غربة الإسلام

التويجري، حمود بن عبد الله

تقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقدمة {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]. الحمد لله الذي عمَّ البرية بجُوده، وأسبغ عليهم نعمه وفضله، ووالى عليهم إحسانه، وَصَلَ عمل من شاء منهم بعد مماته، وأجرى له الأجر بعد فراق دنياه، وأخبرنا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة؛ إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اختار أهل العلم واصطفاهم، وعلى علم ارتضاهم، رفع شأنهم، وبتحقيق الخشية اختصهم، فقال سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، إمام المتقين وقدوة السالكين، ورَّث العلم للعالمين، فكانوا ورثة النبيين ومصابيح السالكين، كشف الله بهم الحق ودلَّ الخلق، وأوضح المحجة وأقام الحجة، أحيا ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه؛ باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، من كتاب الوصية، حديث (4310)، والبخاري في الأدب المفرد؛ باب بر الوالدين بعد موتهما، حديث رقم (38) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

بهم موتى القلوب وأنار بعلمهم الدروب. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين. أما بعد: فمن فضل الله سبحانه على والدنا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري -أسبغ الله عليه الرحمة والرضوان- أنه ما إن شب عن الطوق إلا وحادي الرشاد ينادي بشوق: أدرِك ركب الخِيَرة، والحق بأهل النضرة، واحظ بنصيبك من الميراث النبوي. فأجاب الداعي بنفسٍ إلى العلى توَّاقة، وهمة سامية وقَّادة، نهل من معين علماء عصره وعلّ، ولازم فقهاء مصره فما كلّ ولا ملّ، حفظ وقته من الضياع، وعمره بالقراءة والاطلاع، فما زال الكتاب جليسه والقلم أنيسه، قرأ في شتى الفنون، وخط يراعه عددا من المتون، جمع الشرائد ورتَّب الفوائد ونظم القلائد، ولما بلغ أشده واستوى سوق علمه، سمت همته للبذل والعطاء مما نهل منه وارتوى؛ استجابة لنداء ربه سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، ولِمَا وعى من توجيه حبه - صلى الله عليه وسلم - لأمته بقوله: «الدين النصيحة» متفق عليه (¬1). اتجه رحمه الله لبذل العلم ونَشْره، وتبصير الناس بأمور دينهم، وما به ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه؛ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة» من كتاب الإيمان حديث رقم (57)، ومسلم باب بيان أن الدين النصيحة من أبواب الإيمان، حديث رقم (205) من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -.

نفعهم وصلاحهم في معاشهم ومعادهم، فجلس للطلاب وتولى الخطابة وقام بالحسبة، وسطر النصائح والمواعظ للعامة والخاصة، ثم اتجهت همته إلى التأليف والتصنيف؛ إيضاحا للحق وبيانا للسنة وردا للباطل ودفاعا عن الملة، وقد أمضى في ذلك جُلّ وقته وعامة عمره، فكان حصيلة ذلك نتاجا علميا ربى على الستين مؤلفا؛ طبع عامتها في حياته، ونسأل الله أن ييسر ظهور الجميع في تمام. ومما خطَّه يراعه وسطره قلمه -رحمه الله- هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو كتاب عظيم النفع جليل القدر، لم يتسن له -رحمه الله- إكماله، ولعل انشغاله بغيره مما رأى أهمية تقديمه صرف النظر عن إكماله في وقته. وحيث لم يكمله -رحمه الله- لم يُسمِّه، فسميناه بأول وصفٍ وصَفَ به الكتاب في مقدمته (¬1). والكتاب مسوَّدةٌ كثير الحواشي، واللَّحق، والإحالات، والتقديم والتأخير. والموجود منه يقع في ثلاثمائة وثلاثين صفحة من الورق المسطر؛ قياس الصفحة 29سم طولا، و21سم عرضا (¬2). والكتاب من أوائل مؤلفاته -رحمه الله- إن لم يكن هو أولها، ولعل تصنيفه كان بين عام 1375 - 1380هـ وذلك لأمور: ¬

_ (¬1) قال في مقدمة الكتاب: أما بعد: فهذا كتاب في بيان غربة الإسلام الحقيقي وأهله في هذه الأزمان. فسميناه (غربة الإسلام). (¬2) يسمى عند العامة بالورق الحجازي أو الفرخ؛ والفرخ كما جاء في المعجم الوسيط (679): صحيفة تطوى لِفْقَيْن في حجم محدود. وهي مُحدثة.

أولها: نوع الخط ولون المداد؛ فهو شبيه بما كتبه في ذلك الزمن وإن كان الخط أدق، ولعل ذلك عائد إلى تغير نوعية القلم المستعمل في الكتابة. ثانيها: نوع الورق؛ حيث كان استعماله للورق المسطر -المسمى بالحجازي أو الفرخ- على حاله دون طي من أواخر الستينات إلى نهاية السبعينات الهجري، حسب تتبع ذلك وسبره. ثالثها: وجود بعض الشواهد في ثنايا الكتاب على ارتباطه بتلك الفترة ومن ذلك: 1 - ما ذكره في صفحة 143 من أن التعداد السكاني للمسلمين في ذلك الوقت أو قبله بقليل كان أربعمائة مليون، نقلا عن المهتمين بذلك، وهذا العدد بالسبر وتتبع المقالات والدوريات المهتمة بهذا الشأن يوافق تلك الحقبة. 2 - ما ذكره في صفحة 232، نقلا عن بعض الصحفيين؛ أن الزوار لمولد البدوي في سنة ألف وثلاثمائة وأربع وسبعين بلغوا خمسين ألفا تقريبا. وقد جرت العادة أن الكاتب يذكر آخر إحصاء جرى قبل كتابته؛ ليتحقق به المقصود من إيراد الشاهد. ولتقدم هذا الكتاب وكونه من أول مؤلفات الوالد -رحمه الله- كان مصدرا لما كتبه بعد ذلك، فقد وجِدت نقول منه في بعض كتبه اللاحقة؛ كإتحاف الجماعة وغيره. وقد ضرب -رحمه الله- على مواضع عديدة من الكتاب؛ منها ما نقله إلى كتب أخرى ألّفها بعد هذا الكتاب وأشار إلى ذلك في الحاشية -وتأتي

الإشارة إليه في موضعه- ومنها ما ضرب عليه ولم يوجد في شيء من كتبه، ولعله لم يرتضه أو عدل عن وضعه في ذلك الموضع. وقد وجد في منثور أوراقه -رحمه الله- ثلاث عشرة صفحة اشتملت على عناصر لهذا الموضوع، وقد ضرب على بعضها علامة على استكمال بحثها وجَمْع المادة العلمية المتعلقة بها، وأشار أمام بعضها إلى بعض النصوص الواردة حول ذلك العنصر أو بعض مراجعه. ولعل ما أكمله من تلك العناصر قد أودعه بعض كتبه الأخرى التالية لهذا الكتاب؛ فمنها عناصر عن المعازف والغناء، ولعله أودعها كتابه "فصل الخطاب في الرد على أبي تراب"، ومنها عناصر تتعلق بالتبرج والسفور، ولعله أودعها كتابه "الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور"، ومنها عناصر عن الخمر والمسكرات، ولعله أودعها كتابه "الدلائل الواضحات على تحريم المسكرات والمفترات"، ومنها ما لم يرد في شيء من ذلك. وقد اقتصر العمل على إخراج نص الكتاب -إذ هو المقصود- دون تزيُّد بإثقاله بالحواشي والتعليقات، إلا ما دعت إليه الحاجة في موضعه. وأخيرا تمت إضافة فهرس للموضوعات لتسهيل الوصول إلى الغاية وتقريب محتويات الكتاب. والله نسأل أن يجزي الشيخ الوالد -رحمه الله تعالى- خير الجزاء، وينفع بالكتاب كاتبه وقارئه وسامعه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله القوي المتين، المتفرد بالتدبير والتكوين، الغني عن العالمين أجمعين، فلا تنفعه طاعات المطيعين، ولا تضره معاصي العاصين، خلق الجن والإنس ليعبدوه ويطيعوا أمره ولا يعصوه، وحذّر العاصين من وبيل عقابه كما حل بكثير من الماضين، فقال -تعالى- وهو أصدق القائلين: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَانَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} [الأنعام: 6]، وقال -تعالى- مخبرا عن قوم آخرين: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165 - 166]. أحمده سبحانه أن أتم علينا نعمته، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام دينا واصطفاه لنا على كل دين {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. وأشكره أن هدانا إلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، وأسأله تعالى متوسلا إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح حالي وأحوال المسلمين، ويجعلنا بمنِّه وكرمه من عباده المتقين، الذين كرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان فكانوا من الرائدين، ونعوذ بالله من فتن المضلين، ومن خطوات الشياطين وإخوان الشياطين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الصادق الأمين، بعثه الله رحمة للعالمين وحُجة على المعاندين، وأيَّده بالآيات والمعجزات والبراهين، فعلّم به من الجهالة، وهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، وجعله حرزا للأميين، ولم يزل منذ بعثه الله برسالته قائما بأمر ربه على أكمل الوجوه وأفضلها؛ يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبين للناس ما نزل إليهم من ربهم غاية التبيين، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين، وما من شيء يقربهم من الجنة إلا وقد أمرهم به، وما من شيء يقربهم من النار إلا وقد حذرهم منه؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة، والله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين، فجزى الله عنا نبينا أفضل ما جزى أحدا من الأولين والآخرين، فلقد بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح أمته غاية النصح، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه دائما إلى يوم الدين، وعلى سائر إخوانه من المرسلين والنبيين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. أما بعد: فهذا كتاب في بيان غربة الإسلام الحقيقي وأهله في هذه الأزمان، وذكر الأسباب العاملة في هدم الإسلام وطمس أعلامه وإطفاء نوره، دعاني إلى جمعه ما رأيته من كثرة النقص والتغيير في أمور الدين،

وما عمَّ البلاء به من المنكرات التي فشت في المسلمين، وابتُلى ببعضها كثير من المنتسبين إلى العلم والدين فضلا عن غيرهم من جهال المسلمين. ولما كان العمل بالمعاصي من أعظم الإفساد في الأرض؛ لما يترتب على ذلك من نزع البركات، ووقوع الفتن والهلكات، كما قال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]: إن إفسادها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله، وكان أيضا شؤم المعاصي لا يختص بالمسيئين، بل يعُمّ من باشر الذنب ومن لم يباشره، إذا ظهر ذلك ولم يُغيَّر، كان من أهم الأمور عندي بيان ما وقع فيه الأكثرون من المخالفات والتحذير من شؤمها وسوء عاقبتها، وحث المؤمنين عامة وولاة الأمور وأهل العلم خاصة على تغيير ما ظهر منها قبل أن يصيبهم الله بعذاب يعم الصالح والطالح، فقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم. وفي المسند وصحيح مسلم والسنن الأربع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن،

ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبه خردل» ورواه الإمام أحمد في مسنده مختصرا. وأرجوا من كرم الله تعالى وجوده إتمام ما قصدتُ من البيان والتحذير، وأن يجعل في ذلك براءة للذمة من واجب الجهاد والتغيير، وأسأله تعالى أن يمنَّ عليّ وعلى جميع المسلمين بالإنابة إليه والتوكل في كل الأمور عليه، فإنه لنعم المولى ونعم النصير.

فصل: الأحاديث الواردة في غربة الإسلام

فصل وقد ورد في غربة الإسلام أحاديث كثيرة نذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان. الحديث الأول: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء» رواه مسلم وابن ماجة. الحديث الثاني: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» رواه مسلم، ورواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث" ولفظه: «بدأ الإسلام غريبا ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا، فطوبى للغرباء حين يفسد الناس، ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس». الحديث الثالث: عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء» رواه ابن ماجة. الحديث الرابع: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء» قال: قيل: ومن الغرباء؟ قال: «النّزّاع من القبائل» رواه الإمام أحمد وابنه عبد الله، والترمذي وابن ماجة والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن مسعود، قال: وفي الباب عن سعد وابن

عمر وجابر وأنس وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم -. الحديث الخامس: عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الإيمان بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس، والذي نفس أبي القاسم بيده ليأرزن الإيمان بين هذين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» رواه الإمام أحمد. الحديث السادس: عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» رواه الطبراني. وله أيضا عن جابر وابن عباس - رضي الله عنهم - مرفوعا مثل ذلك (¬1)، وزاد في حديث جابر: قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون عند فساد الناس». الحديث التاسع: عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» قيل: مَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» رواه الطبراني. الحديث العاشر: عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأرويّة من رأس ¬

_ (¬1) وحديث جابر وابن عباس -رضي الله عنهما- عند الطبراني هما الحديث السابع والثامن بتعداد الشيخ الوالد -رحمه الله- وإن لم يصرح بذلك؛ فقد وضع فوق كل منهما خطا بلون أحمر علامة التعداد كما هو منهجه رحمه الله، ورقمه للحديث التاسع بعده يؤكد ذلك.

الجبل، إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه أبو نعيم في الحلية مختصرا، ورواه إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بإسناده عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء» قيل: يا رسول الله، مَن الغرباء؟ قال: «الذين يُحيون سنتي من بعدي ويُعلِّمونها عباد الله». الحديث الحادي عشر: عن بكر بن عمرو المعافري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طوبى للغرباء الذين يتمسكون بالكتاب حين يُترك ويعملون بالسنة حين تُطفأ» رواه الحافظ محمد بن وضاح. الحديث الثاني عشر: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» فقيل: مَن الغُرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» رواه الإمام أحمد والطبراني. ورواه الحافظ محمد بن وضاح بلفظ: «من يبغضهم أكثر ممن يحبهم»، وعنده في أوله: «طوبى للغرباء» ثلاث مرات. وكذلك في روايته للإمام أحمد: «طوبى للغرباء» ثلاث مرات. الحديث الثالث عشر: عنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحب شيء إلى الله الغرباء» قيل: ومَن الغُرباء؟ قال: «الفرَّارون بدينهم،

يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد وأبو نعيم في الحلية من طريقه، قال عبد الله: سمعت سفيان بن وكيع يقول: إني لأرجو أن يكون ابن حنبل منهم. قال القاضي عياض: روى ابن أبي أويس، عن مالك -رحمه الله تعالى- معنى «بدأ غريبا» أي: بدأ الإسلام غريبا في المدينة، وسيعود إليها. انتهى. قلت: ويستدل لهذا القول بما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها»، قال الجوهري: أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها. انتهى. وروى أبو داود في سننه، والطبراني في الصغير، والحاكم في مستدركه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح»، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه، زاد أبو داود: قال الزهري: وسلاح قريب من خيبر. وروى الطبراني في الصغير أيضا من طريق الزهري عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يوشك أن يكون أقصى مسالك المسلمين بسلاح»، وسلاح من خيبر. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث الزهري عن سالم أنه سمع

معنى الغربة وذكر أقوال العلماء في ذلك

أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: «يوشك أن يكون أقصى مسالح المسلمين سلاح»، وسلاح قريب من خيبر. قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ. انتهى. قلت: وقد سبقه إلى تقرير هذا المعنى الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه "إنكار الحوادث والبدع" لما ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» قال: ومعنى هذا أن الله لما جاء بالإسلام فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته غريبا مستخفيا بإسلامه قد جفاه العشيرة فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريبا لكثرة أهل الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس لقلتهم وخوفهم على أنفسهم. انتهى. وقد قرر هذا المعنى أيضا الحافظ ابن رجب وأطال الكلام عليه، وكذلك شيخه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى وغير واحد من المحققين؛ قال ابن رجب رحمه الله تعالى: قوله: «بدأ الإسلام غريبا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»، فلما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى ويُنال منه،

وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يُشرّدون كل مُشرّد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية؛ كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يُعذّب في الله ومنهم من يُقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعزّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا، وأكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ثم عمل الشيطان مكائده على المسلمين، وألقى بأسهم بينهم وأفشا فيهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق؛ فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقوعه. فأما فتنة الشبهات فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة، على اختلاف الروايات في عدد الزيادة على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه - صلى الله عليه وسلم -. وأما فتنة الشهوات ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس

والروم، أي قوم أنتم؟» قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله، قال: «أو غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون». وفي صحيح البخاري عن عمرو بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسونها، فتهلككم كما أهلكتهم». وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضا. ولما فُتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بكى، فقال: إن هذا لم يُفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم. أو كما قال. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في مسند الإمام أحمد عن أبي برزة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومُضلّات الفتن»، وفي رواية: «ومضلّات الهوى» فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمّت غالب الخلق ففُتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون ولها يغضبون، ولها يوالون وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك. وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعا، وكفّر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداء وفرقا وأحزابا بعد أن كانوا إخوانا، قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق كلها إلا

الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»، وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في الأحاديث؛ الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرُّون بدينهم من الفتن، وهم النّزّاع من القبائل؛ لأنهم قلُّوا فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد كما كان الداخلون في الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث، قال الأوزاعي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ»: أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد. ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرا مدح السنة، ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول لأصحابه: يا أهل السنة، ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس. وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها. ورُوي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرّف بالسنة فعرفها غريبا، وأغرب منه من يعرفها. وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء. ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن عياض

يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال، وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، ثم صار في عُرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم، السنة عبارة عن ما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة. وإنما خصُّوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة. وأما السُنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وصف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات في تفسير الغرباء: «قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»، وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم، ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم؛ لأنهم لا يجدون أعوانا في الخير، وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس. والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.

وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنه قال لرجل من أصحابه: يوشك إن طالت بك الحياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - فأعاده وأبداه، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، ونزل عند منازله، لا يجوز فيكم إلا كما يجوز الحمار الميت، ومثله قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأَمَة، وإنما ذُلّ المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لما هم عليه. انتهى المقصود من كلام ابن رجب رحمه الله تعالى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} الآية [هود: 116]: الغرباء في هذا العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في هذه الآية وهم الذين أشار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس»، وفي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» قيل: مَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»، فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء، وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين تميزوا بها عن أهل الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين لهم أشد غربة، ولكن هؤلاء هم أهل

أنواع الغربة

الله حقا فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين، قال الله تعالى فيهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، فأولئك هم الغرباء عن الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم. فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق؛ وهي الغربة التي مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا، وأنه سيعود غريبا، وأن أهلها يصيرون غرباء. وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال، ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا طريق ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالإتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، فلِغُربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنهم النزاع من القبائل، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأهل الأرض على أديان مختلفة فهم بين عبّاد أوثان، وعبّاد نيران، وعبّاد صلبان، ويهود، وصابئة، وفلاسفة، فكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، فكان من أسلم منهم واستجاب لله ورسوله

غريبا في حيّه، وقبيلته، وقريته، وأهله، وعشيرته، وكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل آحادا منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا، ثم أخذ في الاغتراب حتى عاد غريبا كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء بين الناس، وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورياسات ومناصب وولايات لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم، فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شيخهم وأعجبوا منه برأيه؟! انتهى كلامه رحمه الله تعالى. ومراده بشيخ أهل الأهواء إبليس لعنه الله، ورأيه الذي أعجب به أتباعه هو المعارضة بين العقل والنقل وتقديم العقل على النقل عند التعارض، قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد كان السلف قديما يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم. ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي -وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني- قال: إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام

غريبا كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا يحب التعظيم والرياسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته مخدوعا، صريع عدوّه إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها! وسائر ذلك من الهمج، همج عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار؛ هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة. خرَّجه أبو نعيم في الحلية، فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله. انتهى. قلت: وقد روى البخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده وفي كتاب الزهد بأسانيد صحيحه عن أم الدرداء قالت: دخل عليّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا أنهم يصلون جميعا. ورواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث" بإسناده إلى أم الدرداء فذكره، قال: وفي لفظ: لو أن رجلا تعلم الإسلام وأهمه، ثم تفقده ما عرف منه شيئا. وروى أيضا بإسناده عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: لو خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة. قال الأوزاعي رحمه الله: فكيف لو كان اليوم؟! قال عيسى -يعني الراوي عن الأوزاعي-: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟!

وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله، لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهُرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه فقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه! وروى الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما أعرف شيئا مما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قيل: الصلاة، قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها؟! وفي صحيح البخاري أيضا عن الزهري قال: دخلتُ على أنس بن مالك - رضي الله عنه - بدمشق وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت. وروى الحافظ محمد بن وضاح بإسناده عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما أعرف منكم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ليس قولكم لا إله إلا الله. وروى ابن سعد في الطبقات عن ثابت البُناني قال: كنا مع أنس بن مالك - رضي الله عنه - فأخَّر الحجَّاج الصلاة، فقام أنس يريد أن يكلمه، فنهاه إخوانه شفقة عليه منه، فخرج فركب دابته فقال في مسيره ذلك: والله ما أعرف شيئا مما كنا عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا شهادة أن لا إله إلا الله، فقال رجل: فالصلاة يا أبا حمزة؟ قال: قد جعلتم الظهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وروى محمد بن وضاح بإسناده عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض الأودية

لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئا مما كانا عليه. وقال مالك: بلغني أن أبا هريرة - رضي الله عنه - تلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] فقال: والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا. وقد رواه الحاكم عنه مرفوعا كما سيأتي في آخر الفصل الذي بعد هذا. وروى مالك أيضا عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء للصلاة. يعني بالناس: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرة أنه قال: أدركت سبعين رجلا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئا مما أنتم عليه اليوم إلا الأذان. وروى محمد بن وضاح بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة. وقال المبارك بن فضالة: صلى الحسن الجمعة وجلس يبكي فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومنّني على البكاء، ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنتم عليه إلا قبلتكم هذه.

وروى الإمام أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن أنه قال: ذهبت المعارف وبقيت المناكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم. وروى محمد بن وضاح بإسناده عن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلا نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة. قال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: وقوله: والله ما أعرف من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا أنهم يصلون جميعا؛ مراد أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن أعمال المذكورين يحصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي؛ لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما، وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره، وكان ذلك في أواخر خلاقة عثمان - رضي الله عنه -، فياليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء! فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان. انتهى. قلت: وما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، وما زال النقص والتغيير في أمور الدين في ازدياد وكثرة كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: «لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة: اعلموا -رحمكم الله- أن الإسلام في إدبار وانتقاص واضمحلال ودروس، جاء الحديث: «ترذلون في كل يوم وقد أسرع بخياركم». وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خير

أمتي الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والآخر شر إلى يوم القيامة». وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه: «أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم، وأبناء أبنائكم خير من أبنائهم، والآخر شر إلى يوم القيامة». انتهى. فكلما طال الأمد وبَعُد العهد بآثار النبوة زاد الشر، وكثر النقص والتغيير في أمور الدين كما دلت على ذلك الأحاديث وشهد به الواقع، فياليت شعري ماذا يقول أبو الدرداء، وأنس، وعبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، ومالك بن أبي عامر، ومعاوية بن قرة، والحسن البصري، وميمون بن مهران، وأحمد بن عاصم لو رأوا ما وقع بعدهم من الحوادث الكثيرة، والفتن التي يُرقِّق بعضها بعضا؟! وماذا يقول ابن القيم، وابن رجب لو رأيا غربة الإسلام الحقيقي وأهله في أواخر القرن الرابع عشر كيف اشتدت واستحكمت؟! وماذا يقولون كلهم لو رأوا هذه الأزمان التي لم يبق فيها من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه؟! قد رفعت فيها رايات الكفر والنفاق، وبلغت روح العلم والإيمان إلى التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، ونزل فيها الجهل وظهر وثبت، وبث في مشارق الأرض ومغاربها كل البثّ، ونثّ بين الناس كلهم غاية النثّ، وهُجرت فيها السنة النبوية والطريقة السلفية، وهان أهلها على الناس، وتُرك فيها الجهاد في سبيل الله عز وجل، وضعف فيها جانب الأمر بالمعروف حتى أشفى على العدم، وفشت فيها المنكرات وظهرت ولم

تغير، ومرجت فيها عهود الأكثرين وخفت أماناتهم، وكثر اختلافهم وخوضهم فيما لا يعنيهم، وكانوا حثالة وغثاء كغثاء السيل، قد قلّ فيهم الفقهاء العاملون، وكثر فيهم الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، وكثر فيهم الخطباء المتفصحون المتنطعون المتقعرون، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون كتاب الله أفلا يعقلون، وكثر فيهم الذين يختلون الدنيا بالدين، ويلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب، وكثر فيهم إخوان العلانية أعداء السريرة، وكثر فيهم الذين يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها، بضاعتهم التملق بالكذب والتمادح بالباطل، إن أُعطي أحدهم قليلا من حطام الدنيا رضي وغلا في المدح وجاوز الحد في الإطراء، وإن لم يُعط سخط وأفرط في الذم وانتهاك الأعراض المحرمة بغيا وعدوانا. وماذا يقولون لو رأوا أكثر المنتسبين إلى الإسلام يعظِّمون الكفار والمنافقين، ويتسابقون إلى تقليد أعداء الله في أقوالهم وأفعالهم، ويتنافسون في مشابهتهم والحذو على مثالهم؟ قد أعجبوا بزخارفهم الباطلة وآرائهم الفاسدة، وقوانينهم وسياساتهم الجائرة الخاطئة الفاجرة، وافتتنوا بمدنيتهم الزائفة الزائغة، وما تدعو إليه من الترف واتباع الشهوات، والأشر والبطر واللهو واللعب والغفلة عن الله والدار الآخرة، بل ما تدعو إليه من الإباحية والانحلال من دين الإسلام بالكلية، والبعد عن الفضائل ومكارم الأخلاق، والتحلي بالرذائل وسفساف الأخلاق،

وشغفوا أيضا بالصحف والمجلات، وأخبار الإذاعات، وما ينشر في الجميع من الخرافات والهذيانات والخزعبلات وأنواع المحرمات، حتى دخل على كثير منهم من الشكوك والأوهام والشبهات ما أضلهم عن الهدى، وأوقعهم في مهامه الغي والردى، فتهاونوا بكثير من المأمورات، وارتكبوا كثيرا من المحظورات، وبسبب هذه الأفعال الذميمة انتقضت عرى كثيرة من عرى الإسلام، واشتدت غربة الإيمان والسنة بين الأنام، حتى عاد عند الأكثرين المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على ذلك صغيرهم وهرم عليه كبيرهم، فيالها من مصيبة على الإسلام وأهله ما أعظمها وأنكاها، ويالها من فتن مظلمة أوهت قواعد الشريعة وهدمت بناها .. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وماذا يقولون لو رأوا الطامة الكبرى؟! وهي عبادة الأوثان في أكثر الممالك الإسلامية، حتى أعاد أهلها بذلك أمر الجاهلية الذين بُعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كانوا شرا منهم كما لا يخفى على عاقل عرف حال أهل الجاهلية الأولى وعرف ما عليه المشركون في هذه الأزمان، وسنذكر الفرق بينهم فيما بعد إن شاء الله تعالى. ونذكر أيضا ما وقع فيه أكثر المسلمين من المخالفات التي أوهت الإسلام وثلمته وهدمته، فإلى الله المشتكى، وبه المستغاث، وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وقد قال الشيخ سليمان بن سحمان وأحسن فيما قال رحمه الله تعالى: على الدين فليبكي ذوو العلم والهدى ... فقد طُمست أعلامه في العوالم وقد صار إقبالُ الورى واحتيالهم ... على هذه الدنيا وجمع الدراهم وإصلاح دنياهم بإفساد دينهم ... وتحصيل ملذوذاتهم والمطاعم يعادون فيها بل يوالون أهلها ... سواء لديهم ذو التقى والجرائم إذا انتقص الإنسان منها بما عسى ... يكون له ذخرا أتى بالعظائم وأبدى أعاجيبا من الحزن والأسى ... على قلة الأنصار من كل حازم وناح عليها آسفا متظلما ... وباح بما في صدره غير كاتم فأما على الدين الحنيفي والهدى ... وملة إبراهيم ذات الدعائم فليس عليها والذي فلق النوى ... من الناس من باك وآس ونادم وقد درست منها المعالم بل عفت ... ولم يبق إلا الاسم بين العوالم فلا آمر بالعرف يعرف بيننا ... ولا زاجر عن معضلات الجرائم وملة إبراهيم غودر نهجها ... عفاء فأضحت طامسات المعالم وقد عدمت فينا وكيف وقد سفتْ ... عليها السوافي في جميع الأقالم وما الدين إلا الحب والبغض والولا ... كذاك البرا من كل غاو وآثم وليس لها من سالك متمسك ... بدين النبي الأبطحي ابن هاشم فلسنا نرى ما حلَّ بالدين وانمحت ... به الملة السمحاء إحدى القواصم فنأسى على التقصير منا ونلتجي ... إلى الله في محو الذنوب العظائم

فنشكو إلى الله القلوب التي قست ... وران عليها كسب تلك المآثم ألسنا إذا ما جاءنا متضمخ ... بأوضار [أهل] (¬1) الشرك من كل ظالم نَهشُّ إليهم بالتحية والثنا ... ونهرع في إكرامهم بالولائم وقد برئ المعصوم من كل مسلم ... يقيم بدار الكفر غير مصارم ولا مظهر للدين بين ذوي الردى ... فهل كان منا هجر أهل الجرائم ولكنما العقل المعيشي عندنا ... مُسَالمة العاصين من كل آثم فيا محنة الإسلام من كل جاهل ... ويا قلة الأنصار من كل عالم وهذا أوان الصبر إن كنت حازما ... على الدين فاصبر صبر أهل العزائم فمن يتمسك بالحنيفية التي ... أتتنا عن المعصوم صفوة آدم له أجر خمسين امرئ من ذوي الهدى ... من الصحب أصحاب النبي الأكارم فنُح وابكِ واستنصر بربك راغبا ... إليه فإن الله أرحم راحم لينصر هذا الدين من بعد ما عفت ... معالمه في الأرض بين العوالم أقول: رحمة الله علينا وعلى الشيخ سليمان، كيف لو رأى ما حدث بعده من العظائم التي كان يخشى وقوعها في قوله: وإني لأخشى أن تجيء عواضل ... وليس لها من منكر حين تفتعل فقد وقع الأمر كما قال رحمه الله تعالى، وجاءت عواضل كثيرة فلم ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والتصحيح من ديوان الشيخ المسمى (عقود الجواهر المنضدة الحسان شعر سليمان بن سحمان) ص459.

تنكر، ثم زاد الأمر حتى أُنكِر على من يُنكِر المنكر، وقُمع بعضهم وقُهر واضُطهد، وظهر مصداق ما جاء في حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - الذي رواه الطبراني وغيره مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا وقُهرا واضطهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا وأنصارا». وللشيخ يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي نظم حسن يصف فيه غربة الإسلام في زمانه، وهو يليق بأواخر القرن الرابع عشر أكثر مما يليق بالقرن السابع، قال رحمه الله تعالى: نُح وابكِ فالمعروف أقفر رسمه ... والمنكر استعلى وأثر وسمه لم يبق إلا بدعة فتّانة ... بهوى مضل مستطير سُمّه وطعام سوء من مكاسب مُرَّة ... يُعمي الفؤاد بدائه ويُصمه ففشا الرياء وغيبة ونميمة ... وقساوة منه وأثمر إثمه لم يبق زرع أو مبيع أو شرا ... إلا أُزيل عن الشريعة حكمه فلكيف يفلح عابد وعظامه ... نشأت على السحت الحرام ولحمه هذا الذي وعد النبي المصطفى ... بظهوره وعدا توثق حتمه هذا لعَمْرُ إلهك الزمن الذي ... تزداد شرته وينقص حلمه وَهَت الأمانة فيه وانقصمت عرى الـ ... ـتقوى به والبر أدبر نجمه كثر الريا وفشا الزنا ونما الخنا ... ورمى الهوى فيه فأقصد سهمه

ذهب النصيح لربه ونبيه ... وإمامه نصحا تحقق عزمه لم يبق إلا عالم هو مُرتشٍّ ... أو حاكم يغشى الرعية ظلمة والصالحون على الذهاب تتابعوا ... فكأنهم عقد تناثر نظمه لم يبق إلا راغب هو مُظهر ... للزهد والدنيا الدنية همه لولا بقايا سُنَّة ورجالها ... لم يبق نهج واضح نأتمّه يا مقبلا في جمع دنيا أدبرتْ ... كبناءٍ استولى عليه هدمه هذي أمارات القيامة قد بدت ... لمُبَصَّر سَبَرَ العواقبَ فهمه ظهرت طغاة الترك واجتاحوا الورى ... وأبادهم هرج شديد حطمه والشمس آن طلوعها من غربها ... وخروج دجال فظيع غشمه وآن ليأجوج الخروج عقيبه ... من خلف سد سوف يفتح ردمه فاعمل ليوم لا مردَّ لوقعه ... يُقصي الوليدَ به أبوه وأمه

فصل: فيما سيقع عند اشتداد غربة الإسلام

فصل وقد وردت أحاديث كثيرة وآثار بما سيقع في آخر الزمان عند اشتداد غربة الإسلام والسنة؛ من تغيُّر الأحوال وظهور النقص في أمور الدين، وكثرة الشر والفساد. وقد ظهر مصداق أكثرها من أزمان متطاولة، وما زال الشر يزداد على ممر الأوقات أو كاد أن يتكامل ظهور الجميع في هذه الأزمان كما لا يخفى على من له أدنى علم وفهم للأحاديث ومعرفة بالواقع. ونذكر من ذلك ما يسره الله تعالى من صحيح وحسن وضعيف مما هو مطابق للواقع، وكفى بالواقع برهانا على صحة الضعيف منها، وشاهدا بخروجه من مشكاة النبوة. الحديث الأول: عن مرادس الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالةً» رواه الإمام أحمد والبخاري. وفي رواية له موقوفة: «لا يعبأ الله بهم شيئا»، وقال -رحمه الله تعالى-: يقال: حفالة وحثالة، يعني أنهما بمعنى واحد. قال الخطابي رحمه الله تعالى: الحثالة بالفاء وبالمثلثة الرديء من كل شيء، وقيل: آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأردأه. وقال ابن التين: الحثالة سقط الناس، وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما.

وقال الداودي: ما يسقط من الشعير عند الغربلة، ويبقى من التمر بعد الأكل. وقال أبو السعادات ابن الأثير: «وتبقى حفالة كحفالة التمر» أي: رذالة من الناس كرديء التمر ونفايته. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في "فتح الباري": وجدت لهذا الحديث شاهداً من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ: «تذهبون الخير فالخير حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز» أخرجه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر، وليس فيه تصريح برفعه لكن له حكم المرفوع. انتهى. وقوله: «لا يباليهم الله بالة» أي: لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا. قاله الخطابي وأبو موسى المديني؛ قال الخطابي: يقال: باليت بفلان وما باليت به مبالاة وبالية وبالة، وقال أبو موسى: أصل بالة بالية، مثل عافاه الله عافية، فحذفوا الياء منها تخفيفا، يقال: ما باليته وما باليت به أي: لم أكترث به. انتهى. وهذا هو معنى قوله في الرواية الأخرى: «لا يعبأ الله بهم شيئا». الحديث الثاني: عن رويفع بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا مثل هذا، وأشار إلى حشف التمر» رواه البخاري في التاريخ، والطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الثالث: ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة معلقا فقال: جاء الحديث: «ترذلون في كل يوم وقد أسرع بخياركم» ورواه البخاري في كتاب الأدب المفرد موصولا عن الحسن من قوله. الحديث الرابع: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «الصالحون أسلافا، ويبقى أهل الريب ممن لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا» رواه أبو نعيم وغيره وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي. الحديث الخامس: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتنتقنّ كما ينتقى التمر من الجفنة، فليذهبن خياركم وليبقين شراركم، حتى لا يبقى إلا من لا يعبأ الله بهم، فموتوا إن استطعتم» رواه البخاري في الكُنى، وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه وهذا لفظه. الحديث السادس: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كيف بكم وبزمان -أو يوشك أن يأتي زمان- يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا –وشبك بين أصابعه» فقالوا: كيف بنا يا رسول الله؟ قال: «تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم» رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي، وصححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عنه - رضي الله عنه - قال: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ذكر الفتنة فقال: «إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم وكانوا هكذا -وشبك أصابعه» قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟ قال: «الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. قوله: «يغربل الناس فيه غربلة»، قال أبو عبيد الهروي: أي يذهب خيارهم ويبقى أراذلهم، والمغربل: المنتقى، كأنه نُقِّي بالغربال. وقال سعيد بن منصور: حثالة الناس: رداءتهم، قال: ومعنى قوله: «قد مرجت عهودهم»: إذا لم يفوا بها. وقال الطيبي: «مرجت عهودهم»: اختلطت وفسدت، وشبك بين أي أصابعه أي يمرج بعضهم ببعض، ويتلبس أمر دينهم فلا يعرف الأمين من الخائن، ولا البر من الفاجر. وقوله: «وتقبلون على خاصتكم»: رخصة في ترك الأمر بالمعروف إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. انتهى. وفي هذا الأخير نظر سيأتي بيانه في ذكر الأمر بالمعروف إن شاء الله تعالى. الحديث السابع (¬1): عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك ¬

_ (¬1) علق الوالد رحمه الله هنا بقوله: في ص359ج2 من المسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه فليراجع.

الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن» فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» رواه الإمام أحمد، وأبو داود وهذا لفظه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في دلائل النبوة. وفي رواية أحمد وأبي نعيم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق» والباقي نحوه. والغثاء: الزبد وما ارتفع على الماء مما لا ينتفع به، قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، ونقله عنه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وقال الراغب الأصفهاني: يضرب به المثل فيما يضيع ويذهب غير معتد به. انتهى. الحديث الثامن: عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر مَن تحت أديم السماء، مِن عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود» رواه البيهقي في شعب الإيمان، وذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة مختصرا بدون إسناد فقال: وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه». الحديث التاسع: عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون في آخر الزمان عباد جهال وقراء فسقة» رواه أبو نعيم في الحلية، والحاكم في

المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان. الحديث العاشر: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله: أبي تغترون أم عليّ تجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا» رواه الترمذي. قوله: «يختلون الدنيا بالدين» يعني أنهم يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة، والختل: الخداع، يقال: ختله يختله إذا خدعه وراوغه، وهذا يطابق حال الذين اتخذوا قراءة القرآن وتعلم العلم وتعليمه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأذان والإمامة وغير ذلك من الأمور الدينية طرقا للتكسب وجمع الأموال، وهو بالقُرَّاء الفسقة أخص لما يأتي في حديثي معاذ وحذيفة -رضي الله عنهما- من التصريح بذلك، والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، والبغوي في تفسيره عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بشر هذه الأمة بالسناء، والدين، والرفعة، والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب». وقوله: «يلبسون للناس جلود الضأن من اللين» كناية عن تملقهم للناس وتحسين الخُلُق في وجوههم وإظهار البشاشة لهم واللين معهم، وكل ذلك منافقة باللسان وتكلف وتصنع في الظاهر، وأما في الباطن فهم

بخلاف ذلك؛ ولهذا وصف ألسنتهم بغاية الحلاوة فقال في هذا الحديث «ألسنتهم أحلى من السكر»، وقال في حديث ابن عمر: «ألسنتهم أحلى من العسل»، وشبّه قلوبهم بقلوب الذئاب لما انطوت عليه من مزيد الخبث والغدر والفجور، ووصفها بغاية المرارة والنتن، فقال في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: «وقلوبهم أمر من الصبر»، وقال في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «وقلوبهم أنتن من الجيف»، ومثل ذلك ما في الحديث الطويل عن حذيفة - رضي الله عنه -، ووصفهم في الحديث الآخر عن معاذ بأنهم إخوان العلانية أعداء السريرة، ونحو ذلك في حديث سلمان - رضي الله عنه -، وما أكثر هذا الضرب الرديء في هذه الأزمان، فالله المستعان. وقوله: «فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا» قال النووي: قال أهل اللغة: أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار، قال القاضي: ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء، قال أبو زيد: فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من حال حسنة إلى سيئة. انتهى، قال الحافظ ابن حجر: وتطلق الفتنة على الكفر والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والتحول من الحسن إلى القبيح والميل إلى الشيء والإعجاب، وتكون في الخير والشر كقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. انتهى. والمراد بما في هذا الحديث: الفتنة في الشر؛ لقوله: «تدع الحليم

منهم حيرانا»، والله أعلم. وقوله في هذا الحديث: «فتنة ظلماء» كناية عن عظمها وتحير من وقع فيها وبعده من السلامة، وقد روى مسلم في صحيحه عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كنا عند عمر - رضي الله عنه - فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تُكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت؟ لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه». قوله: «تعرض الفتن على القلوب» قال النووي: قال الأستاذ أبو عبد الله ابن سليمان معناه: تظهر على القلوب، أي تظهر لها فتنة بعد أخرى. قوله: «كالحصير» أي كما ينسج الحصير عودا عودا وشظية بعد أخرى، شبَّه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد، ومعنى «أشربها» دخلت فيه دخولا تاما وألزمها، وحلت منه محل الشراب، ومعنى «نكت نكتة» نقط

نقطة. انتهى مُلخصا. وقوله: «مثل الصفا» كناية عن صلابته في الدين، وأن الفتن لا تؤثر فيه، ولهذا قال: «فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض»، و «الأسود المرباد» هو ما خالط سوداه غيره؛ قال النووي: قال أبو عبيد عن أبي عمرو وغيره: الربدة لون بين السواد والغبرة، وقال ابن دريد: الربدة لون أكدر، وقال غيره: هي أن يختلط السواد بكدرة، وقال نفطويه: المربد: الملمع بسواد وبياض، ومنه تربّد لونه أي تلون، والله أعلم. وقوله: «كالكوز مُجَخِّيا» قال سعد بن طارق -أحد رواة هذا الحديث-: يعني منكوسا، وقال أبو عبيد الهروي: المجخي المائل عن الاستقامة والاعتدال. فشبَّه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز المائل الذي لا يثبت فيه شيء. قال النووي: قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك. انتهى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها وهي فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات؛ فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد. انتهى. إذا علم هذا، فكثير من القرّاء والمنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين

وكُتَّاب في زماننا قد تهوّكوا في كثير من فتن الشبهات وفتن الشهوات واتبعوا في ذلك أهواءهم بغير روية ولا مبالاة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، فكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة الكفر الأكبر والشرك الأكبر ووسائله وما يدعو إليه ويقرب منه، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة النفاق الأكبر والزندقة والإلحاد، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتن الشرح الأصغر والكفر الأصغر والنفاق الأصغر، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتن البدع والأهواء المضلة، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة الفسوق والعصيان من ترك المأمورات وارتكاب المحظورات، فمن ذلك تهوّكهم في التشبه بأعداء الله تعالى واتباع سنتهم حذو القذة بالقذة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم». فكثير منهم يتشبهون بالنصارى والمجوس والمشركين في حلق اللحى والتمثيل بشعر الوجه، وكثير منهم يتشبهون بالنصارى في حلق جوانب الرأس وتسريح الباقي إلى جهة القفا ويسمونه "التواليت"، وكثير منهم يأمرون نساءهم وبناتهم أن يتشبهن بنساء النصارى في فرق شعورهن من جانب الرأس وفي تسريح شعورهن إلى جهة القفا وجمعها معقوصة خلف الرأس كأنها أسنمة البخت المائلة كما أخبر بذلك عنهن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، ويأمرون نساءهم وبناتهم أن يتشبهن بنساء النصارى في لبس الثياب التي لا تستر إلا بعض أجسادهن كما أخبر بذلك عنهن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- بقوله: «كاسيات عاريات» ويكون في أوساط بعض تلك ثياب تكة تشبه الزنار، ويأمرونهن أيضا بجعل

جيوبهن من ناحية القفا تشبها بأعداء الله تعالى وخلافا للمسلمين. وكثير منهم يأمرون نساءهم وبناتهم بالسفور عند الرجال الأجانب مشابهة للإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال، ولا يغارون من خلوة الرجال الأجانب بهن ولا بغيرهن من محارمهم، وكثير منهم يتشبهون باليهود والنصارى في الإشارة بالكف والأصابع ورفع اليد إلى جانب الوجه عند التسليم، وكثير منهم يتشبهون بمشركي قريس وبطوائف الإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال في التصفيق في الأندية والمجامع عند التعجب واستحسان المقالات، وكثير منهم قد اعتاضوا عن أحكام الشرع بقوانين أعداء الله وأنظمتهم وسياساتهم الخاطئة وآرائهم الفاسدة. ومن ذلك تهوّكهم في تعظيم أعداء الله بالقيام لهم وبداءتهم بالسلام وتصديرهم في المجالس وتقديمهم على المسلمين في الدخول ومناولة ما يؤكل ويشرب والتبسط لهم، وتصديقهم في كثير من مزاعمهم الباطلة المخالفة لما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد - رضي الله عنه -، وقد غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى مع بعض أصحابه صحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب وقال: «أمتهوّكون فيها؟»، فكيف لو رأى ما آل إليه الأمر في زماننا من انتشار مقالات أعداء الله وآرائهم وتخرصاتهم بين المسلمين، وقبول كثير منهم لها، وتنافسهم في تعلمها وتعليمها أكثر مما يعتني بالعلوم الشرعية، فالله المستعان. ومن ذلك تهوكهم في شرب الدخان الخبيث المسمى بالتتن، ويسمى أيضا التنباك والتبغ، ومن ذلك تهوكهم في استماع الغناء والمزامير وأنواع

المعازف والملاهي وأصوات النساء الأجنبيات ونغمات البغايا ... (¬1)، وتهوكهم في اتخاذ آلات ذلك كالراديو والصندوق المسمى الفونوغراف وغير ذلك من آلات اللهو والطرب التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتمكين نسائهم وبناتهم وغيرهن من محارمهم من الحضور عند الراديو وغيره من آلات اللهو، واستماعهن إلى أنواع المحرمات التي تُشوِّقهن إلى فعل الفواحش وأنواع المحرمات (¬2). ومن ذلك تهوكهم في الحضور عند السينما التي هي من أنواع السحر ومن أخبث الملاهي التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. ومن ذلك تهوكهم في اتخاذ الساعات التي فيها الموسيقى المطربة، ومثل ذلك اتخاذ السيارات التي فيها الراديو والموسيقى المطربة. ومن ذلك تهوكهم في اللعب بالأوراق المسماة بالجنجفة، والمقامرة ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها: المتهتكات. (¬2) كلامه -رحمه الله- عن الراديو وعدّه من المحرمات إنما هو من باب التحريم بالوصف؛ لما استقر عليه الحال وقت تصنيف الكتاب -وهو السبعينات بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة- حيث اتصفت عامة الإذاعات في تلك الفترة بنشر الباطل من الأغاني المحرمة، والدعايات المضللة لملل الكفر ومذاهبه، وانحصر الخير فيها في أوقات ضيقة قد تقتصر على الافتتاح ونحو ذلك، والحكم للأعم الأغلب. ومما يؤكد هذا أنه -رحمه الله- بعد ظهور الإذاعات المتصفة بسلامة المنهج والمشتملة على الدعوة إلى الخير والفضيلة وما ينفع الناس في دينهم ودنياهم -كإذاعة القرآن الكريم- كان يحض على سماعها، والاستفادة من البرامج المنقولة عبرها، بل ويستمع إليها أحيانا، ولو كان يرى حرمة العين لما فعل ذلك.

على اللعب بها وذلك من الميسر المحرم، ومثل ذلك اللعب بالكيرم ونحوه وأخذ العوض على الغلبة فيه. ومن ذلك تهوكهم في اللعب بالكرة وهو من الأشر المذموم، وأخذ العوض على الغلبة فيه من الميسر المحرم. ومن ذلك تهوكهم في تصوير الحيوانات واقتناء الصور واشتراء الصحف والكتب المشحونة بالتصاوير، ووضع صور الملوك والأكابر في المجالس. ومن ذلك تهوكهم في قراءة الجرائد والمجلات والكتب العصرية وصرف هممهم إلى مطالعتها وإعراضهم عن تدبر كتاب الله تعالى وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والنظر في علوم الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. ومن ذلك تهوكهم في بعض الأمصار مع النساء الأجنبيات في معاشرتهن والخلوة بهن وبالمردان، وذلك من أعظم الوسائل إلى ارتكاب الفاحشة كما في الحديث: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»، والأمرد مثل المرأة في ذلك أو أعظم، إلى غير ذلك من الفتن التي قد تهوّك فيها كثير منهم، وبعضهم متهوكون في جميع هذه الأفعال السيئة وبعضهم في كثير منها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وتهوكهم هذا -والله أعلم- مقدمة بين يدي الفتنة الظلماء التي أشار إليها في حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ومعاذ وأنس - رضي الله عنهم -، فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي

العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الحديث الحادي عشر: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تبارك وتعالى قال: لقد خلقت خلقا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر، فبي حلفت لأتيحنّهم فتنةً تدع الحليم منهم حيراناً، فبي يغترّون أم عليّ يجترئون؟» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عمر لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد جاء ذكر هذا الضرب الرديء في الكتب المتقدمة كما قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن القرظي عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل؛ «قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: فعليّ يجترئون، وبي يغترون؟ حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيرانا»، قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الآية [البقرة: 204]. ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق أحمد بن سعيد عن عبد الله بن وهب به مثله. قال ابن جرير: وحدثني محمد بن أبي معشر أخبرني أبو معشر نجيح قال:

سمعت سعيد المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد: إن في بعض الكُتُب «إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مُسُك الضأن من اللين، يجترئون الدنيا بالدين، قال الله تعالى: عليّ تجترئون! وبي تغترون! وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيرانا»، فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله، فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد. الحديث الثاني عشر: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا: غيّرت السنة؟» قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقِّه لغير الدين» رواه عبد الرزاق والدارمي والحاكم في مستدركه، ورمز الذهبي في تخليص المستدرك إلى أنه على شرط البخاري ومسلم. وهذا الأثر له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي. وقد رواه أبو نعيم في الحلية مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والمشهور من قول عبد الله موقوف. الحديث الثالث عشر: عن علي - رضي الله عنه - أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر - رضي الله عنه -: متى ذلك يا علي؟ قال: «إذا تفقه لغير الدين، وتعلم

العلم لغير العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة» رواه عبد الرزاق. الحديث الرابع عشر: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة، ووزراء فسقة، وقضاة خونة، وفقهاء كذبة، فمن أدرك منكم ذلك الزمان فلا يكونن لهم جابيا ولا عريفا ولا شرطيا» رواه الطبراني. الحديث الخامس عشر: عن مكحول عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي أمراء كذبة، ووزراء فجرة، وعرفاء ظلمة، وقُرَّاء فسقة، أهواؤهم مختلفة، ليست لهم زِعَة، يلبسون ثياب الرهبان وقلوبهم أنتن من الجيف، فيلبسهم الله فتنة ظلماء يتهوكون فيها تهوك اليهود» ذكره أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب "الورع". ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" من حديث علي المرادي عن معاذ - رضي الله عنه - مختصرا، قال: «يكون في آخر الزمان قُرَّاء فسقة، ووزراء فجرة، وأمناء خونة، وعرفاء ظلمة، وأمراء كذبة» وهكذا رواه البخاري في "التاريخ الكبير" إلا أنه قال عن عيسى المرادي، والله أعلم، وهذا الأثر له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال إلا عن توقيف. وقوله فيه: «ليست لهم زعة» أي ليس لهم وازع من خوف الله تعالى يكفهم ويمنعهم عن الفسوق والعصيان ومخالفة أوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث السادس عشر: ما رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي الجلد جيلان بن فروة عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: «لا تذهب الأيام والليالي حتى يَخْلَق القرآن في صدور أقوام من هذه الأمة كما تَخْلَق الثياب، ويكون ما سواه أعجب إليهم، ويكون أمرهم طمعا كله لا يخالطه خوف، إن قصَّر عن حق الله منَّتْه نفسه الأماني، وإن تجاوز إلى ما نهى الله عنه قال: أرجو أن يتجاوز الله عني، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في أنفسهم المداهن» قيل: ومن المداهن؟ قال: «الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر». الحديث السابع عشر: عن أبي العالية رحمه الله تعالى قال: «يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن ولا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصَّروا عما أمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا بما نهوا عنه قالوا: سيغفر لنا، إنا لم نشرك بالله شيئا، أمرهم كله طمع ليس معه صدق، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في دينه المداهن» رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد". وهذا الأثر كالذي قبله يحمل على أنه بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الإخبار عن المغيبات لا دخل للرأي فيه، وإنما يتلقى عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. الحديث الثامن عشر: عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها» رواه الإمام أحمد وأشار إليه الترمذي في جامعه. الحديث التاسع عشر: عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

«يكون في آخر الزمان أقوام إخوان العلانية أعداء السريرة» فقيل: يا رسول الله، وكيف يكون ذلك؟ قال: «ذلك برغبة بعضهم إلى بعض ورهبة بعضهم من بعض» رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية. وروى أبو نعيم أيضا أن أبا عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- كتبا إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتابا فذكره، وفيه: وإنا كنا نُحدَّث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة، فكتب إليهما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جواب كتابهما وفيه: كتبتما تحذراني أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة ولستم بأولئك، وليس هذا بزمان ذاك، وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة الناس بعضهم إلى بعض لصلاح دنياهم. الحديث العشرون: عن سلمان الفارسي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ظهر العلم -وفي رواية: القول- وخزن العمل، وائتلفت الألسن، واختلفت القلوب، وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم» رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد موقوفا، ورواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي مراسيل الحسن: «إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام؛ لعنهم الله عز وجل عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم».

الحديث الحادي والعشرون: عن عمرو بن قيس الكندي قال: كنت مع أبي الفوارس وأنا غلام شاب فرأيت الناس مجتمعين على رجل، قلت: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فسمعته يُحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من اقتراب الساعة أن ترفع الأشرار، وتوضع الأخيار، ويفتح القول، ويخزن العمل، ويقرأ بالقوم المثناة ليس فيهم أحد ينكرها» قيل: وما المثناة؟ قال: «ما اكتتبت سوى كتاب الله عز وجل» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعن عمرو بن قيس السكوني قال: خرجت مع أبي في الوفد إلى معاوية فسمعت رجلا يحدّث الناس يقول: «إن من أشراط الساعة أن ترفع الأشرار، وتوضع الأخيار، وأن يخزن الفعل والعمل، ويظهر القول، وأن يقرأ بالمثناة في القوم ليس فيهم من يغيرها أو ينكرها» فقيل: وما المثناة؟ قال: «ما اكتتبت سوى كتاب الله عز وجل» قال: فحدثت بهذا الحديث قوما وفيهم إسماعيل بن عبيد الله فقال: أنا معك في ذلك المجلس، تدري من الرجل؟ قلت: لا، قال: عبد الله بن عمرو. رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الثاني والعشرون: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان، فهما مقهوران ذليلان إن تكلما قُمعا وقُهرا واضطهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى

لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، وإن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قمعا وقهرا واضطهدا فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا ولا أنصارا» رواه الطبراني. ورواه الحارث بن أبي أسامة وفيه: ثم ذكر: «من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة كلها من عند آخرها حتى لا يبقى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران مقموعان ذليلان، إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا، وقيل لهما: أتطعنان علينا؟! حتى يشرب الخمر في ناديهم ومجالسهم وأسواقهم، وتنحل الخمر غير اسمها حتى يلعنَ آخرُ هذه الأمة أوَّلَها، ألا حلَّت عليهم اللعنة ..» الحديث، وفي آخره: «فمن أدرك ذلك الزمان وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فله أجر خمسين ممن صحبني وآمن بي وصدقني أبدا». الحديث الثالث والعشرون: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يرفعه قال: «سيأتي زمان يذوب فيه قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء» قيل: مم ذلك يا رسول الله؟ قال: «مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره» (¬1). الحديث الرابع والعشرون: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. ¬

_ (¬1) لم يعزه الوالد رحمه الله، وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكر ذلك صاحب كنز العمال (3/ 247)، وأخرجه ابن مردويه كما ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 474)، والديلمي في الفردوس (5/ 440).

الحديث الخامس والعشرون: عن أنس أيضا - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من شاته» رواه ابن عساكر. الحديث السادس والعشرون: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعلام الساعة وأشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أذل من النقد» رواه الطبراني، والنقد: صغار الغنم. الحديث السابع والعشرون: ذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية مرسلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيظهر شرار أمتي على خيارها حتى يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فينا اليوم». الحديث الثامن والعشرون: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «توشك القرى أن تخرب وهي عامرة» قيل: وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: «إذا علا فجّارها أبرارها، وساد القبيلة منافقها» ذكره الإمام أحمد. الحديث التاسع والعشرون: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقول كل عشية خميس لأصحابه: «سيأتي على الناس زمان تمات فيه الصلاة، ويشرف فيه البنيان، ويكثر فيه الحلف والتلاعن، ويفشو فيه الرشا والزنا، وتباع الآخرة بالدنيا، فإذا رأيت ذلك فالنجا النجا» قيل: وكيف النجا؟ قال: «كن حلسا من أحلاس بيتك، وكف لسانك ويديك» رواه ابن أبي الدنيا، وله حكم المرفوع كنظائره. الحديث الثلاثون: عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة: إذا رأيتم الناس أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، وأكلوا الربا، واستحلُّوا الكذب، واستخفُّوا بالدماء،

واستعلوا البناء، وباعوا الدين بالدنيا، وتقطعت الأرحام، ويكون الحكم ضعفا، والكذب صدقا، والحرير لباسا، وظهر الجور، وكثر الطلاق، وموت الفجأة، واُؤتمن الخائن، وخُوِّن الأمين، وصُدِّق الكاذب، وكُذِّب الصادق، وكثر القذف، وكان المطر قيظا، والولد غيظا، وفاض اللئام فيضا، وغاض الكرام غيضا، وكان الأمراء فجرة، والوزراء كذبة، والأمناء خونة، والعرفاء ظلمة، والقُرَّاء فسقة، إذا لبسوا مسوك الضأن قلوبهم أنتن من الجيفة، وأمرّ من الصبر، يغشيهم الله فتنة يتهاوكون فيها تهاوك اليهود الظلمة، وتظهر الصفراء -يعني الدنانير-، وتُطلب البيضاء -يعني الدراهم-، وتكثر الخطباء، ويقل الآمر بالمعروف، وحُلِّيت المصاحف، وصورت المساجد، وطُوِّلت المنابر، وخربت القلوب، وشُربت الخمور، وعُطِّلت الحدود، وولدت الأمة ربتها، وترى الحفاة العراة صاروا ملوكا، وشاركت المرأة زوجها في التجارة، وتشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وحُلف بغير الله، وشهد المرء من غير أن يستشهد، وسلم للمعرفة، وتفقه لغير الدين، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة، واتخذ المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وكان زعيم القوم أرذلهم، وعقّ الرجل أباه، وجفا أمه، وبر صديقه، وأطاع امرأته، وعلت أصوات الفسقة في المساجد، واتخذت القينات والمعازف، وشربت الخمور في الطرق، واتخذ الظلم فخرا، وبيع الحكم، وكثرت الشُرط، واتخذ القرآن مزامير، وجلود السباع صفافا، ولعن آخرُ هذه الأمة أوَّلَها؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا وقذفا وآيات» رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد ضعيف، وله شواهد من

حديث علي وأبي هريرة وغيرهما مما هو مذكور في هذا الفصل. الحديث الحادي والثلاثون: عن علي أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء» قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرِم الرجل مخافة شره، وشُربت الخمور، ولُبس الحرير، واتخذت القيان والمعازف، ولعن آخرُ هذه الأمة أوَّلَها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. الحديث الثاني والثلاثون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلةَ فاسقُهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شرِّه، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخرُ هذه الأمة أوَّلَها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. قوله: «وظهرت الأصوات في المساجد»، وفي الحديث الذي قبله: «وارتفعت الأصوات في المساجد» يعني -والله أعلم-: أصوات الفسقة كما جاء مصرحا به في حديث حذيفة الذي قبله، ولعل من مصداق هذه

الأحاديث ما وقع في زماننا من كثير من المنتسبين إلى العلم، فقد رأينا كثيرا منهم يقومون في المسجد الحرام وفي غيره من المساجد فيتكلمون بملء أفواههم، ويكثرون الهذيان والثرثرة ويرفعون بذلك أصواتهم ليراهم الناس ويَسمعوهم، وكثير منهم يَقُصُّون على الناس ويخطبون ابتداء من عند أنفسهم من غير أن يؤمروا بذلك، وقد سمعنا كثيرا منهم يتكلمون في تفسير القرآن بآرائهم ويحاولون تطبيقه على الآراء والأذواق والأفعال العصرية، ويتكلمون في بعض الأحاديث بنحو ذلك، وقد قال الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، هذا مع ما عليه كثير منهم من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فقد سمعت بعضهم في المسجد الحرام يتوسل في دعائه ببعض المخلوقات، وسمعت كثيرا منهم في غيره يتكلمون بالشرك والبدع والضلالات، وكثير منهم يحلقون لحاهم أو ينتفونها ويشتبهون بأعداء الله، ومخالفون ما أمرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إعفاء اللحى ومخالفة المشركين، وكثير منهم يشربون الدخان الخبيث المسمى بالتتن، وقد ذكر لنا عن بعض هؤلاء المتمعلمين أنه يزعم حِلَّه، وكثير منهم يتخذون آلات اللهو والمعازف ويحضرون عندها، ويستمعون إلى أنواع المحرمات، وربما أضاعوا بعض الصلوات من أجلها، وكثير منهم يشترون المصورات ويقتنونها، وقد ذكر لنا عن بعضهم أنه لا يرى بأسا بالتصوير، عياذا بالله من الجهل. وكثير منهم يتشبه بالنساء في لبس الأساور وفي التصفيق وغيره، إلى غير ذلك من أنواع الفسوق والعصيان التي قد ارتكبها كثير من الخطباء والقُصَّاص

والوعاظ والمذكِّرين في هذه الأزمان، فصلوات الله وسلامه على الرسول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد قال الله تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. وروى الطبراني والضياء المقدسي عن جندب - رضي الله عنه - مرفوعا: «مثل العالم الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه، ومن سمَّع الناس بعلمه سمَّع الله به». وروى الطبراني أيضا والبزار عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - مرفوعا: «مثل الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها». وروى الإمام أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية، عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى عيسى - عليه السلام - أن يا عيسى عِظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحِ منِّي. ومن حِكَم الشعر قول بعضهم: وغير تقيٍّ يأمر الناس بالتُّقى ... طبيب يداوي الناس وَهْوَ سقيم يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام من الضنى ... ومن الضنى تمسي وأنت سقيم لا تَنْه عن خُلُق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يُقبَل ما تقول ويُقتدَى ... بالقول منك ويَنفعُ التعليم

الحديث الثالث والثلاثون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي بعثني بالحق لا تنقضي هذه الدنيا حتى يقع بهم الخسف والمسخ والقذف» قالوا: ومتى ذلك يا نبي الله، بأبي أنت وأمي؟ قال: «إذا رأيت النساء قد ركبن السروج، وكثرت القينات، وشهد شهادات الزور، وشرب المسلمون في آنية أهل الشرك الذهب والفضة، واستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء فاستغفروا واستعدوا» وقال هكذا بيده وستر وجهه. رواه الحاكم في مستدركه. الحديث الرابع والثلاثون: عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين، وسيجيء قوم من بعدي يرجِّعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان. الحديث الخامس والثلاثون: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله تعالى-: حدثنا يزيد عن شريك عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن زاذان أبي عمر عن عليم قال: كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يزيد: لا أعلمه إلا قال عابس الغفاري، فرأى الناس يخرجون في الطاعون، قال: ما هؤلاء؟ قال: يفرون من الطاعون؟ قال: يا طاعون خذني، فقالوا: أتتمنى الموت وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا

يتمنين أحدكم الموت» فقال: إني أبادر خصالا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوفهن على أمته؛ بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وقوم يتخذون القرآن مزامير؛ يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء. وذكر خلتين آخرتين. قال: وحدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن زاذان، عن عابس الغفاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك أو نحوه. وقد رواه البخاري في التاريخ الكبير من حديث ليث، عن عثمان، عن زاذان، سمع عباسا الغفاري قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوفهن على أمته من بعد: «إمارة السفهاء، وبيع الحكم، واستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وكثرة الشُرط، ونشو يتخذون القرآن مزامير؛ يتغنون غناء، يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولا بأعلمهم لا يقدمونه إلا ليتغنى بهم» ثم رواه من طريق زاذان، عن عليم، سمع عابسا الغفاري. ورواه الطبراني في معجمه الكبير من حديث زاذان، عن عليم قال: كنا جلوسا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عليم: لا أعلمه إلا عابس أو عبس الغفاري- والناس يخرجون في الطاعون فقال: يا طاعون خذني، ثلاثا، فقلت: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتمنى أحدكم الموت، فإنه عند انقطاع عمله ولا يرد فيستعتب» فقال: سمعته يقول: «بادروا بالأعمال ستا؛ إمارة السفهاء، وكثرة الشُرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشئا يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها».

الحديث السادس والثلاثون: عن الحسن قال: قال الحكم بن عمرو الغفاري - رضي الله عنه -: يا طاعون خذني إليك، فقال له رجل من القوم: لِم تقول هذا وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به» قال: قد سمعت ما سمعتم ولكنني أبادر ستا: بيع الحكم، وكثرة الشُرط، وإمارة الصبيان، وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ونشوا يكونون في آخر الزمان يتخذون القرآن مزامير. رواه الحاكم في مستدركه. الحديث السابع والثلاثون: عن عطاء قال: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إذا رأيتم ستا فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها فلذلك أتمنى الموت، أخاف أن تدركني، إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون بالدم، وقطعت الأرحام، وقطعت الجلاوزة، ونشأ نشء يتخذون القرآن مزامير. رواه أبو نعيم في الحلية. قوله: (وقطعت الجلاوزة) هكذا وجدته في الحلية ولعله (وكثرت الجلاوزة) كما في الأحاديث قبله، والجلاوزة: هم الشُرط وأعوان السلطان. الحديث الثامن والثلاثون: عن كعب الأحبار أنه قال: ليقرأن القرآن رجال وإنهم أحسن أصواتا من العزافات وحُداة الإبل، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة. رواه أبو نعيم في الحلية. الحديث التاسع والثلاثون: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن وفينا العجمي والأعرابي قال: فاستَمَع، قال: فقال: «اقرؤوا فكلٌّ حسنٌّ، وسيأتي قوم يقيمونه كما يُقام

فوائد تتعلق بقراءة القرآن الكريم وذم التكلف فيها، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقراءة السهلة وذم التكلف فيها

القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه» رواه الإمام أحمد وأبو داود. وفي رواية لأحمد: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا فيه قوم يقرؤون القرآن قال: «اقرؤوا القرآن وابتغوا به الله عز وجل من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه». الحديث الأربعون: عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ونحن نقتري فقال: «الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر، وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود، اقرؤوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم، يتعجل أجره ولا يتأجله» رواه أبو داود. الحديث الحادي والأربعون: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والأسود والأبيض إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنتم في خير، تقرؤون كتاب الله وفيكم رسول الله، وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح، يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها» رواه الإمام أحمد. وفي هذا الحديث والحديثين قبله فوائد: إحداها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب القراءة السهلة. الثانية: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر أصحابه أن يقرأ كل منهم بما تيسر عليه، وسهل على لسانه. الثالثة: ثناؤه عليهم بعدم التكلُّف في القراءة. الرابعة: أنه لم يكن يُعلِّمهم التجويد ومخارج الحروف، وكذلك

أصحابه - رضي الله عنهم - لم يُنقل عن أحد منهم أنه كان يعلم في التجويد ومخارج الحروف، ولو كان خيرا لسبقوا إليه، ومعلوم ما فتح عليهم من أمصار العجم من فرس وروم وقبط وبربر وغيرهم وكانوا يعلمونهم القرآن بما يسهل على ألسنتهم ولم ينقل أنهم كانوا يعلمونهم مخارج الحروف، ولو كان التجويد لازما ما أهملوا تعلمه وتعليمه. الخامسة: ذم المتكلفين في القراءة، المتعمقين في إخراج الحروف. السادسة: الرد على من زعم أن قراءة القرآن لا تجوز بغير التجويد، أو أن ترك التجويد يخل بالصلاة، وقد أخبرني بعض أئمة المسجد النبوي أن جماعة من المتكلفين أنكروا عليه إذ لم يقرأ في الصلاة بالتجويد، وما علم أولئك المتكلفون الجاهلون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر العربي والعجمي والأحمر والأبيض والأسود على قراءتهم وقال لهم: «كل حسن»، وذم المتكلفين الذين يقيمونه كما يقام القدح والسهم ويثقفونه ويتنطعون في قراءته كما هو الغالب على كثير من أهل التجويد في هذه الأزمان، فالله المستعان. السابعة: الأمر بقراءة القرآن ابتغاء وجه الله عز وجل. الثامنة: ذم من يأخذ على القراءة أجرا كما عليه كثير من قُرَّاء الإذاعات ونحوهم، وأردأ منهم من يجعل القرآن وسيلة لسؤال الناس، وقد رأيتهم يفعلون ذلك في المسجد الحرام؛ يجلس أحدهم فيقرأ قراءة متكلفة يتنطع فيها، ويعالج في إخراجها أعظم شدة ومشقة، وتنتفخ أوداجه، ويحمرّ وجهه ويكاد يغشى عليه مما يصيبه من الكرب في تكلفة وتنطعه، ويفرش عنده منديلا

أو نحوه ليلقى فيه المستمعون لقراءته ما يسمحون به من أوساخهم، وهذا مصداق حديث عمران بن حصين الآتي، فصلوات الله وسلامه على نبينا المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. الحديث الثاني والأربعون: عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- أنه مر على قارئ يقرأ ثم سأل، فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن. الحديث الثالث والأربعون: ما رواه الديلمي عن علي - رضي الله عنه -: «من اقتراب الساعة إذا تعلم علماؤكم ليجلبوا به دنانيركم ودراهمكم، واتخذتم القرآن تجارة». الحديث الرابع والأربعون: عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - قالت: بينما نحن بمكة قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل فنادى: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت؟» ثلاثا، فقام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: نعم، ثم أصبح فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وليخوضن رجال البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه ثم يقولون: قرأنا وعلَّمنا، فمن هذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير» قالوا: يا رسول الله، فمن أولئك؟ قال: «أولئك منكم وهم وقود النار» رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه. الحديث الخامس والأربعون: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر،

ويظهر الزنا» متفق عليه. وفي رواية: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمر، ويذهب الرجال، وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد». قوله: «ويثبت الجهل»، قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: هكذا هو في كثير من النسخ «يثبت الجهل» من الثبوت، وفي بعضها «يُبَثّ» بضم الياء وبعدها موحده مفتوحة ثم مثلثة مشددة أي ينشر ويشيع. انتهى. قال الكرماني: وفي رواية «وينبت» بالنون بدل المثلثة من النبات، ذكر ذلك عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" قال: وحكى ابن رجب عن بعضهم «وينثا» بنون ومثلثة من النث وهو الإشاعة، قال ابن حجر: وليست هذه في شيء من الصحيحين. انتهى. وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا ما عدا خصلة واحدة وهي قلة الرجال وكثرة النساء، فأما العلم الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فقد هجره الأكثرون، وقل من يرغب فيه ويعتني به، وقد انصرفت الهمم إلى الجهل الصرف الذي هو الصحف والمجلات والكتب

معنى تقارب الزمان الوارد في الحديث

العصرية وأخبار الإذاعات وما شاكل ذلك من الجهل الذي قد ظهر وثبت وبث ونث في مشارق الأرض ومغاربها، وشاع بين الخاصة والعامة، وشغف به الكبير والصغير، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما الزنا فقد جعل له أسواق معروفة في أكثر الأقطار الإسلامية وما يفعل في غير الأسواق أكثر وأكثر، وكذلك الخمر قد فشا شربها وبيعها علانية، فالله المستعان. الحديث السادس والأربعون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج» قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: «القتل القتل» متفق عليه. وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى قوله: «يتقارب الزمان» وفي ذلك أقوال كثيرة ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "فتح الباري" جملة منها، والظاهر -والله أعلم- بمراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك إشارة إلى ما حدث في زماننا من المراكب الأرضية والجوية والآلات الكهربائية التي قربت كل بعيد، والمعنى على هذا يتقارب أهل الزمان كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يعني أهل القرية، والعير يعني أصحاب العير، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله» ونظائر ذلك كثيرة جدا في كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولغة العرب، ولولا خشية الإطالة لذكرت أمثلة كثيرة. وفي جامع الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، وتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة،

وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار» قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وهذا الحديث ينطبق على سير المراكب الأرضية في هذه الأزمان، فإنها تقطع مسافة السنة في شهر فأقل، ومسافة الشهر في جمعة فأقل، ومسافة الجمعة في يوم فأقل، ومسافة اليوم في ساعة فأقل، ومسافة الساعة في مثل احتراق السعفة، وبعضها أسرع من ذلك بكثير، وأعظم من ذلك المراكب الجوية فإنه هي التي قربت البعيد غاية التقريب بحيث صارت مسافة السنة تقطع في يوم وليلة أو نحو ذلك، وأعظم من ذلك الآلات الكهربائية فإنها قد بهرت العقول في تقريب الأبعاد بحيث كان الذي في أقصى المشرق يخاطب مَن في أقصى المغرب، وبحيث كان الجالس عندها يسمع كلام مَن في أقصى المشرق ومَن في أقصى المغرب، ومَن في أقصى الشمال ومَن في أقصى الجنوب وغير ذلك من أرجاء الأرض في دقيقة واحدة كأن الجميع حاضرون عنده في المجلس، فالمراكب الأرضية والجوية قربت الأبعاد من ناحية السير، والآلات الكهربائية قربت الأبعاد من ناحية التخاطب وسماع الأصوات، فسبحان من علم الإنسان ما لا يعلم. وقد جاءت الإشارة إلى ما حدث في هذه الأزمان من المخترعات العجيبة فيما رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تروا أمورا عظاما لم تحدثوا بها أنفسكم».

وفي رواية الحاكم: «يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلون بينكم هل كان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ذكر لكم منها ذكرا» الحديث، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ويشهد له ما في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام على المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورا عظاما. ورواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه بإسناده مسلم. وقد وقع الأمر طبق ما في حديث سمرة فتفاقم شأن هذه المخترعات العجيبة في أنفس العامة وكثر تساؤلهم هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرها أو أشار إليها؟! والجواب: أن يقال: نعم، قد أشار إليها على طريق الإجمال في هذه الأحاديث التي ذكرنا، ونحو ذلك ما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتركن القلاص فلا يسعى عليها»، والقلاص جمع قلوص وهي الناقة الشابة، وقيل: هي الباقية على السير، وعلى هذا القول فالقلوص من الإبل ما أُعدَّ للأسفار وكان قويا عليها سواء كان شابا أو مُسنّا، وهذا أقرب إلى مدلول الحديث، وإن كان القول الأول أشهر في اللغة. وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا فترك السعي على الإبل بسبب المراكب الجوية والأرضية، حتى الأعراب الذين هم أهل الظعن على الإبل وكثرة الأسفار عليها قد تركوا السعي على الإبل إلا قليلا منهم، فصلوات الله وسلامه على نبينا محمد المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا

وحي يوحى. وروى ابن مردويه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «من أشراط الساعة تقارب الأسواق». وفي حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - في ذكر الدجال قالوا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: «كالغيث استدبرته الريح» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن. وفي صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد» الحديث، ورواه الحاكم بلفظ: «سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم» وسيأتي الحديث بتمامه قريبا إن شاء الله تعالى. والرِّحال: جمع رحل وهي الدور والمنازل، والمياثر: جمع مِيثرة بكسر الميم، وهو ما كان وطيئا لينا مما يجلس عليه ويرتفق به، قال الخطابي والهروي وغيرهما من أهل اللغة: هي من مراكب العجم، قال الهروي: وتعمل من حرير أو ديباج وتتخذ كالفراش الصغير وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته. انتهى. وهذا الحديث ينطبق على السيارات، فإنها تشبه الدور الصغار، وفيها مياثر وطيئة لينة، وكثير من المترفين يركبونها إلى المساجد وخصوصا في الجمعة والعيدين. إذا عُرف هذا فالإجمال في هذه الأحاديث قد صار كالتفصيل عند مَن

أدرك ذلك وشاهده وكان له أدنى علم ومعرفة، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ترك التفصيل خشية أن يفتتن بسببه من لم يرسخ الإيمان في قلبه كما وقع مثل ذلك في قصة الإسراء لما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسري به إلى بيت المقدس ورجع في ليلته؛ فأنكر ذلك المشركون، وارتد ناس ممن آمن به وصدقه، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبرهم عن أمر خارق للعادة، وإذا كان المشركون قد أنكروا الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس، فكيف لو أخبرهم أن بني آدم يصنعون في آخر الزمان مراكب تسير في البر ومراكب تسير بهم في الهواء، وتذهب من الحجاز إلى الشام وترجع في ساعتين فأقل، وأن أهل الشام ومصر والعراق والهند ونحوها من الأقطار البعيدة يسافرون من بلادهم للحج يوم عرفة فيدركون الوقوف مع الناس بعرفة، وكذلك لو أخبرهم أن أهل الأرض يتخاطبون بواسطة آلات يتخذونها كما يتخاطب أهل البيت الواحد؛ فيكلم الذي في أقصى المشرق من كان في أقصى المغرب كما يكلم الجالس عنده وبالعكس، ويستمع الإنسان إلى الألسن المختلفة في مشارق الأرض ومغاربها وهو جالس في مجلسه، ونحو ذلك مما لا تحتمله أكثر العقول البشرية دون أن ترى ذلك عيانا وتقف على حقيقته، فلو وقع الإخبار بذلك مفصلا لم تُؤمَن الفتنة على أهل الإيمان الضعيف، فكان من حكمة الشارع الحكيم أن أخبر بذلك مجملا بما أغنى مَن شاهده عن التفصيل .. والله أعلم. الحديث السابع والأربعون: عن عبد الله بن مسعود، وأبي موسى -رضي الله عنهما- قالا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل» متفق عليه، وفي رواية

للبخاري: «بين يدي الساعة أيام الهرج يزول فيها العلم، ويظهر فيها الجهل» قال أبو موسى: والهرج: القتل بلسان الحبشة. الحديث الثامن والأربعون: عن عمرو بن تغلب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أشراط الساعة أن يفيض المال، ويكثر الجهل، وتظهر الفتن، وتفشو التجارة» رواه الإمام أحمد، والحاكم من طريقه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإسناده على شرطهما صحيح، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقد رواه النسائي في سننه بزيادة ونقص عما هنا. وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ولفظه: «إن من أشراط الساعة يكثر التجار ويظهر القلم». الحديث التاسع والأربعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة. وفي رواية لأحمد والشيخين عنه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعا؛ ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم

فيضلون ويضلون» هذا لفظ البخاري. الحديث الخمسون: ما أخرجه يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة، عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: «لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالا يفيده ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون». ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى قوله: «شر منه» قال: فأصابتنا سنة خصب فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء. ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: «لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير، ولا عاما خيرا من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يفتون برأيهم». وفي لفظ عنه من هذا الوجه: «وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها؛ ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه»، ذكر هذه الطرق كلها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهذا لا يقال من قبل الرأي، فلعل ابن مسعود - رضي الله عنه - سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث الحادي والخمسون: عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

«كيف بكم إذا فسق فتيانكم، وطغى نساؤكم؟» قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟! قال: «نعم وأشد، كيف أنتم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟» قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟ قال: «نعم وأشد، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟» قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟ قال: «نعم وأشد، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا؟» قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟ قال: «نعم» رواه رزين. الحديث الثاني والخمسون: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله، متى يُترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم» رواه ابن ماجة وقال: قال زيد -يعني ابن يحيى بن عبيد الخزاعي أحد رواته-: تفسير معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والعلم في رذالتكم»: إذا كان العلم في الفُسَّاق، قلت: وسيأتي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ما يؤيد ذلك. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مكحول عن أنس - رضي الله عنه - قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم».

