتخذني رسولاً وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئاً ويأكل الخبيص ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد وقال البراء بن عازب رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب صدره وكان ينقل اللبن على عاتقه مع أصحابه عند بناء مسجده بالمدينة هذا ولسان فخره ينزع عن الابانة عن علو قدره فيقول أنا سيد ولد آدم آدم ومن دونه تحت لوائي أنا أول من تنشق عنه الأرض لست كأحدكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني شرف صرفت أماني الآمال عن بلوغ مداه وتقطعت دونه أيدي الطمع فلا تصل إلى علاه ولما ولي أبو بكر الخلافة قال إني وليتكم ولست بخيركم فلما بلغ كلامه الحسن البصري قال بلى ولكن المؤمن يهضم نفسه وسئل بعض التابعين هل رأيت أبا بكر قال نعم رأيت ملكاً في زي مسكين وقال ابن عباس كان أبو بكر كثيراً ما ينشد إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين ذاك الذي حسنت في الناس قالته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين آخر إنّ السعيد الذي تمت سيادته ... فتى يفرّ من الدنيا إلى الدين يصدّ بالطرف منه عن زخارفها ... فيغتدي ملكاً في زيّ مسكين

وقال المرار بن المنقذ العدوي يا حبذا حين يمسي الريح باردة ... وادي الأضاء وفتيان بها هضم مخدّمون كرام في مجالسهم ... وفي الرجال إذا صاحبتهم خدم وما أصاحب من قوم فأذكرهم ... إلا يزيدهم حباً إلي هم وكان رضي الله عنه إذا مدح قال اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيراً مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نادى يوماً الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس لقد رأيتموني وأنا أرعى على خالات لي من بني مخزوم يقبض لي القبضة من التمر أو الزبيب فقال عبد الرحمن بن عوف ما أردت على أن قصرت على نفسك فقال ويحك يا ابن عوف خلوت بنفسي فقالت لي أنت أمير المؤمنين وليس بينك وبين الله أحد فمن ذا أفضل منك فأردت أن أعرفها قدرها واشترى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه تمراً بدرهم فحمله في ردائه فسأله بعض أصحابه حمله عنه فقال أبو العيال أحق بحمله وحكى الشعبي قال ركب زيد بن ثابت فدنا منه عبد الله بن عباس فأخذ بركابه فقال لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فقال زيد أرني يدك فأخذها وقبلها وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ودخل بعض الشعراء على الحسن بن زيد فأنشده الله فرد وابن زيد فرد فقال بفيك الأثلب الأقلت الله فرد وابن زيد عبد ونزل عن سريره وألصق خده بالأرض وكان عبد الله بن عمر إذا سافر مع قوم يحتطب لهم ويطبخ لهم ويستقي لهم ويؤذن لهم وكان أبو هريرة خليفة مروان بن الحكم على المدينة يحتطب ويأتي بالحزمة الحطب على ظهره يشق بها

السوق ويقول جاء الأمير جاء الأمير حتى يعلم الناس به فينصرفون إليه في حوائجهم البحتري مادحاً دنوت تواضعاً وعلوت قدراً ... فشا ناك انحدار وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تساما ... ويدنو الضوء منها والشعاع ولآخر تواضع تكن كالنجم لاح لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ... إلى طبقات الجوّ وهو وضيع كان ابن مسعود إذا مشى خلفه أحد قال أخر وأعني نعالكم فإنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع ولما ولي علي بن عيسى الوزارة وذلك في سنة ثلثمائة رأى الناس يمشون حوله كما كانوا يمشون حول الوزراء قبله فالتفت إليهم وقال إنا لا نرضى لعبيدنا أن يفعلوا هذا معنا فكيف نكلفه قوماً أحراراً لا إحسان لنا عليهم ومنعهم من المشي في ركابه فكأنما عناه أبو تمام حبيب بقوله متبذل في القوم وهو مبجل ... متواضع في الحيّ وهو معظم وقال الحسن أربعة لا ينبغي لشريف أن يأنف منهن قيامه عن مجلسه لأبيه وخدمته لضيفه وقيامه على فرسه وخدمته لمن يأخذ من علمه وقال عبد الله بن مسعود رأس التواضع أن تبدأ بالسلام من لقيت وأن ترضى بالدون من المجلس وقال عبد الله بن شداد أربعة من كن فيه فقد برئ من الكبر من اعتقل العنز وركب الحمار ولبس الصوف وأجاب دعوة الدون من الرجال

مما يدل على شرف الأبوة إلزام النفس بأنواع المروة

مما يدل على شرف الأبوة إلزام النفس بأنواع المروة قال بهرام بن بهرام المروأة اسم جامع للمحاسن كلها وقال بعض البلغاء المروأة جامعة لأشتات المبرات جالبة لأسباب المسرات دالة على كرم الأعراق باعثة على مكارم الأخلاق ناظمة لقلائد الفوائد عاقلة لشوارد المحامد وقال بعض الحكماء المروأة سجية جبلت عليها النفوس الزكية وشيمة طبعت عليها الطباع الكريمة وقالوا أولى الناس بالمروة من له نبوة النبوة وقد جمع الله تعالى متفرقاتها في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وجمعها النبي عليه الصلاة والسلام على نوع آخر فقال من عامل الناس فلم يظلمهم ووعدهم فلم يخلفهم وحدثهم فلم يكذبهم فهو ممن كملت مروأته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته وجمعها بعضهم على نوع آخر فقال باب مفتوح وخير ممنوح وستر مرفوع وطعام موضوع ونائل مبذول وكلام معسول وعفاف معروف وأذى مكفوف وجمعها آخر فقال مروأة الرجل صدق لسانه واحتمال عثرات إخوانه وبذل المعروف لأهل زمانه وكف الأذى عن جيرانه وقال أعرابي والله لولا أن المروأة ثقيل محملها شديدة مؤنتها ما ترك اللئام للكرام منها شيأً وقالوا المروأة الظاهرة الثياب الطاهرة كما قال يزيد بن المهلب لولده كن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً أقل ما تكون في الباطن مآلاً وقال عليه الصلاة والسلام إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويكره البؤس والتباؤس وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما إن الله جميل يحب الجمال وقالوا مروأة الرجل أن لا يلبس ثوب شهرة كما قال بعض الظرفاء كل ما اشتهت نفسك والبس ما يلبسه أبناء جنسك ولقد أحسن بعض الشعراء حيث نظم هذه الكلمات يخاطب بها إنساناً لبس ثوب شهرة فقال

إنّ العيون رمتك إذ فاجأتها ... وعليك من شهر الثياب لباس أمّا الطعام فكل لنفسك ما اشتهت ... واجعل لباسك ما اشتهاه الناس وقالوا التعري البارح خير من الزي الفاضح وقال عبد الملك بن صالح ليس من لباس السادات ذوي المروات ذوات الألوان فإنها من لباس الغلمان والنسوان قال الشاعر قل للذي يخرج عن شكله ... ليرتقي أسباب أوعار كيف ترجي أن تنال العلا ... ولم تبال الدهر من عار من فارق المعهود من زيه ... فذاك لا كاس ولا عار ورأى إنسان على أبي طاهر الخبزارزي ثوباً حسناً فلامه في ذلك وعنفه فأنشد عليّ ثياب فوق قيمتها فلس ... وفيهنّ نفس دون قيمتها الأنس فويك صبح تحت أذياله دجى ... وثوبي ليل تحت أذياله شمس فكل من افتخر بمجده من الأكارم ومدح اسماله ورأى اكتساءه حلل المكارم أنمى لقدره وأسمى له اقتدى بالعتابي في هذا المذهب وتختم بفصه المذهب وذلك أنه دخل على يحيى بن خالد في سمل وكان لا يبالي ما لبس فعابه عليه فقال يا أبا علي خزى الله من يرفعه هيناه جماله وماله حتى يرفعه أكبراه همته ونفسه وأصغراه قلبه ولسانه قال شاعر في المعنى الذي نحاه لا تنظرنّ إلى الثياب فإنني ... خلق الثياب من المروأة كاسي وقال أبو هفان وأجاد في النحو الذي أراد تعجبت درّ من شيبي فقلت لها ... لا تعجبي قد يلوح الفجر في السدف

الفصل الثالث من الباب الأول

وزادها عجباً إذ رحت في سمل ... وما درت درّ أن الدرّ في الصدف ولا خرفي المعنى يا هذه كم يكون اللوم والفند ... لا تنكري رجلاً أثوابه قدد أن يمس منفرداً فالسيف منفرد ... والليث منفرد والبدر منفرد أو كنت أنكرت طمريه وقد خلقا ... فالبحر من فوقه الأقذاء والزبد إن كان صرف الليالي درّ بزغته ... فبين طمريه منه ضيغم لبد ومن المروأة التطيب فإنه ورد عن مكحول أنه قال من نظف ثوبه قل همه ومن طاب ريحه زاد عقله ومن جمع بينهما ظهرت مروأته وقيل من الظرف والكرم الاستقصاء في التبخر وكان صلى الله عليه وسلم يعرف خروجه من منزله برائحة المسك وكان إذا سلك طريقاً عرف السائل عنه أين يمم لطيب ريحه وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا اجتاز في طريق قال الناس لطيمة مسك أو ابن عباس لطيب ريحه قال الشاعر ويفوح مسكاً طيب ريح ثيابه ... وكذاك ريح الماجد الوهاب الفصل الثالث من الباب الأول في ذم التخلق بالإحسان إذا لم يوافق القلب اللسان قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من تخلق بما ليس من خلقه فهو منافق وقال ابن مسعود من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبخ بذلك نفسه وقيل ما الدخان بأدل على النار من ظاهر الرجل على

باطنه وقال زهير بن أبي سلمى ومهما تكن عند امرء من خليقة ... وإن خالها تخفي على الناس تعلم وقال آخر كل أمرئ راجع يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين وقال بعض الحكماء لتلميذ له يا من باطنه منظور الحق وظاهره منظور الخلق حسن ما شئت لما شئت وقالوا ما أقبح بالانسان أن يقول ما لا يفعل وما أحسس الفعل ابتداء قبل القول فإن من مات محموداً أحسن حالاً ممن عاش مدموماً وقال أكثم بن صيفي فضل القول على الفعل دناءة وفضل الفعل على القول مكرمة ويقال أحسن المقال ما صدق بحسن الفعال وكان رجل يكثر الثناء على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بلسان لا يوافقه القلب فقال له رضي الله عنه يوماً وقد ألح عليه في الثناء أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك فانظر إلى هذه الفراسة المفترسة لحبات القلوب المكشوف لها الغطاء عن خفيات الغيوب وقال بعض الحكماء لأن يكون لي نصف لسان ونصف وجه على ما فيهما من قبح المنظر وسوء المخبر أحب إلي من أن أكون ذا وجهين وذا لسانين وذا قولين مختلفين وقال أرسطو طاليس وجهك مرآة قلبك فإنه يظهر على الوجوه ما تضمره القلوب وقالوا العيون طلائع القلوب وقد أولع الشعراء بنظم هذا المعنى كثيراً فمن ذلك قول بعضهم إنّ العيون لتبدي في نواظرها ... ما في القلوب من البغضاء والأحن وقال آخر تريك أعينهم ما في صدورهم ... إن الصدور يؤدّي سرّها النظر

آخر عيناك قد دلتا عينيّ منك على ... أشياء لولاهما ما كنت أدريها تظلّ في نفسك البغضاء كامنة ... والقلب يضمرها والعين تبديها والعين تعرف من عيني محدّثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها ويقال العادات قاهرات فمن اعتاد شيأً في السر فضحه في العلانية وقالوا حقيقة النفاق اختلاف السر والعلن واختلاف القول والعمل وقال أبو سعيد الجرجاني لا ينبغي أن يكون حسن القول تمهيداً لقبح الفعل لام الشعبي واسمه عامر بن شراحيل عبد العزيز بن مروان على تقصير في الخطبة لما كان عاملاً على مصر وتركه استعمال البلاغة مع القدرة عليها فقال إني لأستحيي من الله تعالى أن أقول بلساني على منبري خلاف ما أعلمه من قلبي وكتب رجل إلى صديق له إما بعد فعظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام يا عيسى عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس ومما يعاب من خلال الانسان أن يكون بديع مقال اللسان بعيد مجال الاحسان قال عليه الصلاة والسلام ليس الملق من أخلاق المؤمنين ابن المعتز من كثر ملقه لم يعرف بشره ذم أعرابي قوماً فقال قلوبهم أمر من الدفلي وألسنتهم من العسل أحلى وقال الشاعر إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكنّ حسن القول خالفه الفعل

وقال ابن حبير الناس شبه ظروف حشوها صبر ... وفوق أفواهها شيء من العسل تحلو لذائقها حتى إذا انكشفت ... له تبين ما تحويه من زغل وقالوا فلان يبدي وجه المطابق الموافق ويخفي نظر المسارق المنافق قال شاعر يا أيها المتحلى غير شيمته ... ومن شمائله التبديل والملق ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه ... إنّ التخلق يأتي دونه الخلق وقالوا شر الناس من هو في الظاهر صديق موافق وفي الباطن عدو منافق قال شاعر لعمرك ما ودّ اللسان بنافع ... إذا لم يكن أصل المودّة في القلب وقال رجل لعلي رضي الله عنه علمني السلام على الاخوان فقال لا تبلغ بهم النفاق ولا تقصر بهم عن الاستحقاق ولقد صدق صالح بن عبد القدوس في قوله وأكثر من تلقى يسرّك قوله ... ولكن قليل من يسرّك فعله وقد كان حسن الظنّ بعض مذاهبي ... فأدّبني هذا الزمان وأهله وقال آخر وبالغ في الذم لم يبق في الناس إلا المكر والملق ... شوك إذا اختبروا زهر إذا رمقوا فإن دعاك إلى إئتلافهم قدر ... فكن جحيماً لعلّ الشوك يحترق

ومما يلحق بهذا أن عمل الرياء سالب عن صاحبه جلباب الحياء

آخر خلّ النفاق لأهله ... وعليك فانتهج الطريقا واذهب بنفسك لن ترى ... إلا عدوّاً أو صديقا آخر يريك النصيحة عند اللقا ... ويبريك في السرّ بري القلم فبتّ حبالك من وصله ... ولا تكثرنّ عليه الندم ومما يلحق بهذا أنّ عمل الرياء سالب عن صاحبه جلباب الحياء ارياء من الكبائر وأخبث السرائر شهدت بمقته الآيات والآثار وتواردت بذمه القصص والأخبار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء وأما الحياء فهو من ثلاثة أوجه من الله ومن الناس وحياء المرء من نفسه فإنه من استحيا من الله ولم يستحي من الناس فقد استهان بالناس ومن استحيا من الناس ولم يستحي من الله فقد استهان بالله ومن استحيا من الناس ولم يستحي من نفسه فليس لنفسه عنده قدر وويل لمن أرضى الله بلسانه وأسخطه بقلبه وكان أبو مسلم الخولاني يقول ما عملت منذ كذا وكذا سنة عملاً أبالي أن يراه الناس إلا حاجة الرجل إلى أهله وحاجته إلى الخلاء وقال الحسن البصري لأن تطلب الدنيا بأقبح ما تطلب به أحب من أن تطلبها بأحسن ما تطلب به الآخرة وقال الفتح بن خاقان كنت يوماً ألاعب المتوكل بالنرد فاستؤذن لأحمد بن أبي دواد فأذن له فلما قرب منا هممت برفعها فمنعني المتوكل وقال كيف أجاهر الله بشيء وأستره عن عباده وكان الشبيل إذا رأى من يدعي التصوف يقول ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى وقال شاعر يذم المرائين منهم قد لبس الصوف لترك الصفا ... مشايخ العصر لشرب العصير الرقص والتناهد من شأنهم ... شرّ طويل تحت ذيل قصير

آخر أظهروا للناس نسكا ... وعلى المنقوش داروا وله صاموا وصلوا ... وله حجواً وزا روا إن يكن فوق الثريا ... ولهم ريش لطاروا ولآخر يحض على الاعتزال عن هؤلاء لا تصحبنّ عصابة ... حلقوا الشوارب للطمع يبكوا وجلّ بكائهم ... ما للفريسة لا تقع قال ثابت البناني دخلت على داود الطائي فقال لي ما حاجتك قلت زيارتك قال ومن أنا حتى أزار ليس من العباد أنا لا والله ولا من الزهاد أنا لا والله ثم ضرب بيده على لحيته وأقبل على نفسه يوبخها وقال كنت في زمن الشباب فاسقاً ثم تبت فصرت مرائياً والله إن المرائي لشر من الفاسق ويقال كان الناس يراؤن بما يفعلون لا بما يقولون فصاروا يراؤن بما يقولون ولا يفعلون ثم صاروا يراؤن بما لا يقولون ولا يفعلون ذم البديع الهمداني قاضياً بالرياء فقال قد بيض لحيته بسواد صحيفته وأظهر ورعه ليخفي طمعه وقصر سباله ليظهر سرباله وتغشى محرابه ليغطي حرابه يبرز في ظاهر أهل السمت وهو في باطن أهل الصمت شاعر تصنع كي يقال له أمين ... وما معنى تصنعه الاماته ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به طريقاً للخيانه آخر ودع التواضع فاللباس مجونا ... فالله يعلم ما تكنّ وتكتم فرثاث ثوبك لا يزيدك رفعة ... عند الإله وأنت عاص مجرم

ويقال أربعة لا يعتد بهن زهد الخصى وتوبة الجندي وشكوى المرأة وتقوى الأحداث صلى رجل صلاة خفيفة فقيل له أقصرت الصلاة قال لا بل هي صلاة ليس فيها رياء نظر أبا أمامة الباهلي رجل في المسجد وهو ساجد يبكي فقال نعم الرجل أنت لو كان هذا في بيتك ومن ظرف الحكايات ... وتحف الفكاهات عمن كان له من الرياء غرّة فاضحة ... ومن عدم الحياء سمة لائحة وفد على عمر بن عبد العزيز بلال بن أبي بردة فجعل يصلي ويطيل الصلاة فقال عمر للعلاء ترى ذلك تصنعاً فقال العلاء أنا آتيك بخبره يا أمير المؤمنين فأتى إلى داره بين العشاءين فوجده يصلي فقال له خفف فإن لي إليك حاجة فخفف وسلم وقال ما الحاجة فقال له العلاء تعرف محلى من أمير المؤمنين فإن أنا أشرت بك عليه في ولاية العراق فما تجعل لي قال لك علي عمالتي سنة وكان مبلغ ذلك عشرين ألف درهم فسأله العلاء أن يكتب له بذلك شرطاً على نفسه فكتب له فأتى العلاء بالشرط إلى عمر فقال إنه غرنا بالله فكدنا نغتر وكنا نظنه ذهباً فلما سبكناه وجدناه خبثاً وأدخل على المنصور رجل أراد أن يوليه قضاء ناحية من العراق قد جعل السجود بين عينيه كركبة الجمل فقال له المنصور إن كنت أردت الله بهذا فما ينبغي لنا أن نشغلك عنه وإن كنت أردتنا فما ينبغي لنا أن ننخدع لك ولم يوله شيأً مر بعض المرائين بابن مزداد وهو جالس على باب داره وبين عيني الرجل سجادة عظيمه وكان ابن مزداد شيخاً ابن ثمانين سنة ومقعداً من ثلاثين سنة فقال امرأتي طالق إن كان في استي من القعود ما في جبهة هذا من السجود وضع بعض المرائين بين عينيه سجادة ودلكها بنواة وشد عليها ثوماً وبات بها فزاغت العصابة عن مكانها وصارت في ناحية صدغه فاتسم فقيل لولده كيف أصبح أبوك قال أصبح ممن يعبد الله على حرف وقال ظريف من الشعراء

لمراء يتهكم به في معرض الوصية شمر ثيابك واستعدّ لقابل ... واحكك جبينك للقاء بثوم وامش الدبيب إذا مشيت لحاجة ... حتى تصيب وديعة ليتيم وبلغ الرشيد قول أبي نواس يا أحمد المرتجي في كل نائبة ... قم سيدي نعص جبار السموات وقوله ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر وقوله ما جاءنا أحد مذ مات يخبرنا ... في جنة جسمه قد كان أو نار فقال هذا كلام زنديق وأمر الفضل بن الربيع بحبسه فحبسه وتناساه زماناً فأظهر التوبة وكتب إلى الفضل من الحبس بهذه الأبيات فارعوى باطلي وأقصر جهلي ... وتبدّلت عفة وزهاده بركوع أزينه بخشوع ... واصفرار مثل اصفرار الجراده لو تراني شبهتني الحسن البص ... ريّ في حال نسكه أو قتاده التسابيح في ذراعي والمص ... حف في لبتي مكان القلاده فإذا شئت أن ترى ظرفة ... تعجب منها مليحة مستجاده فادع بي لاعدمت تقويم مثلي ... وتأمّل بعينك السجاده

ترء أثراً من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنها من عباده لو رآها بعض المرائين يوماً ... لاشتراها يعدّها للشهاده ولقد طال ما شقيت ولكن ... أدركتني على يديك السعاده فلما وصلت الأبيات إلى الفضل ضحك منها وكلم فيه الأمين فأطلقه ولما أطلق من حبسه كتب إلى الفضل يشكره على جميل فعله.

الباب الثاني

الباب الثاني في اللؤم وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في ذم من ليس له خلاق وما اتصف به من الأخلاق قال الله تعالى هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم هذه النقائص كلها يجمعها سوء الخلق وقيل إن سوء الخلق شؤم يجذب صاحبه في الدنيا إلى العار وفي الآخرة إلى النار وقال أبو هريرة رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشؤم فقال الشؤم سوء الخلق وقال عمر بن الخطاب إذا كان في الانسان عشر خصال تسعة منها صالحة وواحدة هي سوء الخلق أفسدت هذه الخصلة تلك التسعة شاعر وكم من فتى أزرى به سوء خلقه ... فأصبح مذموماً قليل المحامد وقالوا من ساءت أخلاقه طاب فراقه وقالوا سوء الخلق يدل على خبث الطبع ولؤم العنصر ويكاد سيء الخلق أن يعد من البهائم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن سوء الخلق زمام من عذاب الله في أنف صاحبه والزمام في يد شيطان يجره إلى النار أخرجه البيهقي في شعب

من مساوئ أخلاقهم الذميمة

الايمان وقالوا فلان له خلق خلق وشأن شائن وشيمة مشؤمة وخيم وخيم وطبع طبيع من مساوئ أخلاقهم الذميمة نقل الأقدام بالسعاية والنميمة قالوا النميمة الخصال الذميمة تدل على نفس سقيمة وطبيعة لئيمة مشغوفة بهتك الأستار وإفشاء الأسرار وقال بعض الحكماء الأشرار يتبعون مساوئ الناس ويتركون محاسنهم كما يتبع الذباب المواضع الألمة من الجسد ويترك الصحيحة وقالوا لم يمش ماش شر من واش والساعي بالنميمة يهلك نفسه ومن سعى به ومن سعى إليه كما حكى أن عمرو بن معاوية ابن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان العتبي رأى رجلاً يسعى برجل عند صديق له فقال له نزه سمعك عن استماع الخنى كما تنزه لسانك عن التكلم به فإن السامع شريك القائل وإنما نظر شر ما في وعائه فأفرغه في وعائك ولوردت كلمة ساع إلى فيه لسعد رادها كما شقى قائلها والنمام شر من الساحر فإن النمام يفسد في الساعة الواحدة ما لا يفسد الساحر في المدة الطويلة أتى رجل عبد الله بن عباس وهو والي البصرة من قبل علي رضي الله عنه بنميمة فقال له إن شئت سألنا عما جئت به فإن كنت صادقاً مقتناك وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن شئت أقلناك فقال إن شئت أن تفعل فافعل شاعر توخ من الطرق أوساطها ... وعدّ عن الجانب المشتبه وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع الحديث ... شريك لقائله فانتبه وقال أبو الأسود الدؤلي لا تقبلنّ نميمة بلغتها ... وتحفظنّ من الذي أنباكها إنّ الذي ألقى إليك نميمة ... سينمّ عنك بمثلها قد حاكها

هذا منظوم قول الناس من نم لك نم عليك وسعى رجل برجل عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذباً فأنت داخل تحت حكم هذه الآية إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا وإن كنت صادقاً فأنت من هذه الآية هماز مشاء بنميم وإن شئت عفونا عنك وقال بعض الملوك لولده ليكن أبغض رعيتك إليك أشدهم كشفاً لمعايب الناس فإن للناس معايب وأنت أحب بسترها وأنت إنما تحكم بما ظهر لك والله يحكم فيما غاب عنك وأكره للناس ما تكره لنفسك واستر العورة يستر الله عليك ما تحب ستره ولا تصغ إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن قال قول نصيح وقال أرسطا طاليس النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء ومن نقل إليك نقل عنك وقالوا شر من النميمة قبولها لأن النميمة دالة والقبول إجازة وليس من دل على شيء كمن قبله وأجازه وقال المهدي ما الساعي بأعظم عورة ولا أقبح حالاً من قابل سعايته ولا يخلو أن يكون الساعي حاسد نعمة فلا يشفى غيظه أو عدواً فلا يعاقب له عدوه لئلا يشمت به ولقد أحسن بعض الشعراء لظرفاء في قوله لا تسمعنّ من الحسود مقالة ... لو كان حقاً ما يقول لما وشى وقال آخر يذم صديقاً له نماماً وصاحب سوء وجهه لي أوجه ... وفي فمه طبل بسرّي يضرب ولا بدّ لي منه فحينا يغصني ... وينساغ لي حيناً ووجهي يقطب كماء بدرب الحاج في كل منهل ... يذمّ على ما كان منه ويشرب وقال السريّ الرفاء يذمّ نماماً أنمّ بما استودعته من زجاجة ... يرى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن

وقال ابن وكيع في المعنى ينم بستر مسترعيه لؤماً ... كما نم الظلام بسرّ نار أنم من النصول على مشيب ... ومن صافي الزجاج على عقار ولقد أحسن محمد بن شرف القيرواني في قوله يصف نماماً وناصت نحو أفواه الورى أذناً ... كالقعب يلفظ منها كل ما سقطا يظل بالقول والأخبار مجتهداً ... حتى إذا ما وعا هازق ما لقطا والنميمة والكذب رضيعا لبان ... وفي مشوار الدناءة فرسا رهان قال أبو حيان التوحيدي الكذب شعار خلق وأدب سيء وعادة فاحشة وقل من استرسل معه إلا ألفه وقل من ألفه إلا أذله وأوصى بعض الحكماء ولده فقال إياك والكذب فإنه يزري بقائله وإن كان شريفاً في أصله ويذله وإن كان عزيزاً في أهله وقالوا ثنتان لا يجتمعان الكذب والحياء ارسطا طاليس فضل الناطق على الأخرس بالنطق وزين النطق بالصدق وقال بزرجمهر الكاذب والميت سواء فإنه إذا لم يوثق بكلامه بطلت حياته وقال معاوية يوماً للأحنف وقد حدثه أتكذب قال والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب شين وقال بعض الأعراب عجبت من الكذاب المشيد لكذبه وإنما هو يدل الناس على عيبه ويتعرض للعقاب من ربه فالآثام له عادة والأخبار عنه متضادة إن قال حقاً لم يصدق وإن أراد خيراً لم يوفق فهو الجاني على نفسه بفعاله الدال على فضيحته بمقاله فما صح من صدقه نسب إلى غيره وما صح من كذب غيره نسب إليه ويقال الكذب جماع النفاق وعماد مساوي الأخلاق عار لازم وذل دائم يخيف صاحبه نفسه وهو أمن ويكشف ستر الحسب عن لؤمه الكامن قال الشاعر إن النموم أغطى دونه خبري ... وليس لي حيلة في مفتري الكذب لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء أو من قلة الأدب

ويكفي في ذم الكذب قوله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة والكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن يضعني الصدق وقلما يفعل أحب إلي من أن يرفعني الكذب وقلما يفعل وقيل لا يجوز أن يكذب الرجل لصلاح نفسه فإن ما عجز الصدق عن إصلاحه كان الكذب أولى بفساده ولقد صدق من قال عوّد لسانك قول الصدق تحظ به ... إنّ اللسان لما عوّدت معتاد موكل بتقاضي ما سننت له ... في الخير والشر فانظر كيف ترتاد ويكفي في معرة الكذب أن من عرف به مقت إذا نطق وكذب وإن صدق قال رجل لأبي حنيفة ما كذبت قط فقال له أبو حنيفة إما هذه فواحدة أشهد عليك بها وقال الأصمعي لرجل كذاب أصدقت قط قال نعم قيل له عجب قال خفت أن أقول لا فأصدق وقيل لبعض الحكماء أيما أشر الكذاب أو النمام فقال الكذاب لأنه يخلق عليك والنمام ينقل عنك شاعر لي حيلة فيمن يتم ... وليس في الكذاب حيله من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة ومن ظريف أخبار الكذبة أن رجلاً من آل الحرث بن ظالم قال لقد بلغني أن الحرث غضب يوماً فانتفخ في ثوبه فبدر من ثوبه أربعة أزرار ففقأت أربعة أعين من عيون جلسائه شاعر حلفت برب مكة والمصلى ... وأبدا الواقفين على عكاظ لا كذب ما يكون إذا تألى ... وشدّدها بأيمان غلاظ

وافة الكذب النسيان كذا ورد في النبا المأثور والخبر المشهور قال الشاعر إذا عرف الكذاب بالكذب لم يزل ... لدى الناس كذاباً وإنّ كان صادقا ومن آفة الكذاب نسيان كذبه ... وتلقاه ذا ذهن إذا كان حاذقا ومن مستقبح خلائق اللوم الصراح ... اللسان البذيّ والوجه الوقاح قال النبي صلى الله عليه وسلم شر الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتهم وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما استب رجلان الأغلب ألأ مهما وقال الأحنف بن قيس إلا أخبركم بأدوا الداء الخلق الدني واللسان البذي وقالوا اللئيم يعد الخني جنة والوقاحة جنة فوجهه صلب ولسانه خلب وقالوا الفاقة خير من الصفاقة وقال أبو حيان إن الخصم إذا كان الهوى مركبه والعناد مطلبه فلن يفلح معه ولو خرجت اليد بيضاء وانقلبت العصا حية قال بعض الشعراء يهجو معانداً تراه معدّاً للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب موكل وقالوا الوقاحة في الرجل تدل على لؤم نجره وخساسة قدره وقلة خيره وكثرة شره وقال الشاعر صلابة الوجه لم تغلب على أحد ... إلا تكمل فيه الشر واجتمعا وقال بعضهم في ذمه أوقاحاً لو أنّ أكفانهم من حرّ أوجههم ... قاموا إلى الحشر فيها مثل ما رقدوا

ولأبي العبر في مثل ذلك وأحسن في قوله يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقدّمنها حافر اللاشهب أنشدنا ناصر الدين حسن الكناني عرف بابن النقيب لنفسه في أوقاح فقال تعالى الله خالقها وجوها ... فما أخفت من الحيوان حالا لقد صلبت وخفت من حياء ... وغير خلقها حتى استحالا وجوه ليت لي منها حذاء ... وليت لبغلتي منها نعالا وقال الناجم يهجو لك عرض مثلم من قوارير ... ووجه ململم من حديد ليم بعضهم على الوقاحة فقال الوجه ذو الوقاحة من الوجوه الوقاحة يفئ على صاحبه الأنفال ويفتح له الأقفال ويلقطه الأرطاب ويلقمه ما استطاب ويجسره على قول المنطيق وييسر له فعل ما لا يطيق ثم أنشد إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً ... تقلب في الأمور كما يشاء وقال جعفر الصادق إن الله يبغض السباب الطعان المتفحش قال الشاعر من لم يكن عنصره طيباً ... لم يخرج الطيب من فيه كل امرئ يشبهه فعله ... ويرشح الكوز بما فيه أصل الفتى يخفي ولكنه ... من فعله يظهر خافيه

جماع ما يتخلق به الأنذال ... من الشيم والخلال قال بعض الحكماء أربعة من علامات اللؤم أفشا السر واعتقاد الغدر وغيبة الأحرار وإساءة الجوار وسأل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف عن خلقه فتلكأ وأبى أن يخبره فأقسم عليه أن لا بد فقال حسود كنود لجوج حقود فقال عبد الملك ما في إبليس شر من هذه الخصال فبلغ ذلك خالد بن صفوان فقال لقد انتحل الشر بحذافيره ومرق من جميع خلال الخير بأسره وتأنق في ذم نفسه وتجرد في الدلالة على لؤم طبعه وأفرط في إقامة الحجة على كفره وخرج من الخلال الموجبة لرضا ربه وقال أبو تمام مسا ولو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة من كن فيه فهو منافق من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا ائتمن خان وقالوا اللئيم كذوب الوعد خؤن العهد قليل الرفد وقالوا اللئيم إذا استغنى بطر وإذا افتقر قنط وإن قال أفحش وإن سئل بخل وإن سال ألحف وإن أسدى إليه صنيع أخفاه وإن استكتم سراً أفشاد فصديقه منه على حذر وعدوه منه على غرر ومما اخترناه في غدر اللئام ... من درر الأهاجي والمذامّ ذم أحمد بن يوسف الكاتب بني سعيد بن مسلم بن قتيبة فقال محاسنهم مساوئ السفل ومساويهم فضائح الأمم ألسنتهم معقودة بالعيّ وأيديهم معقولة بالبخل وأعراضهم أغراض الذم فهم كما قيل لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولا تبيد مخازيهم وإن بادوا

وذم أعرابي قوماً فقال أولئك قوم سلخت أقفاؤهم بالهجاء ودبغت جلودهم باللؤم فلباسهم في الدنيا الملامة وفي الآخرة الندامة وذم أعرابي قوماً فقال أولئك قوم هم أقل الناس ذنوباً إلى أعدائهم وأكثرهم تجرياً على أصدقائهم يصومون عن المعروف ويفطرون على الفحشاء وكان عيسى ابن فرخان شاه يتيه على أبي العيناء في حال وزارته فلما انصرف عنها لقي أبا العيناء في بعض السكك فسلم عليه سلاماً خفياً فقال أبو العيناء لغلامه من هذا قال أبو موسى فدنا منه حتى أخذ بعنان بغلته وقال لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك وبلحظك دون لفظك فالحمد لله على ما آلت إليه حالك فلئن كنت أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة ولئن كانت الدنيا أبدت قبائحها بالاقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالادبار عنك ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك ونزهنا عن قول الزور فيك فقد والله أسأت حمل النعمة وما شكرت حق المنعم ثم أطلق يده من عنانه ورجع إلى مكانه فقيل له يا أبا عبد الله لقد بالغت في السب فما كان الذنب فقال سألته حاجة أقل من قيمته فردني عنها بأقبح من خلقته قال بعض الأعراب نزلت بذاك الوادي فإذا ثياب أحرار على أجسام عبيد اقبال حظهم ادبار حظ الكرام أخذ هذا المعنى شاعر فقال أرى حللاً تصان على رجال ... وإعراضاً تدال ولا تصان يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان وسئل بعض البلغاء عن رجل فقال هو صغير القدر قصير الشر ضيق الصدر لئيم النجر عظيم الكبر كثير الفخر وسئل آخر عن رجل فقال لو قذف على الليل لؤمه لانطمست منه نجومه وسئل آخر عن رجل فقال يكاد يعدي بلؤمه كل من تسمى باسمه وقال حجاج بن هرون والله ماله في الشرف أسباب متان ولا في الخير عادات حسان وذم أعرابي رجلاً فقال هو عبد البدن حر الثياب عظيم الرواق صغير الأخلاق الدهر يرفعه وهمته تضعه وذم آخر رجلاً فقال أما الوجه فدميم وأما الخلق فذميم وأما الخيم فوخيم وأما العرض فزنيم وأما الحسب فلئيم وقال الجاحظ فلان لا تنجع فيه الرقى ولا

تنفذ فيه الحيل ولا يهزه المدح ولا يحزنه الذم ولا يخجله التقريع ولا يذله التوبيخ ولا يرحم المظلوم فإن استرحمته ازداد غلظة ولا يرق لفقير وإن تعرض له قتله جوعاً وقال آخر فلان غث في دينه قذر في دنياه رث في مروأته سمج في هيئته منقطع إلى نفسه راض عن عقله بخيل بما وسع الله عليه كتوم لما آتاه الله من فضله حلاف لجوج إن سأل ألحف وإن وعد أخلف لا ينصف الأصاغر ولا يعرف حق الأكابر وأنشد لابن قادوس تأنست بذميم الفعل طلعته ... تأنس المقلة الرمداء بالظلم وقالوا فلان كالشجرة التي قل ورقها وكثر شوكها وصعب مرتقاها قال الشعر يهجو قوماً لئاماً هم الكشوت فلا أصل ولا ثمر ... ولا نسيم ولا ظل ولا ورق جفوا من اللؤم حتى لو أصابهم ... ضوء السهى في ظلام الليل لاحترقوا لو صافحوا المزن ما ابتلت أناملهم ... ولو يخوضون بحر الصين ما غرقوا ومن محاسن التلفيق في الذم فلان له كيد مخنث وحسد نائحة وشره قواد وذل قابله وملق داية وبخل كلب وحرص نباش ونتن جورب ووحشة قرد قال ابن حجاج في مثل ذلك نسيم حشّ وريح مقعدة ... ونفث أفعى ونتن مصلوب وله يهجو نعمة الله لا تعاب ولكن ... ربما استقبحت على أقوام لا يليق الغني بوجه أبي يع ... لى ولا نور بهجة الاسلام وسخ الثوب والعمامة والبر ... ذون والوجه والقفا والغلام

الفصل الثاني من الباب الثاني

ومن التلفيق فلان يروغ من الحق روغان الثعلب ويشره إلى الادناس شره الخنزير ويستسلم إلى عدوه استسلام الضبع ويدب إلى الشر دبيب العقرب وينام عن الخير نوم الفهد ويجبن عن القرن جبن العصفور ويخبط في الجهل خبط الناقة ابن عروس يهجو كم قال منتقدوك أحمر زائف ... ماذا أقول وقد عصيت الناقدا ولقد عرضتك يا زنيم بدرهم ... فيمن يزيد فما وجدت مزايدا سافر بطرفك هل ترى لك شاكراً ... أو ذاكراً أو حاسداً أو حامدا آخر أمّا الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح فيك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل الفصل الثاني من الباب الثاني في ذكر الفعل والصنيع الدالين على لؤم الوضيع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت وقال الشاعر إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً ... وتستحي مخلوقاً فما شئت فاصنع وقالوا فلان لا يستحيي من الشر ولا يحب أن يكون من أهل الخير فلو أفلتت كلمة سوء لم تنسب إلا إليه وإن رفعت لعنة لما وقعت إلا عليه وسئل معاوية عن السفلة فقال الذي ليس له فعل موصوف ولا نسب معروف كما قال بعض الاعراب وقد سئل عن رجل فقال عليه كل يوم قسامة من فعله تشهد عليه بلؤم أصله وشهادات الأفعال أصدق من شهادات الرجال وقال بعض

العارفين أفعال المر مشهود لواصفيه وسئل محمد بن الحسن عن السفلة فقال من يبخل بقطعه الحجام ويفعل في الطريق فعل الطغام وقال الأصمعي السفلة من لا يبالي بما قال أو قيل له وقال يحيى بن أكثم السفلة الذي لا يعيبه ما صنع وقال أبو مسلم ألأم الأعراض عرض لم يرتع فيه مدح ولا ذم وسمع الأحنف رجلاً يقول لا أبالي مدحت أو ذممت فقال يا هذا استرحت من حيث تعب الكرام فمن فعلات من خلع في اللؤم الرسن ... المكافأة بالقبيح عن الفعل الحسن من أمثال العرب في ذلك أكفر من ناشرة وذلك أن همام بن مرة كان قد أخذ ناشرة من أمه لما مات أبوه وضاقت بتربيته ذرعاً فرباه وأحسن إليه فلما بلغ الحلم هجاه هجواً قبيحاً فنهاه عنه فتركه حتى تام واغتاله وحكى الأصمعي أن أعرابياً ربى جرو ذئب وجعل يغذيه بلبن شاة له حتى كبر فخرج معها يوماً للرعي كعادته فحركته الطبيعة الدنية والنفس الذئبية على افتراس الشاة فلما رأى الأعرابي الشاة فريسة أنشد عقرت شويهتي وفجعت قومي ... بشاتهم وأنت لها ربيب غذيت لبانها ونشأت معها ... فمن أنباك أنّ أباك ذيب إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع أدب الأديب وأغار خيثمة بن مالك الجعفي على بني القين فاستاق منهم إبلاً فأطلقوا خلفه الأعنة فلم يقدروا عليه ولا وصلوا إليه فنادوه وقالوا له إن أمامك مفازة ولا ماء معك وقد فعلت جميلاً فانزل ولك الذمام والخباء فنزل فلما اطمأن وسكن أخذته سنة فنام فوثبوا عليه وقتلوه ومما يستغرب منه ويستعجب ... في هذا الباب ويستعذب لما حارب الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بر زمن أصحاب عبد الرحمن عبد الله بن سواد الحارثي وطلب المبارزة فبرز إليه بعض أصحاب الحجاج فقتله عبد الله ثم عاد فطلب المبارزة فخرج إليه آخر فقتله ثم عاد

فطلب البراز فخرج إليه آخر فقتله ثم عاد وطلب البراز فقال الحجاج للجراح بن عبد الله الحكمي اخرج إليه فخرج فقال له عبد الله وكان صديقاً له ما أخرجك قال ابتليت بك قال فهل لك في خير قال الجراح وما هو قال أنهزم لك فترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حباً لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي قال افعل فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله وتبعه الجراح يريد قتله فصاح بعبد الله غلام له وكان ناحية عنه وكان معه إداوة وقال له يا سيدي إن الرجل يريد قتلك فعطف على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه فقال له يا جراح بئس ما جزيتني به أردت لك العافية وتريد قتلي انطلق فقد تركتك للصداقة التي بيني وبينك فشتان ما بين الفعلين قصد أبو بكر الخوارزمي الصاحب بن عباد ومدحه بقصيدة قال فيها وما خلقت كفاك إلا لأربع ... عوائد لم يخلق لهنّ يدان لشكرك أفواه وتنويل نائل ... وتغليب هندي وأخذ عنان فلما بلغ إلى هذا البيت قال له لم تذكر القلم وهو آلة الكاتب وبه تقدم ورأس فقال قصيدة مدحه بها جاء منها يد تراها أبداً ... فوق يد وتحت فم ما خلقت بنانها ... إلا لسيف وقلم فخلع عليه كل ملبوسه وخلع عليه كل من كان في مجلسه من الثياب موافقة للصاحب فحصلت له مائة جبة فلم يرضه ذلك وانصرف فهجاه بقوله لا تحمدنّ ابن عباد ولو مطرت ... كفاه بالجود حتى جازت الديما لكنها خطرات من وساوسه ... يعطى ويمنع لا بخلاً ولا كرما

واتفق إن مات الخوارزمي عقب قوله هذه الأبيات فلما بلغ الصاحب موته قال سألت بريداً من خراسان مقبلاً ... أمات خوارزميكم قال لي نعم فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من يكفر النعم ومما يدل على خبث نجار اللئيم ... الغدر بمن يركن إليه ويستنيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأولين والآخرين رفع لكل غادر لواء وقيل هذه غدرة فلان وقالوا من نقض عهده ومنع رفده فلا خير عنده وقالوا العذر يصلح في كثير من المواطن ولا عذر لغادر ولا خائن شاعر أخلق بمن رضى الخيانة شيمة ... أن لا يرى إلا صريع حوادث ما زالت الآراء تلحق بؤسها ... أبداً بغادر ذمّة أو ناكث وقالوا الغدر من صغر القدر ويقال من تعدى على جاره دل على لؤم نجاره وقال علي رضي الله عنه الوفاء بأهل الغدر غدر والغدر بأهل الغدر وفاء ذكر أن عيسى عليه السلام مر بانسان يطارد حية وهي تقول له واله لئن لم تذهب عني لأنفخن عليك نفخة أقطعك بها قطعاً فمضى عيسى وعاد فوجد الحية في جونة الرجل محبوسة فقال لها ويحك أين ما كنت تقولين قالت يا روح الله إنه حلف لي وغدر وأن سم غدره أقتل له من سمي أعرق الناس في الغدر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معد يكرب فإن عبد الرحمن غدر بالحجاج لما ولاه بلاد خراسان وادعى الخلافة وقاتله وكانت بينهم ثمانون وقعة وكان آخرها دائرة السوء عليه وغدر محمد بن الأشعث بأهل طبرستان وكان عبيد الله ولاه إياها فصالح أهلها على أن لا يدخلها ثم عاد إليهم غادراً فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبا بكر وغدر الأشعث بن قيس ببني الحرث بن كعب غزاهم فأسروه ففدى نفسه بمائتي بعير فأعطاهم مائة وبقيت عليه مائة فلم

يؤدها لهم حتى جاء الاسلام فهدم ما كان في الجاهلية وكان بين قيس بن معد يكرب وبين مراد عهد إلى أجل فغزاهم في آخر يوم من الأجل وكان يوم الجمعة فقالوا له إنه لا يحل لنا أن نقاتل يوم السبت فأخرهم فلما كان صبيحة السبت قاتلهم فقتلوه وهزموا جيشه وغدر معد يكرب بمهرة وكان بينه وبينهم عهد إلى أجل فغزاهم ناقضاً لعهدهم فقتلوه وفتقوا بطنه وملؤه بالحصا ومما ينزع لباس الحسب والصيانة ... رفول المرء في أطمار الخيانة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا غيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وقال صلى الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً والصدقة مغرماً ومن الحكايات في هذا الباب ما يحكي أن شهر بن حوشب وكان من أجلة القراء وأصحاب الحديث دخل على معاوية وبين يديه خرائط قد جمعت لتوضع في بيت المال فقعد على إحداها ومعاوية يراه فلما رفعت الخرائط فقد من عددها خريطة فأعلم الخازن بذلك معاوية فقال هي محسوبة لكم ولا تسألوا عن أخذها وفيه يقول الشاعر لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر كان للمأمون خادم يسرق طسه الذي يتوضأ فيه فقال له يوماً هلا إذا سرقت تأتيني بما تسرقه فأشتريه منك قال فاشتر مني هذه وأشار إلى التي بين يديه قال بكم هي قال بدينارين قال على أن لا تسرقها فقال نعم فأعطاه دينارين ولم يعد الخادم يسرق شيأً لما رأى من حلمه عنه وقال المنصور لعامل بلغه عنه خيانة يا عدو الله وعدو أمير المؤمنين وعدو المسلمين أكلت مال الله وخنت خليفة الله فقال يا أمير المؤمنين نحن عيال الله وأنت خليفته والمال مال الله فمن أين نأكل إذاً فضحك منه وأطلقه وأمر أن لا

يولي عملاً بعدها سرق رجل في مجلس أنوشروان جام ذهب وهو يراه فلما فقده الشرابي قال والله لا يخرج أحد حتى يفتش فقال أنوشروان لا تتعرض لأحد فقد أخذه من لا يرده ورآه من لا ينم عليه وأودع بعض التجار عند قاضي معرة النعمان وديعة وغاب عنها مدة فلما جاء طالبه بها فأنكرها فتشفع إليه برؤساء بلده في ردها فلم يزالوا به حتى أقر بها وادعى أنها سرقت من حرزه فاستحلفه فحلف فعمل فيه ابن الدويرة الشاعر المعري أبياتاً منها لا يصدق القاضي الخؤن إذا ادّعى ... عدم الوديعة من حصين المودع إن قال قد ضاعت فيصدق إنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي أو قال قد وقعت فيصدق إنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع وقال ابن حجاج وأدعوهم إلى القاضي عساهم ... إذا وقع الجحود يحلفوني وأضيع ما يكون الحق عندي ... إذا عزم الغريم على اليمين آخر إذا حلفوني بالغموس منحتهم ... يميناً كسحق إلا لحميّ الممزق وإن أحلفوني بالعتاق فقد درى ... سحيم غلامي أنه غير معتق وإن أحلفوني بالطلاق رددتها ... على خير ما كانت كان لم تطلق وقف بعض المجان على قبر سارق فقال رحمك الله فلقد كنت أحمر الأزار حاد السكين إن نقبت فجرد وإن تسلقت فسنور وإن استلبت فحدأة وإن ضربت فقاض ولكنك اليوم وقعت في زاوية سوء وليس كل حبس تحبس فيه إلى التناد على أموال العباد

من الصنيع الدال على لؤم الأصول

من الصنيع الدال على لؤم الأصول من كان بسيف جوره على العباد يصول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الظلم ظلمات يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله رجل ولاه الله تعالى من أمة محمد شيأً فلم يعدل فيهم وقال سفيان الثوري لان تلقى الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد ويقال من طال عدوانه وإنه زال سلطانه وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم ويقال الظلم يجلب النقم ويسلب النعم وقالوا من ظلم من الملوك فقد خرج من كرم الحرية والملك إلى دناءة العبودية والملك ويقال ليس شيء أسرع إلى تغيير نعمة وتعجيل نقمة من الاقامة على الظلم وفي الخبر يقول الله تعالى اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصراً غيري وقالت الحكماء شر الملوك الأفاك السفاك وقال أبو منصور الثعالبي أخلق بالملك الظلوم أن يصير غصة للمرائين وعظة للراوين وقالوا الظلم أسرع إلى تبديل النعم وتعجيل النقم من الطيور إلى الأوكار ومن الماء في الانحدار وقالوا سبع خطوم خير من وال ظلوم كان زياد بن أبيه ممن استطال بجوره وعسفه في ولايته عراقي البصرة والكوفة فلما ذل له من فيهما كبرت عليه نفسه واستقلهما لها فكتب إلى معاوية إني قد ضبطت العراقين بيميني وبقيت شمالي فارغة فجمع له معاوية الحجاز واتصلت ولايته بالمدينة فاجتمع أهل المدينة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذوا بقبره يسألون الله تعالى الإقالة منه ورفع عبد الله بن عمر يديه وقال اللهم اكفنا شمال زياد كما كفيتنا يمينه فطعن فيها فشاور شريحاً في قطعها فقال له رزق مقسوم وأجل معلوم وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش أجذم وإن حم أجلك أن تلقى الله مقطوع اليد فإذا سألك لم قطعتها فتقول بغضاً للقائك وفراراً من قضائك

فتركها فلما خرج شريح من عنده لامه الناس فقال إنه قد استشارني والمستشار مؤتمن ولولا أمانة المشورة لوددت إن الله قطع يده يوماً ورجله يوماً وسائر أعضائه يوماً يوماً وزاره شريح بعد ذلك فلما خرج من عنده قال له مسروق كيف تركت الأمير قال تركته يأمر وينهي فأول قوله فإذا هو يأمر بالوصية وينهي عن البكاء عليه ومات من تلك سنة ثلاث وخمسين في رمضان وكان مولده عام الهجرة ودفن في أرض الكوفة وسنأتي على نتف من مولده ونسبه فيما يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى ومن المفرطين في العسف والعنف يوسف ابن عمر الثقفي قلده هشام بن عبد الملك العراق وكان شيطاناً مريداً وجباراً عنيداً سفاكاً للدماء معروفاً بالظلم والغشم ولما قلده أمره بالقبض على خالد بن عبد الله القسري فسار إليه حتى هجم عليه وهو في قصره على حين غفلة من أمره فأخذه ثم رقى المنبر وقال يا أهل العراق إن الحجاج كان دخاناً أنا ناره ولهباً أنا شراره فعليكم بالطاعة العائدة بجزيل الثواب وإياكم والمخالفة الموجبة لوشك العقاب وقد أعذر من أنذر ثم نزل يحكي عنه أنه دخل دار الضرب فعاير درهماً فوجده ناقصاً حبة فضرب فيها الأمناء والصناع عشرة آلاف سوط وكان الفضل بن مراون وزير المعتصم ظالماً غاشماً متبحجاً بالظلم متجبراً متكبراً كان المعتصم يقول الفضل بن مروان أسخط الله وأرضاني فسلطني الله عليه دخل عليه الهيثم بن فراس الشاعر متظلماً من بعض عماله فصرف وجهه عنه ولوى عطفه فخرج من عنده وهو ينشد تجبرت يا فضل بن مروان فانتظر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادهم التغيير والموت والقتل فإن تك قد أصبحت في الناس ظالماً ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل فلما سمع الفضل أبياته قال ما الذي عنى بقوله فقيل إنه أراد الفضل بن يحيى والفضل بن سهل والفضل بن الربيع فتغير وجهه ولم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى قبض عليه وفيه يقول بعض الشعراء من أبيات هي قوافيها على ألفاظ الفضل المتفقة مبانيها المختلفة معانيها ولقد أبدع وأجاد

فيها نصحت فأخلصت النصيحة للفضل ... وقلت فبينت المقالة للفضل ألا إن في الفضل بن يحيى لعبرة ... إن اعتبر الفضل بن مروان بالفضل وفي ابن الربيع الفضل للفضل زاجر ... إن ازدجر الفضل بن مروان بالفضل وللفضل في الفضل بن سهل مواعظ ... إن اتعظ الفضل بن مروان بالفضل إذا ذكروا يوماً وقد صرت رابعاً ... ذكرت بقدر السعي منك إلى الفضل فأبق جميلاً من حديث تكونه ... ولا تدع المعروف والأخذ بالفضل فإنك قد أصبحت للناس قائماً ... وصرت مكان الفضل والفضل والفضل من أبيات كثيرة أتيت منها على ما مست الحاجة إليه ووقع الاختيار عليه وقال شاعر في نكبته لا تغبطنّ أخا الدنيا بمقدرة ... فيها وإن كان ذا عز وسلطان يكفيك من غير الأيام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان إن الليالي لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد احسان وصف بعض البلغاء عاملاً للمأمون فقال يا أمير المؤمنين ما ترك فضة إلا فضها ولا ذهباً إلا ذهب به ولا علقاً إلا علقه ولا ضيعة إلا أضاعها ولا غلة إلا غلها ولا عرضاً إلا عرض له ولا ماشية إلا امتشها ولا جليلاً إلا أجلاه ولا دقيقاً إلا دقه ولا رقيقاً إلا رقه فضحك منه وصرفه عن أهل ناحيته ووصف بعضهم عامل ولاية فقال والله ما الذئب في الغنم بالقياس إليه الا من المصلحين ولا السوس في الخزز من الصيف الا من العادلين ولا يزدجرد الأثيم في أهل فارس بالاضافة إليه إلا من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ولا فرعون في بني إسرائيل إذا قابلته به إلا من الملائكة المقربين ووصف آخر عامل ولاية فقال كان يجبي خراج الوحش ويأخذ جزية السمك ويطلب زكاة الملائكة ويلتمس جمع الريح ويروم القبض على الماء وحصر الحصا وكيل الأنهار وتحصيل الهباء ولئن كانت النعمة عظمت على قوم خرج عنهم لقد

جلت المصيبة بقوم نزل فيهم وذم البديع الهمداني قاضياً ووصفه بالظلم فقال قاض لا شاهد عنده أعدل من السكر والجام يدلي بهما إلى الحكام ولا ولي أصدق لديه من الصفر الذي يرقص على الظفر ولا وثيقة أحب إليه من غمزات الخصوم على الكيس المختوم ولا وكيل أعز عليه من المنديل والطبق في وقتي الفلق والغسق وأقسم لو أن اليتيم وقع بين الأسود بل الحيات السود لكانت سلامته منها أيسر من سلامته من أصحابه وما ظنك برجل يعادي الله في الغلس ويبيع الدين بالثمن البخس ولص لا ينقب إلا خزائن الأوقاف وكردي لا يغير إلا على الضعاف وذئب لا يفترس عباد الله إلا بين الركوع والسجود ومحارب لا ينهب مال الله إلا بين العدول والشهود قيل لبعض الأعراب أيما أحب إليك أن تلقى الله ظالماً أو مظلوماً قال ظالماً قيل له ويحك ولم قال ما عذري إذا قال لي خلقتك سوياً قوياً لم لم تستعد وأنشد بيت زهير ابن أبي سلمى ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن معايب من رغب عن المكارم ... القاء الحشمة في ارتكاب المحارم كما يحكي أن نصر بن سيرا مر بأبي الهندي وكان شريفاً في قومه وهو يميل سكراً فقال له أفسدت شرفك فقال أبو الهندي لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان وكان يزيد بن معاوية يلقب بالسكران لكثرة انهماكه على كثرة شرب الخمر ولقب أيضاً يزيد الخمر بلغه إن المسور بن مخرمة يرميه بشرب الخمر فكتب إلى عامله بالمدينة أن يجلد المسور حد القذف ففعل فقال المسور أتشربها صرفاً تطن دنانها ... أبا خالد والحد يضرب مسور وكان له قرد يكنى أبا قيس يحضره مجلس شرابه ويطرح له متكأ ويسقيه فضله كأسه واتخذ له أتانا وحشية قد ربضت له وذللت وصنع لها سرج ولجام من

ذهب يركبه بهما عليها ويسابق بها الخيل يوم حلبة الرهان فجاء يوماً سابقاً وتناول القصبة التي هي الغابة ودخل الحجرة قبل مجئ الخيل وعليه قباء وقلنسوة من الحرير الأحمر وفيه يقول بعض شعراء الشام تمسك أبا قيس بفضل زمامها ... فليس عليها إن سقطت ضمان إلا من رأى القرد الذي سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أثان وكان الوليد بن يزيد بن عبد الملك مما جنا زنديقاً مستهزئاً مستخفاً مستهيناً بالخاصة والعامة مدمناً للخمر متلاهياً باللهو واللعب مصراً على ارتكاب الفواحش مشتغلاً بخلاعته عن النظر في أمور المسلمين والقيام بحقوق الخلافة وأمور المملكة وأحوال الرعية وفيه يقول القائل مضى الخلفاء بالأمر الحميد ... وأصبحت المذمّة للوليد تشاغل عن رعيته بلهو ... وخالف قول ذي الرأي السديد ذكر ثقات المؤرخين إن المؤذن أذنه يوماً للصلاة وهو في لهوه فأمر جارية من جواريه الفواسق أن تعتم وتتلثم وتصلي بالناس فخرجت على هذه الصفة وصلت بهم وبلغ من تهكمه بالشريعة أنه كان يفطر في رمضان والشاهد عليه ما يقال إنه من شعره ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام وقوله يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر نشربها صرفاً وممزوجة ... بالسخن والبارد والفاتر وحكى أنه استدعى أشعب الطامع من المدينة وألبسه سراويل من جلد قرد له ذنب واقترح عليه صوتاً يرقص به فلما فعل ذلك أعطاه ألف درهم وقيل إنه

لما دخل عليه أخرج له ذكره منعظاً وقال له هل رأيت مثل هذا قال لا قال فاسجد له فسجد وهو القائل يخاطب المصحف وقد جعله هدفاً حين تفاءل منه فخرج قوله تعالى واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد أتوعد كلّ جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا ربّ مزقني الوليد والسبب في قوله هذا أنه لما رأى حالته قد انحل نظامها ودولته مدبرة وقد نفدت أيامها فتح المصحف ينظر فيه فألا فخرج له واستفتحوا الآية ومن قوله يخاطب المصحف ... فعل من بدّل وحرف تخوّفني الحساب ولست أدري ... أحقاً ما تقول من الحساب فقل لله يمنعني طعامي ... وقل لله يمنعني شرابي تلاعب بالنبوّة هاشمي ... بلا وحي أتاه ولا كتاب فمتعه الله طعامه وشرابه كما أراد في مقاله وسلط عليه من قتله وهكذا عادة الله في أمثاله فقتل يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ست وعشرين ومائة بالنجراء وهو قصر على ستة أميال من تدمر وله من العمر اثنتان وأربعون سنة وقيل تسع وثلاثون وأشهر وكانت مدة خلافته سنة وشهرين وعشرين يوماً وحمل رأسه إلى دمشق وعلق بها وقرن به دف وطنبور ولم يزل أثر الدم على الجدران إلى أن قدمها المأمون سنة خمس عشرة ومائتين فأمر بحكه وكان والبة بن الحباب من الخلعاء المستهزئين وهو الذي ربى أبا نواس وأدبه يحكي عنه أنه كشف يوماً عن فقحته فقبلها فضرط على لحيته فقال له ويلك ما هذا فقال أما سمعت المئل جزاء مقبل الوجعاء ضرطه فزاد كلامه هجبابه

يحكي أن جماعة اجتمعوا في مجلس لمطيع بن اياس يشربون الخمر فأقاموا على ذلك ثلاثة أيام فقال لهم يحيى بن زياد ليلة وهم سكارى ويحكم ما صلينا منذ ثلاثة أيام فقوموا حتى نصلي فقام مطيع فأذن وقال للقينة تقدمي وصلي بنا واقرئي في صلاتك علق القلب الربابا ... بعد ما شابت وشابا فتقدمت وصلت وكانت بلا سراويل وعليها غلالة رقيقة يظهر سائر جسدها منها فلما سجدت انكشف سترها وبداهنها فوثب إليه مطيع وقبله ثم قال ولما بداهنها جاثماً ... كرأس حليق ولم يعتمد سجدت عليه فقبلته ... كما يفعل العابد المجتهد فقطعوا صلاتهم بالضحك وعادوا لما نهوا عنه ومن أشعارهم قول أبي نواس إنما الدنيا غلام ... وطعام ومدام فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام فبؤساً لهم ألم يعلم عاقلهم وجاهلهم بأن الله يرى وأن بيده نواصي ما ذر أو برا ولكن غرهم الامهال حتى ظنوا أنه إهمال فبدلنا الله من سنة الغفلة يقظة الطاعة وألهمنا من العمل ما نفوز بأجره إلى قيام الساعة آمين ومن خلائق العريق في الوضاعة ... أخذ النفس بالتكبر والرقاعة قال الشافعي أظلم الناس لنفسه اللئيم إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه واستخف بالأشراف وتكبر على ذوي الفضل وقال أبو مسلم ما ضاع إلا

وضيع ولا فاخر إلا لقيط ولا تعصب إلا دخيل وقال عمر ما وجد أحد في نفسه كبراً إلا لمهانة يجدها في نفسه ويقال الاعجاب يغطي سائر المحاب ويكفي في ذم الكبر قول الله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق قال ابن عيينة حرمهم فهم القرآن قال بعض البلغاء الكبر من أخبث سرائر القلوب وأعظم كبائر الذنوب لا يرى صاحبه أبداً إلا فظاً غليظاً ولا يرى لا حد سواه في الفضل حظاً حظيظاً وكفى به شيمة مشؤمة وخلة مدمومة أهلكت الأكابر حديثاً وقديماً وعاد الكريم من الرجال ذميماً مليماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر وكان يقال من جهل قدر نفسه فهو بقدر غيره أجهل ومن أنف من عمل نفسه اضطر إلى عمل غيره وقالوا من قل لبه كثر هجبه وقال أزدشير بن بابك ما الكبر الأفضل حمق لم يدر صاحبه أين يضعه فصرفه إلى الكبر وقال الشاعر وقل لمعتصم بالتيه من حمق ... لو كنت تعرف ما في التيه لم تته التيه مفسدة للدين منقصة ... للعقل منهكة للعرض فانتبه آخر رأيت الفتى يزداد نقصاً وذلة ... إذا كان منسوباً إلى العجب والكبر ومن ظنّ أنّ العجب من كبر همة ... فإني رأيت العجب من صغر القدر وأنشد الامام محيي الدين محمد عرف بحامي رأسه النحوي لنفسه ومعتقد أنّ الرياسة في الكبر ... فأصبح ممقوتاً به وهو لا يدري يجرّد ذيول الفخر طالب رفعة ... ألا فاعجبوا من طالب الرفع بالجرّ

وقال معاوية إن التواضع مع البخل والجهل أزين بالرجل من الكبر مع البذل والعقل فيالها حسنة غطت على سيئتين كبيرتين ويالها من سيئة غطت على حسنتين عظيمتين وقالوا من أصاب حظاً من جاه فأصاره إلى كبر وترفع أعلم الناس إنه دون تلك المنزلة ومن أقام على حاله أعلمهم أن تلك المنزلة دونه وأنها دون ما يستحق مر المهلب بن أبي صفرة على مطرف بن عبد الله وهو يتبختر في جبة خز فقال يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله فقال المهلب أما تعرفني فقال له ومن أنت قال أنا المهلب قال نعم أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بين هذا وهذا تحمل العذرة نظم بعضهم هذه الكلمات فقال عجبت من معجب بصورته ... وكان بالأمس نطفة مذره وفي غد بعد حسن طلعته ... يصير في اللحد جيفة قذره وهو على تيهه ونخوته ... ما بين جنبيه يحمل العذره ولآخر يا مظهر الكبر اعجاباً بصورته ... انظر خلاك فإنّ البين تثريب لو فكر الناس فيما في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبان ولا شيب هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة ... بأربع هو بالأقذار مضروب أنف يسيل وأذن ريحها سهك ... والعين مرمصة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً ... أقصر فإنك مأكول ومشروب ومن ظريف ما يذكر من أخبار المتكبرين ما يحكي أن علقمة بن وائل الحضرمي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فيمن وفد عليه من سادات العرب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاويه أن ينطلق به إلى منزل رجل من الأنصار لينزله عنده وكان منزله بأقصى المدينة قال معاوية فخرجت معه وهو راكب ناقته وأنا أمشي في ساعة قيظ يشوي الوجوه وليس لي حذاء فقلت له أردفني خلفك فقال لست من أرداف الملوك قلت إني ابن أبي سفيان قال قد سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال قلت فألق لي نعليك قال لا تقبلان قدميك ولكن امش في ظل ناقتي فكفاك ذاك شرفاً وإن الظل لك لكثير قال معاوية فما مر بي مثل ذلك اليوم قط والله لخلته أنه من جهنم ثم أدرك سلطاني فلم أواخذه بل أجلسته معي على سرير هذا وحكى أن عمارة بن حمزة وكان متكبراً جداً دخل على المهدي يوماً فلما استقر به مجلسه قام رجل كان المهدي قد أعده ليتهكم بعمارة فقال مظلوم يا أمير المؤمنين قال من ظلمك قال عمارة هذا غصبني ضيعتي وكانت من أحسن ضياع عمارة فقال المهدي قم فاجلس مع خصمك قال يا أمير المؤمنين ما هو لي بخصم إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ولا أقوم من مجلس شرفني به أمير المؤمنين فلما خرج الرجل وانفض المجلس سأل عمارة عن صفة الرجل وما كان لباسه وأين كان موضع جلوسه فلم يعلم وكان من تيهه أنه إذا أخطأ يمر في خطئه تكبراً عن الرجوع ويقول نقض وابرام في ساعة واحدة الموت أهون منه وقال ابن عبدوس الجهشياري كان عمارة أعور دميماً استعمله المنصور على الخراج وكور دجلة والأهواز وكور فارس وقلده المهدي ذلك أيضاً وكان عبد الدولة بن جهير وزير المستظهر بالله متكبراً كثير الكبر يكاد يعد كلامه عداً وكان إذا كلم رجلاً كلاماً يسيراً هنئ ذلك الرجل بكلامه ومن الكبر المستبشع والتيه المستشنع ما يحكي أن ثوابة دعا أكاراً فكلمه فلما فرغ من كلامه دعا بماء وتمضمض به استقذاراً لمخاطبته وأنشدت لبعض المتكبرين مفتخراً أتيه على جنّ البلاد وأنسها ... ولو لم أجد خلقاً لتهت على نفسي أتيه فما أدري من التيه من أنا ... سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي فإن زعموا أني من الأنس مثلهم ... فمالي عيب غير أني من الأنس ولابن صابر أيها المدّعي الفخار دع الفخ ... ر لدى الكبرياء والجبروت

نسج داود لم يفد ليله الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السمند في لهب النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت وصف البديع الهمداني متكبراً فقال كأن الدنيا خاتم في خنصره وحساب خراجها في بنصره وكأن الشمس تطلع من جبينه والغمام يندي من يمينه وكان كسرى حامل غاشيته وقارون وكيل نفقته وقال آخر كان العجب شقيقه والبذخ رفيقه والنفخ أليفه والصلف حليفه وقال جعيفران يهجو سعيد بن مسلم بن قتيبة أمّ سعيد لم ولدتيه ... ملوّثاً بالكبر والتيه ليتك إذ جئت به هكذا ... حين خريتيه أكلتيه آخر كبر بلا نسب تيه بلا حسب ... فخر بلا أدب هذا من العجب والهجو الفظيع القبيح قول بعض الشعراء في أبي جعفر العباس بن الحسن إنّ ابن عباس أبا جعفر ... يبذل للنائك أوراكه تراه من تيه ومن نخوة ... كأنه ناك الذي ناكه وليم بعض المتكبرين على الاعجاب فقال التواضع يكسب المذلة والافراط في المؤانسة يوجب المهانة وأنشد ونفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما وقال في معناه صالح بن عبد القدوس إذا ما أهنت النفس لم تلق مكرماً ... لها بعد ما عرّضتها الهوان

الفصل الثالث من الباب الثاني

آخر وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وجدّك لم تكرم على أحد بعدي واعتذر متكبر عن كبره بقوله ومالي وجه في اللئام ولا بد ... ولكنّ وجهي في الكرام عريض أهش إذا لاقيتهم وكأنني ... إذا أنا لاقيت اللئام مريض الفصل الثالث من الباب الثاني في أنّ من تخلق باللؤم انتفع في أنّ من تخلق باللؤم انتفع ... وعلا على الكرام وارتفع قال سعيد بن المسيب الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال وقال لو لم يزهد في الدنيا إلا لأنها في يد الأنذال لكان ينبغي لنا ذلك لهوانها على الله وقال الشافعي في ذم الدهر وسوء معاملته لسراته وسقياه لهم أكواب حسراته محن الزمان كثيرة لا تنقضي ... وسروره يأتيك كالأعياد ملك الأكابر فاسترقّ رقابهم ... وتراه رقا في يد الأوغاد ابن الرومي رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذي شيم شريفه كمثل البحر يغرق كل حيّ ... ولا ينفك يطفو فيه جيفه أو الميزان تخفض كل واف ... وترفع كل ذي زنة خفيفه آخر رأيت الدهر بالأشراف يكبو ... ويرفع راية القوم اللئام كأنّ الدهر موتور خفور ... يطالب حقه عند الكرام

وقال أسامة بن منقذ شغل الزمان بأهل النقص يرفعهم ... حتى يثمر للورّاث ما خزنوا ألهاه رفع لئام الناس فهو على ... ذوي المكارم والأفضال مضطغن آخر يا دهر صافيت اللئام ولم تزل ... أبداً لأبناء الكرام معاندا وعرفت كالميزان ترفع ناقصاً ... أبداً وتخفض لا محالة زائدا آخر قل لدهر من المكارم عطل ... يا قبيح الفعال جهم المحيا كم رفيع حططته في حضيض ... ووضيع ألحقته بالثريا آخر عجباً للزمان يرفع حرّاً ... ما لديه ويمنح المال نذلا فهو مثل الميزان يرفع ما خف ... ويهوى في الوزانة سفلا ولقد أحسن الآخر في قوله سألت زماني وهو بالخفض مولع ... وبالجهل محفوف وبالنقص مختص فقلت له هل من طريق إلى العلا ... فقال طريقان الوقاحة والنقص ويقال اتضاع الأعالي بارتفاع الأسافل وإذا ارتفعت الأراذل هلكت الأفاضل وقال قيس بن زهير أربعة لا يطاقون عبد ملك ونذل شبع وأمة ورثت وقبيحة تزوجت وقال أردشير ما شيء في انتقال الدول أمر من رفع

وضيع إلى مرتبة شريف فإن الوضيع إذا ارتفع تكبر وإذا تمول استطال وإذا تمكن صال وقالوا سوء القتل ولا رياسة النذل ولنرجع إلى خبرائي بكر الخوارزمي الذي ورد به شرعة الانصاف وحسم فيه بين العقلاء مادة الخلاف قال لا صغير في الولاية والعمالة ولا كبير مع العطلة والبطالة وإنما الولاية أنثى تصغر وتكبر بواليها ومطية تحسن وتقبح بممتطيها والصدر بمن يليه والدست بمن يجلس فيه والأعمال بالعمال كما أن النساء بالرجال ويؤيد قوله هذا أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى الهادي وكان أميراً على مصر من قبله عازم على خلعه فقال والله لا عزلنه بأخس من على بابي وقال ليحيى بن خالد اطلب لي كاتباً عفيفاً يصلح لعمل مصر واكتم خبره فلا يشعر به موسى حتى يفجأه فقال قد وجدته قال من هو قال عمر بن مهران وكتب له بخطه كتاباً إلى موسى بتسليم العمل إليه فسار وليس معه غير غلام أسود اسمه أبو درة على بغل استأجره ومعه خرج فيه قميص ومبطنة وشاش وطيلسان وخف فلما وصل إلى مصر نزل خاناً فأقام فيه ثلاثة أيام يبحث عن أخبار البلد وعمن فيه من العمال وأخبر من كان بجواره في الخان إنه قد ولي مصر واستعمل منهم كاتباً وحاجباً وصاحباً شرطياً وقلد آخر بيت المال وأمر من تبعه ووثق به أن يدخل معه على موسى فإذا سمعوا حركة في دار الامارة قبضوا على الديوان فلما أبرم أمره بكر إلى دار الامارة فأذن موسى للناس إذناً عاماً فدخل في جملتهم ومن اتفق معه وموسى جالس في دسته والقواد بين يديه وكل من قضيت حاجته ينصرف وعمر جالس والحاجب ساعة بعد ساعة يسأله عن حاجته وهو يتغافل حتى خف الناس فتقدم وأخرج كتاب الرشيد ودفعه لموسى فقبله ووضعه على رأسه ثم فتحه وقرأه فانتقع لونه وقال السمع والطاعة ثم قال أقرئ أبا حفص السلام وقل له كن بموضعك حتى نتخذ لك منزلاً ونأمر الجند يستقبلونك قال أنا عمر بن مهران وقد أمرني أمير المؤمنين أن أقيمك للناس وأنصف المظلوم منك وأنا فاعل ما أمرني به أمير المؤمنين فقال له موسى أنت عمر بن مهران قال نعم قال لعن الله فرعون حيث قال أليس لي ملك مصر واضطرب المجلس فقبض على الديوان فبلغ موسى الخبر فنزل عن فرشه وقال لا إله إلا الله هكذا تقوم الساعة ما ظننت أن أحداً بلغ من الحيلة والحزم ما بلغت تسلمت مني العمل وأنت في مجلسي ثم

نهض عمر إلى الديوان ونظر فيه وأمر ونهى وعزل وولي وكان بمصر قوم يدافعون الخراج فأحضر أشدهم مدافعة فطالبه فاستمهله ثم طالبه الثانية فاستمهله فلما كان في الثالثة فاستمهله فحلف أيماناً مؤكدة لا يستأديه إلا في بيت المال ببغداد ووكل به من أشخصه إلى بغداد فخاف الناس من مثل ذلك فلم ينكسر من الخراج بعدها درهم وإنما ذكرنا هذه الحكاية لما فيها من التنبيه على أن الرتبة النفيسة إذا وليها ذو القدر الحقير والنفس الخسيسة لا يكون ذلك قادحاً في جلالتها ولا مغيراً لها عن حالتها وإنما ذلك بحسب ما ينظر إليها الزمان فربما نظر إليها بسعد أو نظر إليها بحرمان فإن سعدت وليها من هو أكبر منها وإن حرمت تولاها من يصرف السعد عنها ذكر من نال المراتب السنية ... من ذوي الأعراق الدنية ونقتصر منهم على ذكر ثلاثة وهم زياد والحجاج بن يوسف وأبو مسلم وإنما اقتصرنا على هؤلاء لأنهم أقاموا دول من كانوا نوابهم من الخلفاء فزياد لمعاوية والحجاج لعبد الملك بن مروان وأبو مسلم لبني العباس فأما زياد فقيل فيه زياد ابن أبيه وقيل زياد بن عبيد الثقفي وقيل زياد بن سمية وقيل زياد بن أبي سفيان وإنما قيل ابن أبيه لاختلاف الناس فيمن ينسب إليه وسمية كانت عند كسرى فوهبها لأبي الخير قيل من أقيال حمير فدخل بها الطائف فمرض فطبه الحرث بن كلدة طبيب العرب فنجع فيه طبه فوهب له سمية فولدت له نقيعاً ويكنى أبا بكرة ونافعاً ثم كانت تحت عبد لصفية بنت عبيد الله بن أسد بن علاج الثقفي وكان يسمى عبيداً فولدت له زياداً ويقال إن أبا سفيان واقعها على كره منها في حال سكره وكانت بغياً فحملت منه بزياد وقيل لعبيد إنه لفراشك فكان عبيد يكنى به وروى ابن عبد البر في الاستيعاب إن زياداً اشترى عبيداً بألف درهم وأعتقه فكان يغبط بذلك وأما السبب في إضافة أبي سفيان زياد إلى نفسه وإلحاقه به ما ذكر أن عمر بن الخطاب بعث زياداً في إصلاح فساد وقع في اليمن فلما رجع من وجهته خطب خطبة لم يسمع الناس مثلها فقال عمرو بن العاصي لو كان هذا الغلام قرشياً لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان والله إني لاعرف من وضعه في رحم أمه

فقال له أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ومن هو يا أبا سفيان قال أنا فقال له علي رضي الله عنه مهلاً يا أبا سفيان فقام وأنشد أما والله لولا خوف شخص ... يرائي يا عليّ من الأعادي لاظهر أمره صخر بن حرب ... ولم تكن المقالة عن زياد ولكني أحاذر خيف كف ... لها نقم ولفتى عن بلادي فقد طالت مجاملتي ثقيفاً ... وتركي فيهم ثمر الفؤاد وكانت من أبي سفيان فلتة فذلك الذي حمل معاوية على إلحاق زياد بأبي سفيان وذلك في سنة أربع وأربعين وشهد عنده زياد بن أسماء وملك بن ربيعة والمنذر بن الزبير على إقرار أبي سفيان بأنه ولده وكان أبو بكرة يقول ما رأت سمية أبا سفيان قط ولما ألحق معاوية زياداً بأبيه دخل مروان بن الحكم عليه فأنشده قول أخيه عبد الرحمن فيه ألا أبلغ معاوية بن صخر ... فقد ضاقت بما يأتي اليدان أتغضب أن يقال أبوك عفّ ... وترضى أن يقال أبوك زاني فاشهد أنّ آلك من زياد ... كآل الفيل من ولد الاتان وأشهد أنها حملت زياداً ... وصخر من سمية غير ماني وهذا الشعر يؤيد قول أبي بكرة ويروى أنها ليزيد بن مقرع الحميري وأولها ألا أبلغ معاوية بن صخر ... مغلغلة من الرجل اليماني وقال يزيد إنّ زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب هم رجال ثلاثة خلقوا ... في رحم أنثى وكلهم لأب ذا قرشي كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمه عربي

وهذا يشير إلى أن الثلاثة أولاداً لحرث بن كلدة وليزيد يهجو عباد بن زياد أعباد ما للؤم عنك محوّل ... ولا لك أمّ من قريش ولا أب وقل لعبيد الله مالك والد ... بحق ولا يدري امرؤ كيف ينسب وسأل رجل الشعبي هل تجوز الصلاة خلف ولد الزنا فقال نحن منذ ثلاثين سنة نصلي خلفه ونرجو من الله القبول يعني زياداً وقال زياد لرجل يا ابن الزانية فقال أتسبني بشيء شرفت به أنت وآباؤك قال المدايني قدم زياد البصرة مع أخويه أبي بكرة ونافع وهو غلام وكان يكتب بالقلمين العربي والفارسي فاستكتبه المغيرة بن شعبة وأجرى له كل يوم درهمين درهم عن القلم العربي ودرهم عن القلم الفارسي ثم ترقت به الحال وظهرت مراتبه وانتهى أمره إلى أن ادعاه معاوية أخاً وولي فارس لعلي رضي الله عنه ثم احتمل مالاً وهرب إلى معاوية وجمع له معاوية العراقين وهو أول من جمعا له وجمعا بعده لابنه عبيد الله ولمصعب بن الزبير ولمسلمة بن عبد الملك ولعمر بن هبيرة وليزيد بن عمر بن هبيرة ولم يجمعا لأحد غير هؤلاء في أيام بني أمية ومنهم كليب ثقيف الحجاج ... ذو المراء في سفك الدماء واللجاج ولؤم الحجاج من قبل رضاعه ومكاسب آبائه قيل إن أم الحجاج واسمها الفارعة بنت مسعود الثقفية كانت قبل أن يتزوجها يوسف عند المغيرة بن شعبة فدخل عليها يوماً حين أقبل من صلاة الغداة وهي تتخلل فقال يا فارعة لئن كان هذا التخلل من أكل اليوم إنك لنهمه وإن كان من أكل البارحة فإنك لقذرة انصرفي فأنت طالق فقالت سخنت عينك ما هو من ذا ولا من ذاك ولكني استكت فتخللت من سواكي فاسترجع ثم خرج فلقي يوسف بن الحكم ابن عقيل فقال إني قد نزلت اليوم عن خير نساء بني ثقيف وحدثه بالقصة فتزوجها فولدت له الحجاج مشوهاً لا دبر له فثقب دبره وأبى أن يقبل الثدي من المراضع وأعياهم أمره فيقال إن ابليس تصور لهم على صورة الحرث بن كلدة وأشار

عليهم أن يذبح جدي أسود ويولغوه دمه يومين وفي الثالث يذبح له تنين ويولغوه من دمه ويطلوا وجهه بما بقي منه فإنه يقبل الثدي ففعلوا ذلك فأقبل على ثدي أمه فأكسبه الرضاع الأول لؤماً والرضاع بغير الطباع فكان في كبره سفاكاً للدماء فلما بلغ أشده صار هو وأخوه معلمين بالطائف وفيه يقول مالك بن الخريت يهجو الحجاج فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبداً من عبيد زياد زمان هو العبد المقرّ بذله ... يراوح صبيان القرى ويغادي وقال آخر يذكر تعليمه الصبيان أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر رغيف له فلكة ما ترى ... وآخر كالقمر الأزهر هكذا رواه جميع الأخباريين والصواب ما ذكره الحموي في كتاب البلدان له قال الكوثر قرية في الطائف كان الحجاج معلماً بها وأنشد شاهداً على ذلك أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه صبية الكوثر وعلى هذا يكون اسمه كليباً وهو الأولى به وقد تقدم منه الولوغ وقال آخر كليب تعاظم في أرضكم ... وقد كان فينا صغير الحضر ورأيت في بعض كتب التواريخ إن الحجاج لما احتضر قال لمنجم كان عنده هل ترى ملكاً يموت قال نعم ولست به إني أرى ملكاً يموت يسمى كليباً قال أنا والله كليب بذلك كانت أمي تسميني ومما يؤيد ما ذكرنا من لؤمه ما كتب به إليه عبد الملك بن مروان لما أراد قتل أنس بن مالك رضي الله عنه أما بعد فإنك طفت لك الأمور وعلوت فيها

حتى تعديت طورك وتجاوزت قدرك وركبت داهية دهماء أردت أن تزورني بها فإن سوغتكها نصبت قدماً وإن لم افعل رجعت القهقري فلعنك الله أخفش العينين منقوص الجاعرتين ممسوح الساعدين أصك الرجلين أراك قد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم فأذكر مكاسب آبائك بالطائف إذ كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم ويحفرون الآبار بأيديهم وأيم الله يا ابن المستقرية بعجم الزبيب لأغمرنك غمر الليث الثعلب ولأركضن بك ركضة تدخل بها في جعس أمك فإذا أتاك كتابي هذا فكن لأنس أطوع من عبد لسيده وإلا أصابك مني سهم مشكل ولكل نبا مستقر وسوف تعلمون وصف الحسن البصري الحجاج فقال أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته ويصعد المنبر فيقوم عليه حتى تفوته الصلاة لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل هيهات دون ذلك السيف والسوط وفيه يقول الأحمر بن سالم وأحسن ثقيف بقايا من ثمود وما لهم ... أب ماجد من قيس عيلان ينسب وأنت دعيّ يا ابن يوسف فيهم ... زنيم إذا ما حصلوا متذبذب ويقال إن الحجاج طلبه فهرب إلى هيت فأخذه عامله عليها فقتله وأحرقه وذراه في الريح وجرى بينه وبين بعض الخوارج مشاجرة فقال له الخارجي لو لم يكن من لؤم أبيك إلا أنه ولد مثلك لكفاه فأمر به فقتل وقال الحجاج يوماً لعبد الملك لو كان رجل من ذهب لكنته قال وكيف ذلك قال لأني لم تلدني أمة بيني وبين حواء إلا هاجر فقال له عبد الملك لولا هاجر كنت كلباً من الكلاب وأول ولاية تولاها تبالة فلما رآها استقلها فرجع عنها فقالوا في المثل أهون من تبالة على الحجاج وأول أمره ومصيره إلى روح بن زنباع وتضمن ما اتفق من أمره معه وكيفية وصوله إلى عبد الملك في المجلدة الثالثة من التذكرة

وفي كتاب أخبار القدماء وذخائر الحكماء لأبي حيان التوحيدي في سبب تولية الحجاج العراق قال العتبي لما اشتدت شوكة أهل العراق على عبد الملك بن مروان خطب الناس وقال إن نيران أهل العراق قد علا لهبها وكثر حطبها فجمرها حار وشهابها وار فهل من رجل ذي سلاح عتيد وقلب حديد أبعثه لها فقام الحجاج وقال أنا يا أمير المؤمنين قال ومن أنت قال الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عامر فقال له اجلس ثم أعاد الكلام فلم يقم أحد غير الحجاج فقال كيف تصنع إن وليتك قال أخوض الغمرات وأقتحم الهلكات فمن نازعني حاربته ومن هرب مني طلبته ومن لحقته قتلته أخلط عجله بتأن وصفواً بكدر وشدة بلين وتبسماً بازورار وعطاء بحرمان ولا على أمير المؤمنين أن يجرب فإن كنت للأوصال قطاعاً وللأرواح نزاعاً وللأموال جماعاً وإلا فليستبدل بي فقال عبد الملك من تأدب وجد بغيته اكتبوا له كتابه ومنهم ذو الأصل الدنئ والنفس الأبية ... أبو مسلم صاحب الدعوة العباسية كان أبو مسلم واسمه عبد الرحمن بن مسلم عبداً لعيسى بن معقل فباعه لأخيه ادريس جد أبي دلف واسمه قاسم بن عيسى بن ادريس العجلي وكان قهرماناً فجلس ادريس في الكوفة وأبو مسلم معه يخدمه فرأى بكر بن هامان من أبي موسى حذقاً وكيساً فقال لادريس ما هذا الغلام فقال مملوك لي قال بعه لي قال هو لك قال لا بد من ثمنه قال هو لك بما شئت فأعطاه أربعمائة درهم وأخذه وبعث به إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المنعوت بالامام فدفعه إبراهيم إلى موسى السراج فسمع منه وحفظ عنه وما زال قدره ينبل حتى أرسله إبراهيم بالدعوة لبني العباس وذلك في سنة ثمان وعشرين ومائة وله من العمر إحدى وعشرون سنة وقدم إلى خراسان يدعو الناس إلى طاعتهم في أول يوم من رمضان سنة تسع وعشرين فنزل قرية من قرى مرو ووثب دعاته فقال الناس رجل من بني هاشم قد ظهر له حلم ورواء ووقار وسكينة فانطلق فتية من أهل مر ونساك وكانوا يبطلون الفتنة فأتوا أبا مسلم في عسكره فسألوه عن نسبه فقال خبري خير لكم من نسبي ثم سألوه عن أشياء

من الفقه قال إن أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا ونحن إلى دعوتكم أحوج منا إلى إجابة مسئلتكم فاعفونا فقالوا والله ما نعرف لك نسباً وما نظنك إلا تبقى قليلاً وتقتل وكان كذلك ومن الدليل على لؤم أصله ما نقم عليه به أبو جعفر المنصور وهو أنه كتب إليه يخطب منه أمينة بنت علي بن عبد الله بن عباس وزعم أنه ابن سليط بن عبد الله فقال له المنصور عند تقريعه بذنوبه لما أراد قتله لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعباً تقر على نفسك إنك دعى ثم ترغب في بنات العباس ونقم عليه أيضاً أنه كتب إليه أيام خلافته عافانا الله وإياك فبدأ بنفسه في الدعاء ولما أراد المنصور قتله استشار مسلم بن قتيبة في ذلك فقال لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فقال حسبك يا أبا مية قد أصبت الغرض ثم استدعاه ولم يأذن لأحد معه فلما دخل عليه وأخذ مجلسه سأله أن يريه سيفه فلما تناوله منه جعل يذكره فعلاته التي نقمها عليه وهو يعتذر عنها ثم ركضه برجله فوثب عليه المرصدون لقتله فقتلوه وأخرج إلى قواده وجنوده بالجوائز والخلع فقسمت بينهم ثم رمى برأسه إليهم فتفرقوا ورجعوا قائلين مضى مولانا بالدراهم إنا لله وإنا إليه راجعون وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائة وكان مولده على رأس المائة وفيه يقول أبو دلامة واسمه زيد بن الجون يهجوه أبا مجرم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد أفي دولة المهديّ حاولبّ غدره ... ألا إنّ أهل الغدر آباؤك الكرد أبا مجرم خوّفتني بك فانتحى ... عليك بما خوّفتني الأسد الورد وقد تقدمت ترجمته وكيفية ما قتله المنصور في المجلدة الثالثة من التذكرة التوحيدية وخطب المنصور لما قتله فقال بعد حمد الله والثناء عليه أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ولا تسروا غش الأئمة فإن أحداً لا يسر سريرة إلا ظهر ذلك عليه في فلتات لسانه وصفحة وجهه وبوادر نظره إنا لم نبخسكم حقوقكم ولن نبخس الدين حقه إنه من نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه خبء هذا الغمد وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا

فقد أباح دمه لنا ثم نكث هو فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيرها ولم يمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه وإنما اقتصرت على ذكر هؤلاء الثلاثة دون غيرهم لعظيم ما ارتكبوه من الجرائم التي نهى الله عن فعلها وأكد في التحذير منها وبالغ في الوعيد عليها وهي قتل النفس بغير حق واستباحة حريم مالها التي حرمته كحرمتها وهذا لا يرضي فعله كفرة أهل الكتاب ولا من يعتقد أن إلى الله المرجع والمآب ومما ينبغي أن يلحق بهذا الفصل ... تسلى من خفضه الزمان من أهل الفضل بقلة الكرام وكثرة اللئام ... وتقلب الأحوال على مدى الأيام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كابل مائة لا يكاد يوجد فيها راحلة وقالوا الكرام في اللئام كالغرة في جبهة الفرس أو كالرقمة في يد الدابة ويقال لا يكاد يوجد كريم حتى يخاض إليه ألف لئيم قال السموأل بن عادياً اليهودي تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل وقال ابن المعتز إذا خرفت الدولة وقرب زوالها هبطت بالأخيار ورفعت درج الأشرار وقال أبو طالب يحيى بن أبي الفرج المعروف بابن زيادة البغدادي الكاتب باضطراب الزمان ترتفع الأن ... ذال فيه حتى يعمّ البلاء وكذا الماء ساجياً وإذا حرّك ... ثارت من قعره الأقذاء

وكان علي بن الحسين بن علي الوزير المغربي لمح هذا المعنى بقوله إذا ما الأمور اضطربن اعتلى ... سفيه يضام العلا باعتلائه كذا الماء إن حرّكته يد ... طفا عكر راسب في إنائه ومن أحسن ما ورد في هذا الباب ما حكى أن المعتصم لما أراد أن يشرف أشناس التركي عقب فتح بابك أمر أصحاب المراتب أن يترجلوا له فكان فيمن ترجل الحسين بن سهل فرآه حاجبه يمشي ويعثر فبكى رحمة له فقال له لا يهمنك ما تراه إن الملوك شرفتنا ثم شرفت بنا ولما عزل قتيبة بن مسلم وكيعاً عن رياسة بني تيم قال شاعرهم فإن تك قد عزلت فلا عجيب ... ضياء الشمس يمحوه الظلام وقال آخر يسلي معزولاً عزلوه كالذب المصفى لا ترى ... حالاً مغيرة له عن حال لم يعزلوا الأعمال عنه وإنما ... عزلوا العفاف به عن الأعمال آخر إنّ الولاية لا تتمّ لواحد ... إن كنت تنكر ذا فأين الأوّل لا تجزعن فلكل وال معزل ... فكما عزلت فعن قليل تعزل ومن أحسن ما قيل في تسلي معزول قول محمد بن يزيد الأموي في مالك بن طوق ليهنك إن أصبحت مجتمع الحمد ... وراعى المحامي والمعالي عن المجد وإنك صنت الناس فيما وليته ... وفرّقت ما بين الغواية والرشد

فلا تحسب الأعداء عزلك مغنماً ... فإنّ إلى الأحرار عاقبة الورد وما كنت إلا السيف جرّد في الوغى ... بأحمد سلا ثم ردّ إلى الغمد آخر ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك إلا لنقل النعيم من ملك ... قد انقضى ملكه إلى ملك علي بن الجهم للدّهر إدبار وإقبال ... وكل حال بعدها حال وصاحب الآثام في غفلة ... وليس للأيام إغفال كم أبلت الدنيا وكم جدّدت ... مني وكم تغني وتغتال تشهد أعدائي بأني فتى ... قطاع أسياف ووصال لا يملك الشدّة عزمي ولا ... يبطرني جاه ولا مال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حقاً على الله أن لا يرفع شيأً من هذه الدنيا إلا وضعه ولا يضع شيأً إلا رفعه كتب مفلس على خاتمه اصبر فالدهر دول راجز وإنما الدنيا دولكراحل قيل نزلونازل قيل رحل وقال علي رضي الله عنه ما قال الناس لشيء طوبى إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء وقال مطرف لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك وطيبه ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم وأنشدت لابن الأعرابي ربّ قوم رتعوا في نعمة ... زمناً والعيش ريان غدق

سكت الدهر طويلاً عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق ويقال لا يقوم عزاً لولاية بذل العزل ويقال العزل طلاق الرجال قال ابن المعتز وذلّ العزل يضحك كل يوم ... وينقر في قفا الوالي المدلّ وله كم تائه بولاية ... وبعزله ركض البريد سكراً لولاية طيب ... وخمارها صعب شديد ابن زياد لا تغبطنّ وزيراً للملوك وإن ... أحله الدهر منهم فوق رتبته واعلم بأنّ له يوماً تمور به الأرض ... اطربا كما مارت لهيبته هرون وهو أخو موسى وناصره ... لولا الوزارة ألم يأخذ بلحيته ولآخر تنح عن الوزارة لا تردها ... فكل الخير فيما لا تريد ألست ترى وزيراً كل يوم ... يباع متاعه فيمن يزيد ومن أعجب ما يحكى في تنقل الأحوال أن ثقل الفضل بن الربيع كان يحمل على ألف بعير ثم رؤى ثقله في زنبيل وفيه أدوية لعلته تنقل من مكان إلى مكان ورؤى ثقل الحسن بن سهل في زنبيل فيه نعلان وقميصان واصطرلاب ثم

رؤى ثقله على ألف بعير قال بعضهم هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال يوماً تريش خسيس الحال ترفعه ... إلى السماك وطوراً تخفض العالي وتغير أبو جعفر المنصور على وزيره أبو أيوب المرزباني فقال ألا ليتني لم ألق ما قد لقيته ... وكنت بأدنى عيشة الناس راضيا رأيت علوّ المرء يدعو انحطاطه ... ويضحى وسيط الحال من كان ناجيا ولهذا قيل الفقر مع الأمن خير من الغنى مع الخوف وقال بعضهم مسلياً عن العطلة لعمرك ما طول التعطل ضائر ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعه إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم لذة الدعه وإن ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى ... ألا ربّ ضيق في عواقبه سعه آخر كن بخمول النفوس قانع ... لا تطلب الذكر في المجامع فلن يزال الفتى بخير ... ما لم تشر نحوه الأصابع ابن مقلة يقول عندما نكب زمان يمرّ وعيش يمر ... ودهر يكرّ بما لا يسر وحال يذوب وهمّ ينوب ... ودنيا تناديك أن ليس حرّ

آخر وأحسن ما استشعر المسلمو ... ن عند النوائب حلم وصبر ولله في كلّ ما يأتني ... وأبلى به منه حمد وشكر سمع أعرابي يقول هذا غنى لولا أنه فناء وعلا لولا أنه بلاء وبقاء لولا أنه شقاء وقيل لابن الجهم بعدما صودر ما تفكر في زوال نعمتك قال لا بد من الزوال فلان تزول وأبقى خير من أن أزول وتبقى وقيل لأعرابي صف لنا الدهر فقال الدهر سلوب لما وهب وهوب لما سلب كالصبي إذا لعب

الباب الثالث

الباب الثالث في العقل وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في مدح العقل وفضله في مدح العقل وفضله ... وشرف مكتسبه ونبله قال الله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد سئل الحسن بن سهل ما حد العقل فقال الوقوف عند الأشياء قولاً وفعلاً وسئل آخر فقال الاصابة بالظنون والتلمح فيما كان وما يكون ومراده في القسم الثاني التجربة وقالوا هو درك الأشياء على ما هي عليه من حقيقة معانيها وصحة مبانيها وقيل لحكيم ما مقدار العقل فقال ما لم ير كاملاً في أحد فلا يعرف له مقدار وقالوا لكل شيء غاية وحد والعقل لا غاية له ولا حد ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار في الرائحة والطيب واختلف الحكماء أيضاً في ماهيته كما اختلفوا في حده فقال بعضهم هو نور وضعه الله طبعاً وغرزه في القلب كالنور في العين وهو البصر فالعقل نور في القلب والبصر نور في العين وهو ينقص ويزيد ويذهب ويعود وكما يدرك بالبصر شواهد الأمور كذلك يدرك بنور العقل كثير من المحجوب والمستور وعمي القلب كعمي البصر قال الله تعالى فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور وقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الأعمى من عمي بصره ولكن الأعمى من عميت بصيرته

وقال بعض الحكماء العقل غريزة لا يقدر أحد أن يصفها في نفسه ولا في غيره ولا يعرف إلا بالأقوال والأفعال الدالة عليه وعلى كل حال فلا سبيل أن يوصف بجسم ولا لون ولا عرض ولا طول وقال العتبي واسمه عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان العقل عقلان عقل تفرد الله بصنعه وهو الأصل وعقل يستفيده المرء بأدبه وهو الفزع فإذا اجتمعا قوى كل واحد منهما صاحبه تقوية النار في الظلمة البصر أخذه من هذه الأبيات وتنسب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ورضي عنه رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع ويفهم من فحوى ما ذكرناه أن العقل في القلب وهذا القول هو الموجود بصحة النظر والمعلوم من جهة الأثر قال الله تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال العقل في القلب به يفرق بين الحق والباطل وقال بعضهم هو في الدماغ وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وقال عمرو بن العاصي يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين وينتهي عقله لثمان وعشرين ويبلغ أشده لخمس وثلاثين وما بعد ذلك تجارب وقال بعضهم كل شيء مفتقر إلى العقل والعقل مفتقر إلى التجارب وقال بعضهم من طال عمره نقصت قوة بدنه وزادت قوة عقله وقال بعض الحكماء أربعة تحتاج إلى أربع الحسب إلى الأدب والسرور إلى الأمن والقرابة إلى المودة والعقل إلى التجرية ويقال هرم السن شباب العقل وقال البستي ما استقامت قناة رأيي إلا ... بعد ما عوّج المشيب قناتي

ما اخترناه من محاسن الكلم وأسناها ... في أنّ العقل أشرف المواهب وأسماها قال ابن عباس رضي الله عنه دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده والآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إليك قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال لي أحسنهما عقلاً قلت يا رسول الله إنما سألتك عن عبادتهما فقال يا عائشة إنهما لا يسألان عن عبادتهما إنما يسألان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال الجنة مائه درجة تسعة وتسعون منها لأهل العقل واحدة لسائر الناس وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل شيء وثيقة ومحجة واضحة وأوثق الناس مطية وأحسنهم دلالة ومعرفة بالحجة الواضحة أفضلهم عقلاً وقال بزرجمهر الانسان صورة فيها عقل فإن أخطأه العقل ولزمته الصورة فليس بإنسان قال المتنبي لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما إني لأعجب ممن رزق العقل كيف يسأل الله معه شيأً آخر وقالت عائشة رضي الله عنها أفلح من جعل الله له عقلاً وقال مطرف ما أوتي العبد بعد الايمان بالله تعالى أفضل من العقل ويقال ما تم دين امرئ حتى يتم عقله وما استودع الله رجلاً عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما وقال الأصمعي لو صور العقل لأضاء معه الليل ولو صور الجهل لأظلم معه النهار وقال بزرجمهر العقل كالمسك إن خبأته عبق وإن بعته نفق وقالوا كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا ولو بيع لما اشتراه إلا العقلاء لمعرفتهم بفضله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل داء دواء ودواء القلب

العقل ولكل حرث بذر وبذر الآخرة العقل ولكل شيء فسطاط وفسطاط الأبرار العقل ويقال العقل وزير رشيد وظهير سعيد من أطاعه فجاه ومن عصاه أرداه وقال بعضهم يصف العقل لله درّ العقل من رائد ... وصاحب في العسر واليسر وحاكم يقضي على غائب ... قضية الشاهد للأمر وإن شاء في بعض أحواله ... أن يفصل الخير من الشر فذو قوى قد خصه ربه ... بخالص التقديس والطهر آخر العقل حلة فخر من تسربلها ... كانت له نسباً تغنى عن النسب والعقل أفضل أما في الناس كلهم ... بالعقل ينجو الفتى من حومة الطلب ومن قولهم في أن من وهب الله له عقلاً كسى ... من المناقب حلة لا تبلى قال أبو هريرة رضي الله عنه لو ازددت كل يوم مثقال ذرة من عقل ما باليت ما فاتني من أنواع التطوع وقال وهب مثل العقلاء في الدنيا مثل الليل والنهار لا تقوم الدنيا إلا بهما فكذلك المرء في الدنيا لا حظ له إلا إذا كان عاقلاً وقيل لأنوشروان أي الناس أولى بالسعادة قال أنفسهم ذنوباً قيل فمن أنقصهم ذنوباً قال أتمهم عقلاً وقالوا إذا كان العقل في النفس اللئيمة كان بمنزلة الشجرة الكريمة في الأرض الذميمة ينتفع بثمرها على خبث المغرس فاجتن ثمر العقل وإن أتاك من لئام الأنفس وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في قوله لولده الحسن رضي الله عنه خذ الحكمة أنى أتتك فإن الحكمة تكون في صد والمنافق فلا تزال تختلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صاحبها وقال سعيد بن جبير لم تر عيناي أفضل من فضل عقل يتردى به

الرجل إن انكسر جبره وإن صرع انعشه وإن ذل أعزه وإن اعوج أقامه وإن عثر أقاله وإن افتقر أغناه وإن عرى كساه وإن غوى أرشده وإن خاف أمنه وإن حزن أفرحه وإن تكلم صدقه وإن أقام بين ظهراني قوم اغتبطوا به وإن غاب عنهم أسفوا عليه وإن بسط يده قالوا جواد وإن قبضها قالوا مقتصد وإن أشار قالوا عالم وإن صام قالوا مجتهد وإن أفطر قالوا معذور قال الشاعر وأفضل قسم الله للمرء عقله ... فليس من الخيرات شيء يقاربه يزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظوراً عليه مكاسبه وشين الفتى في الناس قلة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه آخر ما وهب الله لامرئ هبة ... أشرف من عقله ومن أدبه هما حياة الفتى فإن عدما ... فإنّ فقد الحياة أجمل به آخر يعدّ رفيع القوم من كان عاقلاً ... وإن لم يكن في قومه بحسيب وإن حل أرضاً عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب وقال طاوس ما قلادة نظمت من در وياقوت بأزين لصاحبها من العقل ولو ناصح المرء عقله لأراه ما يزينه مما يشينه فالمغبون من أخطأ حظه من العقل

ما أثبتناه من الكلام الرائع الرائق ... فيما يمتاز به العاقل من المائق قال بعض أهل العلم إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بثلاثة أشياء بالدين والعقل وحسن الخلق وقال إن الله يخيرك واحداً من هذه الثلاثة فقال يا جبريل ما رأيت أحسن من هؤلاء في الجنة ثم مديده إلى العقل وقال لذينك اصعدا قالا لا نصعد قال أتعصياني قالا لا نعصيك ولكنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعاقل عشر خصال يعرف بها يحلم عمن ظلمه ويتواضع لمن دونه ويسابق إلى بر من هو فوقه وينتهز الفرصة إذا أمكنته لا يفارقه الخوف ولا يصحبه العنف يتدبر ثم يتكلم فإذا تكلم غنم وإذا سكت سلم وإذا اعترضت له فتنة اعتصم بالله وقال أبو عبادة مادحاً غريب السجايا ما تزال عقولنا ... مدلهمة في خلة من خلاله عداه الحجى في عنفوان شبابه ... وأقبل كهلاً قبل حين اكتهاله وقالوا من علامة العاقل ثلاثة تقوى الله وصدق الحديث وترك ما لا يعني وفي حكمة داود على العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه مالكاً للسانه مقبلاً على شأنه وقال بعض الحكماء أربعة تدل على صحة العقل حب العلم وحسن الحلم وصحة الجواب وكثرة الصواب وقالوا إن أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدثه في خلال حديثك بما لا يكون فإن أنكر فهو عاقل وإن صدق فهو أحمق وقالوا لا تجد العاقل يحدث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يعد بما لا يستطاع انجازه وقال لقمان لابنه لا يتم عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال يكون الكبر منه مأموناً والرشد فيه مأمولاً وفضل ما لديه مبذولاً لا يصيب من الدنيا إلا القوت التواضع أحب إليه من الشرف والذل أحب إليه من العز لا يسأم من طلب المعالي ولا يتبرم بطلب الحوائج إليه يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثيره من نفسه وأن يرى جميع أهل الدنيا خيراً منه وإنه شراً منهم وهذه الخصلة تشيد مجده

شوارد مجموعة في احتياج ذوي العقل والحلم

وتكبت ضده وتعلي قدره وتطيب في العالمين ذكره وقالوا العاقل إذا والى بذل في المودة نصره وإذا عادى رفع عن الظلم قدره فيستعين مواليه بعقله ويعتصم معاديه بعدله وقال المهلب بن أبي صفرة واسمه ظالم بن سراقة يعجبني أن أرى عقل الرجل زائداً على لسانه ولا يعجبني أن أرى لسانه زائداً على عقله وقالوا زيادة العقل على اللسان فضيلة وزيادة اللسان على العقل رذيلة والله أعلم شوارد مجموعة في احتياج ذوي العقل والحلم إلى اكتساب فضيلتي الأدب والعلم أما الأدب فقال بزرجمهر العقل يحتاج إلى مادة الأدب كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الأطعمة وقالوا عقل بلا أدب فقر وأدب بلا عقل حتف وقالوا عقل بلا أدب كشجاع بلا سلاح وقالوا لا عقل إلا بأدب ولا أدب إلا بعقل وقال أفلاطن عقل بلا أدب كالشجرة العاقر والعقل مع الأدب كالشجرة المثمرة وقال بزرجمهر الأدب صورة العقل فحسن صورة عقلك كيف شئت ابن المقفع كما أن الأدب لا يكمل إلا بالعقل فكذلك لا يكمل العقل إلا بالأدب وقالوا احرص أن لا يكون أدبك أغزر من عقلك فإن من زاد أدبه على عقله كان كالراعي الضعيف في الغنم الكثيرة ويقال أدبوا أولادكم صغاراً تقر أعينكم بهم كباراً شاعر قد ينفع الأدب الأحداث في صغر ... وليس ينفع بعد الكبرة الأدب إنّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قوّمتها الخشب وقال عبد الملك بن مروان لاعب ولدك سبعاً وأدبه سبعاً واستصحبه سبعاً فإن أفلح فألق حبله على غاربه ... ولا عبرة بقول من قال قولاً لمن ينصح ابناً له ... يردّد القول لتهذيبه ضيع الوقت بلا طائل ... فيكثر القول ويهزي به

له إلى الله وتدبيره ... ثم إلى الدهر وتجريبه فإنما الأقدار لا بدّ أن ... تأتي بما خط وتجري به فليس كما قال فإنما الهمل في الامهال ولا عذر له في الاهمال وعود الصبا أبداً آمناً إن يحتاج إلى الشفيف وطيش الشباب سريع الحراك فلا غناء له عن التوقيف ويحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان له ولد فترك الصلاة يوماً ومضى يلعب بالكلاب مع الصبيان فكتب إلى مؤدبه رقعة وأرسلها معه مختومة يقول فيها ترك الصلاة لا كلب يسعى بها ... نحو الفراش مع الغواة الأرجس فليأتينك غادياً بصحيفة ... كتبت كمثل صحيفة المتلمس فإذا أتاك معذراً بملامة ... فعظنه موعظة اللبيب الأكيس وإذا هممت بضربه فبدرّة ... وإذا بلغت به ثلاثاً فاحبس واعلم بأنك ما فعلت فنفسه ... مع ما تجرّعني أعز الأنفس وأما العلم فقدره كبير وفضله كثير ويكفي في شرفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خير سليمان بين الملك والمال والعلم فاختار العلم فأعطى الملك والمال لاختياره العلم قال بعض الحكماء إذا اجتمع العقل والعلم في رجل فقد استطاب المحيا وسما إلى الدرجة العليا وجمع الآخرة والدنيا وقالوا العلم أفضل مكتسب وأكرم منتسب وأشرف ذخيرة تقتنى وأطيب ثمرة تجتنى وبه يتوصل إلى معرفة الحقائق ويتوصل إلى رضا الخالق وهو أفضل نتائج العقل وأعلاها وأكرم فروعه وأزكاها لا يضيع أبداً صاحبه ولا فتقر كاسبه ولا يخيب طالبه ولا تنحط مراتبه وقال معاذ بن جبل تعلموا العلم فإن تعليمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وهو النيس في الوحشة والصاحب في الغربة والوزير عند الخلاء

والقريب بين الغرباء شاعر أجل ما يبتغي يوماً ويكتسب ... ويجتنى من حلا الدنيا وينتخب علم شريف عميم النفع قد رفعت ... لحامليه بآفاق العلا رتب إن عاش عاش جميلاً سامياً أبداً ... لا يستضام ولا ينسى فيجتنب وإن تمت فثناء شائع حسن ... وبعده رحمة ترجى وترتقب آخر العلم أعلى من الأموال منزلة ... لأنه حافظ والمال محفوظ وقالوا العلم عز لا يبلى جديده وكنز لا يفنى مزيده وقال ابن المقفع تعلموا العلم فإن كنتم ملوكاً فقتم وإن كنتم أوساطاً سدتم وإن كنتم سوقة عشتم وقالوا لو لم يكن من شرف العلم إلا أن الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك لكفى بذلك شرفاً وقال بعضهم العلم فيه جلالة ومهابة ... والعلم أنفع من كنوز الجوهر تفنى الكنوز على الزمان وصرفه ... والعلم يبقى باقيات الأعصر ويحتاج طالب العلم إلى ستة أشياء فراغ وجده وجد واستاذ وطول عمر ومعونة من الله تعالى وهذا ملاكها الذي لا بد منه ولا غناء لأحد عنه نظم ذلك الشاعر فقال أصخ لي فليس العلم إلا بستة ... سأنبيك عن مجموعها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وارشاد استاذ وطول زمان وقالوا العلم ميت يحييه الطلب فإذا حيى فهو ضعيف يقويه الدرس فإذا قوي بالدرس فهو محتجب تظهره المناظرة فإذا ظهر فهو عقيم نتاجه العمل

الفصل الثاني من الباب الثالث

شاعر العلم من شرطه لمن خدمه ... أن يجعل الناس كلهم خدمه وواجب حفظه عليه كما ... يحفظ ما عاش ماله ودمه ومن حوى العلم ثم أودعه ... غير محب له فقد ظلمه وكان كالمبتنى البناء إذا ... تمّ له ما أراده هدمه الفصل الثاني من الباب الثالث في ذكر الفعل الرشيد في ذكر الفعل الرشيد ... الدال على العقل المشيد قالوا العقل أصل لكل محمود من الأخلاق فإذا عدم الأصل فلا بقاء للفرع مع عدم الأصل وقيل للحسن بن علي رضي الله عنهما متى يكون العاقل عاقلاً قال إذا عقله عقله عما لا ينبغي فهو عاقل وقال علي بن عبيدة الزنجاني العقل ملك والخصال الحسنة رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها وقال بعض الحكماء الملائكة روح وعقل والبهائم نفس وهوى والإنسان يجمع الكل ابتلاء فإن غلب الروح والعقل على النفس والهوى فضل الملائكة وإن غلبت النفس والهوى على الروح والعقل فضلت البهائم فالعاقل من ذاد عن مراتع الهوى نفسه وكفها عن شهوات تقرب إليه رمسه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبك الشيء يعمى ويصم وقالوا الهوى خادع للألباب صارف عن الصواب صاحبه أعمى مبصر أصم سميع وقالوا الهوى أشأم دليل وألأم خليل وأغشم وال وأغش موال يكذب العيان ويقلب الأعيان ويجلب الهوان وقال أبو بكر بن دريد وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا

وقال بعض الصالحين الهوى مركب ذميم يسير بك في مضلات الفتن ومرتع وخيم يقعدك في مواطن المحن ويعلقك في حبائل الأحن ويقال من كان لعنان هواه أملك كان لطرق الرشاد أسلك ويقال بغلبة سلطان العقل على الهوى ينال السودد وقال شاعر واعلم بأنك لن تسود ولن ترى ... طرق الرشاد إذا اتبعت هواكا آخر إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى كلّ ما فيه عليك مقال ويقال عبد الهوى أذل من عبد الرق وقالوا أعقل الناس من عصى مراده ولم يعط الهوى قياده شاعر إنّ الردى تبع الهوى ... ومن الهوى حلو ومرّ اقنع بعيشك ترضه ... واملك هواك وأنت حر وقال علي بن الحسين المغربي ما للمطيع هواه ... من الملام ملاذ فاختر لنفسك إمّا ... عرض وإمّا التذاذ وقال حكيم لولده اعص هواك وأطع من شئت قال بعضهم إذا ما رأيت المرء يقتاده الهوى ... فقد ثكلته عند ذاك ثواكله وقد أشمت الأعداء حقاً بنفسه ... وقد وجدت فيه مقالاً عواذله

آخر وأجاد إذا ما دعتك النفس يوماً لشهوة ... وكان عليها للحرام طريق فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدوّ والخلاف صديق وقالوا كم من عقل أسير عند هوى أمير شاعر وعاص الهوى المردى فكم من محلق ... إلى النجم لما أن أطاع الهوى هوى ولبعضهم وما يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس الأحازم الرأي كامله وقالوا أعدل الناس من أنصف عقله من هواه ومنع نفسه مما يكون سبباً لبلواه ولحظ الأشياء بعين فكره واضماره فعلم من ورود الأمور عاقبة إيراده وإصداره فيحسن بأفعاله حمد الأوداء ويأمن في ماله كيد الأعداء كما حكى أن نصيباً دخل على عبد الملك بن مروان فتغدى معه فلما رأى عبد الملك ظرفه وأدبه قال له هل لك فيما نتنادم عليه قال يا أمير المؤمنين لوني حائل وشعري مغلغل وخلقي مشوه ووجهي قبيح ولم أبلغ ما بلغت من اكرامك إياي لا لشرب أب ولا كرم أم وإنما بلغته بعقلي ولساني فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تحول ببني وبين ما بلغت به هذه المنزلة عندك فأعفاه وما أحسن قوتذ الحيرارزي مشيراً إلى قول نصيب أرى الكأس تذهب عقل الفتى ... فيذهل عن كل مستمتع ولولا ابتهاجي بكم لم أكن ... لأشرب أكثر من أربع وقالوا سرور فقلت السرور ... بأن تتركوني وعقلي معي وقال آخر رطلان لا أزداد فوقهما ... في الشرب إن حضروا وإن وحدي فليغتفر لي من ينادمني ... إني أحث عواقب الرشد وأريد ما يقوى به بدني ... وأجانب الأمر الذي يردي

وعلى ذكر ما ينتج من شرب الخمر من زوال الذهن وذهاب العقل فحسن قول من قال الخمر مصباح السرور ولكنها مفتاح الشرور وقول أبي الفضل المنكالي عيرتني ترك المدام وقالت ... هل جفاها من الرجال لبيب هي تحت الظلام نور وفي الأك ... باد برد وفي الخدود لهيب قلت يا هذه عدلت عن النص ... ح وما للرشاد فيك نصيب إنها للستور هتك وفي الأل ... باب فتك وفي المعاد ذنوب وقال رجل لابنه وهو يتعاطى الشراب احذره فإنه قئ في شدقك أو سلح على عقبك أو حد في ظهرك وقال الحصنكي ذاكراً لهذه العيوب ونديم بت أعذله ... ويرى عذلي من العبث قلت إنّ الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث قلت منها القئ قال نعم ... شرفت عن مخرج الخبث قلت للأزمات تشربها ... قال طيب العيش في الرفث وقريب من هذا ما حكى إن الحجاج وفد على الوليد بن عبد الملك فلما كان بعد أيام وقد أخذا يتجاذبان أذيال المذاكرة فقال له الوليد هل لك في الشراب قال يا أمير المؤمنين ليس محظوراً مداخلة أمير المؤمنين ولكني أمنع أهل عملي منه وأكره أن أخالف قول العبد الصالح لقومه وما أريد أن أخالفكم إلى ما انهاكم عنه فاستحسن ذلك منه وأعفاه وقال إسحق ابن إبراهيم الموصلي دخلت على الهادي فقال غنني صوتاً أطرب منه ولك حكمك فغنيته وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر

فقال أحسنت والله وضرب بيده إلى دراعته فشق منها ذراعاً فقال زدني فغنيته فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأحباب موعدك الحشر فقال أحسنت ثم ضرب بيده إلى دراعته فشق منها ذراعاً آخر فقال له زدني فغنيته هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر فقال أحسنت وشق باقي دراعته من شدة الطرب ثم رفع طرفه إلي وقال لي تمن واحتكم فقلت أتمنى عين مروان قال إسحق فرأيته وقد دارت عيناه في رأسه حتى خلتهما جمرتين ثم قال يا ابن اللخناء أتريد أن تشهرني بهذا المجلس وتجعلني سمراً وحديثاً يقول الناس أطربه فوهبه عين مروان أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحة عقلك لألحقتك بمن غبر من أهلك ثم أطرق اطراق الافعوان فرأيت ملك الملك بيني وبينه ينتظر أمره في ثم رفع رأسه ودعا بابراهيم بن ذكوان وقال له خذ بيد هذا الجاهل وأدخله بيت المال فإن أخذ ما فيه فدعه وإياه قال إسحق فدخلت وأخذت ما يساوي عين مروان أضعافاً وما أحسن ما قال بعض البلغاء يصف إنساناً بصيراً بالعواقب فلان يعرف من مبادئ الأحوال خواتيم الأعمال ومن صدور الأمور إعجاز ما في الصدور وقال آخر فلان يرى العواقب في مرآة فكره فلا يشتبه عليه نفعه بطمره نادرة قيل لبعض المجانين هل لك في الشراب فقال إن العاقل يشرب الخمر حتى يتشبه بي فأنا إذا شربته فبمن ذا أتشبه وأحسن منها ما يحكى إن أعرابياً راود امرأة عن نفسها فأنعمت له فلما قعد بين شعبتيها قام عنها ولم يقض وطرا ولا عفى من غرضه أثراً فقالت له يا هناه ما الذي عراك وقد بلغت مناك فقال إن رجلاً يبيع جنة عرضها السموات والأرض باصبعين بين فخذيك لقليل الخبرة بالمساحة والعاقل من اهتدى بمشورة نصحائه وكشف لهم عن مستور أغراضه وانحائه قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله فهذا الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعلم

أصحابه ما في المشورة من البركة لا لحاجة منه لرأيهم إذ هو للؤيد في حركاته وسكناته بالوحي من ربه والمستغني بما يلقي في روعه من الرأي المصيب عن آراء صحبه قال الحسن البصري إن الله عز وجل لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشورة أصحابه لحاجة به إلى رأيهم وإنما أراد أن يعرفهم ما بالمشورة من البركة وقال عليه الصلاة والسلام المشورة حصن من الندامة وأمن من الملامة وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الرجال ثلاثة رجل ينظر في الأمور قبل أن تقع فيصدرها مصادرها ورجل متوكل لا يتأمل فاذا نزلت به نازلة شاور أصحاب الرأي وقبل قولهم ورجل حائر بائر لا يأتم رشداً ولا يطيع مرشداً وقالوا مادة العقل من العقول كمادة الأنهار من السيول وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه نعم الموازرة المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد وقال حكيم لولده يا بني إن رأيك إن احتجت إليه وجدته نائماً ووجدت هواك يقظان فإياك أن تستبد برأيك فيغلبك حينئذ هواك وقالوا الخطأ مع الاستشارة أحمد من الاصابة مع الاستبداد ويقال إذا استخار العبد ربه واستشار صديقه واجتهد رأيه فقد قضى ما عليه ويقضي الله في أمره ما أحب وقالوا من استغنى برأيه فقد خاطر بنفسه وقالوا عليك بالمشورة فانها تأمر بالتي هي أحسن وتهدي للتي هي أقوم وقالوا لا تستبد بتدبيرك ولا تستخف بأميرك فمن استبد بتدبيره زل ومن استخف بأميره ذل وقالوا من شاور الأخلاء أمن من كيد الأعداء ومن أمثالهم زاحم بعود أودع وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر من أبيات وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه وإن ناصح منك يوماً دنا ... فلا تنأ عنه ولا تقصه ولآلمعر إنّ اللبيب إذا تفرّق أمره ... فتق الأمور مناظراً ومشاوراً وأخو التكبر يستبدّ برأيه ... وتراه يعتسف الأمور مخاطراً

بشار بن برد إذا بلغ الرأي المشورة فاستنر ... برأي نصيح أو نصاحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوّة للقوادم وما خير كف أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم آخر لا تحقرن الرأي وهو موافق ... حكم الصواب إذا بدا من ناقص فالدرّ وهو أجلّ شيء يقتنى ... ما حط رتبته هوان الغائص آخر شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تلقى كفاحاً ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة آخر تأنّ وشاور فإنّ الأمو ... ر منها مضئ ومستغمض فرأيان أفضل من واحد ... ورأي الثلاثة لا ينقض قال بزرجمهر أفره الدواب لا غنى له عن السوط وأعقل النساء لا غنى لها عن الزوج وأدهى الرجال لا غنى له عن المشورة فمن يعتمد عليه في المشورة ... من تكون النفس بآرائه مسرورة قالوا لا تدخل في مشورتك بخيلاً في عطاء فيقصر بك ولا جباناً في حرب فيخوفك ولا حريصاً في بذل فيصدك فان البخل والجبن والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظن بالله قيل استشار زياد رجلاً فقال حق المستشار أن يكون ذا عقل وافر واختبار متظاهر ولا أراني كذلك

قال الشاعر خصائص من تشاوره ثلاث ... فخذ منها جميعاً بالوثيقه وداد خالص ووفور عقل ... ومعرفة بحالك في الحقيقه فمن حصلت له هذي المعاني ... فتابع رأيه والزم طريقه وقال آخر إذا الأمر أشكل انفاذه ... ولم تر منه سبيلاً نجيحا فشاور لأمرك في ستره ... أخاك اللبيب الشفيق النصيحا آخر وإذا الأمور عليك يوماً اشكلت ... فاعمد لرأي أخ نصيح مرشد واحفظ نصيحة من بدا لك ودّه ... وبرأي أهل الخير جهدك فاهتد آخر فما كل ذي ودّ بموليك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب وقال الأحنف بن قيس لا تشاور المعزول فإن رأيه مغلول وقالوا لا تشاور الجائع حتى يشبع ولا العطشان حتى يروى ولا الأسير حتى يطلق ولا المقل حتى يجد ولا الراغب حتى ينجح وقال أفلاطون إذا استشارك عدوك فجرد له النصيحة لأنه قد خرج بالاستشارة من عداوتك إلى موالاتك ولما نوى ابن أبي مريم قاضي مرو أن يزوج ابنه استشار جاراً له مجوسياً فقال سبحان الله يستفتونك وأنت تستفتيني قال لا بد أن تشير علي فقال إن كسرى رئيس

الفرس كان يختار المال وقيصر رئيس الروم كان يختار الجمال ورئيس العرب كان يختار النسب ومحمداً نبيكم كان يختار الدين فانظر بمن تقتدي وقالوا لا تشاور بخيلاً في صلة ولا جباناً في حرب ولا شاباً في جارية وقال بعض الحكماء عليكم بمشورة من حلب ضرع دهره ومرت عليه صروف خيره وشره وبلغ من العمر أشده ومن التجربة أورى زنده ولذلك كانت العرب تقتدي برأي الشيوخ وتعتمد في النوازل على مشورة الكهول لما يوجد فيهم من أصالة الرأي واصابة الحدس وصحة النظر مع ما منحوا من حسن الاختبار وسمت الوقار، وقد عدل قوم عن هذا المرتع ونزعوا غير هذا المنزع فجعلوا للشباب أيسر الأقسام من توقد الفطنة وأوفر السهام من نشاط النفس وقوة المنة فربما قصرت عن مقاومتهم الكهول ولجأت إليهم في كثير من تنقيح الفروع والأصول لتوفر غريزة العقل فيهم وحدة الخاطر التي ترشدهم إلى الصواب وتهديهم ولهذا قال الشاعر رأيت العقل لم يكن انتهابا ... ولا يقسم على عدد السنينا ولو أن السنين تقسمته ... حوى الآباء أنصبة البنينا وكان بعض الحكماء يقول عليكم بآراء الأحداث ومشورة الشبان لان لهم اذهاناً تقد القواصل وتحطم الذوابل وقالوا آراء الشبان خضرة نضرة لم يهصر غصنها هرم ولا أذوى زهرها قدم ولا خبا من ذكائها بطول المدة ضرم وقال الشاعر عليكم بآراء الشباب فانها ... نتائج ما لم يبله قدم العهد فروع ذكاء تستمد من النهى ... بأنور في الآراء من قمر السعد ومن أحسن ما قيل في مدح شاب غزير العقل كثير الفضل طاهر الفعل قول الشاعر أدركت ما فات الكهول من الحجا ... في عنفوان شبابك المستقبل وإذا أمرت فلا يقال لك اتئد ... وإذا قضيت فلا يقال لك اعدل

وقيل بل العاقل من أخذ بالاستبداد في الأمور وأجراها مختاراً على حكم القضاء المقدور قال المهلب بن أبي صفرة لو لم يكن في الاستبداد بالرأي الا صون السر وتوفير العقل لوجب التمسك به وقال بزرجمهر أردت نصيحاً أثق به فما وجدت غير فكري واستضأت بنور الشمس والقمر فلم أستضئ بشيء أضوأ من نور قلبي وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما الفكر مرآة ترى المؤمن سيآته فيقلع عنها وحسناته فيكثر منها فلا تقع مقرعة التقريع عليه ولا تنظر عين العواقب شزراً إليه وقال عبد الملك ابن صالح ما استشرت أحداً قط إلا تكبر علي وتصاغرت له ودخلته العزة ودخلتني الذلة فعليك بالاستبداد فان صاحبه جليل في العيون مهيب في الصدور وإنك متى استشرت تضعضع شأنك ورجفت بك أركانك وما عز سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصحائه فإياك والمشورة وإن ضاقت عليك المذاهب واشتبهت لديك المسالك وأنشد فما كل ذي لبّ بمؤتيك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب وقال عبد الله بن طاهر ما حك ظهري مثل ظفري ولان أخطئ مع الاستبداد ألف خطا أحب إلي من أن أستشير فالحظ بعين النقص والتقصير وما أصدق قول القائل ليس احتيال ولا عقل ولا أدب ... يجدي عليك إذا لم يسعد القدر ولا توان ولا عجز يضرّ إذا ... جاء القضاء بما فيه لك الخير وعلى المستبد أن يتروى في رأيه فإن أفضل الرأي ما أجادت الفكرة نقده وأحكمت التروية عقده وقالوا كل رأي لم تتمخض به الفكرة ليلة كاملة فهو مولود لغير تمام شاعر إذا كنت ذا رأي فكن ذا اناءة ... فإنّ فساد الرأي أن تتعجلا وما العجز إلا أن تشاور عاجزاً ... وما الحزم إلا أن تهم فتفعلا

وقال شاعر في مستبد ذهب الصواب برأيه فكأنما ... آراؤه خلقت من التأييد وإذا دجا خطب تبلج رأيه ... صبحا من التوفيق والتسديد وقالوا فلان الخير معقود في نواصي آرأيه واليمن منقاد في نواحي أنحائه فلان إذا أذكى سراج الفكر أضاء ظلام الأمر وقال ابن العميد العاقل من استنتج في كل أمر خاتمته وعلم من كل بدء عاقبته وطالع بقلبه من كل غصن ما يخفى منه ومن كل زرع ما يحصد عنه ولله من قال مادحاً اصابة الرأي وذو يقظات مستمرّ مريرها ... إذا الدهر لاقاها اضمحلت نوائبه بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه وأين يفرّ الحزم منه وإنما ... مرائي الأمور المشكلات تجاربه وقال أبو عبادة البحتري في سليمان بن عبد الله يريك بالظنّ ما فاق اليقين به ... إذا تلبس دون الظن ايقان كأن آراءه والحزم يتبعها ... تريه كل خفيّ وهو اعلان ما غاب عن عينه فالقلب يكلؤه ... وإن تنم عينه فالقلب يقظان ومنها يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأنّ أفكاره بالغيب كهان لا فكرة منه إلا تحتها عمل ... كالدهر لا دورة ألا لهاشان وله يريك بالظنّ ما قلّ اليقين به ... والشاهدان عليه العين والأثر كأنه وزمام الدهر في يده ... يرى عواقب ما يأتي وما يذر

آخر بديهته وفكرته سواء ... إذا ما نابه الحطب الخطير واحزم ما يكون الدهر يوما ... إذا عجز المشاور والمشير والعاقل من نصب من تحيله الحبائل واقتنص بها شوارد المطالب والوسائل قالوا بالحيلة يستنزل الطير من جو السماء ويستخرج الحوت من جوف الماء فمن المحي في ذلك ما ذكر إن رجلين وثبا على أحد مرازبة كسرى أنوشروان فقتلاه ولم يعرفا فخشى إن هو لم يقتلهما به كان ذلك عاراً عليه وعجزا ينسب إليه فقال في مجمع من الناس إن من قتل المرزبان لعظيم القدرة شديد البأس ولو ظهر لجازيناه بما يستحق ورفعناه على الناس فلما بلغهما كلامه ظهرا وأقرا فقال أنوشروان إني مجازيكما بما تستحقان فإنه لا يكون جزاء من قتل سيده وغدر به إلا القتل وأما رفعكما على الناس فإني أصلبكما على أطول جذع أجده ثم أمر ففعل بهما ذلك وأحسن منها حيلة عملت على الاسكندر فخفي عليه الصواب في التخلص منها وهي ما حكى عنه أنه كان لا يدخل مدينة عنوة إلا هدمها وقتل من فيها فقدم على مدينة كان فيها مؤدب له فخرج إليه فأعظمه وأكرمه وأكبره ثم قال له ما جاء بك قال أيها الملك إن أحق من زين لك أمرك وأعانك عليه لأنا وإن أهل هذه المدينة أبو اطاعتك وطمعوا فيك لمكاني منك وأحب أن لا تشفعني فيهم وأن تخالفني في كل ما أسألك فيه من أمرهم فلما سمع الاسكندر مقالته ظن ذلك نصحاً له وإن غرض المعلم وافق غرضه وسر بذلك فلما رأى المعلم سروره طلب منه العهد على ذلك فعاهده فلما استوثق منه ذلك قال أيها الملك إني أرى من الرأي أن تهدم هذه المدينة وتقتل أهلها فقال الاسكندر لا سبيل إلى ذلك ولا بد من مخالفتك قال فارتحل عنها إذاً فارتحل

أمر عمر بن الخطاب بقتل الهرمزان فشكا العطش فأتى بإناء فيه ماء فلما تناوله أظهر رعشة في يده يوهم أنها من خوف فقال عمر لا بأس عليك حتى تشرب فرمى الإناء من يده فكسره فأمر عمر بقتله قال أوليس قد أعطيتني الأمان قال متى قال ألست قلت لا بأس عليك حتى تشرب ولم أشرب فقال عمر قاتله الله أخذ منا الأمان ولم نشعر ومن ظريف الحيل ما حكى إن سلمان الفارسي خطب بنتاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فأجابه إلى تزويجه فشق ذلك على ولده عبد الله وشكاه إلى عمرو بن العاص فقال له أنا أرده عنك فقال إن رددته بما يكره غضب أمير المؤمنين فقال لك علي أن أرده راضيا ثم أتى سلمان فضرب بين كتفيه وقال هنيأً لك أبا عبد الله هذا أمير المؤمنين يتواضع بتزويجك بنته فالتفت إليه مغضباً وقال إني متواضع والله لا أتزوجها وأسر معاوية عمرو بن أوس الأودي وكان من أصحاب علي يوم صفين فقدمه للقتل فقال لا تقتلني فانك خالي فقال من أين أنا خالك ولم يكن بيننا وبين أود صهارة فقال إن أخبرتك يكن نافعي عندك قال نعم قال أليست أختك أم حبيبة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين قال بلى قال فأنا ابنها وأنت أخوها فاستظرف قوله وخلى سبيله وحاصر سعد بن أبي وقاص حصن تيماء فطلب من فيه الأمان فأجابهم إلى ذلك فلما تسلمه قتل كل من فيه الأرجلا واحداً وعزم معن بن زائدة على قتل جماعة من الاسراء فلما مثلوا بين يديه قام أصغر القوم وقال أيها الأمير أتقتل أسراك وقد جاعوا وعطشوا فأمر لهم بطعام وشراب فلما أكلوا وشربوا قام إليه وقال أيها الأمير أتقتل أضيافك فحلم عليهم وخلى سبيلهم ولما قبض على ابن المقنع وكل به رجل يعذبه في مال طلب منه فلما طال عليه ذلك وخشى على نفسه التلف اقترض من صاحب العذاب مائة ألف درهم فكان بعد ذلك يرفق به خوفاً على ماله واقتحم رجل على الأحنف بن قيس مجلسه فلطمه فقال له ما حملك على ما فعلت فقال لطمني رجل من تميم فأقسمت أن أقتص من سيدهم فقال له الأحنف لم تبر في يمينك ولست بسيد تميم وإنما سيدهم حارثة بن قدامة فذهب الرجل إليه فوجده بين قومه فلطمه فأمر بقطع يده فقطعت فيقال ما قطع يده إلا الأحنف الذي جرأه على غيره ولم يؤدبه على فعله وإن كانت هذه الحكاية

ليست جارية على المعهود من حلم الأحنف فإن النفوس الشريفة تأتي الاسترسال في الاحتمال لما يحصل في حقها من إهمال واجهال كما قال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي معتذراً عمن أحوجه الذب عن سيأدته إلى الخروج عن عادته إذا أحوجت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أخلاق اللئام وما خرق اللئيم وإن تعدّى ... بأبلغ فيك من حقد الكرام ولى عبد الملك بن مروان أخاه بشراً العراق وضم إليه روح بن زنباغ فلما دخل العراق أغرى بالشراب وثقل عليه ابن زنباغ فقال يوماً من يحتال لي فيه فقال ثمامة الباهلي أنا ثم صار إلى دهليز روح وكتب على حائطه يا روح من لزنابير محرّشة ... إذا يقال لأهل المغرب الباغي إنّ الخليفة قد شالت نعامته ... فاحتل لنفسك يا روح بن زنباغ فلما قرأه ما ظن إلا أن بعض الجن كتبهما فعدا إلى بشر فاستأذنه في الرجوع إلى الشام فامتنع بشر من الاذن له وجعل يسأله أن يقيم فأبى فأذن له فلما دخل على عبد الملك قال الحمد لله على سلامتك يا أمير المؤمنين قال وما ذاك فأخبره الخبر فقال له سخرك بشر وأهل العراق لما نقلت عليهم فاحتالوا للراحة منك وقدم قوم غريماً لهم إلى قاض وادعوا عليه بمال فصدقهم فأمره القاضي أن يدفع لكل ذي حق حقه فقال إن لي ريعاً وقد حان استغلاله فإن رأوا أن يؤجلوني أياماً حتى أستغله وأؤدي إليهم حقوقهم فلا بأس فسألهم القاضي ذلك فقالوا والله ما نعلم له سبداً ولا لبداً فقال له القاضي اذهب فقد فلسك غرماؤك وحكى أن رجلاً أراد الحج فأودع عند رجل مالاً فلما رجع طلبه منه فجحده إياه فأتى إياساً القاضي فأخبره فقال له لا تعلم أحداً أنك جئتني وعد إلي بعد يومين ثم دعا اياس ذلك الرجل المودع عنده وقال له إنه قد تحصل عندنا مال لأيتام وأريد دفعه إليك ليكون وديعة في حرزك فحصن بيتك

وانتخب أقواماً ثقات يحملونه معك فرجع الرجل وأصلح منزله ثم دعا اياس صاحب المال وقال له انطلق إلى صاحبك واطلب منه مالك وقل له إن أنت لم ترده علي شكوتك للقاضي فذهب الرجل إليه وطلب منه المال فرده عليه فأخبر الرجل اياساً بذلك فقال ربما كانت الحيلة وسيلة إلى درك المطلوب ولم يعاود اياساً ذلك الرجل المودع عنده فيما وعده به والحازم من أضاف إلى تاج رياسته ... عقوداً من جواهر سياسته فانهم قالوا من طلب الرياسة فليصبر على مضض السياسية ويقال إذا صحت السياسة ثبتت الرياسة وصف أنوشروان سياسته فقال لم أهزل في أمر ولا نهي ولم أخلف في وعيد ولا وعد وأعاقب للأدب لا للغضب وأثيب للغنى لا للهوى فأودعت قلوب الرعية هيبة لا يشينها منهم هلع ومحبة لا يشوبها فيهم طمع وعممت بالقول وحذفت الفضول وقال أردشير لأصحابه وقد سعى عنده بانسان إنما أملك الظواهر لا النيات وأحكم بالعدل لا بالرضا وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر ومن كلامه لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل وقالت الحكماء أسوس الملوك لرعيته من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة وقالوا قلوب الرعيه خزائن ملكها فما أودعها من شيء فليعلم أنه فيها وقال بزرجمهر العقل حديقة سياجها الشريعة والشريعة سلطان يجب لها الطاعة والطاعة سياسة يقوم بها الملك والملك راع يعضده الجيش والجيش أعوان يكفلهم المال والمال رزق تجمعه الرعية والرعية سواد يستعبدهم العدل والعدل أساس به قوام العالم وقالوا ينبغي للملك أن يتفقد أمر رعيته في كل شهر وأمر خاصته في كل يوم وأمر نفسه في كل ساعة وقال أبو منصور الثعالبي إذا كان الملك واضح ميسم العدل فارش مهاد الفضل باسط جناح البر منبت نور المحبة ممتد ظل الهيبة مالك عنان السياسة فقد أرخ الزمان بحسن آثاره وشق على الملوك شق غباره ومن كلام بعض البلغاء خير الملوك من كفى وكف وعفا وعف وقال الشاعر في بعض ولاة بني مروان إذا ما قضيتم ليلكم بمنامكم ... وأفنيتم أيامكم بمدام

فمن ذا الذي يغشاكم في ملمة ... ومن ذا الذي يلقاكم بسلام رضيتم من الدنيا بأيسر بلغة ... بلثم غلام أو بشرب مدام ألم تعلموا أن اللسان موكل ... بمدح كرام أو بذم لئام ويقال ينبغي للملك أن يعمل بخصال ثلاثة تأخير عقوبة المسئ وتعجيل ثواب المحسن والعمل بالأناة فيما حدث له فإن في تأخير العقوبة امكان العفو وفي تعجيل ثواب المحسن المسارعة بالطاعة وفي الأناة انفساح الرأي واتضاح الصواب وسأل المأمون رسول الروم لما قدم عليه عن سيرة ملكهم فقال بذل عرفه وسل سيفه فاجتمعت عليه القلوب رغبة ولجأت إليه رهبة سهل النوال حزن النكال فالرجاء والخوف معقودان في يده قال له فكيف حكمه قال يردع الظالم ويحنو على المظلوم فالرعية اثنان راض ومغتبط قال فكيف هيبته فيهم قال يتصور في القلوب فتخشع له الأبصار فقال له المأمون لله أبوك لقد أحسنت فيما وصفت وما أحسن قول معاوية المسلم بن زياد لما ولاه خراسان إن أباك كفاك أخاه عظيماً وقد استكفيتك صغيراً فلا تتكلن على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك وإياك مني قبل أن أقول إياي منك فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه وقد أتعبك أبوك فلا ترين نفسك وقال أنوشروان الناس ثلاث طبقات نسوسهم ثلاث سياسات طبقة هم خاصة الأبرار نسوسهم بالعطف واللين والاحسان وطبقة هم خاصة الأشرار نسوسهم بالغلظة والعنف وطبقة هم العامة نسوسهم بالشدة واللين كيلا تخرجهم الشدة ولا يبطرهم اللين وقال عبد الله بن طاهر إذا كنتم للناس أهل سياسة ... فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا ... على الذل إن الذل أوفق للنذل وقال معاوية بن أبي سفيان إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ولو أن بيني وبين العامة شعرة لما انقطعت قيل له وكيف ذاك قال إن جذبوها أرخيتها وإن أرخوها مددتها وكان زياد إذا ولى رجلاً عملاً قال خذ عهدك وسر إلى بلدك واعلم بأنك مصروف رأس سنتك وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك إن وجدناك أميناً ضعيفاً

العاقل من شغله عيبه عن عيب من سواه

استبدلنا بك لضعفك وسلمتك من معرتنا أمانتك وإن وجدناك قوياً خائناً استعنا بقوتك وأحسنا على خيانتك أدبك وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين وإن وجدناك قوياً أميناً زدنا في عملك ورفعنا ذكرك وأوطأنا عقبك وقالوا إذا كان للمحسن من الحق ما لا يقنعه وللمسئ من أليم العذاب ما بقمعه يذل المحسن النصح رغبة وانقاد المسئ إلى الحق رهبة ولا ينبغي لأحد من الملوك أن يعدل عن قول أردشير بن بابك المستفاد منه والمستفاض عنه وهو قوله لبعض موابذته اعلم أن الملك والدين أخوان توأمان لأقوام لأحدهما إلا بالآخر لان لدين هو أمن الملك وعماده والملك هو قائم سيف الدين ونجاده ولا بد للملك من أس ولا بد للدين من حارس فإن من لا حارس له ضائع ومن لا أس له مهدوم واعلم أنه يجب على الملك وعلى الرعية أن لا يكون للفراغ عندهم موضع فإن التضييع في فراغ الملك وفساد الملك من فراغ الرعية وقال شيآن إن صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية وقال المأمون أسوس الملوك من ساس نفسه لرعيته فأسقط عنه مواقع حجتها وقطع مواقع حجته عنها كان الرشيد في بعض غزواته فالح عليه الثلج ليلة فقال له بعض أصحابه يا أمير المؤمنين أما ترى ما نحن فيه من الجهد والنصب ووعثاء السفر والرعية قارة وادعة نائمة فقال اسكت فللرعية المنام وعلينا القيام ولا بد للراعي من حراسة الرعية وتحمل الأذية وإليه أشار بعض مداحه غضبت لغضبتك الصوارم والقنا ... لما نهضت لنصرة الاسلام ناموا إلى كنف بعد لك واسع ... وسهرت تحرس غفلة النوّام العاقل من شغله عيبه عن عيب من سواه ولم يطع في جواب السفيه أمير هواه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق الفضل من ماله ورحم أهل الذلة والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة وقال عليه

الصلاة والسلام لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يوشك أن يفضحه ولو في رحله وقال أكثم بن صيفي استر عيب أخيك لما تعلم من نفسك وقالوا أحمق الناس من أنكر من غيره ما هو مقيم عليه قيل للربيع بن خيثم مالك لا تعيب أحداً قال لست عن نفسي راضياً فاتفرغ لعيوب الناس ومذامهم وقالوا من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون ومن تتبع مساوئ العباد فقد نحلهم عرضه قال الشاعر لا تكشفن من مساوئ الناس ما ستروا ... فيكشف الله ستراً من مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحداً منهم بما فيكا وما أحسن قول القائل إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى ... ودينك موفور وعرضك صين فلا ينتطق منك اللسان بسوأة ... فللناس سوآت وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوياً ... لقوم فقل يا عين للناس أعين فعاشر بانصاف وكن متودّداً ... ولا تلق إلا بالتي هي أحسن وقالوا فلان يصم أذنه عن الفحشاء ويخرس لسانه عن التكلم بها وقال الشاعر يمدح غنيّ عن الفحشاء أمّا لسانه ... فعف وأمّا طرفه فكليل آخر كريم له عينان عين عن الخنا ... تنام وأخرى في المكارم تسهر

آخر وإذا تواخاك امرؤ بقبيحه ... فأجبه بالاحسان والاجمال حكى أن رجلاً عاب رجلاً عند المأمون فقال له المأمون قد استدللنا على كثرة عيوبك بما تذكر من عيوب الناس لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما هي فيه لا بقدر ما فيه منها وقال الشاعر أرى كل إنسان يرى عيب غيره ... ويعمى عن العيب الذي هو فيه وما خير من تخفى عليه عيوبه ... ويبدله بالعيب عيب أخيه وقالت رابعة العدوية الانسان إذا نصح لله في نفسه أطلعه الجبار على مساوئ عمله فيتشاغل بها عن خلقه والعاقل من جعل اغضاءه عن المساوئ ... حصناً إليه من ذم اللئام يأوي يقال ربما سخط العاقل فيبدي الرضا ويغضي مثل جمر الغضا وقيل لبزرجمهر من أعقل الناس قال من لم يجعل سمعه غرضاً لسماع الفحشاء وكان الغالب عليه التغافل وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من امتطى زمام التغافل ملك زمام المروأة وقالوا أشرف الكرم تغافلك عما تعلم ويقال التغافل من الكرام يمنحهم الاجلال والاكرام أنشد الباخرزي في الدمية لأبي الفضل عبد الله بن محمد الحيري رحمه الله تعالى يا من يعرّض بالخنا متوهماً ... جهلي به مهلاً فإنك جاهل كم مرّة أغضيت منك على قذى ... لولا النهى لرأيت ما أنا فاعل

آخر ويشتمني النذل اللئيم فلا أرى ... كفؤاً لعرضي عرضه فأجامله أجرّ له ذيلي كأني غافل ... أضاحكه طوراً وطوراً أخاتله وقيل لبعضهم من العاقل قال الفطن المتغافل قال الشاعر أعرض عن العوراء إن أسمعتها ... وأسكت كأنك غافل لم تسمع ولبعضهم معرباً بكرمه ومعرّفاً بشيمه وإني لأغضى عن أمور كثيره ... ومن دونها قطع الحبيب المواصل وأعرض حتى يحسب الناس أنني ... جهلت الذي آتى ولست بجاهل آخر وأغضى عن العوراء حتى يقال لي ... بأذنيه وقر عندها حين ينطق حياء وإكراماً لعرض أصونه ... ولا خير في عرض يظلّ يمزق آخر دعى ملاحاة من هجاني ... يا نفس إن تغفلي تصاني إذا حكيت البذا عليه ... فما هجاني سوى لساني وأمّا ما قبل في التغاضي والاحتمال ... والكف عن جواب قبيح المقال قالوا أعقل الناس من لم يتجاوز الصمت في عقوبة السفيه وقال بعض الحكماء السكوت عن السفيه جواب والاعراض عنه عقاب قال الشاعر

إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من اجابته السكوت فإن جاوبته فرجت عنه ... وإن خليته كمداً يموت وقال بعضهم لا ترجعنّ إلى السفيه حكاية ... إلا جواب تحية حياكها فمتى تحركه تحرك جيفة ... تزداد نتناً ما أردت حراكها وآخر أرى الكف عن شتم السفيه تكرّماً ... أضرّ به من شتمه حين يشتم وقالوا إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعته جواباً وأوجعته عذاباً ويقال ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة حليم من أحمق وبر من فاجر وشريف من دنئ شاعر إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليماً أو أصابك جاهل فأصبحت أمّا نال عرضك جاهل ... سفيه وأمّا نلت ما لا تحاول وقال بعض الأعراب يمدح قومه تخالهمو صماً وعمياً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التهاجر ومرضى إذا لوقوا حياء وعفة ... وعند الحفاظ كالليوث الجواذر

لهم دل انصاف ولين تواضع ... وعفو عن المولى وحسن تصابر تخال بهم داء يخافون عاره ... وما وصمهم إلا اتقاء المعاذر والعاقل من قنع من الدنيا باليسير ... وحصل فيها من التقوى زاداً للمسير وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا فقال من صح فيها سقم ومن سقم فيها برم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن حلآلها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب من طلبها فاتته ومن قعد عنها أتته ومن بصر بها بصرته ومن نظر إليها أعمته ووصف ابن السماك الدنيا فقال من نال منها مات فيها ومن لم ينل منها مات عليها ووصف محمد بن تومر الدنيا فقال لحظة بين عدمين فيها شركاء متشاكسون وقال حكيم الدنيا تطلب لثلاثة أشياء للغنى وللعز وللراحة فمن قنع استعنى ومن زهد فيها عز ومن قل سعيه استراح وقال عيسى عليه السلام أنا الذي كبيت الدنيا على وجهها وجلست على ظهرها فليس لي زوج تموت ولا دار تخرب وقال ابن السماك من جرعته الدنيا حلاوتها بميله إليها جرعته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها وقال علي رضي الله عنه الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب أبصرت من أحدهما بعدت عن الآخر ويروى عنه أنه قال الدنيا والآخرة ضرتان متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى ثم قال لا بل أختان ولا يمكن الجمع بين الاختين وقال عليه الصلاة والسلام لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق جروفي يد مجذوم ويقال عين الدهر تطرف بالمساوئ والخلائق نيام بين أجفانها وقال بعض المستقيلين منها وأحسن أف لدنيا ليست تواتيني ... إلا بنقضي لها عرى ديني عيني لجنبي تدير مقلتها ... تريد ما ساءها لترديني مر محمد بن واسع على قوم فسأل عنهم فقيل له هؤلاء الزهاد قال وما قدر الدنيا حتى يزهد فيها وقال علي رضي الله عنه الدنيا جيفة فمن أرادها

فليصبر على مخالطة الكلاب وقال منصور بن عمار الدنيا أولها بكاء وأوسطها عناء وآخرها فناء وقال لقمان لابنه يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً وقال الفضيل بن عياض لو عرضت علي الدنيا بحذافيرها حلالاً أحاسب عليها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقال جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا وقال يوسف بن أسباط إن الدنيا لم تخلق لينظر إليها إنما خلقت لينظر بها إلى الآخرة وقال إبراهيم بن أدهم مساكين الأغنياء طلبوا الراحة فعدموها ووجدها الزهاد فلزموها ومن المنظوم في ذلك تباً لطالب دنيا لا بقاء لها ... كأنما هي في تصريفها حلم صفاؤها كدر سرّاؤها ضرر ... أمانها غدر أنوارها ظلم شبابها هرم راحاتها سقم ... لذاتها ندم وجدانها عدم لا يستفيق من الانكاد صاحبها ... لو كان ما منحت ما ضمنت ارم فخلّ عنها ولا تركن لزهرتها ... فإنها نعم في طيها نقم واعمل لدار نعيم لا نفاد له ... ولا يخاف به موت ولا هرم وقال بعض الزهاد وأحسن ومن يحمد الدنيا لشيء يسرّه ... فسوف لعمري عن قليل يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيراً همومها آخر يا خاطب الدنيا إلى نفسه ... لنته عن خطبتها تسلم إنّ التي تخطب غرّارة ... قريبة العرس من المأتم

وقال أحمد بن عبد ربه صاحب العقد ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضرّ منها جانب جف جانب هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها وما اللذات إلا مصائب فكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرّت عيون دمعها الآن ساكب فلا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فانك ذاهب وذكرت الدنيا عند الحسن البصري فقال ألا إنما الدنيا كأحلام نائم ... وما خير عيش لا يكون بدائم تأمّل إذا حاولت بالأمس لذة ... فأفنيتها هل أنت إلا كحالم آخر إنما الدنيا كظل زائل ... طلعت شمس عليه فاضمحل كان في دار سواها داره ... عللته بالمنى ثم ارتحل آخر لعمرك ما الدنيا بدار إقامة ... ولكنها دار انتقال لمن عقل إذا رفعت حطت وإن هي أحسنت ... أساءت وإن أعطت فأيامها دول آخر مزمومة بالهمّ مخطومة ... سمّ زعاق سمّ أخلافها ولم تزل تقتل ألافها ... أفّ لقتالة ألافها

ويقال ليس الزاهد في الدنيا من زهد فيها وقد أعرضت عنه وانبثت منه ولم تمكنه من متاعها وضاقت عليه مع اتساعها وهو مضطر إلى ذلك لظهور عسرته ونفود يسرته وإنما الزاد في الدنيا من أقبلت عليه وحشدت فوائدها إليه وحسنت له في ذاتها وأمكنته من لذتها فأعرض عنها وزهد فيها شاعر إذا المرء لم يزهد وقد جمعت له ... ضروب من الدنيا فليس بزاهد ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما الزاهد في الدنيا من يكون بما في يد الله أغنى منك بما في يدك وما أكثر انصاف من قال نراع بذكر الموت في حال ذكره ... ونعترض الدنيا فنلهو ونلعب ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها ... وما كان منها فهو شيء محبب وقال بعض البلغاء صاحب الدنيا ساكن راحل وأيامه مراحل وأنفاسه رواحل صاحب الدنيا بين فرحة وترحة وحبرة وعبرة صاحب الدنيا بين العسل والصاب والصحة والأوصاب حكى أن سليما بن عبد الملك قال لعمر بن عبد العزيز وقد أعجبه سلطانه كيف ترى ما نحن فيه فقال عمر سرور لولا أنه غرور وحرم لولا أنه عدم وملك لولا أنه هلك وحياة لولا أنه موت ونعيم لولا أنه عذاب أليم فظهر في وجه سليمان الكآبة من كلام عمر ولم ينتفع بنفسه بعد ذلك وتوفي سنة ثمان وتسعين وهو ابن خمس وأربعين سنة وكانت ولايته سنة ست وتسعين

الفصل الثالث من الباب الثالث

الفصل الثالث من الباب الثالث في هفوات العقال في أنّ هفوات العقال ... لا يغضى عنها ولا تقال كما قيل لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة ... للسهو فيها للوضيع معاذر ذو العلم يعسر أن تقال عثاره ... وتقال عثرته الجهول العاثر ولسليمان بن عبد الملك فيما قصدناه كلام هو النور اللائح والهادي إلى الطريق الواضح وهو قوله السكوت عما يعنيك خير من الكلام فيما يضرك والسكوت عما لا يضرك خير من الكلام فيما لا يعنيك وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه زلة الرجل تجبر وزلة اللسان لا تبقى ولا تذر قال بعضهم يموت الفتى من عثرة من لسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل وقالوا طعن اللسان أنفذ من طعن السنان وجرح الكلام أصعب من وقع السهام وقالوا رب لسان أتى على انسان ذكر من أرسل سهماً من فيه ... فأصاب مقتله ولم يكد يخطيه حكى أن رجلاً من الفرس وقف إلى شيرويه لما قتل ابرويز فقال الحمد لله الذي قتل ابرويز على يدك وملكك ما كنت أحق به منه وأراحنا من عتوه وكبره وتجبره وبخله وجهله فإنه كان يأخذ بالأحنة ويقتل بالظنة ويخيف البري ويذل السري فلما سمع شيرويه كلامه قال للحاجب احمله إلي فلما مثله بين يديه قال كم كان رزقك قال ألفين قال والآن قال ما زيد شيأً قال فما دعاك إلى الوقوع فيه وإنما ابتداء نعمتك من عنده ولم ترع له ذلك وأمر بنزع لسانه من قفاه ولما ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن بن حسين بالمدينة في أيام أبي جعفر المنصور دخل عليه سديف بن ميمون فأنشده أبياتاً يحرضه فيها على

اظهار الدعوة ويطعن في دولة بني العباس يقول فيها إنا لنأمل أن ترتدّ الفتنا ... بعد التبعد والشحناء والأحن وتنقضي دولة أحكام قادتها ... فينا كأحكام قوم عابدي وثن فانهض ببيعتكم ننهض ببيعتنا ... إن الخلافة فيكم يا بني حسن فبلغت المنصور الأبيات فكتب فيه إلى عبد الصمد بن علي وكان عامله على مكة فأخذه وقطع يديه ورجليه وجدع أنفه فلم يمت فدفنه حياً وكان دعبل الخزاعي هجاء للملوك جسوراً على أعراضهم متحاملاً لا يبالي ما صنع حتى عرف بذلك واشتهر فصنع على لسانه بكر بن حماد الباهري ممن كان دعبل يؤذيه ويهاجيه أبياتاً يهجو فيها المعتصم وذكر قوم أنها له وهي ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم يأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... كرام إذا عدوا وثامنهم كلب وما أنت عندي في الوفاء ككلبهم ... لأنك ذو ذنب وما أذنب الكلب فبلغت المعتصم الأبيات فأمر بطلبه فهرب إلى زويلة بلد السودان بناحية المغرب فمات بها وقيل بالأهواز وقيل لدعبل أنت القائل هذه الأبيات قال لا والله ولكن من حشا الله قبره ناراً يعثى إبراهيم بن المهدي اشاط بدمي لما هجوته بقولي فيه وهو خليفة يا معشر الأعراب لا تقنطوا ... خذوا عطاياكم ولا تسخطوا فسوف نعطيكم شريجية ... لا تدخل الكيس ولا تربط والمعبديات لقوّاد كم ... وما بهذا أحد يغبط وهكذا يرزق أصحابه ... خليفة مصحفه البربط وكان المعتصم يلقب بالثماني لأنه اتفق له عدد الثمانية في كثير من أموره ولد في شهر شعبان وهو الثامن من شهور السنة وهي سنة ثمان وسبعين ومائة وهو ثامن بني العباس مولداً وثامنهم ولاية وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية

أشهر وعمر ثماناً وأربعين وغزواته وفتوحاته ثمان وقتل ثمانية أعداء وخلف ثمان بنين وثمان بنات وترك ثمانمائة ألف دينار ومثلها دراهم إلى غير ذلك من عدد الثمانية رجع ما انقطع ذكر أبو القاسم الأيادي أن جماعة من بني أمية دخلوا على أبي العباس السفاح وفيهم الغمر بن هشام بن عبد الملك فألح إليه أبو العباس بالنظر فلما رأى الغمر ذلك منه أنشده عبد شمس أبوك وهو أبونا ... لا نناديك من مكان سحيق والقرابات بيننا واشجات ... محكمات العرى بعقد وثيق فأعجبه ذلك منه وأجلسه معه على السرير وأقعد أصحابه يميناً وشمالاً وقال لهم إني أريد أن أخلطكم بنفسي واستخلصكم لها فشكروه على ذلك فبينما هم يتحدثون إذ دخل عليهم سديف فأنشد السفاح القصيدة التي أولها عمر الدين فاستبان ملياً حتى أتى على آخرها فقال السفاح يا ابن هشام كيف ترى شاعرنا فقال قولاً معجلاً لحينه وأرباب بني أمية إن شاعرنا لا شعر من شاعركم وأكثر بياناً وأفصح لساناً فقال السفاح وما قال شاعركم فقال لو تحمل البخت والأفيال مثقلة ... أحلامهم تركت عقري الأباهير لا يعبثون إذا سجت جحافلهم ... زين المجالس فرسان المنابير فاحمرت عينا السفاح وهاجت به حمة كانت فيه قد سكنت ثم ضرب على فخذ الغمر وقال طمعت أمية أن تجاوزها شما ... عنها ويذهب زيدها وحسينها كلا وربّ محمد ومليكه ... حتى يبيد كفورها وحرونها

ثم قال قوموا إلى مقصورتكم ثم دعا بثلاثة وسبعين رجلاً من أهل خراسان فأعطاهم الخشب وقال اشدخوهم فشدخوهم عن آخرهم قال سديف والله ما خرجت من الأنبار حتى رأيتهم معلقين بعراقيبهم قد نهشت الكلاب رؤسهم ولما بنى زياد بيضاء البصرة وهي أول بناء بني بالجص والآجر بالبصرة أمر أصحابه أن يسمعوا من أفواه الناس ما يقولون فيها ويبلغوه ويأتوه بالقائل فأتى بانسان قيل إنه لما رآها تلا قوله تعالى أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون فقال زياد ما حملك على هذا قال لم يكن أيها الأمير هذا عن قصد وإنما خطرت على قلبي فتلاها لساني فقال والله لاعملن فيك بباقي الآية وإذا بطشتم بطشتم جبارين وأمر به فبنى عليه ركن من أركانها وكان أحمد بن يوسف الكاتب كثير السقطات وكان يجالس المأمون وكان المأمون إذا تبخر لا يستقصي البخور وتخرج المجمرة بما يبقى فيها فتوضع تحت الرجل والرجل من الجلساء اكراماً لهم واعتناء بهم فجاءت النوبة يوماً لأحمد بن يوسف فقال هاتوا المردود فسمعه المأمون فقال ألنا يقال هذا ونحن نجيز رجلاً واحداً من خدمنا بعشرة آلاف درهم وأكثر ويحك إنما قصدنا اكرامك أن أكون أنلو أنت اقتسمنا بخوراً واحداً ولا يأبى الكرامة إلا لئيم ثم أمر المأمون أن يطرح في المجمرة ثلاث مثاقيل من العنبر ويبخر بها أحمد ويدخل رأسه في طوقه حتى ينفذ ريحها ففعل به ذلك وهو يستغيث فلا يغاث حتى احترق دماغه وقام من المجلس إلى منزله فمات من ليلته وممن أسقط من العقلاء في كلامه ... فكان سبباً مؤكداً للومه وإيلامه ذو الرمة فإنه وصف لعبد الملك بن مروان ذكاؤه وجودة شعره فأحب أن يراه فأمر باحضاره فلما دخل عليه استنشده فأنشده قصيدته المذهبة وافتتحها بقوله ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلا مقريه ينسرب

واتفق إن كانت عينا عبد الملك يسيلان دائماً فظن أنه عرض به فغضب فقال له مالك يا ابن اللخناء ولهذا السؤال ثم قطع انشاده وأمر باخراجه فأقام حتى أذن للشعراء مرة ثانية فدخل معهم وقد غير ما قال أولاً وأنشده ما بال عيني منها الماء ينسكب ... حتى انتهى إلى قوله كحلاء في برج صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب فأجازه وأكرمه وقال له لو أنها قيلت في الجاهلية لسجدت لها العرب ودخل أبو النجم الشاعر على هشام بن عبد الملك مع الشعراء فأنشده أرجوزته التي أولها الحمد لله الوهوب المجزل حتى انتهى إلى قوله يصف الشمس وهي على الأفق كعين الأحول ولم يقل الأحول وقطع انشاده وارتج عليه وعلم أنها زلة عاقل فخشى أن تكون غفلة جاهل لان هشاماً كان أحول فقال له هشام ويلك أتمم البيت وأمر بوجء عنقه واخراجه من الرصافة ولما مات عبد الملك بن مروان وذلك في النصف من شوال سنة ست وثمانين وكان عمره يومئذ ستين سنة وأياماً وقيل اثنين وستين وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة وأياماً سجاه ابنه الوليد فأنشده هشام أخوه فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما فلطمه الوليد على فمه وقال اسكت يا ابن الأشجعية فانك أحول أكشف تنطق بلسان شيطان

ودخل جرير بن عطية الخطفي على عبد الملك بن مروان بعد ما منعه من الدخول عليه كراهة فيه وفي شعره فأنشد أتصحو أم فؤادك غير صاحي ... عشية همّ قومك بالرواح فقال له بل فؤادك يا ابن اللخناء فحصر جرير وخرج خائباً وفي هذه القصيدة يقول مادحاً بما لم يأت أحد بمثله ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح خاصم رجلاً خالد بن أبي صفوان وكان قد كف بصره فترافعا إلى بلال ابن أبي بردة وكان أمير الكوفة وقاضيها فقضى على خالد ثم مر به مركب بلال فسأل من هذا قالوا بلال فقام خالد وهو يقول سحابة صيف عن قليل تقشع فسمعه بلال فقال له والله لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب برد ثم أمر به فضرب مائتي سوط وأمر بحبسه فقال له خالد علام تفعل بي هذا ولم أجن جنابة فقال بلال يخبرك بذلك باب مصمت واقياد ثقال وقيم يقال له حفص ثم ضرب الدهر ضرباته فنكب بلال بعد ذلك واحضره يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام في قيوده وكان خالد جالساً عنده فقال له أيها الأمير إن بلالاً عد والله ضربني وحبسني ولم أفارق جماعة ولا خلعت يداً من طاعة ثم التفت إلى بلال وقال الحمد لله الذي أذل سلطانك وهد أركانك وأزال جمالك وغير حالك فوالله لقد كنت شديد الحجاب مستخفاً بالشريف مظهراً للمعصية فقال بلال يا خالد إنما استطلت علي بثلاث الأمير عليك مقبل وعني معرض وأنت طليق وأنا عان وأنت في وطنك وأنا غريب فأفحمه

ومن الهفوات الجارية مجرى التطير ... المؤذن لفظها بالزوال والتغير قال علوية كنت مع المأمون لما خرج إلى الشأم فدخلنا دمشق وجعلنا نطوف فيها على قصور بني أمية فدخلنا قصراً من قصورها فوجدناه مفروشاً بالرخام الأخضر كله وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها فيسقى روضة قد جمعت فيها أنواع الأشجار وفي القصر من أجناس الأطيار وما يغني صوتها عن العود والمزمار فاستحسن المأمون ما رأى وعزم على الصبوح ندعى بالطعام والشراب فأكلنا وشربنا ثم قال غنني بأطيب صوت وألذه فلم يمر بخاطري غير هذا الصوت لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا فنظر إلي مغضباً وقال عليك وعلى بني أمية لعنة الله فعلمت أني قد أخطأت فأخذت اعتذر من هفوتي وقلت يا أمير المؤمنين أتلومني أن أذكر بني أمية وزرياب عبدهم كان يركب في مائتي غلام ومملوك له وملك ثلثمائة ألف دينار إلى غير ذلك من الضياع والأثاث وأنا عبدكم أموت جوعاً فقال ما وجدت شيأً تذكرني به نفسك غير هذا ثم سكت ساعة وقال اعدل عن هذا وغنني بما اقترحت عليك فلم يحضرني غير هذا الصوت الحين ساق إلى دمشق ولم ... أرضى دمشق لأهلها وطنا فرماني بالقدح فأخطأني وقال قم إلى لعنة الله وحر سقره ثم قام وركب فكان آخر عهدي به حتى مات ومات المأمون لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وكانت خلافته منذ قتل الأمين محمد عشرين سنة وأشهراً وله من العمر ثمان وأربعون سنة ومات المعتصم أيضاً في هذا العمر وكانت ولايته ثمان سنين وثمانية أشهر وكذلك عمر عبد الله بن طاهر وتوفي في ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين وكانت مدة امارته بخراسان تسع عشرة سنة ولما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان جلس فيه مع جمع من أعيان جلسائه وندمائه

سروراً به فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم فقام إسحق بن إبراهيم الموصلي وأنشده قصيدة يهنئه فيها أولها يا دار غيرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك فتطير المعتصم وتغامز الناس وعجبوا من بادرته وهفوته مع علمه وفهمه وطول خدمته للملوك وقام المعتصم من ذلك المجلس متطيراً فذكر أنه لم يعد إليه بعد ومن قبيح ما وقع لأبي نواس الذي أساء فيه أدبه وخالف به مذهبه ما حكى أن جعفر بن يحيى البرمكي بنى داراً وتأنق فيها وانتقل إليها فدخل عليه أبو نواس مع من دخل إليه من الشعراء لهنائها فأنشده أدار البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي فمعذرة مني إليك بأن ترى ... رهينة أرواح وصوت غوادي ولا أدرأ الضراء عنك بحيله ... فما أنا منها قائل بسعادي فإن كنت مهجور القناة فما رمت ... يد الهجر عن قوس المنون فؤادي فإن كنت قد بدلت بؤساً بنعمة ... فقد بدلت عيني قدي برقاد وختمها بقوله سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد فتطير جعفر لها وأظهر الوجوم ثم قال نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس فلم تكن إلا مدة يسيرة حتى أوقع بهم الرشيد وزعم بعض أهل التاريخ إن أبا نواس قصد التشاؤم لهم لشيء كان في صدره من الممدوح وسبب ذلك أن أبا نواس دخل عليه يوماً فلم يهش له ولم يدن مجلسه وكلح في وجهه ثم دخل مسلم بن الوليد فهش له وأدنى مجلسه وأقبل عليه فحمل أبا نواس وأغراه الحسد فعمل

هذه القصيدة على طريق التطير وقال المبرد في الروضة إن أبا نواس عملها في الفضل بن يحيى وحكى الصابي في كتاب الهفوات أن شرف الملك أبا سعيد الوزير جلس يوم عيد والناس يدخلون عليه يهنؤنه ويمدحونه فأنشده أحد الشعراء من قصيدة يعاتبه وأنت حصني الذي ألوذ به ... فماله قد تهدّمت شرفه فتطير من ذلك لمناسبة شرفه بشرف الملك في لقبه ثم أنشد آخر قصيدة أولها عقد الصيام بيوم الفطر محلول ... فقدّم الكاس فالقنديل معزول فازداد تطيره وعجب الحاضرون من سوء ما اتفق فلما كان السابع من شوال قبض عليه من استدرك هفوة لسانه من العقلاء ... ورد بالاعتذار عنه ما نزل به من البلاء يحكى أن المنصور قال حججت سنة إحدى وأربعين ومائة وأبا خليفة ماشياً لنذر لزمني فانفردت عن الناس فإذا أنا بأعمى كنت أعرفه يتردد إلى مروان بن محمد فسلمت عليه وأخذت بيده فقال من أنت قلت رفيقك إلى الشأم وأنت تريد مروان بن محمد فرد علي السلام وأنشد آمت نساء بني أمية منهم ... وبناتهم بمضيعة أيتام نامت جدودهم وأسقط نجمهم ... والنجم يسقط والجدود نيام خلت المنابر والاسرّة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام فقلت له والغضب مستول علي والرفق به مشير إلي كم كان مروان أعطاك قال أغناني حتى لا أسأل أحداً بعده أبداً ملكني الغلمان والجواري

والمال والعقار قلت وأين ذاك قال بالبصرة قال المنصور فلولا أن حق الصحبة منعني عنه كنت هممت به وشفيت نفسي منه فقلت له أتعرفني قال ما أثبتك معرفة ولا أنكرك من سوء قلت أنا المنصور فأسقط في يده ووقعت عليه الرعدة ثم قال يا أمير المؤمنين أقلني جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فأقلته وانصرفت ثم طلبته بعد ذلك ليسامرني فلم أجده فكان البيداء أبادته قال أبو الفرج الأصفهاني وهذا الأعمى هو أبو العباس بن السائب بن فروخ من بني الليث وقيل من بني الديل بن بكر له في بني أمية مدائح أجزلوا له بها المنائح فمنها قوله وكل خليفة ووليّ عهد ... لكم يا آل مروان الفداء امارتكم شفاء حيث كنتم ... وبعض امارة الأمراء داء وكنتم تحسنون إذا ملكتم ... وغيركم إذا ملكوا أساؤا هم أرض لأرجلكم وأنتم ... لأيديهم وأعينهم سماء ولي عمر رضي الله عنه رجلاً من قريش عملاً فبلغه عنه أنه قال اسقني شربة ألذ لديها ... واسق بالله مثلها ابن هشام فعزله فلما قدم عليه قال له أنت القائل وأنشده البيت قال نعم والقائل بعده عسلاً بارداً بماء سحاب ... إنني لا أحب شرب المدام فقال له عمر قاتلك الله كذا قلت ورده إلى عمله وأتى عبد الملك بمصلفة بن هبيرة الشيباني وكان ممن أخذ مع الخوارج فأمر بقتله وقال ألست القائل ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب

فقال يا أمير المؤمنين إنما قلت أمير وفتح الراء فاستحسن ذلك منه وأطلقه فانظر إلى حذق هذا الرجل سكن جأشاً بحركة أمد عمره من أجلها بالبركة وذلك بفتح الراء من كلمة وجعل الهمزة حرف النداء والمنادى المضاف منصوب أبداً وقبل هذا البيت ألا أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... وذو النصح ما ترعاه منك قريب فإنك ألا ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فمنا سويد البيت وقال الحجاج لعبد الرحمن بن أبي بكرة ما مالك قال لقد ختمت على ألف ألف درهم ثم إن عبد الرحمن بن أبي بكرة شعر بزلة لسانه وخاف عائلة الحجاج فتداركها مسرعاً وقال ولقد أصبحت وما أملك إلا خاتمي وأتى المأمون برجل ادعى النبوة فقال له ما اسمك قال أنا أحمد النبي فقال له لقد ادعيت زوراً ثم أمر به ليضرب فلما رأى الرجل الأعوان قد أحاطت به قال يا أمير المؤمنين أنا أحمد النبي فهل تذمه أنت فتدارك المأمون ما بقي من رمق المنة بالمنة وأورى له زند المحبة بالمحنة وهذا الفن كثير لا يحصى ولا يعز وجوده عند الاستقصا.

الباب الرابع

الباب الرابع في الحمق وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في ذم الجهالة في ذمّ الجهالة والجنون ... وما اشتملا عليه من الفنون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزوجوا الحمقاء فإن صحبتها بلاء وفي ولدها ضياع وفي حديث آخر لا تسترضعوا الحمقاء فإن لبنها يغير الطباع وقال عمر رضي الله عنه لم يقم جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلا خرج الولد مائقاً حد الحمق قالوا هو قلة الاصابة ووضع الشيء في غير الموضع الذي وضع له وقيل هو فقدان ما يحمد من العاقل وقيل لعمرو بن هبيرة ما حد الحمق قال لا حد له كالعقل وقال أبو يوسف الناس ثلاثة مجنون ونصف مجنون وعاقل فأما المجنون فأنت منه في راحة لتركك الاختلاط به وأما نصف المجنون فأنت معه في تعب لضرورتك إليه وأما العاقل فقد كفيت مؤنته فمن قولهم في ذم الحمق واظهار خافيه ... وأنه داء عضال لا يمكن تلافيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأحمق أبغض الخلق إلى الله تعالى إذ حرمه أعز الأشياء عليه وهو العقل وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أتدري لم رزقت الأحمق قال لا يا رب قال ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاجتهاد وقيل من لا عقل له لا دين له ومن لا دين له لا آخرة

له وقال الشعبي إذا أراد الله أن يزيل عن عبد نعمته فإن أول ما يغير منه عقله وقالوا الحمق داء دواؤه الموت وقال الشاعر لكل داء دواء يستطبّ به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها وقال بعض الحكماء لو جاز لوم الأحمق على أن يعقل جاز لوم الأعمى على أن يبصر وروى أن عيسى عليه السلام أتى بأحمق ليداويه فقال أعياني دواء الأحمق ولم يعيني مداواة الأكمه والأبرص وقال الشاعر وعلاج الأبدان أيسر خطباً ... حين تعتل من علاج العقول وقال معلم موسى الهادي له في معرض التقريع له يا أحمق فهشم أنفه فسأله أبوه المهدي عن السبب فقال قال لي يا أحمق ولو قال لي يا مجنون لاحتملته وقال الشعبي خطب الحجاج يوم جمعة فأطال فقام إليه رجل أعرابي وقال إن الوقت لا ينتظرك وإن الرب لا يعذرك فأمر به فحبس فأتاه أهله وقالوا إنه مجنون فقال الحجاج إن أقر بالجنون خليت سبيله فجاء إلى الرجل أهله وسألوه أن يقر لهم بالجنون فقال لا والله ولا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني فبلغ الحجاج كلامه فعظم في نفسه وأطلقه وقال الأصمعي قلت لغلام من أبناء العرب أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم وأنت أحمق قال لا والله قلت ولم قال أخاف أن يجني علي حمقي جناية تذهب مالي ويبقى حمقي وقال سعيد بن عمار مكتوب في التوراة إن من صنع لأحمق معروفاً فهو خطيئة مكتوبة عليه وقيل إذا قيل لك إن فقيراً استغنى أو غنياً افتقر أو حياً مات أو ميتاً عاش فصدق وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلاً فلا تصدق وقالوا الأحمق تتمنى أمه لو ثكلته وتتمنى زوجته أنها عدمته ويتمنى جاره منه الوحدة ويريد جليسه منه الوحشة ومما اخترناه من حكم أولي التجارب ... في ذم التعرف بمن هو للنهي محارب قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه مجامعة العاقل في الغل والوثاق خير من مجامعة الجاهل على السندس والاستبرق وقال الأحنف بن قيس إني

لأجالس الأحمق ساعة فأتبين ذلك في عقلي وقال لقمان لابنه لا تعاشر الأحمق وإن كان ذا جمال فإنه كالسيف حسن مخبره قبيح أثره وقال الجاحظ لا تجالس الحمقى فإنه يعلق بك من مجالستهم يوماً من الفساد ما لا يعلق بك من مجالسة العقلاء دهراً من الصلاح فإن الفساد أشد التحاماً بالطبائع وقال بزرجمهر مقاساة الأحمق عذاب الروح وقال مسلم بن قتيبة لا تطلب حاجتك إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك فسكوته خير من نطقه وبعده خير من قربه وموته خير من حياته وقالوا العاقل مرجو خيره على كل حال والأحمق مخوف شره على كل حال وقالوا صحبة العاقل في لجج البحار وأهوال القفار ألذ من صحبة الجاهل بين جنات وأنهار وألوان أطعمة وثمار وقالوا صحبة الأحمق غدر ومجاورته خطر والبعد عنه ظفر وقال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هجران الأحمق قربة إلى الله تعالى وقال ابن المعتز إن الأحمق ضال مضل إن أونس تكبر وإن أوحش تكدر وإن استنطق تجلف وإن ترك تكلف مجالسته تضر وموالاته تغر ومقارنته شقاء ومفارقته شفاء وقال علي بن بسام لا تيأسنّ من اللبيب وإن جفا ... واقطع حبالك من حبال الأحمق فعداوة من عاقل متجمل ... أولى وأسلم من صداقة أخرق وقالت الحكماء العاقل يضل عقله عند مجاورة الأحمق وقالوا مثل الأحمق كالثوب الخلق إن رفأته من موضع تخرق من موضع آخر وقال مسكين الدارمي اتق الأحمق لا تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق كلما رقعت منه جانباً ... حركته الريح وهنا فانخرق أو كصدع في زجاج فاسد ... هل ترى صدع زجاج يرتتق وإذا عاتبته كي يرعوي ... زاد جهلاً وتمادى في الحمق وقالوا الأحمق كالرمل المنهار كلما قومت منه جانباً إنهار عليك جانب آخر

ما يستدلّ به من ذميم الخلائق ... على خافي حمق الأهوج والمائق قالوا مما حكمت به التجربة أن من طالت قامته وصغرت هامته وانسدلت لحيته كان حقيقاً على من يراه أن يقرئه عن عقله السلام ابن الرومي يهجو اللحي إن تطل لحية عليك وتعرض ... فالمخالي مخلوقة للحمير علق الله في عذاريك مخلا ... ة ولكنها بغير شعير لو رأى مثلها النبيّ لا جرى ... في الحي الناس سنة التقصير وقال آخر صاحبنا الخياط ذو لحية ... كأنها في عرضها والكمال ملحفة للهو مضروبة ... ووجهه من فوقها كالخيال في التوراة إن اللحية مخرجها من الدماغ فمن أفرط عليه طولها قل دماغه ومن قل دماغه قل عقله ومن قل عقله فهو أحمق وقالت أعرابية لقاض قضى عليها صغر رأسك فبعد فهمك وانسدلت لحيتك فانشمر عقلك وما رأيت ميتاً يقضي بين حيين غيرك وقال المأمون إذا طالت اللحية تكوسج العقل وقال مسلمة بن عبد الملك يوماً لجلسائه يعرف حمق الرجل في أربع طول لحيته وبشاعة كنيته وإفراط شهوته ونقش خاتمه فدخل عليهم رجل طويل اللحية فقال لهم أما هذا فقد أتاكم بواحدة فانظروا أين هو من الثلاث فقيل له ما كنيتك قال أبو الياقوت قيل فما نقش خاتمك قال وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين قيل فأي الطعام أحب إليك قال الجلنجبين وهو الورد المربى فأنشد مسلمة ما بعد كنيته وطول لحيته ... ونقش خاتمه شك لمعتبر

وممن شهر بالعقل النافر ... وعرف بالحمق الوافر المعلمون قال الجاحظ قسم الله الحمق مائه جزء فجعل منه تسعة وتسعين جزأ في المعلمين والجزء الآخر في سائر الناس وقال الشاعر كفى المرء نقصاً أن يقال بأنه ... معلم صبيان وإن كان فاضلا آخر وإن أحمق خلق الله كلهم ... من كان بالفصل والتعليم مشتغلا الله صاغهم حمقى وكوّنهم ... نوكي وأوجدهم بين الورى سفلا ذاعت حماقتهم في الناس واشتهرت ... بين البرية حتى أصبحوا مثلا وحكى الجاحظ قال مررت بمعلم شاب حسن الهيئة فجعلت أصعد نظري ففهم عني وأنشدني ما طار تحت الخافقي ... ن أقلّ عقلاً من معلم ولقد جلسنا في الصنا ... عة من قريب رب سلم فكأنما ألقم فمي حجراً فانصرفت وتركته وكان الجاحظ كثيراً ما ينشد وكيف يرجى العقل والرأي عند من ... يروح على أنثى ويغدو على طفل ومن أمثالهم أحمق من معلم ومن راعي ضان قال المتنبي يموت راعي الضان في جهله ... ميتة جالينوس في طبه والنساء قالوا لا تدع أم صبيك تؤدبه فإنه أعقل منها وإن كانت أسن منه بل أدبه بزجرك وهذبه بهجرك ويقال عقل مائة صبي بعقل معلم وعقل مائة

معلم بعقل خصي وعقل مائة خصي بعقل امرأة ويكفي في ذمهن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ناقصات عقل ودين وقوله لما بلغه أن الفرس ملكوا عليهم بوران لن يفلح قوم ولوا عليهم امرأة والخصيان قال الجاحظ في الخصي عشر خصال متضادة لم يخرج من ظهر مؤمن ولا يخرج من ظهره مؤمن وهو أكثر الناس غيرة وأشدهم قادة وهو أضعف الناس معدة وأشرههم على الطعام وهو أسوأ الناس أدباً ويعلمهم الأدب وهو أغزر الناس دمعة وأقساهم قلباً ما خلا مع رجل إلا حدثته نفسه أنه امرأة ولا خلا مع امرأة إلا حدثته نفسه أنه رجل بعض الشعراء يذم الخصيان ليس حمد الخصيان في الناس إلا ... شدّة الصبر عند سدّ الفقاح معشر اشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خلقة الأرواح وقد بالغ المتنبي في هجو كافور الأخشيدي وتعداد معايبه وأوصافه فلا حاجة إلى ذكرها في هذا المختصر ولا بد من إيراد شيء منها فمن ذلك قوله من أيّة الطرق يأتي نحوك الكرم ... أين المحاجم يا كافور والجلم جار الأولى ملكت كفاك قدرهم ... فعرفوا بك أنّ الكلب فوقهم لا شيء أقبح من حرّ له ذكر ... تقوده أمة ليست لها رحم وقوله العبد ليس لحرّ صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الحرّ مولود

لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إنّ العيد لأنحاس مناكيد من علم الأسود المخصيّ مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد أم أذنه في يد النخاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود أولي اللئام كفا بغير مقدرة ... فلا جميل ولا عفو ولا جود وذاك أنّ الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود قبح الله الشعراء ما أقل حفاظهم وأكثر ما تتفاوت بالكذب في المدح والذم ألفاظهم يقول هذا بعد أن قال فيه وقد وصف خيلاً أركبها إليه فجاءت بنا انسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السواقيا لقد باع من الوفاء علقاً خطيراً واعتاض من الطمع شيأً يسيراً وحال بينه وبين العهد الوفاء وكان يضايق نفسه في اختيار المتاع ويسامحها في اختيار المبتاع ويخلع خلعة تساوي بدرة على عرض يساوي نقرة ويرف كريمة من كرائم شعره إلى من لم تقم عنه كريمة ولم يعرف له قيمة لو رأى الطمع في بحر النار لدخله ولو أتاه الدرهم من دبر كلب لأخذه وما غسله فلا جرم إن الناس كما استحسنوا قوله استقبحوا فعله وكما أعجبوا بشعره تعجبوا من غدره يشكر ثم يشكو ويمدح ثم يهجو ويشهد ثم يجرح شهادته ويعطي ثم يسترجع عطيته فكم حر سلبه لخاءه وكم عرض جرد عنه كساءه ومن صحفة أكل منها ثم شرق فيها ومن طوية زهدها ثم عكف عليها وصف بعضهم الخصيان مادحاً لهم فقال هم الأمناء على الحرم البعداء عن التهم ولهم التظرف والتلطف والوقار وقلة الضحك وهم طراز الملك وجمال الدول وعنوان النعم وكثيراً ما أدبوا أولاد الملوك وهذبوهم وعرفوهم طريق السياسات ودربوهم والحاكة يقال الحمق عشرة أجزاء تسعة منها في الحاكة وواحد في سائر الناس وقالوا لو أن للحائك قرناً لنطح به وسأل رجل الأعمش عن

الصلاة خلف الحائك فقال لا بأس بها على غير وضوء قيل فما تقول في شهادته قال تقبل مع شاهدين عدلين وقال الحسن البصري من نظر في طراز حائك لم يرجع إليه عقله أربعين يوماً والسبب في زوال عقولهم ما ذكر أن مريم عليها السلام ذهبت تطلب عيسى وكان قد ضل منها فلقيت حائكاً فسألته كيف أخذ فدلها على غير الطريق التي سلك فقالت اللهم توهه فلا يوجد إلا تائهاً وفي رواية أنها قالت اللهم اجعلهم سفلة الناس وأقلهم عقلاً قيل لرجل من الحاكة هل في بلدكم حائك قال لا قيل فمن ينسج ثيابكم قال كل منا ينسج ثوبه لنفسه قيل له فإذا كلكم حاكة قالوا فلان مجنون وأجن منه لا يكون فلان إذا رأيته نسيت مجنون بني عامر طرف مما ذمّ به أهل الجهالة ... المتمسكون بعرى الغواية والضلالة يحكى أن أبا الأسود الدؤلي قال إذا أردت أن تقهر عالماً فأحضره جاهلاً وقالوا لا معيبة أعظم من الجهل ولا صاحب أخذل منه وقالوا لا مصيبة أعظم من الجهل وقالوا الجهل في القلب كالأكلة في الجسد وقال بزرجمهر العالم كبير وإن كان صغيراً والجاهل صغير وإن كان كبيراً وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما الأدب عند الجاهل كالماء في أصول الحنظل كلما ازداد رياً ازداد مرارة وقال وهب بن منبه يقال إن الجاهل إذا تكلم فضحه عيبه وإذا سكت فضحه جهله لا علم نفسه يغنيه ولا علم غيره ينفعه إن قال لم يحسن وإن قيل له لم يفقه وذم أعرابي رجلاً فقال فلان إن أعرضت عنه اغتم وإن أقبلت عليه اعتز وإن حلمت عليه جهل عليك وإن جهلت عليه حلم عنك البشامى يهجو جاهلاً لنا جليس تارك للأدب ... جليسه من نوكه في تعب مخالف يغضب في حال الرضا ... عمداً ويرضى عند حال الغضب كأنه من سوء تأديباته ... أسلم في مكتب سوء الأدب وقال بزرجمهر الجاهل عد ونفسه فكيف يكون صديق غيره وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق فقال لو كان في بني إسرائيل ووقعت قصة البقرة ما

ذبح غيره شاعر يهجو جاهلاً ليس يدري من الجهالة من ذا ... دوّر البعر في بطون الجمال آخر يظنّ بأنّ الخمل في القطف نابت ... وأنّ الذي في باطن التين خردل وقالوا فلان لا يعرف اليمين من الشمال ولا الجنوب من الشمال ولا السماء من الأرض ولا الطول من العرض ينظر إلى العلم نظر المغشي عليه من الموت إن أصاب أحجم وإن أخطأ صمم وقالوا فلان خطؤه بعد اجتهاد وصوابه عن غير اعتماد وقال الشاعر يصيب ولا يدري ويخطي وما درى ... وكيف يكون النوك إلا كذلكا وقالوا الجهل رأس الفضائح ومعدن القبائح ومضمار العثار وهو الدليل على غلظ الطبع وجمود الخاطر وفساد التركيب واعتلال الذهن وكذب النفيل وخبث الطوية ويقال أشد حوادث الدنيا عالم يجري عليه حكم جاهل وكانت ملوك الفرس إذا غضبت على عالم وأرادت عقوبته حبسته مع جاهل شاعر وإذا بليت بجاهل متهكم ... يجد المحال من الأمور صوابا أوليته مني السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا وفي منثور الحكم من عرف بالجهل فهو لكل قبيحة أهل وقالوا لا يرى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطا يسئ عمداً ويحسن غلطاً وقيل لبزرجمهر مالكم لا تعاقبون الجهال على أن يعقلوا فقال إنا لا نكلف العمي بأن يبصروا ولا الصم بأن يسمعوا وقال بعض الحكماء عمي الجهل أشد من عمي العين لأن الأعمى يتوقع أن يعثر فيما ارتفع من الأرض أو يسقط فيما انخفض منها

والجاهل ربما عثر فيما لا يستقيل منه ووقع فيما لا مخرج له عنه ابن الرومي كالثور عقلاً ومثل التيس معرفة ... فلا يفرّق بين الحق والفند الجهل شخصٍ ينادي فوق هامته ... لا تسأل الربع ما في الربع من أحد وقالوا الجاهل يجني على نفسه وليس شيء أحب إليه منها استأذن رجل من ثقيف على الوليد وعنده عبد الله بن جعفر الصادق وهما يلعبان بالشطرنج فستر عبد الله الشطرنج فلما دخل الرجل وسلم سأله الوليد عن حاله فأخبره ثم قال له أقرأت القرآن قال لا والله يا أمير المؤمنين شغلني عنه أمور وهنات قال أرويت من الحديث شيأً قال لا والله يا أمير المؤمنين قال أتعرف الفقه قال لا والله يا أمير المؤمنين فكشف عن الشطرنج وقال شاهك يا أبا جعفر فقال عبد الله لو رفعت فقال العب فما عندك أحد ومن صفات من عدم خلال النهى ... واعتراه في عقله اختلال فوهى إن تكلم عجل وإن حدث وهل وإن استنزل عن رأي نزل وإن حمل على باطل فعل ومن علاماته الغضب في غير شيء والكلام في غير نفع وإفشاء السر والثقة بكل أحد وأن لا يعرف صديقه من عدوه ومن علاماته العجلة والخفة والتواني والضياع والتفريط والغفلة والسهو ومن علاماته إن استغنى بطر وإن افتقر قنط وإن فرح أشروان بكى خار وإن ضحك نهق وإن أعطيته كفرك وإن أعطاك من عليك وقالوا من علامات المائق كثرة الالتفات وسرعة الجواب وتحريك الرأس إذا مشى وإذا اعتبرنا هذه الخلال الرذلة وجدناها في كثير من الناس فلا نكاد نعرف العاقل من كثرة الالتباس كما قال عليه الصلاة والسلام ليس من أحد إلا وفيه حمقة فبها يعيش وقال وهب بن منبه خلق ابن آدم أحمق ولولا ذلك لما هنأه العيش

الفصل الثاني من الباب الرابع

نادرة قيل لبهلول عد لنا المجانين فقال هذا يطول ولكني أعد العقلاء نظر إلى هذا المعنى بعض الشعراء فقال وأجاد وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول وقد كانوا إذا ذكروا قليلاً ... فقد صاروا أقل من القليل الفصل الثاني من الباب الرابع في ذكر النوادر في ذكر النوادر الصادرة ... عن مجانين البادية والحاضرة فمن شهر منهم بالملح وعرف ... واستحسن كلامه النادر واستظرف جعيفران واسمه جعفر وإنما صغر للتحبيب وهو القائل في نفسه ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه أضحى لقوم كثير ... فكلهم يدّعيه هذا يقول بني ... وذا يخاصم فيه وإلامّ تضحك منهم ... لعلمها بأبيه ويقال إن هذه الأبيات وضعها في دعبل فيكون قوله ما دعبل لأبيه والرواية الأولى هي التي رواها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني وكان جعيفران متشيعاً قيل له يوماً اشتم فاطمة وخذ درهماً قال لا بل أشم عائشة وآخذ نصف درهم واستقبلته امرأة صبيحة فبدر إليها وقبلها فأكب الناس عليه يضربونه فأنشد علقوا اللحم للبزا ... ة على ذروتي عدن

ثم لاموا المحب في ... هـ على خلعه الرسن لو أرادوا عفافه ... نقبوا وجهها الحسن ووقف على علي بن إسمعيل الهاشمي فقال له أعطني درهماً فأمر الغلمان بطرده فطردوه فولى وهو ينشد قد زعم الناس ولم يكذبوا ... أنك من غير بني هاشم فقال لغلمانه ردوه وأعطوه درهمين فأخذهما وانصرف وهو ينشد قد كذب الله أحاديثهم ... يا هاشميّ الأصل من آدم وحكى الجاحظ قال كان جعيفران يماشي رجلاً فدفعه الرجل على كلب فقال له ما هذا قال أردت إن أقرنك به قال فمع من أنا منذ الغداة وتشاجر رجلان في رجل ادعياه فقال أحدهما هو من طفاوة وقال الآخر هو من بني راسب وتحاكما إلى جعيفران فقال ألقوه في الماء فإن طفا فهو من طفاوة وإن رسب فهو من بني راسب قال الصابون راسب بن سدعان بطن من الأزد وطفاوة من ولد أعصر وهو منبه بن سعد بن قيس عيلان وهذه الحكاية نسبها الميداني في كتاب الأمثال لهبنقة الليثي المضروب به المثل في التغفل والحمق ومن مشاهير مجانين الكوفة البهلول ... ذو العقل السقيم والذهن المفلول ولد لإسحق بن محمد الصباح بنت فساءه ذلك وامتنع من الطعام والشراب فدخل عليه بهلول وقال أيها الأمير ما هذا الجزع والحزن جزعت لخلق سوى وهبه الملك العلي أيسرك أن يكون مكانها ابن وأنه مثلي فضحك الأمير ودعا بالطعام والشراب وأذن للناس بالدخول عليه للهناء ومر بهلول بقوم في أصل شجرة يستظلون بفيئها فقال بعضهم لبعض تعالوا حتى نسخر من بهلول فلما اجتمعوا إليه قال أحدهم يا بهلول تصعد هذه الشجرة وتأخذ من الدراهم عشرة قال نعم فأعطوه الدراهم فصرها في كمه ثم قال هاتوا سلماً

فقالوا لم يكن في شرطنا سلم قال كان في شرطي دون شرطكم وسئل عن مسئلة من الفرائض وهي رجل مات وخلف ابناً وبنتاً وزوجة ولم يترك من المال شيأً فقال للابن اليتيم وللبنت الثكل وللزوجة خراب البيت وما بقي من الهم فللعصبة وحمل عليه الصبيان يوماً فألجؤه إلى دار مفتوحة فولجها فوجد فيها قوماً وبين أيديهم مائدة فيها من أنواع الأطعمة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فرجع وغلق الباب ودخل وهو يقرأ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وتبعه الصبيان يوماً آخر فالتجأ إلى دار بعض العلويين فرأى رجلاً ضخماً بضفيرتين فقال يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سداً فخرج الرجل وأغلق الباب وحماه من الصبيان وحمل عليه الصبيان يوماً فالجؤه إلى مضيق فشد عليهم بالقصبة وهو يقول إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً ... فأضيق الأمر أدناه من الفرج وسمع البهلول مجنوناً يقول يوم عيد يا أيها الناس إني رسول الله إليكم فلطم وجهه وقال ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقال له الرشيد يوماً من أحب إليك قال من أشبع بطني قال إني أشبعك فهل تحبني قال له الحب لا يكون بالنسيئة وأحضره يوماً وأجلسه في صحن الدار وجلست أم جعفر حيث لا يراها وعيسى بن جعفر جالس مع الرشيد فقال له الرشيد عدلنا المجانين فقال أولهم أنا والثاني هذه وأشار إلى أم جعفر فقال له عيسى يا ابن اللخناء تقول هذا لأختي قال بهلول وأنت الثالث يا صاحب العربدة فقال الرشيد أخرجوه فقال بهلول وأنت الرابع وقال رجل لبهلول قد أمر الأمير لكل مجنون بدرهمين فقال له امض وخذ نصيبك لئلا يفوتك وقيل أيما أفضل أبو بكر أو علي فقال أما وأنا في كندة فعلي وإذا كنت في بني ضبة فأبو بكر وكندة في الكوفة من غلاة الشيعة وبنو ضبة أهل نصب وهم أصحاب الجمل

نبذ مما يجلب التسلي لقلب المحزون ... من الفكاهات المحكية عن عليان المجنون ذكر أنه وصف للمأمون فأمر باحضاره فلما مثل بين يديه ازدراه وأمر به أن يجلس في مجالس العامة ثم قال له ما اسمك قال عليان فضحك منه فقال عليان إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون فهابه المأمون وعظم في عينه بها ومر به رجل وهو يأكل تمراً والصبيان يؤذونه فقال للرجل انظر إلى هذا التمر من رحمة الله وهؤلاء الصبيان من عذاب الله وتولع الصبيان به يوماً فقال له رجل هل لك في طردهم عنك قال نعم وأنت معهم ورآه رجل وهو يأكل تمراً في السوق فقال له يا عليان أتأكل في السوق قال من جاع في السوق أكل في السوق ورآه من لا يعرفه فقال له أنت مجنون فقال كل الناس مجانين ولكن حظي أوفر وقال له رجل ما الذي صيرك إلى ما أرى قال محتوم القضا وقال له من لا يعرفه أغريب أنت قال أما عن العقل فنعم وأما عن البلد فلا وأدخل بهلول على الرشيد وعنده عليان فكلمهما فأغلظا له في القول وأمر بالنطع والسيف فقال عليان كنا مجنونين فصرنا ثلاثه فضحك الرشيد وعفا عنهما ومات أبوه وخلف ستمائة درهم فأخذها القاضي وحجر عليه ليختبر عقله فجاءه بعد مدة فقال له إنك حجرت علي لما علمت أني مصاب في عقلي وأنا جائع فادفع لي مائتي درهم حتى أقعد بها في أصحاب الخلقان أبيع وأشتري فإن رأيت مني رشداً جنحت إلى الباقي وإن أتلفتها كان الذي أتلفت أقل مما بقي فأعطاه مائتي درهم فأخذها ولزم الحيرة حتى أنفدها ورأى القاضي بعد ذلك فقال يا عليان ما صنعت بالدراهم قال أنفقتها فليزن القاضي أعزه الله من ماله مائتي درهم ويردها إلى الكيس حتى يرجع المال إلى ما كان عليه طرف من لطائف أخبارهم الأنيقة ... ونتف من لطائف نوادرهم الرشيقة حكى أن ثمامة بن أشرس قال بعثني الرشيد إلى دار المجانين لأصلح ما فسد من حالهم فرأيت فيهم شاباً حسن الزي كأنه صحيح العقل فقال لي يا ثمامة إنك تقول إن العبد لا ينفك من نعمة يجب الشكر عليها وبلية يجب الصبرر

لديها وأنت تبيح المطبوخ أرأيت لو سكرت ونمت وقام إليك غلامك وأولج فيك مثل ذراع البكر فقل لي أهذه نعمة يجب الشكر عليها أو بلية يجب الصبر لديها قال ثمامة فلم أدر بماذا أجيبه فقال مسئلة قلت ما هي قال متى يجد النائم لذة النوم إن قلت في حال نومه فمحال وإن قلت إذا استيقظ فبعيد أن يجد لذة شيء انقضى ومضى فبهت لا أحير جواباً فقال مسئلة أخرى قلت وما هي قال إنك تزعم أن لكل أمة نذيراً فما نذير الكلاب قلت لا أدري فقال أما الجواب عن المسئلة الأولى فيجب أن تقول النعم ثلاثة نعمة يجب الشكر عليها وبلية يجب الصب لديها وبلية يجب الصبر عنها فهذه من القسم الثالث وهي البلية التي يجب الصبر عنها وأما المسئلة الثانية فالجواب عنها إنها محال لأن النوم داء ولا لذة مع وجود الداء وأما المسئلة الثالثة وأخرج من كمه حجراً وقال إذا عدا عليك كلب فهذا نذيره ورماني بالحجر فأخطأني وأصاب الاسطوانة فلما رآه قد أخطأني قال فاتك النذير يا أيها الكلب الحقير فعلمت أنه مجنون وأن عقله مصاب فتركته وانصرفت وقنعت من الغنيمة بالاياب وكان في بني أسد مجنون يسمى لغدان فمر بقوم من بني تيم الله بن ثعلبة فعبثوا به فقال يا بني تيم الله ما أعلم في الدنيا خيراً منكم قالوا وكيف ذلك قال لأن بني أسد ليس فيهم مجنون غيري وقد قيدوني وسلسلوني وكلكم مجانين وليس فيكم مقيد وكتب بعض المجانين إلى قساوة كتابي إليك لثلاث ساعات من ليلة الميلاد التي صبحها يوم المهرجان ودجلة تطفح بالماء هياهيا والحجارة لا تزداد إلا كثرة والصبيان قللهم الله وبدد شملهم لا يزدادون إلا وقاحة فإن قدرت أن لا تبيت إلا وحولك حجارة فافعل واستعمل قول الله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وركب بختيشوع المتطبب مع المأمون فتعلق به مجنون وقال أيها الطبيب جس نبضي فجسه وقال له ما تشتكي قال الشبق فقال له خذ مسواك أراك وأدخله من وراك فإنه صالح لذاك فرفع المجنون فخذه وضرط وقال خذ هذا جزاك حتى نجرب ذواك فإن كان صالحاً لذاك شكرناك وزدناك ولا يكون لنا طبيب سواك فجعل بختيشوع وضحك المأمون من كلام المجنون ووقف صباح

الموسوس على قوم فسألهم شيأً فردوه فولى وهو ينشد أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظنّ بالناس وقال بعضهم رأيت مجنونين يتنازعان رغيفاً يؤثر كل واحد منهما صاحبه به وهما يتقاسمان عليه فقلت لهما وأنا أظن أني أربح عليهما أنا آكله إن لم تأكلاه فقال أحدهما يا أحمق إن معه ادما لا يسوغ إلا به قلت وما هو قال ضيق الخنق ووجء العنق فوليت عنهما فقالا يا مجنون لولا غضاضة الأدم لأكلناه منذ حين وسمع أبو الصقر المجنون سقاء يصيح في يوم حر هذا يوم يسقى فيه الماء فقال وأي يوم يطعم فيه الخبز وحكى علي بن الجهم الشاعر قال مررت بمجنون والناس مجتمعون عليه يعبثون به فلما رآني قصدني دونهم وأخذ بعنان بغلتي ثم أنشد لا تحفلنّ بمعشر ال ... همج الذين تراهم فوحق من أبلى بهم ... نفسي ومن عافاهم لو قيس موتاهم بهم ... كانوا همو موتاهم ثم جال بطرفه في الحلقة فرأى فيها شاباً مليح الوجه حسن الهيئة فوثب إليه ومزق ما كان عليه ثم نظر إلي وأنشد هذا السعيد لديهم ... قد صار بي أشقاهم ووقف بعض المجانين على باب مسجد فبال فأرادت العامة ضربه فقال لهم أرأيتم لو بال ههنا حمار أكنتم ضاربية قالوا لا قال فهبوني حماراً فإنه لا عقل لي فرقوا له وأطلقوه وقال المبرد دخلت دار المجانين فوقفت تجاه مجنون وأخرجت لساني فحول وجهه عني فجئت إلى الناحية التي حول وجهه إليها وأخرجت لساني فحول وجهه إلى ناحية أخرى فجئت إليه وفعلت مثل ذلك فلما أضجرته رفع رأسه إلى السماء وقال انظر يا رب من حلوا ومن ربطوا

ما اختير من شعرهم الرقيق الجزل ... المنظوم في سلكه جواهر الجدّ والهزل حدث ابن حبيب في كتابه الذي صنفه في أخبار عقلاء المجانين باسناده إلى أبي إسحق إبراهيم الايلي قال رأيت غورثا المجنون يوماً خارجاً من الحمام والصبيان قيام يضربونه ويؤذونه وهو يبكي فقلت له ما خبرك يا أبا محمد قال اذاني هؤلاء الصبيان أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون قلت ما أظنك مجنوناً قال بلى والله وعاشق قلت وهل قلت في عشقك شيأً قال نعم ثم أنشد جنون وعشق ذا يروح وذا يغدو ... فهذا له حدّ وهذا له حدّ وقد سكنا تحت الحشى وتحالفا ... على مهجتي أن لا يفارقها الجهد وأيّ طبيب يستطيع بحيلة ... يعالج من داءين ما منهما بدّ قال الايلي فوليت عنه فقال قف واسمع ما أقول فإن شرح غرامي على الخلي يطول فوقفت فأنشد جنون ليس يضبطه الحديد ... وحبّ لا يزول ولا يبيد فجسمي بين ذاك وذا نحيل ... وقلبي بين ذاك وذا عميد ثم قال لي انصرف ما سمعته يكفيك وأخذ يوماً بيد المتهم بعشقه فقال له المعشوق رجاء الخلاص منه كيف أصبحت فقال أصبحت منك على شفا جرف ... متعرّضاً لموارد التلف وأراك نحوي غير ملتفت ... منحرفاً عن غير منحرف يا من أطال بهجره أسفي ... أسفي عليك أشد من تلفي وحكى أيضاً أن هرون الرشيد مر بدير في ظاهر الرقة فلما أقبلت مواكبه أشرف أهل الدير ينظرون إليه وفيهم مجنون مسلسل فلما رأى هرون رمى بنفسه بين يديه وقال يا أمير المؤمنين قد قلت فيك أربعة أبيات أفأنشدك إياها قال

نعم فأنشده لحظات طرفك في العدا ... تغنيك عن سلّ السيوف وغريم رأيك في النهى ... يكفيك عاقبة الصروف وسيول كفك بالندى ... بحر يفيض على الضعيف وضياء وجهك في الدجى ... أبهى من البدر المنيف ثم قال يا أمير المؤمنين هات أربعة آلاف درهم اشترى بها كبيساً وتمراً فقال هرون تدفع له فحملت إلى أهله وحكى أيضاً قال ادريس بن إبراهيم اللخمي سمعني مجنون أنشد في يوم غيم أرى اليوم يوماً قد تكاثف غيمه ... واقتامه فاليوم لا شك ماطر فقال بديهاً من غير روية وقد حجبت فيه السحائب شمسه ... كما حجبت ورد الخدود المعاجر ومر إبراهيم بن المدبر بالأهواز وقد صرف عنها فتعرض له مالي الموسوس واسمه محمد بن القاسم فأخذ بلجام بغلته وقال ليت شعري أيّ قوم أجدبوا ... فأغيثوا بك من طول العجف نظر الله إليهم دوننا ... وحرمناك لذنب قد سلف يا أبا إسحق سر في دعة ... وامض محموداً فما عنك خلف إنما أنت سحاب هاطل ... حيثما صرّفه الله انصرف فأمر له بستمائة درهم ونظر إليه انسان وهو يأكل تمراً ويبلع نواه فقال له لم لا ترمي نواه قال هكذا وزن علي وقيل له في كم يصير الانسان مجنوناً فقال على قدر الصبيان ومن شعره زعموا أنّ من تشاغل باللذات ... يوماً عن حبه يتسلى

كذبوا والذي تساق له البد ... ن ومن دار بالطواف وصلى إن نار الهوى أحرّ من الجم ... ر على قلب عاشق يتصلى وأخبار ماني أحلى من مسامرة الأماني لكن استيفاؤها ربما يخرج عن الغرض ويبدل جوهر ما شرطناه بالعرض وحكى المبرد قال خرجنا من بغداد إلى واسط فملنا إلى دير هرقل ننظر إلى المجانين فنظرنا إلى فتى منهم ناحية عنهم فملنا إليه وسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام فقلنا له ما تجد فقال الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبثّ ما أحد روحان لي روح تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر وليس يفوتها جلد وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد فقلنا له أحسنت فأومأ بيده إلى شيء ليرمينا به فولينا هاربين فقال سألتكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت قلتم أحتلت وإن أسأت قلتم أسأت قال فرجعنا فقلنا له قل فأنشدنا لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها وسارت بالدعى الابل وقلبت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إليّ ودمع العين ينهمل وودعت ببنان زانها عنم ... ناديت لاحملت رجلاك يا جمل ويلي من البين ويل حلّ بي وبها ... من نازل البين جدّ البين وارتحلوا يا حادي العيس عرّج كي نودّعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل إني على العهد لم أنقض مودّتهم ... يا ليت شعري لطول الدهر ما فعلوا قال فقلنا له ماتو افصاح وقال وأنا والله أموت واستلقى على ظهره وتمدد فمات فما برحنا حتى دفناه رحمة الله عليه

الفصل الثالث من الباب الرابع

الفصل الثالث من الباب الرابع في احتجاج الأريب المتحامق في احتجاج الأريب المتحامق ... على أنّ الحمق أزكى الخلائق قال الله تعالى فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء عبر بالأفئدة وهي القلوب عن العقول لأنها مقرها وقال النبي صلى الله عليه وسلم يحاسب الله الناس على قدر عقولهم وفي طريق آخر إن الله يحاسب كل امرئ على مقدار عقله وفي بعض الآثار ما جعل الله لرجل عقلاً وافراً إلا احتسبه عليه من رزقه وقيل من زيد في عقله نقص من رزقه ما قيل في إنّ لذاذة العيش ... لا تحصل إلا بالجهالة والطيش ذكر إن بعض الحكماء سئل من أقر الناس عيناً وأحسنهم حالاً وأطيبهم عيشاً وأنعمهم بالاً فقال من كفى أمر دنياه ولو لم يهم لآخرته أخذه المتنبي فقال تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى فيها ولا يتوقع ولمن يغالط في الحقيقة نفسه ... ويسومها طلب المحال فيطمع ولأبي بكر الكاتب من رزق الحمق فذ ونعمة ... آثارها واضحة ظاهره يحط ثقل الهمّ عن نفسه ... والفكر في الدنيا وفي الآخره وقال حكيم ثمرة الدنيا السرور ولا سرور للعقلاء وقال الشاعر الروح والراحة في الحمق ... وفي زوال العقل والخرق فمن أراد العيش في راحة ... فليلزم الجهل مع الحمق

ومن احتجاج من أطلق نفسه من عقال العقل

ومن أمثالهم ما سر عاقل قط وقولهم الهم والعقل لا يفترقان وقولهم استراح من لا عقل له وقال بعض الحكماء العاقل في ربقة من عقله تحجبه عن اللذات وتصده عن الشهوات فمتى جرى على حكم البشرية فأطاع هواه واتبع غرضه ومناه قيل زلة عاقل وهفوة ذاكر فنعوذ بالله من شرها ونرغب إلى الله في الكفاية منها وقال الشاعر أرى العقل بؤساً في المعيشة للفتى ... ولا عيش إلا ما حباك به الجهل وقالوا الجاهل ينال أغراضه ويظفر بآرابه ويطيع قلبه ويجري في عنان هواه وهو برئ من اللوم سليم من العيب تغفر زلاته وتتعمد هفواته وقال آخر الجاهل رخي الذرع خالي البال عازب الهم حسن الظن لا يخطر خوف الموت بفكره ولا يجري ألم الاشفاق على ذكره وقالوا الجهل مطية المسرة والمراح ومسرح الفكاهة والمزاح وحليف الهوى والتصابي صاحبه في زمام من عهدة اللوم والعتب وأمان من قوارص الذم والسب وقال الشاعر ورأيت الهموم في صحة العق ... ل فداويتها بأمراض عقلي وقال المغيرة بن شعبة ما العيش إلا في القاء الحشمة ومن احتجاج من أطلق نفسه من عقال العقل وألقى عصاه عامداً في بيداء الجهل قول بعضهم لما كان العقل في المعنى ذائداً عن الآراب وحائلاً دون الاعراض جعل اسمه مأخوذاً من لفظة العقال فكم بين الطليق والعاني ولين المعقود من الشارد وهل من يتصرف على اختياره ويجيب داعي أهوائه كمن يقسر ويحصر ويكره ويجبر وقالوا لو لم تكن فضيلة الجهل غير الاقدام وورود الحمام إذ هما عين الشجاعة والبسالة وسببان لتحصيل الرفعة والجلالة وقال

شاعرهم ما لي وللعقل لا استصحبته أبدا ... فالعقل ينزل دار الذل والهون لقد تعاقلت دهراً لا أرى فرجا ... ومذ تحامقت صار الناس يدنوني وقال يحيى بن أكثم ما رأيت العقل قط إلا خادماً للجهل وقالوا كم عاقل أخره عقله وجاهل صدره جهله وقال الشريف أبو يعلى بن الهبارية تجاهلت لما لم أر العقل شافعا ... وأنكرت لما كنت بالعلم ضائعا وما نافعي عقلي وفصي وفطنتي ... إذا بت صفر الكف والبطن جائعا وما أحسن قول عبد الله بن المعتر في هذا المعنى مع زيادة للمصنف العقل كالمرآة المصقولة يرى صاحبها فيها مساوئ الدنيا فلا يزال في صحوه مهموماً متعذر السرور حتى يشرب الخمر فإن أكثر منها غشيه الصدأ كله حتى لا تظهر تلك المساوئ فيفرح ويمرح والجهل كالمرآة الصدية لا يرى صاحبها إلا مسروراً أبداً قبل الشرب وبعده من هنا للمصنف فالعاقل يستدعي حالة الجهل إلى نفسه لترادف الهموم عليه في العواقب والغرض في اكتساب المحامد والمناقب فإذا ضاق بها ذرعاً ولم يستطع لردائها نزء احتال على ذهابها بالشراب لينحل عنه عقال الهموم والأتراح بأيدي المسرات والأفراح ومن مستطرف ما نظم في هذا المعنى قول أبي معاذ بشار بن برد: لما رأيت الحظ حظ الجاهل ... والعيش في الدنيا لغير العاقل رحلت عيساً من كرائم بابل ... فغدوت من عقلي ببعد مراحل

من أحاسن أقوالهم في أن العقل طريق إلى العنا

من أحاسن أقوالهم في أنّ العقل طريق إلى العنا وسدّ يمنع صاحبه من الوصول للغنى روى عن الامام محمد بن الحنفية رضي الله عنه أنه قال وكل الله الجهل بالغنى والعقل بالحرمان ليعتبر العاقل وليعلم أن ليس له من الأمر شيء وفي مثل هذا يقول نصر بن أحمد المعروف بالخبزأرزي سبحان من قدّر الأشياء منزلها ... وصير الناس مرفوضاً ومرموقا فعاقل فطن أعيت مذاهبه ... وأحمق جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا قال رجل لبزرجمهر تعال نتناظر في القدر قال وما أصنع بالمناظرة رأيت الظاهر فاستدللت به على الباطن رأيت الأحمق مرزوقاً والعاقل محروماً فعلمت إن التدبير ليس من العباد وقيل أعجب الأشياء نجح الجاهل واكداء العاقل حتى قيل لو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم قال حبيب بن أوس الطائي ينال الفتى من عيشه وهو جاله ... ويكدي التي في دهره وهو عالم فلو كانت الأرزاق تجري على الحجي ... هلكن إذا من جهلهنّ البهائم المتنبي ذو العقل يشقى في النعيم بفضله ... وأخو الحماقة في الشقاء ينعم

آخر العقل ليس بمسعد خلقاً إذا ... ما عال حتى يسعد المقدور وحكومة الأيام يسعد جاهل ... فيها ويشقى العالم النحرير آخر لو كانت الأرزاق يدركها الفتى ... بجلادة أو قوّة وشراس لأخذت أفضلها ببارع همتي ... وبمنطقي وبحيلتي ومراسي لكنها قسم وليس بمدرك ... ما لم يقدّره إله الناس حدث ابن حبيب في كتابه عقلاء المجانين قال حدث سعيد بن علي بن عطاف قال كان عندنا رجل عاقل ظريف أديب يسمى عامراً وكان مع كثرة أدبه محروماً فقيل لي إنه قد تحامق فجعلت أتطلبه حتى ظفرت به في بعض الطرق والصبيان حوله يضحكون منه فقلت يا عامر ما هذه الحالة فانشد عجلاً ومرتجلاً يا عاذلي لا تلم أخا حمق ... يضحك منه فالحمق ألوان جقت نفسي لكي أنال غنى ... فالعقل في ذا الزمان حرمان وكان الحمدوني الشاعر يتحامق فعذله بعض أصحابه على ذلك فقال جماقة تعولني خير من عقل أعوله ثم أنشد عذلوني على الحماقة جهلا ... وهي من عقلهم ألذ وأحلى حمقى اليوم قائم بعيالي ... ويموتون أن تعاقلت دلا ومن المنظوم في أنّ من أفعال الزمان ... الباس العقلاء أسمال الحرمان أبو يعلى بن الهبارية الجهل أروح للفتى من عقله ... يمسي ويصبح آمناً مسرورا

ترك العواقب جانباً عن فكره ... وسعى رواحاً في الهوى وبكورا والعقل يعقله على حسراته ... ويصدّه فيردّه محسورا وتراه مهتماً كثيراً غمه ... يحيا أسيراً أو يموت فقيرا لما علا الجهال في أيامنا ... ورقوا ونالوا منزلاً وسريرا أخفيت علمي وأطرحت فضائلي ... على أكون إذا جهلت أميرا آخر دع عنك عقلي فالعقول مخارق ... لا ينفع الانسان إلا جهله كم عاقل أمسى عقالاً عقله ... دون المنى وغدا فضولاً فضله آخر ولما رأيت الدهر أحمق جاهلاً ... يصيب ولا يدري ويخطي ولا يدري ينيل ويعطي الأحمق الغمر سؤله ... ويقصد أبناء الفضائل بالعسر فيمنعهم منّ القرى ويذودهم ... إذا ورد النوكي تحامقت للدهر عبد القاهر الجرجاني كبر على العقل يا خليلي ... ومل إلى الجهل ميل هائم وكن حماراً تعش بخير ... فالسعد في طالع البهائم آخر طاب عيش الرفيع في ذا الزمان ... والجهول الغفول والسفعان فاغتنم حقك الذي أنت فيه ... تحظ بالمكرمات والاحسان

آخر إذا كان الزمان زمان حمق ... فإنّ العقل حرمان وشوم فكن حمقاً مع الحمقى فإني ... أرى الدنيا بدولتهم تدوم آخر إنّ عاماً فيه تسربلت خزاً ... وترديت في الرجال البرودا لزمان أبدى النحوس إلى النا ... س وأخفى عن العيون السعودا آخر قد كسد العقل وأصحابه ... وفتحت للجهل أبوابه فاستعمل الحمق تكن ذا غنى ... فقد مضى العقل وأربابه آخر تحامق مع النوكي إذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل وخلط إذا لاقيت يوماً مخلطاً ... يخلط في قول صحيح وفي فعل فإني رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل آخر أرى زمناً نوكاه أسعد أهله ... ولكنما يشقى به كل عاقل مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكب الأعالي بارتفاع الأسافل وقال بعض ظرفاء الأدباء وهو أبو الحسن المائق طلبت الرزق بالحذق ... من الغرب إلى الشرق فلم يكسبني العقل ... سوى البعد من الخلق

مما ذكر إن الحظ أجدى لصاحب الحجا

فأدبرت عن العقل ... وأقبلت على الحمق فخاف الناس اشعاري ... وقالوا أحمق الخلق وجاؤ الأبي الجحش ... بما شاء من الرزق فمن لام على الحمق ... فقد حاد عن الحق مما ذكر إنّ الحظ أجدى لصاحب الحجا وأهدى في طرق مآربه من نجوم الدجى ما حكى أهل التجارب فإنهم قالوا العقل وسوء الحظ كالعله والمعلول لا مفصل لأحدهما عن الآخر وقالوا افراط العقل مضر بالجد وقيل استأذن العقل على الجد فحجبه فقال إذهب أنت بي لا أنا بك قال شاعر عش بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود آخر لا تنظرن إلى عقل ولا أدب ... إن الجدود حديقات الحماقات آخر الجد أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدك في الحوادث أوذر ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر آخر متى ما ترى الناس الغنيّ وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد وليس الغني والله من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسمت وجدود

آخر لا تنظرنّ إلى الجهالة والحجا ... وانظر إلى الادبار والاقبال كم من صحيح العقل أخطأه الغنى ... وعديم عقل فاز بالأموال ودعت أم الاسكندر لولدها فقالت رزقك الله حظاً يخدمك به ذوو العقول ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الحظوظ وخير رجل بين أمرين فأبى أن يختار وقال أنا بجدي أوثق مني بعقلي ومن أمثالهم أن تجد فلا تكد قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري لا تطلبنّ بغير حظ رتبة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل سكن السما كان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل وقال بعضهم قالوا أقمت وما رزقت وإنما ... بالسير يكتسب اللبيب ويرزق فأجبتهم ما كل سير نافع ... الحظ ينفع لا الرحيل المقلق كم سيرة نفعت وأخرى مثلها ... ضرّت ويكتئب الحريص ويخنق كالبدر يكتسب الجمال بسيره ... وبه إذا حرم السعادة يمحق آخر لا يوجد الرزق بالامعان في الطلب ... ولا بكدّ ولا حرص ولا تعب بل الحظوظ التي تعلو بصاحبها ... لا بالخطوط التي في سائر الكتب كم من غلام أديب فيصل ذكر ... شهم مهيب كحدّ السيف ذي الشطب يمسي ويضحي من الافلاس في تعب ... يقلب الكف بالنيران واللهب وآخر جلف طبع لأخلاق له ... مذبذب العقل ثوراً منتن الذنب لا يعرف الميم من واو إذا كتبا ... ولا يميز بين التين والعنب قد أقبلت نحوه الأيام ضاحكة ... وأخدمته الليالي كل ذي حسب

وللشافعي رضي الله عنه: بالجدّيد نوكل أمر شاسع ... والجدّ يفتح كل باب مغلق فإذا سمعت بأن مجدوداً حوى ... عوداً وأثمر في يديه فحقق وإذا سمعت بأنّ محروماً أتى ... ماء ليشربه فغاض فصدق لو كان بالحيل الغني لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدّان مفترقان أيّ تفرّق ومن الدليل على القضاء وحكمه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق وأحق خلق الله بالهمّ امرو ... ذو همة يبلى برزق ضيق فلربما مرّت بقلبي ضجرة ... فأودّ منها أنني لم أخلق ويقال إذا أقبل جد المرء فالأقدار تسعده والأوطار تساعده وإذا أدبر فالأيام تعاديه والنحوس تراوحه وتغاديه ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال إن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربا وإلى هذا أشار حبيب بن أوس في قوله وإذا تأملت الجبال وجدتها ... تثرى كما تثرى الرجال وتعدم وقال آخر وهو أبدع ما قيل في هذا الباب وإذا السعادة لاحظتك بعينها ... نم فالمخاوف كلهنّ أمان واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان وقال ابن نباتة الأفاخش ما يرجى وجدّك هابط ... ولا تخش من شيء وجدّك رافع فلا نافع إلا مع النحس ضائر ... ولا ضائر إلا مع السعد نافع

آخر إذا كنت مرموقاً بعين سعادة ... فلا تخش يوماً من رجوع الكواكب فإنّ الذي قد قرّب الله سعده ... بعيد لعمري من صروف النواقب ومن الظريف المطبوع في هذا الباب قول محمد بن شرف القيرواني إذا صحب الفتى جدّ وسعد ... تحامته المكاره والخطوب ووافاه الحبيب بغير وعد ... طفيلياً وقاد له الرقيب

الباب الخامس

الباب الخامس في الفصاحة وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في إنّ الفصاحة والبيان ... أزين ما تحلت بهما الأعيان قال الله تعالى الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان وقال عليه الصلاة والسلام إن من البيان لسحراً حد البيان قال الجاحظ في كتابه الذي سماه البيان والتبيين البيان اسم جامع لكل كلام كشف لك عن قناع المعنى وهتك الحجاب عن الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقة اللفظ ويهجم على محصوله كائناً ما كان وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ما البيان فقال أن يكون الاسم محيطاً بمعناك كاشفاً عن معزاك وقال آخر خير البيان ما كان مصرحاً عن المعنى ليسرع إلى الفهم تلقنه وموجزاً ليخف على اللسان تعاهده فما ورد عن جهابذة هذا العقيان ... مدح موهبتي الفصاحة والبيان قول ابن المعتز البيان ترجمان القلوب وصيقل العقول وقال سهل بن هرون البيان ترجمان اللسان وروض القلوب وقال بعض الأعراب لولده عليك بالفصاحة في منطقك فإنها مع صواب لفظك كالريش البهي في حسن الصورة ويقال من عرف بفصاحة اللسان لحظته العيون بالوقار وقال هشام بن

عروة ما أحدث الناس مروأة أعجب إلي من الفصاحة وقال بعض البلغاء الفصاحة أوثق شاهد عدل على اجتماع شمل الفضل وأقوى دليل على استكمال الذكاء والنبل لم تزل تشيد لأهلها في ربوع المجد فخراً وترفع لهم في مراتب العلوم ذكراً وربما سودت غير مسود ورفعت من الحضيض الأوهد إلى محل النسر والفرقد ويقال بالفصاحة والبيان استولى يوسف عليه السلام على مصر وملك زمام الأمور وأطلعه ملكها على الجلي من أمره والمستور فإن العزيز لما رأى فصاحة لسانه وحسن بيانه أعلى مكانه وأعظم شأنه ومما يتميز به نوع الانسان ... فصاحة المنطق وذلاقة اللسان قال بعض الحكماء الكلام حد الانسان الحي الناطق وقالوا الصمت منام والكلام يقظة وقال عبد الملك بن مروان إن الكلام قاض يحكم بين الخصوم وضياء يجلو الظلم حاجة الناس إلى مواده كحاجتهم إلى مواد الأغذية ويقال حد الانسان إنه ناطق فمن كانت رتبته في النطق أبلغ كان بالانسانية أخلق وقال أبو الفرج الببغا في رسالة له مدح فيها الكلام الحيوان كله متساو بنعت الحركة والنمو فالانسان والبهيمة باشتمال هذا الوصف عليهما سيان وإنما فضل العالم الأنسي بالنطق المترجم عن مراد العقل المظهر للحكمة من القلب إلى العقل فإذا صحت بهذه القاعدة أن الانسان بفضيلة النطق أشرف مصنوع وأفضل مطبوع فقد وجب أن يكون أكمل هذا الجنس فضلاً وأحمد هذا العالم فعلاً ومن كان قسطه بفضيلة النطق موفوراً فمحله من ربع البلاغة معموراً وقال أيضاً من زعم أن الصمت أشرف مرتبة وأرفع منزلة من الكلام فقد حكم على الكلام بالنقصان وأحل العي محل البيان ولو كان الصمت أفضل من الكلام لتعبدنا الله به فيما انتدبنا له بالالهام وكان توحيد الله بحجج العقول في غنى عن واسطة أو رسول وقيل لبعض الحكماء أيما أفضل الصمت أو النطق فقال إن الله تعالى بعث أنبياءه بالنطق لبيان الحجة وإنك تمدح الصمت بالنطق ولا تمدح النطق بالصمت وما عبرت به عن شيء فهو أفضل منه ويقال من فضل الناطق على الصامت إن الناطق يهدي ضالاً ويرشد غاوياً ويعلم جاهلاً وقيل لزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم الصمت خير أم الكلام فقال لعن الله المساكتة فما أفسدها للسان وأجلبها للعي والله للماراة أسرع في

هدم العي من السنان في نبش العرفج وقال آخر الصمت مفتاح السلامة ولكنه قفل الهم وقال الشاعر خلق اللسان لنطقه وكلامه ... لا للسكوت وذاك حظ الأخرس فإذا نطقت فكن مجيباً سائلاً ... إنّ الكلام يزين رب المجلس وقالوا اللسان عضو إن مرنته مرن وإن تركته حرن وقالوا اللسان إذا كثرت حركته رقت عذبته كالرجل إذا عودت المشي سعت وقال خالد ابن صفوان ما الانسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مرسلة أو حالة مهملة وقال أيضاً لسان الفتى أوجه شفعائه وأنفذ سلاحه على أعدائه به يتصل الود وينحسم الحقد شاعر لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم وقال بعض البلغاء مغرس الكلام القلب وزارعه الفكر وقيمه العقل وزهره الاعراب وثمره الصواب وجانيه اللسان ومما شرف به اللسان ... من خصائص الاحسان قالوا اللسان جوهر الانسان من خصائصه إن الله رفع قدره على سائر الأعضاء فأنطقه بتوحيده والهمه لتمجيده ومن خصائصه أنه أداة يظهر بها البيان وظاهر يخبر عما بطن في الجنان وحاكم يفصل بالخطاب وناطق يرد الجواب وواصف تعرف به الأشياء وواعظ ينهى عن الفحشاء وشاهد يسأل به عن الغائب وشافع تدرك به المطالب ومونق يلهى الخاطر ومؤنس يزيل وحشة النافر ومعز تسكن به غلة الخليل ومزين يدعو إلى الجميل وزارع ينبت الوداد وحاصد يذهب الضغائن والأحقاد

ومما ينال به الخامل أعلى الرتب ... التحلي بأنواع جواهر الأدب الأدب نوعان نفسي وكسبي فالنفسي بتوفيق الله يهبه الله لمن يريد وهو ما كان من محاسن الأفعال الدالة على كرم الطباع والكسبي ما استفادته الأنفس من أحاسن الأقوال الآخذة بأعنة القلوب او الأسماع وهو الذي ترجمت عليه في هذا الموضع ليقع ذكره في النفوس أحسن موقع لترمقه لأجله العيون بالاجلال وتتجمل النفوس به لميلها إليه بتتابع الأدلال وهو الظرف في اللسان الكائن عن الاشتغال بفنون علوم الآداب الحسان كالنحو واللغة ونظم الشعر وإنشاء النثر وما يتعلق بذلك من علم البديع والمعاني والبيان وما ذكرناه فهو الذي نال به حماد الراوية والأصمعي وإسحق الموصلي العلا من الخلفاء والجوائز من الوزراء وسموا تشريفاً لهم بالجلساء والندماء قال أكثم بن صيفي الرجل بلا أدب شخص بغير آلة وجسد بلا روح وقال بزرجمهر الدب شريف لا ينطبع إلا في مثله وقال الأحنف لكل شيء ذؤابة وذؤابة الشرف الأدب وقال أنوشروان عجبت لمن يشهره الأدب كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة وقال بعض الأعراب لولده عليك بالأدب فإنه يرفع العبد المملوك حتى يجلسه في مجالس الملوك وقال عبد الملك لبنيه تأدبوا فإن كنتم ملوكاً بررتم وإن كنتم أوساطاً فقتم وإن أعوزكم المعاش عشتم استفيدوا من الأدب ولو كلمة واحدة وقال بعض الأعراب تعلموا الأدب فإنه زيادة في الفضل ودليل على العقل وصاحب في الغربة وأنيس في الوحدة وجمال في المحافل وسبب إلى درك الحاجة وقال المأمون والله لان أموت طالباً للأدب خير من أن أموت قانعاً بالجهل ويقال ذك قلبك بالأدب كما تذكي النار بالحطب وقال الخليل بن أحمد من لم يكتسب بالأدب مالاً اكتسب به جمالاً وقال آخر الأدب أكرم الجواهر طبيعة يرفع الأحساب الوضيعة ويفيد الرغائب الجليلة وينجح القصد والوسيلة فالبسوه حلة وتزينوه حلية فإنه أنفق معاش وأجمل رياش وقال الشعبي الأدب للفقير مال وللغني جمال وللحكيم كمال ومما ذكر أنّ التحلي بالآداب ... يلحق الدنئ بذوي الأحساب قالوا من قعد به نسبه نهض به حسبه وقالوا من تأدب وليس له حسب الحقه الأدب بأهل الرتب وقد يستغني الأدب عن الحسب كما حكى عن سيبويه

وما أحسن قول بعض الأعاجم يفتخر ويعتذر

قال تكلم رجل بين يدي المأمون فأحسن فقال له المأمون ابن من أنت قال ابن الأدب يا أمير المؤمنين فقال نعم الحسب الذي انتسبت إليه ولهذا قيل المرء من حيث يثبت لا من حيث ينبت ومن حيث يوجد لا من حيث يولد وبآدابه لا بثيابه وبفضيلته لا بفصيلته وبعقله لا بعقائله وبأنبائه لا بآبائه وبكماله لا بجماله قال الشاعر كن ابن من شئت واتخذ أدبا ... يغنيك محموده عن النسب إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي وقال بزرجمهر من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان وضيعاً وبعد صيته وإن كان خاملاً وساد وإن كان غريباً وكثرت حوائج الناس إليه وإن كان فقيراً وقالوا من دأب في طريق الأدب أدرك حاجته وملك ناصيته ونبل قدره ونبه ذكره قال الشاعر لكل شيء زينة في الورى ... وزينة المرء تمام الأدب قد يشرف المرء بآدابه ... فينا وإن كان وضيع الحسب وما أحسن قول بعض الأعاجم يفتخر ويعتذر مالي عقلي وهمتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي وإذا انتمى منتم إلى أحد ... فإنني منتم إلى أدبي ويقال حسن الأدب يستر قبيح النسب وقالوا الفضل بالعقل والأدب لا بالأصل والنسب ويقال الأدب ينوب عن الحسب ولا ينفع حسب بلا أدب شاعر كم من خسيس وضيع القدر ليس له ... في العز بيت ولا ينمى إلى نسب قد صار بالأدب المحمود ذا شرف ... عال وذا حسب محض وذا نشب يعلى التأدب أقواماً ويرفعهم ... حتى يساووا ذوي العلياء في الرتب

ذكر من دأب في طلب الأدب ... فنال به أعلى المناصب والرتب يكفي دليلاً على ما ذكرناه وانموذجاً لما وصفناه حال أحمد بن أبي دواد في ترقيه إلى بقاع المجد من الحضيض الوهد يحكي أنه كان يختلف إلى ملجس بشر المريسي في حالة رثة وهيئة رديئة وينصرف عنه في قائم الظهيرة معلقاً محبرته متأبطاً دفتره فيقيل عند أخل له فلما وجه المأمون المعتصم إلى مصر التمس من بشر رجلاً من أصحابه يكون في صحبة المعتصم يوليه على المظالم ويكتب إليه أخباره فقال يا أمير المؤمنين معنا قوم لهم فقه ولكن لم يجمعوا إليه الأدب ومعرفة أمور السلطان ثم وصف له أحمد ابن أبي دواد قال إنه جمع إلى فقه أدباً وبياناً وعقلاً فأرسل إليه وقلده المظالم ففعل ثم حل من المعتصم محلاً عظيماً لاختياره له أيام مقامه بمصر معه ومنهم الفضل بن سهل ذو الرياستين كان أهل بيته مجوساً وتجاراً وصناعاً فيهم الدهقان وبائع الخمر فبلغ به الأدب إلى أرفع الرتب ذكر عنه إنه كان يتقلد بسيفين أحدهما أحمر الجفر مكتوب عليه رياسة الحرب والآخر أسود الجفر مكتوب عليه رياسة التدبير ولهذا سمى ذو الرياستين وصحب الفضل المأمون في حداثته أيام أبيه الرشيد وهو مجوسي فغلب عليه وحمله على إيثار الأدب وطلب الحكمة وكان الفضل يعلم أحكام النجوم فأخبره إنه يرى في طالعه أنه يلي الخلافة سلباً وإن تدبيره يبعد عنه شرقاً وغرباً فبلغ الرشيد شأنه وخبره فهدر دمه فاستتر حيناً ثم بدا له أن يظهر فأتى الرشيد وهو في الحلبة فمثل بين يديه وهو يقول أعوذ يا أمير المؤمنين برضاك من سخطك واعترف بالذنب وأسلم لله على يدك فقال الرشيد من هذا قالوا المجوسي الذي هدرت دمه فقال قد وهبناك دمك إذا سلمت له فغياك ومعاودة ما بلغنا عنك ومنهم محمد بن عبد الملك الزيات قال له العلاء ابن أيوب يوماً وقد دارت بينهما محاورة في مناظرة ليس هذا كيل الزيت ولا عد الجوز قال له أبا التجارة تعيرني قد كنت تاجراً وكنت متأخراً فقدمني الله بالأدب وأصارني بعد التجارة إلى الوزارة وليس المعيب من كان خسيساً فارتفع وإنما هو من كان شريفاً فاتضع ولو كنت عاملتك معاملة الفضل ابن سهل وأذللتك كما أذلك لم تقدم علي بمثل هذا القول الذي لم ينفعك فقد كنت تدخل دار الخلافة تلوذ بالجدران

وتتبع الأفياء ناكس الرأس غضيض الطرف خوفاً منه لكني رفعتك في المجلس فوق من هو أرفع منك وقدمتك على من هو متقدم عليك فقال له العلاء مهلاً إنما قلت كلمة مقولة وتمثلت بمثل مضروب لم اعتمدك به فأما قولك إني كنت ألوذ بالجدران وأتبع الأفياء خوفاً من الفضل فقد كان ذلك ولكني لم أكن أراك هناك وإن أولى الناس أن لا يعير أحداً باستخفاف الفضل لانت فقال ابن الزيات هذا شر من ذلك ونهض من مجلسه وقال احجبوه عني فكان العلاء يأتي بابه كل يوم فيقف حتى ينصرف الناس ثم يمضي فلما رأى ابن الزيات صبره وأدبه صالحه وخالصه وأراد العلاء بقوله فإن أولى الناس أن لا يعير أحداً باستخفاف الفضل لانت إن الفضل رأى على ابن الزيات سواداً فأمر بتمزيقه عليه وقال لا تتشبه بأصحاب السلطان وأرباب المراتب ثم لم تطل مدة الأيام والليالي حتى قلد ابن الزيات الوزارة وجلس الفضل بن سهل بين يديه وكان ابن الزيات ملياً بعلم الأدب كاتباً شاعراً لا يشق في شيء منها غباره ولا تدرك آثاره يحكي في سبب تقدمه بعد أن كان يتولى قهرمة الدار ويسرف على المطبخ إنه ورد على المعتصم كتاب البريد يخبر فيه إن بلاد الجبل نزل بها مطر عظيم كثر منه الكلا فقال المعتصم لأحمد بن عمارة وكان متقلد العرض عليه ما الكلا قال لا أدري فقال المعتصم إنا لله وإنا إليه راجعون أخليفة أمي وكاتب عامي ثم قال من يقرأ لنا الكتاب فعرف بمكان محمد بن عبد الملك الزيات فطلبه فلما مثل بين يديه قال له ما الكلا قال النبات كله رطبه ويابسه فالرطب خاصة يقال له العشب واليابس خاصة يقال له الحشيش ثم اندفع في وصف النبات من ابتدائه إلى انتهائه فهذا هو السبب لما ذكرناه ومن ممادح أهل هذه الصناعة ... الآخذين بأعنة الفصاحة والبراعة وصف مسلم بن بلال بني العباس وقد سئل عنهم فقال أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون وبلسان النبوة ينطقون ومدح خالد بن صفوان رجلاً ببراعة المنطق فقال كان والله جزل الألفاظ عزيز مقال اللسان فصيح ما خذ البيان رقيق حواشي الكلام بليل الريق قليل الحركات ساكن الاشارات ومدح أعرابي رجلاً فقال فلان أخذ بزمام الكلام فقاده أسهل مقاد وسافه أجمل مساق

ولأبي إسحق الصابي في الوزير أبي محمد المهلبي رحمه الله تعالى

فاسترجع به القلوب الجامحة واستصرف به الأبصار الطامحة ووصف ابن المقنع بليغاً فقال ما زالت ينابيع حكمه تترقرق في مغابن الآذان حتى أعشبت بها القلوب عقولاً وقد ألم بهذا المعنى المتنبي في قوله نطق إذا ما القول حط لئامه ... أعطى بمنطقه القلوب عقولا ولأبي إسحق الصابي في الوزير أبي محمد المهلبي رحمه الله تعالى قل للوزير أبي محمد الذي ... قد أعجزت كل الورى أوصافه لك في المحافل منطق يشفي الجوى ... ويسوغ في أدب الأريب سلافه فكانّ لفظك لؤلؤ متنحل ... وكأنما آذاننا أصدافه قيل فلان إذا أنشأ وشى وإذا عبر حبر فلان إذا أنشأ انتثرت زهرات الآداب من عذوبة لسانه وإذا أنشد حرك ذا الوقار طرباً باحسانه لله در فلان ما أسبط لسانه وأطول عنانه وأفصح بيانه وأجود افتنانه أبو عبادة البحتري يصف بليغاً حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفق وقليبها في قلبه كالروض مؤتلفاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه وكأنها في السمع معقود بها ... شخص الحبيب بد العين محبه ولبعض شعراء العصر مقال تفدّيه أوائل وائل ... وتفديه أحقاباً أعارب يعرب هو الزهر الغض الذي في كمامه ... أو اللؤلؤ الرطب الذي لم يثقب

الفصل الثاني من الباب الخامس

آخر قول هو الماء لذ مطعمه ... وكل قول سواه كالزبد وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي أربة في القول جداً ولا هزلا آخر كلام كوقع القطر في المحل يشتفى ... به من جوى في باطن القلب لاصق الفصل الثاني من الباب الخامس في يتحلى به ألباب الأدباء فيما يتحلى به ألباب الأدباء ... من بلاغات الكتاب والخطباء ولنورد امام هذا الفصل نبذة يسيرة في حد البلاغة وأقسامها والطريق الذي يوصل سلوكه إلى معرفة نقصها أو تمامها قال العتابي واسمه كلثوم بن عمرو البلاغة اظهار ما غمض عن الخلق وتصوير الباطل في صورة الحق وقال علي بن عيسى الرماني أبلغ الكلام ما حسن ايجازه وكثر اعجازه وتساوت صدوره وأعجازه وقالوا البلاغة ايصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ وقيل لبعض البلغاء من البليغ قال الذي إذا قال أسرع وإذا أسرع أبدع وإذا أبدع حرك كل نفس بما أودع وقالوا لا يستحق الكلام اسم البلاغة حتى لا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك وقال عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان الحمار البلاغة ما رضيته الخاصة وفهمته العامة

والعرب سباق حلبة البيان ... يعترف لهم بذلك فصحاء كل زمان قال بعضهم نحن أمراء الكلام فينا وشجت عروقه وعلينا تدلت غصونه فنحن نجني منها ما احلولي وعذب ونترك ما املولح وخبث وقال الجاحظ ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع ولا آنق في الأسماع ولا أقود للطباع ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من كلام الأعراب الفصحاء العقلاء وسئل بعض البلغاء أيما أشرف العرب أو العجم فقال العرب أحلى وأحلم وأعلى وأعلم وأقوى وأقوم وأنكى وأنكر وأذكى وأذكر وأعطى وأعطف وأحصى وأحصف وأبلى وأبلغ وأسمى وأسمح وأشرى للفخار وأشرف وأنفى للعار وآنف وسال كسرى الحرث بن كلدة لما وفد عليه ما الذي يحمد من أخلاق العرب ويحفظ من مذاهبهم فقال لهم أنفس سخية وقلوب جرية وعقول صحيحة وأنساب صريحة يمرق الكلام من أفواههم مروق السهم من الرمية أعذب من الماء وأرق من الهواء يطعمون الطعام ويضربون الهام عزهم لا يرام وجارهم لا يضام ولا يروع إذا نام فمن وشائع ألفاظهم البارعة ... وبدائع معانيهم الرائعة ما يحكى أن أعرابياً قال عند ضجره في طلب الرزق والله لقد تقلبت بي الأسباب وقرعت جميع الأبواب واضطربت غاية الاضطراب وسافرت حتى بلغت منقطع التراب ورضيت من الغنيمة بالاياب فما رأيت الحرمان إلا فائضاً والنحج إلا غائضاً واعترضت أعرابية المنصور بطريق مكة بعد موت السفاح فقالت يا أمير المؤمنين قد أحسن الله إليك في الحالتين وأعظم عليك النعم في المنزلتين سلبك خليفة الله وافادك خلافة الله فاحتسب عند الله ما سلبك وأشكر له ما منحك ووقف أعرابي على قوم يسألهم فقال يا أرباب الوجوه الصباح والعقول الصحاح والصدور الفساح والنفوس السماح والألسن الفصاح والمكارم الرباح هل فيكم من يسمع كلامي فيعذرني من مقامي ووقف أعرابي بقوم فقال يا قوم أشكو إليكم زماناً كلح لي بوجهه وأناخ علي بكلكله بعد نعمة من البال وثروة من المال وغبطة من الحال اعتورتني جديداه بنبال مصائبه عن قسي نوائبه فما تركا لي ثاغية أجتدي ضرعها ولا راغية أرتجي نفعها فهل فيكم معين على صرفه أو معد على حيفه فردوا عليه ولم

ينيلوه شيأً فولي عنهم وهو يقول قد ضاع من يأمل من أمثالكم ... جوداً وليس الجود من أفعالكم لا بارك الله لكم في مالكم ... ولا أزاح السوء عن عيالكم فالموت خير من صلاح حالكم ومن كلامهم في الأوصاف وصف أعرابي امرأة فقال هي السقم الذي لا برء منه والبرء الذي لا سقم معه أسهل من الماء وأبعد من السماء ووصف آخر امرأة فقال كاد الغزال يكونها لولا ما نقص منه وتم منها وقال آخر سبقنا الحي وفيهم أدوية السقام فقرأن بالحدق السلام وخرست الألسن عن الكلام وقال آخر خرجت حين انحدرت النجوم وسالت أرجلها فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر وأرسل أعرابي ولده في حاجة فرجع خائباً فسأل عن سبب خيبته فقال أتيت سوق الظما فبكت السماء وضحك البرق وقهقه الرعد فخفت الهاطلة فرجعت وصف أعرابي مصيبة فقال إنها مصيبة تركت سود الرؤس بيضاً وبيض الوجوه سوداً وقيل لبعض الأعراب هل عندكم في البادية طبيب قال كلا إن حمر الوحش لا تحتاج إلى بيطار وقيل لأعرابي كيف حالك فقال أمزق ديني بالذنوب وأرقعه بالاستغفار وقيل لأعرابي مالك من فلان قال وجه صبيح وصدر فسيح وقلب نصيح ونسب صريح وخلق صحيح وسعي نجيح ووعد مريح ملح من بدائع ألفاظ الكتاب الأفاضل ... الهادي حلال سحرها بحرام سحر بابل ولنورد امام ذلك كلاماً في فضل الكتابة كافياً وللكتاب من أدواء الخمول شافياً قلت الكتاب ساسة الملك وعماده وأركان قراره وأطواده بأقلامهم تبسط الأرزاق وتقبض الآجال وبأحلامهم تصان المعاقل إذا عجز عن صونها الرجال وقالوا الكاتب مالك الملك يصرفه بقلم الانشاء حيث شاء وقالوا لو أن في الصناعات صناعة مربوبة لكانت الكتابة ربا لكل صناعة وقالوا الكتابة قطب الأدب وفلك الحكمة ولسان ناطق بالفضل وميزان يدل على رجاحة العقل وبالكتاب

قامت السياسة والرياسة وإليهم ألقى تدبير الأعنة والأزمة وعليهم يعتمد في حصر الأموال وانتظام شتات الأحوال شاعر قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب ... ثم استمدّوا بها ماء المنيات نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال مجدّ المشرفيات آخر قوم إذا خافوا عداوة إمرئ ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام ولضربة من كاتب ببنانه ... أمضى وأنفذ من رقيق حسام قال ابن المقفع الملوك أحوج إلى الكتاب من الكتاب للملوك ومن فضل الكتابة إن صاحب السيف يزاحم صاحب القلم في قلمه ولا يزاحمه الكاتب في سيفه فمن موجز بلاغتهم ... ومعجز صياغتهم ما كتب به للنبي صلى الله عليه وسلم من كتاب أما بعد فكأننا في الثقة بك منك وكأنك في الرقة علينا منا. لا نالم نرجك في أمراً لا نلناه ولا خفناك عليه إلا أمناه ومن بليغ مكاتبتهم ما كتب به يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد وقد بلغه تلكؤه في بيعته أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام ومنها ما كتب به عبد الحميد لرجل بالوصاية على إنسان حق موصل هذا الكتاب إليك كحقه علي إذ رآك موضعاً لأمله ورآني أهلاً لحاجته وقد أنجزت حاجته فحقق أمله ومنها ما ذكر أن المأمون قال لعمرو بن مسعدة اكتب إلى عاملنا فلان كتاب عناية بانسان في سطر واحد فكتب هذا كتاب واثق بمن كتب إليه معتن بمن كتب له ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله

ومن بدائعها ما كتب به أبو بكر الخوارزمي جواباً عن هدية وصلت التحفة ولم يكن لها عيب إلا أن باذلها مسرف في البر وقابلها مقتصد في الشكر والسرف مذموم إلا في المجد والاقتصاد محمود إلا في الشكر والحمد وكتب ابن العميد إلى محمد ابن يحيى يستعطفه من رسالته وما أحسبنا اشتركنا إلا في الاسم فقط وشتان بين محمد ومحمد فلو كنا السماكين لكنت الرامح وكنت الأعزل ولو كنا النسرين لكنت الطائر وكنت الواقع ولو كنا السعدين لكنت السعود وكنت الذابح أخذه من قول الفرزدق وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى ... كثيراً ولكن لا تلاقي الخلائق وكتب أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمداني بديع الزمان يستعطف أيضاً إني خدمت مولاي والخدمة رق بغير اشهاد وناصحته والمناصحة للمودة أوثق عماد ونادمته والمنادمة رضاع ثان وطاعمته والمطاعمة نسب دان وسافرت معه والسفر والاخوة رضيعاً لبان وقمت بين يديه والقيام والصلاة شريكاً عنان وأثنيت عليه والثناء من الله بمكان وأخلصت له والاخلاص مشكور بكل لسان وكتب أبو العيناء إلى أبي الوليد يستجديه مسناً وأهلنا الضر وبضاعتنا الود والشكر فإن لم تعطنا فلسنا ممن يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون وأبو العيناء كما قال فيه محمد بن مكرم وقد سئل عنه من زعم أن عبد الحميد أكتب من أبي العيناء إذا أحس بكرم أو شرع في طمع فقد ظلم وبعث ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يتوعده فيه ويتهدده فأمر الكتاب أن يكتبوا جوابه فكتبوا فلم يعجبه مما كتبوا شيأً فقال لبعضهم اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار ومن محاسن لطائفهم ما حكى إن الرشيد قال ليحيى بن خالد إني أردت أن أجعل الخاتم الذي في يد الفضل إلى جعفر فاحتشمت منه فاكفنيه فكتب يحيى إلى الفضل قد أمر أمير المؤمنين أعلى الله قدره وأنفذ أمره أن ينقل خاتمه من

ولنذكر من كلام الخطباء ذوي البراعة واللسن ما كان ذا لفظ بديع

يمينك إلى شمالك فأجاب الفضل قد سمعت ما قال أمير المؤمنين في أخي وما انتقلت عني نعمة صارت إليه ولا غربت عني رتبة طلعت عليه فانظر إلى هذه المآثر والمكارم التي هي للجباه غرر وللثغور مباسم ومن ملحهم ما كتبه أبو العير وهو أحمد بن محمد بن عبد الله الهاشمي تقليداً لأبي العجل يا أبا العجل وفقك الله وسددك وإلى كل خير أرشدك وليتك خراج ضياع الهواء ومساحة الفضاء وكيل ماء الأنهار وعد ورق الأشجار وطرار الأوبار وصدقات البوم وقسم الشوم بين الهند والروم وأجريت لك من الأرزاق ما يقوم بأودك في الانفاق بغض أهل حمص لأهل العراق وأمرتك أن تجعل عيالك بنيسان واصطبلك بهمدان ومطبخك بحران وبيت مالك بسجستان وديوانك بغانه ومجلسك بفرغانه وخلعت عليك خفي حنين وقميصاً من شين وسراويل من دين وعمامة من مخنة عين وحملتك على حمار مقطوع الذنب والاذنين مكسور اليدين والرجلين فدر في عملك كل يوم مرتين واحمد الله على ما ألهمنا فيك وقابلنا بالشكر على ما نوليك ولنذكر من كلام الخطباء ذوي البراعة واللسن ما كان ذا لفظ بديع ومعنى حسن بعد أن نورد في شرف الخطابة والخطباء كلاماً يمتزج بالقلوب امتزاج الماء بالصهباء قال الله تعالى في حق داود عليه السلام مبيناً عن شرف ما أجزل له في العطاء وأطاب وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ذكر أن فصل الخطاب هو أما بعد في الخطبة وأنه أول من قالها وقالت العرب إن أول من قالها قس بن ساعدة الأيادي وأول من خطب لقمان بعدد أود عليه السلام وبه يضرب المثل في الحكمة والموعظة الحسنة وفي الحديث إن شعيباً خطيب الأنبياء وفي المثل أخطب من قس هو قس بن ساعدة الأيادي ولأياد وتميم شرف ليس لأحد من العرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم روى كلام قس وموعظته بعكاظ وهذا استناد تعجز عنه أماني الرجال وتنقطع دونه الآمال وبذلك كان خطيب العرب قاطبة

ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الخطب التي حكمت فصاحتها بالعي لقس