المراد بتحول العلم عند الأصاغر

قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق مكحول، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل قبلكم» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الفقه في صغاركم ورذالكم». قال الحافظ ابن حجر: وفي مصنف قاسم بن أصبغ بسند صحيح عن عمر - رضي الله عنه -: فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغير. وذكر أبو عبيد أن المراد بالصغر في هذا صغر القدر لا السن، والله أعلم. انتهى. قلت: بل كلاهما مراد لما روى الإمام أحمد والحاكم من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعا: «إذا كانت الفاحشة في كباركم، والملك في صغاركم، والعلم في مُرَّادكم، والمداهنة في خياركم» الحديث، فقوله: «في مُرَّادكم» واضح في صغر السن، وقوله: «في رذالكم» واضح في صغر القدر، وقد يطلق وصف الأمرد على من يحلق لحيته ويشتبه بالنساء والمردان أخذا مما ذكره أئمة اللغة؛ قال الجوهري: تمريد الغصن تجريده من الورق، وقال الراغب الأصفهاني: من قولهم شجر أمرد؛ إذا تعرى من الورق، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر. انتهى. وحلق الشعر من اللحية قريب في المعنى من تمريد الغصن وتعري

الشجر من الورق، فجاز إطلاق وصف الأمرد على فاعله بهذا الاعتبار، وعلى هذا فيعود المعنى إلى ما ذكره أبو عبيد من صغر القدر، والله أعلم. ومعنى الحديث -والله أعلم- أن العلم يتحول في آخر الزمان عند الفُسَّاق والمردان السفهاء، ونحوهم من السفل والأراذل الذين لا يؤبه لهم، وليسوا من رعاة العلم الذين يحترمونه ويصونونه عما يدنسه ويشينه، فيستهان بهم ويستهان بالعلم لأجلهم، فلا يقبل منهم ولا يستمع لقولهم. وأيضا فإنهم من أعظم الأسباب لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لإتيانهم المنكرات، وإنكارهم على من أنكر عليهم شيئا منها بالشبه والمغالطات، كما هو الواقع من كثير منهم في هذه الأزمان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ألا ترى إلى حالة أكثرهم في هذه الأزمان وما هم عليه من أنواع الفسوق والعصيان؟ فبعضهم يحلق لحيته ويتشبه بأعداء الله من المشركين والنصارى والمجوس، وبعضهم ينتفها نتفا وذلك أقبح من الحلق؛ لأن فيه زيادة تشويه للخلقة، وكل من الحلق والنتف مُثلة قبيحة، وكثير منهم يشربون الدخان الخبيث المسمى بالتتن ويدمنون شربه، وقد ثبت أنه من المسكرات كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، وأما خبثه فلا يمتري فيه عاقل، وكثير منهم يتهاونون بالصلاة ويضيعونها ولا يبالون بها، وسواء عند بعضهم صلاها في جماعة أو وحده، أو في وقتها أو بعده، حتى إن بعضهم يعكف على أم الملاهي الراديو (¬1) أكثر ليله، ثم ينام عن صلاة الفجر فلا يصليها إلا بعد ارتفاع النهار، وبعضهم يترك صلاة العشاء مع الجماعة إيثارا للعكوف على الراديو، وربما ترك حضور ¬

_ (¬1) ينظر التعليق ص41.

الجمعة لذلك، فأكثرهم لا يزال عاكفا على أم الملاهي في أكثر أوقاته، يستمع إلى المحرمات من غناء المغنيات ونغمات البغايا المتهتكات وأنواع المزامير والمعازف، أو إلى الاستهزاء بالقرآن وقراءته بألحان الغناء والنوح، أو إلى قيل وقال وخطب أعداء الله وهذيانهم، فما أشبه العاكفين عليه بالذين اتخذوا عجلا جسدا له خوار، وكثير منهم يتخذون الساعات التي فيها الموسيقى المطربة، وكثير منهم يشترون المُصوَّرات ويقتنونها ولا يلتفتون إلى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطمسها ولطخها، وكثير منهم يلعبون بالأوراق المسماة بالجنجفة ويقامرون عليها وذلك من الميسر المحرم، وقد مرّ عليّ - رضي الله عنه - على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها. رواه ابن أبي حاتم، واللاعب بالجنجفة أولى أن يشبه بالعاكفين على التماثيل؛ لأن أكثر أوراقها تماثيل، فاللاعب بها كالعاكف على التماثيل، وكثير منهم يلعبون بالكرة وهي من شر الأشر، وقد روى البخاري في الأدب المفرد من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الأشرة شر»، قال أبو معاوية أحد رواته: الأشر: العبث، وفيها من اللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ما لا يخفى على عاقل، والمقامرة عليها من الميسر المحرم، وكثير منهم يصفقون في المجتمعات والأندية عند التعجب واستحسان المقالات فيتشبهون في ذلك بكفار قريش وبطوائف الكفر

والضلال في زماننا من الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى، ويتشبهون أيضا بالنساء لكون التصفيق من أفعالهن في الصلاة إذا ناب الإمام شيء فيها. وغالبهم يتحلون بالساعات في أيديهم كأنها أسورة النساء، وقد جاء في أحاديث كثيرة لعن المتشبهين من الرجال بالنساء كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، وفيهم من معاشرة الأنذال والسفل الساقطين ما هو ظاهر معروف عند العامة والجهال فضلا عن الخاصة وأهل العلم، وقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: اعتبروا الناس بأخدانهم. وقال الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي إذا كنت في قوم فخالل خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي وقال آخر: لكل امرئ شكل يقر بعينه وقرة عين الفسل أن يصحب الفسلا وقال آخر: يُقاس المرء بالمرء ... إذا هو ماشاهُ وقال آخر: لا يصحب الإنسان إلا نظيره وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد

وأبلغ من ذلك كله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها. وكثير منهم لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، وإذا أمرهم أحد بمعروف أو نهاهم عن منكر سخروا منه، وهمزوه ولمزوه، وازدروا به، ورموه زورا وبهتانا بكل ما يرون أنه يدنسه ويشينه. وبالجملة فلا ترى أكثرهم إلا على أخلاق الفُساق والسفهاء، راغبين عن أخلاق أهل العلم والدين، مجانبين كل فضيلة، ومقارفين كل رذيلة، فهم الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثبطوا غيرهم عن القيام في ذلك، وصارحوا بالعداوة والأذى كل من أنكر عليهم شيئا من أفعالهم السيئة، فصلوات الله وسلامه عن الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. والمراد بما ذكر في حديث أنس - رضي الله عنه - الأكثر والأغلب لا العموم؛ لما جاء في الحديث الصحيح: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: هم أهل العلم، وقال الترمذي في جامعه: قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري-: قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث. انتهى، وكذا قال ابن المبارك وأحمد بن سنان وابن حبان وغيرهم، وقال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري مَن هم! والمراد بقولهم أهل العلم وأهل الحديث؛ حَمَلة

العلم والحديث ورعاة الدين الذين جمعوا بين العلم والعمل، لا الفساق والسفهاء الذين حملوا العلم ثم لم يحملوه بل أهانوه ودنسوه بالأطماع واتباع الشهوات والأهواء، فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفارا. ومما يدل على أن العموم غير مراد ما جاء في سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان من حديث أبي عنبة الخولاني قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته»، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: هم أصحاب الحديث. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: «غرس الله» هم أهل العلم والعمل، فلو خلت الأرض من عالم خلت من غرس الله، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة، فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب من أهَّلهم الله لذلك وارتضاهم فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم، فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الأرض. انتهى. الحديث الثالث والخمسون: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم، وتفرقت أهواؤهم هلكوا» رواه أبو عبيد ويعقوب بن شيبة والطبراني. ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث إبراهيم بن أدهم عن شعبة بن الحجاج قال: أنبأنا أبو إسحاق الهمداني، عن سعيد بن وهب، عن عبد الله

بن مسعود قال: «لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم، فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفهائهم فقد هلكوا». الحديث الرابع والخمسون: عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أشراط الساعة أن يُلتمس العلم عند الأصاغر» رواه الطبراني. الحديث الخامس والخمسون: عن زياد بن لبيد - رضي الله عنه - قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فقال: «ذاك عند أوان ذهاب العلم» قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة؛ أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما» رواه الإمام أحمد وابن ماجة، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه. الحديث السادس والخمسون: عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء» فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم». قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبره بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، إن

شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث السابع والخمسون: عن جبير بن نفير قال: قال عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى السماء يوما فقال: «هذا أوان يرفع العلم» فقال له رجل من الأنصار يقال له ابن لبيد: يا رسول الله، كيف يرفع العلم وقد أثبت في الكتاب ووعته القلوب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله»، قال: فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك فقال: صدق عوف، ألا أخبرك بأول ذلك يرفع؟ قلت: بلى، قال: الخشوع، حتى لا ترى خاشعا. رواه الحاكم في مستدركه، وأبو نعيم في الحلية، وهذا لفظ الحاكم وقال: صحيح، وقد احتج الشيخان بجميع رواته، ووافقه الحافظ الذهبي. الحديث الثامن والخمسون: عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم في زمان علماؤه كثير وخطباؤه قليل، من ترك فيه عُشر ما يعلم هوى، وسيأتي على الناس زمان يقل علماؤه ويكثر خطباؤه، من تمسك فيه بعُشر ما يعلم نجا» رواه الإمام أحمد. الحديث التاسع والخمسون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم في زمان من ترك منكم ما أُمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل

منهم بعُشر ما أُمر به نجا» رواه الترمذي، والطبراني في الصغير، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، قال: وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد رضي الله عنهما. الحديث الستون: عن حزام بن حكيم بن حزام عن أبيه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم قد أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه كثير معطوه قليل سؤاله، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه وكثير خطباؤه وكثير سؤاله قليل معطوه، العلم فيه خير من العمل» رواه الطبراني. وله أيضا من حديث حزام بن حكيم عن عمه مرفوعا مثله، وهو الحديث الحادي والستون. الحديث الثاني والستون: عن زيد بن وهب قال: سمعت ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: «إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، قليل سؤاله، كثير معطوه، العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي من بعدكم زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، كثير سؤاله، قليل معطوه، الهوى فيه قائد للعمل، اعلموا أن حسن الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل» رواه البخاري في الأدب المفرد. ورواه الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال لإنسان: «إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه

الصلاة ويقصرون الخطبة، يبدّون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه، يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده، كثير من يسأل قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة يقصرون الصلاة، يُبَدّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم» وهذا الحديث في حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال إلا عن توقيف. وقوله: «وتضيع حروفه» ليس معناه على ظاهره وإنما معناه أنهم لا يتكلفون في قراءة القرآن كما يتكلف كثير من المتأخرين، ولا يتقعرون في أداء حروفه كما يتقعر كثير من المتأخرين، ولا يتوسعون في معرفة أنواع القراءات كما فعل من بعدهم، والله أعلم. وقوله: «يُبَدُّون» بضم الياء وفتح الباء وتشديد الدال معناه يُقدِّمون، وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا، فقلّ فيه الفقهاء وكثر فيه القراء الذين يحفظون حروف القرآن ويتقعرون في أدائها، ويضيعون حدود القرآن ولا يبالون بمخالفة أوامره وارتكاب نواهيه، يطيلون الخطب ويقصرون الصلاة، ويقدمون أهواءهم قبل أعمالهم، وقد رأينا من هذا الضرب كثيرا، فالله المستعان. الحديث الثالث والستون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيأتي على أمتي زمان يكثر فيه القراء ويقل الفقهاء، ويقبض العلم، ويكثر الهرج، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المشرك بالله المؤمن في مثل ما

يقول» رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم في مستدركه قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الرابع والستون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أعرابيا قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة» قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» رواه الإمام أحمد والبخاري. وفي رواية له: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": إسناده الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل، ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط، ومقتضاه أن العلم ما دام قائما ففي الأمر فسحة، وكأن المصنف أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر تلميحا لما روي عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر». وقال أيضا: المراد من الأمر جنس الأمور التي تتعلق بالدين كالخلافة والإمارة والقضاء والإفتاء وغير ذلك، قال ابن بطال: معنى «أسند الأمر إلى غير أهله» أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها. انتهى. الحديث الخامس والستون: عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن: «الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من

السُنَّة -وحدثنا عن رفعها قال-: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ردَّه عليَّ الإسلام وإن كان نصرانيا رده عليّ ساعيه فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا» متفق عليه. قال البخاري رحمه الله تعالى: سمعت أبا أحمد بن عاصم يقول: سمعت أبا عبيد يقول: قال الأصمعي وأبو عمر وغيرهما: جذر قلوب الرجال: الجذر الأصل من كل شيء، والوكت: أثر الشيء اليسير منه، والمجل: أثر العمل في الكف إذا غلظ. انتهى. والجذر: بفتح الجيم وكسرها، والوَكْت: بفتح الواو وسكون الكاف، والمجل: بفتح الميم وسكون الجيم، والمنتبر: هو المرتفع المتنفظ. الحديث السادس والستون: عن حذيفة أيضا - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يَسْتَنُّون بغير سُنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، فقلت: هل بعد ذلك الخير من

شر؟ قال: «نعم؛ دعاة على أبواب جهنم مَن أجابهم إليها قذفوه فيها» فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» متفق عليه، واللفظ لمسلم. وفي رواية له عن حذيفة - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله، إنا كنا بِشرٍّ فجاءنا الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم»، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: «نعم»، قلت: كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع». الحديث السابع والستون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم» رواه مسلم في مقدمة صحيحه، والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه وقال: "هذا حديث ذكره مسلم في خطبة الكتاب مع الحكايات، ولم يخرجاه في أبواب الكتاب، وهو صحيح على شرطهما جميعا، ومحتاج إليه في الجرح والتعديل، ولا أعلم له علة"، وأقره الحافظ

الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لمسلم: «يكون في آخر الزمان دجَّالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم». الحديث الثامن والستون: عن الضحاك قال: «يأتي على الناس زمان تكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف عليه الغبار لا ينظر فيه» رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد، وفي إسناده رجل لم يُسم، وبقية رجاله ثقات، ومثله لا يقال من قبل الرأي. وقد كثرت أحاديث الصحف التي هي الجرائد والمجلات في هذه الأزمان، وكذلك أحاديث الإذاعات وأكثر الكتب العصرية، وافتتن بذلك الأكثرون من الخاصة والعامة، ونبذوا لأجلها كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار سلف الأمة وراء ظهورهم، ولعل زماننا هو الزمان الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة وغيره، وذكر عنه عطاء ما ذكر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الحديث التاسع والستون: عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفا من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى وارها ثم قال: والذي نفسي بيده، ليجيئنّ أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة. رواه الحافظ محمد ابن وضاح.

الحديث السبعون: عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "تعلَّموا العلم تُعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم" رواه محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث"، ورواه الإمام أحمد في كتاب الزهد وزاد: "لا ينجو فيه إلا كل نؤمة، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم" قال أبو عبيد الهروي: النوْمة: بوزن الهمزة، الخامل الذكر الذي لا يؤبه له، وقيل: الغامض في الناس الذي لا يعرف الشر وأهله، وقيل النوَمة بالتحريك: الكثير النوم، وأما الخامل الذي لا يؤبه به فهو بالتسكين، ومن الأول حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال لعلي - رضي الله عنه -: ما النومة؟ قال: الذي يسكت في الفتنة فلا يبدو منه شيء. انتهى. الحديث الحادي والسبعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف وتجيء فيقول: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» الحديث، رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة. الحديث الثاني والسبعون: عن عصمة بن قيس صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان يتعوذ في صلاته من فتنة المغرب» رواه البخاري في التاريخ الكبير، والطبراني وابن عبد البر وغيرهم. وذكر ابن عبد البر عنه «أنه كان يتعوذ بالله من فتنة المشرق» فقيل له:

فكيف فتنة المغرب؟! قال: «تلك أعظم وأعظم». وهذا الأثر له حكم المرفوع كنظائره، وأكثر ما ظهرت الفتن في أوائل هذه الأمة من قبل المشرق، ومن أعظمها شرا فتنة الجهمية، ولا سيما في أثناء دولة بني العباس لما قام بتأييدها المأمون والمعتصم والواثق، ومع ذلك فأكثر المسلمين على إنكارها والتحذير منها ومن غيرها من مضلات الفتن. وأما في زماننا فظهور الفتن من قبل المغرب أكثر، وذلك لما استولت الإفرنج على بعض الممالك الإسلامية فبثوا فيها رذائل مدنيتهم وسفساف أخلاقهم وخواطئ نظاماتهم وقوانينهم وسياساتهم التي ما أنزل الله بها، فافتتن بتقليدهم والتشبه بهم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ووقع في ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم فضلا عن العامة، وما زالت هذه الفتن المغربية تربو في المسلمين وتنتشر فيهم حتى آل الأمر ببعضهم إلى الانسلاخ من دين الإسلام، والاستخفاف بأحكام الشريعة المحمدية، والاعتياض عنها بالقوانين والنظامات الإفرنجية أو ما يشبهها من أحكام الطاغوت. ومن تأمل ما دخل على المسلمين من الشر بسبب الفتن المشرقية، وما دخل عليهم من الشر بسبب الفتن المغربية ظهر له أن فتنة المغرب أعظم وأعظم. الحديث الثالث والسبعون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا، يظهر النفاق، وتُرفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويُتَّهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، أناخ بكم

الشُّرْف الجون» قالوا: وما الشُّرْف الجون يا رسول الله؟ قال: «الفتن كأمثال الليل المظلم» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الشرف: بضم الشين وسكون الراء وبالفاء جمع شارف وهي الناقة المُسنَّة، والجون: السود. قال أبو عبيد الهروي: شبه الفتن في اتصالها، وامتداد أوقاتها بالنوق المسنة السود، ويروى هذا الحديث بالقاف يعني: الفتن التي تجيء من جهة المشرق. انتهى. الحديث الرابع والسبعون: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويُخوَّن الأمين» الحديث، رواه الإمام أحمد، والحاكم في مستدركه. الحديث الخامس والسبعون: عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشراط الساعة الفُحش والتفحُّش وقطيعة الرحم وتخوين الأمين وائتمان الخائن» رواه الطبراني في الأوسط، وقال الهيثمي: رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. الحديث السادس والسبعون: عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى

يظهر الفُحش والبخل، ويُخوَّن الأمين ويؤمَّن الخائن، ويهلك الوعول، ويظهر التحوت» قالوا: يا رسول الله، وما الوعول وما التحوت؟ قال: «الوعول وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم» رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في مستدركه وقال: رواته كلهم مدنيون ممن لم ينسبوا إلى نوع من الجرح، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الطبراني أيضا من طريق أبي علقمة سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: «إن من أشراط الساعة ...» فذكر نحوه، وزاد: كذلك أنبأنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: سمعته من حِبِّي، قلنا: وما التحوت؟ قال: فسول الرجال وأهل البيوت الغامضة، قلنا: وما الوعول؟ قال: أهل البيوت الصالحة. وقد رواه البخاري في الكُنى من طريق أبي علقمة حليف بني هاشم قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: «إن من أشراطها أن يظهر الفحش والشح، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وتظهر ثياب فيها كافوا السحن يلبسها نساء كاسيات عاريات، ويعلو التحوت الوعول» أكذاك يا عبد الله بن مسعود سمعته من حِبِّي؟ قال: نعم، ورب الكعبة التحوت، قلنا: وما التحوت والوعول؟ قال: فسق الرجال، وأهل البيوت القانصة يرفعون فوق صالحيهم وأهل البيوت الصالحة. الحديث السابع والسبعون: عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أمام الدجال سنوات خدَّاعات، يُكذّب فيها الصادق ويُصدّق فيها الكاذب، ويُخوّن فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة» رواه الإمام

أحمد. الحديث الثامن والسبعون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة» قيل: يا رسول الله، وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» رواه الإمام أحمد وابن ماجة، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال الجوهري: الرويبضة: التافه الحقير. وقال ابن الأثير: التافه الحقير الخسيس. قلت: وفي رواية للحاكم: قيل: يا رسول الله، وما الرويبضة؟ قال: «السفيه يتكلم في أمر العامة». فتحصل من هذا أن الرويبضة هو: السفيه، التافه، الحقير، الخسيس. الحديث التاسع والسبعون: عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليأتين على الناس زمان يُكذّب فيه الصادق ويُصدّق فيه الكاذب، ويُخوّن فيه الأمين ويؤتمن فيه الخؤون، ويشهد فيه المرء وإن لم يُستشهد، ويحلف وإن لم يُستحلف، ويكون أسعد الناس في الدنيا لكع بن لكع لا يؤمن بالله ورسوله» رواه البخاري في تاريخه، والطبراني. ورواه البخاري أيضا في التاريخ مختصرا، ولفظه قال: «لا تقوم الساعة

حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع، ثم يصير إلى النار». الحديث الثمانون: عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع» رواه الإمام أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن. الحديث الحادي والثمانون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تذهب الدنيا حتى تصير للكع بن لكع» رواه الإمام أحمد. قال أبو السعادات ابن الأثير: اللكع عند العرب العبد، ثم استعمل في الحمق والذم، يقال للرجل: لكع، وللمرأة لكاع، وهو اللئيم، وقيل: الوسخ، وقيل: يطلق على الصغير، فإن أطلق على الكبير أريد به الصغير في العلم والعقل. انتهى. والمعنى في هذا الحديث والذي قبله أن المال يتحول في آخر الزمان في أيدي الحمقى اللئام بني الحمقى اللئام، وأنهم يكونون أسعد بالمناصب الدنيوية، ونعيم الدنيا وملاذها والوجاهة فيها، وقد وقع ذلك، فالله المستعان. الحديث الثاني والثمانون: عن زَهْدَم بن مُضرِّب سمعت عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا «ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» متفق عليه.

ورواه مسلم أيضا وأبو داود والترمذي من حديث زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- بنحوه، وفيه: «ويفشو فيهم السمن» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الإمام أحمد والترمذي من حديث هلال بن يساف، عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون، ويحبون السمن، يعطون الشهادة قبل أن يُسألوها». الحديث الثالث والثمانون: عن بلال بن سعد بن تميم السكوني، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: «أنا وأقراني» قلنا: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: «ثم القرن الثاني» قلنا: يا رسول الله، ثم ماذا؟ قال: «القرن الثالث»، قلنا: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: «ثم يكون قوم يحلفون ولا يستحلفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويؤتمنون ولا يؤدون» رواه أبو نعيم في الحلية. الحديث الرابع والثمانون: عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة، وزاد أحمد والشيخان: قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. الحديث الخامس والثمانون: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم وشهادتهم أيمانهم» رواه ابن حبان في صحيحه. الحديث السادس الثمانون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير أمتي القرن الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم» والله أعلم أذكر الثالث أم لا، قال: «ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا» رواه الإمام أحمد ومسلم. قال النووي رحمه الله تعالى: «السمانة»: بفتح السين هي السمن، قال جمهور العلماء في معنى هذا الحديث: المراد بالسمن هنا كثرة اللحم، ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم، وليس معناه أن يتمحضوا سمانا، قالوا: والمذموم منه من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقه فلا يدخل في هذا، والمتكسب له هو المتوسع في المأكول والمشروب زائدا على المعتاد، وقيل: المراد بالسمن هنا أنهم يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال. انتهى. والقول الأول أولى بظواهر الأحاديث، والله أعلم. الحديث السابع والثمانون: عن جابر بن سمرة، قال: خطبنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالجابية فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا مثل مقامي فيكم فقال: «احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل وما يستشهد، ويحلف وما يستحلف» رواه الإمام أحمد وابن ماجة والطبراني، وهذا لفظ ابن ماجة.

ورواه الإمام أحمد أيضا والترمذي، والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطبنا عمر - رضي الله عنه - بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد ...» وذكر تمام الحديث، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ورواه الحاكم أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: وقف عمر - رضي الله عنه - بالجابية فقال: ... وذكره بنحو حديث جابر وابن عمر - رضي الله عنهم -، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ورواه البخاري في التاريخ الكبير من حديث عبد الله بن مالك بن إبراهيم الأشتر النخعي، عن أبيه، عن جده قال: قام عمر عند باب الجابية وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «إن يد الله على الجماعة، والفذ مع الشيطان، والحق أصل في الجنة، والباطل أصل في النار، وإن أصحابي خياركم فأكرموهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب والهرج». الحديث الثامن والثمانون: عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: «إنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، رواه الإمام أحمد والبخاري، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

الحديث التاسع والثمانون: عن أنس أيضا - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا الناس إلا شُحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» الحديث، رواه ابن ماجة والطبراني، والحاكم في مستدركه. الحديث التسعون: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا المال إلا إفاضة، ولا تقوم الساعة إلا على شرار من خلقه» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الحادي والتسعون: عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذا الأمر لا يزداد إلا شدة، ولا يزداد الناس إلا شُحّا، ولا تقوم الساعة إلى على شرار الناس» رواه أبو نعيم في الحلية من حديث مسعر عن قتادة عن الحسن عن عمر بن حصين رضي الله عنهما. الحديث الثاني والتسعون: ذكره الإمام أحمد رحمه الله في كتاب الصلاة تعليقا فقال: وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خير أمتي الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والآخر شر إلى يوم القيامة». الحديث الثالث والتسعون: ذكره الإمام أحمد في كتاب الصلاة فقال: وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه: «أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم، وأبناء أبنائكم خير من أبنائهم، والآخر شر إلى يوم القيامة». الحديث الرابع والتسعون: عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا يدركني زمان، ولا تدركوا زمانا لا يُتَّبع فيه العليم، ولا يستحيا فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب» رواه الإمام أحمد. الحديث الخامس والتسعون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا يدركني زمان، أو لا أدرك زمان قوم لا يتبعون العليم، ولا يستحيون من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال المناوي في "شرح الجامع الصغير": «قلوبهم قلوب الأعاجم»: أي بعيدة من الخلاق، مملوءة من الرياء والنفاق، «وألسنتهم ألسنة العرب»: متشدقون، متفصحون، متفيهقون، يتلونون في المذاهب، ويروغون كالثعالب، قال الأحنف: لأن أُبتلى بألف جموح لجوج أحب إلي من أن أُبتلى بمُتلوِّن، قال: والمعنى اللهم لا تحيني ولا أصحابي إلى زمن يكون فيه ذلك. انتهى. قلت: وهذا الحديث يطابق حال الأكثرين في زماننا، فإنهم لا يتبعون العليم، ولا يستحيون من الحليم، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، وليس معهم من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم العربية ما يحملهم على الحياء، ويمنعهم من تعاطي ما يدنس ويشين عند ذوي الأحلام والنهى، وإنما شبه قلوبهم بقلوب الأعاجم لقلة فقههم في الدين، وانحرافهم عن

المروءات العربية، وتخلقهم بأخلاق الأعاجم من طوائف الإفرنج وغيرهم، وشدة ميلهم إلى مشابهتهم في الزي الظاهر، بل وفي جميع الأحوال، واتِّباع سنتهم حذو القذة بالقذة، والمشابهة في الظاهر إنما تنشأ من تقارب القلوب وتشابهها، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ...} الآية [البقرة: 118]، وقد عظمت البلوى بداء المشابهة، وعمَّت جميع الأقطار الإسلامية إلا من شاء الله من أهل القرى المتمسكين بالسنة النبوية والشيم العربية، وقليل ما هم ولا سيما في هذا الزمان الذي اشتدت فيه غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، فالله المستعان. الحديث السادس والتسعون: عن سعيد بن سمعان قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يتعوذ من إمارة الصبيان والسفهاء، فقال سعيد بن سمعان فأخبرني ابن حسنة الجهني أنه قال لأبي هريرة: ما آية ذلك؟ قال: أن تقطع الأرحام، ويُطاع المُغوي، ويُعصى المرشد. رواه البخاري في الأدب المفرد. الحديث السابع والتسعون: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي» رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو نعيم في الحلية. الحديث الثامن والتسعون: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «شرار أمتي الذي غذوا في النعيم، الذين يتقلبون في ألوان الطعام والثياب،

الثرثارون الشداقون بالكلام» رواه أبو نعيم في الحلية من حديث سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الزهري، عن عروة عن عائشة -رضي الله عنهما-. الحديث التاسع والتسعون: عن بكر بن سوادة مرسلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيكون نشو من أمتي يولدون في النعيم، ويغذون به، همتهم ألوان الطعام، وألوان الثياب، يتشدقون بالقول، أولئك شرار أمتي» رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد". الحديث المائة: عن فاطمة بنت الحسين مرسلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام، وألوان الثياب، يتشادقون في الكلام» رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد". قال أبو موسى المديني: المتشدقون: هم المتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز، وقيل: المراد بالمتشدق المستهزئ بالناس، يلوي شدقه بهم وعليهم. انتهى. والأول أصح، وبه جزم النووي رحمه الله تعالى، فإنه قال: المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحا وتعظيما لكلامه. انتهى. قلت: وكلا الضربين كثير جدا في زماننا، فالله المستعان. الحديث الواحد بعد المائة: ما رواه الديلمي عن علي - رضي الله عنه -: «يأتي على الناس زمان همَّتهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقِبلتهم نساؤهم، ودينهم درهمهم ودنانيرهم، أولئك شرار الخلق، لا خلاق لهم عند الله».

الحديث الثاني بعد المائة: عن عباس الحميري عن أبيه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كيف بكم إذا فسق نساؤكم» رواه البخاري في تاريخه. الحديث الثالث بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» رواه الإمام أحمد ومسلم. الحديث الرابع بعد المائة: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهم كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمنكم نساء الأمم قبلكم» رواه الإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه ولفظه: «سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمهم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم» فقلت لأبي: وما المياثر؟ قال: سروجا عظاما. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قلت: والقائل لأبيه ما المياثر هو عبد الله بن عياش القتباني أحد رواته، وقد تقدم الكلام على الجملة الأولى منه قريبا، ويأتي بقية الكلام عليه في

ذم التبرج والسفور إن شاء الله تعالى. الحديث الخامس بعد المائة: عن عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيّتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» رواه البخاري، والحِر بكسر المهملة وتخفيف الراء هو الفَرْج؛ يعني أنهم يستحلون الزنا. الحديث السادس بعد المائة: عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير» رواه الإمام أحمد، وأبو داود مختصرا، وابن ماجة وهذا لفظه، وصححه ابن حبان وغيره. الحديث السابع بعد المائة: عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من أمتي الخمر يُسمُّونها بغير اسمها» رواه ابن ماجة. الحديث الثامن بعد المائة: عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَتستحلَّنّ طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه» رواه الإمام أحمد وابن ماجة، والحافظ الضياء المقدسي في المختارة. ورواه النسائي في سننه، عن ابن محيريز، عن رجل من أصحاب

النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها». الحديث التاسع بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن حلال أم من حرام» رواه الإمام أحمد والبخاري والدارمي. الحديث العاشر بعد المائة: عن الحسن -وهو البصري- عن أبي هريرة أيضا - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحدا إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح إن صح سماع الحسن من أبي هريرة، قال الحافظ الذهبي في تلخيصه: سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح. الحديث الحادي عشر بعد المائة: عن علي - رضي الله عنه - قال: «يأتي على الناس زمانٌ عضوضٌ، يعضّ الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك قال الله عز وجل: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وينهد الأشرار، ويستذل الأخيار، ويبايع المضطرون» الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود. الحديث الثاني عشر بعد المائة: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم» رواه الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان.

وفي رواية بعضهم: «أدخل الله عليهم ذلا لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم». ورواه أبو داود بلفظ: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم». وفي رواية لأحمد: «لئن تركتم الجهاد، وأخذتم بأذناب البقر، وتبايعتم بالعينة ليُلزمنَّكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجوا على ما كنتم عليه». الحديث الثالث عشر بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «لا تقوم الساعة حتى يكون الزهد رواية، والورع تصنعا» رواه أبو نعيم في الحلية. الحديث الرابع عشر بعد المائة: عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: «إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تكثر الشُرط والهمَّازون والغمَّازون واللمَّازون، وأن تكثر أولاد الزنا» رواه الطبراني. قال أبو عبيد الهروي: الهَمْز الغيبة والوقيعة في الناس وذكر عيوبهم، وقد همز يهمز فهو همَّاز وهمزة للمبالغة. انتهى. وأما الغمز فقال الراغب الأصفهاني: أصله الإشارة بالجفن أو اليد طلبا إلى ما فيه معاب، ومنه قيل: ما في فلان غميزة؛ أي نقيصة مشار بها إليه، قال: واللمز الاغتياب وتتبع المعاب، ورجل لمَّاز ولُمزة كثير اللمز. انتهى. وقال أبو السعادات ابن الأثير: اللمز العيب والوقوع في الناس، وقيل: هو

العيب في الوجه، والهمز العيب بالغيب. انتهى. الحديث الخامس عشر بعد المائة: عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال الأمة على شريعة حسنة ما لم تظهر فيهم ثلاث: ما لم يُقبض منهم العلم، ويكثر فيهم ولد الحنث، ويظهر فيهم السقّارون» قالوا: وما السقارون؟ قال: «نشء يكونون في آخر الزمان تكون تحيتهم بينهم إذا تلاقوا التلاعن» رواه الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال أبو عبيد الهروي: أولاد الحنث: أولاد الزنا، من الحنث المعصية، ويُروى بالخاء المعجمة والباء الموحدة. انتهى. وقال أبو موسى المديني: السقار والصقار اللعَّان لمن لا يستحق اللعن، سمي بذلك لأنه يضرب الناس بلسانه من الصقر، وهو ضربك الصخرة بالصاقور وهو المعول. انتهى. قلت: وهذا النشء المرذول كثير جدا في زماننا، إذا تلاقوا كانت تحيتهم بينهم التلاعن والرمي بالكفر أو الفجور أو اليهودية أو النصرانية أو نحو ذلك من الألفاظ القبيحة، وقد سمعنا ذلك منهم كثيرا، فالله المستعان، وسيأتي في ذكر المنافقين حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن للمنافقين علامات يعرفون بها، تحيتهم لعنة ...» وذكر تمام الحديث، رواه الإمام أحمد.

الحديث السادس عشر بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «من أشراط الساعة تقارب الأسواق، ويكثر ولد البغي، وتفشو الغيبة، ويعظم رب المال، وترتفع الأصوات في المساجد، ويظهر أهل المنكر، ويظهر البناء» رواه ابن مردويه. الحديث السابع عشر بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «من أشراط الساعة سوء الجوار، وقطعية الأرحام، وأن يعطل السف من الجهاد، وأن تجلب الدنيا بالدين» رواه ابن مردويه. الحديث الثامن عشر بعد المائة: عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشوّ التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وفشو القلم، ظهور الشهادة بالزور، وكتمان شهادة الحق» رواه الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم قال عبد الله: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وحتى يخرج الرجل بماله إلى أطراف الأرض فيرجع فيقول: لم أربح شيئا». وفي رواية للحاكم عن خارجة بن الصلت البرجمي قال: دخلت مع عبد الله يوما للمسجد فإذا القوم ركوع، فركع، فمر رجل فسلم عليه، فقال

عبد الله: صدق الله ورسوله، ثم وصل إلى الصف، فلما فرغ سألته عن قوله صدق الله ورسوله، فقال: إنه كان يقول: «لا تقوم الساعة حتى تتخذ المساجد طرقا، وحتى يسلم الرجل على الرجل بالمعرفة، وحتى تتجر المرأة وزوجها، وحتى تغلو الخيل والنساء، ثم ترخص فلا تغلو إلى يوم القيامة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للإمام أحمد، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أشراط الساعة أن يسلم الرجل على الرجل لا يسلم عليه إلا للمعرفة». وفي رواية له أيضا عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة». قوله «تسليم الخاصة» قد بينه في الحديث الذي بعده «وأن لا يسلم الرجل إلا على من يعرف»، وهذا ما ظهر مصداقه في زماننا، وقد رأينا ذلك كثيرا في بلدان شتى من كثير من الجهال والعوام، ورأيناه أيضا من كثير من المنتسبين إلى العلم ولا سيما القُرّاء الفسقة، وما ذاك إلا لاستهانتهم بالآداب الشرعية، ورغبتهم عنها، وميلهم إلى الآداب الإفرنجية، ورغبتهم فيها، فالله المستعان. الحديث التاسع عشر بعد المائة: عن سلمة بن كهيل عن ابن مسعود

- رضي الله عنه - مرفوعا: «من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين، وأن لا يسلم الرجل إلا على من يعرف، وأن يبرد الصبي الشيخ» رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا أن سلمة وإن كان سمع من الصحابة لم أجد له رواية عن ابن مسعود. انتهى. قال المناوي في "شرح الجامع الصغير": معنى قوله «يبرد الصبي الشيخ»: أي يجعله رسولا في حوائجه. انتهى. الحديث العشرون بعد المائة: عن الحسن قال: «يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم، فليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم» ذكره أبو بكر المروذي في كتاب "الورع". وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق الثوري، عن عون بن أبي جحيفة، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا، ليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الحادي والعشرون بعد المائة: عن سلامة بنت الحر -أخت خرشة بن الحر الفزاري رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد لا يجدون إماما يصلي بهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة. الحديث الثاني والعشرون بعد المائة: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم» رواه ابن أبي حاتم. الحديث الثالث والعشرون بعد المائة: عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه. ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه بلفظ: «يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلا». المباهاة في اللغة: المفاخرة، والمراد ههنا المفاخرة بتشييد المساجد وزخرفتها وتنقيشها كما هو الواقع في زماننا، والله المستعان، وذلك من أشراط الساعة كما تقدم في حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للساعة أشراط»، قيل: وما أشراطها؟ قال: «غُلو أهل الفسق في المساجد» الحديث رواه أبو نعيم في الحلية. والمراد به: الغلو في التشييد والزخرفة والنقش، فالله المستعان. الحديث الرابع والعشرون بعد المائة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أراكم ستشرّفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها، وكما شرفت النصارى بِيَعها» رواه ابن ماجة. الحديث الخامس والعشرون بعد المائة: وعنه - رضي الله عنه - أنه قال: «لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى» رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه، وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم.

قال أبو عبيد الهروي: الزخرف في الأصل الذهب، وكمال حُسن الشيء. وقال الراغب الأصفهاني: الزخرف الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب زخرف. انتهى. وقد فتن أكثر المسلمين في زماننا بتزويق المساجد، وتحسين بنائها وتضخيمه، فالله المستعان. الحديث السادس والعشرون بعد المائة: عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: «إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تزخرف المحاريب، وأن تخرب القلوب» رواه الطبراني. الحديث السابع والعشرون بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان» رواه البخاري في الأدب المفرد هكذا مختصرا، وأخرجه في كتاب الفتن من صحيحه مطولا، وفيه ذكر جملة من أشراط الساعة. الحديث الثامن والعشرون بعد المائة: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني عن الساعة، قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان» رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن وغيرهم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن طلحة بن عبيد الله، وأنس بن مالك، وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. انتهى.

قوله: «يتطاولون في البنيان» يعني يتبارون ويتغالبون في تطويله وزخرفته وتكثيره. قال النووي رحمه الله تعالى: معناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في البنيان، والله أعلم. انتهى. والتطاول يكون بتكثير طبقات البيوت, ورفعها نحو السماء، ويكون بتحسين البناء وتقويته وتزويقه، ويكون بتوسيع البيوت، وتكثير مجالسها ومرافقها. وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا، وكثر التفاخر والتكاثر بتطويل البنيان وتقويته وتكثيره وتزويقه، فالله المستعان. الحديث التاسع والعشرون بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحو حديث عمر - رضي الله عنه - وفيه: «ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربّها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البُهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ..» الحديث، متفق عليه. الحديث الثلاثون بعد المائة: عن أبي هريرة وأبي ذر -رضي الله عنهما- نحو حديث عمر - رضي الله عنه - وفيه: «ولكن لها علامات تعرف بها، إذا رأيت المرأة تلد ربّها، في خمس لا يعلمها إلا الله ..» الحديث، رواه النسائي. الحديث الحادي والثلاثون بعد المائة: عن ابن عباس رضي الله عنهما

نحو حديث عمر - رضي الله عنه - وفيه: «ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك» قال: أجل يا رسول الله، فحدِّثني، قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيت الأَمَة ولدت ربتها أو ربها، ورأيت أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس فذلك من معالم الساعة وأشراطها» قال: يا رسول الله، ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: «العرب» رواه الإمام أحمد. الحديث الثاني والثلاثون بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتا يوشونها وشيَ المراحل» رواه البخاري في "الأدب المفرد" وقال: قال إبراهيم: يعني الثياب المخططة؛ وإبراهيم هذا هو ابن المنذر الحزامي شيخ البخاري. قوله: «يوشونها»: يعني ينقشونها ويصبغونها بأنواع الألوان المختلفة كما تنقش الثياب والفرش، يقال: وشي الثوب ووشاه وشيا وشِية إذا نقشه وحسَّنه. قال الراغب الأصفهاني: وشيتُ الشيء وشيا جعلت فيه أثرا يخالف معظم لونه، واستعمل الوشي في الكلام تشبها بالمنسوج. انتهى. و «المراحل»: جمع مُرحَّل بتشديد الحاء، يقال: ثوب مرحل وثوب فيه ترحيل إذا كان منقوشا بنقوش تشبه رحال الإبل، وهذا من باب التنبيه والإشارة إلى أجناس النقوش والأصباغ التي يعملها المتطاولون في البنيان في هذه الأزمان، وقد تقدم في حديثي ابن مسعود وأنس -رضي الله عنهما- أن من أشراط الساعة تشريف البنيان وتعليته، فالله المستعان.

وقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة في موضع آخر من كتاب الأدب المفرد وترجم له بقوله: باب نقش البنيان، وأورد فيه أيضا حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإشاعة المال»، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لن يُنجي أحدا منكم عمل ..» الحديث، وفيه: «سددوا وقاربوا، والقصد تبلغوا»، وظاهر صنيع البخاري رحمه الله في إيراد هذين الحديثين في باب نقش البنيان أنه أراد الاستدلال بهما على أن نقش البنيان لا يجوز لأمرين: أحدهما: أن فيه إضاعة للمال، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال. الثاني: أنه إسراف وبذخ مخالف لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الاقتصاد في جميع الأمور، ولزوم العدل والاستقامة، والله أعلم. الحديث الثالث والثلاثون بعد المائة: عن عبد الله الرومي قال: دخلت على أم طلق فقلتُ: ما أقصر سقف بيتك هذا! قالت: يا بني إن أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى عُمّاله: أن لا تطيلوا بناءكم فإنه من شر أيامكم. رواه البخاري في الأدب المفرد. الحديث الرابع والثلاثون بعد المائة: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم» قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» متفق عليه.

الحديث الخامس والثلاثون بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع» فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: «ومَن الناس إلا أولئك؟» رواه البخاري. ورواه ابن ماجة في سننه بإسناد صحيح ولفظه: «لتتبعن سنن من كان قبلكم باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه» قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن إذًا». ورواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية ابن ماجة، ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: الأخذ بفتح الألف وسكون الخاء على الأشهر هو السيرة، يقال: أخذ فلان بأخذ فلان أي سار بسيرته، وما أَخَذَ أَخْذه أي ما فعل فعله ولا قصد قصده. انتهى. الحديث السادس والثلاثون بعد المائة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لتركبن سَنَن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه» رواه البزار بسند جيد، والحاكم في مستدركه وصححه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال النووي رحمه الله تعالى: السَنَن بفتح السين والنون وهو الطريق. وقال الحافظ ابن حجر: بفتح السين للأكثر. وقال ابن التين: قرأناه بضمها.

وقال المهلب: بالفتح أولى لأنه الذي يستعمل فيه الذراع والشِبر وهو الطريق، قال الحافظ: وليس اللفظ الأخير ببعيد من ذلك. انتهى. قال عياض: الشبر، والذراع، والطريق، ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمّه. وكذا قال النووي رحمه الله تعالى قال: وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد وقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحافظ ابن حجر: قد وقع معظم ما أنذر به - صلى الله عليه وسلم -، وسيقع بقية ذلك. وقال المناوي في "شرح الجامع الصغير": هذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، فقد اتَّبع كثير من أمته سنن فارس في شيمهم، ومراكبهم، وملابسهم، وإقامة شعارهم في الحروب وغيرها، وأهل الكتابيين في زخرفة المساجد، وتعظيم القبور حتى كاد أن يعبدها العوام، وقبول الرشا، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمس عجينا، إلى غير ذلك مما هو أشنع وأبشع. انتهى. قلت: وفي زماننا لم يبق شيء مما يفعله اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أمم الكفر والضلال إلا ويفعل مثله في أكثر الأقطار الإسلامية، ولا تجد الأكثرين من المنتسبين إلى الإسلام إلى مهطعين خلف أعداء الله يأخذون بأخذهم، ويحذون حذوهم، ويتبعون سننهم في الأخلاق، والآداب، واللباس، والهيئات، والنظامات، والقوانين وأكثر الأمور أو جمعيها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الحديث السابع والثلاثون بعد المائة: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليأتينّ على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النّعل بالنّعل، حتى إن كان منهم من أتى أُمَّه علانيةً لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملّةً، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّةً كلهم في النار إلا ملّةً واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. الحديث الثامن والثلاثون بعد المائة: عن عمرو بن عوف المزني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتسلكن سنن الذين من قبلكم حذو النعل بالنعل، ولتأخذن مثل مأخذهم إن شبرا فشبر، وإن ذراعا فذراع، وإن باعا فباع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتم فيه» رواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة". الحديث التاسع والثلاثون بعد المائة: عن شداد بن أوس -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتحملن شرار هذه الأمة سنن الذي خلا من قبلهم حذو القذة بالقذة» رواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة". الحديث الأربعون بعد المائة: عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم» رواه البخاري في التاريخ الكبير، والترمذي وهذا لفظه وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة. الحديث الحادي والأربعون بعد المائة: عن المستورد بن شداد - رضي الله عنه - مرفوعا: «لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه» رواه الطبراني.

الحديث الثاني والأربعون بعد المائة: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «لتركبن سنة من كان قبلكم حُلوها ومُرّها» رواه الشافعي. الحديث الثالث والأربعون بعد المائة: عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: «لتتبعن أمر من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم، ولتنقضن عرى الإسلام عروة فعروة، ويكون أو نقضها الخشوع، حتى لا ترى خاشعا، وحتى يقول أقوام: ذهب النفاق من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فما بال صلوات الخمس؟! لقد ضل من كان قبلنا حتى ما يصلون بصلاة نبيهم، أولئك المكذبون بالقدر وهم أسباب الدجال وحق على الله أن يمحقهم» رواه الآجري في كتاب "الشريعة". ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلينّ النساء وهن حيّض، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم ولا تخطئكم حتى تبقى فرقتان من فرق كثير فتقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟! لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] لا تصلوا إلا ثلاثا، وتقول الأخرى: إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة، وما فينا كافر ولا منافق، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الرابع والأربعون بعد المائة: عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة» رواه الإمام أحمد، وابنه عبد الله، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح ولم يخرجاه. الحديث الخامس والأربعون بعد المائة: عن فيروز الديلمي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لينتقضن الإسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوى قوى» رواه الإمام أحمد. الحديث السادس والأربعون بعد المائة: عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة». الحديث السابع والأربعون بعد المائة: عن عبد الله بن الديلمي قال: بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنة، يذهب الدين سُنّة فسُنّة كما يذهب الحبل قوة قوة. رواه الدارمي. الحديث الثامن والأربعون بعد المائة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن. رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: رجاله موثوقون. الحديث التاسع والأربعون بعد المائة: عن ربعي بن حراش عن حذيفة ابن اليمان -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاثة: درهم حلال، أو أخ يستأنس به، أو سنة يعمل

بها» رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية. قال الهيثمي: فيه روح بن صلاح ضعَّفه ابن عدي، ووثقه ابن حبان والحاكم، وبقية رجاله ثقات. وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد بسنده عن الأوزاعي قال: كان يقال: «يأتي على الناس زمان أقل شيء في ذلك الزمان أخ مؤنس، أو درهم من حلال، أو عمل في سنة». الحديث الخمسون بعد المائة: عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها ...» الحديث، وفيه: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان» رواه أبو داود، وابن ماجة، ورواه الحاكم في مستدركه مطولا وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وأصله في صحيح مسلم. ورواه البرقاني في صحيحه بلفظ: «حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فِئام من أمتي الأوثان». ورواه الترمذي مختصرا ولفظه: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى يعيدوا الأوثان» وقال: هذا حديث صحيح. الحديث الحادي والخمسون بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يرجع ناس من أمتي إلى أوثان يعبدونها من دون الله» رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.

وقد عظمت الفتنة بالأوثان في مشارق الأرض ومغاربها من أزمان طويلة كما سيأتي بيان ذلك قريبا إن شاء الله تعالى. الحديث الثاني والخمسون بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} فقال: «ليخرُجنّ منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الثالث والخمسون بعد المائة: قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق عن الأوزاعي، حدثني أبو عمار، حدثني جار لجابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قدمت من سفر، فجاءني جابر بن عبد الله فسلم عليّ، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس، وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا» قال الهيثمي: جار جابر لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. الحديث الرابع والخمسون بعد المائة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنَعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مُدْيَها ودينارها، ومنعت مصر إردبَّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم» شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود. وقد اختلف في معنى هذا الحديث:

المراد بقوله: «منعت العراق درهمها»

فقيل معناه: أنهم يُسلمون فيسقط عنهم الخراج، ورجّحه البيهقي. وقيل معناه: أنهم يرجعون عن الطاعة، ولا يؤدون الخراج المضروب عليهم؛ ولهذا قال: «وعدتم من حيث بدأتم» أي رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك، ورجّح هذا القول الحافظُ ابن كثير رحمه الله تعالى، ولم يحك الخطابي في "معالم السنن" سواه، واستشهد له ابن كثير بما رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فقال: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم» قيل: من أين ذلك؟ قال: «من قبل العجم، يمنعون ذلك» ثم قال: «يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدي» قيل من أين ذلك؟ قال: «من قبل الروم». قلت: وأَصْرح من هذا ما رواه الإمام أحمد والبخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما؟ فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟ قال: إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق، قالوا: عمّ ذاك؟ قال: «تنتهك ذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيشد الله عز وجل قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم». والذي يظهر لي في معنى قوله: «منعت العراق درهمها ..» الحديث، أن ذلك إشارة إلى ما صار إليه الأمر في زماننا وقبله بأزمان من استيلاء العجم والإفرنج ونحوهم على هذه الأمصار، وانعكاس الأمور بسبب ذلك حتى صار أهل الذمة أقوى من المسلمين وأعظم شوكة، فامتنعوا من أحكام الإسلام التي كانت تجري عليهم من قبل، وانتقض حكم الخراج وغيره،

مطابقة ما جاء في أحاديث الغربة للواقع

ثم زاد الأمر شدة فوضعت قوانين أعداء الله وسياساتهم مكان الأحكام الشرعية، وأَلزموا بها مَن تحت أيديهم من المسلمين، والذين انفلتوا من أيدي المتغلبين عليهم ما زالوا على ما عهدوه، أو على نحو مما عهدوه من أحكام القوانين والسياسات، وسنن أعداء الله، وأخلاقهم الرذيلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفي قوله: «وعُدتم من حيث بدأتم» إشارة إلى استحكام غربة الإسلام، ورجوعه إلى مقره الأول كما في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» رواه مسلم. وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه .. رواه الإمام أحمد. وعن عمرو بن عوف المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك .. رواه الترمذي. وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الكتاب، وما ذكر فيها من انضمام الإيمان إلى المدينة وما حولها لم يقع بعد، ويوشك أن يقع. وفيما ذكرنا من الأحاديث ههنا كفاية ولله الحمد والمنة، وكلها معجزات النبوة وأعلامها؛ لمطابقتها للواقع من حال الأكثرين، فالله المستعان. ومما يطابق زماننا هذا قول أبي الأسود الدؤلي، وقيل إنها لعبد الله بن المبارك، وقيل للحسن بن عبد الله الأصبهاني:

ذهب الرجال المُقتدَى بفعالهم ... والمُنكِرون لكل أمر منكر وبقيت في خَلَفٍ يُزيِّن بعضهم ... بعضا ليدفع مُعوِرٌ عن مُعوِر فَطِنٌ لكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بِدِيْنِهِ لم يشعر وقول الطغرائي: غاض الوفاء وفاض الجُور وانفجرتْ ... مسافة الخُلْف بين القول والعمل وشان صدقَك عند الناس كِذْبُهم ... وهل يُطَابَق مُعوَجٌّ بمعتدل وقال الشاطبي: وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبض على جمر فتنجو من البلا وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد أبياتا لبعضهم وهي: قد عرف المنكر وأنكر المـ ... ـعروف في أيامنا الصعبة وصار أهل العلم في وهدة ... وصار أهل الجهل في رتبة فقلت للأبرار أهل التقى ... والدين لما اشتدت الكربة لا تنكروا أحوالكم قد أتت ... نوبتكم في زمن الغربة وقال البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه الصغير: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثنا الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا ويح لبيد حيث يقول: ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلَف كجلد الأجرب فكيف لو أدرك زمانا؟ قال عروة: رحم الله عائشة كيف لو أدركت زماننا؟ قال الزهري: رحم الله عروة كيف لو أدرك زماننا؟ قال الزبيدي: رحم الله الزهري كيف لو أدرك زماننا؟!

وقد رواه ابن جرير في تهذيب الآثار فقال: حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة، حدثنا عثمان بن سعيد عن محمد بن مهاجر، حدثني الزبيدي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا ويح لبيد حيث يقول: ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيت في خَلَفٍ كجلد الأجرب قالت عائشة: فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال عروة: رحم الله عائشة، فكيف لو أدركت زماننا هذا؟ ثم قال الزهري: رحم الله عروة فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ ثم قال الزبيدي: رحم الله الزهري، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال محمد: وأنا أقول رحم الله الزبيدي، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال أبو حميد: قال عثمان ونحوه نقول: رحم الله محمدا فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال ابن جرير: قال لنا أبو حميد: رحم الله عثمان، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال ابن جرير: رحم الله أحمد بن المغيرة، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ نقله صاحب "كنز العمال" صفحة 258 ج7 في آخر أشراط الساعة. قلت: رحمة الله علينا وعليهم أجمعين إذا كان هذا قولهم في القرن الأول الذي هو خير قرون هذه الأُمَّة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يقال فيما بعده من القرون إلى زماننا هذا في أواخر القرن الرابع عشر؟! فالله المستعان. وذكر ابن الأثير أن عائشة -رضي الله عنها- تمثلت ببيت آخر للبيد وهو قوله: يتحدثون مخانة وملاذة ... ويعاب قائلهم وإن لم يَشْغَب وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: قالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله

لبيدا حيث يقول: ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلَف كجلد الأجرب لا ينفعون ولا يُرجَّى خيرهم ... ويعاب قائلهم وإن لم يَشغَب قالت: فكيف لو أدرك زماننا هذا؟! روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي مسهر، حدثنا عبد الرحمن بن الوليد قال: سمعت ابن حلبس ينشد هذا البيت عند الموت: ذهب الرجال الصالحون وأُخِّرتْ ... نَتَن الرجال لِذا الزمان المُنتِن قلت: وهذا البيت أليق بزماننا من الزمان الذي قيل فيه، فالله المستعان.

فصل: في تضعضع الإسلام وأهله

فصل وفي زماننا هذا قد استولت الكآبةُ والهمُّ والغمُّ على كل مسلم في قلبه حياة وغَيْرة دينية، وذلك لما يرى من تضعضع الإسلام وأهله، وتداعي الأمم عليهم من كل جانب، ولما يرى من تنافس المسلمين في الأمور الدنيوية، وجدهم واجتهادهم فيما لا يُجدي شيئا، وإعراضهم عما فيه عِزّهم ومَجدهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وما أصابهم من الوهن والتخاذل، وتفرق الكلمة، وذهاب الريح، ونزع المهابة من صدور الأعداء. وكل هذه المصائب المؤلمة من ثمرات الذنوب والمعاصي، ومخالفة السنة النبوية والطريقة السلفية، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]، ولا ترى مسلما نوّر الله قلبه بنور العلم والإيمان إلا وهو في زماننا كالقابض على الجمر، لا يزال متألما متوجعا لِما يرى من كثرة النقص والتغيير في جميع أمور الدين، وانتقاض الكثير من عرى الإسلام، والتهاون بمبانيه العظام، ولقلة أعوانه على الخير، وكثرة من يعارضه ويناويه، فإن أَمَر بالمعروف لم يُقبل منه، وإنْ نَهى عن المنكر لم يأمن على نفسه وماله، وأقل الأحوال أن يُسخر منه ويُستهزأ به، ويُنسب إلى الحمق وضعف الرأي، حيث لم يمش حاله مع الناس، وربما قُمع مع ذلك وقُهر واضطهد كما رأينا ذلك، وهذا مصداق ما تقدم في حديث أبي أمامة الذي رواه الطبراني وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: «وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا وقُهرا واضُطهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا ولا أنصارا». وحيث إن الجهل قد عمَّ وطمَّ في هذه الأزمان، وعاد المعروف عند الأكثرين منكرا والمنكر معروفا، وأُطيع الشح، واتُّبِعت الأهواء، وصار القُرّاء الفسقة والمتشبهون بالعلماء ينكرون على من رام تغيير المنكرات الظاهرة، ويعدُّون ذلك تشديدا على الناس ومشاغبة لهم وتنفيرا، وعندهم أن تمام العقل في السكوت ومداهنة الناس بترك الإنكار عليهم، وأن ذروة الكمال والفضل في الإلقاء إلى الناس كلهم بالمودة، وتمشية الحال معهم على أي حال كانوا، وهذا مصداق ما رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد"؛ حدثنا عبد الصمد، حدثنا هشام -يعني الدستوائي- عن جعفر -يعني صاحب الأنماط- عن أبي العالية قال: «يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن، ولا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصّروا عما أُمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا بما نُهوا عنه قالوا: سيغفر لنا، إنَّا لم نشرك بالله شيئا، أمرهم كله طمع ليس معه صدق، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في دينه المداهن». وهذا الأثر مطابق لحال أكثر المنتسبين إلى العلم في زماننا، وقد جاء في حديث رواه الطبراني: «من تحبب إلى الناس بما يحبونه، وبارز الله تعالى لقي الله وهو عليه غضبان».

إذا عرف هذا فينبغي لمن أنقذه الله تعالى من موت الجهل، ونوّر بصيرته بالعلم النافع الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وألهمه رشده، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان أن لا يزال لسانه رطبا بذكر الله، وحمده وشكره على ما أنعم به عليه من هذه النعم العظيمة، وأن يدعو إلى سبيل ربه، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويُغيِّره ما استطاع، ويبذل جهده في نشر السنة، وإصلاح ما أفسده الناس منها، ويصبر على ما يصيبه في ذات الله، ومن فعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى رجى له أن يكون من أئمة الغرباء، الذين غبطهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث الصحيح: «طوبى للغرباء». قال أبو عبيد الهروي: طوبى اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها. انتهى، ويؤيد القول الأخير ما رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن درّاجًا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعا: «طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها». وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طريق ابن وهب بسنده عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: طوبى لمن رآك وآمن بك، فقال: «طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني» فقال رجل: يا رسول الله، وما طوبى؟ قال: «شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» رواه الإمام أحمد في مسنده، عن حسن بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن دراج أبي السمح فذكره.

المراد بالغرباء

وكذا رواه أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، من طريق ابن لهيعة عن دراج، فذكره بمثله. وروى الآجري أيضا بسنده، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوبى فقال: «يا أبا بكر، هل بلغك ما طوبى؟» قال: الله عز وجل ورسوله أعلم، قال: «طوبى شجرة في الجنة لا يعلم ما طولها إلا الله عز وجل، يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا، ورقها الحلل يقع عليها طير كأمثال البخت» قال أبو بكر - رضي الله عنه -: إن هناك طيرا ناعما يا رسول الله؟ قال: «أنعم منه من يأكله، وأنت منهم إن شاء الله يا أبا بكر». ورواه ابن مردويه بنحوه، وخرّج أيضا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- نحو ذلك. وعن قرة بن إياس المزني - رضي الله عنه - نحو ذلك أيضا، رواه ابن جرير. فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا، ولها شواهد في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. وأما الغرباء فهم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة كلها تنتسب إلى الإسلام، ووراء ذلك الأدعياء الذين ينتسبون إلى الإسلام، ويدّعونه وهم عنه بمعزل، فمنهم فئام قد لحقوا بالمشركين، وفئام يعبدون الأوثان، وفئام من الدهرية، وعُبّاد الطبيعة، وفئام من المعطلة والجهمية، وأفراخ القرامطة والباطنية،

والحلولية والاتحادية، وغلاة الصوفية، والروافض، فهؤلاء أدعياء الإسلام، وما أكثرهم لا كثَّرهم الله. فالفرقة الناجية بين جميع المنتسبين إلى الإسلام كالشعرة البيضاء في الجلد الأسود، فهم غرباء بين المنتسبين إلى الإسلام، فضلا عن أعداء الإسلام من سائر الأمم، وهم في غربتهم متفاوتون، فأهل الإسلام غرباء في الناس، وأهل الإيمان غرباء في المسلمين، وأهل العلم بالكتاب والسنة غرباء في المؤمنين، والداعون منهم إلى الخير، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، الصابرون على أذى المخالفين لهم أشد غربة، وقليل ما هم، قال علي - رضي الله عنه - فيهم: أولئك الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: إياك أن تغتر بما يغتر به الجاهلون، فإنهم يقولون: لو كان هؤلاء على حق لم يكونوا أقل الناس عددا، والناس على خلافهم، فاعلم أن هؤلاء هم الناس، ومن خالفهم فمشبهون بالناس وليسوا بناس، فما الناس إلا أهل الحق، وإن كانوا أقلهم عددا. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يكن أحدكم إمَّعة، يقول: أنا مع الناس، ليوطِّن أحدكم نفسه على أن يؤمن ولو كفر الناس. انتهى. وقال أيضا في "الكافية الشافية": لا توحشنك غربةً بين الورى ... فالناس كالأموات في الجبّان أَوَمَا علمت بأن أهل السنة الـ ... ـغرباء حقا عند كل زمان قل لي متى سلم الرسول وصحبه ... والتابعون لهم على الإحسان من جاهل ومعاند ومنافق ... ومحارب بالبغي والطغيان

وصف الغرباء

وتظن أنك وارث لَهُمُ وما ... ذقت الأذى في نصرة الرحمن كلا ولا جاهدتَ حق جهاده ... في الله لا بِيَدٍ ولا بِلسان منَّتْك والله المُحال النفسُ فاسـ ... ـتحدث سوى ذا الرأي والحسبان لو كنتَ وارثه لآذاك الأُلى ... ورثوا عداه بسائر الألوان وقد جاء وصف الغرباء في الأحاديث التي تقدم ذكرها في أول الكتاب بأنهم النّزّاع من القبائل، وأنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وأنهم الذين يتمسكون بالكتاب حين يُترك، ويعلمون بالسنة حين تطفأ، وأنهم قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، مَن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، ومَن يبغضهم أكثر ممن يحبهم، وأنهم الفرّارون بدينهم من الفتن. قال أبو عبيد الهروي: النُّزَّاع: جمع نازع ونزيع، وهو الذي نزع عن أهله وعشيرته أي بَعُد وغاب. انتهى. وهذا التفسير من حيث المعنى اللغوي، والمراد بما في الحديث شيء آخر، وذلك أن الغربة نوعان: حسية ومعنوية. فالحسية: مفارقة الأهل والعشيرة والأوطان، والنزوع منها إلى غيره كما قاله الهروي. والمعنوية: مفارقة الأهل والعشيرة وأهل الوطن في الدين، ومباعدة ما هم عليه، حتى يكون بينهم كأنه غريب لا يألفهم ولا يألفونه. والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بمكة غرباء وهم بين عشائرهم وقبائلهم، ولما هاجروا إلى المدينة وسكنوا مع إخوانهم في

الدين زالت تلك الغربة عنهم مع مفارقتهم للعشائر والأوطان، وعادت على المنافقين، فكانوا هم الغرباء بين المسلمين، وإن كانوا بين أهليهم وعشائرهم، فالغربة المعنوية: حقيقتها قلة الشكل كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي وقال أيضا: وليس اغترابي عن سجستان أنني ... عدمت بها الإخوان والدار والأهلا ولكنني ما لي بها من مُشاكل ... وإن الغريب الفرد من يعدم الشكلا وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى: وهذا اغتراب الدين فاصبر فإنني ... غريب وأصحابي كثير بلا عد وقد روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب "الزهد" عن أبي حازم قال: كان سهل بن سعد - رضي الله عنه - يقول: إني فيكم غريب، فيُقال له: لِم؟ فيقول: ذهب أصحابي والذي كنت أعرف، وبقيت فيكم غريبا. وروى الإمام أحمد أيضا في "الزهد" بسنده عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: إن المؤمن في الدنيا غريب، لا يجزع من ذُلِّها، ولا ينافس أهلها في عِزِّها، الناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل. وفي حديث أبي أمامة الذي رواه الطبراني وغيره مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلَّما قُمعا وقُهرا واضُطهدا.

وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلَّما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا وقُهرا واضُطهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا ولا أنصارًا». ففي هذا الحديث إشارة إلى الغربة المعنوية في النوعين، ففي أوّله غُربة الفُسّاق بين أهل الفقه والدين والصلاح، وذلك في أوقات عِزّة الإسلام وظهوره وكثرة أهل العلم والخير، وفي آخره غربة الفقهاء وأهل الدين والصلاح بين الفساق وأهل الجهل والجفاء وسوء الأخلاق كما هو الواقع في زماننا وقبله بقرون كثيرة، فالله المستعان. وللكفار والمنافقين غربة معنوية يختصون بها، فإنهم غرباء عن الله تعالى ورسوله ودينه، وغربتهم هذه هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم الأكثرين والمعروفين المشار إليهم، ولأهل الضلالات والأهواء من هذه الأمة نصيب من هذه الغربة الذميمة، كل له بقدر إعراضه عن الكتاب والسنة، ومشابهته للكفار والمنافقين، وقد تقدم في وصف الغرباء الممدوحين أنهم قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، ففيه إشارة إلى أنهم يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وهذا من أعلى مراتب الكمال، وهو أن يكون المرء صالحا في نفسه، وساعيا مع ذلك في تحصيل الصلاح لغيره. وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -: «فوالله لأَن يهدي الله بك رجلا واحدا خيرا لك من حُمْرِ النعم». وروى الطبراني في الكبير عن أبي رافع - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عليا

الأحاديث الواردة في فضل الغرباء

إلى اليمن وقال له: «لأن يهدي الله على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت». وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا» الحديث، رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي مسعود الأنصاري البدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والبخاري في الأدب المفرد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد وردت أحاديث كثيرة في الوعد بالحسنى ومضاعفة الأجور للغرباء المتمسكين بالكتاب والسنة عند فساد الناس، وأنا أذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى: فمن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «طوبى للغرباء» رواه مسلم وابن ماجة من حديث أبي هريرة. ورواه ابن وضاح من حديث ابن عمر. ورواه ابن ماجة أيضا من حديث أنس بن مالك. ورواه الإمام أحمد، والدارمي، والترمذي، وابن ماجة من حديث عبد الله بن مسعود. ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص. ورواه الطبراني من حديث سلمان، وجابر، وسهل بن سعد الساعدي، وابن عباس. ورواه الترمذي، والصابوني من حديث عمرو بن عوف المزني. ورواه ابن وضاح من حديث المعافري.

ورواه الإمام أحمد، والطبراني، وابن وضاح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فهذا حديث متواتر عن اثني عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم أجمعين، وقد تقدم سياق هذه الأحاديث في أول الكتاب، وتقدم قريبا أن طوبى اسم الجنة، أو اسم شجرة فيها. وقال النووي رحمه الله تعالى: اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ} [الرعد: 29]، فروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن معناه: فرح وقرة عين، وقال عكرمة: نِعْمَ ما لهم، وقال الضحاك: غبطة لهم، وقال قتادة: حسنى لهم، وعن قتادة أيضا معناه: أصابوا خيرا، وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة، وقال ابن عجلان: دوام الخير، وقيل: الجنة، وقيل: شجرة في الجنة، وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث. انتهى. قلت: والمعنى فيها متقارب، وكلها حاصلة لمن أدخله الجنة، ويدل للأخير ما تقدم قريبا من حديث أبي سعيد، وابن عمر، وابن عباس، وقرة بن إياس المزني - رضي الله عنهم -. ومن ذلك ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحب شيء إلى الله الغرباء»، قيل: ومن الغرباء؟ قال: «الفرارون بدينهم، يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد". ومنها ما رواه مسلم، والترمذي، وابن ماجة، عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «العبادة في الهرج كهجرة إليّ» قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.