وأما تميم فإن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمرو بن الأيهم عن الزبرقان واسمه حصين بن بدر فأجابه بكلام مدحه فيه بما فيه فلم يرض الزبرقان باقتصاره على ما قال ورأى أنه غض منه وإنها عثرة لا تقال فقال في الحالة الراهنة كلاماً ذمه فيه بما فيه فصدق في الأول ولم يمن في الثاني فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لسرعة فهمه وتحريه الصدق في مدحه وذمه وقال في وصف كلامه ما هو به أحرى عطفاً على قوله للبيدان من الشعر لحكماً وغن من البيان لسحراً قال قيس بن عامر يمدح قوماً بالخطابة خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن وقال آخر يفتخر بقومه في المعنى وإني من قوم كرام أعزة ... لاقدامهم صيغت رؤس المنابر وقال أبو العباس الأعمى واسمه السائب ابن فروخ مادحاً لبني أمية بالخطابة في المعنى أيضاً خطباء على المنابر فرسا ... ن عليها وقالة غير خرس لا يعابون صامتين وإن قا ... لوا أصابوا ولم يقولوا بلبس والخطابة جزالة اللفظ وشدة المعارضة وقال الجاحظ رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الأعراب وبهاؤها تخير اللفظ والمحبة مقرونة بالايجاز وقال ابن أبي دواد تلخيص المعاني رفق والاستعانة بالغريب عجز والتشادق بغض والنظر في عيون الناس عي ومس اللحية هلك والخروج مما بنى عليه أول الكلام اسهاب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الخطب التي حكمت فصاحتها بالعي لقس والفهاهة لسحبان ورجعت خاسئة عن مجاراتها في ميدان البلاغة سوابق الأذهان غير أنا

نورد منها في هذا المكان قطرة من سحابها الصائب لنصيب الغرض المقصود إصابة الهدف السهم الصائب خطب عليه الصلاة والسلام فقال أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم الأوان المؤمن بين مخافتين بين أجل قد قضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن ديناه لآخرته ومن الشبيبة قبل الهرم ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت مستعتب وما بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار فيالها كلمات لو صادفت سمعاً واعياً وقلباً لجناب الله داعياً وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد غشي المسلمين بمصيبتهم به ما غشيهم فقال أيها الناس من كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت إن الله اختار لنبيه ما عنده على ما عندكم وقبضه إلى ثوابه وخلف فيكم كتاب الله وسنته فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر ثم تلى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية ثم قال أشهد إن الكتاب كما أنزل وأن الحديث كما حدث وإن الله حي لا يموت وإنا لله وإنا إليه راجعون وكان إذا فرغ من خطبته يقول اللهم اجعل خير زماني آخره وخير عملي خواتمه وخير أيامي يوم لقائك وكان عمر يقول آخر خطبته اللهم لا تدعني في غمرة ولا تأخذني على غرة ولا تجعلني من الغافلين وخطب علي رضي الله عنه فقال أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بوداع وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع وإن المضمار اليوم وغداً السباق فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمول

وخطب معاوية رضي الله عنه في يوم شديد الحر فقال بعد التحميد إن الله خلقكم فلم ينسكم ووعظكم فلم يهملكم فقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وخطب يزيد بن معاوية بعد موت أبيه فقال الحمد لله ما شاء صنع من شاء أعطى ومن شاء منع ومن شاء خفض ومن شاء رفع إن أمير المؤمنين معاوية كان حبلاً من حبال الله تعالى مده ما شاء أن يمده ثم قطعه حين أراد قطعه وكان دون من قبله وخير من بعده ولا أزكيه عند ربه وقد صار إليه فإن يعف عنه فبرحته وإن يعاقبه فبذنبه وقد وليت الأمر بعده ولست أعتذر من جهل ولا آسى على طلب علم وعلى رسلكم إذا كره الله شيأً عسره وإذا أراد أمراً يسره وخطب سليمان بن عبد الملك فقال ألا إنما الدنيا دار غرور ومنزل باطل تضحك باكياً وتبكي ضاحكاً وتخيف آمناً وتؤمن خائفاً وتفقر مثرياً وتثري فقيراً اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس ظلام الليل إذا عسعس وخطب عمر بن عبد العزيز فقال أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم وأصلحوا دنياكم تصلح لكم آخرتكم وإن أمر أليس بينه وبين آدم أب حي لعريق في الموتى وكان يقول في آخر خطبته اللهم إن ذنوبي عظمت عن أن تحصى وهي صغيرة في جنب عفوك فاعف عني وخطب في زواج فقال الحمد لله ذي الكبرياء وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء أما بعد فإن الرغبة منك دعتك إلينا والرهبة منا فيك أجابت وقد زوجناك على كتاب الله وسنة رسوله إما إمساك بمعروف أو تسريح باحسان وخطب السفاح لما قتل مروان بن محمد وبويع فقال ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار الآية ثم قال نكص بكم يا أهل الشام آل حرب وآل مروان ماذا يقول زعماؤكم يقولون ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار إذا يقول الله وفاء بما وعد لكل ضعف ولكن لا تعلمون إما أنا فقد غفرت لكم الزلة وبسطت لكم الاقالة وعدت بفضلي على نقصكم وبحلمي على جهلكم فليسكن روعكم ولتطمئن بكم داركم ولتعظكم مصارع أولئكم فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا

وخطب المنصور فقال أحمد الله حمده وأستعينه وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أيها الناس اتقوا الله فقام إليه رجل وقال اذكرك من ذكرتنا به وأنت في ذكره يا أمير المؤمنين فقال المنصور مرحباً مرحباً لقد ذكرت جليلاً وخوفت عظيماً وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم والموعظة منابدت ومن عندنا خرجت وفي رواية قال سمعاً وطاعة لمن سمع عن الله وذكر به وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ثم التفت إلى الرجل وقال وأما أنت يا قائلها فوالله ما الله أردت بهذا ولكن ليقال قام فلان فقال فعوقب فصبر وأهون بها من قائل لو كانت وأنا أنذركم أيها الناس اختها فإن الموعظة الحسنة علينا نزلت وفينا ثبتت ثم قال رحم الله امرأ نظر في دنياه لآخرته فمشى القصد وقال القصد وجانب الهجر ثم أخذ بقائم سيفه وقال إن بكم داء هذا شفاؤه وأنا زعيم لكم بشفائه فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به فما بعد الوعيد إلا الايقاع وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وخطب المامون في يوم عيد فقال أيها الناس عظم قدر الدارين وتباين جزاء العالمين وطالت مدة الفريقين الله الله إنه الجد لا اللعب والحق لا الكذب وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والصراط والقصاص والثواب والعقاب فمن نجا يومئذ فقد فاز ومن هوى فقد خاب الخير كله في الجنة والشر كله في النار فلله هذه الكلمات ما أجلاها لصد الذنوب وأحلاها وقعاً في القلوب ولم تزل خلفاء بني العباس يخطبون على المنابر في الجمع والأعياد وآخر من فعل ذلك منهم الراضي خطب العمال قال الشعبي ما سمعت أحداً يتكلم إلا تمنيت أن سكت مخافة أن يخطئ إلا زياداً فإنه كان لا يزداد اكثاراً إلا ازداد احساناً خطب فقال أيها الناس لا يمنعنكم سوء ما تعلمون أن تنتفعوا منا بأحسن ما تسمعون فإن الشاعر يقولرجل وقال وأما أنت يا قائلها فوالله ما الله أردت بهذا ولكن ليقال قام فلان فقال فعوقب فصبر وأهون بها من قائل لو كانت وأنا أنذركم أيها الناس اختها فإن الموعظة الحسنة علينا نزلت وفينا ثبتت ثم قال رحم الله امرأ نظر في دنياه لآخرته فمشى القصد وقال القصد وجانب الهجر ثم أخذ بقائم سيفه وقال إن بكم داء هذا شفاؤه وأنا زعيم لكم بشفائه فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به فما بعد الوعيد إلا الايقاع وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وخطب المامون في يوم عيد فقال أيها الناس عظم قدر الدارين وتباين جزاء العالمين وطالت مدة الفريقين الله الله إنه الجد لا اللعب والحق لا الكذب وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والصراط والقصاص والثواب والعقاب فمن نجا يومئذ فقد فاز ومن هوى فقد خاب الخير كله في الجنة والشر كله في النار فلله هذه الكلمات ما أجلاها لصد الذنوب وأحلاها وقعاً في القلوب ولم تزل خلفاء بني العباس يخطبون على المنابر في الجمع والأعياد وآخر من فعل ذلك منهم الراضي خطب العمال قال الشعبي ما سمعت أحداً يتكلم إلا تمنيت أن سكت مخافة أن يخطئ إلا زياداً فإنه كان لا يزداد اكثاراً إلا ازداد احساناً خطب فقال أيها الناس لا يمنعنكم سوء ما تعلمون أن تنتفعوا منا بأحسن ما تسمعون فإن الشاعر يقول اعمل بقولي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري

كذا وقعت لي هذه الحكاية ثم وجدت بعد ذلك في بعض التعاليق هذا البيت منسوباً للخليل بن أحمد ويجوز أن يكون الخليل أنشده متمثلاً به والله أعلم وقال بعد انشاده البيت اسمعوا قولي هذا وعوه فإنما علي ما حملت وعليكم ما حملتم وخطب مصعب بن الزبير لما قدم العراق والياً عليه من قبل أخيه عبد الله فقال بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبا موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون وأشار بيده نحو الشأم والحجاز والعراق إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين وأشار بيده نحو الشأم يريد عبد الملك بن مروان ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض وأشار نحو الحجاز يريد أخاه عبد الله ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وأشار نحو العراق يريد أجناد عبد الملك وكان الحجاج من الفصحاء البلغاء قال الشعبي كنت ممن شاهده على المنبر ما رأيت أحداً أبين من الحجاج إن كان ليرقى المنبر فيذكر احسانه إلى أهل العراق وصفحه عنهم وإساءتهم عليه حتى أقول في نفسي إني لأحسبه صادقاً وإني لأظنهم كاذبين خطب فقال أما بعد فإن الله كتب على الدنيا الفناء وكتب على الآخرة البقاء ولا بقاء لما كتب عليه الفناء ولا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة وأقصروا طول الأمل بقصر الأجل قال الشعبي كلام حكمة خرج عن قلب خرب وخطب سليمان بن علي بالعراق لما قتلت الأمويون فقال ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين قضاء مبرم وقول فصل وما هو بالهزل الحمد لله الذي صدق عبده وأنجز وعده وبعدا للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضاً والفئ ارثاً وجعلوا القرآن عضين لقد جاءهم ما كانوا به يستهزؤن فكأين من قرية أهلكتها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد

ذلك ما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد أمهلوا والله حتى نبذوا الكتاب والسنة واعتدوا واستكبروا وخاب كل جبار عنيد ثم أخذتهم فكيف كان نكير فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً وخطب داود أخوه بالمدينة فقال أيها الناس حتام يهتف بكم صريحاً أما آن لراقدكم أن ينتبه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون أغركم الامهال حتى حسبتموه الاهمال هيهات منكم وكيف بكم والسوط والسيف مشيم ثم أنشد حتى تبيد قبيلة وقبيلة ... ويعض كل مثقف بالهام ويقمن ربات الخدور حواسراً ... يمسحن عرض نواصي الأيتام قال الجاحظ داود وسليمان من أفصح خطباء بني هاشم كانا في البيان فرسي رهان إلا أن داود أفتق لساناً وأروق بياناً وكان لا يتقدم في تحرير خطبة قط وواجب أن يكون بهذا الفصل لاحقاً ... ذم من ظل بمستثقل التقعير ناطقاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الثرثارون الذين يتكلمون بالكلام تكلفاً وتجاوزاً وخروجاً عن الحد من قولهم نهر ثرثار لكثرة مائه والمتفيهقون تأكيد وهو مأخوذ من قولهم فهق الغدير يفهق إذا امتلا وقال بشر بن المعتمر إياك والتقعير فإنه يسلمك إلى التعقيد فتستهلك معانيك ويمنعك من اصابة مراميك وقلل بعض البلغاء أحذركم والتعمق في القول والتكلف وعليكم بمحاسن الألفاظ والمعاني المستخفة المستملحة فإن المعنى المليح إذا كسى لفظاً حسناً وأعاره البليغ مخرجاً سهلاً كان في قلب السامع أحلى ولصدره أملى وقال بعض الحذاق إياك والنحو بين العامة فإنه كاللحن بين الخاصة وما أحسن قول أبي عمرو بن العلاء في نحو هذا المعنى لعمرك ما اللحن من شيمتي ... ولا أنا عن خطأ ألحن ولكنني قد قسمت الكلام ... أخاطب كلاً بما يحسن

وقالوا خير الكلام ما لم يكن عامياً سوقياً ولا عربياً وحشياً وقال أبو الأسود الدؤلي لولده يا بني إذا كنت في قوم فلا تكلمهم بكلام لم يبلغه سنك فيستثقلوك ولا بكلام هو دونك فيزدروك ويحتقروك فمن بوارد نوادر المتقعرين ... وشوارد بوادر المتفيهقين ما حكى عن أبي علقمة النحوي أنه هاج به دم فأتى بحجام فقال يا هذا اشدد قصب المحاجم وأرهف ظبة المشارط وأسرع الوضع وعجل النزع وليكن شرطك وخزاً ومصك نهزاً ولا تكرهن آتياً ولا تردن آبياً فقال له الحجام جعلت فداك إن هذه الصنعة لا أحسنها وهذه حرب لا يشب نارها ولا يشق غبارها إلا عمرو بن معد يكرب ثم تركه وانصرف ولم يحجمه ومن أظرف ما ينسب إليه ما يحكى عنه أنه هاج به يوماً مرار فسقط على وجهه وأقبل قوم يعضون ابهامه وقوم يؤذنون في أذنه ظناً منهم أنه مصروع فلما أفاق من غمرات غشيته رآهم محدقين به فقال مالي أراكم تتكأكؤن علي تكأكأكم على ذي جنة افرنقعوا عني فقال بعضهم لبعض دعوه فإن جنيته تتكلم بالهندية اشترى الفضل بن الحباب جارية فوجدها ضيقة المسلك فقال يا جارية هل من بساق أو بزاق أو بصاق لان العرب تبدل السين صاداً وزاياً فقالوا صقر وسقر وزقر فقالت الجارية الحمد لله الذي لم يتمنى حتى رأيت حرى قد صار ابن الأعرابي يقرأ عليه اللغة وأتى رجل بع الولاة فقال أعز الله الأمير إن لي ابن أخ أشرأً بطراً قد انضوى إلى كل سكير وخمير عمد إلى عود فنحته وإلى معي فقضبه فطن وطنطن حتى فطن به فأحب عقوبته حتى ينتهي عن ذلك فتقدم الأمير باحضاره فلما مثل بين يديه قال له يا ابن أخي ألم أطعمك ألذ الطعام ألم أسقك أطيب الشراب قال بلى يا عم قال مالك والتعدي أضجعوه وجئوا عنقه فالتفت إليه الشاب وقال والله يا عم لوقع السياط على بدني أحب إلي من وقع كلامك في أذني فضحك منه الأمير وأطلقه أنشد العجاج وأعرابي حاضر عند الوليد بن عبد الملك أمست الغانيات ترمي صدوداً ... وأراني للغانيات مصيدا

الفصل الثالث من الباب الخامس

فقال الأعرابي للعباس بن الوليد تنح عنه لئلا تسقط عليك من فيه كلمة فتشدخك ومن أجل هذا النادر استثقل التقعير أهل الرشاقة في الألفاظ والحلاوة وقادوا طباعهم إلى اللطافة والطلاوة فقالوا متى كان اللفظ كريماً في نفسه متخيراً في جنسه وكان سليماً من التقعير والتعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان والتحم بالعقول وهشت له الأسماع وارتاحت إليه القلوب وخف على ألسنة الرواة حمله وشاع في الآفاق ذكره ومدحوا التارك للتقعير فقالوا فلان لم يرض بالتكليف مذهباً ولا اتخذ التصنع مركباً وقالوا فلان له ألفاظ لا يشوبها كدر العي ولا يطمس رونقها التكلف ولا يمحو طلاوتها التفيهق أعذب من الماء وأبعد من السماء الفصل الثالث من الباب الخامس في إنّ معرفة حرفة الأدب مانعة من ترقى أعالي الرتب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ازداد الرجل حذقاً في صنعة إلا كان ذلك نقصاً من رزقه وقالوا المتقدم في الحذق متأخر في الرزق وقالوا حرفة الأدب أعدى لصاحبها من الجرب وقالوا الرزق عند ذوي الأدب أروغ من ثعلب ومن أمثال عوام بغداد جهل يعولني خير من علم أعوله وقال الخليل بن أحمد إذا كثر الأدب قل خيره وإذا كثر خيره كثر ضيره وقال أبو بكر الخوارزمي في هذا المعنى إن سرك حرمان ... به تصبح مقليا فكن ذا أدب جزل ... وكن مع ذاك نحويا

ويقال حرفة الأدب لا يسلم من حرمانها أديب وقالوا التأديب تعذيب وأنشد الخليل بن أحمد ما ازددت من أدب حرفا أسرّ به ... إلا تزايدت حرفا تحته شوم إنّ المقدّم في حذق بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم وقال ابن رشيق أشقى بجدّك أن تكون أديبا ... أو أن يرى فيك الورى تهذيبا إن كان مستوياً ففعلك أعوج ... يوماً وإن أخطأت كنت مصيبا كالفص ليس يبين معنى نقشه ... حتى يكون بناؤه مقلوبا ابن طباطبا أليس عجيباً أنني مع تسببي ... وشعري ما أعطيت جدّاً ولا حدا وإنّي إذا ما زرت قوماً مسلما ... حجبت فظنوا أنني أبتغي رفدا وقد طال افلاسي وأحسب مثريا ... فأصبحت لا يجدي علي وأستجدي آخر قالوا أديب فأين المال قلت لهم ... قوسي بلا وتر سهمي بلا فوق من لا يكون له جدّ يساعده ... تكون آدابه كالنفخ في البوق ولما خلع المقتدر وبويع عبد الله بن المعتز بن المتوكل ولقب المرتضى بالله أدركته حرفة الأدب فلم يقم في الخلافة غير يومين ثم اضطرب حبله وهطل عليه طل الحرمان ووبله فهرب إلى دار ابن الجصاص التاجر فاختفى عنده ثم أخرج منها إلى القضاة والشهود العدول ميتاً بعد أيام يسيرة وذلك في يوم

الخميس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين فقال فيه ابن بسام من أبيات يرثيه بها لله درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لولا ولا ليت فتنقمه ... وإنما أدركته حرفة الأدب وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى قال لي أبي إذا كتبت كتاباً فالحن فيه فإن الصواب حرفة والخطأ نجح أخذه بعض الشعراء فنظمه في قوله إن كنت يوماً كاتباً رقعة ... تبغي بها نجح وصول الطلب إياك أن تعرب ألفاظها ... فتكتسي حرفة أهل الأدب وقال أبو عبيدة من أراد أن يأكل الخبز بأدبه فلتبك عليه البواكي ولقد أجاد أبو إسحق الصابي في قوله قد كنت أعجب من مالي وكثرته ... وكيف تغفل عني حرفة الأدب حتى انثنت وهي كالغضبا تلاحظني ... شزراً فلم تبق لي شيأً من النشب واستيقنت أنها كانت على غلط ... واستدركته وأفضت بي إلى الحرب الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... وليس يرجى اجتماع الفضل والذهب والسبب في حرمان الأدباء ... موهبة الخط وخمول النجباء ما ذكره بعض المنصفين منهم في قوله إن ذا الأدب لا يزال متسخطاً على دنياه ذاماً لحاله لما يرى من ميل الزمان للئامه وجهاله فهو لا يمدحهم لعلمه بقصورهم عن ادراك منظومه ولا يثاب إما بجهل ممدوحه وإما من إفراط بخله الناتج عن لومه وقيل للحسن البصري لم صارت الحرفة مقرونة بمن جعل العلم والأدب شعاراً والثروة بمن كساه الجهل والحمق عاراً فقال ليس القول كما قلتم ولا الأمر كما زعمتم ولكنكم طلبتم قليلاً في قليل فأعجزكم طلبتم المال وهو قليل عند أهل العلم والأدب وهم قليل ولو نظرتم إلى من تحارف من أهل

وربما أعدت حرفة الأدب أهل الوراقة

الجهل لوجدتموهم أكثر اقتاراً والمال عنهم أشد نفاراً وقال أبو الحسن علي المعروف بابن البغل متضجراً من الخمول الدهر ضدّ ذوي الفضائل كلهم ... حتى كأنّ عدوّه من يفهم لو كنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم آخر يطرى لأهل الفضل دون الورى ... مصائب الدنيا وآفاتها كالطير لا يحبس من بينها ... إلا التي تطرب أصواتها الخدلجي قل عني غناء عقلي وديني ... ودخولي في العلم من كل باب أدركتني وذاك أعظم دائي ... حسنات من حرفة الآداب آخر قد عقلنا والعقل شر وثاق ... وصبرنا والصبر مرّ المذاق إنّ من كان فاضلاً كان مثلي ... فاضلاً بعد قسمة الأرزاق وربما أعدت حرفة الأدب أهل الوراقة فأظلتهم منها سحائب الحرمان والفاقة قال أحمد بن عبد الله بن حبيب المعروف بأبي هفان سألت وراقاً عن حاله فقال عيشي أضيق من محبرة وجسمي أدق من مسطرة وجاهي أرهى من الزجاج وحظي أشد سواداً من العفص إذا خلط بالزاج وسوء حالي ألزم لي من الصمغ وطعامي أمر من الصبر وشرابي أكدر من الحبر والهم والألم

يجريان في علقة قلبي مجرى المداد في شق القلم فقلت يا أخي لقد عبرت ببلاء عن بلاء فأنشد المال يستر كل عيب في الفتى ... والمال يرفع كل وغد ساقط فعليك بالأموال فاقصد جمعها ... واضرب بكتب العلم وجه الحائط آخر إنّ الوراقة والتفق ... هـ والتشاغل بالعلوم أصل المذلة والاضا ... قة والمهانة والهموم وأنشدت لأبي النصر بن أبي الفتح كشاجم غبط الناس بالكتابه قوماً ... حرموا حظهم بحسن الكتابه وإذا أخطأ الكتابة حظ ... سقطت تأوه فصارت كآبه وقال إسحق بن إبراهيم بن حمدويه المعروف بالحمدوي ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا ... عنان حظي عما رمت من نعم وحبرت لي صحاف الحبر محبرة ... تذود عني سوام المال والنعم والعلم يعلم أني حين آخذه ... لعصمتي نافر خلو من العصم سمع بعض مجان الأدباء رجلاً يقول لا خير في علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فقال نعم إلا أنه متى لم يكن معه دانق يخرج به بقي رهناً ابن صادة الأندلسي أما الوراقة فهي أنكد حرفة ... أغصانها وثمارها الحرمان شبهت صاحبها بابرة خائط ... تكسو العراة وجسمها عريان

وأنشد أبو منصور عبد الملك بن إسمعيل الثعالبي في اليتيمة لأبي حاتم الوراق إنّ الوارقة حرفة هزلت ... محرومة عيشي بها زمن إن عشت عشت وليس لي أكل ... أو مت مت وليس لي كفن وقال الشريف أبو يعلى بن الهبارية من قصيدته المخمسة التي أولها حي على خير العمل يذم الوارقة تباً لرب المحبره ... يا ويله ما أدبره وعيشه ما أكدره ... ورزقه ما أقتره إن لم تصدّقني فسل آخر أدمى البكا عينيّ والمآقي ... وظلت ذا همّ وذا احتراق ما إن أرى في الأرض والآفاق ... أزرى ولا أشقى من الوراق إذا بدا في القمص الأخلاق ... يفرح بالحبر والأوراق كفرحة الجنديّ بالأرزاق آخر هربت من الوراقة ملء شوطي ... فردّني الزمان إلى الوراقه وترك المرء حرفته فراراً ... لأمر ليس يدريه حماقه

والسبب في حرمان ذوي النباهة ... فقدان أهل الفضل والوجاهة يروى إن عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ذكرت يوماً قول لبيد ذهب الدين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب وقالت لله أبوه ما كان أشعره لقد صدق قالوا وكيف يا أم المؤمنين قالت كان أحدهم إذا علم من أخيه خلة سدها من حيث لا يعلم ثم ذهب أولئك وجاء قوم كان أحدهم إذا علم من أخيه خله سدها من حيث يعلم ثم جاء من بعدهم قوم إذا علم أحدهم من أخيه خلة أحب أن يسأله فإذا سأله أعطاه ثم جاء من بعدهم قوم إذا علم أحدهم من أخيه خلة أحب أن يسأله فإذا سأله منعه ثم بعد ذلك يفضحه فيقول جاء فلان يسألني فلم أعطه ولله در القائل لا يغرّنك اللباس ... ليس في الأثواب ناس هم وإن نالوا الثريا ... بخلاء وخساس كل من يدعى رئيسا ... هو في الخسة راس كم يد تصلح للقط ... ع فتفدى وتباس آخر علام تحرّكي والحظ ساكن ... وما قصرت في طلبي ولكن أرى نذلاً تقدّمه المساوي ... على حرّ تؤخره المحاسن جحظة لي حاجة لو أنها قضيت ... لعشت في خير وظل ظليل حياة من مات وموت الذي ... ليس إلى إحيائه من سبيل

دخل بعض الظرفاء على يحيى بن خالد بن برمك وهو في السجن يريد زيارته فقال له ما تشتهي فقال أن أرى إنساناً فأخذ الرجل المرآة وأراه وجهه فيها فشكر له ذلك ثم أنشده ما أكثر الناس بل ما أقلهم ... الله يعلم أنني لم أقل فندا إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لم أرى أحدا وقيل لسعيد بن المسيب وكان في عينيه ماء ألا تقدح عينيك فقال حتى أنظر بهما إلى من ومثل ذلك ما قاله أبو العيناء معتذراً عن عماه قالوا العمي منظر قبيح ... قلت بفقدي لكم يهون والله ما في الأنام حر ... تأسى على فقده العيون وسأل رجل من رجل حماراً عارية فأخرج له اكافاً وقال له اجعله على من شئت ومر رجل بصديق له فرآه واقفاً على الطريق فقال له ما وقوفك ههنا فقال وقيل لأبي العيناء هل بقى من يلقى قال نعم في البئر ومر ببعض السكك فحبسه إنسان يريد العبث به فقال له أبو العيناء من أنت قال ابن آدم فأقبل يسلم عليه سلام مستوحش وقال عجب والله ما ظننت إلا أن هذا النسل قد انقطع يشير إلى ضياعه من أهل زمانه وقال الشاعر المادحون اليوم أهل زماننا ... أولى من الهاجين بالحرمان ذهب الذين يهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المرّان كانوا إذا مدحوا رأوا ما فيهم ... فالأريحية منهم بمكان وقال بشار بن برد لقد عشت في زمان وأدركت أقواماً لو اختلقت الدنيا ما تجملت إلا بهم وأنا الآن في زمان ما أرى فيه عاقلاً حصيفاً ولا فاتكاً ظريفاً

ولا ناسكاً عفيفاً ولا جواداً شريفاً ولا خادماً نظيفاً ولا جليساً خفيفاً ولا من يساوي على الخبرة رغيفاً وأنشد فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعرف ابن الرومي أيست من دهري ومن أهله ... فليس فيهم أحد يرتضي إن رمت مدحاً لم أجد أهله ... أو رمت هجواً لم أجد عرضا وله قيل لي لم ذممت كل البرايا ... وهجوت الأنام هجواً قبيحا قلت هب أنني كذبت عليهم ... فأروني من يستحق المديحا بعض العرب ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ... هشوا إليّ ورحبوا بالمقبل وبقيت في خلف كان حديثهم ... ولغ الكلاب تهارشت في المنزل ابن منير الطرابلسي قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق فسد الزمان فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق ابن البهاريه خذ جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما في البرية كلها إنسان وإذا البياذق في الدسوت تفرزنت ... فالرأي أن تتبيذق الفرزان

الباب السادس

الباب السادس في العي وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب فيما ورد عن ذوي النباهة في ذم العي والفهاهة قال الله تعالى أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وقال الله تعالى حكاية عن فخر فرعون على موسى بالبيان في قوله أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ذكر أهل التفسير أن موسى عليه السلام لما سمع هذا القول من فرعون قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمرلي واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي فاستجاب الله دعاءه وسمع نداءه فقال قد أوتيت شؤلك يا موسى وحل الله تلك العقدة وأطلق تلك الحبسة حد العي قالوا هو معنى قصير يحويه لفظ طويل وقال أكثم بن صيفي هو أن تتكلم فوق ما تقتضيه حاجتك وقالوا العي الناطق أعيى من العي الساكت لأن المفحم يأتي ما لا يرضاه ويطلب فوق ما في قواه وقالوا العي بلاغة بعي كما ذكر أن ربيعه خطب فأطال وأعجبته نفسه وإلى جانبه أعرابي فالتفت إليه وقال يا أعرابي ما تعدون البلاغة فيكم قال قلة الكلام مع الاصابة قال فما تعدون العي قال ما كن فيه منذ اليوم قال الشاعر وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... هدر الكلام تقوله مختلا واعلم بأنّ من السكوت سلامة ... ومن التكلم ما يكون خبالا

وقال كسرى عي الصمت خير من عي الكلام وقال الجاحظ يذم رجلاً هو والجبن لم أر جباناً أجرأ منه ولا جريأ أجبن منه نظم بعض الشعراء معناه فقال حصر مسهب جرئ جنان ... خير عي الرجال عي السكوت فمما يشين حسان الصور ... العي في البيان والخبر قالوا فضل الانسان على الحيوان بالبيان فإذا نطق ولم يفصح عاد بهيماً ويقال ما لعي مروأة ولا لمنقوص البيان بهاء ولوحك يا قوخه في عنان السماء وقالوا العي داء دواؤه الخرس وتكلم رجل عند معاوية وكان ذا عي فقال عمرو بن العاص سكوت إلا لكن نعمة وقال معاوية وكلام الأحمق نقمة وقالوا البيان بصر والعي عمي والبيان من نتاج العلم والعي من نتاج الجهل يحكى أن رجلاً قام إلى محمد بن عبد الملك الزيات فقال له إني مظلومك فقال هذا كلام يحتاج المشهود وبينة وأشيماء غير ذلك فقال الرجل أصلحك الله الشهود هم البينة والبينة هم الشهود وأشياء غير ذلك حصر وعي وزيادة هي نقص في القيام بحجتك فضحك منه وكشف ظلامته وقيل لبزرجمهر أي شيء أستر للعي قال عقل قالوا فإن لم يكن له عقل قال فمال قالوا فإن لم يكن له مال قال فاخوان يعبرون عنه قالوا فإن لم يكن له اخوان قال يكون شيأً صامتاً كالحجر ولا يلحقه ضرر وقال الشاعر وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن البيان كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجه وليس له لسان آخر والصمت أزين للفتى ... ما لم يكن عي يشينه والقول ذو خطل إذا ... ما لم يكن لب يعينه

وقال الجاحظ لا يعاب الأخرس ولا يلام من استولى على بيانه العجز ويذم الحصر ويؤنب العي وصف أعرابي قوماً بالعي فقال منهم من ينقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه ومنهم من لا يبلغ كلامه أذن جليسه ومنهم من يلج كلامه الاذان فيحملها عبأ ثقيلاً إلى الأذهان قال شاعر ينزه لسانه عن العي وما بي من عي ولا أنطق الخنى ... إذا جمع الأقوام في الخطب محفل آخر وقلنا بلا عي وسنا بطاقة ... إذا النار يوم الحرب طال اشتعالها ومن علامات العي الواضحة ... وسمات اللكن الفاضحة الاستعانة وهو أن يرى المخاطب إذا كل لسانه يقول عند مقاطع كلامه للمخاطب استمع إلي واسمع مني وألست تفهم وافهم عني ومنهم من يقول في خلل كلامه أما قولي كذا فأعني به كذا ولا يريد التفسير ولكن يعمد كلامه بصيغة أخرى تكون غير مراده الأول فبيانه أبداً يقصر عن إيضاح أشكاله وإن أتى بأنواع الكلام وأشكاله وذم بعض البلغاء عيياً فقال قلبه ميت الفطنة ولسانه بادي اللكنة ولفظه ظاهر الهجنة شديد التعاون بين التهافت إذ عصته ولدغته المساجلة والمساورة تثاءب للعطاس وتثاقل للنعاس وتشاغل بمسح اللحية ومس الجبهة وقرع السن وفتل الأصابع فعجزه طاهر وعيه حاضر شاعر في مثل ذلك مليّ ببهر والتفات وسعله ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع ومن علامته التنحنح من غير داء والتثاؤب من غير ريبة والاكباب في الأرض من غير علة

وقال ابن المعتز ومن الكبائر مقول متتعتع ... جم التنحنح متعب متهوّر ومن عيوب اللسانالمزيلة للاحسانالمزريه بقدر الانسان التمتمة والفأفأة والعقلة والحبسة واللفف والرثة والغمغمة والطمطمة واللكنة والغنة واللثغة قال الأصمعي التمتمة إذا تعتع في التاء فهو تمتام وإذا تردد في الفاء فهو فأفاء قال الراجز ليس بفأفاء ولا تمتام ... ولا كثير الهجر في الكلام والعقلة التواء اللسان عند الكلام والحبسة تعذر النطق ولم يبلغ حد الفأفاء ولا التمتام ويقال إنها تعرض أول الكلام فإذا مر فيه انقطعت واللفف ادخال بعض الكلام في بعض قال الراجز كأنّ في فيه لفيفاً إن نطق ... من طول تحبيس وهم وأرق والرثة إيصال بعض الكلام ببعض دون إفادة والغمغمة أن يسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف ولا يفهم معناه والطمطمة أن يكون الكلام شبيهاً بكلام العجم وهي جميرية وقالوا هي إبدال الطاء بالتاء لأنهما من مخرج واحد فيقولون السلتان والشيتان بمعنى السلطان والشيطان وكانت في لسان زياد بن سلمى الأعجم وكان خطيباً شاعراً كاتباً واللكنة هي إدخال بعض حروف العرب في بعض حروف العجم وتشترك فيها اللغة التركية والنبطية وهي إبدال الهاء من الحاء وانقلاب العين همزة وكانت في لسان عبيد الله بن زياد وصهيب الرومي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن مولى لزياد قال أيها الأمير احدوا لنا همار وهش يريد اهدوا لنا حمار وحش فلم يفهم زياد قوله فقال ما تقول ويلك فقال أحدوا لنا ايراً فقال زياد رجعنا إلى الأول فهو خير وحكى الجاحظ إن وازد انقار الفارسي كان له كاتب جلف في لسانه لكنة فأملى عليه يوماً في كتاب انا اعتبرنا الحاصل بالهاء فوجدناه ألف كر فكتبها الكاتب

كما لفظ بها فلما أعاد علمه ما أملاه فطن لاجتماعهما على الجهل فقال أنت لا تهسن أن تكتب وأنا لا أهسن أن أملي فأكتب الجاصل ولا تعجم الجيم والغنة أن يشرب الصوت الخيشوم والخنة ضرب منها والترخيم حذف بعض الكلمة لتعذر النطق به واللثغة قال الجاحظ في كتابه البيان الحروف التي يدخلها اللثغة أربعة وهي القاف والسين والراء واللام فأنني تعرض للقاف فإن صاحبها يجعل القاف طاء فإذا أراد أن يقول قلت وقال قال طلت وطال بمعنى قلت وقال ومنهم من يبدلها كافاً فيقول كلت وكال بمعنى قلت وقال وكانت في لسان أبي مسلم وعبيد الله بن زياد وقال بعض الشعراء في أم ولد له يصفها بذلك أكثر ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر والسوأة السوء في ذكر القمر لأنها كانت إذا أرادت أن تقول القمر قالت الكمر والكمر جمع كمرة وهي حشفة الذكر وأما التي تعرض للسين فإنهم يبدلونها ثاء فيقولون بثم الله إذا أرادوا بسم الله ويثره الله بمعنى يسره الله وهي مستحسنة من الجواري والغلمان وأحسن ما سمع فيها قول بعضهم وأهيف كالهلال شكوت وجدي ... إليه بحسنه وأطلت بثي وقلت له فدتك النفس صلني ... تخر حسن الثواب فقال بثي ومن قبيح الأبدال إبدال الثاء المثلثة بالتاء المثناة وكانت في لسان شعبة وذلك فاش في لغة أهل صعيد مصر وما قبحهم إذا قالوا تلاتة آلاف وتلتمائة وتلاتة وتلاتين وتلت وفي الناس من يبدل الجيم ضاداً وهم من أهل صعيد مصر أيضاً فإذا اجتمع لأحدهم جيم وضاد في كلمة مثل ضج وضجر قالوا جض وجضر بجعل الجيم ضاداً والضاد جيماً وفي الناس من يبدل الخاء المعجمة حاء مهملة فيقول في خوخ حوح وفي خلخال حلحال وهي مستحسنة من الغلمان والجواري

لبعضهم فيمن يلثغ بالراء

وأما التي تعرض في الراء فهي أربعة أحرف فمنهم من يجعلها غيناً معجمة فإذا أرادوا أن يقولوا عمر وقال عمغ وهي غالبة على لسان غالب أهل دمشق والعجب إنه إذا اجتمع لهم راء مع غين في مثل رغيف نطقوا بالراء غيناً وبالغين راء فيقولون غريف ومنهم من يجعلها عيناً مهملة فإذا أراد أن يقول عمرو قال عمع ومنهم من يجعلها ياء فيقول عمي ومنهم من يجعلها زاياً فيقول عمز وهي لغة خسيسة ومنهم من يقولها بالظاء أخت الطاء والأولى كانت في لسان محمد بن شبيب الخارجي والثانية كانت في لسان واصل بن عطا المعتزلي وكان لاقتداره على الكلام يتجنب النطق بها حتى كأنها ليست من حروف المعجم ومن عجيب ما يحكى عنه إنه ذكر بشار بن برد بكلام أسهب فيه وأطنب فلم يأت بكلمة فيها راء وهو أما لهذا الأعمى المكنى بأبي معاذ من يقتله والله لولا أن قتله خلق من أخلاق الغالبة لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه يريد بقوله الأعمى يعني الضرير وقال المكنى بأبي معاذ ولم يقل بشار ولا ابن برد وقال من أخلاق الغالبة ولم يقل المغيرة وقال من يبعج ولم يقل يبقر وقال على مضجعه ولم يقل على فراشه لبعضهم فيمن يلثغ بالراء ويجعل البرغّجا في تصرفه ... وجانب الراء حتى احتال للشعر ولم يقل مطراً والقول يعجله ... فقال بالغيث إشفاقاً من المطر ولبعضهم فيمن يلثع بالراء أيضاً ولثغته لو أن واصل حاضر ... ليسمعها ما أسقط الراء واصل وأما التي تعرض في اللام فإن من أهلها من يبدلها ياء فيقول أعتييت بمعنى اغتللت وبدل جمل جمى وهي أوضعهن لذي المروأة وقوم يجعلون اللام كافاً وهي قبيحة ولا حاجة بناء إلى تكملة بيان هذه الحروف

قد يكون البليغ عييا عند سؤال مطلوبه

قال الجاحظ وليس اللجلاج والتمتام والألثغ والفأفاء وذو الحبسة وذوي اللفف والرثة في سبيل من حصر في خطبته وعيي في مناضلته وخصومته قد يكون البليغ عيياً عند سؤال مطلوبه كالعاشق متى رام شكوى حاله لمحبوبه سئل محمد بن أبي دواد متى يكون البليغ عيياً قال إذا سأل ما يتمناه وشكى حبه إلى من يهواه ثم أنشد بليغ إذا يشكو إلى غيرها الهوى ... وإن هو لاقاها فغير بليغ آخر قالت عييت عن الشكوى فقلت لها ... جهد الشكاية إن أعيا عن الكلم آخر وكم من حديث قد خبأناه للقا ... فلما التقينا صرت أخرس ابكما آخر عي المحب لدى الحبيب بلاغة ... ولربما قتل البليغ لسانه قال بعضهم موطنان لا آنف من العي فيهما إذا شكوت إلى محبوبي عشقي وإذا سألت حاجة لنفسي فإن السائل قد يهاب المسؤل ويتبعه مع الهيبة ذل السؤال ويسأل العتابي رجلاً حاجة فاقلل في كلامه فقال له مالك من طوق في ذلك فقال كيف لا يقل كلامي ومعي حيرة الطلب وذل المسئلة وخوف الرد وحكى أن الفضل بن الربيع سار بعد نكبته إلى أبي عباد واسمه ثابت ابن يحيى يسأله حاجة فارتج عليه فقال يا أبا العباس أبهذا البيان خدمت خليفتين فقال أنا تعودنا أن نسئل ولا نسأل فاستعبر لكلامه ورق لحاله وقضى حاجته

علي بن الجهم إن دون السؤال والاعتذار ... خطة صعبة على الأحرار أرض للسائل الخضوع وللقا ... ذف ذنباً مضاضة الأعذار وأما ما يعتري العاشق المشوق ... من إلا فحام عند رؤية المعشوق فكما قال أبو بكر الصنوبري آية من علامة العشاق ... اصفرار الوجوه عند التلاقي وانقطاع يكون من غير عيّ ... وولوع بالصمت واطراق آخر فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت لا عرف لديّ ولا نكر وأنسى الذي قد كنت فيما أقوله ... كما يتناسى لب شاربها الخمر عمرو بن ربيعة ضلّ عني لشدّة الوجد عقلي ... وجفان الذكا وعيّ لساني ونسيت الذي نظمت من القو ... ل لديها وغاب عني بياني آخر أفكر ما أقول إذا التقينا ... وأحكم دائماً حجج المقال فأنساها إذا نحن التقينا ... فانطق حين أنطق بالمحال

ولبعض الصوفية

ولبعض الصوفية ينوى العتاب له من قبل رؤيته ... فإن رآه فدمع العين مسكوب لا يستطيع كلاماً حين ينظره ... كلّ اللسان وفي الأحشاء تلهيب وقال أبو المعالي شيد له الصبوة والشوق والارتياح والتوق والفراق والتلهف والفوت والتأسف دواع تستأثر الصبر وتحصر عن وصفها للمحبوب ألسنة الحصر ومما يشين البليغ بين أترابه ... عطل بيانه من حلي أعرابه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض وكان أيوب السختياني يقول تعلموا النحو فإنه جمال الوضيع وتركه هجنة للشريف شاعر النحو يصلح من لسان إلا لكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن فإذا أردت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن لحن الشريف يحطه عن قدره ... وتراه يسقط من لحاظ الأعين وترى الدنئ إذا تكلم معرباً ... نال النباهة باللسان المعلن ما وّرث الآباء فيما ورّثوا ... أبناءهم مثل العلوم فأتقن آخر لو لم يكن في النحو إلا أنه ... يذر الضئيل من الرجال مهيبا يخشى التكلم حيث حل كأنما ... أضحى بأفواه الأنام رقيبا وقال عمر تعلموا العربية فإنها تقوي العقل وتزيد في المروأة وقال عبد الملك ابن مروان اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه وسمع المأمون لحناً سن بعض ولده فقال ما على أحدكم أن يتعلم العربية يصلح بها لسانه ويفوق أقرانه ويقيم أوده ويزين مشهده ويقل حجج خصمه بمسكتات حكمه أيسر أحدكم أن يكون كعبده أو أمته فلا يزال الدهر أسير كلمته سمع

الأعمش إنساناً يلحن فقال من هذا الذي يتكلم وقلبي منه يتألم وقال الحسن البصري ربما دعوت فلحنت فأخاف أن لا يستجاب لي وفي الحديث إن الله لا يسمع دعاء ملحوناً والعلماء لا يرون الصلاة خلف اللحنة وكيف لا يكون كذلك وأدنى حركة مغيرة للمعنى مؤدية إلى الكفر قال سعيد بن مسلم دخلت على الرشيد فملأ قلبي رعبه فلما لحن خف علي أمره يحكى أنه لم يسمع من الحسن البصري ولا من الشعبي ولا من أيوب بن الفرية ولا من عبد الملك بن مروان لحن قط في جد ولا هزل وكان سيبويه واسمه عمرو بن قنبر يختلف إلى حماد بن زيد يقرأ عليه الحديث فكان يلحن في قراءته فيرد عليه حماد فأبرمه يوماً لحنه فقال له كم تلحن أمالك مروأة فخجل ووجم فلما قام من مجلسه انقطع إلى الخليل بن أحمد فقرأ عليه النحو فمهر فيه وفاق وسار ذكره في الآفاق وهذه نبذة مستحسنة من التعريف ... بنوا درهم المستظرفة في التحريف قال يوسف بن خالد لعمرو بن عبيد ما تقول في دجاجة ذبحت من قفائها قال أحسن قال من قفاءها قال أصلح قال من قفاؤها قال له عمرو ما عناك بهذا قل من قفاها واسترح وأرح وكان يوسف يقول هذا أحمر من هذا أي أشد حمرة وكان الوليد بن عبد الملك لحنة خطب الناس يوم عيد فقرأ في خطبته يا ليتها كانت القاضية وضم التاء فقال عمر بن عبد العزيز عليك وأراحنا منك ودخل إليه أعرابي وعنده عمر بن عبد العزيز فقال له من أنت ووصل الهمزة فظن الأعرابي أنه يقول مننت فقال المنة لله ولأمير المؤمنين فقال عمر للأعرابي إن أمير المؤمنين يقول لك من أنت قال فلان بن فلان قال ما شأنك وفتح النون قال جدري في وجهي وفحج بساقي قال عمر ويحك إن أمير المؤمنين يقول لك ما شأنك وضم النون قال ظلمني ختني قال ومن ختنك وفتح النون قال وما سؤالك عن ذلك يا أمير المؤمنين حجام عندنا بالبادية قال عمر إن أمير المؤمنين يقول لك من ختنك وضم النون قال فلان وقيل للوليد إن العرب لا تحب أن يتولى عليها إلا من يحسن كلامها فجمع أهل النحو ودخل

الفصل الثاني من الباب السادس

بيتاً ليتعلم فيه النحو فأقام فيه ستة أشهر ثم خرج منه أجهل من يوم دخل وكان بشر المريسي ممن شهر باللحن دعا لقوم فقال قضى الله لكم الحوائج على خير الوجوه وأهنأها فأنكروا عليه لحنه فقال قاسم التمار يصح هذا على قول الشاعر إنّ سليمى والله يكلاها ... ضنت بشي ما كان يرزاها فكان احتجاج قاسم أظرف من لحن بشر وكان خالد بن عبد الله القسري لحنة وفيه يقول ابن نوفل من أبيات وألحن الناس كل الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق والخطب قرأ سابق الأعمى ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا فقال بعض المجان ولا إن آمنوا ترافع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث فقال إن أبوه مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله فقال زياد الذي أضعت من نفسك أضر عليك مما أضعت من مالك وأما القاضي فقال لا رحم الله أباك ولا جبر عظم أخيك قم في لعنة الله وحرسقره وقال رجل للأعمش من أين أقبلت قال من السوق قال وما اشتريت قال عسل قال هلا زدت ألف فقال له الأعمش وهلا زدت في ألفك ألفاً وعكسها ما حكى إن رجلاً قال لسعيد بن عبد الملك تأمرنا بشيأً قال نعم بتقوى الله وإسقاط الألف ويحكي إن خالد بن صفوان دخل الحمام يوماً وفي الحمام رجل معه ابنه فأراد الرجل أن يعرف خالداً ما عنده من البيان فقال لولده يا بني اغسل يداك قبل وجهك والتفت إلى خالد وقال يا أبا صفوان هذا كلام قد ذهب أهله فقال خالد هذا كلام ما خلق الله له أهلاً قط الفصل الثاني من الباب السادس في ذكر من قصر باع لسانه عن ترجمة ما في جنانه قيل لابن المقفع وكان مفحماً عن نظم الشعر لم لا تقول الشعر قال

الذي أرضاه لا يجئ والذي يجئ لا أرضاه وزهدني في الشعر أنّ قريحتي ... بما تستجيد الناس ليس تجود وقال ابن عبدون الكاتب قلبي من العلم مملوء جوانبه ... وذا اللسان كليل لا يواتيني فمن أرتج عليه من خطباء المحافل ... وفرسان المنابر والجحافل يزيد بن أبي سفيان كان أبو بكر رضي الله عنه ولاه ربعاً من أرباع الشأم فلما رقى المنبر ارتج عليه فقطع الخطبة وقال سيجعل الله بعد عسر يسراً وبعد عي بياناً وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال ثم نزل وروى هذا الكلام لعثمان بن عفان وعليه أكثر المؤرخين وصعد عبد الله بن عامر منبر البصرة في يوم عيد الأضحى فحصر فقال لا أجمع عليكم عياً وبخلاً ادخلوا سوق الغنم فمن أخذ شاة فهي له وعلى ثمنها ثم صعد مرة أخرى فحصر فالتفت يميناً وشمالاً فرأى عتاب بن ورقاء وكان شيخاً أصلع فقال إما بعد يا أصلع فوالله ما غلطني غيرك فلعنها الله من صلعة علي به فلما مثل بين يديه أمر أن يضرب عشرين سوطاً ومنعه من دخول المسجد الجامع بعدها وصعد عدي بن أرطاة المنبر فلما رأى جمع الناس أرتج عليه فقال الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم ثم نزل وصعد روح بن حاتم المنبر فلما رأى الناس قد أصغوا إليه بأسماعهم ورمقوه بأبصارهم قال نكسوا رؤسكم وغضوا أبصاركم فإن المنبر مركب صعب وإذا الله يسر فتح قفلاً تعسر ثم نزل وخطب مصعب ابن حيان أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر فقال لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله فقالت أم الجارية عجل الله موتك وأراح منك الهذا دعوناك وصعد وازع اليشكري المنبر يوم جمعة فلما رأى جمع الناس هابهم فحصر فقال لولا أن امرأتي حملتني على إتيان الجمعة ما جمعت وأنا أشهدكم إنها طالق ثلاثاً ثم نزل وخطب ثابت مولى يزيد بن المهلب فارتج عليه فنزل

وهو يقول فالا أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب فبلغ ذلك المهلب فقال لو قال هذا على المنبر لكان من أخطب الناس وخطب خالد بن عبد الله القسري فارتج عليه فقال إن هذا الكلام يجئ أحياناً ويعسر أحياناً وربما كوبر فأبى وعولج فنبا والتأني لمجيئه خير من التعاطي لأبيه وتركه عند تنكره أفضل من طلبه عند تعذره وقد يختلط من الجرئ جنانه وينقطع من الذرب لسانه وسأعود فأقول ثم نزل وارتج على أبي العباس السفاح فنزل ثم صعد وقال أيها الناس إن اللسان بضعة من الانسان يكل لكلاله ويرتجل لارتجاله ونحن أمراء الكلام بنا تفرعت فروعه وعلينا تهدلت غصونه وإنا لا نتكلم هدراً ولا نسكت حصراً بل نسكت معتبرين وننطق مرشدين وذكر المسعودي إن المعتضد خرج يوم الفطر وكان يوم الاثنين سنة تسع وسبعين ومائتين إلى مصلى أحدثه بالقرب من داره ليصلي بالناس فكبر في الركعة الأولى ست تكبيرات وفي الثانية تكبيرة واحدة فلما فرغ من الصلاة صعد المنبر فحصر ولم يسمع له خطبة وفي ذلك يقول الشاعر يعتذر عنه في هذا المقام حصر الامام ولم يبين خطبة ... للناس في حل ولا احرام ما ذاك إلا من حياء لم يكن ... ما كان من عي ولا افحام وخطب داود بن علي فارتج عليه فقال اتقوا الله وافعلوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه ثم نزل ولقد جمع في هذه الكلمات بين الحكمة وفصل الخطاب وأحسن لهم في النصيحة وأطاب صعد بعض الخطباء المنبر فحصر بعد الحمدلة فكررها مراراً فقال بعض من حضره على ما أبلانا منك فإنه لا يحمد على المكروه غيره ثم ولي وهو ينشد ختم الإله على لسان عذافر ... ختماً فليس على الكلام بقادر فإذا أراد النطق خلت لسانه ... لحماً تحرّكه لصقر نافر

قال ابن ذولاق في أخبار ولاة مصر لم يكن الناس يصلون بالجامع العتيق صلاة العيد حتى كانت سنة ست وثلثمائه أو ثمان صلى فيه العيد أحمد بن عبد الملك الفهمي المعروف بابن أبي سجر صلاة عيد الفطر ويقال إنه خطب يومئذ في دفتر فكان مما حفظ منه إن قال اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مشركون فقال فيه الشاعر وقام في العيد لنا خاطباً ... يحرّض الناس على الكفر وممن أرتج عليه من الأئمة في محرابه ... وكان تركه للصلاة خوف الخجل أحرى به رجل صلى بقوم فقرأ فإذا قرأت القرآنف استعذ بالله من الشيطان الرجيم وارتج عليه فجعل يكررها فقال له مزيد والله إنك لا تحسن القرآن فما ذنب الشيطان وصلى سيفويه القاص بقوم فقرأ سورة الاخلاص فارتج عليه عند رأس آيتين منها فالتفت إلى من خلفه وقال من أراد أن يسمع باقي السورة فليحضر مسجد بني فلان ثم خرج وتركهم وصلت أعرابية مع قوم فقرأ الامام وأنكحوا الأيامى منكم ثم ارتج عليه فجعل يرددها مراراً فخرجت المرأة تعد وحتى لحقت بأختها وقالت يا أختاه لم يزل لامام يأمرهم بنكاحنا حتى خشيت أن يقعوا علي وحرج رجل من بيته مغلساً فمر بمسجد يصلي فيه الصبح فدخل ليصلي فقرأ الامام الفاتحة وابتدأ سورة يوسف فلما انتهى إلى قوله تعالى فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي فرددها مراراً فقال الرجل من خلفه فإن لم يأذن لك أبوك إلى الظهر يطول مقامي معك ويفوتني قضاء حاجتي ثم مضى وتركه وأرتج على الحجاج في صلاته فلم يجسر أحد أن يهديه لما ضل عنه فتلى قوله تعالى ردوها علي فردت عليه فلله دره ما أحسن ما أجال فكره حتى أدرك به الفهم العازب ولم تبطل صلاته بكلامه بل كان من أشرف المواهب وأحسن منها ما حكى أن المهدي لما ولي الخلافة صلى بالناس من الغداة في داره فارتج عليه فهيب أن يلقن ما نسي فلما طال عليه انتظار من يرشده تلى

قوله تعالى أليس منكم رجل رشيد فرد الراشد الشارد على الناشد اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت صلاة المغرب فتقدم الكسائي فصلي فارتج عليه في سورة قل يا أيها الكافرون فلما سلم قال اليزيدي قارئ الكوفة يرتج عليه في سورة قل يا أيها الكافرون فحضرت صلاة العشاء فتقدم اليزيدي فارتج عليه في سورة الفاتحة فلما سلم قال له احفظ لسانك أن تقول فتبتلي ... إنّ البلاء موكل بالمنطق حدث أبو الحسن بن راهويه قال صلى يحيى بن المعلى الكاتب فقرأ قل هو الله أحسد فغلط فيها وارنج عليه وكان في المجلس أبو نواس والعباس بن الأحنف والخليع وصريع الغواني فقال أبو نواس أكثر يحيى غلطاً ... في قل هو الله أحد فقال الأحنف قام طويلاً ساكتاً ... حتى إذا أعيا سجد فقال الخليع يزحر في محرابه ... زحير حبلى لولد فقال الصريع كأنما لسانه ... شدّ بحبل من مسد واتصلت هذه الحكاية بأبي علي بن رشيق فقال ونسى الحمد فما ... مرت له على خلد

هذا ما أورده ابن رشيق في كتاب العمدة ثم إني عثرت عند مطالعتي لكتاب بدائع البدائه على زيادة وجب ذكرها وهو ما حكى إن أبا العباس بن الحطيئة لما سمع هذه قال ورام شيأً غير ذا ... يقرؤه فما وجد وممن أخذ العي بعنان قلمه ... وظهر كلف التكلف في صفحات كلمه ما حكى أن بعضهم كتب إلى بعض العمال على مدينة حلب يخبره أن سلند بين من شواني المسلمين غرقاً ما مناله اعلم أيها الأمير أعزه الله إن سلند بين أي مركبين صفقاً أي غرقاً فهلك من فيهما أي تلفوا فكتب إليه العامل كتاباً على الحكاية يستخف به ورد كتابك أي وصبل وفضضناه أي فتحناه وفهمنا ما فيه أي علمناه فأدب كاتبك أي اصفعه واصرفه أي أعزله واستبدل به أي غيره فإنه مائق أي أحمق والسلام أي قد نقضي الكتاب وكتب بعض عمال طاهر بن الحسين إليه كتاباً وفيه وقد وجهت إلى الأمير ثوب ديباج أحمر أحمر أحمر فكتب طاهر إليه قد قرأت كتابك فعلمت أنك أحمق أحمق أحمق فاقدم اقدم اقدم والسلام ومما عابه ابن الأثير من كلام المترسلين القدماء وادعى أنه قصور وعي في صناعة الانشاء وهو أشبه شي بالأقواء والإيطاء قال في فصل من كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر إذا وردت في كلام المترسل سجعتان يدلان على معنى واحد كانت إحداهما كافية في الدلالة عليه والأخرى من حشو الكلام الذي لا يحتاج إليه وقد وجدت كثيراً من ذلك في كلام المفلقين من أهل هذا الشأن كالصابي وابن العميد فمن ذلك قول الصابي في تحميده الحمد لله الذي لا تدركه الأعين بألحاظها ولا تحده الألسن بألفاظها ولا تخلقه العصور بمرووها ولا تهرمه الدهور بكرورها ثم انتهى إلى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لم ير للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه ولا رسماً إلا أزاله وعفاه فلا فرق بين مرور العصور وكرور الدهور وكذلك لا فرق بين محو الأثر وتعفية الرسم ومن كلامه أيضاً من كتاب وقد علمت إن الدولة العباسية لم تزل على سالف الأيام وتعاقب الأعوام تعتل طوراً وتصح أطواراً وتلتاث مرة وتستقل مراراً من حيث أصلها راسخ لا يتزعزع وبنيانها ثابت لا

يتضعضع فمعلوم أن الاعتلال والالتياث بمعنى والطور والمرة بمعنى والرسوخ والثبوت بمعنى وله من كتاب وصلني كتابه مفتتحاً من الاعتزاء إلى إمارة المؤمنين والتقليد لأمور المسلمين بما إغراقه الزكية مجوزة لاستمراره وأرومته العلية مسوغة لاستقراره ومنه فلا بد من اتفاق أشراف كل قطر وأفاضله وأعيان كل صقع وأماثله فهذا السجع كله متساوي الألفاظ والمعاني فإن إمارة المؤمنين وتقليد أمور المسلمين بمعنى وكذلك الأعراق والأرومة بمعنى والتجويز والتسويغ بمعنى وكذلك الأعيان والأماثل والقطر والصقع ومن كلام ابن العميد في كتاب وهو لا يوجه همته إلى أعظم مرغوب إلا طاع ودان ولا تمتد عزيمته إلى مطلوب إلا كان واستكان وكل هذه الألفاظ مستوية المعاني قلت وفيما ذكرناه من هذا الفن كفاية ومقنع على أن الخاطر إذا انشرح انقاد وإذا كل تمنع ورأيت صواباً إلحاق هذه الحكاية بهذا الفصل وهي ما حكاه دعبل الخزاعي قال خرجت أنا ورفيقان لي من قرية تسمى طهياثاً وهي من قرى بغداد للتنزه فيها فأقمنا بها يوماً فلما أردنا الانصراف قلت لرفيقي ليقل كل منا في صفة يومنا شيأً قالا فابتدئ أنت فقلت تلنا لذيذ العيش في طهياثا فقال أحدهما لما حثثنا القدح احتثاثا وأرتج على الآخر فقال وأم عمرو طالق ثلاثا فقلنا له ويحك ما ذنب المرأة فقال والله مالها ذنب إلا أنها قعدت على طريق القافية

الفصل الثالث من الباب السادس

الفصل الثالث من الباب السادس في أنّ اللسن المكثار لا يأمن آفة الزلل والعثار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله إذا قلت فأوجز فإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف وقال بعض الحكماء الاكثار يزل اللسان ويزيل الاحسان وقيل لعدي بن حاتم أي شيء أوضع للانسان قال كثرة الكلام وقال جعفر بن يحيى إذا كثر الكلام اختل وإذا اختل اعتل وقال خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل وقال معاوية لعمرو بن العاص من أبلغ الناس قال من ترك الفضول واقتصر على الايجاز وقال خالد بن صفوان قيس البلاغة بخفة اللسان ولا كثرة الهذيان ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة وقال خير الكلام ما كان عن الحصر بعيداً وللأسماع مفيداً وهو أن يكون لا مائلاً إلى الحصر فتضعف الحجة ولا إلى الهدر فتنلف المهجة قال الشاعر للقول مستمع يزرى بصاحبه ... منه الغلوّ وقد يزرى به الحصر وخير حال الفتى في القول أقصدها ... بين الطريقين لا عيّ ولا هدر وقال عي يذرى بك خير من هدر يأتي عليك قال شاعر وصمتك من غير عي اللسا ... ن أزين من هدر المنطق وقال عمرو بن العاص الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع وإن أكثرت منه صرع وقال لولده عبد الله قصر إذا قلت واقتصر إذا طلت وإياك والاكثار فإنه شين العاقل وحين الجاهل وقالوا العثار مع الاكثار وقال بزرجمهر من ملكه طول لسانه أهلكه فضل بيانه ويقال من طال لسانه بطل احسانه قال الفقيه منصور لا تكثرن فخير الكلام ... قليل الحروف كثير المعاني

احتجاج من أمسك عن الكلام من غير خرس

احتجاج من أمسك عن الكلام من غير خرس وخاف من الملام فحذر واحترس قال الأحنف بن قيس اللسان قيمة الانسان فمن قومه زادت قيمته وقال أكثم بن صيفي هلك الانسان في طول اللسان وقال سفيان الثوري لأن أرمى عدوي بسهمي خير له من أن أرميه بلساني لأن رمي اللسان لا يخطئ ورمى السهم يصيب ويخطئ قال الشاعر ورب كلام قد جرى من ممازح ... فساق إليه سهم حتف معجل وقال ابن مسعود لسانك سيف قاطع يبدأ بك وكلامك سهم نافذ يرجع عليك فاقتصد في المقال وإياك وما يوغر صدور الرجال وقال أعرابي الكلمة أسيرة في وثاق الرجل فإذا تكلم عاد أسيراً في وثاقها اجتمع أربعة من الملوك على أربع كلمات تواردوا فيها موارد النصائح وأخرجوا درر معانيها من بحار القرائح قال كسرى أنا على ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت وقال ملك الصين أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتني وإذا لم أتكلم بها ملكتها وقال ملك الهند عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن ذكرت عنه ضرت وإن لم تذكر عنه لم تنفعه وقال قيصر لأن أندم على ما لم أقل أحب إلي من أن أندم على ما قلت فهذه كلمات صدرت عن صدور صافية من كدر الغل وغشه ليتحذر بها العاقل من لدغ الكلام ونهشه وقالوا من أطلق لسانه بما يحب كان أكثر مقامه حيث لا يحب وقال صلى الله عليه وسلم ما أعطى العبد شراً من طلاقة اللسان وقال لقمان لابنه يا بني إن من الكلام ما هو أشد من الحجر وأنفذ من الأبر وأمر من الصبر وأحر من الجمر وإن من القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تنبت كلها نبت بعضها وقال زياد إن الرجل ليتكلم بالكلمة يقطع بها ربقة عنز فتبلغ امامه فيسفك دمه ويقال حفظ اللسان راحة الانسان وقال صعصعة بن صوحان طول اللسان يقصر الأجل وخطأ القول يصيب المقتل ويقال من خزن لسانه حقن دمه ومن ملك كلامه أمن ندمه فاللسان سيف مرهف لا ينبو حده والكلام سهم مرسل لا يمكن رده وقال بعض الحكماء الجاهل يستعجل باظهار المعاني قبل

أحكامها واخراجها وإن لم يحن أوان تمامها فإذا سددها تخطى غرض الصواب وقال الخبرارزي إذا ما لسان المرء أكثر هدره ... فذاك لسان بالبلاء موكل إذا شئت أن تحيا عزيزاً مسلماً ... قد بر وميز ما تقول وتفعل ومما اخترت من كلام الحكماء الأعلام ... في مدح الصمت وذم الكلام قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ أنت سالم ما سكت وإذا تكلمت فلك أو عليك وقال ابن مسعود إن كان الشؤم في شيء ففي اللسان وقال أبو نواس خلّ جنبيك لزام ... وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام ربما استفتحت بالنط ... ق مغاليق الحمام إنما السالم من أل ... جم فاه بلجام وقالوا صمت يعقب الندامة خير من نطق يسلب السلامة وقالوا الصمت زين الحلم وعوذة العلم يلزمك السلامة ويصحبك الكرامة ويكفيك مؤنة الاعتذار ويلبسك ثوب الوقار وقال الشاعر الصمت زين والسكوت سلامة ... فإذا نطقت فلا تكن مكثاراً ما إن ندمت على سكوتي مرّة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا وقالوا لسانك كالسبع إن عقلته حرسك وإن أرسلته افترسك ويقال اخزن لسانك كما تخزن مالك واعرفه كما تعرف ولدك وزنه كما تزن نفقتك ونفق منه بقدر وكن منه على حذر فإن انفاق ألف درهم في غير وجهها أيسر

من اطلاق كلمة في غير حقها وقال الشاعر احفظ لسانك واحتفظ من شرّه ... إنّ اللسان هو العدوّ الكاشح وزن الكلام إذا نطقت بمجلس ... فيه يلوح لك الصواب اللائح والصمت من سعد السعود بمطلع ... تحيا به والنطق سعد الذابح وقال بعض الحكماء عليك بالصمت وإن أصبت في القول وبرزت في الفضل فإنه زينة العاقل وحلية الفاضل شاعر احفظ لسانك أن تقول فتبتلي ... إن البلاء موكل بالمنطق آخر وزن الكلام إذا نطقت فإنما ... يبدي الرجال من الستور المنطق وقالوا رب كلمة جلبت مقدوراً ... وخربت دوراً وعمرت قبوراً شاعر إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخازن آخر احفظ لسانك أيها الانسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تخاف لقاءه الأقران وقالوا كلام الرجل بيان فضله وترجمان عقله فاقصره على الجميل واقتصر منه على القليل وإياك وما يسخط سلطانك ويوحش اخوانك فمن أسخط سلطانه تعرض للمنية ومن أوحش اخوانه تبرأ من الحرية شاعر يدل على جهل الفتى فضل نطقه ... ونطق أخي العقل الرصين قليل وإنّ لسان المرء ما لم يكن له ... حصاة على عوراته لذليل

وما أحسن عذر من غص بالملام ... على كثرة صمته وقلة الكلام حيث قال قالوا نراك كثير الصمت قلت لهم ... ما طول صمتي من عيّ ولا خرس الصمت أحمد في الأشياء عاقبة ... وأزين الآن لي من منطق شكس أأنشر البز فيمن ليس يعرفه ... وأنثر الدّر للعميان في الغلس ومن الخرافات الموضوعة على ألسنة الحيوانات في مدح الصمت وذم الكلام أنه اجتمع برغوث وبعوضة فقالت البعوضة للبرغوث إني لأعجب من حالي وحالك أنا أفصح منك لساناً وأرجح ميزاناً وأوضح بياناً وأكبر منك شباباً وأكثر طيراناً ولي في بحر العبودية سباحة وفي ساحته سياحة ومع هذا كله فقد أحاط بي الفضوع وأحرمني الجوع الهجوع وأنت على علاتك في جميع حالاتك تأكلي وتشبعي وفي نواعم الأبدان ترتعي قالت نعم أنت بين العالم مطنطنة وعلى رؤسهم مدندنة وطول لسانك سبب حرمانك وأما أنا فالتلطف صناعتي والصمت بضاعتي وإنما توصلت إلى قوتي بسكوتي ومما له في هذا الموضع ... من النفوس حسن موقع حفظ الأسرار أن تدال ... على الأحرار والأنذال قال الله تعالى حكاية عن قول يعقوب ليوسف عليهما السلام حين قص عليه رؤياه فعلم منها بدء أمره ومنتهاه يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيداً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان وكان عيه الصلاة والسلام إذا أراد غزاة ورى بغيرها ومن أمثالهم صدرك أوسع لسرك ويقال إذا انتهى السر من الجنان إلى عذبة اللسان فالاذاعة مستولية عليه وعيون الحوادث تنظر شزراً إليه وقال

عمرو بن العاص الصدور خزائن الأسرار والشفاه أقفالها والألسن مفاتيحها فليحفظ كل امرئ مفتاح سره وقالوا إذا ضاق صدرك عن نجواك فكيف تستكتمه سواك وقال بعض الحكماء سرك من دمك فلا تجره في غير أوداجك فإنك متى تكلمت به أرقته وكما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها فكذلك لا خير في لسان لا يملك سره وقال آخر كن على سرك أحرص منك على حقن دمك وقالوا سرك أسيرك فإن بذلته كنت أسيره ابن نباتة السعدي صن السر عن كل مستخبر ... وحاذر فما الحزم إلا الحذر أسيرك سرّك إن صنته ... وأنت أسير له إن ظهر آخر ولا تخبر بسرك بل أمته ... وصير في حشاك له حجايا فما أودعت مثل القلب سرّا ... ولا أغلقت مثل الصدر بابا وقال عمرو بن العاص ما وضعت سري عند أحد وأفشاه فلمته لأني كنت أضيق صدراً منه حين استودعته إياه وقال الشاعر إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق إذا المرء أفشى سرّه بلسانه ... ولام عليه غيره فهو أحمق وقال معاوية الحازم من كتم سره عن صديقه مخافة أن تنتقل صداقته فيذيع سره شاعر احذر عدوّك مرّة ... واحذر صديقك ألف مرّة فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أعلم بالمضمّرة

وكان يقال الكاتم سره بين إحدى فضيلتين الظفر بحاجته أو السلامة من شر اذاعته ويقال أصبر الناس من صبر على كتمان سره فلم يبده لصديقه وقال آخر كتمانك سرك يعقبك السلامة وافشاؤه يعقبك الندامة والصبر على كتمان السر أيسر من الندامة على إفشائه إبراهيم بن خفاجة لا تودعنّ ولا الجماد سريرة ... فمن الجوامد ما يشير وينطق وإذا المحك أذاع سرّاخ له ... وهو النضار فمن به يستوثق وقال الأحنف أدنى أخلاق الشريف كتمان سره وأعلى أخلاقه كتمان ما أسر إليه قال الشاعر ولست بمبد للرجال سريرتي ... ولا أنا عن أسرارهم بسؤل ولا أنا يوماً للحديث سمعته ... إلى ههنا من ههنا بنقول آخر تبوح بسرك ضيقاً به ... وتحسب كل أخ يكتم وكتمانك السر ممن تخاف ... ومن لا تخافهم أحزم إذا ذاع سرّك من مخبر ... فأنت إذا لمته ألوم وقال كعب بن زهير لا تفش سرّك إلا عند ذي ثقة ... أولاً فأفضل ما استودعت أسرارا صدراً رحيباً وقلباً واسعاً صمتاً ... لم تخش منه لما أودعت اظهارا وقيل لأبي مسلم الخراساني بأي شيء أدركت ما أدركت قال ائتزرت بالحزم وارتديت بالكتمان وحالفت الصبر وساعدني القدر فأدركت مرادي وحزت ما في نفسي ثم أنشد أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا

ما زلت أسعى عليهم في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا حتى ضربتهم بالسيف فانتهبوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد ومن يدع غنماً في أرض مضيعة ... ونام عنها تولى رعيها الاسد وأما المزاح وما ورد فيه ... عمن أباحه ومن يجافيه فيروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال من مزح استخف به وقال آخر تجنب شؤم الهزل ونكد المزاح فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد عسر وفحلان إذا القحا لم ينتجا غير ضر وقالوا المزاح يضع قدر الشريف ويذهب هيبة الجليل وقال حكيم لولده يا بني إياك والمزاح فإنه يذهب بهاء الوجه ويحط من المروأة شاعر ألا رب قول قد جرى من ممازح ... فساق إليه الموت في طرف الحبل وإنّ مزاح المرء في غير حينه ... دليل على فرط الحماقة والجهل آخر إياك إياك المزاح فإنه ... يطمع فيك الطفل والرجل النذلا ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورث بعد العز صاحبه ذلا ويقال أوكد أسباب القطيعة المزاح وإن كان لا غنى للنفس عنه فليكن بمقدار ما يحتاج الطعام من الملح كما قال أبو العباس البستي أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... براح وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

وقال سعيد بن العاص لولده اقتصد في مزاحك فإن الافراط فيه يذهب البهاء ويجرئ السفهاء ويقال المزح أوله فرح وآخره ترح شاعر امزح بمقدار الطلاقة واجتنب ... مزحاً تضاف به إلى سوء الأدب لا تغضبن أحداً إذا مازحته ... إنّ المزاح

الباب السابع

على مقدّمة الغضب أبو جعفر الطبري لي صاحب ليس يخلو ... لسانه من جراح يجيد تمزيق عرضي ... على سبيل المزاح الباب السابع في الذكاء وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في مدح الفطن والاذهان المعظمة من قدر المهان قال ابن الأنباري في كتابه الذي سماه بالزاهر قولهم فلان ذكي معناه كامل الفطنة ثاقبها من قول العرب ذكت النار تذكو إذا زاد وقودها ويقال مسك ذكي إذا كان طيب الريح قال جميل صادت فؤادي بعينيها ومبتسم ... كأنه حين أبدته لنا برد عذب كان ذكيّ المسك خالطه ... والزنجبيل وماء المزن والبرد فمن انشقت كمائم مبانيه عما أخفته من زهرات معانيه فعطفت إليه قلب شانيه بعد ما أنف أن يدانيه سعد بن ضمرة قالوا كان كثيراً ما يغير على بلاد النعمان بن المنذر وينقص أطرافها حتى عيل صبره وبدا ضره فبعث إليه النعمان إن لك ألف ناقة حمراء على أن تدخل في طاعتي فوفد عليه وكان سعد ابن ضمرة نحيفاً قصيراً دميماً وكان ملتفاً بعباءة فلما رآه النعمان ازدراه وقال لان تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فقال سعد أبيت اللعن إن الرجال لا تكال بالقفزان ولا بمسوك يستقي بها من الغدران وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه إن نطق نطق ببيان وإن قاتل قاتل بجنان فقال له النعمان أنت ضمرة بن ضميرة

ونظر عمر بن الخطاب إلى الأحنف وعنده الوفد والأحنف ملتف بعباءة فترك عمر القوم واستنطقه فتكلم بكلامه البليغ المصيب وذهب فيه ذلك المذهب العجيب فلم يزل عنده في الذروة العليا إلى أن عقد له من الرياسة على تميم ما كان له ثابتاً إلى أن فارق الدنيا قال عبد الملك بن عمير قدم علينا الأحنف الكوفة أصلع الرأس متراكب الأسنان أشدق مائل الذقن ناتئ الجبهة جاحظ العينين خفيف العارضين أحنف ولكنه كان إذا تكلم جلى عن نفسه سائر العيوب خرج عثمان رضي الله عنه من داره فرأى عامر ابن عبد قيس على بابه وقد ألقى رأسه بين ركبتيه وكان عامر شيخاً دميماً أسعى فظا فأنكره وأنكر مكانه فقال يا أعرابي أين ربك قال بالمرصاد فيقال إن عثمان لم يفحمه أحد غيره ونظر معاوية إلى النحار بن أوس العدوي الخطيب النسابة في عباءة في ناحية من مجلسه فأنكر مكانه وازدراه فتبين للنحار ذلك في وجهه فقال يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك إنما يكلمك من فيها وكمال الرجل آدابه لا ثيابه وأنشد إني وإن كنت أثوابي ملفقة ... ليست بخز ولا من نسج كتان فإنّ في المجد هماتي وفي لغتي ... فصاحة ولساني غير لحان وأراد بعض الأعراب مخاطبة إنسان فازدراه الرجل لرثاثة ثوبه وخسة حاله وأبى أن يكلمه فقال مالكم يا عبيد الثياب وأشباه الكلاب حقرتموني لاطماري ولم تسألوني عن مكنون أخباري ثم أنشد المرء يعجبني وما كلمته ... ويقال لي هذا اللبيب اللهذم فإذا قدحت زناده ووزنته ... بالنقد زاف كما يزيف الدرهم ودخل كثير بن عبد الرحمن وكان يلقب بزب الزباب لقصره على عبد الملك بن مروان في أول خلافته فاقتحمته عينه ففهم عنه فقال كثير يا أمير

المؤمنين كل عند نفسه واسع الفناء شامخ البناء عالي السناء ثم أنشد للعباس ابن مرداس ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مضور ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير بغاث الطير أطولها رقاباً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور خساس الطبر أكثرها فراخاً ... وأم الباز مقلاة نزور ضعاف الأسد أكثرها زئيراً ... وأضرؤها اللواتي لا تزير وقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير يصرّفه الصغير بكل أرض ... وينزله على الخسف الجرير ينوّخ ثم يضرب بالهراوي ... ولا عرف لديه ولا نكير فما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينهم كرم وخير فقال عبد الملك قاتله الله ما أطول لسانه وأمد عنانه وأجر أجنانه فقال إني لاحسبه كما وصف نفسه وأمر له بصلة حسنة وقال أبو عبيد البكري في لآلئه إن كثيراً كان لا يبلغ طوله ضروع الابل لقصره وكان إذا دخل على عبد الملك يقول له حين يراه طأطئ رأسك لئلا يصيبه السقف تهكماً به وفيه يقول الحر بن الشاعر قصير قميص فاحش عند بيته ... يعض قرا باسته وهو قائم وكان الجاحظ واسمه عثمان بن بحر دميم الصورة قبيح الوجه ناتئ العينين يحكي عنه أنه قال ما أخجلني أحد قط إلا امرأة أخذت بيدي وحملتني إلى نجار وقالت له مثل هذا ثم تركتني وانصرفت فبقيت متعجباً من أخذها لي مثالاً فسألت الصانع فقال إن هذه المرأة سألتني أن أصنع لها مثال شيطان تفزع به ولدها فقلت لها إني لم أر شيطاناً قط حتى أعمل على مثاله وطلبت منها مثالاً فقالت أنا آتيك به فجاءتني بك وقرع عليه الباب يوماً فخرج غلامه فسئل

وعلى أثر قبح الصورة يقول بعض الشعراء في جحظة

عنه فقال ها هوذا يكذب على ربه قيل له كيف ذلك قال نظر في المرآة وجهه فقال الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي إلا أنه كان إذا كتب وشى حلل الطروس بأقلامه وإذا تكلم لفظ الدرر من منثور كلامه وفيه يقول أحمد بن سلامة الكتبي يهجوه ويذكر قبحه لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً ... ما كان إلا دون قبح الجاحظ وإذا المرأة جلت عليه وجهه ... لم تخل مقلته بها من واعظ وعلى أثر قبح الصورة يقول بعض الشعراء في جحظة من كان مشتاقاً إلى منكر ... فجعظة أنكر من منكر لو عذب الله به ناره ... أطفأها برداً ولم تزفر وأنشد أعرابي خبرتها أني محب لها ... فأقبلت تضحك من منطقي والتفتت نحو فتاة لها ... كالرشا الوسنان في قرطق قالت لها قولي لهذا الفتى ... انظر إلى وجهك ثم أعشق لقى أعرابي شيخ قبيح الصورة فتاة حسناء فعرض عليها نفسه فأعرضت عنه وقالت أمخادع غائل أم ركيك هازل قال بل لبيب عاقل محب مائل قالت فما أصنع بك قبيحاً فقيراً شيخاً كبيراً قال أستمنح لفقري ملوكاً فيزول وأصبغ شيبي حلوكاً فيحول قال فقالت فقبحك الأم يؤل فولي عنها وهو يقول تزهى عليّ بدلها وشبابها ... وتقول لي يا شيخ أنت مخادع قبح وافلاس وشيب شاسع ... وطمعت فينا أخلفتك مطامع فأجبتها الافلاس يذهبه الغنى ... والشيب يذهبه الخضاب اليانع

قالت فقبحك ليس فيه حيلة ... والقبح ليس له دواء نافع يا صدقها ما كان أصدق حجتي ... لو كان يدفع قبح وجهي دافع رجعنا قال بعضهم كنت بفناء الكعبة إذ مر بنا رجل أصلع أرسح أفحج كان أنفه بعرة أشد سواداً من است القدرة عليه ثوبان قطوبان فرأيت الناس يهرعون إليه من كل جانب يطلبون السبق في السلام عليه فقلت من هذا قالوا هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح وصفه آخر فقال كان أعور أفطس أشل أعرج ثم عمى بعد ذلك قال عثمان بن عطاء الخراساني انطلقت مع أبي نريد هشام بن عبد الملك فلما قربنا إذا بشيخ على حمار أسود عليه قميص دنس وجبة دنسة وقلنسوة لاطية دنسة وركاباه من خشب فضحكت منه وقلت لأبي من هذا الأعرابي قال اسكت هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح فلما قرب منا نزل أبي عن بغلته ونزل هو عن حماره فاعتنقا ونساء لا ثم عادا فركبا وانطلقا حتى وقفا على باب هشام فما استقر بهما الجلوس حتى أذن لهما فلما خرج أبي قلت له حدثني ما كان منكما قال لما قيل لهشام إن عطاء بن أبي رباح بالباب أذن له فوالله ما دخلت إلا بسببه فلما رآه هشام قال مرحباً مرحباً ههنا ههنا ولا زال يقول له ههنا ههنا حتى أجلسه معه على سريره ومس بركبته ركبته وعنده أشراف الناس يتحدثون فسكتوا فقال له ما حاجتك يا أبا محمد قال يا أمير المؤمنين أهل الحرمين أهل الله وجيران رسوله تقسم عيهم أرزاقهم وعطياتهم قال يا غلام أكتب بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم يا أمير المؤمنين أهل الثغور يردون من ورائكم ويقاتلون عدوكم تجرى لهم أرزاقاً تدرها عليهم فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور قال نعم يا غلام اكتب بحمل أرزاقهم إليهم هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم يا أمير المؤمنين أهل ذمتكم لا يجبى صغارهم ولا يتقنع كبارهم ولا يكلفون ما لا يطيقون فإن ما تجبونه منهم معونة لكم على عدوكم قال نعم يا غلام اكتب لأهل الذمة بأن لا يكلفوا ما لا يطيقون هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم اتق الله في نفسك فإنك خلقت وحدك وتموت وحدك وتحشر وحدك

وأكثر ما يوجد الذكاء المفرط عند العميان

وتحاسب وحدك ولا والله ما معك ممن ترى أحد فأكب هشام ينكث في الأرض وهو يبكي فقام عطاء فلما كنا عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه دنانير أم دراهم فقال إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا فقال لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على رب العالمين فوالله ما شرب عنده قطرة ماء وأكثر ما يوجد الذكاء المفرط عند العميان فإنهم عوّضوا عن البصر سرعة الحفظ وبطء النسيان كان قتادة بن دعامة أكمه وكان يقول لقائده سعيد بن أبي عروبة تجنب بي الحلق التي فيها الخطا فإنه ما وصل إلى سمعي شيء فأداه إلى قلبي فنسيه وممن ولد أكمه بشار بن برد وكان رأس طبقة في الشعراء المولدين وهم أشجع السلمى ومسلم بن الوليد وأبو العتاهية وأبو نواس وغيرهم وقال الشعر وله من العمر إحدى عشرة سنة ومنهم أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري ومن عجيب حكاياته إن أبا زكريا التبريزي كان يقرأ عليه فأتاه رسول من عند أهله من تبريز فجاء حلقة أبا العلاء فسأل عنه فأخبر أنه غائب في بعض شأنه فقال له أبو العلاء ما تريد به قال جئت برسالة من عند أهله فقال هاتها حتى نوصلها إليه قال إنها مشافهة قال فاسمعناها حتى نوصلها إليه قال إنها بالفارسية قال لا عليك إن تسمعناها ولا تسقط منها حرفاً فأوردها عليه فلما جاء التبريزي أخبر أن رجلاً جاء من تبريز ومعه رسالة من أهلك فقال ليتكم أخذتموها منه فإني مشوق لما يرد من أخبارهم فقيل له إنه قال إنها مشافهة فتأسف لذلك فلما رأى أبو العلاء تأسفه قال له لا عليك إني سمعتها منه وحفظتها ثم أملاها عليه فجعل التبريزي يضحك مرة ويبكي مرة فسأله أبو العلاء عن ضحكه وبكائه فقال تارة تخبرني بما يسرني فأضحك وتارة تخبرني بما يحزنني فأبكي وعمي أبو العلاء وله من العمر ثلاث سنين من جدري أصابه وقال الشعر وله إحدى عشرة سنة ولبشار وعيرني الأعداء والعيب فيهم ... وليس بعار أن يقال ضرير إذا أبصر المرء المروأة والتقى ... فإن عمي العينين ليس يضير رأيت العمي أجراً وذخراً وعصمة ... وإني إلى تلك الثلاث فقير

من اخترع من الأوائل حكمة بثاقب فكره

ولعبد الله بن عباس ان يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي فؤادي وقلبي منهما نور قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم بالقول مشهور ولبعضهم يتوجع عزاكي أيها العين السكوب ... وصبرك إنها نوب تنوب وكنت كريمتي وجمال وجهي ... وكانت لي بك الدنيا تطيب وإني قد ثكلتك في حياتي ... وفارقني من الدنيا الحبيب على الدنيا السلام فما لشيخ ... ضرير العين في الدنيا نصيب من اخترع من الأوائل حكمة بثاقب فكره فكانت سبباً لتنويه قدره وابقاء ذكره أردشير بن بابك والمخترعات أربعة اثنتان في صدر الاسلام وهما النرد والشطرنج واثنتان اسلاميان وهما النحو والعروض فأما النرد فوضعها أردشير بن بابك وهو أول ملوك الفرس الأخيرة وأول من وضع النرد وضربها مثلاً للقضاء والقدر وإن الانسان ليس له تصرف في نفسه لا يملك لها نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً ولا يقدر أن يجلب لها موتاً ولا حياة ولا سعداً ولا شقاء بل هو مصرف على حكم القضاء والقدر معرض طوراً للنفع وطوراً للضرر وجعلها أيضاً تمثيلاً للحظ الذي يناله العاجز بما يجري لديه من الملك والحرمان الذي يبتلى به الحازم بما دار به عليه الفلك وضعها على مثال الدنيا وأهلها فرتب الرقعة اثني عشر بيتاً بعدد شهور السنة والبروج وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر والدرج التي هي لكل برج ثلاثين درجة ومعناهما أن كل ثلاثين درجة على سبعة أيام ومعناها الكواكب السبعة السيارة ثم جعل لها تشبيهاً فوضع وشبهها بالنير وصور فيها أربعة وعشرين بيتاً بعدد ساعات الليل والنهار في كل ناحية منها

اثنا عشر بيتاً وصير لها ثلاثين كلباً تشبيهاً بأيام الشهر ودرج الفلك ثم عمل فصين شبههما بالليل والنهار وتوصل إلى إيصال ذلك للعقول بأن جعل اللعب بالفصين اللذين أنزلهما منزلة الليل والنهار فجعل لكل فص ستة أوجه كجهات الانسان فوق وأسفل ووراء وأمام ويمين وشمال لأنه عدد له نصف وثلث وسدس وجعل في كل جهة من الفصين سبع نقط تحت الستة واحدة وتحت الخمسة ثنتين وتحت الأربعة ثلاثة تشبيهاً بعدد الأيام وعدد الكواكب السيارة وأنزلهما منزلة القضاء والقدر ثم جعلها محنة بين رجلين أنزلهما منزلة الليل والنهار يشير إلى أن الانسان لا يعلم من أين يأتيه الخير والشر فكما إن الانسان لا يعلم مما يردان عليه من خير أو شر أو نفع أو ضر فكذا لا يعلم ما يعطيانه الفصان أو يسلبانه هل يكون غالباً أو مغلوباً إذ ليس له من الأمر شيء وأشار فيها أيضاً إلى تقلب القدر بالانسان فتارة يكون شريفاً ثم يكون مشروفاً وبالعكس أو يكون فقيراً ثم يصير غنياً وبالعكس إلى ما لا نهاية له من تقلب الأطوار في تغاير الأوطار ولقد أحسن السري الرفاء في وصفها من أبيات ومحكمان على النفوس وربما ... لم يحكما فيهنّ حكماً عادلا اخوان قد وسما على متنيهما ... سمة تحث على البليد غوائلا يلقاهما المرزوق سعداً طالعا ... ويراهما المحروم سعداً آفلا فإذا هما اصطحبا على كف الفتى ... ضرّاه أو نفعاه نفعاً عاجلا وأما الشطرنج فإن الفرس لما افتخرت بوضع النرد وكان ملك الروم يومئذ بلهيث فوضع له رجل من الحكماء يسمى صصة الشطرنج وضربها مثلاً على أن لا قدر وإن الانسان قادر بسعيه واجتهاده يبلغ المراتب العلية والخطط الستية وإن هو أهملها صارت به من الخمول إلى الحضيض وأخرجته من روض العيش الأريض ومما جعله دليلاً على ذلك أن البيدق ينال بحركته وسعيه منزلة الفرزان في الرياسة وجعلها مصورة تماثيل على صورة الناطق والصامت وجعلها درجات

ومراتب وجعل الشاة المدبر الرئيس والفرس والفيل مركوبان له والفرزان وزيره والبيادق رعاياه فكما إن الواحد من الرعية إذا أعطى الاجتهاد حقه في تهذيب نفسه وتأديبها كان ذلك عوناً له على أن ينال رتبة الفرزان فكذلك الفرزان إذا علت همة وتمكنت قدرته طمحت نفسه إلى نيل رتبة الشاه وقتاله وكذلك ما يليها من القطع ويقال في سبب وضعها إن بعض ملوك الهند كان له ولد يسمى شاه أخرجه إلى بعض الحروب فقتل فيها فهاب الناس الملك أن يعلموه بموته فوضع لهم بعض حكمائهم الشطرنج وبين لهم فيها ما خفي عنهم من مكايد الحروب وكيفية ظفر الغالب وخذلان المغلوب وبين فيها التدبير والحزم والاحتياط والمكيدة والاحتراس والتعبية والنجدة والقوة والجلد والشجاعة والباس فمن عدم شيأً من ذلك علم موضع تقصيره ومن أين أتى بسوء تدبيره لأن خطأها لا يستقال والعجز فيها متلف المهج والأموال واعلم إن في ترك الحزم ذهاب الملك وضعف الرأي جالب للعطب والهلك والتقصير سبب الهزيمة والتلاف وعدم المعرفة بالتعبية داع إلى الانكشاف وأمرهم أن يلعبوا بها بين يدي الملك فلما لعب بها قال الغالب للمغلوب شاه مات ففطن الملك للمراد وأمر أن يعزى بولده ثمرة الفؤاد ويقال إن صصة لما وضع الشطرنج وعرضها على الملك وأظهر له مكنون سرها قال له اقترح ما تشتهي قال أن تضع حبة بر في البيت الأول ولا تزال تضعفها حتى تنتهي إلى آخر البيوت فما بلغ تعطيني فاستخف الملك عقله واحتقر ما طلبه وقال كنت أظن برجاحة عقلك وتوقد فكرك أن تطلب شيأً نفيساً فقال أيها الملك إنك لما صرفتني إلى التمني لم يخطر ببالي غير ذلك ولا سبيل إلى الرجوع عنه فأنعم له الملك بما سأل وتقدم باحضار الحساب وأمرهم بحساب ذلك فاعملوا في بلوغ قصده مطايا الأفكار حتى لاح لهم نجم صدقه فعرفوه بعد الانكار فلم يجدوا في بلاد الدنيا من البر ما يفي للحكيم بمراده ولو كانت الرمال من أمداده وذلك إنهم وضعوا حبة في البيت الأول وفي الثاني حبتين وفي الثالث أربعة وفي الرابع ثمانية وفي الخامس ستة عشر وهكذا ولولا خشية التطويل لذكرنا تضعيف عددها ونهاية مددها ولم أهمل ذلك فإني وجدت بعض الحذاق حصرها بالاعداد الهندية ونظمها في بيت من الشعر

فذكرت ذلك استحساناً لوجازته فالبيت ها واههط وصفر بعده زجر ... وثنّ صفراً وقل ددّ زود دحا 615 551 9 0 7 0073 74 - 4 46 4 18 والعدد 615 09551 7 67440073 1844 وقال السري من الأبيات التي تقدم ذكرها في صفة النرد يصف الشطرنج وقد أحسن في قوله وكتيينا زيج وروم اذكيا ... حربا يسل بها الذكاء مناصلا في معرك قسم النزال بقاعه ... بين الكماة المعلمين منازلا لم يسفحا فيه دماً وكأنما ... رشح الدماء أعالياً وأسافلا تبدي لعينك كلما عاينتها ... قرنين جالا مقدماً ومخاتلا فكأنّ ذا صاح يسير مقوّما ... وكان ذا نشوان يخطر مائلا فاعجب لها حرباً تثير إذا التظت ... فضل الرجال ولا تثير قساطلا وقالوا إن أصل شطرنج شش رنك ومعناه ستة ألوان لأن شش عندهم ستة ورنك لون فكأنهم قالوا ستة ألوان فالشاه لون والفرزان لون والفيل لون والرخ لون والفرس لون والبيدق لون وأما ما اخترع في الاسلام فالنحو والعروض فأما النحو فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي ابتكره واخترعه وقالوا في أصل وضعه له إن أبا الأسود الدؤلي كان ليلة على سطح بيته وعنده بيت له فرأت السماء ونجومها وحسن تلألؤ أنوارها مع وجود الظلمة فقالت يا أبت ما أحسن السماء بضم النون فقال أي بنية نجومها وظن أنها أرادت أي شيء أحسن منها فقالت يا أبت إنما أردت التعجب من حسنها فقال قولي ما أحسن السماء فلما أصبح عدا على علي رضي الله عنه وقال يا أمير المؤمنين حدث في أولادنا ما لم نعرفه وأخبره بالقصة فقال هذا بمخالطة العجم ثم أمره فاشترى صحفاً وأملى

عليه بعد أيام أقسام الكلام ثلاثة اسم وفعل وحرف جاء لمعنى وجملة من باب التعجب وقال انح نحو هذا فكان ذلك أول ما ألف في النحو ثم قال تتبعه وزد فيه ما وقع لك واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر قال فجمعت منها أشياء وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت منها إن وإن وليت ولعل وكان ولم أذكر لكن فقال لي لم تركتها فقلت لم أحسبها منها قال بل هي منها فزدتها فيها ثم جاء بعد أبي الأسود ميمون الأقرن فزاد على ما ألفه أبو الأسود ثم تلاه في ذلك عنبسة بن معدان الذي يقال له عنبسة الفيل فزاد فيه ثم جاء عبد الله ابن أبي إسحق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء فزاد في ذلك ثم الخليل بن أحمد وكان علي بن حمزة الكسائي رسم في ذلك رسوماً أخذها عنه الكوفيون ثم أخذ ذلك سيبويه عن الخليل وكل من جاء بعده فمن بحر كتابه يغترفون وبتقدمه عليهم يعترفون وأما العروض فأول من اخترعه وابتدعه الخليل بن أحمد وأبوه أول من سمى أحمد في الاسلام وهو أول من وضع العروض واستخرج غرائبه واستنبط عجائبه وجعله ميزاناً للشعر يعرف به التام من الناقص وصاغ له من التفاعيل ثمانية أجزاء لا يخرج شعر موزون عنها صيرها له كالمثاقيل وهي فعولن فأعلن مفاعيلن مستفعلن فاعلاتن مفاعلتن متفاعلن مفعولات وهذه المثاقيل مركبة من سبب ووتد فالسبب نوعان خفيف وثقيل فالخفيف متحرك بعده ساكن نحو ما وهل والثقيل متحركان نحو لم وبم إذا سألت والوتد نوعان مجموع ومفروق فالمجموع متحركان بعدهما ساكن نحو دعا ورمى وسعى والمفروق متحركان بينهما ساكن نحو كيف وجعل البيت الشعر مثال بيت الشعر لأن البيت من الشعر لا يقوم إلا بالأسباب وهي الأطناب والأوتاد التي تضرب في الأرض وتربط فيها الأطناب فيقوم البيت وإنما مثل بذلك لأن في الشعر حروفاً مضطربة يطرأ عليها الزحاف فسميت أسباباً لاضطرابها تشبيهاً بأسباب البيت الشعر وفيه حروف ثابتة لا يطرأ عليها الزحاف فسميت أوتاداً لثباتها وإلى ما قصده الخليل في هذا التمثيل أشار أبو العلاء المعري في

قوله والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر وفسر الناس هذا البيت بأن بيت الشعر يحتوي على المعاني كاحتواء بيت الشعر على الصور وسمي نصف البيت الأول صدراً والنصف الأخير عجزاً وآخر جزء في الصدر عروضاً وآخر جزء في العجز ضرباً وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً وهي المختلف والمؤتلف والمجتلب والمشتبة والمتفق فالطويل وهو أصل دائرة المختلف مبني على فعولن مفاعيلن ثمانية أجزاء وسمي طويلاً لأنه أكثر الشعر عدد حروف وعدد حروفه سبعة وأربعون حرفاً وربما كان مصرعاً فجاء على ثمانية وأربعين حرفاً والمديد وهو مبني على فاعلاتن فاعلن ثمانية أجزاء وإنما سمي مديداً لامتداد سببه فصار سبب في أول جزء ابتدائه وسبب في آخره والبسيط وهو مبني على مستفعلن فاعلن ثمانية أجزاء وإنما سمي بسيطاً لانبساط الأسباب في أول أجزائه في الدائرة وهن يفككن من دائرة المختلف والوافر وهو أصل دائرة المؤتلف وهو مبني على مفاعلتن مفاعلتن فعول ستة أجزاء وسمي بذلك لأنه استوفى عدد أجزائه في الدائرة فهو موفور الحركات ناقص الحروف والكامل وهو مبني من متفاعلن متفاعلن ستة أجزاء وإنما سمي بذلك لكمال أجزائه وحركاته وحروفه ولم ينقص منه شيء كما نقص من الوافر ومنها إنه جاء على اثنين وأربعين حرفاً منها ثلاثون متحركات فلما كثرت حركاته وزادت على سائر الأجناس سمي كاملاً وهما يفكان من دائرة المؤتلف والهزج وهو أصل دائرة المجتلب وهو مبني على مفاعيلن مفاعيلن ستة أجزاء وهو مشتق من تهزج الصوت وهو التردد لأنه يتوالى في آخر كل جزء سببان فتواليهما هو التهزج

والرجز وهو مبني على مستفعلن مستفعلن ستة أجزا سمي بذلك لأن في كل جزء منه سببين فهو سريع لاضطرابه والرجز هو أن تتحرك قوائم البعير مرة وتسكن أخرى والرمل وهو مبني على فاعلاتن فاعلاتن ستة أجزاء وهو مشتق من السرعة في السير وهن يفككن من دائرة المجتلب والسريع وهو أصل دائرة المشتبه وهو مبني على مستفعلن فاعلاتن ستة أجزاء وسمي بذلك لسرعته على اللسان والمنسرح وهو مبني على مستفعلن مفعولات ستة أجزا سمي بذلك لانسراحه في سهولته والخفيف كالرمل في السرعة وإنما غوير بينهما في التسمية وهو مبني على فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ستة أجزاء والمضارع وهو مبني على مفاعيلن فاعلاتن مفاعيلن ستة أجزاء وسمي بذلك لمضارعته الهزج وقيل المجتث وقيل المنسرح وقيل الخفيف ولكل قول من هذه الأقوال حجة مذكورة في كتب العروض يضيق عنها الوقت ويفوت الغرض المقصود في هذا الكتاب والمقتضب وهو مبني على مفعولات مستفعلن ستة أجزاء سمي بذلك لأنه اقتضب من المنسرح وقيل من السريع والمجتث وهو مبني على مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن ستة أجزاء وسمي بذلك لأنه اجتث من الخفيف كما اقتضب المقتضب من المنسرح وهن يفككن من دائرة المشتبه والمتقارب وهو رب دائرة المتفق لا يشركه فيها غيره وهو مبني على فعول ثمانية أجزاء وسمي بذلك لتقارب أوتاده من أسبابه لأنه سبب ووتد ووتد وسبب فأسبابه كأوتاده وأوتاده كأسبابه

وزاد الأخفش بحراً آخر وسماه الخبب وهو مبني على فعلن فعلن ثمانية أجزاء وهو عند الخليل غير مستعمل ويسمى المتدارك والمخترع وركض الخيل وهو والمتقارب يفكان من دائرة المتفق نادرة حكي أن الخليل كان له ولد جلف فدخل عليه يوماً فوجد أباه قد أدخل رأسه في حب وهو يقطع بيت شعر فخرج صارخاً يقول أدركوا أبي فقد جن فدخل إليه أصحابه وأعلموه بما قال ولده فأنشد مخاطباً له لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما تقول عدلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا ومن بديع فصاحة البلغاء ... وصنيع بلاغة الفصحاء في وصف ذي الذهن الوقاد ... والطبع السليم المنقاد وصف بعض البلغاء ذكياً فقال فلان يعلم من مفتتح الأمر خاتمته ومن بديهه عاقبته فلان له بصيرة حاضره وروية مستأمره كل علم في سكناته وكل دهاء في حركاته فلان له رأي كاهن وطنة منجم متى حصل في عارض مشكل وأمر معضل دله فؤاده على الهداية وأمنه من الجهالة والغواية فلان عنده مشكل الأمر مشكول أخذه من قول حبيب يرى الحادث المستعجم الخطب معجما ... لديه ومشكولاً إذا كان مشكلا ولعنان جارية الناطفي في جعفر بن يحيى بديهته وفكرته سواء ... إذا اشتبهت على الناس الأمور وصدر فيه للهمّ اتساع ... إذا ضاقت من الهمّ الصدور

وصف رجل عضد الدولة فقال له وجه فيه ألف عين وفم فيه ألف لسان وصدر فيه ألف قلب وصف سهل بن هرون رجلاً فقال ما رأيت أكثر فهماً لجليل ولا أحسن تفهماً لدقيق منه وصف الباخرزي أطروشاً يفهم ما يكتب له على ظهر الكف فقال إذا خط له صاحب عرض ببنانه على ظهر كفه وقف على المراد ورضي نيابة البنان عن الأنبوب المغموس في المداد حتى كأن لكل شعرة من بدنه واعياً مصغياً باذنه وذاك لعمري كالرقم على بسيط الماء بالخيال أو كالنقش على قائم الهواء بالهباء ومن عجيب أمره إنه في الصمم بحيث أقول في غيره وأصلخ في منفذي سمعه ... صمام من الصمم المطبق فلو نفخ الصور في عصره ... لأفلت حياً ولم يصعق وصف اليوسفي غلاماً بالذكاء فقال كان يعرف المراد باللحظ كما يعرفه باللفظ ويعاين في الناظر ما يجري في الخاطر أقرب إلى داعيه من يد متعاطيه حديد الذهن ثاقب الفهم يغنيك عند الملامة ولا يحوجك إلى الاستزادة قال أبو نواس يصف نفسه في محبة مخدومه بالذكاء إذا جعل اللفظ الخفي كلامه ... جعلت له عيني لتفهمه أذنا وقال الشريف ابن طباطبا يمدح صاحباً له بهذه الصفة في صاحب لا غاب عني شخصه ... أبداً وظلت ممتعاً بوداده فطن بما يوحي إليه كأنما ... قد نيط هاجس فكرتي بفؤاده

الفصل الثاني من الباب السابع

وكل الناس الأذكياء عيال على زياد بن أبيه حكي عنه إنه كان يوماً جالساً في مجلس عمر فأملى عمر على كاتبه كتاباً سراً فكتب الكاتب خلافه فقال زياد يا أمير المؤمنين إنه كتب غير ما أمليته فتناول عمر الكتاب فوجد الأمر كما قال زياد فقال عمر زياد من أين علمت هذا قال رأيت رجع فيك وحركة قلمه فلم أر بينهما اتفاقا الفصل الثاني من الباب السابع في ذكر بداهة الأذكياء البديعة وأجوبتهم المفحمة السريعة قالوا البديهة قدرة روحانية في حلية بشرية كما أن الرؤية صورة بشرية في حلية روحانية ويقال بالاحسان في البديهة تفاضلت العقول ويقال ميسور الراي عند البديهة خير من الأطناب بعد الفكرة فممن أبدع في بديهته من الفضلاء من غير ما سؤال ولا ابتلاء أبو نواس وذلك أنه اجتمع ندماء الأمين في مجلس أنس وخلاعة وهو فيهم فخرج عليهم الأمين في زينته مخموراً والجواري يحملنه على سرير فلما رآه أبو نواس قال إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة فلله حسن انتزاع هذا الرجل ما أبدعه وأبرعه وفكره ما أصدعه وأسرعه لقد جاوز شأو الاختراع في الانتزاع وتعدى الغاية وصرف العقول لاستحسان ما أشار إليه بهذه الآية لأن أباه هرون الرشيد وعمه موسى الهادي وهو وارثهما وصعد سليمان بن عبد الملك يوم جمعة المنبر ويقال الوليد وعليه أكثر المؤرخين فسمع صوت ناقوس فقال ما هذا قالوا البيعة يا أمير المؤمنين فأمر بهدمها فهدمت فبلغ ذلك ملك الروم فكتب إليه إن هذه البيعة أقرها من كان قبلك فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت وإن تكن أصبت فقد أخطؤا فسأل سليمان من خواص دولته الجواب فأعياهم فقال الفرزدق عن اذن أمير المؤمنين قال قل قال يكتب إليه ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً فسر بذلك وأمر له بعشرة آلاف درهم وخطب قتيبة بن مسلم على منبر خراسان عندما قدمها والياً فسقطت العصا من يده فتطير من ذلك فقام بعض الأعراب فمسحها وناوله إياها وقال أيها الأمير ليس كما ظن العدو وساء

الصديق ولكنه كما قال الشاعر فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قر عيناً بالاياب المسافر فسرى عنه ما كان وجده من الغم وأمر له بخمسة آلاف درهم وخرج طاهر بن الحسين لقتال علي بن عيسى بن ماهان وفي كمه دراهم يفرقها على الضعفاء وسها إنها في كمه فأسبل كمه فتبددت فتغير لذلك وتطير منه فأنشده شاعر كان معه هذا تفرق جمعهم لا غيره ... وذهابها منه ذهاب الهمّ شيء يكون الهم نصف حروفه ... لا خير في امساكه في الكم ودخل أبو الشمقمق واسمه مروان بن محمد على خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني وقد قلده المأمون الموصول فلما دخل الموصل مر ببعض الدروب فاندق منه اللواء في بعض أبوابها فتطير خالد من ذلك فقال أبو الشمقمق يسليه عن الطيرة ما كان مندق اللواء لطيرة ... تخشى ولا سوء يكون معجلا لكنّ هذا الرمح أضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا فسرى عنه ما كان وجده وكتب صاحب البريد إلى المأمون بذلك فزاده ديار ربيعة فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم وممن مثل من الأذكياء فأجاب ... وأتت سرعة بديهته بالشيء العجاب ما يحكى أن المأمون دخل يوماً ديوانه فمر بغلام جميل على أذنه قلم فأعجبه حسنه فقال من الشاب فقام وقال الناشئ في دولتك والمؤمل لخدمتك والمتقلب في نعمتك الحسن بن رجاء فاستحسن كلامه وأمر له بمائة ألف درهم ودخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون فسلم فقال من أنت قال سليل نعمتك وابن دولتك وغصن من أغصان دوحتك فأعجبه

وسأله عن حاجته فقضاها له وقال أبو عبادة البحتري دخلت يوماً دار الفتح بن خاقان فوجدت الشعراء في دهليز داره وبينهم صبي صغير السن قصير القامة فقلت ما أنت يا غلام فقال شاعر فتبسمت عجباً منه ثم قلت أجز ليت ما بين من أحب وبيني قال من البعد أم من القرب قلت من القرب فقال مثل ما بين حاجبي وعيني فقلت فإن أردناه من البعد فقال مثل ما بين ملتقى الخافقين فأخذت بيده وأوصلته إلى الفتح وأخبرته بما دار بيني وبينه فعجب منه وأجازه لام السفاح خالد بن برمك على كثرة عطائه وصلاته فقال له خالد لم أر شكري يحيط بنعم أمير المؤمنين فاستعنت بألسنة الناس عليها ومثلها ما حكى إن الواثق قال يوماً لأحمد بن أبي دواد وقد ضجر من كثرة حوائجه يا أحمد قد أخليت بيوت الأموال من افراطك في الطلب للائذين بك فقال يا أمير المؤمنين نتائج شكرها متصلة بك وذخائر أجرها مكتوبة لك ومالي من ذلك الأعشق اتصال الألسن بخلود المدح فيك فقال الواثق والله يا أبا عبد الله ما منعناك ما يزيد في عشقك ويقوي من همتك وأمره إن يجري على عادته في عرض حوائجه وكان الفضل بن يحيى يرسل إلى القاسم بن إسحق البصري مع جوائزه رقاعاً مختومة فيرد الجواب برقاع منشورة فنقم عليه وكره ذلك منه فكتب إليه القاسم رقاعك تشتمل على بر ورقاعي تشتمل على شكر فأنت تكتم برك وأنا أنشر شكري فكل منا فعل ما وجب عليه وندب إليه وفد حاجب بن زرارة على باب كسرى وكان قد منع تميم ريف العراق فقال لحاجبه قل للملك إن بالباب رجلاً من العرب يريد الوفود عليك والمثول

بين يديك فأعلم الحاجب كسرى بما قال فأذن له فلما وقف بين يديه قال له من أنت قال سيد العرب قال ألست القائل للحاجب إنك رجل من العرب قال نعم قلت ذلك قبل وصولي إليك ومثولي بين يديك فأما وقد تشرفت بخدمتك وحظيت برؤيتك فقد صرت سيد العرب فقال كسرى زه وأمره أن يحشي فمه جواهر ورمى إليه وسادة تكرمة له فأخذها ووضعها على رأسه فتغامز عليه من كان حاضراً من المرازبة واستجهل فقال له كسرى ليس هذا مكانها إنما هي للجلوس عليها فقال علمت أيها الملك ولكني لما رأيت عليها صورتك أجللتها فوضعتها على أشرفه أعضائي ليتشرف بها فقال كسرى زه وأمر أن يسور فسور ورؤى كثير راكباً ومحمد بن علي الباقر رضي الله عنه يمشي معه فقيل أتركب ومحمد يمشي فقال هو أمرني بذلك فطاعتي له في الركوب أفضل من عصياني له في المشي ودخل عدي بن أرطاة على شريح القاضي فقال إني رجل من أهل الشام قال بعيد سحيق قال وإني قدمت بلدكم هذه قال خير مقدم قال وإني تزوجت قال بالرفاء والبنين قال وإن امرأتي ولدت غلاماً قال يهنؤك الفارس قال وقد كنت شرطت لها صداقاً قال الشرط أملك قال وقد أردت الخروج بها إلى بلدي قال الرجل أحق بأهله قال فاقض بيننا قال قد فعلت قال بشهادة من قال بشهادة ابن أخت خالتك ودخل عروة بن الزبير بستاناً لعبد الملك بن مروان وقد فتحت أزهاره وأينعت ثماره وبسقت أشجاره واطردت أنهاره وتغردت أطياره فقال له عبد الملك ما أحسن هذا البستان فقال أنت أحسن منه لأنه يؤتي أكله كل عام وأنت تؤى أكلك كل حين وقف المنذر على عجوز من العرب فقال ممن أنت قالت من طيء فقال ما منع طيأ أن يكون فيهم مثل حاتم قالت الذي منع الملوك أن يكون فيهم مثلك فعجب من سرعة جوابها وأمر لها بصلة وركب الرشيد وجعفر بن يحيى يسايره فرأى الرشيد في طريقه أحمالاً مقبلة فسأل عنها فقيل له هدايا خراسان بعث بها علي بن عيسى بن ماهان وكان الرشيد ولاه إياها بعد الفضل بن يحيى فقال الرشيد لجعفر أين كانت هذه أيام أخيك قال في منازل أصحابها يا أمير المؤمنين

نادرة ولي المنصور سليمان بن راشد الموصل وضم إليه ألفاً من العجم وقال له قد ضممت لك ألف شيطان تذل بهم الخلق فلما أتى الموصل عاثوا في البلاد وقطعوا السبل فانتهى خبرهم إلى المنصور فكتب إليه أكفرت النعمة يا سليمان فأجابه وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا فقبل المنصور عذره وصرفهم عنه وقال المتوكل لأبي العيناء ما أشد ما مر عليك في ذهاب بصرك قال فوت رؤيتك يا أمير المؤمنين وحكى أن الحجاج طاف ليله فظفر برجلين سكرانين فقال من أنتما فقال أحدهما أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود وسأل الآخر فقال أنا ابن من ذلت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها تأتيه بالرغم وهي صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها فسأل الحجاج عن أبويهما فإذا أبو الأول باقلاني وأبو الاخر حجام فقال الحجاج أطلقوهما لأدبهما لا لنسبهما لئن أخطأ النسب فما أخطأ الأدب وقد أخذ بعض الشعراء قول الثاني فقال يمدح حجاماً في معرض التهكم والاستهزاء أبوك حز النجاد عاتقه ... كم من كميّ أدمى ومن بطل يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثائر على وجل وممن رشق من الفهماء بسهام المقال ... فزبرها بعارضة أحد من النصال عروة بن الزبير وذلك أنه دخل على عبد الملك بن مروان يوماً فلما استقر به المجلس تجاذب الجلساء أذيال المذاكرة وتساقوا أكواب المحاورة فذكر أخاه

عبد لاله فقال كان أبو بكر يفعل كذا وكذا وكان أبو بكر يقول كذا فقال له انسان تكنيه عند أمير المؤمنين لا أم لك فقال إلي يقال لا أم لك وأنا ابن عجائز الجنة يعني إن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جدته وعائشة أم المؤمنين خالته وأسماء ذات النطاقين أمه ودخل شاب على المنصور فسأله عن والده فقال مرض والدي رحمه الله يوم كذا ومات رحمه الله يوم كذا وترك من المال رحمه الله كذا فانتهره الربيع وقال بين يدي أمير المؤمنين توالى بالدعاء لأبيك فقال الشاب لا الومك يا ربيع لأنك لم تعرف حلاوة الاباء فضحك المنصور وخجل الربيع وذلك إن الربيع كان مولى للمنصور لا يعرف له أب قال أبو الفرج الأصفهاني كان الربيع يدعى أنه ابن يونس بن أبي فروة وبنو فروة يدفعون ذلك ويزعمون إنه لقيط وجد منبوذاً وكفله يونس فلما كبر وهبه يونس للمنصور وقبل الخلافة فلما ولي الخلافة جعله حاجباً ثم جعله وزيراً وقال ابن عبدوس الجهشياري هو الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة واسم أبي فروة كيسان مولى الحرث الحفار مولى عثمان بن عفان وكان يونس شاطراً بالمدينة فعلق أمة قوم بالمدينة ووقع عليها فجاءت بالربيع فاستعبد ولم يكن ليونس مال فيبتاعه فاتباعه زياد بن عبد الله خال أبي عبد الله السفاح فأهداه إليه ولم يزل يخدمه حتى مات فخدم أبا جعفر بعده فخص له واستولى على أمره لحذاقته ونباهته وحكى إن قرشياً سأل خالد بن صفوان بن الأهتم التميمي عن اسمه فانتسب له فقال القرشي إن اسمك لكذب ما أحد في الدنيا بخالد وإن أباك لحجر بعيد من الرشيح وإن جدك لأهتم والصحيح خير من الأهتم فقال له خالد قد سألت فأجبتك فممن أنت قال من قريش قال من أي قريش أنت قال من بني عبد الدار قال خالد لم تصنع شيأً يا أخا عبد الدار فمثلك يشتم تميماً في عزها وشرفها وقد هشمتك هاشم وأمتك أمية وجمحت بك جمح ورضخت رأسك فهر وخزمت أنفك مخزوم ولوت بك لؤي وغلبتك غالب ونفتك مناف وزهرت عليك زهرة وأقصتك قصي فجعلتك عبد دارها ومنهى عارها تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا فخر الرجل ميتاً من شدة الغيظ فكانت امرأته تنادي في أزقة البصرة صارخة خالد قتل بعلي بلسانه وادعى أهله على خالد بديته لأنه مات بسبب كلامه

وافتخر قوم باليمن عند هشام بن عبد الملك فقال لخالد ابن صفوان أجبهم فقال ما عسى أن أقول لقوم هم بين ناسج برد ودابغ جلد وسائس قرد ملكتهم امرأة ودل عليهم هدهد وغرقتهم فارة وقال معاوية لعقيل ما حال عمك أبي لهب قال في النار يفترش عمتك حمالة الحطب ودخل عقيل بعدما كف بصره على معاوية يوماً فقال له ما بالكم تصابون في أبصاركم يا بني هاشم يعرض به وبعبد الله بن عباس قال كما تصابون أنتم في بصائركم يا بني أمية وحكى إن هند ابنة عتبة بن ربيعة وقفت بالموسم وقالت يا بني هاشم أين أبي أين أخي أين عمي أين الذين كانت وجوههم تضئ للساري في الليل العاكر ونسق بمدحهم لسان الذاكر فقال لها عقيل بن أبي طالب إذا دخلت النار فخذي على شمالك ودخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك فلما رآه دميماً حقيراً قال له لعنة الله على رجل أجرك رسنه وولاك خيله فقال يا أمير المؤمنين رأيتني والأمر عني مدبر فلور أتيني والأمر علي مقبل لاستعظمت مني ما استصغرت فقال له سليمان أترى الحجاج بلغ قعر جهنم بعد فقال يا أمير المؤمنين يجئ الحجاج يوم القيامة بين أبيك وأخيك قابضاً على يمين أبيك وشمال أخيك فضعه حيث شئت ودخل بعض الشعراء على أمير يريد مدحه فقال له الأمير ممن أنت قال من تميم قال الذين يقول فيهم الشاعر تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت أخذت امرأة في زنا فطيف بها على جمل فقال لها بعض المجان كيف خلفت الحاج قالت بخير وكانت أمك في النفر الأول وقال رجل للفرزدق كيف عهدك بالحر قال منذ ماتت عجوزك وقال عبد الله بن طاهر لرجل ما بال شدقك معوجاً قال عقوبة عاقبني الله بها لكثرة ثنائي عليك بالباطل اجتمع أبو حنيفة النعمان بن ثابت وشيطان الطاق إبراهيم بن هرون عند المهدي بعد موت جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه وعن آبائه فقال أبو حنيفة لشيطان الطاق يعرض به مات أمامك فقال له ابشر فإن أمامك من

المنظرين إلي يوم الوقت المعلوم فقال المهدي لله درك لقد أجدت وأمر له بعشرة آلاف درهم ومازح المتوكل أبا العيناء فقال هل أبصرت طالبياً حسن الوجه فقال يا أمير المؤمنين وهل يسئل أعمى عن مثل هذا قال إنما سألتك عما سلف إذ كنت بصيراً قال نعم رأيت منهم ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه ولا ألطف شمائل قال المتوكل نجده كان مؤاجراً ونجدك كنت قواداً عليه قال أبو العيناء وتفرغت لهذا يا أمير المؤمنين أتراني كنت أدع موالي وأقود على الغرباء قال اسكت يا مأبون قال مولى القوم منهم قال المتوكل أردت أن أشتفي منهم به فأشتفي لهم مني وقال رجل لمغنية أشتهي أن أقتلك قالت ولم قال لأنك زانية قالت فكل زانيه تقتل قال نعم قالت فابدأ بمن تعول لقي خالد بن صفوان الفرزدق وكان كثيراً ما يداعبه وكان الفرزدق دميماً فقال له أبا فراس ما أنت بالذي لما رأينه أكبرته وقطعن أيديهن فقال الفرزدق ولا أنت أبا صفوان بالذي قالت الفتاة لأبيها في خقه يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمير، رأى أبو نواس غلاماً جميلاً يمشي في بعض السكك فقال له ما تصنع الحور بين الدور فقال الصبي ما يصنع الشيطان بين الحيطان وحبس عمرو بن العاص عن جنده العطاء فقام إليه رجل حميري وقال أصلح الله الأمير إذا لم تعطنا شيأً فاتخذ جنداً من حجارة لا ياكلون ولا يشربون فقال له عمروا خسأ يا كلب فقال الحميري إن كنت كما ذكرت فأنت اذن أمير الكلاب وممن تهكم في خطابه ... واعتمد الهزل في جوابه ما حكي أن خالد بن الوليد لما قدم اليمامة نزل عسكره على قصره من قصور الحيرة يقال له قصر بني بقيلة فسألهم أن يبعثوا له رجلاً من عقلائهم وذوي أنسابهم فبعثوا إليه عبد المسيح بن بقيلة فأقبل يدب في مشيه فقال خالد بعثوا إلينا شيخاً لا يفهم شيأً فلما وصل إليه قال أنعم صباحاً فقال خالد إن الله أكرمنا بتحية خير من هذه ثم قال له أين أقصي أثرك قال ظهر أبي فقال من أين خرجت قال من بطن أمي قال علام أنت قال على الأرض قال فيم أنت قال في ثيابي فقال له تعقل قال نعم وأقيد قال ابن كم أنت

قال ابن رجل وامرأة قال كم أتى عليك قال لو أتى علي شيء لقتلتني قال كم سنك قال ست وثلاثون قال خالد ما رأيت كاليوم أسألك عن شيء وتجيبني عن غيره قال ما أجبتك إلا عما سألت قال كم عمرك قال ثلثمائة وخمسون سنة فجعل لا يسأله عن شيء إلا أجابه وقال الحجاج لرجل من الخوارج أجمعت القرآن قال ما كان مفرقاً فأجمعه قال أفتحفظه قال ما خشيت فراره حتى أفحظه قال ما تقول في أمير المؤمنين قال لعنة الله ولعنك معه قال إنك مقتول فكيف تلقى الله قال ألقاه بعملي وتلقاه بدمي وكان المنصور قد ألزم الناس بلباس قلانس طوال وإن يطيلوا حمائل سيوفهم وإن يكتبوا عليها فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وذلك في سنة خمس وخمسين ومائة وفي هذه السنة وفد الشافعي رضي الله عنه فدخل عليه أبو دلامة واسمه زيد بن الجون في هذا الزي فقال له كيف أنت يا أبا دلامة قال كيف حال من صار وجهه في وسطه وسيفه في استه ونبذ كتاب الله وراء ظهره فضحك منه وأمر بتغيير ذلك الزي وماتت حمادة بنت عيسى عمة المنصور فخرج في جنازتها فرأى أبا دلامة واقفاً على شفير قبرها فقال ما أعددت لهذه الحفرة يا أبا دلامة قال عمة أمير المؤمنين يؤتى بها الساعة فتدفن فيها فغلب المنصور الضحك حتى ستر وجهه بطرف ردائه حياء من الناس قال فتى لأبيه زوجني قال أو تحسن أن تعمل قال نعم أقيم أيرى وأسدد طعني وألصق عانتي وأشد صمي فقالت أمه لأبيه تعلم أسخن الله عينك من ابني فديته عرض رجل يقال له أبو البقر وكان ظريفاً مطبوعاً ماجناً على موسى بن عبد الملك فقال والله ما أعرف هذا فقال والله إنك لأعرف به من الترك بالبوم والغزاة بالروم والعرب بالشيح والقيصوم ولكنك ضجرت ضجر المحب من الرقيب فقال أنت أبو البقر قال أنا أبو القوم الذين بين يديك فضحك منه وقضى حاجته وتعرض أبو العير للمتوكل والمتوكل مشرف من قصره الجعفري وقد جعل في رجليه قلنسوتين وعلى رأسه خفاً وجعل سراويله قميصاً وقميصه سراويل فقال المتوكل علي بهذه المثلة فلما مثل بين يديه قال له أنت شارب قال لا بل عنفقة يا أمير المؤمنين قال إني أضع رجلك في الأدهم وأنفيك إلى فارس قال ضع رجلي في الأشهب وانفني إلى راجل قال أتراني في قتلك مأثوم قال لا بل ماء بصل يا أمير المؤمنين فضحك منه ووصله

وممن ليم على قبيح فعاله ... فسدّده بمغالطات مقاله ما ذكر إن رجلاً كان له أرض إلى جانب أرض لرجل آخر فكان الرجل يضم كل سنة قطعة منها إلى أرضه فقال له يوماً ما هذا النقصان في أرضي والزيادة في أرضك قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال فمن أين أتيت النقص قال يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم وسئل بعض الوعاظ لم لم تنصرف أشياء فلم يفهم ما قيل له فقال لسائله يا هذا اقتف آثار المهتدين ولا تسأل سؤال الملحدين أما سمعت قول من يحيي الموتى ويميت الأحياء يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء لقد ارتكبت بمخالفتك ذنباً عظيماً فاستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً وقرأ قارئ في روضة تخبزون فقال ماجن خشكاراً أم حوارى فقال ما ازاد وافقيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وقال يحيى بن أكثم لشيخ من أهل البصرة بمن اقتديت في تحليل المتعة قال بعمر بن الخطاب قال يحيى كيف هذا وعمر كان أشد الناس فيها لأن الخبر الصحيح أتى عنه إنه صعد المنبر فقال الله ورسوله أحل لكم متعتين وافى محرمهما عليكم وأعاقب من فعلهما قال فنحن نقبل شهادته ولا نقبل تحريمه وحكى إن الفضل بن الربيع قال كنت أقرأ كتاباً ورد علي وإلى جانبي رجل مدني ينظر فيه فقلت له ما تصنع ويحك قال بلغني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نظر في كتاب أخيه المؤمن بغير اذنه فكأنما تطلع في النار ولنا أشياخ تقدمونا فأردت أعرف أين مكانهم منها فشغلني الضحك منه عن الانكار عليه ولما قتل الحجاج بن يوسف عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء فأمر الحجاج الناس أن يجتمعوا إلى المسجد ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أهل مكة بلغني بكاؤكم على ابن الزبير وكان من أحبار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازع أهلها فيها فخلع طاعة الله واستكن بحرم الله ولو كان شيأً مانعاً للعصاة لمنعت آدم عليه السلام حرمة الجنة لأن الله خلقه بيده ونفخ فيه من

روحه وأسجد له ملائكته وأباحه جنته فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابتن الزبير والجنة أكبر حرمة من الكعبة وجلس نحوي إلى جانب مبر واعظ فلحن الواعظ فقال له النحوي أخطأت يا لحنة فقال الواعظ بديهاً أيها المعرب في أقواله اللاحن في أفعاله مالي أراك تائهاً منكراً أكل ذلك لأنك رفعت ونصبت وخفضت وجزمت هلا رفعت إلى الله يديك في جميع الحاجات ونصبت بين عينيك ذكر الممات وخفضت نفسك عن الشهوات وجزمتها عن اتباع المحرمات أو ما علمت إنه لا يقال يوم القيامة ألا كنت فصيحاً معرباً وإنما يقال لك لم كنت عاصياً مذنباً فلو كان الأمر كما زعمت لخواطب كما حكمت لكان هرون أحق بالرسالة من موسى إذ قال الله تعالى أخباراً عنه وأخي هرون هو أفصح مني لساناً فجعل الرسالة في موسى لفصاحة تبيانه لا لفصاحة لسانه فالفصاحة فصاحة الجنان لا فصاحة اللسان ثم أنشد مجازف في الفعال ذو زلل ... حتى إذا جاء قوله وزنه قال وقد أعجبته لفظته ... تيهاً وعجباً أخطأت يا لحنه فقلت أخطأ الذي يقوم غدا ... ولا يرى في كتابه حسنه ومن أظرف ما قيل ياه على الناس باعرابه ... أي فاحذروني إنني ملسن إن كان في أقواله معربا ... فإنه في فعله يلحن نظر رجل إلى مخنث ينتف لحيته فعنفه فقال له أتحب أن يكون في استك قال لا فقال شيء لا تحبه أن يكون في استك كيف أحب أن يكون في وجهي وقيل لمخنث لم تنتف لحيتك فقال لسائله وأنت أيضاً لم لا تنتفها وسمع بعضهم قارئاً يقرأ الأكراد أشد كفراً ونفاقاً فقال له ويحك إنما هي الأعراب فقال كلهم يقطعون الطريق عليهم لعنة الله وسخطه

الفصل الثالث من الباب السابع

الفصل الثالث من الباب السابع فيمن سبق بذكائه وفطنته إلى ورود حياض منيته ينبغي لنا أن نذكر مقدمة تنتج عنها حقيقة ما ترجمنا عليه وساقنا الغرض إليه وهي إن الانسان إذا كان ذا فكر ثاقب وقريحة وقادة ربما تشكل له فيها خيالات وهمية وأمور حدسية تؤيدها اصابات اتفاقية خارقات للعوائد الفعلية كالحدقة إذا زاد شعاع باصرها عن حد الاعتدال ربما أدركت من المرئيات ما لا يمكن العبارة عنه فكان كالنقص والاختلال وكذلك السمع أيضاً من شدة حادة الحاسة ربما عرض له طنين لكثرة ما يعي من السمعيات كما قلنا في إدراك حدة البصر من المرئيات فتقرطس سهام تلك الخيالات الفكرية أعراض الأقدار ولا يعلم صاحبها أن الله أجراها بارادته شريكي عنان عبرة لأولي البصائر والأبصار فمن لم يجعل الله له نوراً قادته فرعنة طبعه إلى القول والعناد وحسنت له أن يتصف بغير صفات العباد أو يقول إن السعادة إذا كانت مناطة بأفعال الانسان في حركاته وسكناته مساعدة له في سائر حالاته حتى إنه إذا باشر متعسراً تيسر أو صعباً هان أو شديد ألان ربما سولت له خيالات شيطانية إن تلك الأفعال انفعلت بقدرته لا بالقدرة الالهية فتخرج النفس بدعاويها عن صفاتها البشرية وأطوارها الطينية كما فعل النمر وذو فرعون ومن تابعهما بتخيلاتهم الفاسدة من أصحاب المقالات وأرباب المحالات وكل منهم عبد صنم هواه فأضله وأغواه ورقاه بدعواه أصعب مرتقى فهوى به إلى أسفل دركات الشقا فمنهم ممن نازع الله رداءه فأشمت به مخالفيه وأعداءه المقنع الخراساني واسمه عطاء وكان أعور قصاراً من أهل مرو وكان لا يدع القناع عن وجهه لئلا يرى قبحه وكان يعرف بسرعة السحر والنيرنجيات والهندسه وكان أصل معتقده الحلول والتناسخ فادعى الربوبية في قومه فتابعوه وقالوا بقوله واسقط عمن تبعه الصلاة والزكاة والصوم والحج فمن مفصل أباطيله أنه زعم إن الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبير حل في آدم ثم من آدم في نوح ثم إلى صورة بعد صورة من صور الأنبياء والحكماء حتى وصل إلى صورة أبي مسلم الخراساني فحل فيها ثم منه إليه فعبده قومه وقاتلوا دونه واتخذ وجهاً من ذهب لئلا يرى قبح وجهه فلا يعبد

ولهذا سمي المقنع وكان ظهوره في خلافة المهدي وحميد بن قحطبة وإلى خراسان يومئذ واشتدت شوكته ودامت فتنته أربع عشرة سنة وكانت بما وراء النهر بنواحي الصغد وإيلاق وما داناها من بلاد الترك ولما تمادى أمره أنفذ إليه المهدي عسكراً فقاتله فكانت الحرب بينه وبين جموعه سجالاً فلما أحس بالغلبة صنع له أخدوداً من نار وألقى نفسه فيه وقيل أمر أن يغلي له سكر وقطران ثم ألقى نفسه فيه فذاب ولم يبق له أثر فازداد أصحابه بذلك ضلالاً وقالوا قد رفع إلى السماء وذلك في سنة ستين ومائة من الهجرة وممن كان يقول بالحلول وأجمع معاصريه على ضلالة ما يقول حسين الحلاج وهو الحسين بن منصور ويكنى أبا محمد وأبا عبد الله وأبا مسعود وأبا مغيث وكان ظهوره في سنة إحدى وثلثمائة في خلافة المقتدر فمما أورده المؤرخون الثقاة من كلامه المنتقد عليه قوله أنا الحق وقوله ما في الجبة إلا الله وقوله أيضاً سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته الثاقب ثم بدا محتجباً ظاهراً ... في صورة الآكل والشارب ومن كلامه لمن تابعه من عذب نفسه في الطاعة وصبر عن اللذة والشهوة وصفا حتى لا يبقى فيه شيء من البشرية حل فيه روح الإله كما حل في عيسى عليه السلام ولا يريد إذ ذاك شيأً إلا كان كما أراده ويكون جملة فعله فعل الله وكان يظهر أن سني لمن كان من أهل السنة وشيعي لمن كان من أهل الشيعة ومعتزلي لمن كان يعتقد الاعتزال وكان مع ذلك شعبذياً يستعمل المخاريق حتى استهوى به من لا تحصيل عنده ثم ادعى الربوبية وقال بالحلول وعظم افتراؤه على الله وكان يدعى أنه المغرق لقوم نوح والمهلك لعاد وثمود وكان لا يحسن من القرآن شيأً ولا من الحديث ولا من الفقه ولا من الشعر شيأً وكان عنوان كتبه إلى أصحابه من الهو هورب الأرباب إلى عبده فلان وكانوا يكتبون إليه يا ذات الذات يا منتهى غاية الغايات نشهد إنك مصور فيما شئت من الصور وإنك لتتصور في صورة الحسين بن منصور الحلاج ونحن نستجير بك

ونرجو رحمتك يا علام الغيوب فاتصل خبره بعلي بن عيسى الوزير فأحضره وأحضر له الفقهاء فسألوه فلم يجدوه يعرف شيأً وأسقط في كلامه فأمر به فضرب وصلب حياً في الجانب الشرقي ثم في الجانب الغربي ليراه الناس ثم حبس في دار الخلافة مدة ثم أطلق ثم ظهر في سنة تسع وثلاثين بعد أن دخل الهند وما وراء النهر وبلاد تركستان وخراسان وسجستان وكرمان وفارس وبلاد الجبل والعراق وكان كثير التلون له في كل بلد اسم وكنية ولقب يلبس تارة المسوح وتارة الدراعة وتارة الثياب المصبغة وتارة الفوطة والمرقعة وتارة العباءة وأشكل حاله على الناس فقائل ساحر وقائل مشعبذ ومنهم من يثبت له الكرامات وذلك لما يظهر عنه من خوارق العادات فلما ظهر في المرة الثانية اختدع جماعة من أصحاب المقتدر وكان وزيره يومئذ أحمد بن العباس فعرض حاله على الفقهاء فأفتى بقتله خمسة وثمانون بفتاوي وافقت رأى المقتدر وممن أفتى بقتله القاضي أبو عمر ومحمد بن يوسف المالكي وأبو العباس أحمد بن شريح الشافعي وأبو بكر بن فورك وداود الظاهري فأمر به فضرب مائة سوط وقطعت أطرافه وصلب حياً ثم ضرب عنقه من الغد ولف في ردائه وأحرق بالنفط وذرى رماده في دجلة فلما فعل به ذلك جعل أصحابه يعدون نفوسهم برجوعه بعد أربعين يوماً وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل ولم يصلب وإنما ألقى شبهه حالة القتل والصلب كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد حمل الغزالي اطلاقاته التي تنبو عنها مسامع العقلاء وترفضها مسامع العلماء حملاً حسناً وتأولها تأويلاً بديعاً وقال هذا من فرط المحبة والوجد ذكره في كتابه المسمى مشكاة الأنوار والله تعالى عالم الاعلان من أمره والأسرار وكان وقتله في يوم السبت لثلاث بقين من ذي القعدة الحرام سنة تسع وثلثمائة وظهر في أيام الراضي بالله علي بن محمد السلمغاني المعروف بابن أبي القراقر وكان غالياً في التشيع يقول بالتناسخ والحلول وكان ممن وافقه وخلع ربقة الاسلام ابن أبي عوانة الكاتب وابن الفرات وابنه الحسن والحسن بن القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب فوشى بهم إلى الراضي فأحضرهم وكان

منهم من ارتقى بادعائه النبوة مرتقى صعبا

الحسن بالرقة فسألهم عما رموا به فأنكروه فأمر أن يحمل ما في بيت أبي القراقر من الأوراق فوجدوا خط الحسن وابن أبي عوانة يخاطبانه بالالهية فأمر الراضي ابن أبي عوانة أن يصفع ابن أبي القراقر فلما نهض لذلك أظهر رعشة في يده ودنا إلى رأسه فقبلها وقال استغفرك يا إلهي وخالقي ورازقي فقال الراضي لابن أبي القراقر أليس قد أنكرت ما نسب إليك من ادعائك الإلهية فقال والله ما أمرته بذلك فأمر الراضي بهما فصلبا حيين أياماً ثم قتلا وأحرقا وبعث إلى الحسن من قتله بالرقة وذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة منهم من ارتقى بادعائه النبوة مرتقى صعبا فصير جسمه للطير مرعى وللهوام نهبا أول من ارتكب هذا المحظور وامتطى فيه صهوة الغرور بعد ما نسخ نور صبح الرسالة ظلام ليل الضلالة مسيلمة وهو مسيلمة بن حبيب بن ثمامة بن أثال ابن حبيب بن حنيفة بن عجل وكان صاحب نيرنجيات وهو أول من أدخل البيضة في القارورة وسجاح وهي سجاح ابنة الحرث من بني يربوع تنبأت وزعمت إن الوحي يأتيها وتابعها كثير من العرب ورؤساء الجزيرة قال ابن أبي الزلازل في كتاب أنواع الأسجاع كان من حديث سجاح اليربوعية بنت سويد بن خلف بن أسامة بن العنبر بن يربوع إنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه تنبأت سجاح وخرجت من تغلب فتبعها منهم ناس كثير ومن النمر بن قاسط واياد وسارت بهم إلى بلاد بني تميم فقالت الأمرة منكم والملك ملككم وقد بعثت نبية فقالوا لها مرينا بأمرك فقالت إن رب السحاب والتراب يأمركم أن توجهوا الركاب وتستعدوا للذهاب حتى تغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب فسارت بنو حنظلة إلى بني ضبة وهم من الرباب وسارت سجاح ومعها بنو تغلب والنمر واياد إلى حفير تميم ولما بلغها حديث مسيلمة بن ثمامة قالت لهم عليكم باليمامة زفوا زفيف حمامة فإنها دار ثمامة نلقي مسيلمة بن ثمامة فإن كان نبياً ففي النبي علامة وإن كان كذاباً فلقومه الندامة فإنها عبرة مدامة لا يلحقكم بعدها ملامة فخرجوا معها وتبعها عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم والأقرع بن حابس وشبيب بن ربعي وغيرهم من سادات العرب حتى نزلوا بالصمان فلما بلغ مسيلمة مسيرها إليه بمن جاء معها خافها

وهابها وأهدى لها ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه فأمنته وأذنته في القدوم عليها فجاء إليها وافداً في أربعين من بني حنيفة وكانت راسخة في النصرانية فقال مسيلمة لأصحابه اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه ففعلوا وأرصدوا حول القبة أناساً منهم للحراسة فلما دخلت عليه حدثته وحادثها وقالت ما أوحى إليك قال أوحى إلي ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشي قالت ثم ماذا قال أوحى إلي إن الله خلق النساء أفواجاً وجعل الرجال لهن أزواجاً فنولج فيهن غرا ميلنا ايلاجاً ثم نخرجها إذا شئنا اخراجاً فينتجن لنا سخاً لا نتاجاً قالت أشهد أنك نبي قال هل لك أن أتزوجك فأذل بقومي وقومك العرب قالت نعم فقال الا قومي إلى النيك ... فقد هيي لك المضجع فإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع قالت به أجمع فهو للشمل أجمع صلى الله عليك قال كذلك أوحى إلي فأقامت عنده قليلاً ثم انصرفت إلى قومها فقالوا لها ما عندك قالت وجدته على حق فتبعته وتزوجته قالوا فهل أصدقك شيأً قالت لا قالوا ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ينكح بغير صداق فرجعت إليه فلما رآها قال لها مالك قالت اصدقني صداقاً قال من مؤذنك قالت شبيب بن ربعي الرباحي قال علي به فلما جاء قال قد وضعت عنكم صلاة الغداة وصلاة العتمة وجعلت ذلك صداقها فناد في أصحابك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة فكان عامة بني تميم لا يصلونهما وكان مما شرع لهم من أصاب ولداً من امرأة لا يعود يطؤها إلا أن يموت الولد وحرم النساء على من ولد له ولد ذكر وفيه وفي سجاح يقول قيس بن عاصم المنقري أضحت نبيتنا انثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا

فلعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغرانا أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ماء مزن حيثما كانا ولما تبعته العرب وارتدت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى اليمامة فقاتل بني حنيفة واستشهد خلق كثير من المهاجرين والأنصار وانهزم مسيلمة ومن بقي معه فأدركه وحشي بن حرب فقتله وأسلمت سجاح فيما بعد وحسن إسلامها ووحشي هذا هو الذي قتل حمزة بن عبد المطلب يوم أحد ووحشي يومئذ كافر وقال عند قتله لمسيلمة يا معشر العرب إن كنت قتلت بهذه الحربة أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قتلت بها اليوم أبغض الخلق إلى رسول الله فهذه بتلك وكان خروجه لعنه الله آخر سنة عشر من سني الهجرة قبل حجة الوداع وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشاً قوم يعتدون أي يجحفون فلما قرئ كتابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب لعنه الله السلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وكان كتاب مسيلمة بخط عمرو بن الجارود وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم بخط أبي بن كعب ذكر ذلك ابن عبدوس الجهشياري ثم كان من أمره ما ذكرناه آنفاً وممن تنبأ وزعم إن الوحي يأتيه الأسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب وكان يلقب ذا الخمار بالخاء المعجمة لأنه كان يخمر وجهه أبداً وقيل بالحاء المهملة لأنه كان له حمار يقول له اسجد فيسجدوا برك فيبرك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاد من حجة الوداع توعك فبلغ ذلك العنسي فادعى النبوة وكان يعرف شيأً من الشعبذة والنيرنجيات ويرى منها عجائب فتبعته مذ حج وقصد نجران فاخرج منها عمرو بن حزم وملكها ثم قصد صنعاء وغلب على الطائف إلى عدن إلى البحرين واستفحل أمره فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى من باليمن من المسلمين ان اقتلوا الأسود العنسي أما مصادمة وأما غيلة وكان باليمن قوم من الفرس يسمعون الأبناء اسلموا مع بادام وكان بادام عاملاً للفرس على اليمن فلما أسلم ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بيده وأقره عليها فلما مات فرق النبي صلى الله عليه وسلم بلاد اليمن على جماعة من أصحابه وكان الأسود لما قتل شهر بن بادام وملك صنعاء استصفى زوجته فاتفق الأبناء معها على قتله غيلة وواعدتهم على ليلة

كانت عادته يشرب فيها ودلتهم على مكان ينقبونه يصلون منه إليه فوجدوه قد سكر ونام فوثبوا عليه فسمع الحرس ضوضاء فقالوا لزوجته ما هذا قالت نزل عليه الوحي فلما قتلوه خرجوا مظهرين شعار الاسلام فوثب المسلمون من كل جانب وقتلوا خلقاً ممن كان معه ورجع العمال إلى أعمالهم وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافى الرسول المدينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات قال عبد الله بن عمر أتانا الخبر من السماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة التي قتل فيها فقال قتل العنسي فقيل من قتله قال رجل مبارك من أهل بيت مبارك قيل من هو قال فيروز وفي صبيحة تلك الليلة قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مدة العنسي من أولها إلى آخرها ثلاثة أشهر وممن امتطى مطا هذا الغرر فرمته الأيام من تغيظها بالشرر المختار بن أبي عبيد الثقفي وكان قد جمع ليطلب ثأر الحسين عليه الرحمة والرضوان وكان المختار لا يوقف له على مذهب كان خارجياً ثم صار رافضياً في ظاهره ثم تنبأ وزعم أن جبريل يأتيه بالوحي فلما بويع عبد الله بن الزبير بالخلافة بعث أخاه مصعباً إلى العراق فقاتل المختار فقتله وقتل معه خلق كثير ممن تابعه وذلك في سنة سبع وستين وتنبأ أبو الحسين المتنبي في بادية السماوة ونواحيها وتبعه من فيها من كلب وغيرها فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيد فقاتله وأسره وشرد من كان اجتمع عليه وحبسه مدة طويلة فاعتل وكاد أن يتلف فسئل فيه فاستتابه وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الاسلام وأن لا يعود إلى مثله وتنبأ حائك بالكوفة وأحل الخمر فقال رجل لابن عباس ذلك فقال لا يقبل منه حتى لا يبرئ الأكمه والأبرص فأتى به وإلى الكوفة فاستتابه فأبى أن يتوب ويرجع فأتته أمه تبكي فقال لها تنحى ربط على قلبك كما ربط على قلب أم موسى وأتاه أبوه فسأله أن يرجع فقال له تنح يا آزر فأمر الوالي بقتله فقتل وصلب وظهر في أيام أبي مسلم نها فرند المجوسي وكان قد غاب عن أهله سبع سنين في الصين فأصاب من طرفها قميصاً تحويه قبضة الرجل فجاء مختفياً فظهر في ناووس تجاور بلده وادعى إنه كان مرفوعاً في السماء وإنه نبي فضل به خلق كثير وجاء بسبع صلوات وحرم الميتة وتزويج الأم والأخت وبنات العم وبنات الأخ وهذا مما يخالف دين المجوسية وفرض عليهم السبع في الأموال وحظر أن يتجاوز بالمهر أربعمائة درهم فاجتمع موابذة المجوس إلى أبي مسلم وقالوا هذا أفسد علينا ديننا ودينكم فأنفذ إليه أبو مسلم من أخذه وقتله وصلبه وادعى رجل النبوة في زمن خالد ابن عبد الله القسري وعارض القرآن فأتى به خالد فقال له ما تقول قال عارضت القرآن قال بماذا قال يقول الله تعالى إنا أعطيناك الكوثر وتلا السورة إلى آخرها وقلت إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر ولا تطع كل ساحر فضربت رقبته وصلب فمر به خليفة الشاعر فضرب بيده على الخشبة وقال إنا أعطيناك العود فصل لربك من قعود وأنا ضامن لك أن لا تعود فقتل وصلب وظهر في أيام أبي مسلم نها فرند المجوسي وكان قد غاب عن أهله سبع سنين في الصين فأصاب من طرفها قميصاً تحويه قبضة الرجل فجاء مختفياً فظهر

في ناووس تجاور بلده وادعى إنه كان مرفوعاً في السماء وإنه نبي فضل به خلق كثير وجاء بسبع صلوات وحرم الميتة وتزويج الأم والأخت وبنات العم وبنات الأخ وهذا مما يخالف دين المجوسية وفرض عليهم السبع في الأموال وحظر أن يتجاوز بالمهر أربعمائة درهم فاجتمع موابذة المجوس إلى أبي مسلم وقالوا هذا أفسد علينا ديننا ودينكم فأنفذ إليه أبو مسلم من أخذه وقتله وصلبه وادعى رجل النبوة في زمن خالد ابن عبد الله القسري وعارض القرآن فأتى به خالد فقال له ما تقول قال عارضت القرآن قال بماذا قال يقول الله تعالى إنا أعطيناك الكوثر وتلا السورة إلى آخرها وقلت إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر ولا تطع كل ساحر فضربت رقبته وصلب فمر به خليفة الشاعر فضرب بيده على الخشبة وقال إنا أعطيناك العود فصل لربك من قعود وأنا ضامن لك أن لا تعود ومنهم من ادعى إنه الامام المنتظر ... فصير عبرة لمن أمعن في العواقب النظر ظهر في شوال سنة خمس وخمسين ومائتين في قرى البصرة رجل ادعى إنه على ابن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن أبي طالب واستعمل الزنج الذين يعملون في السباخ وأطمعهم في مواليهم ووعدهم إنه يملكهم ما في أيدي مواليهم فاجتمع له خلق كثير وجم غفير وعبر دجلة ونزل قرية تسمى الدينارية وزعم إن سحاية أظلته ونودي منها اقصد البصرة تملكها وإنه يطلع على ما في ضمائر أصحابه وما يفعل كل واحد منهم فلما كان يوم عيد الأضحى من هذه السنة صلى بهم وخطب لهم وذكرهم ما كانوا فيه من الشقاء وسوء الحال وإن الله أنقذهم من ذلك وإنه يريد أن يرفع أقدارهم ويملكهم العبيد والأموال وشن بهم الغارات على أطراف بلاد العراق فأجلى أهل الضياع منها واستفحل أمره وقصد البصرة فملكها سنة تسع وخمسين وقتل من فيها من الرجال والنساء والصبيان وأحرق المسجد الجامع وبنى مدينتين على شاطئ دجلة وحصنهما بالأسوار والخنادق فانتبذت إليه العساكر من بغداد براً وبحراً فكانت الحرب بينه وبينهم سجالاً إلى أن كانت الدائرة عليه في صفر سنة سبعين ومائتين ونسبه الذي ادعاه لم يكن صحيحاً والصحيح أن اسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم ونسبه

في عبد قيس وكان ظهوره في أيام المهدي وقتله في أيام المعتمد على يد أخيه الموفق وظهر في أيام خلافة المعتمد سنة ثمان وسبعين ومائتين بقرية من سواد الكوفة رجل أحمر العينين يسمى كرميتة فاستثقلو هذه اللفظة فخففوها وقالوا قرمط فكان يظهر الزهد والتقشف وكثرة الصلاح فاجتمع إليه أهل القرية وعظموه فلما تمكن منهم أعلمهم إنه الذي يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سيخرج لكم من أهل بيتي رجل اسمه كاسمي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً فلما أطاعوه أعلمهم إن الصلاة المفروضة عليهم خمسون صلاة في اليوم والليلة فشكوا إليه كثرتها وإنها تعطلهم عن أشغالهم فسوفهم أياماً ثم أتاهم بكتاب يقول الفرج بن عثمان يقول فيه إنه المسيح وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهدي وهو محمد بن الحنفية وهو جبريل وذكر إن المسيح تصور له على صورة إنسان وقال له إنك الداعية وإنك الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك روح القدس وإنك يحيى بن زكريا وعرفه إن الصلاة أربع ركعات ركعتان قبل الفجر وركعتان قبل الغروب وإن الآذان في كل صلاة أربع تكبيرات ويتشهد مرتين ثم يقول أشهد أن آدم رسول الله أشهد أن لوطا رسول الله أشهد أن إبراهيم رسول الله أشهد أن موسى رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله ومن شرائعه إن الصوم يومان في السنة يوم المهرجان ويوم النوروز وإن النبيذ والخمر غير حرام ولا غسل من جنابة ويؤكل كل ذي ناب وذي مخلب وإن القبلة إلى بيت المقدس ويوم الجمعة يوم الاثنين ويشترك في المرأة جماعة من الرجال فأجابه زهاء من عشرة آلاف رجل واتخذ منهم اثني عشر نقيباً وقال لهم أنتم كحواري عيسى ثم إن هذا الشقي المذكور اختفى وأقام رجلاً يعرف بأبي الفوارس واسمه خلف بن عثمان داعياً لمذهبه فتعطل على المعتضد الخراج من سواد الكوفة ونفضوا أيديهم من طاعته وشقوا العصا بمخالفته فأرسل إليهم مسكاً غلام أحمد بن محمد الطائي في عشرة آلاف فارس فظفر بهم وقتلهم وأخذ أبا الفوارس أسيراً وحمله إلى المعتضد فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت أعضاؤه ثم قطعت يداه ورجلاه وضرب عنقه وصلب بالجانب الشرقي سنة تسع وثمانين ومائتين

وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنة مات المعتضد وله من العمر سبع وأربعون سنة وكانت مدة خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وأياماً ثم قام فيهم آخر يسمى علي بن عبد الله فعاث في بلاد الشأم عيثاً ذريعاً وأخرب مدناً وقرى كثيرة وكان بينه وبين طفج بن حف الأخشيدي صاحب مصر والشأم حروب كثيرة أجلت عن قتل الأخشيد الفرغاني فخرجت إليه الجيوش من مصر فحاربوه فقتل في بعض الحروب على دمشق سنة تسعين ومائتين وكان يسمى صاحب الجمل فقام بعده أخوه ويسمى أحمد وتلقب بذي الشامة لشامة كانت في وجهه وأقام له داعيين سمى أحدهما المدثر وزعم إنه لمذكور في القرآن وسمي الآخر المطوق فاشتدت في العناد شوكته وسلطت على العباد فتكته وسار إلى دمشق فصولح عليها بمال فرجع عنها في سنة تسعين وكانت عادته إذا فتح بلداً عنوة قتل من فيها من الرجال والنساء والولدان والبهائم فضاق المسلمون به ذرعاً فاستغاثوا بالمكتفي فجهز لهم جيشاً عظيماً وقدم عليهم الحسين بن حمدان والقاسم بن عبيد الله الكاتب وأمر الجيش بالسمع والطاعة له فواقعهم في شهر المحرم سنة إحدى وتسعين فانهزم وأسلم من كان معه فقتلوا وهرب معه المدثر والمطوق وألجأتهم الهزيمة والخوف إلى قرية من أعمال الفرات تسمى دالية فأنكرهم أهلها واستفصحوا أحدهم عن أمرهم فجمجم في كلامه فعوقب حتى أقر فأخذهم متوليها وحملهم إلى المكتفي وكان بالرقة فرحل بهم إلى بغداد فدخلها ومن معه من الأسراء في شهر ربيع الأول وأمر ببناء دكة في المصلى العتيق ارتفاعها عشرة أذرع ثم أصعدوا عليها فقطعت أيديهم وأرحلهم من خلاف ثم ضربت رقابهم بين يديه ثم أمر بالقرمطي فضرب مائتي سوط وكويت خواصره ثم قتل وصلب على الجسر الأعظم ثم ظهر فيهم رجل يسمى زكروية بن مهرويه في سنة ثلاث وتسعين ونعت نفسه بالمهدي فقطع الطريق على الحاج ونهب القوافل وقتل أهلها وسبي حريمهم فبعث إليه من بغداد جيشاً فحاربه بذي قار وهو موضع بين الكوفة والبصرة فانهزم وأخذ أسيراً جريحاً في شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين فحمل إلى بغداد فمات في الطريق في شهر ربيع الآخر ثم ظهر فيهم رجل يسمى علي بن شبيب ويعرف بالمبرقع فحورب وانهزم وأخذ أسيراً وأدخل بغداد على جمل وضرب عنقه ثم ظهر فيهم أبو سعيد الحسن ابن يوسف بن كودر كان الخيامي بالبحرين فقتله خادمان له صتليان في سنة عشرة وثلثمائة فقام بعده سليمان بن الحسن الجباري فعاث في البلاد وأفسد وقصد مكة شرفها الله تعالى فدخلها يوم التروية سنة سبع عشرة وثلثمائة في خلافة المقتدر فقتل من وجد من الحاج في المسجد الحرام ورمى بالقتلى في بئر زمزم وعرى الكعبة وقلع بابها وأخذ الحجر الأسود فبقى الحجر عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا اشهراً ثم ردوه مكسوراً على يد سنان بن الحسن بن سنان في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلثمائة ونصب في مكانه يوم النحر من السنة المذكورة وكان محكم الرايفي بذل لهم فيه خمسين ألف دينار فأبوا وكان موت سليمان في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة ثم لما دخل المعز لدين الله مصر بعد أخذ جوهر مولا ملها وذلك في سنة اثنتين وستين وثلثمائة في أيام المطيع قصد القائم فيهم يومئذ رجل يعرف بابن غزوان فخرج إليه جعفر بن فلاح فالتقاه بالرملة فقاتله وهزم عسكره وقتله في سنة تسع وستين وثلثمائة ثم قام فيهم رجل يسمى حسناً ويعرف بالأعصم فملك الشأم وأخرج منه عمال المعز فانهزموا بين يديه فتبعهم إلى مصر وملك الصعيد وأسفل الأرض ووصل إلى مصر ونزل بعسكره عليها فخرج إليهم القائد جوهر فحاربهم فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل من العسكر خلق كثير وذلك يوم الجمعة غرة شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وثلثمائة ثم انصرفوا وتركوا الحرب يوم السبت ورجعوا يوم الأحد وهم واثقون بالظفر فلما التقى الجمعان أعطى الله النصر لعساكر القائد جوهر وانكشفت القرامطة بالانهزام وساروا إلى البحرين على نية العود إليها وإلى الشأم فوجدوا بني حمدان قد ملؤا شعابه وأوديته ورفعوا به قواعد الدين والويته ولم يجمع الله للأعصم على شق عصا الاسلام شملاً ولم يمض له بعد في الاسلام قولاً ولا فعلاً وتفرق أصحابه في البلاد أيدي سبا واسترجع منه الدهر ما نهب وسبى وكانت مدة دولتهم ستاً وثمانين سنة وهذا الذي ذكرناه يشترك في القول به أصحاب الآراء والمقالات الخابطون في عشواء الجهالات كأصحاب النحل والملل المتمسكين بآرائهم مع ما فيها من الفساد والخلل كالمعتزلة والحشوية وغلاة الرافضة وسائر الفرق الاسلامية غير الفرقة الناجية التي هي لعواطف لطف الله راجية وكل منهم قد أضله الله على علم فنعوذ بالله من الغواية بعد الهداية ومن الجور بعد الكور ومن الانكار بعد الاستبصار إنه سميع قريب تواب مجيبا بالمكتفي فجهز لهم جيشاً عظيماً وقدم عليهم الحسين بن حمدان والقاسم بن عبيد الله الكاتب وأمر الجيش بالسمع والطاعة له فواقعهم في شهر المحرم سنة إحدى وتسعين فانهزم وأسلم من كان معه فقتلوا وهرب معه المدثر والمطوق وألجأتهم الهزيمة والخوف إلى قرية من أعمال الفرات تسمى دالية فأنكرهم أهلها واستفصحوا أحدهم عن أمرهم فجمجم في كلامه فعوقب حتى أقر فأخذهم متوليها وحملهم إلى المكتفي وكان بالرقة فرحل بهم إلى بغداد فدخلها ومن معه من الأسراء في شهر ربيع الأول وأمر ببناء دكة في المصلى العتيق ارتفاعها عشرة أذرع ثم أصعدوا عليها فقطعت أيديهم وأرحلهم من خلاف ثم ضربت رقابهم بين يديه ثم أمر بالقرمطي فضرب مائتي سوط وكويت خواصره ثم قتل وصلب على الجسر الأعظم ثم ظهر فيهم رجل يسمى زكروية بن مهرويه في سنة ثلاث وتسعين ونعت نفسه بالمهدي فقطع الطريق على الحاج ونهب القوافل وقتل أهلها وسبي حريمهم فبعث إليه من بغداد جيشاً فحاربه بذي قار وهو موضع بين الكوفة والبصرة فانهزم وأخذ أسيراً جريحاً في شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين فحمل إلى بغداد فمات في الطريق في شهر ربيع الآخر ثم ظهر فيهم رجل يسمى علي بن شبيب ويعرف بالمبرقع فحورب وانهزم وأخذ أسيراً وأدخل بغداد على جمل وضرب عنقه

ثم ظهر فيهم أبو سعيد الحسن ابن يوسف بن كودر كان الخيامي بالبحرين فقتله خادمان له صتليان في سنة عشرة وثلثمائة فقام بعده سليمان بن الحسن الجباري فعاث في البلاد وأفسد وقصد مكة شرفها الله تعالى فدخلها يوم التروية سنة سبع عشرة وثلثمائة في خلافة المقتدر فقتل من وجد من الحاج في المسجد الحرام ورمى بالقتلى في بئر زمزم وعرى الكعبة وقلع بابها وأخذ الحجر الأسود فبقى الحجر عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا اشهراً ثم ردوه مكسوراً على يد سنان بن الحسن بن سنان في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلثمائة ونصب في مكانه يوم النحر من السنة المذكورة وكان محكم الرايفي بذل لهم فيه خمسين ألف دينار فأبوا وكان موت سليمان في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة ثم لما دخل المعز لدين الله مصر بعد أخذ جوهر مولا ملها وذلك في سنة اثنتين وستين وثلثمائة في أيام المطيع قصد القائم فيهم يومئذ رجل يعرف بابن غزوان فخرج إليه جعفر بن فلاح فالتقاه بالرملة فقاتله وهزم عسكره وقتله في سنة تسع وستين وثلثمائة ثم قام فيهم رجل يسمى حسناً ويعرف بالأعصم فملك الشأم وأخرج منه عمال المعز فانهزموا بين يديه فتبعهم إلى مصر وملك الصعيد وأسفل الأرض ووصل إلى مصر ونزل بعسكره عليها فخرج إليهم القائد جوهر فحاربهم فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل من العسكر خلق كثير وذلك يوم الجمعة غرة شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وثلثمائة ثم انصرفوا وتركوا الحرب يوم السبت ورجعوا يوم الأحد وهم واثقون بالظفر فلما التقى الجمعان أعطى الله النصر لعساكر القائد جوهر وانكشفت القرامطة بالانهزام وساروا إلى البحرين على نية العود إليها وإلى الشأم فوجدوا بني حمدان قد ملؤا شعابه وأوديته ورفعوا به قواعد الدين والويته ولم يجمع الله للأعصم على شق عصا الاسلام شملاً ولم يمض له بعد في الاسلام قولاً ولا فعلاً وتفرق أصحابه في البلاد أيدي سبا واسترجع منه الدهر ما نهب وسبى وكانت مدة دولتهم ستاً وثمانين سنة وهذا الذي ذكرناه يشترك في القول به أصحاب الآراء والمقالات الخابطون في عشواء الجهالات كأصحاب النحل والملل المتمسكين بآرائهم مع ما فيها من الفساد والخلل كالمعتزلة والحشوية وغلاة الرافضة وسائر الفرق الاسلامية غير الفرقة الناجية التي هي لعواطف لطف الله راجية وكل منهم قد أضله الله على علم فنعوذ بالله من الغواية بعد الهداية ومن الجور بعد الكور ومن الانكار بعد الاستبصار إنه سميع قريب تواب مجيب

الباب الثامن

الباب الثامن في التغفل وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في ذم البلادة والتغفل من ذوي التعالي والتنزل ومعنى التغفل الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة القصد فالمغفل مقصده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد ورميته في الوصول إلى الغرض غير صحيحة كما قال بعض الحكماء إذا فقد العالم الذهن قل على الأضداد احتجاجه وكثر إليهم احتياجه وتعاورته أسنة الشكوك واشتبهت عليه مناهج السلوك وقالوا التغفل تحريف الشيء عن مواضعه مع تيقن إن ذلك صواب كما ذكر إن أحمد بن أبي خالد عرض القصص يوماً على المأمون وهو بين يديه فمر بصة مكتوب عليها فلان اليزيدي فصحفه وقال الثريدي فضحك المأمون وقال يا غلام ثريدة ضخمة لأبي العباس فإنه أصبح جائعاً فحجل أحمد وقال ما أنا جائع يا أمير المؤمنين ولكن صاحب هذه الرقعة أحمق وضع على يائه ثلاث نقط كأثافي القدر فقال المأمون عد عن هذا فإن النقط شهود الزور والجوع اضطرك إلى ذكر الثريد فلما أتى بالثريد احتشم أحمد من أكله فقال له المأمون بحقي عليك إلا ما أكلت فترك القصص ومال إلى الصحفة وأكل قليلاً ثم دعا بالماء فغسل يديه ورجع إلى القصص فمر بقصة عليها مكتوب فلان الحمصي فقرأها الخبيصي فضحك المأمون وقال يا غلام جام خبيص فإن غذاء أبي العباس كان أبتر فخجل وقال يا أمير المؤمنين صاحب هذه الرقعة أحمق من الأول فتح الميم فصارت كأنها سنتان قال دع عنك هذا فلولا حمق هذا وصاحبه مت أنت جوعاً فأتى بجام خبيص فأبى أن يأكل من كثرة الاستحياء فقال له المأمون بحقي عليك إلا ما ملت نحوه وأكلت فانحرف إليه وأكل منه

وقد اخترت من مدام المتغفلين مما حسن وراق

ثم غسل يده وانصرف إلى القصص واحترز في قراءتها وتثبت في حروفها فما حرف حرفاً حتى أتى على آخرها وقد اخترت من مدام المتغفلين مما حسن وراق درراً ضمنتها أصداف هذه الأوراق ذم أبو عبيدة معمر بن المثنى كيسان مستمليه وقد أملى عليه شيأً فعجز عن إدراكه فقال والله ما فهم ولو فهم لوهم وقال الجاحظ كان كيسان مستملي أبي عبيدة يكتب غير ما يسمع ويستفتي غير ما يكتب ويقرأ غير ما يستفتي أمليت عليه يوما عجبت لمعشر عدلوا ... بمعتمر أبا عمرو فكتب أبا بشر واستفنى أبا زيد وقرأ أبا حفص وسأله أبو عبيدة عن رجل من شعراء العرب ما اسمه فقال هو خداش أو خراش أو رياش أو خماش أو شيء آخر وأظنه قرشياً فقال له أبو عبيدة من أين علمت أن نسبه في قريش قال رأيت اكتناف الشينات عليه من كل جانب وذكر الجاحظ عنه أنه شهد على رجل عند بعض الولاة فقال سمعت بأذني وأشار إلى عينه ورأيت بعيني وأشار إلى أذنه إنه أمسك بتلابيب هذا الرجل وأشار إلى كمه وما زال يضرب خاصرته وأشار إلى فكه فضحك الوالي وقال أحسبك قرأت كتاب خلق الانسان على الأصمعي قال نعم مرتين وذم بعض البلغاء فدما فقال لا يفهم ولا يفهم وينقض ما يبرم ولا يعلم ولا يتعلم ويستصغر من يتعلم وسأل أبو عون رجلاً عن مسئلة فقال على الخبير بها سقطت سألت عنها أبي فقال سألت عنها جدك فقال لا أدري وقالوا فلان يسمع غير ما يقال ويحفظ غير ما يسمع ويكتب غير ما يحفظ ويقرأ غير ما يكتب وقالوا فلان ذو بصيرة عمياء عند تأمل الثواقب وتجربة صماء عند تشابه النوائب وقال شاعر يهجو رجلاً جهول غاص في لحم وشحم ... ولم ينسب إلى عقل وفهم إذا لبس البياض فعدل جص ... وإن لبس السواد فعدل فحم

وممن تقاصر فهمه عن إدراك الصواب البادي فتطاول بذمه لسان الحاضر والبادي أحمد بن الخصيب وزير المستنصر ووزر أيضاً للمستعين عمل أبو العيناء كتاباً في ذمه حكى فيه إن جماعة من الفضلاء اجتمعوا في مجلس وكل منهم يكره ابن الخصيب لما كان فيه من الفدامة والجهالة والتغفل فتجاذبوا أطراف الملح في ذمه فقال علي بن بسام كان جهله غامراً لعقله وسفهه قاهراً لحلمه وقال لمعرة الرابض لو كان دابة لتقاعس في عنانه وحرن في ميدانه وقال آخر كنت إذا وقع لفظه في سمعي أحسست النقصان في عقلي وقال بعض كتابه كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب ولو نطق لنطق بنوك عجيب وقال إبراهيم بن المدبر كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه فقلت له أراك راغباً في الهليون فقال إنه يزيد في الباه وسئل عنه أبو العيناء بعد هذا التصنيف فقال إن دنوت منه غرك وإن بعدت عنه ضرك فحياته لا تنفع وموته لا يضر وقال آخر لو غابت عنه العافية لنسيها وكان ابن الخصيب إذا ناظر شعب وحلب وربما رفس من ناظره إذا أفحم عن الجواب وخفي عنه الصواب واستولت عليه البلادة وعرى كلامه عن الافادة وفيه يقول محمد بن الفضل قل للخليفة يا ابن عم محمد ... أشكل وزيرك إنه ركال قد أحجم المتظلمون مخافة ... منه وقالوا ما نروم محال ما دام مطلقة علينا رجله ... أو دام للنزق الجهول مقال قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله بين الصدور مجال أمنعه من ركل الرجال فإن ترد ... مالاً فعند وزيرك الأموال وحكي عنه أنه رأى جراداً كثيراً يطير فقال لجلسائه لا تغتموا إني أحسبه كأنه ميت وفيه يقول بعض الشعراء يهجوه من أبيات حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد فخل عن الكتابة لست منها ... ولو لطخت ثوبك بالمداد

وقد هجا أبو العيناء أسد بن جوهر ونحا فيه هذا المعنى فقال تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب وافى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب جيل من الانعام إلا إنهم ... من بينها خلقوا بلا أذناب لا يعرفون إذا الجريدة جردت ... ما بين عياب إلى عتاب أو ما ترى أسد بن جوهر قد غدا ... متشبهاً لأجلة الكتاب لكن يمزق ألف طومار إذا ... ما احتيج منه إلى جواب كتاب فإذا أتاه سائل في حاجة ... رد الجواب له بغير جواب وسمعت من غث الكلام ورثه ... وقبيحه باللحن والاعراب ثكلتك أمّك هبك من بقر الفلا ... ما كنت تغلط مرة بصواب ولآخر يهجو كاتب خراج لو قيل كم خمس وخمس لارتأى ... يوماً وليلته يعدّ ويحسب يرمي بمقلته السماء مفكراً ... ويظل يرسم في التراب ويكتب ويقول معضلة عظيم أمرها ... ولئن فهمت فإنّ فهمي أعجب حتى إذا خدرت أنامل كفه ... عدّا وكادت عينه تتصوب أوفى على نشز وقال ألا اسمعوا ... قد كدت من طرب أجنّ وأسلب خمس وخمس ستة أو سبعة ... قولان قالهما الخليل وثعلب فيه خلاف ظاهر ومذاهب ... لكن مذهبنا أصح وأصوب وخواطر الحساب فيها كثرة ... وأظن قولي فيهم لا يكذب وممن كان صوابه عن غير اعتماد وخطؤه بعد ترو واجتهاد شجاع بن القاسم كاتب أو تامش التركي وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم ولا يفهم وإنما علم علامات كان يكتبها في التوقيعات قال الحسن بن المخلد كنت يوماً عند المستعين ومعنا أو تامش إذ دخل شجاع بن القاسم وسراويله قد خرج من

خفه حتى وقع على قدمه وهو يسحبه ويدوسه فقال له المستعين ويحك يا شجاع ما هذه الحالة فقال الساعة يا سيدي داسني كلب فخرقت سراويله وثيابه فضحك المستعين وقال لا وتامش مثل هذا ينبغي أن يستعمل في الكتاب ومن ظريف ما يخبر عنه أن أحمد بن عمار عمل شعراً مختلف القوافي ولا معنى له مما يليق بفهمه وعقله متعمداً ذلك ليضحك منه اخوانه ووقف إليه وقال أيها الوزير ليس الشعر صناعتي ولكنك أحسنت إلي وإلى أهلي بما أوجب علي شكرك فعملت أبياتاً أمدحك بها فتفضل بسماعها فقال له أغناك شرفك عن التكسب بالشعر وانشاده فقال لا بد أن تتفضل وتأذن لي فأذن له فأنشد شجاع لجاج كاتب لائب معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل خبيص لبيص مستمر مقوّم ... كثير أثير ذو شمال مهذب بليغ لبيغ كل ما شئت قلته ... لديه وإن أسكت عن الأمر يسكت فطين لطين أمره لك زاجر ... خصيف لصيف كل ذلك يعلم أديب لبيب فيه فهم وعفة ... عليم بشعري حين أنشد يشهد كريم حليم قابض متباسط ... إذا جئته يوماً إلى البذل يسمح فسر بذلك وشكره على انشاده ووصله بعشره آلاف درهم وأجرى له ألف درهم في كل شهر وكان محموداً الوراق عنى هذا المذكور بقوله من أبيات يا ناظراً يرنو بعيني راقد ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد أو أبا تمام بقوله ولو نشد الخليل له لعفت ... بلادته على فطن الخليل أو قول هذا القائل فيه فلان لا ينتبه ولو أدخل في الكور ونفخ عليه إلى أن ينفخ في الصور وحكى الجاحظ في كتاب البيان أن المأمون كان يستقل

الفصل الثاني من الباب الثامن

سهل بن هرون فدخل عليه يوماً والناس جلوس وقد أسبلوا براقع الغفلة على وجوه الفطن والفهم عنهم قد رحل والتبلد فيهم قد قطن فلما فرغ المأمون من كلامه أقبل سهل على الناس وقال مالكم تسمعون ولا تعون وتفهمون ولا تفهمون وتشاهدون ولا تتعجبون والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما يفعله بنو مروان في الزمن الطويل عربكم كعجمهم وعجمكم كعبيدهم لكن كيف يعرف الدواء من لا يشعر بالداء فاستحسن المأمون منه ذلك وأنزله منزلته الأولى وكلام سهل يحتمل مدح فصاحة المأمون وذم البلادة التي أنزلت جلساءه المنزل الدون واثباته في حقهم بالذم أوجب علينا وألزم الفصل الثاني من الباب الثامن فيمن تأخرت منه المعرفة ونوادر أخبارهم المستظرفة وواجب أن نبدأ بأخبار من أساء في التفقد والعياذة ولم يحسن خطابه في السؤال ولا الاعادة قال عامر بن شراحيل الشعبي عيادة النوكي أشد على المريض من مرضه فإنهم حمى الروح وطليعة ملك الموت دخل حمصي على عروة بن الزبير يعوده لما قطعت رجله لا لم أوجب عليه فعل ذلك من أكلة أصابتها فقال أقطعت رجلك قال نعم قال جيد قال أوجعك شديد قال نعم قال جيد ثم قال لا تغتم فإنك لو رأيت ثوابها لتمنيت إن الله قد قطع رجليك ويديك وأعمى بصرك ودق صلبك فكان مصاب عروة بعائده المزيد في نكده أكثر من مصابه بما قطع من رجله ويده وأين هذا الجلف من عيسى بن طلحة بن عبيد الله فإنه دخل على عروة هذا يعوده لما قطعت رجله فقال والله ما كنا نعدك للصراع ولا للتسباق ولكن نعدك للخير ونوالك المنساق ولئن أعدمنا الله أقلك لقد أبقى لنا أكثرك سمعك وبصرك ولسانك وعقلك ويديك وإحدى رجليك فقال يا عيسى ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به ودخل آخر على مريض يشكو من رأسه فقال لأهله لا ضير إذا رأيتم المريض هكذا فاغسلوا ايديكم منه وعاد آخر مريضاً فقال له ما بك قال وجع الركبة قال إن جريراً ذكر بيتاً ذهب عني صدره وبقي عجزه وهو وليس لداء الركبتين دواء

فقال المريض ليت عجزك ذهب كما ذهب صدره وعاد آخر مريضاً فقال لأهله أجركم الله فقالوا إنه لم يمت بعد قال يموت إن شاء الله وعاد آخر مريضاً فلما خرج قال لأهله لا تفعلوا في هذا كما فعلتم بالآخر مات وما أعلمتموني به وعاد آخر مريضاً فلما خرج قال لأهله أحسن الله عزاكم فقالوا إنه لم يمت قال قد عرفت ولكني شيخ كبير لا أستطيع النهوض في كل وقت وأخاف أن يموت فأعجز عن المجئ لا عزيكم به وعاد رجل الشعبي فابرم ثم قال له ما تشتهي قال أشتهي أن لا أراك وعاد آخر مريضاً فقال له ما تشتكي قال وجع الخاصرة قال والله كانت علة أبي فمات منها فعليك بالوصية يا أخي فدعا المريض ولده وقال يا بني أوصيك بهذا لا تدعه يدخل علي بعد هذه وعاد آخر مريضاً فلما رآه أنشد متمثلاً بما أملى قلبه الغبي على لسانه العيي تموت الصالحون وأنت حيّ ... تخطاك المنايا لا تموت وذكر المسعودي إن عمرو بن العاص لما قدم من مصر على معاوية أنشده هذا البيت فأجابه عمرو أترجو أن أموت وأنت حيّ ... ولست بميت حتى تموت دخل عبد الله بن أبي عتيق ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة رضي الله عنها يعودانها فقال لها كيف حالك يا عمة جعلني الله فداءك قالت في الموت قال الآن لاجعلني الله فداءك فإني كنت أظن أن في الوقت فسحة وممن عرف بالتغافل واشتهر وفاق فيه أهل زمانه ومهر أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الجصاص الجوهري كان رئيساً في المترفهين ورئيساً للمتجلفين وجد الجد فهو ذو جدة ويسار وعدم العقل فسيان اليمين واليسار

وكان عند المقتدر من خواص أحبته وممن له الكلمة المطاعة في دولته ثم نقم عليه فصادره فأخذ منه ستة آلاف ألف دينار وغير ذلك من مواش وأثاث وعقار ومن نفائس الأعلاق والذخائر ما لا يوجد قليله عند عقلاء الاخائر ومما يدل على كثرة ماله إن المعتضد لما عقد نكاحه على قطر الندى بنت أحمد بن طولون بعث إلى ابن الجصاص ليتولى جهازها فلما فرغ منه دخل على ابن طولون ليودعه فلم يذكر له ما صرف وكان مبلغه أربعمائة ألف دينار فسأله ابن طولون عنه فدافعه فأبى ذلك وقال لا بد منه فذكر له فقال له راجع طومارك لعلك نسيت شيأً فراجعه فإذا فيه تكك قيمتها عشرون ألف دينار لم يدخلها في حسابه فأطلق له الجميع فانطر إلى مال ينفق من عرضه أربعمائة ألف دينار وعشرون الف ديناركم يكون أصله فمن ملح أخباره وملح آثاره ما حكى إن إنساناً سئل عن صفته فقال رأيته شيخاً طويلاً طويل اللحية خفيف العارضين صغير الرأس تشهد صورته عليه بالنوك وحكى عنه إنه دخل عليه علي بن الفرات يحدثه وهو غافل عنه ساه تارة ينعس وتارة يبهت فقال له كم ذا السهو والنعاس فقال يا سيدي عندنا في المحلة كلاب لا تدعنا ننام من كثرة صياحها وهراشها فقال له ابن الفرات لم لا نأمر عبيدك تضربها فإني أحسبها جراء فقال لا تقل ذلك أيها الوزير فإن كل كلب منها مثلي ومثلك نوع منها لغيرة تغذي أبو السربال عند سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ ولي عهد أبيه فقدم امامه جدياً وقال كل من كليته فإنها تزيد في الدماغ فقال لو كان كما يقول الأمير لكان رأسه مثل رأس البغل وقال بعضهم دخلت على ابن الجصاص يوماً والمصحف في حجره وقد بل كاغده بدموعه وأذل نفسه بتضرعه وخشوعه فسألته ما الذي دهاك وأزال بهاك فقال أكلت مع الجواري المخيض فتعديت أمر الله وخالفته وكنت لا أعرف إن الله نهى عنه وحذر منه قلت وما الذي أوصى الله به ونهى عنه وحذر منه قال أكل المخيض مع الجواري قلت وكيف قال الله في ذلك قال ألم تسمع قوله تعالى يسألونك عن المخيض قل هواذي فاعتزلوا النساء في المخيض ولا تقربوهن وقرأهما بالخاء ثم قال يا أخي هل تعرف لي من توبة أغسل بها هذه الحوبة قلت التضرع في الدعاء بالاقالة والابتهال إلى الله بصدق المقالة فقام وكشف عن رأسه وحسر عن ذراعيه ورفع يديه وقال اللهم إنك تجد من ترحمه سواي ولا أجد

من يعذبني سواك فتركته وانصرفت متعجباً من هذه الحال موقناً إن الجد لا يكون بسعي المحتال وسمع يوماً يقول في سجوده سجد لك بياضي وسوادي خاضعاً ضارعاً ماصاً لبظر أمه ومن أناهل أنا ألا عبدك وابن عبدك الزاني ابن الزانية حتى لا يغفر له ومما يشبه هذا القول لغيره ما حكى إن شعيباً العلائي كان لا يصوم ولا يصلي ويقول من أنا حتى أصوم وأصلي إنما يصلي المتكبرون الذي أريد منهم التواضع ويصوم الشباع حتى يعرفوا قدر ما فيه الجياع وكأنه اقتدى في قوله بما حكى إن الرستمي كان عنده قوم من التجار فحضرت الصلاة فنهض ليصلي فنهضوا معه فقال مالكم ولهذا وما أنتم منه الصلاة ركوع وسجود وقيام وقعود وإنما فرض الله هذا على المتجبرين والمتكبرين والملوك الأعاجم مثلي ومثل ذي الأوتاد ونمر وذو أنوشروان ولستم من هؤلاء فمالكم ولها لكنه المغرور اقتدى به في القول دون العمل وحمل أوزار الجهل وبئس والله ما حمل وأهدى ابن الجصاص إلى العباس بن الحسن الوزير نبقا وكتب معه تفيلت بأن تبقى ... فأهديت لك النبقا فكتب له الوزير ما تفيلت ولكن تبقرت ذكر من أخطأ في سؤال أو جواب ... وظنّ إنّ كلامه عين الصواب ذكر أن إنساناً كان يكثر الجلوس في حلقة الشافعي وكان ذا رواء وهيبة وكان الشافعي يجله ويكرمه فسأله يوماً أي وقت يحرم على الصائم الأكل فقال الشافعي عند طلوع الفجر قال فإن طلع الفجر بعد طلوع الشمس فقال الآن يمد الشافعي رجله ومدها ولم يحتشم منه وقال الجاحظ دخل رجل على الشعبي وبين يديه الفقهاء فقال بعدما أطال جاص أيها الشيخ إني أجد في قفاي خلة أفتري أن أحجم فقال الشعبي الحمد لله الذي رفع منزلتنا فحولنا من الفقه إلى الحجامة وأكثر ما تقع هذه النوادر من القصاص سئل بعضهم عن أربعين ماشية نصفها ضان ونصفها معز كيف نخرج زكاتها فقال يخرج عنها رأس نصفها ضان ونصفها معز وقيل بعضهم إن نصرانياً قال لا

إله إلا الله لا غير ما يجب له وعليه قال يؤخذ منه نصف الجزية ويؤمر باداء نصف ما على المسلمين من الفرائض والسنن وإن مات دفن بين مقابر اليهود والنصارى كما قال الله تعالى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فهو من المذبذبين وأتى بعض القصاص بنصراني يريد أن يسلم فقال قم عني أتريدون أن توقعوا بيني وبين عيسى بن مريم يوم القيامة وسئل بعض القصاص عن لوط عليه السلام فقال كان رجلاً لوطياً نعوذ بالله من فعله فأنكر عليه الناس ولأمه بعض أصحابه بعد انصرافهم واعلمه أن لوطا نبي مرسل بعث إلى قوم كان ذلك القبيح فعلهم وإن لوطا نهاهم عنه فندم على ما قاله فلما كان في المجلس الآخر سئل عن فرعون فقال دعونا من حديث الأنبياء واسألوا الله السلامة قوم لا رأيناهم ولا رأونا كيف نتكلم في إعراضهم وسئل بعضهم ما تقول في خلق القرآن فقال دعونا من القرآن وهو مخلوق غير مخلوق وسئل آخر وكان ناصبياً عن معاوية فقال معاوية ليس بمخلوق لأنه كاتب الوحي والوحي ليس بمخلوق وكاتب الوحي من الوحي وحكى سعيد بن خالد اليماني قال كان عندنا قاض يسمى أبا خالد قال في دعائه يوماً يا ساتر عورة الكبش لما علم من فضله وصلاحه وهاتك عورة التيس لما علم من قذره وفجوره استر علينا وارحمنا واهتك ستر أعدائنا فقيل له وما فضيلة الكبش قال لأنه كبش إبراهيم الذي فدى به ابنه ولا يذبح في العقيقة غيره قيل له فما ذنب التيس قال يشرب بوله وينزو على الشاة التي لم تستحق النزو ويؤذي الناس بنتن ريحه ويعلم الناس الزنا وهو عيب على أصحاب اللحي يقال جاء فلان في لحية التيس وقزأ قارئ في مجلس سيفوية إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين فقال لمن حضره ارفعوا أيديكم وقولوا اللهم اجعلنا منهم وقال الفضل بن إسحق الهاشمي سمعت قاصاً وقد قرئ في مجلسه يتجرعه ولا يكاد يسيغه فقال اللهم اجعلنا ممن يتجرعه ويسيغه وكان سيفوية ممن يتلاوط فبينما هو يقص على الناس إذ أقبل جماعة صبيان حسان كأنهن الياقوت والمرجان فقال يا أصحاب قبل العدو ارفعوا أيديكم وقولوا اللهم ولنا أدبارهم وكبهم على وجوههم وأرنا سوآتهم ومكن رماحنا من ظهورهم إنك على كل شيء قدير وسيفوية بضم الفاء وفتح الياء هكذا ضبطه الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتاب الاكمال

وممن تأخرت معرفته من الحكام ... وتقدم جهله في القضايا والأحكام حكى أن علعلا لمنصور بن النعمان كتب إليه من البصرة إني أصبت سارقاً سرق نصاباً من حرز فما أصنع فيه فكتب منصور إليه اقطع رجله ودعه يكد بيديه على عياله فأجابه العامل إن الناس ينكرون هذا القول الله تعالى في القرآن والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم فكتب إليه إن القرآن نزل من السماء ونحن في الأرض والشاهد يرى ما لا يرى الغائب وتقدم رجل إلى بعض القضاة بخصم فقال إن هذا باعثي ثوباً وجدت فيه عيباً وسألته أن يقيلني فأبى فالتفت إليه القاضي وقال أقله عافاك الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قيلوا فإن الشياطين لا تقيل وقيل لقاضي حمص كيف تحكم على اللوطي قال بنصف حكومة الزاني قيل له ولم قال لأن الحمار لا يحمل إلا نصف ما يحمل الجمل وهذا حكم مفهوم وادعت امرأة على زوجها مهراً عند بعض القضاة فأنكر فأمر القاضي أن يجلدا حدين قيل له ولم حكمت بهذا قال لانهما زنيا إن لم يكن بينهما مهر قيل فلا يجب على المرأة قال بلى إن النخلة إذا لم يحمل رأسها أحرق أصلها وتقدم جماعة إلى قراقوش وكان عاملاً لصلاح الدين على مصر ومعهم قتيل وثور ورجل مكتوف فقالوا أيها الأميران هذا الثور صال على هذا الرجل فقتله وهذا مالكه وهو العاقله ففكر ساعة ثم أمر بالثور أن يشنق ويطلق صاحبه قيل له ما هذا حكم الله فقال لو جرى هذا في زمن فرعون ما فعل غير هذا فإنه القاتل ولا يحل إن أقتل غير القاتل وهذه الحكاية ذكرها القاضي الأسعد بن مماتي في كتابه الذي وضعه وسماه الفاشوش في أحكام قراقوش ذكر فيه من هذه الأحكام شيأً كثيراً والعهدة عليه في ذلك فيما حكى والله أعلم وكان نصر بن مقبل عاملاً للرشيد على الرقة فأتى برجل من الظرفاء وجد ينكح شاة فقال أيها الأمير إنها والله ملك يميني وقد قال الله تعالى أوما ملكت إيمانكم فأطلقه وأمر أن تضرب الشاة الحد فإن ماتت تصلب قالوا أيها الأمير إنها بهيمة قال وإن كانت بهيمة فإن الحدود لا تعطل وإن عطلتها فبئس الوالي أنا فانتهى خبره إلى الرشيد ولم يكن رآه قبل فدعا به فلما مثل بين يديه قال له ممن أنت قال مولى لكلب فضحك منه

ثم قال له كيف بصرك بالحكم قال يا أمير المؤمنين الناس والبهائم عندي فيه سواء ولو وجب الحد على بهيمة وكانت أمي أو أختي لحددتها ولم تأخذني في الله لومة لائم فعزله الرشيد وأمر أن لا يستعان به في عمل فلم يزل معطلاً إلى أن مات وكان الربيع ابن عبد الله العامري والياً على اليمامة فبلغه أن كلباً قتل كلب الآخرين فأمر أن يقتل به فقال فيه بعض الشعراء شهدت بأن الله حق لقاؤه ... وإنّ الربيع العامري رقيع أقاد لنا كلباً بكلب ولم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع وكان أبو الضحاك ميمون قد ولي القضاء ببعض الأهواز فأتى برجل قد سرق فحده ثمانين وأتى برجل قذف فقطع يده فقال فيه محمد ن مساور قد ذهب العلم وأشياعه ... إلا أبا الضحاك ميمونا يقطع كف القاذف المفتري ... ويجلد السارق ثمانينا ومن التغفل الواقع من الشعراء ... في مدائح السادات والكبراء قال الخفا حي في كتاب سر الفصاحة ينبغي للشاعر ذي التمييز في فنه والتبريز أن لا يعبر عن المدح بالألفاظ المستعملة في الذم ولا يعبر في الذم بالألفاظ المستعملة في المدح بل يستعمل في جميع الأغراض الألفاظ اللائقة بها في موضع الجد ألفاظه وفي موضع الهزل ألفاظه ألا ترى ان الانسان إذا مدح ذكر الرأس والهامة والكاهل وإذا هجا ذكر الأخادع والقفا والقذال وإن كانت معالي الجميع متقاربة فقبيح بالشاعر وغيره أن يقول للملك وحق قذا لك مكان وحق رأسك لأن الاستعمال مختلف في الألفاظ وإن كان في المعنى غير مختلف فمن السقطات المعدودة في ذلك قول أبي نواس جاد بالأموال حتى ... حسبوه الناس حمقا

وكقول أبي تمام ما زال يهدي بالمكارم دائبا ... حتى ظننا أنه محموم وكقوله يا أبا جعفر جعلت فداكا ... فاق كل الوجوه حسن قفاك إلى غير ذلك من شعر المولدين والمحدثين والعصريين فالحمق ويهدي ومحموم من الألفاظ اللائقة بالهجاء وقد سقط المتنبي في افتتاحه قصيدة مدح بها كافوراً الأخشيدي إذ قال كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن تكون أمانيا قلت وقد أشبه ما عيب ما حكى أن زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور أنشدها قاصد من الأعراب فقال أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لسائلك المثاب تعطين من رجليك ما ... تعطى الأكف من الرغاب فوثب إليه خدمها وهموا بضربه فمنعتهم من ذلك وقالت أراد خيراً فأخطأ وهو أحب إلينا ممن أراد شراً فأصاب سمع قولهم شمالك أندى من يمين غيرك فظن إنه إذا قال هكذا كان أبلغ أعطوه ما أمل وعرفوه ما جهل وعاب الفضل ابن يحيى على أبي نواس قوله في قصيدة مدحه بها سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواكم لعل الفضل يجمع بيننا فقال له الفضل ما زدت على أن جعلتني قواداً فقال إنه جمع تفضل لا جمع تواصل وقد تابعه أبو الطيب المتنبي في قوله من قصيدة يمدح بها سعيد بن

كلاب علّ الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي صيرتني في الهوى مثلا وعيب عليه أيضاً قوله من قصيدة يمدح بها سيف الدولة بن حمدان ليت أنا إذا ارتحلت لك الخي ... ل وأنا إذا نزلت الخيام فإنه أنزل نفسه منزلة الأنملة وعبر عن همته بالقلة بجعلها مركوبة ولم يكفه ذلك حتى ألبس الممدوح شعاره وأكسبه عاره بجعله راكباً تارة ومركوباً أخرى واتصف بصفات المدح التي هو بها أحرى فأساء الأدب وأخطأ الطريق وعدم الرشد ويمن التوفيق ودخل بعضهم على رئيس الرؤسا أبي الغنائم فأنشده قصيدة جاء منها فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوس على السرير وتمامه أتذكر إذ لباسك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير فقال له رجل من الجلساء أتقول مثل هذا للرئيس لا أم لك فقال والله ما ظننت إني قلت عيباً غير إني مدحت الرئيس بما مدحت به فضحك منه ووصله وهذان البيتان ذكرهما الجاحظ في كتاب البيان والتبيين لا عشى همدان وأنشد قبلهما فلست مسلماً ما دمت حياً ... على زيد بتسليم الأمير أمير يأكل الفالوذ سراً ... ويطعم ضيفه خبز الشعير وحدث أحمد بن إسمعيل بن الخصيب قال دخلت على سليمان بن وهب بأبيات أعزيه فيها عن أمه فأخذت في إنشادها فقال أنا أعزك الله في

مصائب قد انثالت علي من كل جانب قلت وما هي أطال الله بقاك قال ماتت أمي وغير رسمي ورثي ميتي بمثل هذا الشعر ورمى لي رقعة مكتوب فيها لام سليمان علينا مصيبة ... مجللة مثل الحسام البواتر وكنت سراج البيت يا أم سالم ... فأضحى سراج البيت بين المقابر فاشتغلت بالضحك عن البكاء وبالتسلي عن العزاء وكان الشعر لأبي أيوب واسمه صالح بن شهريار ابن أخت أبي الوزير ومدح بعضهم أميراً فقال أنت الامام الأريحي ... الواسع ابن الواسعة فقبل له من أين عرفت هذا قال سمعت الناس يثنون عليك بذلك ومن شوارد هذا النوع وأفراده ... ما يفي بغرض المتأمل ومراد ما حكى أن عبد الله بن رواحة رأته امرأته على بطن جارية له فخرجت وشحذت شفرة ثم دخلت إليه تريد قتله فوجدته قد خرج من عندها فقال لها مهيم فقالت أما إني لو وجدتك حيث كنت لوجأت بها بطنك فقال لها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن يقرأ أحدنا القرآن جنباً قالت اقرأ فأنشد أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح ساطع أتى بالهدى بعد العمي فقلوبنا ... به موقفات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنسه عن فراشه ... إذا ما استقرّت بالجنوب المضاجع

فلما سمعت مقاله قالت آمنت بالله وكذبت بصري فاخبر بذلك عبد الله ابن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه وأسر عتاب بن ورقاء جماعة من الخوارج فوجد فيهم امرأة فقال وأنت يا عدوة الله ممن مرق من الدين وخرج على المسلمين أما سمعت قول الله تعالى كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذيول فقالت حسن معرفتك بكتاب الله دعانا إلى الخروج عليك يا عدو الله وصعد المنبر بأصبهان فخطب وقال في أثناء خطبته وذلك كما قال الله في كتابه العزيز ليس شيء على المنون بباقي ... غير وجه المسبح الخلاق فقال له رجل ليس هذا قول الله إنما هو قول عدي بن زيد قال فنعم والله ما قال عدي ومثل ذلك ما حكى أن علي بن زياد الأيادي قال في بعض خطبه أقول لكم كما قال العبد الصالح ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فقام إليه إنسان وقال ما هذا قول عبد صالح إنما هو قول فرعون فقال من قال هذا فقد أحسن وأم رجل من الظرفاء بقوم أياماً وكانوا من التغفل بمكان فكانوا يطعمونه الخبز والكامخ لا يزيدونه عليهما شيأً فصلى بهم يوماً الصبح فقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تطعموا أئمتكم كامخاً بل لحماً فإن لم تجدوا لحماء فشحماً فإن لم تجدوا شحماً فبيضاً ومن لم يفعل ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً وقرأ في الركعة الثانية فإن لم تجدوا بيضاً فسمكاً واطبخوه سكباجاً فإن لم تجدوا سمكاً فلبناً ولا تحمضوه تحميضاً ومن يفعل ذلك فقد افترى إثماً عظيماً فلما فرغ من صلاته جاؤه واعتذروا إليه من التقصير في حقه وأنهم لم يكن عندهم علم بأن الله أنزل في الوصية بالأئمة شيأً وسالوه في أي سورة هذه الآيات فقال لهم في سورة المائدة وكان بعض الحمقى يتعشق جارية فهام بها دهراً لا يقدر على الوصول إليها فزارته يوماً فنام وتركها فقالت له ويحك ما

الفصل الثالث من الباب الثامن

دعاك إلى النوم وقد ظفرت بمن تهواه فقال يا سيدتي أتناوم لعلي أراك أيضاً في المنام كما قال الشاعر وإني لأستغشى وما بي نعسة ... لعل خيالاً منك يلقى خياليا وكتب آخر إلى محبوبته إن رأيت أن تزورينا عصمنا الله وإياك فافعلي فكتبت إليه يا أحمق متى عصمنا لا نجتمع أبداً ووقع بين سليمان بن مروان الأعمش وبين زوجته وحشة فسأل بعض أصحابه الاصلاح بينهما فدخل إليها وقال إن أبا محمد شيخنا وفقيهنا فلا يزهدنك فيه عموشة عينيه ونتن ابطيه وبخر شدقيه وجمود كفيه وحموشة ساقيه وذلك بمرأى من الأعمش ومسمع منه فقال له الأعمش كف لا أم لك فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه وذكر أن عبد الله بن فضلو به وكان عامل قزوين أنشد يوماً يوم القيامة يوم لا دواء له ... إلا الطلاء وإلا الطيب والطرب فقال له من حضره أخطأت إنما هو يوم الحجامة فقال أعذروني فإني لا أعرف أيهما باع بعض المتجلفين بستاناً واشترى بثمنه حماراً فقال له صاحب له بعت ما كان يعلفه السماء فيعوضك الشعير واشتريت ما تعلفه الشعير فيعوضك الماء ومن هذا الباب تجلف أبي غبشان وكان سادناً للكعبة فإنه باع الكعبة بزق خمر حتى ضرب به المثل في التجلف فقيل أخسر صفقة من أبي غبشان وتجلف سلم الخاسر فإنه باع مصحفاً واشترى بثمنه طنبوراً فضرب به المثل فقيل أخسر من سلم الفصل الثالث من الباب الثامن في أن أنواع التغفل والبله ستور على الأولياء مسبله قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهم وقال صلى الله عليه وسلم رب

أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره وقال عيسى عليه السلام للحواريين كونوا بلها كالحمام حلما كالحيات وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله قال العلماء هم البله في طلب الدنيا الأكياس في طلب الآخرة فمنهم عليان الذي كان قالبه مع الخلق ... وقلبه مستغرقاً في أسرار الحق يحكى عنه أن رجلاً قال له من العاقل وهو يهزأ به فقال من حاسب نفسه وراقب ربه وقال حفص بن عتاب قاضي الكوفة مررت بعليان وهو جالس في السوق فلما رآني قال من أراد أن يتعجل سرور الدنيا والنار في الآخرة فليتمن ما هذا فيه قال ابن عتاب والله لقد تمنيت لما سمعت كلامه أن أمي لم تلدني أو أني مت قبل أن ألي القضاء وقال لأبي الوفاء وقد مر به رأيناك أسمنت دابتك وأهزلت دينك أما والله إن أمامك لعقبة كؤداً لا يجوزها إلا المخفون وعن ابن أبي فديك قال رأيت عليان وقد دلي رجليه في قبر وهو يلعب بالتراب فقلت له ما تصنع ههنا قال أجالس أقواماً لا يؤذونني إن حضرت ولا يغتابونني إن غبت فقلت قد غلا السعر فهلا تدعو الله فيكشف عنا الضر فقال والله لا أبالي ولو حبة بديناران الله أخذ علينا العهد أن نعبد كما أمر وأن عليه رزقنا كما وعد ثم صفق بيديه وقام قائلاً يا من تمتع بالدنيا وزينتها ... ولا تنام عن اللذات عيناه شغلت نفسك فيما ليس تدركه ... تقول لله ماذا حين تلقاه وتروى هذه الحكاية عن بهلول الآتي ذكره وقال الحسن بن سهل بن منصور رأيت الصبيان يرمون عليان بالحجارة فأدماه حجر منهم فقال

حسبي الله توكلت عليه ... من نواصي الخلق طرّافي يديه ليس للهارب في مهربه ... أبدا من راحة إلا إليه رب رام لي بأحجار الأذى ... لم أجد بدّاً من العطف عليه فقال له رجل تعطف عليهم وهم يرمونك بالحجارة فقال اسكت لعل الله يطلع على غمي ووجعي وشدت فيفرح هؤلاء ويهب بعضاً لبعض ومن شعره أفلح الزاهدون والعابدونا ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا أقرحو الأعين القريرة شوقا ... فمضى ليلهم وهم ساجدونا حيرتهم مخافة الله حتى ... زعم الناس أن فيهم جنونا وممن كانت نفسه عن الشبهات مكفوفة ... بهلول المعدود من مجانين الكوفة قال عبد العزيز المتكلم رأيت بهلولاً يوماً باكراً فقلت يا بهلول كيف أصبحت قال بخير أنتظر لقاء من يوجب الأجر ويحط الوزر ويشد الأزر ثم قال لي يا عبد العزيز أحسن مجاورة النعم بالشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء ولما دخل الرشيد الكوفة خرج الناس لينظروا إليه فناداه بهلول يا هرون ثلاثاً فقال الرشيد من يجترئ علينا في هذا الموضع فقيل له بهلول فرفع طرف السجف وقال ادن فقال يا أمير المؤمنين روينا بالاسناد عن قدامة بن عبد الله العامري قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد ولا قيل بين يديه إليك إليك وتواضعك في شرفك هذا خير من تجبرك وتكبرك قال فبكى الرشيد حتى بدت دموعه على الأرض وقال أحسنت يا بهلول زدنا يرحمك الله قال روينا عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال أيما رجل آتاه الله مالاً وسلطاناً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله وعدل في سلطانه كتب في

ديوان الله من الأبرار قال الرشيد أحسنت يا بهلول وأمر لهب جائزة فقال ازددها على من أخذتها منه فلا حاجة لي بها قال يا بهلول إن كان عليك دين قضيته عنك قال يا أمير المؤمنين إن هؤلاء أهل الرأي بالكوفة أجمعوا على أن قضاء الدين بالدين لا يجوز قال فهل لك أن أجرى عليك رزقاً يقوم بك ويكفيك فرفع طرفه إلى السماء وقال يا أمير المؤمنين أنا وأنت عيال الله ثم تركه ومضى وهذه الحكاية لذوي العقول كافية وللقلوب من أدواء الذنوب شافية ومن مشاهير هذه الطائفة سعدون ... الطالب للعلا والراغب عن الدون روى خالد بن عبد الله الطوسي قال لما حج هرون الرشيد فرش له من جوف العراق إلى مكة لبودمر عزية فمشى عليها القضاء نذر وجب عليه فاستند يوماً إلى ميل من تعب ناله وإذا بسعدون قد عارضه وهو يقول هب الدنيا تواتيكا ... أليس الموت ياتيكا فما تصنع بالدنيا ... وظل الميل يكفيكا ألا يا طالب الدنيا ... دع الدنيا لشانيكا كما أضحكك الدهر ... كذاك الدهر يبكيكا فبكى هرون وقال الويل لنا إن لم يعف الله عنا وقال عيسى بن علي رأيت سعدوناً والصبيان يرمونه بالحجارة فصرفتهم عنه فقال لي بعض الصبيان إنه يزعم أنه يرى ربه فقلت له ما تسمع مقالة الصبيان فقال يا أخي مذ عرفت الله ما فقدته ثم قال زعم الناس أنني مجنون ... كيف أسلو ولي فؤاد مصون علق القلب بالبكا في الدياجي ... وهو بالله مغرم محزون وعن عطاء بن سعيد قال كتب سعدون إلى والينا أما بعد يا هذا إن لم تستح من الخلق فاستح من الخالق واحذر سهماً من سهامه فإن سهامه لا

تخطئ ولا يغرنك حلمه عنك فإنه إن عاقبك أهلكك وهتكك ثم كتب عنوانه إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً وقال إسمعيل بن عطاء مررت بسعدون فلم أسلم عليه فنظر إلي وقال يا ذا الذي ترك السلام تعمدا ... ليس السلام بضائر من سلما إن السلام تحية مبرورة ... ليست تحمل قائليها مغرما ورؤى سعدون يكتب بفحم على جدار ما حال من سكن الثرى ما حاله ... أمسى وقد رثت هناك حباله أمسى ولا روح الحياة تصيبه ... أبداً ولا لطف الحبيب يناله أمسى وقد درست محاسن وجهه ... وتفرقت في قبره أوصاله واستبدلت منه المحاسن غبرة ... وتقسمت من بعده أمواله ما زالت الأيام تلعب بالفتى ... والمال يذهب صفوه وحلاله وكان إذا اشتد الجوع رمق بطرفه إلى السماء وقال أتتركني وقد آليت حلفا ... بأنك لا تضيع من خلقتا وأنك ضامن للرزق حتى ... تؤدى ما ضمنت وما قسمتا فإني واثق بك يا إلهي ... ولكن القلوب كما علمتا ومن محاسن أخبارهم وأحاسن آثارهم التي هي للقلوب الممحلة ربيع وللصدور الصدئة غيث مريع ما حكى أن سمنون قال لرجل يعظه اجعل قبرك خزانتك واحشها من كل عمل صالح فإذا وردت على ربك سرك ما ترى ومن كلامه إذا بسط الجليل بساط العفو دخلت ذنوب الأولين والآخرين تحت حواشيه وإذا بدت ذرة من عين الجود ألحقت المسيئين بالمحسنين ومن شعره لئن أمسيت في ثوبي عديم ... لقد بليا على حرّ كريم فلا يحزنك إن أبصرت حالا ... مغيرة عن الحال القديم

وقيل لشقران من الحكيم قال الذي لا يتعرض للعذاب الأليم قيل وما العذاب الأليم قال البعد عن الرب الكريم وقال بعضهم رأيت فليتا والصبيان حوله يؤذونه ويرمونه بالحجارة وهو يقول ولمن صبر وغفران ذلك لمن عزم الأمور وقال أبو همام إسرائيل بن محمد القاضي رأيت سابقاً المعتوه وهو يكتب على حائط بالفحم هذه الأبيات نظرت إلى الدنيا بعين مريضة ... وفكرة معتوه وتأميل جاهل فقلت هي الدنيا التي ليس مثلها ... ونافست منها في غرور وباطل وضيعت أياماً طوالاً كثيرة ... بلذات أيام قصار قلائل وقيل لمجنون فيم يسعى هذا الخلق قال في طلب ما لا يكون من الدنيا قيل فما يطلبون قال الراحة وذلك ما لا يجدون

الباب التاسع

الباب التاسع في السخاء وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في أن التبرع بالنائل من أشرف الخلال والشمائل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجود من جود الله تعالى فجودوا يجد الله عليكم ألا إن السخا شجرة في الجنة أغصانها مدلاة في الأرض فمن تعلق بغصن منها أدخله الجنة ألا وإن السخاء من الايمان والايمان في الجنة رواه أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب باسناد متصل في كتاب البخلاء له وقال صلى الله عليه وسلم تجاوزوا عن ذنب السخي فإن الله آخذ بيده إذا عثر إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل وقال صلى الله عليه وسلم الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً فقال علي رضي الله عنه يا رسول الله الرب واحد والدين واحد والذنب واحد فما بال هذا من بينهم فقال عليه الصلاة والسلام نزل علي جبريل صلى الله عليه وسلم فقال اقتل هؤلاء واترك هذا فإن الله شكر له سخاء فيه وقال صلى الله عليه وسلم أحب العباد إلى الله من حبب إليه المعروف وإنما سمي المعروف معروفاً لأن الكرام عرفته فألفته والسخاء

سخا آن سخاء نفس الرجل بما في يده يصون به عرضه عن ذم اللئام وتركه ما في أيدي الناس يغلق عنه باب الملام وهو إن جمعهما فقد وهب أشرف أخلاق الكرام وتواطأ على مدحه الخاص والعام ويقال في مدح مثل هذا فلان بماله متبرع وعن مال غيره متورع ويقال مراتب العطاء ثلاث سخاء وجود وإيثار فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل والإيثار أعطاء الكل من غير إمساك لشيء وهذه أشرف الرتب وأعلاها وأحقها بالمدح وأولاها فإن إيثار المرء غيره على نفسه أفضل من إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلة شرفاً مدح الله تعالى أهلها في قوله ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وقالوا الجواد من لم يكن جوده لدفع الأعداء وطلب الجزاء كما قال عبد الله بن جعفر أمطر معروفك فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلاً فمما ورد عن ذوي الأفضال في الحث على العطاء والنوال ما ذكر عن عبد الملك بن مروان أنه كان يقول لبنيه يا بني أمية إن المؤمن الكريم يتقي عرضه بماله فلا تبخلوا إذا شئتم فإن خير المال ما أفاد حمداً أو نفى ذماً ولا يقولن أحدكم أبدأ بمن تعول فإنما الناس عيال الله تكفل بأرزاقهم فمن وسع وسع عليه ومن ضيق ضيق عليه ثم تلا قوله تعالى وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين فيا لله للعجب ما أشد ما بابن قول هذا الخليفة فعله وخالف سخاؤه بخله وكيف قسم خليقته بين الايجاب والسلب وخص لسانه بالمدح وقلبه بالثلب وقال زهير بن جذيمة لولده عليكم باصطناع المعروف واكتسابه وتلذذوا بطيب نسيمه ورضابه وارضوا مودات الرجال من أثمانه فرب رجل قد صفر من ماله فعاش هو وعقبه في الذكر الجميل وقال شاعر في مثل هذا إذا كنت ذا حظ من المال فاكتسب ... به الأجر وارفع ذكر أهل المقابر

الفقيه منصور يرثي سألت رسوم القبر عمن ثوى به ... لا علم ما لاقى فقالت جوانبه أتسأل عمن عاش بعد وفاته ... بمعروفه اخوانه وأقاربه وقال أبو نصر الميكالي الجود رأى موفق ومسدّد ... والبذل فعل مؤيد ومعان والبرّ أكرم ما وعته حقيبة ... والشكر أفضل ما حوته يدان وإذا الكريم مضى وولي عمره ... كفل الثناء له بعمر ثان وقال بعض العراب الدراهم مياسم تسم حمداً وذماً فمن حبسها كان لها ومن أنفقها كانت له أخذ شاعر هذا المعنى فقال إذا المرء لم يعتق من المال نفسه ... تملكه المال الذي هو مالكه ألا إنما مالي الذي أنا منفق ... وليس لي المال الذي أنا تاركه وأوصى قيس بن معد يكرب بنيه فقال يا بني عليكم بهذا المال فاطلبوه أجمل الطلب ثم أخرجوه في أجمل مذهب فصلوا به الأرحام واصطنعوا به الكرام واجعلوه جنة لعراضكم ووسيلة تصلون بها إلى أغراضكم تحسن في النار مقالتكم فإن بذله تمام الشرف وثبات المروأة وإنه ليسود غير السيد ويقوي غير الأيد حتى يكون في الناس نبيلاً وفي القلوب مهيباً جليلاً وقال الجاحظ ليس شيء ألذ ولا أسر ولا أنعم من عز الأمر والنهي ومن الظفر بالأعداء ومن تقليد عقود المنن في أعناق الرجال لأن هذه الأمور هي نصيب الروح وحظ الذهن وقسمة النفس فإن أحببت أن يزاد في الاحسان إليك وأن يثبت لديك ما أنعم الله به عليك فاقض حاجة من قصدك وابسط له بالبشر وجهك وبالمعروف يدك وقال الحجاج في بعض خطبه لا يملن أحدكم المعروف فإن صاحبه يعوض خيراً منه أما شكراً في الدنيا وأما ثواباً في الآخرة وكان يقال المعروف كنز لا تأكله النار وثوب لا يدنسه العار وقال الأحنف بن

قيس ما ادخر الآباء للأبناء ولا أبقت الأموات للأحياء أفضل من المعروف عند ذوي الأحساب والآداب وكان يقال إنما مالك لك أو للحاجة أو للورثة فلا تكن أعجز الثلاثة وقال بشار بن برد من قصيدة مدح بها خالد بن برمك أخالد إن المال يبقى لأهله ... جمالاً ولا يبقى الكنوز مع الحمد فأطعم وكل من عارة مستردّة ... ولا تبقها إن العواري للردّ المتنبي وأحسن شيء في الورى وجه محسن ... وأيمن كفّ فيهم كف منعم وأشرفهم من كان أشرف همة ... وأعظم اقداماً على كل معظم لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم بعضهم إذا المال لم ينفع صديقاً ولم يصب ... قريباً ولم يجبر به حال معدم فعقباه أن تحتازه كف وارث ... وللباخل الموروث عقبى التندم محمود الوراق تمتع بمالك قبل الممات ... وإلا فلا مال إن أنت متا شقيت به ثم خلفته ... لغيرك سحقاً وبعداً ومقتا يجود عليك بزور البكاء ... وجدت له بالذي قد جمعتا وأوهبته كل ما في يديك ... وخلاك رهناً بما قد كسبتا

وينتظم في سلك هذه الأبيات ... ما يروى من واعظ الحكايات يحكى إن هشام بن عبد الملك لما احتضر رأى أهله يبكون عليه فقال لهم جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء وترك لكم ما كسب وتركتم عليه ما اكتسب يا سوء حال هشام إن لم يغفر الله له بعضهم لا تجبهن بالرد وجه مؤمل ... فلخير وقتك أن ترى مسؤلا واعلم بأنك عن قليل صائر ... خبراً فكن خبراً يروق جميلا الشريف الرضي أحق من كانت النعماء سابغة ... عليه من أسبغ النعما على الأمم وأجدر الناس أن تعنو لرقاب له ... من يسترق رقاب الناس بالنعم الحض على انتهاز فرصة الامكان ... في إسداء المرجو من الاحسان لمن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه وقال حكيم الدنيا غرارة إن بقيت لك لم تبق لها وقال عبد الله بن شداد لابنه يا بني عليك باصطناع المعروف فإن الدهر ذو صروف والأيام ذات نوائب تقضي على الشاهد والغائب كم من ذي رغبة صار مرغوباً إليه وكم من طالب صار مطلوباً ما لديه شاعر ليس في كل ساعة وأوان ... تتهيا صنائع الاحسان فإذا أمكنت فبادر إليها ... حذراً من تعذر الامكان واغتنمها إذا قدرت عليها ... حذراً من تغير الأزمان أحزم الناس من إذا أحسن الده ... ر تلقى الاحسان بالاحسان

ابن النقيب الكناني الحمد أينع ما اجتناه المجتنى ... والمجد ارفع ما ابتناه المبتنى فإذا وليت وكان أمرك نافذاً ... فادخر صنيعاً في الولاية وابتنى من قبل أن يسعى لها فتفوته ... وتقول عند فواته يا ليتني ابن هندو إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون ولا تغفل عن الاحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون آخر لا تقطعن عادة الاحسان عن أحد ... ما دمت تقدر والأيام تارات واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت ... إليك لا لك عند الناس حاجات ومن أحسن ما قيل من الأبيات في انتهاز الفرصة بالمعروف وإغاثة المكروب والملهوف قول سالم الأنباري تمتع من الدنيا بساعتك التي ... ظفرت بها ما لم تعقك العوائق فما يومك الماضي عليك بعائد ... ولا يومان الآتي به أنت واثق احتجاج المتحجج بالمعروف ... على السائل المجهول والمعروف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس إليه فإن لم يحمل تلك فقد عرض تلك النعمة للزوال وقيل لعبد الله ابن جعفر وكان جواداً اقتصد في العطاء فإن من ذهب ماله ذل فقال إن الله عودني بالأفضال علي وعودته بالأفضال على عباده فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني المادة ثم تلاقو له تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

وقيل أحسن الناس عيشاً من حسن عيش غيره في عيشه وقيل لعبد الله ابن طاهر وكان جواداً أنفق وأمسك بعض الامساك فقال إن سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان أبداً نظمه بعض الشعراء فقال أراك تؤمل حسن الثناء ... ولم يرزق الله ذك البخيلا وكيف يسود أخو فطنة ... يمن كثيراً ويعطي قليلا آخر ما اجتمع المال وحسن الثناء ... مذ كانت الدنيا لانسان وأيّ هذين تخيرته ... ضنا به قاله عن الثاني آخر صون الفتى عرضه عما يدنسه ... وصونه ما حواه ليس يجتمع المال يتلفه دهراً ويرجعه ... إليه والعرض لا يمضي فيرجع أبو تمام من أبيات ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد ... ولا المجد في كف امرئ والدراهم ولم أر كالمعروف يرعى حقوقه ... مغارم في الأقوام وهي مغانم وقال ابن عباس لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه شاعر إني إذا أمكنتني ساعة سعة ... زينت بالبذل أوصافي وأحوالي أما شكور فزين لي إعانته ... أو الكفور فعرضي صنت بالمال

آخر يد المعروف غنم حيث كانت ... تحملها شكوراً وكفور ففي شكراً لشكور لها جزاء ... وعند الله ما جحد الكفور آخر وأفضل ما دخرت على الليالي ... صنائع عند مصطنع شكور ومن المفاخر التي لا نزاع فيها ولا خلاف بسط الوجه وبذل القرى للأضياف أول من شرع سنة قرى الأضياف سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام كان إذا لم يجد من يأكل معه يخرج إلى الطرقات ليأتي بمن يأكل معه ثم تبعته العرب على سنته وأول من وضع الموائد على الطرق سيدنا عبد الله بن عباس وكانت نفقته في كل يوم خمسمائة دينار قال شاعر يمدح من هذه صفته ابلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغذى رفعت ستوره وفي مثله يقول الشاعر في خالد بن برمك تأبى خلائق خالد وفعاله ... أن لا يجيب لكل أمر غائب وإذا حضرنا الباب عند غذائه ... أذن الغذاء لنا برغم الحاجب وقال بعضهم أبيت خميص البطن غر ثان طاويا ... وأوثر بالزاد الرفيق على نفسي وأمنحه فرشي وأفترش الثرى ... وأجعل قرّا لليل من دونه لبسي حذار مخازاة الأحاديث في غد ... إذا ضمني وحدي إلى صدره رمسي

آخر ضاحك ضيفي قبل انزال رحله ... ويخصب عندي والزمان جديب وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب آخر أو قد فان الليل ليل قرّ ... والريح ما سرّك ريح صر عسى يرى نارك من يمّر ... إن جلبت ضيفاً فأنت حر آخر يسترسل الضيف أنساً في منازلنا ... فليس يعلم خلق أينا الضيف والسيف إن قسته يوماً بناشبها ... لم تدر من عزمنا من ذا هو السيف آخر قالت سليمى لحاك الله من رجل ... ما تحفظ العهد والميثاق والذمما وحرمة الضيف ما إن خنت عهدكم ... وقد حلفت يميناً برّة قسما لو يعلم الضيف عندي قدر منزله ... لتاه حتى يرى لا يرجع الكلما أقول للأهل والقربى وقد حضروا ... قفوا قليلاً فإن الضيف قد قدما آخر لحا الله من يمسي بطينا وجاره ... لفرط الخوى محنى الضلوع خميص لعمرك ما ضيفي عليّ بهين ... وإني على ما سره لحريص

إبراهيم بن هرمة يبيتون في المشتى خماصاً وعندهم ... من الزاد فضلات تعد لمن يقرى إذا ضل عنهم ضيفهم رفعوا له ... من النار في الظلماء ألوية حمرا وتبعه ابن المعتز فقال وليل يودّ المصطلون بناره ... ولو أنهم حتى الصباح وقودها رفعت به ناري لمن يبتغي القرى ... على شرف حتى أتاها وفودها آخر ومستنبح بعد الهدوّ برقدة ... بشقرا مثل البحر باد وقودها فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... بوارد نار منجد من يرومها فإن شئت أويناك في الحي مكرماً ... وإن شئت بلغناك أرضاً ترومها آخر لا تبعدن قومي وإن كانوا خوى ... فلنعم مأوى الضيف والجيران الضيف فيهم لا يحوّل رحله ... والجار مضمون من الحدثان آخر الضيف أكرم ما استطعت محله ... وتلقه بتودد وتهلل واعلم بأنّ الضيف يوماً مخبر ... بمبيت ليلته وإن لم يسئل وصية كريم بالسودد عليم قال بعض البلغاء سودد بلا جود كملك بلا جنود وقالوا جود الرجل يحببه إلى أضداده وبخله يبغضه إلى أولاده وما

ذكر الأجواد المعروفين ببذل الأموال

أصدق من قال إذا لم يكن للمرء فضل ولم يكن ... يدافع عن اخوانه لم يسوّد وكيف يسود القوم من هو مثلهم ... بلا منة منه عليهم ولا يد وقال بعض الحكماء ثواب الجود خل ومكافأة ومحبة وثواب البخل حرمان واتلاف ومذمة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن للنعمة أجنحة فإن أمسكت بالاحسان قرت وإلا فرت وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه إن أفضل المال ما أفاد شكراً وأورث ذكراً وأوجب أجراً ولو رأيتم المعروف لرأيتموه حسناً جميلاً وقال المأمون لان أخطئ معطياً أحب إلي من أن أصيب مانعاً العرف زينة ذي النهى وذخيرة ... يلقى جوائزها بكل مكان ما ضاع معروف أتيت إلى امرئ ... فغدا وراح يذيعه بلسان ذكر الأجواد المعروفين ببذل الأموال والموصوفين باصلاح فساد الأحوال أسخاهم وأجودهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إنه ما سئل شيأً قط فقال لا فإن يكن عنده أعطى وإن لم يكن عنده استدان أعطى عيينة بن حصن مائة من الابل وأعطى الأقرع بن حابس مثلها وأعطى أعرابياً غنماً بين جبلين فانطلق الأعرابي وقال لقومه اسلموا فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخاف الفقر وقال أنس ابن ملك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين لم يؤت قبله بمثله فوضع في المسجد ثم خرج فصلى فلما فرغ من صلاته جلس ثم دعا بالما فما رأى أحداً إلا أعطاه منه فجاءه عمه العباس فقال يا رسول الله إني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ فحثا في ثوبه ثم ذهب ليقوم فلم يستطع فقال يا رسول الله مر من يرفعه علي قال لا قال فارفعه أنت قال لا فنثر منه ثم احتمله على كاهله وذهب فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم

يتبعه بصره حتى خفي علينا تعجباً من حرصه وما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرق المال جميعه وممن عمرت الوفود أرجاء ناديه وغمرت بالجود فواضله وأياديه أجواد العرب في الجاهلية الذين ضرب بهم المثل في الجود ثلاثة لا رابع لهم وهم كعب بن مامة الأيادي وهرم بن سنان النمري وحاتم الطائي وقد جمعهم بعض الشعراء في بيت واحد فقال مادحاً من أبيات لو أدرك العصر من كعب ومن هرم ... وحاتم جود كفيه لما ذكروا ومن أجواد العرب عمرو بن عبد مناف فإنه أول من هشم الثريد وجمع قومه عليه فسمى لذلك هاشماً وفيه يقول الشاعر عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف ويقال في المثل ما أحد كهاشم وإن هشم ولا كحاتم وإن حتم وأجواد العرب في الاسلام عبد الله بن عباس وأخوه عبيد الله فمن المأثور عن عبد الله أن رجلاً أراد مضارته فأتى وجوه قريش وهم جلوس في فضاء الكعبة وقال يقول لكم عبد الله تغدوا عنده اليوم فأتوه وقت الغداء حتى ملؤا البيت فسألهم عن مجيئهم فأخبروه الخبر فأمر قوماً بشراء فاكهة وأمر قوماً بالخبز وقوماً أن يطبخوا وقدمت الفاكهة إليهم فما فرغوا من أكلها حتى قدمت الموائد فأكلوا وانصرفوا ثم قال عبد الله لوكيله أيوجد مثل هذا كل يوم إذا أردناه قال نعم قال فليتغدوا عندنا كل يوم وأما عبيد الله فإنه كان لفرط جوده يسمى معلم الجود وهو أول من وضع الموائد على الطرق وكانت نفقته في كل يوم خمسمائة دينار وكان إذا خرج من دوره طعام إلى رحابه ومساجده لا يرد إليها منه شيء فإن لم يجد من يأكله ترك مكانه فربما أكلته السباع وكان هو والناس في ماله سواء من سأله أعطاه ومن

لم يسأله ابتدأه فلا يرى أنه يفتقر فيقتصر ولا يرى أنه يحتاج فيدخر وكان يقال من أراد الجمال والفقه والسخاء فليأت دار العباس فالجمال للفضل والفقه لعبد الله والسخاء لعبيد الله ومن الأجواد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الأعمش كنت عنده يوماً فأتى باثنين وعشرين ألف درهم فلم يقم من مجلسه حتى فرقها وكان إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به وكان كثيراً ما يتصدق بالسكر فقيل له في ذلك فقال إني أحبه وقد قال الله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون واعتق ألف عبد كان إذا رأى عبداً من عبيده ملازماً للصلاة أعتقه فقيل له إنهم يخدعونك فقال من خدعنا بالله انخدعنا له ومن الأجواد الحسن ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمع رجلاً يقول اللهم اعطني عشرة آلاف درهم فأخذ بيده وانطلق به إلى منزله فأعطاه عشرة آلاف درهم وخرج لله من ماله مرتين وقاسم الله ماله ثلاث مرات حتى إنه أعطى نعلاً وأمسك نعلاً ومن أجود الصحابة العشرة رضي الله عنهم عثمان بن عفان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن العاص كانوا رضي الله تعالى عنهم إذا رأوا أموالهم كثرت وزادت نقصوها بإيلاء البر وإسداء المعروف خوفاً من أن تحملهم نفوسهم على البطر والطغيان وإن تلهيهم بكثرتها عن الاشتغال بعبادة الرحمن فمن المأثور عن عثمان بن عفان أنه اشترى بئر رومية بأربعين ألف درهم وأوقفها على المسلمين وأنفق في جيش العسرة عشرة آلاف دينار ذهباً فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ظهر البطن ويقول غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ولا تبالي ما عمل بعد اليوم وأصاب الناس قحط في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلما اشتد بهم الأمر جاؤا إلى أبي بكر وقالوا يا خليفة رسول الله إن السماء لم تمطر والأرض لم تنبت وقد توقع الناس الهلاك فما نصنع فقال لهم انصرفوا واصبروا فإني أرجو الله أن لا تمسوا حتى يفرج الله عنكم فلما كان آخر النهار ورد الخبر بأن

عير العثمان بن عفان جاءت من الشأم وتصبح المدينة فلما جاءت خرج الناس يتلقونها فإذا هي ألف بعير موسوقة براوزيتا وزبينا فأناخت بباب عثمان فلما جعلها في داره جاء التجار فقال لهم ما تريدون قالوا إنك لتعلم ما نريد بعنا من هذا الذي وصل إليك فإنك تعلم ضرورة الناس إليه قال حباً وكرامة كم تربحوني على شرائي قالوا الدرهم درهمين قال أعطيت زيادة على هذا قالوا أربعة قال أعطيت زيادة على هذا قالوا خمسة قال أعطيت أكثر من هذا قالوا يا أبا عمرو ما بقي في المدينة تجار غيرنا وما سبقنا إليك أحد فمن ذا الذي أعطاك قال إن الله أعطاني بكل درهم عشرة أعندكم زيادة قالوا لا قال فإني أشهد الله أني جعلت ما حملت هذه العير صدقه لله على المساكين وفقراء المسلمين ومن المأثور عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه كان له ألف عبد يؤدون إليه الخراج كل يوم فما يدخل بيته منه درهم واحد بل يتصدق بذلك كله ومن المأثور عن عبد الرحمن بن عوف إنه باع أرضاً من عثمان بن عفان بأربعين ألف دينار وقسم ذلك في بني زهرة وفقراء المسلمين وامهات المؤمنين وبعث إلى عائشة رضي الله عنها من هذا المال بأربعين الف درهم فقالت سقى الله ابن عوف من سبيل الجنة وحمل مرة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسمائة فرس في سبيل الله ثم حمل مرة أخرى على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله وشاطر الله تعالى ماله ثلاث مرات وأمر أن يتصدق بعد موته بثلث ماله فعوفي فتصدق به بنفسه وجلس ليلة في بيته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب جريدة بتفريق جميع ماله على فقراء المهاجرين والأنصار حتى كتب قميصه الذي على بدنه هذا الفلان وهذا الفلان ولم يترك شيأً من ماله إلا كتبه فلما صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ناوله الجريدة فنزل جبريل عليه السلام وقال يا محمد يقول الله لك اقرأ السلام مني على عبد الرحمن ويأمرك أن ترد له جريدته وقل له إن الله قد قبل صدقتك وهو وكيل الله ووكيلك فيها فليصنع في ماله ما شاء ويتصرف فيه كما كان يتصرف فيه من قبل ولا حساب عليه ويروى أنه أعتق ثلاثين ألف عبد ومن المأثور عن سعيد بن العاص رضي الله عنه أن رجلاً سأله فقال لغلامه أعطه خمسمائة فمضى الغلام ثم رجع إليه مستفهماً أديناراً أو درهماً

فقال ما كنت أردت إلا دراهم أما إذ قد رجعت فصيرها دنانير فجعل الرجل يبكي فقال له ما يبكيك قال أبكي على أن تأكل الأرض مثلك ويروى عنه أنه عزل عن المدينة فانصرف ليلة من المسجد إلى منزله وحده فرأى رجلاً يتبعه فقال له ألك حاجة قال لا ولكني رأيتك وحدك فوصلت جناحك فقال وصلك الله يا ابن أخي اطلب لي جلداً وادع لي مولاي فلاناً فأتاه به فكتب له صكاً بعشرة آلاف درهم وأشهد عليه مولاه بها وقال إذا جاءت غلتنا دفعنا إليك ذلك فمات سعيد في تلك السنة فجاء الرجل بالصك إلى ولده عمرو فأمضاه وأعطاه عشرة آلاف درهم ولما احتضر سعيد قال لبنيه لا يفقد أصحابي بعد موتي غير وجهي أجروا عليهم ما كنت أجري واصنعوا إليهم ما كنت أصنع بهم واكفوهم مؤنة الطلب فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه وارتعدت فرائصه مخافة أن يردعنها والله لرجل بات يتململ على فراشه رآكم موضعاً لحاجته أعظم منة عليكم منكم بما تعطونه ويروى أيضاً أنه لما احتضر قال لبنيه أيكم يتكفل لي بثلاث فقال ابنه عمرو أنا قال اقض عني ديني وهو ثمانون ألف دينار والله ما استدنتها إلا لكريم سددت خلته أو لئيم وقيت عرضي منه قال علي دينك يا أبت قال قد بقيت اثنتان قال وما هما قال بناتي لا تزوجهن إلا الأكفاء ولو تقلقن من خبز الشعير قال أفعل قال وبقيت واحدة هي أشدهن على قال ما هي قال أن فقد أصحابي وجهي فلا يفقدون معروفي يا بني ثلاث ضقت بهن ذرعاً رجل أغبر وجهه في التردد للتسليم علي ورجل ضاق في مجلسي فتزحزح لي ورجل نزل به مهم من الأمور فبات متململاً على فراشه يتقلب من أمره ظهر البطن فلما أصبح رآني موضعاً لحاجته فلم أكافئه ولو خرجت من جميع ما أملك ومن الأجواد طلحة بن عبيد الله التميمي فرق في يوم واحد مائة ألف درهم وقال قبيصة بن حاتم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت أعطى لجزيل من غير مسئلة منه وهو أحد مشاهير الطلحات الذين يضرب بهم الثمل في الجود وكانوا ستة ويسمى هذا طلحة الفياض وطلحة بن عمر بن عبد الله بن معمر التميمي أيضاً وهو طلحة الجود وطلحة بن عبد الله بن عوف أخي عبد الرحمن بن عوف الزهري ويسمى طلحة النداء وطلحة بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو طلحة الخير وطلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر

الصديق ويسمى طلحة الدراهم وطلحة ابن عبد الله بن خلف الخزاعي وهو طلحة الطلحات وسمي بذلك لأنه كان أجودهم وقيل سمي بذلك لأنه وهب في عام واحد ألف جارية فكانت كل جارية منهن إذا ولدت غلاماً تسمية طلحة على اسم سيدها وعن الحسن قال باع طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي أرضاً بسبعمائة ألف درهم فبات ذلك المال عنده ليلة فبات أرقاً مخافة ذلك المال حتى أصبح ففرقه ومن أجواد الصحابة معاوية بن أبي سفيان قال عبد الله بن عمر ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود من معاوية وهو أول من أعطى ألف ألف في صلة وكان يعطيها للحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهم ولما مات معاوية وولي ابنه يزيد دخل وفد عبد الله بن جعفر على يزيد فقال له يا أمير المؤمنين إن والدك كان يصل رحى في كل عام بألف ألف درهم فقال يزيد نعم وكرامة أعطوه ألف ألف وألف ألف وألف ألف فقال له عبد الله بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين وما قلتها لأحد غيرك قال يزيد لا جرم إني أضعفها لك فلك عليها ألف ألف أخرى فخرج عبد الله بأربعة آلاف ألف درهم فقيل ليزيد أتقطع لرجل واحد أربعة آلاف ألف درهم فقال للمنكر ويحك إنما أعطيتها لأهل المدينة وما هي في يده إلا عارية ولم تزل عطيات الخلفاء ألوف الألوف وكان آخر من فعلها من الخلفاء المنصور ومن الوزراء الحسن بن سهل ومن غرر حكايات معاوية في العطاء أنه حج فلما انصرف من المدينة قال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه فقال إن علي دينا ولا بد من إتيانه فركب في أثره حتى لحقه وسلم عليه وأخبره بدينه فبينما هما يتحادثان إذ مر بختي قد أعياه حمله وقوم يسوقونه ليلحقوا به الحمول فقال معاوية ما شأن هذا البعير فذكروا له أنه أعياه ما عليه من المال قال وكم عليه قالوا ثمانون ألف دينار فقال اصرفوها لأبي محمد ومن الأجواد عبد الله بن جعفر الطيار وكان يسمى بحر الجود لجوده ويقال إنه لم يكن في عصره أجود منه فمن المأثور عنه إنه وقف على بابه يوماً وكان أرباب الحاجات ينتظرون خروجه فنهضوا إليه فما طلب أحد حاجة إلا قضاها له وكان فيمن حضر نصيب الشاعر فلما نظر إلى ما يسمع عنه تقدم إليه وقبل يده وأنشدبعة آلاف ألف درهم فقيل ليزيد أتقطع لرجل واحد أربعة آلاف ألف درهم فقال للمنكر ويحك إنما أعطيتها لأهل المدينة وما هي في يده إلا عارية ولم تزل عطيات الخلفاء ألوف الألوف وكان آخر من فعلها من الخلفاء المنصور ومن الوزراء الحسن بن سهل ومن غرر حكايات معاوية في العطاء أنه حج فلما انصرف من المدينة قال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه فقال إن علي دينا ولا بد من إتيانه فركب في أثره حتى لحقه وسلم عليه وأخبره بدينه فبينما هما يتحادثان إذ مر بختي قد أعياه حمله وقوم يسوقونه ليلحقوا به الحمول فقال معاوية ما شأن هذا البعير فذكروا له أنه أعياه ما عليه من المال قال وكم عليه قالوا ثمانون ألف دينار فقال اصرفوها لأبي محمد ومن الأجواد عبد الله بن جعفر الطيار وكان يسمى بحر الجود لجوده ويقال إنه لم يكن في عصره أجود منه فمن المأثور عنه إنه وقف على بابه يوماً وكان أرباب الحاجات ينتظرون خروجه فنهضوا إليه فما طلب أحد حاجة إلا قضاها له وكان فيمن حضر نصيب الشاعر فلما نظر إلى ما يسمع عنه تقدم إليه

وقبل يده وأنشد ألفت نعم حتى كأنك لم تكن ... عرفت من الأشياء شيأً سوى نعم وعاديت لا حتى كأنك لم تكن ... سمعت بلا في سالف الدهر والأمم فقال له عبد الله ما حاجتك قال هذه رواحلي تميرني عليها قال أنخ أنخ ثم أوسقها له براً وتمراً وأمر له بعشرة آلاف درهم وثياب فلما انصرف نصيب قال قائل لعبد الله يا ابن الطيار أتعطى هذا العطاء كله لمثل هذا العبد الأسود فقال إن كان أسود فإن شعره لأبيض وإن كان عبداً فإن ثناءه لحر وهل أعطيناه إلا رواحل تمضي وطعاماً يفنى وثياباً تبلى وكان يعتق في غرة كل شهر مائة عبد ومن حكاياته أنه ابتاع حائط نخل من رجل أنصاري بمائة ألف درهم فرأى ابنا له يبكي فقال له ما يبكيك قال كنت أطلب أنا وأبي أن نموت قبل خروج هذا الحائط من أيدينا ولقد غرست بعض نخله بيدي فدعا أباه ورد عليه الصك وسوغه المال ومن الأجواد عرابة الأوسي يحكي عنه أنه اجتمع جماعة بفناء الكعبة فتذاكروا الأجواد فقال أحدهم أجود الناس عبد الله بن جعفر وقال آخر أجود الناس قيس بن سعد بن عبادة وقال آخر أجود الناس عرابة الأوسي فقال رجل من الجماعة ليمض كل واحد منكم لصاحبه يسأله حتى ننظر ما يعطيه ونحكم على العيان فقام صاحب عبد الله فصادفه قد وضع رجله في الركاب يريد سفراً فقال له يا ابن بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سبيل ومنقطع به فأقام ثنى رجله وقال خذ الناقة بما عليها ولا تحل عن السيف فإنه من سيوف علي بن أبي طالب قوم علي بألف دينار فجاء بالناقة بما عليها من مطارف خز وأربعة آلاف دينار وأعظمها السيف ومضى الآخر إلى قيس ابن سعد فوجده نائماً فقال له غلامه هو نائم فما حاجتك قال ابن سبيل ومنقطع به قال حاجتك أيسر من أن أوقظه هذا كيس فيه سبعمائة دينار والله ما في دار قيس اليوم غيرها خذها وامض إلى معاطن الابل بعلامة كذا إلى من فيها فخذ راحلة وعبداً وامض إلى شأنك قيل إن قيساً لما انتبه أعلمه غلامه بما صنع فأعتقه وقال له هلا

أيقظتني فسكنت أزيده ومضى صاحب عرابة فلقيه قد خرج من منزله يريد الصلاة وهو متوكئ على عبدين وقد كف بصره فقال يا عرابة ابن سبيل ومنقطع به فتخلى عن الغلامين وصفق بيديه وقال أواه والله ما تركت الحقوق لعرابة ما لاخذ العبدين فقال الرجل ما كنت بالذي اقص جناحيك قال إن لم تأخذهما فهما حران فإن شئت فخذ وإن شئت فأعتق ورفع يديه عنهما وتركهما وأقبل يلتمس الحائط بيده فأخذ الرجل الغلامين وجاء بهما إلى أصحابه فاجمعوا على أن عرابة أجود الثلاثة لأنه جهد من مقل وإن الغير أعطى من سعد وفي عرابة يقول الشماخ رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى العلياء منقطع العرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين ومن الأجواد عبيد الله بن أبي بكرة واسمه نفيع كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم به ولافراطه في الجود كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن لا تواجه عملاً فإنه أريحي ومن حكاياته أنه أوسع له رجل في مجلس فلما قام قال للرجل الحقني إلى منزلي فلحقه فأمر له بعشرة آلاف درهم وابتنى داراً بالبصرة أنفق عليها عشرة آلاف دينار فدخل عليه فيها بعض أصحابه واستحسنها فقال هي لك بما فيها من الفرش والأثاث والرقيق فقال الرجل يعمرها الله بك ويمتعك بها فقال والله لتقبلنها فقبلها وولاه عبد الله بن زياد سجستان وأمره بهدم ما فيها من بيوت الأشراف فهدمها وأخذ ما فيها من الأموال المعدة للنفقة على سدته فكانت أربعة آلاف درهم فما أتى عليه الحول حتى استدان ومن الأجواد أسماء بن خارجة مما يحكى عنه أنه رجع يوماً لي داره فرأى فتى بالباب جالساً فقال ما أجلسك ههنا قال خير قال والله لتخبرني قال جئت سائلاً أهل هذه الدار ما آكل فخرج إلي منها جارية اختطفت قلبي وسلبت عقلي فأنا جالس لعلها تخرج ثانية فانظر إليها قال أفتعرفها إذا رأيتها قال نعم فدعا بمن في الدار من الجواري وجعل يعرضهن عليه واحدة بعد واحدة حتى مرت الجارية فقال هذه فقال قف مكانك حتى أخرج إليك ثم

دخل الدار وخرج والجارية معه وقال للفتى إنما أبطأت عليك لأنها لم تكن لي وإنما كانت لبعض بناتي ولم أزل بها حتى ابتعتها منها خذ بيدها فقد وهبتها لك وهذه الألف أصلح بها شأنك ومن الأجواد يزيد بن أبي صفرة وله حكايات شهدت بكرم نجاره ونكب عن لحاقه فيها كل كريم فلم يجاره منها أنه دخل عليه الكوثر بن زفر الكلابي حين ولاه سليمان بن عبد الملك العراق فقال له يعني ابن زفر أنت أكبر قدراً من أن يستعان عليك إلا بك ولست تصنع من المعروف شيأً إلا وهو أصغر منك وليس العجب منك أن تفعل ولكن العجب منك من أن لا تفعل قال سل حاجتك قال تحملت عشر ديات وقدها ضني ذلك قال قد أمرت لك بها فقال الكوثر أما ما أسألك لوجهي فأقبله منك وأما الذي بدأتني به فلا حاجة لي به قال ولم وقد كفيتك ذل السؤال قال رأيت الذي رمته ببذل مسئلتي إياك وبذل وجهي لك أكبر من معروفك عندي فكرهت الفضل لك علي فقال يزيد فأنا أسألك كما سألتني أسألك بحقك لما أهلتني له من انزال الحاجة بي إلا قبلتها ففعل وأول من عمل البيمارستانات وأجرى الصدقات على الزمني والمجذومين والعميان والمساكين واستخدم لهم الخدام الوليد بن عبد الملك وهو أول من تكبر من الخلفاء وأنف أن يدعى باسمه كما كان يدعى من قبله من الخلفاء ويكفيه منقبة بناؤه جامع دمشق الذي هو أحد عجائب مباني الدنيا ومن الأجواد معن بن زائدة الشيباني ويكفيه أن يقال فيه حدث عن البحر ولا حرج وعن معن ولا حرج وسنورد شيأً من أخباره في الفصل الثاني من هذا الباب ومن الأجواد الذين توارثوا الكرم خلفاً عن سلف بنو برمك وهم ستة خالد وولده يحيى وأولاده أربعة وهم الفضل وجعفر وموسى ومحمد فأما خالد فلم يزل يرتضع ثدي الخلافة صبياً إلى أن بلغ من الكبر عتياً من جوده أنه لم يكن لأحد من أصحابه ولد إلا من جارية قد وهبها له ولا دار إلا من دور أنفق على بنائها ماله وكان القصاد يسمون قبل أيامه بالسؤال فكره هذه التسمية ورأى إنها نقص فيهم وقال إن فيهم من له بيت وشرف وعلم وأدب فسماهم

بالزوار وكانوا يقصدونه في المواسم للهناء بها فيكتبون أسماءهم وتعرض عليه فيخص كل واحد منهم على حدته ويسأله بما يمت إليه حتى يعطيه بقدر ماتته ومنزلته وتقدم إليه رجل فقال له بماذا تمت فقال والله ما بي من ماتة ولا حرمة ولا وسيلة ولكن رغبت إليك بحسن الظن فيك والتيه بكرمك وما بلغني من جودك فقال ما ههنا أحداً ولي منك بالعطية فأجزل صلته ثم سأل آخر فقال حرمتي بالأمير أنه جمعني وإياه مسجد بجرجان يوم كذا في شهر كذا فصلينا فيه فقال حرمة لا تدفع وأمر له بصلة وفيه يقول بشار بن برد لعمرك قد أجدى عليّ ابن برمك ... وما كل من كان الغنى عنده يجدي حلبت بشعري راحتيه فدرّتا ... عليّ كما درّ السحاب على الرعد أخالد إن الحمد يبقى لأهله ... جمالاً ولا تبقى الكنوز مع الكد فأطعم وكل من عارة مستردة ... ولا تبقها إن العواري للردّ ثم كان ابنه يحيى سالكاً في سننه آخذاً في الجود بفرائضه وسننه ففيه يقول سلم الخاسر يا أيها الملك الذي ... أضحى وهمته المعالي أنت المنوّه باسمه ... عند الملمات الثقال ثم الذي أمواله ... عند المحامد خير مال لله درك من فتى ... ما فيك من كرم الخلال يحيى بن خالد الذي ... يعطى الجزيل ولا يبالي أعطاك قبل سؤاله ... وكفاك مكروه السؤال ملك خلا من ماله ... ومن المروأة غير خال وإذا رماك بموعد ... كان النوال مع المقال

وأولاده سادوا فشادوا ما أسس وجادوا فزادوا المن بما غرس فلهم طارف السخاء وتليده وكهل الثناء ووليده فالفضل في جوده ونزاهته وجعفر في بلاغته وفصاحته وموسى في نجدته وشجاعته ومحمد في مروأته وبعد همته وفيهم يقول الشاعر أولاد يحيى أربع ... كالأربع الطبائع فهم إذا اختبرتهم ... طبائع الصنائع لكن الفضل كان لتلقي العفاة أبسطهم وأمضاهم بالصلة عزيمة وأنشطهم وأمدهم بالانعام يداً لا سيما إن ترنم شاعر بمدحه أو شدا وفيه يقول الخياط المدني لمست بكفي كفه أبتغي الغني ... ولم أدر أن الجود من كفه بعدي فلا أنا مما قد أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي وفيهم يقول سلم الخاسر سأرسل بيتاً قد وسمت جبينه ... يقطع أعناق البيوت الشوارد أقام الندى والجود في كل بلدة ... أقام بها الفضل بن يحيى بن خالد وفيهم يقول مروان بن أبي حفصة وجمعهم على النسق لك الفضل يا فضل بن يحيى بن خالد ... وما كل من يدعى بفضل له الفضل رأى الله فضلاً منك في الناس شائعاً ... فسماك فضلاً فالتقى الاسم والفعل وزادك فضلاً أنّ أهلك في الورى ... كرام إذا أزرى بذي الشرف الكهل ولم يبق فيك الجود للبخل موضعاً ... فأصبح يستعدى على جودك البخل إذا كذبت أسماء قوم عليهم ... فاسمك صديق له شاهد عدل

وفيه يقول الحسن بن مطير رحمه الله تعالى رأى الله للفضل بن يحيى فضيلة ... ففضله والله بالناس أعلم له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويمطر يوم البؤس من كفه الدم ولو أن يوم الجود خلى يمينه ... على الناس لم يصبح على الأرض معدم ولو أن يوم البؤس خلى شماله ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم وممن فاه ببديع مدحه اللسان ... من ذوي الانعام والاحسان وصف أعرابي رجلاً فقال ذاك رجل اشترى عرضه من الأذى فهو وإن أعطى الدنيا بأسرها رأى بعد ذلك إن عليه حقوقاً منها ومدح أعرابي قوماً بالجود فقال هم الذين جعلوا أموالهم مناديل أعراضهم فالحمد فيهم زائد والجود لهم شاهد يعطون أموالهم بطيب أنفس إذا طلبت إليهم ويباشرون المكروه باشراق الوجوه إذا بغى عليهم ومدح آخر رجلاً فقال ما رأيت الرزق أبغض أحد أبغضه وقالوا فلان دواء الفقر إن سئل أعطى وإن لم يسئل ابتدأ وقالوا فلان يبذل ما جل ويجبر ما اعتل ويكثر ما قل ومن كلام الثعالبي فلان يحيي القلوب بلقائه قبل أن يميت العدم بعطائه فلان يوجب الصلات وجوب الصلاة فلان لو أن البحر مدده والسحاب يده والجبال ذهبه لقصرت عما يهبه وقالوا فلان له نفس فيحاء لا تضيق بالبذل وأذن صماء لا تصغي للعذل وأما المنظوم في هذا فكثير فمن ذلك قول المهلب بن أبي صفرة قوم إذا نزل الغريب بأرضهم ... ردوه رب صواهل وقيان

لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلب الحاجات بالعيدان بل يبسطون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان آخر نزلت على آل المهلب شاتيا ... بعيداً عن الأوطان في زمن محل فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وألطافهم حتى حسبتهم أهلي آخر لو قيل للعباس عمّ محمد ... قل لا وأنت مخلد ما قالها إنّ المكارم لم تزل معقولة ... حتى فككت براحتيك عقالها وإذا الكرام تسايروا في بلدة ... كانوا كواكبها وأنت هلالها ما إن أعدّ من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمها أو خالها الحطيئة تزور امرأ يعطي على الحمد ماله ... ويعلم أن الشح غير مخلد كسوب ومتلاف إذا ما لقيته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد أبو العتاهية وإنا إذا ما تركنا السؤال ... فلم نبغ نائله يبتدينا وإن نحن لم نبغ معروفه ... فمعروفه أبدا مبتغينا

وقال مسلم بن الوليد مادحاً من أبيات قبل أنامله فلسن أناملاً ... لكنهنّ مفاتح الأرزاق واذكر صنائعه فلسن صنائعاً ... لكنهنّ قلائد الأعناق يلقاك منه ثناؤه وعطاؤه ... بذكاء رائحة وطيب مذاق كالشمس في كبد السماء محلها ... وشعاعها قد شاع في الآفاق مروان في أبي حفصة له سحائب جود في أناملها ... أمطارها الفضة البيضاء والذهب يقول في العسر إن أيسرت ثانية ... أقصرت عن بعض ما أعطى وما أهب حتى إذا عدن أيام اليسار له ... رأيت أمواله في الناس تنتهب وما أحسن قول الكميت بن خالد بن عبد الله القسري ما أنت في الجود إن عدت فضائله ... ولا ابن مامة إلا البحر والوشل أنسيتنا في الندى أمثال أولنا ... فأنت للجود فيما بعدنا مثل آخر فضح الغمام نواله أو ما ترى ... ضحك البروق على الغمام الهاطل وقال عامر بن الظرب العدواني مادحاً لقومه أولئك قوم شيد الله فخرهم ... فما فوقه فخر وإن عظم الفخر أناس إذا ما الدهر أظلم وجهه ... فأيديهم بيض وأوجههم زهر يصونون أحساباً ومجداً مؤثلاً ... ببذل أكف دونها المزن والبحر سموا في المعالي رتبة فوق رتبة ... أحلتهم حيث النعائم والنسر

أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت ... لنورهم الشمس المنيرة والبدر فلولا مس الصخر الأصم أكفهم ... لفاض ينابيع الندى ذلك الصخر شكوت لهم آلاءهم وبلاءهم ... وما ضاع معروف يكافئه شكر ولو كان في الأرض البسيطة منهم ... لمغتبط عاف لما عرف الفقر آخر يبيتون في المشتا خماصاً وعندهم ... من الزاد فضلات تعدّ لمن يقرى إذا ضلّ عنهم ضيفهم رفعوا له ... من النار في الظلماء ألوية حمرا آخر سهل الحجاب إذ حللت ببابه ... طلق اليدين مؤدّب الخدام وإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام وقال محمد بن هاني الأندلسي أعطى وأكثر واستقل هباته ... فاستحيت الأنواء وهي هوامل فاسم الغمام لديه وهو كنهور ... آل وأسماء البحار جداول لم تخل أرض من نداه ولا خلا ... من شكر ما يولي لسان قائل آخر له راحة لو أن معشار جودها ... على البرّ كان أندى من البحر إذا ما أتاه السائلون توقدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشر له في ذرى المعروف نعمى كأنها ... مواقع ماء المزن في البلد القفر

آخر أصبح أهل الأرض زواره ... فما له نهب لزواره كأنما أدرّ بين الورى ... مجاري الأرزاق من داره بكر بن النطاح أقول لمرتاد الندى عند مالك ... تمسك بجدوى مالك وصلاته فتى جعل الدنيا وقاء لعرضه ... واسداءه المعروف عند عداته ولو خذلت أمواله جود كفه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته لو لم يجز في العمر قسماً لطالب ... وجاز له الاعطاء من حسناته لجاد بها من غير كفر لربه ... وأشركه في صومه وصلاته آخر يا أيها الملك الذي لنواله ... ظل تغرّس دونه الآمال أنعمت حتى ليس يقصد قاصد ... وبذلت حتى قلت السؤال وجمعت أشتات المكارم والعلا ... فاهنأ وأنت الواهب المفضال علي بن الجهم في المتوكل يسر مرأ امام عدل ... تغرق في بحره البحار مؤمل يرتجي ويخشى ... كأنه جنة ونار الملك فيه وفي بنيه ... ما دار بالأنجم المدار لا زال في الملك ذا اغتباط ... ما طرد الليل والنهار يداه بالجود ضرّتان ... عليه كلتاهما تغار لم تأت منه اليمين شيأً ... إلا أتت مثله اليسار

المتنبي لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والاقدام قتال تملك الحمد حتى ما لمفتخر ... في الحمد حاء ولا ميم ولا دال ومما ينبغي أن يكون لاحقاً بما ذكرناه ... ومتمماً للغرض الذي أردناه نوعان لهما في هذا الموضع ... لمن تأمّلهما أحسن موقع النوع الأوّل في ذم من أتبع الاحسان ... بالتعديد والامتنان قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى وقال عليه الصلاة والسلام إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر وقالوا المنة تهدم الصنيعة ويقال تعداد المنة من ضعف المنة ومنه قول عمر رضي الله عنه في ذم منان شوى أخوك حتى إذا نضج رمد شاعر يذم منانا أفسدت بالمن ما أوليت من حسن ... ليس الجواد إذا أسدى بمنان المن يهدم ما شيدت من كرم ... هل يرغب الحرّ في هدم لبنيان وقالوا لا خير في المعروف إذا أحصى وقالوا ما يعد لا يعتد ويقال أحسن العطاء موقعاً ما لم يشب بمن وينشد في مثله أحسن من كل حسن ... في كل وقت وزمن صنيعة مشكورة ... خالية من المنن

وينسب للامام الشافعي رضي الله عنه لا تحملن لمن يمنّ ... من الأنام عليك منه واختر لنفسك حظها ... واصبر فإن الصبر جنه منن الرجال على القلو ... ب أشدّ من وقع الأسنه وقال بعضهم لأعرابي إن فلاناً يزعم أنه كساك فقال إن المعروف إذا من به كفر وإذا ضاق قلبه اتسع لسانه وقال لقمان من عدد نعمه محق كرمه وقالوا إذا طوقت امرأ جوهر احسانك فلا تجعل المنة به حظ لسانك فينحل معقود نظامه ويصير بدره إلى السرار بعد تمامه وقالوا خير المعروف ما لم يتقدمه مطل ولم يتبعه من ولقد أحسن قائل هذين البيتين إذا زرعت جميلاً فاسقه غدقا ... من المكارم كي ينمو لك الشجر ولا تشبه بمن فالذي نقلوا ... من عادة المن أن يؤذي به الثمر ويقال عليك حق لمن أجريت عليه المعروف أن تستره ولا تظهره وتقدمه ولا تؤخره وتستقلله ولا تستكثره ولا تتبعه منا ولا تبطله بأذى وقال موسى شهوان يمدح حمزة بن عبد الله بن الزبير بترك المن حمزة المبتاع بالمال الثناء ... ويرى في بيعه أن قد غبن وإذا أعطى عطاء مفضلاً ... ذا اخاء لم يكدره بمن وقال إبراهيم بن العباس الصولي مفتخراً بترك المن أفرّق بين معروفي ومنى ... وأجمع بين مالي والحقوق وكان يقال الأيادي ثلاثة يد بيضاء ويد خضراء ويد سوداء فاليد البيضاء لابتداء بالمعروف والخضراء المكافاة عليه والسوداء المن به