ورواه الإمام أحمد بلفظ: «العبادة في الفتنة كالهجرة إليّ». ورواه الطبراني في معجمه الصغير ولفظه: «العمل في الهجرة والفتنة كالهجرة إليَّ». قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به متبعا لأوامره، مجتنبا لنواهيه. انتهى. ومنها ما رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغوي، عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيَّةُ آية؟ قلت: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا، سألتُ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «لا، بل أجر خمسين رجلا منكم» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ومنها ما رواه ابن وضاح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: «إن من

بعدكم أياما الصابر فيها المتمسك بدينه مثل ما أنتم عليه اليوم له أجر خمسين منكم». ومنها ما رواه أيضا عن سعيد أخي الحسن يرفعه قال: «إنكم اليوم على بينة من ربكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، ولم يظهر فيكم السُكران، سكر الجهل، وسكر حب العيش، وستحولون عن ذلك، فالمتمسك يومئذ بالكتاب والسنة له أجر خمسين» قيل: منهم؟ قال: «بل منكم». ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة إبراهيم بن أدهم، من حديث سفيان ابن عيينة، عن أسلم، أنه سمع سعيد بن أبي الحسن يذكر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنتم اليوم على بينة من ربكم، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، ثم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش، وستحولون عن ذلك فلا تأمرون بمعروف ولا تنهون عن منكر ولا تجاهدون في سبيل الله، القائمون يومئذ بالكتاب والسنة لهم أجر خمسين صدِّيقا» قالوا: يا رسول الله، منَّا أو منهم؟ قال: «لا، بل منكم» قال أبو نعيم: ورواه محمد بن قيس، عن عبادة ابن نسي، عن الأسود بن ثعلبة، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ومنها ما رواه أبو نعيم أيضا من حديث إبراهيم بن أدهم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «غشيتكم السكرتان: سكرة حب العيش، وحب الجهل، فعند ذلك لا تأمرون بالمعروف، ولا تنهون عن المنكر، والقائمون بالكتاب وبالسنة

كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار». ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعا وتقدم، وفيه: «إن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة كلها من عند آخرها حتى لا يبقى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران مقموعان ذليلان، إن تكلما أو نطقا قُمعا وقُهرا واضطهدا، وقيل لهما: أتطعنان علينا؟ ...» الحديث، وفي آخره: «فمن أدرك ذلك الزمان وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فله أجر خمسين ممن صحبني وآمن بي وصدقني أبدا». ومنها: ما رواه البيهقي في دلائل النبوة من حديث عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي قال: حدثني من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقاتلون أهل الفتن». ومنها: ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مثله. ومنها: ما رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد». ومنها ما رواه الترمذي في جامعه، والطبراني في الصغير، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بُنيَّ إن قدرت أن تصبح

الآثار عن السلف في وصف الغرباء

وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل» ثم قال لي: «يا بني، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ومنها ما رواه الدارمي، والترمذي، وابن ماجة، عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث: «اعلم» قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: «إنه من أحيا سنّةً من سنّتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا» قال الترمذي: هذا حديث حسن. ومن الآثار عن السلف في هذا المعنى ما رواه أبو نعيم في الحلية، عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: أيما عبد قام بشيء مما أمره الله به من أمر دينه فعمل به وتمسك به، فاجتنب ما نهى الله تعالى عنه عند فساد الأمور، وعند تشويش الزمان، واختلاف الناس في الرأي والتفريق إلا جعله الله إماما يُقتدى به، هاديا مهديا، قد أقام الدين في زمانه، وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الغريب في زمانه، الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ». وروى أبو الشيخ بإسناده عن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: لو أن رجلا من الصدر الأول بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله لئن عاش إلى هذه المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله عز وجل وقلبه يحن إلى

ذلك السلف الصالح فيتبع آثارهم، ويستن بسنتهم، ويتبع سبيلهم كان له أجر عظيم. ورواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث" بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكراء، ولم يدرك هذا السلف الصالح، فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح، ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليُعوَّض أجرا عظيما، فكذلك كونوا إن شاء الله تعالى. وروى ابن المبارك عن الفضيل عن الحسن أنه ذكر الغني المترف الذي له سلطان يأخذ المال ويدَّعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال الذي خرج بسيفه على المسلمين وتأول ما أنزل الله في الكفار على المسلمين، ثم قال: سُنَّتكم والذي لا إله إلا هو بينهما، بين الغالي والجافي، والمترف والجاهل، فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس، الذين لم يأخذوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في أهوائهم، وصبروا على سنتهم حتى أتوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا، ثم قال: والله لو أن رجلا أدرك هذه المنكرات، يقول هذا: هلمَّ إليّ، ويقول هذا: هلم إليّ، فيقول: لا أريد إلا سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، يطلبها، ويسأل عنها، إن هذا ليعرض له أجر عظيم، فكذلك فكونوا إن شاء الله. وروى الدارمي بعض هذا عن الحسن، وفيه: فإن أهل السنة كانوا أقل

الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي. وقال الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم يا أخي إن ما حملني على الكتاب إليك إلا ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس، وحُسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقوّاك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم، فأذلهم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مستترين، فابشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى، وإحياء سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم بين أصبعيه»، وقال: «أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة، فمتى يدرك أجر هذه شيء من عمله». وذكر أيضا: أن لله عند كل بدعة كِيْدَ بها الإسلام وليا يذب عنها، وينطق بعلامتها، فاغتنم يا أخي هذا الفضل، وكن من أهله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كذا وكذا» وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك، وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك إلفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر، فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيردّ الله بك المبتدع المفتون والزائغ

الحائر فتكون خلفا من نبيك - صلى الله عليه وسلم -، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه، وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء الأثر: مَن جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام، وجاء: ما من إله يُعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى، وقد وقعت اللعنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا، وكلما زادوا اجتهادا أو صوما وصلاة ازدادوا من الله بعدا، فارفض مجالسهم، وأذِلَّهم، وأَبْعِدهم كما أَبَعَدَهم الله وأَذَلَّهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة الهدى بعده. انتهى كلامه أسد رحمه الله تعالى. وقوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: «لأن يهدي الله بك رجلا ...» الحديث، لعل هذا وهم من أسد، أو ممن روى عنه؛ لأن المعروف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين أعطاه الراية، وأمره أن يسير إلى أهل خيبر، وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد وغيرهم، والله أعلم. وقال الشيخ إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: سمعت أبا الحسن المكاري يقول: سمعت علي بن عبد العزيز يقول: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: المُتَّبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله. وفي "الكافية الشافية" للمحقق العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فصل نفيس جدا ذكر فيه ثواب الغرباء الممدوحين، وأوضح من ذلك ما أشكل

وصف ابن القيم رحمه الله للغرباء

على كثير من العلماء وأعيا عليهم حله فأجاد وأفاد، تغمدنا الله وإياه برحمته وفضله، وجزاه وأمثاله عن الإسلام والمسلمين خيرا، قال - رضي الله عنه -: فصلٌ: فيما أعد الله تعالى من الإحسان للمتمسكين بكتابه وسنة رسوله عند فساد الزمان: هذا وللمتمسكين بسنة الـ ... مُختار عند فساد ذي الأزمان أجر عظيم ليس يقدر قَدْره ... إلا الذي أعطاه للإنسان فروى أبو داود في سنن له ... ورواه أيضا أحمد الشيباني أثرا تضمن أجر خمسين امرأ ... من صحب أحمد خيرة الرحمن إسناده حسن ومصداقٌ له ... في مسلم فافهمه بالإحسان إن العبادة وقت هرج هجرة ... حقا إليّ وذاك ذو برهان هذا فكم من هجرة لك أيها الـ ... ـسُّنِيُ بالتحقيق لا بأماني هذا وكم من هجرة لهمُ بما ... قال الرسول وجاء في القرآن ولقد أتى مصداقه في الترمذ ... ي لمن له أذنان واعيتان في أجر محيي سنة ماتت فذا ... ك مع الرسول رفيقه بجنان هذا ومصداق له أيضا أتى ... في الترمذي لمن له عينان ... > تشبيه أمته بغيث أول ... منه وآخره فمشتبهان فلذاك لا يدري الذي هو منهما ... قد خص بالتفضيل والرجحان ولقد أتى أثر بأن الفضل في الـ ... ـطّرفين أعني أولا والثاني والوسط ذو ثبج فاعوج هكذا ... جاء الحديث وليس ذا نكران ولقد أتى في الوحي مصداق له ... في الثلتين وذاك في القرآن

أهل اليمين فثلة مع مثلها ... والسابقون أقل في الحسبان ما ذاك إلا أنَّ تابعهم هم الـ ... غُرباء ليست غربة الأوطان لكنها والله غربة قائم ... بالدين بين عساكر الشيطان فلذاك شبههم به متبوعهم ... في الغربتين وذاك ذو تِبيان لم يشبهوهم في جميع أمورهم ... من كل وجه ليس يستويان فانظر إلى تفسيره الغُرباء بالـ ... محيين سنته بكل زمان طوبى لهم والشوق يحدوهم إلى ... أخذ الحديث ومحكم القرآن طوبى لهم لم يعبأوا بنحاتة الـ ... أفكار أو بزبالة الأذهان طوبى لهم ركبوا على متن العزا ... ئم قاصدين لمطلع الإيمان طوبى لهم لم يعبأوا شيئا بذي الـ ... آراء إذ أغناهم الوحيان طوبى لهم وإمامهم دون الورى ... من جاء بالإيمان والفرقان والله ما ائتموا بشخص دونه ... إلا إذا ما دلَّهم بِبيان في الباب آثار عظيم شأنها ... أعيت على العلماء في الأزمان إذ أجمع العلماء أن صحابة الـ ... مُختار خير طوائف الإنسان ... ذ ذا بالضرورة ليس فيه الخلف بيـ ... ـن اثنين ما حكيت به قولان فلذاك ذي الآثار أعضل أمرها ... وبغوا لها التفسير بالإحسان فاسمع إذًا تأويلها وافهمه لا ... تعجل بردٍّ منك أو نكران إن البِدار بِردِّ شيء لم تُحط ... علماً به سببٌ إلى الحرمان الفضل منه مُطلَقٌ ومُقيَّدٌ ... وهما لأهل الفضل مرتبتان والفضل ذو التقييد ليس بموجب ... فضلا على الإطلاق من إنسان

لا يوجب التقييد أن يقضى له ... بالاستواء فكيف بالرجحان إذ كان ذو الإطلاق حاز من الفضا ... ئل فوق ذي التقييد بالإحسان فإذا فرضنا واحدا قد حاز نو ... عًا لم يجزه فاضل الإنسان لم يوجب التخصيص من فضل عليـ ... ـه ولا مساواة ولا نقصان ما خلق آدم باليدين بموجب ... فضلا على المبعوث بالقرآن وكذا خصائص من أتى من بعده ... من كل رسل الله بالبرهان فمحمدا أعلاهُمُ فوقا وما ... حكمت لهم بمزيَّة الرجحان فالحائز الخمسين أجرا لم يحز ... ها في جميع شرائع الإيمان هل حازها في بدرٍ أو أُحد أو الـ ... ـفتح المبين وبيعة الرضوان بل حازها إذ كان قد عدم المعيـ ... ـن وهم فقد كانوا أولي أعوان والرب ليس يضيع ما يتحمل الـ ... متحملون لأجله من شان فتحمل العبد الوحيد رضاه معْ ... فيض العدو وقلة الأعوان مما يدل على يقين صادق ... ومحبة وحقيقة العرفان يكفيه ذلا واغترابا قلة الـ ... أنصار بين عساكر الشيطان في كل يوم فرقة تغزوه إن ... ترجع يوافيه الفريق الثاني فسل الغريب المستضام عن الذي ... يلقاه بين عدى بلا حسبان هذا وقد بعد المدى وتطاول الـ ... ـعهد الذي هو موجب الإحسان ولذاك كان كقابض جمر فسل ... أحشاءه عن حر ذي النيران والله أعلم بالذي في قلبه ... يكفيه علم الواحد المنان في القلب أمر ليس يقدر قدره ... إلا الذي آتاه للإنسان

بر وتوحيد وصبر مع رضا ... والشكر والتحكيم للقرآن سبحان قاسم فضله بين العبا ... د فذاك مولى الفضل والإحسان فالفضل عند الله ليس بصورة الـ ... أعمال بل بحقائق الإيمان وتفاضل الأعمال يتبع ما يقو ... م بقلب صاحبها من البرهان حتى يكون العاملان كلاهما ... في رتبة تبدو لنا بعيان هذا وبينهما كما بين السما ... ء والأرض في فضل وفي رجحان ويكون بين ثواب ذا وثواب ذا ... رُتَب مضاعفة بلا حسبان هذا عطاء الرب جل جلاله ... وبذاك تعرف حكمة الرحمن

فصل: الاعتراض على وصف الغربة بكثرة تعداد المنتسبين إلى الإسلام والجواب عن ذلك

فصل فإن قال قائل: لا نُسلِّم أن الإسلام قد عاد غريبا كما بدأ؛ لأننا نرى المنتسبين إلى الإسلام قد ملأوا مشارق الأرض ومغاربها، وقد ذكر المعتنون بإحصاء النفوس أن عدتهم الآن تبلغ أربعمائة ألف ألف تقريبا، ولا ريب أن المسلمين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغون عُشر هذا العدد، ولا نصف عشره، فكيف يقال والحالة هذه إن الإسلام قد عاد غريبا كما بدأ، وإن أهله الآن غرباء؟! قيل: أما كثرة من ينتسب إلى الإسلام ويدَّعيه، وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها فهذا لا ينكره أحد، وليس الشأن في الانتساب والدعوى، وإنما الشأن في صحة ذلك وثبوته، وماذا يغني الانتساب والدعوى إذا عدمت الحقيقة؟! وقد جاء عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: "كان يقال: إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، وإنما الإيمان ما وقر في القلب، وصدقه العمل" رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد، وكذلك يقال في الإسلام الحقيقي: إنه ليس بالانتساب والدعوى المجردة، فإن ذلك سهل يسير على كل أحد، وإنما الإسلام الحقيقي لزوم المحجة البيضاء التي ترك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أُمتَه عليها، فمن زاغ عنها فهو هالك. إذا علم هذا فالكلام على الإيراد من وجوه: أحدها: أن العدد المذكور ليس بشيء؛ إذ لا حقيقة لأكثره؛ وإنما يقوله بعض المنتسبين إلى الإسلام ليكاثروا به غيرهم من الأمم، وعند التحقيق

الانتساب إلى الإسلام وتحقيق الإسلام

وعرض المنتسبين على الإسلام الحقيقي لا يثبت من هذا العدد إلا القليل كما لا يخفى على من نوّر الله قلبه بنور العلم والإيمان. الثاني: أنه لا يغتر بهذه الكثرة، ويحسبها كلها على الحق وعلى طريق مستقيم إلا الأغبياء الجاهلون بدين الإسلام، الذين لا فرق عندهم بين الموحدين والمشركين، ولا بين المتبعين والمبتدعين، فأما من عرف دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يغتر بمثل هذا ولا يُروَّج عليه. الثالث: أن يقال لمن اغتر بهذا العدد وتكثر به: لقد استسمنت ذا ورم، وأعجبك جهام قليلٌ ماؤه، ومثل هذه الكثرة التي أعجبتك وظننتها حقا كمثل غثاء السيل أكثره زبد وزبل وشوك وما لا خير فيه، وهكذا أكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذا الزمان، قال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 106]، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وما أكثر من ينتسب إلى الإسلام في زماننا وقبله بقرون كثيرة وهم من أولياء الشيطان وحزبه، وما أقل أهل الإسلام الحقيقي فيهم، يوضح ذلك الوجه الرابع: أن أكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان ليس معهم من الإسلام ما يعصم الدم والمال، مثل إسلام المنافقين الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلا عما هو أعلى من ذلك كإسلام الأعراب الذين منُّوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهم فضلا عن الإسلام الحقيقي الذي يرادف الإيمان، وقد علّق النبي - صلى الله عليه وسلم - عصمة الدم والمال بأمورٍ أكثر المنتسبين إلى الإسلام الآن في معزل عنها أو عن بعضها كما لا يخفى على من عرف دين

الإسلام وعرف ما عليه أكثر من يدّعيه، ففي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مِنِّي دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» هذا لفظ البخاري، وعند مسلم: «إلا بحقها». وفي المسند، وتاريخ البخاري، وسنن ابن ماجة، والدراقطني، ومستدرك الحاكم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة»، زاد أحمد والدارقطني والحاكم: «ثم قد حُرِّمت عليَّ دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله عز وجل». وفي رواية للدراقطني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمرت بثلاثة: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وفي المسند، وسنن ابن ماجة، والدراقطني، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة»، زاد أحمد: «فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل».

وفي سنن النسائي، ومستدرك الحاكم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما توفّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدّت العرب، فقال عمر - رضي الله عنه -: يا أبا بكر، كيف تقاتل العرب؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقد رواه الدارقطني في سننه ولفظه عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه -: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»، والله لو منعوني عناقا مما كانوا يعطون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأقاتلنهم عليه. وفي صحيح مسلم، وسنن الدارقطني، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وفي صحيحه أيضا عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قال لا إله إلا الله وكَفَرَ بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله»، وفي رواية: «من وحّد الله» والباقي مثله. ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك

الأشجعي عن أبيه - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من وحّد الله تعالى، وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل». وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته». وفي رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلُّوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وفي رواية أخرى: أن ميمون بن سياه سأل أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: يا أبا حمزة: ما يُحرِّم دم العبد وماله؟ فقال: «من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم». وقد رواه الإمام أحمد، وأهل السنن إلا ابن ماجة، كلهم من حديث عبد الله بن المبارك، عن حميد الطويل، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظ أبي داود، والترمذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن معاذ بن جبل، وأبي هريرة رضي الله عنهما. انتهى.

وقد رواه أبو داود والدارقطني، من حديث يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا حُرِّمت علينا أموالهم ودماؤهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلم وعليهم ما على المسلم» هذا لفظ الدارقطني. ورواه النسائي والدارقطني أيضا، من حديث محمد بن عيسى بن سميع، عن حميد الطويل، عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات. انتهى. وقال الخطابي رحمه الله تعالى في قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»: معلوم أن المراد بقوله: «حتى يقولوا لا إله إلا الله» إنما هم أهل الأوثان دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، ثم أنهم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف، وقوله: «حسابهم على الله» معناه فيما يستسرون به دون ما يخلون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر. انتهى. وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دُعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله لا

إله إلا الله، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر «وأني رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة». قال النووي رحمه الله تعالى: ولابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة - رضي الله عنه -: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به». انتهى. وقال البغوي رحمه الله تعالى: الكافر إذا كان وثنيا، أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه، ثم يُجبر على قبول جميع أحكام الإسلام، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وأما من كان مقرا بالوحدانية، منكرا للنبوة، فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلابد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحود واجبٍ واستباحة مُحرَّم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومقتضى قوله يجبر أنه إذا لم يلتزم تجرى عليه أحكام المرتد، وبه صرّح القفَّال. انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدّس الله روحه لما سئل عن قتال التتار مع دعواهم التمسك بالشهادتين، قال رحمه الله تعالى: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر

لأبي بكر رضي الله عنهما، فاتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة، وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق، مع قوله: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم»، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمُسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأيُّما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر، أو الزنا، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الجاحد لوجوبه، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء، وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر، أو الأذان أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبهما ونحو ذلك من الشعائر، هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات، أو المحرمات المذكورة، ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو

خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام، بمنزلة مانعي الزكاة، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي - رضي الله عنه -، ولهذا افترقت سيرة علي - رضي الله عنه - في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك، وثبتت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل قوله: فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه ليس بمُسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب .. إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. ثم تأمل ما عليه أكثر من يدَّعي الإسلام، من صَرْف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله، ومن تَرْكهم ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من واجبات الدين، وارتكابهم لمحرماته، فبذلك تعرف أن أكثر المنتسبين إلى الإسلام في معزل عنه، وأن أهل الإسلام الحقيقي هم الأقلون عددا، فالله المستعان. وقال شيخ الإسلام أيضا -قدس الله روحه- في جواب آخر: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين، وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر

رمضان، أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء، والأموال، والأعراض، والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله. انتهى. ومن تأمل هذا الكلام حق التأمل، ونزله على أحوال المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان رأى أن كثيرا منهم محتاجون إلى القتال كما قاتل الصديق - رضي الله عنه - مانعي الزكاة، وكما قاتل علي - رضي الله عنه - أهل النهروان. فالله المستعان. وفي الاختيارات: أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة عن شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله

كالمحاربين وأولى. انتهى. وقال الشيخ عثمان بن قائد الحنبلي في عقيدته: تتمة الإسلام الإتيان بالشهادتين، مع اعتقادهما، والتزام الأركان الخمسة إذا تعينت، وتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، ومَن جحد ما لا يتم الإسلام بدونه، أو جحد حكما ظاهرا، أو أجمع على تحريمه، أو حِلّه إجماعا قطعيا، أو ثبت جزما كتحريم لحم الخنزير، أو حلّ خمر ونحوهما كَفَرَ، أو فعل كبيرة، وهي ما فيها حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو داوم على صغيرة، وهي ما عدا ذلك فسق. انتهى. وقال الراغب الأصفهاني: الإسلام في الشرع على ضربين: أحدهما: دون الإيمان؛ وهو الاعتراف باللسان، وبه يُحقن الدم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه قصد بقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. والثاني: فوق الإيمان؛ وهو أن يكون مع الاعترافات اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، واستسلام لله في جميع ما قضى وقدر، كما ذكر عن إبراهيم - عليه السلام - في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، وقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] أي: اجعلني ممن استسلم لرضاك، وقوله: {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 53] أي: منقادون للحق مذعنون له. انتهى.

وقوله: وبه يحقن الدم؛ يعني مع التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة. وقوله: والثاني فوق الإيمان؛ لو قال مرادف الإيمان، كما عبر بذلك غيره لكان أولى، وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام إيمانا في حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس، وسمى الإيمان إسلاما في حديث عمرو بن عنبسة الذي رواه الإمام أحمد أن رجلا قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: «أن تُسلم قلبك لله، وأن يَسَلم المسلمون من لسانك ويدك»، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان»، قال: وما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ..» الحديث، ففي هذا دليل لمن قال بالترادف كما يأتي. وهذا الذي قرره الراغب قد ذكره البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وقرره الحافظ ابن حجر في فتح الباري تقريرا حسنا. قال البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان: باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}، فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}. قال الحافظ ابن حجر: ومحصل ما ذكره واستدل به أن الإسلام يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يرادف الإيمان، وينفع عند الله، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وقوله تعالى: {فَمَا

وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، ويطلق ويراد به الحقيقة اللُغوية، وهو مجرد الانقياد والاستسلام، فالحقيقة في كلام المصنف هنا هي الشرعية، والمسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يعلم باطنه، فلا يكون مؤمنا لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللُغوية فحاصلة. انتهى. وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا، قال: وفي الباب عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -. انتهى. وقد روى هذا الحديث محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة ولفظه: «بني الإسلام على خمس دعائم» فذكره. وفي رواية لأحمد: «الإسلام خمس». وفي رواية لمسلم: «بني الإسلام على خمسة، على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج». وفي رواية له: «بني الإسلام على خمس، على أن يعبد الله ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان». وفي رواية للبخاري موقوفة: «بُني الإسلام على خمس، إيمانا بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت».

وروى الإمام أحمد، والطبراني، والآجري، عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الإسلام بني على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان». وفي المسند، وصحيح مسلم، والسنن، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن عمر - رضي الله عنه - أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني عن الإسلام، قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، قال: صدقت. ورواه البخاري، ومسلم، وأهل السنن إلا الترمذي، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ولفظه: قال: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان». ورواه النسائي أيضا من حيث أبي هريرة وأبي ذر -رضي الله عنهما- بنحوه وفيه: «وتحج البيت»، قال: وإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: «نعم»، قال: صدقت. ورواه الإمام أحمد، وأبو بكر الآجري، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- بنحو حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما. ورواه الآجري أيضا من طرق أخرى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وزاد فيه بعد الحج: «الغسل من الجنابة».

ورواه الإمام أحمد أيضا وأبو داود، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وفيه: «الغسل من الجنابة». ورواه ابن حبان في صحيحه، والدراقطني في سننه، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن عمر - رضي الله عنه - وفيه: «وتحج، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء»، وقال فيه: فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: «نعم»، قال: صدقت. قال الدراقطني: إسناده ثابت صحيح، أخرجه مسلم بهذا الإسناد. قلت: إنما ساق مسلم إسناده فقط، وأما المتن فأحال به على ما تقدم قبله. ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" بإسناد ساقه مسلم ولم يسق لفظه من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: حدثني عمر - رضي الله عنه - فذكر الحديث، وفيه فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تسلم وجهك لله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج»، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: «نعم»، قال: صدقت. وفي المسند، وسنن النسائي، ومستدرك الحاكم، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: «أن تُسلم قلبك لله، وأن توجه وجهك لله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة ..» الحديث، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

معنى الإسلام الحقيقي

وفي المسند أيضا عن عامر، أو أبي عامر، أو أبي مالك - رضي الله عنه - أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإسلام؟ قال: «أن تسلم وجهك لله، وأن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة»، قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: «نعم». فهذه الأحاديث متطابقة في المعنى وإن اختلفت في بعض الألفاظ، وهي تُفسِّر معنى الإسلام الحقيقي المطلوب من كل أحد، وتفيد أن من ترك شيئا مما ذكر فيها فليس بمسلم وإن زعم ذلك بلسانه، وهذا مستفاد من جواب السؤال، ومن قوله أيضا: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: «نعم»، فدل بمفهومه أن من ترك من ذلك شيئا فليس بمسلم، والمراد إذا تركه من غير عذر شرعي يبيح له الترك، فأما أهل الأعذار فلهم أحكام خاصة معروفة في مواضعها، وتفيد أيضا أنه لابد في الإسلام من تجريد التوحيد لله تعالى، والكفر بما يعبد من دونه كائنا ما كان، والدليل على ذلك قوله في الرواية الثانية لمسلم: «أن يوحد الله»، وقوله في الرواية الثالثة له: «أن يعبد الله ويكفر بما دونه»، وقوله في حديث أبي هريرة: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا»، وقوله في رواية عبد الله ابن الإمام أحمد عن عمر - رضي الله عنه -: «أن تسلم وجهك لله»، وقوله في حديث معاوية بن حيدة: «أن تسلم قلبك لله وتوجه وجهك لله»، وكذلك ما تقدم قريبا في حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبيه: «من وحّد الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله»، وكذلك قوله في حديث أنس الذي بعده: «وذبحوا ذبيحتنا» يعني: ذبحوا لله وعلى اسم الله، ولم يذبحوا لغيره، ولا على اسم (¬1) ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: ولا على اسم غيره.

وما في حديث أبيه (¬1)، وجرير - رضي الله عنهم - من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله»، وتفيد أنه لا يكتفي من قائلها بمجرد التلفظ بها فقط، بل لابد من اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها، وعلى هذا فليس بمسلم من صرف شيئا من خصائص الربوبية أو الإلهية لغير الله تعالى، بل هو مشرك شاء أم أبى، وإن كان يقول لا إله إلا الله، ويدّعي أنه مسلم؛ لأن فعله ينافي قوله ويُكذّب دعواه، وكذلك ليس بمسلم من لم يكفر بما يُعبد من دون الله، وإن كان يقول لا إله إلا الله ولا يشرك به شيئا؛ لأن الكفر بما يُعبد من دون الله شرط في صحة الإسلام لما تقدم، ومعنى الكفر بما يُعبد من دون الله تعالى: اعتقاد بطلانه، والبراءة منه ومن أهله، وإظهار العداوة لهم والبغض، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. ولما كان إقام الصلاة أعظم مباني الإسلام بعد الشهادتين نص في بعض الروايات هنا على الغُسل وإتمام الوضوء؛ لأن الصلاة لا تصح بدون ذلك مع القدرة، وليس ذكرهما زيادة في المباني كما قد يفهم بعض الناس، وإنما هو مزيد اهتمام بشأن الصلاة وما يشترط لها، وتنبيه بما ذكر من شروطها على ما لم يذكر، كما نص على استقبال القبلة في حديث أنس الذي تقدم قريبا، وجعله من أمور الإسلام التي يقاتل على تركها، وذكر بقية الشروط مجملة في قوله: «وصلى صلاتنا»، وإنما عظم الشارع شأن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ويعني: ما ورد عن ابن عمر في الحديث الذي رواه عن أبيه رضي الله عنهما.

الصلاة، واهتم ببيان ما يجب لها لأنها عمود الإسلام، إذا تركت سقط بناء الإسلام كما يسقط الفسطاط إذا سقط عموده، ولهذا جاء في صحيح مسلم وغيره، عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة». وفي ذكر الاعتمار، والغسل، وإتمام الوضوء، واستقبال القبلة، وأكل ذبائح المسلمين، والذبح مثلهم لله وعلى اسم الله تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام، وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا كما تدل على ذلك أحاديث أُخر ليس هذا موضع ذكرها، وكما أن التوحيد، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام أركان للإسلام لا يقوم بناؤه إلا عليها، فكذلك هي أيضا أعلام للإنسان يُعرف بها، كما تعرف الطرق بعلاماتها من جبال، وأحجار، ونحوها، وقد جاء في ذلك حديث رواه محمد بن نصر المروزي، من حديث خالد بن معدان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن للإسلام ضوءا ومنارا كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الحديث. ورواه الحاكم في مستدركه مختصرا وقال: صحيح على شرط البخاري، قال: وأما سماع خالد بن معدان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فغير مستبدع (¬1)، فقد ¬

_ (¬1) كذا جاءت في الأصل وفي المطبوع من المستدرك، ولعلها سبق قلم، والصواب "مستبعد"، والله أعلم.

حكى الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عنه أنه قال: لقيت سبعة عشرة رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحافظ الذهبي: قال ابن أبي حاتم: خالد عن أبي هريرة متصل، وقال: أدرك أبا هريرة، ولم يذكر له سماع. انتهى. وقال الحاكم في موضع آخر من المستدرك: خالد بن معدان من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل، فمن بعده من الصحابة، فإذا أسند حديثا إلى الصحابة فإنه صحيح الإسناد، وإن لم يخرجاه. انتهى، وأقره الذهبي على هذا القول في تلخيصه. وقد جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث: «إن للإسلام صوىً» بالصاد المهملة. ورواه أبو نعيم بهذا اللفظ في كتاب "الحلية" من حديث روح بن عبادة، حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن للإسلام صوى بيِّنًا كمنار الطريق، فمن ذلك أن يعبد الله لا يشرك به شيء، وتقام الصلاة، وتؤتى الزكاة، ويحج البيت، ويصام رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتسليم على بني آدم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت، ومن انتقص منهن شيئا فهو سهم من سهام الإسلام تركه، ومن تركهن كلهن فقد ترك الإسلام» قال أبو نعيم: غريب من حديث خالد تفرد به ثور، حدث به أحمد بن حنبل والكبار عن روح. انتهى.

قال أبو عبيد الهروي: الصوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة، يستدل بها على الطريق، واحدتها صوة كقوة، أراد أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدى بها. انتهى. وقال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]. قال البغوي رحمه الله تعالى: الصراط المستقيم هو الإسلام. وقال في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]: القصد من السبيل دين الإسلام. وذكر ابن كثير هذا القول عن السدي. وقال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: هو الإسلام الذي وصى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم. ثم روى بسنده عن ابن زيد قال: سبيله الإسلام، وصراطه الإسلام، نهاهم أن يتبعوا السبل سواه، فتفرق بكم عن سبيله عن الإسلام. وروى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، والآجري، عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ..» الحديث، وفيه: «فالصراط الإسلام» قال الترمذي: حسن غريب. وقال عاصم الأحول: قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه

فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الصراط يمينا ولا شمالا. رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فالإسلام هو دين الله الذي اصطفاه لرسله وأنبيائه ورضيه لعباده المؤمنين دينا، كما قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فمن ابتغى دينا غير الإسلام لم يقبل الله منه ولو عمل أي عمل، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، والإسلام أيضا سبيل الله، والصراط المستقيم الموصل إلى الله تعالى، فمن سلكه وجعل أعلامه نصب عينيه، لا يلتفت عنها يمينا ولا شمالا، واستضاء بهدى الله ونوره الذي أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضى به إلى دار السلام في جوار ذي الجلال والإكرام كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، وقال تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}، وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}، وفي هذه الآيات أقوال أصحها قول مجاهد، والحسن، والفرّاء: أن طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى وإليه تنتهي، قال الواحدي في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}: أي إن الهدى يوصل صاحبه إلى الله، وإلى ثوابه وجنته. انتهى. فأما من خرج عن طريق الهدى، وضيّع أعلام الإسلام ومناره، ولم يقبل

هدى الله الذي بعث به رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولم يرفع به رأسا فإن الشياطين تستهويه، وتسلك به مسالك الغي والضلال المفضيات بسالكها إلى الهلاك والردى، قال الله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 71 - 72]. قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} أي في الكفر {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ}، فيكون مثلنا مثل الذي {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} يقول: مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضلّ الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام. رواه ابن جرير. وروى أيضا أن رجلا قال لابن مسعود - رضي الله عنه -: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثَمّ رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ

ابن مسعود - رضي الله عنه -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية. وقد ذكر الله الإسلام الحقيقي في آيات كثيرة من كتابه، ومن أجمعها قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32]. قال البغوي رحمه الله تعالى: إقامة الوجه إقامة الدين، قال سعيد بن جبير: أخلص دينك لله، وقال غيره: سدد عملك. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله، {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} دين الأولين، والفطرة الإسلام، ثم ساق حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}. قال البغوي رحمه الله تعالى: وهذا قول ابن عباس -رضي الله عنهما- وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة الدين، وهو الإسلام. وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي

التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} فلهذا لا يعرفه أكثر الناس، فهم عنه ناكبون كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]. انتهى. وقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال البغوي رحمه الله تعالى: أي راجعين إليه بالتوبة، مقبلين إليه بالطاعة. انتهى. وقوله: {وَاتَّقُوهُ} أي خافوه وراقبوه. وحقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله تعالى وسخطه وعقابه وقاية تقيه منه؛ وذلك بفعل ما أوجبه، واجتناب ما حرمه. قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير. وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: هذه الآية مما استدل به من يرى تكفير تارك الصلاة، لما يقتضيه مفهومها، وهي من أعظم ما ورد في القرآن في فضل الصلاة. انتهى. قلت: وإقامة الصلاة وترك الشرك داخل في معنى قوله: {مُنِيبِينَ

أجمع الآيات في الإسلام الحقيقي

إِلَيْهِ}، وإنما خصصا بالذكر لمزيد الاعتناء بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام، وبالصلاة التي هي عموده. ومن أَجْمَع الآيات في ذكر الإسلام الحقيقي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112]، فهذا هو الإسلام الحقيقي الذي يثاب فاعله، ويعاقب تاركه. وإسلام الوجه لله تعالى هو: إفراده بالعبادة، وإخلاص الأعمال كلها له، وهذا هو توحيد الإلهية، ويسمى أيضا توحيد العبادة، وتوحيد القصد والإرادة، فمَن عَبَدَ الله ولم يشرك به شيئا، وكفر بما يُعبد من دونه فقد أسلم وجهه لله، واستمسك بالعروة الوثقى لا إله إلا الله، فإن مدلولها نفي الشرك وإنكاره والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده كما قال الخليل - عليه السلام -: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]؛ يقول: أخلصت

ديني، وأفردت عبادتي لله وحده في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك قصدا إلى التوحيد، ولهذا قال: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا الذي قاله الخليل - عليه السلام - هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رُسُله وأنزل به كتبه، وهو سر الخلق والأمر، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ} [الرعد: 36]، وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} إلى قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 11 - 15]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}: أي أخلص العمل لربه عز وجل، فعمل إيمانا واحتسابا، وهو محسن أي اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعا للشريعة، فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقا، وهم الذين يراءون الناس، ومتى فقد المتابعة كان ضالا جاهلا، ومتى جمعهما

كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم، قال: والحنيف هو المائل عن الشرك قصدا أي تاركا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكُلِّيَته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد. انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: الذي أسلم وجهه لله هو الذي يخلص نيته لله، ويبتغي بعمله وجه الله، والمحسن هو الذي يحسن عمله فيعمل الحسنات، والحسنات هي العمل الصالح، والعمل الصالح هو ما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب، فما ليس من هذا ولا هذا ليس من الحسنات والعمل الصالح، فلا يكون فاعله محسنا. قال: والإسلام هو أن يستسلم لله لا لغيره، فيعبد الله ولا يشرك به شيئا، ويتوكل عليه وحده، ويرجوه، ويخافه وحده، ويحب الله المحبة التامة، لا يحب مخلوقا كحبه لله، بل يحب لله ويبغض لله، ويوالي لله ويعادي لله، فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلما، ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلما، وإنما تكون عبادته بطاعته وطاعة رسوله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، فكل رسول بعث بشريعة فالعمل بها في وقتها هو دين الإسلام، وأما ما بدل منها فليس من دين الإسلام، وإذا نسخ منها ما نسخ لم يبق من دين الإسلام، كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهرا، ثم الأمر باستقبال الكعبة، وكلاهما في وقته دين الإسلام، فبعد النسخ لم يبق دين الإسلام إلا أن يولي المصلي وجهه شطر المسجد الحرام، فمن قصد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لم يكن على دين الإسلام؛ لأنه يريد أن يعبد الله بما لم يأمره، وهكذا كل بدعة تخالف أمر الرسول،

إما أن تكون من الدين المبدل الذي ما شرعه الله قط، أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه كالتوجُّه إلى بيت المقدس، فلهذا كانت السنة في الإسلام كالإسلام في الدين هو الوسط. انتهى. وقال أيضا في موضع آخر: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمَن عَبَدَه وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب عمل القلب والجوارح، وأما الإيمان فأصله تصديق القلب، وإقراره، ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له. انتهى. وقال أيضا في موضع آخر: الإسلام هو الاستسلام لله وحده، ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، ويتضمن إخلاصه لله، وقد ذكر ذلك غير واحد حتى أهل العربية كأبي بكر بن الأنباري وغيره، ومن المفسرين من يجعلهما قولين، كما يذكر طائفة -منهم البغوي- أن المسلم هو المستسلم لله، وقيل: هو المخلص. والتحقيق: أن المسلم يجمع هذا وهذا، فمن لم يستسلم له لم يكن له مسلما، ومن استسلم لغيره كما يستسلم له لم يكن مسلما، ومن استسلم له وحده فهو المسلم، والاستسلام له يتضمن الاستسلام لقضائه، وأمره ونهيه، فيتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور {إِنَّهُ

مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن وراد، حدثنا آدم عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يقول: من أخلص لله، قال ابن أبي حاتم: وروي عن الربيع نحو ذلك، وقال: ذكر عن يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} قال: {مَنْ أَسْلَمَ} أخلص {وَجْهَهُ} قال: دينه، وقال أبو الفرج: أسلم بمعنى أخلص، وفي الوجه قولان: أحدهما: أنه الدين. والثاني: العمل. وقال البغوي: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أخلص دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله، وقيل: خضع وتواضع لله، وأصل الإسلام الاستسلام والخضوع، وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه، وهو محسن في عمله قيل: مؤمن، وقيل: مخلص. قلت: قول من قال خضع لربه هو داخل في قول من قال: أخلص دينه أو عمله أو عبادته لله، فإن هذا إنما يكون إذا خضع له وتواضع له دون غيره، فإن العبادة والدين والعمل له لا يكون إلا مع الخضوع له والتواضع، وهو مستلزم لذلك، ولكن أولئك ذكروا مع هذا أن يكون هذا الاستسلام لله وحده فذكروا المَعْنَيَيْن: الاستسلام، وأن يكون لله. وقول من قال: خضع وتواضع لله يتضمن أيضا أنه أخلص عبادته ودينه لله، فإن ذلك يتضمن الخضوع والتواضع لله دون غيره، وأما ذكره التوجه

فقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع، وبين أن الله ذكر إسلام الوجه له وذكر إقامة الوجه له في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [الروم: 43]، وذكر توجيه الوجه له في قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ لأن الوجه إنما يتوجه إلى حيث توجه القلب، والقلب هو الملك، فإذا توجه الوجه نحو جهة كان القلب متوجها إليها، ولا يمكن للوجه أن يتوجه بدون القلب، فكان إسلام الوجه وإقامته وتوجيهه مستلزما لإسلام القلب وإقامته وتوجيهه، وذلك يستلزم إسلاما كله لله، وتوجيهًا كله لله، وإقامة كلها لله، وهذا حقيقة دين الإسلام. انتهى. وقال أيضا في موضع آخر: وقد بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق التوحيد وتجريده، ونفي الشرك بكل وجه حتى في الألفاظ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء محمد، بل ما شاء الله ثم شاء محمد» وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: «أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده»، والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، فالصلاة لله وحده، والصدقة لله وحده، والصيام لله وحده، والحج لله وحده إلى بيت الله وحده، فالمقصود من الحج عبادة الله وحده في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، ولهذا كان الحج شعار الحنيفية حتى قال طائفة من السلف {حُنَفَاءَ لِلَّهِ}: أي حجاجا، فإن اليهود والنصارى لا يحجون البيت، قال طائفة من السلف: لما أنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}

قالتْ اليهود والنصارى: نحن مسلمون، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فقالوا: لا نحج، فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا ...} الآية، عام في الأولين والآخرين، فإن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به أنبياؤه، وعليه عباده المؤمنون، كما ذكر الله ذلك في كتابه من أول رسول بعثه إلى أهل الأرض نوح، وإبراهيم، وإسرائيل، وموسى، وسليمان، وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين قال الله تعالى في حق نوح: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71 - 72]، وقال تعالى في إبراهيم، وإسرائيل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 133]، وقال تعالى عن يوسف: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وقال تعالى عن موسى وقومه: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ

تضمن إسلام الوجه للإخلاص في العبادة وإحسان العمل

تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]، وقال في أنبياء بني إسرائيل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} الآية، وقال تعالى عن بلقيس: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وقال تعالى عن أمة عيسى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]، وقال تعالى عنهم أيضا: {رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 11 - 112]. وقد فسر إسلام الوجه لله بما يتضمن إخلاص قصد العبد لله بالعبادة له وحده، وهو محسن بالعمل الصالح المشروع المأمور به، وهذان الأصلان جماع الدين؛ أن لا نعبد إلا الله، وأن تعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله

صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا. قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أصوبه، وأخلصه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة. وهذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله. فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره؛ لا بحب، ولا خوف، ولا رجاء، ولا إجلال، ولا إكبار، ولا رغبة، ولا رهبة، بل لابد أن يكون الدين كله لله كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من الشرك بحسب ذلك، وكمال الدين كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان»، فالمؤمنون يحبون الله ولله، والمشركون يحبون مع الله كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. والشهادة بأن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، فما أثبته وجب إثباته، وما نفاه وجب نفيه، كما

يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات، وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة المخلوقات، فيخلصون من التعطيل والتمثيل، ويكونون على خير عقيدة في إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم به، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، ويحللوا ما أحله، ويحرموا ما حرمه، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله، ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما؛ لكونهم حرّموا ما لم يحرمه الله، ولكونهم شرعوا دينا لم يأذن به الله، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] إلى آخر السورة، وما ذكره الله في صدر سورة الأعراف، وكذلك قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ}، وقد قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]، فأخبره أنه أرسله داعيا إليه بإذنه، فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وقد قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، والمؤمنون صدقوا الرسول فيما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر، فآمنوا بالله واليوم الآخر، وأطاعوه فيما أمر ونهى، وحلل وحرم، فحرموا ما حرم الله ورسوله، ودانوا دين الحق، فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، فأمرهم بكل معروف، ونهاهم عن كل منكر، وأحل لهم كل طيب، وحرم عليهم كل خبيث. ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، والانقياد، ويتضمن الإخلاص، مأخوذ من قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]، فلابد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا: لا إله إلا الله، فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك، والله لا يغفر أن يُشرَك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته وقد قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان» فقيل له: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك؟ قال: «لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»؛ بطر الحق: جحده ودفعه، وغمط

الناس: ازدراؤهم واحتقارهم، فاليهود موصوفون بالكبر، والنصارى موصوفون بالشرك، قال الله تعالى في نعت اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]، وقال في نعت النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، ولهذا قال تعالى في سياق الكلام مع النصارى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وقال تعالى في سياق تقريره للإسلام وخطابه لأهل الكتاب: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} إلى قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 136 - 140]. ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدا وإن تنوعت شرائعه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحدا، والأنبياء إخوة لعلات، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، فليس بيني وبينه نبي» فدينهم واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يُعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت، وتَنوُّع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع

الشريعة الواحدة، فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو دين واحد مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بذلك بعد الهجرة بضعة عشر شهرا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة ويحرم استقبال الصخرة، فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته، ولهذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت ثم نسخ ذلك وشرع لنا الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة وحرم الاجتماع يوم السبت، فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلما، ومن لم يدخل في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد النسخ لم يكن مسلما. ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] ثم قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31]. فأهل الإشراك متفرقون وأهل الإخلاص متفقون، وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}

افتراق المشركين وتعدد آلهتهم

[هود: 118 - 119]، فأهل الرحمة مجتمعون متفقون، والمشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع يفترق أهله، فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت يتخذونه ندا من دون الله، فيُقرِّبون له، ويستعينون به، ويشركون به، وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، بل قد يكون لأهل هذا الطاغوت شريعة ليست للآخرين، وهكذا تجد من يتخذ شيئا من نحو هذا الشرك؛ كالذين يتخذون القبور وآثار الأنبياء والصالحين مساجد تجد كل قوم يقصدون بالدعاء والاستغاثة، والتوجه من لا تعظمه الطائفة الأخرى، بخلاف أهل التوحيد فإنهم يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئا في بيوته التي قد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، مع أنه قد جعل لهم الأرض كلها مسجدا وطهورا، وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يوجب ذلك لهم تفرقا ولا اختلافا، بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران، وأن المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له. والله هو معبودهم وحده، إياه يعبدون، وعليه يتوكلون، وله يخشون ويرجون، وبه يستعينون ويستغيثون، وله يدعون ويسألون، فإن خرجوا إلى الصلاة في المساجد كانوا مبتغين فضلا منه ورضوانا، كما قال تعالى في نَعْتهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 48]، وكذلك إذا سافروا إلى أحد المساجد الثلاثة لاسيما المسجد الحرام الذي أُمروا بالحج إليه قال تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}

بعض أنواع شرك المشركين

[المائدة: 2]، فهم يؤمّون بيته يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، لا يرغبون إلى غيره، ولا يرجون سواه، ولا يخافون إلا إياه، وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم، واستزلهم عن إخلاص الدين لربهم إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة رضا غير الله والرغبة إلى غيره، ويشدون الرحال إما إلى قبر نبي أو صاحب أو صالح، أو مَن يظنون أنه نبي أو صاحب أو صالح، داعين له راغبين إليه، ومنهم من يظن أن المقصود من الحج هو هذا، فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور، ومنهم من يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت، ومن شيوخهم من يقصد حج البيت فإذا وصل إلى المدينة رجع مكتفيا بزيارة القبر وظن أن هذا أبلغ، ومن جُهَّالهم من يتوهم أن زيارة القبور واجبة، وأكثرهم يسأل الميت المقبور كما يسأل الحي الذي لا يموت، فيقول: يا سيدي فلان، اغفر لي وارحمني وتُب عليّ، أو يقول: اقضي عني الدين، وانصرني على فلان، وأنا في حسبك وجوارك، وقد ينذرون أولادهم للمقبور، ويسيبون له السوائب من البقر والغنم وغيرها كما كان المشركون يسيبون السوائب لطواغيتهم، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. ومِن السَدَنَة مَن يُضلِّل الجهال فيقول: أنا أذكر حاجتك لصاحب

الضريح، وهو يذكرها للنبي، والنبي يذكرها لله، ومنهم من يعلق على القبر المكذوب أو غير المكذوب من الستور والثياب، ويضع عنده من مصوغ الذهب والفضة مما قد أجمع المسلمون على أنه من دين المشركين وليس من دين الإسلام، والمسجد الجامع معطل خراب صورةً ومعنًى، وما أكثر من يعتقد من هؤلاء أن صلاته عند القبر المضاف إلى بعض المعظمين مع أنه كذب في نفس الأمر أعظم من صلاته في المساجد الخالية من القبور والخالصة لله، فيزدحمون للصلاة في مواضع الإشراك المُبتَدَعَة التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذها مساجد وإن كانت على قبور الأنبياء، ويهجرون الصلاة في البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، والتي قال فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. ومن أكابر شيوخهم من يقول: الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان مع استدبار الكعبة قبلة الخاصة، وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين، وهذه المسائل تحتمل من البسط أكثر مما كتبناه في هذا، وإنما نبهنا فيه على رؤوس المسائل وجنس الدلائل، والتنبيه على مقاصد الشريعة وما فيها من إخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وما سدَّته من الذريعة إلى الشرك دقّه وجلّه، فإن هذا هو أصل الدين، وحقيقة دين المرسلين، وتوحيد رب العالمين، وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا

حقيقته في نفوسهم. فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، بل نفي الأسماء الحسنى أيضا، وسموا أنفسهم أهل التوحيد، وأثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات، ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما سموه تركيبا، وظنوا أن العقل ينفيه، كما قد كشفنا أسرارهم، وبينا فرط جهلهم، وما أضلهم من الألفاظ المجملة المشتركة في غير هذا الموضع. وطائفة ظنوا أن التوحيد ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية، وأن الله خلق كل شيء، وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال، ومن أهل الكلام من أطال نظره في تقرير هذا الموضع إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا عندهم هو معنى قولنا لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] الآيات، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}

[يوسف: 106]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولن الله، وهم مع هذا يعبدون غيره. وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به كل الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر الذي لا يغفره الله، بل لابد أن يخلص لله الدين والعبادة، فلا يعبد إلا إياه، ولا يعبده إلا بما شرع، فيكون دينه كله لله. والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل، وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد على طريق أهل التصوف ظن أن توحيد الربوبية هو الغاية والفناء فيه هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن، واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع المخلوقات، وبين محبته ورضاه المختص بالطاعات، وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزهن برٌّ ولا فاجر لشمول القدرة لكل مخلوق، وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه. فالعبد مع شهوده الربوبية العامة الشاملة للمؤمن والكافر والبر الفاجر عليه أن يشهد ألوهيته التي اختص بها عباده المؤمنين، الذين عبدوه وأطاعوا أمره واتبعوا رُسُله، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]. ومن لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه، وبين ما أمر به وأوجبه من الإيمان والأعمال الصالحات، وبين ما كرهه ونهى عنه وأبغضه من الكفر والفسوق والعصيان، مع شمول قدرته ومشيئته وخلقه لكل شيء، وإلا وقع في دين المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، ثم إن أولئك المبتدعين الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات، وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر إذا حققنا القولين أفضى بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق والمخلوق، بل يقولون بوحدة الوجود، كما قاله أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد، الذين يعظمون الأصنام وعابديها، وفرعون وهامان وقومهما، ويجعلون وجود خالق الأرض والسموات هو وجود كل شيء من الموجدات، ويدعون التوحيد والتحقيق والعرفان، وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس والبهتان، ومَن أحكم الأصلين المتقدمين في الصفات والخلق والأمر فميَّز بين المأمور المحبوب المرضي لله وبين غيره مع شمول القدر لهما، وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي توجب مباينته المخلوقات، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، أثبت التوحيد الذي يبعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما نبَّه على ذلك في سورتي الإخلاص {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ

اللَّهُ أَحَدٌ}. فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها التوحيد القولي العملي الذي تدل عليه الأسماء والصفات، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فيها التوحيد القصدي العملي، وبهذا يتميز من يعبد الله ممن يعبد غيره، وإن كان كل واحد منهما يُقرُّ بأن الله رب كل شيء ومليكه، ويتميز عباد الله المخلصون الذين لم يعبدوا إلا إياه، ممن عبد غيره وأشرك به، أو نظر إلى القدر الشامل لكل شيء، فسوى بين المؤمنين والكفار كما كان يفعل المشركون من العرب. وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها إثبات الذات، وما لها من الأسماء والصفات التي يتميز بها مثبتو الرب الخالق الأحد الصمد عن المعطلين له بالحقيقة، نُفاة الأسماء والصفات المضاهين لفرعون وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود للإله المعبود. انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله تعالى ملخصا، ولا مزيد عليه في تقرير التوحيد، ونفي الشرك والبدع، وبيان حقيقة الإسلام، وإيضاح معاني الأحاديث التي قدمنا ذكرها في أول الوجه، فليتأمله الناصح لنفسه حق التأمل، فما أعظمه وأجلّه وأنفعه لمن أراد الله هدايته. وتأمل ما حكاه عن القبوريين من الأمور الشركية، وحكايته اتفاق العلماء على أن ذلك من الكفر الصريح وأنه من دين المشركين، وقد زاد الأمر بعده شدة، وعظمت الفتنة بالقبور حتى اتُخذت أوثانا تُعبد من دون الله، ويُفعل عندها وبها أعظم مما كان يفعله مشركو العرب. ومن فهم ما ذكرناه في هذا الوجه من أوله إلى آخره لاسيما الأحاديث

شبهة كون المنتسبين إلى الإسلام يقولون لا إله إلا الله وقد ورد الحديث بعصمة أهلها والجواب عن هذه الشبهة

الصحيحة، ونزل ذلك على أحوال المنتسبين إلى الإسلام في زماننا، تبين له أن الإسلام الحقيقي قد عاد غريبا كما بدأ أو أشد غربة، وتبين له أن حاصل إسلام الأكثرين الانتساب والدعوى المجردة، وحينئذ فنقول في الوجه الخامس: إن أكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان محتاجون إلى الدعاء إلى الإسلام، والتزام شرائعه، كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشباههم وسلفهم من أهل الجاهلية، فمن أجاب منهم فهو المسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومن لم يُجب، فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا كما قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركي العرب وأهل الكتاب وكما قاتل الصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة وغيرهم من المرتدين عن الإسلام حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه، وأما الأفراد ومن لا منعة لهم فهؤلاء يؤخذون بالتزام أحكام الإسلام الظاهرة ويجبرون على ذلك، ويعامل العصاة منهم بالتأديب الذي يليق بهم، فبعضهم بالتهديد، وبعضهم بالحبس، وبعضهم بالضرب، وبعضهم بأخذ بعض ماله، وبعضهم بالقتل، كل على حسب جُرمه كما هو مقرر معروف في أحكام العصاة والمرتدين، والله المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وأن يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها، دين الحق الذي طمست في زماننا أعلامه، واشتدت غربته ولم يبق منه بين الأكثرين إلا اسمه. فإن قيل: كل المنتسبين إلى الإسلام يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها

عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»، وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قتله للرجل بعد ما قال: لا إله إلا الله، فدل على أن من قال: لا إله إلا الله فهو مسلم، معصوم الدم والمال، ولا يضره مع الإتيان بالشهادتين شيء! قيل: هذه الشبهة قد ابتلي بها أكثر الناس، فظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، عاصم للدم والمال، ولو كان المتكلم بهما مرتكبا ما ينافيهما ويناقضهما، هذا ما يتوهمه كثير من الجهال والضلال، وليس الأمر كما يظنون. والجواب عن الحديث الأول من وجوه: أحدها: أنه إنما ورد في حق المشركين الذين يزعمون تعدد الآلهة مع الله تعالى، كما أخبر الله تعالى بذلك عنهم في كثير من الآيات كقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]، ولهذا لما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيد أنكروا ذلك وأعظموه وتعجبوا منه، فقالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، ثم تواصوا بالصبر والثبات على عبادة الآلهة المتعددة بزعمهم، كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 6 - 7]، والدليل على أن الحديث وارد في حق المشركين ما رواه أبو داود، والنسائي، والدارقطني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

«أُمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، فقد حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها» هذا لفظ النسائي، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ويقاتلهم على ذلك، فمن قالها منهم دخل بها في الإسلام، وكذلك يدخل في الإسلام بقوله: أنا مسلم، ونحو ذلك مما يدل على إسلامه، وبعد الدخول في الإسلام يكون مطالبا بحقوق الإسلام، وتبقى صحة إسلامه معلقة بالتزام شرائعه، فإن قام بها تَبيّنا صحة إسلامه، وإن تركها تبينا كذبه في دعواه الإسلام، ولم ينفعه مجرد التلفظ بلا إله إلا الله. يوضح ذلك الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علّق عصمة الدم والمال في هذا الحديث بشرطين أحدهما: شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: القيام بحقها. فمن أتى بالشرطين كليهما عصم دمه وماله، ومن امتنع منهما أو من أحدهما فليس بمعصوم الدم والمال؛ لأن الحكم المعلق بشرطين لا يجب بأحدهما والآخر معدوم. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الكلام على هذا الحديث: فيه منع قتل من قال: لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟ الراجح: لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يُختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله: «إلا بحق الإسلام». انتهى. وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمهم الله تعالى: قال علماؤنا

حقوق لا إله إلا الله

رحمهم الله: إذا قال الكافر لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة، وإلا بطلت، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال كل حديث في وقت، فقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه، وصار دمه وماله معصوما، ثم بيّن - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين فقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة»، فبيّن أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة حتى جلاها أبو بكر الصديق، ثم وافقوه - رضي الله عنهم -. انتهى. إذا عُرف هذا، فأعظم حقوق لا إله إلا الله إفراد الله بالعبادة، والكفر بما يُعبد من دون الله كائنا ما كان، كما في المسند، وصحيح مسلم، عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وحّد الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل»، وهذا هو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، والطاغوت اسم لكل معبود سوى الله تعالى، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. ومن أعظم حقوق لا إله إلا الله أيضا إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ

وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وفي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله»، وقد همّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بغزو بني المصطلق لما قيل له أنهم منعوا الزكاة وكان الذي أخبره بذلك كاذبا عليهم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، واتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على قتال مانعي الزكاة، واحتج أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه على قتالهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إلا بحقها»، كما في الصحيحين، والمسند، والسنن إلا ابن ماجة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر - رضي الله عنه -: علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»؟! فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: والله لو منعوني عناقا، وفي رواية: عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتالهم على منعه، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة. قال عمر - رضي الله عنه -: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.

وفي رواية لأحمد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله»، قال فلما قام أبو بكر، وارتد من ارتد، أراد أبو بكر قتالهم، قال عمر: كيف تقاتل هؤلاء القوم وهم يصلون؟ قال: فقال أبو بكر: والله لأقاتلن قوما ارتدوا عن الزكاة، والله لو منعوني عناقا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم. قال عمر: فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتالهم عرفت أنه الحق. ورواه الشافعي في مسنده ولفظه أن عمر - رضي الله عنه - قال لأبي بكر - رضي الله عنه - في مَن منع الصدقة: أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: هذا من حقها؛ يعني منعهم الصدقة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة: والصحابة - رضي الله عنهم - لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصدِّيق لعمر -رضي الله عنهما-: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب. وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة؛ وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسَمُّوهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم أن ثبته الله على قتالهم، ولم

يتوقف كما توقف غيره، حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله. وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، وهذه حجة من قال: إن قاتلوا الإمام عليها كفروا، وإلا فلا، فإنَّ كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة، بخلاف من لم يقاتل الإمام عليها، فإن الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: منع ابن جميل، فقال: «ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله» فلم يأمر بقتله، ولا حكم بكفره. وفي السنن من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن منعها فإنَّا آخذوها وشطر إبله» الحديث. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام يقاتلون، ويحكم عليهم بالردة عن الإسلام، وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلُّوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط لقتالهم والحكم عليهم بالردة، وأن كفرهم وقتالهم ثابت بالاتفاق المستند إلى نصوص الكتاب والسنة. وتأمل الفرق بين الطائفة الممتنعة، المقاتلة على منع الزكاة، وبين من لم يقاتل عليها، ومثلهم من لا منعة له كالأفراد، فإن هؤلاء تؤخذ منهم الزكاة، ويعاقبون على منعها بأخذ شطر أموالهم، ولا يقتلون ولا يحكم عليهم بالكفر، كما تدل على ذلك الأحاديث، بخلاف من قاتل عليها وله منعة،

فقد اتفق الصحابة على كفرهم وقتالهم، والله أعلم. ومن أعظم حقوق لا إله إلا الله أيضا صيام رمضان وحج بيت الله الحرام، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. وروى الترمذي، وابن مردويه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ملك زادًا وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا، وذلك بأن الله قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}» قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال. وروى سعيد بن منصور بإسناده، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يحج حجة الإسلام، لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة، فليمت على أي حال شاء؛ يهوديا أو نصرانيا». ورواه البغوي في تفسيره بإسناده، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه. وروى الإسماعيلي من حديث الأوزاعي، حدثني إسماعيل ابن أبي المهاجر، حدثني عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول:

«من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا» قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا إسناد صحيح إلى عمر - رضي الله عنه -، قال: وروى سعيد بن منصور في سننه، عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. وفي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله ألا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصيام رمضان». وروى أبو يعلى بإسناد حسن، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال حماد بن زيد ولا أعلمه إلا وقد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن ابتني الإسلام، من ترك واحدة منهن فهو بها كافر؛ حلال الدم؛ شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان». وفي رواية: «من ترك منهن فهو بالله كافر، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله». ورواه سعيد بن زيد -أخو حماد بن زيد- عن عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا. وروى ابن شهاب، عن حنظلة، عن علي بن الأشجع أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعث خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وأمره أن يقاتل الناس على خمس، فمن ترك واحدة فقاتله عليها كما تقاتله على الخمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله

إلحاق تارك الصوم والحج والزكاة بتارك الصلاة في الحكم

وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. وعن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم على تركه، كما نقاتل على الصلاة والزكاة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهل يلحق تارك الصوم والحج والزكاة بتارك الصلاة في وجوب قتله؟ فيه ثلاث روايات عن الإمام أحمد: إحداها: يقتل بترك ذلك كله كما يقتل بترك الصلاة، وحجة هذه الرواية أن الزكاة والصيام والحج من مباني الإسلام، فيقتل بتركها جميعا كالصلاة، ولهذا قاتل الصديق - رضي الله عنه - مانعي الزكاة وقال: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة إنها لقرينتها في كتاب الله. وأيضا فإن هذه المباني من حقوق الإسلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر برفع القتال إلا عمن التزم كلمة الشهادة وحقها، وأخبر أن عصمة الدم لا تثبت إلا بحق الإسلام، فهذا قتال للفئة الممتنعة، والقتل للواحد المقدور عليه إنما هو لتركه حقوق الكلمة وشرائع الإسلام، وهذا أصح الأقوال. والرواية الثانية: لا يُقتل بترك غير الصلاة؛ لأن الصلاة عبادة بدنية لا تدخلها النيابة بحال، والصوم والحج والزكاة تدخلها النيابة. والرواية الثالثة: يقتل بترك الزكاة والصيام، ولا يقتل بترك الحج؛ لأنه مُختَلف فيه هل هو على الفور أو على التراخي؟ فمن قال هو على التراخي قال: كيف يقتل بتأخير شيء موسع له في تأخيره، وهذا المأخذ ضعيف جدا؛ لأن من يقتله بتركه لا يقتله بمجرد اتفاقا، وإنما صورة

المسألة أن يعزم على ترك الحج، ويقول هو واجب عليّ ولا أحج أبدا، فهذا موضع النزاع. والصواب: القول بقتله؛ لأن الحج من حقوق الإسلام، والعصمة لم تثبت لمن تكلم بالإسلام إلا بحقه، والحج من أعظم حقوقه. انتهى. ومن أعظم حقوق لا إله إلا الله أيضا طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتجريد المتابعة له، والإيمان بكل ما جاء به، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31 - 32]، فجعل سبحانه وتعالى اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سببا لمحبته سبحانه لمن اتصف بذلك ومغفرته لذنوبه، وأخبر أن التولي عن طاعته وطاعة رسوله كفر، والله لا يحب الكافرين، والآيات في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرة جدا تزيد على تسعين آية، وفي أكثرها يقرن الله تبارك وتعالى بين طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تقدم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» رواه مسلم والدارقطني. وهذا الحديث من جوامع الكلم، فيدخل تحته جميع ما تقدم ذكره، وغير

ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، وتقدم كلام الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى في ذلك في أول الوجه الرابع، وكذلك قول غيره من كبار الأئمة قد تقدم هناك فليراجع. الوجه الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل اليهود وهم يقولون لا إله إلا الله، واتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على قتال مانعي الزكاة ومن أقر بنبوة مسيلمة وغيره من الكذابين، وسموهم كلهم أهل الردة وهم يقولون: لا إله إلا الله، وقاتل عليّ - رضي الله عنه - الخوارج مستندا إلى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، فدل على أن مجرد التلفظ بلا إله إلا الله مع ترك حقها لا ينفع صاحبه ولا يغني عنه شيئا، وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة في كتب الفقه بابا في حكم المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وبعضهم أفرد ذلك بكتاب مستقل. وأما إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قتله للرجل بعد ما قال: لا إله إلا الله فلأن أسامة - رضي الله عنه - عاجل الرجل بعدما أظهر الإسلام، ظنا منه أنه إنما قال ذلك متعوذا من القتل، وكان الواجب على أسامة أن يكف عنه ويتثبت في أمره حتى يظهر صدقه أو كذبه فيما قال؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]، ففي هذه الآية دليل على وجوب الكف عمن أظهر الإسلام والتثبت

في أمره، فإن قام بحق الإسلام فهو مسلم، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين كما تقدم في الأحاديث الصحيحة، وإن لم يقم بحقوق الإسلام، أو تبين منه بعد التزامها ما يخالف الإسلام قُتل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إلا بحقها»، فقد جعله شرطا في عصمة الدم والمال. ولقوله أيضا في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عظيما عند الله لمن قتلهم». وقال: «لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد». وأخبر أنهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، هذا مع قولهم لا إله إلا الله ومع عبادتهم العظيمة، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم»، فإذا كان هذا حال من ترك بعض حقوق الإسلام لم تنفعه عبادته ولا قوله لا إله إلا الله، فكيف بمن يترك حقوق الإسلام كلها ويزعم أنه مسلم معصوم الدم والمال بمجرد قوله بلسانه لا إله إلا الله من غير اعتقاد لمعناها ولا عمل بمقتضاها؟! فما أشبه من كانت هذه حاله بمن قال الله تعالى فيهم: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، قال ابن جرير رحمه الله تعالى في هذه الآية: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادا منه لربه فيها؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد وفريق الهدى فرق، وقد فرّق الله تعالى بين أسمائهما

سؤال الأموات وإنزال الحوائج بهم

وأحكامهما في هذه الآية. انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية قدس الله روحه: من سأل الأموات ما لا يطلب إلا من الله؛ كمغفرة الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر، فإنه يُستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن هذا عين الشرك الذي نهت عنه الرسل، ونزلت الكتب بتحريمه وتكفير فاعله. وقال أيضا: من اعتقد في نفيسة أنها باب الحوائج إلى الله، وأنها تكف الضر، وتفتح الرزق، وتحفظ مصر، فهذا كافر مشرك يجب قتله، وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائنا من كان، والقرآن من أوله إلى آخره، وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا مع الله إلها آخر، والإله من يألهه القلب عبادة، واستعانة، وإجلالا، وإكراما، وخوفا، ورجاء، كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. انتهى. فتأمل كلام هذا الإمام، ثم انظر إلى ما يعتقده القبوريون في هذه الأزمان في نفيسة، وزينب، والبدوي، والدسوقي، والجيلاني، وغيرهم من الأموات، وما يفعلونه عند القبور من الشرك الأكبر يتبين لك غربة الدين، ويتضح لك وجوب قتال الأكثرين بعد إقامة الحجة عليهم. وقال الشيخ أيضا في الوصية الكبرى لما ذكر الخوارج، ومروقهم من الدين وأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، قال رحمه الله تعالى: فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين قد انتسب إلى الإسلام من مَرَق منه مع عبادته

العظيمة حتى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام والسنة، حتى يدَّعي السنة من ليس من أهلها بل قد مرق منها، وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه حيث قال: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية. ثم ذكر رحمه الله تعالى أن عليا بن أبي طالب - رضي الله عنه - حرق الغالية بالنار، وأمر بأخاديد خدّت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجَّلهم ثلاثا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على قتلهم، لكن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء، وكذلك الغلو في بعض المشايخ إما في الشيخ عدي، ويونس القني، أو الحلاج، وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ونحوه، بل الغلو في المسيح - عليه السلام - ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو في رجل صالح كمثل علي - رضي الله عنه - أو عدي، أو نحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح كالحلاج، أو الحاكم الذي كان بمصر، أو يونس القني، ونحوهم، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليه، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال

تحقيق النبي - صلى الله عليه وسلم - للتوحيد وتعليمه إياه للأمة

يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلها آخر، والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس، والقمر، والكواكب، والعزير، والمسيح، والملائكة، واللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث، ويعوق، ونسرا، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء، والملائكة، والكواكب، والجن، والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57]، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزير، والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إليّ كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسول وأنزل به الكتب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحقق التوحيد ويُعلِّمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: «أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده»، وقال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد»، ونهى عن الحلف بغير الله

بناء المساجد على القبور والصلاة عندها

فقال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت»، وقال: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، وقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله»، ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السجود له وقال: «لا يصلح السجود إلا لله»، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد فقال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يُحذِّر ما فعلوا، وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد»، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني»، ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة، وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها، ولهذا اتفق العلماء على أن من سلّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، وكذلك الطواف، والصلاة، والاجتماع للعبادات إنما تقصد في بيوت الله وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيدا كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا بيتي عيدا» كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا

عَظِيمًا} [النساء: 48]، ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ...}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، والإله الذي يألهه القلب عبادة له، واستعانة، ورجاء له، وخشية، وإجلالا، وإكراما. انتهى كلامه رحمه الله تعالى مُلخَّصا. فتأمل كلام هذا الإمام من أوله إلى آخره، وتأمل قوله فيمن غلا في نبي، أو رجل صالح، أو من يُعتقد فيه الصلاح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، أو صرف له شيئا من خصائص الربوبية أنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، فإن هذا مطابق لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها في أول الوجه الرابع، وإنما أبيح قتله لمخالفته لمعنى شهادة التوحيد لا إله إلا الله، وتركه لأعظم حقوقها وهو إفراد الله بالعبادة. وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين رحمه الله تعالى: من جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك فهو مشرك، ولا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبد من دونه؛ لأن معنى لا إله إلا الله إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه، وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، قال: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» فقوله: «وكفر بما يعبد من دون الله» الظاهر أن هذا زيادة إيضاح؛ لأن لا إله إلا الله متضمنة الكفر بما يعبد من دون الله، ومن قال: لا إله إلا الله ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر كدعاء الموتى، والغائبين، وسؤالهم قضاء

توقف تكفير المشرك بالله شركا أكبر على الإصرار على المخالفة بعد البيان

الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا مشرك شاء أم أبى، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، ومع هذا فهو شرك، ومن فعله كافر، ولكن كما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر حتى يبين له ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن أصر بعد البيان حكم بكفره، وحل دمه وماله، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ (¬1) كُلُّهُ لِلَّهِ}، فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله قوتلوا لأجل هذا الوثن، أي لإزالته وهدمه، وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله، والدعاء دين، سماه الله دينا كما في قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] أي: الدعاء، وقال - صلى الله عليه وسلم - «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له»، فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله فالسيف مسلول عليه، والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقوله: إنه لا يقال للمشرك بالله الشرك الأكبر إنه كافر إلا بعد البيان، وإصراره على المخالفة. فيه نظر، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، فقد كفّر تبارك وتعالى كل من دعا معه إلها آخر، وأطلق ولم يقيد ذلك بالإصرار بعد إقامة الحجة، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ ¬

_ (¬1) لفظة (الدين) ساقطة من الأصل، وينظر (الدرر السنية 3/ 313).

أقسام المنتسبين إلى الإسلام وأصنافهم

إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14]، فسماهم الكافرين بدعائهم غيره، ولم يقيد ذلك بالإصرار بعد البيان، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: لا يرشد لدينه من كذب، فقال: إن الآلهة لتشفع، وكفى باتخاذ الآلهة دونه كذبا وكفرا. انتهى. ولم يذكر سبحانه في هذه الآية تقييدا بالإصرار بعد البيان، بل أطلق ذلك، فعلم أن التقييد غير معتبر، وأنه لا مانع من إطلاق الكفر على من اتصف بالشرك الأكبر، نعم، حلّ الدم والمال هو الذي يعتبر فيه الإصرار بعد البيان، فمن قامت عليه الحجة وأصر على المخالفة حل دمه وماله، والله أعلم. الوجه السادس: في تمييز الخبيث من الطيب؛ ليستبين حاصل العدد المزعوم الذي يكثر به من قل نصيبه من العلم والإيمان، فنقول - والله المستعان-: المنتسبون إلى الإسلام في زماننا على ثلاثة أقسام: ددد الفهارس إن شاء الله مظبوطة تمام بس حضرتك بص بصه سريعة في أقل من دقيقة للتأكد مش أكتر ددد القسم الأول: أدعياء الإسلام الذين هم في معزل عنه. الثاني: أهل البدع والأهواء الذين هم على شفا جرف هار. الثالث: أهل السنة والجماعة. فأما القسم الأول: فهم أصناف: الصنف الأول: المشركون الذين اتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون

وجه كون شرك أهل هذه الأزمان أعظم من شرك مشركي العرب

شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وهم عبّاد الأوثان، والطواغيت، والأشجار، والأحجار، والعيون، والغيران، وغيرها مما يعبد من دون الله، وهم أشبه الناس بمشركي العرب؛ الذين كانوا يعبدون اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ووداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، ونحوها من معبودات أهل الجاهلية، بل مشركو هذه الأزمان وقبلها بدهر طويل أجهل بالله تعالى وتوحيده، وأعظم شركاً من مشركي العرب ومن قبلهم، وبيان ذلك من وجهين: أحدهما: أن مشركي هذه الأزمان، وقبلها بقرون كثيرة إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدين لغير الله؛ فتراهم يهتفون باسم علي وغيره من أهل البيت، أو باسم عبد القادر الجيلاني، أو أحمد البدوي، أو الدسوقي، أو زينب، أو أمثال هؤلاء المعبودين من دون الله، وينادونهم من قريب وبعيد، وينذرون لهم النذور، ويقربون لهم القرابين، ويتضرعون إليهم، ويدعونهم رغبا ورهبا، منيبين إليهم، مخلصين لهم الدين، معتقدين أنهم أسرع إجابة لهم وفرجا من الله تعالى، وقلّ من يستغيث منهم بالله في تلك الحال، فشركهم دائم في الرخاء والشدة؛ وهو في الشدة أعظم، وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون الأولون فإنهم يشركون في حال الرخاء، فإذا وقعوا في الشدائد دعوا ربهم منيبين إليه، مخلصين له الدين، قال الله تعالى مخبرا عنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ

كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [لقمان: 32]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الزمر: 8]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63 - 64]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن المشركين الأولين أعلم بالله من مشركي هذه الأزمان. وقد روى النسائي في سننه، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة؛ عكرمة بن أبي جهل ...» وذكر بقية الأربعة- ثم قال: وأما عكرمة فركب البحر فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره،

اللهم إن لك عليّ عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده ولأجدنه عفوَّا كريما، فجاء فأسلم. الوجه الثاني: أن مشركي هذه الأزمان وقبلها بدهر طويل قد وصلوا إلى دعوى الربوبية في معبوديهم من دون الله، فزعموا أنهم يعلمون الغيب، ويدبرون الأمور، ويتصرفون في الكون بالمشيئة والقدرة العامة؛ فيعطون ويمنعون، وينفعون ويضرون، وينزلون المطر ويشفون المرضى، وينقذون من أشفى على الهلاك في البر والبحر، وينصرون عابديهم، ويهزمون أعداءهم ويقهرونهم، إلى غير ذلك من أفعال الربوبية، وأن ذلك لآلهتهم على سبيل الكرامة، فألهوهم وعبدوهم عبادة ما صدرت من مشركي العرب، ولا ادعاها أحد منهم لوثنه ومعبوده، وقد صرح بعض غلاتهم المتأخرين بأن آلهته تقدر على الخلق وإحياء الموتى، كما ذكر ذلك ابن النعمي وغيره فيما سننقله قريبا إن شاء الله تعالى، وهذا شيء ما وصل إليه أحد من المشركين الأولين ولا حام حول حماه، ومن وقف على كتاب الأغلال للصعيدي الملحد الخبيث فقد وقف على ساحل بحر الكفر بالله العظيم، والاستهزاء به، وسلبه من كل كمال، وإعطاء ذلك للإنسان العاجز الضعيف، وقد حاول المرتد المنسلخ من آيات الله ودينه أن يجعل آلهته من أمم الكفر والضلال أربابا مع الله تعالى، تُنازع الله تعالى في عظمته، وعلمه، وقوته، وقدرته، فتعلم ما لا يعلمه إلا الله، وتقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله من جميع أفعال الربوبية، كالخلق، والرزق، والإعطاء، والمنع، والنفع، والضر، وجميع التصرفات الكونية، وأنها تقدر على جَعْل

الحَمَل ذَكَرًا وجَعْله أنثى، يعني فتهب لمن تشاء إناثا، وتهب لمن تشاء الذكور، إلى غير ذلك من دعاواه الباطلة العريضة في كتابه الذي جمع كل شر وبعد عن كل خير، وخليق بكل عاقل أن يُنزّه نفسه عن نقل هذيان ذلك المغرور الجاهل بالله تعالى وعظمته وجلاله، فما أشبهه بمن قال الله تعالى فيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} الآيات [الأعراف: 175 - 176]، وممن قال تعالى فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]، والحمد لله الذي عافانا وإخواننا المسلمين مما ابتلاه به وابتلى به أمثاله من الزنادقة والملاحدة، ونسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وقد قال الله مخبرا عن المشركين الأولين: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} بالزخرف: 87]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ

وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31]، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إقرارهم لله تعالى بأفعال الربوبية كلها، وأنه لا شريك له في ذلك. وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن جرير من حديث أبي وائل، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه -: إن عاداً قحطوا؛ فبعثوا وافدا لهم يقال له: قيل بن عمرو، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما: الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبل مهرة فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه. الحديث. وذكر أبو القاسم السهيلي في كتاب "الروض" ما رواه أبو سليمان الخطابي بإسناده إلى رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم قالت: تتابعت على قريش سنو جدب، فذكرت رؤيا رأتها؛ فيها أمر قريش بالاغتسال والتطيب والطواف بالبيت والاستسقاء عقب ذلك، وأن قريشا فعلوا ذلك، ثم ارتقوا أبا قبيس حتى قروا بذروه الجبل، فقام عبد المطلب فاعتضد ابن ابنه محمدا - صلى الله عليه وسلم -

فرفعه على عاتقه - وهو يومئذ غلام - ثم قال: اللهم سادّ الخلة، وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلَّم، ومسؤول غير مبخل، وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنتهم، فاسمعنّ اللهم وامطرنّ علينا غيثاً مريعا مغدقا، فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها، وكظّ الوادي بثجيجه. وذكر ابن إسحاق في قصة أبرهة صاحب الفيل لما أراد هدم الكعبة أن عبد المطلب قام فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا وقال أيضا: لا همّ إن المرء يمـ ... ـنع رحله فامنع رحالك وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك وروى الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم، من حديث الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين،

وخير القبيلتين، فقال الله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]، يقول: قد نصرت ما قلتم؛ وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. فتأمل أيها الموحد -وفقني الله وإياك- حال المشركين الأولين كيف كانوا يفردون الله تعالى بالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإنزال الغيث، وإنبات النبات، وتسخير الشمس والقمر وغيرهما، وتدبير الأمور كلها، معتقدين أنه رب كل شيء ومليكه، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وكيف كانوا يفزعون إلى الله تعالى إذا دهمتهم الشدائد، ويستغيثون به وحده، ويطلبون النصر منه، وتفريج الشدائد لا من غيره، وينسون في تلك الأحوال ما كانوا يشركون به من قبل! ثم تأمل حال مشركي زماننا، وما قبله بأزمان كيف صرفوا خصائص الربوبية والألوهية لغير الله، وكيف كانوا يفزعون إلى معبوديهم من دون الله، فيستجيرون بهم مما يخافونه، ويستغيثون بهم في جميع الملمات، ويطلبون منهم النصر، والظفر، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، قد نسوا فاطر الأرض والسموات، واتخذوه (¬1) وراءهم ظهريا، ومع ذلك كله يدَّعون أنهم من أهل الإسلام، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 18 - 19]، فقبَّح الله من كانت عاد الأولى وفرعون هذه الأمة وأشياعه أعلم بالله منهم وأشد له إجلالا وتعظيما، وهذا الشرك الأكبر الذي هو أظلم الظلم وأنكر المنكرات وأقبح القبائح، ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: واتخذوهم، وهو سبق قلم، والله أعلم.

وأعظم ذنب عُصي الله به، وغاية أمنية إبليس لعنه الله، ما زال يدب في هذه الأمة دبيب السم في جسد اللديغ، حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها إلا ما شاء الله منها وهو النزر اليسير، وطغى بَحْره الأجاج على أكثر الممالك الإسلامية، حتى فر الإسلام هاربا منه إلى معاقله الأولى كما هو معلوم بالمشاهدة عند كل من فهم ودرى، وقد سرى هذا الداء العضال في هذه الأمة قديما بعد القرون الثلاثة المفضلة، وما زال شره يستطير ويزداد على ممر الأوقات، حتى عادت الجاهلية الجهلاء في أكثر الأقطار الإسلامية أعظم مما كانت عليه قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسلم من غائلة هذا الداء القاتل إلا من جرَّد التوحيد لله رب العالمين، ولزم المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما أقلهم في هذه الأزمان المظلمة، فالله المستعان. وسبب هذا الشرك الذي عظمت فتنته، وتطاير شررها في جميع الآفاق هو الغلو في الصالحين ومن يُظن صلاحه، وبناء المشاهد على قبورهم، وتعظيم القبور، والأشجار، والأحجار، والعيون، والغيران وغيرها بما نهى عنه الشرع، حتى اتُخذ الكثير منها بعد طول الأمد أوثانا وطواغيت تُعبد من دون الله، ويُفعل عندها وبها من أنواع الشرك مثل [ما (¬1)] كان المشركون الأولون يفعلونه عند أوثانهم وطواغيتهم أو أعظم، وهذا مصداق ما تقدم ذكره من حديث ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان» رواه البرقاني في صحيحه بهذا اللفظ، وأصله في مسلم. ¬

_ (¬1) غير موجودة في الأصل والسياق يقتضيها.

ورواه أبو داود وابن ماجة بلفظ: «حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان». ورواه الترمذي بلفظ: «حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى يعبدوا الأوثان» وقال: هذا حديث صحيح. ومثل ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يرجع ناس من أمتي إلى الأوثان يعبدونها من دون الله» رواه أبو داود الطيالسي. ففي هذين الحديثين معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لكونه أخبر عما سيقع بعده، فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. ومن المحزن جدا ما نسمعه كثيرا من دعاء غير الله تعالى في أشرف البقاع وأحبها إلى الله تعالى وفي أعظم الأيام عنده، فضلا عما نسمعه كثيرا فيما سوى ذلك من البقاع والأزمان، وكذلك ما نراه في كلام كثير من المنتسبين إلى العلم فضلا عن غيرهم من أنواع الشرك بالله تعالى، وصرف خالص حقه لبعض المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فضلا عن غيرهم، وكثير من الضُّلال قد اتخذوا البردة والهمزية، وما شابههما -مما هو مشتمل على الشرك بالله تعالى، وزيادة الغلو في المخلوقين- أورادا يحافظون عليها، ويعتنون بها أكثر مما يعتنون بالأوراد والأدعية المأثورة، بل الأوراد والأدعية المأثورة مهجورة عندهم، لا

ما يفعل في كثير من الأقطار الإسلامية من الشرك بالله عز وجل

يعرفونها، ولا يرفعون بها رأسا {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، وقلّ أن ترى من يشمئز من هذه الأمور الشركية ويُغيِّرها، ويتبرأ من أهلها ويبغضهم ويعاديهم، ويتقرب إلى الله بمقتهم والبعد عنهم، بل لعل الإنكار لها بأضعف الإيمان قليل في هذه الأزمان، فالله المستعان. فأما الطامات التي تُفعل الآن في أكثر الأقطار الإسلامية ولاسيما في العراق ومصر، فأمر لا يضبطه الوصف ولا تحيط به العبارة، وحسبك شرا من مصرين هما كالبحر المحيط لأنواع الشرك بالله تعالى في ربوبيته وإلهيته، مع ما ضم إلى ذلك من اطّراح الحكم بالشريعة المحمدية، والاستبدال عنها بأحكام الطاغوت، من قوانين ونظامات وسياسات إفرنجية، وما ضم إلى ذلك أيضا من أنواع البدع والضلالات، والتصديق بالأكاذيب والخرافات، والإصغاء إلى الجهالات والخزعبلات، وما ضم إليه أيضا من مزيد المشابهة لأعداء الله تعالى من اليهود والنصارى والمجوس، وغيرهم من أصناف أعداء الله تعالى في أخلاقهم وآدابهم ولباسهم وهيئاتهم وأنظمتهم وقوانينهم وسياساتهم، وأكثر أحوالهم أو جميعها، وما ضم إليه أيضا من التلبس بأنواع الفسوق والمعاصي واتباع الشهوات، وأعني بهذا حال الأكثرين منهم، فأما أهل الإسلام الحقيقي فيهم فإنهم نزر قليل مستضعفون في الأرض، غرباء بين أهل الشر والفساد الذين أشرنا إليهم، وحال أكثر الأقطار الإسلامية في طغيان الشرك وأنواع البدع وكثرة الشر والفساد وقلة أهل الخير قريب مما ذكرنا عن مصر

المشاهد في العراق وما يفعل عندها من الشرك

والعراق، فلا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم. ونذكر ههنا إشارة مختصرة عن محيطي الشرك بالله تعالى، ثم نتبعها بذكر ما شابههما في كثرة الأوثان وأمور الجاهلية، ليعرف الموحدون قدر نعمة الله عليهم، وما اختصهم به من معرفته وتوحيده، وفضلهم بذلك على غيرهم، رحمة منه لهم، وفضلا عليهم، فيشكروه على إنعامه، ويذكروه في أنفسهم تضرعا وخيفة، ويتقوه حق تقاته، ويزدادوا له حبا وإجلالا وتعظيما، فإن فضله كان عليهم عظيما. فأما العراق ففيه مشاهد كثيرة قد اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، ويفعل عندها وبها أعظم مما كان أهل الجاهلية يفعلونه عند اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فمنها: مشهد علي، ومشهد الحسين، ومشهد العباس، ومشهد موسى الكاظم، ومشهد أبي حنفية، ومشهد معروف الكرخي، ومشهد عبد القادر الجيلاني، وغير ذلك من المشاهد، والقبور التي عظمت الفتنة بها، وأدرك بها عدو الله إبليس غرضه من هذه الأمة بعد ما كان قد أيس من ذلك في أول الإسلام، وقد افتتن سُنّية أهل العراق ورافضتهم بتلك المشاهد إلا من شاء الله منهم، وأعادوا بها المجوسية، وأحيوا بها معاهد اللات والعزة ومناة، ونحوها من معبودات أهل الجاهلية، وافتتن بها أيضا غيرهم في كثير من الأقطار الإسلامية كالشام، ومصر، والمغرب، وبلاد العجم، والهند، والبحرين، والقطيف، والأحساء، وغير ذلك من الأمصار المتباعدة، والرافضة يصلون إلى تلك

المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك الأجداث من الأموات، وينادونهم من قريب وبعيد، يطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ويحجون أيضا إلى تلك القبور، ويطوفون بها، ويستلمون أركانها، ويُقبِّلون حيطانها، ويحلقون الرؤوس عندها، ويقربون لها القرابين، ويصرفون لها من النذور والأموال شيئا كثيرا، ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام، وبعضهم يقول أفضل من سبع حجج، وبعضهم يقول أفضل من سبعين حجة، قال الله تعالى في سلفهم: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 103 - 104]. وقد صنف بعض متقدميهم من شيوخ الإمامية كتاب سماه مناسك حج المشاهد، وكثير منهم يرون أن كربلاء خير وأفضل من مكة، وقد ذكر لنا أن كثيرا منهم إذا سافروا لزيارة تلك المشاهد يذهب معهم جملة من النساء الأجانب ممن لهن أزواج وممن لا أزواج لهن، فلا يزال أحدهم يزني بمن معه منهن باسم المتعة من حين يخرجن من بيوتهن إلى أن يرجعن إليها، ولا يرون بذلك بأسا، وهذا لا يستبعد من حمير اليهود، الذين لا غيرة لهم ولا أنفة {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، ويشهد لهذا من فعلهم ما ذكره بعض أهل العلم بالإخبار أنهم في بعض المواضع يجتمع رجالهم ونساءهم في ليلة من السنة قيل إنها أول ليلة من برج الحمل

ويسمون يومها يوم النيروز، وقيل غير ذلك، فيقرأ عليهم بعض طواغيتهم مما لفقوه من السخافات والأكاذيب، ثم يقومون فيرقصون، فإذا فرغوا أطفأوا سراجهم، واختلط الرجال بالنساء، فمن وقع في يده امرأة جامعها ولو كانت أمه، أو بنته، أو أخته، أو غيرهن من محارمه، ويقولون هذا اصطياد مباح، ويخصون طاغوتهم بأحسن امرأة تكون في ذلك المجمع، فتجلس إلى جانبه ليزني بها إذا أطفئ السراج، وكل امرأة تحمل من الزنا في تلك الليلة فولدها سيد عندهم، فما أشبههم بمن قال الله تعالى فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وهذه البدعة الشنعاء، والفاحشة الصلعاء تسمى عند القرامطة وأتباعهم بالماشوش، وهي موروثة عنهم، وهم أخذوها عن البابكية أتباع بابك الخرمي، ذكر ذلك الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في تلبيس إبليس، ونقله عنه الحافظ ابن كثير في تاريخه، وذكره غيرهما من أهل العلم بالأخبار، والله أعلم. وكثير من الرافضة يعبّد أولاده لأهل البيت، فيسميهم عبد علي، وعبد الحسين، وعبد العباس، ونحو ذلك مضاهاة منهم للنصارى في تسميتهم بعبد المسيح، وللمشركين في تسميتهم بعبد العزى، وعبد مناة, وعبد ود، وعبد يغوث، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ

يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 190 - 192]، وقال أبو صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} [الإسراء: 4]، قال: هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث، وعبد شمس، وعبد العزى، وعبد الدار ونحوها. قلت: وكذلك الرافضة قد جعلوا للشيطان نصيبا في أولادهم بتسميتهم إياهم عبيدا لغير الله، فصنيع الرافضة في أولادهم كصنيع النصارى والمشركين سواء بسواء، ولآلهتهم من الحب، والتعظيم، والتوقير، والخشية، والاحترام ما ليس معه شيء لله تعالى، ولو طلب من أحدهم أن يحلف بالله تعالى على الكذب لبادر إلى ذلك بلا مبالاة، ولو طلب منه أن يحلف ببعض أهل البيت لنكص واستعظم الحلف بهم على الكذب، وإذا حزب أحدا منهم أمر، أو نزلت به نازلة فإلى أهل البيت مشتكاه، وهم ملجأه في الشدائد كلها، ومستعاذه، ومستغاثه، ولا يعرف له ملجأ وملاذا سوى أهل البيت، تعالى الله وتقدس وتنزه عن إفكهم وشركهم، لا إله إلا هو ولا رب سواه، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 42]، وقد حدثني بعض أصحابنا أنه كان مع الإخوان في بعض غزواتهم التي قاتلوا فيها عبدة تلك المشاهد قال: فلحقت رجلا منهم فضربته بالبندق فصاح مستغيثاً بعلي، وما زال يستغيث به حتى خرجت روحه، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ

فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5 - 6]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75]، وقبائح الرافضة ودعاواهم في أهل البيت طويلة عريضة، فلا نطيل بذكرها، والله المسؤول أن يطهر الأرض من أدرانهم وأدران إخوانهم من المشركين الذين هم بربهم يعدلون. وأعظم أوثان العراق فتنة مشهد علي ومشهد الحسين وهما للرافضة، ومشهد عبد القادر الجيلاني وهو للإسماعيلية وكثير ممن ينتسب إلى السنة، وهم برآء من السنة بل ومن الإسلام بالكلية، والفتنة به قديمة. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: كان بعض الشيوخ الذين أعرفهم -وله فضل وعلم وزهد- إذا نزل به أمر خطا إلى جهة عبد القادر خطوات معدودات، واستغاث به، قال: وهذا يفعله كثير من الناس وأكبر منه. انتهى.

وقال محمد رشيد رضا: قد ذكروا في بعض الكتب، وما زالوا يتناقلون أن من أصابته شدة فليصل ركعتين، ثم ليتوجه إلى الشرق؛ أي إلى بغداد، وينادي الشيخ وينشد هذين البيتين في الاستغاثة والاستجارة به: أيدركني ضيم وأنت ذخيرتي ... وأُظلم في الدنيا وأنت مجيري! وعارٌ على راعي الحمى وهو في الحمى ... إذا ضاع في الهيجا عقال بعير ويقول: سيدي عبد القادر اقض حاجتي، ويذكرها، قالوا: فإنها تقضى وإن ذلك مُجرَّب، وقد يروون ذلك عنه، برأه الله من شركهم بالله وكفرهم بدينه. انتهى. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: اشتهر عن ابن كمال بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره يسمع، ومع سمعه ينفع، قال الشيخ رحمه الله تعالى: وهذا قول شنيع، وشرك فظيع. وقال أيضا: وكذلك ما يفعله أهل العراق، والمغرب، والسواحل، والهند من البناء على قبر عبد القادر الجيلاني، وبناء المشاهد لعبادة عبد القادر، كالمشهد الذي في أقصى المغرب، والذي في الهند، وينادونه من مسافة أشهر بل سنة لتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، ويعتقدون أنه من تلك المسافة يسمع داعيه، ويجيب مناديه، وهو لما كان حيا يسمع ويبصر لم يعتقد أحد فيه أنه يسمع من ناداه من وراء جدار، ثم بعد موته صار منهم بما صار، وهل هذا إلا لاعتقادهم أنه يعلم الغيب، ويقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا الذي يفعله هؤلاء مع ما ذكرنا إنما هو من تأله القلوب بهم، وشدة اعتقادهم فيهم، فما أعظم ما وقع من الشرك في كثير من هذه

كلام جميل للمنفلوطي في وصف التعلق بعبد القادر الجيلاني

الأمة، فقد ربا على شرك أهل الجاهلية، فإن أولئك أقروا بتوحيد الربوبية، وجحدوا توحيد الألوهية، وهؤلاء صرفوا خصائص الربوبية والإلهية لغير الله، فالله المستعان. انتهى ملخصا. وقال المنفلوطي في كتابه "النظرات": كَتَبَ إليَّ أحد علماء الهند كتابا يقول فيه: إنه اطلع على مؤلَّف ظهر حديثا بلغة الهنود، موضوعه تاريخ حياة عبد القادر الجيلاني، وذكر مناقبه، وكراماته، فرأى فيه من بين الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب عبد القادر ولقبه بها صفات وألقاب هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة، فضلا عن مقام الولاية، كقوله: سيد السموات والأرض، والنفّاع الضرّار، والمتصرف في الأكوان، والمطلع على أسرار الخليقة, ومحيي الموتى، ومبرئ الأعمى والأبرص والأكمه، وأمره من أمر الله، وماحي الذنوب، ودافع البلاء، والرافع الواضع، وصاحب الشريعة، وصاحب الوجود التام ... إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب، ويقول الكاتب إنه رأى في ذلك الكتاب فصلا يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن يتكيف بها الزائر لقبر عبد القادر الجيلاني، يقول فيه: أول ما يجب على الزائر أن يتوضأ وضوءا سابغا، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجه إلى قبة القبر، وبعد السلام على صاحب الضريح يقول: يا صاحب الثقلين أغثني، وأمدني بقضاء حاجتي، وتفريج كربتي، أغثني يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر، أغثني يا بادشاه عبد القادر، أغثني يا خوجه عبد القادر، يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبد القادر عبدك ومريدك مظلوم عاجز،

محتاج إليك في جميع الأمور؛ في الدين والدنيا والآخرة. ويقول الكاتب أيضا: إن في بلدة ناقور في الهند قبرا يسمى شاه عبد الحميد، وهو أحد أولاد عبد القادر كما يزعمون، وإن الهنود يسجدون بين يدي ذلك القبر سجودهم بين يدي الله، وإن في كل بلدة من بلدان الهند وقراها مزارا يمثل مزار عبدالقادر، فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد، والملجأ الذي يلجئون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون من الأموال على خَدَمته وسدنته وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض جميعا لصاروا أغنياء. قال المنفلوطي: هذا ما كتبه إليَّ ذلك الكاتب، ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أبصر مما حولي شيئا حزنا وأسفا على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام أنكروه بعد ما عرفوه، ووضعوه بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها ولا شأن له بها، أيُّ عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع فلا تريقها أمام هذا المنظر المؤثر المحزن؟! منظر أولئك المسلمين وهم ركع سجد على أعتاب قبر ربما كان بينهم من هو خير من ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته، أيُّ قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعا حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكا بالله، وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات؟! والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم إلا إذا استرجعوا ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها،

وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله، ويقولون له: أنت المتصرف في الكائنات، وأنت سيد الأرضين والسموات، بمن أستغيث؟ وبمن أستنجد؟ ومن الذي أدعوه لهذه الملمة (¬1) الفادحة؟ أأدعو علماء مصر وهم الذين يتهافتون على يوم الكنيسة تهافت الذباب على الشراب؟ قال في الهامش يوم الكنسة: يوم يذهب فيه علماء الدين إلى ضريح الإمام الشافعي للتبرك بكنس ترابه- قال المنفلوطي: أم علماء الأستانة وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني ليُحيوا أبا الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية؟ أم علماء العجم وهم الذين يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى بيت الله الحرام؟ أو علماء الهند وبينهم أمثال مؤلف هذا الكتاب؛ يعني الكتاب المصنف في مناقب الجيلاني؟ يا قادة الأمة ورؤسائها، عذرنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها، وقلنا: إن العامي أقصر نظرا وأضعف بصيرة، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرؤون صفاته ونعوته، وتفهمون معنى قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقوله مخاطبا نبيه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188]، وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]؟! إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم، وغدوكم ورواحكم: كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يخصصون قبرا ¬

_ (¬1) في المخطوط [الملة]، والتصحيح من النظرات 2/ 69 ط. دار الشروق العربي.

ما في بلاد مصر من المشاهد ومظاهر الشرك

أو يتوسلون بضريح؟ وهل تعلمون أن واحدا منهم وقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته يسأله قضاء حاجة أو تفريج هم؟ وهل تعلمون أن الرفاعي، والدسوقي، والجيلاني، والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء، والمرسلين، والصحابة، والتابعين؟ وهل تعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثا ولعبا، أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟ وأي فرق بين الصور والتماثيل، وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منهما يجر إلى الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟ والله ما جهلتم شيئا من هذا، ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة، فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتم وانتقاض أمركم، وسلّط عليكم أعداءكم يسلبون أوطانكم ويستعبدون رقابكم ويخربون دياركم، والله شديد العقاب. انتهى كلامه باختصار، ولقد أجاد في هذا الموضع وأفاد. وفيما ذكرت ههنا عن المحيط الشرقي كفاية. وأما المحيط الغربي ففي بلاد مصر وأعمالها، وهي شقيقة العراق في كثرة الأوثان والطواغيت التي تعبد من دون الله، وقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوي الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، كيف لا؟! وقد باض فيها إبليس وفرّخ، وبسط عليها عبقريه، وفيها مشهد أحمد البدوي، وهو أعظم الأوثان المصرية فتنةً، ويضاهي مشهد الحسين، وعبد القادر الجيلاني في كثرة الإشراك به، وفي كثرة من ينتابه من قريب وبعيد، يطوفون حوله ويتمسحون بأحجاره، ويسجدون على عتبته،

ويدعونه رغبا ورهبا، يرجون منه قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وينفقون في زيارته ومولده وعلى سدنته من الأموال ما لا يحصى كثرة، فما أشبههم بمن قال الله تعالى فيهم: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36]، ويجعلون له نصيبا مما رزقهم الله تعالى من الأموال والأولاد، ويقربون له القرابين، ويذبحونها على اسمه، وما يجعلون له من أولادهم إما تمليكا له، أو شراء منه بزعمهم، فإن كان ذكرا دفعوا ثمنه لصندوق السحت، أو جعلوه رسما جاريا للصندوق كل عام، وإن كان بنتا فله مهرها أو نصفه أو جزء معلوم منه، قال الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]، وقد استباحوا عند مشهده من المنكرات والفواحش ما لا يمكن حصره ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك على الحكايات والخرافات والجهالات التي لا تصدر عمن له أدنى مسكة من عقل، فأولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون. ومن الأوثان المصرية التي عظم افتتانهم بها، وافتتن بها غيرهم أيضا مشهد الحسين، والرفاعي، والدسوقي، والحنفي، ونفيسة، وزينب، وأمثالهم من المعتقدين المعبودين من دون الله، وقد جاوزوا بهم ما ادعاه المشركون الأولون لآلهتهم، وجمهورهم يرون لهم أو لبعضهم من تدبير الربوبية، والتصرف في الكون بالمشيئة، والقدرة العامة ما لم ينقل مثله عن أحد من أهل الجاهلية الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عمن قبلهم من أئمة الكفر والضلال كالفراعنة والنماردة، وبعضهم يقول: يتصرف في

الكون سبعة، وبعضهم يقول أربعة، وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى أن الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه، تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون الجاحدون علوا كبيرا، قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 21 - 22]. وقد ذكر محمد رشيد رضا أن في بعض كتب الرفاعية أن أحمد الرفاعي كان يُفقر ويُغني، ويُسعد ويُشقي، ويُميت ويُحيي، وفيها أن السموات السبع في رجله كالخلخال. انتهى. قلت: ومن هذا الهوس والجنون ما ذكر عن بعض شياطينهم المتقدمين أنه قال: رأيت لهاتي الفوقانية فوق السموات، وحنكي تحت الأرضين، ونطق لساني بلفظة لو سُمعت مني ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة. وهذا اللفظة هي التي تكلم بها إمامهم فرعون، كما ذكرها الله عنه في سورة النازعات، وكان فرعون مع قلة عقله أعقل منهم، فلم يقل إنه التقم السموات والأرض، ولا أن السموات في رجله كالخلخال، ونحو هذا الهذيان والسخف الذي يضحك منه السفهاء والصبيان فضلا عن العقلاء. قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى: قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف قدس الله روحه: من وقف على كتاب مناقب الأربعة المعبودين بمصر وهم البدوي، والرفاعي، والدسوقي، ورابعهم فيما أظن أبو العلاء، فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم، قال: وقد اجتمع جماعة من الموحدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر،

وبقربه رجل يدَّعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت فسأله بجمع من الحاضرين، فقال له: كم يتصرف في الكون؟ قال: يا سيدي سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان، وفلان، وعد أربعة من المعبودين بمصر، فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بَعثتُ لهذا الرجل وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام، أو كلاما نحو هذا. قال: وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في منهاجه عن غلاة الرافضة في علي، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير على ما أنكروه من الإلهية. قال الشيخ: وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج، فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين بالقاهرة، فاستقبلوا القبر، وأحرموا، ووقفوا، وركعوا، وسجدوا لصاحب القبر، حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين، وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن أن مثل هذا وقع عندهم. قال: وحدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يُدق وتد في القاهرة إلا بإذن أحمد البدوي، قال: فقلت له: هذا لا يكون إلا لله! أو كلاما نحو هذا، فقال: حبي في سيدي أحمد البدوي اقتضى هذا. انتهى المقصود مما نقله الشيخ سليمان عن

شيخه الشيخ عبد اللطيف رحمهما الله تعالى. وقال محمد رشيد رضا: ومن كلمات خواصهم التي سمعت من بعض قضاة الشرع وغيرهم من أهل العلم، قولهم عند القبر المنسوب إلى الحسين: يا سيدي العارف لا يُعرَّف. انتهى. ومعنى قول أولئك المشركين "العارف لا يعرَّف": أن صاحب القبر يعلم الغيب، ويعرف ما تكنه صدور سائليه من الحاجات التي يرجون منه قضاءها، وما يخافونه من المكاره التي يرجون منه أن يدفعها عنهم، ومجرد وقوفهم عنده راغبين أو راهبين يكفيهم عن البيان له؛ لعلمه بأحوالهم وما في أنفسهم على زعمهم الكاذب، سبحانه وتعالى عما يشركون، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69]. وقد تقدم ما ذكره المنفلوطي من تهافت علماء مصر على يوم الكنيسة تهافت الذباب على الشراب، فإذا كان حال خاصتهم من العلماء والقضاة وغيرهم ما ذكرنا، فكيف تكون حال العوام؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولهذا لما ادَّعى بعض دجاجلتهم منذ بضع سنين أنه رب العالمين تبعه واستجاب له فئام منهم، قيل إنهم ثمانون ألفا، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، ويستثنى من علمائهم أفراد قليلون، لهم مقامات في الإرشاد، والدعوة إلى التوحيد، والتحذير من ضده، وجهاد الوثنيين بالقلم واللسان، ولهم في ذلك كتب وتعليقات

كثيرة معروفة، جزاهم الله خيرا، ونصرهم على أعداء الدين، وثبت أقدامهم، وكثرهم، فأما الأكثرون من الخاصة والعامة فكما ذكر عنهم المنفلوطي وغيره ممن تقدم ذكرهم. وقال العلامة حسين بن مهدي النعمي اليمني رحمه الله تعالى: ومن طرائف ما يحكى أن رجلا سأل من فيه مسكة من عقل فقال: كيف رأيت الجمع لزيارة الشيخ؟ فأجابه: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرفات، إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الثلاثة الأيام فريضة! فقال السائل: قد تحمَّلها عنهم الشيخ، قال ابن النعمي رحمه الله: وباب قد تحمل عنهم الشيخ مصراعاه ما بين بصري وعدن، قد اتسع خرقة، وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد والمشهد، وهو أمر شهير في العامة، فقل أي ملة -صان الله ملة الإسلام- لا يمانعها كل ذلك، ولا يدافعها. انتهى. قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى: حدثني الشيخ إسحاق -يعني ابن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى-: أنه رأى أيام رحلته إلى مصر للطلب هذا المجمع العظيم الذي يسمونه مولد أحمد البدوي، فذكر أنه أعظم مما رآه في جبال عرفات، قال: ورأيت فيه سوقا طويلا للبغايا اللاواتي أوقفن أنفسهن للزنا في هذا المجمع صدقة لسيدهم أحمد البدوي، وليس هذا بعجيب ولا غريب من فعلهم، فإنه يجري منهم في ذلك الجمع من الكفر بالله والإشراك به ما لم يصل إلى ساحله كفر أبي جهل وأشياعه، فالله المستعان. انتهى.

تعداد الزوار لمولد البدوي سنة ألف وثلاثمائة وأربع وسبعين

قلت: وقد ذكر بعض الصحفيين من أهل مصر أن الزوار لمولد البدوي في سنة ألف وثلاثمائة وأربع وسبعين بلغوا خمسمائة ألف تقريبا، وأنه تزوج في ذلك المجمع عشرة آلاف تقريبا، وختن فيه من الأطفال أكثر من ذلك، يرجون بذلك البركة من البدوي، فالله المستعان. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن قدس الله روحه: صح عن البدوي أنه ما كان يصلي، بل يبول في المسجد ولا يتطهر. ذكر ذلك السخاوي عن أبي حيان مشاهدة منه لذلك. قال الشيخ رحمه الله: وقد افتتن أهل مصر به وبأمثاله من الأموات، فاعتقدوا فيه أنه يفك الأسير إذا دعاه وهو في أيدي الكفار، وينجي من أشفى على الغرق في البحار، ويطفئ الحريق إذا اضطرمت فيه النار، وينادونه من مكان بعيد، وهم لا يعتقدون أن حيًّا مِن الفُضلاء فيهم يسمع ويبصر لا يسمع من ينادونه من فرسخ فأقل، فصار هذا الميت المدفون في مقر الأرض، الذي تقطعت أوصاله في اعتقادهم أنه يسمع مناديه من البحور، ومن هو عنه بمسافة شهور، كما كان أهل العراق يعتقدون ذلك في عبد القادر وغيره، وهل هذا إلا لاعتقادهم أنه حي كحياة الله، وأنه يسمع ويبصر ويقدر ويرحم وينتقم كشأن رب العالمين، وأنه لذلك يعلم الغيب، ويضر وينفع ويقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله، وأنهم بعقيدتهم الوثنية يفعلون في مولد البدوي من عظائم الشرك والفساد ما يطول تعداده، إذ يعتقدون عقيدة جازمة أنه يتحمل عن الزناة واللوطية في مولده ذنوبهم؛ بمعنى أنه يُكفّرها عنهم، وبعضهم يسجد على باب حضرته، وبعض المؤذنين

بالقاهرة إذا فرغ من الأذان ينادي بأعلى صوته قائلا: يا أبا فراج؛ يعنون بهذه الكنية أن يفرج الكربات، ولا يخفى ما بين القاهرة وقبره من البعد، فإنه في قرية في غربي مصر اسمها طنطا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وحدثنا صاحب لنا أنه رأى في جبل المقطم مغارة عظيمة، قد عشش عليها بعض الشياطين، وجعلها مزارا للفساق والغوغاء، وبنى في أقصاها بيتا، وجعل عليه بابا وسادنا، وزين للجهال الطغام الذين هم أضل سبيلا من الأنعام أن التمرغ فيه يشفي من الأمراض مهما كانت، ويحبل العواقر ولابد، فافتتن به المصريون فتنة عظيمة، وجعلوا يذهبون إليه لهذه المقاصد، فكل مريض أعياهم دواؤه يذهبون به إلى تلك المغارة، ليتمرغ في ذلك البيت منها كما يتمرغ الحمار، وكل من لم تحمل من النساء تذهب إليه فتتمرغ فيه، وكذلك يصنع الرجل إذا لم يحمل له، قال صاحبنا: دخلت تلك المغارة في سياحتي، وشاهدت هذا البيت في أقصاها، وما يصنع فيه، وذكر أنه لم يبق فيه تراب أبدا من كثرة ما يتمرغ فيه، وقد عاد الصخر في أرضه بسبب التمرغ أملس جدا شبيها بالرخام الأملس، وقد قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 62 - 64]، وقال تعالى عن خليله إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]،

وهؤلاء المشركون يطلبون الشفاء والنفع وقضاء الحاجات وتفريج الكربات من الأموات والمغارات والصخور والأتربة، فما أشبههم بمن قال الله تعالى فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. والعجب كل العجب من طوائف ينتسبون إلى السنة والجماعة، ويزعمون التمسك بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ثم هم مع هذا يخالفون حكم الكتاب والسنة، فيتولون من وصفنا حالهم وذكرنا يسيرا من أفعالهم، ويوادونهم ويبالغون في إكرامهم وتوقيرهم واحترامهم، وهذا يناقض ما زعموه ويهدمه من أصله، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [المجادلة: 22]، وما أحسن ما قيل: وما الدين إلا الحب والبغض والولا ... كذاك البرا من كل غاوٍ ومعتد * * *

فصل: في مظاهر الشرك في بلاد اليمن

فصل وفي بلاد اليمن من الأمور الشركية والعبادات الوثنية نظير الجاهلية الأولى، ونظير ما يفعل في العراق والبلاد المصرية، كما ذكر ذلك أهل الخبرة بهم من أعيان علمائهم المتأخرين وغيرهم. قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه "تطهير الاعتقاد": أهل العراق، والهند يدعون عبد القادر الجيلاني، وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون: يا زيلعي، يا ابن العجيل، وأهل مكة وأهل الطائف: يا ابن العباس، وأهل مصر: يا رفاعي، يا بدوي، والسادة البكرية وأهل الجبال: يا أبا طير، وأهل اليمن: يا ابن علوان، وفي كل قرية أموات يهتفون بهم، وينادونهم، ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر، وهو بعينه فعل المشركين في الأصنام كما قلنا في الأبيات النجدية: أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وودّ بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم نحروا في سُوحها من بحيرة ... أُهِلّتْ لغير الله جهرا على عمد وكم طائف حول القبور مُقبِّل ... ومستلم الأركان منهن باليد! وأعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء ومن أتباع من يعتقدون فيه يجعلون له حصة من الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش، ويأتون بمنكرات ما بلغ إليها المشركون.

كلام العلامة حسين بن مهدي النعمي حول مظاهر الشرك عند عامة أهل اليمن

ولقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدارهم وحلية نسائية، وقال: هذه لسيده فلان -يريد صاحب القبر- نصف مهر ابنتي لأني زوجتها، وكنت ملَّكت نصفها فلانا -يريد صاحب القبر- وهذه النذور بالأموال، وجعل قسط منها للقبر، كما يجعلون شيئا من الزرع يسمونه ثلما في بعض الجهات اليمنية، وهذا شيء ما بلغ إليه عُبّاد الأصنام، وهو داخل تحت قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [النحل: 56] بلا شك ولا ريب. وأخبرني من أثق به أنه رأى من يسجد على عتبة مشهد الولي الذي يقصده، تعظيما له وعبادة، ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبل منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدّقوه، وهكذا كان (¬1) عُبّاد الأصنام. انتهى ملخصا. وقال العلامة حسين بن مهدي النعمي التهامي ثم الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه "معارج الألباب": طالما شاهدنا عُبّاد أرباب هذه القباب إذا التطمت عليهم أمواج البحر سمعت ذكر الزيعلي، والحداد، وكل يدعو شيخه عند ذلك الاضطراب، ولكل من الجيلاني، وابن علوان، والعيدروس، والحداد وغيرهم من آلهة هذه الطوائف طائفة من العُبّاد -وأطال الكلام رحمه الله تعالى- ثم ذكر ما فشا في العامة من أنواع الشرك، وما صار هجيراهم عند الأموات، من دعائهم، والاستغاثة بهم، ¬

_ (¬1) في الأصل المخطوط (كانت) ولعلها سبقة قلم. ينظر (تطهير الاعتقاد 29].

والعكوف حول أجداثهم، ورفع الأصوات بالخوار، وإظهار الفاقة والاضطرار، واللجأ في ظلمات البحر، والتطام أمواجه الكبار، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال، والالتجاء المحقق إلى سكان المقابر في فتح أرحام العقام، وتزويج الأرامل والأيامى، واستنزال السحائب والأمطار، ودفع المحاذير من المكاره والشدائد، والإناخة بأبوابها لنيل ما يرام من الحوائج والمقاصد، وبالجملة فأي مطلب، وأي مهرب ترى هنالك ربع المشهد مأهولا، وقد قطعت إليه المهامه وعوراً وسهولاً، والنداء لساكنه أن يمنح أو يريح، والتأدب والخضوع والتوقير والرغبة ومشاعر الرهبة، وينضاف إلى ذلك - خصوصا في الزيارات في الأعياد والموالد - نحر الأنعام وترك الصلاة، وصنوف الملاهي، وأنواع المعاصي للمليك العلام. وكثيرون لا طمع في حصرهم، ولعلهم العموم إلا من شاء الله إن لم تلد زوجة أحدهم، أو طال مرض مريض منهم، أو أصاب امرأة التوق إلى النكاح، أو قحطت الأرض، أو دهمهم نازل من عدو أو جراد أو غيرهما، أو راموا أمرا عناهم تحصيله، فالولي في كل ذلك نصب العين، وحاصل معتقدهم أن للولي اليد الطولى في الملك والملكوت، فإن العامة في كثير من حالاتهم وتقلبهم قد بدلوا معالم الشرع بسواها؛ فجعلوا الذهاب إلى قبة الشيخ والتضرع له والإلحاح عليه عوضا عن الخروج إلى ظاهر البلد للاستسقاء، وجمهورهم لا يعرف لهذا المقام وظيفة سوى عتبات المشايخ، ولقد سلكوا هذا المسلك في مريض أعيى داؤه، وذليل قهره أعداؤه، وذي سفينة عصفت عليها الرياح، وتجارة امتدت آمال

قاصدها إلى نيل الأرباح، فيقول أحدهم: ألتمس بركة الشيخ وكرامته فأنزل بهذا البلد، وبعد ذلك حصلت لنا من الشيخ كرامة أو ما قبلنا أو شبه ذلك. وحيث إن جماهير من العامة لا يحصون في أقاليم واسعة وأقطار متباعدة ونواحي متباينة- لما كانوا قد نشأوا لا يعرفون إلا ما وجدوا عليه مَن قبلهم من الآباء والشيوخ من هذه العقائد الوثنية والمفاسد، فتجدهم إذا شكى أحدهم على الآخر نازلة نزلت فلعله لا يخطر له في بال إلا: هل قد ذهبت إلى الولي؟ وقد يضرب له الأمثال بأن فلانا كان من أمره كذا، وفلانا كان من أمره كذا، حتى أنسوا بهذا الباب أكثر مما يصفه الواصف، حتى أنَّا شاهدنا ما لا يحصى قدره الآن إذا سقطت دابة أحدهم أو عثر هو، أو بغتته حادثة من هذا القبيل نادى ببديهة الحس: يا هادياه، يا ابن علوان، يا جيلاني. ومن عجيب ما أتته العامة من طرائف هذا الباب وغرائبه الفاحشة ما شاهدناه بالمعاينة مكتوبا على راية مشهد من المشاهد: هذه راية البحر التيار فلان بن فلان، به أستغيث وأستجير، وبه أعوذ من النار. ومن ذلك أن حيا من أهل البوادي إذا أرسلوا أنعامهم للمرعى قالوا: في حفظك يا فلان؛ يعنون ساكن مشهدهم، وأنهم إذا أرادوا السفر إلى جهة استأذنوه، والعمل في الجواب على سادن المشهد، حتى إنه اشتد المرض برجل من العامة فشد رحاله إلى قبر الولي يستجير به، أو عنده من الموت، فهلك هنالك، ومنهم من يخاطب الولي بزعمه فيقول: يا خالق الولد الذي تخلقه مطهور، ومنهم أقوام يخاطبون المقبور من مسافة أربعة

برد وأكثر من ذلك، وينادونه يسألونه المطر. وكثيرون لا يدخلون تحت حد الإحصاء إذا كان الحلف باسم الله أقدم عليه الحالف بلا مبالاة، حتى إذا طلب منه الحلف بصاحب القبر -وبالأخص إذا ألزمه محلفه بإمساك حلقة باب النصب- فلا يتجاسر قط إن كانت يمينا فاجرة، وقد لا يرضى المحلوف له إلا بذلك دون الرسم الشرعي، ويعتقد أنه إن أقدم الحالف فإن كان بارا وإلا بادره الولي بالعقوبة العاجلة والبطشة الكبرى، وهذا باب عمّت به البلوى، وأصاب شواظه كثيرا من العامة، لا يرضى من خصمه مثلا إلا باليمين على الشيخ أو به، وساعدهم في ذلك بعض الذين انتصبوا للحكومة بين العباد لجهل بما يلزم الذمة، وكانت منهم تلك المساعدة، أو وقع في الخطر من جهالة العامة، لما أنه صورة تقرير ممن يظنونه أخا علم، فيقول ذلك الحاكم: لا بأس أجبه إلى الحلف على قبر الشيخ، فإن رجع عن الإصرار على اليمين ظن الحاكم أنه قد أتى على الوجه الأحمد، الذي يخرج به الحق ممن هو عليه، وما علم الغافل ما تضمنه مقامه هذا من تبديل حكم الله تعالى وتشريع في الدين لم يأذن به الله، وتقرير لهذه الشناعة في قلوب العامة. ولقد بلغنا أن رجلا من أهل ذمار ولي القضاء بمدينة بيت الفقيه ابن عجيل في زمن قريب من عصرنا هذا، فتداعى عنده رجلان من أهل الجهة وجبت اليمين على أحدهما، فأراد تحليف خصمه على مشهد الفقيه أحمد بن موسى عجيل عملا بما في باله وعادة من هناك، فقال الحاكم: والله ما يحلف لك إلا في مقامي هذا، فألهم الله الرجل حينئذ الفطرة الإسلامية والطريقة الإبراهيمية.

ونمي إلينا بطريق قوي أن رجلا حلف لغريمه أن لا حق له، فبعد ذلك سأله اليمين بمعتقد يسمى شويع، فنكل وسلّم الدين. وما سقنا هذه الكلمات عن العامة إلا على سبيل المثال، وهذا شيء لا يختص به الواحد والاثنان، ولا البلدة والبلدتان، ولا القطر ولا القطران، بل عمّ أمر المشاهد وعبادة الأموات البلاد من أقصاها إلى أقصاها، حتى آل الأمر إلى أن عاد غصن الشرك غضا طريا، ويبلغنا من ذلك الكثير الذي لا يحويه السطور سوى ما سمعناه وشاهدناه، ونحن ببلد أقل شيء فيها هذا القبيل، وإلا فمن سكن بفرس، والمخا، وصعدة، وغيرها من قطرنا هذا خاصة -كيف سواه- رأى العجب إن كان قلبه حيا. ومن ذلك أن امرأة كُفّ بصرها ومات ولدها، فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسبك فيَّ. ومن ذلك -وهو من أشهر عجائبهم المعلومة في نواحي البلدان- شراؤهم الأولاد بزعمهم من الميت بشيء معين، فيبقى ثمنه رسما جاريا يؤدى كل عام لصندوق الولي، وإن كانت امرأة فمهرها له، أو نصف مهرها، إذ هي مشتراة منه. ومن ذلك -وهو من طرائفهم الشهيرة أيضا- ترك أشجار ومراع حول المشهد -لمكان قربها منه- مع الحاجة الشديدة إليها، فتبقى على ممر الأزمان سائبة. ومن عجائبهم ما حدّث به جمع من أهل الدين أنه وقع في زيارة بعض المشاهد اجتماع خلق كثير من الرجال والنساء والأطفال، فكان هناك

من القبائح ما منه السجود للمعتقد، شاهد ذلك الجمع ما ذكر عيانا. ومن ذلك -وهو من غرائب الانحلال من الدين-: أن جماعة من العامة خرجوا من مسجد بجوار مشهد بعد أن صلوا فريضة من المكتوبات، فدخلوا المشهد، فرفعوا وضموا وركعوا إلى جدار القفص، وأما ما يقع من العامة عند التطام موج البحر، ونازلة باغتة، وجرئيات لا تنحصر -من تبادر بوادرهم إلى دعاء الولي والاستغاثة به، ونسيان الله أو تشريكه فقط- فأمر أوسع من فج البر، ولقد سمعنا وصحّ لنا، بل ما هو إلا التواتر الذي هو أجلى الضروريات، ولقد سمعت من بعض الإخوان أنه كان نازلا بمدينة زبيد في سابق الأيام، وأن بها قوما يقرؤون صحيح البخاري، فإذا فرغوا -إما أحيانا أو مطلقا- ذهبوا إلى مشهد الجبرتي -فيما يغلب على ظني الآن ويحتمل غيره- فيظلون عاكفين هنالك ما شاء الله، وعليهم السكينة، والوقار، وضروب من الخضوع، والتأدب لنازل الحفرة، هل هذا عمل بشيء وجدوه في كتاب البخاري أو غيره، أم ما هو؟! ومن عجيب أمر العامة نداؤهم المقبور أن ذُبَّ عن قُبَّتك، وافعل ما يشيع به ذكرك في الآفاق، وصار كثير منهم وسيلته عند حبس القطر الذهاب إلى المشهد والعقر فيه وسؤاله، وربما يقول السادن حرصا على الحطام: حُبس القطر بسبب الإساءة أو منعكم نذره مثلا، فإن فعلوا ولم يحصل المطلوب تحدثوا بأنه غائب في مكة مثلا، ولقد تجاسر بعض العامة زعما منه أنه صادق الاعتقاد في الولي أو ذو دراية بما ينبغي له، فقال: والله أما الولي فلان فإنه يُحيي الموتى، أما الولي فلان فإنه حي لا

يموت، قد والله أقامني هذا الجاثم وسط القبة الذي زعمتم أنه لا يضر ولا ينفع، إنه يفعل ويفعل، ولست أقول لك إن قائل هذه الحوالق واحد. ومن عجيب أمر العامة تصريحهم في كثير مما يحدثه الله؛ من أمره، وشأنه في عباده وبلاده وملكه، وتقليبه الدهر كيف يشاء، فيقول أحدهم فعل الولي، هذا أمر شهير بينهم. ومن قولهم في أوليائهم: رد الجراد، وعلق الهرة في رأس الشجرة، يشفي المجانين، يقطع الحمى، يزيل الأمراض المؤلمة، حتى إنهم يقولون إذا قصد البلد الذي معتقدهم فيها فئام من الناس للإفساد فيها، ثم رجعوا عنها، أو توقفوا عن دخولها ردهم الشيخ، وإن فعلوا بغيتهم قالوا مثلا: كان غائبا، أو ساخطا عليهم، أو أية علة اعتلوا بها مما يوحي بها شياطين الإنس والجن. ومن طريف أخبارهم أن منهم من يمرض، فيلازم المشهد يستجير به من ذلك المرض، ويتوصل إلى زوال ما به من الداء الذي أضناه وخصوصا إذا كان من نوع الماليخوليا أو أمراض العقل، قائلا بلسان الحال والمقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، ومنهم من يمكث في المشهد أياما محبوسا بلا صلاة قط، زاعما أنه في حبس الولي وقيده، لا يطلقه إلى لحاجته. ومن طريف أقوالهم في أوليائهم: إنه يضرب من تظلم منه، أو شكى به إليه، ويعزل الوالي إذا لم يزره، ويهب الولد إذا جومعت المرأة عند مشهده، ويسلب السلاح، ويقيد، ويفك الأسرى والمحبسين، ويهدي الضالين،

ويجير القوم، ويترك بنادقهم قصبا، وعاقلهم خنثى لا أنثى ولا ذكر، ويعاقب من أخذ من ضريحه ورقة للتبرك بها في الحال، حتى صار في بعض الجهات أن المرأة لا تدخل عند زوجها حتى تزور الولي، وأن رجلا زعم أن وليا نبه عليه في النوم أن يبني عليه قبة قال: فبنيت خوفا منه. قلت: وباب تنبيه الأموات كباب تحمل الشيخ الصلاة وغيرها في السعة والشيوع، والله يغلقها كلها بنصر دينه. ومن عجيب أمرهم أن امرأة جاءت قبرا فجعلت تقول: يا سيدي بعت مالي، ورحلت إليك من مسافة كذا، سألتك بالله أن تشفي ولدي، فإني جارة الله وجارتك. ومن عجائبهم أنه أُخرب بناء على معتقد من الأموات، فصاحت امرأة: من يشفي لنا مرضانا؟! من يحمي لنا حمانا؟! آها عليك يا شريف، ولما غيرت بعض المعتقدات صاحت العامة: ههنا سادة، غيروا أربابكم، ثم أقبلوا يزفون يقولون: أهكذا فعلتم بأربابنا؟! فنحن الآن نتقرب إليهم بقتلهم، وإنهم أربابنا، ولا نعرف لنا غيرهم، ولا مقعد لنا في هذا المكان إلا بهم. فهذه قطرة سردناها ليعلم الأغبياء ما صار عليه الحال مما لا يحصى كثرة، وكثير من العامة يتخذ قسطا من مزرعته أو من غنمه لابن علوان، ويقبضه قوم يقال لهم المناصيب، هم من الدعاة إلى الشرك بالله أو رؤوسهم فيحملون العامة بعباراتهم، وتهويلهم، ومسالكهم الشيطانية، ومَن تأخر فليحذر هجوم رسول الشيخ في الليل حتى يذروا القوم بلا

قلوب ولا عقول ولا أديان ولا نظر أصلا؛ بل أشباه الأنعام والمجانين يصدقون الكذب، ويعتقدون المعدوم، ويعطون من حرم الله، ويمنعون من أمر الله بإعطائه من الآباء وذوي القربى، فهم بكل هذا يسلخونهم من شعار التوحيد إلى لباس الشرك والتنديد والإعراض عن الله الحميد المجيد، حتى إنك لتجدهم يحاذرون، ويرجون من جهة الشيخ ما لا شيء منه مع باريهم وفاطرهم؛ لجهلهم بحقه دون ما اتخذوه من رسوم الشيخ، ويحرصون على براءة نفوسهم من نذره وإتاوته، والقيام في طاعة وبر وإرضاء من يأتي من قبله من منصوب أو مجذوب وغيرهما، ويطوفون نحو الراية، ويتمسحون بها، ويرجون من كل ذلك نفعا ودفعا، وإذا أتاهم لجهة الله من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم أن ينفقوا في سبيل الله، ويصلوا أرحامهم ويقيموا الصلاة، ويجمعوا ما قدروا عليه -أقل مما يدفعونه إلى المنصوب بكثير- لفقير أو أرملة، أجفلوا وفروا، أو قابلوه بمقابلة مريضة أو كالميتة؛ بلا نشاط ولا رغبة ولا رعاية ولا إقبال قلب، ولا يقومون لله في براءة ذممهم وما علقه تعالى بها من مال وغيره بعضا مما يقومون به للشيخ؛ حتى إن كثيرا منهم ينفق في الزيارة واسع النفقة، ويثابر على أن لا تفوته في مواسمها، ويتهيأ لها برغبة ونشاط، أكثر مما يكون إلى بيت الله الحرام، بل ربما لا يعرف الحج قط مع الاستطاعة، بل ربما كثيرا ما يضيع الصلاة المكتوبة وعدة فرائض؛ إما لاشتغاله بفرض الزيارة الشركية وإما مطلقا، وأما رسوم الشيخ وعاداته فالوفاء حتم لا فكاك منه، فبيعة العقبة للشيخ في أعناقهم خوفا وطمعا؛

كلام العلامة الشوكاني حول ذلك

بحيث يهدرون ما لا يحصى من أوامر الله وحقوق الخالق، وما ألزم به ذممهم لحلول ما يضادها في ساحتهم، ونزوله بمنازل اعتبارهم، وشرح هذا الباب يطول؛ حتى كاد يستأصل منهم جميع شرائع الأديان والعقول، بل لقد استأصلها كما قد صنع ذلك في عدد لا يسعف الحاصر ولا يلم به الخامل. انتهى كلامه رحمه الله ملخصا. وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه "الدر النضيد": من أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالا؛ فليخبرنا ما معنى ما نسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيل، يا زيلعي، يا ابن علوان، يا فلان يا فلان، وهل ينكر هذا منكر، أو يشك فيه شاك، وما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم؛ حتى إنهم في حرم الله ينادون يا ابن عباس، يا محجوب، فما ظنك بغير ذلك؟! فلقد تلطف إبليس وجنوده لغالب أهل الملة الإسلامية بلطيفة تزلزل الأقدام عن الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال: ولقد أخبرني بعض من ركب البحر للحج أنه اضطرب اضطرابا شديدا، فسمع من أهل السفينة من الملاحين وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات، ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط، قال: ولقد خشيت في تلك الحال الغرق لما شاهدته من الشرك بالله. وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية المتصلة بصنعاء أن كثيرا منهم إذا حدث له ولد جعل قسطا من ماله لبعض الأموات المعتقدين، ويقول: إنه

كلام الشيخ حسين بن غنام الأحسائي حول ذلك

قد اشترى ولده من ذلك الميت الفلاني بكذا، فإذا عاش حتى يبلغ سن الاستقلال دفع ذلك الجعل لمن يعتكف على قبر ذلك الميت من المحتالين لكسب الأموال. انتهى. وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي رحمه الله تعالى في كتابه "روضة الأفكار والأفهام": وأما ما يفعل في بلدان اليمن من الشرك فأكثر من أن يحصى، فمن ذلك ما يفعله أهل شرقي صنعاء بقبر عندهم يسمى الهادي، يدعونه ويستغيثون به، وتأتيه المرأة إذا تعسر عليها الحمل أو كانت عقيم، فتقول عنده كلمة قبيحة عظيمة، وأما أهل برع فعندهم البرعي يدعونه، ويأتون إليه من مسيرة أيام لشكاية الحال وطلب الإغاثة، ويقيمون عند قبره، ويتقربون بالذبائح عنده، وأما أهل الهجرية ومن حذا حذوهم فعندهم قبر يسمى ابن علوان تستغيث به العامة، ويسميه غوغاؤهم منجى الغارقين، وأغلب أهل البر منهم والبحر يطربون عند سماع ذكره، ويستغيثون به وإن لم يصلوا إلى قبره، وينذرون له في البر والبحر، ويبالغون في تعظيمه، ويفعلون عند قبره السماعات والموالد، ويجتمع عنده أنواع من المعاصي والمفاسد، وأما حضرموت، والشجر، ويافع، وعدن فعندهم العيدروس يفعل عند قبره السفه والضلال، ويقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس، شيء لله يا محيي النفوس. وأما بلدان السواحل فعند أهل المخا علي بن عمر الشاذلي، أكثرهم يدعوه ويستغيث به، ولا تفتر ألسنتهم عن ذكره قياما وقعودا. وأما أهل الحديد فعندهم الشيخ صديق، يعظمونه ويغلون فيه، وقد

أدى بهم الضلال إلى أنه لا يمكن أحد يريد ركوب البحر، أو يريد النزول منه إلى البر حتى يجيء إليه، ويسلم عليه، ويطلب منه الإعانة والمدد فيما أراده وقصده. وأما أهل اللحية فعندهم الزيلعي، يعظمونه ويدعونه، ويصرفون إليه جميع النذور، وقبر رابعة عندهم مشهور، لا يحلفون صدق اليمين إلا بها. انتهى المقصود من كلامه باختصار وتصرف في بعض العبارة. وقد حدثني بعض أصحابنا من طلبة العلم أنه رأى في سياحته في أدنى اليمن أشجارا وأحجارا كثيرة، يعتقد فيها أهل تلك النواحي، ويفعلون بها نظير ما كان المشركون الأولون يفعلونه بذات أنواط وإساف ونائلة، وذكر أنه رأى كثيرا ممن هناك لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا وضوء، إلى غير ذلك مما ذكره عنهم من كثافة الجهل بالإسلام، ومزيد الضلال على الأنعام، وهذا من مصداق ما رواه ابن ماجة، والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب؛ حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا صدقة ...» الحديث، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه. وإذا كان الأمر هكذا في أدنى اليمن فما الظن بأقصاه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد روى الشيخان في صحيحيهما، والإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات

نساء دوس حول ذي الخلصة، وكانت صنما تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة». وهذا الحديث الصحيح من معجزات النبوة؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عما سيقع بعده من الافتتان بذي الخلصة وعبادتها من دون الله، فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، فكانت دوس ومن حولها من القبائل ينتابونها ويفعلون عندها وبها نظير ما كان يفعل عندها وبها في الجاهلية، حتى مَنَّ الله تعالى على آخر هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ودعوته إلى التوحيد، وتحديد وتجديد ما اندرس من معالم الدين، وسعيه في محو الشرك ووسائله، وما يدعو إليه ويُرغِّب فيه، فبعث إمام الموحدين في ذلك الزمان عبد العزيز بن محمد بن سعود -رحمة الله عليه وعلى من كان السبب في إمامته- جماعة من الموحدين إلى ذي الخلصة، فهدموا بعض بنائها، وبقي بعضه قائما إلى أن ولي الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود على الحجاز وما حولها، فبعث عامله على تلك النواحي سرية في سنة ألف وثلاثمائة وأربع وأربعين أو خمس وأربعين، فهدمت ما بقي من بناء ذي الخلصة، ورمت بأنقاضها في الوادي، فعفا بعد ذلك رسمها وانقطع أثرها، ولله الحمد والمنة. وقد ذكر بعض الإخباريين عن بعض الذين شاهدوا هدمها أن بناءها كان قويا محكما، وأحجاره كانت ضخمة جدا، بحيث لا يقوى على زحزحة الحجر الواحد أقل من أربعين رجلا، فالحمد لله الذي يسَّر هدمها ومحو أثرها، وأثر غيرها من الأوثان والأشجار والأحجار التي قد اتخذت آلهة

تعبد من دون الله، والله المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وييسر محو ما سوى ذلك من المعابد الوثنية، والمعتقدات الجاهلية التي قد عظم شرها والافتتان بها في أكثر الأقطار الإسلامية، إن الله على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. * * *

فصل: في مظاهر الشرك في بلاد الشام والترك

فصل وفي البلاد الشامية من النصب والقبور المفتتن بها شيء كثير، ومن أعظم ما هناك فتنةً واعتقادًا فيه قبر ابن عربي الطائي الملحد، إمام الاتحادية وخليفة فرعون الداعي إلى مذهبه، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: إن بعض أهل الشام يعتقد فيه مثل ما يعتقده أهل مصر في أحمد البدوي. انتهى. وأما ما وراء الشام من بلاد الترك فالنصب والأوثان فيها أكثر، وقد حكي أن جمهورهم منذ سنين أجمعوا على رفض الإسلام بالكلية؛ فتركوا الصلاة والأذان وغيرهما من شعائر الإسلام الظاهرة، وأن رئيسهم داس المصحف برجليه وقال: هذا هو الذي أخّرنا عن اللحاق بالأمم الغربية. ولا ندري عن صحة هذه الحكاية، وعلى تقدير صحتها فشؤم ذلك ووباله عليهم وعلى من والاهم ورضي بأفعالهم. وأما المسلمون فلهم أسوة حسنة في نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى له: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 23 - 24]، {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 176 -

178]، ولهم أيضا أسوة حسنة {فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. ونظير هذه الحكاية ما ذكره بعض الأفاضل أنه ورد الأمر من سلطانهم في أواخر القرن الثالث عشر بتعطيل الأذان في الحرمين الشريفين، وإلزام النساء بالسفور، وأن لا يسترن وجوههن عن الرجال الأجانب، وقد رد أهل الحرمين أمره، وأجمعوا على خلافه، ولله الحمد والمنة. فهذا شاهد لصحة هذه الحكاية، وأنهم يحاولون هدم دين الإسلام من زمن طويل {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَابَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33]. والمقصود أن التُرك من أعظم الناس فتنة بالقبور خاصتهم وعامتهم، ومن أكثر الناس بناء عليها، وقد بنوا في العراق قبابا كثيرة باقية إلى الآن، وبنوا في الحجاز كثيرا أزاله الله على أيدي أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة، وكثير مما كان لهم عليه ولاية في الأزمان الماضية لا يخلو من قباب على القبور من بنائهم مما هو باق إلى الآن، ولم يبق في الحجاز من القباب التي وضعوها على القبور سوى القبة الخضراء على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه رضي الله عنهما، وقد ذكر بعض المؤرخين أن هذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور

في سنة ثمان وسبعين وستمائة. قلت: وقلاوون هذا هو ابن عبد الله التركي، والصالحي نسبه إلى مولاه الملك الصالح نجم الدين أيوب الأيوبي. ومن ضلال خواصهم وافتتانهم بالقبور، ما ذكره الإمام سعود بن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود -قدس الله أرواحهم ونور ضرائحهم- في رسالته إلى سليمان باشا قال فيها: وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- عام اثنين وعشرين -يعني بعد المائتين والألف- رسالة لسلطانكم سليم، أرسلها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغيث به ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء من النصارى وغيرهم، وفيها من الذل والخضوع والعبادة والخشوع ما يشهد بكذبكم، وأولها: من عُبيدك السلطان سليم، وبعد: يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه ما لا نقدر على دفعه، واستولى عُبّاد الصلبان على عُبّاد الرحمن، نسألك النصر عليهم والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا. وذكر كلاما كثيرا هذا معناه وحاصله، فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم العزى واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد أخلصوا لخالق البريات، فإذا كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم؟! وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم كتبا كثيرة في الحجرة للعامة والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات ما لا نقدر على ضبطه. انتهى.

وقد مُحي منذ زمن قريب كثير من الكتابات التركية المرقومة في حوائط المسجد النبوي حين عثر على ما فيها من الشرك بالله العظيم، والله المسؤول أن ييسر هدم القبة الخضراء وتسويتها بالأرض، امتثالا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في قوله لعلي - رضي الله عنه -: «لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته»، وأن ييسر إعادة المسجد من ناحية القبر على ما كان عليه في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - قبل ولاية الوليد بن عبد الملك؛ حتى لا يتمكن أحد من استقباله في الصلاة ولا من الطواف به. * * *

فصل: في ما كان من مظاهر الشرك في الحجاز

فصل وقد كان في الحجاز ونجد في الأزمان الماضية معتقدات كثيرة؛ من قبور وأشجار وأحجار وغيرها، فأزال الله ذلك كله على أيدي أهل السنة والجماعة، الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، وذلك ببركة دعوة شيخ الإسلام وعَلَم الهُداة الأعلام، مجدد الدين محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه ونوّر ضريحه وأجزل له الأجر والثواب. فأما ما كان في نجد فإنه لم يبق لشيء منه عين ولا أثر من زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى يومنا هذا، ولله الحمد المنة. وأما ما كان في الحجاز فإنه على السداد والاستقامة نحوا من عشر سنين، ولما زالت ولايتهم عن الحجاز واستولى عليها الترك وأشباههم من المحادين لله ورسوله، أعيدت تلك المشاهد والقباب والأمور الشركية كما كانت قبل ذلك. قال صديق حسن خان في كتاب "الدين الخالص": بلغنا أن أهل نجد لما تغلبوا على الحرمين الشريفين وحكموا فيها مدة معتدا بها، هدموا المشاهد التي كانت في مقبرة مكة، وكذلك القباب التي كانت ببقيع الغرقد في المدينة، وسووها بالأرض، ولم يغادروا أثرا من آثارها إلا قبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - خوفا من بلوى الجهال، وصونا من إثارة الضلال، ثم لما ذهب سلطانهم عن هاتين البقعتين أحدث الناس المبتدعة قبابا ومشاهد في

الحرمين وأعادوها فيها، لكن في مواضع مظنونة لهم لا على الحقيقة، والناس العامة بل الخاصة الذين هم كالأنعام إنما يزورون هذه المزارات المستحدثة على خيال أنها لأصحابها، وفيها أجسادهم وأبدانهم أو ترابها، مع أن ذلك ليس بصحيح. انتهى. وقد ذكر الشيخ حسين بن غنام في كتابه "روضة الأفكار والأفهام" ما كان يفعله أهل الحجاز في زمانه من الأمور الشركية والعبادات الوثنية، قال: فمن ذلك ما يفعل عند قبر المحجوب، وقبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه شريف حاكم، متعد غاصب، كان يخرج إلى بلدان نجد، ويضع عليهم من المال خرجا ومطالب، فإن أعطي ما أراد انصرف، وإلا أصبح لهم معاديا محاربا، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات؛ للاستغاثة عند حلول المصائب ونزول الكوارث، وكذلك عند قبر المحجوب، يطلبون منه الشفاعة لغفران الذنوب، وإن دخل متعد أو سارق أو غاصب قبر أحدهما لم يتعرض له أحد، وإن تعلق جان - ولو أقل جناية - بالكعبة سحب منها. قلت: ومن تعظيمهم للقبور واحترامهم لها أعظم من احترامهم للكعبة؛ ما ذكره حسين بن مهدي النعمي أن بعض من جاور بالبلد الحرام حكى له أن رجلا كان ببعض المشاهد بمكة، فقال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف، فقال له بعض كبرائها: مقامك ههنا أكرم. انتهى. قال ابن غنام: ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين -رضي الله عنهما- في سرف، وعند قبر خديجة -رضي الله عنها- في المعلاة، ويقع فيه اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات،

وارتفاع الأصوات بالدعوات والاستغاثات، وفي الطائف قبر ابن عباس -رضي الله عنهما- يقف عنده كل مكروب وخائف متضرعا مستغيثا، وينادي أكثر الباعة في الأسواق: اليوم على الله وعليك ابن عباس. ويسألونه الحاجات ويسترزقونه. قلت: وقد ذكر حسين بن مهدي النعمي أنه سمع بعض الأفاضل يحدث أن رجلين قصدا الطائف من مكة المشرفة، وأحدهما يزعم أنه من أهل العلم، فقال له رفيقه ببديهة الفطرة: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس! فأجابه بأن معرفتهم لابن عباس كافية؛ لأنه يعرف الله. انتهى. قلت: وهذا مصداق ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» الحديث. وقبر ابن عباس -رضي الله عنهما- وإن لم يكن في موضع اللات بنفسه فإنه قريب منه في الموضع، وشبيه به في المعنى؛ إذ كل منهما في ناحية من نواحي المسجد المسمى بمسجد ابن عباس في الطائف، وقد قيل: إن موضع اللات في موضع المنارة من ذلك المسجد، وأما قبر ابن عباس -رضي الله عنهما- فمعروف مشهور، وقد اتخذه الضلال من آخر هذه الأمة وثنا يعظمونه كما تعظم اللات من قبل، ويدعونه ويلجئون إليه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات كما كانت ثقيف ومن حولها من أحياء العرب يدعون اللات ويلجئون إليها، فغلو ضلال هذه الأمة في ابن عباس شبيه بغلو المشركين الأولين في اللات، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]. وقد أزيلت آثار الوثنية من قبر ابن عباس مرتين: إحداهما: في حدود العشرين بعد المائتين والألف. والثانية: في آخر سنة اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف. وكلتا المرتين على أيدي أهل نجد، كما أزيلت آثار الوثنية من اللات على أيدي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره - صلى الله عليه وسلم -، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثنى عليه أحد من خلقه. قال ابن غنام: وأما ما يُفعل عند قبره -عليه الصلاة والسلام- من الأمور المحرمة؛ من تعفير الخدود، والانحناء بالخضوع والسجود، واتخاذ ذلك القبر عيدا فهو مما لا يخفى. قلت: قال صديق بن حسن: رأيت الناس في المسجد الشريف إذا سلم الإمام من الصلاة قاموا من مصلاهم مستقبلين القبر الشريف كالراكعين، ومنهم من يلتصق بالسرادق ويطوف حوله، وكل ذلك حرام باتفاق أهل العلم. انتهى. قلت: وما زال الشرك ووسائله في ازدياد وكثرة حول القبر الشريف، وعند غيره من قبور الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولكن لما قوي الوازع عن ذلك في زماننا ولله الحمد والمنة صار الغوغاء يفعلون بعض ذلك خفية، وقد حدثني بعض أصحابنا من قضاة المدينة النبوية أن خدام المسجد النبوي إذا كان ليلة الجمعة أخرجوا ما يلقيه الغوغاء داخل الشباك الذي حول

الحجرة؛ من أواني الطيب والكتب الكثيرة، قال: وقد عرض عليَّ بعض الكتب التي تلقى هناك فإذا هي مشتملة على الشرك الأكبر؛ فبعضهم يسأل المغفرة والرحمة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضهم يسأل منه أن يهب له الأولاد، وبعضهم يطلب منه تيسير النكاح إذا تعسر عليه، إلى غير ذلك من الأمور التي يفزعون فيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وينسون الخالق المالك المتصرف، فاطر السموات والأرض، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وهو المعطي المانع، النافع الضار، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14]، وقال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، وقد عكس المشركون هذا الأمر، فزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يملك لهم الضر والرشد والإعطاء والمنع، وهذا عين المحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن غنام رحمه الله تعالى: ويَكَلُّ اللسان عما يُفعل عند قبر حمزة والبقيع وقباء من ذلك القبيل. قلت: وقد ذكر لنا أن لهم في كل سنة مجمعا عظيما عند قبر حمزة - رضي الله عنه - يضاهي في كثرته مجمع عرفات، وذلك في اليوم الثاني عشر من شهر رجب؛ يخرج إليه أهل المدينة كلهم رجالهم ونساؤهم، والخوالف من

النساء اللاتي لم يخرجن إذا رأين رجلا متخلفا عن الخوارج أنّبنه وحصبنه بالحجارة حتى يخرج، وتأتي وفود الشيطان إلى هذا المجتمع أفواجا من كل فج عميق؛ من مكة وغيرها من الأماكن البعيدة؛ ليشهوا ما يضرهم ولا ينفعهم، ويذكروا اسم الشيطان على ما زين لهم من هذه المجامع المؤسسة على الشرك والبدع، ويقضوا وطرهم من المنكرات والقبائح، ويوفوا نذورهم لغير الله، ويطوفوا بالأوثان، ثم ينقلبوا إلى أوطانهم بالخيبة والخسران، قد حازوا رضا الشيطان، وباؤوا بسخط الرحمن. قال ابن غنام: وأما ما يُفعل في جدة فقد بلغ من الضلالة والفحش الغاية القصوى، وعندهم قبر طوله ستون ذراعا عليه قبة، يزعمون أنه قبر حواء، وضعه بعض الشياطين من قديم، والسدنة عنده يَجْبُون من الأموال ما لا يخطر على البال، وعندهم مشهد يسمى العلوي قد بالغوا في تعظيمه والغلو فيه، وفي سنة عشر بعد المائتين والألف اشترى تاجر من أهل جدة من أهل الهند -التجار القادمين- وأهل الأحساء مالا كثيرا، فوقع عليه بعد أيام انكسار وإفلاس، فهرب إليه مستجيرا، فلم يتقدم إليه منهم شريف ولا وضيع، ولا كبير ولا صغير، وترك بيته وما فيه، حتى اجتمع التجار وجعلوا ذلك عليه نجوما في سنين، وذلك بإشارة بعض من ينتسب إلى الدين. انتهى باختصار وتصرف في بعض العبارة. وقد ذكر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى أنه لما قدم مكة في سنة إحدى عشرة بعد المائتين والألف رأى في مقبرة المعلاة أكثر من عشرين قبة، ورأى فيها أكثر من مائة قنديل.

قلت: وقد افتتن عامتهم وخاصتهم بتلك المشاهد والقباب، حتى إن أكابر علمائهم في أواخر القرن الثاني عشر أنكروا هدم القباب والأبنية التي على القبور، وشنّعوا على من يسعى في إزالتها وتسويتها بالأرض، وهذا في الحقيقة إنكار على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعارضة له؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي نهى عن البناء [على (¬1)] القبور، وأمر بتسوية ما بني عليها، كما في المسند وصحيح مسلم والسنن إلا ابن ماجة، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته». وعن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسُوِّي ثم قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها» رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، ورواية ابن ماجة مختصرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وعنده زيادة: «وأن يكتب عليها». وفي رواية لأبي داود والنسائي: «أو يزاد عليه أو يكتب عليه». ورواه ابن ماجة مختصرا قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب على القبر شيء». ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى ¬

_ (¬1) في الأصل (عن) وهو سبق قلم، والله أعلم.

على القبر، أو يجصص، أو يقعد عليه، ونهى أن يكتب عليه» قال الحاكم: على شرط مسلم، وقد خرج بإسناده غير الكتابة فإنها لفظة صحيحة غريبة، وقال الذهبي في تلخيصه: على شرط مسلم، وخرج منه. وفي رواية للحاكم: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبور، والكتابة فيها، والبناء عليها، والجلوس عليها» صححه الحاكم، وافقه الذهبي في تلخيصه. وفي المسند من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى على القبر، أو يجصص». وفي سنن ابن ماجة عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبنى على القبر». وقد خالف القبوريون هذه الأحاديث جملة، وارتكبوا ما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه من البناء على القبور، والزيادة عليها، وتجصيصها، والكتابة عليها، وساعدهم على ذلك أدعياء العلم؛ فأباحوا لهم هذه المحرمات، ثم زاد بهم الشر فأنكروا على من اتبع رضوان الله وامتثل أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فسعى في إزالتها وتسويتها بالأرض، وليس مع أولئك الأدعياء حجة فيما ذهبوا إليه إلا كونه مخالفا لعوائدهم وما نشأوا عليه وألِفوه من التقليد الأعمى، وقد انتدب أربعة من رؤسائهم الجهال الذين أصمهم التقليد وأعماهم واستزلهم الشيطان وأغواهم، فأصدر كل واحد منهم جوابا في المنع من هدم القباب والإنكار على من فعل ذلك، وعلى من يترك التقليد ويتبع الكتاب والسنة، ذلك مبلغهم من العلم، نعوذ بالله من عمى البصيرة. وقد تصدى للرد عليهم شيخ اليمن العلامة المحقق الشيخ حسين بن

مناظرة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر لعلماء مكة

مهدي النعمي الصنعاني في كتابه "معارج الألباب" فأجاد وأفاد، جزاه الله خير الجزاء. وقد ناظرهم العلامة المحقق الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى بحضرة والي مكة، في سنة إحدى وعشرة بعد المائتين والألف، فأدحض حججهم المتهافتة، وقذف بالحق على باطلهم فدمغه فإذا هو زاهق، وكتب في ذلك رسالة مفيدة جدا، جزاه الله خير الجزاء. وقد ذكر الشيخ حسين بن غنام في تاريخه: أن علماء مكة لما حضروا لمناظرة الشيخ حمد بن معمر قال له كبيرهم: اعلم أني أقول لا أخاصمك ولا أناظرك إن أتيتني بالدليل من الكتاب أو السنة، ولا أجاريك ولا أطالب بما قال علماء المذاهب، سوى ما قال به إمامي أبو حنيفة؛ لأني مقلد له فيما قال، فلا أسلم لسوى قوله، ولو قلتَ قال الله أو قال رسول الله؛ لأنه أعلم مني ومنك بأولئك، والأخذ بغير قول الأئمة هو عين اقتحام المهالك. انتهى. فانظر يا من وفقه الله لاتباع الكتاب والسنة إلى جريرة التقليد على أهله كيف أوقعهم في هذه الجرأة العظيمة، وسوء الأدب مع الله تعالى وكتابه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا} [النساء: 59]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ

كلام العلامة صديق حسن حول فعل أهل مكة بمن يعمل بالحديث وينكر التقليد

وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 29 - 30]. ولما أبوا عن الانقياد للحجة والبيان، عدل الموحدون إلى جهادهم بالسيف والسنان، فدخلوا مكة في أول سنة ألف ومائتين وثمانية عشر، واستولوا على الحجاز بكامله، وأزالوا جميع ما كان يعبد من دون الله -بالتعظيم والاعتقاد فيه ورجاء النفع ودفع الضر بسببه- من الأبنية على القبور وغيرها، حتى لم يبق في الحجاز طاغوت يعبد، وهذه هي المرة الأولى كما أشرنا إليه قريبا، وبعد بضع سنين نكث والي مكة وخان الموحدين، ومالأ عليهم الترك والمصريين حتى استولوا على الحجاز، وأعاد القبوريون الأبنية على القبور، وفعلوا عندها وبها من الأمور الشركية ما كانوا يفعلونه من قبل، وزاد غلوهم في التقليد ونفورهم عن الكتاب والسنة، حتى آل بهم ذلك إلى ظلم المتبعين للكتاب والسنة، والبغي في الأرض بغير الحق. قال صديق بن حسن في كتاب "الدين الخالص": من غرائب الزمان أن أهل مكة يُخرجون كل من يسمعون أنه يعمل بالحديث وينكر التقليد، ويضطرونه إلى الخروج والجلاء مع أنه مهاجر غريب الدار والأهل والوطن والسكن، هاجر من ماله وأهله حبا لله ولرسوله، وسكن أشرف البلاد، وهو ليس بمشغول في رد أحد من أهل المذاهب ولا في الجهاد،

يصلي الصلاة في الحرم الشريف المكي ويطوف، ويدرس في بيته مختفيا إن كان من أهل العلم، وإلا يسكت عن الجميع إن كان عامِّيا، ومع ذلك إذا سمعوا في حق أحد من هؤلاء المهاجرين من بلاد الهند وغيره أنه لا يقلد إماما من الأئمة الأربعة، ويتبع السنن ويقتدي بكتاب الله، سخطوا عليه ورموه بكل حجر ومدر، وسعوا به إلى الحكام، وألزموه ما لا يلزمه من الآثام، وتعاقبوه إلى أن أخرجوه من مكة إلى جدة ومن جدة إلى الغربة، وهذا من فتن آخر الزمن، ولا تخرج هذه الفتنة إلا من عند علمائها وكبرائها، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تخرج الفتنة من عندهم، وفيهم تعود»، حتى سمعنا أن بعضهم أفتى بقتل المتبعين، وقال: يُقتل سياسة، وإن لم يستحق القتل. وهذا حال مكة المكرمة، فما مقام الشكوى من بلاد أخرى ليست هي في الشرف والفضيلة معشار عشرها. انتهى. ثم إن الله سبحانه وتعالى رد الكَرَّة للموحدين، ومكَّن لهم في الأرض، فدخلوا الحجاز سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وأربعين، وأزالوا جميع الأبنية على القبور وغيرها مما يعتقد فيه، حتى لم يبق في الحجاز طاغوت يُعبد ولا قبر يُتخذ عيدا، ومنعوهم من الاجتماعات المحدثة للموالد والتعازي، وغيرها من الأعياد البدعية، وهذه هي المرة الثانية كما أشرنا إليه قريبا، ولم يزل الأمر على ذلك إلى الآن، فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين؛ حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته،

ويؤيد التوحيد وأهله، ويتم نعمته عليهم، ويجعلهم قائمين بأمر الله، ظاهرين منصورين على من ناواهم، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وأن يطهر الحرمين الشريفين وسائر البلاد الإسلامية من أدران الفسوق والعصيان، ويمحق ما فشا وظهر فيها من المنكرات، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. * * *

فصل: في مظاهر الشرك والوثنية في بلاد العجم

فصل وأما العجم فقد فشت فيهم الوثنية، وآل بهم الغلو في أهل البيت إلى أن اتخذوهم أربابًا من دون الله، وقد تقدم قول المنفلوطي إن علماءهم يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى بيت الله الحرام، وقال الشوكاني: إنهم غلوا في الكفر حتى أثبتوا الإلهية لمن يزعمون أنه المهدي المنتظر، وأنه دخل السرادب وسيخرج منه في آخر الزمان، وبلغ من تلاعبهم بالدين أنهم يجعلون في كل مكان نائبا عن الإمام المذكور الموصوف بأنه إلههم، ويُسمُّون أولئك النواب حُجَّابا للإمام المنتظر، ويثبتون لهم الإلهية، وهذا مصرح به في كتبهم، وقد وقفنا منها على غير كتاب. انتهى. وأما بلاد الهند فأكثر أهلها قد اتخذوا عبد القادر الجيلاني إلها معبودا، وربا مدبرا ميسرا، والذين يحجون منهم إلى قبره أكثر ممن يحج إلى البيت الحرام، وقد تقدم ما ذكره المنفلوطي عنهم فليراجع. وقال صديق بن حسن رحمه الله تعالى: في الهند رجال كثيرون من هذا الوادي؛ منهم السيد معين الدين الجشتي، والشيخ قطب الدين الكاكي، والسيد بديع الدين المدار، والمسعود الغازي السالار، والشيخ نظام الدين أوليا، والسيد قطب عالم، إلى غيرهم ممن يطول ذكرهم، بل لا بلد من بلاده، ولا قصبة من قصباته، ولا قرية من قراه، إلا وفيه قبر ولي أو صالح يعبدونه جهارا، ويلقون أردية ورياحين، ويوقدون عليه السرج، ويسافرون إليه في شهر مُعيَّن من كل سنة زرافات ووحدانا، وينذرون له بأنواع من

مظاهر الشرك في بلاد المغرب

النذور، ويبذلونه لسدنة القبور ومجاوري المقبور، فإذا وصلوا إليه بعد مشقة من شقة بعيدة فعلوا به من الطواف والتقبيل والاستلام، والقيام بالأدب التمام في محاذاة قبورهم ونحوها مما هو شرك بحت في الإسلام، وذلك كله بعينه صنائع المشركين الماضين، وبدعهم التي جاءت الرسل لمحوها. انتهى. وأما أهل المغرب فعندهم أحمد التيجاني، يبالغون في تعظيمه، ويعتقدون فيه نحوا مما يعتقده أهل مصر في البدوي وأمثاله، ومنهم من يغلو في الحسين، وقد تقدم ما ذكره سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي عن بعضهم من الفعل الشنيع عند المشهد المنسوب إلى الحسين بالقاهرة. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه أن في المغرب مشهدا منسوبا إلى الحسين. ومنهم من يغلوا في عبد القادر الجيلاني. وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى أن في أقصى المغرب مشهدا لعبادة عبد القادر، وأنهم ينادونه من مسافة أَشهُر، بل سَنَة لتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، ويعتقدون أنه من تلك المسافة يسمع داعيه، ويجيب مناديه، يقول قائلهم: إنه يسمع، ومع سماعه ينفع، وهو لما كان حيا يسمع ويبصر لم يعتقد أحد فيه أنه يسمع من ناداه من وراء جدار، ثم بعد موته صار منهم بما صار، وهل هذا إلا لاعتقادهم أنه يعلم الغيب، ويقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله. انتهى. وبالجملة فالأمور الشركية، والعبادات الوثنية قد غلبت على الأكثرين،

وعظمت فتنتها في أكثر الأقطار الإسلامية، حتى عاد غصن الشرك فيها غضا طريا كما كان في زمن الجاهلية الذي بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما أعزَّ من تخلص من شَرَك الشرك في هذه الأزمان المظلمة، فالله المستعان. وقد روى الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدّواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء الله، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة». وفي مسند البزار عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئا، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض». وروى الطبراني في معجمه الصغير، عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذنب لا يغفر، وذنب يغفر، فأما الذنب الذي لا يغفر

فالإشراك بالله، وأما الذنب الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا، وأما الذي يغفره فذنب العبد بينه وبين الله تعالى». وفي مسند الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما هو الشرك». والله المسؤول أن يطهِّر جميع البلاد الإسلامية من نجاسة الشرك، وأدناس البدع والفسوق والعصيان، وأن يعيدها إلى مثل الحالة الأولى في زمن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. * * *

الصنف الثاني من أدعياء الإسلام: أهل التعطيل

فصل الصنف الثاني من أدعياء الإسلام أهل التعطيل؛ الذين يعبدون العدم، وهم الجهمية ومن شابههم ونحا نحوهم، وهم أتباع فرعون؛ ولهذا كان غلاتهم من الاتحادية ينافحون عنه ويفضلونه على موسى، وبعضهم يصرح أنهم من أتباعه؛ كما جاء في حكاية ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن بعض شيوخهم، قال في كتابه "الحجج النقلية والعقلية": هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله، ويدَّعون أنهم خير من موسى وأمثاله، حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلم وحسن إسلامه رحمه الله، وكان قد اجتمع بالشيرازي -أحد شيوخ هؤلاء- ودعاه إلى هذا القول وزينه له، فحدثني بذلك، فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم، وأن قولهم من جنس قول فرعون، فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي إلى هذا القول قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون! فقال: نعم، ونحن على قول فرعون -وكان عبد السيد إذ ذاك لم يسلم بعد- فقال: أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولم؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون ... فانقطع، فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله به موسى، لا بكونه كان رسولا صادقا، قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة، أنا كنت أريد أن أُبيِّن لك أن قولهم هو قول فرعون، فإذا كان قد أقر بهذا فقد حصل المقصود. انتهى.