النوع الثاني

شاعر أراك تؤمل حسن الثناء ... ألم يرزق الله ذاك البخيلا وكيف يسود أخا فطنة ... يمنّ كثيراً ويعطي قليلا ومن أظرف الحكايات وألطف الفكاهات ما يحكي أن الأشعث بن قيس قال لرجل أسدى إليه معروفاً فلم يشكره عليه ما شكرت معروفي عندك فقال الرجل إن معروفك كان من غير محتسب فوقع عند غير شاكر وليم بعضهم على منه بمعروف أسداه فقال إذا كفرت النعمة وجبت المنة وليم آخر فقال إذا جحد الاحسان وجب الامتنان النوع الثاني في أن من تمام المعروف ترك المطل به ... وإعانة المستجدي على حصول مطلبه قال جعفر الصادق نظرت إلى المعروف فوجدته لا يتم إلا بثلاث تعجيله وستره وتصغيره فإنك إذا عجلته هنأته وإذا سترته تممته وإذا صغرته عظمته مدح بعضهم من هذه خلته فقال زاد معروفك عندي عظما ... إنه عندك مستور حقير تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشكور كثير آخر أمت ذكر معروف تريد حياته ... فأحياؤه حقاً اماتة ذكره وصغره يعظم في النفوس محله ... فتصغيره في الناس تعظيم قدره وقال عمرو بن العاص ما استبطأني صاحب حاجة قط لأني لا أعد شيأً قط حتى أعد له نجازاً ولا أمنع شيأً حتى أعد له عذراً ويقال إياك والمطل

بالمعروف فإنه مفسدة للمروأة مهدمة للصنيعة ممحقة للشكر داعية للذم شاعر يا صانع المعروف لا تمطلن ... يزداد ذو الحاجة في حاجته فشر معروفك ممطوله ... وخيره ما كان في ساعته لكل خير يرتجى آفة ... ومطلك المعروف من آفته وسأل رجل رجلاً فاعتذر إليه وعجل صرفه فقال أصبت في الشكر من حيث أخطأت في الرد لأنك صرفتني وفي الزاد بقية وفي النفس رمق وفي الوجه بقية ماء الحياة شاعر جود الكرام إذا ما كان عن عدة ... وقد تأخر لم يسلم من الكدر إن السحائب لا تجدي بوارقها ... نفعاً إذا هي لم تمطر على الأثر وماطل الوعد مذموم وإن سمحت ... يداه من بعد طول المطل بالبدر آخر كم جزيل من النوال أتاني ... بعد مطل وكان غير جزيل أيّ فرق بين الكريم إذا استب ... طأت معروفه وبين البخيل آخر رأيت المطل ميداناً طويلاً ... يروض طباعه فيه البخيل يراود عن جداه نفس سوء ... يرى أن الندى حمل ثقيل آخر تعجيل جود المرء أكرومة ... ينشر عنه أطيب الذكر والجر لا يمطل معروفه ... ولا يليق المطل بالحر

الفصل الثاني من الباب التاسع

وقالوا المنع بالعذر الجميل خير من المطل الطويل وقالوا المطل مرض المعروف والانجاز برؤه والمنع تلفه وقالوا المسؤل حر حتى يعدو مسترق بالوعد حتى ينجز وقالوا من مروأة المطلوب إليه أن لا يلجئ إلى الالحاح عليه وقالوا الاسراع بالرد خير من الابطاء بالوعد أبو تمام وخير عداة المرء مختصراتها ... كما أن خير الليالي قصارها وإن الليالي الصالحات كبارها ... إذا وقعت تحت المطال صغارها وما العرف بالتسويف إلا كخلة ... تسليت عنها حين شط مزارها آخر إذا قلت في شيء نعم فاتمه ... فإن نعم دين على الحرّ واجب وإلا فقل لا واسترح وأرح بها ... لكيلا يقول الناس إنك كاذب وقالوا لولا أن انجاز الوعد فضيلة معدومة في أكثر الناس لما وصف الله سبحانه وتعالى نبيه إسمعيل بصدق الوعد شاعر إنّ الحوائج ربما أودى بها ... متطلب يقضي له ممطولها فإذا قصدت لطالب لك حاجة ... فاعلم بأنّ تمامها تعجيلها الفصل الثاني من الباب التاسع في منح الأماجد الأجواد وملح الوافدين والقصاد فمما يجب أن يقدم فيما يممناه ... تلطف الراغب لينال ما تمناه يقال التلطف في السؤال سبب لتحصيل النوال وقالت الحكماء لطف الاستماح سبب النجاح وقال العتابي إذا طلبت حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه وإياك والالحاح عليه فإن اللحاحة تكلم عرضك وتريق ماء

وجهك فلا تأخذ عوضاً مما أخذ منك ولعل الالحاح يجمع عليك أخلاق الوقاح وحرمان النجاح ولقد أحسن الأدب القائل وإذا طلبت إلى كريم حاجة ... فلقاؤه يكفيك والتسليم فإذا رآك مسلماً عرف الذي ... حملته فكأنه ملزوم نقض بعضهم هذا بقوله حث الجواد على الندى وتقاضه ... بالوعد واحمله على الانجاز ودع الوثوق بطبعه فلربما ... نشط الجواد بشوكة المهماز وقال بعضهم مقيماً عذر من منع وإذا طلبت إلى كريم حاجة ... فأبى فلا تقعد عليه بحاجب فلربما ضن الجواد وما به ... بخل ولكن سوء حظ الطالب فمن أحاسن بدائع ما تلطف به من استماح ... من الكلام الخادع لذوي السماح ما حكى أن زياد بن أبيه نظر إلى أعرابي يأكل على مائدته أكلاً ذريعاً وهو من أقبح الناس وجهاً فقال يا أعرابي كم عيالك قال سبع بنات أنا أجمل منهن وهن آكل مني فضحك زياد وقال لله درك ما ألطف جوابك افرضوا لكل واحدة منهن مائة دينار وعجلوا لهن ذلك وقد روى الأصمعي هذه الحكاية وذكر أنها جرت لسعيد بن المحسن مع زياد وأنه لما وصله ووصل أولاده خرج وهو ينشد إذا كنت مرتاد السماحة والندى ... فبادر زياداً أو أخاً لزياد يجبك امرؤ يعطي على الحمد ماله ... إذا ضن بالمعروف كل جواد

ومالي لا أثني عليه وإنما ... طريقي من معروفه وتلادي وحكى أن نصيباً قال لعبد الملك بن مروان يا أمير المؤمنين إن لي بنات نفضت عليهن من سوادي فضحك منه وأمر له بصلة وقال المأمون للعتابي سلني فقال يداك بالنوال انطق من لساني بالسؤال وقصد بعض الشعراء معن بن زائدة الشيباني يستجديه فأذن عليه فلم يأذن له الحاجب وكان معن في بستان له فعمد الشاعر إلى قطعة خشب وكتب عليها أيا جود معن ناج معنا بحاجتي ... فمالي إلى معن سواك رسول وأرسلها في ساقية تصل إليه فلما وصلت إليه وقرأها أذن له ووصله بعشرة آلاف درهم وأمر المأمون محمد بن حازم أن يرتجل بيتين من الشعر فقال أنت سماء ويدي أرضها ... والأرض قد تأمل غيث السماء فازرع يداً عندي محمودة ... تحصد بها مني حسن الثناء فاستحسن ذلك منه وأعطاه عشرة آلاف درهم سأل أعرابي عبد الملك ابن مروان فقال له سل الله تعالى فقال قد سألته فأحالني عليك فضحك منه وأعطاه وقدم على مخلد بن يزيد بن المهلب رجل كان قد ازدراه فأجازه فقال ألم تكن قد أتيتنا فأجزناك قال بلى قال فما ردك قال قول الكميت فيك سألناه الجزيل فما تلكى ... وأعطى فوق منيتنا وزادا وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم أحسن ثم عادا مراراً لا أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا فاضعف له ما كان أعطاه وقد نسب ابن عبدوس هذه الأبيات لزياد بن عمرو العتكي في عبد الرحمن بن زياد في كتاب الوزراء له ودخل أعرابي على

خالد ابن عبد الله القسري فقال أخالد إني لم أزرك لحاجة ... سوى إنني عاف وأنت جواد أخالد بين الحمد والأجر حاجتي ... فأيهما تأتي فأنت عماد فقال له خالد سل حاجتك قال مائة ألف درهم قال خالد أسرفت فاحططنا منها قال حططتك ألفاً فقال خالد ما أعجب ما سألت وما حططت فقال لا يعجب الأمير سألته على قدره وحططته على قدري فضحك منه وأمر له بما طلب وسأل رجل أسد بن عبد الله فقال إني لا أسألك من حاجة ولكني رأيتك تحب من أعطيت فأحببت أن تحبني فأعطاه عشرة آلاف درهم وقصد تمام بن حبيب ابن أوس الطائي عبد الله بن طاهر بعد موت أبيه أبي تمام فاستنشده فانشده حياك رب الناس حياكا ... إذ بجمال الوجه رواكا بغداد من نورك قد أشرقت ... وأورق العود بجدواكا فأطرق عبد الله ساعة ثم قال حياك رب الناس حياكا ... إنّ الذي أملت أخطاكا أتيت شخصاً قد خلا كيسه ... ولو حوى شيأً لأعطاكا فقال أيها الأمير إن بيع الشعر بالشعر ربا فاجعل بينهما فضلاً من المال فضحك منه وقال لئن فاتك شعر أبيك فما فاتك ظرفه وأمر له بصلة وقف رجل لعبد الله بن طاهر في طريقه فناشده أن يقف له حتى ينشده ثلاثة أبيات فوقف وقال له قل فأنشده إذا قيل أيّ فتى تعلمون ... أهش إلى البائس والنائل واضرب للهام يوم الوغى ... واطعم في الزمن الماحل أشار إليك جميع الأنام ... اشارة غرقى إلى الساحل

فأمر له بخمسين ألف درهم وكتب أحمد بن أبي طاهر إلى إسمعيل بن بلبل رقعة يذكر فيها اختلال حاله وفي آخر الرقعة يا سيداً لم يزل ... غيثاً لكل مؤمليه إن كنت أملك درهماً ... فكفرت بالمنقوش فيه فبعث إليه بثلاثة آلاف دينار حكى أن أعرابياً وفد على معن بن زائدة فلما مثل بين يديه قال ممن الرجل قال رجل من العرب وهم أصلك وقومك فلا تشغلني بالسؤال عما هم فيه من سوء الحال قال فما حاجتك قال نأي بلدي وكثرة ولدي وضعف جلدي وقلة ذات يدي فأتيتك يا مغيث اللهيف وجابر الضعيف آملاً لجودك راجياً لزودك قال فهل من قرابة تمت بها أو يد تتوسل بمثلها قال أنت أفضل من أن يبتدئ مثلي يداً إلى مثلك أو يتوسل إليك بغير فضلك أو تتمحل الحيل عليك بذلك وقد قلت في ذلك شعراً قال هاته فأنشد أيا جود معن ناج معنا بحاجتي ... فمالي إلى معن سواك شفيع قال إذا لا أشفعه فيك فقال الأعرابي ما أنت بالبخيل فأوجه الذم إليك ولا أوليت ما يحسن ثنائي عليك ثم انصرف وهو يقول بأيّ الخصلتين عليك أثنى ... فإني عند منصرفي سؤل أيا لحسنى وليس لها ضياء ... عليّ فمن يصدّق ما أقول أم الأخرى تكون فتلك عار ... على من دأبه الفعل الجميل فرق له وأجزل صلته وفد على أبي دلف قاسم بن عيسى العجلي مستجدياً فأقام ببابه مدة لا يصل إليه فكتب في رقعة هذه الأبيات ماذا أقول إذا أتيت معاشراً ... صفراً يدي من عند أروع مفضل إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... ضنّ الجواد بماله لم يجمل

أم ما أقول إذا سئلت وقيل لي ... ماذا أفدت من الأمير المجزل ولأنت أعلم بالمكارم والعلا ... من أن أقول فعلت ما لم تفعل فاختر لنفسك ما أقول فإنني ... لا بدّ أعلمهم وإن لم أسأل ودفعها فلما وقف عليها أبو دلف أمر له عن كل يوم أقامه ألف درهم وكتب خلف الرقعة أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... نزراً ولو أمهلتنا لم نقلل فخذ القليل وكن كأنك لم تسل ... ونكون نحن كأننا لم نسأل ويحكى أن أبا دلامة دخل على المنصور فأنشده باتت تعاتبني من بعد رقدتها ... أمّ الدلامة لما هاجها الجزع وقالت ابتع لنا نخلاً ومزدرعاً ... كما لجيراننا نخل ومزدرع خادع خليفتنا عنها بمسئلة ... إن الخليفة للتسآل ينخدع فأمر أن يقطع ألف جريب عامرة وألف جريد غامرة فقال أبو دلامة أما العامرة فقد عرفته فما الغامرة قال ما لا يدركه الماء ولا يسقى إلا بالكلفة والمؤنة فقال أبو دلامة أشهدك يا أمير المؤمنين ومن حضر أني أقطعت عبد الملك بادية بني أسد فضحك المنصور وقال يا عبد الملك اكتب عامرة فقال أبو دلامة للمنصور ائذن لي في تقبيل يدك فلم يفعل فقال ما منعتني شيأً هو أهون على عيالي من هذا وكان المنصور يدخل البصرة في أيام بني أمية متستراً فيجلس في حلقة أزهر السمان المحدث فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر الكوفة فرحب به وقرب منزله وقال له ما الذي أقدمك علينا قال جئت طالباً فأمر له بعشرة آلاف درهم وقال له قد قضيت حاجتك فأخذها وانصرف ثم عاد إليه في قابل فلما رآه قال له ما جاء بك قال جئت مسلماً فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال لا تأتنا طالباً ولا مسلماً فأخذها وانصرف ثم رجع إليه بعد عام فقال له ما الذي أقدمك علينا قال عائداً فوصله بعشرة

آلاف درهم وقال لا تأتنا طالباً ولا مسلماً ولا عائداً فأخذها وانصرف ثم عاد بعد سنة فلما رآه قال له ما الذي أتى بك قال دعاء كنت سمعته من أمير المؤمنين جئت لأكتبه فضحك المنصور وقال إنه غير مستجاب لأني دعوت الله به أن لا يريني وجهك فلم يستجب لي وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم وتعال متى أردت فقد أعيتنا فيك الحيلة وكان المنصور مبخلاً جداً وسنذكر شيأً من أخباره في باب البخلاء إن شاء الله تعالى وقصد الحكم بن عبدك الشاعر أسماء بن خارجة فأنشده أغفيت قبل الصبح نوم مسهد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها فرأيت أنك رعتني بوليدة ... مغناجة حسن لديّ قيامها وببدرة حملت إليّ وبغلة ... شهباء ناجبة تصك لجامها فسالت ربي أن يثيبك جنة ... عوضاً يصيبك بردها وسلامها فقال له أصبت كل شيء رأيته عندنا إلا البغلة فإنها دهماء فقال أذكرتني أيها الأمير فإني ما رأيتها إلا دهماء فضحك منه أسماء وأمر له بكل ما سأل وحكى أبو الفرج الأصفهاني أن هذه الحكاية جرت لابن عبدك مع بشر بن مروان أخي عبد الملك والله أعلم بالصحيح من ذلك ودخلت امرأة من هوازن على عبيد الله بن أبي بكرة فوقفت بين السماطين وجعلت تلحظه وجهها مرة وتستره أخرى فلما أبصرها علم أن لها حاجة فقال لجلسائه ما عليكم أن تقوموا حتى تقول هذه المرأة حاجتها فتقدمت وقالت اصلح الله الأمير إني أتيتك من أرض شاسعة ترفعني رافعة وتخفضني واضعه لملمات قد أكلن لحمي وبرين عظمي وتركنني أغص بالجريض فضاق بي من البلد العريض وقد جئت بلداً لا أعرف فيها أحداً لا قرابة تكنفني ولا عشيرة تعرفني بعد أن سألت أحياء العرب من المرجو نائله المعطي سائله فأرسلت إليك ودللت عليك وأنا أصلحك الله امرأة قد هلك عنها الوالد وذهب عنها الطارف والتالد ومثلك يسد الخلة ويزيح العلة فأما أن تحسن صفدي وتقيم أودي وإما أن تردني إلى بلدي

فقال بل أجمع لك كل ما ذكرت ثم أمر لها بعشرة آلاف درهم وزاد وكسوة وراحلة أصاب الناس مجاعة على عهد هشام بن عبد الملك فدخل عليه درواس بن حبيب العجلي مع جماعة من قومه فقال يا أمير المؤمنين تتابعت علينا وعلى الناس سنون ثلاثة أما الأولى فأكلت اللحم وأما الثانية فأذابت الشحم وأما الثالثة فمصت العظم وفي أيديكم فضول أموال فإن تكن لله فاعطفوا بها على عباده وإن تكن لهم فعلام تحبسونها عنهم وتنفقونها اسرافاً وبداراً والله لا يحب المسرفين وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم إن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين فقال هشام لله أبوك ما تركت لنا واحدة من ثلاث وأمر بمائة ألف فقسمت في الناس وأمر لدرواس بمائة ألف درهم فقال يا أمير المؤمنين لكل واحد من المسلمين مثلها قال لا ولا يقوم بذلك بيت المال قال فلا حاجة لي بما يبعث على ذمك فالزمه بها فلما عاد إلى منزله قسم تسعين ألفاً في أحياء العرب وحبس عشرة آلاف له ولقومه فبلغ ذلك هشاماً فقال لله دره إن الصنيعة عند مثله تبعث على مكارم الأخلاق ومثلها ما يحكي أن عبد الملك بن مروان حبس عن الناس العطاء فدخل عليه أعرابي فقال يا أبا الوليد بلغني أن عندك مالاً فإن كان لله فاقسمه على عباده وإن يكن لك فتفضل به عليهم وإن يكن لهم فادفع إليهم أموالهم وإن يكن بينك وبينهم فقد أسأت شركتهم ثم ولي فقال عبد الملك اطلبوا الرجل فطلبوه فلم يقدر عليه فأمر للناس باعطياتهم وممن أبرع من القصاد في المدح وأجاد ... فاستحق به الصلة ممن سمح وجاد دخل النابغة على النعمان بن المنذر بن ماء السما بن امرئ القيس بن عمرو ابن عدي اللخمي فحياه تحية الملوك ثم قال أيفاخرك ذو فائش وأنت سائس العرب وغرة الحسب واللات لأمسك أيمن من يومه ولعبدك أكرم من قومه ولقفاك أحسن من وجهه وليسارك أجود من يمينه ولظنك أصدق من يقينة ولوعدك أبلج من رفده ولخالك أشرف من جده ولنفسك امنع من جنده

وليومك أزهر من دهره ولفترك أبسط من شبره ثم أنشد أخلاق مجدك جلت مالها خطر ... في البأس والجود بين الحلم والخفر متوّج بالمعالي فوق مفرقه ... وفي الوغى ضيغم في صورة القمر إذا دجا الخطب جلاه بصارمه ... كما يجلي زمان المحل بالمطر فتهلل وجه النعمان سروراً ثم أمر أن يحشي فوه دراً ويكسي أثواب الرضا وهي جباب أطواقها الذهب في قضب الزمرذ ثم قال النعمان هكذا فلتمدح الملوك وذو فائش المذكور هو سلامة بن يزيد بن سلامة من ولد يحصب بن مالك وكان النابغة متصلاً به قبل اتصاله بالنعمان وله فيه مدائح كثيرة مذكورة في ديوانه وفائش مشتق من المفايشة وهي المفاخرة قاله الأصمعي في اشتقاقه ودخل أبو العتاهية إسمعيل بن قاسم بن سويد العنبري العتبي على عمرو ابن العلاء مولى عمرو بن حريث الذي يقول فيه بشار بن برد من أبيات إذا أرقتك جسام الأمور ... فنبه لها عمراً ثم نم فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم فأنشده أبياتاً يقول منها إني أمنت من الزمان وريبه ... لما علقت من الأمير حبالا لو يستطيع الناس من إحلاله ... لحذوا له حرّ الوجوه نعالا إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسبا ورمالا فإذا أتين بنا أتين مخفة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا فأمر عمرو من حضر مجلسه أن يخلعوا عليه فخلعوا عليه حتى لم يقدر على النهوض لما عليه من الثياب فلما خرج حسده من كان ببابه من الشعراء

فبلغ عمراً الخبر فقال علي بهم فلما دخلوا عليه ومثلوا بين يديه قال لهم ما أحسد بعضكم لبعض يا معشر الشعراء إن أحدكم يريد مدحنا فينسب في قصيدته بخمسين بيتاً فما يبلغ مدحنا حتى تذهب حلاوة شعره وتعرى طلاوة رونقه وأبو العتاهية بدأ بذكرنا وختم بمدحنا ثم أرسل إلى أبي العتاهية أن أقم حتى أنظر في أمرك فأقام أياماً فلم ير شيأً وكان عمرو ينتظر ما لا يجئ إليه من بعض أعماله فابطأ عليه فكتب إليه أبو العتاهية هذه الأبيات يا ابن العلا ويا ابن القرم مرداس ... إني مدحتك في صحبي وجلاسي أثنى عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فاستحيي من الناس حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حال عندها راسي فقال عمرو لحاجبه اكففه عني أياماً ففعل فلما طال على أبي العتاهية الانتظار كتب إليه يستحثه أصابت علينا جودك العين يا عمرو ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر أصابتك عين من سخائك صلبة ... ويا رب عين صلبة تفلق الحجر سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... وإن لم تفق منها رقيناك بالسور فضحك عمرو وقال لصاحب بيت ماله كم عندك قال سبعون ألفاً قال ادفعها له واعذرني عنده ولا تدخله علي فإني أستحي منه ولقد أحسن ابن الرومي في مدح من رأى إنه قصر في عطائه فاعتذر منه يعطي عطاء المحسن الخضل الندي ... عفواً ويعتذر اعتذار المذنب وما وقفت فيما طالعت من كتب الأدب على أحسن من قول القائل معتذراً من تقصيره في معروف أسداه لو انبسطت فيما تؤمله يدي ... لجدت به عفواً ولو أنه الدنيا

ولكنني والله والله والذي ... إليه الحجيج يقطعون الفلا سعيا طويت هموماً لو أصيب ببعضها ... يد الدهر ما اسطاعت لا يسر هاطيا خذ العفو واعذر صاحباً لو بنفسه ... يبرو بالدنيا غلامك لاستحيا آخر خلّ إذا جئته يوماً لتسأله ... أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا يخفي صنائعه والله يظهرها ... إنّ الجميل إذا أخفيته ظهرا وحكى جحظة البرمكي قال أنشد مقدس الخلوقي طاهر بن الحسين بن مصعب ابن زريق مولى طلحة الطلحات الخزاعي فمدحه فلم يثبه وتغافل عنه حتى ركب في حراقته فعارضه وقال له بحق رأس أمير المؤمنين ألا سمعت مني ثلاثة أبيات فأمر بإيقاف الحراقة وقال هات الأبيات فأنشده عجبت لحراقة بن الحسي ... ن كيف تسير ولا تغرق وبحران من فوقها واحد ... وآخر من تحتها مطبق وأعجب من ذاك عيدانها ... إذا مسها كيف لا تورق فأمر له عن كل بيت بألف دينار وكان طاهر بن الحسين من الأجواد ذكر إنه جلس في مجلسه يوماً فنظر في قصص ورقاع فوقع عليها بصلات أحصيت فكانت ألف ألف درهم ركب الرشيد في بعض أسفاره ناقة فطلع عليه أعرابي فناشده أغيثا تحمل الناق ... ة أم تحمل هرونا أم الشمس أم البدر ... أم الدنيا أم الدينا الأكل الذي قلت ... هـ قد أصبح مأمونا فأمر له بعشرة آلاف درهم قام رجل بين يدي خالد بن عبد الله القسري فقال أصلح الله الأمير قد قلت فيك بيتين ولست أنشدهما حتى تعطيني قيمتهما

قال وكم قيمتهما قال عشرون ألفاً قال أنشدهما فأنشد قد كان آدم قبل حين وفاته ... أوصاك حين تجود بالحوباء ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... فكفيت آدم عيلة الآباء فأمر له بعشرين ألفاً وأن يجلد خمسين سوطاً وأن ينادي عليه هذا جزاء من لا يحسن قيمة الشعر وقف أعرابي لمعن بن زائدة في طريقه فأنشده يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير لو كان مثلك في الورى ... ما كان في الدنيا فقير فأمر له بألفي درهم ومن حكاياته أن رجلاً قال له إني جعلت فضلك سببي إليك وكرمك وسيلتي عندك قال سل قال ألف درهم قال معن قد أربحتني أربعة آلاف درهم وإني حدثت نفسي أن أعطيك خمسة آلاف فقال أنت أكبر من أن تربح على مؤملك فأعطاه خمسة آلاف درهم وأنشد أعرابي كتبت نعم ببابك حين تدعو ... إليك الناس مسفرة النقاب وقلت الا عليك بباب غيري ... فإنك لن ترى أبداً ببابي فأعطاه ألف دينار وحدث بعضهم قال كنا مع يزيد بن مزيد فإذا بصائح في الليل يا يزيد بن مزيد فقال علي بهذا الصائح فلما جئ به قال له ما حملك على أن ناديت بهذا الاسم فقال نقبت دابتي ونفدت نفقتي وسمعت قول الشاعر فتمنيت به فقال له وما قال الشاعر فأنشد إذا قيل من للمجد والجود والندى ... فناد بصوت يا يزيد بن مزيد فلما سمع مقاله هش له وقال له أتعرف يزيد بن مزيد قال لا والله قال أنا هو وأمر له بفرس أبلق كان معجباً به وبمائة قام أعرابي بين يدي داود بن المهلب وقال إني قد مدحتك فاسمع قال على رسلك ثم دخل بيته فتقلد

سيفه وخرج ثم قال قل فإن أحسنت حملناك وإن أسأت قتلناك فأنشد أمنت بداود وجود يمينه ... من الحدث المخشي والبؤس والفقر وأصبحت لا أخشى بداود كبوة ... من الدهر لما أن شددت به أزري له حكم دواد وصورة يوسف ... وملك سليمان وعدل أبي بكر فتى تفرق الأموال من جود كفه ... كما يفرق السلطان من ليلة القدر فقال له قد حملناك فإن شئت على قدرنا وإن شئت على قدرك قال بل على قدري فأعطاه خمسين فقال له جلساؤه هلا احتكمت على قدر الأمير قال لم يكن في ماله ما يفي بقدره فقال له داود أنت في هذا أشعر منك في شعرك وأمر له بمثل ما أعطاه وفد رجل على بعض الأمراء فسأله حاجة فقضاها ثم سأله أخرى فقضاها حتى قضى له سبع حاجات فلما خرج من عنده قيل له ما فعل بك قال ما أدري ثم قال لكن أخبركم عنه بنادرة ... لم يأتها قبله عرب ولا عجم قرأ عليه كتاباً منه كاتبه ... إلى أخ وجبت منه له نعم حتى إذا ما مضت لا في رسالته ... قال استمع ثم لا يمضي بك الصمم لا تكتبن بلافيها إلى أحد ... شق الكتاب ومر فليكسر القلم وفد أعرابي على مالك بن طوق وكان زري الحال رث الهيئة فمنع من الدخول إليه فأقام بالرحبة أياماً فخرج مالك ذات يوم يريد النزهة حول الرحبة فعارضه الأعرابي فمنعه الشرطة ازدراء به فلم ينثن عنه حتى أخذ بعنان فرسه ثم قال أيها الأمير أنا عائذ بك من شرطك فنهاهم عنه وأبعدهم منه ثم قال له هل من حاجة قال نعم أصلح الله الأمير قال وما هي قال أن تصغي إلي بسمعك وتنظر إلي بطرفك وتقبل علي بوجهك قال نعم فأنشده ببابك دون الناس أنزلت حاجتي ... وأقبلت أسعى نحوه وأطوف

ويمنعني الحجاب والليل مسبل ... وأنت بعيد والرجال صفوف يطوفون حولي بالقلوس كأنهم ... ذئاب جياع بينهنّ خروف فأمّا وقد أبصرت وجهك مقبلاً ... واصرف عنه إنني لضعيف ومالي من الدنيا سواك وما لمن ... تركت ورائي مربع ومصيف وقد علم الحيان قيس وخندف ... ومن هو فيها نازل وحليف تخطيت أعناق الملوك ورحلتي ... إليك وقد أخنت عليّ صروف فجئتك أبغي الخير منك فهزني ... ببابك من ضرب العبيد صنوف فلا يجعلن لي نحو بابك عودة ... فقلبي من ضرب العبيد مخوف فاستضحك مالك حتى كاد يسقط عن فرسه ثم قال لمن حوله من يعطيه درهماً بدرهمين وثوباً بثوبين فنثرت الدراهم ووقعت الثياب عليه من كل جانب حتى تحير الأعرابي واختلط عقله لكثرة ما أعطى فقال هل بقيت لك حاجة يا أعرابي قال أما إليك فلا قال فإلى من قال إلى الله أن يبقيك للعرب فإنها لا تزال بخير ما بقيت لها وحكى أبو بكر المارداني قال كنت أساير الأمير أبا الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وكان قد خرج إلى الصيد بدمشق إذ تلقاه أعرابي فأخذ بعنان فرسه وقال إن السنان وحد السيف لو نطقا ... لأخبرا عنك في الهيجاء بالعجب أقبلت مالك تعطيه وتنهبه ... يا آفة الفضة البيضاء والذهب فقال يا غلام اعطه ما معك فأعطاه خمسمائة دينار فقال يا أمير المؤمنين زدني فقال لمن معه من غلمانه اطرحوا له ما معكم من المناطق والسيوف فحصل له منهم ما عجز عن حمله وقال علقمة بن عبد الرزاق العليمي قصدت بدراً الجمالي بمصر فرأيت اشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم قد طال مقامهم على بابه ولم يؤذن لأحد منهم فبينما هم جلوس إذ خرج يريد الصيد فأقمت حتى رجع من صيده فلما قارب دخول البلد خرجت إليه ووقفت على نشز عال من الأرض وآومأت إليه برقعة فوقف

فأنشدته نحن التجار وهذه أعلاقنا ... در وجود يمينك المبتاع قلد وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع كسدت علينا بالشآم وكلما ... كسدت المتاع تعطل الصناع فأتتك تحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع حتى أناخوا نحو بابك والرجا ... من دونك السمسار والبياع فبذلت ما لم يعطه في دهره ... هرم ولا كعب ولا القعقاع وطلبت هذا الخلق في طلب العلى ... والناس بعدك كلهم أتباع فلما فرغت من انشادها سار قليلاً ثم وقف فاستعادها مني فلما دخل داره واستقر به الجلوس استدعاني فأعدتها فقال لمن كان عنده من خواصه وغلمانه واتباعه من أحبني فليخلع عليه فخلع علي مائة خلعة ووصلني بعشرة آلاف درهم وحبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب لباق عليه كان بخراسان وأقسم ليستأدينه كل يوم مائة ألف درهم فبينما هو قد جباها له ذات يوم إذ دخل عليه الأخطل فأنشده أيا خالداً ضاقت خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد وما قطرت بالشرق بعدك قطرة ... ولا أخضر بالمرين بعدك عود وما لسرير بعد بعدك بهجة ... وما لجواد بعد جودك جود فقال يا غلام أعطه المائة ألف درهم فإنا نصبر على عذاب الحجاج ولا نخيب الأخطل فبلغت الحجاج فقال لله در يزيد لو كان تاركاً للسخاء يوماً لتركه اليوم وهو يتوقع الموت ومن أخبار يزيد أن الفرزدق دخل عليه وهو محبوس

فلما رآه مقيداً قال له أصبح في قيدك السماحة والس ... جود وحمل الديات والحسب لا بطران ترادفت نعم ... وصابر في البلاء محتسب فقال له يزيد ويحك ما أردت بمدحتي وأنا على هذه الحالة فقال الفرزدق وجدتك رخيصاً فأحببت أن أسلفك بضاعتي فرمى إليه بخاتم كان في اصبعه قيمته ألف دينار وقال هو ربحك أمسكه إلى أن يأتيك رأسك المال ودخل جعيفران واسمه جعفر بن علي كركري على أبي دلف فأنشده يا أكرم الأمّة موجودا ... ويا أعز الناس مفقودا لما سألت الناس عن سيد ... أصبح بين الناس محمودا قالوا جميعاً إنه قاسم ... أشبه آباء له صيدا لو عبد الناس سوى ربهم ... لكنت في العالم معبودا فقال له أحسنت يا غلام أعطه ألف درهم فقال أيها الأمير وما أصنع بها مر الغلام يأخذها ويعطيني منها كل يوم عشرة دراهم إلى أن تنفد فقال أبو دلف أعطوه الألف ومتى جاءكم أعطوه ما سأل فأكب جعيفران على يده يقبلها وقال يموت هذا الذي أراه ... وكل شيء له نفاد لو أنّ خلقا له خلود ... عمر ذا المفضل الجواد المختار من غرر نوعي الكلام ... في استنجاز ما تأخر من صلات الكرام يحكى أن الأحنف بن قيس قدم على معاوية فأقام شهراً لا يسأله فيما جاء فقال يا أمير المؤمنين إنك ترعيني مرعى وبيلاً وتوردني ظمأ طويلاً

أفيأس ورواح أم حبس ونجاح فقضى حاجته ووقف أعرابي على رجل يستجديه فقال إني امتطيت إليك الرجاء وسرت على الأمل ووفدت بالشكر وتوسلت بحسن الظن فحقق الأمل وأحسن المثوبة وأقم الأود وعجل السراح وقال بعض الشعراء يستنجز جعلت فداك قد وجب الزمام ... وقد طال التلبث والمقام وقد أزف الرحيل إلى بلادي ... فرأيك لأعدمتك والسلام المتنبي لقد نظرتك حتى حان مرتحلي ... وذا الوداع فكن أهلاً لما شئتا وكتب آخر يستجدي بنا إلى معروفك حاجة ولك على صلتنا قوة فانظر في ذلك بما أنت له أهل ونحن له أهل وطلب العتابي من صديق له حاجة فقضى له نصفها ومطله بباقيها فكتب إليه بسطت لساني ثم أمسكت نصفه ... فنصف لساني بامتداحك مطلق فإن أنت لم تنجز عداتي تركتني ... وباقي لسان الشكر باليأس مطلق وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي إن ابتدا المعروف مجد باسق ... والمجد كل المجد في استتمامه هذا الهلال يروق أبصار الورىحسناً وليس كحسنه لتمامه وكتب بعضهم يستنجز حقيق على من أزهر بقول أن يثمر بفعل والسلام وفد بشار بن برد على يحيى بن خالد فامتدحه فوعده خالد ومطله فتصدى له في

طريقه وهو يريد الجامع وأخذ بعنان بغلته وأنشد أظلت علينا منك يوماً سحابة ... أضاء لها برق وأبطا رشاشها فلا غيمها يجلي فييأس طامع ... ولا غيثها يهمي فتروى عطاشها فقال لن تنصرف السحابة حتى تبلك يا أبا معاذ وأمر له بعشرة آلاف درهم ولبشار أيضاً يستنجز هززتك لا إني وجدتك ناسياً ... لأمرئ ولكني أردت التقاضيا ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجاً وإن كان ماضيا ولبشار أيضاً فيك للمجد شيمة قد كفتني ... منك عند اللقاء بالمتقاضي فإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي المفجع البصري يستنجز أيها السيد عش في غبطة ... ما تغنى طائر الأيك الغرد لي وعد منك لا تنكره ... فاقضه أنجز حرّ ما وعد أنت أحييت بمبذول الندى ... سنن الجود وقد كان همد فإذا صال زمان أوسطا ... فعلى مثلك مثلي يعتمد أبو الحسن بن أبي البغل وعدت فأنجز ولا تبلني ... بكدّ التقاضي وذلّ السؤال وصن وجه حر براه الزمان ... بأنيابه مثل بري الخلال فإن ضاق مالك عن رفده ... فجاهك أوسع من كل مال

ابن الرومي يا من تزينت الدنيا بطلعته ... وأصبحت منه في حلي وفي حلل أوراد بحركم مثلي ومنصرفي ... في الواردين بلا عل ولا نهل وأنت تعلم أن الصبر من صبر ... فامزجه بالنجح إن النجح من عسل قصد أحمد بن الجليل سليمان بن حبيب بن المهلب مستجدياً فأخر عنه مدة فكتب إليه مستنجزاً ورد العفاة المعطشون فأصدروا ... رياً وطاب لهم لديك المكرع وأراك تمطر جانباً عن جانب ... وفناء أرضي من سمائك بلقع ألنقص منزلتي تؤخر حاجتي ... أم ليس عندك لي لخير مطمع أبو تمام الطائي سحاب خطاني جوده وهو صيب ... وبحر عداني سيله وهو مفعم وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغربا ... وموضع رجلي منه أسود مظلم آخر مالي ظمئت وبحر جودك زاخر ... سهل مشارعه على الوراد ما كان أجمل بالتجمل ملبسي ... وأعف في طلب القناعه زادي لولا زمان أزمنت حالي له ... نوب تراوح تارة وتغادي وأرى فراخاً ضاق بي أوكارها ... وكذا البغاث كثيرة الأولاد

آخر أمرت بأن أقيم على انتظار ... لرأيك إنه الرأي الأصيل وراقبت الرسول وقلت إني ... سيأتيني فما جاء الرسول فليس لغير أمرك لي مقام ... ولا عن غير ذاتك لي رحيل وقد أوقفت عزمي والمطايا ... فقل شيأً لافعل ما تقول المعري عليك مؤيد الدين اعتمادي ... فلا تحتج إلى كذب الأعادي تمادي المطل والآمال درع ... وطول الانتظار من الحداد وقد أزف الرحيل وأنت كهفي ... ومن جدواك راحلتي وزادي زففت إليك أبكار المعاني ... فزف إليّ أبكار الأيادي آخر يا جابر العظم إذا العظم انكسر ... وناعش الجدّ إذا الجد عثر أنت ربيعي والربيع ينتظر ... وخير أنواع الربيع ما بكر أبو تمام علمي بفضلك قاد نحوك حاجتي ... فأتت مسيئلتي عقيب ثنائي فامنن عليّ بنجح ما أملته ... يا سيدي ومعوّلي ورجائي آخر أجرني لاعدمتك من مطالك ... ودعني من صدودك واعتلالك لقد كثرت عداتك ثم طالت ... فهل وعد يكون لها فدلك

ابن الرومي كم ظهر ميت مقفر جاوزته ... فحللت ربعاً منك ليس بمقفر جود كجود السيل إلا أن ذا ... كدروان نداك غير مكدر الفطر والأضحى قد انسلخا ولي ... أمل ببابك صائم لم يفطر عام ولم ينتج نداك وإنما ... تتوقع الحبلى لتسعة أشهر حسر لي ببحر واحد أغرقك في ... بحر أحيس به بسبعة أبحر ومن أحسن ما استجدى به الأجواد وبلغ به غاية الأمل والمراد ما كتب به كلثوم بن عمرو العتابي إلى صديق له يستمنحه أما بعد أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة فإنك كنت عندنا روضة من رياض الكرم تبتهج النفوس بها وتستريح القلوب إليها وكنا نعفيها من النجعة استتماماً لزهرتها وشفقة على خضرتها وادخاراً لثمرتها حتى أصابتنا سنة كأنها من سني يوسف فكذبتنا غيومها وأخلفتنا بروقها فانتجعتك وإني بانتجاعي إياك شديد المقة بك عظيم الشفقة عليك مع علمي بأنك غاية أمل القصاد وأعذب مناهل الوراد وأقول ما قال حماد عجرد ظل اليسار على العباس ممدود ... وحظه أبداً بالسعد معقود إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود إذا تكرمت عن بذل القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود بث النوال فلا تمنعك قلته ... فكل ما سدّ فقراً فهو محمود قال فشاطره ماله حتى إحدى نعليه ونصف قيمة خاتمه وكتب آخر الوعد أيسر مغارم الجود وأخف محمول على عاتق الكرم المرفود والمتقنع به قد أسلف المطل آماله وأوسع لخطو الندى محاله وارتوى ببارق المزن قبل المطر واكتفى بورق الغصن دون الثمر فأي عذر للسماح إذا خرمه طالبه وحمى عنه جانبه وقد وجد المسلك إلى المطلوب سهلاً والطالب لما يتعلق به الوعد

أهلا شاعر لا أقتضيك إلى السماح لأنه ... لك عادة لكنما أنا مذكر وكن السحاب إذا تمسك بالحيا ... ورغبوا إليه بالدعاء فيمطر أتى علي بن الجهم رجل فسلم عليه وقال له وعدتني وعداً إن رأيت أن تنتجه فافعل فقال ما أذكر هذا الوعد فقال له الرجل صدقت فأنت لا تذكر لأن من قصدك مثلي كثير وأنا لا أنسى لأن من أسأله مثلك قليل فاعجبه كلامه وقضى حاجته فأنشد فلقد قصدتك راجياً في حاجتي ... ما يرتجيه الطالب الملهوف فسررتني وبررتني بنجاحها ... وكذا يكون الجود والمعروف آخر بدأت بتسهيل وثنيت بالرضا ... وثلثت بالحسنى وربعت بالكرم وحققت لي ظني وأنجزت موعدي ... وأبعدت لا عني وقربت لي نعم آخر يا من سهرت الليالي في الدعاء له ... حتى انتهى أمره السامي على الأمم انظر إليّ بعين لو نظرت بها ... إلى الليالي نجت من قبضة الظلم حتى أقول لصرف الدهر كيف ترى ... تقابل السادة الأحرار بالخدم آخر إن أنت لم تحدث إلي يدا ... حتى أقوم بشكر ما سلفا لم أحظ منك بنائل أبدا ... ورجعت بالحرمان منصرفا

وفيما ذكرناه من هذه الملح كفاية إذا المحاسن لا يفضي الباحث عنها إلى غاية ولو استقصينا ذكر ما أمطرته أكف الأجواد من سحائب الجود لخرجنا مما نحوناه عن الغرض المقصود ومما يحن الحاقه بهذا الفصل اطلاق اللسان بشكر أهل الاحسان والفضل " قال الله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم " قال بعض المفسرين إنه شكر اصطناع المعروف وفي الحديث المشهور والنبأ المأثور من ذكر معروفاً فقد شكره ومن ستره فقد كفره وقال عليه الصلاة والسلام من كانت عنده نعمة فليكافئ عليها فإن لم يقدر فليثن فإن لم يفعل فقد كفر النعمة وقال لقمان لابنه يا بني المعروف غل لا يفكه إلا شكر أو مكافأة وقالوا المعروف رق والمكافأة عتق وقال الشاعر كلما قلت أعتق الشكر رقي ... صيرتني لك المكارم عبدا فاثن عمر الزمان حتى أؤدّي ... شكر احسانك الذي لا يؤدّى ويقال الشكر وإن قل ثمن كل نوال وإن جل ويقال الشكر تميمة لتمام النعمة وقال أبو بكر الخوارزمي إذا قصرت يدك بالمكافأة فليطل لسانك بالشكر وقالوا موقع الشكر من النعمة موقع القرى من الضيف إن وجده لم يرم وإن فقده لم يقم وما أحسن قول من قال الشكر غرس إذا أودع أذن الكريم أثمر بالزيادة وحفظ العادة والسعيد من إذا أظلته نعمة لم يلته بسكرها عن شكرها وقالوا لا بقاء للنعمة إذا كفرت ولا زوال لها إذا شكرت ابن المعتز شكرك نعمة سالفة يقيض لك نعمة مستأنفة وقال أبو بكر الخوارزمي قد اراحني الشيخ ببدره لكن أتعبني بشكره وخفف ظهري من ثقل المحن لا بل أثقله بأعباء المنن وأحياني بتحقيق الرجاء لا بل أماتني بفرط الحياء فأناله عتيق بل رقيق

ذكر من تبجح بذكر المعروف الذي أسدى إليه

وأسير بل طليق ومن كلامه اللهم ارزقني زماناً أوسع من زماني ولساناً أفصح من لساني وبناناً أجرى من بناني حتى أقضي بالشكر حقوق اخواني فلا بذل إلا بجود ولا جود إلا من موجود ولكن الدعاء غاية من ضاق امكانه ولم يساعده زمانه فكيف يكافئ من قلت بسطته وعجزت قدرته وقطعت عن مسافة همته جدته ولما بلغ الصاحب إسمعيل بن عباد موت أبي بكر الخوارزمي قال سألت بريداً من خراسان مقبلا ... أمات خوارزميكم قال لي نعم فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من يكفر لنعم والذي أوجب قول الصاحب لهذين البيتين أنه بلغه إن أبا بكر الخوارزمي قال فيه هذين البيتين لا تمدحنّ ابن عباد وإن هطلت ... كفاه بالجود حتى جاوز الديما فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما فلما كفر بما أسدى إليه الصاحب بن عباد من المعروف ذكر هذين البيتين بعد موته ذكر من تبجح بذكر المعروف الذي أسدى إليه وأقر بعجز لسانه عن شكر المنعم والثناء عليه لثعالبي شكري لا يقع في نعمه الظاهرة موقع النقطة من الدائرة لأشكرنك ملء القلب واللسان شكر حسان إلى غسان لأشكرنك شكر الأسير لمن أطلقه والمملوك لمن أعتقه لاشكرنك شكر الرياض للديم وزهير لهرم وقال آخر لو استعرت الدهر لساناً والريح ترجماناً لأشيع احسانه حق الاشاعة لقصرت عنه يد الاستطاعة قال الأمير أبو الفتيان محمد بن حيوس

وأحسن كل الاحسان سأشكر ما دام اللسان يطيعني ... صنوفاً أتت من جودك المتتابع توالت على من لا يدلّ بخدمة ... عليك ولا بد لي إليك بشافع وقال إبراهيم بن المهدي مخاطباً للحسن بن سهل وقد شفع له عند المأمون رددت مالي ولم تضنن عليّ به ... وقبل رذك مالي قد حقنت دمي لئن جحدتك ما أوليت من حسن ... إني لفي اللؤم أحظى منك في الكرم آخر مواهب لو أني تكلفت نسخها ... لأفلست في أقلامها ومدادها آخر ولو إنّ لي في كل منبت شعرة ... لساناً يبث الشكر كنت مقصراً ابن عمرون طوقتني منك الجميل قلائدا ... وبررتني حتى حسبتك والدا والله لو حل السجود لمنعم ... ما كنت إلا راكعاً لك ساجدا آخر لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة ... أعلى من الشكر عند الله في الثمن إذا منحتكها مني مهذبة ... حذوا على حذو ما أوليت من حسن

آخر لقد أفرطت في بري ... وقد قصرت في الشكر وشكري عند احسان ... ك كالقطرة في البحر آخر أتظنني أنسى أياديك التي ... أهدت إليّ من الزمان أمانا لا والذي جعل المحنة محنة ... وهوى النفوس مذلة وهوانا وحبس الرشيد العتابي على ذنب اقترفه لم يحتمله منه ولا أغضى له عنه فتناساه في الحبس مدة فشفع فيه خالد بن يزيد بن مزيد فأطلقه فكتب العتابي إليه يشكره ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... قد زال عني لطيف الفكر من حيلي فلم تزل دائماً تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي أبو نواس قد قلت للعباس معتذرا ... من ضعف شكريه ومعترفا أنت امرؤ أحللتني نعما ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا لا تسدينّ إليّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا آخر يا زينة الناس والدنيا وما جمعت ... بالأمر والنهى والقرطاس والقلم بالله أقسم لو ملكت السنة ... تبتث شكرك من فرقي إلى قدمي لما وفيت بما أوليت من منن ... ولا نهضت بما أسديت من نعم

الفصل الثالث من الباب التاسع

الفصل الثالث من الباب التاسع في ذم السرف والتبذير إذ فلهما من سوء التدبير قال الله تعالى ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً وقال صلى الله عليه وسلم من السرف أن تأكل كل ما شئت وقال صلى الله عليه وسلم آفة الجود السرف والسرف اسم لما جاوز الجود وقالوا السرف هو أن يكون الرجل لا يبالي فيما يشتري أو يبيع أو يغبن أو يغبن فيبيع بوكس ويشتري بفضل وهذا كما قبل الحر يتغابن في ابتياع الحمد ولا يتغابن في الشراء والبيع وقيل لعبد الله بن جعفراً بإنك تعطى الكثير إذا سئلت وتضيق في القليل إذا عوملت فقال أجود بمالي وأضن بعقلي وقالوا السخاء خلق مستحسن ما لم ينته إلى سرف وتبذير فإنه من بذل جميع ما يملكه لمن لا يستحقه لم يسم سخياً وإنما يسمى مبذراً مضيعاً وقال معاوية ما رأيت سرفاً قط إلا وإلى جانبه حق مضيع وقالوا يوشك من أنفق سرفاً أن يموت أسفاً وقالوا ما وقع تبذير في كثير إلا هدمه ودمره ولا دخل تدبير في قليل إلا كثره وأثمره وقال معاوية لولده يزيد إنك إن أعطيت مالك في حق الحق يوشك أن يجئ الحق وليس معك ما تعطي فيه وقالوا تطول ولا تطاول وقال أبو بكر رضي الله عنه إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق الأيام في اليوم الواحد وقالوا السرف في الانفاق يفسد من النفس بمقدار ما يصلح من العيش وقال عبد الله بن الزبير في محاورة جرت بينه وبين ابن عباس إن السرف من طينة السخاء ولكنه جاوز الحق وما بعد الحق إلا الضلال وكان أبو الأسود الدؤلي يقول يا بني إذا بسط الله عليك فابسط وإذا أمسك عنك فأمسك ولا تجاوده فإنه أكرم منك وأجود واسم أبي الأسود ظالم ابن عمرو يعد في التابعين والمحدثين والشعراء والنحويين والبخلاء والعرج والمفاليج والبخر وقالوا التدبير ينمي اليسير والتبذير يدمر الكثير وليم هشام بن عبد الملك على الامساك في العطاء فقال إنا لا نعطي تبذيراً ولا نمسك تقتيراً إنما نحن خزائن

الله في بلاده وأمناؤه على عباده فإذا شاء أعطينا وإذا كره أبينا ولو كان كل قائل يصدق وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلاً ولا رددنا سائلا وربما عوقب المبذر بالافلاس وصير بالفقر مثلة بين الناس قال الأصمعي قصد رجل من أهل الشام منزل إبراهيم بن هرمة فإذا بنت له صغيرة تلعب بالطين فقال لها ما فعل أبوك قالت وفد إلى بعض الأجواد فمالنا علم من عهد فقال لها قولي لأمك تنحر لنا ناقة فإني وأصحابي أضيافها فقالت والله ما نملكها قال فشاة قالت والله ما نجدها قال فدجاجة قالت والله ما هي لنا في منزل قال فأعطينا بيضة قالت من أين البيضة إذا لم تكن الدجاجة قال فباطل ما قال أبوك حيث يقول كم ناقة قد وجأت منحرها ... بمستهلّ الشؤبوب أو جمل لا استع العوّذ النصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل لا غنمي في الحياة مدّلها ... إلى دراك العلا ولا ابلي قالت فذاك الفعل من أبى أصارنا أن ليس عندنا شيء فتركها ومضى وكان عبد الله بن جعفر من الأجواد الذين يعمون بجودهم طوائف العباد وانتهى به الافلاس وضيق اليد إلى أن سأله رجل فقال له إن حالي متغيرة بجفوة السلطان وحوادث الزمان ولكني أعطيك ما أمكنني فأعطاه رداء كان عليه ثم دخل منزله وقال اللهم استرني بالموت فما أتى بعد دعوته إلا أيام حتى مرض ومات رضي الله تعالى عنه وفد أبو الشمقمق على محمد بن مروان بنيسابور يريد محمد بن عبد السلام فلما دخلها صار إلى منزله فأخبر أنه في دار الخراج مطالب فقصده ودخل عليه وهو قائم في الشمس وعلى عنقه صخرة عظيمة فتغير له فلما رآه محمد قال ولقد قدمت على رجال طال ما ... قدم الرجال عليهم فتموّلوا أخنى الزمان عليهم فكأنهم ... كانوا بأرض أقفرت فتحوّلوا

فقال أبو الشمقمق الجود فلسهم وغير حالهم ... فاليوم إن سئلوا النوال تبخلوا دخل مالك بن دينار على أبي عون في الحبس وكان قد ضربه بلال بن أبي بردة بالسياط وإذا في الحبس جماعة من عمال السلطان في الحديد فلم يلبث أن حضر غداؤهم فجعل الخدم ينقلون ألوان الأطعمة فقيل له يا أبا يحيى هلم فقال لا أريد أن آكل مثل هذا ولا أن يوضع في رجلي مثل هذا وأشار إلى القيد وكان للأعمش صديق متصرف في عمل السلطان فبقى عليه مال فحبس فيه فزاره الأعمش منغمساً له فلما دخل عليه رأى بين يديه سلة فيها فالوذج وهو يتغذى منها فقال والله ما لازمت الوثاق إلا باسرافك في الانفاق فلو قنعت نفسك وعفت يدك لم يكن مضيق السجن مقعدك ولهذا الافلاس أكثر الناس كلامهم في التحذير من عواقب التبذير وما أحسن قول الفقيه منصور رحمه الله توب وكسرة وخبز ... وبيت كنّ وأمن ألذ من كل ملك ... عقباه ضرب وسجن ومما يعد من الاسراف في البذل اصطناع المعروف إلى اللئيم والنذل قالوا حد الجود أن يبذل الرجل ماله حيث يجب البذل ويحفظه حيث يمكن الحفظ ومن بذل مكان الامساك فهو مبذر ومن أمسك مكان البذل فهو بخيل وقالوا من الحزم أن تعلم أن مالك لا يسع الناس كلهم فتوخ به أهل الحق عليك وإن كرامتك لا تسع المقلين فاخصص بها أهل الفضل والمروأة ومن تمسه الحاجة إليك والاعطاء بعد المنع أجمل من المنع بعد الانعام وقال لقمان المعروف كنز فانظر من تودعه وقال عبد الملك بن المقفع إن مالك لا يسع الناس فاخصص به ذوي الكرم من أهلك وخاصتك ودع الأجانب جانباً وقال

صالح بن عبد القدوس سامحه الله لا نجد بالعطاء في غير حق ... ليس في منع غير ذي الحق بخل إنما الجود أن تجود على من ... هو للبذل منك والجود أهل آخر لا تصنع المعروف في ساقط ... ذاك صنيع ساقط ضائع وضعه في حرّ كريم يكن ... عرفك مسكا عرفه ضائع وقالت الحكماء أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام وقالوا الاحسان إلى اللئيم أضيع من الرسم على بساط الماء والخط على بسيط الهواء وقالوا زوال الدول باصطناع السفل وقالوا كن جواداً في موضع الجود فإن أحمد جود الحر الانفاق في وجه البر وقال بعضهم لا حسرة أعظم من نعمة أسديت إلى غير ذي حسب ولا مروأة وقال آخر لا تصنعوا إلى ثلاثة معروفاً اللئيم فإنه بمنزلة الأرض السبخة لا يظهر فيها البذور وذلك لا يظهر فيه المعروف والفاحش فإنه يرى أن الذي صنعت معه إنما هو مخافه فحشه والأحمق فإنه لا يدري قدر ما أسديت إليه ولا يشكرك عليه قال الشاعر لعمرك ما المعروف في غير أهله ... وفي أهله إلا كبعض الودائع فمستودع ضاع الذي كان عنده ... ومستودع ما عنده غير ضائع وما الناس في كفر الأيادي وشكرها ... إلى أهلها إلا كبعض المزارع فمزرعة أجدت فأضعف زرعها ... ومزرعة أكدت على كل زارع وقالوا واضع المعروف في غير أهله كالمسرج في الشمس والزارع في السبخ قال الشاعر ومن يصنع المعروف من غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أمّ عامر

أعدّ لها لما استجارت ببيته ... أحاليب ألبان اللقاح الدوائر وأمسكها حتى إذا ما تمكنت ... فرته بأنياب لها وأظافر فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروف على غير شاكر آخر عليك بذي الأقدار فاكسب ثناءهم ... فمالك في غير الأكارم ضائع وما مال من أعطى الكرام بناقص ... ولكنه عند الكرام ودائع آخر إذا ما بدأت أمرأ جاهلا ... ببر فقصر عن حمله ولم تلقه قابلاً للجميل ... ولا عرف العز من ذله قسمه الهوان فإنّ الهوان ... دواء لذي الجهل من جهله وقالوا العاقل يتخير لمعروفه كما يتخير الباذر ما زكا من الأرض لبذهر وقالوا رأس الرذائل اصطناع الأراذل وقال الشاعر متى تسد معروفاً إلى غير أهله ... رويت ولم تظفر بحمد ولا أجر ما احتج به سراة الأشراف ... في تحسين التبذير والاسراف قد كنا قدمنا في أول فصل من هذا الباب جملة مما ورد عن الكرماء في الحص على انتهاز الفرصة بالانفاق ثقة بالخلف من الكريم الرزاق ما فيه كفاية فلم يقنعنا ذلك فذكرنا في هذا الموضع ما استدركناه ليتم لنا الغرض المقصود فيما نحوناه من كل مستحسن بديع لسر البراعة بلسان البراعة يذيع من ذلك قول الله تعالى وهو أصدق القائلين وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وقول النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناد كل ليلة اللهم اجعل لكل منفق خلفاً ولكل ممسك تلفاً وقوله صلى الله عليه وسلم أنفق بلال ولا تخش من ذي

العرش اقلالا ولقد أجاد على ابن ذكوان في قوله انفق ولا تخش اقلالا فقد قسمت ... بين العباد مع الآجال أرزاق لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الاقبال انفاق وحكى إن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه وعن آبائه الكرام فرق في يوم عرفة وكان بخراسان ماله كله فقال له الفضل بن سهل ما هذا المغرم قال بل هو المغنم لا تعدن ما ابتغيت به أجراً أو كرماً مغرما وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيأً لغد وقال بعض الحكماء أنفق في الحقوق ولا تكن خازناً لغيرك فإن اغتممت على ما نقص من مالك فابك على ما نقص من عمرك فإنه من لم يعمل في ماله وهو موجود عمل في ماله وهو مفقود وقال بزرجمهر إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى طاهر بن الحسين ناظماً لهذا المعنى لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس يذهبها التبذير والسرف فإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف ويقال أنفق وأسرف فإن الشرف في السرف وقيل للحسن بن سهل وكان معطاء لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وهذا من بديع الكلام وذلك إنه عكس على المنكر كلامه فكان جواباً له وردا عليه من غير أن يزيد فيه ولا ينقص منه وقال الراضي بالله يخاطب لائماً لأمه على السرف لا تكثرن عذلي على الاسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف أجرى كآبائي الخلائف سابقاً ... وأشيد ما قد أسست أسلافي إني من القوم الذين أكفهم ... معتادة الاتلاف والاخلاف

آخر قامت تلوم على بذل النوال ولي ... به ولوع فقلت اللوم في الباقي لا تجزعي أن ترى بي فاقة أبدا ... فمن خزائن رب العرش انفاقي آخر ألا لا تلمني على بذل مالي ... فصوني لعرضي بمالي جمالي وصوني لمالي بعرضي فساد ... لعرضي وديني وجاهي ومالي الصولي لا تلومنني فهمك إن ... أثرى وهمي مكارم الأخلاق ليس يستطيع حفظ ما ملكت ... كفاه من ذاق لذة الانفاق وقال المأمون لمحمد بن عباد بلغني أن فيك سرفاً فقال يا أمير المؤمنين منع الجود سوء الظن بالمعبود فقال المأمون لا يحسن السرف إلا بأهل الشرف وقال البحتري يمدح معطاء ... أسبل الكرم عليه غطاء كرم دعتك به القبائل مسرفا ... ما مسرف في المكرمات بمسرف وقال آخر يحض على الاسراف في الصنائع ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب

الباب العاشر

الباب العاشر في البخل وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في ذم الإمساك والشح وما فيهما من الشين والقبح فرقوا بين الشح والنحل فقالوا الشح أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر يمارس نفساً بين جنبيه كزة ... إذا هم بالمعروف قالت له مهلا وهو اللؤم وأما البخل فهو المنع نفسه فمما جاء في البخل قول الله تعالى ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير الهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة وقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون قال بعض أهل المعاني إنما خص هذه الأعضاء دون غيرها بالذكر لأن السائل إذا سأل البخيل زوى عنه وجهه فإن أصلح عليه ازور عنه بشق جنبه الذي يليه فإن الحف ولاه ظهره وروى الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت باسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت ثم قال لها أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التسنيم ونهر اللبن ونهر العسل ونهر الخمر ثم قال لها أظهري حورك وحليك وحللك وسررك وحجالك ثم قال لها تكلمي فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله عز

وجل أنت حرام على كل بخيل أورده في كتاب البخلاء له وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم من الأنصار من سيدكم قالوا الجد بن قيس على بخل فيه فقال عليه الصلاة والسلام وأي داء أدوأ من البخل وقال عليه الصلاة والسلام إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم وعنه عليه الصلاة والسلام قال اقسم الله بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل وقال علي بن أبي طالب البخيل يتعجل الفقر لنفسه يعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء وقال حكيم لو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضير بخلهم ومذمة الناس لهم وأطباق القلوب على بغضهم الأسوء الظن بربهم في الخلف لكان عظيماً فإن الله تعالى يقول وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وكفى بالبخيل معرة أن يمنع نفسه اكتساب الحسنات مع افتقاره إليها ويحرمها مباح الشهوات مع اقتداره عليها وربما ترك التداوي وإن أجحفت به العلة وأهمل دفع المكاره عن نفسه وقد نيطت به المذلة لكثرة الاشفاق على الانفاق فهو لا يلقى في الدنيا شكوراً ولا يلقى في الآخرة أجراً مدخوراً وقالوا البخل من سوء الظن وخمول الهمة وضعف الروية وسوء الاختيار والزهد في الخيرات وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما البخل جامع المساوي والعيوب وقاطع المودات من القلوب وقال سقراط الأغنياء البخلاء بمنزلة البغال والحمير تحمل الذهب والفضة وتعتلف التبن والشعير وحده قالوا هو منع المسترفد مع القدرة على رفده وكان أبو حنيفة لا يرى قبول شهادة البخيل ويقول بخله يحمله على أن يأخذ فوق حقه مخافة أن يغبن فمن هذه حالة لا يكون مأموناً وقال بشر بن الحرث الحافي لا غيبة لبخيل ولشرطي سخي أحب إلي من عابد بخيل وقالوا صديق البخيل من أطعمه وسقاه وعدوه من تركه وقلاه وقبل النظر إلى البخيل يقسي القلب

وقالوا البخل يهدم مباني الشرف ويسوق النفس إلى التلف وقالوا اتق الشح فإنه أدنس شعار وأوحش دثار وقالوا البخيل يملأ بطنه والجار جائع ويحفظ ماله والعرض ضائع شاعر ومن الجهلة بالمكارم أن ترى ... جاراً يجوع وجاره شبعان ويقال من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم وقال الراجز من يجمع المال فلم يجد به ويجمع المال لعام جد به يهن على الناس هوان كلبه وقال إسحق بن إبراهيم الموصلي أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليل وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل وقالوا البخيل لا يستحق اسم الحرية فإنه يملكه ماله وقالوا أيضاً البخيل لا مال له إنما هو لما له وقال قيس بن معد يكرب لبنيه يا بني إياكم والبخل فإنه من اكتسب مالاً فلم يصن به عرضاً بحث الناس عن أصله فإن كان مدخولاً هرتوه وإن لم يكن مدخولاً ألزموه ذنباً رموه به ومقتوه وأكسبوه عرفاً هجينا حتى يهجنوه والبخل داء ونعم الدواء السخاء وقال الحسن البصري لم أر أشقى بماله من البخيل لأنه في الدنيا مهتم بجمعه وفي الآخرة محاسب على منعه غير آمن في الدنيا من همه ولا ناج في الآخرة من إثمه عيشه في الدنيا عيش الفقراء وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء أخذه من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ودخل رضي الله عنه على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه فرآه يصعد بصره ويصوبه إلى صندوق في زاوية من بيته ثم التفت إليه وقال يا أبا سعيد ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أود منها زكاة ولم أصل منها رحماً قال ثكلتك أمك ولمن كنت

تجمعها قال لروعة الزمان وجفوة السلطان ومكاثرة العشية ثم مات فشهد الحسن جنازته فلما فرغ من دفنه ضرب بيده على القبر ثم قال انظروا إلى هذا أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه وجفوة سلطانه بما استودعه الله إياه انظروا إليه كيف خرج منها مذموماً مدحوراً ثم التفت إلى وارثه وقال أيها الوارث لا تخدعن كما خدع صويحبك بالأمس أتاك هذا المال حلالاً فلا يكونن عليك وبالاً أتاك عفواً صفواً ممن كان جموعاً منوعاً من باطل جمعه ومن حق منعه قطع فيه لجج البحار ومفاوز القفار لم تكدح لك فيه يمين ولم يعرق لك فيه جبين إن يوم القيامة ذو حسرات وإن من أعظم الحسرات غداً أن ترى مالك في ميزان غيرك يالها حسرة لا تقال وتوبة لا تنال ما اخترت من محاسن كلام الفصحاء ... وتأنقهم في ذم اللئام الأشحاء كتب بعض الأدباء إلى صديق له يستشيره في قصد بعض الرؤساء تأميلاً لنائله وكان معروفاً بالبخل فأجابه كتبت إلي تسألني عن فلان وذكرت أنك هممت بزيارته وحدثتك نفسك بالقدوم عليه فلا تفعل أمتع الله بك فإن حسن الظن به لا يقع إلا بخذلان من الله وإن الطمع فيما عنده لا يخطر على القلب إلا من سوء التوكل على الله والرجاء لما في يديه لا يبتغي إلا بعد اليأس من روح الله لأنه رجل يرى التقتير الذي نهى الله عنه هو التبذير الذي يعاقب عليه وإن الاقتصاد الذي أمر الله به هو الاسراف وإن بني إسرائيل لم يستبدلوا المن بالعدس والسلوى بالبصل إلا لفضل حلومهم وقديم علم توارتوه عن آبائهم وإن الضيافة مرفوضية والهبة مكروهة والصدفة منسوخة وإن التوسع ضلالة والجود فسق وجهالة والسخاء من همزات الشياطين كأنه لم يسمع بالمعروف إلا في الجاهلية الأولى التي نسخ الله جميل أخبارها ونهى عن اتباع آثارها وكأن الرجنة لم تأخذ أهل مدين إلا لسخاء نسب إليهم ولا أهلكت الريح العقيم عاد إلا لأفضال كان فيهم وهل يخشى العقاب إلا على الانفاق ويرجو العفو لا بالامساك ويعد نفسه بالفقر ويأمرها بالبخل خيفة أن ينزل به قوارع الظالمين أو يصيبه ما أصاب الأولين فأقم رحمك الله بمكانك واصبر على خطب زمانك وامض على عسرتك فعسى أن يبدلك الله خيراً منه زكاة وأقرب رحماً

وكان محمد بن يحيى بن خالد مبخلاً بالنسبه لأبيه وأخو به جعفر والفضل فسئل الجماز عن مائدته فقال فتر في فتر وصحافها منقورة من خشب الخشخاش وبين الرغيف والرغيف مضرب كرة وبين اللون واللون فترة نبي قيل فمن يحضره قال خير خلق الله وشرهم قيل من هم قال الملائكة والذباب قيل له أنت به خاص وثوبك مخرق فقال والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوأ ابراً ثم جاءه يعقوب النبي ومعه الأنبياء شفعاء والملائكة ضمناء يسألونه إعارة إبرة يخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل أخذه الشاعر ونظمه في قوله لو أن قصرك يا ابن أغلب ممتل ... إبراً يضيق بها رحاب المنزل وأناك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قد قميصه لم تفعل آخر يهجو بخيلاً لو أن دارك أمطرت عرصاتها ... إبراً يضيق لها رحاب المنزل وأتاك يوسف يوم قدّ قميصه ... يرجو نوالك في إبرة لم تفعل وقيل لأبي القاسم خمين تغديت عند فلان قال لا ولكني مررت ببابه وهو يتغدى قيل له وقد عرفت ذلك قال رايت غلمانه بأيديهم قسي البندق يرمون بها الطير في الهواء وذم أعرابي قوماً فقال لهم بيوت ندخلها حبواً إلى غير نمارق ولا وسائد فصح الألسن برد لسائل جعداً لا كف عن النائل وذم أعرابي قوماً فقال ما كانت النعمة فيهم إلا طيفاً فلما انتبهوا لها ذهبت عنهم فقال شاعر وكأنه ألم بهذا المعنى في قوله خنازير نامّوا عن المكرمات ... فأيقظهم قدر لم ينم فيا قبحهم في الذي خولوا ... ويا حسنهم في زوال النعم نزل أعرابي برجل فقال له بعض قومه لقد نزلت بواد غير ممطور ورجل بقدومك غير مسرور فأقم بندم أو ارتحل بعدم وقال التوكل لأبي العيناء من

أبخل من رأيت قال موسى بن عبد الملك بن صالح قال وما رأيت من بخله قال رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد ويعتذر من الاحسان كما يعتذر من الاساءة وقال بشار من استضاف فلاناً استغنى عن الكنيف وأمن من التخمة وذم آخر بخيلاً فقال ضن بفلسه وجاد بنفسه وذم أعرابي بخيلاً فقال جعد البنان شحيح الكف مقفل اليد لا يسقط من كفه الخردل وإن استولى على أصابعه الجندل قال الشاعر تحلى بأسماء الشهور فكفه ... جمادي وما ضمت عليه المحرم وقالوا فلان ما هو رطب فيعتصر ولا يابس فيكسر مانع للموجد سيئ الظن بالمعبود فلان منعوت على الجمع والمنع لا يعد العيش إلا ما جمعه والحزم إلا ما منعه فلان بن لبون لا در فيحلب ولا ظهر فيركب وذم أعرابي رجلاً بالبخل فقال لقد صغر فلاناً في عيني كبر الدنيا في عينه وكأنما يرى السائل إذا رآه ملك الموت إذا أتاه بشار بن برد إذا سلم المسكين طار فؤاده ... مخافة سؤل واعتراه جنون ومن منظوم نفسات الصدور المحنقة في ذم من سلبه السخاء رونق قول منصور بن ربيعة يهجو بخلاء قوم غدوا والطعام عندهم ... وزن لجين ووزن ياقوت إن كان قوتي إليهم وبهم ... برئت منهم ومنك ياقوتي الأخطل ما زال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليب رباط الخزي والعار قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لامهم بولي على النار

ولقد أحسن أبو الشمقمق في قوله ما كنت أحسب أن الخبز فاكهة ... حتى نزلت على أوفى بن منصور الحابس الروث في أعفاج بغلته ... خوفاً على الحب من لقط العصافير آخر عد الأرغفه شنف وقرط ... واكليلان من خرز ودر إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر وجاء بكل نائحة عليه ... كما بكت الرّباب لفقد عمرو ودون رغيفه دق الثنايا ... وحرب مثل وقعة يوم بدر وقال أبو نواس يهجو سعيد بن سلم بن قتيبة رغيف سعيد عنده عدل نفسه ... يقلبه طوراً وطوراً يداعبه ويأخذه في حضنه ويشمه ... ويلثمه حيناً وحيناً يلاعبه وإن قام مسكين على باب داره ... إذا ثكلته أمّه وأقاربه يسب عليه البول من كل جانب ... ويخضب ساقاه وينتف شاربه ابن طباطبا أجاع بطني حتى ... شممت ريح المنيه وجاءني برغيف ... قد أدرك الجاهليه فقمت بالفأس حتى ... أدق منه شظيه تثلم الفأس وانصا ... ع مثل سهم الرمية فشج رأسي ثلاثاً ... ودق مني الثنيه

آخر ربي وربك بعد الجوع أشبعني ... ورزق ربك آت غير مدفوع ولو عليك اتكالي في الطعام إذا ... لكنت أول مدفون من الجوع آخر وقائلة ما دهى ناظريك ... فقلت لا مر به قد منيت أكلت دجاجة بعض الملوك ... فما زلت أصفع حتى عميت آخر نوالك دونه خرط القتاد ... وخبزك كالثريا في البعاد ترى الاصلاح صومك لا لأجر ... وكسرك للرغيف من الفساد ولو أبصرت ضيفاً في المنام ... لحرّمت المنام إلى التناد ولم أهجوك أنك كفؤ شعر ... ولكني هجوتك للكساد آخر ودعوتني فأكلت عند قرصة ... وشربت شرب من استتم خروفا وسألتني في اثر ذلك حاجة ... أودت بمالي تالداً وطريفا فجعلت أفكر فيك باقي ليلتي ... ما كنت تسأل لو أكلت رغيفا آخر أتيت ابن يحيى وهو يأكل فانثنى ... إليّ قطوباً إذ رآني وهمهما وقال لماذا جئت قلت مسلماً ... فقال لقد سلمت فارجع مثل ما

وقال ابن الخياط الصقلي لا تكونن مبرماً ومسوفاً ... سله دمه وخل عنك الرغيفا أكرم الخبز بالصيانة حتى ... جعل الكعب للبنات شنوفا آخر يخاطب بخيلا لك نفس إذا أضر بها الجو ... ع تلافيتها بشم الرغيف من يكن عيشه كعيشك هذا ... فلتكن داره بغير كنيف آخر رأيتك عند حضور الخوان ... قليل النشاط كثير الصياح تلاحظ عيناك كف الاكيل ... وترمقه من جميع النواحي فعال امرئ بخلت نفسه ... بشيء يول إلى المستراح آخر يهجو بخيلا أصبح لا يعرف الجميل ولا ... يفرق بين القبيح والحسن إن الذي يرتجى نداه كمن ... يحلب تيساً من عزة اللبن آخر يزداد شحاً وبخلاً كل من كثرت ... أمواله ثم لا ترجى مواهبه كالبحر كل مياه الأرض قاطبة ... تأوى إليه ويظا فيه راكبه ومما يكون متمماً لما ذكرناه ... خلف الشحيح لسائله بما مناه قالوا خلف الوعد من خلق الوغد والمثل المضروب قولهم اخلف من عرقوب واخلف من شرب الكمون فإن الكمون يمنى بالسقي ولا يسقى

قال الشاعر سقيتموني كؤوس المطل مترعة ... حتى ثملت والسكران عربيد لا تتركوني ككمون بمزرعة ... إن خانه الغيث أحيته المواعيد وقال بعض كرماء الأعراب لان أموت عطشاً أحب إلي من أن أخلف موعداً وقال بعض البلغاء يذم بخيلاً فلان ملأ سمعي روحاً وكفي ريحا وقال آخر فلان يفتح مواعيد بالأطماع ويختمها بالخيبة والامتناع وقال آخر فلان سخي قولاً وبخيل فعلاً وسريع وعداً وبطئ رفداً وقال آخر فلان أول وعده طمع وآخره يأس وما هو إلا كالسراب يغر من رآه ويخلف من رجاه وقال الشاعر لسانك أحلى من جني النحل موعدا ... وكفك بالمعروف أضيق من قفل آخر لسانك معسول وقلبك علقم ... ودون الثريا من صديقك مالكا دعبل يا جواد اللسان من غير فعل ... ليت في راحتيك جود اللسان وقالوا من وعد وأخلف لزمته ثلاث مذمات ذم اللؤم وذم الخلف وذم الكذب وقال الشاعر ألا إنما الانسان غمد لقلبه ... ولا خير في غمد إذا لم يكن نصل ولا خير في وعد إذا كان كاذباً ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل فإن تجمع الآفات فالبخل شرّها ... وشر من البخل المواعيد والمطل

الفصل الثاني من الباب العاشر

وقال الثعالبي أول من أخلف المواعيد وكذبها ولم يف بشيء منها إسمعيل بن صبيح كاتب الرشيد وما كانت الرؤسا قبل ذلك يعرفون المواعيد الكاذبة وما أحلى قول بعض الشعراء يخاطب من أخلف عدة وعده إياها من أبيات ووعدتني عدة ظننتك صادقاً ... فجعلت من طمعي أروح وأذهب فإذا حضرت أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب وقال بعض البلغاء يذم مخلف وعده فلان وعده في الخلاف كشجر الخلاف يريك نضارة المنظر ثم لا يجنيك شيأً من الثمر نظمه ابن الرومي فقال ليس من حل بالمحل الذي أن ... ت به من سماحة ووفاء بذل الوعد للاخلاء طوعاً ... وأتى بعد ذاك بذل العطاء فغدا كالخلاف يحسن للعين ... ويأبى الأثمار كل الاباء آخر على الدنيا وما فيها السلام ... إذا ملكت خزائنها اللئام راضيت من الأمور بكل شيء ... قضاه الله وانقطع الكلام الفصل الثاني من الباب العاشر في ذكر نوادر المبخلين من الأراذل والمبجلين يجب علينا أن نذكر أولاً ما صدر عن الأمجاد العقلاء في التحذير من سؤال الأجواد والبخلاء ثقة بما ضمنه الله من رزقه الدار على سائر خلقه قالوا مكتوب في التوراة ابن آدم لا تسأل الناس فإن كنت فاعلاً فاسأل معادن الخير ترجع مغبوطاً محسوداً وفي كتاب كليلة ودمنه ينبغي للعاقل أن يرى إن ادخال

يده في فم التنين وابتلاعه سمه أهون عليه من سؤال الناس وقال إبراهيم بن حفصة لابنه يا بني صن شكرك عمن لا يستحقه واطلب المعروف ممن يحسن طلبك إليه واستر ماء وجهك بقناع قناعتك وتسل عن الدنيا بتجافيها عن الكرام وأنشده هي القناعة فالزمه تكن ملكاً ... لو لم يكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن وقال لقمان لابنه يا بني لا تخلق وجهك بطلب الحوائج إلى من هو دونك فإنه إن ردك ساق إليك محنة وإن قضى حاجتك أتخذها عليك منة واسأل الله فإن الله يحب من يسأله ويبغض من لا يسأله شاعر الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبنيّ آدم حين يسئل يغضب وقد روى عن سفيان الثوري دعاء ككلام لقمان كان يدعو به إذا احتاج يقول اللهم يا من يحب أن يسئل ويغضب على من لا يسأل وأحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله وليس أحد كذلك غيرك يا كريم أعطني كذا ويسأل حاجته وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه ما كرمت على عبد نفسه إلا هانت عليه الدنيا شاعر الحرّ حرّ عزيز النفس حيث ثوى ... كالشمس في أيّ برج ذات أنوار آخر ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضاً ولو نال الغنى بسؤال وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كلّ نوال

آخر لا أستعين باخواني على الزمن ... ولا أرى حسناً ما ليس بالحسن إني كليل إذا استعطفت ذائقة ... بما حوت كفه قد كان أغفلني ذل السؤال وذل الشكر ما اجتمعا ... إلا أضرّا بماء الوجه والبدن لا ابتدى بسؤال لي أخاً أبداً ... لو شاء قبل سؤالي منه أكرمني له الثراء ولي عرض أوفره ... عنه ويقنعني قوت يبلغني محمد بن حازم أضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس ... واقنع بيأس فإنّ العز في الياس فالرزق عن قدر يجري إلى أجل ... في كف لا غافل عني ولا ناسي فكيف ابتاع فقراً حاضراً بغنى ... وكيف أطلب حاجاتي من الناس ولقد أحسن ابن شهيد كل الاحسان في قوله يصف من صان وجهه عن السؤال بقناع قناعته وكف وصبر على مضض الاحتياج بقدر استطاعته فعف إنّ الكريم إذا نالته مخمصة ... أبدى إلى الناس رياً وهو ظمآن يطوى الضلوع على مثل اللظى حرقاً ... والوجه طلق بماء البشر ريان آخر وكم قد رأينا من فتى متجمل ... يروح ويغدو ليس يملك درهما يبيت يراعي النجم من سوء حاله ... ويصبح يلقى ضاحكاً متبسما

ذكر من كان يدين بالبخل من الملوك واتصف بما لا يحسن بالفقير الصعلوك عبد الله بن الزبير ويكنى أبا حبيب وإنما لم يعد من البخلاء لجلالة رتبته وأصالة أبوته فمما يحكى عنه أنه نظر إلى رجل من جنده قد دق في صدور أصحاب الحجاج في قتاله على مكة ثلاثة أرماح فقال له يا هذا اعتزل عن نصرتنا فإن بيت المال لا يقوم بهذا وفي هذه الحرب يقول معاتباً جنده أكلتم تمري وعصيتم أمري سلاحكم رث وكلامكم غث عيال في الجدب أعداء في الخصب وقال لرجل كان يتعاطى التجارة ما صناعتك قال أتجر في الرقيق فقال ما أشد اقدامك على الغرر وإضاعة المال قال بماذا قال ببضاعتك الملعونة التي هي ضمان نفس ومؤنة ضرس وأتاه عبد الله بن فضالة مستجدياً فأخذ يشكو إليه شدة فاقته وحفا ناقته ووعورة طريقه وبعد مسافته فقال له اخصفها بهلب وارقعها بسبت وانجدها ببرد خفها فقال ابن فضاله إنما جئتك مستجدياً لا مستوصفاً فلا بقيت ناقة حملتني إليك قال إن وصاحبها قوله إن بمعنى نعم قال أبو عبيدة معمر بن المثنى لو تكلف الحرث بن كلدة طبيب العرب من وصف علاج ناقة هذا ما تكلفه هذا الخليفة لعسر عليه ويقال إنه كان يأكل في كل سبعة أيام أكلة واحدة ويقول إنما بطني شبر في شبر وما عسى يكفيني ومن بخلاء الخلفاء عبد الملك بن مروان وكان يسمى رشح الحجر ولبن الطير أيضاً لبخله وهشام ولده كان ينظر في القليل من المال ويمنع السائل وإن ألحف في السؤال ويبيع ما يهدي إليه ويجعل السب صلة من يقرظه ويثني عليه من حكاياته إنه وفد عليه محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له مالك عندي شيء ثم قال إياك أن يغرك أحد فيقول لك لم يعرفك أمير المؤمنين أنت فلان بن فلان فلا تقيمن فتنفق ما معك فليس لك عندي صلة فبادر وألحق بأهلك وكان معاوية يبخل في طعامه مع كثرة جوده بالمال قال لرجل وأكله أرفق بيدك فقال له الرجل وأنت فاغضض من طرفك وبلغه أن الناس يبخلونه فقام على المنبر وقال إن الله تعالى يقول وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم

فلأي شيء نلام نحن فقام إليه الأحنف بن قيس وقال نحن ما نلومك على ما في خزائن الله ولكن نلومك على ما في خزائنك إذا اغتلقت بابك دونه والمنصور وكان يلقب أبا الدوانيق ولقب بذلك لأنه لما بنى بغداد كان ينظر في العمارة بنفسه فيحاسب الصناع والأجراء فيقول لهذا أنت نمت القائلة ولهذا أنت لم تبكر إلى عملك ولهذا أنت انصرفت لم تكمل اليوم فيعطي كل واحد منهم بحسب ما عمل في يومه فلا يكاد يعطي أجرة يوم كامل ويحكي عنه أنه قال لطباخيه لكم ثلاث وعليكم اثنان لكم الرؤس والأكارع والجلود وعليكم الحطب والتوابل ومن حكاياته الدالة على شدة بخله أن الربيع بن يونس حاجبه قال له يوماً يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وهم كثيرون وقد طالت أيام إقامتهم ونفدت نفقاتهم فقال اخرج إليهم واقرأ عليهم السلام وقل لهم من مدحنا منكم فلا يصفنا بالأسد فإنما هو كلب من الكلاب ولا بالحية فإنما هي دويبة ميتة تأكل التراب ولا بالحلي فإنما حجر أصم ولا بالبحر فإنه ذو غطامط فمن ليس في شعره شيء من هذا فليدخل ومن كان في شعره شيء من هذا فلينصرف فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم ابن هرمة فإنه قال أدخلني فأدخله فلما مثل بين يديه قال يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك أحد غيره هات يا إبراهيم فأنشده القصيدة التي أولها سرى نومه عني الصبا المتحامل ... واذن بالبين الحبيب المزايل حتى انتهى إلى قوله له لحظات في حفا في سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل فأم الذي أمنت آمنة الردى ... وأم الذي خوّفت بالثكل ثاكل فرفع له الستر وأقبل عليه مصغياً إليه حتى فرغ من إنشادها ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وقال له يا إبراهيم لا تتلفها طمعاً في نيل مثلها فما في كل وقت تصل إلينا وتنال مثلها منا فقال إبراهيم ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم العرض

وعليها خاتم الجهبذ ودخل المؤمل بن أميل على المهدي بالري وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه المنصور فامتدحه بأبيات يقول فيها هو المهدي إلا أنّ فيه ... تشابه صورة القمر المثير تشابه ذا وذا فهماً إذا ما ... أنارا يشكلان على البصير فهذا في الضياء سراج عدل ... وهذا في الظلام سراج نور ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير ونقص الشهر يخمد ذا وهذا ... منير عند نقصان الشهور ومنها فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير فأعطاه عشرين ألف درهم فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام بغداد فكتب إليه المهدي يلومه على هذا العطاء ويقول له إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر إذا أقام ببابك سنة أربعة آلاف درهم وأمر كاتبه أن يوجه إليه بالشاعر فطلب فلم يوجد وذكر أنه توجه إلى بغداد فكتب الكاتب إلى المنصور بذلك فأمر بعض القواد بارصاد المؤمل على باب بغداد فجعل القائد يتصفح وجوه الناس القادمين عليها ويسألهم عن أسمائهم وأسماء آبائهم حتى وقع على المؤمل فسأل عن اسمه فأخبره فقال أنت بغية أمير المؤمنين وطلبته قال المؤمل فكاد والله قلبي ينصدع خوفاً وفزعاً ثم أخذ بيدي فسارني إلى الربيع فأدخلني على المنصور فقال يا أمير المؤمنين هذا المؤمل بن أيمل قد ظفرت به فسلمت فرد السلام فسكن جأشي وزال استيحاشي عند ذلك واطمأن قلبي وزال روعي ثم قال لي أتيت غلاماً ما غرا فخدعته فانخدع فقلت يا أمير المؤمنين أتيت ملكاً جواداً كريماً فمدحته فحمله كرم أعراقه ومكارم شيمه على صلتي وبري فأعجبه كلامي ثم قال أنشدني ما قلت فيه فأنشدته القصيدة فقال والله لقد أحسنت ولكنها لا تساوي عشرين ألفاً يا ربيع خذ منه المال وأعطه منه أربعة آلاف درهم ففعل فلما ولي المهدي الخلافة قدم عليه المؤمل

فأخبره بما دار بينه وبين المنصور فضحك وأمر له برد ما أخذ منه فرد عليه وأشرف يوماً على الصياد فرأى صائداً اصطاد سمكة عظيمة فقال لبعض مواليه اخرج إلى المتسبب فمره أن يوكل بالصياد من يدور معه من حيث لا يشعر فإذا باع السمكة قبض على مشتريها وصار به إلينا ففعل المتسبب ما أمر به فلقى الصياد رجلاً نصرانياً فابتاع منه السمكة بثلثي درهم فلما صارت السمكة في يد النصراني وذهب بها قبض عليه الأعوان وأتى به المتسبب وأدخله على المنصور فقال له من أنت قال رجل نصراني قال بكم ابتعت هذه السمكة قال بثلثي درهم قال وكم عيالك قال ليس لي عيال قال وأنت يمكنك أن تشتري مثل هذه السمكة بمثل هذا الثمن كم عندك من المال قال ما عندي شيء فقال للمتسبب خذه إليك فإن أقر بجميع ما عنده وإلا فمثل به فأقر بعشرة آلاف درهم قال كلا إنها أكثر فأقر بثلاثين ألف درهم وأحل دمه إن وقف له على أكثر منها قال له من أين جمعتها قال وأنا آمن يا أمير المؤمنين قال له وأنت آمن على نفسك إن صدقت قال كنت جاراً لأبي أيوب فولاني جهبذة بعض نواحي الأهواز فأصبت هذا المال فقال المنصور الله أكبر هذا مالنا اختنته وأمر المتسبب بحمل المال واطلاق الرجل وقد حكى ابن حمدون في تذكرته أن المنصور حج في بعض السنين فحدا به سالم الحادي في طريقه يوماً بقول الشاعر أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغذى رفعت ستوره يزينه حياؤه وخيره ... ومسكه يشوبه كافوره فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل ثم قال يا ربيع أعطه عشرة دراهم وفي رواية نصف درهم فقال سالم لا عيرنا أمير المؤمنين والله لقد حدوت لهشام ابن عبد الملك فأمر لي بثلاثين ألف درهم فقال المنصور ما كان له أن يعطيك من بيت مال المسلمين ما ذكرت يا ربيع وكل به من يستخرج منه هذا المال قال الربيع فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه أن يحدو به في خروجه وقفوله بغير مؤنة وكان سالم هذا المذكور تورد له الابل بعد أن نظمأ السبعة أيام والثمان والتسع والعشر فيحدو لها فيلهيها بحدوه عن ورود الماء

من صان درهمه ولم يسمح به للعطاء

ومن ظريف ما يحكى عنه أن عبد الله بن زياد بن الحرث كتب إليه رقعة بليغة يستمنحه فيها فكتب عليها إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا في بلداً بطراه وأمير المؤمنين مشفق عليك فاكتف بالبلاغة وكان لسوار القاضي بالبصرة من قبل المنصور كاتبان رزق أحدهما عشرون درهماً ورزق الآخر أربعون درهماً فكتب إليه سوار التسوية بينهما فنقص صاحب الأربعين عشرة وزادها صاحب العشرين وإنما أراد سوار أن يلحق صاحب العشرين بصاحب الأربعين من صان درهمه ولم يسمح به للعطاء فكشف عنه اللؤم ما أسبله الكرم من الغطاء مروان بن أبي حفصة وذلك أنه خرج يريد المهدي فقالت امرأة من أهله مالي عليك إذا رجعت بالجائزة قال إن أعطيت مائة ألف درهم أعطيتك درهماً فأعطى ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانيق وسأل رجل خالد بن صفوان فقال هب لي دنينيراً فقال خالد لقد صغرت عظيماً صغرك الله الدينار عشر العشرة والعشرة عشر المائة والمائة عشر الألف والألف ديتك وكان بعض البخلاء إذا صار الدرهم في يده خاطبه وناجاه وقبله وفداه وقال له بأبي أنت وأمي كم من أرض قطعت وكيس خرقت وكم من خامل رفعت وسري وضعت إن لك عندي أن لا تعري ولا تضحي ثم يلقيه في الكيس ويقول اسكن على بركة الله في مكان لا تحول عنه ولا تخرج منه وكان مروان بن أبي حفصة إذا جاءته جائزة يقول للدراهم كم خامل رفعت وكم سري وضعت طال ما تغربت في البلاد وأتعبت في طلب تحصيلك العباد فوالله لاطيلن ضجعتك ولاديمن صرعتك ثم يضعها في الصندوق ويختم عليها وكان أبو العميس إذا وقع الدرهم في يده نقره بأصبعه وقال مخاطباً له كم من يد وقعت فيها ومن بلد جلت في نواحيها بأبي أنت وأمي أسكن وقر عيناً فقد قربك القرار واستقر بك الدار واطمأن بك المنزل ثم يضعه في كيس ويختم عليه فيكون آخر العهد به وكان بعض البخلاء إذا وقع الدرهم في كفه قال مخاطباً له أنت عقلي وديني وصلاتي وصيامي وجامع شملي وقرة عيني وقوتي وعمادي وعدتي ثم يقول يا حبيب قلبي وثمرة فؤادي قد صرت إلى من يصونك ويعرف حقك ويعظم قدرك ويشفق عليك وكيف لا

يكون كذلك وبك تجلب المسار وتدفع المضار وتعظم الأقدار وتعمر الديار وتفتض الأبكار ترفع الذكر وتعلى القدر ثم يطرحه في الكيس وينشد بنفسي محجوب عن العين شخصه ... وليس بخال من لساني ولا قلبي ومن ذكره حظي من الناس كلهم ... وأوّل حظي منه في البعد والقرب وممن صان درهمه ولم يسمح به ... فكان ذلك سبباً لذمّه وثلبه ما يحكى أن أعرابياً شرب عند بخيل غبوقاً فلما سكر البخيل وانتشى خلع على الأعرابي قميصاً فلما صحا انتزعه منه ثم شرب معه صبوحاً فلما سكر وانتشى خلع عليه قميصاً فلما صحا انتزعه منه فقال كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا فلي فرحة في سكره وانتشائه ... وفي الصحو ترحات تشيب النواصيا وأتى بعض البخلاء بغلام ليشتريه فسيم فيه بأربعين ديناراً فأعطى فيه عشرين فقيل له إنه فراش ونداف فقال لو فرش السماء وندف الغيم بقوس قزح ما اشتريته بأربعين وساوم أشعب بقوس بندق فقال صاحبه بدينارين فقال والله لو رميت به طائراً فوقع ويا بين رغيفين ما اشتريته بهذا الثمن وكان أشعب بخيلاً وله حكايات تذكر فيما بعد إن شاء الله وقال الأصمعي قالت امرأة لزوجها اشتر لنا رطباً فقال لها وكيف يباع قالت كيلجة بدرهم فقال والله لو خرج الدجال وعاث في الأرض وأنت تمخضين بعيسى والناس ينتظرون الفرج على يديه في قتال الدجال ثم لم تلديه حتى تأكلي الرطب ما اشتريته لك كيلجة بدرهم مدح شاعر محمد بن عبدوس فقال له أما أن أعطيك شيأً من مالي فلا ولكن أذهب فاجن جناية حتى لا آخذك بها وقال مروان بن أبي حفصة ما فرحت بشيء فرحي بمائة ألف درهم وهبها لي أمير المؤمنين المهدي فزادت درهماً فاشتريت به لحماً ودخل أبو

صاعد علي الغنوي فأنشده رأيت في النوم أني مالك فرسا ... ولي وصيف وفي كفي دنانير فقال قوم لهم علم ومعرفة ... رأيت خيراً وللأحلام تفسير اقصص منامك في بيت الأمير تجد ... تحقيق ذاك وللفأل التباشير فلما سمع الأمير انشاده قال أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين من كان بخله على الفقراء بطعامه ... معرباً عن لؤمه وموجباً لملامه الحطيئة يحكي عنه أن بعض الأعراب مر به وهو يرعى غنماً له وفي كفه عصا فناداه الأعرابي يا راعي الغنم فأومأ إليه الحطيئة بعصاه وقال إنها عجراء من سلم فقال الأعرابي إني ضيف فقال وللضيفان أعددتها ومر أعرابي بأبي الأسود الدؤلي وهو واقف على باب داره فسلم فقال له أبو الأسود كلمة مقولة قال أتأذن لي في دخول منزلك قال وراؤك أوسع لك قال هل عندك شيء يؤكل قال نعم قال فأطعمني قال عيالي أحق به منك قال ما رأيت ألأم منك قال لست ترى نفسك قال الشاعر إياك ترغب في كلامه ... وارفع يمينك من طعامه فالموت أهون عنده ... من مضغ ضيف والتقامه سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه وإذا مررت ببابه ... فاحفظ رغيفك من غلامه وقال رجل لبعض البخلاء لم لا تدعوني إلى طعامك قال لأنك جيد المضغ سريع البلع إذا أكلت لقمة هيأت أخرى فقال يا أخي أتريد أني إذا أكلت عندك أن أصلي ركعتين بين كل لقمتين وقال آخر لبخيل لم لا تدعوني قال لأنك تعلق وتشدق وتحدق أي يحمل واحدة في يده وأخرى في شدقه وينظر إلى أخرى بعينه وعزم بعض اخوان أشعب عليه ليأكل عنده فقال إني

أخاف من ثقيل يأكل معنا فقال ليس معنا ثالث فمضى معه فبينا هما يأكلان إذا بالباب يطرق فقال أشعب ما أرانا إلا صرنا إلى ما نكره قال إنه صديقي وفيه عشر خصال إن كرهت واحدة منهن لم آذن له فقال أشعب هات أولها قال إنه لا يأكل ولا يشرب قال التسع لك ودعه يدخل فقد أمنا ما كنا نخافه وكان مروان بن أبي حفصة لا يأكل إلا الرؤس فقيل له في ذلك قال لأن الغلام لا يقدر ان يخونني فيه إن أخذ أذناً أو أخذ عيناً وقفت على ذلك وآكل منه ألواناً آكل عينه لوناً ودماغه لوناً وأذنيه لوناً وأكفى مؤنة طبخه في البيت فقد اجتمع لي فيه مرافق شتى وحكى دعبل الخزاعي قال أتيت سهل بن هرون في حاجة فأطلت الجلوس عنده فأخر غداءه لقيامي فجلست على عمد حتى كضه الجوع فقال يا غلام غدنا فجاء بمائدة وعليها قصعة فيها مرق وديك ليس قبلها ولا بعدها غيرها فاطلع في القصعة ففقد رأس الديك فقال للغلام أين الرأس قال رميت به قال ولم رميت به قال ظننتك لا تأكله قال فهلا ظننت إن العيال يأكلونه ثم التفت إلي وقال لو لم أكره مما صنع إلا الطيرة لكان حسبي فإنهم يقولون الرأس للرئيس وفيه الحواس الأربع ومنه يصيح الديك وفيه عرفه الذي يتبرك به وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء ودماغه موصوف لوجع الكليتين ولم أر عظماً قط أهش تحت ضرس من دماغ ديك ويلك انظر أين رميته قال لا أدري قال لكني أنا أدري أين رميته رميته في بطنك الله حسيبك وكان جعفر بن سليمان بخيلاً على الطعام رفعت المائدة من بين يديه يوماً وعليها دجاجة صحيحة قد أخذ منها بعض بنيه جناحاً فلما أعيدت عليه بالغداة قال من هذا الذي تعاطى فعقر فقيل له ابنك الصغير فقطع أرزاق جميع بنيه من أجله فلما طال ذلك منه وأضر بهم الحال جاءه أكبرهم وقال يا أبانا أفتهلكنا بما فعل السهفاء منا فأعجبه ذلك وأمر برد أرزاقهم إليهم وقال بعض الأكياس دعاني كوفي إلى منزله فقدم لي دجاجة فأكلت من المرقة وجهدت أن آكل من اللحم فما قدرت لصلابته وبت عنده فأعاده من الغد إلى القدر وطرح عليه سكراً فعاد زير باجا فقدمه وأكلت من المرق وجهدت أن آكل من اللحم فما قدرت لشدته فبت عنده الليلة الثانية فلما كان من الغد قال لغلامه اطرح عن اللحم من المرق ليصير قلية ففعل ثم قدمه إلي فأكلت من المرق وجهدت أن آكل

من اللحم فلم أقدر لقوته فأخذت قطعة من اللحم ووضعتها إلى جهة القبلة وقمت لأصلي إليها فقال ما هذا الذي تصنع قلت أشهد أنه لحم ولي من أولياء الله تعالى فإنه قد أدخل النار ثلاث دفعات فلم تفعل فيه شيأً فلما أردت الانصراف إذا ببعض جيرانه يدق الباب فقال له أعرني ذلك اللحم لضيف وأفاني من الغد لأطبخه له وأرده إليك إن شاء الله تعالى فناوله إياه وسأل فقير من دار بخيل شيأً فأعطى لقمة صغيرة فقال يا أهل هذا المنزل كيف أشرب هذا الدواء وقف سائل على باب دار فيها يحيى بن زياد وحماد بن عجرد وبشار مجتمعين على طعام فقال يا اخوتي المسلمين فقال يحيى فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فقال ارحموني فقال حماد نحن إلى رحمتك أحوج منك إلى رحمتنا فقال واسمعوا كلامي فقال بشار لقد اسمعت لو ناديت حياً فقال السائل أما القول فما أوسع به شقاشق أقوالكم وأما الفعل فما أخيبه قرن الله بالخيبة آمالكم وقال العتبي كان الأصمعي يجعل الخبز الحار أدما للخبز البارد ولو بذلت له الجنة بدرهم لاستنقص منه شيأً وقال جحظة دخلت على هرون ابن الخال وكان بخيلاً بطعامه وكنت إذ ذاك ناقها من علة وقد نصبت مائدة بين يديه فدعاني إليها وقدمت إلي صحفة فيها مضيرة معقودة بعصبان كأنها قضبان فضة فانهمكت في الأكل فنظر إلي شزراً ثم قال يا جحظة هذه والله معدن ألم المفاصل والفالج واللقوة والقولنج وأنت عليل وبدنك نحيل واللبن يستحيل فقلت والله العظيم الجليل لآتين منها على الكثير والقليل وحسبنا الله ونعم الوكيل ثم أقبلت على الأكل منها حتى اكتفيت فلما انصرفت عملت فيه ولي صاحب لاقدس الله روحه ... بعيد عن الخيرات غير قريب أكلت عصيباً عنده في مضيرة ... فيا لك من يوم عليه عصيب

وله وأبدع لا تعذلوني إن هجرت طعامه ... خوفاً على نفسي من المأكول فمتى أكلت قتلته من بخله ... ومتى قتلت بالمقتول وحضر اعرابي مائدة هشام بن عبد الملك فرفع الاعرابي لقمة فقال له هشام شعرة في لقمتك يا أعرابي فقال الأعرابي فإنك تلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة والله لا أكلت عندك أبداً وقال بعض البخلاء إني لا آكل إلا نصف الليل قيل له ولم قال يبرد الماء وينقمع الذباب وآمن فجأة الداخل وصرخة السائل وطبخ رجل قدراً وجلس مع زوجته يأكلان فقال ما أطيب هذا الطعام لولا الزحام قالت أي زحام ههنا إنما هو أنا وأنت قال كنت أحب أن أكون أنا والقدر وقال بعض البخلاء لغلامه هات الطعام واغلق الباب قال يا مولاي ليس هذا حزماً بل أغلق الباب أولاً وأقدم الطعام ثانياً فقال له اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى لعلمك بأسباب الحزم وأين هذا مما يحكي أن عدي بن حاتم الطائي عمل مأدبة فقال لولده وكان صغيراً أقم على الباب وأذن لمن تعرف وامنع من لا تعرف فقال والله لا يكن أول شيء وليته من أمر الدنيا منع أحد عن طعام فقال عدي والله يا ولدي أنت أكرم مني وأفطن افتحوا الباب فمن شاء فليدخل وبهاتين الحكايتين علم مصداق من أطلع الله شمس الحكمة من مشرق فيه بقوله العبد من طينة مولاه والولد سرابيه شاعر يذم بخلاء وتروى للأخطل قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار لا يقبس الجار منهم فضل نارهم ... ولا تكف يد عن حرمة الجار قوم إذا استنتج الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار

آخر تراهم خشية الأضياف يوماً ... يقيمون الصلاة بلا أذان ابن هلال العسكري يذم بخيلاً تنانيركم للنمل فيها مدارج ... وفي قدركم للعنكبوت مناسج وعندكم للضيف حين ينوبكم ... سؤالات سوء للقرى وسفاتج وأنتم على ما تزعمون أكارم ... فايرى في است الأكارم والج وقال صعصعة بن صوحان أكلت عند معاوية لقمة فقام بها خطيباً قيل وكيف ذاك قال كنت آكل معه فهيأ لقمة ليأكلها فأغفلها فأخذتها وأكلتها فسمعته بعد ذلك يقول أيها الناس أجملوا في الطلب فرب رافع لقمة إلى فيه سبقه إليها غيره ومما يليق بهذا الفصل من التذييل ... ذكر من عرف بالطمع والتطفيل قالوا الطمع يدنس الثياب ويغير الأذهان وقالوا مصارع الألباب تحت ظلال الطمع وقالوا الحر عبد ما طمع والعبد حر إن قنع وقالوا أخرج الطمع من فيك تحل القيد من رجليك وصف بعضهم طامعاً فقال لو رأى شيأً في حجر أفعى لجاء إليه يسعى وادخل يده فيه ليأخذه ويحويه وقالوا لو قيل للطمع من أبوك لقال الشك في المقدور ولو قيل له ما حرفتك لقال اكتساب الذل ولو قيل له ما غايتك لقال الحرمان ولله در من قال وما قطع الأعناق حتى أبانها ... وقرّرها إلا سيوف المطامع شاعر يذم الطمع وذي طمع يغدو بقية عمره ... ويمسي ولم تجمع يداه له وفرا

يبيت سميراً للمنى مثرياً بها ... ويضحا سليباً من مواهبها صفرا وأكثر ما تلقى الأماني كواذباً ... فإن صدقت جازت بصاحبها القدرا فممن اشتهر بالطمع وجمع فيه بين الطبع والطبع أشعب وبه يضرب المثل قيل له ما بلغ من طمعك قال ما رأيت عروساً تزف إلا ظننت أنها لي ولا رأيت جنازة إلا حسبت إن صاحبها أوصى لي بشيء ولا رأيت اثنين يتناجيان إلا خيل لي أنهما يأمران لي بمعروف ولقد طاف الصبيان حولي يومياً يتولعون بي فقلت لهم لابعدهم عني إن في دار فلان لوزنيجا يفرق فذهبوا يتعادون فلما ذهبوا عني ظننت أني صادق فتبعتهم وقيل له هل رأيت أطمع منك قال نعم نزلت بطريق الشأم مع رفيق لي تحت صومعة راهب فتنازعنا في شيء فقلت اير الراهب في است الكاذب وإذا بالراهب قد نزل وايره في يده وقد أنغط وهو يقول فديتكما من الكاذب فيكما وكان يقول ما أحسست بجار لي يطبخ قدراً إلا غسلت الغضارة ووضعت المائدة وانتظرته يحمل إلي قدره جلس عبد الله بن أبي عتيق مع زوجته فتمنى أن يهدي له مسلوخ فيتخذ منه لون كذا ولون كذا فسمعته جارة له فظننت أنه أمر بعمل ما سمعت فانتظرته إلى الليل ثم جاءت وطرقت الباب وقالت شممت رائحة قدركم فجئت لتطعموني منها فقال ابن أبي عتيق لامرأته أنت طالق إن أقمنا في دار يتشمم أهلها ريح الأماني ورحل عنها بعض المتمنين خلوت بنفسي فمنيتها ... أمانيّ خابت ولم تصدق فهذا اقتلاه وهذا اضربا ... وهذا احملاه على الأبلق التطفيل من أمثالهم قولهم أطفل من ذباب والزم من قراد وانم من ليل على نهار ومن أدب الراجز أوغل في التطفيل من ذباب ... على طعام وعلى شراب لو أبصر الرغفان في السحاب ... لطار في الجوّ مع العقاب

وقالوا من جاء إلى طعام لم يدع إليه استحق الطرد ولا يلام عليه ليم بعض المتطفلين على التطفيل فقال والله ما بنيت المنازل ألا لتدخل ولا قدمت الأطعمة إلا لتؤكل وإني لا جمع في التطفيل خلالاً أدخل مخالساً وأقعد مستأنساً وانبسط وإن كان رب المجلس عابساً ولا أتكلف مغرماً ولا أنفق درهماً وقال بنان وهو كبيرهم التمكن على المائدة خير من أربعة ألوان زائدة ومن دعائه اللهم ارزقني صحة الجسم وكثرة الأكل ودوام الشهوة ونقاء المعدة ودخل بعض الطفيليين على قوم فقالوا من أنت قال أنا الذي لا أحوجكم إلى رسول ولبعضهم في المعنى نحن قوم إن جفا النا ... س وصلنا من جفانا لا نبالي صاحب الدا ... ر نسينا أم دعانا قصد جماعة من الطفيليين باب بعض الكبراء وقت غدائه فمنعهم بوابه فكتب إليه بعضهم قد أتيناك زائرين خفافا ... وعلمنا بأنّ عندك فضلة ولدينا من الحديث هناة ... معجبات نعدّها لك جملة إن تجدنا كما تريد وإلا ... فاحتملنا فإنما هي أكله فأذن لهم فدخلوا البديع الهمذاني على لسان طفيلي نحن قوم نحب هدى رسول الله ... هدنا وللصواب أصبنا فادعنا كلما نشطت فأنا ... لو دعينا إلى كراع أجبنا آخر ولما أن كتبت ولم تجبني ... ولم تنظر إليّ بعين أنس رأيت الحزم إن أنضى ركابي ... إليك وأن أكون رسول نفسي

الفصل الثالث من الباب العاشر

ولم أسمع بأظرف من قول القائل ونديم رقيق حاشية الحي ... لة صافي زجاجة الآداب شغلته الرقاع منه إليه ... داعياً نفسه إلى الأصحاب آخر يصف طفيلياً لو طبخت قدر بمطمورة ... بالشأم أو أقصى جميع الثغور وأنت بالصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور الفصل الثالث من الباب العاشر في مدح القصد في الإنفاق خوف التعيير بالإملاق قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ناصحاً بالاشفاق وآمراً له بالقصد في الانفاق مثبتاً لكماله قواماً مشكوراً ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً فنهاه عن التقتير كما نهاه عن التبذير وقال تعالى مثنياً على المقتصدين بحسن تقديرهم اكراماً والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عال من اقتصد أي ما افتقر وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الله بحب القصد والتقدير ويكره السرف والتبذير وقال معاوية رضي الله عنه حسن التقدير نصف الكسب وهو قوام المعيشة وقال لولده كن مقدراً ولا تكن مقتراً وأوصى حكيم ولده فقال يا بني عليك بالتقدير بين الطرفين لا منع ولا اسراف ولا بخل ولا اتلاف لا تكن رطباً فتعصر ولا يابساً فتكسر وقالوا حسن التقدير رأس التدبير وقال ذو النون حسن التقدير مع الكفاف أكفى من الكثير مع الاسراف ويقال لا تسمح لولدك ولا لامرأتك ولا لغلامك وخادمك بما فوق الكفاية فان طاعتهم لك بقدر حاجتهم ليك

ومن هذا وهو لائق بالملوك ما حكى إن ابرويز قال لابنه لا توسعن على جندك فيشتغلوا عنك ولا تضيقن عليهم فيضجوا منك وأعطهم عطاء قصداً وأمنعهم منعاً جميلاً ووسع لهم في الرجاء ولا توسع عليهم في العطاء وفي وصيته لولده أي بني قول لا تدفع البلاء وقول نعم تزيل النعم وسماع الغناء برسام حاد لان الانسان إذا سمع الغناء شرب وإذا شرب طرب وإذا طرب وهب وإذا وهب عطب وإذا عطب اعتل ثم يموت من غم ذلك والدرهم محموم إن حركته مات والدينار محبوس إن أطلقته طار وكذب من قال اليمين تذر الديار بلاقع وإنما الاسراف يفعل ذلك والأصدقاء هم الأعداء لأنك إذا احتجت إليهم منعوك وإن احتاجوا إليك ومنعتهم سبوك وإذا لم يكن لك بد منهم فكن معهم كلاعب الشطرنج يحفظ ما معه ويحتال في أخذ ما مع غيره وسأل رجل زياد ابن سمية فأعطاه درهماً فقال صاحب العراقين أسأله فيعطيني درهماً فقال من بيده خزائن السموات والأرض ربما رزق أخص عباده عنده وأكرمهم لديه التمرة واللقمة وما يكبر عندي إن أصل رجلاً بمائة ألف درهم ولا يصغر عندي أن أعطي سائلاً رغيفاً إذا كان رب العالمين يفعل ذلك وقيل ينبغي للعاقل أن يكسب ببعض ماله المحمدة ويصون ببعضه وجهه عن المسئلة وقال الأصمعي سمعت بعض الأعراب يقول من اقتصد في الغنى والفقر فقد استعد لنوائب الدهر ويقال اقتصد في انفاق الدراهم فانها الجراح الفاقة مراهم وقالوا اسقاط الفضول في النفقة ربح بضاعة لا تمل فان الاسراف ربما كان سبباً في التقتير وقال الثعالبي من كثرت في دعوته نفقته أسلم ماله ونقصت مروأته وقال أفلاطون راس العقل الاقتصاد في الانفاق من غير بخل ومن الكلام البديع للبديع الهمذاني قوله مثل الاحسان في الانسان مثل الثمار في الأشجار فحقه إذا أتى بالحسنة أن يرفه إلى سنه وما أحسن ما قيل في المعنى أنفق بمقدار ما استفدت ولا ... تسرف وعش فيه عيش مقتصد من كان فيما استفاد مقتصداً ... لم يفتقر بعدها إلى أحد

آخر كن بما أوتيته مغتبطاً ... تستدم عيش القنوع المكتفي إن في نيل المنى وشك الردى ... واجتناب القصد عين السرف كسراج دهنه قوت له ... فإذا غرّقته فيه طفى ما قيل إنّ في صلاح الأموال صلاح ما فسد من الأحوال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقل مع الاصلاح شيء كما لا يكثر مع الافساد شيء ويقال من الفساد اضاعة الزاد المتلمس لحفظ المال خير من فناه ... وسير في البلاد بغير زاد قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله فان اقلالا في رفق خير من اكثار في خرق وقالوا إن في صلاح الأموال سلامة الدين وجمال الوجه وبقاء العز وصون العرض وقالوا أصلح مالك تجده لروعة الزمان وجفوه السلطان ونبوة الاخوان ودفع الأحزان وكتب عتبة بن أبي سفيان إلى وكيله يعاهده صغير مالي يكبر ولا يخف كبيره فيصغر فإنه ليس يشتغلني كثير مالي عن اصلاح قليله ولا يمنعني قليله عن كثير ما ينوبني وقال أحيحة بن الحلاج أصلحوا أموالكم فانكم لا تزالون ذوي مروات ما استغنيتم عن عشيرتكم وقال شبيب بن شيبة لبنيه إن كنتم تحبون المروأة والفتوة فأصلحوا أموالكم وقال معاوية اصلاحك ما في يدك أسلم من طلبك ما في أيدي الناس وقال عبد الله بن عباس اطلبوا الغنى باصلاح ما في أيديكم فان الفقر مجمع العيوب وقال البستي اشفق على الفضة والعين ... تسلم من القلة والدين فقوة العين بانسانها ... وقوة الانسان بالعين

احتجاج من خمدت يده عن النوال ... خوف التعيير بالفقر وذل السؤال قال أبو حنيفة لا خير فيمن لا يحفظ ماله ليصون به عرضه ويصل به رحمه ويستغنى به عن لئام الناس وقال الأصمعي لامت أعرابية أباً لها على اتلاف ماله فقال يا أبت حبس المال يمنع العيال من بذل الوجه للسؤال أسرفت في النوال وكثرة النحال امسك فقد أتلفت الطارف والتلاد وبقيت ترقب ما في أيدي العباد يا أبت من لم يحفظ ما ينفعه يوشك أن يقع بالفقر فيما يضره وقال عبد الله بن المعتز أعاذل ليس البخل مني سجية ... ولكن وجدت الفقر شر سبيل لموت الفتى خير من البخل للفتى ... وللبخل خير من سؤال بخيل وقال سفيان الثوري لان أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس وكان داود بن علي يقول لابن يترك الرجل ماله بعده لاعدائه خير من الحاجة في حياته لأوليائه وقال يعقوب الكندي من جاد بماله فقد جاد بنفسه لأنه جاد بما لا قوام لها إلا به وقال الشاعر يا رب جود جر فقر امرئ ... فقام للناس مقام الذليل فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالموت خير من سؤال البخيل آخر الموت خير للفتى ... من أن يعيش بغير مال والموت خير للكريم ... من التضرّع والسؤال وقال أبو الأسود الدؤلي لو لم نبخل على السؤال بما يسالونا لكنا اسوأ حالاً منهم وقالوا ختم المال حتم وليم مروان بن أبي حفصة على الامساك فأنشد

يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمى النوى بالمقترين المراميا وما فارقوا أوطانهم عن ملالة ... ولكن حذاراً من شمات الأعاديا ومن قولهم في أن الفقر والاقلال ... مقرونان بالدحر والاذلال قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه الفقر داء لا دواء له من كتمه قتله ومن أذاعه فضحه وقال أيضاً رضي الله عنه مارست كل شيء فغلبته ومارسني الفقر فغلبني إن سترته أهلكني وإن أذعته فضحني وقال لولده محمد بن الحنفية يا بني إني أخاف الفقر فإنه منقصة للدين مذهبة للعقل داعية للمقت وقالوا الفاقة هي الموت الأصغر لا بل هي الموت الأكبر وذكر إن السفاح لما ضرب أعناق بني أمية قام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين هذا والله جهد البلاء فقال مه لا أم لك ما هذا وشرطة حجام الاسواء ولكن جهد البلاء فقر مذقع بعد غنى موسع وقال ابن دأب لقيت رجلاً كنت أعرفه حسن الحال ومن أصحاب الأموال في حالة ردية كأنما أصابته رزية فسلم علي فقلت له ما الذي غير حالك وأذهب مالك فقال تنقل الزمان وكر الحدثان فآثرت الضرب في البلدان والبعد عن الأوطان ومفارقة المعارف والاخوان وعملت بقول الشاعر سأعمل نصب العيس حتى يكفني ... غنى المال يوماً أو غنى الحدان فللموت خير من حياة يرى بها ... على الحر ذي الاقلال وسم هوان متى يتكلم بلغ حكم كلامه ... وإن يقل قالوا عديم بيان وقوله هذا ينظر إلى قولهم فيما ضربوه من الأمثال مناقب الموسر مثالب المعسر وذلك أنه إذا كان جواداً قالوا مبذر وإن كان لسناً قالوا مهدار وإن كان ذكياً قالوا بليد وإن كان شجاعاً قالوا أهوج وإن كان صموتاً قالوا عيي وإن كان وقوراً قالوا متكبر ومن نزل به الفقر لم يجد بداً من ترك الحياء ومن ذهب حياؤه ذهبت مروأته ومن ذهبت مروأته مقت ومن مقت أوذى ومن أوذى حزن ومن حزن ذهب عقله ومن أصيب بهذا كله كان كلامه كلا عليه لا له

شاعر لما رأيت اخلائي وخالصتي ... الكل منقبض عني ومحتسم أبد واجفاء واعراضاً فقلت لهم ... أذنبت ذنباً فقالوا ذنبك العدم آخر يغطي عيوب المرء كثرة ماله ... يصدّق فيما قال وهو كذوب ويزري بعقل المرء قلة ماله ... يحمقه الأقوام وهو لبيب آخر أنطقتك الثياب لا الآداب ... وطوتني عن الكلام الثياب والصواب الذي أقول خطأ ... والخطأ الذي تقول الصواب وقالوا من حسن حاله استحسن قاله وقالوا الفقر يخرس الفطن عن حجته ويجعله غريباً في بلدته وقالوا إذا افتقر الرجل اتهمه من كان يأتمنه وأساء به الظن من كان يحسنه فإذا أذنب غيره نسب إليه ومن كان له صار عليه وقال إبراهيم بن محمد بن المدبر جهدت جهدي أن أنظر إلى الفقير بالعين التي أنظر بها لغني فلم يتهيأ لي ذلك وقال الشاعر يغدو الفقير وكل شيء ضدّه ... والأرض تغلق دونه أبوابها وتراه ممقوتاً وليس بمذنب ... ويرى العداوة لا يرى أسبابها حتى الكلاب إذا رأت ذا بزة ... أصغت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت يوماً فقيراً عارياً ... نبحت عليه وكشرت أنيابها وقالوا ما أطيب الافاقة من سم الفاقة وقال عبد الملك بن صالح الفقر جند الله الأكبر يذل به من طغى وتجبر ويقال رب حسب دفنه الفقر

شاعر الفقير يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسوّد غير السيد المال وقال بعضهم الفقير كميت في بيت لا يملك غير الجلدة بردة ولا يلتقي لحياه إلا برعدة شاعر ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح القل والافلاس بالرجل آخر لبست صروف الدهر كهلاً وناشياً ... وجربت حاليه على العسر واليسر فلم أر بعد الدين خير من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شراً من الفقر آخر رزقت لباً ولم أرزق مروأته ... وما المروأة إلا كثرة المال إذا أردت مساماة تقيدني ... عما ينوه باسمي رقة الحال آخر كفى حزناً أنّ الغنى متعذر ... عليّ وأني بالمكارم مغرم وما قصرت بي في المطالب همة ... ولكنني أسعى إليها فأحرم آخر كفى حزناً إني أروح وأغتدي ... ومالي من مال أصون به عرضي وأكثر ما ألقي صديقي بمرحبا ... وذلك لا يكفي الصديق ولا يرضي

آخر أرى نفسي تتوق إلى أمور ... يقصر دون مبلغهن مالي فنفسي لا تطاوعني لبخل ... ولا مالي يبلغني فعالي آخر إذا قل مال المرء قل صديقه ... ولم يحل في عين الصديق لقاؤه وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خير له أم وراؤه فإن مات لم يفقد ولم يحزنوا له ... وإن عاش لم يفرح به أولياؤه قيس بن عاصم يسوّد هذا المال غير مسود ... ويحرمه ليث فيصبح ثعلبا وأول ما يجفو الفقير لفقره ... بنوه ولم يرضوه في فقره أبا كأنّ فقير القوم في الناس مذنب ... وإن لم يكن من قبل ذلك أذنبا آخر لعمرك إن الغنى يجعل الفتى ... سرياً وإنّ الفقر بالمرء قد يزري ولا رفع النفس الدنيئة كالغنى ... ولا وضع النفس النفيسة كالفقر آخر ألم تر أنّ المرء يزداد عزة ... على أهله أن يعلموا إنه مثري وينحط منه القدر إن كان معدما ... وأصبح لا يرجى لنفع ولا ضر

آخر أرى ذا الغنى في الناس يسعون حوله ... وإن قال قولاً تابعوه وصدّقوا فذلك دأب الناس ما دام ذا غنى ... وإن مال عنه المال يوماً تفرقوا ومن المنظوم في سلك الرشاقة ما قيل في التشكي من ضرر الاقلال والفاقة مجد العرب العامري هجرت للعدم كل خل ... وصرت للانقباض خدنا فلا أهني ولا أعزي ... ولا أعزي ولا أهنا ابن الخياط الدمشقي لم يبق عندي ما يباع بحبة ... وكفاك شاهد منظري عن مخبري إلا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري آخر قعدت عن الاخوان من غير ما قلى ... وكان صواباً ما أتيت على عمد وجهد الفتى أن يستر البيت حاله ... إذا لم يجد حراً يعين على الجهد آخر الحمد لله ليس لي نشب ... قد خف ظهري وقل زواري من نظرت عينه إليّ فقد ... أحاط علماً بما قد حوت داري

آخر أنا في حال تعالى الله ... ما أعظم حالي ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي ولقد أفلست حتى ... حل أكلي لعيالي من رأى شيأً محالاً ... فأنا عين المحال فبلاد الله أرضى ... والسموات ظلالي لو يكن في الناس حر ... لم أكن في مثل حالي آخر جاء الشتاء وليس عندي درهم ... وبدون ذلك قد يصاب المسلم وتقطع الناس الجباب وغيرها ... وكأنني بأزاء مكة محرم آخر طشتي الأرض ومنديلي الهوا ... وعلى الخبز من الجوع احتلامي هل سمعتم أو رأيتم أحداً ... أكل الخبز سواي في المنام آخر خلق المال واليسار لقوم ... وأراني خصصت بالاملاق أنا فيما أرى بقية قوم ... خلقوا بعد قسمة الأرزاق آخر إذا جزت يوماً بالسويق يمسني ... لقلة نقدي ذلة وخضوع فلا قائل للمشتري كيف تشتري ... ولا سائل البياع كيف تبيع آخر الحمد لله ليس لي فرس ... ولا على باب منزلي حرس

ولا غلام إذا هتفت به ... بادر نحوي كأنه قبس ابني غلامي وزوجتي أمتي ... ملكتها بالملاك والعرس غنيت بالياس واعتصمت به ... عن كل قرد بوجهه عبس فما يراني ببابه أبداً ... طلق المحيا سمح ولا شرس وما أحسن قول أبي العير الهاشمي ولقد أبان عن شرف وعلو همة ... فصار بما قال في الناس أمة قنعت نفسي بما رزقت ... وتمطت في العلا هممي ولبست الصبر سابغة ... هي من قرني إلى قدمي فإذا ما الدهر عاتبني ... لم يجدني كافر النعم لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متهم وواجب اتباع هذا الفصل بمدح المال ... إذ به يدرك ما شسع من الآمال قالوا اليسار علاء والاقتاء بلاء وقالوا الغني سني كبير والفقير دني حقير ويقال قيمة كل امرئ ما معه شاعر ولا يساوي درهماً واحداً ... من لم يكن في كفه درهم وقالوا المرء بدرهميه لا بأصغريه نظمه بعض الشعراء فقال قد قال قوم بغير علم ... ما المرء إلا بأصغريه وقلت قول امرئ عليم ... ما المرء إلا بدرهميه وقال بعضهم لولده ليكن معك من العين ما تقربه العين وقالوا المال معشوق الورى فمن عدمه نبذ بالعراء منفصم العرى وقيل للحسن ما بال الناس يكرمون صاحب المال قال لان عنده معشوقهم فإليه القلوب تمال وقالوا المال يستعبد الأحرار ويذل الأشرار وقال آخر بقدر ما تعطى من المال تعطى

من الاجلال سمع قيس بن عبادة يقول في دعائه اللهم ارزقني حمداً ومجداً فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال اللهم إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه أشار في هذا إلى قول الشاعر ولا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده عوتب ابن أبي ليلى في تعظيم موسر فقال إن تعظيم ذوي المال سر جعله الله في القلوب لا يستطاع رده شاعر يعير الغنى ثوب المكارم للفتى ... وإن كان من ثوب المكارم عاريا ومر موسر بالشعبي فتزحزح له فقيل له في ذلك فقال رأيت ذا المال مهيبا شاعر إني وجدت الغنى زيناً لصاحبه ... في أهله وفقير القوم محقور إنّ المقلين لا تنسى ذنوبهم ... وذنب ذي المال عند الناس مغفور وقال معاوية إن الشرف والسودد لينتقلان مع الغنى كما ينتقل الظل شاعر الناس ما استغنيت كنت صديقهم ... وإذا افتقرت إليهم فهم العدى ذو المال عندهم يسود بماله ... ويزول سودده إذا فقد الغنى آخر كم من لئيم الجدود سوده ال ... مال أبوه وأمه الورق وكم كريم الجدود ليس له ... عيب سوى أنّ ثوبه خلق آخر إذا كنت ذا ثروة من غنى ... فأنت المسوّد في العالم وحسبك من نسب صورة ... تخبرانك من آدم

وقال عبد الرحمن بن عوف حبذا المال أصون به عرضي وأصل به رحمي وأتقرب به إلى ربي وأبر به صديقي وأكمد به عدوي وأفضل به على عشيرتي وقال الثعالبي من كان كيسه صفراً من البيض والصفر فليبشر بجفاء الدهر وانقطاع الظهر وكان محمد بن الجهم يقول من وهب ماله في عمله فهو أحمق ومن وهبه بعد العزل فهو مجنون ومن وهبه من ارثه فهو جاهل ومن وهبه من ملكه فهو مخذول ومن وهبه من كسبه وما استفاده من كده بحيلة فهو المطبوع على قلبه المأخوذ بسمعه وبصره وقال من عهده بالافلاس تقادم محل المال من المنزل محل الشمس في العالم وقال بعض عقلاء الفرس من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه فإذا ثبت صدقه فهو عندي أحمق وقال عمرو بن العاص لمعاوية ما أشد حبك للمال فقال كيف لا أحبه وقد استعبدت به مثلك واشتريت به مروأتك ودينك وقال الحسن بن المنذر وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع بشيء منه قيل له فما ترجو بذلك قال أريده لكثرة من يخدمني عليه ويجلني لأجله وقالوا المال يجمع الشمل ويستر الأهل ويزيد في العقل وقالوا من استغنى عن الناس عظموه ووقروه ومن احتاج إليهم ازدروه واحتقروه وقيل لبعض الحكماء أيما أفضل الأدب أو المال قال الأدب قيل له فما بال الأدباء يأتون أبواب الأغنياء ولا تأتي الأغنياء أبواب الأدباء قال ذلك لعلم الأدباء بمقدار فضل المال وجهل الأغنياء بمقدار فضل الأدب شاعر أصون دراهمي وأذب عنها ... لعمري إنها درعي وترسي وأخبؤها إلى أعدى الأعادي ... من الوراث حتى أبناء جنسي ولا سؤلي إلى رجل لئيم ... ليقرض درهماً نقداً بخمس فيعرض وجهه ويصدّعني ... فتبقى مثل نفس الكلب نفسي فيا ذل الرجال بغير مال ... ولو جاؤا بنسبة آل عبس ابن الرومي لا تلم المرء على بخله ... ولمه إن زاد على بذله حق على كل امرئ حازم ... يحفظ ما يكرم من أجله