تكفير عامة أئمة السنة للجهمية

وقال أيضا قدس الله روحه: المشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية؛ وهم المعطلة لصفات الرحمن؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع، وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل وجميع الرسل، وقال غير واحد من الأئمة: إنهم أكفر من اليهود والنصارى، وبهذا كفّروا من يقول إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب، ونحو ذلك من صفاته. وقال أيضا: نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يُرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك؛ كإنكار تكليم الله لموسى، واتخاذ الله إبراهيم خليلا. انتهى. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية: ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنـ ... ـهم بل حكاه قبله الطبراني فذكر رحمه الله تعالى أن خمسمائة عالم كفَّروا الجهمية. وقد ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" جملة منهم، وكان بعض الأئمة يسميهم الزنادقة. وروي عن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط، وغيرهما من أهل العلم والحديث أنهم قالوا: أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع:

الخوارج، والروافض، والمرجئة، والقدرية، قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو داود في كتاب "المسائل": حدثنا الحسن بن الصباح قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، عن ابن المبارك قال: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت عبد الله بن المبارك يقول: إنا نستجيز أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستجيز أن نحكي كلام الجهمية. وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "السنة" عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا -وهو من شيوخ الإمام أحمد- أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم شر قولا من اليهود والنصارى، قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس على العرش شيء. وقال أحمد بن سعد الجوهري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أحد أضر على أهل الإسلام من الجهمية، ما يريدون إلا إبطال القرآن وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى: نظرت في كلام اليهود والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم؛ يعني الجهمية، وإني لأستجهل من لا يُكفِّرهم إلا من لا يعرف كفرهم. ذكره

عنه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب "خلق أفعال العباد". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وعن أحمد في تكفير من لم يكفر الجهمية روايتان، أصحهما لا يكفر. انتهى. قلت: وبالتكفير يقول أبو بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وحكى أبو زرعة وأبو حاتم ذلك عمن أدركاه من العلماء في جميع الأمصار. قال أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب "الورع": سمعت عبد الوهاب الوراق يقول: قال أبو بكر بن عياش: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني غياث بن جعفر، سمعت سفيان بن عيينة يقول: القرآن كلام الله، من قال مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. وقال الإمام أحمد في رسالته إلى مسدد: كلام الله غير مخلوق، فمن قال مخلوق فهو كافر بالله العظيم، ومن لم يُكفِّره فهو كافر. وذكر القاضي أبو الحسين في "الطبقات" في ترجمة شاهين بن السميدع أبي سليم العبدي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله تعالى: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه أئمة العلم في

ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار؛ حجازا وعراقا، وشاما ويَمنا، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة، ومن شك في كفره -ممن يفهم ولا يجهله- فهو كافر، ومن وقف في القرآن فهو جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، قال أبو حاتم: والقرآن كلام الله وعلمه، وأسماؤه وصفاته، وأمره ونهيه، ليس بمخلوق من جميع الجهات. وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب "الورع": سألت عبد الوهاب -يعني الوراق- عمن لا يُكفِّر الجهمية؛ قلت: يُصلَّى خلفه؟ قال: لا يُصلَّى خلفه، هذا ضال مضل، مُتَّهم على الإسلام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن الجهمية المتفلسفة والمعتزلة يقولون: إن كلام الله مخلوق، وإن الله كلم موسى بكلام مخلوق خلقه في الهواء، وإنه لا يُرى في الآخرة، وإنه ليس مباينا لخلقه، وأمثال هذه المقالات التي تستلزم تعطيل الخالق، وتكذيب رسوله، وإبطال دينه. وقال أيضا: أصل هذه المقالة -أي التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضُلال الصابئين، فإن أول من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام جعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنُسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان من طالون بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان

قتل أئمة الجهمية

الجعد بن درهم هذا قيل من أرض حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة؛ بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم؛ فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة والفلاسفة، وأخذها الجهم أيضا فيما ذكره الإمام أحمد وغيره لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين. انتهى. وقد روى البخاري في "التاريخ الكبير" وفي كتاب "خلق أفعال العباد"، وابن أبي حاتم في "كتاب السنة"، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" وغيرهم: أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس في يوم عيد أضحى فقال: أيها الناس، ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، كان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك، وشكره مَن بعدهم مِن أهل السنة إلى يومنا هذا، وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ ... قسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان وأما جهم بن صفوان تلميذ الجعد فإنه قُتل بخراسان، قتله سالم بن أحوز. وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الزنادقة والجهمية: أن الجهم لما ناظر السمنية الكفار وشبَّهوا عليه، تحير فلم يدر من يعبد

أربعين يوما. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، سمعت يزيد بن هارون يقول: لعن الله الجهم ومن قال بقوله؛ كان كافرا جاحدا؛ ترك الصلاة أربعين يوما يزعم [أنه (¬1)] يرتاد دينا، وذلك أنه شك في الإسلام، قال يزيد: قتله سالم بن أحوز على هذا القول. وقال عبد الله أيضا: حدثني محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثني يحيى بن أيوب، سمعت أبا نعيم البلخي شجاع بن أبي نصر، سمعت رجلا من أصحاب جهم كان يقول بقوله، وكان خاصا به ثم تركه، وجعل يهتف بكفره قال: رأيت جهما يوما افتتح طه، فلما أتى على هذه الآية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: لو وجدت السبيل إلى حكِّها لحككتها، ثم قرأ حتى أتى على آية أخرى فقال: ما كان أظرف محمدا حين قالها، ثم افتتح سورة القصص، فلما أتى على ذكر موسى جمع يديه ورجليه، ثم دفع المصحف، ثم قال: أي شيء ذكره ههنا فلم يتم ذكره، وذكره فلم يتم ذكره. وقد رواه ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي، عن يحيى بن أيوب ... فذكره بنحوه. وذكر شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى أن عبد الله ابن المبارك رحمه الله تعالى كان ينشد في الجهم: عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ... إلى النار واشتق اسمه من جهنم ¬

_ (¬1) ليست في المخطوط، والتصويب من "السنة" لعبد الله ابن الإمام أحمد 1/ 167.

وأما تلميذ الجهم بشر بن غياث المريسي فقد أراد الرشيد قتله، ولكنه لم يظفر به. قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني محمد بن نوح المضروب، عن المسعودي القاضي، سمعت هارون أمير المؤمنين يقول: بلغني أن بشر المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله عليّ إن أظفرني الله به إلا قتلته قتلة ما قتلها أحدا قط. وقال عبد الله أيضا: أخبرت عن يحيى بن أيوب قال: كنت أسمع الناس يتكلمون في المريسي، فكرهت أن أقدم عليه حتى أسمع كلامه لأقول فيه بعلم، فأتيته فإذا هو يكثر الصلاة على عيسى ابن مريم - عليه السلام -، فقلت له: إنك تكثر الصلاة على عيسى فأهل ذاك هو، ولا أراك تصلي على نبينا ونبينا أفضل منه، فقال: ذاك كان مشغولا بالمرآة والمشط والنساء. فهؤلاء الثلاثة هم أئمة الجهمية وقادتهم. وقد انفرد الجهم عن صاحبيه بخمس قبائح: إحداها: الشك في الإسلام. الثانية: الحيرة في المعبود أربعين يوما. الثالثة: ترك الصلاة في تلك الأيام، حتى يجد له دينا وإلها يعبده. الرابعة: استهانته بالقرآن. الخامسة: زعمه أنه قول البشر. وأما بشر فقد امتاز بأمرين قبيحين:

أحدهما: تفضيل عيسى على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - موافقة منه للنصارى. الثاني: الاعتراض على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما أحل الله. ومع هذا فما زال مذهبهم الخبيث منتشرا في أقطار الأرض من زمنهم إلى يومنا هذا، وما أكثر المستجيبين لهم من هذه الأمة قديما وحديثا، وما أشبههم بمن قال الله تعالى فيهم: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وبمن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ...» الحديث، وقد تقدم بطوله. وفي رواية: «وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس». وقد رأيت طائفة من الجهمية يطوفون بالكعبة ويتكلمون بالتعطيل وعقائدهم الفاسدة جهرا، وقد جعلوا ذلك بدلا عن الدعاء في الطواف، وما رأيت أحدا أنكر ذلك عليهم، فالله المستعان. وحدثنا الثقة من أصحابنا أنه صلَّى مع جهمي في بعض مساجد عمان -ولم يعلم أنه جهمي- قال: فافتتح سورة طه، فلما أتى على قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} حرَّفها وقرأها هكذا: الرحمن على العرش استولى، قال: ورفع بذلك صوته. قلت: وهذا ما كان يوده إمامهم الجهم من حكِّها، وهو ما كان تلقاه عن

أشياخه اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه، قال الله تعالى مخبرا عنهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75]، وقال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، ولما كان الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ كتابه العزيز كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] لم يمكن جهما ولا أتباعه ولا أحدا من البشر أن يغيروا حرفا واحدا منه، اللهم إلا أن يكون حال التلاوة كما صنع ذلك الجهمي الذي حدثنا عنه صاحبنا فهذا ممكن، وكذلك تغيير بعض الآيات حال الكتابة ممكن أيضا. وقد ذكر القاضي أبو الحسين في "الطبقات" في ترجمة حنبل بن إسحاق، قال حنبل: حججت في سنة إحدى وعشرين -يعني بعد المائتين- فرأيت في المسجد الحرام كسوة البيت الديباج وهي [تخاط (¬1)] في صحن المسجد، وقد كتب في الدارات ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير، فلما قدمتُ سألني أبو عبد الله عن بعض الأخبار، فأخبرته بذلك، فقال أبو عبد الله: قاتله الله، الخبيث عمد إلى كتاب الله فغيَّره! يعني ابن أبي دؤاد؛ يعني أزال السميع البصير. اهـ. قلت: مثل هذا التحريف العارض من بعض الزائغين الملحدين لا يستقر بحيث يروج على الناس، بل كل مسلم قارئ يعرف أنه تحريف من أول وهلة، فيرده ويمقت فاعله، وقد صنف بعض الأزهريين منذ سنين كتابا حافلا في ترجمة الإمام أحمد، وذكر فضائله، وصبره على المحنة، وما أصابه في الله تعالى، ¬

_ (¬1) جاء في الأصل المخطوط (تخيط) وهو سبق قلم، والتصحيح من الطبقات 1/ 144.

فأجاد وأفاد، إلا أنه مال إلى رأي الجهمية والمعتزلة في دعواهم أن القرآن مخلوق، واغتر بما احتجوا به لباطلهم من متشابه القرآن، وأضاف على ذلك عقله الفاسد وبداهته المنحرفة، ولم يكفه ذلك، بل تجاوزه إلى مدح هذا الرأي الفاسد والنظر الشيطاني، فقال فيه: إنه نظر عميق سليم، يحتاط للوحدانية، ويحتاط للإسلام، فهو موقف لا يخلو من النبل، وهو إيمان سليم ... إلى آخر كلامه الفاسد، ودسيسته السُمية، ثم أيّد ذلك في موضع آخر بكلام فاسد لبعض من مضى قريبا من المتحذلقين المتمسكين بأذيال المتكلمين من المعتزلة والمتفلسفة؛ ظلمات بعضها فوق بعض، نعوذ بالله من عمى القلوب وانتكاسها، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، ولولا خشية الإطالة لذكرت كلام أئمة السلف في رد الشبهات التي اغتر بها الجهمي وأمثاله، وقد ذكرها الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الزنادقة والجهمية، وذكرها غيره ممن صنف في هذا الشأن، فمن وقف على دسيسة هذا الكتاب الذي أشرنا إليه، وما اغتر به من شبهات أهل الزيغ والضلال، ولم يعرف وجه بطلانها، فليراجع كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده عليهم، يجد الحق واضحا بالأدلة والبراهين، ويرى حجج الجهمية والزنادقة داحضة متهافتة، والمقصود ههنا التنبيه على دسيسة هذا الكاتب لئلا يغتر بها أحد، والله المستعان. * * *

الصنف الثالث من أدعياء الإسلام: أشباه النصارى وهم غلاة الرافضة والجهمية

فصل الصنف الثالث من أدعياء الإسلام: أشباه النصارى الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم؛ وهم غلاة الرافضة والجهمية ونحوهم، ممن ذهب إلى القول بالحلول والاتحاد أو وحدة الوجود، وبعضهم أكفر من النصارى وأخبث منهم قولا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: من جعل الرب هو العبد حقيقة، فإما أن يقول بحلوله فيه أو اتحاده به، وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق كالمسيح، أو يجعله عاما لجميع الخلق، فهذه أربعة أقسام: الأول: هو الحلول الخاص؛ وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم، ممن يقول إن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة؛ كغالية الرافضة الذين يقولون إنه حلَّ بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النُسَّاك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومَن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء. والثاني: هو الاتحاد الخاص؛ وهو قول يعقوبية النصارى، وهم أخبث قولا، وهم السودان والقبط؛ يقولون: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام.

والثالث: هو الحلول العام؛ وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول متعبدة الجهمية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان. الرابع: الاتحاد العام؛ وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين. من جهة أن أولئك قالوا: إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين، وهؤلاء يقولون: ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره. والثاني من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح، وهؤلاء جعلوا ذلك ساريا في الكلاب والخنازير، والقذر والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، فكيف بمن قال إن الله هو الكفار والمنافقون، والصبيان والمجانين، والأنجاس والأنتان، وكل شيء، وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه؛ وقال لهم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} الآية [المائدة: 18]، فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق، ليسوا غيره ولا سواه، ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه، وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع، وأن الناكح عين المنكوح، قال: واعلم أن هؤلاء لما كان

مركبات مذهب الاتحادية

كفرهم في قولهم: إن الله مخلوقاته كلها، أعظم من كفر النصارى بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم، فكان النصارى ضلال أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد، إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهرا واحدا، ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم، كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال، أكثرهم لا يعقلون قول رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل كان بالله أعرف وعندهم أعظم. قال: ومذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني مركب من ثلاث مواد: سلب الجهمية وتعطيلهم، ومجملات الصوفية؛ وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح، فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم، وأيضا كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال السكر، ومن زندقة الفلسفة التي هي أصل التجهم، فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي؛ والكل مشتركون في التجهم، والتلمساني أعظمهم تحقيقا لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر. وقال الشيخ أيضا: معطلة الجهمية ونفاتهم يقولون: إن الله تعالى لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين

تكفير الاتحادية

المتقابلين الَّذَين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم، وحلولية الجهمية الذين يقولون إنه بذاته في كل مكان، يقول ذلك النجارية أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عُبّاد الجهمية وصوفيتهم وعامته، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم، كما قيل: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء. وقال الشيخ أيضا: وقد كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحا، وقلَّ أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان، وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية، فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم، وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين المخلوقات، فهم بربهم يعدلون؛ ولهذا حدَّث الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب إلى الهند وقال: إن أرض الإسلام لا تَسَعَهُ؛ لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النبات والحيوان، وهذا حقيقة قول الاتحادية. انتهى. قلت: ومذاهب القائلين بالحلول والاتحاد منتشرة في كثير من الأقطار الإسلامية في هذه الأزمان، وخصوصا في غلاة الرافضة، والصوفية الجهلة الطغام، الذين هم أضل سبيلا من الأنعام.

وقد جمع العلامة إبراهيم بن البقاعي الشافعي أقوال العلماء في تكفير إمامي الاتحادية ابن عربي وابن الفارض ومن قال بقولهما في كتابين سمى أحدهما "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي"، والآخر سماه "تحذير العباد من أهل العناد"، وما زال علماء أهل السنة والجماعة منذ القرن السابع إلى يومنا هذا يُكفِّرون ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأضرابهم، ومَن يقول بقولهم من أهل الحلول والاتحاد والزندقة والإلحاد، والله المسؤول أن يُطهِّر الأرض منهم ومن إخوانهم الوثنيين أعداء الله ورسوله والمؤمنين. * * *

الصنف الرابع من أدعياء الإسلام: غلاة القدرية

فصل الصنف الرابع: غُلاة القدرية؛ وهم الذين يجحدون العلم والكتاب. قال عبد الله ابن الإمام أحمد: سمعت أبي وسأله علي بن الجهم عمَّن قال بالقدر، يكون كافرا؟ قال: إذا جحد العلم؛ إذا قال: إن الله لم يكن عالما حتى خلق علما فعلم؛ فجحد علم الله فهو كافر. وقال بعض السلف: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. وقال إبراهيم بن طهمان: الجهمية كفار، والقدرية كفار. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة". وروى أيضا في كتاب "الزهد" عن الحسن أنه قال: من كذَّب بالقدر فقد كفر. وسيأتي ذكر الأحاديث في تسميتهم مجوس هذه الأمة قريبا إن شاء الله تعالى. * * *

الصنف الخامس من أدعياء الإسلام: أفراخ الفلاسفة

فصل الصنف الخامس: أفراخ الفلاسفة، الذي يُحكّمون عقولهم الفاسدة، ويجعلونها موازين للشرع؛ فما وافقها قبلوه، وما خالفها نبذوه وراء ظهورهم. ويقولون: إن النبوة مكتسبة، وإنها فيض يفيض على روح النبي إذا استعدت نفسه لذلك، فمن راض نفسه حتى استعدت فاض ذلك عليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم من جنس غيره من الأذكياء الزهاد؛ لكنه قد يكون أفضل. والملائكة عندهم هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية. وكلام الله هو ما يسمع في نفسه من الأصوات؛ بمنزلة ما يراه النائم في منامه. ويجوّزون على الأنبياء الكذب في خطاب الجمهور للمصلحة. والفيلسوف عند بعضهم أعظم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعند بعضهم أن الرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة. والعبادات كلها عندهم مقصودها تهذيب الأخلاق، والشريعة عندهم سياسة مدنية، إلى غير ذلك من أقاويل الفلاسفة وكفرياتهم. وقد تعلق بأذيالهم كثير من منافقي هذه الأمة من المتقدمين والمتأخرين إلى زماننا هذا، ووردوا مواردهم الآجنة المُنتنة؛ فمستقل منها ومستكثر، وهم مع انتسابهم إلى الإسلام أضر على الإسلام وأهله من اليهود والنصارى والمشركين، وقد قيل فيهم:

الدين يشكو بليه ... من فرقة فلسفيه لا يشهدون صلاة ... إلا لأجل التقيه ولا ترى الشرع إلا ... سياسة مدنيه ويؤثرون عليه ... مناهجاً فلسفيه وقد ذُكر لنا عن بعض أتباعهم في هذه الأزمان أنهم لا يصلون إلا للرياضة أو للتقية، وأنهم ينكرون وجود الملائكة؛ وتنزلهم بأمر الله، وتدبيرهم للأمور بإذنه، وبعضهم ينكر كونهم يعقلون؛ وإنما هم عنده بمنزلة الجمادات والنباتات، وينكرون أيضا وجود الجن وصرعهم لبني آدم، إلى غير ذلك مما دخل عليهم من سموم الفلاسفة وجراثيم أمراضهم المهلكة، وكثير من أتباعهم من المتقدمين والمتأخرين قد اتخذوا الشمس والقمر النجوم آلهة يدعونها دون الله، ويطلبون منها ما لا يطلب إلا من الله، وقد صنّف بعضهم في ذلك كتابا سماه "السر المكتوم في السحر ومخاطبة الشمس والقمر والنجوم"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وهذه رِدَّة صريحة. انتهى. وانظر إلى كثير من كتبهم المصنَّفة في الطب وغيره؛ تجد فيها من تعليم السحر ودعاء الكواكب والشياطين وأنواع الطلسمات شيئا كثيرا، وهم مع هذا ينتسبون إلى الإسلام، ويحسبون أنهم على شيء إلا إنهم هم الكاذبون، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

ضرر الفلاسفة على الإسلام وأهله

[المجادلة: 18 - 19]. ومن ضرر الفلاسفة على الإسلام وأهله ما ذكره المؤرخون في وقعة بغداد المشهورة في سنة ست وخمسين وستمائة، فقد قيل: إن القتلى بلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف، وقيل غير ذلك. وهذه الملحمة العظيمة لم يجر على أهل الإسلام مثلها، لا قبل ولا بعد، إلى زماننا هذا في أواخر القرن الرابع عشر، وكان ذلك بإشارة عدويّ الإسلام نصير الشرك الطوسي، الفيلسوف الملحد الباطني الإسماعيلي، والوزير ابن العلقمي الرافضي وكيدهما للإسلام وأهله، عاملهما الله تعالى بعدله، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية: وكذا أتى الطوسي بالحرب الصريـ ... ـح بصارم منه وسل سنان وأتى إلى الإسلام يهدم أصله ... من أُسِّه وقواعد البنيان عمر المدارس للفلاسفة الأُولى ... كفروا بدين الله والقرآن وأتى إلى أوقاف أهل الدين ينـ ... ـقلها إليهم فعل ذي أضغان وأراد تحويل الإشارات التي ... هي لابن سينا موضع الفرقان وأراد تحويل الشريعة بالنوا ... ميس التي كانت لدى اليونان لكنه علم اللعين بأن هـ ... ـذا ليس في المقدور والإمكان إلا إذا قتل الخليفة والقضا ... ة وسائر الفقهاء في البلدان فسعى لذاك وساعد المقدور بالـ ... أمر الذي هو حكمة الرحمن فأشار أن يضع التتار سيوفهم ... في عسكر الإيمان والقرآن

لكنهم يبقون أهل صنائع الـ ... ـدُّنيا لأجل مصالح الأبدان فغدا على سيف التتار الألف في ... مثل لها مضروبة بوزان وكذا ثمان مئينها في ألفها ... مضروبة بالعد والحسبان حتى بكى الإسلام أعداه اليهو ... دُ كذا المجوس وعابدو الصلبان فشفى اللعين النفس من حزب الرسو ... ل وعسكر الإيمان والقرآن فانظروا أيها المسلمون إلى شدة عداوة الفلاسفة والرافضة للإسلام وأهله، وخبث طويتهم، وكيدهم للمسلمين، وطلبهم الغوائل لهم والشرور، حتى أوقعوا بهم هذا الأمر الفظيع الذي لم يؤرَّخ في الإسلام أشنع ولا أبشع منه، فهذا دليل على أن انتسابهم إلى الإسلام كذب محض، ومكر وخديعة، ليفعلوا بالإسلام مثل ما فعله بولص بالنصرانية، ولهذا قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ليس الفلاسفة من المسلمين. ونقل عن بعض أعيان القضاة في زمانه أنه قيل له: ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها، وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه، وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المشاؤون خاصة، وهُم الذين هذَّب ابن سينا طريقتهم، وبسطها وقررها، وهي التي يعرفها، بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين. انتهى.

التناسب والتقارب بين الفلاسفة والملاحدة الباطنية

قلت: وبين الفلاسفة والملاحدة الباطنية تناسب وتقارب واتفاق في بعض الأمور. وقد ذكر بعض العلماء عن ابن سينا أنه قال: كان أبي وأخي من أهل دعوة الحاكم؛ يعني العبيدي. وذكروا عن عبيد الله بن الحسين القيرواني -جد العبيدين- أنه قال في رسالته إلى سليمان بن الحسن القرمطي: إذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به، فعلى الفلاسفة معولنا، وإنَّا وإياهم مُجمعون على رد نواميس الأنبياء، وعلى القول بقِدَم العالم، لولا ما يخالفنا فيه بعضهم من أن للعالم مدبرا لا نعرفه. ورسالة عبيد الله هذه تسمى عندهم بـ"البلاغ الأكبر" و"الناموس الأعظم"، أوصى فيها القرمطي بالدعاء إلى مذهبهم الخبيث، وأمره بالاحتفاظ بإخوانهم الفلاسفة، وهذا مما يدعو كل مسلم إلى زيادة البغض للفلاسفة ومقتهم والبعد عنهم، ولكن الأمر قد انعكس في زماننا حتى صار الانتساب إلى الفلسفة مألوفا عند المسلمين، حتى عند كثير من المنتسبين إلى العلم، فإذا بالغوا في مدح العالم والثناء عليه قالوا: هو فيلسوف، وكذلك الكلام الجيد المشتمل على الحِكَم يسمونه فلسفة، ويجعلون الوصف بذلك تعظيما له وثناء عليه، وهو في الحقيقة تهجين له وعيب وذم؛ لأنه ليس للإسلام فلاسفة، وليس الفلاسفة من المسلمين، وأقل ما يقال في ذلك: إنه خلاف عرف المسلمين ولغتهم، وعدول عن ذلك إلى عرف اليونان ولغتهم، ففي ذلك نوع من التشبه بهم، وفي الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود

من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقد قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، وقال تعالى: {فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54]، وقال تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] فسماها الله تعالى حكمة ولم يسمِّها فلسفة، وكذلك سمى أهلها علماء وأئمة وربانيين وأحبارا ولم يسمهم فلاسفة، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 63]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]. وفي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» فسماها حكمة ولم يسمِّها فلسفة. وروى أبو نعيم وغيره عن سويدي بن الحارث - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثنى على وفد الأزد ووصفهم بأنهم حكماء علماء، ولم يقل فلاسفة.

وفي حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه الإمام أحمد، والدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي. فإذا كان العلماء ورثة الأنبياء فالفلاسفة ورثة اليونان، وكان معلمهم الأول أرسطو وزيرا للأسكندر بن فيلبس المقدوني ملك اليونان، وكان هو والملك وأصحابهما مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، ويعانون السحر، فهذا ميراثهم الذي خلَّفوه لأتباعهم، مع ما تقدم ذكره في أول الفصل، وما لم يذكر وهو أكثر، وأما معلمهم الثاني أبو نصر الفارابي التركي فخلَّف لهم من الميراث أنواع الألحان والمعازف. إذا عرف هذا فما أسفه رأي من رغب عن الأسماء التي اختارها الله لهذه الأمة، واختارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت هي المعروفة عنده وعند أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وعَدَل إلى أسماء أجنبية عن الإسلام وأهل الإسلام ولُغتهم وعُرفهم. وقد قال العلامة الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى في رده على زنادقة البحرين؛ لما خاطبوا محمد رشيد رضا باسم الفيلسوف: ثم لو سلَّمنا أن الفيلسوف على عُرف الفلاسفة وأتباعهم من أهل الكلام هو محب الحكمة، وأنه يُمدح ويُثنى به على العالم المصلح المرشد للعباد، لم يكن هذا من عرف أهل الإسلام ولا من لغتهم، ولا يمدح به أحد من علماء الإسلام؛ لأنه قد كان من المعلوم أنه لم يكن يسمى به أحد من علماء

الصحابة ولا علماء التابعين، ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين والعلماء المصلحين المرشدين، ولا أكابر علماء أهل الحديث المجتهدين، بل كان هذا الاسم في عرف أهل الإسلام لا يسمى به إلا من كان من علماء الفلاسفة ومن نحا نحوهم من زنادقة هذه الأمة؛ فكان في الحقيقة أن هذا مما يعاب ويذم به من يسمى بذلك، لا مما يمدح ويثنى به عليه، ولو أراد هؤلاء المتنطعون المتعمقون أن ينقلوا هذا عن أحد من أهل العلم، أو يذكروه في شيء من دواوين أهل الإسلام لم يجدوا إلى ذلك سبيلا البتة؛ اللهم إلا ما يُذكر عن أشباه هؤلاء الهمج الرعاع أتباع كل ناعق؛ الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق من الفهم، إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. إذا علم هذا، فينبغي التمسك بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وترك ما أحدثه الخلوف، والبعد عن ذلك كل البعد، والله الموفق.

الصنف السادس من أدعياء الإسلام: القاديانية

فصل الصنف السادس: القاديانية، ويقال لهم أيضا الطائفة الأحمدية. وهم أتباع المتنبئ الكذاب مرزا غلام أحمد القادياني، الذي خرج سنة ألف وثلاثمائة وأربع عشرة في بلاد الهند فادّعى أنه المهدي المنتظر، ثم ترقى إلى دعوى أنه المسيح الموعود بنزوله في آخر الزمان حكما عدلا، وله سجع ركيك جدا شبيه بسجع مسيلمة، وله الآن أتباع كثيرون في كثير من الأقطار الإسلامية وغيرها، ويعرفون بالأحمدية، ولهم اعتناء بنشر أساجيع إمامهم الكذاب، والدعاء إلى مذهبه الخبيث، وهم مع هذا ينتمون إلى دين الإسلام {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 18 - 19]، وحكم القادياني وأتباعه كحكم مسيلمة وأتباعه سواء بسواء، والله أعلم.

الصنف السابع من أدعياء الإسلام: تاركو الصلاة عمدا من غير عذر

فصل الصنف السابع: تاركو الصلاة عمدا من غير عذر، على القول الراجح؛ وما أكثرهم في هذه الأزمان في جميع الأقطار الإسلامية، ولاسيما في الأمصار التي غلبت فيها الحرية الإفرنجية، وانطمست فيها أنوار الملة الحنيفية، فبعضهم يترك الصلاة بالكلية، وبعضهم يصلي بعضها ويترك بعضها، وبعضهم يجمع صلاة الأسبوع ونحوه ثم ينقرها جميعا، وبعضهم يصلي الجمعة ويترك غيرها، إلى غير ذلك من تلاعبهم بهذا الركن العظيم، واستهانتهم بجميع أمور الدين، فالله المستعان. ولقد ذُكر لنا أن بعض المنتسبين إلى العلم، بل المنتصبين للتدريس والتعليم في مصر وغيرها يفعل بالصلاة هذه الأفعال التي ذكرنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال الخطابي رحمه الله تعالى: التروك على ضروب: منها: ترك جحد الصلاة، وهو كفر بإجماع الأمة. ومنها: ترك نسيان، وصاحبه لا يكفر بإجماع الأمة. ومنها: ترك عمد من غير جحد، فهذا قد اختلف الناس فيه: فذهب إبراهيم النخعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه إلى أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر. وقال أحمد رحمه الله تعالى: لا نُكفِّر أحدا من المسلمين بذنب إلا تارك الصلاة.

الأدلة على كفر تارك الصلاة عمدا

وقال مكحول الشامي، والشافعي: تارك الصلاة مقتول كما يقتل الكافر، ولا يخرج بذلك من الملة، ويدفن في مقابر المسلمين، ويرثه أهله، إلا أن بعض أصحاب الشافعي قال: لا يُصلَّى عليه إذا مات. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تارك الصلاة لا يُكفّر ولا يُقتل، ولكن يحبس ويضرب حتى يصلي، وتأوَّلوا الخبر على معنى الإغلاظ له والتوعد عليه. انتهى. والقول الأول أسعد بالدليل من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. أما الكتاب: ففي مواضع كثيرة منه: الأول: قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31]. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": هذه الآية مما استدل به من يرى تكفير تارك الصلاة؛ لما يقتضيه مفهومها، وهي من أعظم ما ورد في القرآن في فضل الصلاة. انتهى. الدليل الثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ} [التوبة: 11]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: علَّق أخوتهم للمؤمنين بفعل الصلاة، فإذا لم يفعلوا لم يكونوا إخوة للمؤمنين، فلا يكونون مؤمنين؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم».

الدليل الثالث: قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} إلى قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 35 - 43]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين، وأن هذا الأمر لا يليق بحكمته ولا بحكمه، ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين فقال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}، وأنهم يدعون إلى السجود لربهم تبارك وتعالى فيحال بينهم وبينه، فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا، وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي البقر، ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين. الدليل الرابع: قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 38 - 48]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لا يخلو إما أن يكون كل واحد من هذه الخصال هو الذي سلكهم في سقر وجعلهم من المجرمين، أو مجموعها،

فإن كان كل واحد منها مستقلا بذلك فالدلالة ظاهرة، وإن كان مجموع الأمور الأربعة فهذا إنما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم، وإلا فكل واحد منها مقتض للعقوبة، إذ لا يجوز أن يضم ما لا تأثير له في العقوبة إلى ما هو مستقل بها، ومن المعلوم أن ترك الصلاة وما ذكر معه ليس شرطا في العقوبة على التكذيب بيوم الدين، بل هو وحده كاف في العقوبة، فدل على أن كل وصف ذكر معه كذلك؛ إذ لا يمكن قائلا أن يقول لا يعذب إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة، فإذا كان كل واحد منها موجبا للإجرام، وقد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين؛ كان تارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر، وقد قال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 47 - 48]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين. انتهى. قلت: وفي الآيات دليل آخر على كفر تارك الصلاة، وهو أن شفاعة الشافعين ما تنفعهم، ولو كانوا كسائر العصاة من المسلمين لنفعتهم الشفاعة، ولم يسلكوا مع الكفار في سقر. قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {بِيَوْمِ الدِّينِ}، وقال عمران بن الحصين رضي الله عنهما: الشفاعة نافعة لكل واحد دون هؤلاء الذي تسمعون.

قلت: وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة ...» فذكر الحديث وفيه: «حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؛ حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل» الحديث. وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وفيه: «فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم مَنِ المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار» الحديث. ففي هذين الحديثين دليل على أن الشافعين إنما يشفعون لعصاة المسلمين الذين كانوا يصلون ويصومون ويحجون ويعملون مع المسلمين، ولكن كانت لهم ذنوب حُبسوا بسببها في الطبقة العليا من طبقات النار؛ لتُمحِّصهم النار وتطهرهم من ذنوبهم، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود منهم، وبهذا الأثر يعرفهم الشافعون فيخرجونهم من النار، وليس لمن ترك

الصلاة أثر يعرف به، وليس منه شيء يحرم على النار أن تأكله، وليسوا أيضا إخوة للمؤمنين حتى يشفعوا لهم، وإنما هم إخوة للمجرمين الذين سلكوا معهم في سقر كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]؛ قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إخوانهم. وفي رواية: أشباههم. وعن النعمان بن بشير، وابن عباس - رضي الله عنهم -: يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم، وكذا قال جماعة من المفسرين، والله أعلم. الدليل الخامس: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الدلالة أنه سبحانه علق حصول الرحمة لهم بفعل هذه الأمور، فلو كان ترك الصلاة لا يوجب تكفيرهم وخلودهم في النار، لكانوا مرحومين بدون فعل الصلاة، والرب تعالى إنما جعلهم على رجاء الرحمة إذا فعلوها. الدليل السادس: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: اختلف السلف في معنى السهو عنها: فقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، ومسروق بن الأجدع، وغيرهما: هو تركها حتى يخرج وقتها، وروي في ذلك حديث مرفوع قال محمد بن نصر المروزي: حدثنا سفيان بن أبي شيبة، حدثنا عكرمة بن إبراهيم، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن أبيه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن

الذين هم عن صلاتهم ساهون قال: «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها». وقال حماد بن زيد: حدثنا عاصم، عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: يا أبتاه، أرأيت قول الله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أيّنا لا يسهو، أينا لا يحدث نفسه؟ قال: إنه ليس ذلك، ولكنه إضاعة الوقت. وقال حيوة بن شريح: أخبرني أبو صخر أنه سأل محمد بن كعب القرظي عن قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال: هو تاركها، ثم سأله عن الماعون قال: منع المال عن حقه. إذا عُرف هذا، فالوعيد بالويل اطَّرد في القرآن للكفار كقوله: {* الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6 - 7]، وقوله: {أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 7 - 9]، وقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 2]، إلا في موضعين وهما: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، و {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} فعلق الويل بالتطفيف، وبالهمز واللمز، وهذا لا يكفر به بمجرده، فويل تارك الصلاة إما أن يكون ملحقا بويل الكفار أو بويل الفساق، فإلحاقه بويل الكفار أولى لوجهين: أحدهما: أنه قد صح عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في هذه الآية أنه قال: لو تركوها لكانوا كفارا، ولكن ضيعوا وقتها. الثاني: ما سنذكره من الأدلة على كفره.

الدليل السابع: قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: قال سفيان الثوري، وشعبة، ومحمد بن إسحاق، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: واد في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم. وقال الأعمش عن زياد، عن أبي عياض في قوله {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: واد في جهنم من قيح ودم. ثم ذكر ما رواه ابن جرير، ومحمد بن نصر، عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة الباهلي - رضي الله عنه - فقلت: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بطعام ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أن صخرة زِنَة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفا، ثم تنتهي إلى غي وأثام»، قال: قلت: ما غي وأثام؟ قال: «بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكرهما في كتابه: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، وقوله في الفرقان: {ولَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]» قال ابن كثير: هذا حديث غريب، ورفعه منكر. انتهى. وروى محمد بن نصر، والبغوي في تفسيره، كلاهما من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشيم بن بشير، أخبرنا زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال: سمعت أبا أمامة الباهلي - رضي الله عنه - يقول: «إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي -أو قال-: صخرة تهوي، عظمها كعشر

عشروات سمان» فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد: هل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: «نعم، غي وأثام». وقال أيوب بن بشير، عن شقي بن ماتع قال: إن في جهنم واديا يسمى غيا، يسيل دما وقيحا، فهو لمن خلق له، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الدلالة أن الله سبحانه جعل هذا المكان من النار لمن أضاع الصلاة واتبع الشهوات، ولو كان مع عصاة المسلمين لكانوا في الطبقة العليا من طبقات النار، ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو في أسفلها، فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام بل من أمكنة الكفار، ومن الآية دليل آخر؛ وهو قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} فلو كان مضيع الصلاة مؤمنا لم يشترط في توبته الإيمان؛ لأنه يكون تحصيلا للحاصل. انتهى. الدليل الثامن: قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31 - 32]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لما كان الإسلام تصديق الخبر، والانقياد للأمر، جعل سبحانه له ضدين؛ عدم التصديق، وعدم الصلاة، وقابل التصديق بالتكذيب، والصلاة بالتولي عن الصلاة. قال سعيد عن قتادة: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} لا صدق بكتاب الله ولا صلى لله، ولكن كذّب بآيات الله وولى عن طاعته، {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وعيد على أثر وعيد.

الدليل التاسع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: هي الصلاة المكتوبة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ووجه الاستدلال بالآية أن الله حكم بالخسران المطلق لمن ألهاه ماله وولده عن الصلاة، والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار، فإن المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه فآخر أمره إلى الربح، يوضحه أن الله سبحانه وتعالى أكَّد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد: أحدها: إتيانه به بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه، دون الفعل الدال على التجدد والحدوث. الثاني: تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم، فإنك إن قلت: زيد العالم الصالح، أفاد ذلك إثبات كمال ذلك له، بخلاف قولك: عالم صالح. الثالث: إتيانه سبحانه بالمبتدأ والخبر معرفتين، وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] ونظائره. الرابع: إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين؛ قوة الإسناد، واختصاص المسند إليه بالمسند، كقوله:

{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج: 64]، وقوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]، ونظائر ذلك. انتهى. الدليل العاشر: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه نفى الإيمان عمَّن إذا ذُكِّروا بآيات الله لم يخروا سجدا مسبحين بحمد ربهم، ومن أعظم التذكير بآيات الله التذكير بآيات الصلاة، فمن ذُكِّر بها ولم يتذكر ولم يصلّ لم يؤمن بها؛ لأنه سبحانه خص المؤمنين بها بأنهم أهل السجود، وهذا من أحسن الاستدلال وأقربه، فلم يؤمن بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} إلا من التزم إقامتها. انتهى. الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 48 - 49]. قال البغوي رحمه الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} يعني صلُّوا، لا يُصلُّون. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنما يقال لهم هذا يوم القيامة، حين يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: توعّدهم على ترك الركوع، وهو الصلاة إذا دعوا إليها، ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب، فإنه سبحانه وتعالى إنما أخبر عن تركهم لها، وعليه وقع الوعيد، على أنّا نقول: لا يصر على

ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مُصِرّ على تركها، هذا من المستحيل قطعا فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية، ونحن نقول الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا لكان إبليس، وفرعون وقومه، وقوم صالح، واليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين، وقد قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} أي يعتقدون إنك صادق {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، والجحود لا يكون إلا بعد معرفة الحق، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال تعالى عن اليهود: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وأبلغ من هذا قول النفرين اليهوديين لما جاءا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسألاه عما دلهما على نبوته فقالا: نشهد أنك لنبي، فقال: «ما يمنعكما من اتباعي؟» قالا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود. فهؤلاء قد أقروا بألسنتهم إقرارا مطابقا لمعتقدهم أنه نبي، ولم يدخلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان؛ لأنهم لم يلتزموا طاعته والانقياد لأمره. ومن هذا كفر أبي طالب، فإنه عرف حقيقة المعرفة أنه صادق، وأقر بذلك بلسانه، وصرح به في شعره، ولم يدخل بذلك في الإسلام، فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق. والثاني: محبة القلب وانقياده. ولهذه قال تعالى لإبراهيم: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105]، وإبراهيم كان معتقدا لصدق رؤياه من حين رآها؛ فإن رؤيا الأنبياء وحي، وإنما جعله مصدقا لها بعد أن فعل ما أمر به. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»؛ فجعل التصديق عمل الفرج ما يتمنى القلب، والتكذيب تركه لذلك، وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالعمل. وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في

القلب، وصدّقه العمل. وقد رُوي هذا مرفوعا. والمقصود أنه يمتنع مع التصديق الجازم بوجوب الصلاة، والوعد على فعلها، والوعيد على تركها، وبالله التوفيق. انتهى كلامه رحمه الله. وكأن في آخره سقطا، والمعنى: أنه يمتنع مع التصديق الجازم بما ذكر أن يصر على ترك الصلاة مسلم، كما تقدم في أول كلامه، والله أعلم. الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92]. ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن الإيمان بالآخرة يُحمل على الإيمان بكتاب الله الذي أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى المحافظة على الصلوات الخمس، فالتارك للصلاة عمدا إنما يتركها لعدم إيمانه بالآخرة وذلك كفر، فيكون تارك الصلاة كافرا، والله أعلم. الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: استدل أحمد وإسحاق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم، وترك السجود لله أعظم. انتهى. وقد روى مسلم في صحيحه حديثين في كفر تارك الصلاة؛ أحدهما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله»، وفي رواية: «يا ويلي، أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار»، وفي

رواية: «فعصيت فلي النار». وظاهر صنيع مسلم رحمه الله تعالى في ضم هذا الحديث إلى حديث جابر الصريح في كفر تارك الصلاة مشعرٌ بموافقته لأحمد وإسحاق فيما استدلا به.

فصل: الأدلة من السنة على كفر تارك الصلاة

فصل وأما الاستدلال بالسنة على كفر تارك الصلاة فمن وجوه: الأول: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وعبد الله ابن الإمام أحمد، والدارقطني، وأبو بكر الآجري، وغيرهم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة» هذا لفظ أكثرهم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة». وفي رواية للترمذي: «بين الكفر والإيمان ترك الصلاة». وفي أخرى له: «بين العبد وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لعبد الله ابن الإمام أحمد: «بين الرجل وبين الشرك أن يترك الصلاة، وبين الرجل وبين الكفر أن يترك الصلاة». وفي رواية للطبراني: «ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة». وفي رواية للآجري: «ليس بين العبد المسلم وبين الشرك إلا ترك الصلاة». الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد، وابنه عبد الله، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارقطني، وأبو بكر الآجري عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر».

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم وقال: لا تعرف له علة بوجه من الوجوه. ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه. الدليل الثالث: ما رواه الطبراني في الكبير، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فمن تركها فقد أشرك» ورواه الحافظ هبة الله الطبراني بإسناده، قال المنذري: صحيح، وكذا قال ابن القيم في كتاب الصلاة: رواه هبة الله الطبراني وقال إسناده صحيح على شرط مسلم. الدليل الرابع: ما رواه ابن ماجة في سننه، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك». ورواه الحافظ محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة ولفظه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فإذا ترك الصلاة فقد كفر». ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به ولفظه: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا». الدليل الخامس: وما رواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الشرك أخفى في أمتي من دبيب الذر على الصفا، وليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة».

الدليل السادس: ما رواه الإمام أحمد بإسناد جيد، وابنه عبد الله في كتاب "السنة"، والآجري في كتاب "الشريعة"؛ كلاهما من طريقه، والطبراني في الكبير والأوسط، وابن حبان في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يوما فقال: «من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبي بن خلف». قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة؛ وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله ماله، أو ملكه، أو رياسته، أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسة من وزارة أو غيرها فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف. انتهى. الدليل السابع: ما رواه الطبراني، ومحمد بن نصر المروزي، وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: أوصانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا تشركوا بالله، ولا تتركوا الصلاة عمدا، فمن تركها عمدا متعمدا فقد خرج من الملة». الدليل الثامن: ما رواه الطبراني، وأبو يعلى، وابن خزيمة في صحيحه، عن أبي عبد الله الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده وهو يصلي فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو مات هذا على حاله مات على غير

ملة محمد - صلى الله عليه وسلم -». قال أبو صالح: قلت لأبي عبد الله: من حدَّث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أُمراء الأجناد؛ عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: إذا كان من يصلي ولا يتم الركوع، وينقر في السجود على غير الملة المحمدية، فتارك الصلاة بالكلية أولى أن يكون خارجا من الملة. الدليل التاسع: ما رواه الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا لا يتم الركوع والسجود قال: «ما صليت، ولو متّ متّ على غير الفطرة التي فطر الله محمد - صلى الله عليه وسلم -». قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": استدل به على تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى، قال: وهو مصير من البخاري إلى أن الصحابي إذا قال سنة محمد أو فطرته كان حديثا مرفوعا، وقد خالف فيه قوم، والراجح الأول. انتهى. الدليل العاشر: ما رواه الإمام أحمد، والطبراني في الكبير والأوسط، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك صلاة مكتوبة عمدا فقد برئت منه ذمة الله عز وجل». قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولو كان باقيا على إسلامه لكانت له ذمة الإسلام. انتهى.

الدليل الحادي عشر: ما رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وابن ماجة في سننه، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتسع؛ فذكر منها: «ولا تتركن الصلاة المكتوبة متعمدا، ومن تركها متعمدا برئت منه الذمة». الدليل الثاني عشر: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته». ورواه الإمام أحمد، وأهل السنن إلا ابن ماجة بنحوه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الدلالة فيه من وجهين: أحدهما: أنه إنما جعله مسلما بهذه الثلاثة؛ فلا يكون مسلما بدونها. الثاني: أنه إذا صلى إلى الشرق لم يكن مسلما حتى يصلي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية. انتهى. الدليل الثالث عشر: ما رواه مالك، والشافعي، وأحمد، والنسائي، والحاكم في مستدركه، والبخاري في تاريخه، وابن حبان، والدارقطني، من حديث بسر بن محجن، عن أبيه محجن بن الأدرع الأسلمي - رضي الله عنه - أنه كان في مجلس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأذن بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلّى، ورجع ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منعك أن تصلي مع الناس، ألست برجل مسلم؟» قال: بلى يا رسول الله، كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جئت المسجد وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة، فصل مع الناس وإن كنت قد صليت» قال الحاكم:

صحيح. وأقرّه الذهبي. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة، وأنت تجد تحت ألفاظ الحديث أنك لو كنت مسلما لصليت، وهذا كما تقول: مالك لا تتكلم، ألست بناطق؟ ومالك لا تتحرك، ألست بحي؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة لما قال لمن رآه لا يصلي: «ألست برجل مسلم؟». اهـ. الدليل الرابع عشر: ما رواه أبو داود في سننه، والبخاري في تاريخه، عن يزيد بن عامر - رضي الله عنه - قال: جئت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة، قال: فانصرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى يزيد جالسا فقال: «ألم تُسلم يا يزيد؟» قال: بلى يا رسول الله قد أسلمت، قال: «فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟» قال: إني كنت قد صليت في منزلي، وأنا أحسب أن قد صليتم، فقال: «إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم، وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة». ففي هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الصلاة عَلَما على الإسلام، وفرقًا بين المسلم والكافر، ولو كان تارك الصلاة مسلما لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه لم يدخل مع الناس في الصلاة: «ألم تسلم؟» فدل على أن تارك الصلاة ليس بمسلم. الدليل الخامس عشر: ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والبخاري في تاريخه، من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة ...» الحديث، قال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الاستدلال به أنه أخبر أن الصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه الخيمة، فكما تسقط الخيمة بسقوط عمودها فهكذا يذهب الإسلام بذهاب الصلاة، وقد احتج أحمد بهذا بعينه. انتهى. الدليل السادس عشر: ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» ورواه الإمام أحمد وغيره. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الاستدلال به من وجوه: أحدها: أنه جعل الإسلام كالقبة المبنية على خمسة أركان، فإذا وقع ركنها الأعظم وقعت قبة الإسلام. الثاني: أنه جعل هذه الأركان في كونها أركانا لقبة الإسلام قرينة الشهادتين، فهما ركن، والصلاة ركن، والزكاة ركن، فما بال قبة الإسلام تبقى بعد سقوط أحد أركانها دون بقية أركانها. الثالث: أنه جعل هذه الأركان نفس الإسلام، وداخلة في مسمى اسمه، وما كان اسما لمجموع أمور إذا ذهب بعضها ذهب ذلك المسمى، ولاسيما إذا كان من أركانه لا من أجزائه التي ليست بركن؛ كالحائط للبيت؛ فإنه إذا

سقط سقط البيت، بخلاف العود والخشبة واللبنة ونحوها. انتهى. الدليل السابع عشر: ما رواه الإمام أحمد، والدارمي، والطبراني في الصغير، والبيهقي في شعب الإيمان، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور». قال الطيبي: جعلت الصلاة مقدمة لدخول الجنة، كما جعل الوضوء مقدمة للصلاة، فكما لا تمكن الصلاة بدون وضوء، لا يتهيأ دخول الجنة بدون صلاة، قال بعضهم: فيه دليل لِمن كفَّر تارك الصلاة. انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا يدل على أن من لم يكن من أهل الصلاة لم تفتح له الجنة، وهي تفتح لكل مسلم فليس تاركها مسلما، ولا تناقض بين هذا وبين الحديث الآخر وهو قوله: «مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله»، فإن الشهادة أصل المفتاح، والصلاة وبقية الأركان أسنانه التي لا يحصل الفتح إلا بها، إذ دخول الجنة موقوف على المفتاح وأسنانه، وقال البخاري رحمه الله تعالى: وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة «لا إله إلا الله»؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك. انتهى. قلت: وهذا المسلك الذي سلكه ابن القيم رحمه الله تعالى في الجمع بين الحديثين ضعيف؛ لتسويته بين الصلاة وبقية الأركان في كون الجميع أسناناً لمفتاح الجنة لا غير، وعلى هذا فلا يكون في حديث جابر فائدة، ولا يكون للصلاة مزية تخصها، والذي يظهر لي أنه إنما أطلق الصلاة على أنها مفتاح الجنة لكونها مشتملة على أصل المفتاح، وأعظم أسنانه، فأصل

المفتاح شهادة أن لا إله إلا الله؛ وهي مع التشهد الأخير ركن من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة بدونها، ومع التشهد الأول واجب تبطل الصلاة بتعمد تركها فيه، ويتلوها شهادة أن محمدا رسول الله؛ وهي قرينة الشهادة بالوحدانية وأعظم من سائر الأسنان، ثم الصلاة مع قطع النظر عما اشتملت عليه هي السن الأعظم للمفتاح؛ لأنها عمود الإسلام، إذا سقطت سقط بناء الإسلام وذهب؛ كما في الحديث الصحيح: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة». وأيضا فقد جاء في حديث سيأتي ذكره إن شاء الله أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وفي حديث آخر أنها: «إن تُقُبِّلت تُقُبِّل منه سائر عمله وإن رُدَّت رُدَّ سائر عمله». ولما كانت الصلاة مختصة بهذه المزايا دون بقية الأركان كانت مفتاحا للجنة. وإذا عرفت أن من أتى بها فقد أتى بأصل المفتاح وزيادة، عرفت أنه لا تعارض بين حديث جابر وبين قوله في الحديث الآخر: «مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله»، والله أعلم. الدليل الثامن عشر: ما رواه الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، وابن ماجة، عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك صلاة العصر حبط عمله».

وروى الإمام أحمد أيضا، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك صلاة العصر متعمدا حتى تفوته فقد أحبط عمله». ووجه الاستدلال به أنه لا يحبط إلا عمل الكافر، كما أخبر الله بذلك في آيات من القرآن، فدل على أن تارك الصلاة كافر، والله أعلم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: فإن قيل: فأي فائدة في تخصيص صلاة العصر بكونها محبطة دون غيرها من الصلوات؟ قيل: الحديث لم ينف الحبوط بغير العصر إلا بمفهوم لقب؛ وهو مفهوم ضعيف جدا، وتخصيص العصر بالذكر لشرفها من بين الصلوات، ولهذا كانت هي الصلاة الوسطى بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيح الصريح، ولهذا خصها بالذكر في الحديث الآخر وهو قوله: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»؛ أي فكأنما سلب أهله وماله فأصبح بلا أهل ولا مال، وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها، كأنه شبه أعماله الصالحة بانتفاعه بها وتمتعه بها بمنزلة أهله، فإذا ترك صلاة العصر فهو كمن له أهل ومال، فخرج من بيته لحاجة وفيه أهله وماله، فرجع وقد اجتيح الأهل والمال، فبقي وترا دونهم، وموتورا بفقدهم، فلو بقيت عليه أعماله الصالحة لم يكن التمثيل مطابقا. انتهى. الدليل التاسع عشر: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجة بإسناد مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله»، وفي رواية: «يا ويلي،

أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار». وقد ذكرنا قريبا أن مسلما رحمه الله تعالى ضم هذا الحديث إلى حديث جابر الصريح في تكفير تارك الصلاة، فأفاد صنيعه أنه أورده ليستدل به على كفر تارك الصلاة. كما استدل أحمد وإسحاق على ذلك بقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، فإن إبليس كفر بترك السجود لآدم، وترك السجود لله تعالى أعظم من ترك السجود لغيره، فيكون تارك الصلاة كافرا بطريق الأولى، والله أعلم. الدليل العشرون: ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله يا معشر قريش لتقيمنّ الصلاة ولتؤتنّ الزكاة، أو لأبعثن عليكم رجلا فيضرب أعناقكم على الدين» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في تلخيصه، وفيه دليل على أن لا دين لمن لم يصل.

فصل: في ذكر الإجماع على كفر تارك الصلاة

فصل في ذكر إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على كفر تارك الصلاة، وسياق أقوالهم في ذلك، وأقوال علماء التابعين، ومن بعدهم، ومن حكى منهم الإجماع على ذلك. قال الترمذي في جامعه: حدثنا قتيبة، أخبرنا بشر بن المفضل، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. إسناده صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن أحمد بن سهل الفقيه، حدثنا قيس بن أنيف، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بشر بن المفضل، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. قال الذهبي: إسناده صالح. قلت: وهذا حكاية إجماع من الصحابة - رضي الله عنهم - على تكفير تارك الصلاة. وقال ابن زنجويه: حدثنا عمر بن الربيع، حدثنا يحيى بن أيوب، عن يونس بن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أخبره أنه جاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طُعن في المسجد، قال: فاحتملته أنا ورهط كانوا معي في المسجد، حتى أدخلناه بيته، قال: فأمر عبد الرحمن بن عوف أن يصلي بالناس، قال: فلما دخلنا

على عمر بيته غشي عليه من الموت، فلم يزل في غشيته حتى أسفر، ثم أفاق فقال: هل صلَّى الناس؟ قال: فقلنا: نعم، فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة. وروى مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن المسور بن مخرمة -رضي الله عنهما- أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فصلى عمر - رضي الله عنه - وجرحه يثعُبُ دما. ورواه الدارقطني في سننه، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن المسور بن مخرمة -رضي الله عنهما- قال: جاء ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى عمر - رضي الله عنه - حين طعن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، فقال عمر - رضي الله عنه -: إنه لا حظَّ في الإسلام لأحد أضاع الصلاة. فصلى عمر وجرحه يثعُب دما. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد": حدثنا داود بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة وسليمان بن يسار، عن المسور بن مخرمة -رضي الله عنهما- أنه دخل هو وابن عباس على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقالا: الصلاة يا أمير المؤمنين -بعد ما أسفر- فقال: نعم، ولا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فصلى والجرح يثعب دما. ورواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" من حديث الزهري قال: أخبرني سليمان بن يسار أن المسور بن مخرمة -رضي الله عنهما- أخبره خبر طعن عمر - رضي الله عنه -، أنه دخل عليه هو وابن عباس رضي الله عنهما، فلما

أصبح أفزعوه فقالوا: الصلاة الصلاة، فقال: نعم، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فخرج والجرح يثعب دما. ورواه أيضا من حديث جابر بن سمرة، عن المسور بن مخرمة -رضي الله عنهما- قال: دخلت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طعن فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، فقال: الصلاة ها الله إذًا، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فهذا قول الخليفة الراشد الذي وضع الله الحق على لسانه يقول به، وقد قال هذا بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - فلم ينكروه، ولا يعرف عن صحابي خلافه فيكون إجماعا. وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في التاريخ، عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: من لم يُصلِّ فهو كافر. وقال أبو بكر الآجري: حدثنا أبو نصر محمد بن كردي، قال: حدثنا أبو بكر المروزي، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن محمد بن إسماعيل، عن معقل بن معقل الخثعمي قال: أتى رجل عليًا - رضي الله عنه - وهو في الرحبة قال: يا أمير المؤمنين، ما ترى في المرأة لا تصلي؟ فقال: من لم يصل فهو كافر. وقد تقدم قول ابن القيم رحمه الله تعالى أنه قد صح عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: لو تركوها لكانوا كفارا. وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: قال سعد، وعلي بن أبي طالب -رضي

الله عنهما-: من تركها فقد كفر. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا وكيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن ذر، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: من لم يصل فلا دين له. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا المسعودي، عن القاسم والحسن بن سعيد قالا: قال عبد الله؛ وهو ابن مسعود - رضي الله عنه -: تركها الكفر. وقال أبو بكر الآجري: حدثنا أبو نصر محمد بن كردي، قال: حدثنا أبو بكر المروزي، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن المسعودي، عن القاسم قال عبد الله؛ يعني ابن مسعود - رضي الله عنه -: الكفر ترك الصلاة. وتقدم قريبا ما رواه الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا لا يتم الركوع والسجود، قال: «ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمد - صلى الله عليه وسلم -». وروى الحاكم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: من لم يُصلِّ فهو كافر. وروى محمد بن نصر المروزي، وابن عبد البر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: من ترك الصلاة فقد كفر. وروى ابن عبد البر، عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: من لم يصل فهو كافر. وروى أيضا عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: لا إيمان لمن لا صلاة له،

ولا صلاة لمن لا وضوء له. وروى البخاري في تاريخه، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: مَن ترك الصلاة لا دين له. وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه قال: من شرب الخمر ممسيا أصبح مشركا، ومن شربه مصبحا أمسى مشركا. فقيل لإبراهيم النخعي: كيف ذلك؟ قال: لأنه يترك الصلاة. ذكر ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في كتاب "الإيمان" قال: وقال أبو عبد الله الأخنس في كتابه: من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان. وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، عن أبي محمد ابن حزم أنه قال: قد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -: أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا يعلم عن صحابي خلافهم. وقال الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله تعالى في كتابه في الصلاة: ذهب جملة من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصلاة متعمدا لتركها حتى يخرج جميع وقتها، منهم: عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وجابر، وأبو الدرداء، وكذلك روي عن علي - رضي الله عنه -، هؤلاء من الصحابة، ومن غيرهم: أحمد بن

حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة زهير بن حرب. انتهى. قلت: وهو قول مسروق، والقاسم بن مخيمرة، وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني أنه مذهب الحسن، والشعبي، والأوزاعي، وحماد بن زيد، ومحمد بن الحسن. قال: واختاره أبو إسحاق بن شاقلا، وابن حامد. وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية أنه اختيار أبي بكر، وطائفة من أصحاب مالك. وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنه قول سعيد بن جبير، وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه. قلت: وكذا حكاه عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره. وروى النسائي في سننه، عن أبي وائل، عن مسروق قال: من شرب الخمر فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة. وروى سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قال: على مواقيتها، فقالوا: ما كنا نرى ذلك إلا الترك، قال: تركها كفر. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي، عن القاسم بن مخيمرة قال: أضاعوا المواقيت ولم يتركوها، ولو تركوها صاروا بتركها كفارا.

وهكذا رواه أبو بكر الآجري، عن جعفر بن محمد الصندلي، عن الفضل بن زياد، عن الإمام أحمد بن حنبل، عن الوليد بن مسلم فذكره، وزاد في أوله ذكر الآية؛ وهي قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. وروى أبو نعيم في "الحلية" من طريق أخرى عن الأوزاعي، حدثنا موسى بن سليمان قال: سمعت القاسم يقول في هذه الآية {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} قال: أضاعوا المواقيت، فإنهم لو تركوها كانوا بتركها كفارا. وروى أسد بن موسى، عن الحكم بن عتيبة أنه قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر. وروي أيضا عن سعيد بن جبير مثل ذلك. ذكر ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب "الإيمان". وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه. ذكر ذلك الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في "كتاب الصلاة"، قال: وحكى محمد، عن ابن المبارك قال: من أخّر صلاة حتى يفوت وقتها متعمدا من غير عذر فقد كفر. وقال علي بن الحسن بن شقيق: سمعت عبد الله يقول: من قال إني لا أصلي المكتوبة اليوم فهو أكفر من حمار. وقال يحيى بن معين: قيل لعبد الله بن المبارك: إن هؤلاء يقولون: من

لم يصم ولم يصل بعد أن يُقرّ به فهو مؤمن مستكمل الإيمان، فقال عبد الله: لا نقول نحن ما يقول هؤلاء، من ترك الصلاة متعمدا من غير علة حتى أدخل وقتا في وقت فهو كافر. وقال ابن أبي شيبة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك الصلاة فقد كفر» فيقال له: ارجع عن الكفر، فإن فعل وإلا قتل بعد أن يؤجله الوالي ثلاثة أيام. وقال أحمد بن يسار: سمعت صدقة بن الفضل؛ وسئل عن تارك الصلاة فقال: كافر، فقال له السائل: أتطلق منه امرأته؟ فقال صدقة: وأين الكفر من الطلاق؟! لو أن رجلا كفر لم تطلق منه امرأته. وقال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. قال ابن القيم رحمه الله: ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها، ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، وشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبدا. ومن لا يُكفِّر تارك الصلاة يقول: هذا مؤمن، مسلم، يُغسّل، ويُصلَّى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين! وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان، كإيمان جبريل وميكائيل! أفلا يستحي مَن هذا قوله مِن إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة - رضي الله عنهم -، والله الموفق. انتهى.

فصل: إلحاق تارك الزكاة والصوم والحج بتارك الصلاة في الحكم

فصل وهل يلحق تارك الزكاة، والصوم، والحج بتارك الصلاة -في الحكم بكفره إذا تعمد الترك- أم لا؟ قال محمد بن نصر رحمه الله تعالى: ذهب طائفة من أهل الحديث إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمس عمدا أنه كافر. ذكر ذلك عنه الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، قال: وروي ذلك عن سعيد بن جبير، ونافع، والحكم، وهو رواية عن الإمام اختارها طائفة من أصحابه، وهو قول ابن حبيب من المالكية. انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هو اختيار أبي بكر، وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب، ثم ذكر رحمه الله تعالى ما رواه أسد بن موسى، عن الحكم بن عتيبة قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر، ومن ترك صوم رمضان متعمدا فقد كفر. وروى أسد أيضا عن سعيد بن جبير قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمدا فقد كفر بالله. قلت: وهذا هو المروي عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى، قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثنا سويد بن سعيد الهروي، قال: سألْنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل. والمرجئون أوجبوا الجنة لمن شهد أن

الأدلة على كفر تارك الزكاة

لا إله إلا الله مُصرًّا بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليس سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر آدم، وإبليس، وعلماء اليهود؛ أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه، فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين، فسمي عاصيا من غير كفر، وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة، فجحدها متعمدا فسمي كافرا، وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان، ولم يتبعوا شرائعه، فسماهم الله كفارا؛ فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء، أما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس، وتركهم على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود، والله أعلم. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وعن أحمد رحمه الله تعالى رواية ثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط. وذكر هذه الرواية أيضا الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى. ويستدل لهذه الرواية بآيتين من كتاب الله عز وجل، وحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأما الآيتان فالأولى منهما: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، فعلق أخوتهم للمؤمنين بإيتاء الزكاة، فإذا لم يفعلوا لم يكونوا إخوة للمؤمنين، فلا يكونون مؤمنين لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم»، وتقدم مثل ذلك في الصلاة.

الآية الثانية: قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]؛ وفي معنى هذه الآية أقوال أقربها قول قتادة: يمنعون زكاة أموالهم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير. انتهى. ولفظة "الإيتاء" وهو إعطاء الغير تدل على ذلك، كما هو مُطَّرد في القرآن في مواضع كثيرة. قال الراغب الأصفهاني: الإيتاء: الإعطاء، وخص دفع الصدقة في القرآن بالإيتاء نحو: {أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج: 41]، {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [النور: 37]. انتهى. فإن قيل: إن الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بعد الهجرة إلى المدينة. فالجواب: ما قاله البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: إنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم؛ كما قال تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}، فالسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، حتى قال عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار»، وكذلك نزل بمكة: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: كُنت لا أدري أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع ويقول: «{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}». انتهى. قلت: فكذلك هذه الآية؛ هي -والله أعلم- مما نزل سابقا وتأخر حكمه، ومثلها قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وهي الزكاة المفروضة، كما قاله أكابر المفسرين؛ فهذه الآية مكية،

وتأخر حكمها بعد الهجرة، إذ من المعلوم بالضرورة أنه لم يكن بمكة يومئذ نخل ولا زرع، ولم تكن الزكاة فرضت إلا بعد الهجرة، ومن ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] أي: أعطى صدقة الفطر، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] أي خرج إلى العيد فصلى صلاته، روي ذلك عن أبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -، وهو قول أبي العالية وابن سيرين، فهذه الآية مكية، وحكمها على قول هؤلاء متأخر بعد الهجرة، والله أعلم. والمقصود هاهنا أن قول قتادة أولى وأقرب إلى ظاهر هذه الآية، وفيها دليل على كفر تارك الزكاة، والله أعلم. وأما الحديث: فهو ما رواه الحاكم في مستدركه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة، أو لأبعثن عليكم رجلا فيضرب أعناقكم على الدين» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفيه دليل على أنه لا دين لمن ترك الزكاة، ومن لا دين له فليس بمسلم. وقد اتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على قتال مانعي الزكاة، وسموهم أهل الردة. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب "الهدي": روينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دوما، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما-

الأدلة على كفر تارك الصوم

يرفعه: «كفر بالله العظيم من هذه الأمة -وذكر منهم- مانع الزكاة». وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا حسن بن صالح، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله - رضي الله عنه -: ما تارك الزكاة بمسلم. وقد جاء في حديث مرفوع أن تارك الصيام كافر، فروى الحافظ أبو يعلى بإسناد حسن، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال حماد بن زيد: ولا أعلمه إلا وقد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن ابتنى الإسلام؛ من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم؛ شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان». وفي رواية: «من ترك منهن واحدة فهو كافر، ولا يقبل منه صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله». وروى اللالكائي من طريق مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ولا أحسبه إلا رفعه، قال: «عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة، وصوم رمضان، من ترك منهن واحدة فهو بها كافر، ولا يحل دمه، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل بذلك دمه، وتجده كثير المال ولا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه» ورواه قتيبة بن سعيد، عن حماد بن زيد مرفوعا مختصرا.

الأدلة على كفر تارك الحج

ورواه سعيد بن زيد -أخو حماد بن زيد- عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعا، وقال: «من ترك منهن واحدة فهو كافر، ولا يقبل منه صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله» ولم يذكر ما بعده. وأما الحج فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. وروى ابن جرير، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب عليكم الحج» فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: «والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت، ولو وجب عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم». وروى ابن جرير أيضا من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - نحوه. وكذا من طريق العوفي، عن ابن عباس، ومن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- نحوه. وروى الترمذي، وابن مردويه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك أن الله يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}» قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال. وروى سعيد بن منصور بإسناده، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يحج حجة الإسلام، لم يمنعه مرض حابس،

أو سلطان جائرا، أو حاجة ظاهرة، فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا». ورواه أبو نعيم في الحلية، من طريق محمد بن أسلم الطوسي، والبغوي في تفسيره من طريق سهل بن عمارة، كلاهما عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر؛ فمات ولم يحج فليمت يهوديا أو نصرانيا». وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب "الهدي": روينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دوما، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- يرفعه: «كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة -وذكر منهم-: من وجد سعة فمات ولم يحج». وروى الإسماعيلي، من حديث الأوزاعي، حدثني إسماعيل بن أبي المهاجر، حدثني عبد الرحمن بن غنم، أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: «من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا» قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا إسناد صحيح إلى عمر - رضي الله عنه -. قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية، من طريق محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الأوزاعي، فذكره بنحوه. وروى سعيد بن منصور في سننه، عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما

هم بمسلمين. وفي الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصيام رمضان». وفي رواية لأحمد: «الإسلام خمس». ورواية محمد بن نصر المروزي بلفظ: «بني الإسلام على خمس دعائم ..» فذكره. وهذه الدعائم مرتبط بعضها ببعض، وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض، كما في مسند الإمام أحمد، عن زياد بن نعيم الحضرمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن جاء بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا: الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» وهذا مرسل. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد روي عن زياد، عن عمارة بن حزم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: وروي عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدين خمس، لا يقبل الله منهن شيئا دون شيء؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالجنة والنار، والحياة بعد الموت» هذه واحدة، والصلوات الخمس عمود الدين؛ لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة، والزكاة طهور من الذنوب، ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة،

فمن فعل هؤلاء الثلاث، ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدا لم يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة، فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج فلم يحج، ولم يوص بحجته، ولم يحج عنه بعض أهله، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها. ذكره ابن أبي حاتم فقال: سألت أبي عنه فقال: هذا حديث منكر؛ يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخراساني. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وعطاء من أجلاَّء علماء الشام. انتهى. وقد رواه أبو نعيم في "الحلية"، وزاد بعد قوله: «ولم يحج عنه بعض أهله»: «لا يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة ولا صيام رمضان؛ لأن الحج فريضة من فرائض الله، ولن يقبل الله شيئا من فرائضه بعضها دون بعض» قال أبو نعيم: غريب من حديث ابن عمر بهذا اللفظ، لم يروه عنه إلا عطاء، ولا عنه إلا ابنه عثمان، تفرد به عبد الحميد بن أبي جعفر. انتهى. وروى أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة"، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة؛ من حافظ على الصلوات الخمس؛ على وضوئهن، وركوعهن، وسجودهن، ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها» قال وكأنه يقول: «وأيم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، وأدى الأمانة» قال أبو الدرداء: وما أداء الأمانة؟ قال: «الغسل من الجنابة، فإن الله عز وجل لم يأمن ابن آدم على شيء من

دينه غيرها». ورواه أبو نعيم في الحلية بنحوه. وهذا الحديث في سنن أبي داود، من رواية أبي سعيد بن الأعرابي عنه، وفيه اختصار يسير عما هنا. وإذا عرف هذا فلا يخفى على عاقل له أدنى خبرة بأحوال المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان، أن الأكثرين منهم قد أضاعوا هذه الأركان العظام، وقلت مبالاتهم بها، وأن المحافظين على القيام بها كلها هم الأقلون عددا، فالله المستعان.

الصنف الثامن من أدعياء الإسلام: المنافقون (ويسمون الزنادقة)

فصل الصنف الثامن: المنافقون الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، ويسمون الزنادقة. وسئل حذيفة - رضي الله عنه -: ما المنافق؟ قال: الذي يصف الإيمان ولا يعمل به، وفي لفظ: يصف الإسلام ولا يعمل به. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، من طريق أبيه رحمه الله. وقال أبو عثمان: كان حذيفة يؤيس المنافق. رواه عبد الله أيضا، من طريق أبيه. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 142 - 146]، وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ

وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 67 - 68]، والآيات فيهم كثيرة جدا. وروى الإمام مالك، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تلك صلاة المنافق؛ يجلس يرقُب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا» هذا لفظ مسلم، والترمذي، والنسائي. ولفظ مالك وأبي داود: «تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين؛ يجلس أحدهم حتى إذا اصفرّت الشمس، وكانت بين قرني الشيطان، أو على قرني الشيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا». وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار». وفي رواية: «ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها» يعني صلاة العشاء. هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: «والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء»، قال أبو عبد الله البخاري رحمه الله

تعالى: مرماة: ما بين ظلف الشاة من اللحم. وفي صحيح مسلم، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله؛ يعني ابن مسعود - رضي الله عنه -: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. وفي رواية: قال عبد الله - رضي الله عنه -: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف. ورواه الإمام أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة. وفي رواية أبي داود: وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركتم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لكفرتم. وروى أبو نعيم في "الحلية"، من طريق محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: قال

عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: صلوا الصلوات في المسجد، فإنها من الهدى وسنة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن للمنافقين علاماتٍ يعرفون بها؛ تحيّتهم لعنةٌ، وطعامهم نهبةٌ، وغنيمتهم غلولٌ، ولا يقربون المساجد إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا مستكبرين، لا يألفون، ولا يُؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار». وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، عن كعب الأحبار أنه قال: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل؛ شرَّابين للقهوات - يعني الخمور - ترّاكين للصلوات، لعّابين بالكعبات، رقّادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، ترّاكين للجماعات، قال: ثم تلا هذه الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. وروى أبو نعيم في "الحلية"، عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: المنافق يقول: سواد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس علي، فينسئ العمل، ويتمنى على الله تعالى. وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المنافق كمثل الشّاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرّةً، وإلى هذه مرة». زاد أحمد والنسائي: «لا تدري أيهما تتبع».

كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن النفاق الأكبر والأصغر

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: من النفاق ما هو أكبر؛ يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار؛ كنفاق عبد الله بن أُبي وغيره، بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله. وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها وكان النفاق موجودا، فوجوده فيما دون ذلك أولى، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة، ويسمون الزنادقة، وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة من المنجمين ونحوهم؛ ثم في الأطباء، ثم في الكُتَّاب أقل من ذلك، ويوجدون في المتصوفة، والمتفقهة، وفي المقاتلة، والأمراء، وفي العامة أيضا، ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية، والباطنية، والقرامطة، والإسماعيلية، والنصيرية، ونحوهم من المنافقين الزنادقة منتسبة إلى الرافضة. وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات، لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يُلزمونهم شريعة الإسلام، بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء والسبي، لا لأجل الدين، فهذا ضرب النفاق الأكبر. وأما النفاق الأصغر فهو النفاق في الأعمال ونحوها؛ مثل أن يكذب إذا

من النفاق الأكبر بغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -

حدَّث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتُمن، أو يفجر إذا خاصم. انتهى. قلت: ومن النفاق الأكبر أيضا بغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض شيء منه. ومنه أيضا التحاكم إلى الطواغيت والقوانين الدولية، وعدم الرضى بالأحكام الشرعية، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]، ثم نفى تبارك وتعالى الإيمان عمن لم يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند الخصومات والتنازع، ويرضى بحكمه، ويطمئن إليه قلبه، ولا يبقى لديه شك ولا شبهة في أنما حكم به فهو الحق الذي يجب المصير إليه، فيذعن لذلك، وينقاد له ظاهرا وباطنا، وأقسم سبحانه وتعالى على هذا النفي بنفسه الكريمة المقدسة فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وقد وقع في هذا النوع كثير من أهل زماننا، ولاسيما أهل الأمصار الذين غلبت عليهم الحرية الإفرنجية، وهانت لديهم الشريعة المحمدية، فاعتاضوا عن التحاكم إليها بالتحاكم إلى القوانين والسياسات والنظامات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما شرعتها لهم الدول الكافرة بالله ورسوله، أو من يتشبه بهم ويحذو حذوهم من الطواغيت الذين ينتسبون إلى الإسلام وهم عنه بمعزل.

الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من النفاق الأكبر

وكثير من المتحاكمين إليها يعتذرون بما كان يعتذر به سلفهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} أي يقولون: ما أردنا بالتحاكم إلى أعداء الرسول إلا المداراة والمصانعة، لا اعتقاد صحة حكمهم. وهكذا يقول كثير من المتحاكمين إلى المحاكم المؤسسة على العمل بالنظامات والقوانين الخاطئة، تشابهت قلوبهم، فالله المستعان. وأقبح من فعل المنافقين ما يُذكر عن بعض أهل زماننا أنهم قالوا: إن العمل بالشريعة المحمدية يؤخرهم عن اللحاق بأمم الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى، وهذه ردة صريحة قيض الله لأهلها من يعاملهم معاملة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لإخوانهم من قبل. ومن النفاق الأكبر أيضا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، ولو كان على وجه المزح واللعب، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]، وقد وقع في هذا كثير من الملاحدة في زماننا؛ كصاحب الأغلال وأمثاله من المرتدين المنافقين، ومثل ذلك الاستهزاء ببعض أمور الدين كما يقع ذلك من كثير من الجهال، ويلتحق بذلك أيضا الاستهزاء بأهل الدين والسخرية بهم كما يفعله كثير من السفهاء، وقد أنزل الله تعالى سورة براءة؛ فكشف فيها أسرار المنافقين، وهتك أستارهم وفضحهم، وأخزاهم في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ

مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]. وفي الصحيحين عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة؟ قال: آلتّوبة؟! هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم، حتى ظنوا أنها لم تُبق أحدا منهم إلا ذُكر فيها. وقال البغوي في تفسيره: قال قتادة: هذه السورة تسمى الفاضحة، والمعيرة، والمثيرة؛ أثارت مخازيهم ومثالبهم. انتهى. وكل من فعل شيئا من أفعالهم التي ذكرها الله عنهم في سورة براءة وغيرها من السور فهو شريكهم في النفاق بقدر ما فعل، فمستقل ومستكثر، وأولو البصائر والفراسة الإيمانية يعرفون كثيرا منهم بما يبديه الله على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من آثار المرض الكامن في قلوبهم، وبما يظهر من أفعالهم المطابقة لأفعال المنافقين، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29 - 30]؛ ولحن القول: هو فحوى الكلام الدال على مقصد المتكلم به. قال البغوي رحمه الله تعالى: والمعنى: تعرفهم فيما يعرضون به؛ من تهجين أمرك وأمر المسلمين، والاستهزاء بهم. انتهى. وما أكثر الواقعين في أمراض النفاق في زماننا هذا، حتى في كثير ممن ينتسب إلى العلم، فالله المستعان.

العلامات التي يعرف بها المنافقون

ومن أوضح العلامات التي يعرف بها المنافقون إقدامهم على رد الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجراءتهم على تكذيبها ومعارضتها بغير مستند صحيح، بل بمجرد الرأي الفاسد والظن الكاذب، وكذلك الطعن في أئمة الحديث الذين أجمع العلماء على إمامتهم وجلالتهم، ووصفهم بالعجمة، ورميهم باختلاق الأحاديث، وأعظم من ذلك الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكل هذا قد رأيناه في كتب لضُلال العصريين، وتعليقات لهم كثيرة، وإنما يفعلون ذلك إذا أعيتهم الأحاديث أن يفهموا معانيها، أو لم يظهر لهم وجه الحكمة منها، وربما يفعلون ذلك إذا عارضت الأحاديث ما فتنوا به مما تلقوه من آراء أعداء الله وقوانينهم وسياساتهم ونظاماتهم، فالله المستعان. وقد رأيت لبعضهم كلاما سيئا على حديث: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ...» الحديث، فطعن في الحديث أولاً بغير حجة، ثم قدح في الصحابي الذي رواه، ثم تجاوز ذلك إلى الكلام في النبي - صلى الله عليه وسلم - وتخطئته، ومعارضة قوله بكلام الأطباء الكفرة وآرائهم الفاسدة، وهذا عين النفاق عياذا بالله من ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) بعد هذا الكلام ضرب الوالد رحمه الله على عدد من الصفحات، وأسقط أربعا منها، وقد أشار رحمه الله إلى نقل المكتوب فيها إلى كتابه "إقامة البرهان على نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان". والمضروب عليه والمسقط يبتدئ من أثناء السطر الخامس من صفحة 119 من المخطوط إلى السطر الحادي عشر من صفحة 126 مع حواشيها وملحقاتها.

ومن ذلك تولي أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفار والمشركين، وتفضيل ولاياتهم وسياساتهم وقوانينهم على ولاية المسلمين وسياسة الشرع الشريف وأحكامه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 50 - 51]، وما أكثر الواقعين في هذا أو بعضه من المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان، وما أكثر من يميل منهم إلى الحرية الإفرنجية ويؤثرها؛ لتحصيل أغراضه الفاسدة، ونيل شهواته العاجلة من أنواع الفسوق والعصيان، ويكره الولاية الإسلامية التي تمنعه من تعاطي المحرمات، وتؤدِّبه على المخالفات. ومن علامات المنافقين أيضا بغض الأنصار لما في الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار». وفي رواية لمسلم: «آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار». روى الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه، والطبراني، عن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأنصار مِحْنة، حبهم إيمان، وبغضهم نفاق». وروى البخاري في تاريخه أيضا، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبغض الأنصار إلا منافق».

وفي الصحيحين عن البراء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله». وفي المسند، و"التاريخ الكبير" للبخاري، عن معاوية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله». وفي المسند أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله». وفي صحيح مسلم عنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر». وفيه أيضا عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر». وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله ورسوله، أو إلا أبغضه الله ورسوله». ورواه الترمذي ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لي: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر» قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما آمن بي من لم يحبني، وما أحبني من لم يحب الأنصار» رواه الدارقطني والبيهقي. وعن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب قال: أخبرتني جدتي، عن أبيها - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن بالله من لم يؤمن

بي، ولا يؤمن بي من لم يحب الأنصار» رواه الدارقطني في سننه. ومن أوضح الأدلة على بغض الأنصار هجائهم، والرضا بذلك، وتقريره ونشره، وقد أخبرنا من يُوثق به من التلاميذ أن بعض المدرسين من أدعياء العلم أملى عليهم قصيدة الأخطل النصراني في ذم الأنصار وهجائهم، قال: فامتنع بعض التلاميذ من كتابتها وقالوا: هذا هجاء لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز ذلك، فألزمهم أن يكتبوا ذلك، وأن لا يعارضوه في شيء مما يمليه عليهم، قال: وأملى عليهم أيضا لبعض الشعراء في هجو بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، ومدح الحجاج وأمثاله من الظالمين. قلت: وهذا دليل على النفاق، والبغض لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس العجب من هذا وأمثاله من المغموصين بالنفاق، وإنما العجب من الذين يستجلبونهم من الأماكن البعيدة، ويمكنونهم من إظهار ذلك ونشره بين المسلمين، ومن بث البدع والتكلم بها علانية في المجامع، فالله المستعان وعليه التكلان. ومن علامات المنافقين أيضا بغض علي - رضي الله عنه -؛ لما في صحيح مسلم عنه - رضي الله عنه - أنه قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة؛ إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق. ورواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي المسند عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الفرق بين حب علي رضي الله عنه والغلو فيه والإطراء له

يقول لعلي: «لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق». وفي المسند أيضا، ومستدرك الحاكم عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله». وفي المستدرك للحاكم أيضا عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب عليا فقد أحبني، ومن أبغض عليها فقد أبغضني» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. إذا علم هذا فليس المراد بحب علي - رضي الله عنه - ما يفعله الروافض من الإطراء والغلو فيه، والإفراط في حبه، حتى آل بهم ذلك إلى أن اتخذوه إلها من دون الله، وإنما المراد ما عليه أهل السنة والجماعة من الاقتصاد في حبه؛ لما روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند"، وفي كتاب "السنة"، والحاكم في مستدركه عن علي - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فيك مثل من عيسى، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به»، ثم قال: يهلك فيّ رجلان: محب مفرط يقرظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني. وفي كتاب "السنة" أيضا عن علي - رضي الله عنه - قال: مثلي في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم، أحبته طائفة فأفرطت في حبه فهلكت، وأبغضته طائفة فأفرطت في بغضه فهلكت، وأحبته طائفة فاقتصدت في حبه فنجت. وإذا كان حب علي - رضي الله عنه - آية على الإيمان، وبغضه آية على النفاق،

حب أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم آية على الإيمان وبغضهم آية على النفاق

فحب من هو خير منه كأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أولى أن يكون آية على الإيمان، وبغضهم آية على النفاق؛ لما روى البخاري، وأبو داود، والترمذي، وعبد الله ابن الإمام أحمد، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنهم -. هذا لفظ البخاري. زاد أبو داود: ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم. وعند عبد الله بن أحمد: ثم لا نفضل أحدا على أحد. وفي رواية له: ويبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره علينا. وفي رواية له، ولأبي داود، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا نعد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي، وأصحابه متوافرون أبو بكر، وعمر، وعثمان، ثم نسكت. وفي المسند أيضا من حديث عمر بن أسيد، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا نقول في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -: رسول الله خير الناس، ثم أبو بكر، ثم عمر. وفي صحيح البخاري، وسنن أبي داود، وكتاب "السنة" لعبد الله ابن الإمام أحمد، عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول

عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. وروى الإمام أحمد، وابنه عبد الله، من طرق كثيرة، وابن ماجة عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر. وفي بعض الروايات عند الإمام أحمد، وابنه عبد الله، عن أبي جحيفة، وعبد خير، عن علي أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وخيرها بعد أبي بكر عمر، ولو شئت سميت الثالث. وروى أبو نعيم في "الحلية" من طريق محمد بن المثنى قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: سمعت الحجاج بن المنهال يقول: سمعت حماد بن سلمة يقول: سمعت عاصما يقول: سمعت زرا يقول: سمعت أبا جحيفة - رضي الله عنه - يقول: خطبنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على منبر الكوفة فقال: ألا إن خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت أن أخبركم بالثالث لأخبرتكم، ثم نزل من على المنبر وهو يقول: عثمان، عثمان. ثم رواه أبو نعيم بإسناد آخر، عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة نحوه. وروى أبو نعيم أيضا من طريق بشر بن الحارث، عن عبد الله بن داود الخريبي، عن سويد مولى آل عمر بن حريث قال: سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول على المنبر: إن أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا هشيم، حدثنا حصين، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا إن خير هذه الأمة بعد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، فمن قال سوى هذا بعد مقامي هذا فهو مفتر، عليه ما على المفتري. إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد اختُلف في سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عمر - رضي الله عنه -، فقال يحيى بن معين، وأبو حاتم، والنسائي: إنه لم يسمع منه. وقال مسلم في مقدمة صحيحه: إنه قد حفظ عن عمر. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهو الصواب إن شاء الله. قلت: وفي مسند الإمام أحمد ما يدل على ذلك؛ ففيه بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كنت مع عمر فأتاه رجل فقال: إني رأيت الهلال ... الحديث. وفيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر - رضي الله عنه - قال: صلاة السفر ركعتان ... الحديث، وفي آخره: وقال يزيد -يعني ابن هارون-: ابن أبي ليلى قال: سمعت عمر. وقد روى البخاري في تاريخه الصغير، بسنده عن ابن أبي ليلى قال: ولدت لست سنين بقين من خلافة عمر. وكذا ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أنه ولد لست بقين من خلافة عمر. ومثل هذا السن يعقل فيه الذكي كثيرا مما يراه ويسمعه، بل بعض الأذكياء يحفظ كثيرا من الأشياء لأقل من هذا السن، وعلى هذا فظاهر حديث ابن أبي ليلى عن عمر - رضي الله عنه - الاتصال، ولم يصنع شيئا من نفى سماعه منه من أجل صغره، والله أعلم.

بغض الخلفاء الثلاثة وسائر الصحابة علامة على الزندقة والنفاق

وفي جامع الترمذي، ومستدرك الحاكم، عن عائشة رضي الله عنها، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: أبو بكر سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في تلخيصه. إذا عُرف هذا فالواقع من حال المنتسبين إلى الإسلام شاهد بصحة ما قلنا من الأولوية، فهذه طائفة الروافض، الذين يبغضون أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، ويسبونهم ويتبرءون منهم، فيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، فأبعد الله الروافض وخذلهم، وأبعد الله الخوارج الذين يبغضون عثمان وعليا رضي الله عنهما، ويسبونهما ويتبرءون منهما، وأبعد الله كل من أبغض أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تنقصه أو سبه أو تبرأ منه، ورحمة الله على أهل السنة والجماعة الذين يتولون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم، ويحبونهم وينشرون فضائلهم، و {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيْفه». وفي رواية: «لا تسبوا أحدا من أصحابي» والباقي مثله. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الرواية الأولى عن أبي هريرة. رواه الترمذي والطبراني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» رواه الإمام أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي» رواه أبو نعيم في الحلية. وله أيضا من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني أرى الناس يكثرون، وأصحابي يقلون، فلا تسبوهم، من سبهم فعليه لعنة الله». وعن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة الله على شرّكم» رواه الترمذي وقال: هذا حديث منكر، لا نعرفه من حديث عبيد الله بن عمر إلا من هذا الوجه. وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله من سب أصحابي» رواه الطبراني. وله أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله من سب أصحابي» رواه الطبراني. وله أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سب أصحابي فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين». وفي مستدرك الحاكم عن عويم بن ساعدة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تبارك وتعالى اختارني، واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا

تكفير من سب الصحابة مذهب طائفة من أهل العلم

يقبل الله منه يوم القيامة صرف ولا عدل» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة، وهو رواية عن الإمام مالك. وقال محمد بن سيرين: ما أظن رجلا يبغض أبا بكر وعمر يحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه الترمذي. وعن مغيرة قال: كان يقال: شتمُ أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- من الكبائر. رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله فرض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ كما فرض الصلاة والصيام والحج والزكاة، فمن أبغض واحدا منهم فلا صلاة له ولا حج ولا زكاة له، ويحشر يوم القيامة من قبره إلى النار» هكذا ساق هذا الحديث القاضي أبو الحسين في ترجمة صدقة بن موسى من طبقات الحنابلة، والله أعلم. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، أو عن زيد بن وهب، أن سويد بن غفلة دخل على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في إمارته فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- بغير الذي هما أهل له من الإسلام، فنهض إلى المنبر وهو قابض على يدي فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسبة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقي مارق، فحبها

خطورة النفاق والحذر منه

قربة، وبغضهما مروق، ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووزيريه، وصاحبيه، وسيدي قريش، وأبوي المسلمين، فأنا بريء ممن يذكرهما وعليه معاقب. وبالجملة فالنفاق من أشد الأمور خطرا، فينبغي للمؤمن أن يحذر منه أشد الحذر، ويخافه على نفسه ولا يأمنه، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - مع كثرة تقواهم لله تعالى، وشدة اجتهادهم في العبادة يخافونه على أنفسهم. وروي أن عمر - رضي الله عنه - قال لحذيفة: أنشدك الله أمنهم أنا؟ قال: لا، ولا أؤمِّن منها أحدا بعدك. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا -يعني أبا العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى- يقول: ليس مراده أني لا أبرِّئ غيرك من النفاق، بل المراد: لا أفتح عليّ هذا الباب؛ فكل من سألني هل سماني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزكيه. انتهى. وقال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه. ويُذكر عن الحسن أنه قال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق. وروى جعفر الفريابي، عن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق.

وسمع رجل أبا الدرداء يتعوذ من النفاق في صلاته، فلما سلم قال له: ما شأنك وشأن النفاق؟! فقال: اللهم اغفر لي -ثلاثا- لا تأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه. وعنه - رضي الله عنه - أنه قال: ما الإيمان إلا كقميص أحدكم، يخلعه ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه فوجد فقده. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة". وفي صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كانوا يومئذ يسرون، واليوم يجهرون. وفيه أيضا عنه - رضي الله عنه - قال: إنما كان النفاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان. قلت: إذا كان هذا قول حذيفة - رضي الله عنه - في زمن الخلفاء الراشدين، ووقت عزة الإسلام وظهوره، وانقماع المنافقين وذلهم بين المؤمنين، فكيف لو رأى حال الأكثرين في أواخر القرن الرابع عشر، فقد تغيرت فيه الأحوال وانعكست الأمور، وظهر الكفر والنفاق، حتى كان بعض ذلك يُدرس في المدارس ويعتنى به، فالله المستعان. فمن ذلك ما فشا في زماننا؛ من موافقة طواغيت الإفرنج، وزنادقة المنجمين ونحوهم، وتقليدهم فيما ذهبوا إليه من التخرصات، والظنون الكاذبة المخالفة للقرآن والأحاديث الصحيحة؛ كقولهم: إن الشمس قارة ساكنة لا تزول عن مكانها، وإن الأرض هي التي تجري وتدور حول

الشمس، وشبهوا ذلك براكب القطار ونحوه من المراكب السريعة يرى في حال سيرها كأن الذي حوله من المباني والشجر يسير، وكأن ما تحته من المركوب واقف، والحال بالعكس، قالوا: فهكذا الأرض مع الشمس، فالشمس قارة لا تزول، والأرض هي التي تجري، ولها دورتان، دورة في كل يوم وليلة، ودورة في كل سنة، هكذا افتروا وزعموا، وهي دسيسة خبيثة من دسائس أعداء الله ورسوله والمؤمنين، قد جعلوها حبالة يصيدون بها خفافيش الأبصار من غوغاء المسلمين وجُهَّالهم، ويحملونهم بذلك على تكذيب القرآن والأحاديث الصحيحة، حتى ينسلخوا من دين الإسلام بالكلية ويصيروا كفارا مثلهم، وقد قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} الآية [النساء: 89]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100 - 101]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، ففي هؤلاء الآيات الكريمات أبلغ تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والمنافقين، وقبول آرائهم وظنونهم وتخرصاتهم، فإنهم لا يألون المسلمين خبالا، وودوا ما عنَّتهم، وأزلَّهم عن الحق، وأضلهم عن الصراط السوي والهدى، وقد

جعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كفاية وغنية عما سواهما من أقوال الناس وآرائهم وتخرصاتهم، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]. وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء»، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: صدق والله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء. رواه ابن ماجة. وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه. ومن لم يكتف بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما عند المسلمين من العلوم الشرعية النافعة المستفادة من الكتاب والسنة، بل ذهب يطلب غير ذلك من أقوال الكفار والمنافقين وآرائهم وتخرصاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان، فأبعده الله ولا كفاه، والمقصود ههنا التحذير من دسيسة أعداء الله التي قد سرت في جميع الأقطار الإسلامية على أيدي الكفار والمنافقين، وقبلها الجماهير تلو الجماهير من الأغبياء الغافلين الذين لا يسمعون ولا يعقلون، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}، وليس للكفار

والمنافقين ومقلديهم حجة على هذا القول الذي شغفوا به؛ لا من كتاب الله تعالى ولا من أخبار المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وإنما يعتمدون على ما زخرفته لهم شياطين الإنس والجن من الآراء الفاسدة، والظنون الكاذبة، والقياس الذي يكذبه الحس، ويعلم كل عاقل فساده بالبديهة، وقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]. وها أنا أذكر الأدلة على رد هذا القول الباطل من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليعرف الجاهلون به مغزاه، وما أراد به مخترعوه وموافقوهم من تكذيب القرآن (¬1). وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن». ¬

_ (¬1) سقط بعد هذا الكلام من الأصل ست صفحات من صفحة (131 - 136)، وهي المشتملة على الأدلة التي أشار -رحمة الله- إلى أنه سيذكرها من الكتاب والسنة على قرار الأرض ودوران الشمس، ولعله -رحمه الله- أزالها بعد أن نقل ما فيها إلى كتابه الذي صنفه لهذا الموضوع خاصة وهو كتاب "الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة"، أو إلى ذيله "ذيل الصواعق لمحو الأباطيل والمخارق"، فاكتفى بذكرها هناك، والله أعلم. يؤكد ذلك أن الصفحات التالية وهي صفحة (137) من الأصل قد ضُرب على الأسطر الخمسة الأولى منا وما يتبعها من اللحق والحواشي.

وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي من حديث المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل» الحديث، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي المسند أيضا من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل، ويُزاد في حرِّها» الحديث. وفي المسند أيضا، وصحيح الحاكم، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تدنو الشمس من الأرض، فيعرق الناس ..» الحديث، قال الحاكم: صحيح الإسناد. وهذه الأحاديث الأربعة وإن كانت في أخبار يوم القيامة ففيها دلالة على أن الأرض قارة ثابتة، لا تفارق موضعها، ولو كانت الشمس هي القارة الثابتة لكانت الأرض هي التي تُدنى منها، وهذا خلاف نصوص هذه الأحاديث، والله أعلم. فهذا ما يسَّره الله تعالى من الآيات والأحاديث (¬1) الدالة على أن الشمس تسير وتدور على الأرض، وأن الأرض قارة ثابتة، خلاف ما يزعمه الجغرافيون من أن الشمس قارة، وأن الأرض تدور عليها، وحقيقة قولهم تكذيب الآيات والأحاديث التي ذكرنا، وإطراحها بالكلية، وذلك هو الكفر ¬

_ (¬1) الإشارة هنا بناء على ما كان في الأصل من ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على قرار الأرض ودوران الشمس، وقد سبقت الإشارة إلى أنه نقل ذلك إلى ما كتبه في هذا الموضوع بخصوصه، وهما كتابا الصواعق الشديدة، وذيل الصواعق، فليتنبه.

الصريح، والضلال البعيد، قال الله تعالى: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]، وقول الجغرافيين في الشمس والأرض دائر بين افتراء الكذب والتكذيب بالحق. ومن أعجب العجب أنها قد جُعلتْ في زماننا من الفنون المهمة التي تدرس في كثير من المدارس، ويُعتنى بها في كثير من الأقطار الإسلامية أكثر مما يعتنى بالعلوم الشرعية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا مصداق ما جاء في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل» الحديث متفق عليه. وفي رواية: «من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل». ولهما عن عبد الله بن مسعود، وأبي موسى -رضي الله عنهما- قالا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم» الحديث. ومن أقبح الجهل وأظلم الظلم تكذيب الله تعالى، وتكذيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعارضة القرآن والسنة بأقوال الملاحدة والزنادقة وآرائهم الفاسدة، وتَعلُّم ذلك وتعليمه، فالله المستعان. وقد ثبت أيضا بالدليل العقلي أن الأرض قارة ساكنة لا تدور، ولا تفارق موضعها أبدا، وذلك بما يسره الله تعالى في زماننا من وجود المراكب الجوية التي تخترق الهواء في جميع أرجاء الأرض، فإن سيرها من المشرق

إضافة الإيجاد والتكوين إلى الطبيعة كفر

إلى المغرب مثل سيرها من المغرب إلى المشرق، وكذلك سيرها من الجنوب إلى الشمال مثل سيرها من الشمال إلى الجنوب، كل ذلك لا يختلف، ولو كان الأمر على ما يزعمه الجغرافيون لكان من في المشرق إذا أراد المغرب رفع طائرته في الهواء، ثم امسكها وقتا يسيرا حتى تصل إليه أقطار المغرب فينزل فيها، وأما من في المغرب فلا يمكنه أن يسير إلى المشرق في مركب جوي أبدا؛ لأنه إذا رفع طائرته عن الأرض فاتته الأرض بسرعة سيرها، هذا على حد زعمهم، وكذلك الذين في الجنوب والشمال لابد أن تفوتهم الأرض بسرعة سيرها، فلا يهتدون إلى موضع قصدوه، ولما كانت هذه التقديرات منتفية، وكان السير في الجو من الأقطار المتباينة مقاربا بعضه بعضا؛ دل ذلك على أن الأرض قارة ساكنة، فقاتل الله زنادقة الجغرافيين الذين خالفوا النقل والعقل جميعا. ومن كفريات الجغرافيين التي تدرس في كثير من المدارس أيضا، ويعتني بها كثير من الجهال؛ إضافتهم الإيجاد والتكوين في بعض الأشياء إلى الطبيعة لا إلى الفاعل المختار جل جلاله. ومن الجهل الفاضح، وتكذيب الآيات والأحاديث الصحيحة ما زعمه بعض العصريين من كون الملائكة غير عقلاء، وإنما هم عنده بمنزلة الجمادات والنباتات، وفي هذا القول الوخيم أعظم تنقص بالرب جل جلاله، حيث ائتمن على وحيه ووكل بكثير من أمور مخلوقاته من لا يعقل، وفيه أيضا تنقص بجميع الأنبياء والمرسلين حيث أخذوا عمَّن لا يعقل، وفيه أيضا تنقص بالقرآن، وجميع الكتب السماوية، وما فيها من الشرائع

المنزلة من عند الله تعالى بسفارة الملائكة الكرام، وفيه أيضا تنقص بجميع المؤمنين بالرسل حيث التزموا بشرائع وصدقوا بأمور جاء بها من لا يعقل، هذا ما يقتضيه زعم هذا المبطل، وهو زعم كاذب خاطئ، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. والمقصود ههنا التحذير من مكائد أعداء الله ودسائسهم وزخارفهم التي اغتر بها كثير من الناس، حتى آل الأمر ببعضهم إلى تكذيب ما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة، ومعارضة ذلك بآراء أعداء الله وتخرصاتهم، وذلك هو الكفر بعد الإيمان كما تقدم في حديث حذيفة - رضي الله عنه -، وقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 112 - 117]، وقد نصب أعداء الله الحبائل للمسلمين، وكادوهم بأنواع الكيد والمكر والخداع، وزخرفوا لهم الشبهات والشكوك، ونشروا ذلك في الكتب والصحف؛ ليفتنوهم ويردوهم عن دينهم إن استطاعوا، فمن أصغى إلى أقوالهم،

وأكبَّ على مطالعة كتبهم وصحفهم فقد عرّض نفسه للبلاء، وألقى بيده إلى التهلكة، ولا يؤمَن عليه أن يقع في كفر أو نفاق أو بدعة، كما وقع ذلك لكثير من المشغوفين بأقوال أعداء الله وآرائهم وتخرصاتهم، والمعصوم من عصمه الله تعالى، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17].

النفاق الأصغر

فصل وأما النفاق الأصغر فهو نفاق العمل. قال الحسن رحمه الله تعالى: كان يقال: النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وكان يقال: أُسُّ النفاق الذي بني عليه الكذب. وروى الإمام أحمد في الزهد، عن الحسن أنه قال: الكذب جماع النفاق. ورُوي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه أنه قال على المنبر: إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم، قالوا: كيف يكون المنافق عليما؟! قال: يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجور، أو قال: المنكر. وروى الإمام أحمد في مسنده، عن أبي عثمان النهدي قال: إني لجالس تحت منبر عمر وهو يخطب الناس، فقال في خطبته: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان» إسناده جيد. وروي نحوه من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الطبراني في الكبير، والبزار، وابن حبان في صحيحه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «آية المنافق ثلاث؛ إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». وفي رواية لمسلم: «آية المنافق ثلاث، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».

الإعراض عن الجهاد في سبيل الله من خصال النفاق الأصغر

ورواه الإمام أحمد ولفظه قال: «ثلاث من كُنَّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» إسناده صحيح على شرط مسلم. وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي، وأبو الشيخ الأصبهاني، عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وقال إني مسلم: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». وفي رواية أبي الشيخ: «وإن صام وصلى، وحج واعتمر، وقال إني مسلم». قال ابن القيم رحمه الله تعالى: نفاق العمل قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا. انتهى. ومن خصال النفاق أيضا الإعراض عن الجهاد في سبيل الله؛ لما روى مسلم، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يغزُ، ولم يُحدِّث به نفسه مات على شعبة من نفاق».

تبرج النساء واختلاعهن من أزواجهن من النفاق الأصغر

ومن خصاله أيضا تبرج النساء، وكذلك اختلاعهن من أزواجهن من غير ضرر؛ لما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المختلعات والمتبرجات هن المنافقات». ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وروى الترمذي، وابن جرير، عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المختلعات هن المنافقات» قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي. وروى ابن جرير أيضا عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات». وروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي المسند أيضا، والسنن إلا النسائي، عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة». وفي سنن ابن ماجة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما». ومن خصال النفاق أيضا الثناء على الملوك والأمراء ونحوهم في وجوههم، وإذا خرج قال غير ذلك؛ لما روى البخاري في صحيحه أن أناسا قالوا لابن عمر -رضي الله عنهما-: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم. قال: كنا نعدها نفاقا.

ورواه الإمام أحمد، وابن ماجة من حديث الأعمش: عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء قال: قيل لابن عمر -رضي الله عنهما-: إنا ندخل على أُمرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، قال: كنا نعد ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفاق. ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: قلنا لابن عمر -رضي الله عنهما-: إذا دخلنا على هؤلاء نقول ما يشتهون، فإذا خرجنا من عندهم قلنا خلاف ذاك، قال: كنا نعد ذلك نفاقا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث يزيد بن الهاد، عن محمد بن عبد الله أنه حدثه أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- لقي ناسا خرجوا من عند مروان فقال: من أين جاء هؤلاء؟ قالوا: خرجنا من عند الأمير مروان، قال: وكل حق رأيتموه تكلمتم به وأعنتم عليه، وكل منكر رأيتموه أنكرتموه ورددتموه عليه؟ قالوا: لا والله، بل يقول ما يُنكَر فنقول: قد أصبت أصلحك الله، فإذا خرجنا من عنده قلنا: قاتله الله، ما أظلمه وأفجره، قال عبد الله: كنا بعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعد هذا نفاقا لمن كان هكذا. وفي المسند أيضا عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: إنكم لتكلمون كلاما إن كنا لنعده على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفاق. وفي رواية قال: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصير بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم أو في المجلس عشر مرات. قلت: إذا كان الأمر هكذا في غرة الإسلام، وأفضل قرون هذه الأمة،

فكيف بمن بعدهم إلى زماننا هذا الذي نجم فيه النفاق الأكبر فضلا عن الأصغر، وساد فيه الجهل وأهله، واشتدت غربة السُنَّة فيه، وعاد المعروف بين الأكثرين منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وصار الأمر طبق ما جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سُنَّة، فإذا غُيِّرت قالوا: غُيِّرت السنة» قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثرت قُراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أموالكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين» رواه عبد الرزاق، والدارمي، والحاكم في مستدركه، وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: هو على شرط البخاري ومسلم، وقد تقدم هذا الحديث في أول الكتاب، وتقدم أيضا عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كفة ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفا من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة. رواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث". والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا، وقد ذكرت منها طرفا في أول الكتاب فليراجع، والله المستعان وعليه التُكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

القسم الثاني: المنتسبين إلى الإسلام وهم أهل البدع والأهواء

فصل وأما القسم الثاني من المنتسبين إلى الإسلام فهم أهل البدع والأهواء الذين هم على شفا جرف هار، وقد افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: المبتدع يؤول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم. انتهى. وقال السدي في تفسير هذه الآية: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. قلت: وهذا هو المطابق لحال المشركين وأهل البدع والأهواء، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالجماعة، والاعتصام بحبله المتين، واتِّباع صراطه المستقيم، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، واتِّباع سبل الشياطين، فبدَّل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، وخالفوا ما أمرهم الله به، وارتكبوا ما نهاهم عنه، فتفرقت بهم السبل عن سبيل الله، ومالت بهم الأهواء والبدع عن صراطه المستقيم،

حتى آل الأمر بكثير منهم إلى الشرك الأكبر فما دونه، كما يشهد بذلك الواقع، وهم مع هذا ينتسبون إلى الإسلام، وبهم يتكثر المغررون المخدوعون الجاهلون بدين الإسلام، وقد قال الله تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} الآية [الأنعام: 159]. وروى ابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}: «وليسوا منك؛ هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلال من هذه الأمة» في إسناده عباد بن كثير، قال البخاري والنسائي وغيرهما: متروك الحديث. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وهِم في رفعه، فإنه رواه سفيان الثوري، عن ليث -وهو ابن أبي سليم- عن طاوس، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في الآية أنه قال: نزلت في هذه الأمة. وقال أبو غالب عن أبي أمامة - رضي الله عنه - في قوله: {وَكَانُوا شِيَعًا} قال: هم الخوارج. وروي عنه مرفوعا، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ولا يصح. وروى الطبراني، وابن مردويه، والبيهقي، وأبو نعيم عن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله عنها: «يا عائش، إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمة».

الافتراق والاختلاف على شرع الله

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهو غريب ولا يصح رفعه. قال: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شيعا -أي فرقا- كان أهلا لذلك؛ كأهل الملل والنِحَل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برَّأ رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [الشورى: 13]، وفي الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد»، فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات، وآراء وأهواء، والرسل براء منها كما قال تعالى: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الأنعام: 153] قال: هذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات، من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، وهذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء المعتقد. انتهى، وهو كلام جيد. قال قتادة: اعلموا أن السبيل واحد، جماعة الهدى ومصيره الجنة،

وأن إبليس استبدع سبلا متفرقة، جماعة الضلالة ومصيرها إلى النار. وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وأبو بكر الآجري، وغيرهم، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما»، وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ: «{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}». وروى الإمام أحمد، وعبد بن حميد، وابن ماجة، والآجري، عن جابر - رضي الله عنه - نحوه. وروى ابن جرير، وابن مردويه: أن رجلا قال لابن مسعود - رضي الله عنه -: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثَمَّ رجال يدعون مَنْ مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود - رضي الله عنه - {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية. ويشهد لهذا ما في الصحيحين وغيرهما من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، قال: قلت: يا رسول الله، إنَّا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»،

الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة والاختلاف

قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: السبل الضلالات. وروى علي بن أبي طلحة عنه - رضي الله عنه - في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الآية، وقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية، وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الآية، وقوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} الآية، وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية، وقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله عز وجل المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم

بالمراء والخصومات في دين الله عز وجل. رواه الآجري في كتاب الشريعة. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وإنما وحَّد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها؛ كما قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]. انتهى. وروى أبو بكر الآجري بإسناده عن عاصم الأحول قال: قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الصراط يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - والذي عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. فحدثت به الحسن فقال: صدق ونصح، وحدثت به حفصة بنت سيرين فقالت: أحدثتَ بهذا محمدا؟ قلت: لا، قالت فحدِّثه إذًا. قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري رحمه الله تعالى: علامة من أراد الله عز وجل به خيرا سلوك هذه الطريق؛ كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنن أصحابه - رضي الله عنهم - ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العلماء مثل الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقهم،

افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة

ومجانبة كل مذهب لا يذهب إليه هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى. انتهى. وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو ثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، قال الترمذي: وفي الباب عن سعد، وعبد الله بن عمرو، وعوف بن مالك. قلت: أما حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، فرواه محمد بن نصر المروزي، وأبو بكر الآجري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الأيام والليالي حتى تفترق أمتي على مثلها، أو قال: على مثل ذلك، فكل فرقة منها في النار إلا واحدة وهي الجماعة». وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- فرواه الترمذي، والحاكم في المستدرك وضعفه، وأبو بكر الآجري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثة وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: من هي يا

رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وأما حديث عوف بن مالك، فرواه ابن ماجة في سننه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار» قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: «الجماعة». وفي الباب أيضا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة، يهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة» قالوا: يا رسول الله، ما تلك الفرقة؟ قال: «الجماعة» رواه الإمام أحمد. ورواه ابن ماجة في سننه بنحوه ولفظه: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة». ورواه أبو بكر الآجري من طرق عن أنس - رضي الله عنه -، وفي بعض طرقه: «كلها في النار إلا السواد الأعظم». ورواه الطبراني في معجمه الصغير مختصرا ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

معنى السواد الأعظم الوارد في الحديث

«تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة» قالوا: وما هي تلك الفرقة؟ قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي». وفي الباب أيضا عن أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - قالوا: خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتمارى في شيء من الدين، فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله -فذكروا الحديث وفي آخره-: «ذروا المراء، فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها على الضلالة إلا السواد الأعظم» قالوا: يا رسول الله، ما السواد الأعظم؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» رواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة". وتفسير «السواد الأعظم» في هذا الحديث يدفع ما قد يتوهمه من كثف جهله، من أن السواد الأعظم المذكور في حديث أنس - رضي الله عنه - يراد به معظم المنتسبين إلى الإسلام وجمهورهم نظرا منهم إلى ظاهر اللفظ. فإن قيل: إن هذا الحديث ضعيف، قيل: تقدم ما يشهد له من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- الذي رواه الترمذي وحسّنه، وقد روي عن علي، وابن مسعود -رضي الله عنهما- وغيرهما ما يؤيد ذلك. فروى العسكري عن سليم بن قيس العامري قال: سأل ابن الكواء عليا - رضي الله عنه - عن السنة والبدعة، وعن الجماعة والفرقة، فقال: يا ابن الكواء، حفظت المسألة فافهم الجواب: السنة والله سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والبدعة ما

فارقها، والجماعة والله مجامعة أهل الحق وإن قلُّوا، والفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا. وقال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سَيَلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قال: قلت يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي نافلة؟! قال: يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية! تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة؛ الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. وفي طريق أخرى: فضرب على فخذي وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل. قال نعيم ين حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ. ذكره البيهقي وغيره. ونقله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب "الإغاثة" قال: وكان

محمد بن أسلم الطوسي -الإمام المتفق على إمامته- مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال: ما بلغني سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مُكِّنت من ذلك. فسُئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: «إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم» فقال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم. قال ابن القيم رحمه الله: وصدق والله، فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها، فهو الحجة وهو الإجماع وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاَّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. انتهى. وقد قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبي، حدثنا خالي أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا أبي قال: قرأت على أبي عبد الله محمد بن القاسم الطوسي خادم ابن أسلم قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول، وذكر في حديث رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم». فقال رجل: يا أبا يعقوب، مَن السواد الأعظم؟ فقال: محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعه، ثم قال: سأل رجل ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن، من السواد الأعظم؟ قال: أبو حمزة السكوني، ثم قال إسحاق: في ذلك الزمان -يعني أبا حمزة- وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه، ثم قال إسحاق: لو سألت الجهال من السواد الأعظم؟ قالوا:

أوصاف الفرقة الناجية

جماعة الناس، ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - وطريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة، ومن خالفه فيه ترك الجماعة، ثم قال إسحاق: لم أسمع عالما منذ خمسين سنة أعلم من محمد بن أسلم. انتهى ما ذكره أبو نعيم. وقال ابن القيم أيضا: وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب "الحوادث والبدع": حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم. انتهى. وقد وصفت الفرقة الناجية في الأحاديث التي تقدمت بثلاث صفات؛ إحداها: أنهم الجماعة، الثانية: أنهم السواد الأعظم، الثالثة: أنهم من كان على مثل ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. وهذه الصفة تبين المراد من الصفتين قبلها، وتدل على أن أهل الحق هم الجماعة والسواد الأعظم، مَن كانوا وأين كانوا، ولو كانوا من أقل الناس، والله أعلم. وفي الباب أيضا عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- أنه لما قدم مكة حاجا قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل

الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة؛ وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في مستدركه، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة"، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وزاد الحاكم في روايته: «والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، لغير ذلك أحرى أن لا تقوموا به». قال الخطابي رحمه الله تعالى: الكَلَب داء يعرض للإنسان من عضة الكَلْب الكَلِب، وهو داء يصيب الكلب كالجنون، وعلامة ذلك فيه أن تحمر عيناه، وأن لا يزال يدخل ذنبه بين رجليه، وإذا رأى إنسانا ساوره، فإذا عقر هذا الكلب إنسانا عرض له من ذلك أعراض رديئة، منها أن يمتنع من شرب الماء حتى يهلك عطشا، ولا يزال يستسقي حتى إذا سُقي الماء لم يشربه، ويقال: إن هذه العلة إذا استحكمت بصاحبها فقعد للبول خرج منه هنات مثل صور الكلاب، فالكَلَب داء عظيم إذا تجارى بالإنسان تمادى وهلك. انتهى. وفي سنن ابن ماجة عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله لصاحب بدعة؛ صوما، ولا صلاة، ولا صدقة، ولا حجا، ولا عمرة، ولا جهادا، ولا صرفا، ولا عدلا، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين».

قول يوسف بن أسباط في أصول البدع

وله أيضا عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته». وروى أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده إلى سفيان الثوري أنه قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وروى أيضا بإسناده إلى أيوب السختياني أنه قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا زاد من الله عز وجل بعدا. وقال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": أخبرنا الفريابي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا معاذ بن معاذ قال: حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين أنه كان يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهواء. وقال أيضا: حدثنا أبو بكر بن أبي داود قال: حدثنا المسيب بن واضح قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: أصول البدع أربع؛ الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، ثم تتشعب كل فرقة ثماني عشرة طائفة، فتلك اثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون الجماعة التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها ناجية. وقد روي عن عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم والحديث نحو قول يوسف بن أسباط، قيل لابن المبارك رحمه الله تعالى: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: أول بدعة

أول من ابتدع الرفض ابن سبأ

حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة؛ حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فعاقب الطائفتين؛ أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر، وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر. ورواه عنه البخاري في صحيحه. وقال أيضا في موضع آخر: وابن سبأ هذا أول من ابتدع الرفض، وكان منافقا زنديقا، أراد فساد دين الإسلام كما فعل بولص صاحب الرسائل التي بأيدي النصارى؛ حيث ابتدع لهم بدعا أفسد بها دينهم، وكان يهوديا فأظهر النصرانية نفاقا لقصد إفساد ملتهم، وكذلك كان ابن سبأ يهوديا فقصد ذلك، وسعى في الفتنة فلم يتمكن، لكن حصل بين المؤمنين تحريش وفتنة، فقتل فيها عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وتبع ابن سبأ جماعات على بدعته وضلالته، وقال هؤلاء: إن عليا - رضي الله عنه - لم يمت، وإنما الذي قتله عبد الرحمن بن ملجم شيطان، وأما علي ففي السحاب، والرعد صوته، والبرق سوطه، وإنه ينزل إلى الأرض ويملأها عدلا، ويقولون عند الرعد عليك السلام يا أمير المؤمنين. وقال أيضا في موضع آخر: لما حدثت بدع الشيعة في خلافة علي - رضي الله عنه - ردها، وكانت ثلاث طوائف؛ غالية، وسبابة، ومفضلة؛ فأما الغالية فإنه حرقهم بالنار، فإنه خرج ذات يوم من باب كندة فسجد له أقوام فقال: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو الله، فاستتابهم ثلاثا فلم يرجعوا، فأمر في

انسلاخ الرافضة من الدين

اليوم الثالث بأخاديد فخُدَّت، وأضرم فيها النار، ثم قذفهم فيها، وأما السبابة فإنه لما بلغه أن ابن سبأ يسب أبا بكر وعمر طلب قتله، فهرب إلى قرقيسيا، وأما المفضلة فقال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. انتهى. قلت: وما زالت سموم ابن سبأ وأمثاله من الزنادقة الملحدين تنتشر في الأرض، وتفتك في هذه الأمة فتكا ذريعا، حتى تركت الأكثرين صرعى بأمراض الشرك والشكوك والشبهات، بل كثير من المستجيبين لهم في زماننا وقبله قد انسلخوا من الدين بالكلية، وقاموا في صف إبليس وجنوده يحاربون الإسلام وأهله بأيديهم وألسنتهم، وينشرون الكتب والمقالات في ذم الإسلام وأهله، ومدح أعداء الدين وتبجيلهم، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَابَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. وقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند": حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة قال: قلت للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: إن الشيعة يزعمون أن عليا يرجع، قال: كذب أولئك الكذابون، لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه، ولا قسمنا ميراثه. وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق زهير بن معاوية قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن عمرو الأصم قال: قلت للحسن بن علي: إن هذه

من علامات الرافضة سب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

الشيعة يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، قال: كذبوا والله، ما هؤلاء بشيعته، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الحارث قال: بينما نحن عند ابن عباس -رضي الله عنهما- إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت؟ قال: من العراق، قال: من أية؟ قال: من الكوفة، قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم، ففزع ثم قال: ما تقول لا أبا لك؟! لو شعرنا ما أنكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث جرير به، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": سألت أبي: من الرافضة؟ فقال: الذين يسبون، أو يشتمون أبا بكر وعمر. وروى أيضا بإسناد فيه مجهول عن علي - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن قوما لهم نبز يقال لهم الرافضة إن أدركتم فاقتلهم فإنهم مشركون» قال علي - رضي الله عنه -: ينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك، وآية ذلك أنهم يشتُمون أبا بكر وعمر. وروى أيضا في "زوائد المسند" وفي كتاب "السنة" عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يظهر في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام». ورواه البخاري في التاريخ الكبير بلفظ: «يكون قوم نبزهم الرافضة

يرفضون الدين». وفي رواية لعبد الله ابن الإمام أحمد: «يجيء قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة برآء من الإسلام». وروى الحافظ أبو يعلى، والطبراني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون». وفي رواية الطبراني قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده علي - رضي الله عنه -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سيكون من أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت، لهم نبز، يسمون الرافضة، فاقتلوهم فإنهم مشركون». وروى أبو نعيم في الحلية من حديث محمد بن سوقة، عن أبي الطفيل، عن علي - رضي الله عنه - قال: «تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، شرها فرقة تنتحل حبنا وتفارق أمرنا». وروى البخاري في "التاريخ الكبير" عن علي - رضي الله عنه - قال: دعاني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا علي إن لك من عيسى مثلا، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به». ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند" وفي كتاب "السنة" وزاد: ألا وإنه يهلك فيَّ اثنان؛ محب يقرظني بما ليس فيَّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبي، ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله

فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم. ورواه الحاكم في مستدركه وزاد: وما أمرتكم بمعصية أنا وغيري فلا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل، إنما الطاعة في المعروف. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": وجدت في كتاب أبي بخط يده -وأظنني سمعته منه- حدثنا وكيع، عن شريك، عن عثمان بن أبي يقظان، عن زاذان، عن علي - رضي الله عنه - قال: مثلي في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم، أحبته طائفة فأفرطت في حبه فهلكت، وأبغضته طائفة فأفرطت في بغضه فهلكت، وأحبته طائفة فاقتصدت في حبه فنجت. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن علقمة قال: غلت هذه الشيعة في علي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم، قال: وكان الشعبي يقول: لقد بغضوا إلينا حديث علي. وقال عبد الله أيضا: حدثنا أبو صالح هدبة بن عبد الوهاب بمكة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا محمد بن طلحة، عن أبي عبيدة بن الحكم، عن الحكم بن حجل، سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حدّ المفتري. وقال أيضا: حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن الحسن؛ يعني الأسدي، حدثنا أبو كدينة، عن أبي خالد، عن الشعبي قال: لو

الرافضة سبب حدوث الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة

كانت الشيعة من الطير لكانوا رخما. قال الشعبي: ونظرت في هذه الأهواء وكلَّمت أهلها؛ فلم أر قوما أقل عقولا من الخشبية. وفي رواية أخرى عن الشعبي: لو كانت الشيعة من الطير لكانت رخما، ولو كانت من البهائم لكانت حُمُرا. وفي رواية أخرى عنه: لو شئت أن يملأوا لي بيتي هذا ورقا على أن أكذب لهم على علي لفعلت، والله لا كذبتُ عليه أبدا. وروى أبو نعيم في الحلية، عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: لم أر أحدا من أصحاب الأهواء أشهد بالزور من الرافضة. فهذا ما يتعلق بالروافض الأنجاس، وكان بعض السلف يسميهم الخشبية لقولهم: إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم، فقاتلوا بالخشب. وسُموا رافضة لرفضهم زيد بن علي بن الحسين - رضي الله عنهم - لما ترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ذكره أبو الحسن الأشعري في كتاب "المقالات". وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة، وهم أول من عطل المساجد، وبنى المشاهد على القبور وجعلها أوثانا، واتخذ أهلها أربابا من دون الله، ومن هذا الوجه شابهوا المشركين الأولين الذين كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة، وودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، ونحوها من معبودات أهل الجاهلية، وكذلك

شابهوا اليهود في الكذب، وتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى، وغير ذلك من مساوئ أخلاق اليهود، وكذلك شابهوا النصارى في الغلو والجهل واتباع الهوى، وغير ذلك من مساوئ أخلاق النصارى، وما زال العلماء يصفونهم بذلك كما ذكره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه في ردِّه على الرافضي. وذكر أيضا أن متأخري الرافضة ذهبوا إلى التجهم وإبطال صفات الله، وقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا حجاج، سمعت شريكا -وذكر المرجئة- فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثا. ورواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو نصر قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا أبو عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- قال: حدثنا حجاج قال: سمعت شريكا فذكره. وإذا كان هذا قول السلف في متقدمي الروافض، فكيف لو رأوا حالتهم اليوم، وما جمعوا من الشر بحذافيره؛ مع بُعدهم عن الهدى ودين الحق! ومع هذا فهم ينتسبون إلى الإسلام، وبهم وبأشباههم يتكثر الذين لا يعرفون الإسلام، ولا يبعد أن تكون الرافضة نصف العدد الذي ذكرنا في السؤال المتقدم أو أكثر من نصفه، وإذا ضممنا إليهم أشباههم من عُبَّاد الأوثان والطواغيت والأشجار والأحجار والكواكب، وغيرها مما يعبد من دون الله، مع سائر أدعياء الإسلام الذين ذكرناهم فيما تقدم لم يبق من العدد المتقدم ذكره إلا القليل، وبهذا يعرف غربة الإسلام الحقيقي وأهله في الأزمان وقبلها بدهر طويل، فالله المستعان.

فصل: في الخوارج

فصل وأما الخوارج فهم أول من كفّر المسلمين بالذنوب، ويُكفِّرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله. قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يراهم شر خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. انتهى. وحكي عنهم أنهم لا يتبعون النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يعملون إلا بظاهره، ذكر ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه، ولهذا كانوا مارقين، مرقوا من الإسلام مروق السهم من الرمية كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وقد خرَّج مسلمٌ أكثرَها في صحيحه، وخرّج البخاري طائفةً منها. وبدعتهم هي أول بدعة حدثت في الإسلام، وأول قرن طلع منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ذو الخويصرة التميمي، الذي اعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعن عليه في قسمته العادلة بالاتفاق؛ وقال له في وجهه: اتق الله واعدل، فإنك لم تعدل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل»، وفي رواية: «فمن يطيع

تحقيق معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - «لقد خبت وخسرت» الواردة في حديث ذي الخويصرة

الله إذا عصيته، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!»، وفي رواية: «ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء». وقد اختلف في معنى قوله: «لقد خبت وخسرت» بناء على اختلاف الرواية في ضبط هذين الحرفين، فرُوي بضم المثناة، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": بضم المثناة للأكثر؛ ومعناه ظاهر ولا محذور فيه، والشرط لا يستلزم الوقوع؛ لأنه ليس ممن لا يعدل حتى يحصل له الشقاء، بل هو عادل فلا يشقى، وحكى عياض فتحها، ورجحه النووي، وحكاه الإسماعيلي عن رواية شيخه المنيعي من طريق عثمان بن عمر عن قرة، والمعنى: لقد شقيت أي ضللت أنت أيها التابع، حيث تقتدي بمن لا يعدل، أو حيث تعتقد في نبيك هذا القول الذي لا يصدر عن مؤمن. انتهى. واختار هذا القول الأخير الإمامان؛ شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، والحافظ ابن القيم رحمة الله عليهما. قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: إذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه فقد اتبع ظالما كاذبا، وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني» أو كما قال، يقول - صلى الله عليه وسلم -: إن أداء الأمانة في الوحي أعظم، والوحي الذي أوجب لله طاعته هو

الوحي بحكمه وقسمته. انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "تهذيب السنن": الصواب فتح التاء من خبت وخسرت؛ والمعنى أنك إذًا خائب خاسر إن كنت تقتدي في دينك بمن لا يعدل، وتجعله بينك وبين الله، ثم تزعم أنه ظالم غير عادل، ومن رواه بضم التاء لم يفهم معناه هذا. انتهى. قلت: وضم التاء أوجه من نصبها لوجوه: أحدها: أنه رواية الأكثر. الثاني: ما جاء في صحيح ابن حبان في هذا الحديث أن الرجل لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اعدل فإنك لم تعدل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا ويلي، لقد شقيت إن لم أعدل»، فظاهر هذا السياق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عنى بذلك نفسه. الثالث: أن في توجيه المعنى على النصب تكلفا ظاهرا، وأما الرفع فليس فيه تكلف. الرابع: أن الرفع يتأيد بأدلة كثيرة من القرآن؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56]، وقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}

[البقرة: 120]، وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]، وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، وقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4]. والمعنى في هؤلاء الآيات، وفي الحديث أيضا: أنه لو فرض وجود الشرط لكان المشروط، ولكن هذا كله محال وممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، فإن الله سبحانه وتعالى أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحدا، تعالى وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقد عصم الله تبارك وتعالى رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الشرك والظلم والجور والغي والضلال، ومتابعة أهواء اليهود والنصارى والمشركين، وبرَّأه من كل نقص وعيب، وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين، فكلهم معصومون مُبرَّؤون، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والمقصود هنا أن توجيه المعنى على الرفع صحيح ولا محذور فيه، والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ذي الخويصرة: «إن من ضئضئ

ما ورد من الآثار في ذم الخوارج وصفتهم

هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد». وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد وأنس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة؛ قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يَقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون حتى يرتد السهم على فُوقه؛ هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم» قالوا: يا رسول الله، ما سيماهم؟ قال: «التحليق». وقد رواه الحاكم أيضا من حديث أنس - رضي الله عنه - وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد أيضا، والبخاري، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج ناس من قبل المشرق ويَقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فُوقه» قيل: ما سيماهم؟ قال: «سيماهم التحليق»، أو قال: «التسبيد».

وفي صحيح مسلم، وسنن ابن ماجة، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بعدي من أمتي، أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه؛ هم شر الخلق والخليقة» فقال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري -أخا الحكم الغفاري- قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا؟ فذكرت له هذا الحديث فقال: وأنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والآجري، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج قوم في آخر الزمان، سفهاء الأحلام، أحداث -أو حدثاء- الأسنان، يقولون من خير قول الناس، يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن أدركهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرا عظيما عند الله لمن قتلهم» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الإمام أحمد أيضا، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وعبد الله ابن الإمام أحمد، عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فإن لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة».

وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يحقر أحدكم عمله مع عملهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه الله، كلما طلع منهم قرن قطعة الله، كلما طلع منهم قرن قطعة الله» فردد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع. ورواه ابن ماجة في سننه بلفظ: «ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع» قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلما خرج قرن قُطع -أكثر من عشرين مرة- حتى يخرج في عراضهم الدجال». وفي المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيخرج أناس من أمتي من قِبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن قطع، كلما خرج منهم قرن قُطع» حتى عدها زيادة على عشر مرات «كلما خرج منهم قرن قُطع، حتى يخرج الدجال في بقيتهم». ورواه الحاكم في مستدركه، وأبو نعيم في الحلية بنحوه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي سنن النسائي، ومستدرك الحاكم، عن أبي برزة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج في آخر الزمان قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي المسند عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في آخر الزمن قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، قتالهم حق على كل مسلم». وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا بسام، عن أبي الطفيل قال: سأل ابن الكواء عليا - رضي الله عنه - عن الأخسرين أعمالا، قال: منهم أهل حروراء. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بسام الصيرفي به نحوه، وقال: صحيح ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا ابن أبي خالد، عن مصعب بن سعد، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: ذكر عنده الخوارج، قال: هم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. ورواه من طريق أخرى فقال: حدثني أبي، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن مصعب بن سعد، عن سعد - رضي الله عنه -، فذكر مثله.

ورواه الحاكم في مستدركه من طريق جرير، عن منصور، عن مصعب بن سعد، عن أبيه - رضي الله عنه -، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى البخاري في صحيحه من حديث مصعب عن أبيه - رضي الله عنه - قال: الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا هشيم، أخبرنا العوام، حدثنا أبو غالب، عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، قال: هم الخوارج. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد، عن أبي غالب قال: سمعت أبا أمامة - رضي الله عنه - يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} قال: هم الخوارج، وفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال: هم الخوارج. وروى أبو بكر الآجري بإسناده عن طاوس قال: ذكر لابن عباس -رضي الله عنهما- الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن، فقال - رضي الله عنه -: يؤمنون بمحكمه، ويضلون عن متشابهه، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وروى أيضا بإسناده عن عبد الله بن يزيد قال: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- وذكر له الخوارج واجتهادهم وصلاحهم فقال - رضي الله عنه -:

ليسوا هم بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى وهم على ضلالة. وروى أيضا بإسناده عن الحسن -وذكر الخوارج- قال: حيارى، سكارى، ليسوا يهودا ولا نصارى، ولا مجوسا فيعذرون. روى الإمام أحمد، والترمذي من حديث أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال: «كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} إلى آخر الآية»، قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال الترمذي: هذا حديث حسن. ورواه ابن ماجة ولفظه: «شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا، كلاب النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا»، قلت: يا أبا أمامة، هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" من طرق، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، وفي بعضها أنه لما أُتي برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق، جاء أبو أمامة فلما رآهم دمعت عينه قال: «كلاب النار، كلاب النار، كلاب النار -ثلاث مرات- هؤلاء شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء» قلت: فما شأنك دمعت عينك؟ قال: رحمة لهم؛ لأنهم كانوا من أهل الإسلام، قلت: أبرأيك قلت هم كلاب النار، أو شيئا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

قال: إني إذًا لجريء، بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثة، قال: فعد مرارا، قال: ثم تلا هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} حتى بلغ {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وقد رواه الطبراني في معجمه الصغير من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا خليد بن دعلج، حدثنا أبو غالب قال: جيء برؤوس الخوارج فنصبت على درج مسجد دمشق، فجعل الناس ينظرون إليها، وخرجت أنا أنظر إليها، فجاء أبو أمامة على حمار وعليه قميص سنبلاني، فنظر إليهم فقال: ما صنع الشيطان بهذه الأمة؟! يقولها ثلاثا؛ «شر قتلى تحت ظل السماء هؤلاء، خير قتلى تحت ظل السماء من قتله هؤلاء، كلاب النار -يقولها ثلاثا» ثم بكى، ثم انصرف، قال أبو غالب: فاتبعته، فقلت: سمعتك تقول قولا قبل، أفأنت قلته؟ فقال: سبحان الله! إني إذًا لجريء، بل سمعت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرارا، فقلت له: رأيتك بكيت؟ فقال: رحمة لهم؛ كانوا من أهل الإسلام مرة، ثم قال لي: أما تقرأ؟ قلت: بلى، قال: فاقرأ من آل عمران، فقرأت فقال: أما تسمع قول الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}؛ كان في قلوب هؤلاء زيغ فزيغ بهم، اقرأ عند رأس المائة، فقرأت حتى إذا بلغت: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فقلت: يا أبا أمامة، أهم هؤلاء؟ قال: نعم هؤلاء. وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد من وجه آخر فقال: حدثني أبو خيثمة

زهير بن حرب، حدثنا عمرو بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله قال: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام، فذكر نحو ما تقدم في حديث أبي غالب وفيه: فقال له رجل: رأيتك دمعت عيناك! فقال: رحمة، رحمتهم، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، ثم قرأ هذه الآية: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآية. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث عكرمة بن عمار به نحوه، ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد أيضا من وجه آخر فقال: حدثنا أبي، حدثنا أنس بن عياض -وهو أبو حمزة المديني- قال: سمعت صفوان ابن سليم يقول: دخل أبو أمامة الباهلي دمشق فرأى رؤوس الحرورية، وذكر نحو ما تقدم وفيه قال: أبكي لخروجهم من الإسلام، هؤلاء الذين تفرقوا واتخذوا دينهم شيعا. وروى الطبراني في الصغير من طريق أبي غالب، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخوارج كلاب النار». وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا إسحاق بن يوسف -يعني الأزرق- عن الأعمش، عن ابن أبي أوفى

قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الخوارج هم كلاب النار». وهكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبو بكر الآجري عن حامد بن شعيب البلخي، عن أبي خيثمة زهير بن حرب، كلاهما عن إسحاق بن يوسف الأزرق به مثله. ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الإمام أحمد، وأبي بكر بن أبي شيبة، وهارون بن محمد المستملي، كلهم عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن الأعمش به. ورواه أيضا من طريق سفيان الثوري، عن الأعمش، عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخوارج هم كلاب النار». وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا حشرج بن نباتة العبسي، حدثني سعيد بن جهمان قال: لقيت عبد الله بن أبي أوفى -وهو محجوب البصر- فسلمت عليه فقال لي: من أنت؟ قال: قلت: أنا سعيد بن جهمان، قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت قتلته الأزارقة، قال: لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم كلاب النار» قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: لا بل الخوارج كلها. ورواه الحاكم في مستدركه مختصرا. فهذا ما يتعلق بالخوارج المارقين من دين الإسلام، فليتدبر المتكثرون بأهل الضلالات والأهواء هذه الأحاديث الواردة في الخوارج مع انتسابهم إلى الإسلام، وكثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم واجتهادهم

أشباه الخوارج ممن يدعي العلم والتحقيق

في العبادة، وما تركت ذكره من الأحاديث الواردة فيهم أكثر مما ذكرته، وهم في هذه الأزمان كثيرون في أرض عمان وما حولها من السواحل، وأكثر ما يوجد منهم طائفة الإباضية أتباع عبد الله بن إباض. وقد حدثنا من اجتمع بهم أنهم لا يزالون يتذكرون أهل النهروان الذين قتلهم علي - رضي الله عنه - وأصحابه، ويتحزنون على قتلهم، وينشدون فيهم المراثي الكثيرة، وذكر أنهم لا يجدون هناك أحدا من أهل السنة يقدرون على قتله إلا قتلوه ما لم يدخل عليهم بأمان من بعضهم. قلت: وللخوارج المارقين أشباه كثيرون ممن يدعي العلم والتحقيق في هذه الأزمان وقبلها، وعلامتهم التهجم على كتاب الله تعالى وتفسيره بآرائهم الفاسدة، واتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وكثير منهم يزعمون أنهم هم الذين غاصوا على معاني القرآن واستخرجوا علومه، فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة العلم والهدى فعند هؤلاء المتعمقين المعجبين بأنفسهم أنهم لم يفسروا إلا ألفاظه فقط، ومنهم من يحاول تطبيق القرآن والسنة المطهرة على قوانين النصارى وسياساتهم الخاطئة الفاجرة، وهذا هو غاية الزيغ والإلحاد والزندقة، وكثير منهم يرد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خالفت رأيه وهواه، ويعارضها كما فعل شيخهم ذو الخويصرة بقر الله خاصرته وخواصر أتباعه إلى يوم القيامة، ولهذا تجد كثيرا منهم يطعن في أئمة الحديث الذين أجمع العلماء على إمامتهم وجلالتهم، ويصفهم بالعجمة، وربما

رماهم باختلاق الأحاديث، وبعضهم يتجاوز ذلك إلى الطعن في الصحابة من أجل حديث لم يفهم معناه، أو لم يظهر له وجه الحكمة منه، كما رأينا ذلك في كتب لهم وتعليقات كثيرة، وقد آل الأمر بكثير منهم إلى الانسلاخ من دين الإسلام بالكلية، وبعضهم تجاوز ذلك إلى محاربة الشريعة المحمدية والقدح فيها وفي سائر الأديان السماوية، وزعم الخبيث أنها نكبة على البشر، وأن الإيمان والتزام أحكام الشريعة أغلال، ومشكلة لم تحل، وأن السيادة والسعادة الدنيوية في رفض الأديان كلها، والتوجه إلى الطبيعة بالكلية، وصرف الهمم كلها إلى الأعمال الدنيوية، والتعلق بالأسباب لا بمسببها، وبذلك تَنْحلُّ المشكلة على زعمه الكاذب الخاطئ الفاجر، {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، وقد قال الله تعالى في أسلاف هؤلاء المتهوكين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ * ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى

الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 69 - 76]؛ وهذه الآيات نزلت في كفار قريش، ونحوهم ممن كان يُقرّ بأن الله تبارك وتعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، المتصرف في خلقه بما يشاء، وإنما كانوا يشركون به في الألوهية والعبادة كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} الآية [ص: 5]. فأما صاحب الأغلال وأضرابه من المرتدين عن الإسلام فإنهم -مع مجادلتهم في آيات الله وتكذيبهم بالكتاب وبما أرسل الله به رسله- قد جعلوا الطبيعة رب كل شيء وخالقه، وعدلوا الكفرة من الإفرنج وغيرهم بالله في ربوبيته، وزعموا أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من الخلق، والرزق، والإحياء، والتصرف في الكون، وغير ذلك مما هو محشو في كتاب الأغلال الجامع للكثير من أشتات الكفر والضلال. والله المسؤول أن يعافيني وإخواني المسلمين مما ابتلاه به، ويثبتنا جميعا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.

فصل: في القدرية

فصل وأما بدعة القدرية فإنها حدثت في آخر عصر الصحابة، فأنكرها من كان منهم حيا؛ كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما - رضي الله عنهم -، وكذلك أئمة التابعين، ومن بعدهم من الأئمة. وقد روى الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن يحيى بن يعمر أنه قال لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم، يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم بُرآء مِنِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحُد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. الحديث. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن سعيد بن حيان، عن يحيى بن يعمر قال: قلت لابن عمر -رضي الله عنهما-: إن ناسا عندنا يقولون: الخير والشر بقدر، وناس عندنا يقولون الخير بقدر، والشر ليس بقدر، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إذا رجعت إليهم فقل لهم: إن ابن عمر يقول: إنه منكم بريء، وأنتم منه برآء. وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا هشيم، أخبرني أبو هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذكر عنده القدرية قال: فقال: لو رأيت

أحدا منهم لعضضت أنفه، قال مجاهد: قال ابن عمر: من رأى منكم أحدا منهم فليقل له: إن ابن عمر منكم بريء. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا يحيى بن سعيد، أن أبا الزبير أخبره أنه كان يطوف مع طاوس بالبيت فمر بمعبد الجهني، فقال قائل لطاوس: هذا معبد الجهني الذي يقول في القدر، فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه فقال: أنت المفتري على الله، القائل ما لا تعلم؟ قال معبد: يُكذب عليّ، قال أبو الزبير: فعدلت مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال له طاوس: يا أبا عباس، الذين يقولون في القدر؟ فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- أروني بعضهم، قال: قلنا صانع ماذا؟ قال: إذًا أجعل يدي في رأسه ثم أدق عنقه. وهكذا رواه الآجري، عن الفريابي، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، فذكره. وروى الإمام أحمد في مسنده، والآجري في كتاب "الشريعة" عن محمد بن عبيد المكي، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قيل لابن عباس -رضي الله عنهما-: إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ قد عمي- قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس؟ قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنّها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أول

تكفير القدرية [الآثار الواردة في تكفير القدرية]

شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله عز وجل من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا» هذا لفظ أحمد، ورواية الآجري مختصرة. وروى ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تُكُلم في القدر، فقال: أَوَقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]، أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين. وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن زرارة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تلا هذه الآية: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال: «نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله». وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: سمعت أبي رحمه الله تعالى يقول: لا يصلى خلف القدرية والمعتزلة والجهمية. وقال أيضا: سألت أبي مرة أخرى عن الصلاة خلف القدري؟ فقال: إن كان يخاصم فيه ويدعو إليه فلا يُصلى خلفه. وقال أيضا: سمعت أبي وسأله علي بن الجهم عمن قال بالقدر يكون كافرا؟ قال: إذا جحد العلم؛ إذ قال: إن الله لم يكن عالما حتى خلق علما فعلم؛ فجحد علم الله فهو كافر.

وقال أيضا: حدثني الحسن بن عيسى مولى عبد الله بن المبارك، حدثني حماد بن قيراط، سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: الجهمية كفار، والقدرية كفار. وروى أبو نعيم في الحلية عن عمار بن عبد الجبار قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: الجهمية كفار، والقدرية كفار، فقلت لعبد الله بن المبارك: فما رأيك؟ قال: رأيي رأي سفيان. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: من كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن. وروى أيضا في كتاب "الزهد" عن الحسن أنه قال: من كذب بالقدر فقد كفر. وروى أبو نعيم في الحلية من طريق سلمة بن شبيب، حدثنا مروان بن محمد قال: سئل مالك بن أنس عن تزويج القدري، فقرأ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا مؤمل، حدثنا عمر بن محمد، حدثنا نافع قال: قيل لابن عمر -رضي الله عنهما-: إن قوما يقولون لا قدر، فقال: أولئك القدريون، أولئك مجوس هذه الأمة. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا جعفر -يعني ابن زياد- عن عبادة بن مسلم قال مجاهد: لا يكون مجوسية حتى

يكون قدرية، ثم تزندقوا ثم يتمجسوا. وقال أبو داود في سننه: حدثنا مسوى بن إسماعيل، أخبرنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم». ورواه الحاكم في مستدركه، عن أبي بكر أحمد بن سلمان بن الحسن الفقيه، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، فذكره ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه، وافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقال المنذري: هذا منقطع؛ أبو حازم سلمة بن دينار لم يسمع من ابن عمر، وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن عمر ليس فيها شيء يثبت. انتهى. وقد روى هذا الحديث أبو بكر الآجري من طريقين؛ عن أبي حازم، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ولكن قال أبو داود: إن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنكره من حديث أبي حازم عن نافع. ورواه الآجري أيضا من طريق آخر؛ عن الجعيد بن عبد الرحمن، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه يكون في آخر الزمان قوم يكذبون بالقدر، ألا أولئك مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم».

ورواه الطبراني في الصغير من حديث الجعيد به. وروى أبو داود، عن عمر مولى غفرة، عن رجل من الأنصار، عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، مَنْ مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يُلحقهم بالدجال». رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، عن أبيه، عن مؤمل، عن عمر مولى غفرة بنحوه. قال المنذري: عمر مولى غفرة لا يُحتج بحديثه، ورجل من الأنصار مجهول، وقد روي من طريق آخر عن حذيفة ولا يثبت. انتهى. وروى الآجري بإسناده عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: «لتتبعن أمر من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم، ولتنقضن عُرى الإسلام عروة فعروة، ويكون أول نقضها الخشوع حتى لا ترى خاشعا، وحتى يقول أقوام: ذهب النفاق من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فما بال صلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا حتى ما يصلون بصلاة نبيهم، أولئك المكذبون بالقدر، وهم أسباب الدجال، وحق على الله أن يمحقهم». ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى ابن ماجة في سننه، عن محمد بن المصفى، عن بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم». ورواه الطبراني في الصغير، عن عبد الله بن الصقر السكري، عن محمد بن المصفى. ورواه الآجري، عن الفريابي، عن محمد بن المصفى، فذكره إلى قوله: «فلا تشهدوهم» وليس عنده ما بعده، وقد أُعلَّ هذا الحديث بأن بقية بن الوليد عنعنه مع كثرة تدليسه. وروى الآجري من طريقين؛ عن مكحول، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحو حديث جابر وابن عمر - رضي الله عنهم -، وأُعلّ بالانقطاع، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لم يسمع مكحول من أبي هريرة. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثني القاسم بن حبيب، عن رجل يقال له نزار، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «صنفان من هذه الأمة ليس لهم في الإسلام نصيب؛ المرجئة والقدرية». ورواه الترمذي من حديث القاسم بن حبيب، وعلي بن نزار، عن نزار. وابن ماجة من حديث علي بن نزار، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن

عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه ابن ماجة أيضا من حديث عبد الله بن محمد الليثي، حدثنا نزار بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: أهل الإرجاء، وأهل القدر». وروى الآجري من حديث عكرمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا بنحوه. وروى البخاري في "التاريخ الكبير"، وأبو بكر الآجري من طريقين؛ عن عمرو بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز، عن يحيى بن القاسم، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما هلكت أمة قط إلا بالإشراك بالله، وما أشركت أمة قط إلا وكان بدو إشراكها التكذيب بالقدر» قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا الإسناد لا يحتج به، قال: وأجود ما في الباب حديث حيوة بن شريح: أخبرني أبو صخر، حدثني نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما- جاءه رجل فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام، فقال: إنه قد بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. انتهى. وقد رواه ابن ماجة في سننه من حديث حيوة بن شريح، عن أبي صخر، وعنده بالواو في قوله «مسخ وخسف وقذف» فأفاد أن «أو»

في رواية الترمذي بمعنى الواو، وليست للتنويع ولا للشك. ورواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا هارون بن معروف، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني أبو صخر، عن نافع قال: بينما نحن عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قعودا إذ جاء رجل فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام -لرجل من أهل الشام- فقال عبد الله: بلغني أنه أحدث حدثا، فإن كان كذلك فلا تقرأنَّ عليه مني السلام، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنه سيكون في أمتي مسخ وقذف وهو في الزنديقية والقدرية». وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد -يعني ابن أبي أيوب- حدثني أبو صخر، عن نافع قال: كان لابن عمر -رضي الله عنهما- صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه مرة عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليَّ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر». ورواه أبو داود في سننه، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، كلاهما عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه، ومن طريق السري بن خزيمة، كلاهما عن عبد الله بن يزيد المقري، ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه.

وروى الإمام أحمد، والبخاري في "التاريخ الكبير"، وأبو داود، وعبد الله بن الإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم». وروى البخاري في "التاريخ الكبير"، عن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا عبد الصمد، حدثنا عكرمة، سألت يحيى بن أبي كثير عن القدرية، فقال: هم الذين يقولون: إن الله لم يقدر الشر. وروى أبو نعيم في الحلية عن المزني قال: قال الشافعي: تدري من القدري؟ القدري الذي يقول: إن الله لم يخلق الشر حتى عمل به. ورأيت في عقيدة منسوبة للإمام أحمد رحمه الله تعالى ما نصه: القدرية هم الذين يزعمون أن الاستطاعة والمشيئة والقدرة إليهم، وأنهم يملكون لأنفسهم الخير والشر، والضر والنفع، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، بدءا من أنفسهم، من غير أن يكون سبق لهم ذلك من الله، أو في علم الله، وقولهم يضارع قول المجوسية والنصرانية. انتهى. قال الخطابي رحمه الله تعالى: إنما جعلهم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين وهما: النور والظلمة، يزعمون أن

أقسام الخائضين في القدر المجوسية، والمشركية، والإبليسية.

الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثانوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز وجل والشر إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، وخلقه الشر شرا في الحكمة كخلقه الخير خيرا، فالأمران مضافان إليه خلقا وإيجادا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا. انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: أهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية. فالمجوسية: الذين كذبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم. والفرقة الثانية المشركية: الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة. والفرقة الثالثة وهم الإبليسية: الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا متناقضا من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب. انتهى. وأول من تكلم في القدر معبد الجهني؛ أخذ ذلك عن نصراني مرتد

عن الإسلام. وقد روى الطبراني وغيره بإسناد فيه مقال، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: «اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية». قال أبو بكر الآجري رحمه الله تعالى: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا صفوان بن صالح قال: حدثنا محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي رحمه الله تعالى يقول: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، وكان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد. وقال أيضا: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا معاذ بن معاذ قال: سمعت ابن عون يقول: أول من تكلم من الناس في القدر بالبصرة معبد الجهني، وأبو يونس الأسوار. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار، سمعت أبي وعمي يقولان: سمعنا الحسن وهو ينهى عن مجالسة معبد الجهني يقول: لا تجالسوه فإنه ضال مضل، قال مرحوم: قال أبي: ولا أعلم أحدا يومئذ يتكلم في القدر غير معبد، ورجل من الأساورة يقال له سسويه. وهكذا رواه الآجري، عن أحمد بن محمد بن شاهين، عن عمار بن خالد الواسطي، عن مرحوم، فذكره إلا أنه قال: يقال له: سيسفوه. قلت: لعل هذا لقب لأبي يونس الأسوار.