ولقد أحسن القائد وأجاد من كان يملك درهمين تعلمت ... شفتاه أنواع الكلام فقالا وتقدّم الاخوان فاستمعوا له ... ورأيته بين الورى مختالا لولا دراهمه التي في كيسه ... لرأيته أسوا البرية حالا إن الغنيّ إذا تكلم بالخطا ... قالوا صدقت وما نطقت محالا وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم ... أخطأت يا هذا وقلت ضلالا إنّ الدراهم في المواطن كلها ... تكسو الرجال مهابة وجلالا فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السنان لمن أراد قتالا والمعين على طلب البغية من المال ... طلب المعيشة في الأيام والليال قال بعضهم لا ترهبنّ الهول خوف منية ... واقذف بنفسك في طلاب الدرهم ودع المخاوف والمتالف إنها ... نفس مؤقتة ورزق يقسم آخر فجب عرض البلاد فلست تدري ... غناك بأيّ آفاق البلاد ولا تقعد على ظما وفقر ... فذو الأقتار ممنوع الرقاد آخر سأضرب في الآفاق التمس الغنى ... وأرمي بنفسي في بحور المطالب فإن أعط مسروراً فداك وإن أخب ... فعلمي بأني لست أوّل خائب آخر إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا وصار على الأهلين كلا وأوشكت ... صلات ذوي القربى بأن تتكسرا

فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا ولا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا آخر لا يمنعنك نفيس العيش تطلبه ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكل بلاد إذ حللت بها ... أهلاً بأهل واخواناً باخوان آخر وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء تجئ بملئها يوماً ويوما ... تجئ بحمأة وقليل ماء آخر ومن كان مثلي ذا عيال مقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلغ عذراً أو ينال غنيمة ... ومبلع نفس قصدها مثل منجح آخر العز تحت ظلال السيف معدنه ... فاطلب بسيفك عزاً آخر الأبد لا ترض بالدون من دنيا بليت بها ... قد ذل من كان محتاجاً إلى أحد آخر خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إنّ الجلوس مع العيال قبيح فالمال فيه مجلة ومهابة ... والفقر فيه مذلة وفضوح

آخر أشدّ من فاقة الزمان ... مقام حر على هوان فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان وإن نبا منزل بحرّ ... فمن مكان إلى مكان وقال فتى من قيس لغلام له اقذف السرج على المه ... ر وقرّطه اللجاما ثم صب الدرع في رأ ... سي وناولني الحساما فمتى أطلب إن لم ... أطلب الرزق غلاما سأجوب الأرض أبغي ... هـ حلالاً أو حراما فلعل الظعن يبقى ال ... فقر أو يدني الحماما آخر ألا خلني أمضي لشأني ولا أكن ... على الأهل كلا إنّ ذاك شديد أرى السير في البلدان يغني معاشراً ... ولم أر من يجدي عليه قعود آخر وقبيح مقام ذي الهمة الحر ... بأرض مرعاه فيها جديب لا عدوّا أنكى ولا النفس أغنى ... وهو راض بها أكول شروب وتراه يجوب في طلب الما ... ل سهوبا وخلفهن شهوب خلبا قلبا إذا ملّ أرضا ... جدّ منها إلى سواها ركوب ليس في فوت ما يحاوله الطا ... لب من رزقه عليه عيوب إنما العيب أن يرى ساقط اله ... مة والرزق طالب مطلوب

الباب الحادي عشر

الباب الحادي عشر في الشجاعة وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في مدح الشجاعة والبسالة وما فيها من الرفعة والجلالة الشجاعة غزيرة في الانسان يمنحها واهب الاحسان كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الشجاعة غريزة يضعها الله فيمن شاء من عباده إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية وحدها قالوا هي سعة الصدر والاقدام على الأمور المتلفة وقالوا الشجاع من تكن من شجاعته عند الفرار وفقد الأنصار وسئل بعضهم عن الشجاعة فقال جبلة نفس أبية قيل له فما النجدة قال ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حتى يحمد فعلها عند الخوف وقال بعض أهل التجارب الرجال ثلاثة فارس وشجاع وبطل فالفارس الذي يشد إذا شدوا والشجاع الداعي إلى البراز والمجيب داعيه والبطل المحامي لظهور القوم إذا ولوا وقال يعقوب بن السكيت في ألفاظه العرب تجعل الشجاعة أربع طبقات تقول رجل شجاع فإذا كان فوق ذلك قالوا بطل فإذا كان فوق ذلك بهمة فإذا كان فوق ذلك قالوا أليس من عرف من الأكابر في قومه بالبأس والنجدة وكان لهم عند الهياج معقلاً وشدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس بن مالك رضي الله عنه كان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وجهاً وأجود الناس كفاً وأشجع الناس قلباً لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق

الناس ثائرين قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً قد سبقهم إلى الصوت وسبر الخبر على فرس لأبي طلحة عرى والسيف في عنقه وهو يقول لن تراعوا لن تراعوا وقال عمران بن الحصن ما لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة قط إلا كان أول من يضرب ومن ذلك ثباته يوم حنين في مركزه لا يتخلخل ولا يتزيل ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وكان المسلمون يومئذ اثني عشر ألفاً فأعجبتهم كثرتهم حتى قال قائلهم لن نغلب اليوم من قلة وزل عنهم إن الله هو الناصر لا كثرة الجنود ولا العساكر فانهزموا حتى بلغ أولهم مكة ثم تدارك الله الملة الاسلامية بنصره فأنزل ملائكة على خيول بلق وتراجع المسلمون فقاتلوا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة قتالهم قال هذا حين حمى الوطيس وهو أول من قال هذه الكلمة ثم أخذ كفاً من تراب فرمى به المشركين وقال شاهت الوجوه فانهزموا قال ابن عباس فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم فناهيك بهذا الثبات شهادة صدق على تناهي شجاعته وبسالته ورباط جأشه وما هو إلا من آيات النبوة وعلامات الرسالة ومما عرف فيه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوة الجأش وثبات القلب وشجاعة النفس والصبر في المواطن الكريهة يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عمر رضي الله عنه كذب بموته وقال ما مات وإنما واعده ربه كما واعد موسى وليرجعنه الله فليقطعن أيدي قوم وأرجلهم يسومون النبي الموت من قال إن محمداً مات علوته بسيفي هذا واعتراه ذهول حتى صار لا يدري أين يذهب وأما عثمان رضي الله عنه فدهش فجعل لا يكلم أحداً فيؤخذ بيده فيقاد وأما علي رضي الله عنه فقعد في البيت لم يبرح منه وكان أبو بكر رضي الله عنه حينئذ غائباً في ناحية من نواحي المدينة على ميل منها تسمى السخ فلما بلغه الخبر جاء حتى دخل عليه وهو مسجى فكشف عن وجهه الكريم وأكب عليه وقبل بين عينيه وقال طبت حياً وميتاً وأعول بالبكاء ثم خرج وهو رابط الجأش ثابت القلب مصيب في القول والناس على خلاف ذلك من الذهول واختلاط العقل وهم في أمر مريج قد ضلت افئدتهم في تيه الحزن وزلت أقدام صبرهم

في مزالق الشجن فصعد المنبر وقال بعد حمد الله والثناء عليه في كلام طويل من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيأً وسيجزي الله الشاكرين فثاب إلى عمر عقله وقال والله لكأني لم أسمع بها قط في كتاب الله قبل ما نزل بنا وقالت عائشة رضي الله عنها في خطبتها التي افتخرت فيها لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع نجم النفاق وارتدت العرب وصار المسلمون كالغنم السارحة في الليلة الماطرة فحمل أبي من الأمر الفخم ما لو حملته الجبال لهافها وما يدري أيما أربط جأشاً وأثبت قلباً في هذا الأمر الشديد والمصاب العتيد أهو رضي الله تعالى عنه أم ابنتاه عائشة وأسماء رضي الله عنهما فأما عائشة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات بين سحرها ونحرها وشاهدت ذلك الهول ثم احتملته فألقته على فراشه وسجته ببردته ولم تدع أحداً من نسائه وأهله يعينها عليه وعمرها إذ ذاك ثماني عشرة سنة ثم بكت بادية بصوت لا يكاد يعدي صاحبه فلما سمع الناس بكاءها وشجنها تحققوا موته ولم تظهر رزية ولا عويلاً ولم تشق جيباً ولم تخمش وجهاً ولم تدع ويلاً وإنما علم الناس موته ببكائها وأما أسماء فإن ولدها عبد الله بن الزبير لما رأى الغلبة دخل عليها وشكا إليها ما آل إليه أمره فقالت إياك أن تنكل أو تفشل ومت كريماً احتسبك عند الله فقال لها ما أخاف الموت وإنما أخاف أن يمثل بي فقالت إن الشاة إذا ذبحت لا تبالي بسلخها وكان عمر رضي الله عنه من الأشداء من الأقوياء موصوفاً بالشدة موسوماً بالحدة والشجاعة والنجدة كان يضع يده اليمنى على أذن فرسه اليسرى ثم يجمع جراميزه ويثب على فرسه فكأنما خلق على متنه وكان علي رضي الله عنه شجاعاً بطلاً ذكر عنه إنه قتل في ليلة الهرير من حرب صفين خمسمائة وثلاثاً وعشرين رجلاً وكان إذا ضرب لا يثني وقيل له إنك مطلوب فلو اتخذت طرفاً سابقاً فقال إني لا أفر على من كر ولا أكر على من فر فالبغلة تكفيني وقيل له في حرب صفين أتقاتل أهل الشأم بالغداة وتطهر لهم بالعشي بازار ورداء فقال أبا الموت أخوف والله لا أبالي أسقطت على الموت أو سقط علي ومن الشجعان الزبير بن العوام قالوا لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فارس أشجع من الزبير ولا راجل أشجع من علي وفي الزبير تقول زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوي تخاطب عمرو بن جرموز لما قتله غدراً بوادي السباعنما خلق على متنه وكان علي رضي الله عنه شجاعاً بطلاً ذكر عنه إنه قتل في ليلة الهرير من حرب صفين خمسمائة وثلاثاً وعشرين رجلاً وكان إذا ضرب لا يثني وقيل له إنك مطلوب فلو اتخذت طرفاً سابقاً فقال إني لا أفر على من كر ولا أكر على من فر فالبغلة تكفيني وقيل له في حرب صفين أتقاتل أهل الشأم بالغداة وتطهر

لهم بالعشي بازار ورداء فقال أبا الموت أخوف والله لا أبالي أسقطت على الموت أو سقط علي ومن الشجعان الزبير بن العوام قالوا لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فارس أشجع من الزبير ولا راجل أشجع من علي وفي الزبير تقول زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوي تخاطب عمرو بن جرموز لما قتله غدراً بوادي السباع غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرّد يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشاً رعش الجنان ولا اليد ومن الشجعان بنو قيلة وهم الأنصار قال ابن عباس ما سلت السيوف ولا زحفت الزحوف ولا أقيمت الصفوف حتى أسلم أبناء قيلة يعني الأوس والخزرج وهم الأنصار وصفهم مادح فقال كانوا يحبون الموت كما تحبون الحياة ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع يريد أنهم يريدون بقتالهم وجه الله والدار الآخرة فلا تميل نفوسهم إلى ما يقسم من الفئ والغنيمة رغبة فيما هم بصدده من إعلاء كلمة الاسلام وإخفاء ما ظهر من شرك عبدة الأصنام فهم يكثرون إذا دعوا للقتال ويقلون عند قسم الأنفال قال كعب بن زهير يمدحهم من سره كرم الحياة فلا يزل ... في عصبة من صالح الأنصار الباذلين نفوسهم لنبيهم ... يوم الهياج وصفوة الجبار يتطهرون كأنه نسك لهم ... بدماء من علقوا من الكفار

ومن الشجعان معاذ بن عفراء قطع كفه يوم بدر فبقي معلقاً بجلدة بطنه فلم يزل يقاتل يومه أجمع وهو معلق حتى وجد آلمه فوضع رجله على يده وتمطى حتى قطع الجلدة وحمل رجل على حكيم بن جبلة في يوم من أيام حرة وقد قطع ساقه فأخذها في يده وضرب بها من قطعها فصرعه ثم أتاه واتكأ عليه فقتله وقال مرتجزاً يا ساق لن تراعي إن معي ذراعي أحمي به كراعي وحكي عنه أنه قيل له من قطع ساقك قال وسادتي ولم يكن في الجاهلية ولا في الاسلام أشجع من خالد بن الوليد رضي الله ولشجاعته سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله وذلك أنه لم ينهزم في جاهلية ولا اسلام ومات على فراشه ويقال إنه قال عند موته ما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو جرح بسهم وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء ومن شجعان الصحابة البراء بن مالك قيل عنه إنه قتل مائة مبارز سوى من شورك في قتله وكتب عمر بن الخطاب إلى عماله أن لا يولوه جيشاً للمسلمين فإنه يهلكه ومن شجعان الصحابة طلحة بن عبيد الله وحارثة بن حذيفة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود يروى أن عمرو بن العاص بعت إلى عمر بن الخطاب وهو يحاصر مصر يطلب سنه ثلاثة آلاف فارس فبعث إليه حارثة والزبير والمقداد لا غير أقام كل واحد منهم مقام ألف فارس رضي الله تعالى عنهم أجمعين وكان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف شجاعاً ذكر عنه أنه كان يثب ثلاث وثبات كل وثبة ثنتا عشرة ذراعاً حتى يصل إلى قرنه فيقتله ومن الفرسان مالك بن الحويرث المعروف بالاشتر النخعي من أصحاب علي رضي الله عنه قال أبو بكر بن أبي شيبة أعطت عائشة للذي بشرها بحياة عبد الله بن الزبير بن العوام إذ التقى بالأشتر يوم الجمل أربعة آلاف درهم ذكران

رجلاً سب الأشتر فقال له رجل من النخع اسكت فإن حياته هدمت أهل الشأم وموته هدم أهل العراق ومن الشجعان مصعب بن الزبير سأل عبد الملك يوماً جلساءه من أشجع الناس فعدوا جماعة فقال أشجع الناس من العرب من ولي العراق فأصاب الف ألف وألف ألف وعدها مراراً وجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسن وأم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وهند بنت ريان سيد كلب فخذله أهل العراق فأعطيناه الأمان على ما شاء فقال إن مثلي لا ينصرف إلا غالباً أو مقتولاً وقاتل حتى قتل والله لا ولدت النساء مثله وقال أخوه عبد الله لما بلغه قتله أن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه وإنا لا نموت حتفاً ولكن نموت بين أطراف الرماح وتحت ظلال الصفاح وقال الزبير بن بكار آل الزبير أعرق الناس في القتل ولا يعرف في العرب ولا في العجم ستة مقتولون في نسق إلا من آل الزبير وهم عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير ابن العوام بن خويلد قتل عمارة وحمزة معاً في حرب الأباضية وقتل مصعب بدير الجاثليق وقتل محمد أخوه في حرب الجمل وقتل عبد الله بمكة في حرب الحجاج ولما قتل عبد الله أمر الحجاج بشق صدره فإذا فؤاده مثل فؤاد الجمل فكان إذا ضرب به الأرض ينزو كما تنزو المثانة المقطوعة وقتل الزبير بوادي السباع في حرب الجمل وقتل العوام في الفجار قتله بشر بن عبد الله بن دهمان الثقفي وقتل خويلد في حرب خزاعة وقيل لعبد الملك من أشجع الناس فقال العباس بن مرداس الذي يقول فيه الشاعر أشدّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها وقيس بن الحطيم حيث يقول وإني في حرب العوان موكل ... باقدام نفس لا أريد بقاءها

ومن فرسان الخوارج قطري بن الفجاءة ويكنى أبا نعامة وخرج زمن مصعب ابن الزبير لما كان مصعب والياً على العراق من قبل أخيه عبد الله بن الزبير سنة ست وثلاثين وفي هذه السنة بويع عبد الله أخوه وعبد الملك بن مروان بالشأم فبقي قطري عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة ذكر عنه إنه مر في بعض حروبه على فرس أعجف وبيده عمود خشب فدعا إلى البراز فبرز له رجل فحسر له عن وجهه فلما رآه الرجل ولي عنه فقال له قطري إلى أين قال لا نستحي أن نفرعنك وكذلك كان عبد الله بن حازم وشبيب الحروري يصيح في جنبات الجيش فلا يلوى أحد على أحد وفيه يقول بعض شعراء الخوارج في الجاهلية إن صاح يوماً حسبت الصخر منحدراً ... والريح عاصفة والبحر يلتطم ومن شجعان العرب وفرسانهم الفند الزماني كان يقاس بألف ذكر أنه حمل على فارس مردوف بآخر فطعنهما فانتظما في رمحه وقال شاعر يمدح شجعان العرب فواحدهم كالألف بأساً ونجدة ... والفهم للعرب والعجم قاهر وليس نظم الفند فارسين في طعنة بكبير فقد فعل مثل هذه الفعلة أبو دلف في بعض حروبه وفيه يقول بكر بن النطاح يذكر طعنته من أبيات وإذا بدا لك قاسم يوم الوغى ... يختال خلت أمامه قنديلا وإذا تلوذ بالعمود ولونه ... خلت العمود بكفه منديلا وإذا تناول صخرة ليرضها ... عادت كثيباً في يديه مهيلا قالوا أينظم فارسين بطعنة ... يوم اللقاء ولا تراه كليلا لا تعجبوا لو كان مدّ قناته ... ميلاً إذا نظم الفوارس ميلا

ومما يعد من شدة الشجعان الأبطال رفض التواني بالمناجزة ودفع المطال قالوا العزم التأهب قبل الأمر والحزم المضئ فيه وقالوا الحزم انتهاز الفرصة عند تمكن القدرة وترك التواني فيما يخاف فيه الفوت وقال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز ما العزيمة في الأمر قال اصداره إذا ورد بالحزم شاعر ليست تكون عزيمة ما لم يكن ... معها من الحزم المشيد رافع وقالوا من لم يقدمه عزمه أخره عجزه وقالوا الحازم من اشتدت شكيمته وقعدت عزيمته وقالوا الحرب كالنار إذا تداركت أولها خمد ضرامها وإن استحكم أمرها صعب مرامها ويقال قبل الاقدام تراش السهام والعجز عجزان عجز التقصير وقد أمكن والجد في طلبه وقد فات تمثل المنصور عند قتله لأبي مسلم الخراساني إذا كنت ذا رأى فسكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن يتردّدا ولا تمهل الأعداء يوماً بقدره ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا ولآخر ما العزم أن تشتهي شيأً وتتركه ... حقيقة العزم منك الجد والطلب كم سوفت خدع الآمال ذا أرب ... حتى انقضى قبل أن ينقضي له الأرب وقالوا من تفكر في العواقب لم يشجع في النوائب وجد على سيف مكتوب أيها المقاتل احمل تغنم ولا نفكر في العواقب تندم شاعر

خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزة ... حتى تباشرها منه بتغرير لن يبلغ المرء بالاحجام همته الرياشي وعاجز الرأي مضباع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا ويقال مفتاح الدعة مفتاح البؤس أبو دلف العجلي ليس المروأة أن تبيت منعما ... وتظل معتكفاً على الأقداح ما للرجال وللتنعم إنما ... خلقو اليوم كريهة وكفاح وقالوا زوج العجز التواني فأنتج بينهما الحرمان قال المعافي في مثل ذلك إنّ التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا فراشاً وطيأً ثم قال له اتكى ... رويد كما لا شك أن تلدا فقرا وقالت الحكماء الحزم طبع الحياة والعجز طبع الموت والنفس لا تحب أن تموت فكذلك تحب أن تحيا وأخذ الشيء بالحزم لا بالعجز المتنبي ولو أنّ الحياة تبقى لحيّ ... لوددنا ضلالنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بدّ ... فمن العجز أن تكون جبانا وقالوا أشعر قلبك الجراءة فإنها سبب الظفر وأحرص على الموت توهب لك الحياة وقال أكثم بن صيفي من التواني والعجز أنتجت الهلكة وقالوا التفكر في عواقب الحرب من امارات العجز والتهور فيه من علامات الجزع

أبو عبادة مادحاً صار الحزم ما مضى العرّم ساري ال ... فكر ثبت الجنان صلب العود آخر مادحاً ويلحظ بالأمر الصواب كأنما ... يلاحظه من كل أمر عواقبه وقال حكيم تجرع من عدوك الغصة إلى أن تجد الفرصة فإذا وجدتها فانتهزها قبل أن يفوتك الدرك أو يعينه الفلك فإنما الدنيا دول تقلبها الأقدار ويهدمها الليل والنهار ولما أحيط بمروان بن محمد الجعدي قال والهفاه على دولة ما نصرت وكف ما ظفرت ونعمة ما شكرت فقال له بعض كماته وكان من أشراف الروم فوقع عليه سبي من أغفل الصغير حتى يكبر والقليل حتى يكثر والخفي حتى يظهر أصابه هذا ومن الأبيات في انتهاز الفرصة ... وتفريج الغصة قول بعضهم يا ابنة القوم ما تريدين مني ... صارمي منطقي ووجهي مجني ما يزور الكرى جفوني إلا ... جسوة الطائر الذي لا يثني فعلوى إذا استقلّ بعزم ... لم يعرّج بليتني ولواني آخر حلفت لان ألقى الشدائد كلها ... ومالي بأن ألقى الهوان يدان تذكرت إني هالك وابن هالك ... فهانت عليّ الأرض والثقلان فدع كل شيء خالف العزم إنه ... سيكفيكه جد إن معتلجان وما يدرك الحاجات مثل مثابر ... ولا عاق عنها النجح مثل توان أبو نصر بن أحمد الميكالي قالوا تمهل في الذي ترتجي ... بلوغه من نافع الأمر قلت التأني مظفر بالمنى ... لكنه يجحف بالعمر

آخر على كل حال فاجعل الحزم عدة ... لما أنت باغيه وعوناً على الدهر فإن نلت أمراً نلته عن عزيمة ... وإن قصرت عنك الحظوظ فعن عذر إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب حاجبا ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا آخر إذا فرصة أمكنت في العدى ... فلا تبد فعلك إلا بها فإن لم تلج بابها مسرعاً ... أتاك عدوّك من بابها ومن ممادح من عرف في قومه بالشجاعة ومد إلى قطف الرؤس سيفه وباعه قالوا فلان أبلغ صولة من أسد العرين وأشد منعة من الحصن الحصين وصف أعرابي رجلاً بالشجاعة فقال هو ابن الحرب أرضع بدرها وربى في حجرها وسئل أعرابي عن قومه فقال كانوا والله إذا اصطفوا تحت القتام صغرت بينهم السهام بشؤبوب الحمام وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت أفواهها الحتوف فرب يوم شموس أحسنت أدبه عزمتهم وحرب عبوس أضحكتها أسنتهم ومدح أعرابي قومه فقال قومي والله ليوث حرب وغيوث جدب ليس لأسيافهم أغماد غير الهام ولا رسل للمنايا غير السهام وقالوا فلان يبادر

المهل مبادرة الأجل الأمل أطراف الأسل أحلى عنده من لعق العسل ابن شرف القيرواني فلان قلبه يخرجه عن القلب وصرامته تقتاده إلى مكان الطعن والضرب رماحه نجوم ظلام القتام وسهامه رجوم شياطين الأنام لا ترد حاجته مواضيه ولا تمطله المغافر المنية عند تقاضيه شاعر مادحاً يلقى السيوف بوجهه وبنحره ... ويقيم مهجته مقام المغفر ما إن يريد إذا الرماح شجرنه ... ذرعاً سوى سربال طيب العنصر ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا ... فعقرت ركن المجد إن لم تعقر أبو الفرج يسعى إلى الموت والفنا قصد ... وخيله بالرؤس تنتعل كأنه واثق بأنّ له ... عمراً مقيماً وماله أجل آخر كأنّ سيوفه صيغت عقوداً ... تجول على الترائب والنحور وسمر رماحه جعلت هموماً ... فما يخطرن إلا في ضمير البحتري مادحاً يلقى السيوف بوجه منه ليس لها ... ظهر وهادي جواد ماله كفل يسعى به البرق إلا أنه فرس ... في صورة الموت إلا أنه رجل مسلم بن الوليد لو أن قوماً يخلقون منية ... من بأسهم كانوا بني جيريلا قوم إذا حمى الوطيس لديهم ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا

ولآخر وحامي بلاد الله من كل مارق ... له الطير ضيف والوحوش وفود مليك له زهر النجوم أسنة ... إذا أمّ أفقاً والسحاب بنود آخر عقبان روع والسروج وكورها ... وليوث حرب والفنا آجام وبدور تمّ والترائك في الوغى ... هالاتها والسائرون غمام جادوا بممنوح التلاد وجودوا ... ضرباً بجديه الطلى والهام وتجاوبت أسيافهم وجيادهم ... فالأرض تمطر والسماء تغام البحتري معشراً أمسكت حلومهم الأر ... ض وكادت لولاهم أن تميدا فإذا الجدب جاء جاد واغيوثا ... وإذا النقع ثار ثاروا أسودا وكأنّ الإله قال لهم في ال ... حرب كونوا حجارة أو حديدا آخر إن ترد خبر حالهم عن يقين ... فاتهم يوم نائل أو نزال تلق بيض الوجوه سود مثار الن ... قع خضر الأكتاف حمر النصال آخر قوم شراب سيوفهم ورماحهم ... في كل معترك دم الأشراف رجعت إليهم خيلهم بمعاشر ... كل لكل جسيم أمر كافي يتحننون إلى لقاء عدوّهم ... كتحنن الآلاف للإيلاف ويباشرون ظبا السيوف بأسهم ... أمضى وأقطع من مضي الأسياف

الفصل الثاني من الباب الحادي عشر

جبلت على سفك الدماء نفوسهم ... وأكفهم جبلت على الاتلاف فإذا هم صدموا العدوّ بصارم ... خضبوا الأسنة من دم الأطراف فنفوسهم تفني نفوس عداتهم ... وعطاؤهم يغني سؤال العافي الفصل الثاني من الباب الحادي عشر في ذكر ما وقع في الحروب من شدائد الأزمات والكروب قال بعض الحكماء جسم الحرب الشجاعة وقلبها التدبير ولسانها المكيدة وجناحاها الطاعة وقائدها الرفق وسائقها النصر وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن معد يكرب رضي الله عنهما صف لنا الحرب فقال مرة المذاق صعبة لا تطاق إذا شمرت عن ساق من صبر لها عرف ومن نكل عنها تلف ثم أنشد الحرب أوّل ما نكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا حميت وشدّ ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات حليل شمطات جدّت رأسها وتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل وقيل لبعضهم صف لنا الحرب فقال أولها شكوى وأوسطها نجوى وآخرها بلوى تذاكروا الحروب عند معاوية فقال بدراً على واحد لطلحة والخندق للزبير حنين للعباس بن مرداس وأنا ذاكر من الحروب الواقعة في صدر الاسلام بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام أربعة وهي الجمل وصفين ويوم الحرة ويوم كربلا إذ هذه الحروب أشد الوقائع طعاناً وضراباً وأعظمها في الدين فجيعة ومصاباً لما قتل فيها من كبار آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وعظماء أهل بيته وقرابته الجمل مبتدؤها أن طلحة والزبير خرجا مغاضبين لعلي رضي الله عنه بعد أن بايعاه لما هجس في نفوسهما من أن علياً رضي الله عنه هو الذي ألب على قتل عثمان رضي الله عنه حتى قتل وإن قتله كان عن رضا منه فقد ما مكة على عائشة رضي

الله عنها وكانت قد خرجت من المدينة قبل قتل عثمان فاجتمعا يوماً عند عائشة رضي الله عنها في رجال من بني أمية فتذاكروا قتل عثمان ورغبوا عائشة في طلب الثار فاعتذرت إليهم بقلة ذات يدها فقال يعلى بن منية ومنية اسم أمه وكان عاملاً لعثمان على اليمن عندي أربعمائة ألف درهم مساعدة لكم وخمسمائة فارس أجهزها وقال عبد الله بن عامر بن كريز وكان عاملاً لعثمان على البصرة عندي ألف ألف درهم ومائة من الابل وأشار عليهم بالبصرة ثم نادى مناد بالتحريض على طلب دم عثمان فاجتمع لهم ألف منهم ستمائه على النوق وسواهم على الخيل والبغال ووهب يعلى بن منية الجمل وكان يدعى عسكراً وعمل عليه هو دجا من حديد ثم إنهم دخلوا طالبين البصرة وكان علي رضي الله عنه قد بلغه خبرهم وهو في المدينة فخرج منها في تسعمائة فيهم سبعون بدرياً ووصلت عائشة البصرة بمن معها وكانوا زهاء ثلاثة آلاف فمنعهم عثمان بن حنيف عامل علي من دخولها فأخذوها منه بعد حرب وقعت بينهم قتل فيها كل من خرج يطلب قتل عثمان أو أعان عليه إلا رجل واحد يسمى حرقوص بن وهب فإن بني سعد منعته وأخذوا عثمان بن حنيف فنتفوا لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه فجاء علياً رضي الله عنه وقال يا أمير المؤمنين بعثتني بلحية وجئتك أمرد أو كان عثمان بن حنيف من كبار الصحابة وبايع أهل البصرة طلحة والزبير ووصل علي إلى الكوفة فاستنجدهم فأنجدوه باثني عشر ألف رجل وسار حتى وصل إلى جانب البصرة فنزل وأقام تلك الليلة ثم ناشدهم الله في الدماء فأبوا إلا القتال فخرج علي رضي الله عنه وهو راكب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقى الجمعان فكان أول من قتل طلحة وانهزم الزبير فلحقه ثلاثة نفر منهم عمرو بن جرموز السعدي بوادي السباع عدوا فقتله وهو ساجد وقيل نائم غيلة ووادي السباع برقة واسط بين البصرة والكوفة وفيه يقول جرير بن عطية بن الخطفي عاتباً على بني مجاشع قتل الزبير اني تذكرني الزبير حمامة ... تدعو ببطن الواديين هديلا قالت قريش ما أذل مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا لو كنت حرّا يا ابن قين مجاشع ... شيعت ضيفك فرسخاً أو ميلا

أفبعد قتلكم خليل محمد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا أفتى الندى وفتى النزال غدرتم ... وفتى الرماح إذا تهب بليلا لو كنت حين غدرت بين بيوتنا ... لسمعت من صوت الرماح صليلا وحماك كل معاور يوم الوغى ... ولكان شلو عدوّك المأكولا وقتل محمد بن الزبير وجرح عبد الله أخوه سبعاً وثلاثين جراحة وأطاف بنو ضبة والأزد بالجمل واقبلوا يرتجزون نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... ننزل بالموت إذا الموت نزل والموت أحلى عندنا من العسل ... تبغي ابن عفان بأطراف الأسل فقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضبة فلما التحمت الحرب واستعرت نارها نادى علي رضي الله عنه اعقروا الجمل فانه إن عقر تفرقوا فعقره عمرو ابن دلجة وأخذته السيوف من كل جانب حتى وقع وقتل حوله خلق كثير ومال الهودج وسمع صارخ يقول راقبوا الله في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي لابنه الحسن هلكت قال قد نهيتك عن مسيرك قال لم أكن أرى أن الأمر يصير إلى هذا وجاء أعين بن ضبيعة حتى اطلع في الهودج فقال ما أرى إلا خيراً قالت هتك الله سترك وأبدى عورتك فقتل بعد ذلك بالبصرة وصلب وقطعت يداه ورجلاه ورمى به عرياناً في خربة من خراب الأزد وقيل إن علياً لما وقف عليها ضرب الهودج بقضيب وقال يا حميراء ارسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا ألم يأمرك أن تقري في بيتك والله ما انصفك الذين أخرجوك إذ صانوا حلائلهم وابرزوك فيقال إنها قالت له قد ملكت فأسحج ثم أمرها بالمسير وأذن لأصحابها أن يسافر معها من أراد السفر فسافر بعض وبقي بعض وقال البلادري في تاريخه إن علياً رضي الله عنه أعطاها حين أشخصها إلى مكة عشرة آلاف درهم ورجعت إلى مكة يوم السبت غرة رجب سنة ست وثلاثين وشيعها علي أمياً لا وقصدت مكة فأقامت بها إلى الحج ثم خرجت إلى المدينة وكانت الوقعة في الموضع المعروف بالحربية لعشر خلون من جمادي الآخرة وقيل في يوم الجمعة النصف من جمادي الأولى وعدة من قتل يوم الجمل ثمانية آلاف

رجل من أصحاب عائشة وألف من أصحاب علي رضي الله عنهم أجمعين وفي وقعة الجمل يقول عثمان بن حنيف شهدت الحروب فشيبنني ... ولم أر يوماً كيوم الجمل أشدّ على مؤمن فتنة ... وأقتل منه لحرّ بطل فليت الظعينة في بيتها ... وليتك عسكر لم ترتحل يعني الجمل الذي كانت عليه عائشة وحكى أبو طالب المكي في القوت أن علياً رضي الله عنه قال لابنه محمد بن الحنفية وقد قدمه امامه يوم الجمل أقدم اقدم ومحمد يتأخر وهو يكرهه بقائم الرمح فالتفت إليه محمد وقال هذه والله الفتنة المظلمة العمياء فوكزه علي رضي الله عنه بالرمح وقال له تقدم لا أم لك أتكون فتنة أبوك قائدها وسائقها صفين ولما فرغ علي رضي الله عنه من حرب الجمل وانصرف إلى الكوفة بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يخيره بين حرب معضلة أو يسلم بجزيه فان اختار الحرب فانبذ إليه على سواء إن الله لا يحب الخائنين وإن اختار السلم فخذ بيعته وارجع فلما بلغ جرير الرسالة إلى معاوية أرسل إلى عمرو بن العاص فلما حضره أعلمه بما أتى فيه جرير فقال له أما علي فوالله لا تسوي العرب بينك وبينه في شيء وإن له في الحرب لحظاً ما هو لأحد في قريش قال صدقت ولكنا نقاتل على ما بأيدينا ونلزمه قتل عثمان ثم قال له مديدك وبايعني فقال والله لا أعطيك شيأً من ديني حتى آخذ من دنياك ويقال بل أنشده معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... لديك بدنيا فانظرن كيف تصنع فان تعطني مصراً فأربح بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع فأعطاه مصر طعمة وكتب له بذلك شروطاً وأشهد عليه شهوداً فبايعه عمرو بن العاص وتعاهدوا على الوفاء وكتب معاوية إلى علي بأن لا طاعة له

عليه فلما ورد جرير على علي بما كتب إليه معاوية أمر الناس بالخروج إلى صفين لقتال معاوية فاجتمع له من الخيل تسعون ألفاً فيهم سبعون بدرياً وممن بائع تحت الشجرة سبعمائة ومن المهاجرين والأنصار أربعمائة وذلك لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين وبلغ معاوية خروج علي فجمع من الجنود خمسة وثمانين ألفاً وقيل مائة وعشرين الفاً وسبق علياً إلى صفين فنزل على موضع سهل أفيح معشب قريب من الفرات ونزل علي على مواضع بعيدة من الماء والعشب فبات وجيشه عطاش قد حيل بينهم وبين الماء فأشار عمرو على معاوية أن يمكن علياً من ورود الماء فقال لا والله أو يموتوا عطشاً كما مات عثمان فاشتكى أصحاب علي العطش فأمرهم بالمسير وقدم عليهم الأشتر والأشعث بن قيس فساروا وعلي من وراء الجيش حتى هجموا على عسكر معاوية فأزالوهم عن الشريعة وغرق منهم خلق كثير وارتحل معاوية إلى ناحية من البر بعيدة من الماء وأرسل إلى علي يستأذنه في استفاء الماء من طريقه فأذن له وأجابه إلى ذلك ثم بعث علي إلى معاوية يدعوه إلى اجتماع الكلمة وحقن الدماء وطالت المراسلة بينهما فاتفقا على الموادعة إلى آخر المحرم من سنة سبع وثلاثين فلما كان آخر المحرم كتب علي إلى أهل الشأم يحذرهم الوقوع في الهلكة فأبوا إلا الحرب والقتال حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فعبى علي جيشه يوم الأربعاء مستهل صفر وقدم عليهم الأشتر وتصاف أهل الشأم والعراق ووقع القتال بينهم فكان هذا دأبهم في كل يوم إلى السابع من صفر وفيه قتل عمار بن ياسر من أصحاب علي قتله أبو العادية العاملي وله من العمر ثلاث وتسعون سنة وكان في حرب صفين خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين مع علي كافاً سلاحه فلما قتل عمار خرج يطلب المبارزة وهو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار يا عمار تقتلك الفئة الباغية ثم كانت بينهم حرب أخرى قتل فيها ذو الكلاع وعبيد الله بن عمار ثم كانت بعد ذلك ليلة الهرير قتل فيها خلق كثير

وكانت ليلة جمعة فلما رأى معاوية ان قد فشا القتل في أصحابه قال لعمرو بن العاص هلم مخبأتك فقد هلكنا وذكره ولاية مصر فأمر أن ترفع المصاحف وان يقال ما فيها حكم بيننا وبينكم يا أهل العراق فرفعوها وكانت زهاء خمسمائة مصحف ونادوا من لثغور الشأم بعد أهل الشأم ومنل ثغور العراق بعد أهل العراق من لجهاد الروم والترك فعند ذلك اختلف أصحاب علي فمنهم من أراد القتال ومنهم من أراد الكف فقال علي رضي الله عنه بالأمس كنت أميراً وأصبحت اليوم مأموراً ثم أرسل الأشعث بن قيس إلى معاوية يسأله لأي شيء رفعت المصاحف قال لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه تبعثون رجلاً منكم ترضونه ونبعث رجلاً منا نرضاه ليعملا فينا بكتاب الله ونتبع ما اتفقا عليه فقال الأشعث هذا هو الحق وانصرف إلى علي وأخبره بما قال معاوية فقال الناس رضينا فاختار أهل الشأم عمرو بن العاص واختار أهل العراق أبا موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس واختار علي عبد الله بن عباس فقالوا والله لا نريد إلا رجلاً هو من معاوية ومنك على السواء قال فاصنعوا ما أردتم فجمعوا بين عمرو بن العاص وأبي موسى وأخذوا عليهما العهد والميثاق أن لا يخونا وأخذ الحكمان من علي ومعاوية والحسنين المواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأن يكون منهم المبايعة على ما يرضيانه ثم خرجا واجتمعا في دومة الجندل في شهر شعبان سنة ثمان وثلاثين فقال عمرو لأبي موسى إن هذه الفتنة لا تزال قائمة ما دام واحد من هذين الاثنين متولياً إمرة المسلمين فقال أبو موسى فما ترى قال أرى أن يصعد كل واحد منا المنبر ويخلع صاحبه وندعها شورى بين المسلمين يولون أمرهم من أرادوا فأجابه إلى ذلك وتقدم أبو موسى وصعد المنبر وقال أيها الناس انا نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر اجتمع رأيي ورأي عمرو عليه وهو أن يخلع كل واحد منا صاحبه ويجعل أمر المسلمين إليهم يولون عليهم من أحبوا وإني خلعت علياً فاستقبلوا أمركم وولوا من شئتم ونزل ثم صعد عمرو فحمد الله وأثنى عليه قال قد قال أبو موسى ما سمعتم من خلع صاحبه وإني خلعته كما خلعه وأثبت معاوية كما أثبت حميلة سيفي هذا في عنقي فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق والله بمقامه ثم نزل فاختلف عند ذلك كلمة الجيشين فلما رأى علي اختلافهما رحل قاصداً الكوفة ولحق معاوية بدمشق وانصرف عمرو بأهل الشأم بعد ذلك إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة وبايعوه فكان علي رضي الله عنه بالعراق ومعاوية بالشأم إلى سنة أربعين وفي هذه السنة قتل علي رضي الله عنه في رمضان وهو ابن اثنتين وستين سنة وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا شهراً واحداً ومدة ولاية معاوية أربعين سنة منها أميراً على الشأم لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان عشرون سنة وخليفة عشرون سنة وتوفي سنة ستين ولما انفصل أهل الشأم وأهل العراق من هذه الحروب رجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه إذا صلى الغداة لعن معاوية وعمراً وأصحابه فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس وحسناً وحسيناً والأشتر ولم يزل الأمر على ذلك برهة من ملك بني أمية إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة فمنع من ذلك وجعل مكان اللعن في الخطبة ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم وقتل بصفين من أهل العراق والشأم في مدة مائة يوم وعشرة أيام مائة ألف وعشرة آلاف وقيل سبعون ألفاً من أهل الشأم خمسة وأربعون ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً والله أعلم وكانت الوقائع تسعين وقعة وعدة من حضر في صفين من أهل الشأم مائة وعشرون ألفاً ومن أهل العراق مائة ألف وعشرة آلاف فيكون جملة الفريقين مائتي ألف وثلاثين ألفاًبت حميلة سيفي هذا في عنقي فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق والله بمقامه ثم نزل فاختلف عند ذلك كلمة الجيشين فلما رأى علي اختلافهما رحل قاصداً الكوفة ولحق معاوية بدمشق وانصرف عمرو بأهل الشأم بعد ذلك

يوم كربلاء

إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة وبايعوه فكان علي رضي الله عنه بالعراق ومعاوية بالشأم إلى سنة أربعين وفي هذه السنة قتل علي رضي الله عنه في رمضان وهو ابن اثنتين وستين سنة وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا شهراً واحداً ومدة ولاية معاوية أربعين سنة منها أميراً على الشأم لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان عشرون سنة وخليفة عشرون سنة وتوفي سنة ستين ولما انفصل أهل الشأم وأهل العراق من هذه الحروب رجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه إذا صلى الغداة لعن معاوية وعمراً وأصحابه فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس وحسناً وحسيناً والأشتر ولم يزل الأمر على ذلك برهة من ملك بني أمية إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة فمنع من ذلك وجعل مكان اللعن في الخطبة ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم وقتل بصفين من أهل العراق والشأم في مدة مائة يوم وعشرة أيام مائة ألف وعشرة آلاف وقيل سبعون ألفاً من أهل الشأم خمسة وأربعون ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً والله أعلم وكانت الوقائع تسعين وقعة وعدة من حضر في صفين من أهل الشأم مائة وعشرون ألفاً ومن أهل العراق مائة ألف وعشرة آلاف فيكون جملة الفريقين مائتي ألف وثلاثين ألفاً يوم كربلاء لما بويع يزيد بالخلافة وذلك في رجب سنة ستين خرج الحسين كارهاً للبيعة من المدينة إلى مكة فبلغ أهل الكوفة امتناعه فكتبوا إليه يحرضونه على المسير إليهم ويعرفونه بأنهم شيعته وشيعة أهل بيته وأنهم يقاتلون عدوه حتى يقتلوا أنفسهم دونه فقدم الكتاب على الحسين لعشر خلون من رمضان سنة ستين فبعث إليهم مسلم بن عقيل بن أبي طالب للمبايعة له فبايعوه فكتب بذلك عامل الكوفة من قبل يزيد وهو عبد الله بن مسلم إلى يزيد يعلمه بذلك فلما بلغ يزيد ذلك عقد لعبيد الله بن زياد بولاية الكوفة وأمره بقتل مسلم بن عقيل فسار حتى

دخل الكوفة على حين غفلة من أهلها وهو ملتئم يظنونه الحسين فجعل لا يمر على ملا من الناس إلا قالوا مرحبا بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت خير مقدم فلما سمع مقالتهم حسر لهم عن وجهه فلما رأوه داخلهم كآبه وحزن وخاف مسلم على نفسه فاستجار بهانئ بن عروة فأرسل إليه عبيد الله يطلبه منه فقال لا أسلم إليك من استجار بي ظناً منه أن قومه سيمنعونه منه فتوعده وتهدده فقال والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتهما عنه فاصنع ما بدا لك فضربه على وجهه فأدماه وهشم أنفه وأمر به فحبس فلما بلغ مسلم ابن عقيل ذلك أمر أن ينادي في أصحابه وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفاً فاجتمع حول داره منهم أربعة آلاف فجاء الصارخ بذلك إلى عبيد الله فخرج من المسجد إلى القصر فزعاً مسرعاً وأغلق أبوابه وأحاط مسلم بن عقيل به فيمن معه من كل ناحية ولم يكن مع عبيد الله في القصر إلا ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون من أشراف الناس فبينما هم كذلك إذ أقبل كثير بن شهاب فيمن أطاعه من مذحج فنادى أيها الناس ألحقوا بأهاليكم ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فان هذه جيوش أمير المؤمنين يد مقبلة وقد أقسم الأمير عبيد الله لئن لم ترجعوا عن حربه ليأخذن البرئ بالسقيم والغائب بالحاضر حتى لا يبقى منكم باقية فتفرق الناس وجعل الرجل يخوف أخاه بجند الشام والمرأة تخوف ولدها فأمسى مسلم بن عقيل ومعه ثلاثون ألفاً فخرج متوجهاً نحو أبواب كندة فما بلغ الأبواب ومعه عشرة ثم خرج من الأبواب وما معه انسان فمضى على وجهه لا يدري أين يذهب فالتجأ إلى دار امرأة تسمى طوعة فمنعته الجلوس على بابها ولم تكن تعرفه فقال لها افعلي معي معروفاً لعلي أكافئك عليه بعد قالت وما ذاك قال أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغروني فرقت له وحنت عليه وأخذت بيده وأدخلته دارها وكانت للأشعث بن قيس فلما كان الغد صعد عبيد الله بن زياد المنبر فحمد الله على انتصاره ثم قال برئت الذمة ممن وجدنا مسلم بن عقيل في داره ومن جاء به فله ديته فقام محمد بن الأشعث وقال إن بلال بن أسيد أخبرني إن عقيل بن مسلم عند أمه فقال قم وأتني به فقام ابن الأشعث في ستة عشر رجلاً حتى أتوا الدار فلما سمع مسلم وقع حوافر الخيل نهض إليهم بسيفه فاقتحموا عليه الدار فضربهم حتى أخرجهم وخرج خلفهم مصلتاً سيفه ومانعاً عن نفسه فقال له ابن الأشعث يا فتى لا تقتل نفسك ولك الأمان وهو يدافع عن

نفسه ويقول أقسم لا أقتل إلا حرّا ... وإن رأيت الموت شيأً نكرا كل امرئ يوماً ملاق شرّا ... أخاف أن أكذب أو أغرّا فقال ابن الأشعث لا تكذب ولا تغر أنا زعيمك بالوفاء والذمام فلما ألقى سلاحه تواثبوا عليه وأخذوه وحمل إلى عبيد الله فقال له يا فاسق إن نفسك منتك ما حيل بينك وبينه قتلني الله إن لم أقتلك قتله لم يقتلها أحد قبلك في الاسلام ثم أمر كثير بن حمران الأحمري أن يصعد به إلى سطح القصر وأن يرمي به ففعل فلما فعل به كذلك لم يمت فأمر بضرب عنقه فضربت ثم ضرب رقبة هانئ بعده وصلبت جثة مسلم وحمل رأسه إلى دمشق وكان قتل مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين وفي ذلك اليوم خرج الحسين من مكة قاصداً نحو الكوفة بعد ما وصله كتاب مسلم يخبره فيه أن أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي فاني قد بايعتهم لك فبينما هو سائر بأصحابه نحو الكوفة إذ مر به رجل من أهلها فسئل عما وراءه فذكر أنه لم يخرج منها حتى قتل مسلم وهانئ ورآهما يجران بأرجلهما في السوق فهم بالرجوع فقال له بعض أصحابه والله ما أنت كمسلم ولو قدمت الكوفة لكان الناس أسرع إليك من السيل في المكان المنحدر فسار وإذا طلائع خيل قد أقبلت نحوه فنزل الحسين وأمر بالأخبية فضربت وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد اليربوعي وكان نازلاً على القادسية ينتظر قدوم الحسين فلما اجتمعا قال له الحر ما الذي أقدمك العراق قال له والله ما خرجت حتى أتتني كتبكم مع رسلكم فقال له الحر والله ما ندري ما هذه الكتب وقد أمرنا انا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة فقال ثكلتك أمك الموت دون ما قلت فقال الحر لو غيرك قالها من العرب ما تركت ذكر أمه وإذ قد أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة فأبى وسار والحر بن يزيد معه حتى أتوا على قرية فسأل الحسين عنها فقالوا العقر فقال نعوذ بالله منه أي من العقر وهي كربلاء فنزل فيها وذلك يوم الخميس الثاني من المحرم سنة إحدى وستين فلما كان من الغد قدم عليهم عمرو بن سعد بن أبي وقاص من

الكوفة في أربعة آلاف فارس فلما اجتمعوا كتب عمرو إلى عبيد الله يسعى في صلاح الحال معه وعوده انا قد اجتمعنا بالحسين في كربلاء ونحن ننتظر أمرك فيه فكتب إليه حل بين الحسين وبين الماء كما فعل بالزكي النقي عثمان بن عفان فمنعوه وأصحابه الماء ثم أنفذ إليهم الشمر بن ذي الجوشن وأمره أن يسمع لعمرو بن سعدان هو قاتل وإن أبى فتقدم أنت على العسكر فأقبل شمر على عمرو بن سعد وبلغه ما قال عبيد الله فاستعض لذلك وقال لا ولا كرامة ولكن أنا أتولى ذلك ثم نادى يا خيل الله اركبي وذلك عشية الخميس لتسع خلون من المحرم ثم تقدموا نحو الحسين فأرسل إليهم أخاه العباس يسألهم التأخير لصبيحة غد فأجابوه إلى ذلك فلما صلى الغداة يوم الجمعة وقيل يوم السبت وهو يوم عاشوراء خرج عمرو فيمن معه من الناس وخرج الحسين وأصحابه وكانوا اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلاً ثم وقف فيهم على راحلته ونادى أيها الناس أجمعوا أمركم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين فسمعه نساؤه فبكين ثم قال انسبوني وانظروا من أنا هل على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري فسمعته أخته فاطمة فقالت اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي والحسن أخي يا خليفة الماضي وثمال اليتامى فقال مجيباً لها ولو ترك القطا ليلاً لناما فجاءه الحر بن يزيد اليربوعي فقال له ما جاء بك قال جئتك تائباً مما كان مني مواسياً لك بنفسي افترى ذلك لي توبة قال نعم يتوب الله عليك ويغفر لك ثم أقبل الحر بوجهه على أصحاب ابن زياد وقال لهم اتقوا الله في ابن بنت رسول الله نبيكم حلتم بينه وبين الماء الذي يلغ فيه الكلب ويرده الكافر وها أصحابه قد صرعهم العطش فبئسما خلفتم محمداً في أهل بيته فحمل عليه رجال منهم ونشب الحرب بينهم فجعل الحر ينشد يحمل على القوم ويقول والله لا تقتل حتى أقتلا ... ولن أصيب اليوم إلا مقتلا أضربهم بالسيف ضرباً فيصلالا ناكلاً عنهم ولا مهللا ولم يزل يقاتل حتى قتل ثم حمل أصحاب عمرو بن سعد على أصحاب الحسين حملة رجل واحد فقتلوهم كلهم وكان أول من قتل من آل بني طالب علي بن الحسين الأكبر وبقي الحسين وحده وكان الناس قد توقوا قتله فكان

بعضهم يحيل على بعض وصاح شمر لعنه الله بأصحابه أن اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فحمل عليه من كل جانب فضربه زرعة بن شريك بالسيف فقطع يساره وطعنه سنان ابن أنس النخعي بالرمح فصرعه ونزل إليه فاحتز رأسه من قفاه وأخذها ووجد فيه رضي الله تعالى عنه ثلاث وثلاثون جرحاً وثلاثون طعنة والكل فيما أقبل من وجهه وقيل مائة وعشرون جراحة ما بين طعنة برمح ورشقة بسهم ورمية بحجر وضربة بسيف وكانت عليه جبة خز دكناء فصارت كأنها جلد قنفذ من السهام ثم سلبه إسحق بن جنوة قميصه فبرص وسلبه يحيى بن كعب سراويله فعمي ونادى عمرو بن سعد من ينتدب للحسين فيطؤه بفرسه فانتدب له إسحق ابن جنوة وتسعة من أصحابه فوطؤا ظهره وصدره حتى رضوه رحمة الله تعالى عليه ولعن قاتله والمعين له وأتى سنان بن أنس براس الحسين إلى عبيد الله ابن زياد فلما دخل عليه قال أوقرر كابي فضة وذهبا ... انا قتلت السيد المحجبا أكرم خلق الله أمّاً وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون النسبا فظفر به المختار بن أبي عبيد فقتله وأحرقه ثم بعث بالرأس مع محفيد بن ثعلبة العائدي إلى يزيد بن معاوية فلما دخل عليه قال له جئتك برأس ألأم الناس ما ولدت مخدرة الأم وأوضع ثم جعل يضرب ثناياه بقضيب خيزران كان في يده وينشد أبي قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواضب في ايماننا تقطر الدما تفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما أما والله لوددت إني أتيت بك مسلماً ولو وليتك ما قتلتك ثم قدم إليه علي بن الحسين والحسن بن الحسن فقال لعلي أنت أبوك قطع رحمي ونازعني سلطاني فجزاه الله جزاء القطيعة للرحم فقال علي ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها فقال يزيد وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ويروى أنه لما قتل الحسين رضي الله عنه قدم على

يزيد المذحجي فقال له ما وراءك قال ابشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته وستين رجلاً من شيعته فرنا إليهم فألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله أو القتال فاختاروا القتال على الاستسلام فعدونا عليهم مع شروق الشمس فاحتطنا بهم من كل ناحية حتى أخذتهم السيوف مأخذها من هؤلاء القوم وجعلوا يلجؤن إلى غرور ويلوذون منا بالآكام والحفر لنادي الحمام من العقر فوالله يا أمير المؤمنين ما كان إلا قدر جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم فهاتيك أجسادهم مجردة وثيابهم مزملة وخدودهم معفرة تضربهم الشمس وتسفي عليهم الريح وفوقهم العقبان والرخم بقفر سبسب لا مكفنين ولا موسدين فدمعت عينا يزيد وقال كنت أرضى منكم ومن طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية أما والله لو أني بصاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين فلم يصله بشيء ويقال إنه لما حمل رأس الحسين إلى يزيد ابن معاوية ووضع بين يديه خرجت كف يد من الحائط فكتبت في جبهته أترجو أمة قتلت حسيناً ... شفاعة جدّه يوم الحساب وقتل رضي الله عنه وله من العمر خمس وقيل ست وقيل سبع وخمسون سنة وقتل معه ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته وستون رجلاً من شيعته ولما وصل خبر مقتله إلى المدينة وكان والياً عليها يومئذ عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق قام منادياً فنادى بقتله فصاح نساء بني هاشم وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب حاسرة وهي تقول ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم ... ماذا فعلتم وأنتم خيرة الأمم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى ومنهم مضرج بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي وفي يوم قتله من العام القابل قتل عبيد الله بن أبي زياد قتله المختار بن أبي عبيدة وقتل المختار مصعب بن الزبير وقتل مصعباً عبد الملك بن مروان فيا لله

يوم الحرة

العجب كيف وإني يهدر دماء بني البتول وسيف النصر على الباغي بيد الزمان مسلول يوم الحرة وسببه أن جماعة من أشراف المدينة منهم عبد الله بن حنظلة وبنوه ثمانية والمندر بن الزبير قدموا من عند يزيد بن معاوية وكان قد أكرمهم وحملهم وكساهم فأظهروا شتمه وأكثروا سبه وعيبه للناس وقالوا قدمنا من عند رجل شريب فسيق يلعب بالكلاب ويسامر القرود والقيان وانا نشهدكم أن قد خلعناه وتبرأنا منه فكتب عثمان بن حيان والي المدينة من قبل يزيد إليه يعلمه بما أجمعوا عليه فكتب يزيد إلى أهل المدينة أما بعد فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال وإني والله لقد لبستكم فأبليتكم ورقعتكم حتى خرقتكم وإني وضعتكم على رأسي ثم على صدري ثم على بطني وأيم الله لئن وضعتكم تحت قدمي لاطأنكم وطأة أقل بها عددكم وأقل بها عددكم وأترككم أحاديث تنسخ أخباركم مع أخبار عاد وثمود فإن شئتم فلا أفلح من ندم وكتب في آخر الكتاب متمثلاً بقول الشاعر لقد بدلوا الحلم الذي من سجيتي ... فبدلت قومي غلظة بليان فلما وصل إليهم الكتاب وقرئ عليهم أبوا إلا خلعه وازدادوا عليه تغيظاً وفيه كراهة ثم بايعوا عبد الله بن حنظلة ووثبوا على عثمان بن حيان وأخرجوه من المدينة وأخرجوا من كان فيها من بني أمية ومواليهم وكانوا نحواً من ألف فنزلوا دار مروان بن الحكم فخرجوا إليهم وحصروهم فيها فكتب مروان إلى يزيد يعلمه بما جرى فوصل إليه الكتاب ليلاً وعنده الضحاك بن قيس فقرأه عليه ثم قال له ما الراي قال يا أمير المؤمنين قومك وعشيرتك وبلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه وأرى أن تعفو عنهم وتتغمد ذنوبهم فقال اخرج عني ثم دعا مسلم بن

عقبة المري قال فما لبث أن دخل رجل أعور ثائر الرأس كأنما يقلع رجله من وحل إذا مشى فرمى إليه بالكتاب فلما قرأه احمر وجهه وأزبد شدقه فقال له يزيد ما الرأي قال أرى أن تبعث إليهم جيشاً رجاله غليظة أكتافهم طويلة رماحهم فيطؤنهم حتى يكونوا نكالاً لمن خلفهم فقال له يزيد كنت لها لولا أنك ضعيف فقال يا أمير المؤمنين إن كنت تريدني لمصارعتهم فإني ضعيف وإن كنت تريدني للراي فإني قوي فأمره يزيد بالتجهز فما أصبح إلا وعلى باب يزيد عشرون ألفاً وفيهم مسلم بن عقبة فاستدعاه يزيد وقال له سر فإن حدث بك أمر فاستخلف الحصين بن نمير وادع أهل المدينة ثلاثاً فإن أجابوك وإلا قاتلهم فإن أطاعوا أمرنا فانصرف عنهم إلى ابن الزبير فإن قاتلتهم وظفرت بهم فابحها ثلاثاً واستوص بعلي بن الحسين خيراً ثم ودعه وانصرف بمن معه من الجيش فلما سمع أهل المدينة بقدوم الجيش غور والمياه التي بينهم وبين أهل الشأم فأرسل الله السماء فلم يسيتق أصحاب مسلم بدلو حتى قدموا المدينة وكان أهل المدينة قد أطلقوا بني أمية فخرجوا قاصدين الشأم فلقوا مسلماً بالجيش فرحب بهم وسألهم عن أهل المدينة فأخبروه بحالهم وشاورهم أين يكون نزوله من نواحي المدينة فأشار عليه عبد الملك بن مروان أن ينزل بالجيش من قبل الحرة فإنها مشرفة على المدينة وإن أهلها ينظرون من تألق بيضكم وأسنة رماحكم وسيوفكم ما لا يراه أصحابك منهم فنزلها فلما رآهم أهل المدينة خرجوا في جموع كثيرة وهيئة لم ير مثلها فلما رآهم أهل الشأم أكبروهم وكرهوا قتالهم فكتب مسلم إليهم يحذرهم سطواته وينذرهم فتكاته فأبوا قبول ما دعاهم إليه من الانقياد لطاعته فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وستين نادى مناديه يا أهل المدينة قد مضى الأجل فما تصنعون أتسالمون أم تحاربون فقالوا بل نحارب ثم خرجوا وطلبوا البراز فأمر مسلم أن يعيي الجيش وضرب لهم فسطاطاً ووقع القتال وجعل مسلم يعد قومه ويمنيهم وعبد الله بن حنظلة الغسيل يحرض قومه ويقدم أولاده واحداً بعد واحد حتى قتلوا ثم حمل عليه فقتل وقتل يومئذ ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أهل الشأم لبني أمية ألهؤلاء جئتم بنا حتى نقتلهم ثم اشتد القتال وكثر القتل حتى انهزم أهل المدينة فدخلوها وتحصنوا بها فيئس منهم مسلم فدله رجل من بني حارثه على طريق سالكة إلى المدينة فسلكه بمن معه حتى دخلها

فلما رأى أهلها الجيش قد صار معهم تفرقوا فقتلوا في كل جهة وذلك لثلاث من ذي الحجة سنة ثلاث وستين ثم انتهبوها ثلاثاً وأقاموا بها حتى رأوا هلال المحرم ثم أخذ مسلم البيعة على أهل المدينة إنهم عبيد قيان ليزيد بن معاوية إن شاء أعتق وإن شاء قتل ثم ركب مسلم الفاسق لعنه الله وخرج إلى الحرة يطوف في القتلى ومعه مروان ابن الحكم فمر على عبد الله بن حنظلة وهو ماد اصبعه نحو السماء فقال والله لئن نصبتها ميتاً لطالما نصبتها حياً داعياً إلى الله ومر على إبراهيم بن نعيم فوجد فرجه مستوراً بيده فقال والله لئن حفظته عند الوفاة لقديماً حفظته في حال الحياة ومر على محمد بن عمر بن حزم وهو واضع جبهته على الأرض فقال أما والله لئن كنت على جبهتك بعد الموت لطالما فرشتها الله ساجداً في طول الحياة فقال والله ما هؤلاء إلا من أهل الجنة ثم إن مسلماً حز رؤس القوم وأرسلها إلى يزيد فيقال إنه أنشد لما ألقيت بين يديه بيت ابن الزبعري ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل قال الواقدي قتل يوم الحرة سبعمائة من حملة القرآن وقيل قتل سبعمائة من قريش والأنصار وقتل ممن لا يعرف عشرة آلاف ثم سار مسلم لعنه الله يريد مكة لقتال عبد الله بن الزبير فلما كان بقديد مات فدفن بالمشلل وقيل بثنية هرشي وكان موته لسبع بقين من المحرم سنة أربع وستين وفي هذه السنة مات يزيد في الرابع عشر من ربيع الأول وله من العمر ثمان وثلاثون سنة وكانت مدة خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر ولما مات مسلم جاءت أم ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة فنبشته وأحرقته وقيل بل أخرجته وصلبته وفيما ذكرنا من هذه الحروب اقناع يعز به المخبر إذا سئم من المطاولة المستخبر وأحسن ما لحق بهذا الفصل وتلاه ... وصف عظم الجيش ومصارع قتلاه أبلغ ما وصف به عظم الجيش قول مالك بن الريث من أبيات بجيش لهام يشغل الطير جمعه ... عن الأرض حتى ما يجدن منازلا

السلامي والجو ستر بالنسور مطير ... والأرض فرش بالخيول مخيل يهفو العقاب على العقاب فيلتقي ... بين الفوارس أجدل ومجدل ولا مزيد في الحسن على ما قاله أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من أبيات يمدح بها المعتصم جاء منها قوله لما رأيت الذين يخفق قلبه ... والكفر فيه تغطرس وعرام أوريت زند عزائم تحت الدجى ... أسرجن فكرك والبلاد ظلام فنهضت تسحب ذيل جيش ساقه ... حسن اليقين وقاده الاقدام ملأ الملا عصباً فكاد بأن يرى ... لا خلف فيه ولا له قدام بسواهم لحق الأباطل شرب ... تعليقها الأسراج والألجام ومقابلين إذا انتموا لم يخزهم ... في نصرك الأخوال والأعمام تخذوا الحديد من الحديد معاقلاً ... سكانها الأرواح والأجسام مسترسلين إلى الحتوف كأنما ... بين الحتوف وبينهم أرحام آساد موت مخدرات مالها ... إلا الصوارم والقنا آجام حتى نقضت الروم عنك بوقعة ... شنعاء ليس لنقضها ابرام في معرك أما الحمام فمفطر ... في هبوتيه والكماة صيام والضرب يقعد قرن كل كتيبة ... شرس الضريبة والحتوف قيام فقصمت عروة جمعهم فيه وقد ... جعلت تفصم عن عراها الهام

ابن عبد ربه صاحب العقد وجيش كظهر اليمّ ينفحه الصبا ... يعب عبابا من قنا وقنابل فينزل أولاه وليس بنازل ... ويرحل اخراه وليس براحل ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كؤس دماء من كلى ومفاصل يديروا بها راحاً من الروح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل وتسمعهم أمّ المنية وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل أبو الفرج الببغا فإذا الجياد إلى الجياد عوابساً ... شعثاً ولولا بأسه لم تنفد في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر طافح قطر بحر مزبد متوقد الجنبات تعتنق القنا ... فيه اعتناق تواصل وتودد متعجر بضيا الصوارم مبرق ... تحت العجاج وبالصواهل مرعد ردّ الظلام على الضحى واسترجع ... الأصباح من ليل الغبار الأزبد وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلة في الجلمد وكأنّ طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار لها مكان الأثمد وله في خميس كأنما السمر والأب ... طال فيه غيله حمته أسود سلب الشمس ضوأها بشموس ... طالعات أفلاكهن جديد عارض كلما تجلت بروق ال ... بيض حثت على الصهيل رعود وله جيش يفوت الطرف حتى لا يرى ... ما غاب من أطرافه محدودا ويحيش حتى لا يظن عديده ... أحد لكثرة جمعه معدودا

فكأنما جعل الإله روابي ... الأعلام أعلاماً له وبنودا يقضي على الأعداء خيفة بأسه ... قبل اللقاء تهدداً ووعيدا وترى وتسمع لمعه وخفوقه ... فتخال فيه بوارقاً ورعودا آخر خميس إذا أخفى سنا الشمس نطقه ... أضاء وأبداه الحديد المسرد تواجهه هوج الرياح فينثني ... وتحمله الأرض الوقور فيرعد أبو الطيب المتنبي خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما يفهم الحدّاث إلا التراجم وله وذو لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم تمر عليه الريح وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم ويخفى عليك البرق والرعد فوقه ... من اللمع في هاماته والجماجم ابن المعتز وعمّ السماء النقع حتى كأنه ... دخان وأطراف الرماح شرار ابن الساعاتي والنقع ليل والأسنة أنجم ... والسمر غاب والكماة أسود

وصف النزال والقتلى

وصف النزال والقتلى وصف أعرابي وقعة فقال اصطفوا كجناح الطائر وشدوا شد الأسد الخادر فما ثنوا أعنتهم ولا صرفوا أسنتهم حتى انصرف اعداؤهم أبو نصر الميكالي دارت رحى الحرب بين أعمار تباح ودماء تستباح وأجسام تطاح وأرواح تسفي بها الرياح فالسيوف للهامات دامغة والرماح في الأكباد والغه بض البلغاء طلبنا فلاناً في الوغى فوجدناه وجسده بالصفاح منمق محبر وبالرماح معجم ومحرر ابن عبد ربه من أبيات فكم على النهر أوصال مفرقة ... تقسمتها المنايا فهي أشطار قد فلقت بصفيح الهند هامتهم ... فهنّ بين حوامي الخيل أعشار وكم بساحتهم من شلو مطرح ... كأنه فوق ظهر الأرض أجار كأنما رأسه أفلاق حنظلة ... وساعداه على الزندين جمار أبو بكر الخوارزمي كتبنا في وجوههم سطوراً ... غرائب حبرهن دم همول فترجمها الأعادي للأعادي ... ويقرؤها على الحيّ القتيل فمالك غير جمجمة كناب ... ومالك غير صاحبها رسول ابن الرومي كتبت لنا أيدي النزال صحائفاً ... هجما من الأعراب والافصاح أطراسها جثث الكماة وحبرها ... مما أسلناه دم الأرواح فالشكل فوق سطورها بصوارم ... والنقط تحت حروقها برماح

الفصل الثالث من الباب الحادي عشر

ابن نباتة خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجب قطع الرؤس أحسن ما نظم فيها قول الشريف البياضي من أبيات خطبنا بالقنا مهج الأعادي ... فزفت والرؤس لها نثار وقول جرير وإن كان قبله كأنّ رؤس القوم فوق رماحنا ... غداة الوغى تيجان كسرى وقيصرا وقول الآخر وكأنما سمر الرماح معاطف ... والهام فوق صدورهن نهود الفصل الثالث من الباب الحادي عشر في ذم التصدي للهلكة ممن لا يستطيع بها ملكة قال الله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقال تعالى خذوا حذركم وقد روى أن عمر رضي الله عنه حين كره طواعين الشأم أراد الرجوع إلى المدينة فقال له أبو عبيدة بن الجراح يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله قال نعم إلى قدر الله فقال له أيمنع الحذر القدر قال لست مما هناك في شيء إن الله لا يأمر بما لا ينفع ولا ينهى عما لا يضر فإنه يقول ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقال خذوا حذركم وقالوا الشجاعة تغرير والتغرير مفتاح الهلكة وقال يزيد ابن المهلب الاقدام على الهلكة تغرير والاحجام عن الفرصة جبن

وأنشدت لطاهر بن الحسين ركوبك الأمر ما لم تبد فرصته ... جهل ورأيك في الاقحام تغرير فاعمل صواباً وخذ بالحزم مأثرة ... فلن يذم لأهل الحزم تدبير ويقال أهوت إلى يزيد بن المهلب حية فلم يتوقها فقال له أبوه ضيعت الحزم من حيث حفظت الشجاعة الشريف الرضي العزم في غير وقت العزم معجزة ... والازدياد بغير العقل نقصان ويقال من قاتل بغير نجدة وخاصم بغير حجة وصارع بغير قوة فقد أعظم الخطر وأكبر الغرر وقال بعض الحكماء من أعرض عن الحذر والاحتراس وبنى أمره على غير أساس زال عنه العز واستولى عليه العجز فصار من يومه في نحس ومن غده في لبس وفي كتاب للهند الحازم يحذر عدوه على كل حال يحذر مواثبته إن قرب وغارته إن بعد وكمينه إن تبع ومكره إن انفرد واستطراده إذا ولي وقال أبو بكر الصديق يحذر خالد بن الوليد رضي الله عنهما إذا دخلت أرض العدو فكن بعيداً من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة واستظر بالزاد وسر بالادلال ولا تقاتل مجروحاً فإن بعضه ليس منه واحترس من الثبات فإن في القرب غمرة واقلل الكلام فإن مالك إلا ما وعى عنك وأقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سريرتهم واستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه وقال الشاعر ومن يأمن الأعداء لا بدّ أنه ... سيلقى بهم في موقف الموت مصرعا وقالوا الاقدام على الهلكة تضييع كما أن الاحجام عن الفرصة عجز وقيل لعنترة العبسي أأنت أشجع العرب وأشدها قال لا قيل فبم شاع هذا في الناس قال كنت أقدم إذا كان الاقدام عزماً وأحجم إذا كان الاحجام حزماً

ولا أدخل موضعاً لا أرى لي فيه مخرجاً وسئل بعض الشجعان هل شيء أضر من التواني قال الاجتهاد في غير وقته وقال جعفر بن ميسرة من مكن أسباب الهلكة من نفسه طائعاً لم يكد يتخلص منها وإن كان جاهداً وقال بعض الحكماء لصديق له اعلم إن الفطنة اظهار الغفلة مع شدة الحذر فبات مباثة الآمن وتحفظ منه تحفظ الخائف ولا تظهر له المخافة فيرى ان قد حذرت فيهون عليه ما يستهو له منك ويقال إذا أخد المرء بالحذر والاحتراس في موضع الشدة وعمل على الجراءة والاقدام عند انتهاز الفرصة فقد أخذ بالحزم في شدته وعمل بالحزم عند فرصته وقال بعض الفلاسفة كن حذراً كأنك غر فطناً كأنك غافل وذاكراً كأنك ناس وقال بعضهم من أخذ الحذر من المحذور ... قلّ تجنيه على الدهور فليحزم الحازم في الأمور ... فإن كبا فالعذر للمعذور آخر على كل حال فاجعل الحزم عدة ... تقدّمها عند النوائب في الدهر فإن نلت حظاً نلته بعزيمة ... وإن قصرت عنك الحظوظ فعن عذر ومما يكون عمدة عند لقاء الأبطال ... التفكر في أعمال الاحتيال وإن طال قالت الحكماء الحازم يحتال للأمر الذي يخافه لعله أن لا يقع فيه فليس من القوة التورط في الهوة ومن لم يتأمل العواقب بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله وأنشد لتأبط شرا إذا المرء لم يحتل وقد جدّ جدّه ... أضاع وقاسى الصعب وهو مقصر ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً ... به الأمر ألا وهو للقصد مبصر

ويقال إذا اتسع لك المنهج فاحذر أن يضيق عليك المخرج وقال الشاعر وإذا هممت ورود أمر فالتمس ... من قبل مورده طريق المخرج آخر إياك والأمر الذي ان توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر ويقال تفكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم فإنه من لم ينظر في العواقب فقد تعرض لحادثات النوائب ووجد على حجر بعدن أبين مكتوب أيها المحارب احذر تغنم وتفكر في العواقب تسلم ويقال الناس حازمان وعاجز فاحزم الحازمين من عرف الأمر قبل وقوعه فاحترس منه والحازم بعده من إذا نزل الأمر تلقاه بالرأي والحيلة حتى يخرج منه والعاجز من تردد بين وبين لا يأتمر رشداً ولا يطيع مرشداً حتى تفوته النجاة ويقال ترك التقدم أحسن من التندم وأوصى عبد الملك بن صالح أميراً قدمه على سرية أرسلها إلى قتال عدو له فقال كن كالتاجر الكيس إن وجد ربحاً تجر وإلا حفظ رأس ماله ولا تطلب الغنيمة حتى تحمد السلامة وكن في احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك وقالوا ما تنفق فيه الأموال والحيل خير مما تنفق فيه الأرواح والنفوس وأوصت أم الدبال العبنسية ولدها الفتاك وكان من أشد العرب فقالت يا بني لا تنشب في حرب وإن وثقت بشدتك حتى تعرف وجه المهرب فإن النفس أقوى ما تكون إذا وجدت سبيل النجاة مدبرة لها واختلس من تحاربه خلسة الذئب وطر منه طيران الغراب فإن الحذر زمام الشجاعة والتهور عدو الشدة وقال أبو السرايا وكان أحد الفتاك يا بني كن بحيلتك أوثق منك بشدتك وبحذرك أوثق منك بشجاعتك فإن الحرب ورطة المتهور وغنيمة المتفكر ويقال لا تصلح الحزامة إلا لمن كان له سبع خصال من طبائع البهائم قلب الأسد وغارة الذئب وصبر النسر وحذر الغراب وحراسة الكركي وهداية الحمام وحماية الزنبور

ومما يجب مع التفكر على المحارب ... مشاورة النصحاء من أولي التجارب قد كنا منا في صدر الكتاب ما يجب على العاقل من مشورة نصحائه في سائر أنحائه وانا ذاكر في هذا الباب ما يجب على الحازم من مشورة أودائه في كيفية لقاء أعدائه فإنهم قالوا ينبغي لكل ذي لب أن لا يبرم أمراً ولا يمضي عزماً إلا بمشورة ذي الرأي الناصح ومطالعة ذي العقل الراجح وقالوا الحازم إذا اشتبهت عليه مصادر الأمور جمع من أهل التجارب وجوه الرأي حتى يخلص له منها الصواب كالعاقل إذا ضلت له لؤلؤة فإنه إذا جمع ما حول مسقطها والتمسها يوشك أن يجدها وقالوا من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء ويجمع إلى عقله عقول الحكماء وقال بشار بن برد المشاور بين إحدى الحسنيين أما صواب فيفوز بثمرته أو خطا يشارك في مكروهه وقالوا الرأي السديد خير من الأسد الشديد وكان يقال المشورة سلم النجاح وطليعة الفلاح وقالوا الرأي في الحرب أنفع من الطعن والضرب وقال بعض الأعراب ما عثرت قط حتى عثر قومي قيل له وكيف قال لا أفعل شيأً حتى أشاورهم وقالوا حقيق أن يوكل إلى نفسه من أعجب برأيه ولقد أحسن أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي في التحريض على مشاورة الاخوان عند مساواة الأقران بقوله الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أوّل وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان فلربما طعن الفتى أقرانه ... بالراي قبل تطاعن الأقران ولبعضهم الرأي كالسيف ينبو إن ضربت به ... في غمده وإذا جردته قطعا

آخر أشاور أهل الرأي فيما ينوبني ... وإن كان لي رأى أحدّ صليب ولا أدّعى بالغيب علماً لسائل ... ولا أحسد المسؤل حين يجيب آخر إذا بدا لك وجه الرأي فارم به ... نحو احترام تحاماه المقادير ولا تقل غرر أخشى عواقبه ... يوماً فكل نجاة القوم تغرير وذكر الحصري في كتابه زهر الآداب وثمر الألباب أن قوماً من العرب أتوا شيخاً لهم قد أربى على الثمانين وأهدف التسعين فقالوا إن عدونا استاق سرحنا فأشر علينا بما ندرك به الثار وننفي به العار فقال إن ضعف قوتي فسخ همتي ونقض ابرام عزيمتي ولكن شاوروا الشجعان من ذوي العزم والجبناء من أولي الحزم فإن الجبان لا يألو برأيه ما وقى مهجكم والشجاع لا يألوا ما يشيد ذكركم ثم خلصوا من الرأيين نتيجة تبعد عنكم معرة الجبان وتهور الشجعان فإذا نجم الرأي على هذا كان أنفذ على عدوكم من السهم الصائب والحسام القاضب فلله هذه الكلمات لو يجدها الجبان جنة لوقته أو هادياً أرته مواطن العواقب ووفقته وملاك التحيل في بلوغ الأماني ... رفض العجلة واستعمال التواني قال الله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعطى حظه من الرفق أعطى حظه من الدنيا والآخرة ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها عليك بالرفق فإن الرفق لا يخالط شيأً إلا زانه ولا يفارق شيأً إلا شانه وقال عمر رضي الله عنه التؤدة في كل شيء إلا ما كان من عمل الآخرة وقال

الشاعر الرفق يمن والأناة سعادة ... ليس النجاح لمن يطيش ويخرق آخر وفي الأناة إذا ما جدّ صاحبها ... حزم ويعقبها التفريط والخرق وفي التورية الرفق رأس الحكمة وقالوا فعل اللبيب ثمرته السلامة وجد على سيف مكتوب التأني فيما لا يخاف فيه الفوت أفضل من العجلة إلى إدراك الأمل وقال بعض الحكماء تأن تحزم وإذا استوضحت فاعزم وقالوا يد الرفق تجني ثمر السلامة ويد العجله تغرس شجر الندامة أبو الفتح البستي تأنّ في الشيء إذا رمته ... لتعرف الرشد من الغيّ لا تتبعن كل دخان ترى ... فالنار قد توقد للكيّ وقس على الشيء بأشكاله ... يدلك الشيء على الشيّ وقال بشر بن مروان لأهله إذا التبست عليك الخطوب وغاب عنك المورود وأشكل عليك المصدر فيه فالأناة الأناة وليكن أمرك حزماً وإذا استبان لك فعزماً وقال محمد بن هانئ الأندلسي وكل أناة في المواطن سودد ... ولا كأناة من قدير محكم وما الرأي إلا بعد طول تثبت ... ولا الحزم إلا بعد طول تلوّم القطامي قد يدرك المتأني نجح حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل

آخر وربما فات قوماً جلّ أمرهم ... من التأني وكان الحزم لو عجلوا وقالوا الأناة حصن السلامة والعجلة مفتاح الندامة وقالوا إذا لم يدرك الظفر بالأناة فبماذا يدرك وقال المهلب بن أبي صفرة واسم أبي صفرة ظالم ابن سراق أناة في عواقبها درك خير من عجلة في عواقبها فوت ومن أمثالهم اتئد تصب أو تكد وقولهم من تأنى أدرك ما تمنى وقولهم الرفق مفتاح النجاح وقال بعض الحكماء إياك والعجلة فإنها تكنى أم الندامة لان صاحبها يقول قبل أن يعلم ويجيب قبل أن يفهم ويعزم قبل أن يفكر ويقطع قبل أن يقدر ويحمد قبل أن يجرب ويذم قبل أن يخبر ولن تصحب هذه الصفة أحداً الأصحب الندامة وجانب السلامة وهذه نبذة يسيرة في الصبر فمما ينسب لعلي رضي الله عنه إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر وقل من جدّ في أمر يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر آخر ما أحسن الصبر في مواطنه ... والصبر في كل موطن حسن حسبك من حسنه عواقبه ... عواقب الصبر ما لها ثمن آخر الصبر مفتاح ما يرخى ... وكل صعب به يكون فاصبر وإن طالت الليالي ... فربما أمكن الحزون وربما نيل باصطبار ... ما قيل هيهات لا يكون

ويقال الصبر مفتاح النصر ويقال النصر في مطاوي الصبر ويقال من تصبر تبصر وقال الصابي حظ الطالبين من الدرك بحسب ما استصحبوه من الصبر وأنشدت لبعض الشعراء إذا كنت في أمر ولم تر حيلة ... فصبرك إن النجح يدرك بالصبر كذاك عيون الماء تكدر مرّة ... وتصفو مراراً هكذا عادة الدهر ابن منقذ لا تستكن للهم واثن حمامه ... بعزيمة في الخطب لا تتضعضع فإذا أتى ما ليس يدفع فألقه ... بالصبر فهو دواء ما لا يدفع ومن أحسن ما قيل فيه أما والذي لا خلد إلا لوجهه ... ومن ليس في العز المنيع له كفو لئن كان بد الصبر مرّاً مذاقه ... لقد يجتنى من غبه الثمر الحلو آخر اصبر على مضض الادلاج في السحر ... وفي الرواح إلى الحاجات والبكر لا تضجرن ولا يعجزك مطلبها ... فالنجح يتلف بين الصبر والضجر

الباب الثاني عشر

الباب الثاني عشر في الجبن وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في أنّ خلتي الجبن والفرار مما يشين بني الأحرار الجبن غريزة كالشجاعة يضعها لله فيمن شاء من خلقه قال المتنبي يرى الجبناء أنّ الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم وحده بعض المتكلمين في حدود الأشياء فقال هو الضن بالحياة والحرص على النجاة وقالت الحكماء في الفراسة من كانت فزعته في رأسه فذاك الذي يفر من أبويه وقالوا الجبان يعين على نفسه يفر من أمه وأبيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه وقال الشاعر يفر الجبان من أبيه وأمه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه فما اخترت من كلام ذوي الاقدام ... فيما عيب به الفرار والاحجام قالت عائشة رضي الله عنها إن لله خلقاً قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح خفقت معها فأف للجبناء وقال خالد بن الوليد عند موته لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم

وها أنا ذا أموت حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء شاعر إن موت الفراش عار وذل ... وهو تحت السيوف فضل شريف السموأل وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظباء نفوسنا ... وليست على غير الظباء تسيل آخر يفتخر محرمة أكفال خيلي على القنا ... ومكاومة أعناقها ونحورها حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندق منا في الصدور صدورها ويقال أسرع الناس إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار وقال دارا بن دارا يحرض جيشه على القتال قتيل صابر خير من ناج فار يا بني الأحرار صرتم إلى الذل والصغار ما هذا الجبن والفرار فلا صبر ولا اعتذار تطردكم الأشرار كطرد الليل النهار أثبتوا فإن الأجل بمقدار وقال هانئ الشيباني لقومه يوم ذي قار يا بني بكر هالك مغدور خير من ناج فرور المنية ولا الدنية يا بني بكر استقبال الموت خير من استدباره الطعن في ثغور النحور أكرم منه في الاعجاز والظهور يا بني بكر قاتلوا فمالنا من المنايا بد الجبان مبغض حتى لامه والشجاع محبب حتى لعدوه ويقال الجبن خير أخلاق النساء وشر أخلاق الرجال وقال يعلى بن منية لقومه حين فروا من على يوم صفين إلى أين قالوا قد ذهب الناس فقال أف لكم فرار واعتذار ولما قوتل أبو الطيب المتنبي ورأى الغلبة عليه فر فقال له غلامه أترضى أن يحدث بهذا الفرار عنك وأنت القائل والخيل والليل والبيداء تعرفني ... والطعن والضرب والقرطاس والقلم

فكر راجعاً فقاتل حتى قتل واستقبح أن يعير بالفرار وذلك في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة وكان مولده بالكوفة سنة ثلاث وثلثمائة وقال المنصور لبعض الخوارج عليه وقد ظفر به وأحضر إليه أسيراً أخبرني عن أصحابي أيهم كان أشد اقداماً في مبارزتك فقال لا أعرف وجوههم مقبلين وإنما أعرف أقفيتهم مدبرين فقل لهم يدبرون لأعرفك أيهم كان أشد فراراً نظم هذا القول علي بن العباس بن جريج المعروف بابن الرومي في قوله يهجو سليمان بن عبد الله بن ظاهر وقد هزم قرن سليمان قد أضر به ... شوق إلى وجهه سيتلفه أعرض عن قرنه وصدّ فما ... أصبح شيء عليه يعطفه كم يعد القرن باللقاء وكم ... يكذب في وعده ويخلفه لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه وله من أبيات كان بغداد لدن أبصرت ... طلعته نائحة تلتدم مستقبل منه ومستدبر ... وجه بخيل وقفا منهزم وقال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم يعرض به متى فقئت عينك قال يوم طعنت في استك وأنت مول يعني يوم الجمل وقيل بل قال له يوم قتل أبوك وهربت خالتك يعني عائشة وأنا للحق ناصر وأنت له خاذل وقال شاعر يذكر فارا شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد منخرق الخفين يشكو الوحي ... تبكه أطراف مر وحدد قد كان في الموت له راحة ... والموت حقاً في رقاب العباد

نتف من احتجاج الفرسان ... عند ملاقاة الأقران في إنّ دروع الحذر ... تخرقها سهام القدر قال الله تعالى قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم وقال علي رضي الله عنه إذا حلت المقادير حلت التقادير وقال هانئ بن مسعود الشيباني إن الحذر لا ينجي من القدر وإن الصبر من أسباب الظفر والمثل المضروب إن الجبان حتفه من فوقه وقالوا السلامة في الاقدام والحمام في الاحجام وأنشد في الحماسة لقطري بن الفجاة لا تركنن أبداً إلى الاحجام ... يوم الوغى متخوّفا لحمام فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني تارة وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكتاف سرجي أو عنان لجامي ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... خدع القريحة مارح الأقدام وقال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما حين أخرجه لقتال أهل الردة احرص على الموت توهب لك الحياة وقالوا إذا انقضت المدة لم تنفع العدة وقال علي رضي الله عنه إن الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهارب إن لم تقتلوا تموتوا ألا وإن أشرف الموت القتل وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يا نفس إن لم تقتلي تموتي إن تسلمي اليوم فلن تفوتي أو تبتلي فطالما عوفيتي وقيل لبعضهم لو احترست فقال كفى بالأجل حارساً وقالوا الشجاع موقى والجبان ملقى وذلك إن المقتول مدبراً أكثر من المقتول مقبلا وأنشد لبعض الشجعان تأخرت استبقى الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدّما

آخر أقول لها وقد ذهبت شجاعاً ... لدى الأبطال إنك لن تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لن تطاعي فصبراً في مجال الحرب صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع وهرب رجل من الطاعون إلى النجف وكان بالكوفة فكتب إليه شريح القاضي أما بعد فإن الفرار لن يبعد أجلاً ولن يكثر رزقاً وإن المقام لن يقرب أجلاً ولن يقلل رزقاً وإنك والمكان الذي أنت فيه لا يعييان من لا يعجزه هرب ولا يفوته طلب وإن المكان الذي خلفته لا يعجل أحداً إلى حمامه ولا يظلمه شيأً من أيامه وإن النجف من ذي قدرة لقريب وهذا الطاعون هو الجارف وكان في شوال سنة تسع وستين هلك فيه في مدة ثلاثة أيام مائتا ألف وعشرة آلاف ومات فيه لأنس بن مالك ثلاثة وثمانون ولداً ولعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أربعون ولداً وأنشد بعض الشعراء يذكر فاراً أصيب أبعدت في يومك الفرار فما ... جاوزت حتى انتهى بك القدر لو كان ينجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر آخر فإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه ولما وقع الطاعون بالكوفة فر عبد الرحمن بن أبي ليلى على حمار له يطلب النجاة فسمع منشداً يقول لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي منعة طيار أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله امام الساري

فكر راجعاً إلى الكوفة ومن كلام الحكماء إذا كان القدر حقاً فالحرص باطل وإذا كان الموت بكل أحد نازل فالطمأنينة إلى الدنيا حمق وكان معاوية بن أبي سفيان كثيراً ما ينشد في حروبه كان الجبان يرى إنه ... يدافع عنه الفرار الأجل فقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل ويقال من حدث نفسه بالبقاء ولم يوطنها على المصائب فهو عاجز الرأي وأنشدت لأبي علي بن رشيق القيرواني الأسر خير من الفرار ... والقتل خير من الأسار وشر ما خفته حياة ... أدت إلى ذلة وعار ذم من لزمه الضعف والجزع ... واستولى عليه الخوف والفزع قيل لبشار بن برد فلان يزعم إنه لا يبالي ألقى واحداً أو ألفاً قال صدق لأنه يفر من الواحد كما يفر من الألف وقالوا فلان إذا ذكرت السيوف لمس رأسه هل ذهب وإذا ذكرت الرماح جس صدره هل ثقب كأنه سلم كتاب الجبن صبياً ولقن كتاب الفشل أعجمياً وقالوا فلان تقلصت من الفزع شفتاه واصفرت من الهلع وجنتاه وقالوا فلان إذا نظرت إليه شزراً أغمى عليه شهراً ومن أمثالهم أجبن من صافر وهو طائر يتعلق برجليه في الشجر خشية أن ينام فيسقط وقيل غير ذلك وأشرد من ظليم وهو ذكر النعام وينشد لعبد القيس ابن خفاف يهجو جبانا وهم تركوك أسلح من حبارى ... رأت صقراً وأشرد من ظليم ومما هو كناية عن الجبن قولهم فلان مشفق على الحياة راغب في طولها وذم بعضهم جباناً فقال لو سميت له الحرب لعاف لفظها قبل معناها واسمها

قبل مسماها وذم آخر جباناً فقال إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد وذم آخر جباناً فقال فلان يزحف يوم الزحف إلى خلف ويروعه الواحد وهو فيألف وذم آخر جباناً فقال لو كنت في ألف ألف كلهم بطل ... مثل المجفف داود بن حمدان وتحتك الريح تجري حيث تأمرها ... وفي يمينك سيف غير خوان لكنت أوّل فرار إلى عدن ... إذا تجرد سيف في خراسان ذكر من لاقى في الحروب الحرب ... فطوى بساط الأرض مجداً في الهرب أبو الطيب المتنبي يذكر مهزومين وضاقت الأرض حتى أن هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا وقالوا فلان يفر من صرير باب وطنين ذباب فلان ولي منهزماً قد سد الله في وجهه كل طريق فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق وقال الحجاح يصف هزيمة كالابل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها لا يلوى الشيخ على بنيه ولا يسأل المرء عن أخيه وقالوا فلان أزهد في الحرب من بني العنبر وأدهش من مستطعم الماء على المنبر فأما بنو العنبر فهم الذين يقول قائلهم من أبيات الحماسة لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشرفى شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء احسانا وكأنّ ربك لم يخلق بخشيته ... سواهم من جميع الناس انسانا

وأما مستطعم الماء فهو عبد الله بن خالد القسري وسنذكر أمره في الفصل الآتي إن شاء الله وأظرف شيء هجى به جبان قول الطرماح بن بكر في بني تميم من أبيات ولو أنّ برغوثاً على ظهر قملة ... رأته تميم يوم حرب لولت ولو جمعت يوماً تميم جموعها ... على ذرّة معقولة لاستقلت ولآخر يهجو قوماً جبناء أسود إذا ما كان يوم وليمة ... ولكنهم عند اللقاء ثعالب والمليح المتناهي في الملاحة والابداع والأخذ بمجامع القلوب من غير دفاع ولا نزاع قول جرير في بني حنيفة أبناء نخل وحيطان ومزرعة ... سيوفهم خشب فيها مساحيها قطع الثمار وسقى النخل عادتهم ... قدما وما جاوزت هذي مساعيها لو قيل أين هوادي القوم ما علموا ... قالوا لاعجازها هذي هواديها أو قبل إنّ حمام الموت آخذكم ... أو تلجموا فرساً قامت بواكيها أبو تمام ولما رأى توفيل راياتك التي ... إذا ما استقامت لا يقاومها القلب تولى ولم يأل القنا في اتباعه ... كأن الردى في قصده هائم صب غدا خائفاً يستنجد الكتب مذعنا ... عليك فلا رسل ثنتك ولا كتب وما الأسد الضرغام يوماً بتارك ... فريسته إن أنّ أو بصبص الكلب يمرّو نار الكرب تلفح قلبه ... وما الروع إلا أن يخامره الكرب مضى مدبراً شطر الدبور ونفسه ... على نفسه من سوء ظنّ بها ألب جفا الشرق حتى ظنّ من كان جاهلاً ... بدين النصارى إن قبلته الغرب

الفصل الثاني من البال الثاني عشر

الفصل الثاني من البال الثاني عشر في ذكر من جبن عند اللقاء خوف الموت ورجاء البقاء قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم هذه الآية نزلت فيمن فر من المسلمين يوم أحد قال ابن إسحق خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ومعه ألف فانخزل منهم عند الله بن أبي ابن سلول وكان رأس المنافقين ومعه ثلث الناس ورجع إلى المدينة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه سبعمائة رجل وخرجت قريش في ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فارس فلما التقى الجمعان وتراءى الفريقان وحميت الحرب واشتبه الطعن بالضرب أبلى المسلمون في الكافرين بلاء عظيماً ونودي يومئذ لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي وقتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قتله وحشي غلام جبير ابن مطعم وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل مصعب بن عمير وكان حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله قيلة بن قمئة فرجع وهو ينادي قتلت محمداً وصرخ صارخ إلا أن محمداً قتل والصارخ هو ابليس لعنه الله أزب العقبة فانجفل المسلمون وكثر الفشل فيهم وتفرق جمعهم عند الارجاف بقتل من كان يحميهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب العدو منهم نكاية حتى خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذفه المشركون بالحجارة فأصيبت رباعيته وشج جبينه وكلمت شفته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح بفيه فسقطت ثناياه فسال الدم على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحه بيده وقال كيف يفلح قوم خضبوا بالدم وجه نبيهم وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص وانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى المنقى دون الأعوض وهم ظانون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فمر كعب بن مالك برسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه وعيناه تزهران من تحت المغفر فعرفه فرفع عقيرته يقول أيها الناس أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا فلما عرفوه تداعوا إليه وجعل بعضهم يبشر بعضاً ثم نهض المسلمون وقد انشعب صدعهم ونعت بالسلامة بعد الكسر جمعهم ونهض معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعب فأدركهم أبي بن خلف فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة وطعنه بها في عنقه فرجع إلى قومه وهو يقول قتلني

محمد فات بسرف وهم قافلون به إلى مكة وذب عن النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله ووقاه ببده فشلت اصبعه وجرح أربعاً وعشرين جراحة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب الحق طلحة وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة وفيها ولد الحسن بن علي واستشهد فيه من المسلمين خمسة وستون رجلاً أربعة من المهاجرين وما بقي فمن الأنصار وقتل من المشركين اثنان وعشرون رجلاً وذو الفقار كان لسليمان بن داود عليهما السلام أهدته له بلقيس مع ستة أسياف ثم كان لمنية بن الحجاج فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل يوم بدر وفر كسرى من ملاقاة بهرام جور فاتبعه الجيش وكان قد أعد معه فصوصاً من زجاج مختلفة الألوان والأصباغ ودنانير من صفر مغشاة بالذهب فلما خاف أن يدرك نثر تلك الدنانير والفصوص على الأرض فاشتغل الناس بجمعها فنجا بنفسه ومن الجبناء حسان بن ثابت الأنصاري ذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف أنه لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط قالت صفية بنت المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معنا حسان في حصن فارع يوم الخندق مع النساء والصبيان فمر بنا في الحصن رجل يهودي فجعل يطيف بالحصن فقلت يا حسان أنا والله لا آمن أن يدل علينا هذا اليهودي أصحابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد شغل عنا فانزل إليه واقتله قال يغفر الله لك ما أنا بصاحب شجاعة قالت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيأً اعتجرت ثم أخذت عموداً ونزلت إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ثم رجعت إلى الحصن وقلت يا حسان انزل إليه واسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل فقال مالي بسلبه من حاجة وكان حسان اقتدى في فعله بهذا الشاعر في قوله باتت تشجعني هند وما علمت ... أنّ الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب

للحرب قوم أضلّ الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا ولست منهم ولا أبغي فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السلب وعاش حسان مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الاسلام ولأحمد بن أبي فنن في هذا المعنى مما نحاه من الاستطراد بالممدوح مالي ومالك قد كلفتني شططا ... حمل السلاح وقول الدارعين قف أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسى وأصبح مشتاقاً إلى التلف أرى المنايا على غيري فأفرقها ... فكيف أمشي إليها بارز الكف أخلت أنّ سواد الليل غبرني ... وإنّ قلبي في جنبي أبي دلف أخذ قوله فكيف أمشي إليها بارز الكتف من قول بعض الأعراب وقد قيل له اخرج إلى الغزو فقال والله أنا أكره الموت على فراشي فكيف أمشي إليه ركضاً ولما دخل هذا الشاعر على المعتز قال له أنت الشاعر الآدم فقال يا أمير المؤمنين لا يضره سواده مع بيض أياديكم عنده والفرار السلمي واسمه حنان ابن الحكم بن مالك فر من بني عوف فعرف في الجاهلية بالفرار وهو القائل في فراره وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا لبست نفضت لها يدي فتركتهم نفض الرماح ظهورهم ... من بين منعفر وآخر مسندي ما كان ينفعني مقال نسائهم ... وقتلت بين رجالهم لا تبعد وفر عامر بن الطفيل يوم الرقم وهو يوم كان لبني ذبيان وأحلافهم على بني عامر وفر عامر بن زرارة بن عدي الدارمي يوم اليسار وكان على بني تميم فر عمرو بن معد يكرب بن عباس بن مرداس وأسرت أخته ريحانة وفر عتبة بن أبي سفيان وفر عمرو بن العاص من علي يوم صفين فاتبعه علي فلما خاف عمرو أن يدركه كشف عن سوأته فرجع عنه وفر عبد الله بن مطيع بن الأسود يوم الحرة من جيش مسلم بن عقبة المري العامري وهو القائل في قتاله لأهل الشأم مع

عبد الله بن الزبير أنا الذي فررت يوم الحرّه ... والحرّ لا يفرّ إلا مرّه فاليوم أجزى فرّة بكرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه وفر أسلم بن زرعة يوم الأهواز من أبي بلال مرداس بن أدية الخارجي وكان أسلم في ألفي رجل وكان أبو بلال في أربعين فكان أول أمير انهزم في الاسلام وكان إذا ركب بالبصرة صاح به الصبيان في الطريق أبو بلال خلفك وفر عبد الله بن عمير الليثي من قتال النجدية في البحرين وكان وجهه حمزة بن عبد الله ابن الزبير فكان عمير رأس المحتسبة في الفتنة وفيه يقول الفرزدق تمنيت عبد الله أصحاب نجدة ... فلما لقيت القوم وليت سابقا تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم ... تركت لهم قبل الضراب السرادقا فأعطيت ما تعطى الحليلة بعلها ... وكنت حبارى إذ تلاقى البواشقا فلم يزل مستحياً من الركوب حتى فر أمية بن عبد الله بن أسد بن خالد بن أسيد من الخوارج يوم مرد اهجر فوجد به اسوة وظهر وفر عبد العزيز بن عبد الله بن خالد من الأزارقة وان معه أمرأتان له إحداهما غريبة من بني ليث بن كنانة والاخرى أم حفص بنت المنذر بن الجارود فجعلت الكنانية تنادي أين فرسان الطعائن فطعنها رجل من الخوارج نقتلها وسبيت أم حفص واقيمت جارية فيمن يزيد فبلغت مائة ألف درهم فوثب عمرو بن حديد بن عبد القيس فقتلها أنفة لها وذلك أنها كانت من أجمل النساء فأتى بها قطري فقال له ما حملك على ما فعلت قال رأيت كافرة حفت على المسلمين فتنتها فحلى سبيله ثم إن قاتلها بعد ذلك أتى أخاها الحكم فقال له جزاك الله خيراً ما غسل عنا العار غيرك وأمر له بعشرة آلاف درهم وفي عبد العزيز يقول كعب الأشقري عبد العزيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل سبيل

من بين منجدل يجود بنفسه ... وملحب بين الرجال قتيل هلا صبرت مع الشهيد مقاتلاً ... إذ رحت منها هارباً بأصيل سائل بعرسك هل تقاد سبية ... تشكو إليك بعبرة وعويل وفر أخوه خالد بن عبد الله يوم الجفر بالبصرة وذلك إن المروانيين اغتنموا أغفلة مصعب بن الزبير عنهم بالكوفة وكانوا بالبصرة فثار بهم خالد يد عوالي عبد الملك بن مروان فلما بلغ مصعباً الخبر أقبل من الكوفة إلى البصرة فقر خالد منه إلى الشأم وفيه وفي اخوته يقول الفرزدق وكل بني السوداء قد فرّ فرّة ... فلم يبق إلا فرّة في است خالد فضحتم أمير المؤمنين وأنتم ... تمدّون سودانا غلاظ السواعد ومن الجبناء الحجاج بن يوسف الثقفي دخل شبيب بن زيد الخارجي الكوفة سحراً ومعه غزالة زوجته وستون فارساً والحجاج بها في قصره مختفياً منه فحلفت غزالة على شبيب ليدخلن المسجد الجامع وليصلين في مقام الحجاج ففعل ثم خرج منها وفي ذلك يقول عمران بن حطان الخارجي يخاطب الحجاج أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تجفل من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر صدعت غزالة قلبه بفوارس ... تركت مناظره كأمس الدابر وممن كان يحضر الحروب ولا يقاتل الحجاج وأبو مسلم ذكر الجاحظ عمن حدثه أن الحجاج كان إذا التقى الجمعان ذهب عنه التدبير فلا يدري ما يأتي وما يذر وكان أبو كعب مولاه هو الذي يدبر الجيش حتى تضع الحرب أوزارها وأما أبو مسلم فكان ينصب له عند ملاقاته لعدوه عرش فيجلس عليه ويسدد من

آرائه سهاما أهدافها الصدور والظهور ويجرد من أوامره أسيافاً أغمادها الجفون والنحور وزياد وابنه عبد الله وأحمد بن طولون ومن أظرف ما يحكى أن البحتري شرب مع أبي هفان عند بعض الرؤساء فلما خرجا ركب البحتري بغلته وأردف أبا هفان خلفه فلما كان ببعض الطريق قال أبو هفان أبا عبادة من الذي يقول يلبس للحرب أثوابها ... وقال أنا الشاعر البحتري فلما رأى الخيل قد أقبلت ... إذا هو في سرجه قد خرى فدفعه البحتري من خلفه وقال يا ماص بظر أمه تتنادر وأنت فهد والشعر لأبي هفان ارتجالاً قاله على سبيل المداعبة ومن هنا أخذ المتنبي قوله وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا ومن نوادر أخبار الجبناء ... في مواطن الحروب والبلاء حكى أن عمرو بن معد يكرب مربحي من أحياء العرب وإذا هو بفرس مشدود ورمح مركوز وإذا صاحبهما في وهدة من الأرض يقضي حاجته فقال له عمرو خذ حذرك فإني قاتلك لا محالة فالتفت إليه وقال له من أنت قال أبو ثور عمرو بن معد يكرب قال أنا أبو الحرث ولكن ما أنصفتني أنت على ظهر فرسك وأنا في وهدة فأعطني عهدك أن لا تقتلني حتى أركب فرسي وآخذ حذري فأعطاه عهداً على ذلك فخرج من الوهدة التي كان فيها وجلس محتبياً بحمائل سيفه فقال له عمرو ما هذا الجلوس قال ما أنا براكب فرسي ولا مقاتلك فإن كنت نكثت العهد فأنت أعلم ما يلقى الناكث فتركه ومضى وقال هذا أجبن من رأيت وقال روح بن حاتم لأبي دلامة اخرج معي فقاتل وهذه عشرة آلاف درهم فقال إني أعوذ بروح أن يقرّبني ... إلى الحمام فيشتفي بنو أسد

إنّ البراز إلى الأقران نعرفه ... مما يفرّق بين الروح والجسد قد خالفتك المنايا إذ صمدت لها ... وأصبحت لجميع الناس بالرصد إذ المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت لحب الموت عن أحد لو أنّ مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد وخرج مروان بن محمد لمحاربة الضحاك الحروري فلما التقى الجمعان خرج من أصحاب الضحاك فارس فدعا إلى البراز فقال مروان من يخرج إليه وله عشرة آلاف درهم فقال أبو دلامة أنا وخرج طمعاً في الجائزة فرأى رجلاً عظيم الهامة وعليه فرو قد أصابته السماء فابتل ولحقته الشمس فيبس حتى صار كالقد لا يعمل فيه السيف فلما رآه الفارس جرى إليه وهو يرتجز وخارج أخرجه حب الطمع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع من كان يهوى أهله فلا رجع فخافه أبو دلامة فلوى جواده هرباً واتخذ من خوفه في الأرض نفقاً كما اتخذ الحوت لنجاته في البحر سرباً فقال مروان من هذا الفاضح لا أنجاه الله فقال أبو دلامة فر ولا أنجاه الله خير من قتل ورحمه الله واسم أبي دلامة زند بالنون وقيل زبد بالباء الموحدة واسم أمه الجون وقال عمرو بن هبيرة لاعرابي جزع من الحرب قاتل وخذ الرزق قال قدم لي رزقي قال حتى تقاتل قال الأعرابي أرى منيتي معجلة ومنيتي مؤجلة وقيل لمدني ألا تغزو الأعداء قال أنا لا أعرفهم وهم لا يعرفوني فكيف صرنا أعداء وقيل وقع في بعض العسكر هيج فوثب خراساني إلى فرسه ليلجمها ويفر عليها فصير اللجام في الذنب وقال يخاطب الفرس هب جبهتك عرضت ناصيتك كيف طالت وفر أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد من أبي فديك فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام فذكر عنده في بعض الأيام الخيل فقال سرت من المهرجان إلى البصرة في ثلاثة أيام فقال له ماجن من جلسائه ولو ركبت النيروز سرت إليها في يوم واحد واجتاز كسرى في بعض

حروبه بشيخ وقد عرى فرسه ونزع سلاحه وهو مستظل بشجرة فقال يا مقتولاً بيدي أنا في كرب الحرب وأنت على هذه الحالة فقال الشيخ أيد الله الملك إنما بلغت هذا السن باستعمال هذا التوقي وقال المهلب لحبيب بن عوف وكان من جنده في قتال الخوارج كر على القوم وخذ مائتين صحاحاً فأومأ إلى رأسه وقال أخاف أن يذهب رأس المال وأنشد يقول لي الأمير بغير نصح ... تقدّم حين جدّ بنا المراس فمالي إن أطعتك من حياة ... ومالي غير هذا الرأس راس ولبعض الشعراء ولو أنّ لي رأسين أدخر واحداً ... وألقى الأعادي بعد ذاك بواحد لا قدمت في الهيجاء اقدام باسل ... ولم أك هياباً لدفع الشدائد ولكنّ لي رأساً إذا ما فقدته ... وفارقني يوماً فليس بعائد ومما ينسب لأبي دلامة ألا لا تلمني فررت وإنني ... أخاف على فخارتي أن تحطما وايتم أولاداً وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدّما ولو كان لي نفسان كنت مقاتلاً ... بإحداهما حتى تموت فأسلما وحكى ابن حبيب في كتابه المحير أن حبيباً دخل على المهلب بن أبي صفرة فأنشده فقدتك يا مهلب من أمير ... أما تندى يمينك للفقير فقال المهلب هو جنتي فوالله إني لأبذل لكم مالي وأقيكم الحروب بنفسي فقال حبيب إنا نكره اقحامك بنا المنايا فقال المهلب أوليس قد قال الأول إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال المنايا بالفتى أن تقطعا

فقال حبيب خفض العيش والدعة والاعتياض عن الضيق بالسعة ثم أنشده ما قاله حين فر من أبي فديك يوم مردا هجر بذلت لكم يا قوم حولي وقوّتي ... ونصحي وما حازت يداي من التبر فلما تناهى الأمر بي وعدوّكم ... إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري وطرت ولم أحفل ملامة عاجز ... يقيم لأطراف الردينية السمر ولو كان لي رأسان أهملت واحداً ... لكل رديني وأبيض ذي أثر فضحك منه ثم التفت إلى من حضر مجلسه وقال بمثل هذا فليقاتل الأعداء وقيل لانسان إذا رأيت سوداً بالليل فاقدم ولا تفرق منه فإنه يخافك كما تخافه قال أخاف أن يكون ذلك السواد سمع هذه المقالة قبلي وقيل لمطرف ابن عبد الله لم لا تخرج تقاتل مع علي رضي الله عنه قال لو كان لي نفسان قدمت إحداهما فإن أصابت الحق أتبعتها الاخرى ولكنها واحدة ودخل حميد بن الأرقط على الحجاج فأنشده قصيدة شاعر مختارة في صفة الحروب فقال الحجاج أراك تحسن صفة الحرب أقاتلت الأبطال وقابلت الأقيال قال لا أيها الأمير إلا في النوم قال وكيف كانت وقعتك قال انتبهت وأنا منهزم فضحك منه ووصله صفات من بدل ثباته بالاحجام ... وقيد بالفرق قدمه عند الاقدام قال الله تعالى يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو وقال عليه الصلاة والسلام نصرت بالرعب مسيرة شهر وقالوا فلان من خوفه يحسب كل صيحة عليه وكل يد تشير بالأخذ إليه شاعر ما زلت أحسب كل خيل بعدها ... خيلاً تكرّ عليهم ورجالا

آخر كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل المتنبي وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا آخر كأنّ بلاد الله في ضيق خاتم ... عليهم فلا تزداد طولاً ولا عرضا وقالوا فلان تقلصت من الخوف شفتاه واصفرت من الهلع وجنتاه ومن أمثالهم أجبن من المنزوف ضرطاً وذلك إن رجلاً كان يتعشق نساء وكان يدعي عندهن الشجاعة فنام عندهن يوماً فأردن امتحانه فصحن به جاءتك الخيل فانتبه مذعوراً وما زال يضرط حتى مات قال أبو عبيدة كان خالد بن عبد الله القسري من أجبن الناس وأخوفهم فخرج عليه المغيرة بن سعيد فأخبر بذلك وهو على المنبر بالكوفة فدهش من شدة الخوف واصطكت أسنانه وجفت لهاته فقال أطعموني ماء وأدركوني فقد هلكت عطشاً ونزل عن المنبر هارباً وفيه يقول يحيى بن نوفل بلّ السراويل من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لماجد في الهرب

الفصل الثالث من الباب الثاني عشر

ودخل الحجاف بن حكيم على عبد الملك بن مروان والأخطل عنده فلما بصر به الأخطل قال يعرض به ألا بلغ الحجاف هل هو ثائر ... بقتلي أصيبت من سليم وعامر فقال الحجاف بل سوف نبكيهم بكل مهند ... ونبكي عميراً بالرماح الشواجر ثم قال يا ابن النصرانية ما ظننتك تجترئ علي بمثل هذا ولو كنت مأسوراً لك فحم الأخطل خوفاً منه وجزعاً فقال له عبد الملك أنا جارك منه فقال يا أمير المؤمنين هبك أجرتني منه في اليقظة فمن يجيرني منه في النوم أخذ هذا المعنى أشجع السلمى فقال من قصيدة يمدح بها الرشيد وعلى عدوّك يا ابن عم محمد ... ضدّان ضوء الصبح والاظلام فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام وقالوا فلان تخوفه أضغاث أحلام فكيف مسموع كلام فلان يرى صوت الرياح قعقعة الرماح فلان إذا خاف طار من خوفه كل مطار وفر فرار الليل من وضح النهار الفصل الثالث من الباب الثاني عشر فيمن ليم على الفرار والإحجام فاعتذر بما ينفي عنه الملام سمع سليمان بن عبد الملك قارئاً يقرأ قل لن ينفعكم الفراران فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلاً فقال ذلك القليل نريد وقال الوليد بن عقبة لعثمان بن عفان يقول لك عبد الرحمن بن

عوف لم جفوتني ولم أفر يوم أحد ولم أتخلف يوم بدر يعرض به فقال أما فراري يوم أحد فلا تعيرني به فإن الله قد عفا عني فيمن عفا عنه وأما تخلفي يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت فأخبره عني بذلك ونظرت امرأة حماس ابن قيس البكري المعروف بالهارب له وقد رأته يشحذ حربته يوم فتح مكة وهو يقول إن تقبلوا اليوم فمالي علة ... هذا السلاح كامل واله وذو عذار لي سريع السلة فقالت ما تصنع بهذه الحربة فقال أعددتها لمحمد وأصحابه فقالت إني أرى أنه لا يقوم لك بها شيء قال والله إني أرجو أن أخدمك بعضهم ثم خرج فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وانهزم المشركون يوم الجندمة وفرحاس حتى دخل بيته فقال لامرأته اغلقي الباب فقالت له وأين ما كنت تقول فقال لو أنك شهدت يوم الجندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه إذ قد لحقنا بالسيوف المسلمة ... لهم نشيش حولنا وهمهمه يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضرباً فلا نسمع إلا غمغمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه وذكر أن كسرى ابرويز لما انهزم من بهرام جور واستجار بملك الروم فعنفه على هربه وأمده بستين ألفاً منهم شجاع يعد بألف فسار بهم إلى بهرام فخرج بهرام لمحاربته فلما تلاقى الجيشان برز الشجاع لبهرام فضربه بالسيف ضربة قده بها نصفين فلفه كسرى وأنفذه إلى ملك الروم وقال إنما فزعت إليك من رجل يضرب مثلي هذه الضربة وذكر الطرطوشي في كتابه سراج الملوك أن هذه الضربة لم يسمع بمثلها في جاهلية ولا اسلام وإن هذه الرأس كانت معلقة في كنيسة من كنائس الروم وكانوا إذا عيروا بانهزامهم من تلك الوقعة يقولون لقينا رجالاً هذا ضربهم

وحكى إن أبا زبيد الطائي واسمه حرملة بن المنذر دخل على عثمان بن عفان فلامه على فراره من الأسد لما عرف من شجاعته فقال يا أمير المؤمنين لا تلمني لقد رأيت منه منظراً وشهدت مخبراً لا يزال ذكره يتجدد في قلبي وشخصه يتمثل في عيني خرجنا نريد الحرث بن شمر الغساني ملك الشأم فاصابنا قيظ ذبلت منه الشفاه وعصبت الأفواه فانحزنا إلى واد أشجاره مغنة وأطياره مرنة فحططنا رحالنا ثم أخذنا نصف حر يومنا ونذكر مطاولته ومماطلته فبينما نحن كذلك إذ صوب أقصى الخيل أذنيه وفحص الأرض بيديه ثم ما لبث أن جال محمحماً ومال مهمهماً فتضعضعت الخيل وتكعكعت الإبل وتقهقرت البغال فمن نافر بشكاله وناهض بعقاله فحدقنا أبصارنا وإذا سبع قد أقبل يتطاول في مشيئته كإنه محبوب وينظر بعينين كأنهما جمر مشبوب له خطيط ولصدره نحيط ولبلاعيمه غطيط ولطرفه وميض ولارساغه نقيض كأنه يخط هشيماً ويطأ صريماً ذو هامة كالمجن وخد كالمسن وساعد مجدول وعضد مفتول وكف شثنة البراثن ومخالب كالمحاجن فضرب بذنبه الأرض فأرهج وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة في فم أشدق كالغار الأخرق ثم تمطى فأشرع بيديه وحفز وركيه برجليه فصار ظله مثليه ثم أقعى فاقشعر ثم مثل فاكفهر وزأر فجرجر ثم لحظ فرؤى السماء عرشه فخلت البرق يتطاير من تحت جفونه عن شماله وجمحت العيون وانحزت المتون ولحقت الظهور بالبطون وساءت الظنون ثم أنشد عبوس شموس مصلخد خنابس ... جرئ على الأرواح للقرن قاهر منيع ويحمي كل واد يرومه ... شديد أصول الماضغين مكابر براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضا في وجهه الشرّ طائر يذل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق منها خناجر فقال له عثمان اكفف لا أم لك لقد أرعبت قلوب المسلمين ولقد وصفته حتى كأني أنظر إليه يريد مواثبتي وكان أبو زبيد هذا نصرانياً ومات ولم يسلم وقد ذكر علما الرواة لأخبار العرب وأشعارها هذه الحكاية بأطول مما أثبتناه لكنا استغنينا باليسير منها عن الكثير لدلالته على الغرض المقصود في ذكره للأسد

بالوصف الشنيع والمرأى الفظيع ليبلغ في الاعتذار عن هربه مقتضى أربه فلما لم يكن بنا لذكرها على التمام حاجة اقتصرنا على الخلاصة منها لا المجاجة من أحسن من الجبناء في اعتذاره لما قرع على انهزامه وفراره الحرث ابن هشام وكان قد شهد بدراً مشركاً فانهزم فصنع حسان قصيدة استطرد به فيها يقول منها إن كنت كاذبة الذي حدّثتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام ترك الأحبة إن تقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام فأجابه الحرث الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد وعلمت إني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي وشممت ريح الموت من تلقائهم ... في مازق والخيل لم تتبدّد فصدفت عنهم والأحبة دونهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد وأنشد هذا الاعتذار لبعض ملوك العجم فقال يا معشر العرب لقد بلغتم بلطافة ألسنتكم وحسن احتجاجكم وجميل أوصافكم مبلغاً لم يبلغه أحد غيركم حتى اعتذرتم عن الفرار بعذر يسع بعدكم الاعتذار به لكل منهزم وتوفي الحرث هذا سنة ثمان عشرة بالطاعون وهو طاعون عمواس قرية بالشأم وفيها توفي أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم ويقال إن عبد الله بن عنقاء الجهمي لقيه بنو عبس يسوق بأمرأته أم الحصين ففر عنهم فعيرته امرأته فقال أجاعلة أم الحصين خزاية ... عليّ فراري أن لقيت بني عبس لقيت أبا شاس وشاساً ومالكاً ... وقيساً فجاشت من لقائهم نفسي جذيمة دعواهم وعود بن غالب ... أولئك جاشت من لقائهم نفسي كأن جلود النمر صبت عليهم ... إذا جعجعوا بين الاباحة والحبس

أتونا فضموا جانبينا بصادق ... من الطعن فعل النار بالحطب اليبس نحوت سليمى لم تمزق عمامتي ... ولكنهم بالطعن قد مزقوا ترسي وليس الفرار اليوم عاراً على الفتى ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس وقيل لبعضهم لم انهزمت فقال إنما لي نفس واحدة وأنا حقيق بالنظر إليها لئلا يذهب رأس المال وليم آخر على فراره فقال الحرب سجال وعثراتها لا تقال وانهزم بعضهم فأخذ أميره يوبخه ويعنفه على فراره وقال أعطبت بيدك ولا طعنت ولا ضربت فقال لان يشتمني الأمير أصلحه الله وأنا حي خير من أن يترحم علي وأنا ميت وقيل لآخر ولي في حرب ويلك لا تهرب يغضب الأمير عليك فقال غضب الأمير علي وأنا حي أحب إلي من رضاه عني وأنا ميت ومن أغاليط أعاذيرهم المسكتة وأكاذيب أساطيرهم المبكتة ما ذكره صاحب كليلة ودمنه من أن الحازم يكره القتال ما وجد بدلاً منه لأن النفقة فيه من النفوس والنفقة في غيره من المال التقى عسكر دبيس بن صدقة وعسكر الراشد فولي دبيس منهزماً فعبر الفرات يريد النجاة فقصد بعض أحياء العرب فقالت له عجوز من عجائزهم دبيراً جئت فقال دبير من لم يجئ وقالوا من جبن سلم ومن تهور ندم وقال عبد الله بن المقفع الشجاعة متلفة وذلك أن المقتول مقبلاً أكثر من المقتول مدبراً فمن أراد السلامة فليؤثر الجبن على الشجاعة وقيل لجبان لم لا تقاتل فقال عند النطاح يغلب الكبش الأجم وقالوا الحياة أفضل من الموت إذا كانت النجاة إلى حياة صالحة على أن موتاً في عز خير من حياة في ذل وقالوا الفرار في وقته ظفر وقالوا الشجاع ملقى والجبان موقى وقالوا السلم أزكى للمال وأبقى لأنفس الرجال وقال شاعرهم وهو البديع الهمداني ما ذاق هما كالشجاع ولا خلا ... بمسرة كالعاجز المتواني وقالوا الهرب في وقته خير من الجلد والثبات في غير وقته وقال المتوكل لأبي العيناء إني لافرق من لسانك فقال يا أمير المؤمنين الكريم ذو فرق واحجام واللئيم ذو وقاحة واقدام

الباب الثالث عشر

الباب الثالث عشر في العفو وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في مدح من اتصف بالعفو عن الذنب المتعمد والسهو قال الله تعالى وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وقال تعالى فمن عفى وأصلح فأجره على الله وقال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوبا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقال مسلماً عثرته أقاله الله عثراته يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ما من امام عفا بعد قدرة إلا قيل له يوم القيامة ادخل الجنة بغير حساب وقال معاذ بن جبل لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ما زال جبريل يوصيني بالعفو فلولا علمي بالله لظننت أنه يوصيني بترك الحدود وقيل لأبي الدرداء من أعز الناس قال الذي يعفو إذا قدر وينصر إذا استنصر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عفا عمن ظلمه صغيرة أو كبيرة فاجره على الله ومن كان أجره على الله فهو من المقربين يوم القيامة

وحده على ما قاله بعض العلماء وقد سئل عنه هو ترك المكافأة عند القدرة قولاً وفعلاً وقال آخر هو السكون عند الأحوال المحركة للانتقام وهو يجمع أشرف الخلال وأكرم الخصال وأفضل شمائل الجلال وأعلى مراتب الكمال وركن متين وحصن حصين من استند إليه واعتمد عيه استنارت له الظلم وأمن من عثرات القدم وعصم من مواقع الندم ويكفي في شرفه إن الانسان لا يسمى حليماً حتى يكون عاقلاً عالماً محسناً صبوراً وحتى يجمع عظم القدر إلى سعة الصدر وقالوا الحليم من لم يكن حلمه لفقد النصرة وعدم القدرة وهو غريزة في الانسان يمنحها واهب الاحسان تصدر عن صدر سالم من الغوائل والأدواء صاف من شوائب الكدر ولاقذاء لا تستطاع بتعلم وتفكر ولا تدرك بتفقه وتبصر كما قال أبو الطيب المتنبي وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلم تقدّم الميلاد فقد يكون طبيعة ويكون مكتسباً مستفاداً بتمرن النفس إليه وتنقاد حباً في المحمدة إليه ويعضد هذا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاشح عبد القيس يا أبا المنذر إن فيك خصلتين يرضاهما الله ورسوله الحلم والأناة فقال يا رسول الله أشيء جبلني الله عليه أو شيء اخترعته من قبل نفسي قال بل شيء جبلك الله عليه فقال الحمد لله الذي جبلني على خلق يرضاه الله ورسوله وقال المخالفون لهذا المذهب الحلم بالتحلم كما أن العلم بالتعلم واستدلوا لهذا القول بما يروى أن جعفر بن محمد الصادق كان إذا أذنب له عبد أعتقه فقيل له في ذلك فقال إني أريد بفعلي هذا تعلم الحلم وقيل كان له عبد سيء الخلق فقيل له ما بقاء مثل هذا عندك وأنت قادر على أن تستبدل به غيره قال لأتعلم به الحلم ومن ذلك قول الأحنف من لم يصبر على كلمة سمع كلمات وأنشد وليس يتم الحلم للمرء راضياً ... إذا هو عند السخط لم يتحلم كما لا يتم الحلم للمرء موسراً ... إذا هو عند العسر لم يتحشم

ومن أحاسن الكلام الصادر عن الحكماء في شرف الحلم ومن تخلق به من الحلماء قالوا الحلم والأناة توأمان نتيجتهما علو الهمة وهذا كما ورد عن علي رضي الله عنه أنه سأل رجلاً من أهل فارس عمن كان أحمد ملوكهم سيرة قال أنوشروان فقال علي أي أخلاقه كان أغلب عليه قال الحلم والأناة فقال على هما قوام الملك نتيجتهما علو الهمة والأناة ترك العجلة بالانتقام عند القدرة قال إبراهيم بن العباس الصولي لن يدرك المجد أقواماً وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزو الأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل ولكن صفح اكرام وقال قابوس بن وشمكير العفو عن الذنب من واجبات الكرم وقبول المعذرة من محاسن الشيم ومن كلام التبوة كاد الحليم أن يكون نبياً ورأى حكيم نزقة من ملك فقال أيها الملك ليس التاج الذي يفتخر به عظماء الملوك فضة ولا ذهباً ولكنه الوقار المكلل بجواهر الحلم وأحق الملوك بالبسطة من حلم عند ظهور السقطة وقال معاوية لابنه يزيد عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة فإذا أمكنتك فعليك بالصفح فإنه يدفع عنك مضلات الأمور ويوقيك مصارع المحذور وقال الشاعر لا تحسبن الحلم منك مذلة ... إنّ الحليم هو الأعز الأمنع إن جرعوك الغيظ فأجرعه لهم ... تؤجر وتحمد غب ما يتجرع آخر إنّ التحلم ذل أنت عارفه ... والحلم عن قدرة أفضل من الكرم وقال معاوية أفضل ما أعطى الرجل الحلم فإنه إذا ذكر ذكر وإذا قدر غفر وإذا أساء استغفر وقالوا العفو يزين حالات من قدر كما يزين الحلي قبيحات الصور وقالوا الحلم مطية وطية تبلغ راكبها قصبة المجد وتملكه ناصية

الجد وقال بعض البلغاء من غرس الحلم شجراً وسقاه الأناة درراً جنى العز منه ثمراً وأثبت المكارم أثراً شاعر إذا شئت يوماً أن تسود عشيرة ... فبالحلم سدلاً بالتسرع والشتم فللعلم خير فاعلمن مظنة ... من الجهل إلا أن تشينه بالظلم آخر اخفض جناحك للقرابة والقهم ... بتودد واغضض لهم ان أذنبوا وصل الكرام فإن ظفرت بزلة ... فالصفح عنهم والتجاوز قرب آخر إلا إنّ حلم المرء أكرم نسبة ... تسامى بها عند الفخار كريم فيا رب هب لي منك حلماً فإنني ... أرى الحلم لم يندم عليه حليم وقالوا الحلم حجاب الآفات وقالوا من غرس شجر الحلم اجتنى ثمر السلم وقال عمر بن عبد العزيز ما قرن الله شيأً إلى شيء أفضل من علم إلى حلم ومن عفو إلى قدرة وقال حكيم خير الأمور بغية العفو وخير العفو ما كان عن قدرة وقال الشاعر العفو يعقب راحة ومحبة ... والصفح عن ذنب المسئ جميل وقال عمر أيضاً استدعوا العفو من الله بالعفو عن الناس والرحمة بهم والشفقة عليهم وقالوا اعف عمن لم يسلك من سخطك طريقاً حتى يأخذ من رجائك طريقاً ويروى عن عيسى عليه السلام أنه قال ليس الاحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك إنما تلك مكافأة وإنما الاحسان أن تحسن إلى من أساء إليك وقال سعيد بن العاص ما شاتمت أحداً مذ صرت رجلاً لأني ما أشاتم إلا أحد رجلين إما كريماً فأنا أحق أن أحتمله أو لئيماً فأنا أولى من رفع نفسه عنه وقال عمر بن الخطاب ادرؤا الحدود بالشبهات ولان يخطئ الامام في

العفو أحب إلي من أن يخطئ في العقوبة فإذا وجدتم مخرجاً للسلم فادرؤا الحدود شاعر وما بال من أسعى لاجبر عظمه ... سفاهاً وينوي من سفاهته كسرى أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر أعوذ على ذي الجهل والحلم منهم ... بحلمي ولو عاقبت غرقهم بحري أناة وحلماً وانتظاراً بهم غدا ... وما أنا بالواني ولا الضرع الغمر ألم تعلموا أني تخاف عزيمتي ... وإن قناتي لا تلين على الكسر من عرف بالعفو عند خطا الجاني ... وصار بالأناءة عليه كالأب الحاني كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حليماً رحيماً رؤفاً عطوفاً يهب ويسمح ويعفو ويصفح وكان كسرى يقول عفوي عمن أساء إلي بعد قدرتي عليه أسر لي مما ملكت وكان معاوية يقول ما وجدت لذة ألذ عندي من غيظ أتجرعه ومن سفه بالحلم أقمعه وكان يقول إني لاكره أن يكون في الأرض جهل لا يشمله حلمي وذنب لا يسعه عفوي وكان المأمون ممن أوتي الحلم طبعاً لا تطبعاً ومنح العفو خلقاً لا تخلقاً فكان يقول إني لاستحلي العفو حتى أخاف إني لا أوجر عليه ولو علم الناس محبتي في العفو لتقربوا إلي بالذنوب فكأنه القائل بلسان كرمه وأفضاله لا بلسان نطقه ومقاله وجهل رددناه بفضل حلومنا ... ولو أننا شئنا رددناه بالجهل رجحنا وقد خفت حلوم كثيرة ... وعدنا على أهل السفاهة بالفضل عامر العدواني إني غفرت لظالمي ظلمي ... وتركت ذاك له على علمي فرأيته أسدى إليّ يداً ... لما أبان بجهله حلمي

وكان يقول ليس في الحلم مؤنة ووددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في الحلم حتى يذهب عنهم الخوف فتصفو إلي قلوبهم وكان يقول المذنبون ثلاثة فمنهم من ذنبه مقرون بعذره قد أماطه عنه وأخرجه سليماً منه ومنهم من ذنبه فاضح وعذره غير واضح وهو فرد لا أخ له وفذ لا توأم معه فالأولى به أن يقال إذا اعترف بالحوبة وأخلص لي التوبة ومنهم المتردد في هفواته والمتكرر في عثراته الجارية عادته أن يكثر التوبة إذا تاب ويفسخ عقد الانابة متى أناب فذاك الذي يعاقب بالاطراح ولا يطمع في شخصه بالفلاح وكان أسماء بن خارجة يقول ما أتاني أحد بما أكره إلا أخذت عليه بثلاث خصال فإن كان فوقي عرفت له فضل التقدم فاتبعته وإن كان دوني صفت نفسي عنه وإن كان مثلي تفضلت عليه نظم محمود الوراق هذه الكلمات في هذه الثلاثة الأبيات فقال سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن عظمت منه عليّ الجرائم فما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثلي مقاوم فأما الذي فوقي فاعرف فضله ... واتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي دوني فإن قال منكراً ... صفحت له عنه وإن لام لائم وأمّا الذي مثلي فإن زلّ أو هفا ... تفضلت إنّ الفضل بالحلم حاكم الناشي في مثل هذا إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل فإن كنت أدنى منه في العلم والحجى ... عرفت له حق التقدّم بالفضل وإن كان مثلي في محلّ من النهى ... أردت لنفسي أن أجلّ عن المثل وقال المأمون وجدت المسئ إلي عبد الله ولو أساء إلي عبد لاخ لصفحت عنه اكراماً له فكيف لا أصفح عن عبد مسئ هو عبد الله تعالى

ولأبي فراس الحمداني ما كنت مذ كنت الأطوع خلاني ... ليست مؤاخذة الاخوان من شاني يجنى الخليل فاستجلى جنايته ... حتى أدلّ على عفوي واحساني يجنى عليّ وأحنو دائماً أبداً ... لا شيء أحسن من حان على جان وقال رجل للأحنف في مشاجرة وقعت بينهما إن قلت كلمة لتسمعن عشر كلمات فقال الأحنف لو قلت عشراً لم تسمع واحدة ومن حكاياته الدالة على كرم نجره القاضية له بتضعيف أجره أن رجلاً جعل له ألف درهم على أن يغضبه فوقف الرجل وبالغ في سبه والأحنف يعرض عنه غير مكترث به فلما رآه لا ينظر إليه ولا يرد عليه أقبل يعض أنامله ويقول واسوأتاه والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه ولهذا قيل الحليم من صمت عن سماع الخنى وأغضت عيناه على مضض القذى ما اخترناه وانتقيناه من غرر الممادح ... المقولة فيمن أغضى عن المسئ القادح مدح أعرابي رجلاً بالحلم فقال إن أذنبت إليه استغفر فكأنه المذنب وإن أحسن إليك اعتذر فكأنه المسئ الحسن بن رجاء في المأمون صفوح عن الاجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما وقال آخر يعفو عن الذنب العظي ... م وليس يعجزه انتصاره صفحاً على الباغي علي ... هـ وقد أحاط به اعتذاره

الفصل الثاني من الباب الثالث عشر

وقال أبو الحسن مهيار بن مردويه الديلمي من أبيات وإذا اباء المرء قال لك انتقم ... قالت خلائقك الكرام بل احلم شرع من المجد انفردت بدينه ... وفضيلة لسواك لم تتقدّم حتى لقد ودّ البرئ لو أنه ... أدلى إليك بفضل جاه المجرم ولغيره من أبيات فدهره يصفح عن قدرة ... ويغفر الذنب على علمه كأنه يأنف من أن يرى ... ذنب امرئ أعظم من حلمه الفصل الثاني من الباب الثالث عشر فيمن حلم عند الاقتدار وقبل من المسئ الاعتذار ولنبدأ الآن بما يجب على الأحرار من الصفح المتبجح بالأقدار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يقبل عذراً من معتذر صادقاً كان أو كاذباً لم يرد على الحوض وقالوا الكريم أوسع ما يكون مغفرة إذا ضاقت بالمسئ المعذرة شاعر إذا اعتذر المسئ إليك يوماً ... من التقصير عذر فتي مقر فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإنّ العفو شيمة كل حر ويقال توبة المذنب اقراره وشفيع المجرم اعتذاره وقال الشاعر اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن برّ عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا

وقالوا لا يظهر الحلم إلا مع الانتصار ولا يبين العفو إلا عند الاقتدار شاعر إن للاعتذار حظاً من العف ... ويراه المقر بالانصاف ولعمري لقد أجلك من قد ... جا مقراً بذلة الاقتراف آخر إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً ... إليك ولم تغفر له فلك الذنب وقالوا ما أذنب من اعتذر ولا أساء من استغفر وقال محمد بن شيرذاذ الأصاغر يهفون والأكابر يعفون كتب بعضهم إلى رئيس يعتذر إليه من ذنب اقترفه اغتفر زلتي لتحرز فضلي ... واعف عني ولا يفوتك أجري لا تكلني إلى التوسل بالعذ ... ر لعلي أن لا أقوم بعذري ومن وصاياهم إياك وتكرير العذر فإنه تذكير بالذنب وقال الشاعر إذا كان وجه العذر ليس ببين ... فإن اطراح العذر خير من العذر ومن وصاياهم إياك وما يعتذر منه وقولهم إياك وما يسبق إلى القلوب انكاره وإن كان عندك اعتذاره فما كل من أسمعته نكراً يطيق أن توسعه منك عذرا ذكر منق در من الصدور فعفا ... وأثلج الصدور بالمنة وشفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن أهل مكة كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بالقول فقالوا كذاب وساحر ومجنون وغير ذلك من السب والشتم وبعدها

بالفعل فكانوا يقصدون نكايته في نفسه وأهله ولكثرة ايذائهم له قال ما أوذي أحد مثل ما أوذيت رموه بالحجارة فشجوا جبينه وكسروا رباعيته ووضعوا الشوك في طريقه وشقوا الكرش على رأسه وحاربوه وقتلوا أعمامه وعذبوا أصحابه وألبوا عليه وأخرجوه من أحب البقاع إليه وقتلوا عمه حمزة وبقروا بطنه ومثلوا به حتى إذا فتح الله مكة على يديه ودخلها بغير حمدهم وظهرت بها كلمته على رغمهم أخذ بعضادتي باب الكعبة وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وشكره على ما منحه من الظفر وقال لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قال ما تقولون وما تظنون إني فاعل بكم فقال سهل بن عمرو ونقول خبراً ونظن خيراً أخ كريم وابن أخي كريم وقد قدرت فقال أقول لكم كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا فأنتم الطلقاء ولما ظفر انوشروان ببزرجمهر وكان قد ترك دين المجوس قال الحمد لله الذي أظفرني بك قال كافئ من أعطاك ما تحب بما يحب فعفا عنه وحكى عن سلم بن نوفل وكان سيد قومه أن رجلاً ضرب ولده فشجه فأتى به إليه فقال له ما حملك على ما فعلت وما الذي أمنك من انتقامي منك فقال الرجل إنما سودناك لأنك تحلم وتكظم الغيظ وتحتمل جهل الجاهل فقال له إني آثرت حلمي وكظمت غيظي واحتملت جهلك خلواً عنه فولي الرجل وهو يقول تسوّد أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المعروف سلم بن نوفل وحكى أن عبد الملك بن مروان نقم على رجل ذنباً فهرب منه فلما ظفر به هم بقتله فقال له الرجل إن الله قد فعل ما أحببت من الظفر فافعل ما يحبه من العفو فإن الانتقام عدل والتجاوز فضل والله يحب المحسنين فعفا عنه وأساء بعض جلسائه عليه الأدب فاطرحه وجفاه ثم دعاه بعد أيام لأمر عن له فرآه شاحب اللون نحيلاً فقال له متى اعتللت فقال ما مسني سقم ولكنني جفوت

نفسي مذ جفاني الأمير فاستحسن ذلك منه وعفا عنه وقال الأصمعي أتى المنصور برجل ليعاقبه على شيء بلغه عنه قال له أتحصيه فقال يا أمير المؤمنين الانتقام عدل والتجاوز فضل ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ ارفع الدرجتين فعفا عنه وقال المنصور لجان عجز عن الاعتذار ما هذا الوجوم وعهدي بك خطيباً لسنا فقال يا أمير المؤمنين ليس هذا موقف مباهاة ولكنه موقف توبة والتوبة تلفي بالاستكانة والخشوع والذلة والخضوع فرق له وعفا عنه وسعى إلى المنصور برجل من ولد الأشتر النخعي ذكر عنه الميل إلى بني علي بن أبي طالب والتعصب لهم فأمر باحضاره فلما مثل بين يديه قال يا أمير المؤمنين ذنبي أعظم من نقمتك وعفوك أوسع من ذنبي ثم قال فهبني شيأً كالذي قلت ظالماً ... فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل فإن لم أكن للعفو منك لسوء ما ... أتيت به أهلاً فأنت له أهل فعفا عنه وأتى المنصور برجل أذنب فقال يا أمير المؤمنين إن الله أمر بالعدل والاحسان فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ في بالاحسان فعفا عنه وأتى الهادي برجل فعل ما أنكره عليه فجعل يقرعه ويوبخه ويهدده ويتوعده فقال يا أمير المؤمنين اعتذاري عما تقر عيني عليه رد عليك وامساكي عن الاعتذار يوجب ذنباً لم أجنه ولكني أقول فإن كنت ترجو في القيامة رحمة ... فلا تزهدن في العفو عني وفي الأجر ولما خرج إبراهيم بن المهدي على عبد الله المأمون عندما عقد لعلي بن موسى الرضا بولاية العهد بعده وأمر الناس بلباس الخضرة كره أهل بغداد ذلك وبايعوا إبراهيم ولقبوه بالمبارك وذلك في سنة اثنتين ومائتين فأقام سنة واحد عشر شهراً وأياماً يخطب له ثم دخل المأمون بغداد في صفر سنة أربع ومائتين وهي السنة التي مات فيها الشافعي وعليه الخضرة فاختفى إبراهيم ولم يظهر إلى سنة عشر فلما ظفر به المأمون أوقفه بين يديه وقد اجتمع في مجلسه وجوه دولته

ووزراؤها وقضاتها وكتابها وأمراؤها وقوادها فاستشار من حضر في أمره فكل أشار بقتله وكان فيمن حضر أحمد بن أبي خالد ساكتاً لا يتكلم ولا يفيض معهم في شيء من ذلك فقال له المشأمون مالك لا تنطق فقال يا أمير المؤمنين كم قتل مثلك مثله ولم يعف مثلك عن مثله ولان تكون أوحد في العفو أحب إلي من أن تكون شريكاً في العقوبة فأعجب المأمون كلامه وعفا عنه ويروى أنه لما مثل بين يديه قال له ما حملك على اجترام ما أداك إلى حتفك قال القدرة تذهب الحفيظة وولي الثار مخير في القصاص والعفو والعفو منك أقرب وقد جعلك الله فوق كل ذي حلم كما جعلني فوق كل ذي ذنب فإن تعف فبفضلك وإن تعاقب فبعدلك وإنه وإن كان ذنبي أعظم من أن يحيط به عذر فعفو أمير المؤمنين أعظم من أن يتعاظمه ذنب فقال المأمون قد رأيت وما توفيقي إلا بالله تحقيق ظنك في العفو عن خطيئتك والصفح عن جليل جرمك واقالتك العثرة وامانك على نفسك وأنشد لما رأيت الذنوب جلت ... عن المجازاة في العقاب جعلت عنها العقاب عفواً ... امضى من الضرب للرقاب كان أبو نواس قد غلب على قلبه حب الأمين والتهالك فيه والغرام حتى قال فيه عذب قلبي ولا أقول بمن ... خافه لا أخاف من أحد إذا تفكرت في هواي له ... لمست رأسي هل طار عن جسدي فاتصلت هذه الأبيات بالمأمون فقال من يقال فيه هذا يصلح أن يكون خليفة للمسلمين فبلغ ذلك الأمين فأمر بقتل أبي نواس حيث وجد فشفع فيه فأمر بحبسه ولا يمكن من ورقة ولا دواة فحلق رأس عبد له وكتب فيها بالفحم بك أستجير من الردى ... متعوذا من سطو باسك

وحياة رأسك لا أعو ... د لمثلها وحياة راسك من ذا يكون أبا نوا ... سك إن قتلت أبا نواسك وكتب تحت الأبيات إذا قرأ أمير المؤمنين الرقعة يخرقها ثم قال للغلام سر إلى دار الخلافة فإذا جئتها ناد نصيحة لأمير المؤمنين فإذا دخلت على الخليفة اكشف رأسك ليرى ما فيها مكتوباً ففعل الغلام ما أوصاه به فلما قرأ الأمين الأبيات ضحك وقال ما ألطفه وأظرفه وأمر باطلاقه وحكى عبد الرحمن اليزيدي قال حضرت مجلس المأمون وهو على شراب فدعاني وأكرهني حتى شربت فكلمني بكلمة في حال السكر فأجبته عنها جواباً قبيحاً وأنا لا أعلم لما أخذ الشراب مني وغلبة السكر علي فاعلمت بذلك بعد انصراف المجلس فكتبت إليه أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو ثملت فأبدى مني الكاس بعض ما ... كرهت وما أن يستوي السكر والصحو تنصلت من ذنبي تنصل ضارع ... إلى من إليه يحسن العفو والسهو فإن تعف عني ألف خطوي واسعاً ... وإن تكن الأخرى فقد قصر الخطو فلما قرأ المأمون رقعته قال قد صفحنا عنك فإن مجلس الشراب يطوي بما فيه ويقال بل وقع على الرقعة إنما مجلس الندامى بساط ... للمودّات بينهم وضعوه فإذا ما انتهى إلى ما أرادوا ... من حديث ولذة رفعوه حكاه المرزباني في كتاب طبقات الشعراء وعرف باليزيدي لأنه كان يؤدب ولد يزيد ابن منصور الحميري خال المهدي وقال الحسن بن سهل للمأمون في رجل مسئ هبه لي فقال وكيف أهبه لمن ليس به قدرة عليه وعفا عنه واحضر إليه رجل أذنب فقال له أنت الذي فعلت كذا وكذا قال نعم يا أمير المؤمنين أنا ذاك الذي أسرف على نفسه وأتكل على عفوك فعفا عنه

وقال الصولي ما كان في الخفاء أحلم من الواثق ولا أصبر منه على أذى وكان يتشبه بالمأمون فمما ذكر عنه أنه كان يعجبه غناء أبي حشيسة الطنبوري فوجد المسدود المغنى من ذلك حسداً فكتب في رقعة بيتين يهجو بهما الواثق وكانت الرقعة معه لا تبرح واتفق إن كتب رقعة يسأل فيها حاجة من الواثق فغلط وأعطاه الرقعة التي فيها البيتان ففتحها فإذا فيها من المسدود في الأنف ... إلى المسدود في العين أنا طبل له شق ... فيا طبل بشقين وكان على إحدى عيني الواثق بياض وإلى ذلك نحا المسدود فلما قرأهما علم إنهما فيه فقال له قد غلطت في ورقة الحاجة فاحترس من مثلها وردها إليه وقضى حاجته ولم يتغير لها عما كان عليه ولما ظفر المتوكل بمحمد بن المغيث الربعي وكان قد خرج عليه في سنة أربع وثلاثين ومائتين فلما وقف بين يديه وهو مكبل قال له ما حملك على أن خرجت علي وأنت لا ذو مال ولا ذو مدد من رجال فقال الشقوة والجبن يا أمير المؤمنين وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه وإني بين ظنين أسبقهما إلى قلبي أولى بك من الآخر ثم أنشد أبى القوم إلا إنك اليوم قاتلي ... امام الهدى والعفو في الله أجمل وهل أنا إلا جبلة من خطيئة ... وعفوك من نور الخلافة يجبل تضاءل ذنبي عند عفوك قلة ... فمنّ بعفو منك والعفو أفضل وإنك خير السابقين إلى التقى ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل وأمر بفك قيده وغله وخلع عليه وأمر له بصلة وهجا الحيص بيص الشاعر المسترشد فأباح دمه فهرب إلى دبيس بن صدقة ثم عاد إلى بغداد مستخفياً وكتب إلى المسترشد يستعطفه لولا جرائم العبيد لم يظهر حلم الموالي وقد أتيتك مستجيراً بعفوك من سطوتك وبحلمك من نقمتك فوقع على رقعته ليوغر بمسارعة العفو مع عظيم الجرم احتقاراً بالمعفو عنه

مكرمة لا نظير لها ... ولم يكتب المؤرخون مثلها حكوا عن محمد بن حميد الطوسي أنه كان يوماً على غذائه وإذا بضجة عظيمة على الباب فرفع رأسه وقال لبعض غلمانه ما هذه الضجة من كان عند الباب فليدخل فخرج الغلام وعاد وقال يا مولاي إن فلاناً أخذ وجئ به موثوقاً بالحديد والغلمان والشرط ينتظرون أمرك فيه فرفع يده من الطعام سروراً بأخذه فقال رجل ممن كان حاضراً عنده الحمد لله الذي أمكنك من عدوك فسبيلك أن تسقي الأرض من دمه وقال آخر بل يصلب حياً ويعذب حتى يموت وتكلم كل أحد بما وفق له وهو ساكت مطرق ثم رفع رأسه وقال يا غلام فك عنه وثاقه وأدخله إلينا مكرماً فلم يكن بأسرع مما امتثل أمره وأدخل إليه رجل لا دم فيه فلما رآه هش له ورفع مجلسه وأمر بتجديد الطعام وجعل يبسطه ويلقمه حتى انتهى الطعام ثم أمر له بكسوة حسنة وصلة جميلة وأمر برده إلى أهله مكرماً ولم يعاتبه بحرف واحد على جنايته ثم التفت إلى جلسائه وقال لهم إن أفضل الأصحاب من حض الصاحب على المكارم ونهاه عن ارتكاب المآثم وحسن له أن يجازي الاحسان بضعفه والاساءة عمن أساء إليه بصفحه انا إذا جازينا من أساء إلينا بمثل ما أساء فأين موضع الشكر عما أتيح من الظفر إنه ينبغي لمن يحضر مجالس الملوك أن يمسك الاعن قول سديد وأمر رشيد فإن ذلك أدوم للنعمة وأجمع للألفة إن الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم وأحسن منها ما كتب به المعتصم إلى عبد الله بن طاهر عافانا الله وإياك قد كانت عليك هناة غفرتها لك لاقتداري عليك وقد بقيت في قلبي عليك حزازات أخاف عليك منها عند نظري إليك فإن أتاك مني ألف كتاب استقدمك فيها فلا تقدم وحسبك معرفة ما أنا عليه لك اطلاعي إياك على ما في ضميري والسلام وممن أحسن من الأماثل إلى من أساء إليه وأسبل عند القدرة ستر المن عليه يزيد بن المهلب وذلك أنه بلغه أن حمزة بن بيص الشاعر هجاه فأحضره وأمر بتجريده وضربه وكان عليه حلة ديباج كان المهلب وهبها له فعسر نزعها فأمر

بتخريقها فلما عزم على ذلك رآه يزيد يهمهم بشفتيه فقال له ويحك ما الذي تقول قال قلت لعمرك ما الديباج خرّقت وحده ... ولكنما خرقت جلد المهلب فأطلقه واعتذر إليه ووصله ولما ظفر الحجاج بمحمد بن عبد الرحمن بن الأشعث وكان قد خرج عليه وخلع عبد الملك بن مروان فأمر بضرب أعناق الجند الذين ظفر بهم حتى أتى على رجل من بني تميم فقال والله أيها الأمير لئن أسأنا في الأدب لما أحسنت في العقوبة فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن بمثل هذا وأمر باطلاق من بقي وعفا عنهم ومن أخبار الحجاج في العفو عن عدوه بع الظفر به ما حكى أنه لما ظفر بعامر بن حطاب مع جماعة من الخوارج الصفرية وكان حنقاً عليه لبسالته وشجاعته ونكايته في أصحابه فقال يا غلام اضرب عنق ابن الفاعلة فقال عامر يا حجاج بئس ما أدبك أهلك أبعد الموت غاية استنعتك بها ما يؤمنك لو رددت عليك أضعاف ما قلت فاستحيا الحجاج منه وقال له أفيك موضع للصنيعة قال أجل فأمر له بفرس وسرج وسيف وخلى سبيله ويقال إنه لما صار إلى أصحابه قالوا له عد إلى قتال الفاسق فالله أطلقك فقال هيهات غل يداً مطلقها وارتهن رقبة معتقها وقال أأقاتل الحجاج عن ملكوته ... بيد تقرّ بأنها مولاته إني إذا لاخو الدناءة والذي ... عفت على عرفانه جهلاته ماذا أقول إذا وقفت ازاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته أأقول جرت على إني عند ذا ... لاحق من جارت عليه ولاته تالله لا كدت الأمير بآلة ... وجوارحي وسلاحها آلاته أأكيده وعليّ سخطة خالقي ... وعليه رحمة مالكي وصلاته لأشد من كفر الكفور وجحده ... نار تسوء للفحها حالاته

وتحدّث الأكفاء أنّ صنائعاً ... غرست له فتحنظلت نخلاته أبت الحزامة إن أبيت مصعراً ... خدي وخيل الحق منتعلاته فإليكم عني فإني مفلت ... هيهاته لا يجرني افلاته نقم طلحة بن جعفر المتوكل المنعوت بالموفق على هرون بن عبد الملك فوقف بين يديه وأنشد يا بني هاشم بن عبد مناف ... لكم حادث العلا والقديم ليس عندي وإن تغير إلا ... طاعة محضة وقلب سليم وانتظار الرضا فإن رضا السا ... دات عز وعتبهم تقويم فعفا عنه ووصله وكان المهلب بن شاهين الشاعر عاملاً بنهر فروة ونهر رجا لعزيز الدين فظهرت عليه خيانة فأشخصه وتوعده فلما مثل بين يديه قال قل للعزيز أدام ربي عزه ... وأناله من خيره مكنونه إني جنيت ولم تزل نبل الورى ... يهبون للخدام ما يجنونه ولقد جمعت من الجنون فنونه ... فاجمع من الصفح الجميل فنونه من كان يرجو عفو من هو فوقه ... فليعف عن جرم الذي هو دونه فعفا عنه وأعاده إلى عمله وقال أبو الفتح محمد بن أردشير كنت بالسيرجان مع الوزير أبي غالب الحسن بن منصور الملقب بذي السعادتين فاتفق أن شربت عنده يوماً فسكرت سكراً سقط معه سفتجتي من كمي وفيها رقاع قد أعطانيها أربابها لا تنجز لهم توقيعاته عليها ومن جملتها رقعتان بخطي قد كتبت في إحداهما يا قليل الخير موفور الصلف ... والذي في البغي قد حاز السرف كن لئيماً وتواضع تحتمل ... وكريماً يحتمل منك الصلف

وفي الاخرى يا طارق الباب على عبد الصمد ... لا تطرق الباب فما ثم أحد فأخذ السفتجة وفتحها فوقع على الرقاع بجميع ما فيها ووقع على الرقعة التي فيها البيتان يطلق له ألفا درهم وعلى الاخرى التي فيها البيت الواحد يوجب له في كل شهر ألف درهم من اتصال الشهر الذي نحن فيه ورد الجميع إلى السفتجة وجعلتها في كمي وأضبحت من الغداة ولا علم عندي بما جرى فاستدعاني إلى الطعام وقت الظهر فلم ير عندي أثراً للفعلة التي فعلتها إذا وأنا من الضالين ولا سمع مني شكراً على صنيعة فقال لي وقفت على الرقاع قلت لا أيها الوزير ثم ذكرت ما كان في الأوراق فتصببت عرقاً واشتغل قلبي لما وجد فيها بخطى فنهضت إلى الرقاع فتأملتها وعدت إليه فشكرته واعتذرت مما وجد فقال لا تعتذر فإنا نستحقه إذا لم نقض واجباً ولم نراع صاحباً وحدث محمد بن هلال بن المحسن الصابي في كتاب الهفوات عن الفرج الرماني الكاتب قال قدم علينا أبو القاسم المعمر بن الحسين المدلجي مع الوزير أبي القاسم العلاء بن الحسين الأهوازي وكنت إذ ذاك كاتب الانشاء وخليفة العلاء فبعث إلي المعمر يطلب مني بغلة مسرجة ولم تكن منزلته عندي منزلة من أراعيه فرددت الرقعة مع رسوله ولم أجبه عنها ثم إنه بعث إلي الرقعة وعلى ظهرها مكتوب عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أن يكون له غد فإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أو هو أسعد فأعدت إليه الرقعة من غير جواب كما فعلت أولاً وضرب الدهر ضرباته فصرف العلاء ووزر المدلجي وكنت إذ ذاك متولياً أعمالاً كثيرة فانفذ إلي من أشخصني إلى شيراز ووردت عليه وأنا لا أشك في قتلي أو القبض علي لما تقدم من سوء فعلي معه فقربني وأكرمني وأقمت متردداً إليه أياماً وهو يزيد في بري واكرامي وأنا من فعله متعجب وله مستظرف فلما كان بعد أيام قمت من مجلسه

منصرفاً فاتبعني الحاجب وقال الوزير يريد أن يخلو بك فلم يداخلني ريب في القبض هلي فأقمت خائفاً أترقب ما يأمر به في فلما خلا مجلسه استدعاني وأسر إلى بعض خدمه شيا فمضى وعاد معه الرقعة بعينها فسلمها إلي فلما رأيتها وددت أن الأرض ساخت بي وقرأت بحيث يسمع يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً فقال لي لا ترع أوقفتك على سوء فعلك حتى لا تستصغر بعدها أحداً وتطرح مراعاة العواقب وليكن هذا الفعل لأخلاقك مهذباً ثم خلع علي ووصلني وردني إلى عملي وإلى هذا أشار بعض البلغاء الحكماء في التحريض على اصطناع الكرام الخافضة من أقدارهم الأيام في قوله أحسن إلى كل من له سابقة في الأدب وسابقة في الفضل ولا يزهدنك فيه سوء الحاجة منه وادبار الدولة عنه فإنك لا تخلو في اصطناعك له واحسانك إليه من نفس حرة تملك رقها أو مكرمة حسنة توفي حقها فإن الدهر يجبر كما يكسر والدولة تقبل ثم تدبر ومن زرع خيراً حصد أجراً ومن اصطنع حراً استفاد شكراً وأنشد وعدّ من الرحمن فضلاً ونعمة ... عليك إذا ما جاء للخير طالب ولا تمنعن ذا حاجة جاء راغباً ... فإنك لا تدري متى أنت راغب والجيد في هذا المعنى قول من قال لا تحقرنّ امرأ قد كان ذا ضعة ... فكم وضيع من الأقوام قد رأسا فرب قوم جفوناهم فلم نرهم ... أهلاً لخدمتنا صاروا لنا رؤسا عدنا والعود أحمد دخل أبو الصقر إسمعيل بن بلبل قبل وزارته للمعتمد على صاعد بن مخلد في وزارته وفي المجلس أبو العباس بن توابة فسأل صاعد عن رجل فقال أبو الصقر أنفي يريد نفي فقال ابن ثوابة في الخرء فتضاحك الناس وخجل أبو الصقر فلما ولي أبو الصقر الوزارة دخل عليه ابن ثوابة وقال تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين فقال أبو الصقر لا تثريب عليك اليوم يا أبا العباس يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين

وحدث أبو هريرة الشاعر المصري قال خرجت يوماً إلى بركة الحبش بمصر متنزهاً في أيام الربيع حين أخذت الأرض زخرفها وازينت ومعي آنية شراب وكتاب وكانت تلك عادتي في كل سنة فجعلت أشرب وأنادم كتابي طول يومي فلما كادت الشمس أن تغرب وتلمح في أجنحة الطير أخذت في الانصراف إلى منزلي وأنا ثمل فبينا أنا أمشي وإذا بفارس خرج من مصر ملتثماً لا يبين من وجهه غير عينيه فسلم وقال من أين أقبل الشيوخ فقلت في نفسي أجن الرحل ومن يرى معي فالتفت فإذا خلفي ذود تيوس وراع يسوقه فقلت حضرنا ملاك الوالدة أصلحك الله فضحك وانصرف ولما كان بعد أيام دخلت إلى الأمير تكين في حاجة فقضاها لي وأسرني بألف درهم وقال هذه حق حضورك ذاك الملاك فعلمت أنه الذي لقيني فأخذتها وانصرفت ملح مكارم يغتبط بها القلب والسمع ... لدلالتها على كرم النجار والطبع قتل للأحنف بن قيس ولد وكان قاتله أخو الأحنف فأتى به مكتوفاً ليأخذه به فلما رآه بكى وأنشد أقول للنفس تأنيباً وتسلية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من بعد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي ولآخر في معناه وقد قتل قومه أخاه ... ولم يقصده أحد بنكاية ولا توخاه قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لاعفون جللاً ... ولئن سطوت لاوهنن عظمي وقيل للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحلم قال من قيس بن عاصم المنقري بينا هو ذات يوم جالس في داره إذا أتته جارية بسفود عليه شواء فسقط من يدها على ولد له صغير فمات فدهشت الجارية واختلط عقلها فلما رأى ذلك منها قال لا روع عليك اذهبي فأنت حرة لله تعالى

ولنعقب هذا الفصل من لطيف الاعتذار

خير منها أو مثلها ما حكى أن بعض ملوك الفرس وكان عظيم المملكة سيئ الملكة شريف الهمة شديد النقمة قرب إليه صاحب مطبخه طعاماً فوقعت نقطة من الطعام على المائدة فزوى لها الملك وجهه وأعرض عنه إعراضاً تحقق به الطباخ قتله فعمد إلى الصحفة فكفأها على المائدة فقال له الملك ما حملك على ما فعلت وقد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك ولم يجرها تعمدك فما عندك في الثانية قال استحييت أن يسمع عن الملك أنه استوجب قتلي واستباح دمي مع قديم خدمتي ولزوم حرمتي في نقطة واحدة أخطأت بها يدي ولم يجرها تعمدي فأردت أن يعظم ذنبي ليحسن بالملك قتلي ويعذر في قتل من فعل مثل فعلي فقال الملك إن كان حسن صنيعك ينجيك من القتل والتعذيب فليس منجيك من التأديب اجلدوه مائة واخلعوا عليه خلع الرضا وسوغوه انعاماً يؤذن بالعفو عما مضى ولنعقب هذا الفصل من لطيف الاعتذار ما تستعطف به القلوب بعد النفار جرى بين الحسين بن علي وبين أخيه محمد بن الحنفية رضي الله عنهما كلام وافترقا متغاضبين فلما وصل محمد إلى منزله كتب إلى الحسين بعد البسملة من محمد بن علي إلى أخيه الحسين بن علي أما بعد فإن لك شرفاً لا أبلغه وفضلاً لا أدركه فإن أمي امرأة من بني حنيفة وأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ملء الأرض نساء مثل أمي ما وفين بأمك فإذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك ونعليك وسر إلي لترضيني وإياك أن أسبقك إلى هذا الفضل الذي أنت أولى به مني والسلام فلبس الحسين رداءه ونعليه وجاء إليه وترضاه وكان في قلب الأمين من إسحق الموصلي شيء فأهدى له جارية فردها فكتب إليه إسحق هتكت الضمير بردّ اللطف ... وكشفت أمرك لي فانكشف فإن كنت تحقد شيأً مضى ... فهب للخلافة ما قد سلف وجد لي بالعفو عن زلتي ... فبالفضل تأخذ أهل الشرف

فلم يفعل فكتب إليه أتيت ذنباً عظيماً ... وأنت أعظم منه فخذ بحقك أولاً ... فامنن بصفحك عنه فعاد إلى الجميل وقال أبو بكر الصولي أحسن رقعة كتبت في الاعتذار رقعة كتب بها الراضي إلى أخيه المتقي وكان قد جرى بينهما كلام بحضرة المؤدب وكان المتقي قد اعتدى على الراضي أنا معترف لك بالعبودية فرضا وأنت معترف لي بالاخوة فضلاً والعبد يذنب والمولى يعفو ويغفر وقد قال الشاعر يا ذا الذي يغضب في غير شيّ ... اعتب فعتباك حبيب إليّ أنت على أنك لي ظالم ... أعز خلق الله طرّاً عليّ فلما وقف المتقي على الرقعة هبت عليه منها رياح الأريحية فعطفت منه عواطف النفس الأبية ومضى إليه راضياً وأكب عليه باكياً وانحسمت بينهما مواد الهجر بقبول صادق العذر وازيل مصون الحقد وانتظم بانتظام الشمل انتظام العقد وقع ذو الرياستين الفضل بن سهل إلى طاهر بن الحسين والله يا نصف انسان لئن أمرت لانفذن ولئن أنفذت لابرمن ولئن أبرمت لا تلفن فأجابه طاهر إنما أنا أعزك الله كالأمة السوداء إن حمل عليها دمدمت وإن رفه عنها أمسكت وإن عوقبت فبما وجب عليها وإن عفى عنها فبالاحسان إليها فعفا عنه وما الطف ما كتب به بعض الفضلاء إلى أخيه يستعطفه أنت سليل نبوة وشقيق أخوة أصلها من سوحة وفرعها من دوحة فنحن لذة أوان ونشوان زمان ورضيعا لبان وركيضا أمومة وغصنا جرثومة درجاً من وكر ومهداً في حجر فكيف توقظ عين الدهر وتبسط يد الهجر وتنبه غافي الرقاد والحسود لنا بمرصاد وكتب آخر إلى صديق يستعطفه أصفيت لك ودي وأكديت لك عقدي ومنحتك اخائي ولم أمزق لك صفائي فقرب الاخاء بالود أنقع للغله

وأنفع للعله وأسكن للروعة وأشفى للوعة وأطفأ للحرقة وآنس للفرقة وقال أعرابي لأمير نقم عليه هذا مقام من لا يتكل على المعذرة بل يعتمد منك على المغفرة وقال آخر لان يحسن في العفو وقد أسأنا في الذنب أولى من أن يسئ بالعقوبة وقد أحسنا في الاعتذار واعتذر آخر فقال لذت بعفوك واستجرت بصفحك فأذقني حلاوة الرضا وأجرني من مرارة السخط فيما مضى وكتب آخر لكل ذنب عفو وعقوبة فذنوب الخاصة مستورة وسيآتهم مغفورة وذنب مثلي من العامة لا يغفر وكسره لا يجبر وإن كان ولا بد من العقوبة فعاقبني باعراض لا يؤدي إلى ابعاد ولا يفضي في الصفح إلى ميعاد ولان تحسنوا وقد أسانا خير من أن تسيؤا وقد أحسنا فإن كان الاحسان منا فما أحقكم بمكافأته وإن كان منكم فما أحقكم باستتمامه أبيات في المعنى أقل ذا الودّ عثرته وقفه ... على سنن الطريق المستقيمه ولا تسرع بمعتبة إليه ... فقد يهفو وبيته سليمه آخر أسأت ولم أحسن وجئتك هارباً ... وأين لعبد من مواليه مهرب يؤمل غفراناً فإن خاب ظنه ... فما أحد منه على الأرض أخيب آخر إن كان ذنبي قد أحاط بزلتي ... فأحط بذنبي عفوك المأمولا فلقد رجوتك في الذي لا يرتجى ... في مثله أحد فنلت السولا وضللت عنك فلم يكن لي مذهب ... فوجدت حلمك لي عليك دليلا آخر يا من أسأت وبالاحسان قابلني ... وجوده لجميع الناس مبذول قد جاء عبدك يا مولاي معتذراً ... وأنت للعفو مرجوّ ومأمول

آخر إنّ الكرام إذا ما استعطفوا عطفوا ... والحرّ يغضي ويهفو وهو معترف والعفو بعد اقتدار فعله كرم ... والهجر بعد اعتداء فعله شرف عاقب بما شئت غير الهجر أرض به ... فالهجر فيه لاحزان الفتى تلف آخر هبني أسأت فأين الفضل والكرم ... إذ قادني نحوك الاذعان والندم يا خير من مدّت الأيدي إليه أما ... ترثى لشيخ نعاه عندك الهرم بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر ... إنّ الملوك إذا ما استرحموا رحموا الخيزراني نحن قوم نرى فراقك عيباً ... ونرى القرب منك حتماً وفرضا أنت إن كنت قد غضبت جعلنا ... لك حرّ الوجوه أرضاً لترضى آخر ليالي صدودك ليست تضي ... وعمر تجنيك ما ينقضي وما يألف القلب يا سيدي ... سوى ما تحب وما ترتضي آخر ما أحسن العفو من القادر ... لا سيما من قادر قاهر إن كان لي ذنب ولا ذنب لي ... فماله غيرك من غافر بحرمة الودّ الذي بيننا ... لا تفسد الأوّل بالآخر آخر أسأت إليك ثم أسأت عوداً ... فأين عوائد الصفح الجميل وأين الصفو من مولى عزيز ... يجود به على عبد ذليل

آخر إن كنت عبداً مذنباً ... فاعطف عليّ بحسن رأيك أو كنت لست بمذنب ... فدع التمادي في جفائك بعض العرب فمهلاً أبيت اللعن لا تخزيننا ... بذنب امرئ أمسى من العلم معدما فما العبد بالعبد الذي ليس مذنبا ... وما الرب بالرب الذي ليس منعما آخر وما قابلت سخطك باعتذار ... ولكني أقول كما تقول سأطرق باب عفوك باعتراف ... ويحكم بيننا الخلق الجميل آخر هبني كما زعم الواشون لارحموا ... أني أسأت وزلت مني القدم وهبك جار على ذا العهد في جرم ... لم أجنه ضاق منك العفو والكرم ما أنصفتني في حكم الهوى أذن ... تصغي للومى وعن عذري بها صمم آخر أخلاقك الغر السجايا مالها ... حملت رديّ العنف وهي سلاف والبشر في مرآة وجهك ماله ... يخفى وأنت الجوهر الشفاف آخر ليت شعري وقد تمادى بك الهج ... ر أمنك الجفاء أم كان مني فلئن جئته فعنك عفا ... الله وإن كنت جئته فاعف عني

الفصل الثالث من الباب الثالث عشر

وكل الناس عيال على النابغة الذبياني في قوله للنعمان بن المنذر من أبيات جاء منها حلفت ولم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني جناية ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطليّ به القار أجرب فلست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أيّ الرجال المهذب أبو نواس يستعطف الأمين وكتب بها إليه من الحبس تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وانشاديك والناس حضر ونثري عليك الدرّ يا درّ هاشم ... فمن ذا رأى درّاً على الدرّ ينثر مضت لي شهور مذ حبست ثلاثة ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر فإن كنت لم أذنب ففيم حبستني ... وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر إسحق الموصلي لا شيء أعظم من ذنبي سوى أملي ... لعفوك اليوم عن ذنبي وعن زللي فإن يكن ذا وذا عندي قد اجتمعا ... لأنت أعظم من ذنبي ومن أملي الفصل الثالث من الباب الثالث عشر في ذم العفو عمن أساء وانتهك حرمات الرؤساء قال الله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقال تعالى ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل أبي عزة الشاعر لما كان يعرض به من أذى النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه ويحرض عليه قبائل قريش وفي فعله لنا اسوة قال ابن إسحق لما أخذ أبو عزة الشاعر يوم بدر وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا

رسول الله تصدق بي على بناتي واعف عني عفا الله عنك قال نعم علي أن لا تعين علي بقول ولا فعل فعاهده على ذلك وخلى سبيله ثم إنه خرج مع أبي سفيان يحرض قريشاً على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ يوم أحد فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ألم تعاهدني على أن لا تعين علي بقول ولا فعل فقال غلبت فتصدق بي على بناتي واعف عني عفا الله عنك فقال عليه الصلاة والسلام إن العفو لمكرمة ما مثلها مكرمة ولكن لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين ثم أمر بقتله فقتل فمما للحكماء من تحريض الحرّ ... على مقابلة المسئ بالنكال المر قالوا توضع للمحسن إليك وإن كان عبداً حبشياً وانتصف ممن أساء إليك وإن كان حراً قرشياً وقال علي رضي الله عنه وكرم وجهه الخير بالخير والبادي أكرم والشر بالشر والبادي أظلم وقال الشعبي يعجبني الرجل إذا سيم هواناً دعته الأنفة إلى المكافأة وجزاء سيئة سيئة مثلها فبلغ كلامه الحجاج فقال لله دره أي رجل بين جنبيه وتمثل ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ... ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه وقالوا من ترك العقوبة أغرى بالذنب ولولا السيف كثر الحيف وقالوا من مال معك إلى الحيف فلا تبخلن عليه بالسيف وقالوا السفيه يخالف ولا يؤالف ويماري ولا يداري وقال أوس بن حسان إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هواناً وإن كانت قريباً أواخره فإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فدعه إلى اليوم الذي أنت قادره وقارب إذا ما لم تكن لك حيلة ... وصمم إذا أيقنت إنك عاقره وقيل لأعرابي أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسئ إلى من أساء إليك قال لا بل يسرني إن أدرك الثار وأدخل مع فرعون النار أبو عبادة

البحتري تذم الفتاة الرود شيمة بعلها ... إذا بات دون النار وهو ضجيعها ويقال إنما هو مالك وسيفك فازرع بمالك من شكرك واحصد بسيفك من كفرك وقال الشاعر قط العدى قط اليراعة وانتهز ... بظبا السيوف سوائم الأضغان إنّ البيادق أن توسع خطها ... أخذت إليك مآخذ الفرزان وقال المأمون الحلم يحسن بالملوك إلا في ثلاثة أشياء فادح في ملك ومتعرض بجرم ومذيع لسر وقال أعرابي لابن عباس أتخاف علي جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته فقال له العفو أقرب للتقوى فقال ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل وقال الشاعر إذا كان حلم المرء عون عدوّه ... عليه فإنّ الجهل أعفى وأروح وفي الحلم صغر والعقوبة هيبة ... إذا كنت تخشى أيد من عنه تصفح آخر أرى اللين ضعفاً والتشجع هيبة ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعر وما كل حين ينفع الحلم أهله ... ولا كل حين يدفع الجهل بالصبر وقال الجاحظ من قابل الاساءة بالاحسان فقد خالف الله في تدبيره وظن أن رحمة الله دون رحمته فإنه تعالى يقول من يعمل سوأ يجز به وقال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره فجازي على الخير بالثواب والشر بالعقاب وقال أكثم بن صيفي من تعمد الذنب فلا ترحمه دون العقوبة فإن الأدب رفق والرفق يمن وقال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي من الحلم أن يستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم

آخر من أكرم الناس أكرموه ... ووقروه وبجلوه ومن يهنهم يهن عليهم ... في حر أميه يدخلوه وقال الشافعي من استغضب فلم يغضب فهو حمار كما أن من استرضى فلم يرض فإنما هو جبار وقال رجل لابن سيرين إني وقعت فيك فاجعلني في حل قال ما أحب أن أحل لك ما حرم الله عليك وقال علي كرم الله وجهه رد الحجر من حيث جاء فإن الشر لا يدفع إلا بالشر وقال الشاعر ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا احتجاج من جازى السيئة بمثلها ... ممن ملك عقد الأمور وحلها لما ولي طاهر بن عبد الله بن الحسين خراسان بعد موت أبيه استؤمر في رجلين أحدهما ضعيف والآخر عليل فوقع في أمرهما الضعيف يقوى والعليل يبرأ فإن يكونا ممن لا يؤمن شرهما فدعهما مكانهما فإن من أطلق مثلهما على الناس فهو شر منهما وشريكهما في أعمالهما واعتذر بعض بني أمية إلى السفاح فهم بالصفح عنهم فقال أبو مسلم إن الصفح مقرب إلى الله تعالى مبعد من النار إذا قصد طريقه وأصيب به أهله وأما هؤلاء الذين تضمنت قلوبهم غدراً وأورى زندهم شراً فلم تنفد ضغائنهم ولا ننيب بوائقهم فالقتل لهم أشفى والراحة منهم أولى فأمر بقتلهم فقتلوا ودخل إسمعيل الملقب بسديف على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أدناه وأعطاه يده فقبلها فلما رأى سديف ذلك قام بين يدي السفاح وأنشده قصيدة يمدحه فيها ويحرضه على قتل من ظفر به من بني أمية جاء منها يا ابن عم النبيّ أنت ضياء ... استبنا بك اليقين الجليا يا وصي الشهيد أكرمك الل ... هـ فقد كنت للشهيد وصيا لا يغرنك ما ترى من خضوع ... إن تحت الضلوع داء دويا

بطن البغض في القديم فأضحى ... ثابتاً في قلوبهم مطويا فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق طهرها أمويا فقام أبو العباس ودخل وإذا المنديل قد ألقى في عنق سليمان ثم جر فذبح ومن الأغراء وإن لم يعتمد لما أساءت البرامكة على الرشيد وأراد الايقاع بهم جعل يتردد في أعمال الحيلة عليهم فتكلم الرشيد يوماً في مجلسه كلمة نزع القوم بها فكل يحكي في نوعها حكاية أو ينشد شعراً في معناها وكان في المجلس ابن عزيز فأنشد أبياتاً في غير المعنى الذي كانوا بصدده كانت سبباً لامضاء عزيمته على قتل البرامكة يقول فيها ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما نجد واستبدّت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد فاستعاد منه الرشيد البيتين مراراً ثم أوقع الرشيد بالبرامكة بعد ذلك بثلاثة أيام وسنذكر في الفصل الأوسط من الباب الآتي من إيقاعه بهم ما فيه للمتأمل مقنع وللمستخبر مستمتع إن شاء الله تعالى ولم أر في التحريض أبلغ من قول القائل في قصيدة طويلة ذات معان جمة وفوائد جليلة ما كل يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوّغه المقدور ما وهبا وأعجب الناس من إن نال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا وأنصف الناس في كل المواطن من ... سقى الأعادي بالكاس الذي شربا فالعفو إلا على الأعداء مكرمة ... من قال غير الذي قد قلته كذبا قتلت عمراً وتستبقي يزيد لقد ... رأيت رأياً يجرّ الويل والحربا لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا هم جردوا السيف فاجعلهم به جزراً ... هم أوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا واذكر بمنحاهم مثوى أبي كرب ... فيهم وحبس عدي عندهم حقبا وسيف جدك لما أن أضرّ بهم ... جاؤا به لك في أسلابهم سلبا

لا عفو عن مثلهم في مثل ما طلبوا ... وإن يكن ذاك كان الهلك والعطبا فمنهم أهل غمان ومجدهم ... عال وإن حاولوا ملكاً فلا عجبا إن تعف عنهم يقول الناس كلهم ... لم يعف حلماً ولكن عفوه رهبا وإن أحسن من ذا العفو لو هزموا ... لكن هم اتبوا من سيفك الهربا علام تقبل منهم فدية وهم ... لا فضة قبلوا منه ولا ذهبا اسق الكلاب غد من فتية دمها ... عند البرية تستسقى به الكلبا لو لم يسر جان أن تعض محاجزه ... واللبث لا يحسن النقبا إذا وثبا آخر يفيض إليّ الشر حتى إذا أتى ... لينزل رحلي قلت للشر مرحبا وأركب ظهر الشر حتى أذله ... إذا لم أجد الأعلى الشر مركبا واكوى بلا نار اناساً بظلمهم ... وأصفح أحياناً وإن كنت مغضبا ولله در من قال إذا آمن الجهال جهلك مرة ... فعرضك للجهال غنم من الغنم وإن أنت باريت السفيه إذا أنتمي ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم فلا تعترض عرض السفيه وداره ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصرم وغم عليه الجهل والحلم والقه ... بمنزلة بين العداوة والحلم فيرجوك تارات ويخشاك تارة ... وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم فإن لم تجد بدا من الجهل فاستعن ... عليه بجهال فذاك من العزم ودع عنك في كل الأمور عتابه ... فإنك إن عاتبته كان كالخصم ومن عاتب الجهال لم يشف نفسه ... ولكنه يزداد سقماً على سقم

آخر حبست لكم نفسي على الحلم والرضا ... يأمن ذو خوف ويدرك طالب إذا أنت لم تصلح لسيفك ما جنى ... سفيهك صارت في الصدور معاتب المتنبي لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم نبذة من أدنى النقض والابرام ... في ذم مكافأة اللئيم بالاكرام قالوا العفو يفسد من اللئيم بقدر ما يصلح من الكريم وقال معاوية بن يزيد بن معاوية لأبيه هل ذممت عاقبة حلم قط قال ما حلمت عن لئيم وإن كان ولياً إلا أعقبنني ندماً على ما فعلت وقال الشاعر متى تضع الكرامة في لئيم ... فإنك قد أسأت إلى الكرامه وقد ذهبت صنيعته ضياعا ... وكان جزاء فاعلها الندامه وقالوا جنب كرامتك اللئام فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكوا وإن أساؤا لم يستغفروا شاعر إن هذا اللؤم إنا أكرمته ... حسب إلا كريم حقاً يلزمك فأهنه إنه من لؤمه ... إن تسمه بهوان يكرمك ولآخر إنّ اللئيم إذا رأى ... ليناً تزيد في حرانه لا تخدعن فصلاح من ... جهل الكرامة في هوانه

ويقال اللئام إلى رهبوت أحوج منهم إلى رحموت المتنبي ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى وقالوا الكريم يصلح بالاحسان والكرامة واللئيم بالهوان والملامسة المتنبي إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا إبراهيم بن المهدي إذا كنت بين الحلم والجهل باقلاً ... وخيرت أني شئت فالحلم أفضل ولكن إذا أنصفت من ليس منصفاً ... ولم يرض منك الحلم فالجهل أنبل إذا جاءني من يطلب الجهل عامداً ... فإني سأعطيه الذي جاء يسأل ولم أعطه إياه إلا لأنه ... وإن كان مكروهاً من الذل أجمل وفي الخير إبطاء فإن جاء عاجلاً ... كما تشتهيه النفس فالشر أعجل وينسب لعلي رضي الله عنه لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج ولي فرس للخير بالخير ملجم ... ولي فرس للشر بالشر مسرج فمن شاء تقويمي فإني مقوم ... ومن شاء تعويجي فإن معوّج وما كنت أرضى الجهل جدّاً ولا أباً ... ولكنني أرضى به حين أحرج فإن قال بعض الناس فيه سماجة ... لقد صدقوا والذل بالحرّ أسمج

أبو نواس في الناس إن جربته ... من لا يعزك أو تذله فاترك مدارة اللئي ... م فإن فيها العجز كله

الباب الرابع عشر

الباب الرابع عشر في الانتقام وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في التشفي والانتقا ممن أحضر قسراً في المقام قال الله تعالى وإذا ما غضبوا هم يغفرون ولم يقل هم يقتلون وفي هذا دليل على أن الانتقام قبيح فعله على الكرام فإنهم قالوا الكريم إذا قدر غفر وإذا عثر بمساءة ستر واللئيم إذا ظفر عقر وإذا أمن غدر ولنقدم كلاماً شافياً في ذم الغضب ... إذ هو الزمام القائد للعطب جاء في تفسير قول الله تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون أن الطائف من الشيطان هو الغضب ويروى أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله قل لي قولاً ينفعني الله به وأقلل لعلي أعرفه قال لا تغضب فأعاد عليه المسئلة قال لا تغضب فأعاد عليه المسئلة قال لا تغضب وقال يحيى بن زكريا لعيسى عليهما السلام أخبرني بما يقربني من رضا ربي ويبعدني من سخطه قال لا تغضب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدون الشديد فيكم قالوا الذي لا يصرعه الرجال قال لا ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب وذكر أن جعفر بن

ما اخترناه من كلام الحكماء وأقوال الكرام الأماجد

محمد الصادق دخل على المهدي وقد امتلأ غضباً على إنسان فقال يا أمير المؤمنين إنك لا تغضب إلا لله فلا تغضب له أكثر من غضبه لنفسه وقد قال بعض الحكماء إياكم والغضب فرب غضب استحق به الغضبان غضب الله عز وجل عليه ويقال إن في التوراة يا ابن آدم لا تغضب فاغضب عليك يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق وقالوا إياك وغرة الغضب فإنها تفضي بك إلى ذلة الاعتذار وقالوا الغضب على من لا تملك لؤم وعلى من تملك شؤم وقال بعض الأعراب الغضب عد والعقل فإنه يحول بين صاحبه وبين العقل والفهم فيستولي عليه سلطان الهوى فيصرفه عن الحسن وهو الاحتمال إلى القبيح وهو الغضب ومن عصى الحق غمره الباطل وقال ابن المعتز الغضب يصدئ القلب حتى لا يرى صاحبه شيأً حسناً فيفعله ولا قبيحاً فيجتنبه ويقال ما ترك شيأً من الأحوال الذميمة ولا تأخر عن سبب من الأسباب اللئيمة من أنفذ غضبه وأساء في الانتقام أدبه واستطاب فعله واستعذبه وقالوا ليس من عادات الكرام سرعة الغضب والانتقام وقالوا ثلاثة يعدون في المجانين وإن كانوا عقلاء الغضبان والسكران والغيران وقال عمر بن عبد العزيز ثلاثة من كن فيه فقد استكمل الايمان من إذا غضب لم يخرجه غضبه إلى الباطل وإذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق وإذا قام جدال لا يأخذ ما ليس له وإذا تمكن منه الغضب على أحد حبسه ثلاثة أيام حتى يسكن غضبه ثم يحضره فإن وجب عليه العقوبة عاقبه وإلا أطلقه ما اخترناه من كلام الحكماء وأقوال الكرام الأماجد في ذم التشفي من العدو والمعاند قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله تعالى فينتقم لله بها وقالوا أقبح المكافأة المكافأة بالاساءة وقال معاوية إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وقالوا الاقتدار يمنع الحر من الانتصار وقال علي رضي الله عنه أنا إلى العفو والرحمة أقرب مني إلى العقوبة والنقمة وقال جعفر الصادق لان أندم على العفو

عشرين مرة أحب إلي من أن أندم على العقوبة مرة واحدة وحكي أن رجلاً من قريش كان يطلب رجلاً يدخل في الجاهلية فلما ظفر به قال لولا إن القدرة تذهب الحفيظة لانتقمت منك وتركه ولهذا يقال كل عزيز دخل تحت القدرة واتضح بالتنصل عذره فهو ذليل حقه على من قدره بالقدرة جليل أن يتعمد اساءته بالاحسان إليه ويفك اساره بالامتنان عليه وينزله من اكرامه منزلة المطيع من خدامه ويعفيه من عتبه وملامه كما أعفاه من سخطه وانتقامه وقيل أقبح أفعال ذوي التمكن والاقتدار عقوبة من التجأ إلى الاعتذار شاعر ليست الأحلام في حال الرضا ... إنما الأحلام في حال الغضب وقال المنصور في كلام لولده المهدي لذة العفو أطيب من لذة التشفي وذلك أن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة ولذة التشفي يلحقها ذم الندم ويحكي عن عنان بن خريم أنه دخل على المنصور وقد قدم بين يديه جماعة كانوا قد خرجوا عليه ليقتلهم فقال أحدهم يا أمير المؤمنين من انتقم فقد شفي غيظه وأخذ حقه ومن شفي غيظه وأخذ حقه لم يجب شكره ولم يحسن في العالمين ذكره وإنك إن انتقمت فقد انتصفت وإذا عفوت فقد تفضلت على أن اقالتك عثار عباد الله موجبة لاقالته عثرتك وعفوك عنهم موصول بعفوه عنك فقبل قوله وعفا عنهم وقال الشاعر لذة العفو ان نظرت بعين ال ... عدل أشفى من لذة الانتقام هذه تكسب المحامد والمج ... د وهذه تجئ بالآثام والعرب تقول لا سودد مع الانتقام وقالوا سرعة العقوبة من لؤم الظفر وقيل ليس من الكرم عقوبة من لا يجد امتناعاً من السطوة وأسر على رجلاً من أصحاب عائشة رضي الله عنها يوم وقعة الجمل فقيل له ويلك وأنت ممن ألب علينا فقام الأشتر فقال دعني أضرب عنقه يا أمير المؤمنين فقال الرجل يا أمير المؤمنين لان تلقى الله وقد عفوت عني خير لك من أن تلقاه وقد شفيت غيظك وانتصرت لنفسك فقال اذهب حيث شئت وانشد للمأمون يخشى عدوّي من بعيد سطوتي ... فإذا قدرت على العدوّ عفوت

وقال بعض الحكماء التزين بالعفو خير من التقبح بالانتقام وقال علي رضي الله عنه ليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه وكل شيء في الدنيا سماعه أعظم من عيانه وكل شيء في الاخرة عيانه أعظم من سماعه ويقال التشفي طرف من العجز ومن رضي به لا يكون بينه وبين الظالم الأستر رقيق وحجاب ضعيف ولان يثنى عليك بسعة الصدر خير من أن تذم بضيقه وقال ابن المعتز مبالغة المقتدر في العقوبة تقربه من غضب الله وتبعده من انتساب الكرم إليه وقال كفى بالظفر شفيعاً للمذنب إلى القادر وقال بعض الحكماء لا يحملنك الحنق على اقتراف اثم يشفي غيظك ويسقم دينك ويقال لا تشن حسن الظفر بقبح الانتقام وقالوا عقوبة المقتدر تبدأ به تقبح صورته وتثلم حسبه وتعجل ندمه شاعر إذا أنت لم تصبر على الحقد لم تفز ... بمجد ولم تسعد بتقريظ مادح آخر رأيت انتقام المرء يزري بعقله ... وإن لم يقع إلا يأهل الجرائم وقال الفضيل بن عياض لا يكون العبد من المتقين حتى يأمن عدوه بوائقه وقلت إذم مسرفاً في الانتقام فلان منزوع الرحمة من قلبه مصروف الوجه عن المعترف بذنبه يرى العفو مغرماً والعقوبة مغنماً إن ضحكت في وجهه عبس وإن تخاضعت له شمس لا يرقب في المسئ إلا ولا ذمة ولو شفع فيه سواد الأمة ومن رسالة للبديع الهمداني يصف ملكاً عظيم الشان يحسبه المتأمل إنساناً وهو شيطان وفلان سماء إذا تغيم لم يرج صحوه وإذا تغير لم يشرب صفوه وإذا سخط لم ينتظر غيره ليس بين رضاه والسخط عوجة كما ليس بين غضبه والسيف فرجة وليس من سخطه مجاز كما ليس بين الموت والحياة معه حجاز

يغضبه الجرم الخفي ولا يرضيه العذر الجلي وتكفيه الجناية وهي ارجاف ثم لا يشفيه العقوبة وهي حجاف حتى إنه يرى الذنب وهو أضيق من ظل الرمح ويعمي عن العذر وهو أبين من عمود الصبح وهو ذو اذنين يسمع بهذه القول وهو بهتان ويحجب بهذه العذر وهو برهان وذو يدين يبسط أحدهما إلى السفك والسفح ويقبض الاخرى عن العفو والصفح وذو عينين يفتح أحدهما إلى الجرم ويغمض الاخرى عن الحلم فمزحه بين القد والقطع وحده بين السيف والنطع ومراده بين الظهور والكمون وأمره بين الكاف والنون ثم لا يعرف من العقاب إلا ضرب الرقاب ولا من التأديب غير اراقة الدماء ولا يهتدي إلا إلى إزالة النعماء ولا يحلم عن الهفوة كوزن الهبوة ولا يغضي عن السقطة بجرم النقطة ثم إن النقم بين لفظه وقلمه والأرض تحت يده وقدمه فلا يلقاه الولي إلا يغمه ولا العدو الا يذمه فالأرواح بين حبسه واطلاقه كما أن الأجسام بين حله ووثاقه ومما ينتظم في سلك هذا المقول ... مدح التراحم الراضي به أرباب العقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وقال عليه الصلاة والسلام لا ينزع الله الرحمة إلا من قلب شقي وقالوا من كرم أصله لان قلبه وقيل من أمارات الكريم الرحمة ومن أمارات اللئيم القسوة وقالوا من شكر الظفر الصفح عن الذنوب والستر للعيوب وفي الحديث إن الله رحيم يحب من عباده الرحماء وقال الأقرع بن حابس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه يقبل الحسن إن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم

الفصل الثاني من الباب الرابع عشر

وقال مالك بن دينار ما ضرب الله عبداً بعقوبة أعظم من قسوة القلب ولا غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشجع الناس إذا لقى الناس وأرحم الناس إذا استحكم الباس ويقال أرق الناس قلوباً أقلهم ذنوباً وقال عمر ابن العزيز استدعوا العفو عن الناس والرحمة من الله بالرحمة لهم وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا عبادي شاعر ابغ للناس من الخي ... ر كما تبغي لنفسك وارحم الناس جميعاً ... إنهم أبناء جنسك الفصل الثاني من الباب الرابع عشر في ذكر من ظفر فعاقب بأشدّ العقوبة ومن راقب لما ظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة بن أبي معيط أمر بصلبه إلى شجرة فقال يا رسول الله أنا من بين قريش قال نعم قال فمن للصبية قال النار فصلب رواه أبو داود في مراسيله وغيره وقيل إنه أول مصلوب صلب في الاسلام وكان النضر بن الحرث بن كلدة شديدة العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان يوم بدر أخذ أسيراً فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فقتله علي رضي الله عنه صبراً وذكر أن أخته قيلة بنت الحرث تعرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فاستوقفته فوقف فأنشدته يا راكباً إنّ الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتاً بأن تحية ... ما إن تزال بها الركائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت لمانحها وأخرى تحنق

هل يسمعني النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت من ينطق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تمزق قسراً يقاد إلى أبيه متعباً ... رسف المقير وهو عان موثق أمحمد ولانت نجل كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق لو كنت قابل فدية لفديته ... بأعز ما يغلو به من ينفق فالنضر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقهم إن كان عتقاً يعتق فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرها رق لها وقال لو كنت سمعت شعرها من قبل ما قتلته ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة فأما النفر فعكرمة بن أبي جهل وهبار بن الأسود وعبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة والحويرث بن نقيد وهلال بن عبد الله ابن خطل فأما عكرمة فإنه هرب ثم أسلم وهرب هبار بن الأسود ثم أسلم بعد ذلك وكذلك عبد الله بن أبي سرح وأما مقيس بن صبابة فقتله غيلة وأما الحويرث فهرب فلقيه علي بن أبي طالب فقتله وأما هلال بن عبد الله بن خطل فقتله عمار بن ياسر بين الركن والمقام وأما النساء فهند بنت عتبة وسارية مولاة عمرو بن هشام وقينتا هلال بن عبد الله بن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما هند فأسلمت وأما سارية فقتلها علي رضي الله عنه وأما قينتا هلال فقتلت إحداهما وأسلمت الاخرى وقدم اناس من عرينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلموا وكانوا في الصفة فقطنوا المدينة فسقمت أجسادهم فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا تخرجون مع راعينا في ابله فتشربون من البانها وأبوالها قالوا بلى فخرجوا فشربوا الألبان والأبوال فصحوا فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الاسلام واستقاوا الابل فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في اثرهم فما ترحل النهار حتى أتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا

وكان عمرو بن هند من أشد ملوك العرب بأساً وأسوأهم قدرة وأعظمهم جراءة يذكر عنه أنه لما قتلت بنو تميم أخاه مسعد أغضب وآلى على نفسه أنه متى ظفر بهم قتل رجالهم وسبي حريهم فلما ظفر بهم أحمى لهم الصفا ومشى عليه من رجالهم من بلغ أجله فأتى بشاب ليمشي عليه كما فعل أصحابه وأقبلت أمه معه فلما رأت الصفا وشدة وهجه قطعت ثدييها ورمت بهما على الصفا وقالت يا بني ق بثديي قدمك وأقلل بوطئهما ألمك ثم أنشدت ابني لو قبل الفداء لجدت بال ... كبد التي أضحت عليك تقطع يا ليت حرّ النار باشر مهجتي ... أوليت خدي فوق خدك يلذع فرق لها عمرو وأمر باطلاق ولدها واطلاق من بقي من قومها وروى ابن الكلبي عن أبيه قال أول من خرج من الحرم بعض اياد وتغلب وانتشروا في أرض نجد فبعث إليهم الملك زيد بن برعش فغزاهم فأبلى فيهم وأسرو سبي فلما قدم على الملك عرض الأسرى على السيف فقرب شاباً من أياد ليقتل فأقبلت أم وهي تقول يا أيها الملك المغيث القاهر ... الحلم يلزم حين يعفو القادر هذا عبيدك مسلم بجريرة ... بادي الضراعة أو منيق عاثر إن تسط تسط محكماً أو تعفون ... فالذنب يغفره المليك الغافر لاذوا بعفوك من عقابك بعدما ... جردت لها منظومة وخناجر فاصرف إلى الابقاء عزمك فيهم ... طولاً فليس لهم مجير ناصر فرق لها الملك وقال لها لك ما لاثه خمارك منهم فأقبلت تخط خمارها شققاً وتصل بعضها ببعض حتى ضم طرفاه مائة رجل أو أكثر فاستضحك الملك وأمر باطلاقهم وقتل الباقين ومن الحقد المستبشع والتشفي المستشنع ما ذكره ابن حمدون في تذكرته عن عبد الله بن الزبير حين ظفر بأخيه عمرو وكان يشايع بني أمية وهدم دور قوم بالمدينة في هواهم فلما ولي أخوه عبد الله الخلافة أخذه وأقامه للناس ليقتصوا منه فبالغ كل ذي حقد عليه في الاقتصاص وكان عبد الله لا يسأل أحداً ادعى عليه شيأً بينة ولا حجة وكان

أرباب الحقوق يدخلون عليه السجن يضربونه والقيح ينضح من ظهره على الأرض والحائط فلما لم يبق أحد من ذوي الحقوق أمر أن يرسل عليه الجعلان فكانت تدب عليه فتنقب لحمه وهو معقول لا يستطيع حركة حتى مات فدخل الموكل به على عبد الله وفي يده عس لين يريد أن يسخر به وهو يبكي قال له أمات قال نعم قال أبعده ثم تناول العس فشرب ما فيه وقال لا تغسلوه ولا تكفنوه وادفنوه في مقابر المشركين فدفن بها وكان الحجاج شديد الوطأة على الجناة ذكر أهل التاريخ أنه لما مات أحصى من قتل صبرا سوى من قتل في حروبه وسراياه فوجدوا مائة ألف وعشرين ألفاً ومات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة منهن ست آلاف مخدرات وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد ولم يكن لحبسه سقف يقيهم الحر والبرد وكان الحراس يحصبونهم إذا استظلوا من وهج الشمس وزمهرير البرد ولما أخرجوا بعد موته كان فيهم أعرابي فقيل له كم كان لك في السجن قال اثنتا عشرة سنة قيل له فما ذنبك قال بلت في ربض واسط ولما أطلق جعل يعدو وهو يقول إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وبلنا لا نخاف عقابا وذكر أهل التاريخ أيضاً إنه ركب يوم جمعة يريد الجامع فسمع ضجة عظيمة فقال ما هذا قالوا أهل السجن يشكون ما هم فيه فالتفت إلى ناحيتهم وقال اخسؤا فيها ولا تكلمون فيقال إنه مات في تلك الجمعة بواسط سنة خمس وتسعين وهو ابن أربع وخمسين سنة وآخر كلام سمع منه اللهم اغفر لي فإن عبادك يظنون أن لا تفعل وكانت مدة امرته على الناس عشرين سنة وفي الشهر الذي مات فيه ولد أبو جعفر المنصور وولي الخلافة في ذي الحجة أيضاً سنة ست وثلاثين ومائة ومات في الشهر المذكور سنة ثمان وخمسين فكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا سبعة أيام ولما التقى مصعب بن الزبير بالمختار ابن أبي عبيد الثقفي هزمه وأسر من عسكره ستة آلاف وثمانمائة رجل فقتلهم صبراً بين يديه في يوم واحد وهو ينظر إليهم وكانوا ألفاً وثمانمائة من أشراف العرب وخمسة آلاف من الموالي وكان أبو مسلم الخراساني ممن حذاه في الفعل حذو النعل بالنعل أحصى من قتل فكان

ستمائة ألف نفس وقد ذكرنا قتله فيما سبق من الكتاب وفيه يقول أبو جعفر حين قتل وقد وضعت رأسه بين يديه زعمت أنّ الدين لا يقتضي ... دونك فاستوف أبا مجرم فاشرب بكأس من كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم ولما أسرف في القتل وجد رقعة على المنبر فقرأها فإذا فيها اقتل ما عسى أن تقتل فلست تقدر أن تقتل قاتلك فكف وبابك الحرمى قتل في حروبه التي كانت بينه وبين الأمويين مائتي ألف ألف وخمسمائة ألف وخمساً وخمسين ألفاً وكان ظهوره سنة احدى ومائتين في خلافة المأمون واستمرت فتنته إلى أيام المعتصم فأرسل إليه العساكر فكانت الحرب بينه وبينهم ولا إلى أن كانت الدائرة عليه فهزم عسكره وأسر وفتحت مدينته التي بناها ودخلها المسلمون واستباحوها في أيام المعتصم سنة اثنتين وعشرين ومائتين وفيها فتحت عمورية وأحضر بين يدي المعتصم فأمر بقطع يديه ورجليه فلما قطعت لطخ بدمه وجهه حتى لا يرى في وجهه أثر الجزع ثم أمر به فضربت رقبته وصلب وفي قتله يقول أبو عبادة البحتري من أبيات لم يبق فيه خوف بأسك مطمعاً ... للظنّ في اخفا ولا ابداء أخليت منه البيد وهي قراره ... ونصبته علماً بسامرّاء فتراه مطرداً على أعواده ... مثل اطراد كواكب الجوزاء مستشرفاً للشمس منتصباً لها ... في أخريات الجذع كالحرباء وكان بشر بن مروان شديد على الجناة وكان إذا ظفر بجان أقامه على كرسي وسمر كفيه في الحائط ونزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يضطرب حتى يموت وقال الشعبي ما رأيت في العمال مثل عبد الله التميمي كان لا يعاقب إلا في دين الله وكان إذا أتى برجل نباش حفر له قبراً ودفنه فيه حياً وإذا

أتى برجل نقب في قوم جعل منقبته في صدره حتى تخرج من صدره وإذا أتى برجل شهر سلاحاً قطع يده فربما أقام أربعين لا يؤتي إليه بجان خوفاً من سطواته ودخل شبل بن عبد الله على عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس السفاح بعدما ولي الخلافة ووليها وهو ابن أربع وعشرين سنة في ربيع الآخر سنة اثنين وثلاثين ومائة وعنده مائتا رجل من بني أمية وهم جلوس معه على المائدة فقام مولى لبني العباس فأنشده أصبح الملك ثابتاً في أساس ... بالبهاليل من بني العباس طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياس يا كريم المطهرين من الرج ... س ويا رأس كل طود وراس لا تقبلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغراس دلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواس أقصهم أيها الخليفة واقطع ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس ولقد غاظني وغاظ سوايا ... قربهم من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزله الله ... بدار الهوان والاتعاس واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس والقتيل الذي بحرّان أضحى ... ثاوياً بين غربة وتناسي وهما حمزة بن عبد المطلب وإبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المنعوت بالامام فأحز بهم عبد الله فشدخوا بالعمد وبسطت البسط عليهم وجلس عليها ودعا بالطعام وإنه ليسمع أنينهم وعويلهم فلما فرغ من طعامه قال ما أكلت أكلة قط هي أهنأ ولا أمرأ ولا أطيب في نفسي من هذه ثم أخرج عمه عبد الصمد بن علي في طلب بني أمية في اقطار الأرض إن وجد حياً قتله وإن وجد مقبوراً نبشه وأحرق من فيه حتى أتى دمشق فدخلها وقتل في جامعها يوم جمعة في شهر رمضان خمسين ألفاً من بني أمية ومواليهم كانوا قد استجاروا بالجامع فلم يجرهم ولما وصل إلى الرصافة أخرج هشاماً من قبره فضرب مائة سوط وعشرين سوطاً حتى تناثر لحمه وقال إنه ضرب أبي ستين سوطاً ظلماً وذكر الدوحي

في كتابه بلغة الظرفاء في تاريخ الخلفاء سبب ذلك إن هشاماً اتهمه بقتل سليط المنتسب إلى أبيه عبد الله ففعل به ذلك وقد رأينا صواباً أن نذكر مقتل زيد المشار إليه في الأبيات المتقدم ذكرها فالشيء بالشيء يذكر وإن كان غير داخل فيما ترجمنا عليه في هذا الفصل وكان ظهوره في سنة ثنتين وعشرين ومائة بالكوفة وأرسل هشام إلى محاربته يوسف بن عمر الثقفي فلما قامت الحرب بينهم على ساقها انهزم أصحاب زيد وبقي جماعة يسيرة فقاتل أشد قتال وهو يقول وذل الحياة وذل الممات ... وكلاً أراه طعاماً وبيلا فإن كان لا بدّ من واحد ... فسيروا إلى الموت سيراً جميلا ولم يزل يقاتل حتى أصابه سهم في جبهته فمات مقتولاً منه فدفنه أصحابه ثم دل يوسف على قبره فأخرجه وقطع رأسه وأرسله إلى دمشق فعلق وصلب جثته عارية فتدلت سرته حتى سترت سوأته وذلك في السنة التي ظهر فيها ولم يزل كذلك إلى أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك فأمر بها فأحرقت وفيه يقول حكيم بن عياش الكلبي يخاطب آل بني طالب من أبيات صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم أر مهدياً على الجذع يصلب وقستم بعثمان علياً سفاهة ... وعثمان خير من عليّ وأطيب ومات هشام سنة خمس وعشرين ومائة في ربيع الأول وله من العمر ست وخمسون سنة وكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وأشهراً وأياماً والقتيل بجانب المهراس هو حمزة بن عبد المطلب وإنما نسب قتله لبني أمية لان أبا سفيان قاد الجيوش يوم أحد لقتال المسلمين والمهراس ماء بأحد قال لمبرد وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش في يوم أحد فجاءه علي رضي الله عنه في درقته بماء فعافه وغسل به الدم عن وجهه ولما زالت دولة بني أمية كان آخرهم مروان بن الحكم المكنى بالحمار وهرب فتبعه صالح بن علي إلى بلاد مصر فقتله بقرية من قراها تسمى بوصير

ويحكى أنه لما قتل قدم رأسه بين يدي صالح فنقب فمه فسقط لسانه فأخذه هر فقال صالح والله لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم هر لكفانا معتبراً ثم أدخل عليه ابنتان لمروان فقالت كبراهما السلام عليك يا أمير المؤمنين قال لست بأمير المؤمنين فقالت السلام عليك أيها الأمير فقال وعليك اسلام فقالت لقد وسعنا عدلكم فقال إذا لا يبقى على وجه الأرض منكم أحد انكم بدأتم بلعن علي بن أبي طالب على منابركم فاستوجبتم اللعنة من الله وقتلتم الحسين بن علي وسرتم برأسه في الآفاق وقتلتم زيد بن علي ونبشتموه وأحرقتموه بالنار وصلبتم يحيى بن ريد وأمرتم من بال على وجهه وقتلتم إبراهيم بن محمد الامام وهو أسير في أيديكم ظلماً وعدواناً قالت أيها الأمير فليسعنا عفوكم قال أما هذا فنعم ثم أمر فرد عليها ما ذكرت إنه أخذلها وخلى سبيلها وأنشد المهدي قول بشار بن برد فيه لما أنفق الأموال التي جمعها المنصور في اللذات والشرب والغناء بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الناي والعود فخرج المهدي إلى البصرة وما يريد غيره فلما صار بالبطائح من همذان مر بدار كان بشار على سطحها قائماً فلما أحس بمرور المهدي عليه خاف أن يصرفه فاندفع بشار يؤذن فقال المهدي من هذا الذي يؤذن في غير الوقت فقالوا بشار فقال علي به فلما مثل بين يديه قال له يا زنديق هذا من بذائك تؤذن في غير الوقت ثكلتك أمك فلو سكت لسانك ما عرف مكانك ثم أمر بضربه بالسياط فضرب حتى مات فصلبه وقال ابن عبدوس في كتابه الذي صنفه في أخبار الوزراء في سبب قتله إنه هجا يعقوب بن داود وزير المهدي فصنع يعقوب على لسانه هجاء للمهدي ودخل عليه فقال يا أمير المؤمنين إن هذا الأعمى

الملحد قد هجاك قال وما قال قال يعفيني أمير المؤمنين من انشاد ذلك فلم يزل به حتى أنشده خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدف وبالصولجان أبدك الله به غيره ... ودس موسى في حر الخيزران فقال له وجه من يحمله فخاف يعقوب من أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه فوجه إليه من ألقاه في البطائح وقيل بل دس عليه من قتله في طريقه وقيل إنما قتل على الالحاد وكان يرى رأى الثنوية وذلك في سنة ثمان وستين ومائة وفي المحرم سنة تسع ومائتين مات المهدي وله من العمر اثنان وأربعون سنة وخمسة عشر يوماً وكانت مدة خلافته عشر سنين وشهراً واحداً وممن شفي غيظه من العدوّ المخالف ... ولم يغض له عن ذنبه المالف الحجاج كان أيوب بن الفرية قد خرج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي كاتباً له لما خلع ربقة الطاعة وادعى الخلافة فحاربه الحجاج دفعات فكانت الدائرة عليه وأخذ أيوب مع من كان معه فلما قدم على الحجاج أسيراً قال له ما أعددت لهذا الموقف قال ثلاثة حروف كأنهن ركب صفوف دنيا واخرى ومعروف فقال له الحجاج بئس ما منتك به نفسك يا ابن الفرية أتراني ممن ينخدع بكلامك والله لأنت أقرب إلى الآخرة منك إلى موضع نعلي هذه قال أقلني عثرتي واسقني ريقي فإنه لا بد للجواد من كبوة وللحليم من هفوة فقال له أنت إلى السطوة أقرب منك إلى العفو عن الهفوة ألست القائل وأنت تحرض حزب الشيطان وعدو الرحمن تغدوا بالحجاج قبل أن يتعشى بكم ثم أمر بضرب عنقه فضربت وذلك في سنة أربع وثمانين ولما انهزم عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث لحق سعيد بن جبير بمكة وكان قد خرج معه فأخذه خالد بن عبد الله القسري فبعث به إلى الحجاج فلما دخل سعيد على الحجاج قال له سعيد قال نعم قال ألم أقدم العراق واتهمت إن قام الموالي فلما بلغني فقهك وحالك جعلتك امام قومك ووجدت عطاءك أربعين ديناراً فبلغت بك سبعين ديناراً قال بلى قال وسهلت اذنك

قال بلى واستقصيت أبا بردة من أبي موسى وهو فقيه ابن فقيه فجعلتك وزيره وكاتبه وأمرته أن لا يقطع أمراً دونك قال بلى قال وأوفدت وفداً إلى أمير المؤمنين فجعلتك مثلهم ولا يوفد مثلك فاستعفيتني فأعفيتك وذلك كله بغير غضب من الحجاج ثم قال فما أخرجك علي قال كانت لابن الأشعث في عنقي بيعة فاستوى جالساً وقال يا عدو الله فبيعة أمير المؤمنين كانت في عنقك قبل بيعة عبد الرحمن يا حرسي اضرب عنقه فلما ضربت عنقه التبس على الحجاج عقله مكانه فجعل يقول قيوديا قيوديا فظنوا أنه يطلب القيود التي على سعيد فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود وقد أورد القصاص هذه الحكاية على غير هذا النمط والصحيح هو هذا والله أعلم ايقاع الرشيد بالبرامكة لما ولي الرشيد الخلافة قال ليحيى بن خالد يا أبت قد قلدتك أمر الرعية وأخرجته من عنقي إليك فاحكم بما ترى واستعمل من رأيت وافرض لمن رأيت وأقطع من رأيت فإني غير ناظر معك في شيء ثم ولي في سنة ست وسبعين ومائة جعفر بن يحيى المغرب كله من الأنبار إلى أقصى بلاد أفريقية وولي الفضل المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك وكان يحيى يميل إلى الفضل والرشيد يميل إلى جعفر فكان يقول ليحيى أنت للفضل وأنا لجعفر وكان الرشيد يسمي جعفراً بأخيه ويدخله معه في ثوبه ولما وقع من جعفر الذنب لم يحتمله الرشيد ولا قدر على الاغضاء عنه وجعل يتردد في أعمال الحيلة على البرامكة ولا يرى منهم ذنباً ظاهراً بيناً يقتلهم به حتى لا يتوجه عليه لوم من الناس في قتلهم لما كان بينه وبينهم من اتحاد الود فتكلم الرشيد يوماً بكلمة نزع فيها جلساؤه كل منزع منهم من يحكي في نوعها حكاية ومنهم من ينشد شعراً فأنشد بعضهم أبياتاً في غير المعنى الذي هم بصدده فكان سبباً لامضاء عزمه في الايقاع بهم يقول فيها ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما نجد واستبدت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد فاستعاد الرشيد الأبيات مرات فكان ذلك محرضاً له على الايقاع بهم وكان عندما تغير عليهم صرف الفضل عما كان بيده من ولاية الشرق أولاً فأولا من

سنة ثمانين إلى سنة ثلاث وثمانين ولم يزل جعفر مع الرشيد على الحالة المرضية إلى أن ركب في يوم الجمعة مستهل صفر سنة تسع وثمانين إلى الصيد وجعفر معه يسايره خالياً به وانصرف متمسياً إلى القصر الذي كان ينزله بالأنبار فلما وصل إليه ضمه واعتنقه وقال لولا إني أريد الجلوس الليلة مع النساء لما فارقتك وسار جعفر إلى منزله وواصله الرشيد بالألطاف إلى وجه السحر فبعث إليه مسروراً الخادم ومعه سالم وابن عصمة فهجموا عليه وأخذه مسرور وضرب عنقه ولقي الرشيد برأسه فانفذ الرشيد جثته إلى بغداد وقطعت نصفين وصلبا على الجسرين ولما انصرف الرشيد من الرقة سنة تسع وثمانين إلى بغداد مر بالجسر فرأى جثة جعفر فقال لئن مضى أثرك لقد بقي خبرك ولئن حط قدرك لقد علا ذكرك ثم أمر بها فأحرقت ولما قتل الرشيد جعفراً رحل إلى الرقة وحمل معه يحيى وولده الفضل فحبسهما فيها بعد أن ضرب الفضل مائتي سوط ولم يجد ليحيى إلا خمسة آلاف دينار وللفضل إلا أربعين ألف درهم ولم يجد لجعفر ولا لأخيه موسى شيأً ووجد لمحمد بن يحيى سبعمائة ألف درهم ويقال إنه وجد لجعفر في قصره سركة فيها أربعة آلاف دينار وزن كل دينار مائة دينار مكتوب على أحد جانبي الدينار وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفرا وعلى الوجه الآخر يزيد على مائة واحداً ... إذا ناله معسر تيسرا ولما أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفراً وحبس يحيى أباه والفضل أخاه كتب يحيى إليه من السجن من عبد أسلمته ذنوبه وأوبقته عيوبه وخذله رفيقه ورفضه صديقه فحل في الضيق بعد السعة وعالج البؤس بعد الدعة فساعته شهر وليلته دهر قد عاين الموت وقارب الفوت فتذكر يا أمير المؤمنين كبر سني وضعف قوتي وارحم شيبتي وهب لي رضاك بعفو ذنب إن كان فإن من مثلي الزلل ومن مثلك الاقالة وليس أعتذر إلا باقراري حتى ترضى عني فإن رضيت رجوت أن يظهر لك من عذري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك ما مننت به علي من رأفتك ورحمتك زاد الله في عمرك وجعل يومي قبل يومك

فرد عليه الرشيد من كتاب إن أمير المؤمنين لم يأت على ولدك اللعين ومن رأيه ترك الباقين ولم يأمر بحبسك وهو يريد بقاء نفسك إنما أخرك وإياهم لتعالج البؤس بعد النعيم ثم تصير إلى العذاب الأليم فابشر أيها المخادع الزنديق والمخالف الفسيق بما أعدلك أمير المؤمنين من تبديد شملك وخمول ذكرك واطفاء أمرك فتوقعه صباحاً ومساءً ووقع الرشيد عليه وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ثم تناساه هو وابنه الفضل في سجن الرقة حتى ماتا فيه فمات يحيى في المحرم سنة تسعين ومائة فجأة من غير علة وعمره أربع وستون سنة ومات الفضل في شهر رمضان سنة اثنين وتسعين ومائة ولما بلغ الرشيد موته قال أمري قريب من أمره وكذا كان فإنه توفي بعده بخمسة أشهر في المحرم سنة ثلاث وتسعين وقد بلغ من العمر سبعاً وأربعين سنة وكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وأياماً فإنه ولي سنة سبعين ومائة وكان الفضل ترب الرشيد ورضيعه أرضعته أم الفضل وأرضعت الفضل أم الرشيد وذكر إن الرشيد أقام يتردد في قتل جعفر سنين لا تطاوعه نفسه في قتله قال حسين الخادم أشهد بالله لقد رأيت الرشيد متعلقاً بأستار الكعبة قائلاً في مناجاته اللهم إني أستخيرك في قتل جعفر بن يحيى ورثاهم بعد موتهم من عامة الشعراء وغيرهم جم غفير وقد اخترنا أبياتاً من أحاسن قصائدهم أردنا أن نبين فيها محاسن مقاصدهم فمن ذلك أبيات لاشجع الأسلمي ولي عن الدنيا بنو برمك ... ولو تولى الخلق ما زادا كأنما أيامهم كلها ... كانت لأهل الأرض أعيادا آخر كأنّ أيامهم من حسن بهجتها ... مواسم الحج والأعياد والجمع

آخر يا بني برمك وأهالكم ... ولأيامكم المتنقلة كانت الدنيا عروساً بكم ... فهي اليوم ثكول أرملة وفيهم يقول الصيف بن إبراهيم من أبيات هوت أنجم الجدوى وشلت يد الندى ... وغارت بحور الجود بعد البرامك هوت أنجم كانت لأبناء برمك ... بها يعرف الساري وجوه المسالك وللرقاشي ألان استرحنا واستراحت ركابنا ... وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي فقل للمطايا قد أرحت من السرى ... وطي الفيافي فد فدا بعد فدفد وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولم تظفري من بعده بمسوّد وقل للعطايا بعد فضل تعطليوقل للرزايا كل يوم تجددي ويقال إن الذي سعى بهم هو علي بن عيسى بن ماهان وذكر بعض المؤرخين إنه وجد على باب علي بن عيسى المذكور بعد قتل جعفر هذان البيتان ولا يعلم من كتبهما ولا من قائلهما إنّ المساكين بنو برمك ... صبت عليهم نوب الدهر إنّ لنا في أمرهم عبرة ... فليعتبر صاحب ذا القصر وكانت نكبته قريباً من نكبتهم كان الايقاع بهم بعد رجوع الرشيد من الحج في المحرم سنة تسع وثمانين ومائة وعمر جعفر يومئذ خمس وأربعون سنة وكانت مدة دولتهم سبع عشرة سنة وسبعة أشهر وأياماً والله در أبي كلثوم بن عمرو العتابي حيث قال يعرض بالبرامكة ويذكر عاقبة صحبة السلطان وأن ما للمتعلق بها من غدر الزمان أمان تلوم على ترك الغنى باهلية ... طوى الدهر عنها كل طرف وتالد

رأت حولها النسوان يرفلن في الكسا ... مقلدة أجيادها بالقلائد أسرك أني نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد وأنّ أمير المؤمنين أغصني ... معصمها بالمرهفات البوارد ذريني تجيني ميتة مطمئنة ... ولم تج أهوال بتلك الموارد فإن كريمات المعالي مشوبة ... بمستودعات من بطون الأساود وإن الذي يرقى من المجد والعلا ... ملقى بأنواع الأذى والمكايد ولله در المأمون إذ قال وكأنه يعتذر عن ايقاع أبيه بالبرامكة وإن لم يقصده لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم وذلك أنهم يرون ظاهر حرمتهم وخدمتهم ونصيحتهم ويرون ايقاع الملوك بهم ظاهراً ولا يزال الرجل يقول في ذلك ما أوقع به إلا رغبه في ماله أو رغبه فيما لا تجود النفوس به أو الحسد أو الملالة وشهوة الاستبداد لا والله ما هو هذا وإنما هي لجنايات في صلب الملك أو في تعرض الحرم فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة ويحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب فلا يستطيع الملك ترك عقابه لما في ذلك من الفساد مع علمه بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة ومن التشفي الشنيع ما حكي أن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب كان يطعن على عبد الله بن المقفع أشياء كثيرة منها أنه كان يهزأ به ويسأله عن الشيء بعد الشيء تعنتاً فإذا أجابه قال له أخطأت ويضحك منه فلما كثر ذلك عليه غضب وافترى عليه فقال له ابن المقفع يا ابن المغتلمة والله ما اكتفت أمك برجال العراق حتى نفذتهم إلى رجال أهل الشام فحقدها عليه فآلى على نفسه إن أمكنه الله منه ليقتلنه شر قتلة فاتفق أن عيسى بن علي أمر ابن المقفع أن ينطلق إلى سفيان وكان إذ ذاك على شرطة بغداد برسالة كان المنصور أمره بها فقال له إني لا آمن سفيان فقال له انطلق إليه ولا تخف فإنه لم يكن ليعرض ذلك وهو يعلم مكانك مني فلم يجد ابن المقفع بداً من امتثال أمر عيسى فذهب حتى أتى باب سفيان فاستأذن فأذن له وكان في مجلسه العام فعدل به إلى مقصورة ثم قام سفيان من مجلسه إلى المقصورة فلما رأى ابن المقفع قال له وقعت والله فقال له أنشدك بالله تعالى فقال أمي مغتلمة كما قلت إن لم أقتلك قتلة لم

يقتل بها أحد قبلك وأمر بتنور فسجر ثم أمر به فقطع عضواً عضواً ويلقى ي التنور وهو ينظر حتى لم يبق منه عضو متصل بعضو ثم قال يا ابن الزنديقة لا حرقنك بنار الدنيا قبل نار الآخرة ثم أمر به فأحرق بعد ذلك وكان رافع بن الليث خلع هرون الرشيد ولبس البياض وتغلب على بلاد ما وراء النهر وذلك في سنة تسعين ومائة وكان علي بن عيسى إذ ذاك على خراسان فحاربه فلم يقدر عليه فخرج الرشيد إليه من بغداد سنة ثلاث وتسعين فلما بلغ طوس مرض واشتد به المرض فلما كان يوم موته أخذ المرآة بيده فنظر فيها وجهه فرأى عليه غبرة الموت فقال إنا لله وإنا إليه راجعون فبينما هو في تلك الحالة إذ دخل عليه أخو رافع بن الليث أسيراً فلما مثل بين يديه قال إني لأرجو إذ لم تفتني أن لا يفوتني أخوك والله لو لم يبق من عمري إلا أن أحرك شفتي بقتلك لقلت اقتلوه ثم دعا بقصاب وقال له لا تشحذ مديتك وفصله عضواً عضواً وعجل لئلا يحضرني أجلي وعضو من أعضائه في جسده ففصله ثم جعله أشلاء ثم قال له اعدد ما فصلت منه فإذا هو أربعة عشر عضواً فرفع يديه وقال اللهم كما أمكنتني منه فمكني من أخيه ثم مات من ساعته وكتب رجل كان في حبس المأمون إليه لما طال حبسه أغفلت يا أمير المؤمنين أمري وتناسيت ذكري ولم تتأمل حجتي وعذري وقد مل من صبري الصبر ومسني من حبسك الضر فأجابه المأمون ركوبك مطية الجهل صيرك أهلاً للقتل وبغيك علي وعلى نفسك نقلك عن سعة الدنيا إلى قبر من قبور الأحيا ومن جهل الشكر على المنن قل صبره على المحن فاصبر على عواقب هفواتك وموبقات زلاتك على قدر صبرك على كثير جناياتك فإن حصل في نفسك ف عن معصيتي وعزم على طاعتي وندم على مخالفتي فلن تعدم مع ذلك جميلاً من نيتي ولما ظفر أبو جعفر المنصور بعبد الله بن حسن قيده وحبسه في داره فلما أراد المنصور خروجه إلى الجيش جلست ابنة لعبد الله تسمى فاطمة على طريقه فلما بصرت به أنشدت ارحم كبيراً سنه متهدما ... في السجن بين سلاسل وقيود

وارحم صغار بني يزيد إنهم ... قتموا لفقدك لا لفقد يزيد إن جدت بالرحم القريبة بيننا ... ما جدّنا من جدّكم ببعيد فلما سمع المنصور أبياتها قال أدركتنيه ثم أمر به فحدر في المطبق فكان آخر العهد به ويزيد المذكور في شعر فاطمة هو أخو عبد الله بن حسن وأخذ عبد الله لأجل ولديه محمد وإبراهيم وكانا قد خرجا على المنصور وغلبا على المدينة ومكة والبصرة فبعث المنصور إليهما عيسى بن موسى فقتل محمد بالمدينة وكان قتل إبراهيم ومحمد بين البصرة والكوفة في رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وقال أبو بكر الخطيب مات عبد الله بحبس الكوفة يوم الأضحى سنة خمس وأربعين ومائة وهو ابن ست وأربعين سنة وكان المنصور قل ما يظفر بأحد إلا قتله سواء كان مستوجباً للقتل أو غير مستوجب وهذا كان في أول خلافته فقال له عبد الصمد بن علي قد ضخمت في القتل والعقوبة حتى كان لم يسمع بالعفو فقال إن بني أمية لم تبل رممهم وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن قوم رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ولا تتمهد الهيبة في صدورهم إلا باطراح العفو عنهم واستعمال العقوبة فيهم ومن عجائب الطفر ما حكاه الصولي أن المتوكل قال ركبت إلى دار الواثق أزوره في مرضه في اليوم الذي مات فيه ولم أدر بذلك فدخلت الدار وجلست في الدهليز ليؤذن لي فسمعت بكاء نادبة بناحية تشعر بمونه فتجسست وإذا اتياخ ومحمد بن عبد الملك الزيات يأتمران في فقال محمد نلقيه في التنور وقال اتياخ بل ندعه في الماء البارد حتى يموت ولا يرى عليه أثر القتل فبينما هما كذلك إذ جاء أحمد بن أبي دواد وكان القاضي يومئذ فمنعه الخدام الدخول فدافعهم حتى دخل فجعل يحدثهما بما لا أعقله لما داخلني من الخوف واشغال القلب بأعمال الحيلة في الهرب والخلاص مما ائتمرا به في فبينا أنا كذلك إذ خرج الغلمان يتعادون إلي ويقولون انهض يا مولانا فما شككت أني أدخل وأبايع ولد الواثق وينفذ في ما قرر فدخلت فلقيني ابن أبي دواد فقبل يدي وأمسكها إلى أن صار بي إلى السرير وقال اصعد إلى المكان الذي أهلك الله فلما صعدت وجلست سلم علي بالخلافة وجاء محمد بن عبد الملك الزيات واتياخ فسلما علي أيضاً ثم استدعوا القواد فسلموا علي ثم الناس على طبقاتهم فلما انقضت المبايعة بقيت متعجباً مما اتفق مع ما سمعته من كلام ابن الزيات

واتياخ فسألت عن الحال وكيف جرت فقيل لي بينا محمد بن عبد الملك الزيات واتياخ في تقرير ما سمعته إذ دخل عليهما ابن أبي دواد فسلم عليهما وعزاهما وقال أنا رسول المسلمين إليكما وهم يقرؤن السلام عليكما ويقولون لكما قد بلغا وفاة امامنا وعند الله نحتسبه وأنتما المنظور إليكما في هذا الأمر فمن اخترتما لامامتنا فقالا ابنه محمد فقال بخ بخ ابن أمير المؤمنين إلا أنه صغير لا يصلح للامامة فمن غيره قالا فلان وفلان وعدا جماعة إلى أن قالا وجعفر بن المعتصم فقال رضى المسلمون اصفقا على يدي فصفقا ثم أرسل إلى أمير المؤمنين فكان ما رأى قال المتوكل فبقى ما قاله اتياخ وابن الزيات في نفسي فقتلتهما بما احتز ما عليه من قتلي فقتلت ابن الزيات في التنور واتياخاً بالماء البارد وكان ابن الزيات قد اتخذ التنور لابن أسباط المصري وهو صورة خابية مدورة وجعل لباطن جوانبه مسامير أطرافها إلى داخل فإذا وقف فيه الواقف لا يستطيع الحركة إلى جهة أخرى من جهاته إلا ضربته المسامير فلا يزال قائماً فيه حتى يموت فلما ألقى فيه ابن الزيات مر به عبادة المخنث فقال يا ابن الزيات أردت تخبز في التنور فخبزت فيه قال المسعودي أقام ابن الزيات في التنور أربعين يوماً إلى أن مات وكانت مدة وزارته للمتوكل أربعين يوماً وذكر أن الجاحظ كان من خواص ابن الزيات فلما قبض عليه هرب إلى البصرة فقيل له لم هربت قال خفت أن يقال لي ثاني اثنين إذ هما في التنور قتل ابن الزيات في الرابع من صفر سنة ثلاث وثمانين ومائتين وكان قد وزر لثلاث خلفاء المعتصم والواثق والمتوكل ولما قبض عليه قال يا نفس ألم يكفك التجارة واليسار والرغد من العيش حتى طلبت الوزارة وتعرضت للسباع في غيلها ذوقي الان ما جنيت على نفسك ومات الواثق بسر من رأى سنة اثنتين وثمانين ومائتين وله من العمر ستة وثلاثون سنة وكانت مدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وأياماً أتى الاسكندر بسارق فأمر بصلبه فقال أيها الملك إني فعلت ما فعلت وأنا كاره قال وتصلب أيضاً وأنت كاره من راقب في العقوبة رجاء الخلاص ... يوم الجزاء بالأعمال والقصاص قال الله تعالى ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون قال بعض المفسرين هذا وعيد للظالم وتعزية للمظلوم

كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن ارطاة إذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك واعلم أن لك عند الله ما لرعيتك عندك وقال بعض الحكماء اذكر عند القدرة قدرة الله عليك وعند الظلم عدل الله فيك وفي المثل كما تدين تدان وقالوا لا يندمل من المظلوم جراحه حتى ينكسر من الظالم جناحه وقال أعرابي لمن جار عليه لئن هملجت إلى الباطل إنك لعطوف عن الحق وقال عبيدة بن أبي لبابة من طلب عزاً بباطل وجور أورثه الله ذلاً بانصاف وعدل وقال الشاعر لا تعالج ذا الذنب بالانتقام ... واحترس من تباعة الآثام فكرام الأنام سيماهم العف ... وقديماً عن الذنوب العظام أتى سليمان بن عبد الملك برجل جنى جناية يجب عليه فيها التعزير لا غير فأمر بقتله فقال يا أمير المؤمنين اذكر يوم الآذان قال وما يوم الآذان قال اليوم الذي قال الله فيه فأذن مؤذن بينهم إن لعنة الله على الظالمين فبكى سليمان وأمر باطلاقه أتى الرشيد ببعض من خرج عليه فلما مثل بين يديه قال ما تريد ان أصنع بك قال الذي تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه أذل مني بين يديك فاطرق الرشيد ملياً ثم رفع رأسه وقال اذهب حيث شئت فلما خرج قال بعض من حضر يا أمير المؤمنين تفنى مالك وتقتل رجالك حتى تظفر بمثل هذا الباغي وتطلقه بكلمة واحدة انا لا نأمن أن تتسلط عليك الأشرار بالاحسان إليهم فأمر برده فلما مثل بين يديه علم إنه قد أغرى به فقال يا أمير المؤمنين لا تطعهم في فلو أطاع الله فيك خلقه ما استخلفك عليهم ساعة واحدة فأمر باطلاقه أخذ الحجاج محمد بن الحنفية بعد ما قتل عبد الله بن الزبير فقال بايع أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قال إذا اجتمع الناس عليه كنت كأحدهم قال والله لاقتلنك قال لعلك لا تدري قال مالي لا أدري قال محمد حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لله في كل يوم ثلثمائة وستين لحظة يقضي في كل لحظة ثلثمائة وستين قضية فلعله أن يكفيك في قضية من قضاياه

فانتفض الحجاج وقال لقد لحظك الله فاذهب حيث شئت وخلى سبيله وكتب الحجاج بهذا الكلام إلى عبد الملك بن مروان ووافق ذلك كتاب ملك الروم إلى عبد الملك يتوعده ويهدده فكتب إليه عبد الملك بهذا الكلام فكتب ملك الروم إليه ما أنت بأبي عذرة هذا الكلام ما هذا إلا كلام من أهل بيت نبوة وقال رجل لأمير غضب عليه أسألك بالذي أنت بين يديه غداً أذل مني بين يديك اليوم وهو على عقابك أقدر منك على عقابي إلا نظرت في أمري نظر من يرى برءي أحب إليه من سقمي وعدله في أولى به من ظلمي فعفا عنه وأطلقه ولما هجم ابن حمران على مصر في أيام المستنصر بالله واحرق دار الزيت وتخطف عسكره اجتمع الناس إلى أبي الفضل الجوهري الواعظ فشكوا حالهم إليه فكتب إلى المستنصر إن كنت خالقاً فارحم خلقك وإن كنت مخلوقاً فخف خالقك والسلام فرفع ذلك عنهم غضب محمد بن سليمان على رجل فأمر بطرحه في القصر فقال له رجل اتق الله في فقال خلوا سبيله فإني كرهت أن أكون كالذي إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم قدم إلى أحمد بن نصير مجوسي جنى جناية فأمر بضربه فقال أيها الأمير اضرب بقدر ما تقوى عليه يريد بذلك القصاص في الآخرة فتركه وترك العمل وأخذ مصعب رجلاً من أصحاب المختار بن أبي عبيدة فأمر بضرب عنقه فقال أيها الأمير ما أقبح بك ان أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك الذي يستضاء به وأتعلق بأطرافك وأقول رب سل مصعباً فيم قتلني قال أطلقوه فقال أيها الأمير اجعل ما وهبت من حياتي في خفض عيش قال اعطوه مائة ألف درهم فقال أيها الأمير أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين الفاً قال ولم قال لقوله فيك إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت كلا ولا كبرياء يتقي الله في الأمور وقد أف ... لح من كان همه الاتقاء

الفصل الثالث من الباب الرابع عشر

فتبسم مصعب وقال إن فيك لموضعاً للصنيعة وأمر بملازمة جنابه فلم يزل معه حتى قتل في جمادي الأولى سنة اثنتين وتسعين وقتل أخوه عبد الله في جمادي الأولى وكانت مدة خلافته تسع سنين واثنين وعشرين يوماً وماتت أمه أسماء بعده بخمسة أيام لم تشب ولم يقع لها سن ولها من العمر مائة سنة. واسم ابن قيس الرقيات عبد الله وإنما عرف أبوه بقيس الرقيات لأنه تشبب في شعره بثلاث نسوة اسم كل واحدة منهن رقية وقيل اجتمع في جداته ثلاث رقيات وعلى القول الأول يقال الرقيات بالضم على الصفة وقيس بالتنوين وعلى الثاني يقال قيس الرقيات بالكسر على الجدات وأما الرقيات اللاتي شبب بهن فمنهن رقية بنت عبد الله بن جعفر وفيها يقول زودتنا رقية الأحزانا ... يوم جازت حمولها سكرانا ورقية بنت عبد الواحد بن قيس وفيها يقول أمست رقية دونها العمر ... فالرقة السوداء فالبشر ورقية بنت الحسن وهي ابنة عم رقية بنت عبد الواحد وفيها يقول أتكنى عن رقية أم تبوح ... ومن تبع الهوى حيناً فضوح الفصل الثالث من الباب الرابع عشر في أن الانتقام بحدود الله خير فعلات من حكمه الله وولاه قال الله تعالى تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون وروى أبو داود في مراسيله التي أخرجها في سننه عن مكحول عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيموا الحدود في السفر والحضر على

البعيد والقريب ولا تبالوا في الله لومة لائم وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حد يقام في الأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحاً وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى إن الله تعالى أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش وأنزل القصاص حياة لعباده فاقتصوا وحدوا ولا تخافوا في الله لومة لائم ولا يحل لأحد أن يشفع في اسقاط حد من حدود الله تعالى ولا يجوز للمشفوع إليه أن يشفع فيه لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى فمما ورد عن ذوي البصائر والأحلام في كنه مشروع الايقاع والايلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل وقال عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقفوا الحدود ما وجدتم موقفاً ولأن يخطئ الامام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة فإذا وجدتم مخرجاً للمسلم فادرؤا عنه الحدود وقال بعض الحكماء رب ذنب مقدار العقوبة فيه اعلام المذنب بما جنى لا يتجاوز حد الارتفاع إلى حد الايقاع وقيل لحممة بن رافع الدوسي من أعدل الناس قال من عفا إذا قدر وأجمل إذا انتصر ولم يطفه غير الظفر ويحكى أن جعفر بن محمد الصادق قال لأبي جعفر المنصور وقد غضب على رجل فاسرف في عقوبته أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تغضب لله سبحانه بأكثر مما غضب به لنفسه إن الله تعالى يقول يوم القيامة للمنتقم فوق حقه لم عاقبت عبدي بأكثر مما حددته فيقول يا رب إنما غضبت لك فيقول الله سبحانه أكان غضبك أن يكون فوق غضبي وقال أبو الدرداء لرجل اسمع كلاماً يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح

موضعاً فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه وقال بعض الحكماء أن الحق ثقيل فمن قصر فيه عجز ومن جاوزه ظلم ومن انتهى إليه اكتفى أتى المأمون برجل وجب عليه حد فأمر بضربه فقال يا أمير المؤمنين قتلتني قال الحق قتلك قال ارحمني قال ما أنا بأحرم من الذي أوجب الحد عليك وقالوا جماع الخير كله في القيام بحدود الله تقدمت امرأة إلى ابن الزيات وكان قد حبس ابنها في دم فاستغاثت فنهرها وزوى وجهه عنها فقال بعض من حضر ارحمها أيها الوزير إنها أمه قال أفلا أرحم أم المقتول شاعر إذا عفا لم يك في عفوه ... منّ به كدّر نعماه وإن سطا عاقب ذا زلة ... بقدره لا يتعداه وقال أكثم بن صيفي لا تعاقب على الذنوب فوق عقوبتها فإن الله تعالى أقدر منك على عدوك وقال سرى السفطي خصلة من أعلام الاسلام وقواعد الايمان من إذا قدر لم يتناول ما ليس له وقالوا العفو احتمال الذنب الذي لا يكون عن عمد ولا يفضي إلى حد ولا ينقض سنة ولا يولد جرأة فأما الذي يرتكب عمداً ويوجب حداً فالاحتمال له ترخص في الذنوب والتجاوز عنه أبطال للحدود وذلك ما لا تحتمله السياسة ولا تطلقه الشريعة فمن عفا عمن يستوجب الحد كان كمن عاقب من يستحق المثوبة ذكر الحدود التي أوجبها الله تعالى على من أفرط في ارتكاب الفواحش وتغالى الحدود وضعها الله سبحانه للردع عن ارتكاب ما خطر وترك ما أمر فلا تقام إلا بعد سماع بينة أو اقرار فإن لم تكن بينة أحلف الخصم وذلك في حقوق الآدميين وهي نوعان حد وتعزير والحد أنواع حد زنا وحد سكر وحد سرقة وحد قذف فحد الزنا وهو أكبر الكبائر يثبت بأحد أمرين أما باقرار أو بينة والبينة أربعة شهداء يشترط في قبول شهادتهم رأى العين للمباضعة وفي جواز تعمد النظر

خلاف وحد الرؤية أن يرى من شهد تغييب البالغ العاقل حشفة ذكره في أحد الفرجين لا عصمة بينهما ولا شبهة والزاني نوعان بكر ومحصن ويجلد الفاعل في البكر إن كان حرا بالغاً عاقلاً عالماً بالتحريم مائة سوط على سائر أعضائه دون الوجه والرأس والخاصرة وسائر الأعضاء المخوفة ويغربان كلاهما وقال مالك بتغريب الرجل دون المرأة وقال أبو حنيفة لا يغرب والتغريب عام مسافة القصر وحد الكافر غير الحربي والمسلم في الجلد والتغريب سواء وحد العبد على النصف من حد الحر ويغرب نصف عام في أحد القولين وقال مالك لا يغرب لما في تغريبه من الاضرار بسيده فأما المحصن فهو الذي أصاب وطا محرماً بعد نكاح وحده الرجم بالحجارة حتى يموت ولا يلزم الراجم توقى مقاتله ولا يجلد فإن رجم بالبينة رجم في حفير يمنعه من الهرب وإن هرب أتبع بالرحم حتى يموت وإن رجم باقراره لم يحفر له وإن هرب لم يتبع وإذا تاب الزاني بعد القدرة عليه لم يسقط عنه الحد حد السرقة والسرقة أخذ مال من حرز بلغت قيمته نصاباً إذا سرقه بالغ عاقل مختار لا شبهة له في المال ولا حرزه فحده قطع يده اليمنى من مفصل الكوع والنصاب ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار وهو عشرة دراهم عند الشافعي وثلاثة دراهم عند مالك والاحراز يختلف باختلاف الأموال وإذا قطع السارق والمال باق رد على مالكه وإن سرقه ثانية قطع وقال أبو حنيفة لا يقطع في مال مرتين وإن عفا رب المال عن القطع لم يبطل ويستوي في قطع السرقة الرجل والمرأة والحر والعبد والمسلم والكافر وإذا سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثاً قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعاً قطعت رجله اليمنى وإن سرق خامساً لم يقتل بل يعزر لأنها معصية ليس فيها حد ولا كفارة وإذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله وقطع لأن الضمان يجب بحق الآدمي والقطع يجب لله فلا يمنع أحدهما الآخر كالدية والكفارة ولا يقطع صبي ولا مجنون ولا عبد سرق من مال سيده ولا والد سرق من مال ولده ولا ولد سرق من مال والده أوجده لأن لكل واحد منهما شبهة في مال الآخر حد الخمر كل ما أسكر كثيره من خمر أو نبيذ حد شاربه سواء أسكر أو لم يسكر إذا كان مكلفاً والسكر ما زال معه العقل حتى لا يفرق بين السماء

والأرض ولا بين الطول والعرض هذا قول أبي حنيفة وقيل هو أن يجمع بين اضطراب الكلام فهما وافهاماً وبين اضطراب الحركة مشياً وقياماً ويحكي أنه لما جلس أبو بكر محمد بن أبي داود الأصفهاني الظاهري بعد أبيه يفتي استصغروه فدسوا إليه رجلاً وقالوا له سله متى يكون الشارب سكران فسأله الرجل فقال إذا عرت عنه الهموم وباح بسره المكتوم فعلم بهذا الجواب موضعه من العلم وقال آدم بن عبد العزيز في حده شربنا الشراب الصرف حتى كأننا ... نرى الأرض تمشي والجبال تسير إذا مرّ كلب قلت قد مرّ فارس ... وإن مرّ هرّقلت ذاك بعير تسايرنا الحيطان من كل جانب ... نرى الشخص كالشخصين وهو صغير والحد في حق الحر أن يجلد أربعين بالأيدي أو بأطراف الأكمام أو بالسوط ويبكت بالقول الممض والكلام الرادع وحد العبد على النصف من حد الحر كذا جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وصدرا من خلافة عمر فقال للصحابة أرى الناس قد انتهكوا في شرب الخمر فما ترون فقال علي رضي الله عنه أرى أن يجلد الحر ثمانين والعبد أربعين ففعل ذلك فلما لم يكن بد من اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الفقهاء الأربعين الأولى حداً والثانية تعزيز الأجل الافتراء لأن الشارب إذا سكر عربد وإذا عربد افترى وإذا افترى استحق التعزير فإن مات في الأربعين كانت نفسه هدراً وإن مات في الثمانين ففيه قولان أحدهما جميع الدية لتجاوزه النص في حده وهو الأربعون والثاني نصف الدية لأن نصف حده نص والآخر مزيد وحد القذف ثمانون جلدة إجماعاً وهو من حقوق الآدميين يستحق بالطلب ويسقط بالعفو ويعتبر في المقذوف خمس شروط البلوغ والحرية والعقل والاسلام والعفة وإن كان غير ذلك لا يحد قاذفه بل يعذر لأجل الأذى وشرط القاذف أن يكون بالغاً عاقلاً حراً وإن كان صغيراً أو مجنوناً فلا يحد ولا يعزر وإن كان عبداً حد أربعين لنقصه بالرق ويستوي في الحد المسلم والكافر والمرأة ولا يحد القاذف بالسرقة والكفر بل يعزر لأجل الأذى والقذف بالزنا ما كان بالتصريح لا بالتعريض وقيل بالتصريح والتعريض وهو مذهب مالك وقيل لأحد في التعريض وهو مذهب الشافعي

والتعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود ولا يبلغ به أدنى الحد فلا يبلغ به في الحر إلى الأربعين ولا في العبد إلى العشرين فالذي لم تشرع فيه الحدود كمباضعة الأجنبية فيما دون الفرج وسرقة ما دون النصاب والسرقة من غير حرز والقذف بغير الزنا أو الجناية التي لا قصاص فيها ويجوز أن يكون التعزير بالعصا وبالسوط وهو على حسب ما يراه الامام ويختلف باختلاف الذنب وحال فاعله كقوله عليه الصلاة والسلام أقيلوا ذوي المروآت عثراتهم إلا في الحدود فيعزر من جل قدره بالاعراض عنه ويعزر من دونه بالتعنيف ويعزر من دونه بزواجر الكلام ويعزر من دونه بالضرب وحالهم في الحبس كذلك من يوم إلى غاية غير مقدورة ويجوز في التعزير العفو عنه إذا لم يتعلق به حق لآدمي كالشتم والضرب وإن عفا المشتوم أو المضروب كان ولي الأمر مخيراً والجنايات هي قود وعفل والجنايات على النفوس ثلاثة عمد محض وخطأ وشبه عمد أما العمد المحض فهو أن يتعمد رجل قتل انسان بما يقتل غالباً ففيه القود أو الدية والقود أن يقتل القاتل بمثل ما قتل به المقتول إذا قتل بالسيف لم يقتض منه إلا بالسيف وإن أحرقه أو أغرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشبة أو حبسه ومنعه الطعام والشراب فمات فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به والدية في هذا القتل مائة من الإبل في مال القاتل حالة فإن أعوزت الابل وجب قيمتها بلغت ما بلغت وقيل ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وأول من سن الدية مائة من الابل عبد المطلب وحكم القود فيه أن يفضل القاتل على المقتول بحرية أو اسلام فلا يقتل حر بعبد ولا ذكر بأنثى ولا مسلم بكافر وهو مذهب مالك والشافعي فإن قتل حر عبداً فلا قود وكذا لو قتل مسلم كافراً وقال أبو حنيفة يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد كما يقتل العبد بالحر والكافر بالمسلم ويقاد الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل والكبير بالصغير

والعاقل بالمجنون مراعاة لقول الله تعالى إن النفس بالنفس وقال المخالف له هذه الاية واردة بحكاية ما كتب في التوراة على أهلها والذي خوطب به المسلمون كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى ولا يقاد والد بولد ويقاد الولد بالوالد والأخ بالأخ وأما الخطأ الظاهر فهو أن ينسب إليه الفعل من غير قصد لا يقاع الفعل بالمقتول كرجل رمى هدفاً فأصاب انساناً أو ركب دابة فرمحت بانسان فمات فهذا وما أشبهه إذا حدث عنه القتل قيل فيه خطأ محض تجب فيه الدية دون القود على عاقلة الجاني في ماله مؤجلة تؤخذ من حين يموت المقتول في ثلاث سنين أخماساً عشرون خلفة وهي التي مضى عليها سنة وخلفت عن أمهاتها وعشرون بنت مخاض وهي التي مضى لها من العمر سنتان وعشرون بنت لبون وهي التي مضى لها من العمر ثلاث سنين وعشرون حقة وهي التي مضى لها من العمر أربع سنين وسميت حقة لأنها استحقت أن يحمل عليها وعشرون جذعة وهي التي مضى لها من العمر خمس سنين ولا يتحمل القاتل مع العاقلة شيأً من الدية ولا يتحملها الأب وإن علا ولا الأبن وإن سفل لأنهما ليسا من العاقلة وعلى القاتل خطأ مع الدية عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب فإنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار لأن اطلاقها من قيد الرق كاحيائها من قتل لأن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار ومن لم يجد رقبة ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين ودية نفس الحر المسلم ألف دينار وإن كانت ورقا اثنا عشر ألف درهم وإن كانت ابلا بمائة من الابل وهي أصل الدية ودية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس والأطراف ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم وقال مالك نصفها ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم ودية العبد قيمته وإن زادت على الحر أضعافاً وأما شبه العمد فهو أن يكون عامداً في الفعل غير قاصد للقتل كمعلم أدب صبياً فمات أو عزر السلطان رجلاً على ذنب فتلف فلا قود في القتل وفيه الدية على العاقلة وهو أن يزاد عليها ثلثها تؤخذ فيها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب والولاء وإذا اشترك جماعة في قتل رجل واحد وجب القود على جميعهم وإن كثروا ولولي الدم أن يعفو عمن شاء منهم ويقتل باقيهم وإن عفى عن جميعهم فعليهم دية واحدة تقسط عليهم بالسوية وإن كان بعضهم جارحاً وبعضهم ذابحاً فالقود في النفس على الذابح الموفي والجارح مأخوذ بجراحته وإذا قتل الواحد جماعة قتل بالأول ولزمه القود في الباقين وتؤخذ دياتهم من ماله والقود في الأطراف كما قال الله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ولا تقاد يمنى بيسرى ولا صحيحة بشلاء ولا ضرس بسن ولا ثنية برباعية ولا لسان ناطق بلسان أخرس لأنه أكثر من حقه ويؤخذ الأخرس بالناطق وما انقسم إلى أعلى وأسفل لم يؤخذ الأعلى بالأسفل ويقاه الشريف بالدنئأربع سنين وسميت حقة لأنها استحقت أن يحمل عليها وعشرون جذعة وهي التي مضى لها من العمر خمس سنين ولا يتحمل القاتل مع العاقلة شيأً من الدية ولا يتحملها الأب وإن علا ولا الأبن وإن سفل لأنهما ليسا من العاقلة وعلى القاتل خطأ مع الدية عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب فإنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار لأن اطلاقها من قيد الرق كاحيائها من قتل لأن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار ومن لم يجد رقبة ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين ودية نفس الحر المسلم ألف دينار وإن كانت ورقا اثنا عشر ألف درهم وإن كانت ابلا بمائة من الابل وهي أصل الدية ودية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس والأطراف ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم وقال مالك نصفها ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم ودية العبد قيمته وإن زادت على الحر أضعافاً وأما شبه العمد فهو أن يكون عامداً في الفعل غير قاصد للقتل كمعلم أدب صبياً فمات أو عزر السلطان رجلاً على ذنب فتلف فلا قود في القتل وفيه الدية على العاقلة وهو أن يزاد عليها ثلثها تؤخذ فيها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب والولاء وإذا اشترك

ما الدية فيه كاملة من جوارح الانسان وحواسه

جماعة في قتل رجل واحد وجب القود على جميعهم وإن كثروا ولولي الدم أن يعفو عمن شاء منهم ويقتل باقيهم وإن عفى عن جميعهم فعليهم دية واحدة تقسط عليهم بالسوية وإن كان بعضهم جارحاً وبعضهم ذابحاً فالقود في النفس على الذابح الموفي والجارح مأخوذ بجراحته وإذا قتل الواحد جماعة قتل بالأول ولزمه القود في الباقين وتؤخذ دياتهم من ماله والقود في الأطراف كما قال الله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ولا تقاد يمنى بيسرى ولا صحيحة بشلاء ولا ضرس بسن ولا ثنية برباعية ولا لسان ناطق بلسان أخرس لأنه أكثر من حقه ويؤخذ الأخرس بالناطق وما انقسم إلى أعلى وأسفل لم يؤخذ الأعلى بالأسفل ويقاه الشريف بالدنئ ما الدية فيه كاملة من جوارح الانسان وحواسه العقل الاذنان السمع على حيله العينان البصر على حياله الأجفان الأهداب على حيالها الأنف الشم على حياله الشفتان النطق على حياله الأسنان اللسان الذوق على حياله اللحيان اليدان الأصابع على حيالها الصلب قوة الأمناء الاليتان الذكر الانثيان ابطال شهوة الجماع على حيالها الرجلان منفعة المشي والبطش من غير قطع اليدين والرجلين سلخ جميع الوجه نزع لحم الأكتاف نزع جميع اللحم الثابت على الظهر ما تختص به المرأة دون الرجل الثديان وفي الرجل خلاف الشفران الافضاء ويجب في كل جفن ربع الدية وفي كل سن خمس من الابل وكذلك في الأضراس والرباعيات وفي كل اصبع من اليد أو الرجل عشر الدية لا يفضل اصبع على اصبع وفي كل انملة ثلث عشر الدية ما خلا الابهام فإن في كل انملة منه نصف العشر وإذا وجب القود في نفس أو طرف لم يكن لوليه أن ينفرد باستيفائه إلا بأذن السلطان وإن صار إلى حقه من غير اذن السلطان فلا شيء عليه وإذا تعذر وخاف فوات القاتل فالولي مخير بين أن يعفو أو يقتل أو يأخذ الدية وذلك مما خص الله به هذه الأمة وذلك إن الله كتب على أهل التوراة الفصاص وحرم عليهم العفو وأخذ الدية وأوجب على أهل الانجيل العفو وحرم عليهم القصاص وأخذ الدية

المحاربون وهو اجتماع جماعة على شهر السلاح وقطع الطريق وأخذ الأموال ومنع السابلة فالحكم فيهم كما قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض وحكم هذه الآية أنها مرتبة باختلاف أفعالهم لا باختلاف صفاتهم فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومذهب مالك وأبي حنيفة أن يصلب حياً ثم يطعن بالرماح حتى يموت ولا بأس أن يطعم ويسقى ولا يجوز العفو عن هذا القتل وإن عفا ولي الدم ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى للسرقى ورجله اليسرى للمجاهرة باخافة السبيل ومن هيب ولم يقتل ولم يأخذ المال عزر لا غير ونفى والنفي هو الحبس وهو قول مالك وأبي حنيفة وقال الشافعي هو أن يطلبوا الاقامة الحدود فيبعدوا فإن تابوا سقطت عنهم الحدود وقيل الامام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق من غير تفصيل وتوبة المحارب قبل القدرة عليه فإن لم يكن في منعة وضع عنه الحد الالهي ولا يسقط عنه حد الآدمي وقال مالك توبة المحارب قبل القدرة عليه تضع عنه جميع الحدود والحقوق إلا الدماء والله أعلم

الباب الخامس عشر

الباب الخامس عشر في الاخوة فيه ثلاث فصول الفصل الأول من هذا الباب في مدح اتخاذ الاخوان فإنهم العدد والأعوان قال الله تعالى حكاية عن قول الكفار في دركات النار في طلبهم الاغاثة من الصديق على إزالة ما مسهم من عذاب الحريق أو تخفيف ما نالهم من العذاب الأليم فمالنا من شافعين ولا صديق حميم قيل إنما سمي الصديق صديقاً لصدقه فيما يدعيه من المودة وسمي العدو عدواً لعدوه عليك إذا ظفر بك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثروا من الاخوان فإن الله حي كريم يستحي أن يعذب عبده بين اخوانه وقال عليه الصلاة والسلام المرء كثير بأخيه وقال عليكم باخوان الصدق فإنهم معونة على حوادث الزمان وشركاء في السراء والضراء وما أحسن قول من قال ما دامت النفس على شهوة ... ألذ من ودّ صديق أمين من فاته ود أخ صالح ... فذلك المقطوع منه الوتين

وقيل لحكيم ما أحسن العيش قال اقبال الزمان وعشرة السلطان وكثرة الاخوان ما ضاع من كان له صاحب ... يقدر أن يرفع من شأنه وإنما الدنيا بسكانها ... وإنما المرء باخوانه ولعلي كرم الله وجهه في معناه عليك باخوان الصفاء فإنهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهور وليس كثيراً ألف خل وصاحب ... وإنّ عدوّاً واحداً لكثير وقال المغيرة بن شعبة التارك للاخوان متروك ويقال الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين وقال الشاعر وما المرء إلا باخوانه ... كما يقبض الكف بالمعصم ولا خير في الكف مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذم وقالوا من لم يرغب في الاخوان بلى بالعداوة والخذلان وقالوا اتخاذ الاخوان مسلاة للأحزان وقالوا مثل الصديق كاليد توصل باليد والعين تستعين بالعين الثعالبي الحاجة إلى الأخ المعين كالحاجة إلى الماء المعين وقال الصديق ثاني النفس وثالث العينين وقال في لقاء الاخوان روح الجنان وراحة الجبان وقال لا فاكهة أطيب من مفاكهة الاخوان ولا نسيم أروح من مناسمة الخلان وقيل لبعضهم أيما أعز عليك شقيقك أم صديقك قال شقيقي إذا كان صديقي وقالوا الأخ الصالح خير لك من نفسك لأن النفس أمارة بالسوء والأخ الصالح لا يأمرك إلا بالخير ولم يقل في احتياج الانسان إلى صديق يزينه في المشاهد ويعينه على بلوغ المقاصد مثل قول الفقيه منصور لولا صدود الصديق عني ... ما نال واش مناه مني ولا أدمت البكاء حتى ... قرح فيض الدموع جفني وما جفاء الصديق إلا ... هجوم خوف عقيب امن

وقالوا اصطف من الاخوان من كان ذا عقل موفور يهتدي به إلى مراشد الأمور فإن الأحمق لا يثبت له وصال ولا يدوم لصاحبه على حال وقالوا اصطف من الاخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب فإنه ردء لك عند حاجتك وركن عند نائبتك وأنس عند وحشتك وزين عند عاقبتك وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه أخلاء الرجال همو كثير ... ولكن في البلاء همو قليل فلا يغررك خلة من تصافي ... فمالك عند نائبة خليل وكم خل يقول أنا وفيّ ... ولكن ليس يفعل ما يقول سوى خل له حسب ودين ... فذاك لما يقول هو الفعول وقد صرح الشاعر في اعتبار الأخلاق واختيار الأعراق بقوله وإذا جهلت من امرئ أعراقه ... وذكرتها فانظر إلى ما يصنع إنّ النبات إذا استدام به الثرى ... مرج النبات به فطاب المرتع آخر صافي الكريم فخير من صافيته ... من كان ذا شرف وكان عفيفا إنّ الكريم إذا تضعضع حاله ... فالخلق منه لا يزال شريفا وقال علي رضي الله عنه الأخ رقعة في ثوبك فانظر بم ترقعه وقال العتابي لا تستكثرن من الاخوان إلا أن كانوا أخياراً فإن الاخوان غير الأخيار بمنزلة النار قليلها متاع وكثيرها بوار وقد قال الشاعر لا تركننّ إلى أهل الزمان ولا ... تأمن إلى أحد واستشعر الحذرا فإن شككت فجرّب من تعاشره ... حتى يقول لك التجريب كيف ترى آخر تخير من الاخوان كل ابن حرّة ... يسرّك عند النائبات بلاؤه وقارن إذا قارنت حرّاً فإنما ... يزين ويزري بالفتى قرناؤه

عدي بن زيد إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب إلا ردى فتردى مع الردى عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى آخر لا تك للجاهل خدناً فقد ... يعتبر الصاحب بالصاحب علامة الانسان في خدنه ... تبين للشاهد والغائب ولبعضهم إذا اخترت أن يبقى لك الدهر صاحباً ... فمن قبل أن يصفو لك الودّ فاغضبه فإن كان في حال التباغض راضياً ... وإلا فقد جربته فتجنبه قال ابن مسعود ما شيء أدل على شيء ولا الدخان على النار من الصاحب على الصاحب وقال حكيم كل انسان يأنس إلى شكله كما أن كل طير يطير مع جنسه ومن النوادر أن حكيماً رأى غراباً مع حمامة فعجب من تألفهما مع مباينتهما في الجنس فأثارهما فإذا كل منهما مكسورا الجناح فقال إنما جمع بينهما العلة وقالت الحكماء الأضداد لا تتفق والأشكال لا تفترق وقالوا على قدر تشاكل الأجناس تتألف قلوب الناس وأقربهما مشاكلة أحسنهما مواصلة وأكثرها تنافراً أطولها تهاجراً وحكى أن عبد الله بن جعفر جاء مكة ليلاً فبات خارجها فلما أصبح دخلها فقال يا أهل مكة عرفنا أخياركم من أشراركم في ليلة واحدة نزلنا ومعنا أخيار وأشرار فنزل أخيارنا على أخياركم وأشرارنا على أشراركم وقد نظم المتنبي هذا القول في بيت واحد فقال وشبه الشيء منجذب إليه ... واشبهنا بدنيانا الطغام

ولغيره لكل امرئ شكل من الناس مثله ... وأكثرهم شكلاً أقلهم عقلا وكل أناس يألفون لشكلهم ... وأكثرهم عقلاً أقلهمو شكلا لأنّ كثير العقل ليس بواحد ... له في فريق كل حين له مثلا آخر وقائل كيف تهاجرتما ... فقلت قولاً فيه انصاف لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وألاف وقال الجاحظ من شأن الأجناس أن تتواصل ومن عادة الأشكال أن تتقاوم والشيء يتغلغل إلى معدنه ويحن إلى عنصره فإذا صادف منبته ولاقى عنصره وشج بعروقه وسبق بفروعه وتمكن على الاقامة وثبت ثبات الطينة وقال حاتم وإني وحيد الفقر مشترك الغنى ... وتارك شكل لا يوافقه شكلي وشكلي شكل لا يقوم بمثله ... من الناس إلا كل ذي ثقة مثلي ولي ملح في المجد والبذل لم يكن ... تأنقها فيما مضى أحد قبلي وأجعل مالي دون عرضي جنة ... لنفسي وأستغني بما كان من فضلي أبو سليمان الخطابي وما غربة الانسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

ويقال المودة نسبة من غير رحم وصلة من غير قرابة شاعر ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم ... وبلوت ما وصلوا من الأسباب فإذا القرابة لا تقرب نائياً ... وإذا المودّة أقرب الأنساب آخر ما القرب إلا لمن صحت مودته ... ولم يخنك وليس القرب بالنسب كم من قريب بعيد الودّ مظعن ... ومن بعيد سليم الودّ مقترب فنون شروط الأخاء وحقوقه ... الواجبة على كل أحد لصديقه والقول الجامع لحقوق الصديق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للمسلم على المسلم ست خصال واجبات فمن ترك واحدة منها فقد ترك حقاً واجباً لأخيه عليه أن يسلم عليه إذا لقيه ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويجيبه إذا دعاه وينصحه إذا غاب ويشيعه إذا مات وقال عمر بن الخطاب ثلاث يصفو بها ود أخيك تسلم عليه إذا لقيته وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب أسمائه إليه نظم بعض الشعراء هذه الكلمات ثلاث بها تصفو بودّ أخيكا ... إذا اجتمعت بعد الاخوة فيكا تسلم عليه ضاحكاً متحبباً ... إليه إذا لاقيته ولقيكا وتوسع له بالود في كل مجلس ... كما كنت يوماً موسعاً لأبيكا وتدعوه من أسمائه بأحبها ... إليه تكن بالود منه وشيكا وداوم عليها مع أخيك فإنه ... من السوء عند النائبات يقيكا وسئل عبد الله بن عمر ما حق الصديق على صديقه قال لا تشبع ويجوع وتلبس ويعرى وإن تواسيه بالبيضاء والصفراء نظم شاعر هذه الكلمات

فقال لخليلي عليّ مني ثلاث ... واجبات أخصها اخواني حفظه في المغيب إن غاب عني ... ولقياه بالبشر إن لاقاني ثم بذلي بما حوته يميني ... مشفقاً في الخطوب إن ما دعاني فمما يعتمد من شرائط الأخاء والمودة ... رعاية الأخ أخاه في الرخاء والشدّة قال علي رضي الله عنه لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث في نكبته وغيبته ووفاته وقال طاوس اليماني لا تواخين إلا الكريم الأبوه الكامل المروه الذي إن بعدت عنه خلفك وإن قربت إليه كنفك وقال الثعالبي ينبغي أن يكون الصديق لصديقه أسمع من خادم وأطوع من حاتم وقيل لابن السماك واسمه محمد بن صبيح أي الاخوان أخلق ببقاء المودة قال الوافر دينه الوافي عقله الذي لا يملك على القرب ولا ينساك عند البعد إن دنوت منه دعاك وإن بعدت عنه رعاك لا يقبضه عنك يسر ولا يقطعه عنك عسر إن استعنته عضدك وإن احتجت له رفدك وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله يستقل كثير المعروف من نفسه ويستكثر قليل المودة من صديقه وقال جعفر الصادق رضي الله عنه للصداقة خمس شروط فمن كانت فيه فأنسبوه إليها ومن لم تكن فيه فلا تنسبوه إلى شيء منها وهي أن يكون زين صديقه زينه وسريرته له كعلانيته وأن لا يغيره عليه مال وأن يراه أهلاً لجميع مودته ولا يسلمه عند النكبات وقال أبو بكر بن عبد الله المزني إذا انقطع شسع نعل أخيك ولم تواسه في الحفاء فقد ملت إلى جانب من الجفاء ومن حق الصداقة حفظ العهد وبذل المال واخلاص المودة ورعاية الغيب وتوقير المشهد ورفض الوحدة وكظم الغيظ واستعمال الحلم ومجانبة الخلاف واحتمال الكل وطلاقة الوجه وصدق اللسان والمشاركة في الباساء ولقد كرم نجار ... من قال في معرض الافتخار لم يبق مني على الأيام باقية ... إلا انقضت غير حفظ العهد والذمم هذان خلقان أيام الحياة معي ... لا يبرحان على الاكثار والعدم

أبو العتاهية أحب من الاخوان كل مواتي ... وكل غضيض الطرف من عثراتي يوافقني في كل أمر أريده ... ويحفظني حياً وبعد مماتي ومن لي بهذا ليت إني وجدته ... فقاسمته مالي من الحسنات وقالوا خير الاخوان من يستر ذنبك فلم يقرعك به ويخفي معروفه عندك فلم يمن به عليك وقال أعرابي أصحب من ينسى معروفه عندك ويذكر حقوقك عليه وقال آخر أصحب من إذا صحبته زانك وإن خدمته صانك وإن أصابتك خصاصة مانك وإن رأى منك حسنة عدها وإن عثر على سيئة سدها لا تخاف بوائقه ولا تختلف عليك طرائقه أبو نصر الميكالي أخوك من إن كنت في ... نعمي وبؤسي عادلك وإن بدا لك نقمة ... بالبرّ منه عادلك آخر خير اخوانك المشارك في ... المرّو أين الشريك في المراينا الذي إن حضرت زانك في ... الحيّ وإن غبت كان أذناً وعينا آخر لعمرك ما زان الفتى في أموره ... ولا شأنه إلا طباع الخلائق ولا صاحب الأقوام في كل حالة ... كحرّ كريم أو خليل موافق يواسيك في البلوى ويمنحك الهوى ... ويصفيك ودّاً ماخضاً غير ماذق يكون إذا نابتك يوماً عظيمة ... سناناً لدى الهيجاء في كل مارق آخر إن أخا الصدق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت فيك شمله ليجمعك

وقيل لخالد بن صفوان أي اخوانك أوجب عليك حقاً قال الذي يسد خللي ويغفر زللي ويقبل عللي ويبسط عنده أملي وقال الثعالبي صديقك من يرضى خلتك ويسد خلتك وقال الحجاج لابن الفرية ما الكرم قال صدق الأخاء في الشدة والرخاء ويقال صديقك من ساعفك في أطوارك وقدم سعيه في قضاء أوطارك أبو تمام حبيب من لي بانسان إذا أغضبته ... وجهلت كان الجهل ردّ جوابه وإذا صبوت إلى المدام شربت من ... أخلاقه وسكرت من آدابه وتراه يصغي للحديث بطرفه ... وبقلبه ولعله أدرى به وقال الخليل بن أحمد يجب على الصديق مع صديقه استعمال أربع خصال الصفح قبل الاستقالة وتقديم حسن الظن قبل التهمة والبذل قبل المسئلة ومخرج العذر قبل العتب وقال رجل لمطيع بن اياس جئتك خاطباً لمودتك قال قد زوجتكها على شرط أن تجعل صداقها أن لا تسمع في مقالة الناس وقالوا الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت شاعر إذا شئت أن تدعي كريماً مهذباً ... حليماً ظريفاً ماجداً فطناً حرا فإن ما بدت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا وقيل لبعض الأدباء من الرفيق قال من أحسن شغله وأوكد فرضه ونفله فقيل له من الشفيق قال من ان دهمتك محنة قذيت عينه لك وإن شملتك منحة قرت عينه بك فقيل له فمن الوفى قال من يحكي بالقصد كما لك ويرعى بلحظه جمالك قيل له فمن الصاحب قال الذي من إذا نأى ذكرك عند الناس وإن دنا خدمك في الكناس وقال بعض البلغاء إذا جاد لك أخوك بماله فقد جاد لك بنفسه لأنه قد بذل لك مالا قوام نفسه الا به وإذا بخل عليك برفده فلا تصدقه في وده ولله در القائل إذا صاح بي صاحبي يا أخي ... وقد عظه الدهر لبيته أعلل بالوصل عرس الاخاء ... ليزكو ما كنت ربيته له الصفو مما حوته يدي ... وبيتي إذا زارني بيته

آخر أميل مع الصديق على ابن أمي ... وآخذ للصديق من الشقيق فإن أبصرتني حراً مطاعاً ... فإنك واجدي عند الصديق وقالوا لتكن معاونتك أخاك بمهجتك عند البلاء أكثر من معاونتك إياه عند الرخاء وقالوا اجعل حسنات أخيك له محسوبة وسيآته إلى الزمان منسوبة وقالوا من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً ولعدو صديقه عدواً وقالوا ليس من الحب أن تحب ما يبغض حبيبك السري الرفاء وليس يكون المرء سلم صديقه ... إذا لم يكن حرب العدوّ المخالف آخر صديق عدوّي داخل في عداوتي ... وإني لمن ود الصديق ودود آخر تود عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك إنّ الرأي منك لعازب آخر من أبيات إذا صافي صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام وقالوا يجب على الصديق أن يحتمل لصديقه ثلاث مظالم ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة وقالوا إذا صح الود سقطت شروط الأدب ويقال

إذا صح الاعتقاد ذهب الانتقاد وقال المأمون أحب الاخوان إلي من يكفيني مؤنة التحفظ ومما يجب عليه من حسن الصنيع ... رفض العتاب واجتناب التفريع قال عيسى عليه السلام الصبر على أخ بعيب فيه خير من أخ تستأنف مودّته وقيل من عاتب في كل ذنب أخاه فحقيق أن يمله ويقلاه وقالوا قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الاساءة شاعر زين أخاك بحسن وصفك فضله ... وأثبت لما يأتي من الحسنات وتجاف من عثراته واساته ... من ذا الذي ينجو من العثرات وقالوا العفو الذي يقوم مقام العتق ما سلم من تعداد السقطات وخلص من تذكار الفرطات وقالوا ليس من العدل سرعة العذل ويقال العتاب داعية الاجتناب وقالوا عتاب الأحباب داعية الهجر والسباب وقالوا العتاب آكد دواعي القطيعة بين الأحباب شاعر لولا كراهية السباب وإنني ... أخشى القطيعة إن ذكرت عتابا لذكرت من عثراتكم وذنوبكم ... ما لو يمرّ على الفطيم لشابا آخر تحمل من صديقك كل ذنب ... وعد خطاه من نمط الصواب ولا تعتب على ذنب حبيباً ... فكم هجر تولد من عتاب أحمد بن يوسف وكم قد قلتمو قولاً لدينا ... له لولا مهابتكم جواب تركت عتابكم وعفوت إني ... رأيت الهجر مبدؤه العتاب

آخر إذا اعتذر الصديق إليك يوماً ... من التقصير عذر أخ مقرّ فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإن العفو شيمة كل حر آخر لا تجفونّ أخاً وإن أبصرته ... لك جافياً ولما تحب منافيا فالغصن يذبل ثم يصبح ناضراً ... والماء يكدر ثم يرجع صافيا آخر أخلص الود لمن آخيته ... واغفر العثرة منه إن عثر وإذا زلت به النعل فلا ... تلبسن من أجله جلد النمر عد بحلم منك يطفي جهله ... إنما الجهل كنار تستعر آخر إذا أنت عاتبت الملوك فإنما ... تخط على جار من الماء أحرفا وهبه ارعوى بعد العتاب ولم تكن ... مودّته طبعاً فصارت تكلفا آخر وكم من قائل قد قال دعه ... فلم يك ودّه لك بالسليم فقلت إذا جزيت الغدر غدراً ... فما فضل الكريم على اللئيم وأين الألف يعطفني عليه ... وأين رعاية الحق القديم ويقال إذا انبسطت المكاتبة انقبضت المصاحبة وقال أبو بكر الخوارزمي لا خير في حب لا تحتمل أقذاؤه ولا يشرب على الكدر ماؤه وإنما العشرة مجاملة والمجاملة لا تسع الاستقصاء والكشف لا يحتمل الحساب والصرف

محمود الوراق إن التجني قاطع الرفد ... والغيظ يخرج كامن الحقد فاقبل أخاك على تغيره ... وارع الذي قد كان من عهد آخر ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتبع جاهداً كل عثرة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب بشار بن برد إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... خليلك لم تلق الذي لا تعاتبه وإن أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه فصن واحداً أو صن أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرّة ومجانبه ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً إن تعدّ معايبه آخر أرض من المرء في مودّته ... بما يودي إليك ظاهره من يكشف الناس لم يجد أحداً ... تصح منهم له سرائره يوشك أنّ لا يتم وصل أخ ... في كل زلاته تنافره ابن الرومي هم الناس في الدنيا فلا بدّ من قذى ... يلمّ بعين أو يكدر مشربا ومن قلة الانصاف أنك تبتغي ال ... مهذب في الدنيا ولست المهذبا

العباس بن الأحنف إنّ بعض العتاب يدعو إلى الهج ... ر ويؤذي به المحب الحبيبا وإذا ما القلوب لم تضمر الود ... فلن يعطف العتاب القلوبا وقالوا الاستقصاء أول الزهد وآخر الود ومن أمثالهم رب خطرة صغيرة عادت همة كبيرة وقال الشاعر هذي مخايل برق خلفها مطر ... جود وورى زناد خلفه لهب وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه ... وأوّل الغيث قطر ثم ينسكب نصر بن سيار أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام فإنّ النار بالعودين تذكو ... وإن الحرب أوّلها كلام فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام عبد الله بن طاهر إذا ما صديقي ضرّني سوء فعله ... ولم يك عما ساءني بمفيق صبرت على أشياء منه تريبني ... مخافة أن أبقى بغير صديق ومنه قول الآخر وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وأشرفني على حنق بريقي غفرت ذنوبه وعفوت عنه ... مخافة أن أعيش بلا صديق

ومنهم من استحسن عتاب الأصحاب ... فربما كان حضا على اكتساب المحابّ قالوا معاتبة الأخ الصديق خير من فقده فلعلها تكون سبباً إلى صلاحه ورشده وقالوا ترك المعاتبة من علامات الاهمال والتواطئ على منهيات الأعمال وقالوا شر الأصحاب من لم ينجع فيه العتاب وقال علي رضي الله عنه عاتب أخاك بالاحسان إليه واردد شره بالافضال عليه وقال علي بن عبيدة الزنجاني العتاب حدائق الأحباب وثمار الود ودليل الظفر وحركات الشوق وراحة الواجد ولسان المشفق وقالوا العتاب يداوي القلوب ويترجم عن خفيات العيوب وما أحسن قول من قال تواقف عاشقان على ارتعاب ... أرادا الوصل من بعد اجتناب فلا هذا يملّ عتاب هذا ... ولا هذا يملّ من الجواب فلا عيش كوصل بعد هجر ... ولا شيء ألذ من العتاب آخر أعاتب من أهواه في كل حالة ... ليجتنب الأمر الذي معه الذنب فإني أرى التأنيب عند حدوثه ... بمنزلة الغيث الذي قبله الجدب ومن مستحسنات المعاتبات قول القائل لا غرو إن كان من دوني يسركم ... وأُنثنى عنكمو بالويل والحرب يدنو الاراك فيمسي وهو ملتثم ... ثغر الفتاة ويلقى العود في اللهب ولبعضهم سأنسيك نفسي إن نسيت مودّتي ... كأنك لم تخطر ببالي ولا وهمي وأكفيك إذ لم تبغ حمد مذمتي ... فتبرأ من حمدي وتبرأ من ذمي وأنساك نسيان القرون التي مضت ... عليها الليالي من جديس ومن طسم فإن قيل لي أين الذي كان بينكم ... رددت عليه أنه كان في الحلم

جرير فإن تك قد مللت الآن مني ... فسوف ترى مجانبتي وبعدي وسوف تلوم نفسك إن بقينا ... وتبلو الناس والاخوان بعدي فلا والله لا أنساك حتى ... أوسد مضجعي وأزور لحدي ابن الرومي تخذتكمو حصناً منيعاً لتدافعوا ... نبال العدا عني فكنتم نصالها إذا كنتم لا تدفعون ملمة ... عن النفس كونوا لا عليها ولا لها إبراهيم بن العباس رحمه الله تعالى وكنت أخي يا أخيّ الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وكنت أذم إليك الزمان ... فها أنا أطلب فيك الزمانا وقال بعض الأمويين يعاتب عيسى بن موسى إن تكلمت لم يكن لكلامي ... موقع والسكوت ليس بمجدي وأراني إذا تأملت أمري ... ناقص الحظ في دنوّي وبعدي فابن لي أكل هذا التواني ... في جميع الاخوان أم لي وحدي أم ترى ما اصطنعته عند غيري ... واجباً أن أعدّه لك عندي قد لعمري أيست منك حياتي ... ومحال أني أرجيك بعدي وينبغي للفطن اللبيب أن لا يوغل في عتاب الحبيب فإنهم قالوا في كلام بعض الحكماء بعض المعاتبة حزم وكلها عزم كالخشبة المنصوبة في الشمس تمال فيزيد ظلها وتفرط في الامالة فتنقصه وقالوا الجواد إذا ضرب في غير وقته كبا والحسام إذا استكره نبا ولهذا قال بعض الأعراب أقل الناس عقلاً من أفرط في

اكتساب الاخوان وأقل عقلاً منه من ضيع من ظفر به منهم ويقال قارب الاخوان فإن المقاربة أقرب الأنساب ولا تتقص عليهم فإن التقصي أقطع الأشياء للأسباب ويقال بدقيق العتب على الأحباب تنفر وحشيات الخواطر والألباب وليعمل الصاحب في مصاحبة أخيه يقول القائل صاف الصديق وأصفه صفو الصفا ... واخصص صديقك بالصداقة تخصص أو بقول الآخر وهو أليق بمن حسنت أخلاقه وكرمت أعراقه خذ من صديقك مرأى غير مستمع ... لا تعدونّ عيان المرء للخبر إن كنت لا تصطفى ممن ترى أحداً ... فاخلق لنفسك اخواناً على قدر وقالوا كثرة العتاب تحيي مودات الضغائن وتثير كوامن الدفائن شاعر كثر العتاب فقلت إن عاتبتها ... كان العتاب لوصلها استهلاكا ورجوت أن تبقى المودّة بيننا ... موقوفة فتركت ذاك لذاكا وما أظرف من قال وأخ كأيام الحياة اخاؤه ... تلوّن ألواناً عليّ خطوبها إذا عبت منه خلة فكرهتها ... دعتني إليه خلة لا أعيبها وكتب يزيد بن معاوية لسالم بن زياد قليل العتاب يؤكد أواخي الأسباب وكثيره يقطع وصائل الأنساب لا تكثرن في كل حادثة ... عتب الصديق فإنه يهفو هب مشرباً يصفو فتحمده ... أترى المشارب كلها تصفو آخر لا يؤيسنك من صديقك نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم فإذا نبا فاستبقه وتأنه ... حتى يفئ به الطباع الأكرم

آخر وأرى الصديق إذا استشاط تغيظاً ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد ولربما كان التغيظ باعثاً ... لتناول الآباء والأجداد آخر كاف الخليل على الجميل بمثله ... فإذا أساء فكافه بعتابه وإذا عتبت على امرئ آخيته ... فتوق طائر عتبه وسبابه وألن جناحك ما استلان مودّة ... وأجب دعاه إذا دعا بجوابه ومن ذوي الأنفة من أطاع أمر عقله فكافأ المتكلف للهوى على فعله بمثله كقول الشاعر إذا تاه الصديق عليك كبراً ... فته كبراً على ذاك الصديق وإن سلك الغرام به طريقاً ... فخذ عرضاً سوى ذاك الطريق فليجاب الحقوق بغير راع ... حقوقك رأس تضييع الحقوق آخر وإذا الصديق نأى بجانب نفعه ... وحماك صوب غمامه المتدفق وازورّ عنك بجاهه وبماله ... وببشره وجنى ولم يتخلق فاعدده في الموتى فلا معنى له ... وأرمي به الغرض البعيد وحلق إن ظنني للنار منه شفاعة ... يوم القيامة ساء ظنّ الأحمق الكميت ولست إذا ولي الصديق بودّه ... بمكتئب أبكى عليه وأندب

ولكنه إن دام دمت وإن يكن ... له مذهب عني فلي عنه مذهب إلا أنّ خير الودّ ودّ تطوّعت ... به النفس لا ودّ أتى وهو متعب أبو العتاهية ما أنا إلا كمن عناني ... أرى خليلي كما يراني لست أرى ما ملكت طراً ... مكان من لا يرى مكاني من ذا الذي يرتضي الأقاصي ... إن لم ينل خيره إلا داني آخر ومن شيمتي أني إذا المرء ملني ... وأظهر إعراضاً ومال إلى الغدر أطلت له قيماً يحب عنانه ... وتاركته في جس مس وفي سر فإن عاد في ودّي رجعت لودّه ... وإن لم يعد ألغيت ذاك إلى الحشر محمد بن حازم تمادى به الهجران واستحسن الغدرا ... وإلى يميناً لا يكلمني الدهرا فوالله ما استسننت بعد مودّة ... صديقاً ولا أرهقت ذا زلة عسرا فإن عاد في ودي رجعت لودّه ... وإلا فإني لا أحمله اصرا وإن مال عني خائباً نحو عذره ... تسليت عنه واستعرت له صبرا اعدّ لمن أبدى العداوة مثلها ... وأجزى على الاحسان واحدة عشرا سعيد أشكو إلى الله حياء امرئ ... ما كان بالجافي ولا بالملول كان وصولاً دائماً عهده ... خير الاخلاء الودود الوصول ثم ثناه الدهر عن رأيه ... فحال والدهر لقوم يحول فإن يعد أشكو له ودّه ... وإن يطل هجراً فإني حمول

آخر في سعة الأرض وفي أهلها ... مستبدل بالخل والجار فمن دنا منك فأهلاً به ... ومن تولى فإلى النار ملح من مدح الأخلاء الأصفياء وصفات مودات الأصدقاء الأولياء مدح الصاحب بن عباد صديقاً له فقال تصفحت أوطار القلوب فلم أجد أحسن من قربه وتأملت أشخاص الخطوب فلم أرع بأفظع من بعده محاسنه أنوار لم تحجب بسجوف ومباسمه شموس لم تتصل بكسوف وألفاظه تذكرني بالشباب وريعانه بل بأفنان الصبا وفتيانه ومدح أعرابي صديقاً له فقال مجالسته غنيمة وصحبته سليمة ومواخاته كريمة هو كالمسك إن بعته نفق وإن تركته عبق شاعر يصف أخاً له أخ وأب وابن وأم شفيقة ... تفرق في الأحباب ما هو جامعه سلوت به عن كل من كان قبله ... وأذهلني عن كل ما هو تابعه آخر ولي صاحب أصفيه ودّي وإنه ... لينصفني في ودّه ويزيد أمنت صروف الدهر بيني وبينه ... إذا دبّ بين الصاحبين حسود وصف المأمون ثمامة بن أشرس فقال إنه كان يتصرف في القلوب تصرف السحاب مع الجنوب شاعر ولقد أحسن في وصفه لصديقه خل بلغت برأيه شرف العلا ... وأخ غنيت به عن الاخوان ومتى طلبت عليه طالب حاجة ... كفلت يداه بذمتي وضماني

آخر موفق لسبيل الرشد متبع ... يزينه كل ما يأتي ويجتنب له خلائق بيض لا يغيرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب ومن كلام الثعالبي يصف صديقاً له فلان كريم ملء لباسه موفق مدد أنفاسه ذو جد كعلو الجد وهدى كحديقة الورد عشرته ألطف من نسيم الشمال على صفحات الماء الزلال وألصق بالقلب من علائق الحب فتى قدّ قدّ السيف ما ناء عوده ... ولا وهنت أعضاؤه ومفاصله إذا جدّ عند الجدّ ألهاك جدّه ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله آخر أخ لي لم يلده أبي وأمي ... تراه الدهر مغموماً لغمي يشاطرني سروري في ابتهاجي ... ويأخذ عند همي شطر همي يبصرني عيوبي حين تبدو ... مخافة كاشح لهج بذمي ويصفي الود منه أهل ودي ... ويمنع من معاداتي وظلمي وينفذ حكمه في كل مالي ... كما في ماله يرضى بحكمي فلو أحد من المحذور يفدي ... إذا لفديته بدمي ولحمي آخر لي صديق إذا نبا بي صديقي ... نبوة الدهر كان خير صديق حقه واجب عليّ مقيم ... لا يؤدي وقد قضى لي حقوقي صادق الودّ والأخاء وما كل ... صديق في ودّه بصدوق فهو كالأم في اللطافة واللي ... ن وكالوالد الشفيق الرفيق والشقيق الوصول والبرّ إن كا ... ن بعيداً مني وفوق الشفيق قد جرى في مفاصل الحب منه ... حيث لا يهتدي مجاري العروق خف ثقلي على صديقي مذ أص ... بح دون الاخوان وهو صديقي هو جاري إن جار دهر وإن عق ... زمان فماله من عقوق

الفصل الثاني من الباب الخامس عشر

الفصل الثاني من الباب الخامس عشر فيما يدين به أهل المحبة من شرائع العوائد المستحبة اعلم إن أول ما ينبغي أن نبدأ به ما يجب من الأدب على الجليس في مصاحبة الرئيس فمن واجب أدبه أن الداخل على الرئيس أحد رجلين أما خصيص به أو أجنبي عنه فإن كان أجنبياً فينبغي له إذا أذن له في الدخول إليه أن يقف حيث يراه وأن يبدأ بالسلام إذا دخل عليه وينظر بعين الاكبار إليه فإن استدناه دنا وإن أذن له في الجلوس فليجلس حيث انتهى به المجلس حتى يدنيه إن أراد اكرامه فإن في ذلك تبجيلاً لقدره وتأثيلاً لتحسين ذكره قال الأحنف بن قيس لأن أدعى من بعد أحب إلي من أن أبعد من قرب وإن كان خصيصاً به ممن يجلس إلى جانبه ويفشي إليه من سره ما يكتمه عن غيره فينبغي له وقت جلوسه أن يكون بينه وبين الرئيس فرجة لاحتمال أن يجئ من يجب عليه اكرامه ويرفع منزلته فيجلس في تلك الفرجة ومن أدب الرئيس قلة الخلاف والمعاملة بالانصاف وترك الجواب على فاحش الخطاب وستر العيب وحفظ الغيب وأن يحسن الحديث إذا حدث ويحسن الاستماع إذا حدث وليكن حرمة مجلسه إذا غاب كحرمته إذا حضر وقالوا إذا كلمك رئيسك فاصغ إليه بسمعك وأقبل عليه بوجهك ووكل بشفتيه ناظريك وأشغل بحديثه خاطرك واسمعه سماع مستبشريه مستظرف له وإن أحكمته علماً وأتقنته فهما وأن لا تفرط في الدلالة عليه فربما ساقت الانقباض إليه وفي كلام بعض الحكماء الاستماع بالعين فإذا رأيت عين من تحدثه مقبلة على غيرك فاصرف حديثك إلى غيره شاعر في بني العباس إذا حدّثوا لم بخش سوء استماعهم ... وإن حدثوا أبدوا بحسن بيان وما أحسن قول من قال إذا ما سيد أدناك فاعلم ... بأن عليك عين الانتقاد فكن عف الجوارح ذا حفاظ ... فعين الانتقاد بلا رقاد وقال العباس لولده عبد الله إن هذا الرجل يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستخليك ويستشيرك ويقدمك على الأكابر من الصحابة وإني أوصيك

بخمس خلال لا تفشين له سراً ولا تغتابن عنده أحداً ولا تجرين عليه كذباً ولا تعصين له أمراً ولا تطلعنه منك على خيانة وقالوا من دخل على السلطان فعليه بتخفيف السلام وتقليل الكلام وتعجيل القيام ومن أدبه أن يكون مع رئيسه كما كان حارثة بن بدر مع زياد حكى أن زياد اليم على استئثاره حارثة ابن بدر فقال كيف أطرح رجلاً هو يسايرني منذ دخلت العراق لم يصكك ركابه ركابي ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه ولا أخذ علي الشمس في شتاء ولا الروح في صيف ولا سألته عن شيء من العلوم إلا حسبت أنه لا يحسن غيره وقالوا لا يقدر على صحبة الملوك إلا من لا يستقل ما جملوه به ولا يغر بهم إذا رضوا عنه ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه ولا يطغي إذا سلطوه ولا يبطر إذا أكرموه ولا يلحف إذا سألهم وقالوا اصحب الملوك بالحرمة والصديق بالتواضع والعدو بالحجة والعامة بحسن الخلق وقالوا من استخف بالاخوان أفسد مروأته ومن استخف بالعلماء أفسد دينه ومن استخف بالملوك أفسد دنياه وقال عبد الملك بن صالح لعبد الرحمن بن وهب الحمصي مؤدب ولده بعد أن استخلصه وأنزله فوق منزلته يا عبد الرحمن إني قد جعلتك جليساً مقرباً بعد أن كنت تابعاً مبعداً ومن لم يعرف نقصان ما خرج منه لم يعرف رجحان ما دخل فيه لا تطريني في وجهي فأنا أعلم بنفسي منك ولا تساعدني على شيء يقبح وإن لج بي الغضب فإنّ مرآة الرضا ترغبني عنه فينقص عندي دينك بالمساعدة عليه وكن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام فقد قيل إذا أعجبك الصمت فتكلم ولا تردن علي في محفل وكلمني بقدر ما استطعمك واعلم أن الاستماع أحسن من القول وإذا حدثتك حديثاً فلا يفوتك منه شيء فإن قلة التفهم من القائل وضع له وأرني فهمك في طرفك فرب طرف أنطق من لسان ويجب على الرئيس في معاشرة الجليس الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أدبه قال أنس بن مالك ما بسط رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه بين يدي جليس قط ولا جلس إليه أحد فقام من عنده حتى يكون الرجل هو الذي يقوم ولا صافحه أحد قط فأخذ يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يأخذ يده ولا رأيته قام مع أحد

ومما يثني عطف الصديق إلى التألف

فانصرف عنه حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف وكان يكرم من يدخل إليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه بالجلوس عليها ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم إليهم ولا يقطع على أحد حديثه وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف من صلاته وسأله عن حاجته وقال سعيد بن العاص رضي الله عنه لجليسي علي ثلاث إذا دنا رحبت به وإذا جلس وسعت له وإذا حدث أقبلت عليه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثلاث تثبت لك المحبة في صدر أخيك أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه وقال يحيى ابن خالد لولده جعفر يا بني إذا حدثك جليسك فأقبل عليه واصغ إليه ولا تقل قد سمعناه وإن كنت أحفظ له منه حتى كأنك لم تسمعه إلا منه فإن ذلك مما يكسبه المحبة والميل إليك ولا تستخدمه إذا جلس إلى مؤانستك فقد حكى أن هشام بن عبد الملك كان يعتم فقام إليه سعيد بن الوليد المعروف بالأبرش ليسوي عمامته فقال له مه إنا لا نتخذ الاخوان خولاً وقام عمر بن عبد العزيز وأصلح السراج لجلسائه فقال أحدهم ألا أمرتني يا أمير المؤمنين فكنت أكفيك اصلاحه فقال ليس من المروأة أن يستخدم المرء جليسه قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر ومما يثني عطف الصديق إلى التألف زيارته صديقه من غير انقطاع ولا تكلف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاد مريضاً أو زار أخاً نادى مناد أن طبت وطاب ممشاك تبوأت من الجنة منزلاً وأحسن ما يقال امش ميلاً وعد أخاً وامش ميلين وأصلح بين اثنين وامش ثلاثاً وزر أخاً في الله وقالوا المودة جسم روحها الزيارة وقالوا المحبة شجرة ثمرتها المقة وأصلها الزيارة شاعر رأيت أخا الدنيا وإن بات آمناً ... على سفر يسعى به وهو لا يدري تثاقلت إلا عن يد أستفيدها ... وزورة ذي ودّ أشدّ به أزري

وعلى الزائر في الزيارة الأغباب فإنه به يؤمن من تجافي الأحباب قال عليه الصلاة والسلام زر غباً تزدد حباً وقالوا ربما كان التقالي في كثرة التلاقي وما أحسن قول عبد المنعم بن غلبون المقري عليك بأغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى العيّ مسلكا ألم تر أنّ الغيث يسألم دائماً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا وقالوا قلة الزيارة أمان من الملالة وقالوا كثرة التعاهد سبب التباعد شاعر زر قليلاً لمن يودّك غباً ... فدوام الوصال داعي الملال اعتذار من لم يزر أظرف ما كتب في ذلك قول علي بن الجهم أبلغ أخانا تولى الله صحته ... إني وإن كنت لا ألقاه ألقاه وإن طرفي موصول برؤيته ... وإن تباعد عن مثواي مثواه الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه مكاتبات في استدعاء الزيارة كتب بعضهم إلى صديق له طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند التلاقي وقد جعلك الله للسرور نظاماً وللأنس تماماً فاطلع في فلك عيني شمساً وفي سماء قلبي بدراً فامضاء العزم بالحر أحرى وكتب سعيد بن حميد لبعض أصدقائه قد طلعت الكواكب تنتظر بدرها فرأينك في الطلوع قبل غروبها شاعر ولما نزلنا منزلاً جله الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور جاليا أجدّ لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا

آخر لو تفضلت بالمجئ إلينا ... لقررنا بقرّة العين عينا وكتب آخر يومنا أعزك الله رقيق الحواشي لين النواحي ذو سماء قد رعدت وبرقت وأنت موضع السرور ونظام العيش والحبور فأقبل إلينا تنعم ولا تتأخر عنا تندم وإنك بطاعتنا تسعد وبمخالفتنا لا ترشد كتب بعضهم إلى صديق له يستزيره بأبيات منها والألف لا يصبر عن ألفه ... أكثر من يوم ويومين وقد صبرنا عنكم جمعة ... ما هكذا فعل المحبين وكتب حميد بن مهران إلى أبي أيوب الهاشمي يستدعيه أقيك الردى يا بديع الورى ... ومن حل من هاشم في الذرى ويفديك من وده في المغيب ... إذا امتحن الود واهي العرى وصالك يعدل صدق الرجا ... وصفو المدام وطيب الكرى وقد تاقت النفس من وامق ... إلى أن تراك فماذا ترى آخر جعلت فداك في رأسي خمار ... وليس دواؤه إلا العثار وعندي من تحب فدتك نفسي ... وأقداح وأكواب تدار فبادر غير مأمور سريعاً ... فإن بنا لموردك انتظار ومن أظرف الاستدعاوات ما كتب به الرشيد هرون إلى جعفر بن يحيى سل عن الصارم ابن يحيى تجده ... راحلاً نحونا من النهروان ليصون المدام سهداً ويغشى ال ... هجر بين الأصوات والعيدان فأتنا نصطبح ونلتذ جمعاً ... لثلاث بقين من شعبان

فقام إليه وقدم بين يديه رقعة مكتوباً فيها إنّ يوماً كتبت فيه إلى عب ... دك يوم يسود كل زمان يوم لهو كأنه طلعة الكأ ... س إذا قابلت خدود القيان فاصطبح واغتبق فداؤك نفسي ... من جميع الآلام والحدثان آخر عندنا جدي رضيع ... ودنين غير فارغ وطفيلي مليح ... واغل في الكأس والغ وغزال من بني الدي ... لم يحكي البدر بازغ ماله عندك عيب ... غير أن ليس ببالغ والزلال العذب مع بع ... دك ملح غير سائغ فتحشم واركب الهم ... لاج واحضر لا تراوغ وكتب بعض المجان عندنا قدر فريك ... ليس للقدر شريك ونبيذ في رطيل ... وغلام مستنيك فتعالوا نتغدى ... ثم نشرب وننيك وما أحسن قول المعتمد بن عباد يستدعي ندماءه من الزهراء إلى قصره بقرطبة حسد القصر فيكم الزهراء ... ولعمري وعمركم ما أساؤا قد طلعتم بها شموساً صباحاً ... فاطلعوا عندنا بدوراً مساء ولآخر وماذا عليكم لو مننتم بزورة ... فأوجبتم فيها علينا التفضلا فإن لم تكونوا مثلنا في اشتياقنا ... فكونوا أناساً تحسنون التجملا

اعتذار من لم يزر أبو إسحق الصابي عراني عنك يا مولا ... ي عذر أيما عذر عصوف الريح مع مدّ ... عظيم زاخر يجري فلم أقدم على الماء ... ولم أجسر على الجسر ولم أسمع إلى الآن ... على ما مدّ من عمري بريح حجبت روحاً ... وبحر صدّ عن بحر وهو مأخوذ من قول الحسن بن وهب وقد اعتذر عن تأخره عن زيارة محمد بن عبد الملك الزيات لمطر عاقه عن زيارته أوجب العذر في تراخي اللقاء ... ما توالى من هذه الأنواء لست أدري ماذا أذمّ وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء غير أني أدعو على تلك بالصح ... ووأدعو لهذه بالبقاء فسلام الإله أهديه مني ... كل يوم لسيد الوزراء كتب بعض ظرفاء المحبين إلى محبوبه يستدعيه لزيارته فلم يجبه بما أحب كتبت إليك من شوقي بدمعي ... وحرمة وجهك الحسن الجميل لقد أسهرتني وأطلت ليلي ... وأضحكت العواذل من عويلي فكان جوابه لما قرأه لقد أثقلت في عتب طويل ... وقد أكثرت من قال وقيل فأما ما ذكرت فقد فهمنا ... وليس إلى الزيارة من سبيل ومن أحسن ما أوجبه الوداد وافترض عيادة الأخ أخاه في حال المرض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في حديقة الجنة حتى يرجع قيل يا رسول الله وما حديقة الجنة قال

جناتها حكى أن المسور بن مخرمة اعتل فجاءه ابن عباس نصف النهار فقال له المسور يا ابن عباس إن أحب الساعات إلي ساعة أودي فيها حق الصديق دخل بعضهم على محمود الوراق يعوده فأنشده فإنك تك حمى الغبّ شفك وردها ... فعقباك منها أن يطول لك العمر وقيناك لو يعطي الهوى فيك والمنى ... لكانت بنا الشكوى وكان لك الأجر وكتب أبو تمام حبيب بن أوس الطائي إلى الحسن بن وهب يتوجع له من حمى أصابته يا حليف الندى ويا توأم الجو ... د ويا خير من حبوت القريضا ليت حماك لي وكان لك الأج ... ر فلا تشتكي وكنت المريضا وكتب أبو الفتح خاقان يتوجع للمتوكل من رمد اعتراه عيناي أجمل من عينيك للرمد ... فاسلم وقيت الردى في آخر الأبد من ضنّ عنك بعينيه ومهجته ... فلا رأى الخير في مال ولا ولد ويجب على اللطيف الظريف في عيادة المريض الضعيف تخفيف السلام وتقليل الكلام وتعجيل القيام ويقال جلسة العيادة خلسة وقالوا التخفيف خير عادة في العيادة فإن حاله كما قال عمرو بن العلاء وقد عاده صديق في مرض ألم به فابطأ عنده فقال له ما يبطئك قال أريد أن أسامرك قال أنت معافى وأنا مبتلي والعافية لا تدعك تسهر والبلاء لا يدعني أنام والله أسأل أن يسوق لأهل العافية الشكر وإلى أهل البلاء الصبر ومن آدابه الأغباب فإنه جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أغبوا في زيارة المريض واربعوا إلا أن يكون مغلوباً وحكى سلمة قال دخلت على الفراء أعوده فأطلت وألحفت في السؤال فقال

لي ادن فدنوت فأنشدني حق العيادة يوم بعد يومين ... ولحظة مثل لحظ العين بالعين لا تبرمنّ مريضاً في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسأل بحرفين آخر أدب العيادة أن تكون مسلماً ... وتكون في أثر السلام مودّعا فإذا نظرت إلى العليل فلا تكن ... متخشعاً في اللمح أو متوجعا بل كن إذا أبدى الحراك مسكتاً ... منه وعند الخوف منه مشجعا واحذر بأن تنعي إليه ميتاً ... أو أن تذكره لميت مصرعا وإذا وجدت عليه اشفاقاً فقم ... من غير أن ترأى بذلك مسرعا وتوق شر العائدين فشرهم ... من كان منهم موهماً ومروّعا دخل علي بن إبراهيم العلوي المعروف بالأعرج على علي بن عيسى عائداً فأنشده كم لوعة للندى عليك وكم ... من قلق للمجود من قلقك ألبسك الله ثوب عافية ... في نومك المعتري وفي أرقك ينزع من جسمك السقام كما ... نزعت حبل الملام من عنقك آخر تلقيت السلامة من مريض ... توقى كل نائبة تنوب فإنك ما اعتللت بل المعالي ... وإنك ما مرضت بل القلوب

آخر ولما اشتكيت اشتكى كل ما ... على الأرض واعتل شرق وغرب لأنك قلب لهذا الزمان ... وما صح جسم إذا اعتل قلب البسامي إذا ما صديق لي تأوّه واشتكى ... عدمت سروي ما اشتكى ورقادي وحرمت شرب الراح ما دام شاكياً ... ولم أخله من طارفي وتلادي اعتذار من لم يعد إن كنت في ترك العيادة تاركاً ... حظي فإني في الدعاء لجاهد فلربما ترك العيادة مشفق ... وأتى على غلّ الضمير الحاسد ولآخر كحلت مقلتي بشوك القتاد ... لم أذق مذ حممت طعم الرقاد يا أخي الحافظ الاخوّة والنا ... زل من مقلتي مكان السواد منعتني عليك رقة قلبي ... من دخولي عليك في العوّاد لو بأذني سمعت منك أنينا ... لتفتت من الأنين فؤادي ولآخر يعتذر بكونه لم يعلم دفع الله عنك نائبة السو ... ء وحاشاك أن تكون عليلا أشهد الله ما علمت وماذا ... ك من العذر جائزاً مقبولا ولعمري أن لو علمت لقاسم ... تك نصفاً وكان ذاك قليلا

فاجعلن لي إلى التعلق بالعذ ... ر سبيلاً ألم أجد لي سبيلا فقديماً ما جاد ذو الودّ بالودّ ... وما سامح الخليل الخليلا الشريف أبو يعلى بن الهبارية العذر في تركي عيادة سيدي ... إني له فيما اعتراه مقاسم لا بل نصيبي منه فوق نصيبه ... وعليه فيما أدعيه مياسم فلئن تألم جسمه أفديه من ... داء يخامره وقلبي يألم وأنا أحق بأن أعاد وإنما ... يدعي لخدمته الصحيح السالم حكى محمد بن داود الظاهري في كتاب الزهرة أن الرشيد لما بلغه أن الفضل ابن الربيع عليل كتب إليه معتذراً عن تأخره عن العيادة أعزز عليّ بأن تكون عليلاً ... أو أن يكون بك السقام نزيلا ولئن سئلت أجيب عنك بلوعة ... إذ قيل أوعك أو أحس غليلا فوددت أني مالك لسلامتي ... فأعيرها لك بكرة وأصيلا هذا أخ لك يشتكي ما تشتكي ... وكذا المحب إذا أحبّ خليلا أنشدني الشيخ الامام الفقيه المفيد أمين الدين محمد بن علي المحلي النحوي لنفسه يعتذر من تركه لعيادة بعض الرؤساء إن جئت نلت ببابك التشريفا ... وإن انقطعت فأوثر التخفيفا فوحق حبي فيك قدما إنني ... عوفيت أكره أن أراك ضعيفا ومما يورد من المحبة أعذب الموارد هدية يستطف بها القلب الشادر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء وقال عليه الصلاة والسلام تهادوا فإن الهدية تذهب وغر الصدور وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية

ويثيب عليها وقال لو أهدى إلي كراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت وقالت عائشة رضي الله عنها اللطفة عطفة تزرع في القلوب المحبة والألفة وفي الأثر الهدية تجلب إلى المودة القلب والسمع والبصر شاعر إن الهدية حلوة ... كالسحر نجتلب القلوبا تدني البغيض من الهوى ... حتى تصيره حبيبا وتعيد مضطغن العدا ... وة في تباعده قريبا ومن أمثالهم إذا قدمت من سفر فأهد لأهلك ولو حجر وقال الجاحظ ما استعطف السلطان ولا استرضى الغضبان ولا أزيت السخائم ولا استدفعت المغارم بمثل الهدايا وقالوا في نشر المهاداة طي المعاداة وقال ضياء الدين بن الأثير في رسالة يذكر فيها الهدية الهدية رسول يخاطب عن مرسله بغير لسان ويدخل على القلوب من غير استئذان وبهدية المرء يستدل على عقله كما ذكر أن رجلاً أهدى إلى قتادة نعلاً رقيقة فجعل النعمان يرزنها بيده ويقول يعرف قدر الرجل في سخف هديته اللهم إلا أن يهدي شيأً مخيفاً حقيراً فيصيره بالاعتذار عنه شريفاً خطيراً كما فعل أبو العتاهية فإنه أهدى إلى الفضل بن الربيع نعلاً وكتب له معها نعلاً بعثت بها لتلبسها ... قدم تسير بها إلى المجد لو كان يحسن ان أشرّكها ... جلدي جعلت شراكها خدي وأهدى الأخيطل الأهوازي إلى ابن حجر في يوم نوروز طبقاً فيه وردة وسهم ودينار ودرهم وكتب معه قل لابن حجر ذي السماح الخضرم ... لا زلت كالورد نضير المبسم ونافذاً مثل نفاذ الأسهم ... في عز دينار ونجح درهم

وقال بعضهم من امتنع من اهداء القليل لجلالة قدر المهدي إليه انقطعت سبل المودة بينه وبين اخوانه ولزمه الجفاء من حيث التمس الاخاء أبو العتاهية هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا وتزرع في القلوب هوى وودا ... وتكسوهم إذا حضروا جمالا آخر ما من صديق وإن تمت صداقته ... يوماً بأنجح في الحاجات من طبق إذا تلثم بالمنديل منطلقاً ... لم يخش نبوة بواب ولا غلق لا تكذبن فإنّ الناس مذ خلقوا ... لرغبة يكرمون الناس أو فرق وبالجملة إذا كانت من الصغير إلى الكبير فلطفت ودقت كان أبهى وأحسن وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فعظمت وجلت كان أوقع لها وأنجع أهدى يعقوب الكندي إلى بعض اخوانه سيفاً وكتب معه الحمد لله الذي خصك بمنافع ما أهدى إليك فجعلك تهتز للمكارم اهتزاز الصارم وتمضي في الأمور مضاء المأثور وتصون عرضك بالارفاد كما تصان السيوف في الأغماد ويظهر دم الحياء في صفحة خدك المشروف كما يشف الرونق في صفحات السيوف وتصقل شرفك بالعطيات كما تصقل متون المشرفيات وأهدى الصابي دواة ومرفعاً وكتب معهما قد خدمت مجلس مولانا بدواة يداوي بها مرض عفاته ويروي بها قلوب عداته على مرفع يؤذن بدوام رفعته وارتفاع النوائب عن ساحته وأهدى أيضاً إلى بعض الأصحاب فرساً وكتب معه قد قدمت إليك فرساً والله تعالى يبارك لك فيه ويجعل الخير معقوداً بنواصيه والاقبال غرة وجهه ونيل الأماني طلق شده وفتح الفتوح غاية شاوه وادراك المطالب تحجيل قوائمه وسلامة العواقب منتهى عنانه والسلام

من أهدى هدية حقيرة واعتذر عنها ... كتب بعضهم مع هدية حقيرة قبول الهداية اكرومة ... وحاشاك من أن ترد الكرم فإنّ الملوك على قدرها ... لتقبل نشابه أو قلم ابن التعاويذي هدية المرء تنبي عن مروأته ... وعن حقارة مهديها وخسته وما يحط من المهدي إليه إذا ... كانت محقرة عن قدر رتبته فاغفر جريمة من خست هديته ... وتلك منه على مقدار قدرته وكتب آخر مع هداية أهداها ليلاً بعثت عشياً إلى سيد ... بما هو من خلقه مقتبس هدية خلّ صحيح الأخاء ... جرى منه ذكرك مجرى النفس فجدبا القبول وأيقن بأن ... لفرط الحياء أتت في الغلس آخر يا أيها المولى الذي ... عمت أياديه الجميلة أقبل هدية من يرى ... في حقك الدنيا قليلة آخر قد بعثنا إليك أيدك الل ... هـ بشيء فكن له ذا قبول لا تقسه إلى ندى كفك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجليل فاغتفر قلة الهدية مني ... إن جهد المقلّ غير قليل ومن ظرائف الهدايا التي هي من أحسن ما يسطر في الصحف ويذكر ما يروى أن يحيى بن خالد بن برمك عزم على ختان ولده فأهدى إليه وجوه الدولة

اعتذار من لم يهد شيأ

كل منهم بحسب حاله وقدرته فصنع بعض المتجملين العاجزين خريطتين وملأ إحداهما ملحاً مطيباً وملا أخرى سعداً معطراً وكتب معهما رقعة فيها لو تمت الارادة لأسعفت العادة ولو ساعدت القدرة على بلوغ النعمة لتقدمت السابقين إلى خدمتك وأتعبت المجتهدين في كرامتك لكن قعدت بي القدرة عن مساواة أهل النعمة وقصرت بي الجدة عن مباهاة أهل المكنة وخشيت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر فأنفذت المفتتح بيمنه وبركته وهو الملح والمختتم بطيبه ونظافته وهو السعد باسطاً يد المعذرة وصابراً على ألم التقصير متجرعاً غصص الاقتصار على اليسير والقائم بعذري في ذلك ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج والخادم ضارع في الامتنان عليه بقبول خدمته ومعذرته والاحسان إليه بالاعراض عن جراءته والرأس اسمي ثم دخل دار يحيى ووضع الخريطتين والرقعة بين يديه فلما قرأ الرقعة أمر أن تفرغا وتملا احداهما دنانير والاخرى دراهم ومن الحكايات المستظرفة ما يحكى أن بعض القيان افتصدت فأهدى لها محبوها هدايا فكان من جملتهم من أهدى ثلاث سلال مخيطة ففتحت سلة منها فوجدتها مملوأة ماشاً وفيها رقعة مكتوب فيها ماش خير من لاش وفتحت الاخرى فإذا هي مملوأة عصافير فطاروا وفيها رقعة مكتوب فيها هذه أعتقتها لوجه الله تعالى شكراً له على سلامتك من فصدك وفتحت الاخرى فإذا هي فارغة لا شيء فيها إلا رقعة مكتوب فيها لو كان لهديناه فضحك من كان حاضراً ولم تدع القينة شيأً مما أهدى إليها إلا أعطته منه اعتذار من لم يهد شيأً تأنق في الهدية كل قوم ... إليك غداة شربك للدواء فلما أن هممت بها مدلاً ... لموضع حرمتي بك والاخاء رأيت كثير ما أهدى قليلاً ... لديكم فاقتصرت على الدواء آخر إن أهد نفسي فهو مالكها ... ولها أصون كرائم الذحر

أو أهد مالاً فهو واهبه ... وأنا الحقيق عليه بالشكر أو أهد شكراً فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر آخر وافق المهرجان حاشاك مني ... رفعة الحال وهي داء الكرام فاقتصرنا على الدعاء وفيه ... عون صدق على قضاء الزمام آخر هديتي تقصر عن همتي ... وهمتي تفضل عن مالي فخالص الودّ ومحض الولا ... أحق ما يهديه أمثالي ومن واجبات شيم الأحرار ... حفظ ما أودعوه من الأسرار وكان السر مما يجب على الاخوان أن يأخذوا أنفسهم ويروضوا به طباعهم لما فيه من الفضل وتمام الطبيعة والعقل يحكى أن رجلاً أراد صحبة انسان فسأل بعض أصدقائه عنه فأنشده كريم يميت السرّ حتى كأنه ... إذا استنطقته عن حديثك جاهله ويبدي لكم حباً شديداً وهيبة ... وللناس أشغال وحبك شاغله فقال مثل هذا ينبغي أن يناط بمحبته القلوب ويطلع على خفايا السرائر والغيوب وهذان البيتان لكثير عزة من أبيات وأسر رجل إلى صديقه حديثاً فلما فرغ منه قال حفظته قال بل نسيته وقيل لعمرو بن ربيعة كيف كتمانك للسر فقال اجعله عوضاً من قلبي وشعبة من نفسي فيكون بخروجه خروجها وقيل لأعرابي ما بلغ من حفظك للسر قال أفرقه تحت شغاف قلبي ثم لا أجمعه وأنساه كأنني لم أسمعه وقالوا قلوب العقلاء حصون الأسرار وقالوا صدور

الأحرار قبور الأسرار شاعر ولي سرائر في الضمير طويتها ... ينسى الضمير بانها في طيه وقيل لبعضهم كيف كتمانك للسر قال أكتم المخبر وأحلف للمستخبر وما أحسن قول المرتضى وقد سأله الصابي كيف كتمانك للسر في محاورة جرت بينهما لسرّ صديقي بين جنبيّ معقل ... مداه على المستبطنين طويل إذا لحقت أذني به من لسانه ... فليس عليها للمخاض سبيل وكتب إليه أيضاً وللسرّ من بين جنبيّ ممكن ... خفيّ قصيّ عن مدارج أنفاسي أضنّ به ضني بموضع حفظه ... فاحميه عن احساس غيري واحساسي كأني من فرط احتفاظي أضعته ... فبعضي له واع وبعضي له ناسي آخر لا يكتم السرّ إلا من له حسب ... فالسرّ عند كرام الناس مكتوم والسر عندي في بيت له غلق ... قد ضاع مفتاحه والبيت مختوم مجنون ليلى ومستخبر عن سرّ ليلى رددته ... بعمياء من ليلى بغير يقين يقولون خبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن خبرتهم بأمين يروى أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الأسود الدؤلي أريد رجلاً مخداناً قال يا أمير المؤمنين ألست كذلك قال بلى ولكن أريد رجلاً أستريح منك إليه ومنه إليك وليكن كتوماً للسر فإن الرجل إذا أنس بالرجل ألقى إليه عجزه

وبجره وقال الشاعر نصل الصديق إذا أراد وصالنا ... ونعيد بعد صدودنا أحيانا لا مظهر عند القطيعة سره ... بل حافظ من ذاك ما استرعانا آخر إنّ الكريم الذي تبقى مودّته ... ويحفظ السر إن صافي وإن صرما ليس الكريم الذي إن غاب صاحبه ... بث الذي كان من أسراره علما سالم اليشكري إذا ما غفرت الذنب يوماً لصاحب ... فلست معيداً ما حييت له ذكرا ولست إذا ما حال عن حفظ وده ... وعندي له سر مذيعاً له سرا ناقضه آخر فقال ولا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي فإن سخين العين من بات ليلة ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب ومما يفصم بين المنجابين عرا المحاورة ... التزام ما يجب من حقوق المجاورة قال الله تعالى والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب فذو القربى الجار الملاصق والجار الجنب البعيد عن الملاصقة والصاحب بالجنب الرفيق في السفر وكان يقال ليس حسن الجوار كف الأذى ولكنه الصبر على الأذى وأدنى حقوق الجار أن لا تؤذيه بقتار قدرك وأن تؤمنه

من حسدك وشرك وقال جابر بن عبد الله الجيران ثلاثة فجار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له فله حق الجوار وأما الذي له حقان فجار مسلم لا رحم له له حق الاسلام وحق الجوار وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الاسلام وحق الرحم وحق الجوار وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذريا أبا ذر إذا طبخت اللحم فأكثر المرق وتعاهد جيرانك وكان يقال من نال من جاره حرم بركة داره وقد ورد عنه عليه الصلاة واسلام أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ولا يؤذي جاره ولا يخيب من قصده وكان عبد الله بن أبي بكرة ينفق على أربعين داراً من جيرانه من سائر جهات داره الأربع في كل سنة أربعين ألف دينار وكان يبعث إليهم الأضاحي والكسوة في الأعياد والمواسم وأعطى أبو الجهم العدوى في داره بالبصرة مائة ألف درهم فقال لهم وبكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص قالوا وهل رأيت جواراً يشتري قط قال والله لا بعت داراً تجاور رجلاً إن غبت عنه سأل عني وحفظني في أهلي وإن رآني رحب بي وقربني وإن سألته قضى حاجتي وحياني وإن لم أسأل عنه عطف علي وبداني والله لو أعطيت فيها ملأها ذهباً ما اخترته عليه ولا نظرت إليه فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال جعفر بن أبي طالب لأبيه يا أبة إني لا أستحيي أن أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله فقال له أبوه إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب وقال الحسن البصري ليس حسن الجوار كف الأذى ولكنه الصبر على الأذى وقالوا الاحسان إلى الجار يعمر الديار ويزيد في الأعمار شاعر إني لأحسد جاركم بجواركم ... طوبى لمن أضحى لدارك جابرا يا ليت جارك بأعنى من داره ... شبراً فأعطيه بشبر دارا

وقال بعض حكماء العجم حسن الجوار خير قرين وعلى استخلاص المودة خير معين مسكين الدارمي ناري ونار الجار واحدة ... فإليه قبلي ينزل القدر ما ضرّ جار إلى أجاوره ... أن لا يكون لبابه ستر أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جسمها الستر آخر أجود وأرعى حرمة الجار إنني ... كريم بمالي كل عرق مهذب وأمنع جيراني من الضيم والأذى ... واركب من اكرامهم كل مركب ومن النوادر المحكية في اكرام الجار ما حكى أن يهودياً عطاراً نزل ببعض أحياء العرب يبيع لهم من بضاعته العطرية فمات عندهم فأتوا شيخاً لهم لم يكن يقطع في الحي أمر دونه فاعلموه بخبر اليهودي فجاء وغسله وكفنه وتقدم وأقام الناس خلفه وقال اللهم إن هذا لنا جار وله علينا ذمام فإذا قضينا ذمامه وصار إليك فلك الخيار أن تفعل به ما هو له أهل أو تفعل به ما أنت له أهل فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة شاعر راع حقوق الجار في كل ما ... حدده الله وأوصى به وزره في الصحة مستبشراً ... وعده في السقم وأوصابه ولا تغيرك له حالة ... تبدو كشهد القول أوصابه وهذه ظرف تكون لما ذكرناه ختاماً ... ولنفس المتأمل وقلبه شركاً وزماما فيما يلزم الأصدقاء من تمازج الأرواح ... امتزاج الصهباء بالماء القراح قيل لبعضهم صف لنا الصديق قال أنت هو وهو أنت إلا إنكما جسمان بينكما روح وقبل لاسباط الشيباني صف لنا الاخوة وأوجز فقال أغصان

تغرس في القلوب فتثمر على قدر العقول وقيل لافلاطون ما معنى الصديق قال هو أنت إلا أنه غيرك وقيل لبعضهم ما الأصدقاء قال نفس واحدة وأجساد متفرقة وقال ابن المقفع الأخ نسيب الجسم والصديق نسيب الروح وقيل لأرسطو طاليس وقد سئل عن الصديق ما معناه فقال قلب تضمنه جسمان نظمه بعض الشعراء فقال بنفسي أخ لي في الأمور مساعد ... فلي وله جسمان والقلب واحد إذا غاب عني لم أجد طعم لذة ... لأن فؤادي شطره متباعد لآخر بابي من هو منى في الحشا ... ليته يوماً على عيني مشى روحه روحي وروحي روحه ... إن يشأ شئت وإن شئت يشا ولقد تتبعت ما قاله الناس في الاتحاد فما رأيت ولا سمعت أحسن من قول أبي الحسين الحلاج في ذلك أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا نحن مذ كنا على عهد الهوى ... تضرب الأمثال في الناس بنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته قلت أنا وله جبلت روحك من روحي كما ... يجبل العنبر بالمسك العبق فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا لا نفترق وله مزجت روحك من روحي كما ... تمزج القهوة بالماء الزلال فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا في كل حال

الفصل الثالث من الباب الخامس عشر

وهذا غاية ما بلغه علمي وأدركه فهمي وتصرف الناس في حسن الاختيار معدود من المواهب وللناس فيما يعشقون مذاهب وقد أحسن الشريف الرضي في قوله يخاطب أبا إسحق الصابي أنت الكرى مؤنس طرفي وبعضهم ... مثل القذى مانع طرفي من الوسن لقد تمازج قلبانا كأنهما ... تراضعاً بدم الأحشاء لا اللبن ويقال كاتب صديقك كما تكاتب حبيبك فإن عذل الصداقة أرق من عذل العلاقة والنفس بالصديق آنس منها بالعشيق ويقال إذا كاتبت أخاك فليكن المداد من سواد الفؤاد والقرطاس من بياض الوداد فإن من كرمت خصاله وجب وصاله الفصل الثالث من الباب الخامس عشر في ذم الثقيل والبغيض بما استحسن من النثر والقريض قال الله تعالى وإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث قالت عائشة رضي الله عنها هذه الآية نزلت في الثقلاء وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا استثقل رجلاً يقول اللهم اغفر له وأرحنا منه وكان الأعمش واسمه سليمان ابن مهران إذا رأى ثقيلاً قال ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون وروى عنه أنه قال من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء وقيل له لم عمشت عينك قال من نظري إلى الثقلاء فإني ما رأيت ثقيلاً قط إلا وأعمشت عيني وكان يقول إذا كان عن يسارك ثقيل في الصلاة فتسليمة واحدة تكفيك وكان بعضهم إذا رأى ثقيلاً قال استراح العميان من النظر وقيل لأرسطو طاليس لم صار الثقيل أثقل من الحمل الثيل قال لأن الحمل تشترك الجوارح في حمله والثقيل ينفرد القلب بثقله شاعر إنّ الثقيل وإن تخفف جهده ... كان الثقيل على الفؤاد ثقيلا

وقال بعض الملوك الطبيب جس نبضي فجسه وقال مزاج معتدل إلا أني أرى فيه تكديراً فهل جالسك اليوم ثقيل قال نعم فقال هذا من ذاك وقال بختيشوع للمأمون لا تجالس الثقلاء فإن الفلاسفة قالوا مجالسة الثقلاء حمى الروح وقيل لمحمد بن زكريا الرازي أيما أمر الثقيل المبرم أو شرب الدواء الكريه الرائحة المر الطعم فقال ليس ما أكسب الداء كما أعقب الشفاءان مجالسة الثقيل تجلب الأسقام وتنحل الأجسام وتورث الأحزان وتؤلم الأبدان وتهد الأركان وشرب الدواء يجلو الأجسام ويحلل الأسقام ويشحذ الأفهام ويدفع الأحزان وينشط الكسلان ويقوي الامكان وقال أرسطاليس للاسكندر إياك ومجالسة الثقيل فإن منها ذبول الروح وذهول العقل وموت الفزع وقال الأصمعي ستة بضنين وربما قتلن انتظار المائدة ودمدمة الخادم والسراج المظلم وبكاء الأطفال وخلاف من تحب ورؤية الثقيل ومما أثار بطلعته كوامن البغضاء ... فكشفت عن مساويه ستور الأعضاء عاد الأعمش أبو حنيفة فقال له بعدما أبرم في جلوسه يا أبا محمد ما أشد شيء مر بك في علتك قال جلوسك عندي قال ما تشتهي قال أشتهي أن لا أراك ويحكى أنه قال له يا أبا محمد لولا ما أخاف من التثقيل عليك لأتيتك في كل وقت فقال إنك لتثقل علي وأنت في بيتك فكيف إذا جئتني وقال رجل لأبي العيناء إن الله لم يأخذ من عبد كريمتيه إلا عوضه الله خيراً منهما فما الذي عوضك قال أن لا أرى ثقيلاً مثلك واعتذر رجل إلى آخر في تقليل زيارته فقال ما رأيت احساناً يعتذر منه إلا هذا صلى امام بقوم فأطال فلما سلم لأمه بعض من صلى خلفه من الظرفاء فقال وإنها الكبيرة إلا على الخاشعين فقال أنا رسول الخاشعين إليك بأنك ثقيل فإنهم لا يطيقون الصبر على احتمال بردك وقد نظم أبو الحسن علي بن أبي الطيب الباخرزي أبياتاً يهجو بها اماماً ثقيلاً ويذكر ما وجد من جوره في تطويله مقيلاً ذكرها في هذا الموضع لائق لما جمعت من المعنى البديع واللفظ الرائق وأثقل روحاً من عقاب عقنقل ... أخفّ دماغاً من جنوب وشمأل يؤم بنا في القطع قطع خميسة ... وأمّ بصخر حطه السيل من عل

يطيل قياماً في المقام كأنه ... منارة قس راهب متبتل ويفحش في القرآن لحناً كأنما ... يشدّ بامراس إلى صمّ جندل فقلت له لما تمطى بصلبه ... واردف أعجازاً وناء بكلكل وزاد برغمي ركعة في صلاته ... ألم يكن التسليم منك بأمثل دخل ثقيل على الصاحب بن عباد فأطال الجلوس وأبرم في المحادثة فكتب الصاحب رقعة وأعطاه إياها فقرأها فإذا فيها إن كنت تزعم أنّ الدار تملكها ... حتى نقوم فنبغي غيرها دارا أوكنت تعلم أنّ الدار أملكها ... فقم لكي تذهب الأشجان والعارا ولما قدم محمد بن المكرم من الجبل قال له أبو العيناء مالك لم تهد لنا شيأً فقال والله ما جئت إلا في خف قال كذبت لو قدمت في خف خلفت روحك يا عجباً من جسم كالخيال وروح كالجبال وقال رجل لبعض المغنين في مشاجرة جرت بينهما والله ما تعرف الثقيل الأول ولا الثقيل الثاني فقال كيف لا أعرفهما وأنا أعرفك وأعرف أباك ألم بهذا بعض الشعراء فقال ثقيلاً براه الله وابن ثقيلة ... أرى الثقل طبعاً في أبيك وفيكا أبوك امام الناس في الثقل كلهم ... وأنت وليّ العهد بعد أبيكا آخر يا من تبرمت الدنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالسهد يمشي على الأرض مختالاً فأحسبه ... من بغض طلعته يمشي على كبدي لو إن في الناس جزأ من سماجته ... لم يقدم الموت اشفاقاً على أحد قصد حماد الراوية دار مطيع بن اياس فحجب فكتب إليه يسأله الدخول عليه هل لذي حاجة إليك سبيل ... لا نطيل الجلوس فيمن يطيل فلما قرأ البيت أجابه أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وكثير من الثقيل القليل

وقال محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه يهجو ثقيلاً يا ثقيلاً على القلوب إذا ع ... نّ فقد أيقنت بطول السهاد يا قذى في العيون ما بين ألف ... يا غريماً أتى على ميعاد يا ركوداً في يوم غيم وصيف ... يا وجوه التجار يوم الكساد خلّ عنا فإنما كنت فينا ... واوعمرو كما لحديث المزاد الناجم يذم ثقيلا يا قوّة الناس ويا ضعف الأمل ... يا حيرة المملق أعيته الحيل يا زحل الدهر ومريخ الدول ومما استجدته من مذامّ الثقلاء ... الشافية محاسنها أفهام العقلاء قال بعض البلغاء محذراً من مجالسة الثقيل إذا وافاك ثقيل فأره من خلقك التصرم ومن طبعك التبرم ولا توسعه ترحيباً ولا تحفل به تقريباً ولا تقبل إليه بوجهك ولا تبخل عليه بنهجك وأوحشه عند استئناسه وتهجم له بين جلاسه وأبعده ما استطعت واقطعه فيمن قطعت فبعده راحة لنفسك ومجلبة لأنسك فإنك إن أدنيته إليك وأدللته عليك ضنى به جسدك وكبدك وزاد به نكدك وكمدك أبو بكر الخوارزمي فلان أثقل من موت الخناق وكتاب الطلاق وفقد الحبيب وطلعة الرقيب وقدح اللبلاب في كف المريض وأشد من خراج بلا غلة ودواء بلا علة ورؤية الموت عند الكافر وقد ختم أعماله بالكبائر فلان وخز في الأكباد وسقم في الأجساد وصف العباس ابن الأحنف ثقيلاً فقال والله ما الحمام مع الاصرار وكثرة الذنوب مع الأقتار وشدة السقم في الأسفار بآلم من لقائه أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمي يذم

ثقيلاً ثقيل يطالعنا من أمم ... إذا سرّه رغم أنفي ألمّ لطلعته وخزة في الفؤاد ... كوخز المشارط في المحتجم أقول له إذ أتى لا أتي ... ولا نقلته إلينا قدم فقدت خيالك لا من عمي ... وصوت كلامك لا من صمم وصف بعضهم ثقيلاً فقال لا أدري كيف لم تحمل الأمانة أرض حملته وكيف احتاجت إلى الجبال بعد ما أقلته كأنما قربه فقد الحبائب وسوء العواقب وكأنما وصله عدم الحياة وموت الفجاة شاعر يطول بقربك اليوم القصير ... ويرحل إن مررت بنا السرور لقاؤك للمبكر فأل سوء ... ووجهك أربعاء لا تدور آخر إذا ما تبدى طالعاً فكأنه ... حضور غريم أو طلوع رقيب وإن جاء فحوى قاصداً فكأنه ... كتاب بعزل أو فراق حبيب آخر وثقيل أشدّ من غصص المو ... ت ومن كيده العذاب الأليم لو عصت ربها الجحيم لما كا ... ن سواه عقوبة للجحيم حسام الدين البخاري خلق الناس من منىّ وهذا ال ... ولد النحس من رجيع أبيه ففشا لا فشا ثقيلاً مقيتاً ... ليس يه خير لمن يرتجيه

لم يكن منهما نكاح ولكن ... فتحت فرجها فاحدث فيه نتهيا لناظري ولقلبي ... حرجاً كلما نظرت إليه نادرة دخل أعرابي على ثلاثة يشربون واغلا فقال أحدهم أيها الداخل الذي جاء يطوي ... حين لذا الحديث لي ولصحبي فقال الثاني خف عنا فأنت أثقل والل ... هـ علينا من فرسخي دبر كعب وقال الثالث ومن الناس من يخف وفيهم ... كرحى البزر دائر فوق قطب فقال الأعرابي لست بالبارح العشية والل ... هـ لشتم ولا لشدّة ضرب أو تميلوا بالكبر فوراً علينا ... ثم تعلوا من فوق ذاك بقعب فاستظرفوه وخلطوه بهم ومما يكون لنفس المتأمل قوتاً ... ذم من كان بغيضاً ممقوتا سئل جعفر الصادق رضي الله عنه هل يكون المؤمن بغيضاً قال لا ولا يكون ثقيلاً وذكر أنوشروان أنه لما أراد أن يصير ولده هرمز ولي عهده استشار أولياءه في ذلك فكل ذكر عيباً لا يستحق به الملك فمن قائل لا يصلح للملك لأنه قصير وذلك مما يذهب بهاء الملك فقال أنوشروان محتجاً له إنه لا يكاد يرى إلا راكباً أو جالساً على سرير فلا يبين عليه ذلك ومن قائل إنه ابن رومية والملك إذا كان ابن أمة نقصه ذلك من أعين الناس فقال أنوشروان محتجاً له إن الأبناء ينتسبون إلى الآباء ولا ينتسبون إلى الامهات فلا يضره ما قلت فقال الموبذان إن فيه عيباً وهو أنه مبغض إلى الناس فقال أنوشروان عند ذلك هذا هو العيب الذي لا مدح معه ولا عذر عنه والداء الذي لا برء له فقد قيل إن من كان فيه خير ولم يكن ذلك الخير للناس فلا خير فيه وقالوا فلان أوحش من ربع تحول سكانه وتحمل أظعانه وغارت نجومه وعفت رسومه وقالوا فلان أقذى للعين من ساعة داعية البين بين المحبين وقالوا فلان لا تحبه الناس حتى

تحب الأرض الدم وذلك إنها تعاف الدم فلا تقبله شاعر يهجو بغيضاً يا بغيضاً زاد في البغ ... ض على كل بغيض أنت عندي قدح اللب ... لاب في كفّ المريض وقالوا فلان أبغض من زوال النعمى وفوت المنى وطلعة الردى وقالوا مجالسة البغضاء تزيد الهموم وتجلب الغموم وتؤلم القلب وتشد أزر الكرب وتكدح في النشاط وتطوي بساط الانبساط

الباب السادس عشر

الباب السادس عشر في العزلة فيه ثلاثة فصول الفصل الأول من هذا الباب في ذم الاستئناس بالناس لتلون الطباع وتنافي الأجناس قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين وقال عليه الصلاة والسلام أحب العباد إلى الله الأتقياء الأحفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا شهدوا لم يقربوا أولئك أئمة الهدى ومصابيح الظلم وقيل لبعض العباد ما أصبرك على الوحدة قال أنا جليس الرب إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت له وقال ذو النون المصري الأنس بالله نور ساطع والأنس بالخلق غم قاطع وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم صومعة المؤمن بيته يكف فيها نفسه وبصره ولسانه وفرجه وقال الجنيد للسري السقطي أوصني فقال لا تكن مصاحباً للأشرار ولا تشتغل باللاهي عن الأخيار وفي كتاب كليلة ودمنة ينبغي لذي المروءة أن يكون إما مع الملوك مبجلاً أو مع النساك متبتلا كالفيل إما أن يكون مركباً نبيلاً أو في البرية مهيباً جليلاً وقال علي رضي الله عنه من وجد في نفسه وحشة من الناس فليعلم أن الله أحب أن يؤنسه به وقالوا ما استغنى أحد بالله إلا وافتقر الناس إليه وقال بعض الحكماء الأنس بالله من حبه لك فإن الله إذا أحب عبداً أوحشه من خلقه وقد قيل من خلق التوحيد حب الوحدة وقال الجنيد أطيب ساعاتي خلواتي وألذ طاعاتي في

مناجاتي ولله در من قال من حمد الناس ولم يبلهم ... ثم بلاهم ذمّ من يحمد وصار بالوحدة مستأنساً ... يوحشه الأقرب والأبعد فمما يكون عوناً للكريم على الانقطاع ذم ما الناس عليه من لؤم الطباع قال سفيان الثوري للحسن البصري دلني على من أجلس إليه قال تلك ضالة لا توجد وقيل لبعضهم ما الصديق قال اسم وضع على غير مسمى وحيوان غير موجود الناشي سمعنا بالصديق ولا نراه ... على التحقيق يوجد في الأنام وأحسبه محالاً نمقوه ... على وجه المجاز من الكلام وقيل لبعضهم من أبعد الناس سفراً قال من كان في طلب صديق صدوق يكون عوناً له على مهماته وغوثاً على ملماته سمع المأمون أبا العتاهية ينشد وإني لمحتاج إلى ظل صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه فقال خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب وقبل هذا البيت عذيري من الاخوان لا من جفوته ... صفا لي ولا من كنت طوع يديه وقال بعضهم إن كان في مخالطة الناس خير فإن تركهم أسلم وقال بعض الرهبان لرجل إن استطعت أن يكون بينك وبين الناس سور من حديد فافعل وإن كان الأنس في الجماعة فإن السلامة في العزلة وقال الشاعر ليس في الناس وفاء ... لا ولا في الناس خير قد بلوت الناس طرّاً ... فكسير وعوير

آخر كن لقعر البيت جلساً ... وارض بالخلوة أنسا واغرس الناس بأرض الز ... هد مهما شئت غرسا وليكن بأسك دون ال ... طمع الكاذب ترسا لست بالواجد حراً ... أو ترد اليوم أمسا كتب بعضهم إلى صديق له أما بعد فإني أحمد الله إلى الناس وأذم الناس إليه وقيل لبعضهم ما تجد في الخلوة قال الراحة من مدارة الناس والسلامة من شرهم وقال الشاعر وقالوا لقاء الناس أنس وراحة ولو كنت أرضى الناس ما عشت مفرداً وكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أخيه من مدينة السلام وكان أخوه بخراسان يشكو إليه قلة وفاء الرئيس وتأدبه بحضرة الجليس فكتب إليه جواباً طب عن الأمة نفساً ... وارض بالوحدة أنسا ما رأينا أحداً سا ... وى على الخبر فلسا آخر قد بلوت الناس طراً ... لم أجد في الناس حرا صار أحلى الناس في الع ... ين إذا ما ذيق مرا أبو حامد الغزالي لا تجز عنّ لوحدة وتفرد ... ومن التفرد في زمانك فازدد ذهب الأخاء فليس ثمّ أخوة ... إلا التملق باللسان وباليد فإذا كشفت ضمير ما بصدورهم ... أبصرت ثمّ نقيع سمّ الأسود

آخر إذا ما طلبت أخاً مخلصاً ... فهيهات منك الذي تطلب فكن بانفرادك ذا غبطة ... فما في زمانك من تصحب آخر بلوت الأناس وأهل الزمان ... وكل بهجر ولؤم خليق وأوحشني من عدوّي الزمان ... وآنسني بالعدوّ الصديق آخر بلوت الناس من غرب وشرق ... فلم تظفر يدي بصديق صدق فقلت مجانباً للخلق طراً ... يبيت منادمي قدحي وزقي وفي الآداب لي ألف وأنس ... وفضل الله يأتيني برزقي آخر ما أعجب الناس في تقلبهم ... ذا شهد طعمه وذا صبر ترضى على الشخص حين تبصره ... ويسخط العقل حين يختبر وقال بعض الحكماء الوحشة من الناس على قدر المعرفة بهم منه قول علي رضي الله عنه أخبر تقله وقال المأمون لولا أن كلام علي فرع من كلام النبوة لعكسته وقلت أقله تخبر وقال وهيب بن الورد صحبت الناس منذ خمسين سنة فما وجدت رجلاً غفر لي زلة ولا أزاح لي علة ولا أقالني عثرة ولا ستر لي عورة وقال علي رضي الله عنه إذا كان الغدر طباعاً فالثقة بكل أحد عجز شاعر أما الوفاء فشيء قد سمعت به ... وما وجدت له عيناً ولا أثرا فمن توهم في الدنيا أخاً ثقة ... فإنه بشر لا يعرف البشرا

آخر ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب ... فالناس بين مخاتل وموارب يفشون بينهم المودّة والصفا ... وقلوبهم محشوّة بعقارب آخر لك الخير فاعلم ليس في الناس منصف ... وكل وداد فهو منهم تكلف وكل إذا عاهدته فهو ناقض ... لعهدك أو واعدته فهو مخلف وأبناء هذا الدهر كالدهر لم يثق ... به وبهم إلا جهول مسوّف آخر ذهب الوفاء فلا وفا ... ء ولا حياء ولا مروّة إلا التواصل باللسا ... ن من النفوس بلا أخوة عبد المحسن الصوري نزع الدهر خلتين من النا ... س وفاء الأخاء وصدق الصديق ويقال العزلة عن الناس توفر العرض وتبقى الجلالة وتستر الفاقة وتدفع مؤنة المكافأة في الحقوق لما وقع الاختلاف في المدينة خرج عروة بن الزبير إلى العقيق واعتزل الناس فعاتبه بعض اخوانه فقال رأيت ألسنتهم لاغية وقلوبهم لاهية وأديانهم واهية فخفت أن تلحقني معهم الداهية شاعر ألام على التفرد كل وقت ... ولي فيما ألام عليه عذر وكل أذى فمصبور عليه ... وليس على قرين السوء صبر

آخر وأفردني عن الاخوان علمي ... بهم فبقيت مهجور النواحي فكم ذم لهم في جنب مدح ... وجد بين أثناء المزاح الامام الشافعي رضي الله تعالى عنه إذا لم أجد خلاً تقياً فوحدتي ... ألذ وأشهى من غويّ أعاشره وأجلس وحدي للسفاهة آمناً ... أقر لعيني من جليس أحاذره وقال جعفر الصادق العزلة أسكن للفؤاد وأبعد من الفساد وأعود للمعاد الثعالبي إذا كان الصديق المجانس متعذراً وصحيح الأخاء لا يكاد يرى فالثقة بغير الله منفصمة العرى وقالوا إذا أنس اللبيب بالوحدة دون المصاحب ونزه نفسه باكرامها عند تغير الأخ والصاحب وتزين بالدين وتحلى بحلية المؤمنين وألزم نفسه الرياضة بالآداب وأعتق رقها من أليم العذاب فقد استراح وأراح ووجد في كل قطر المطار والمراح وأنشد لعلي بن عبد العزيز الجرجاني ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت في وحدتي لكتبي جليسا ليس شيء ألذ عندي من نف ... سي فلم أبتغي سواها أنيسا إنما الذل في مداخلة النا ... س فدعها وعش كريماً رئيسا وما أحسن قول بعضهم في المعنى إذا ما خلوت من المؤنسين ... جعلت المؤانس لي دفتري فلم أخل من شاعر محسن ... ومن مضحك طيب مندر ومن حكم بين أثنائها ... فوائد للناظر المفكر فإن ضاق صدري بأسراره ... وأودعته السر لم يظهر فلست أرى مؤثراً ما حييت ... عليه نديماً إلى المحشر

ولآخر وما ظفرت يدي بصديق صدق ... أخاف عليه إلا خفت منه ولم تدع التجارب لي صديقاً ... أميل إليه إلا ملت عنه أنست بوحدتي حتى لو أني ... رأيت الأنس لأستوحشت منه أبو فراس بمن يثق الانسان فيما ينوبه ... ومن أين للحرّ الكريم صحاب ومما اخترت من كلام الحكماء الأجلاء في التحذير من اتخاذ الأصدقاء والأخلاء قال بعض الزهاد لو أن الدنيا ملئت سباعاً ما خفتها ولو بقى واحد من الناس لخفته وقالوا استعذ من شرار الناس وكن من خيارهم على حذر وقال آخر ما بقي في الناس إلا حمار رامح أو كلب نابح أو أخ فاضح وقال أبو الدرداء كان الناس ورقاً لا شوك فيه فصاروا شوكاً لا ورق فيه وقال سلمان الناس أربعة أصناف آساد وذئاب وثعالب وضأن فالآساد الملوك والذئاب التجار والثعالب القراء المخادعون والضأن المؤمن ينهشه كل من يراه شاعر الناس أخلاقهم شتى وإن جبلوا ... على تشابه أفراد وأزواج وقال بعض الحكماء احذروا الناس فما ركبوا سنام بعير إلا أدبروه ولا ظهر جواد إلا عقروه ولا قلب مؤمن إلا أخربوه وقال خالد بن صفوان الناس أجياف فمنهم كالكلب لا تراه الدهر إلا هراراً على الناس ومنهم كالقرد يضحك من نفسه وقال عبد الحميد الكاتب الناس أجياف مختلفون وأطوار متباينون فمنهم من علق مظنة لا تباع ومنهم من غل مظنة لا تبتاع وقال جعفر الصادق لبعض اخوانه اقلل من معرفة الناس وأنكر من عرفت منهم وإن كان لك مائة

صديق فاطرح منهم تسعة وتسعين وكن من الواحد على حذر وقال بعض البلغاء بلوت الناس طراً فلم أجد إلا من يرى الحق باطلاً والباطل حقاً واللئيم مرفوعاً والكريم ملقى والنصح غشاً والغش نصحاً والمدح هجاء والهجاء مدحاً العتابي في مثل ذلك تساوي أهل دهرك في المساوي ... فما يستحسنون سوى القبيح وصار الناس كلهم غثاء ... فما يرجون للأمر النجيح وأضحى الجود عندهم جنوناً ... فما يستعقلون سوى الشحيح وكانوا يغضبون من الأهاجي ... فصاروا يغضبون من المديح وقال حكيم مصاحبة الناس خطر فمن صبر على صحبتهم فقد بالغ في العذر إنما هو كراكب بحر إن سلم بدنه من الغرق لم يسلم قلبه من الفرق شاعر تجنب قرين السوء واصرم حباله ... وإن لم تجد عنه محيصاً فداره ومن يطلب المعروف في غير أهله ... تجده وراء الحبر أو في قراره وصف بعض البلغاء أهل زمانه فقال أحظى الناس لديهم من أحسن إليهم فإن قصر عنهم رفضوه وأبغضوه ووتروه ولم يعذروه إن حضروا داهنوا وإن غابو شاحنوا ينطوون على الأحن ولا يرتون للممتحن غنيهم شحيح وفقيرهم مجيح إن رأوا خيراً دفنوه وإن ظنوا شراً أعلنوه الواثق منهم على غرر والمتمسك بهم على خطر هم بين طاعن ثالب ومتقول كاذب وحسود موارب إن اختبرتهم تكشفوا وإن اعتبرتهم تزيفوا وأنشد ان يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شراً أذيع وإن لم يسمعوا كذبوا

ولقد أحسن في التحذير من قال إياك أن تصطفي ممن ترى أحداً ... ولا تثق بامرئ في حالة أبدا من عاش منفرداً لم يأته ندم ... على اتخاذ صديق في الأنام غدا ومما يكون مماثلاً لهذا القول ومعادلاً التحذير من صحبة السلطان وإن كان عادلاً قال الأعمش صحبة السلطان خطر إن أطعته خاطرت بدينك وإن أغضبته خاطرت بنفسك والسلامة منه أن لا تعرفه وقال ابن مسعود إن الرجل ليدخل إلى ذي سلطان ومعه دينه ويخرج وليس معه منه شيء وقال عبد الله بن عمر ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً وقال الفضيل بن عياض كنا نتعلم اجتناب السلطان كما نتعلم السورة من القرآن وقال أيضاً لأن يدنو الرجل إلى حتفه ومنيته خير له من أن يدنو إلى ذي سلطان وقال أيضاً ما أقبح بالعالم أن يقال أين هو فيقال هو في بيت الأمير وكتب أبو بكر بن عياش إلى عبد الله بن المبارك إن كان الفضيل بن موسى لا يجالس السلطان فأقرئه مني السلام أبو الفتح البستي يا من يرى خدمة السلطان عدّته ... ما أرش ذلك إلا الذلّ والندم فجسمه تعب والنفس خائفة ... وعرضه غرض والدين منثلم هذا إذا شرفت أيام دولته ... نعوذ بالله إن زلت به القدم وقال زياد بن أبي سفيان يوماً لجلسائه من أنعم الناس عيشاً قالوا أمير المؤمنين يعني معاوية قال فكيف بثغوره وأموره إن لأعواد المنبر لهيبة ولقرع لجام البريد لروعة قال فمن قالوا فأنت قال فكيف بجنودي وخراجي ومداراة الناس قالوا فمن إذا قال رجل له دار يسكنها وزوجة صالحة يأوي إليها وخادم وكفاف من العيش لا يعرفها ولا نعرفه فإنه إن عرفنا وعرفناه

الفصل الثاني من الباب السادس عشر

أفسدنا آخرته ودنياه شاعر وصاحب السلطان في محنة ... في آجل الأمر وفي حينه إن ساءه خاف على نفسه ... أو سره خاف على دينه آخر إنّ الملوك بلاء حيثما رحلوا ... فلا يكن لك في أكتافهم ظلّ ماذا تريد بقوم إن هم غضبوا ... جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا فإن أتيتهم تبغي نوالهم ... رجعت منقبضاً من دينك الكلّ فاستغن بالله عن أبوابهم كرماً ... إنّ الوقوف على أبوابهم ذل الفصل الثاني من الباب السادس عشر فيما يحض على الاعتزال من ذميم الخلائق والخلال فأهم ما نبدأ به منها ولا يمكننا الاعراض عنها ترفع من سوغته الأقدار منصباً أو مالاً على صديق ما برح في وده يتغالى قال بعضهم تغير عني حين ولوه منصباً ... وعهدي به من قبل ذا وهو صاحب وما هو في الدنيا بأوّل صاحب ... وأوّل رجل غيرته المناصب آخر إنّ الولاية معيار العقول بها ... يبين من فيه نقص أو به عور فكم أصمت سميعاً كان ذا أذن ... قبل التولي وأعمت من له بصر ويروى عن محمد بن ادريس الشافعي أنه قال أظلم الناس لنفسه اللئيم فإنه إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه واستخف بالأشراف وتكبر على ذوي الفضل شاعر ليس الكريم الذي إن نال منزلة ... فضلاً وطولاً على اخوانه تاها الحرّ يزداد للاخوان مكرمة ... إن نال حظاً من السلطان أو جاها أبو بكر الخوارزمي كفى حزناً أن لا صديق ولا أخ ... يفيد غنى إلا يدا خله كبر

فلا نال فوق القوت مثقال ذرة ... صديق ولا أوفى على عسره يسر وما ذاك إلا رغبة في وصاله ... وإلا حذاراً أن يلم به العذر ولبعضهم يعاتب صديقاً له ولي حين ولي ولما صرّفتك يد الليالي ... وحكمك الزمان على بنيه عدلت عن الوداد وكنت قدماً ... لدينا تبتغيه وترتضيه آخر دعوت الله أن تعلو محلاً ... علوّ البدر في أفق السماء فلما أن علوت علوت عني ... فكان إذا على نفسي دعائي آخر إنّ الولاية غيرت أصحابنا ... فلووا وجوههم عنا وتبدّلوا فاصبر على جور الليالي منهم ... واترك عناءهم إلى أن يعزلوا آخر قل لعبيد الله ذاك الذي ... قد غير السلطان أطباعه ابتاع ودي وهو ذو عسرة ... حتى إذا نال الغنى باعه آخر وربّ ذي ثقة قد كان لي سكناً ... وكنت منه مكان العين في الراس ولي وأعرض عني إذا أفاد غنى ... وخانه سوء بنيان وآساس حتى إذا ما قضى من ماله وطراً ... فيما أحب من اللذات والكاس غدا إليّ بوجه ضاحك طلق ... وعاد في ودّه من بعد افلاس آخر تاه علينا وزاد اطراقه ... وخاننا عهده وميثاقه وكل من نال فوق رتبته ... تغيرت للصديق

أخلاقه وقال عبد الصمد بن بابك يشكو صديقاً مال حين اكتسب المال وحال عندما صلح منه الحال أشكو إليك زمان ظلّ يعركني ... عرك الأديم ومن يفدي من الزمن وصاحباً لست مغبوطاً بصحبته ... دهراً فغادرني فرداً بلا سكن هبت له ريح اقبال فطار بها ... نحو السرور وألجاني إلى الحزن نأى بجانبه عني وصيرني ... مع الأسى ودواعي البين في قرن وباع صفو وداد كنت أقصره ... عليه مجتهداً في السرّ والعلن وكان غالي به حيناً فأرخصه ... يا من رأى صفو ودّ بيع بالثمن فليس في الأرض مغبون بصفقته ... إن لم يكن ذاك منسوباً إلى الغبن كأنه كان مطوياً على احن ... ولم يكن من عيون الشعر أنشدني إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن وقال آخر يعاتب صديقاً له تغير عليه عندما نظر الزمان بعين المقت إليه وكنت أخي أيام عودك يابس ... فلما اكتسى واخضر صرت مع النسر لعمرك لو ذوّقتني ثمر الغنى ... أذقتك ما يرضيك من ثمر الشكر فلو نلت ما يغني بك اليوم أو غدا ... أنلتك ما يبقى إلى آخر الدهر ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنّ الغنى يخشى عليه من الكفر آخر ألم تر أنّ ثقات الرجال ... إذا الدهر ساعدهم ساعدوا وإن خانه دهره أسلموه ... فلم يبق منهم له واحد ولو علم الناس أن المريض ... يموت لما عاده عائد آخر كم من صديق لنا أيام دولتنا ... قد كان يمدحنا فصار يهجونا

لم ندر إذا ما انقضت عنا امارتنا ... من كان ينصح ممن كان يغوينا ما إن يلاطفنا من كان يصحبنا ... إلا ليخدعنا عما بأيدينا آخر صديقك حين تستغني كثير ... ومالك عند فقرك من صديق فلا تغضب على أحد إذا ما ... طوى عنك المودّة عند ضيق آخر أرى قوماً وجوههم حسان ... إذا كانت حوائجهم إلينا وإن كانت حوائجنا إليهم ... تغير حسن وجههم علينا ومنهم من يمنع ما لديه ... ويغضب حين نمنع ما لدينا فإن يك فعلهم سمجاً وفعلي ... قبيحاً مثله فقد استوينا ومما يدل على صغر الهمة والنفس التلون على الصديق المصاحب بالأمس قال بعضهم لأن أبتلي بألف جموح لجوج أحب إلي من أن أبتلي بمتلون وقال آخر إذا كان لك صديق فلا تتمن له رفعة فبقدر ارتفاعه يكون انحطاطك من عينه ولا تلتفت إلى قول حبيب بن أوس الطائي إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن فليس كما قال فإنه بالرتبة يشمخ أنفه بعد الخسة والضعة ويفرد صديقه بالبؤس وإن كان من قبل شريكه وقسيمه في الدعة ويقابل اقباله في الزيارة بالملالة ويعد معرفته له عثرة لا يرجى لها اقالة فإن وقف ببابه حجبه وإن دخل في غمار الناس ازدراه ومن تبرم به أعجبه وخذ بما قال الفقيه منصور بن

إسمعيل المقري إذ ما رأيت امرأ في حال عشرته ... بادي الصداقة ما في ودّه دغل فلا تمنّ له حالاً يسرّ بها ... فإنه بانتقال الحال ينتقل وكان منصوراً ألم بقول بعض البلغاء لا تطلبن لأخيك رتبة هي أرفع من رتبته التي هو مساويك فيها فإنه ينتقل عنك في أحوال ثلاثة يكون صديقك عند حاجته إليك ومعرفتك عند استغنائه عنك وعدوك حال احتياجك إليه وقال بعض الأعراب يذكر صديقاً تلون عليه صفرت عياب الود بيني وبينه بعد امتلائها واكفهرت سوالف وجوه المسرات وكانت نضرة بمائها فأدبر ما كان بيني وبينه مقبلاً وأقبل ما كان مدبراً وصارت مودته متنقلة كتنقل الأفياء واخوته متلونة كتلون الحرباء وقال بعضهم المتلون إن ودك لشيء ملك عند انقضائه ويقال إياك ومن مودته على قدر حاجته إليك فعند ذهاب الحاجة ذهاب المودة وقال بعض الأعراب لولده يا بني لا تصحب من إذا أيس من خيرك مال إلى غيرك وقالوا إذا انقطع من صديقك رجاؤك فألحقه بعدوك وما أحسن قول بعضهم إذا تاه الصديق عليك كبراً ... فته زهداً على ذاك الصديق وإن سلك الغرام به طريقاً ... فخذ عرضاً سوى ذاك الطريق فايجاب الحقوق لغير راع ... حقوقك رأس تضييع الحقوق ولبشار بن برد إذا كان ذواقاً أخوك من الهوى ... موجهة في كل أوب ركائبه فحل له وجه الفراق ولا تكن ... مبطية رحال كثير مذاهبه

الكميت بن زيد ولقد أحسن في الأنفة إذا عطس بأنف شامخ وأبان عن أنف في الكرم راسخ من أبيات يفتخر وما أنا بالنكس الدنيّ ولا الذي ... إذا صدّ عنه ذو المروأة يقرب ولكنه إن دام دمت وإن يكن ... له مذهب عني فلي عنه مذهب ألا إنّ خير الودّ ودّ تطوعت ... به الأنفس لا ودّ أتى وهو متعب وقيل لبعض الولاة كم لك من صديق فقال أما في حال الولاية فكثير ثم أنشد الناس اخوان من دامت له نعم ... والويل للحرّ إن زلت به القدم آخر تلونت حتى لست أدري من العمى ... أريح جنوب أنت أم ريح عاصف قريب بعيد جاهل متبصر ... سخيّ بخيل مستقيم مخالف صدوق كذوب لست أدري خليله ... أيجفوه من تلوينه أم يلاطف ولست بذي غش ولست بناصح ... وإني من عجبي لشأنك واقف كذاك لساني شاتم لك مادح ... كما أن قلبي جاهل بك عارف كتب بعضهم إلى صديق له تلون عليه أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الأمر فيك لأنك بدأتني بلطف من غير جراءة ثم أعقبتني جفاء من غير جريمة فأطمعني أولك في اخائك وآيسني آخرك من وفائك فسبحان من لو شاء لكشف بايضاح الرأي في أمرك عن ظلمة الشك فيك فأقمنا على ائتلاف وافترقنا على اختلاف والسلام وكتب آخر قل للذي لست أدري من تلونه ... أناصح أم على غش يداجيني إني لأكثر مما شتمه عجباً ... يد تشح وأخرى منك توليني

ولما نكب علي بن عيسى الوزير لم ينظر ببابه أحداً من أصحابه وآله واخوانه الذين كانوا ملازمين له في حال تصرفه واشتغاله فلما ردت إليه الوزارة اجتمعوا إليه وعطفوا عليه وجعل كل منهم يأخذ في السبق للقياه والنظر إلى محياه فحين رآهم كذلك أنشد ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فكيف ما انقلبت يوماً به انقلبوا يعمون أخا الدنيا فإن وثبت ... عليه يوماً بما لا يشتهي وثبوا لا يحلبون لحيّ درّ لقحته ... حتى يكون لهم شطر الذي حلبوا عادي الزمان بعض الوزراء فنظر بعين المقت إليه وقبض عنه المسار بيد القبض عليه ثم عاد فألبسه من الاقبال حللاً أجره أذيالها وصرف لخدمته بأزمة الانقياد فحمله أعباء المنن وأثقالها فقال يعاتب من انقطع عنه في حال خموله ويشعره بأن نجم سعده طلع بعد أفوله عاداني الدهر بعض شهر ... فاعرض الناس ثم بانوا يا أيها المعرضون عني ... عودوا فقد عاود الزمان ومن ذميم فعلات الاخوان الخوان ... اغتياب من غاب من الاخوان قال الله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله حرم من المسلم دينه وعرضه وأن يظن به السوء وقالوا الأخ الصادق من أهدى إلى أخيه عيبه وحفظ له غيبه وقالوا الغيبة جهداً لعاجز وقالوا إياك وصحبة من إذا حضر أثنى ومدح وإذا غاب عاب وقدح وقالوا اللئيم إذا غاب عاب وإذا حضر اغتاب وقالوا الريبة عار والغيبة نار ويقال من عف عن الريبة كف عن الغيبة وقال العتابي شر الاخوان من إذا وجد مادحاً مدح وإن وجد قادحاً

قدح وإن استودع سراً فضح الشريف الرضي إذا أنت فتشت القلوب وجدتها ... قلوب أعاد في جسوم أصادق ابن المعتز بلوت أخلاء هذا الزمان ... وأقللت بالهجر منهم نصيبي وكلهم إن تصفحتهم ... صديق العيان عدو المغيب وقال من أكل خبزه بلحوم الناس لم يصن نفسه من الأدناس ومر عمرو ابن العاص على جيفة ملقاة فقال لأصحابه والله لأن يأكل أحدكم من هذه حتى يمريه خير له من أن يأكل لحم أخيه وكان أبو الطيب الظاهري يهجو بني ساسان فقال له نصر بن أحمد إلى متى تأكل خبزك بلحوم الناس فخجل ولم يعد وقيل أوحى الله إلى موسى عليه السلام من مات مصراً على الغيبة فهو أول من يدخل النار ومن مات تائباً منها فهو آخر من يدخل الجنة وقال علي بن الحسين لرجل إياك والغيبة فإنها ادام كلاب الناس اغتاب رجل رجلاً عند مسلم بن قتيبة فقال له مه فلقد تلظت بمضغة طالما عافتها الكرام ويحكى عنه إنه ذكر عنده رجل فتكلم فيه بعض أهل المجلس فقال له مسلم قد أوحشتنا من نفسك ومودتك ودللتنا على عورتك وما أشد نصح من قال لا يكن لسانك رطباً بعيوب أصدقائك تزيدهم في أعدائك أضاف إبراهيم ابن أدهم أناساً فلما قعدوا للطعام أخذوا في الغيبة فقال لهم إبراهيم إن من قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم وأنتم أكلتم اللحم قبل الخبز أبو تمام قبح الله صاحباً قطف الصح ... بة حرب المغيب سلم التلافي الصاحب بن عباد احذر الغيبة فهي ال ... فسق لا رخصة فيه إنما المغتاب كالآ ... كل من لحم أخيه

الوزير المغربي أيّ شيء يكون أقبح مرأى ... من صديق يكون ذا وجهين من ورائي يكون مثل عدوّي ... وإذا يلقني يقبل عيني ابن المعتز أخ لي يعطيني الرضا في حضوره ... ويمنعني بعض الرضا وهو بائن إذا ما التقينا سرّني منه ظاهر ... وإن غاب عني ساءني منه باطن على غير ذنب غير أن مساويا ... له علمتني كيف تأتي المحاسن ولبعضهم يهجو صديقك لا يثني عليك بطائل ... فماذا به عنك العدوّ يقول وحسبك من لؤم وخبث طوية ... بأنك عن عيب الصديق سؤل آخر يضاحكني فوه إذا ما لقيته ... ويرشقني إن غبت عنه بأسهم وكم من صديق ودّه في لسانه ... وفي قلبه إن غبت صاب وعلقم آخر لي صاحب جعل المساوي دأبه ... تصوير معناها وصيغة لفظها فكأنه ملك الشمال موكل ... أبداً بكتب السيآت وحفظها آخر وما صاحبي عند الرخاء بصاحب ... إذا لم يكن عند الأمور الصعائب إذا ما رأى وجهي فأهلاً ومرحبا ... ويرمي ورائي بالسهام القواضب آخر إذا انتقد الناس الكرام رأيتهم ... يطنوا طنين الزيف في كف ناقد

كثير عزة أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شينا وإذا ما رأوك قالوا جميعاً ... أنت من أكرم الرجال علينا ولله در من قال شر السباع الضواري كونه وزراً ... والناس شرهم ما دونه وزر كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشراً لم يؤذه بشر ومما يرغب الوحيد في انفراده ... حسد أهل الصفوة من وداده الحسد داء دوى وخلق ردى يدل على فساد الدين وقلة اليقين وما زال صاحبه حليف هموم وأليف غموم وظالماً في زي مظلوم وأي خير عند من جبلت على الحقد طباعه وحنيت على الغل أضلاعه وأمر بالاستعاذة بالله من شره وحض على الاحتراس من ضره قيل لعبد الله بن عبدة كيف لزمت البدو وتركت قومك قال وهل بقى في الناس إلا من إذا رأى نعمة بهت وإذا رأى عثرة شمت ثم أنشد عين الحسود إليك الدهر ناظرة ... تبدي المساوي بالاحسان تخفيه يلقاك بالبشر يبديه مكاشرة ... والقلب ملتئم فيه الذي فيه وقال معاوية بن أبي سفيان كل الناس قادر أن أرضيه إلا حاسد نعمة لا يرضيه إلا زوالها وقالوا الحسد داء يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود نظم هذه الكلمات محمود الوراق فقال أعطيت كل الناس مني الرضا ... إلا الحسود فإنه أعياني

لا أنّ لي ذنباً إليه علمته ... إلا تظاهر نعمة الرحمن يطوي على حسد حشاه لأن يرى ... من حال مالي أو لفضل بياني ما إن أرى يرضيه إلا ذلتي ... وذهاب أموالي وقطع لساني ونظمه آخر فقال قل للذي بات محسوداً على نعم ... دع الحسود فقد قطعته قطعا لو كنت تملك ما يريد منك لما ... صنعت معه كمعشار الذي صنعا وقال بعض البلغاء الحسد شؤم واعتباره لؤم يقضي الأشباح ويضني الأرواح ويورث الأرق ويحدث القلق ويكدر غدران رفاهية العيش ويشعل نيران السفاهة والطيش وإن الحسود مجروح في جلده متألم مظلوم في برده ظالم معارض لله في مشيئته معترض عليه في قضيته يعيش محروماً ويبيت مغموماً مدفوع في الدنيا إلى الكرب والتلف وممنوع في العقبى من القربى والزلف لا تعمل شعلة القابس في الحطب اليابس ما يعمله الحسد بجسد صاحبه وبدن راكبه يشرب دمه ويأكل لحمه ويمشمس عظمه ويجعله معرضاً للكروب ومبغضاً إلى القلوب فجدير بالانسان أن يفر من الحسد فوق فراره من الاسد وقالوا أسد يؤاتيك خير من حسود يراقبك وقال بعض السلف إذا أراد الله أن يسلط على عبده من لا يرحمه سلط عليه حاسداً بحسده وقال أردشير كل خله رديئة فهي دون الحسد لأن الحاسد يسعى بمن أحسن إليه ويتمنى الغوائل لمن أنعم عليه أبو الطيب المتنبي يريد بك الحساد ما الله دافع ... وسمر العوالي والحديد المدرب وله وأظلم خلق الله من كان حاسداً ... لمن بات في نعمائه يتقلب

وله سوى وجع الحساد داو فإنه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول فلا تطمعن من حاسد في مودّة ... وإن كنت تبديها له وتهيل وقال ابن المعتز الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له ويبخل بما لا يملكه ويطلب ما لا يجده وقال حكيم الحسد يبدي نقص الحاسد ويدل على كمال المحسود وما أحسن قول المعافي بن زكريا النهرواني الأقل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب فجازاك عنه بأن زادني ... وسدّ عليك وجوه الطلب أبو فراس لمن جاهد الحساد أجر المجاهد ... وأعجز ما حاولت ارضاء حاسد ولم أر مثل اليوم أكثر حاسداً ... كأنّ قلوب الناس لي قلب واحد وقالوا لا تندمل من الحسود جراحه حتى ينقص من المحسود جناحه وقالوا حسب الحسود ما يلقى من صغر الهمة في حزنه لسرور صاحب النعمة وقالوا من عادات الأغبياء معاداة الأغنياء وقال عبد الله بن مسعود لا تعاد وانعم الله قيل له ومن يعادي نعم الله قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله يقول الله تعالى في بعض الكتب المنزلة الحسود عدو نعمتي ومتسخط لقضائي غير راض بنعمتي ولم أسمع بأحسد من حمزة ابن بيص في قوله وقد مر بواد مملوءاً بلا وشاء وزرعاً ورعاء الزارعون وليس لي زرع بها ... والحالبون وليس لي ما أحلب فلعل ذاك الزرع يؤذي أهله ... ولعلّ ذاك الشاء يوماً تجرب ولعلّ طاعوناً يصيب علوجها ... ويصيب ساكنها الزمان فتخرب

قال المرزباني صاحب الاتفاق فلم يكن إلا أيام قلائل حتى أصابهم جميع ما تمنى لهم وأظرف من هذا ما حكى أن ثلاثة من الحساد اجتمعوا فقال أحدهم لأحد صاحبيه ما بلغ من حسدك قال ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيراً قط لئلا أرى اثر ذلك عليه فقال له أنت رجل صالح لكني ما اشتهيت أن يفعل بأحد خير قط لئلا تشير الأصابع بالشكر إليه فقال الثالث ما في الأرض خير منكما لكني ما اشتهيت أن يفعل بي أحد خيراً قط قالا ولم قال لأني أحسد نفسي على ذلك فقالا له أنت ألأمنا جسداً وأكثرنا حسداً وقالوا الحسود عدو مهين لا يدرك وتره إلا بالتمني شاعر إياك والحسد الذي هو آفة ... فتوقه وتوق غرّة من حسد إنّ الحسود وإن أراك مودّة ... بالقول فهو لك العدوّ المجتهد وقال علي رضي الله عنه لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله وقيل للعتابي في مرض أصابه ما تشتهي قال أكباد الحساد وأعين الرقباء وألسن الوشاة وقال بعضهم لولده إياك والحسد فإنه يبين عليك ولا يبين على عدوك وكان يقال الحريص محروم والبخيل مذموم والحاسد مغموم ذم أبو بكر الخوارزمي حاسداً فقال وأما فلان فمعجون من طينة الحسد والمنافسة ومضروب في قالب الضيق والمناقشة يحمي من رزق الله مباحاً ويحرم ما ليس فيه جناحاً ويتحجر من رحمته جماً واسعاً ويغار على البحر ممن يسبح فيه وعلى البدر ممن يستضئ به وعلى الشمس ممن طلعت عليه وعلى نسيم الهواء ممن وصل إليه لو ملك السماء لنهاها عن الأمطار ولو أطاعته الأرض لمنعها من تغذية النبات والأشجار ولو سخرت له الأشجار لحال بينها وبين الأثمار كان كل رغيف يعطي من قوته وقوت عياله وكان كل درهم ينفق من ماله ومال أطفاله على إنه يبخل على نفسه بالهواء ويحاسب أعضاءه على الغداء والعشاء وقال شاعر لا مات حسادك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد ولا خلاك الدهر من حاسد ... فإنّ خير الناس من يحسد

أبو تمام إن يحسدوني فإني لا ألومهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أطولنا هما بما يجد وله وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود والمشهور حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم ابن المعتز ومن عجب الأيام بغي معاشر ... غضاب على سبقي إذا أنا جاريت يغيظهم فضلي عليهم ونقصهم ... كأني قاسمت الحظوظ فأحظيت آخر إني حسدت فزاد الله في حسدي ... لا عاش من كان يوماً غير محسود لا يحسد المرء إلا من فضائله ... بالعلم والحلم أو بالفضل والجود ومما يؤمر الكريم باجتنابه ... جار سوء ملاصق لجنابه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول أعوذ بالله من جار سوء في دار مقامه فإن البادي يتحول وكان عمر رضي الله عنه يقول

ثلاث كلهن فواقر صديق إن أسديت إليه عارفة لم يشكرها وإن سمع كلمة لم يغفرها وجار إن رأى حسنة أخفاها وإن عثر على سيئة أفشاها وامرأة إن أقمت عندها آذنك وإن غبت عنها خانتك وكان يقال من جهد البلاء جار سوء معك في در مقامة يلبس لك من البغضاء لأمة لا ينجع فيه عتب ولا يرعوي لملامة ومن دعاء الأعمش اللهم إني أعوذ بك من جار تراني عيناه وترعاني أذناه إن رأى خيراً دفنه وإن سمع شراً أعلنه وقال لقمان لابنه يا بني حملت الحجارة والحديد فلم أر شيأً أثقل من جار سوء في دار مقامة شاعر وقد عرض داره للبيع كراهة في جاره ألا من يشتري داراً برخص ... كراهة بعض جيرتها تباع ولآخر يلومونني إن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جاراً هناك ينغص فقلت لهم كفوا الملام فإنما ... بجيرتها تغلوا الديار وترخص وقال رجل لسعيد بن العاص والله إني لا أحبك قال ولم لا تحبني ولست لي بجار ولا ابن عم ويقال في التوراة أحسد الناس للعالم وأبغاهم عليه أقاربه وجيرانه وقالوا ألأم الناس سعيد لا تسعد به جيرانه ولا تسلم منه اخوانه استعرض أبو مسلم الخراساني فرساً أهدى له فقال لأصحابه لم يصلح هذا فكل قال شيأً فبعضهم قال يصلح لأن ينفي به العار بأخذ الوتر والثار وآخر يقول يصلح لمنازلة الأقيال ومناضلة الأبطال وآخر يقول يصان عن أن يذال بالأحداق ليوم يحرز به قصب السباق فقال أبو مسلم كلكم أخطأت استه الحفرة وزاف نقده عند الامتحان والخبرة فقالوا ولماذا يصلح أيها الأمير فقال لمن يجد في الهرب والفرار من جار سوء يعدم بمساكنته السكون والفرار وقيل لأبي الأسود الدؤلي لم بعت دارك فقال ما بعت داري وإنما بعت جواري أنشدني أفضل الأماثل وأنبل الأفاضل ذو العلم والعلم والسان والقلم انسان عين العيان وزين أرباب البيان الأمير ناصر الدين حسن عرف بابن النقيب الكناني لنفسه يذم جاراً له لي جار شخصه ... أكسير أوصاف المعايب

الفصل الثالث من الباب السادس عشر

حسداً لجيرة فيه ... وعداوات الأقارب ليته لم يعنني ... لم يكن عون النوائب الفصل الثالث من الباب السادس عشر خاتمة الكتاب فيما نختم به الكتاب من دعاء نرجو أن يسمع ويجاب قال الله تعالى قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان وقال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء مخ العبادة وقال عليه الصلاة والسلام استقيلوا أمواج البلاء بالدعاء وقال عليه الصلاة والسلام إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء ولما كان الدعاء في الفضيلة بهذه المثابة استحب لمن وضع كتاباً أن يختم به كما كما بدأ بالتحميد كتابه فاستخرت الله تعالى وانتخبت من الأدعية التي صدرت عن صدور أهل الانابة وروت نفوس العباد منهل الاجابة وحذفت خوف التطويل أسانيدها ليسهل على الراغب فيها أن يبديها متى أحب ويعيدها وأشرف الأوقات التي يتكفل النجح فيها باجابة الدعوات أوقات اختارها الله لداء ما افترض من الصلوات فإذا أراد أمرؤ طلبته فليتضرع عقيب صلواته وتلو مناجاته لله بالاستكانة والخضوع ليرجع من توجهه وعرف القبول منه يضوع وليقل اللهم ارزقني موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ولا عيباً إلا سترته ولا ضراً إلا كشفته ولا سقماً إلا شفيته ولا رزقاً إلا بسطته ولا خوفاً إلا أمنته ولا سوأً إلا صرفته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضا ولي فيها صلاح إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين

اللهم إني أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة ومن عاجل يمنع خير الآجل ومن حياة تمنع خير الممات ومن أمل يمنع خير العمل وأسألك الظفر والسلامة ودخول دار المقامة اللهم لا تحرمني سعة مغفرتك وسبوغ نعمتك وشمول عافيتك وجزيل عطائك ومنح مواهبك لسوء ما عندي ولا تخذلني بقبيح عملي ولا تصرف وجهك الكريم عني اللهم لا تحرمني وأنا أدعوك ولا تخيبني وأنا أرجوك اللهم إنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً محروماً مقتراً علي في الرزق فأمح من أم الكتاب شقائي واقتار رزقي وأثبتني عندك سعيداً مرزوقاً فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب اللهم هذا مقام اللائذ بجنابك العائذ بك من النار يا فارج الهم يا كاشف الغم يا مجيب دعوة المضطر يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني رحمة تغنني بها عمن سواك اللهم إني أدعوك بما دعاك به عبدك ذو النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن تقدر عليه فنادى في الظلمات إن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستحبت له ونجيته من ظلمات ثلاث ظلمة الخطيئة وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت فإنه دعاك وهو عبدك وسألك وهو عبدك وأنا أسألك وأنا عبدك وأدعوك وأنا عبدك أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وأن تستجيب لي كما استجبت له وأدعوك بما دعاك به عبدك أيوب إذ قال مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبت له وكشفت ما به من ضر وآتيته أهله ومثلهم معهم رحمة من عندك فإنه دعاك وهو عبدك وسألك وهو عبدك وأنا أسألك وأنا عبدك وأدعوك وأنا عبدك أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وأن تفرج عني كما فرجت عنه وأن تستجيب لي كما استجبت له إنك سميع الدعاء اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع وقلب لا يخشع وعلم لا ينفع ودعاء لا يسمع وعين لا تدمع وصلاة لا ترفع اللهم إني أسألك في صلاتي وفي دعائي براءة تطهر بها قلبي وتؤمن بها روعي وتكشف بها كربي وتغفر بها ذنبي وتصلح بها أمري وتغني بها فقري وتذهب بها ضري وتفرج بها غمي

وتسلي بها همي وتشفي بها سقمي وتقضي بها ديني وتجلو بها حزني وتجمع بها شملي وتبيض بها وجهي واجعل ما عندك خيراً لي اللهم أصبح ظلمي مستجيراً بعفوك وذنبي مستجيراً بمغفرتك وخوفي مستجيراً بأمنك وفقري مستجيراً بغناك وضعفي مستجيراً بقوتك وذلي مستجيراً بعزك ووجهي الفاني البالي مستجيراً بوجهك الدائم الباقي اللهم مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم صلى الله عليه وآله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد واجعلني في حفظك وكلأتك وودائعك التي لا تضيع واحفظني من كل سوء ومن شر كل ذي شر واحرسني من شر الشيطان الرجيم والسلطان المليم إنك أشد بأساً وأشد تنكيلاً اللهم إن كنت منزلاً بأساً من بأسك أو نقمة من نقمك على أهل معصيتك بيتاً وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون فصل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد واجعلني وأهلي في كنفك ومنعك وحرزك اللهم إن هذين الليل والنهار خلقان من خلقك فاعصمني فيهما بحولك وقونك ولا ترهما مني جراءة على معصيتك ولا ركونا إلى مخالفتك واجعل عملي فيهما مقبولاً وسعي مشكوراً وسهل لي ما أخاف عسره وصعب على أمره واقض لي فيهما بالحسنى وامني مكرك ولا تهتك عني سترك ولا تنسني ذكرك اللهم صلى الله عليه وآله وسلم على سيدنا محمد وآله وافتح مسامع قلبي لذكرك حتى أعي وجيك وأتبع كتابك وأصدق رسلك وأومن بوعدك وأخاف وعيدك وأوفي بعهدك وآخذ بأمرك ولا اجترئ على نهيك اللهم إني أستودعك نفسي وديني ومالي وأهلي وكل نعمة أنعمت بها علي فاجعلني اللهم في كنفك وأمنك وكفايتك وكلاءتك وحفظك ورعايتك ووديعتك يا من لا تضيع ودائعه ولا يخيب سائله ولا ينفد ما عنده اللهم إني أدر أبك في نحور أعدائي وكيد من كادني وبغى علي اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها شتات أمري وتلم بها شعثي وتحفظ بها غائبي وتصلح بها شاهدي وتزكي بها عملي وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء اللهم وما قصرت عنه مسئلتي ولم تبلغه أمنيتي من خير وعدته أحداً من خلقك فإني أرغب إليك فيه

اللهم يا أبصر الناظرين ويا أسمع السامعين ويا أسرع الحاسبين أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية اللهم إني أسألك حسن الظن بك والصدق في التوكل عليك وأعوذ بك أن تبتليني ببلية تحملني ضرورتها على العبث بمعاصيك وأعوذ بك أن أقول قولاً حقاً من طاعتك ألتمس به سواك وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لغيري وأعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما آتيتني مني وأعوذ بك أن أتكلف طلب ما لم تقسمه لي وما قسمت لي من قسم أو رزقتني من رزق فأتني به في يسر وعافية حلالاً طيباً وأعوذ بك من كل شيء يزحزحني عن بابك ويباعد بيني وبينك أو ينقص حظي عندك أو يصرف وجهك الكريم عني اللهم دعاك الداعون ودعوتك وسألك السائلون وسألتك وطلبك الطالبون وطلبتك اللهم أنت الثقة والرجاء وإليك منتهى الرغبة والدعاء والشدة والرخاء اللهم وصل وسلم على سيدنا محمد وآله واجعل اليقين في قلبي والنور في بصري والنصيحة في صدري وذكرك على لساني اللهم أنت العاصم والمائع والواقي الدافع من كل سوء أسألك الرفاهية في معيشتي بما أقوى به على طاعتك وأبلغ به رضوانك وأصير به منك إلى دار السلام غدا اللهم لا ترزقني رزقاً يطغيني ولا تبتليني بفقر يضنيني وأعطني في الآخرة حظاً وافراً وفي الدنيا معاشاً واسعاً اللهم إليك مددت يدي وفيما عندك عظمت رغبتي فأقبل توبتي وارحم ضعف قوتي واغفر خطيئتي واجعل لي في كل خير نصيباً وإلى كل بر سبيلاً اللهم اغفر لي كل ما سلف من ذنوبي واعصمني فما بقي من عمري واردد علي أسباب طاعتك واستعملني بها واصرف عني أسباب معصيتك وحل بيني وبينها اللهم أنت متعالي الشأن عظيم الجبروت شديد المحال ذو الكبرياء قادر قاهر قريب الرحمة سامع الصوت صادق الوعد وفي العهد مجيب المضطر قابل التوب محص لما خلقت تدرك ما طلبت شكور إن شكرت ذاكر إن ذكرت أسألك يا إلهي محتاجاً وأرغب إليك فقيراً وألجأ إليك خائفاً وأرجوك ناصراً اللهم ضعفت فلا قوة لي اللهم جئتك مسرفاً على نفسي مقراً بسوء عملي اللهم خلقتني وأمرتني ونهيتني ورغبتني في ثواب ما به أمرتني ورهبتني عقاب ما عنه نهيتني وجعلت لي عدواً يكيدني وسلطته علي فأسكنته صدري وأجريته مجرى الدم مني لا يغفل إن غفلت ولا ينسى إن نسيت يؤمنني عقابك ويخوفني غيرك إن هممت بفاحشة شجعني وإن أردت صلاحاً ثبطني

ينصب لي حبائل الشهوات إن وعدني كذبني وإن اتبعت هواه أضلني إن لم تصرف عني كيده يستزلني وإن لم تفلتني من حبائله يصدني وإن لم تعصمني منه يضلني اللهم صلى الله عليه وآله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد واقهر سلطانه عني بسلطانك عليه فأفوز مع المعصومين منه اللهم لا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا مقدم لما أخرت ولا مؤخر لما قدمت اللهم أنت العليم فلا يجهل وأنت الحليم فلا يعجل وأنت الكريم فلا يبخل وأنت العزيز فلا يذل وأنت المنيع فلا يرام وأنت المجير فلا يضام اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به من أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وبالاجابة جدير لا إله إلا أنتا أعلنت وما أنت أعلم به من أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وبالاجابة جدير لا إله إلا أنت قال المقيد لشوارد فوائد ما ذكر من الأضداد والمؤلف من غرائبها بين الأشباه والأنداد وعندما تم كتابنا واتسق قمر محاسنه بعد السرار وكاد سنا حسنه يطق بالبصائر دون الأبصار وتفجرت من خلال سطوره ينابيع الحكم وهم عبابها أن يفهق فينم بما كتم وسفرت ألفاظه عن معان كأحسن ما ينشق عنه الكمائم وقامت نفثات بدائعه لصريع الهموم مقام الرقي والتمائم تقاضاني بوعدي إياه عند ابتدائه بأن أطلعه باهر العقول أوليائه وأعدائه فاستخرت الله تعالى الكريم وأمسكت من عنان القلم في مضمار الاطناب وقصرت خطوه لعلمي أن السآمة مقرونة بالاكثار والاسهاب وجلوته في حلل فنونه وفاء بعهده وانجازاً لما سبق من وعده ما أمن صحائفه أكفا يسئل بها التغديق عن سوء التلفيق ويدرأ بها شبهات من يرى أن بيده زمام التوفيق فهو يتصرف به على حكم اختياره ومراده ويبلغ غاية أمله بجياد سعيه واجتهاده وإلى الله أبرأ من الحول والقوة وأسأله أن يزحزحني عن الوقوع في هذه الهوة وأن يجعل هذا الكتاب للنفوس يعجب ويروق ويجريه بالمحبة مجرى الدم في العروق وأن يدخلني جنات يجل وصفها وتفوق إنه من راجيه قريب ولداعيه سميع مجيب آمين.

§1/1