عقوبة القدرية

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وكان معبد ممن خرج مع ابن الأشعث، فعاقبه الحجاج عقوبة عظيمة بأنواع العذاب ثم قتله. وقال سعيد بن عفير: بل صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم قتله. انتهى. وأما غيلان فقتله هشام بن عبد الملك، وصلبه على باب دمشق، ذكر ذلك عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة". وروى مالك في الموطأ عن عمه أبي سهيل بن مالك أنه قال: كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز فقال: ما رأيك في هؤلاء القدرية؟ فقلت: رأيي أن تستتيبهم، فإن قبلوا وإلا عرضتهم على السيف، فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي، قال مالك: وذلك رأيي. وروى أبو نعيم في الحلية، عن سعيد بن عبد الجبار قال: سمعت مالك بن أنس يقول: رأيي فيهم أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا قُتلوا؛ يعني القدرية. قلت: ولم يزل مذهب القدرية الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة ساريا في كثير من المنتسبين إلى الإسلام منذ آخر عصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى زماننا هذا. وقد انتدب في هذه الأزمان لتقرير قول القدرية النفاة، ونشره عدو الله صاحب الأغلال، الجامع للكثير من أشتات الكفر والضلال، ولولا

الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل والتسليم بالقضاء والقدر

خشية الإطالة لذكرت جملة من كلامه، وبينت فساده وتناقضه، ومخالفته لما أخبر الله تعالى في آيات كثيرة من كتابه، ولما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الثابتة عنه، ولما كان عليه أهل السنة والجماعة من الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكتب جميع ما قدره وقضاه في اللوح المحفوظ عنده، فلا يزاد أحد على وقته المقدر له ولا ينقص عنه، ولا يتقدم شيء على وقته المقدر له ولا يتأخر عنه، والعباد مع ذلك مأمورون بالسعي والاكتساب، والأخذ بالأسباب المأمور بها في تحصل ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، مع التوكل على الله تعالى، والتسليم لقضائه وقدره، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا راد لما قضى، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} الآية [الحديد: 22 - 23]، وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. والأخذ بالأسباب منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو مباح، ومع هذا فالاعتماد على الأسباب والثقة بها كما يدعو إليه صاحب

الأغلال وأضرابه شرك بالله تعالى، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، وقدح في الشرع، وترك الأخذ بالأسباب مع القدرة على الأخذ بها عجز محض وكسل، وقد «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من العجز والكسل» رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأهل السنن إلا ابن ماجة، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وروى الطبراني وغيره من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب». وروى الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا رسول الله، أعقل ناقتي وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال: «اعقلها وتوكل». وروى الطبراني، والحاكم وابن حبان في صحيحيهما، من حديث عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - نحوه. إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الأخذ بالأسباب مشروع، وذلك لا ينافي التوكل، ولكن لا يعتمد على الأسباب ويوثق بها، كما يدعو إليه صاحب الأغلال وأضرابه، وإنما يعتمد ويوثق بالله تعالى

المسبب الميسر، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، الذي إن شاء جعل في الأسباب منفعة لصاحبها، وإن شاء جعل فيها مضرة له، وإن شاء أعطاه، وإن شاء حرمه، فلم ينتفع بعمله وأسبابه، وكل ذلك جار على وفق الحكمة البالغة، وما قدره الرب وقضاه قبل أن يخلق هذا العالم بخمسين ألف سنة، وهذا مما ينكره صاحب الأغلال وأضرابه من الزنادقة والملاحدة والقدرية الذين هم مجوس هذه الأمة. وما أشبه صاحب الأغلال وأضرابه بالذين قال الله تعالى فيهم: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]. وقد تقدم في حديث حذيفة - رضي الله عنه - أن القدرية شيعة الدجال، وأسباب خروجه، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال ويمحقهم، وقد تقارب الزمان، وكثرت الفتن، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، وآن خروج المسيح الدجال قائد اليهود والخوارج

والقدرية، فنسأل الله تعالى أن يعيذنا وإخواننا المسلمين من فتنته، وفتنة شيعته، ومن سائر الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فصل: في المرجئة

فصل وأما بدعة الإرجاء فإنها حدثت في آخر عصر الصحابة - رضي الله عنهم - بعد بدعة القدرية، وتكلم فيها أكابر التابعين ومن بعدهم من الأئمة، وأنكروا على أهلها، وصاحوا بهم من كل جانب، وبدّعوهم، وضللوهم، وحذّروا منهم، واستقر الأمر عند أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وأن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، وأنه يُستثنى فيه ويُعاب على من لا يستثني. قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا أبو هلال، عن قتادة قال: إنما حدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث. قلت: وكانت هزيمة ابن الأشعث في سنة ثلاث وثمانين. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا محمد -يعني ابن طلحة- عن سلمة بن كهيل قال: وصف ذر الإرجاء، وهو أول من تكلم فيه، ثم قال: إني أخاف أن يُتخذ هذا دينا، فلما أتته الكتب من الآفاق قال: فسمعته يقول: وهل أمر غير هذا؟ وروى أيضا بإسناده عن الأعمش قال: سمعت ذر الهمداني يقول: لقد أشرعت رأيا خفت أن يُتخذ دينا. وبإسناده عن الحسن بن عبيد الله قال: سمعت إبراهيم يقول لذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال ذر: ما هو إلا رأي رأيتُه.

قال: ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذي بعث به نوح. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن العلاء بن عبد الله بن رافع، أن ذرا أبا عمر أتى سعيد بن جبير يوما في حاجة، قال: فقال: لا، حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم، أو رأي أنت اليوم، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت اليوم أكبر منه؟ وفي رواية له عن غير أبيه: ألا تستحي من دين أنت أكبر منه؟ وروى أيضا بإسناده عن الأعمش، عن حبيب قال: كنت عند سعيد بن جبير في مسجد فتذاكرنا ذرا في حديثنا فنال منه، فقلت: يا أبا عبد الله، إنه لوادٌّ لك؛ يحسن الثناء عليك إذا ذكرت، فقال: ألا تراه ضالا كل يوم يطلب دينه. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن أبي المختار قال: شكى ذرٌ سعيدَ بن جبير إلى أبي البختري الطائي فقال: مررت فسلمت عليه فلم يرد عليّ، فقال أبو البختري لسعيد بن جبير، فقال سعيد: إن هذا يجدد كل يوم دينا، لا والله لا أكلمه أبدا. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن أيوب قال: قال لي سعيد بن جبير: ألم أرك مع طلق؟ قال: قلت: بلى، قال: لا تجالسه، فإنه مرجئ، قال أيوب: وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن المغيرة قال: مر إبراهيم التيمي

بإبراهيم النخعي فسلَّم؛ فلم يرد عليه. وروى أيضا بإسناده عن ميمون بن أبي حمزة قال: قال لي إبراهيم النخعي: لا تدعوا هذا الملعون يدخل عليَّ بعد ما تكلم في الإرجاء؛ يعني حمادا. قلت: الظاهر أنه يعني حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنفية، فإنه كان من المرجئة. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن ابن عون قال: كان إبراهيم يعيب على ذر قوله في الإرجاء. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن حكيم بن جبير قال: قال إبراهيم: المرجئة أخوف عندي على أهل الإسلام من عدتهم من الأزارقة. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن سعيد بن صالح قال: قال إبراهيم: أنا لِفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. وروى أيضا عن أبيه، عن المؤمل، عن سفيان قال: قال إبراهيم: تَرَكَتْ المرجئة الدين أرق من ثوب سابري. وروى أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" بإسناده، عن أبي حمزة الثمالي الأعور قال: قلت لإبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه، لفقوا قولا، فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم. وروى أيضا بإسناده عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة

أضر على الملة من هذه؛ يعني أهل الإرجاء. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبيه بإسناده، عن الأوزاعي قال: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء. وروى أيضا عن أبيه، عن عبد الله بن نمير، عن سفيان، وذكر المرجئة فقال: رأي محدث، أدركنا الناس على غيره. وروى أيضا عن أبيه، عن عبد الله بن نمير، عن جعفر الأحمر قال: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة. وروى أيضا عن أبيه، عن حجاج، سمعت شريكا -وذكر المرجئة- فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن سعيد بن جبير وذكر المرجئة فقال: اليهود. وبإسناده عن سعيد أيضا أنه قال: المرجئة يهود القبلة. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن سعيد أيضا أنه قال: مثل المرجئة مثل الصابئين. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: إني لأعلم أهل دينين؛ أهل ذينك الدينين في النار؛ قوم يقولون: إنما الإيمان كلام،

حقيقة مذهب المرجئة

وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس وإنما هما صلاتان. ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: إني لأعلم أهل دينين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار؛ قوم يقولون: إن كان أولنا ضلالا، ما بال خمس صلوات في اليوم والليلة، إنما هما صلاتان العصر والفجر، وقوم يقولون: إنما الإيمان كلام، وإن زنى وإن قتل. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد تقدم قريبا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: القدرية، والمرجئة». وحديث ابن عباس وجابر - رضي الله عنهم - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: أهل الإرجاء، وأهل القدر». وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا مثله. وقال أبو بكر الآجري: حدثنا جعفر بن محمد الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن المرجئة فقال: مَن قال إن الإيمان قول. وقال القاضي أبو الحسين في الطبقات في ترجمة إسحاق بن منصور الكوسج: قال إسحاق: قلت لأحمد: فسِّر لي المرجئة، قال: المرجئة تقول: الإيمان قول، ورأيت في عقيدة منسوبة للإمام أحمد ما نصه: المرجئة هم الذين يزعمون أن الإيمان مجرد التصديق، وأن الناس لا

يتفاضلون في الإيمان، وأن إيمانهم وإيمان الملائكة والأنبياء واحد، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن الإيمان ليس فيه استثناء، وأن من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقا، هذا كله قول المرجئة، وهو أخبث الأقاويل. انتهى. وقال حرب بن إسماعيل الكرماني -صاحب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه- في مسائله المشهورة: مَن زعم الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ، ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ، ومن زعم أنه المعرفة في القلب وإن لم يتكلم بها فهو مرجئ. وهذا الذي قاله حرب كله من كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقد ساقه بهذا اللفظ بعينه القاضي أبو الحسين في ترجمة أحمد بن جعفر بن يعقوب أبي العباس الفارسي الاصطخري، وسيأتي بأبسط من هذا قريبا إن شاء الله تعالى. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: سمعت أبي سُئل عن الإرجاء فقال: نحن نقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، إذا زنا وشرب الخمر نقص إيمانه. وقال أبو داود سمعت أحمد يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، الصلاة والزكاة والحج والبر كله من الإيمان، والمعاصي تنقص من الإيمان.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا سويد بن سعيد الهروي قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل. والمرجئون أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرّا بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليس سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود؛ أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين فسُمي عاصيا من غير كفر، وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا، وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي رسول كما يعرفون أبنائهم، وأقروا به باللسان، ولم يتبعوا شرائعه فسماهم الله كفارا، فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء، أما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس، وتركهم على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود، والله أعلم. وقال أيضا: حدثني محمد بن علي بن الحسن، حدثنا إبراهيم بن الأشعث، سمعت الفضيل -يعني ابن عياض- يقول: الإيمان؛ المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والتفضيل بالعمل. قال: وسمعت الفضيل يقول: أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل

سبب تسمية المرجئة بهذا الاسم

السنة: الإيمان؛ المعرفة والقول والعمل. وقال أبو بكر الآجري: أخبرنا خلف بن عمرو العكبري قال: حدثنا الحميدي قال: سمعت وكيعا يقول: أهل السنة يقولون الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة. وروى أبو نعيم في الحلية، عن محمد بن أسلم الطوسي أنه قال: الجهمية زعمت أن الإيمان المعرفة فحسب بلا إقرار ولا عمل، والمرجئة زعمت أنه قول بلا تصديق قلب ولا عمل، فكلاهما شيعة إبليس. قال أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله تعالى: المرجئة فرقة من فرق الإسلام، يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي؛ أي أخَّرَه عنهم، والمرجئة تهمز ولا تهمز، وكلاهما بمعنى التأخير. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": المرجئة بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة، ويجوز تشديدها بِلا همز، نُسبوا إلى الإرجاء -وهو التأخير- لأنهم أخّروا الأعمال عن الإيمان فقالوا: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا، وإن إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة. انتهى.

الأدلة في دفع مذهب المرجئة

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية: وكذلك الإرجاء حين تقر بالـ ... معبود تصبح كامل الإيمان فارم المصاحف في الحشوش وخرب الـ ... بيت العتيق وجد في العصيان واقتل إذا ما استطعت كل موحد ... وتمسحنْ بالقس والصلبان واشتم جميع المرسلين ومن أتوا ... من عنده جهراً بلا كتمان وإذا رأيتَ حجارة فاسجد لها ... بل خر للأصنام والأوثان وأُقرّ أن الله جل جلاله ... هو وحده الباري لذي الأكوان وأقر أن رسوله حقا أتى ... من عنده بالوحي والقرآن فتكون حقاً مؤمناً وجميع ذا ... وزر عليك وليس بالكفران هذا هو الإرجاء عند غلاتهم ... من كل جهمي أخي الشيطان وقد روى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي: حدثنا أبي، حدثنا الميموني، حدثنا أبو عثمان ابن الشافعي، سمعت أبي يقول ليلة للحميدي: ما يحتج عليهم -يعني أهل الإرجاء- بآية أحج من قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب، حدثنا أبو حاتم قال: سمعت الربيع يحكي عن الشافعي قال: ما أعلم في الرد على المرجئة شيئا أقوى من قول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}. قلت: ومن أقوى ما يُرد به على المرجئة أيضا قول الله تعالى: {إِنَّ

هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]، وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَاسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 1 - 3]؛ فوصف المؤمنين بأنهم الذين يعملون الصالحات فدل على أن الإيمان قول وعمل. ومن أقوى ما يحتج به عليهم أيضا قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]. وقال حنبل: حدثنا الحميدي قال: أُخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن، ما لم يكن جاحدا، إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه، إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به.

نفرة السلف من أهل الإرجاء

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد الرقي، حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء فعرضه، فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً، وكان أشدهم ميمون بن مهران، وعبد الكريم بن مالك؛ فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله لا يؤويه وإياه سقف بيت إلا في المسجد، قال معقل: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي قال: فإذا هو يقرأ سورة يوسف قال: فسمعته قرأ هذا الحرف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} -مخففة- قال: قلت: إن لنا إليك حاجة فاخل لنا، ففعل، فأخبرته أن قوما قِبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال: فقال: أوليس يقول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}؟ فالصلاة والزكاة من الدين، قال: فقلت له: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة، قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزله: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}، فما هذا الإيمان الذي زادهم؟! قال: قلت: فإنهم قد انتحلوك، وبلغني أن ذرا دخل عليك وأصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقلت: هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو، ما كان هذا مرتين أو ثلاثا، قال: ثم قدمت المدينة فجلست إلى نافع، فقلت له: يا أبا عبد الله، إن لي إليك حاجة، قال: سرا أم علانية؟ فقلت: لا بل سر، قال: رُبَّ سر لا خير فيه، فقلت له: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص،

فقال: ما حاجتك؟ قال: قلت: أخلني من هذا، قال: تنح يا عمرو، قال: فذكرت له بدؤ قولهم فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله» قال: قلت: إنهم يقولون نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا هو كافر، قال معقل: ثم لقيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله (¬1) أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات؟! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» قال: ثم لقيت الحكم بن عتيبة، قال: فقلت: إن ميمونا وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة فعرضوا عليك قولهم فقبلت قولهم، قال: فقبل ذلك علي ميمون وعبد الكريم؟! قلت: لا، قال: دخل عليَّ منهم اثنا عشر رجلا وأنا مريض فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية فقال يا رسول الله، إن عليّ رقبة مؤمنة أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت: نعم، قال: «وتشهدين أني رسول الله؟» قالت: نعم، قال: «وتشهدين أن الجنة حق وأن النار حق؟» قالت: نعم، قال: ¬

_ (¬1) لفظ الجلالة سقط من الأصل، ولا يستقيم الكلام بدونه، ولعله سقط سهوا.

«أتشهدين أن الله يبعثك من بعد الموت؟» قالت: نعم، قال: «فأعتقها، فإنها مؤمنة» قال: فخرجوا وهم ينتحلوني، قال: جلست إلى ميمون بن مهران فقلت له: يا أبا أيوب، لو قرأت لنا سورة ففسرتها، قال: فقرأ أو قرئت {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} حتى إذا بلغ {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} قال: ذاكم جبريل، والخيبة لمن يقول: إيمانه كإيمان جبريل. وقال عبد الله أيضا: حدثني سويد بن سعيد، حدثنا عبد الله بن ميمون، قال: سمعت ابن مجاهد قال: كنت عند عطاء بن أبي رباح، فجاء ابنه يعقوب فقال: يا أبتاه، إن أصحابا لنا يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، فقال: يا بُني، كذبوا، ليس إيمان من أطاع الله، كإيمان من عصى الله. وقال أيضا: حدثني أبي وقرأته عليه، حدثنا مهدي بن جعفر، حدثنا الوليد بن مسلم، سمعت أبا عمرو -يعني الأوزاعي- ومالكا وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى، هو في زيادة أبدا، وينكرون على من يقول أنه مستكمل الإيمان، وأن إيمانه كإيمان جبريل. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. وقال البخاري أيضا: وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن

أعش فسأبينها لكم حتى تعلموا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص. وفي سنن أبي داود، عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان». وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم في مستدركه، عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل الإيمان» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وقال عمار: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار». وقال أيضا: باب الصلاة من الإيمان، وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]: يعني صلاتكم عند البيت، ثم ذكر حديث البراء - رضي الله عنه - في تحويل القبلة، وفي آخره قال زهير: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء في حديثه هذا: إنه مات على القبلة قبل أن تُحوّل رجال وقُتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم نحوه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

رد شهادة المرجئة

زاد الحاكم: قال عبيد الله بن موسى: هذا الحديث يخبرك أن الصلاة من الإيمان. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: بلغني أن شعبة قال لشريك: كيف لا تجيز شهادة المرجئة؟ قال: كيف أجيز شهادة قوم يزعمون أن الصلاة ليست من الإيمان. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علقمة، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله. وذكر البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه الجملة الأخيرة منه تعليقا بصيغة الجزم. وفي الحديث الصحيح عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطهور شطر الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن إلا أبا داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وله عن رجل من بني سليم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الطهور نصف الإيمان» وقال: هذا حديث حسن. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق أبو عبد الله، حدثنا أبو إسحاق، قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت فضيلا -يعني ابن عياض- يقول: يا سفيه ما أجهلك، لا ترضى أن

الفرق بين أهل السنة وغيرهم من المبتدعة في باب الإيمان

تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان! لا والله، لا يستكمل العبد حتى يؤدي ما فرض الله عليه، ويجتنب ما حرم الله عليه، ويرضى بما قسم الله له، ثم يخاف مع ذلك أن لا يُقبل منه. وقال عبد الله أيضا: وجدت في كتاب أبي: أُخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]، قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمنا حقا فهو من أهل الجنة، فمن لم يشهد أن المؤمن حقا من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله، مكذب أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقا مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمنا حقا حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبدٌ حتى يؤثر شهوته على دينه، يا سفيه ما أجهلك، لا ترضى أن تقول أنا مؤمن حتى تقول أنا مؤمن حقا مستكمل الإيمان، والله لا تكون مؤمنا حقا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا أن لا يقبل الله منك. ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل، وقرأ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، فقد سمى الله دين القيمة بالقول والعمل، فالقول:

تفاضل الناس في الإيمان

الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي بالبلاغ، والعمل: أداء الفرائض واجتناب المحارم، وقرأ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54 - 55]، وقال الله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، فالدين: التصديق بالعمل كما وصفه الله وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته، والتفريق فيه: ترك العمل والتفريق بين القول والعمل، قال الله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، فالتوبة من الشرك جعلها الله قولا وعملا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان؛ افتراء على الله، وخلافا لكتابه، وسنة نبيه، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة. وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال، ولا يتفاضلون بالإيمان، فمن قال ذلك فقد خالف الأثر، ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، وتفسير من يقول الإيمان لا يتفاضل يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذاك

فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحدا للفرائض رادا على الله أمره. ويقول أهل السنة: إن الله قرن العمل بالإيمان، وإن فرائض الله من الإيمان، قالوا: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فهذا موصول العمل بالإيمان، ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه مقطوع غير موصول. وقال أهل السنة: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فهذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع. وقال أهل السنة: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فهذا موصول، وكل شيء من أشباه هذا فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق. ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى، وارتكب المعاصي والمحارم ولم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقال فضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه بعد الشهادة والتوحيد، والشهادة للنبي بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض؛ صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة. قيل له -يعني فضيلا-: هذا من رأيك تقوله أو سمعته؟ قال: بل سمعناه وتعلمناه، ولو لم آخذه من أهل الفقه والفضل لم أتكلم به.

الشك والاستثناء في الإيمان

وقال فضيل: يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل؛ فمن قال: الإيمان قول وعمل، فقد أخذ بالتوثيقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر؛ لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه. وقال -يعني فضيلا-: قد بيّنت لك إلا أن تكون أعمى. وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت، وقال: إذا قلت: آمنت بالله فهو يجزيك أن تقول أنا مؤمن، وإذا قلت: أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول آمنت بالله؛ لأن آمنت بالله أمر، قال الله: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ} الآية، وقولك: أنا مؤمن تكلف لا يضرك أن لا تقوله، ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار، وأكرهه على وجه التزكية. وقال فضيل: سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا الله حسبهم إن شاء الله عذبهم، وإن شاء غفر لهم، لا تدري ما لهم عند الله. قال فضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر، وأنا مؤمن إن شاء الله، قال فضيل: الاستثناء ليس بشك. وقال فضيل: المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده،

حقيقة الإيمان عند أهل السنة وزيادته ونقصانه

ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده. وقال فضيل: الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال. وقال عبد الله أيضا: حدثنا محمد بن سليمان بن حبيب -لوين- سمعت ابن عيينة غير مرة يقول: الإيمان قول وعمل، قال ابن عيينة: أخذناه ممن قبلنا: قول وعمل، وأنه لا يكون قول بغير عمل، قيل لابن عيينة: يزيد وينقص؟! قال: فأي شيء إذًا. وقال أيضا: حدثني أبي، سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركنا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء، والإيمان قول وعمل، قال يحيى: وكان سفيان الثوري ينكر أن يقول: أنا مؤمن، وحسَّن يحيى الزيادة والنقصان ورآه. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن عبيد بن عمير الليثي قال: ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يُعقل، وعمل يُعمل. وروى أيضا في كتاب "الزهد" بإسناده، عن الحسن قال: كان يقال: إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، وإنما الإيمان ما وقر في القلب، وصدقه العمل. وروى أبو بكر الآجري بإسناده، عن سفيان الثوري قال: إن الإيمان يزيد وينقص، قال سفيان: وأقول: إن الإيمان ما وقر في الصدور،

وصدقه العمل. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: قال مالك، وشريك، وأبو بكر بن عياش، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد: الإيمان؛ المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد كان يفرق بين الإيمان والإسلام، ويجعل الإسلام عاما والإيمان خاصا. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن مجاهد قال: الإيمان يزيد وينقص، والإيمان قول وعمل. وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل. وبإسناده عن يحيى بن سليم قال: قال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: لا يصلح قول إلا بعمل. وقال عبد الله أيضا: حدثني سليمان بن شبيب قبل سنة ثلاثين ومائتين، حدثنا عبد الرزاق قال: كان معمر وابن جريج والثوري ومالك وابن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، قال عبد الرزاق: وأنا أقول ذلك: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وإن خالفتهم فقد ضللتُ إذا وما أنا من المهتدين. وقال أيضا: حدثني أبي قال: بلغني أن مالك بن أنس، وابن جريج، وشريكا، وفضيلا بن عياض قالوا: الإيمان قول وعمل. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن شماس، سمعت جرير بن

عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، قيل له: كيف تقول أنت؟ قال: أقول مؤمن إن شاء الله، قال إبراهيم بن شماس: وسُئل فضيل بن عياض وأنا أسمع عن الإيمان فقال: الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان والقبول بالقلب والعمل به، قال: وسمعت يحيى بن سليم يقول: الإيمان قول وعمل. وروي أن ابن جريج قال: الإيمان قول وعمل، قال: وسألت أبا إسحاق الفزاري عن الإيمان فقلت: الإيمان قول وعمل؟ قال: نعم، قال: وسمعت ابن المبارك يقول: الإيمان قول وعمل، والإيمان يتفاضل، قال: وسمعت النضر بن شميل يقول: الإيمان قول وعمل. وقال الخليل النحوي: إذا أنا قلت مؤمن، فأي شيء بقي؟ قال: وسألت بقية وابن عياش -يعني إسماعيل- فقالا: الإيمان قول وعمل. وقال عبد الله أيضا: حدثني محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت أبي يقول: الإيمان قول وعمل. وقال أيضا: حدثنا إبراهيم بن دينار الكرخي، سمعت خالد بن الحارث يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وروى أبو بكر الآجري بإسناده، عن الحسن قال: الإيمان قول، ولا قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بسنة. وبإسناده عن يحيى بن سليم قال: سألت سفيان الثوري عن الإيمان قال: قول وعمل، وسألت ابن جريج فقال: قول وعمل، وسألت

محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان فقال: قول وعمل، وسألت نافع بن عمر الجمحي فقال: قول وعمل، وسألت مالك بن أنس فقال: قول وعمل، وسألت فضيل بن عياض فقال: قول وعمل، وسألت سفيان بن عيينة فقال: قول وعمل. وبإسناده عن يحيى بن سليم الطائفي، عن هشام، عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل، قال يحيى بن سليم: فقلت لهشام: فما تقول أنت؟ فقال: الإيمان قول وعمل، وكان محمد الطائفي يقول: الإيمان قول وعمل، قال يحيى بن سليم: وكان مالك بن أنس يقول: الإيمان قول وعمل، قال يحيى: وكان سفيان بن عيينة يقول كذلك، قال: وكان فضيل بن عياض يقول: الإيمان قول وعمل، وبإسناده عن المؤمل بن إسماعيل قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وروى أبو نعيم في الحلية، من طريق أبي حاتم قال: سمعت حرملة بن يحيى يقول: اجتمع حفص الفرد، ومصلان الإباضي عند الشافعي في دار الجروي وأنا حاضر، واختصم حفص الفرد ومصلان في الإيمان، فاحتج على مصلان وقوي عليه، وضعف مصلان، فحمي الشافعي وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فطحن حفصا الفرد وقطعه. وكذا ذكر هذه القصة ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" بنحو رواية أبي نعيم. وقال الحاكم في "مناقب الشافعي": حدثنا أبو العباس الأصم،

أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وروى أبو نعيم في الحلية عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ثم تلا هذه الآية {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} الآية. وتقدم قول الإمام أحمد فيما نقله عنه ابنه عبد الله، وأبو داود السجستاني رحمهم الله تعالى. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: كتاب الإيمان وهو قول وفعل، ويزيد وينقص، قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}، وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا}، وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، وقوله تعالى ذكره: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}، وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}، والحب في الله، والبغض في الله من الإيمان. انتهى. وروى أبو القاسم اللالكائي بسنده عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: القول أن الإيمان قول وعمل عند أهل السنة من شعائر السنة، وحكى غير واحد

الإجماع على ذلك. ثم ذكر قول الشافعي رحمه الله تعالى في "الأم": وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر. وذكر القاضي أبو الحسين في الطبقات في ترجمة أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله أبي العباس الفارسي الاصطخري قال: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بعروقها، المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وأدركت مَن أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، فكان قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون الاستثناء شكا، إنما هي سنة ماضية عند العلماء، قال: وإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ، ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ، ومن زعم أن المعرفة تنفع في القلب لا يتكلم بها

تسمية من قال من السلف: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

فهو مرجئ. إلى آخر الرسالة. وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتاب "الإيمان" ما رواه أبو عمر الطلمنكي بإسناده المعروف، عن موسى بن هارون الحمال قال: أملى علينا إسحاق بن راهويه: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لا شك أن ذلك كما وصفنا، وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة، وآحاد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتابعين هلم جرا على ذلك، وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه، وكذلك في عهد الأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالعراق، ومالك بن أنس بالحجاز، ومعمر باليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم إلا من باين الجماعة، واتبع الأهواء المختلفة، فأولئك قوم لا يعبأ الله بهم لما باينوا الجماعة. وقال الشيخ أيضا: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى: هذه تسمية من كان يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص: من أهل مكة: عبيد بن عمير الليثي، عطاء بن أبي رباح، مجاهد بن جبر، ابن أبي مليكة، عمرو بن دينار، ابن أبي نجيح، عبيد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان، عبد الملك بن جريج، نافع بن جبير، داود بن عبد الرحمن العطار، عبد الله بن رجاء. ومن أهل المدينة: محمد بن شهاب الزهري، ربيعة بن أبي

تسمية من قال بذلك من أهل اليمن

عبد الرحمن، أبو حازم الأعرج، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، يحيى بن سعيد الأنصاري، هشام بن عروة بن الزبير، عبد الله بن عمر العمري، مالك بن أنس، محمد بن أبي ذئب، سليمان بن بلال، عبد العزيز بن عبد الله؛ يعني الماجشون، عبد العزيز بن أبي حازم. ومن أهل اليمن: طاووس اليماني، وهب بن منبه، معمر بن راشد، عبد الرزاق بن همام. ومن أهل مصر والشام: مكحول، الأوزاعي، سعيد بن عبد العزيز، الوليد بن مسلم، يونس بن يزيد الأيلي، يزيد بن أبي حبيب، يزيد بن شريح، سعيد بن أبي أيوب، الليث بن سعد، عبيد الله بن أبي جعفر، معاوية بن صالح، حيوة بن شريح، عبد الله بن وهب. وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة: ميمون بن مهران، يحيى بن عبد الكريم، معقل بن عبيد الله، عبيد الله بن عمرو الرقي، عبد الملك بن مالك، المعافى بن عمران، محمد بن سلمة الحراني، أبو إسحاق الفزاري، مخلد بن الحسين، علي بن بكار، يوسف بن أسباط، عطاء بن مسلم، محمد بن كثير، الهيثم بن جميل. ومن أهل الكوفة: علقمة، الأسود بن يزيد، أبو وائل، سعيد بن جبير، الربيع بن خيثم، عامر الشعبي، إبراهيم النخعي، الحكم بن عتيبة، طلحة بن مصرف، منصور بن المعتمر، سلمة بن كهيل، مغيرة الضبي، عطاء بن السائب، إسماعيل بن أبي خالد، أبو حيان، يحيى بن سعيد،

تسمية من قال بذلك من أهل البصرة

سليمان بن مهران الأعمش، يزيد بن أبي زياد، سفيان بن سعيد الثوري، سفيان بن عيينة، الفضيل بن عياض، أبو المقدام، ثابت بن العجلان، ابن شبرمة، ابن أبي ليلى، زهير، شريك بن عبد الله، الحسن بن صالح، حفص بن غياث، أبو بكر بن عياش، أبو الأحوص، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير، أبو أسامة، عبد الله بن إدريس، زيد بن الحباب، الحسين بن علي، علي الجعفي، محمد بن بشر العبدي، يحيى بن آدم، ومحمد، ويعلى، وعمرو بنو عبيد. ومن أهل البصرة: الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، قتادة بن دعامة، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يونس بن عبيد، عبد الله بن عون، سليمان التيمي، هشام بن حسان الدستوائي، شعبة بن الحجاج، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، أبو الأشهب، يزيد بن إبراهيم، أبو عوانة، وهيب بن خالد، عبد الوارث بن سعيد، معتمر بن سليمان التيمي، يحيى بن سعيد القطان، عبد الرحمن بن مهدي، بشر بن المفضل، يزيد بن زريع، المؤمل بن إسماعيل، خالد بن الحارث، معاذ بن معاذ، أبو عبد الرحمن المقري. ومن أهل واسط: هشيم بن بشير، خالد بن عبد الله، علي بن عاصم، يزيد بن هارون، صالح بن عمر، عاصم بن علي. ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم، أبو جمرة نصر بن عمران، عبد الله بن المبارك، النضر بن شميل، جرير بن عبد الحميد الضبي، قال

نقول أهل السنة لمذهب السلف في باب الإيمان

أبو عبيد: هؤلاء جميلا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة، المعمول به عندنا. انتهى ما ذكره شيخ الإسلام قدس الله روحه. وتقدم قول الفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد: أنهم أخذوا عن أهل الفقه والفضل قبلهم أن الإيمان قول وعمل. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه أئمة العلم في ذلك، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار؛ حجازا وعراقا، وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وقال حرب بن إسماعيل الكرماني -صاحب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه- في مسائله المشهورة: هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة، المتمسكين بها المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، قال: وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبد الله بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، وكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا

يكون الاستثناء شكا؛ إنما هي سنة ماضية عند العلماء، فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة، ومن لم يرَ الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ، ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ، ومن زعم أنه المعرفة في القلب وإن لم يتكلم بها فهو مرجئ. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله. وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، قال: ولا تجزئ معرفة القلب، ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين. انتهى. وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين": جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يردون من ذلك شيئا -إلى أن قال-:

الأدلة على مذهب السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وقال في آخره: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب. انتهى. وقال أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي في شرح البخاري: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من الآيات. انتهى. فهذا ما حكاه الأئمة الأعلام من إجماع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأنه يزيد وينقص؛ مع دلالة الكتاب والسنة على ذلك في آيات وأحاديث كثيرة ليس هذا موضع بسطها، وقد تقدم ذكر شيء منها في كلام بعض الأئمة. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا}، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص، ثم ساق حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير». وفي رواية أخرى عن أنس: «من إيمان» مكان «خير».

وساق أيضا حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} قال عمر - رضي الله عنه -: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم جمعة. وقال أبو داود في سننه: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، ثم ساق حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: «أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل؛ فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان؛ فهذا نقصان الدين». وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان دينها».

وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن» قالت امرأة منهن: وما نقصان عقلها ودينها؟ قال: «شهادة امرأتين منكن بشهادة رجل، ونقصان دينكن الحيضة؛ فتمكث إحداكن الثلاث والأربع لا تصلي» هذا لفظ الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن أبي سعيد وابن عمر - رضي الله عنهم -. وترجم لهذا الحديث وما في معناه بقوله: باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه. وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وما وجد من ناقص الدين والرأي، أغلب للرجال ذوي الأمر على أمورهم من النساء» قالوا: وما نقص دينهن ورأيهن؟ قال: «أما نقص رأيهن؛ فجعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقص دينهن؛ فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد، وابنه عبد الله، وأبو بكر الآجري، عن عمير بن حبيب بن خماشة الخطمي - رضي الله عنه - أنه قال: إن الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته، وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه، وفي رواية: وخشيناه، فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه.

وروى ابن ماجة، وعبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه كان يقول: الإيمان يزداد وينقص. وروى عبد الله أيضا، وأبو بكر الآجري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مثل ذلك. ورواه ابن ماجة، والآجري أيضا، عن أبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم -. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن طلحة، عن زبيد اليامي، عن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله تعالى. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش ومسعر، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ - رضي الله عنه -: اجلس بنا نؤمن ساعة. وذكره البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه معلقا بصيغة الجزم. وفي رواية لأحمد وابن أبي شيبة: كان معاذ يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، عن شريك، عن هلال بن حميد، عن عبد الله بن عكيم، سمعت ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، عن حماد بن نجيح، حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنا

فتيانا حزاورة، فتعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا. ورواه ابن ماجة في سننه، عن علي بن محمد، عن وكيع به مثله. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير قال: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال: لأزداد إيمانا. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة قال: ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبو هلال، حدثنا قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له». وروى أبو بكر الآجري بإسناده، عن سفيان بن عيينة أنه قيل له: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: أليس تقرؤون القرآن {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} في غير موضع؟ قيل: ينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص. وبإسناده عن الحميدي قال: سمعت ابن عيينة يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد، لا تقولن يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي، بلى حتى لا يبقى منه شيء. وبإسناده عن الأوزاعي قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فاحذروه فإنه مبتدع. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد، حدثني عثمان بن محمد بن أبي شيبة

تفاضل المؤمنين في الإيمان

قال: سألت ابن إدريس، وجريرا، ووكيعا فقالوا: الإيمان يزيد وينقص. وقال أيضا: حدثني عبدة بن عبد الكريم بن حسان بن طريف -من أهل مرو- حدثنا بقية، حدثني موسى بن أعين الجزري، سمعت عبد الكريم بن مالك الجزري، وخصيف بن عبد الرحمن يقولان: يزداد وينقص. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا أبو نعيم، سمعت سفيان -يعني الثوري- يقول: الإيمان يزيد وينقص. وقال أيضا: حدثني أبي قال: سمعت وكيعا يقول: الإيمان يزيد وينقص، وكذا كان يقول سفيان. فهذا ما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصانه. وأما تفاضل المؤمنين في الإيمان فقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، ثم ساق حديثي أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في الدلالة على ذلك. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني يعقوب الدورقي قال: قال عبد الرحمن بن مهدي: أنا أقول الإيمان يتفاضل. وتقدم قول عطاء بن أبي رباح، وفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك في ذلك. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي قال: كان وكيع يقول: ترى إيمان الحجاج بن يوسف مثل إيمان أبي بكر وعمر؟!. وقال أيضا: حدثنا هارون بن معروف غير مرة، حدثنا ضمرة، عن ابن

الاستثناء في الإيمان

شوذب، عن محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن الهذيل بن شرحبيل قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح به. سمعت أبي يحدث عن هارون فذكر مثله. وأما الاستثناء في الإيمان فقال أبو بكر الآجري: حدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا أبو بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان، ما تقول فيه؟ قال: أما أنا فلا أعيبه. قال أبو عبد الله: إذا كان تقول إن الإيمان قول وعمل، واستثناء مخافة واحتياطا ليس كما يقولون على الشك، أفما تستثني للعمل؟ قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} فهذا استثناء بغير شك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل» قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان. وقال الآجري أيضا: حدثنا جعفر الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله يعجبه الاستثناء في الإيمان، فقال له رجل: إنما الناس رجلان مؤمن وكافر، فقال أبو عبد الله: فأين قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}؟! قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحدا إلا على الاستثناء. قال: وسمعت أبا عبد الله مرة أخرى يقول: سمعت يحيى يقول: ما

أدركت أحدا من أهل العلم ولا بلغني إلا على الاستثناء. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول إذا سُئل: أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، وإن شاء قال: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص، أو قال: إن شاء الله، ليس يكره، وليس بداخل في الشك. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله، فليس هو بشاك، قيل له: إن شاء الله أليس هو شك؟! فقال: معاذ الله، أليس قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}؟! وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له: وعليه تبعث إن شاء الله، فأي شك ههنا؟ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون». وقال أبو داود: سمعت أحمد قال له رجل: قيل لي: أمؤمن أنت؟ فقلت: نعم، هل عليَّ في ذلك شيء؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد وقال: هذا كلام الإرجاء، قال الله عز وجل: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قول وعمل؟ فقال الرجل: بلى، قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل؟ قال: لا، قال: فكيف تعيب أن تقول: إن شاء الله وتستثني. قال أبو داود: فأخبرني أحمد بن شريح أن أحمد بن حنبل كتب إليه في هذه المسألة: أن الإيمان قول وعمل، فجئنا بالقول ولم نجيء بالعمل، فنحن مستثنون في العمل.

قال أبو داود: وسمعت أحمد قال له هذا الرجل: أعلي في هذا شيء إن قلت: أنا مؤمن؟ فقال أحمد: لا تقل أنا مؤمن حقا ولا البتة ولا عند الله. قال أبو داود: قال أحمد: قال يحيى: وكان ينكر أن يقول أنا مؤمن. وروى الآجري بإسناده، عن الأوزاعي قال: ثلاث هن بدعة؛ أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقا، وأنا مؤمن عند الله تعالى. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: قال أبي: نُصيِّر الاستثناء على العمل؛ لأن القول قد جئنا به. وقال أيضا: سمعت أبي يقول: الحجة على من لا يستثني قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل القبور: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». وقال أيضا: حدثني أبي، حدثني وكيع قال: قال سفيان الثوري: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ونرجو أن يكون كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله. وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا علي بن بحر، سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل، وكان الأعمش، ومنصور، ومغيرة، وليث، وعطاء بن السائب، وإسماعيل بن أبي خالد، وعمارة ابن القعقاع، والعلاء بن المسيب، وابن شبرمة، وسفيان الثوري، وأبو يحيى صاحب الحسن، وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون على من لا يستثني. وقال عبد الله أيضا: قرأت على أبي، حدثنا مهدي بن جعفر الرملي،

حدثنا الوليد -يعني ابن مسلم- سمعت أبا عمرو -يعني الأوزاعي- ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز ينكرون أن يقول: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن أقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وقال أبو بكر الآجري: قال أبو بكر المروذي: سمعت بعض مشيختنا يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء. وروى أبو نعيم في الحلية، عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان -يعني الثوري- يقول: من كره أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله فهو عندنا مرجئ، يمد بها صوته. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا مؤمل، حدثنا حماد بن زيد، سمعت هشاما يقول: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم، ويهابان مؤمن. وقال أبو بكر الآجري: حدثنا أبو نصر محمد بن كردي، حدثنا أبو بكر المروذي قال: قيل لأبي عبد الله: نقول نحن المؤمنون؟ قال: نقول نحن المسلمون، ثم قال أبو عبد الله: الصوم والصلاة والزكاة من الإيمان، قيل له: فإن استثنيت في إيماني أكون شاكا؟ قال: لا. وروى الآجرى أيضا بإسناده، عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود: إني مؤمن، قال: فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، يزعم أنه مؤمن! قال: فاسألوه: أهو في الجنة، أو في النار؟! قال: فسألوه، فقال: الله

أعلم، فقال: ألا وَكَلْتَ الأولى كما وكلت الأخرى. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا يحيى، حدثنا شعبة، حدثني سلمة بن كهيل، عن إبراهيم، عن علقمة قال رجل عند عبد الله: إني مؤمن، قال: قل إني في الجنة، ولكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. إسناده صحيح. وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن، لقيت ركبا فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون، قال عبد الله: أفلا قالوا: نحن أهل الجنة؟! إسناده صحيح. وقال عبد الله أيضا: حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن مغيرة قال: قال رجل لأبي وائل: أسمعتَ ابن مسعود يقول: من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة؟! قال: نعم. إسناده صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق جرير عن مغيرة قال: سمعت الفضيل بن عمرو يقول لأبي وائل -شقيق بن سلمة-: أسمعت عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: من قال إني مؤمن فليقل: إني في الجنة؟! فقال: نعم، فقال المغيرة: وقرأ أبو وائل -شقيق بن سلمة-: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ..} حتى بلغ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إلى قوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، قرأها وهو يعرض بالمرجئة. قال الحاكم:

الغرض من بسط الكلام في مسألة الإيمان

صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه. فهذا ما يسره الله تعالى من أقوال أئمة السلف في باب الإيمان، والرد على المرجئة، وقد تركت كثيرا من أقوالهم إيثارا للاختصار، وفيما ذكرته كفاية لمبتغي الحق إن شاء الله تعالى، والغرض من البسط في هذا الفصل خمسة أمور: أحدها: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في باب الإيمان، وتقرير ذلك بأدلته من الكتاب والسنة والإجماع. الثاني: الحث على اتباعهم في ذلك، والسير على منهاجهم، فإنه يُرجى لمن اتبعهم بإحسان أن يفوز بالجنة والرضوان، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. الثالث: التحذير من مخالفتهم واتباع غير سبيلهم، فإن ذلك هو الضلال البعيد والخسران المبين، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. الرابع: تنبيه المنحرفين عن أقوال سلف الأمة وأئمتها في باب الإيمان، وإرشادهم إلى الحق والصواب، لعل الله تعالى أن يشرح صدورهم للسنة، واتباع السلف الصالح، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الخامس: الرد على من زعم أن الإيمان هو التصديق الجازم فحسب، والإنكار على من يعتني بتعلمه وتعليمه، فإن هذا القول دائر بين رأي المرجئة الضالة والجهمية الكافرة، فمن قال: إن الإيمان هو التصديق بالقلب فحسب فقوله قول الجهمية، ومن قال: إنه الإقرار باللسان فحسب بلا تصديق بالقلب ولا عمل بالجوارح فقوله قول المرجئة، وكذلك القول بأنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان فحسب هو أيضا من أقوال المرجئة، وكل هذه الأقوال من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته كما في حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» رواه ابن ماجة.

قال أبو السعادات ابن الأثير: محدثات الأمور جمع محدثة -بالفتح- وهي ما لم يكن معروفا في كتاب ولا سنة ولا إجماع. انتهى. وقد ذكرنا أن حدوث الإرجاء كان في آخر عصر الصحابة رضوان الله عليهم، وما زال ينتشر في المسلمين، ويكثر القائلون به إلى زماننا هذا الذي اشتدت فيه غربة الدين، وصار أهل السنة في غاية الغربة بين أهل البدع والضلالة والجهالات، وعاد المعروف بين الأكثرين منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وصارت أقوال السلف في باب الإيمان مهجورة، لا يعتني بها إلا الأقلون، وأما الأكثرون فهم عنها معرضون، لا يعرفونها، ولا يرفعون بها رأسا، وإنما المعروف عندهم ما رآه المبتدعون الضالون، المخالفون للكتاب والسنة والإجماع من أن الإيمان هو التصديق الجازم لا غير، فهذا هو الذي يُعتنى بتعلمه وتعليمه في أكثر الأقطار الإسلامية، فما أشدها على الإسلام وأهله من بلية، وما أعظمها من مصيبة ورزية، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبض على جمر فتنجو من البلا وبالجملة فالأمر في هذه الأزمان كما قال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى: طغى الماء من بحر ابتداع على الورى ... فلم ينج منه مركب وركاب أسائل من دار الأراضي سياحة ... عسى بلدة فيها هدى وصواب فيخبر كل عن قبائح ما رأى ... وليس لأهليها يكون متاب

لأنهم عدوا قبائح فعلهم ... محاسن يرجى عندهن ثواب ترى الدين مثل الشاة قد وثبت له ... ذئاب وما له عنهن ذهاب (¬1) لقد مزقته بعد كل ممزق ... فلم يبقَ منه جثة وإهاب وليس اغتراب الدين إلا كما ترى ... فهل بعد هذا الاغتراب إياب فيا غربة هل يرتجى منك أوبة ... فيجبر من هذا البعاد مصاب فلم يبق للراجي سلامة دينه ... سوى عزلة فيها الجليس كتاب ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل. وصوابه كما في ديوان الصنعاني: ترى الدين مثل الشاة قد وثبت لها ذئاب وما عنه لهن ذهاب ديوان الأمير الصنعاني ص19، طبع مطبعة المدني بالقاهرة 1384هـ.

فصل: كلام نفيس للعلامة ابن القيم رحمه الله في حدوث البدع وضررها على الإسلام والمسلمين

فصل وقد رأيت كلاما حسنا للإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى، ذكر فيه حدوث البدع، وضررها على الإسلام والمسلمين، فأحببت أن أذكره ههنا لما فيه من الفوائد الجليلة. قال رحمه الله تعالى ورضي عنه في كتاب "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة": لما أظلمت الأرض، وبعد عهدها بنور الوحي، فكانوا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «إني خلقت عبادي حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب» فكان أهل العقل كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي، فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان، والصلبان، والنيران، والكواكب، والشمس، والقمر، والحيرة، والشك، أو السحر، أو تعطيل الصانع والكفر به، فأطلع الله لهم شمس الرسالة في تلك الظلمة سراجا منيرًا، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكورا، فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه، ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا يرونه، فكانوا كما قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، وقال تعالى:

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فمضى الرعيل الأول وضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء، ولم يلتبس بظلم الآراء، وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا ذلك النور الذي اقتبسوه منهم، فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأمة، ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على الآراء والعقول مقدمين، ولم يدَّع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض الوحي والنصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها، فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر، ورموهم بالعظائم، وتبرؤوا منهم، وحذروا من سبيلهم أشد التحذير، وكانوا لا يرون السلام عليهم ومجالستهم. ولما كثرت الجهمية في آخر عصر التابعين، كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا فكانوا قليلين أذلاء مذمومين، وأولهم وشيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه، ولهذا يسمى مروان الجعدي، وعلى رأسه سلب الله بني أمية

الملك والخلافة، وشتتهم في البلاد، ومزقهم كل ممزق، ببركة شيخ المعطلة النفاة، ولما اشتهر أمره في المسلمين، طلبه خالد بن عبد الله القسري، وكان أميرا على العراق حتى ظفر به، فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر وكان ضحيته، ثم طفئت تلك البدعة، والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال، وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما، إلى أن جاء أول المائة الثالثة، وولي على الناس عبد الله المأمون، وكان يحب أنواع العلوم، وكان مجلسه عامرا بأنواع المتكلمين في العلوم، فغلب عليه حب المعقولات، فأمر بتعريب كتب يونان، وأقدم لها المترجمين من البلاد، فترجمت له وعربت، فاشتغل بها الناس، والملك سوق، ما ينفق فيه جلب إليه، فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية، ممن كان أخوه الأمين قد أقصاهم، وتتبعهم بالحبس والقتل، فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه، فقبلها واستحسنها، ودعا الناس إليها، وعاقبهم عليها، فلم تطل مدته، فصار الأمر بعده إلى المعتصم وهو الذي ضرب أحمد بن حنبل، فقام بالدعوة بعده، والجهمية تصوب فعله، وتدعو إليه، وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتجسيم، وهم الذين غلبوا على مجلسه وقربه، والقضاة والولاة منهم فإنهم تبع لملوكهم، ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص

وتقديم العقول والآراء عليها فإن الإسلام كان في ظهور وقوة، وسوق الحديث نافقة، وأعلام السنة على ظهر الأرض، ولكن كانوا على ذلك يحومون، وحوله يدندنون، وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة، فمن بين أعمى مستجيب، ومن بين مكره مفتد منهم بإعطاء ما سألوه وقلبه مطمئن بالإيمان، وثبّت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد، فأقامهم لنصر دينه، وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون، فإنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد، ولم يتركوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رغبوهم به من الوعد ولا لما أرعبوهم به من الوعيد، ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة، وأخمد تلك الكلمة، ونصر السنة نصرا عزيزا، وفتح لأهلها فتحا مبينا، حتى صرخ بها على رؤوس المنابر، ودعي إليها في كل باد وحاضر، وصنف في ذلك الزمان في السنة ما لا يحصيه إلا الله. ثم انقرض ذلك العصر وأهله، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله على بصيرة، إلى أن جاء ما لا قبل لأحد به وهم جنود إبليس حقا؛ المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم؛ وهم القرامطة، والباطنية، والملاحدة؛ ودعوهم إلى العقل المجرد، وأن أمور الرسل تعارض المعقول، فهم القائمون بهذه الطريقة حق القيام بالقول والفعل، فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى، وكسروا عسكر الخليفة مرارا

عديدة، وقتلوا الحاج قتلاً ذريعاً، وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج إليها، وقلعوا الحجر الأسود من مكانه، وقويت شوكتهم، واستفحل أمرهم، وعظمت الرزية، واشتدت بهم البلية. وأصل طريقهم أن الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل، وإذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل، وفي زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام بالمشرق والمغرب، وكاد الإسلام أن ينهدم ركنه لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق وظهرت من المغرب قليلا قليلا، حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على كثير من بلاد المغرب، ثم أخذوا يطأون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها، وبنوا بها القاهرة، وأقاموا على هذه الدعوى مصر حين بها هم وولاتهم وقضاتهم. وفي زمانهم صنفت رسائل من أخوان الصفا، والإشارات، والشفا، وكتب ابن سينا فإنه قال: كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية، وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في الخفية، وشعار هذه الدعوة تقديم العقل على الوحي، واستولوا على بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز، واستولوا على العراق سنة، وأهل السُنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة، فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء! وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء! حتى استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيدهم في أيام نور الدين وصلاح الدين، فابل الإسلام من علته بعدما وطن نفسه على العزاء،

وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء، وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق، وثابت إليه روحه بعد أن بلغت التراق، وقيل من راق، واستنقذ الله بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب، وأخذ كل من أنصار الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من نصرة دينه بنصيب، وعلت كلمة السنة وأُذن بها على رؤوس الأشهاد، ونادى المنادي يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد، فإنه أبلغ الزاد ليوم المعاد، فعاش الناس في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة على بلاد الشرق، فقدّموا الآراء والعقول والسياسة والأذواق على الوحي، وظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعهما، فبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وعاثوا في القرى والأمصار، وكاد الإسلام أن يذهب اسمه، وينمحي رسمه، وكان مشار هذه الفئة وعالمها الذي يرجع إليه وزعيمها المعول فيها عليه شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل وإمامه في وقته نصير الشرك والكفر الطوسي، فلم يُعلم في عصره أحد عارض بين العقل والنقل معارضة رام بها إبطال النقل بالكلية مثله، فإنه أقام الدعوة الفلسفية، واتخذ الإشارات عوضا عن السور والآيات، وقال: هذه عقليات قطعية برهانية قد قابلت تلك النقليات الخطابية، واستعرض أهل الإسلام وعلماء الإيمان والقرآن والسنة على السيف، فلم يبقَ منهم إلا من قد أعجزه، قصدا لإبطال الدعوة الإسلامية، وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للنجسية السحرة، والمنجمين، والفلاسفة، والملاحدة، والمنطقيين، ورأى إبطال الأذان، وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالي، فحال بينه وبين ذلك من تكفل

بحفظ الإسلام ونصره، وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي والعقل، ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت؛ فإنه أول مَن عارض بين العقل والنقل، وقدم العقل، فكان من أمره ما قص الله، وورَّث الشيخ تلامذته هذه المعارضة، فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منها كل محنة وبلية، وأصل كل بلية في العالم كما قال محمد الشهرستاني من معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع، والناس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة، ثم ظهر مع هذا الشيخ المتأخر المعارض أشياء لم تكن تعرف قبله، حسيات العميدي، وحقائق ابن عربي، وتشكيكات الرازي، وقام سوق الفلسفة والمنطق، وعلوم أعداء الرسل. ثم نظر الله إلى عباده، وانتصر لكتابه ودينه، وأقام جندا يغزو ملوك هؤلاء بالسيف والسنان، وجندا يغزو علماءهم بالحجة والبرهان، ثم نبغت نابغة منهم في رأس القرن السابع، فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه، فأقام على غزوهم مدة حياته باليد والقلب واللسان، وكشف للناس باطلهم، وبين تلبيسهم وتدليسهم، وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول، وشفى واشتفى، وبيَّن تناقضهم ومفارقتهم لحكم العقل الذي به يدلون، وإليه يدعون، وأنهم أترك الناس لأحكامه وقضاياه، فلا وحي ولا عقل، فأرداهم في حفرهم، ورشقهم بسهامهم، وبيَّن صحيح معقولاتهم خدم لنصوص الأنبياء، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقوله: ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت؛ يريد به

إبليس لعنه الله تعالى، حين خالف ما أمره الله به من السجود لآدم، وعارض الأمر الشرعي بما أداه إليه عقله الفاسد، فقال: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33]، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]، وقد تعارض عنده النص وعقله، فقدم العقل على النص، وأبى عن السجود لآدم، واستكبر وكان من الكافرين. ولم يزل أعداء النصوص يقتبسون من هذا العقل الفاسد إلى زماننا هذا، ويسمون ميراثهم من شيخهم القديم حرية الفكر، يعنون أن الفكر مطلق فيما يراه، ولا يتقيد بشرع ولا غيره، هذا ما يراه زنادقة هذه الأزمان، مثل صاحب الأغلال وأشباهه من الملاحدة والمنافقين، وقد جرى صاحب الأغلال في ميدان المعارضة بين الشرع وبين العقل الفاسد أمدا بعيدا، زلت فيه إلى الحضيض قدمه، وهوى منتكسا على أم رأسه، عافانا الله وإخواننا المسلمين مما ابتلاه به وابتلى به إخوانه من المرتدين والمنافقين المعارضين للنصوص الثابتة بعقولهم الفاسدة تقليدا منهم لشيخهم القديم الملعون، ولتلامذته من طواغيت الإفرنج وأشباههم من الضُّلاَّل، قاتل الله الجميع أنى يُفكون. ثم إنه بعد عصر شيخ الإسلام أبي العباس وأصحابه رحمهم الله تعالى كثر الشرك وعبادة القبور، وأنواع البدع المضلة، وظهر ذلك وانتشر في جميع الأقطار الإسلامية، وعمت الفتنة بذلك وطمت، ودخل فيها الخواص والعوام إلا من شاء الله تعالى وهم الأقلون، وما زال الشر يزداد ويكثر أهله، والخير ينقص ويقل أهله، حتى ضعف الإسلام جدا، وكاد أن

يقضى عليه، فأقام الله تعالى لدينه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه، ونوّر ضريحه، فجاهد المشركين وأهل البدع مدة حياته باليد واللسان، وأعانه الله بجند عظيم من أنصار الدين وحماة الشريعة المطهرة، فريق منهم يجاهدون المبطلين بالحجة والبيان، وفريق يجالدون المعاندين بالسيف والسنان، حتى أعاد الله للإسلام عزه ومجده، ورفعت بحمد الله أعلام السنة النبوية، والعلوم السلفية في الجزيرة العربية، ونكست فيها أعلام الشرك والبدع والتقاليد الجاهلية، وسار على منهاج الشيخ من بعده أولاده وتلاميذه، وغيرهم ممن هداهم الله ونوّر بصائرهم من أهل نجد وغيرها من الأمصار، وكلما مضى منهم سلف صالح أقام الله بعده خلفا عنه يقوم مقامه، وقليل ما هم في زماننا، فالله المستعان.

القسم الثالث من أقسام المنتسبين إلى الإسلام وهم أهل السنة والجماعة

فصل وأما القسم الثالث: وهم أهل السنة والجماعة؛ الذين سلموا من نجاسة الشرك وأدران البدع، فهؤلاء هم أهل الإسلام الحقيقي، وهم الجماعة والسواد الأعظم، وهم أولى الناس باسم الإسلام؛ لأنهم آثروا اتباع الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، ولم يلتفتوا إلى ما خالف ذلك من زخارف الأئمة المضلين. وهم على طبقتين: الطبقة الأولى: المتقون الذين سلموا من فتنة الشبهات وفتنة الشهوات المحرمة، وصبروا على دينهم، وهؤلاء هم الغرباء حقا، الذين جاءت الأحاديث بغبطتهم، والثناء عليهم، ووعدهم بالحسنى وجزيل الثواب، كما تقدم ذكر ذلك، وما أقلهم في هذه الأزمان التي من تمسك فيها بدينه كان كالقابض على الجمر. الطبقة الثانية: العصاة الذين سلموا من فتنة الشبهات ولكنهم تلوثوا بفتن الشهوات المحرمة، مِن ترك مأمور، وإتيان محظور، فهؤلاء {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. وأهل الطبقة الأولى غرباء في أهل هذه الطبقة، كما أن الطبقتين غرباء في طوائف البدع، والجميع غرباء في سائر فرق الكفر والضلال.

فصل: لا تجتمع الأمة على ضلالة

فصل ومن لطف الله ورحمته بهذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة، كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أجاركم من ثلاث خلال؛ لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة». وفي حديث أبي بصرة الغفاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها» رواه الإمام أحمد. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يجمع أمتي -أو قال أمة محمد- على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار» رواه الترمذي، والحاكم، وأبو نعيم في الحلية، وقال الترمذي وأبو نعيم: حديث غريب. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة» الحديث رواه ابن ماجة. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدًا» رواه الحاكم في مستدركه. فلا تزال -ولله الحمد والمنة- طائفة من هذه الأمة على الحق والاستقامة حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]، قال علي - رضي الله عنه -: هي التي تنجو من هذه الأمة. رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب (الاعتصام).

وروى ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أمتي قومًا على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل». وفي سنن أبي داود (¬1)، ومستدرك الحاكم، عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون» وهم أهل العلم: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون». حدثنا إسماعيل، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، أخبرني حميد، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله». ورواه في كتاب العلم بلفظ: «لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». ورواه في باب علامات النبوة وفي كتاب التوحيد من طريق عمير بن ¬

_ (¬1) جاء في اللحق بين السطرين في هذا الموضع [وروى الإمام أحمد]، ويستقيم الكلام إذا قيل: وروى الإمام أحمد، وأبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه .. إلخ. على المعهود من سياق الوالد رحمه الله تعالى.

هانئ أنه سمع معاوية - رضي الله عنه - يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» قال عمير: فقال مالك بن يخامر: قال معاذ: وهم بالشام، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذًا يقول: وهم بالشام. وقد روى مسلم في صحيحه حديث المغيرة من طرق، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن المغيرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون». وروى أيضا حديث معاوية من طريق عمير بن هانئ قال: سمعت معاوية على المنبر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس». ورواه أيضا من طريق يزيد بن الأصم، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان ذكر حديثًا رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم أسمعه روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على منبره حديثًا غيره- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة». وفي صحيحه أيضًا عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا،

فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة». وفي صحيحه أيضا عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبرقاني في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يبرح هذا الدين قائمًا يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» (¬1). وفيه أيضا عن عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو بن العاص نحوه، وسيأتي بلفظه. وفيه أيضا عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة». وعن معاوية بن قرة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال طائفة من ¬

_ (¬1) جاء لحقًا بين السطرين (رواه أحمد).

بقاء طائفة من الأمة ظاهرة إلى قرب قيام الساعة علم من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -

أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها» رواه ابن ماجة. فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمته لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال فيهم طائفة على الحق والاستقامة، ظاهرين على من ناوأهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وفي هذا معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلم من أعلام نبوته، فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى موجودًا من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زمننا هذا في آخر القرن الرابع عشر، ولا يزال كذلك حتى يأتي أمر الله تعالى المذكور في هذا الأحاديث، وهو هبوب الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان عند اقتراب قيام الساعة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبعث ريحًا من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدًا في قلبه مثقال حبة، وفي رواية: مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته». وفيه أيضا عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- نحوه، وسيأتي. وفيه أيضا من حديث النواس بن سمعان الكلابي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فبينما هم كذلك إذا بعث الله ريحًا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم».

ورواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة وغيرهم، وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه» قال: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم، والنسائي. ولمسلم أيضا عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى» فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أن ذلك تامًا، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبة فتوفَّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم». ففي هذه الأحاديث الصحيحة دليل على أن المراد بقوله: «حتى يأتي أمر الله» أنه هبوب الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين عند اقتراب قيام الساعة. وأما قوله في حديث يزيد بن الأصم، عن معاوية بن أبي سفيان: «إلى يوم القيامة»، ومثله في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وكذلك

الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق

قوله في حديث حميد عن معاوية: «حتى تقوم الساعة»، ومثله عن جابر بن سمرة، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وقرة بن إياس، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم؛ فيحتمل أن المراد بذلك دنو الساعة المتناهي في القرب منها، بحيث يعقبه قيامها ولا يتخلف عنه إلا زمنًا يسيرًا، وبهذا جزم النووي رحمه الله تعالى، ويحتمل أن يكون ذكر القيامة والساعة على بابه، ويكون المراد بذلك قيامة الطائفة المنصورة وساعتهم، وهو وقت موتهم بهبوب الريح الطيبة، وبهذا جزم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، ويدل لهذا ما في الحديث الصحيح أن الأعراب كانوا يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فينظر إلى أحدثهم سنا فيقول: «إن يعمر هذا لم يدرك الهرم حتى تقوم الساعة» أي ساعة أولئك الذين يسألونه. والاحتمال الأول أولى، وحاصل الاحتمال الثاني يرجع إليه، والله أعلم. والدليل على أن المراد بما في الأحاديث التي سلفت دنو الساعة وقربها؛ أن الساعة العظمى إنما تقوم على شرار الخلق، كما في حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد ذكر موت الطائفة المنصورة: «ويبقى شرار الناس؛ يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن وغيرهم، وفي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، رواه مسلم، والنسائي. وفي المسند، وصحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من شرار الناس مَن تدركهم الساعة وهم أحياء».

وفي المسند أيضًا، وصحيح مسلم عنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس». وفي سنن ابن ماجة، والمعجم الصغير للطبراني، ومستدرك الحاكم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي المستدرك أيضا عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك أيضا. وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي. وفي رواية لمسلم: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله». وفي مستدرك الحاكم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى أبو نعيم في الحلية من طريق مجاهد، عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: لا إله إلا الله». وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم» فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له مسلمة: يا عقبة، اسمع ما يقول عبد الله! فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا

المراد بالطائفة المنصورة

فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك»، فقال عبد الله: «أجل، ثم يبعث الله ريحًا كريح المسك، مسها مس الحرير، فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة». والمراد بالطائفة المذكورة في هذا الحديث والأحاديث قبله، أهل السنة والجماعة. وجزم البخاري في صحيحه أنهم أهل العلم كما تقدم ذكره قريبًا. وقال أيضا: باب قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم. انتهى. وقال الترمذي رحمه الله تعالى في جامعه: قال محمد بن إسماعيل: قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث. انتهى. وكذا قال ابن المبارك، وأحمد بن سنان، وابن حبان وغيرهم، وبوَّب عليه ابن حبان في صحيحه فقال: ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة، ثم ساق حديث معاوية بن قرة عن أبيه. وقال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. رواه عنهما الحاكم في علوم الحديث. قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.

وعن علي بن المديني رواية أنهم العرب، واستدل بحديث: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» قال: والمراد بالغرب: الدلو؛ أي العرب؛ لأنهم أصحابها، لا يستقي بها أحد غيرهم. ذكره يعقوب بن شيبة، ونقله عنه صاحب المشارق وغيره. قلت: ويؤيد ذلك ما رواه ابن ماجة من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - في ذكر الدجال، وفيه: فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال: «هم قليل، وجُلهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى؛ ليقدم عيسى يصلي، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم» الحديث. وأصل هذه القطعة ثابت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أخبرتني أم شريك أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليفرن الناس من الدجال في الجبال»، قالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال: «هم قليل». ورواه الترمذي في جامعه وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وله أيضًا شاهد في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله

هذه الأمة». وله أيضًا شاهد في مسند الإمام أحمد من حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكر الحديث وفيه: «وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند صلاة الفجر، فيقول له أميرهم: يا روح الله، تقدم صل، فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض، فيتقدم أميرهم فيصلي» الحديث. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في بني تميم: «هم أشد أمتي على الدجال». وبنو تميم قبيلة كبيرة من العرب. ففي هذين الحديثين؛ حديث أبي أمامة، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنهما- دليل على أن العرب هم الطائفة التي تقاتل المسيح الدجال، ويدخل مع العرب تبعًا من كان متمسكًا بالكتاب والسنة من غيرهم. قال النووي رحمه الله تعالى: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض، قال: وفيه دليل لكون الإجماع حجة، وهو أصح ما استدل به له من الحديث. انتهى. واحتج به الإمام أحمد رحمه الله تعالى على أن الاجتهاد لا ينقطع ما

محل الطائفة المنصورة

دامت هذه الطائفة موجودة. وقد اختلف في محل هذه الطائفة؛ فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس. كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قيل: يا رسول الله، أين هم؟ قال: «بيت المقدس». وقال معاذ -رضي الله عنه-: هم بالشام. وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائما، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة. قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: قلت: يشهد له الواقع، وحال أهل الشام، وأهل بيت المقدس من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن، فإنهم في زمانهم على الحق، يدعون إليه، ويناظرون عليه، ويجاهدون فيه، وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة، والله على كل شيء قدير، ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة، وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار؛ في الشام منهم أئمة، وفي الحجاز، وفي مصر، وفي العراق، واليمن، وكلهم على الحق يناضلون ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلامًا لأهل السنة وحجة على كل مبتدع، فعلى هذا فهذه الطائفة قد تجتمع، وقد

تفترق، وقد تكون في الشام، وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها. انتهى. قلت: الظاهر من حديث أبي أمامة وقول معاذ -رضي الله عنهما- أن ذلك إشارة إلى محل هذه الطائفة في آخر الزمان، عند خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. ويدل لذلك ما تقدم ذكره من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - الذي رواه ابن ماجة وفيه: فقالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال: «هم قليل، وجلهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح ..» الحديث. ويدل له أيضا ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن حوالة الأزدي - رضي الله عنه - قال: وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسي أو هامتي، ثم قال: «يا ابن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي المسند أيضا، وجامع الترمذي، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستخرج نار من حضرموت أو من نحو بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس» قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ فقال: «عليكم بالشام» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وفي المسند أيضا، وسنن أبي داود، وصحيح الحاكم، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة، فيها مدينة يقال له دمشق، خير منازل المسلمين يومئذ» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ولفظ أبي داود: «إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق، من خير مدائن الشام». قال المنذري في (تهذيب السنن): قال يحيى بن معين، وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم، فقال يحيى: ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث صدقة بن خالد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق». انتهى. ففي هذه الأحاديث دليل على أن جُل الطائفة المنصورة يكون بالشام في آخر الزمان، حيث تكون الخلافة هناك، ولا يزالون هناك ظاهرين على الحق حتى يرسل الله الريح الطيبة فتقبض كل من في قلبه إيمان، كما تقدم في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» قال معاذ: وهم بالشام؛ يعني أنهم يكونون بالشام حين يأتي أمر الله تعالى وهو هبوب الريح الطيبة، فأما في زماننا وما قبله، فهذه الطائفة متفرقة في أقطار الأرض كما يشهد له الواقع من حال هذه الأمة منذ فتحت الأمصار في عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم، ولا يختص بها مصر من أمصار المسلمين دون الآخر، ولكنها تكثر في بعض الأماكن أحيانًا

المجددين لهذا الدين

ويعظم شأنها ويظهر أمرها ببركة الدعوة إلى الله وتجديد الدين، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» رواه أبو داود، والحاكم في مستدركه. ومن أعظم المجددين بركة في آخر هذه الأمة، شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني وأصحابه في آخر القرن السابع وأول الثامن، فقد نفع الله بدعوته ومصنفاته الخلق الكثير، والجم الغفير، منذ زمانه إلى زماننا هذا، وكذلك مصنفات تلاميذه وتلاميذهم قد نفع الله بها آخر هذه الأمة، جزاهم الله جميعًا عن المسلمين خيرًا وأثابهم الجنة والرضوان. وجلالة كتبهم، وعظم قدرها، وغزارة فوائدها معروف عند أتباع السنة النبوية والطريقة السلفية، ففيها يتنافس المتنافسون، وعليها وعلى مثلها يعول المحققون، ومن طالع كتب شيخ الإسلام أبي العباس وتلميذه ابن القيم رحمة الله عليهما ونظر فيها بعين العدل والإنصاف عرف مالها من المزية والفضل على أكثر المصنفات، ورأى العجب العجاب من قوة تأثيرها في النفوس وإزالة أدواء القلوب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وللشيخين اليد البيضاء والهمة العلياء في نصر السنة وعلوم السلف ونشرها، وقمع البدع ومحدثات الخلوف وإخمادها وكسرها، فهما في هذا الباب فارسا الميدان، ومحرزا قصب السبق على أكثر الفرسان. تلك المكارم لا ما روي عن هرم ... ولا الذي قيل عمن ضم غمدان وللشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى ورضي عنه مقامات مشهورة في الدعوة إلى الله تعالى، وجهاده أعداءه من الكفار والمنافقين، وقد قام في قتال

التتار مقامًا لم يقمه غيره، وبذل نفسه وماله في جهادهم ودفعهم عن حوزة المسلمين حتى كسر الله شوكتهم ويسر هزيمتهم على يد السلطان ومن معه من جنود مصر والشام، وكل ذلك بسبب الشيخ قدس الله روحه، فإنه ذهب بنفسه إلى السلطان وجنود مصر مستصرخا بهم على التتار، فاجتمع بأركان الدولة، وحضهم على الجهاد، وتلا عليهم الآيات والأحاديث، وأخبرهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب؛ فلبوا دعوته وسارعوا إلى لقاء العدو، ولما التقى الجمعان جعل الشيخ رحمه الله تعالى يوصي المسلمين بالصبر والثبات، ويحرضهم على القتال، ويعدهم النصر والظفر إن صبروا ويقسم على ذلك؛ فحقق الله أمله، وأبر قسمه، وصدق الله وعده، وأعز جنده، وهزم التتار وحده، ومنح المسلمين أكتافهم يقتلونهم كيف شاؤوا، ولم يفلت منهم إلا القليل، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فالله يجزيه الذي هو أهله ... من جنة المأوى مع الرضوان قال ذلك فيه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية، وقال فيه أيضًا: وله المقامات الشهيرة في الورى ... قد قامها لله غير جبان نصر الإلهَ ودينَه وكتابَه ... ورسولَه بالسيف والبرهان ولما اجتمع أبو حيان -شيخ النحاة في زمانه- بشيخ الإسلام أبي العباس قال: ما رأت عيناي مثله، ثم مدحه على البديهة في المجلس فقال:

ومن أعظم المجددين بركة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

لما أتينا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ماله وزر على محياه من سيما الأولى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمرُ حَبْر تسربل منه دهره حِبرا ... بحر تقاذف من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مُضَرُ فأظهر الدين إذا آثاره درست ... وأخمد الشرك إذ طارت له شررُ يا من تحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر قوله: مقام سيد تيم؛ يعني بذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فإنه قام في جهاد المرتدين أعظم قيام، حتى ردهم الله ببركة جهاده إلى الحق، وأدخلهم من الباب الذي خرجوا منه. وللشيخ تقي الدين في بيان الحق، وتجديد الدين، والجهاد بالنفس والمال لإعلاء كلمة الله ونصر دينه شبه قوي بما فعله الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- أيام الردة؛ فلهذا شبه أبو حيان فعله بفعله، وإن لم يكونا سواء. وثناء أكابر العلماء في آخر القرن السابع فما بعده نثرا ونظمًا على هذا الإمام المجدد أكثر من أن يحصر، وقد صنفت في مناقبه كتب كثيرة شهيرة، فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه، إنه جواد كريم. ومن أعظم المجددين بركة في آخر هذه الأمة أيضا شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام؛ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه ونور ضريحه، نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك وأنواع

حال الجزيرة قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

البدع والخرافات ما عم وطم في كثير من البلاد إلا بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى، وأما الأكثرون فقد عاد المعروف بينهم منكرًا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وكان الأمر كما قال معاصره محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى: طغى الماء من بحر ابتداع على الورى ... . . . . . . . . . إلى آخر الأبيات التي تقدم ذكرها قريبا. وكان سكان الجزيرة العربية في ذلك الوقت على أسوأ الحالات في أمور دينهم ودنياهم. أما في أمر دينهم: فكان كثير منهم في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، يدعون الأموات، ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران وغيرها، ويطوفون بقبور الصالحين ومن يظن صلاحه، ويرجون الخير والنصر ودفع الضر من هذه المعتقدات، وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية وجهالات الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلوات، ومنع الزكاة، وإتيان المنكرات ما هو معروف مشهور. وأما في أمر دنياهم: فكانوا على غاية من الخوف والجوع والتفرق والشقاق، ليس لهم جماعة، ولا إمام يرون له طاعة، قد غلبت عليهم الفوضى، وكثر فيهم الهرج، وصار ضعيفهم نهبة لقويهم. ففتح الله تعالى بصيرة شيخ الإسلام، وألهمه رشده، وسدده ووفقه

حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

لمعرفة ما بعث به رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق، وشرح صدره لقبوله والعمل به، ثم قوى عزيمته على الدعوة إليه، وتجديد أمر الإسلام، فشمر عن ساق الجد والاجتهاد، قام في هذا الأمر العظيم أعظم قيام، فدعا الناس إلى ما كان عليه السلف الصالح في باب العلم والإيمان، وفي باب العمل الصالح والإحسان، دعاهم إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، ونهاهم عن التعلق بغير الله من الملائكة والأنبياء والصالحين وعن عبادتهم من دون الله، ونهاهم عن الاعتقاد في القبور والأشجار والأحجار والعيون والغيران وغيرها مما يعتقد فيه المشركون، ودعاهم إلى تجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال والأعمال، ونهاهم عن الابتداع في الدين، وحذرهم عما أحدث الخلوف من البدع والتقاليد والتعصبات التي أعمت الأكثرين، وأصمَّتهم وأضلتهم عن سواء السبيل، ودعاهم إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وترك المنكرات، ونهاهم عن التهاون بالحج وصيام رمضان، ودعاهم إلى الجماعة والائتلاف والسمع والطاعة لإمام المسلمين، والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما دعاهم إليه ورغبهم فيه من الأمور الدينية ومكارم الأخلاق، وما نهاهم عنه مما يضاد ذلك من المحظورات ومساوئ الأخلاق وسفسافها، وهو في كل ذلك متبع لا مبتدع، فجعل الله في قيامه أعظم البركة، ونفع الله بدعوتهم ومصنفاته الخلق الكثير والجم الغفير من أهل نجد وغيرهم منذ زمانه إلى يومنا هذا، ومحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده، وهدم بيوت الكفر ومعابده، وكبت

الطواغيت والملحدين، وقمع الفجار والمفسدين، ورفع الله بدعوته أعلام الشريعة المحمدية والملة الحنيفية في أرجاء الجزيرة العربية، وصار لهم جماعة وإمام يدينون له بالسمع والطاعة في المعروف، وعقدت الألوية والرايات للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقيمت الحدود الشرعية والتعزيرات الدينية، وحوفظ على الصلوات في الجماعات، وأخذت الزكاة من الأغنياء وفرقت في مستحقيها، وقام سوق الوعظ والتذكير وتعلم العلوم الشرعية وتعليمها، ونشرت السنة وعلوم الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واشتغل الناس بها، ورفعت رايات الجهاد بالحجة والبرهان لدحض المعاندين من المشركين وأهل البدع، وغيرهم من المبطلين المعارضين لهذه الدعوة العظيمة بالشبه الباطلة والإفك والبهتان، حتى سارت بحمد الله تعالى في الآفاق، وجعل الله لها من القبول ما لا يحد ولا يوصف، وجمع الله بسببها القلوب بعد شتاتها، وألف بينها بعد عداوتها، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا متحابين بجلال الله، متعاونين على البر والتقوى، وأعطاهم الله من الأمن والنصر والعز والظهور ما هو معروف مشهور، وفتح الله عليهم البلاد العربية من بحر فارس إلى بحر القلزم، ومن اليمن إلى أطراف الشام والعراق، فأصبحت نجد محطًا لرحال الوافدين، تُضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين، وعاد دين الإسلام فيها بسبب هذه الدعوة غضًا طريًا، له شبه قوي بحالته في الصدر الأول، فجزى الله هذا الإمام المجدد عن المسلمين خيرًا، وأثابه الجنة والرضوان. وقد شهد له أهل العلم والفضل من أهل عصره ومن بعدهم أنه أظهر

شهادة علماء العصر وعقلائه من المسلمين وغيرهم لحقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

توحيد الله، وجدد دينه ودعا إليه، واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته ونصيحته لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل قد اعترف أعداء الإسلام والمسلمين من عقلاء النصارى وغيرهم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول. قال صاحب المنار محمد رشيد رضا في مقدمة كتاب (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان): لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث، ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه في كتابه، وعلى لسان رسوله خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة، فنهدت لمناهضته واضطهاده القوى الثلاث: قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطغام. وتصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليه أفراد من أهل الأمصار المختلفة، ومنهم رجل من أحد بيوت العلم في بغداد، قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد، وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة الشيخ أحمد زيني دحلان المتوفى سنة 1304 هـ، ألَّفَ رسالة في ذلك تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته فيما هو مصيب فيه، وكان نسمع في صغرنا أخبار

الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله، فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولا سيما تواريخ الإفرنج، الذي بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها، وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذًا لتجدد مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفًا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى، على أن العلامة الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت كان ألف كتابًا في تاريخ الإسلام ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقال إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال: إن الوهابيين في عهده متشددون، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبد الحميد، ورأيت شيخنا محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم وتشدد خلفهم، وأنه لولا ذلك لكان إصلاحهم عظيمًا ورجي أن يكون عامًا، وقد ربى الملك عبد العزيز غلاتهم المتشددين منذ سنتين بالسيف تربية يُرجى أن تكون تمهيدًا لإصلاح عظيم، وإن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل، فبحثوا وتثبتوا

وتبينوا كما أمر الله تعالى فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون، لا أمانة لهم، وأثنى عليه فُحُولهم في عصره وبعد عصره، وعدّوه من أئمة المصلحين المجددين للإسلام ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم، ولا تتسع هذه المقدمة لنقل شيء من ذلك. انتهى ملخصًا. قلت: التشدد الذي أشار إليه إنما وقع في بعض الأعراب في زمن يسير نحو عشر سنين، وذلك أنهم أقبلوا على الدين إقبالًا كليا مع الجهل الكثيف، وأقبلوا على العمل وأهملوا التعلم، فصار التشدد غالبًا عليهم، حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن خلعوا أيديهم من الطاعة، وفارقوا الجماعة، وبغوا عليهم، وبدأوهم بالقتال، فقاتلهم الإمام ومن معه من الحاضرة والبادية في عدة وقعات؛ أولها في منتصف شوال سنة ألف وثلاثمائة وسبع وأربعين حتى أطفأ الله فتنتهم، وكفى المسلمين شرهم، فأما الحاضرة وكثير من البادية فكانوا على الطريقة السلفية ولله الحمد والمنة، ولم يكن فيهم تشدد كما يزعمه بعض الناس، فإطلاق التشدد على العموم متعقب على من ادعاه كما لا يخفي على من له أدنى إلمام ومعرفة بحال أهل نجد، والله الموفق. وقال محمد رشيد رضا في هامش (صيانة الإنسان): من المعلوم بالتواتر أن الشيخ رحمه الله جدد الإسلام في نجد وغير نجد. وقال أيضا في مقدمة رسائل العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: لا نعرف في تاريخ الإسلام شعبًا دخل في جميع الأطوار التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى غربة وجهادًا وهجرة وحجاجًا وقوة غير هذا الشعب النجدي؛

فقد ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في وقت كان حال أهله شرًا من حال المشركين وأهل الكتاب في زمن البعثة؛ من شرك وخرافات وبدع وضلالات وجهالة غالبة، فدعا إلى عبادة الله وحده، والرجوع إلى أصل الإسلام الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، فعاداه في بلاده الأكثرون، ووالاه فيها الأقلون، فنصر الله تعالى أولياءه من أمراء آل سعود وأتباعهم على أعدائهم، ثم تصدى لعداوتهم الترك وأعوانهم فكانت الحرب سجالا بينهم، وعاقب الله السعوديين زمنا بما كان من تخاذل بينهم، وتقصير في إقامة بعض سنن الله في دولتهم، ثم كانت العاقبة الحسنى لهم عندما تابوا من ذنبهم ورجعوا إلى وحدتهم واعتبروا بقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقوله في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما ظهر عليهم المشركون في غزوة أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقوله: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. امتحن الله النجديين بتصدي الترك لعداوتهم، وتأليب العرب وشرفاء الحجاز والمصريين عليهم؛ لئلا يعيدوا ملك العرب وسلطانهم الذي سلبوه منهم، فحاربوهم باسم الإسلام، ونشروا الكتب والفتاوى في رميهم بالكفر والابتداع، وقد اغتر كثيرون بما فعلوه باسم الإسلام، وشايعهم عليه أفراد وجماعات هم دون الخوارج الذين خرجوا على الإمام أمير المؤمنين الخليفة الرابع للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكفَّروه وتبرؤوا منه، ودون الذين بغوا عليه وحاربوه مع معاوية، نعم هم دونهم علما بالدين وعملا به، بل كفَّرهم

وقاتلهم أخلاط؛ منهم المسلم والكافر، والزنديق والمنافق، وعسكر لا يقيم الصلاة، ولا يؤدي الزكاة، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الخمر والزنا واللواط، وأكل أموال الناس بالباطل، والقتال لطاعة الرؤساء ولو في معصية الله تعالى، بهذا كله كان علماؤهم وأمراؤهم، في حالة تشبه حال مسلمي الصدر الأول في مقاومة المشركين؛ الذين يدعون غير الله، ويجعلون لله أندادًا كالذين جاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي مقارعة تاركي الصلاة ومانعي الزكاة كالذين قاتلهم أبو بكر الخليفة الأول - رضي الله عنه -، وفي مجالدة البغاة كالذين قاتلهم الخليفة الرابع علي - رضي الله عنه -، وفي مجادلة المبتدعين من الروافض والجهمية كالذين ناضلهم الإمام أحمد وإخوانه أئمة السنة بالحجة، فأعادوا نشأة الإسلام العملية سيرتها الأولى في الصدر الأول؛ من ولاية وبراءة، وهجرة وجهاد بالسيف والسنان وبالحجة والبرهان، على حين صارت النصوص الخاصة بهذه الأحوال منسية أو كالمنسية عند غيرهم من شعوب الإسلام ودوله؛ لا يتعلق بها عمل من الأعمال، ولا حكم من الأحكام. وقال أيضا في مقدمة (مجموعة الحديث النجدية): وقد كان مما استعمل الله به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -مجدد الدين في نجد وما حولها- أن أحيا مدارسة السنة النبوية فيها؛ للاهتداء بها، لا لمجرد التبرك بألفاظها، ولا لأجل الاستقلال فيها دون ما كتب المحدثون والفقهاء في شرحها والاستنباط منها، بل نرى مَن هداهم الله تعالى بدعوته، وأنقذهم من الجاهلية التي عادت إلى أكثر أهل جزيرة العرب، ما زالوا يحبون كتب فقه شيخ السنة الأكبر الإمام أحمد - رضي الله عنه - مع خيار كتب التفسير والحديث

لغير الحنابلة من علماء السنة، فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة. انتهى. وقال الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن سند في رده على الراوي العراقي: لقد نهض الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نهضة أكرِم بها من نهضة، وقد بلغ من أمر تلك النهضة أن عرفها الباحثون في علل رقي الأمم وانحطاطها حتى من غير علماء الإسلام، وإليك نظرية أحد علماء الغرب في تلك النهضة الإصلاحية التي نهض بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ قال لوشروب ستودارد الأمريكي في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) المترجم إلى اللغة العربية بقلم الأستاذ عجاج نويهض: الفصل الأول من الكتاب في اليقظة الإسلامية في القرن الثامن عشر؛ أي الميلادي: كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة، فاربدّ جوّه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاء من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشي ما كان باقيًا من آثار التهذيب العربي، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتِّباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، فليس يُرى في العالم الإسلامي في ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين؛ كسلطان تركيا وأواخر ملوك المغول في الهند؛ يحكمون حكمًا واهنًا فاشي القوة متلاشي الصبغة، وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة التي هم في حكمها، وينشئون حكومات مستقلة ولكن مستبدة؛ كحكومة

الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن، وصارت السماء تمطر ظلمًا وجورًا، وجاء فوق جميع ذلك رجال الدين المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقًا فوق إرهاق، فغُلَّت الأيدي، وقعد عن طلب الرزق، وكاد العزم يتلاشى في نفوس المسلمين، وبارت التجارة بورًا شديدًا، وأهملت الزراعة أي إهمال. وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحبُ الرسالة الناسَ سجفًا من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل، وهتكت ستر الحرمات على غير خشية واستحياء، ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، فصار الحج المقدس الذي فرضه الله تعالى وفرضه النبي - صلى الله عليه وسلم - على من استطاعه ضربا من المستهزءات، وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطًا بعيد القرار، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يدهى الإسلام، لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين كما يُلعن المرتدون وعبدة الأوثان.

وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومدلج في ظلمته، إذا بصوت قد دوى من قلب صحراء شبه الجزيرة مهد الإسلام، يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، فكان الصارخ هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور محمد بن عبد الوهاب، الذي أشعل نار الوهابية، فاشتعلت واتقدت، واندلعت ألسنتها إلى كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي، ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس، واستعادة المجد الإسلامي القديم والعز التليد، فتبدت تباشير صبح الإصلاح، ثم بدت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام. ولد محمد بن عبد الوهاب في نجد الواقعة في قلب الصحراء العربية حوالي سنة ألف وسبعمائة ميلادي، وكانت نجد في ذلك العصر -على انحطاط العالم الإسلامي وتدليه- أنقى البلدان إسلامًا، وأطهر الأقطار دينًا، وإذ كان منذ أول شأنه شديد الميل إلى الاطلاع والتفقه في الدين لسرعان ما اشتهر ذكره، وذاع اسمه، فعرف بعلم وافر، قوامًا على التقوى، فحج إلى مكة في أوائل عمره، وطلب العلم في المدينة المنورة، وساح إلى كثير من البلاد المجاورة حتى فارس، ثم عاد إلى نجد مشتعلًا غضبا دينيًا لما رآه بأم عينه من سوء حالة الإسلام، فصحَّت عزيمته على القيام بدعوة الإصلاح، فقضى سنين عديدة راحلًا من بلاد إلى بلاد في شبه الجزيرة، فبشر بالدعوة موقظًا النفوس حتى استطاع بعد جهاد طويل أن يجعل محمد بن السعود -وهو أكبر أمراء نجد- وأعلى زعمائهم كعبًا وشأنًا يقبل الدعوة ويدخل فيها، فاكتسب ابن عبد الوهاب بذلك مكانة أدبية

عالية، ومنزلة اجتماعية رفيعة، وقوة حربية لا يستهان بها، فاستفاد من ذلك استفادة جليلة، قد مكنته من بلوغ غايته وإدراك غرضه. فتكونت على التوالي وحدة دينية سياسية في جميع الصحراء العربية، شبيهة بتلك الوحدة التي أنشأها صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم -، وفي الواقع فإن المنهج الذي نهجه ابن عبد الوهاب يشبه شبها كبيرًا ذاك الذي نهجه الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر، ولما مات سنة ألف وسبعمائة وسبعة وثمانين خلفه ابن السعود، فكان خير خليفة للمُصلح الإسلامي الكبير، واقتفى الوهابيون آثار خلافة الراشدين، وعلى ما كان في يد ابن السعود من القوى الحربية العظيمة، فإن ذلك ما كان ليصرفه عن أن يكون على الدوام نازلًا على رأي الجماعة وشوراها، فلم يمتهن حرية أتباعه وبني قومه، وكانت حكومته على عنفها مكينة عادلة فانقطع التعدي، وأمن الناس السرقات، وانتشر الأمن، وسادت الطمأنينة والراحة، وعكف على العلم والتهذيب، فكان في كل واحة مدرسة، وفي كل قبيلة بدوية عدد من المعلمين، وبعد أن أخضع ابن السعود نجدًا وتم له الأمر في كاملها أخذ يستعد ليقوم بعمل أكبر ألا وهو إخضاع جميع العالم الإسلامي ونشر الإصلاح فيه، فجعل نصب عينيه في المقام الأول تحرير الأماكن المقدسة الحجازية، فكرّ على الحجاز في صدر القرن التاسع عشر بمقاتلته الشجعان المشتعلين غيرة دينية، وكان له ما أراد من الاستيلاء على الأماكن المقدسة، فلم تستطع قوة الوقوف في وجه الوهابيين وهم يحملون على الترك، والترك في نظرهم أهل الارتداد والجحود، ومغتصبو الخلافة اغتصابًا، وحقها أن تكون أبدًا

في العرب، وبينما كان ابن السعود سنة ألف وثمانمائة وأربعة عشرة يعد العدة لفتح سوريا، وهمَّته متينة، كان يخيل إلى العالم منه أن الوهابيين متدفقون على الشرق تدفقًا، وصانعون ما شاء الله من الإصلاح في الإسلام، غير أن ذلك ما قدر ليكون، فلما أيقن سلطان تركيا أنه لا يستطيع القضاء على الوهابيين استصرخ بطلا من مشاهير الأبطال وهو محمد علي، واستكفاه أمر القضاء عليهم، وكان هذا المقدام الألباني سيد مصر وأميرها واقفا حق الوقوف على قدرة أوربة وشدة بأسها وتفوقها، فدعا إليه ضباط من أهل الغرب، فنظموا له جيشًا قويًا، ودربوه تدريبًا على الطراز الغربي، وجهزوه بمعدات الأسلحة الغربية، وكان غالب هذا الجيش مؤلفًا من المقاتلة الألبانيين الأشداء، فسرعان ما أجاب محمد علي نداء السلطان، فأيقن حينئذ أن الوهابيين على شدة غيرتهم الدينية وحماستهم لن يستطيعوا بعد الوقوف بوجه البنادق والمدافع الأوربية يطلق عيارها جنود مجربون، وما هي إلا مدة قصيرة حتى استردت الأماكن المقدسة الحجازية، ورد الوهابيون على أعقابهم فانقلبوا إلى الصحراء، فاختفت الإمبراطورية الوهابية الوليدة للحال اختفاء، وأرخى الستار على الدور السياسي الوهابي، بيد أن خاتمة هذا الدور السياسي كانت فاتحة الدور الديني، فقد ظلت نجد بؤرة تشتعل فيها نار الغيرة الدينية ومنبثق النور تنبعث منه الأشعة الوهاجة إلى كل ناحية من نواحي الأرض، وما فتئ الوهابيون منذ قضي على قوتهم السياسية يبثون روح الحركة الدينية في مئات الألوف من الحجيج الوافدين كل عام إلى مكة والمدينة من كل قطر من أقطار العالم الإسلامي، فيقتبس هؤلاء نارًا وهابية، ثم يعودون إلى أوطانهم يشعلون بها ما استطاعوا إشعاله

في سبيل الإصلاح، وهكذا قد استطاع الوهابيون أن يبذروا بذورًا تلاها الاختمار الشديد للثورة الدينية في كل فج إسلامي، حتى بلغت دعوتهم الدينية أقصى المعمور، فقام في شمال الهند الزعيم الوهابي المغالي السيد أحمد (¬1) مستنفرًا مسلمي بنجاب، وأنشأ وهابية، فكان هذا الزعيم يعد عدته لفتح سائر شمالي الهند، فحالت منيته بينه وبين ذلك، واضمحلت الدولة الوهابية الهندية سنة ألف وثمانمائة وثلاثين، غير أنه لما جاء الإنكليز يفتحون البلاد عانوا الأمرَّين من بقايا النار الوهابية الكامنة في الرماد، وظلت هذه النار مخبوءة إلى ما شاء الله، فكانت عاملًا من عوامل الثورة الهندية، ثم استطار من شررها ما تناول أفغانستان وسائر القبائل الهندية عند الحدود الشمالية والغربية فأشعلها أيما إشعال -إلى أن قال-: فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة، غرضها إصلاح الخرق، ونسخ الشبهات، وإبطال الأوهام، ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى، ودحض البدع، وعبادة الأولياء. وعلى الجملة هي الرجوع إلى الإسلام، والأخذ به على أوله وأصله ولبابه وجوهره؛ أي إنها الاستمساك بالوحدانية التي أوحى الله بها إلى صاحب الرسالة صافية ساذجة، والاهتداء والائتمام بالقرآن المنزل مجردًا، وأما ما سوى ذلك فباطل وليس في شيء من الإسلام، ويقتضي ذلك الاعتصام كل الاعتصام بأركان الدين وفروضه وقواعد الآداب؛ كالصلاة ¬

_ (¬1) هو أحد أمراء إقليم البنجاب بالهند، وقد اعتنق الإسلام وحج عام 1231 هـ الموافق 1816م، والتقى بعلماء الدعوة الإصلاحية السلفية بمكة وتأثر بهم، فلا يقع اللبس بداعية الإلحاد والضلالة ميرزا غلام أحمد القادياني، فذاك إنما كان بعده بزمن، فقد ولد عام 1265هـ الموافق 1849م.

والصوم وغير ذلك، والكون على السذاجة التامة في أحوال المعيشة، وتحريم اتخاذ الملابس الحريرية، والتأنق في الأطعمة وشرب الخمر والأفيون والتبغ -أي التتن- وغير ذلك مما بعضه من أسباب السرف، وبعضه الآخر من المضار المفسدة لسلامة العقل. انتهى ما يقتضي إيراده هنا مما كتبه ذلك الأجنبي عن الإسلام من الشهادة الصحيحة، والاعتراف بفضل نهضة الإصلاح الوهابية التي لم تحصر في قطر من أقطار الإسلام ولا شعب من شعوبه، بل عم أصل نفعها وهدايتها سائر الأقطار والشعوب الإسلامية. فما أشبه ذلك بأمر هرقل -قيصر الروم- وأبي سفيان القرشي، حين اطَّلع قيصر على كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعاه به إلى الإسلام، وجرت قصة محادثة قيصر مع أبي سفيان، وقول قيصر لأبي سفيان: إن صدقت فسيملك محمد ما تحت قدمي، فيخرج أبو سفيان وهو يقول: لقد أَمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة، فقد أصبح يخافه ملك بني الأصفر، فما أشبه الليلة بالبارحة، فقد اعترف بفضل الوهابية وإصلاح نهضتها أعداء الإسلام من العلماء كما اعترف قيصر بصحة الرسالة، وأنكر فضل الوهابية أدعياء العلم من المسلمين الجغرافيين كما جحد فضل الرسالة الأقربون من العرب، والفضل ما شهدت به الأعداء. انتهى باختصار من كتاب (البراهين الإسلامية على إبطال المزاعم الراويّة). ومقالات علماء المسلمين وعقلاء أهل الكتاب وغيرهم في وصف هذه الدعوة وأهلها بما يشبه حال الصدر الأول، واعترافهم بهدايتهم وأنهم على منهج السلف الصالح كثيرة جدًا، وفيما ذكرناه هنا كفاية، ولله الحمد والمنة. ولما كانت هذه الدعوة العظيمة مؤسسة على العلم بالكتاب والسنة،

والسير على منهاج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، والغرض منها تجديد ما اندرس من أمور الإسلام، وإصلاح ما أفسده الناس من السنة النبوية، فقد أيدها الله تعالى بالجهابذة المحققين يجادلون من عارضها بالحجة والبرهان، وأيدها بالأبطال الشجعان يجالدون من عاندها بالسيف والسنان، فأصبح الإسلام بعد طول اغترابه ظاهرًا عزيزًا، وجعل الله للطائفة المنصورة بفضله ونعمته دولة عظيمة ذات شوكة قوية وبأس شديد بعد ما كانوا قليلًا غرباء مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم الله وأيدهم بنصره، ورزقهم من الطيبات لعلهم يشكرون. فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضي، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ} [الحج: 40 - 41]، وقد جعل الله لأهل هذه الدعوة المباركة نصيبا وافرًا مما وعد به في هذه الآيات، والله المسؤول أن لا يغير ذلك عليهم إنه جواد كريم.

صيانة الله لهذا الدين بحملة العلم العدول

وما أحسن ما قاله قتادة عن حال أول هذه الأمة: إن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا الله أنكر ذلك المشركون، وكبرت عليهم، وضاق بهم إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها. قلت: وهكذا كان الأمر في ابتداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه سواء بسواء، فإنه لما دعا الناس إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والسير على منهاج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وترك ما أحدث الخلوف من البدع والتقاليد المخالفة للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، أنكر ذلك المشركون وأهل البدع وكبر عليهم وضاقوا به ذرعًا، فأبى الله إلا أن يمضي هذه الدعوة ويظهرها ويفلجها وينصرها على من ناوأها كما قال تعالى في كتابه العزيز: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في خطبة كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين،

وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذه الخطبة تلقاها الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد ذكرها محمد بن وضاح في أول كتابه في الحوادث والبدع فقال: حدثنا أسد، حدثنا رجل يقال له يوسف ثقة، عن أبي عبد الله الواسطي، رفعه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وتائه ضال قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، وما نسيهم ربك وما كان ربك نسيًا، جعل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالاتهم، فلا تقصر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم الوضيعة. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». وقد رُوي هذا الحديث من طرق متعددة، عن جماعة من الصحابة؛ منهم علي، ومعاذ، وابن عمر، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن مسعود، وأبو أمامة الباهلي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.

ورواه الدارقطني وغيره من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلًا. قال الخلال في كتاب (العلل): قرأت على زهير بن صالح بن أحمد، حدثنا مهنا، قال: سألت أحمد عن حديث معاذ بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» فقلت لأحمد: كأنه موضوع، قال: لا، هو صحيح، فقلت: ممن سمعته أنت؟ فقال: من غير واحد، قلت: من هم؟ قال: حدثني به مسكين، إلا أنه يقول عن معاذ، عن القاسم بن عبد الرحمن؟ قال أحمد: ومعاذ بن رفاعة لا بأس به. قال أبو عبيد الهروي: (الخلف) بالتحريك والسكون؛ كل من يجيء بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، والتسكين في الشر يقال: خلَف صدق، وخلْف سوء؛ ومعناهما جميعا القرن من الناس، والمراد في هذا الحديث المفتوح، ومن السكون حديث «سيكون بعد ستين سنة خلْف أضاعوا الصلاة». انتهى. وقد روى البخاري في الكنى، وابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، عن أبي عنبة الخولاني -وكان قد صلى القبلتين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته».

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: غرس الله تعالى هم أهل العلم والعمل، فلو خلت الأرض من عالم خلت من غرس الله، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة»، فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب من أهَّلهم الله لذلك وارتضاهم، فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم، فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الأرض، وكان من دعاء بعض من تقدم: اللهم اجعلني من غرسك، الذين تستعملهم بطاعتك. ولهذا ما أقام الله لهذا الدين من يحفظه ثم قبضه إليه إلا وقد زرع ما علمه من العلم والحكمة إما في قلوب أمثاله، وإما في كتب ينتفع بها الناس بعده، وبهذا وبغيره فَضلَ العلماءُ العُبّادَ، فإذا العالم إذا زرع علمه عند غيره ثم مات جرى عليه أجره وبقي له ذكره، وهو عُمْر ثان وحياة أخرى، وذلك أحق ما تنافس فيه المتنافسون، ورغب فيه الراغبون. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. ومن أعظم نعم الله تعالى التي أمتن بها علينا في هذه الأزمان الحالكة بظلام الشرك والكفر والنفاق والبدع والشكوك والشبهات أنه سبحانه وتعالى أقام لنا الأئمة الأعلام ومصابيح الظلام، يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويجاهدون فرق الزيغ والضلال، ولا يخافون في الله لومة لائم، وأعني بهم شيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن تيمية وأصحابه وأصحاب أصحابه، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأصحابه وأصحاب أصحابه، ومن سار على منهاج الجميع

في الدعوة إلى الله تعالى والذب عن دينه، والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، إلى يومنا هذا وقليل ما هم، والله المسؤول أن يتم نعمته علينا، وعلى جميع المسلمين، ويصلح أحوالنا وأحوالهم، ويوفقنا وإياهم للتمسك بكتابه وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، والسير على منهاج سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وأن يصلح أئمتنا وولاة أمورنا ويوفقهم لما وفق له الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، إن ربي لسميع الدعاء قريب مجيب.

فصل: في بعض أسباب غربة الإسلام

فصل إذا عُلم أن الإسلام الحقيقي قد عاد غريبا كما بدأ، وأن سبب اغترابه طغيان الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، والنفاق الأكبر، والزندقة والإلحاد، والبدع المضلة في أكثر الأقطار الإسلامية، وغلبة ذلك على الأكثرين. فليعلم أيضًا أن المنكرات التي فشت في المسلمين، وظهرت بين ظهراني الأكثرين منهم ولم تُغير، قد زادت الإسلام وهنا على وهن، وغربة على غربته، وكذلك ما انتقض من عرى الإسلام أو كاد ينتقض في هذه الأزمان، كل ذلك قد أثَّر في الإسلام ضعفًا، وزاده وهنًا وغربة، وأنا أذكر من ذلك ما هو أكثر وقوعًا وأشد خطرًا؛ نصيحة لإخواني المسلمين، وإنذارًا لهم من شؤم المعاصي وسوء عاقبتها، لعلهم يحذرون غضب الله، ويبتعدون عما يدعو إلى نقمته وأليم عقابه في الدنيا والآخرة. فمن ذلك الشرك الأصغر، والكفر الأصغر، والنفاق الأصغر، وكل من هذه الثلاثة قد فشا وظهر وانتشر، وقلّ من سلم من التلطخ بأدرانها، أو درن بعضها. فأما النفاق الأصغر فقد مضى الكلام فيه مع النفاق الأكبر بما أغنى عن إعادته ههنا فليراجع. وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخَلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وإنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت

لم يكن كذا وكذا. قرر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، ثم قال: وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. انتهى. وروى الحافظ أبو يعلى، وابن المنذر، عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن أبي بكر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشرك أخفى من دبيب النمل»، قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عُبد من دون الله، أو ما دُعي مع الله؟ قال: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل ...» الحديث، وفيه: «أن تقول: أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان». وروي الحاكم في مستدركه، وأبو نعيم في الحلية، عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: «الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، أو تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}» صححه الحاكم، وفي إسناده عبد الأعلى بن أعين، قال الدارقطني: ليس بثقة. وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قول الله عز وجل: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان، هذا كله به شرك.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رجلًا يقول: والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل يمين يحلف بها دون الله شرك» قال الحاكم: على شرط مسلم، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لا وأبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مه! إنه من حلف بشيء دون الله فقد أشرك». وفي المسند أيضا عن سعد بن عبيدة قال: كنت مع ابن عمر -رضي الله عنهما- في حلقة، فسمع رجلا في حلقة أخرى وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر -رضي الله عنهما- بالحصى وقال: إنها كانت يمين عمر - رضي الله عنه - فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها وقال: «إنها شرك». وعن ابن عمر أيضا -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» رواه مالك، وأحمد، والشيخان، وأهل السنن.

وفي رواية: قال عمر - رضي الله عنه -: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ذاكرًا ولا آثرًا. وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله»، وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: «لا تحلفوا بآبائكم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي. وعن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلفوا بالطواغي، ولا بآبائكم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة، ولفظ النسائي: «لا تحلفوا بآبائكم، ولا بالطواغيت». قال أبو موسى المديني وغيره: «الطواغي»؛ جمع طاغية وهي ما كانوا يعبدونه من الأصنام وغيرها. قال ابن الأثير: ومنه الحديث: «هذه طاغية دوس وخثعم»؛ أي صنمهم ومعبودهم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» رواه أبو داود، والنسائي. وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق» رواه الشيخان، وأهل السنن، واللفظ للبخاري. قال الخطابي رحمه الله تعالى: اليمين إنما تكون بالمعبود المعظم، فإذا

حلف باللات ونحوها فقد ضاهى الكفار، فأمر أن يتدارك بكلمة التوحيد. وقال ابن العربي: من حلف بها جادًا فهو كافر، ومن قالها جاهلًا أو ذاهلًا يقول: لا إله إلا الله، يكفر الله عنه، ويرد قلبه عن السهو إلى الذكر، ولسانه إلى الحق، وينفي عنه ما جرى به من اللغو. انتهى. وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: حلفت باللات والعزى فقال أصحابي: قد قلت هجرًا، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن العهد كان قريبًا، وإني حلفت باللات والعزى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قل لا إله إلا الله وحده ثلاثًا، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا، وتعوذ ولا تعد» رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجة. وفي رواية لأحمد والنسائي: «وتعوذ بالله من الشيطان ولا تعد». وللنسائي أيضا: «وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له». وعن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال» رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأهل السنن إلا أبا داود. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يقول: أنا إذا اليهودي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت» رواه ابن ماجة. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني

فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام فهو بريء من الإسلام، ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم» قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال: «وإن صام وصلى» رواه الإمام الحاكم في مستدركه وصححه، وفي إسناده ضعف. وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف فقال: إني برئي من الإسلام، فإن كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن إلا الترمذي، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بالأمانة فليس منا» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعن زياد بن حدير قال: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي. رواه أبو نعيم في الحلية. وروى أيضا عن زياد بن حدير أنه قال: لئن تحك أحشائي حتى تدمى؛ أحب إلي من أن أحلف بالأمانة. وعن قتيلة بنت صيفي -رضي الله عنها- أن يهوديًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تنددون، وإنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا يقولوا: ورب الكعبة، ويقول أحدهم: ما شاء الله ثم شئت. رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم في

بعض مظاهر الشرك الأصغر في هذه الأزمنة

مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أن رجلًا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلًا من أهل الكتاب فقال: نِعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، وذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أما والله إن كنت لأعرفها لكم، قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد» رواه ابن ماجة. وله أيضا عن الطفيل بن سخبرة -أخي عائشة رضي الله عنها لأمها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه، ولم يسبق لفظه، وساقه ابن مردويه مطولًا في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]. وروى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وابن ماجة، كلهم من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، قال: «جعلت لله ندًا، ما شاء الله وحده» هذا لفظ البخاري، ولفظ أحمد نحوه. ولفظ ابن ماجة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت». وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان» رواه أبو داود، والنسائي. وقد كثرت هذه الأمور الشركية في زماننا، وخفّت على ألسن الأكثرين،

إنكار الشركيات واجب على كل أحد

ولا سيما الحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالرسول والكعبة والأمانة. وكثير من الجهال يحلف بالأمانة، ويستحلف غيره بها، ولا يرضى إذا حلف له بالله، وهذا من تلاعب الشيطان ومكره بهم، حيث زين لهم الشرك، وكرّه إليهم التوحيد. وقد روى ابن ماجة في سننه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يحلف بأبيه فقال: «لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله». وكثيرًا ما سمعناهم يحلفون بالأمانة في أشرف البقاع وأحبها إلى الله تعالى، وما رأينا أحدًا أنكر عليهم هذا المنكر القبيح، فالله المستعان. وكذلك حَلِف كثير من الجهال بحياته وحياة أبيه أو من يعظمه قد كثر أيضًا، وكذلك الحلف بغير ملة الإسلام قد كثر جدًا؛ كقول كثير من الجهال: إنه يهودي أو نصراني أو مجوسي إن كان قد فعل كذا، أو إن لم يفعل كذا، فهو يهودي أو نصراني أو مجوسي ونحو ذلك. وكذلك قول: ما لي إلا الله وأنت، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، ونحو هذه الألفاظ التي تقتضي التشريك بين الخالق والمخلوق، كل ذلك قد كثر جدًا. وقد سمعت بعض الجهال يقول ذلك لبعض القضاة، فلا ينكر عليهم، عياذا بالله من الجهل. ومن أهم الأمور إنكار هذه الشركيات وما في معناها، وهو واجب على كل أحد بحسب قدرته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرًا فليغيره

الرياء والتصنع للخلق

بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية للنسائي: «من رأى منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بلقبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان». وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». وأما الرياء، والتصنع للخلق، فأكثر ما يكون وقوعًا في صلاة النافلة، وصدقة التطوع، والذكر والاستغفار، وقراءة القرآن والخطب والوعظ والتذكير، ونحو ذلك، وكثيرًا ما يظهر أثره على صفحات الوجوه، وفلتات الألسن ومن أفعال المرائين وشمائلهم. وقد روى الإمام أحمد، وابن ماجة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟» قال: قلنا: بلى، فقال: «الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل».

أصناف القصاص

وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرًا ولفظه: «الشرك الخفي أن يعمل الرجل لمكان الرجل» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى ابن خزيمة في صحيحه، عن محمود بن لبيد - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أيها الناس، إياكم وشرك السرائر» قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: «يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر». وروى أبو نعيم في الحلية، عن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ترك العمل من أجل الناس هو الرياء، والعمل من أجل الناس هو الشرك. وروى أبو نعيم أيضًا، عن أبي روح المروزي قال: قال عبد الله بن المبارك: لو أن رجلين اصطحبا في الطريق، فأراد أحدهما أن يصلي ركعتين، فتركهما لأجل صاحبه، كان ذلك رياء، وإن صلاهما من أجل صاحبه فهو شرك. وروى الإمام أحمد، وابن ماجة، والطبراني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: «لا يَقُصُّ على الناس إلا أمير، أو مأمور، أو مراء». وفي سنن أبي داود، عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يَقُصُّ إلا أمير أو مأمور أو مختال».

وقد رواه البخاري في (التاريخ الكبير) عن ذي الكلاع قال: كان كعب يقص في إمارة معاوية، فقال عوف بن مالك لذي الكلاع: يا أبا شراحيل، أرأيت ابن عمك أبأمر الأمير يقص؟ فإني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «القُصاص ثلاثة: أمير أو مأمور أو مختال» فمكث كعب سنة لا يقص حتى أرسل إليه معاوية يأمره أن يقص. وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام، حدثنا عبد الجبار الخولاني قال: دخل رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا كعب يقص، فقال: من هذا؟ قالوا: كعب يقص، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال» قال: فبلغ ذلك كعبًا فما رُئي يقص بعد. إسناده حسن. قال الخطابي رحمه الله تعالى: بلغني عن ابن سريج أنه كان يقول هذا في الخطبة، وكان الأمراء يلون الخطب، فيعظون الناس، ويذكرونهم فيها، فأما المأمور: فهو من يقيمه الإمام خطيبًا، فيعظ الناس ويقص عليهم، وأما المختال: فهو الذي نصب نفسه لذلك من غير أن يؤمر به، ويقص على الناس طلبا للرياسة، فهو يرائي بذلك ويختال، وقد قيل: إن المتكلمين على الناس ثلاثة أصناف؛ مذكر، وواعظ، وقاص؛ فالمذكر: الذي يذكر الناس آلاء الله ونعماءه، ويبعثهم بها على الشكر له، والواعظ: يخوفهم بالله وينذرهم عقوبته، فيردعهم به عن المعاصي، والقاص: هو الذي يروي لهم أخبار الماضين ويسرد عليهم القصص، فلا يؤمن أن يزيد فيها أو ينقص، والمذكِّر والواعظ مأمون عليهما هذا المعنى. انتهى.

قلت: لكن لا يؤمن على المذكر والواعظ الخيلاء والرياء، فإن ذلك هو الغالب على كثير ممن ينصب نفسه ابتداء، من غير أن يؤمر به. وظاهر الحديث يشمل الأصناف الثلاثة، وقد روي عن علي، وعابد بن عمر، وابن عباس، وغيرهم -رضي الله عنهم- ما يدل على ذلك. فروى حنبل بن إسحاق، من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: مرّ علي - رضي الله عنه - على قاص، فقام إليه فقال: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هل تعرف المحكم من المتشابه؟ قال: لا، قال: هل تعرف الزجر من الأمر؟ قال: لا، قال: فأخذ بيده فرفعها وقال: إن هذا يقول: اعرفوني، اعرفوني. وروى حنبل أيضًا، عن عابد بن عمر أنه قال لقاص: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: فعلام تقص على الناس وتغرهم عن دينهم، وأنت لا تعرف حلال الله من حرامه! فهذا علي وعابد، أطلقا اسم القاص على من ينصب نفسه لإرشاد الناس وتعليمهم، فهو أعم من رواية الأخبار وسرد القصص. وروى البخاري في (التاريخ الكبير)، عن جبير بن نفير قال: أرسلتني أم الدرداء رضي الله عنها -يعني إلى نوف البكالي- قالت: يا جبير، اذهب إلى أنيف، وفلان لم يسمه -قاصين كانا بحمص- فقل لهما: يجعلان من موعظتهما للناس في أنفسهما. فهذه أم الدرداء -رضي لله عنها- أطلقت اسم القاص على من يعظ الناس ويذكرهم.

وفي صحيح البخاري، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن انصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتتناب. فهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- أطلق اسم القاص على المحدث. وفي المسند، والسنن إلا الترمذي، عن أبي الحصين الهيثم بن شفي قال: خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر -رجل من المعافر- لنصلي بإيلياء، وكان قاصهم رجلا من الأزد يقال له أبو ريحانه -من الصحابة- قال أبو الحصين: فسبقني صاحبي إلى المسجد ثم ردفته فجلست إلى جنبه، فسألني هل أدركت قصص أبي ريحانة؟ قلت: لا، قال: سمعته يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشر: «عن الوشر والوشم والنتف، وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، وعن مكامعة المرأة المرأة بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبه حريرًا مثل الأعاجم، وعن النهبى، وركوب النمور، ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان». قال الذهبي له طرق حسنة. فهذا أبو الحصين وصاحبه أطلقا اسم القاص على من يروي الأحاديث ويعلم الناس ويرشدهم.

والوشر: تحديد الأسنان وترقيق أطرافها، تفعله المرأة الكبيرة تتشبه بالشواب. وأما الوشم فهو: أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر. وأما النتف: فالمنهي عنه من ذلك نتف الشيب، ونتف الشعر عند المصيبة، ونتف اللحية، ونتف الحاجبين للزينة. وأما المكامعة فهي المضاجعة: وهو أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد لا حاجز بينهما، أو تضاجع المرأةُ المرأة في ثوب واحد لا حاجز بينهما، والكميع الضجيع، وزوج المرأة كميعها. وأما النهي عن ركوب النمور فمعناه: النهي عن الركوب على جلودها، والله أعلم. وهذه الأحاديث الأربعة تفيد أن اسم القاص يطلق على المذكِّر والواعظ وراوي الأخبار، والله أعلم. والأصل في هذا قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. قال البغوي: أي يبين لهم أكثر الذي هم فيه يختلفون من أمر الدين، قال الكلبي: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه. انتهى. وهذه الآية دالة على أن القصص يطلق ويراد به البيان، فهو أعم من رواية

الأخبار وسرد قصص الماضين، فما ذكره الخطابي أولًا هو الصحيح، والله أعلم. وقد روى البخاري في (التاريخ الكبير)، عن همام بن عبد الله قال: لما قص إبراهيم التيمي أخرجه أبوه من داره، وقال: رأيت حذيفة وابن مسعود يكرهان هذا الأمر. وذكر البخاري أيضًا، عن سعيد بن عبد الرحمن الغفاري قال: كان سليم بن عِتْر التجيبي يقص قائمًا، فقال له صلة بن الحارث الغفاري؛ وهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله ما تركنا عهد نبينا، ولا قطعنا أرحامنا، حتى قمت أنت وأصحابك بين أظهرنا. وعن شداد بن أوس -رضي الله عنهما- أنه قال: يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرياسة. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب (الإخلاص)، والطبراني، والحاكم في مستدركه، عن شداد بن أوس -رضي الله عنهما- قال: كنا نعد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرياء الشرك الأصغر. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله، أما إني لست أقول يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا وثنًا، ولكن أعمالًا لغير الله، وشهوة خفية» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة واللفظ له،

لا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا

والحاكم وصححه، وإسناده ضعيف. وعنه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك». قال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتُغي به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئًا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني» رواه الإمام أحمد، والحاكم في مستدركه مختصرًا. وقال الأعمش: حدثنا حمزة أبو عمارة مولي بني هاشم، عن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلًا يصلي يبتغي وجه الله، ويُحب أن يُحمد، ويصوم يبتغي وجه الله، ويُحب أن يُحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله، ويُحب أن يُحمد، ويحج يبتغي وجه الله، ويُحب أن يُحمد؟ فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: «أنا خير شريك، فمن كان له معي شرك فهو له كله، لا حاجة لي فيه» هكذا ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره. وروى الإمام أحمد، والنسائي، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال: «لا شيء له» فأعادها ثلاث مرات، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا شيء له» ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه». إسناده جيد.

وفي مستدرك الحاكم، عن طاوس قال: قال رجل: يا نبي الله، إني أقف المواقف ابتغي وجه الله، وأحب أن يُرى موطني؟ قال: فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} الآية. وروى البزار، والطبراني، والدارقطني، والبيهقي، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُجاء يوم القيامة بصحف مختمة، فتنصب بين يدي الله عز وجل، فيقول الله عز وجل لملائكته: ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرًا، فيقول -وهو أعلم-: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما ابتغي به وجهي». وروى البزار، والدارقطني، والبيهقي، عن الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي، يا أيها الناس، أخلصوا أعمالكم لله عز وجل، فإن الله لا يقبل إلا ما أخلص له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم، فإنها للرحم، وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم وليس لله منها شيء». وفي صحيح مسلم، من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». ورواه ابن ماجة في سننه، من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: أنا أغني الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك».

وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده، من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو رواية ابن ماجة. وروى الإمام أحمد أيضًا، والترمذي، وابن ماجة، والبخاري في الكُنى، وابن حبان في صحيحه، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري -وكان من الصحابة رضي الله عنهم- أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك». وروى الإمام أحمد أيضًا، عن محمود بن لبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء؛ يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!». وروى ابن ماجة في سننه، والطبراني في الصغير، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن يسير الرياء شرك» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي الصحيحين، عن جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به». وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي نحوه. رواه الإمام أحمد، ومسلم.

معنى حديث «من سمع سمع الله به»

ولأحمد أيضا، وابن ماجة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك. وكذا عن أبي بكرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه الإمام أحمد. وقد ذكر العلماء في معنى هذه الأحاديث أقوالا كثيرة؛ ومن أحسنها ما قاله الخطابي رحمه الله تعالى: إن معناها: من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه. وقيل: من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله، فإن الله يجعله حديثا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة. وقيل: معنى «سمع الله به»: شهره، أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا، أو في يوم القيامة؛ بما ينطوي عليه من خبث السريرة. انتهى. وحاصل هذه الأقوال الثلاثة يرجع إلى شيء واحد؛ وهو شهر المرائي وفضيحته عند الناس؛ بإظهار سريرته لهم، وما كان يقصده بعمله من طلب المحمدة والتعظيم والإكرام منهم، كما جاء في الحديث: «ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله ردائها، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرا فشر» رواه الطبراني من حديث جندب بن سفيان البجلي - رضي الله عنه -. وقد روى الإمام أحمد، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به مسامع خلقه وصغَّره وحقَّره».

قال أبو عبيد الهروي: يقال: سمَّعت بالرجل تسمعًا وتسمِعة؛ إذا شهرته ونددت به، أراد أن الله يسمع به أسماع خلقه يوم القيامة. انتهى. وروى الإمام أحمد أيضا، والدارمي، عن أبي هند الداري - رضي الله عنه -، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قام مقام رياء وسمعة، راءى الله به يوم القيامة وسمَّع به». وروى الطبراني من حديث عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وله من حديث معاذ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمَّع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة». وروى البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه الصغير، عن ابن عقربة الجهني - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قام بخطبة لا يلتمس إلا رياء وسمعة، وقفه الله يوم القيامة موقف رياء وسمعة». وروى ابن وهب، عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس». وروى أبو نعيم في الحلية، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤمر يوم القيامة بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها ونظروا إليها، واستنشقوا رائحتها وإلى ما أعد الله لأهلها، نودوا أن اصرفوهم لا نصيب لهم فيها، قال: فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها، قال: فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما

الحذر من الرياء والسمعة شأن المتقين

أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا، قال: ذاك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أذيقكم أليم العذاب، مع ما حرمتكم من الثواب». وروى أبو نعيم أيضًا، عن الأوزاعي قال: بلغني أنه ما وعظ رجل قومًا لا يريد به وجه الله إلا زلَّت عنه القلوب كما زال الماء عن الصفاء. وروى الإمام أحمد في الزهد عن مالك بن دينار قال: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلَّت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا. وروى أبو نعيم، عن سفيان بن عيينة أنه قال: من تزين للناس بشيء يعلم الله تعالى منه غير ذلك شانه الله. إذا علم هذا، فليعلم أيضا أن الرياء والسمعة من أكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم الناصح لنفسه أن يحذر من ذلك أشد الحذر ويحاسب نفسه على الدقيق والجليل من أعماله؛ فما كان منها خالصًا فليمضه، وما كان فيه شائبة لغيره فليتركه، وليجتهد في إتقان العمل وإخلاصه لله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، قال سعيد بن جبير في هذه الآية: لا يرائي بعبادة ربه أحدًا. رواه أبو نعيم في الحلية، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه سئل: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك،

شرطا صحة العمل

وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة. رواه ابن أبي حاتم. ورُوي عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أنه قال في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا؛ والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، ومتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقًا وهم الذين يراءون الناس، ومتى فقد المتابعة كان ضالًا جاهلًا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم. الآية. انتهى. وينبغي للمسلم -أيضا- أن يواظب على الدعاء المأثور في اتقاء الشرك وإذهابه، وهو ما رواه الإمام أحمد، والبخاري في الكُنى، والطبراني وغيرهم، عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيها الناس اتقوا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل» قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه». وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر - رضي الله عنه -: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره؛

تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، تقولها ثلاث مرات». وروى البخاري في (الأدب المفرد)، عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا أبا بكر، لَلشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لَلشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟» قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم». وروى أبو نعيم في الحلية من حديث سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا» فقال أبو بكر: يا رسول الله، وكيف النجاة والمخرج؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أعلمك شيئا إذا قلته بَرِئت من قليله وكثيره، وصغيره وكبيره؟» قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما تعلم ولا أعلم». ورُوي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه أنه كان يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا. فمن لازم الدعاء بهذا والذي قبله، رُجي له الخلاص من الرياء والسمعة إن شاء الله تعالى.

من الشرك الأصغر التماس الدنيا بعمل الآخرة

ومن الشرك الأصغر أيضًا: التماس الدنيا بعمل الآخرة؛ كمن يجاهد لأجل المغنم، أو ليرى مكانه ويُمدح بالشجاعة والجرأة والإقدام، أو يهاجر لدنيا يصيبها؛ مالا كان ذلك، أو رياسة، أو وظيفة، أو غير ذلك من الأغراض الدنيوية، أو من أجل امرأة يتزوجها. أو يحج، أو يقرأ القرآن، أو يتعلم العلم، أو يعلِّمه، أو يؤذِّن، أو يصلي بالناس، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأجل المال الذي يأخذه على ذلك؛ كما هو الواقع كثيرًا في هذه الأزمان، ومثل ذلك من يتعلم العلم لتحصيل الوظائف والرتب الدنيوية وكذلك الدينية إذا كان القصد منها تحصيل الشرف والجاه أو المال أو غير ذلك من الأغراض الدنيوية. قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: إن هذا القرآن قد أخلق في صدور كثير من الناس، والتمسوا ما سواه من الأحاديث، وإنَّ فيمن يبتغي هذا العلم من يتخذه بضاعة يلتمس بها الدنيا، ومنهم من يريد أن يشار إليه، ومنهم من يريد أن يماري به، وخيرهم من يتعلمه ويطيع الله عز وجل به. رواه أبو نعيم في الحلية. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إن أقبح الرغبة أن تعمل للدنيا بعمل الآخرة. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في (زوائد الزهد). وقال سفيان الثوري: إن أقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة. رواه أبو نعيم في الحلية. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: لأن يطلب الرجل الدنيا بأقبح

ما تطلب به؛ أحسن من أن يطلبها بأحسن ما تطلب به الآخرة. رواه أبو نعيم في الحلية. وروى أيضًا في ترجمة زهير بن نعيم البابي -وكان من عُبَّاد أهل البصرة في زمن يحيي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي- قال: أخبرنا عبد الله، حدثنا أحمد بن عاصم قال: كانت يدي في يد زهير أمشي معه، فانتهينا إلى رجل مكفوف يقرأ، فلما سمع قراءته وقف ونظر، وقال: لا تغرنّك قراءته، والله إنه شر من الغناء وضرب العود -وكان مهيبًا- ولم أسأله يومئذ، فلما كان بعد أيام ارتفع إلى بني قشير، فقمت وسلمت عليه، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إنك قلت لي يومئذ كذا وكذا، فكأنه نصب عينه، فقال لي: يا أخي نعم، لأن يطلب الرجل هذه الدنيا بالزمر والغناء والعود؛ خير من أن يطلبها بالدين. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في (زوائد الزهد)، عن مالك بن دينار، عن الحسن قال: قلت له: ما عقوبة العالم؟ قال: موت القلب، قلت: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة. قلت: لعلهما أرادا به العالم الذي لا يعمل بعلمه. إذا علم هذا فقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]. وروى الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في

مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، والبغوي في تفسيره، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم: «بشِّر أمتي بالسناء والرفعة، والتمكين في البلاد؛ ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن طلب الدنيا بعمل الآخرة لم يكن له في الآخرة من نصيب». وقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود: 15 - 16]. قال مجاهد وغيره: نزلت في أهل الرياء. وقال العوفي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا، يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا؛ صومًا أو صلاة أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله تعالى: أُوفِّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين. ذكر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، قال: وهكذا رُوي عن مجاهد، والضحاك، وغير واحد. انتهى.

وعن سليمان بن يسار قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له ناتل أهل الشام: أيها الشيخ حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه؛ رجل استشهد، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم أُلقي في النار» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي. ورواه الترمذي، والحاكم من حديث شُفي بن ماتع الأصبحي، أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكتَ وخلا قلتُ له: أسألك بحقٍّ وبحقٍّ لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقلته وعلمته -ثم ذكر قصة لأبي هريرة - رضي الله عنه - في

تشوقه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحزنه على فراقه- ثم قال: قال حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله إذا كان يوم القيامة يَنزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتي بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك، ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقَاتلت حتى قُتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يُقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك» ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه هكذا، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. زاد الترمذي في روايته: قال الوليد -أبو عثمان المدائني-: فأخبرني عقبة أن شُفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا، قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافًا لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل

فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فُعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية بكاء شديدًا حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بِشَرٍّ، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16] قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: سمعت شيخ الإسلام -يعني أبا العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى- يقول: كما أن خير الناس الأنبياء، فشر الناس من تشبه بهم من الكاذبين، وادعى أنه منهم وليس منهم، وخير الناس بعدهم العلماء، والشهداء، والمتصدقون المخلصون، فشر الناس من تشبه بهم، يوهم أنه منهم وليس منهم. وقال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الغازي والعالم والجواد، وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله، وإدخالهم النار، دليل على تغليظ تحريم الرياء، وشدة عقوبته، وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال كما قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وفيه أن العمومات الواردة في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصًا، وكذلك الثناء على العلماء، وعلى المنفقين في وجوه الخيرات، كله محمول على من فعل ذلك لله تعالى مخلصًا. انتهى. وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن، وغيرها عن أمير

المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه». وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض». وفي رواية: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» الحديث. وقد رواه الترمذي مختصرًا ولفظه: «لعن عبد الدينار، لعن عبد الدرهم» وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وعنه - رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا رسول الله، الرجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرض الدنيا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا أجر له» فأَعْظَمَ الناسُ ذلك، وقالوا للرجل: عُدْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعله لم يفهم، فعاد فقال: يا رسول الله، الرجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرض الدنيا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أجر له» ثم عاد الثالثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أجر له» رواه الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه. وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة

يوم القيامة -يعني ريحها-» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه ابن حبان والحاكم، قال الحاكم: صحيح سنده، ثقات رواته، على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه. وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلَّم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم» رواه ابن ماجة. وله أيضا عن ابن عمر، وحذيفة رضي الله عنهم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك. رواه الترمذي، والحاكم في مستدركه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وصححه الحاكم، وأقرَّه الذهبي. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من طلب العلم لغير الله، أو أراد به غير الله، فليتبوأ مقعده من النار» رواه الترمذي، وابن ماجة. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيَّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار» رواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «من طلب العلم لأربع دخل النار:

ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أو ليأخذ به من الأمراء» رواه الدارمي. وعنه - رضي الله عنه - قال: لو أن أهل العلم صانوا العلم، ووضعوه عند أهله لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم، فهانوا عليهم، سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من جعل الهموم همًا واحدًا -هم آخرته- كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك» رواه ابن ماجة. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعوذوا بالله من جب الحزن» قالوا: وما جب الحزن؟ قال: «وادٍ في جهنم، تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة» قيل: يا رسول الله، ومن يدخله؟ قال: «أُعِدَّ للقُراء المُرائين بأعمالهم، وإنَّ من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء». قال المحاربي: «الجَوَرة» رواه البخاري في (التاريخ الكبير)، والترمذي مختصرًا، وابن ماجة وهذا لفظه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين، ويقرؤون القرآن، ويقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يُجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يُجتنى من قربهم إلا» قال محمد بن الصباح -أحد رواته-: كأنه يعني الخطايا. رواه ابن ماجة، وقال المنذري: ورواته ثقات. وروى أبو نعيم في الحلية، عن مالك بن دينار أنه قال: إن من القراء قراء

كثرة القراء والمتفقهين لغير الدين

ذا الوجهين، إذا لقوا الملوك دخلوا معهم فيما هم فيه، وإذا لقوا أهل الآخرة دخلوا معهم فيما هم فيه، فكونوا من قراء الرحمن. وقد تقدم في أول الكتاب حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: أبي تغترون؟! أم عليَّ تجترئون؟! فبي حلفتُ لأبعثنَّ على أولئك منهم فتنة تدع الحليمَ منهم حيرانًا» رواه الترمذي. وتقدم أيضا حديثا ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قال: لقد خلقت خلقًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصب، فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانًا، فبي يغترون؟! أم علي يجترئون؟!» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عمر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وتقدم أيضا قول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي قرَّاء فسقة، أهواؤهم مختلفة، ليست لهم زِعةٌ، يلبسون ثياب الرهبان، وقلوبهم أنتن من الجيف، فيلبسهم الله فتنة ظلماء، يتهوكون فيها تهوك اليهود» ذكره أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب (الورع). ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في (زوائد الزهد) مختصرًا. وتقدم أيضا قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتؤخذ سُنّة يجري الناس عليها، فإذا غير منها

شيء قيل تركت سنة!» قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثر قرَّاؤكم، وقلَّ فقهاؤكم، وكثرت أموالكم، وقل أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين» رواه عبد الرزاق، والدارمي، والحاكم. وتقدم أيضا حديث حذيفة - رضي الله عنه - مرفوعا في ذكر أشراط الساعة وفيه: «وتفقه لغير الدين، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة» رواه أبو نعيم في الحلية. وتقدم أيضا حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- مرفوعًا: «اقرؤوا القرآن وابتغوا به الله عز وجل من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه» رواه الإمام أحمد، وأبو داود. وتقدم أيضا حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - وفيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «اقرؤوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم، يتعجل أجره ولا يتأجله» رواه أبو داود. وتقدم أيضا حديث أنس - رضي الله عنه - في ذلك، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح، يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها» رواه الإمام أحمد. وتقدم أيضا حديث عمران بن حصين -رضي الله عنهما- في ذلك، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس» رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وهذه الأحاديث من أعلام نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لكونه أخبر بما سيقع في آخر أمته؛ من كثرة الرياء والسمعة، والتماس الدنيا بعمل الآخرة، فوقع

من الشرك الأصغر الطيرة

الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، وظهر ذلك في زماننا ظهورًا جليًا، فالله المستعان. وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب (السنة) من طرق صحيحة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «الرياء بضع وسبعون بابًا، والشرك نحو ذلك». ومن الشرك الأصغر أيضا: الطيرة؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الطيرة شرك، الطيرة شرك -ثلاثًا- وما منا إلاَّ، ولكن الله يذهبه بالتوكل» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، والبخاري في الأدب المفرد، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب (السنة)، والحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح سنده، ثقات رواته، ولم يخرجاه، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل، قال: وفي الباب عن سعد، وأبي هريرة، وحابس التميمي، وعائشة، وابن عمر رضي الله عنهم، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- يقول: كان سليمان بن حرب يقول في الحديث: «وما منا ... ولكن الله يذهبه بالتوكل» قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. انتهى. قال الخطابي رحمه الله تعالى: قوله: وما منا إلا ... معناه: إلاَّ من يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه، فحذف اختصارًا للكلام، واعتمادًا على فهم السامع. انتهى. وقد روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن معاوية بن

الحكم السلمي - رضي الله عنه - أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: منا رجال يتطيرون؟ قال: «ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم». وفي لفظ لمسلم قال: قلت: كنا نتطير؟ قال: «ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم». وروى الإمام أحمد، والطبراني عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: «أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك». وروى الإمام أحمد أيضا من حديث الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردّك». وفي سنن أبي داود، عن عروة بن عامر القرشي - رضي الله عنه - قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم [ما يكره] (¬1) فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك». وروى ابن مردويه، وأبو نعيم، والبغوي، كلهم من طريق عبد الملك بن عمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يلج الدرجات من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر طائرًا» هذا لفظ ابن مردويه. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والتصحيح من السنن.

ولفظ البغوي: «من تكهن، أو استقسم، أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة». وروى البزار بإسناد جيد، عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له». وروى أبو نعيم في الحلية عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل ...» فذكر الحديث، وفيه أن الله تعالى قال: «ليس مني من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له». الطيرة -بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن- هي: التشاؤم بالشيء المكروه من قول، أو فعل، أو مرئي، أو مسموع. قال أبو موسى المديني: وأصله فيما يقال التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرها، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم؛ فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر». قال أبو عبيد الهروي: العدوى اسم من الإعداء، يقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء، وذلك أن يكون ببعير جرب مثلا، فتتقى مخالطته بإبل أخرى حذارًا أن يتعدى ما به من الجرب إليها

معنى قوله في الحديث: «لا عدوى»

فيصيبها ما أصابه، وقد أبطله الإسلام؛ لأنهم كانوا يظنون أن المرض بنفسه يتعدى، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس الأمر كذلك، وإنما الله هو الذي يمرض وينزل الداء، ولهذا قال في بعض الأحاديث: «فمن أعدى البعير الأول؟!». أي: من أين صار فيه الجرب؟! انتهى. وقد قرر هذا المعنى كثير من الأئمة؛ منهم الخطابي، والبيهقي، وابن الصلاح، والمنذري، والنووي، وابن القيم، وابن مفلح، وابن رجب، وغيرهم من المحققين. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: اختلفوا في معنى قوله «لا عدوى» وأظهر ما قيل في ذلك: إنه نفيٌ لما كان يعتقده أهل الجاهلية، من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، ويدل على هذا قوله: «فمن أعدى الأول؟!» يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده. فأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إيراد الممرض على المصح، وأمره بالفرار من المجذوم، ونهيه عن الدخول إلى موضع الطاعون؛ فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابًا للهلاك أو الأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، فكما أنه يُؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء، أو في النار، أو يدخل تحت الهدم ونحوه، مما جرت العادة بأنه يهلك أو يؤذي، فكذلك اجتناب مقاربة المريض؛ كالمجذوم، أو القدوم على بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله

معنى قوله في الحديث: «ولا طيرة»

تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره، قال: وأما إذا قوي التوكل على الله تعالى، والإيمان بقضائه وقدره، فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله تعالى؛ ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر، ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لا سيما إذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة، وعلى مثل هذا يحمل الحديث الذي خرجه أبو داود، والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: «كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه» وقد أخذ به الإمام أحمد. وروي نحو ذلك عن عمر، وابنه عبد الله، وسلمان رضي الله عنهم. ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من أكل السم، ومنه مشي سعد بن أبي وقاص، وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر، ومنه أمر عمر - رضي الله عنه - لتميم حيث خرجت النار من الحرة أن يردَّها، فدخل إليها في الغار الذي خرجت منه. فهذا كله لا يصلح إلا لخواص من الناس، قوي إيمانهم بالله وقضائه وقدره، وتوكلهم عليه، وثقتهم به، فإن التوكل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع، وتستدفع بها المضار. انتهى. وأما قوله: «ولا طيرة» فقال ابن القيم رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون نفيًا، أو نهيًا أي: لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: «ولا عدوى، ولا صفر، ولا هامة» يدل على أن المراد النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعاينها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على

بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه. وفي صحيح مسلم، عن معاوية بن الحكم، أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومنا أناس يتطيرون؟ قال: «ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم» فأخبر أن تأثره وتشاؤمه بالطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه، فأوضح - صلى الله عليه وسلم - لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه؛ لتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار، فبسبب التوحيد ومن أجله جعل الجنة دار التوحيد وموجباته وحقوقه، والنار دار الشرك ولوازمه وموجباته، فقطع - صلى الله عليه وسلم - علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة، فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها. قال عكرمة: كنا جلوسًا عند ابن عباس -رضي الله عنهما- فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير، خير، فقال له ابن عباس -رضي الله عنهما-: لا خير، ولا شر. فبادره بالإنكار عليه؛ لئلا يعتقد لها تأثيرًا في الخير أو الشر. وخرج طاوس مع صاحب له في سفر فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاوس: وأي خير عند هذا؟! والله لا تصحبني. انتهى ملخصًا.

ثم ذكر رحمه الله تعالى أحاديث وآثارًا ظن بعض الناس أنها تدل عل جواز الطيرة، وساق معها قصصا كثيرة للمتطيرين، وأجاب عن الجميع بما يشفي ويكفي، فمن أراد الوقوف على ذلك فليراجع آخر كتابه (مفتاح دار السعادة). وأما الهامة -بتخفيف الميم على المشهور- فقال أبو عبيد الهروي: هي أسم طائر، وهو المراد في الحديث، وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها، وهي من طير الليل. وقيل: هي البومة، قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إليَّ نفسي أو أحدًا من أهل داري، قال النووي: وهذا تفسير مالك بن أنس. قلت: والتشاؤم بالبومة كثير في الجهال من أهل زماننا، فإذا وقعت على دار أحدهم تطير بها، وقال: إنها تنذر بموته أو موت أحد من أهل داره. وهذا مما درج إليهم من عقائد أهل الجاهلية وضلالاتهم التي نفاها الإسلام وأبطلها. قال أبو عبيد الهروي: وقيل: كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتطير ويسمونه الصدى، فنفاه الإسلام ونهاهم عنه. قال النووي: وهذا تفسير أكثر العلماء، وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين، فإنهما جميعًا باطلان، فبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - إبطال ذلك، وضلالة الجاهلية فيما تعتقده من ذلك. انتهى.

معنى قوله في الحديث: «ولا صفر»

وأما قوله: «ولا صفر» اختلف في تأويله. قال البخاري رحمه الله تعالى: هو داء يأخذ البطن. وروى أبو داود في سننه، عن محمد بن راشد قال: سمعنا من يقول: هو وجع يأخذ في البطن، فكانوا يقولون هو يعدي، فقال: «لا صفر». وروى أيضا عن عطاء قال: يقول ناس: الصفر وجع يأخذ في البطن. وروى مسلم في صحيحه، عن أبي الزبير أن جابرًا - رضي الله عنه - فسّر لهم قوله: «ولا صفر» فقال أبو الزبير: الصفر البطن، فقيل لجابر: كيف؟ قال: كان يقال: دواب البطن. وذكر أبو عبيدة، وأبو عبيد، عن رؤبة بن العجاج قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب. قال أبو عبيد: فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تعدي. وصحح النووي رحمه الله تعالى هذا التأويل، قال: وبه قال مطرف، وابن وهب، وابن حبيب، وأبو عبيد، وخلائق من العلماء. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وممن قال هذا من العلماء ابن عيينة، والإمام أحمد، وغيرهما، قال: ولكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله: «لا عدوى» وقد يقال: هو من باب عطف الخاص على العام، وخصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى. وقالت طائفة: بل المراد به شهر صفر، ثم اختلفوا في تفسيره علي قولين: أحدهما: أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا

تشاؤم الروافض بشهر صفر ومقابلة الجهال لهم بوصفه بالخيرية

يحلون المحرّم، ويحرمون صفر مكانه. وهذا قول مالك، وأبي عبيدة. والثاني: أن المراد بذلك التشاؤم به. رواه أبو داود في سننه عن محمد بن راشد قال: سمعنا أن أهل الجاهلية يستشئمون بصفر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا صفر». قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر وربما ينهى عن السفر فيه، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء. انتهى. وهذا القول الأخير هو أرجح الأقوال عندي. وقد سلك الروافض سبيل أهل الجاهلية في التشاؤم بشهر صفر، بل زادوا على أهل الجاهلية في التطير به وسوء الاعتقاد فيه، وبلغ من سخافة عقولهم، وتلاعب الشيطان بهم، أنهم كانوا يعمدون في آخر يوم من صفر فيكسرون أواني الفخار التي استعملوها فيه، ويغسلون غيرها من الأواني، ويمسحون سقف بيوتهم وجُدُرها، ويكنسون البيت كله، يبتدئون من أقصاه حتى ينتهوا إلى الباب، فيخرجوا الكناسة وكسر الأواني إلى السوق بغاية السرعة، ليخرج معها شؤم صفر على زعمهم الباطل. وقد قابلهم بعض الجهال من المنتسبين إلى السُنَّة، فوصفوه بالخيرية، فكانوا يقولون: صفر الخير، وقصدهم بذلك مراغمة الروافض، ومعارضتهم فيما زعموه من شؤمه، وهذا من مقابلة الضلالة بضلالة أخرى، فإن شهر صفر وغيره من الشهور لا خير ولا شر عندها، وإنما هي أوقات

من الشرك الأصغر الرقى الشركية وتعليق التمائم

وأيام مخلوقة، يتصرف فيها خالقها بما يشاء، فيخلق فيها ما يشاء، ويرزق من يشاء، ويُحيي ويميت، ويسعد ويشقي، ويُجري لمن شاء خيرًا ولمن شاء شرًا، وله الحكمة البالغة {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، ولا علم للشهور والأيام ولا غيرها من المخلوقات بشيء مما قدره الباري وقضاه، فالتطير ببعض الشهور والأيام شرك، ووصفها بالخيرية بغير دليل كذب وخطأ، والله أعلم. ومن الشرك الأصغر أيضا: الرقى بما فيه شرك، وتعليق الحروز وغيرها من أنواع التمائم، واستعمال التولة وما في معناها؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعند ابن حبان قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقي والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال: شيء يصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن. وعند الحاكم قال: التولة ما يهيج النساء. وفي رواية: هو الذي يهيج الرجال. قال أبو عبيد الهروي: التولة -بكسر التاء وفتح الواو- ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره، جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثِّر، ويفعل خلاف ما قدَّره الله تعالى. انتهى. قلت: وهي في هذه الأزمان فاشية في الأقطار التي ضعف فيها الإيمان،

الرقى المشروعة

واشتدت فيها غربة الإسلام، ويسميها بعضهم الصرف، وبعضهم يسميها بغير ذلك. ومن هذا الباب ما يزعمه كثير من المتكلمين في خواص الحيوانات والنباتات والمعادن وغيرها، من تحصيل المحبة والمهابة، والجاه والمنزلة العالية، والتعظيم والإجلال والإكرام، وغير ذلك من أغراض النفوس وشهواتها بفعل الخاصية التي يزعمون أنها تفعل لهم ما يريدون، وتجلب لهم ما يحبون وما يشتهون، فهذا ونحوه يدخل في معنى التِوَلة، وهو جهل وضلال وشرك بالله تعالى. وأما الرُّقى، فقال الخطابي رحمه الله تعالى: المنهي عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب، فلا يدري ما هو، ولعله قد يدخله سحر أو كفر؛ فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به، والله أعلم. قلت: وعلى جواز الرقية بالآيات القرآنية، والتعوذات والأدعية المأثورة، وما في معنى ذلك مما هو مشتمل على ذكر الله تعالى ولا محذور فيه- تدل الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما، فعلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرًا وتقريرًا. وفي صحيح مسلم، وسنن أبي داود، وتاريخ البخاري، عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به، فضلا عن أن يدعو به ولو عرف معناه؛ لأنه يكره

شروط جواز الرقى

الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارًا فليس من دين الإسلام. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى. انتهى. وقد روى ابن جرير بإسناده، عن طاوس قال: ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية الحية والمجانين. قلت: ومن الباب ما يفعله كثير من الضُّلال من استعمال الرقى الشركية أو المجهولة لمنع لدغ الحية والعقرب، وبعضهم يمسك الحية والعقرب بيده ويلعب بها فلا تضره، وهذا مما تفعله الشياطين لهم إذا أشركوهم بالله تعالى ودعوهم من دونه ورقوا بأسمائهم، فيمسك الشيطان حينئذ بفم الحية وذنب العقرب حتى لا تلدغ أولياءه المشركين به، وهكذا تفعل الشياطين مع من استجاب لأوليائهم واستعمل رقاهم الشركية، وهي التي يسمونها في زماننا السقوه، ومعناها أن ولي الشيطان يرقي لهم في ماء ويسقيهم إياه حتى لا تضرهم الحية ولا العقرب، وقد افتتن برقاهم كثير من الجهال الأغمار في زماننا وقبله جهلًا منهم بحكمها، وإيثارًا للمصلحة العاجلة، فالله المستعان. وأما التمائم: هي جمع تميمة، قال أبو عبيد الهروي: هي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتَّقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام.

تعليق الخيوط والسيور لدفع الآفات

قال أبو السعادات ابن الأثير: ومنه حديث ابن عمر: «وما أبالي ما أتيت إن علقت تميمة» والحديث الآخر: «من علق تميمة فلا أتم الله له» كأنهم كانوا يعتقدون أنها تمام الدواء والشفاء، وإنما جعلها شركًا لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه. انتهى. وقال ابن عبد البر: إذا اعتقد الذي قلدها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، واعتقاد ذلك شرك. انتهى. قلت: ومن هذا الباب ما يفعله بعض الجهلة من تعليق الحروز لدفع ضرر الجن، ومثله تعليق الخيوط والسيور ونحوها لدفع الآفات والمؤذيات. وفي المسند، وسنن ابن ماجة، وغيرهما، أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - رأى في عنق امرأته خيطًا فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط رُقي لي فيه، فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» الحديث. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي الضحى، عن أم ناجية قالت: دخلت على زينب -امرأة عبد الله- أعوذها من جمرة ظهرت بوجهها، وهي معلقة بحرز، فإني لجالسة دخل عبد الله، فلما نظر إلى الحرز أتى جذعا معارضا في البيت، فوضع عليه رداءه، ثم حسر عن ذراعيه، فأتاها فأخذ بالحرز فجذبها حتى كاد وجهها أن يقع في الأرض فانقطع، ثم خرج من البيت فقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك،

ثم خرج فرمي بها خلف الجدار، ثم قال: يا زينب، أعندي تُعلِّقين؟! إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن الرقى والتمائم والتولة» فقالت أم ناجية: يا أبا عبد الرحمن، أما الرقى والتمائم قد عرفنا، فما التولة؟ قال التولة: ما يهيج النساء. ورواه الحاكم أيضا من حديث قيس بن السكن الأسدي قال: دخل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - على امرأة فرأى عليها حرزًا من الجمرة، فقطعه قطعا عنيفًا، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، وقال: كان مما حفظنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرقى والتمائم والتولة من الشرك» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. ورواه الحاكم أيضًا من حديث عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زينب امرأة عبد الله أنها أصابها حمرة في وجهها، فدخلت عليها عجوز فرقتها في خيط فعلقته عليها، ودخل ابن مسعود فرآه عليها فقال: ما هذا؟ فقالت: استرقيت من الحمرة، فمد يده فقطعها ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، قالت: ثم قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن الرقي والتمائم والتولة شرك» قال: فقلت: ما التولة؟ قال: التولة هو الذي يهيج الرجال. وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى ابن أبي حاتم عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه دخل على مريض، فرأى في عضده سيرًا فقطعه أو انتزعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].

وروى الحاكم في مستدركه من حديث بكير بن عبد الله، أن أُمَّه حدثته أنها أرسلت إلى عائشة -رضي الله عنها- بأخيه مخرمة؛ وكانت تداوي من قرحة تكون بالصبيان، فلما داوته عائشة رضي الله عنها، وفرغت منه، رأت في رجليه خلخالين جديدين، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئًا كتبه الله عليه؟! لو رأيتهما ما تداوى عندي، وما مس عندي، لعمري لخلخالان من فضة أطهر من هذين. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي المسند، وسنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان، عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر على عضد رجل حلقة -قال: أراه من صفر- فقال: «ويحك ما هذه؟» قال: من الواهنة؟ قال: «أما إنها لا تزيدك إلا وهنًا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا». وفي رواية ابن حبان: «فإنك إن مت وكلت إليها». ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: قال دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عضدي حلقة صفر فقال: «ما هذه؟» فقلت: من الواهنة، فقال: «انبذها». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له» رواه الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الودع: هو الصدف الأبيض الصغار.

معنى حديث «من تعلق شيئا وكل إليه»

قال أبو عبيد الهروي: الودع -بالفتح والسكون- جمع ودعة، وهي شيء أبيض يجلب من البحر، يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم، وإنما نهى عنها لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين، وقوله: «لا ودع الله له» أي: لا جعله في دعة وسكون، وقيل: لا خفف عنه ما يخافه. انتهى. وروى الإمام أحمد، والحاكم في مستدركه، عن عقبة بن عامر أيضا - رضي الله عنه - أنه جاء في ركب عشرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايع تسعة وأمسك عن بيعة رجل منهم، فقالوا: ما شأن هذا الرجل لا تبايعه؟! فقال: «إن في عضده تميمة» فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «من علق تميمة فقد أشرك» قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. وروى الإمام أحمد أيضًا، والترمذي، والحاكم في مستدركه من حديث عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: دخلت على عبد الله بن عكيم أبي معبد الجهني أعوده وبه حمرة، فقلت: ألا تعلق شيئًا؟! قال: الموت أقرب من ذلك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلق شيئا وكل إليه». وروى النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه». قال المناوي في (شرح الجامع الصغير): «من تعلق شيئًا» أي: تمسك بشيء من المداواة واعتقد أنه فاعل للشفاء، أو دافع للداء، «وكل إليه» أي؛ وكل الله شفاءه إلى ذلك الشيء، فلا يحصل شفاؤه، أو المراد؛ مَن تعلقت نفسه بمخلوق غير الله وكله الله إليه، فمن أنزل حوائجه بالله والتجأ إليه

وضع سكين عند النفساء وعند المختون والمولود

وفوض أمره كله إليه كفاه كل مؤنة، وقرب عليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله، واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك، وخذله وحرمه توفيقه وأهمله، فلم تنجح مطالبه ولم تتيسر مآربه، وهذا معروف على القطع من نصوص الشريعة وأنواع التجارب. انتهى باختصار. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: التعلق يكون بالقلب وينشأ عنه القول والفعل، وهو التفات القلب عن الله إلى شيء يعتقد أنه ينفعه أو يدفع عنه، فإن كان من الشرك الأصغر فهو ينافي كمال التوحيد، وإن كان من الشرك الأكبر كعبادة أرباب القبور والمشاهد والطواغيت ونحو ذلك فهو كفر بالله وخروج من دين الإسلام، ولا يصح معه قول ولا عمل. انتهى. وفي معنى التمائم ما يفعل في بعض الجهات اليمنية من وضع سكين عند النفساء حتى تطهر من نفاسها، ومع المختون حتى يبرأ، وعند المولود ما دام في المهد، يزعمون أنها ترد الجن عنهم. وهذا جهل وضلال وشرك بالله تعالى، وقد روى البخاري في (الأدب المفرد) عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تؤتى بالصبيان، إذا وُلدوا فتدعو لهم بالبركة، فأُتيت بصبي فذهبت تضع وسادته، فإذا تحت رأسه موسى فسألتهم عن الموسى فقالوا: نجعلها من الجن، فأخذت الموسى فرمت بها ونهتهم عنها، وقالت: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره الطيرة ويبغضها»، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تنهى عنها.

إذا عرف هذا فالمقصود ههنا التحذير من هذه الأمور الشركية، فإن الشرك وإن كان أصغر فهو أكبر من الكبائر وأسوأ منها عاقبة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقد ينضم إلى الشرك الأصغر من مزيد التعلق به والاعتقاد فيه، ما يجعله أكبر، فينسلخ فاعله من دين الإسلام بالكلية عياذًا بالله من الخذلان، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

فصل: الكفر الأصغر؛ كفر العمل

فصل وأما الكفر الأصغر: فهو كفر العمل، وهو أنواع كثيرة، نذكر منها ما تيسر مما هو كثير الوقوع. فمن ذلك الحكم بغير ما أنزل الله لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ ...} الآية، قال: هي به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وروى ابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه. وزاد الحاكم في روايته: إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} كفر دون كفر. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى ابن جرير عنه - رضي الله عنه - قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرَّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وله عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.

ورواه أبو داود في كتاب (المسائل عن الإمام أحمد) قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء فذكره. وقال أبو داود أيضا: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال السدي: يقول: ومن لم يحكم بما أنزلتُ فتركه عمدًا، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين. وهذا الذي قاله السدي رحمه الله تعالى جيد قوي، وقد حكاه البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره عن العلماء فقال: وقال العلماء: هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدًا، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا. انتهى. وروي الطبراني، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال عن الرشوة في الحكم: كفر وهي بين الناس سحت. وروى ابن جرير، عن علقمة، ومسروق أنهما سألا ابن مسعود - رضي الله عنه - عن الرشوة، فقال: من السحت، فقالا: وفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر، ثم تلا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. وروى أبو داود، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه وصححه، عن بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «القضاة ثلاثة؛ واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار».

وفي رواية للحاكم: «قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض قضى بالحق فهو في الجنة، وقاض قضى بجور فهو في النار، وقاض قضى بجهله فهو في النار» قالوا: فما ذنب هذا الذي يجهل؟ قال: «ذنبه أن لا يكون قاضيًا حتى يعلم» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الحافظ أبو يعلى، والطبراني في الكبير، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- نحوه، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وقد عظمت البلوى في زماننا بالحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وخصوصًا في الأماكن التي غلبت فيها التقاليد والسياسات والقوانين والنظامات المحدثة، فأكثر حكام هؤلاء بين رجلين: أحدهما: عارف بالحق، ولكنه يخالفه تقليدًا للأكابر من أهل مذهبه، أو متابعة للقوانين والنظامات الخاطئة، أو لعرض يأخذه من رشوة ونحوها، أو لكون الحق مخالفًا لهوى الدولة والأكابر، فيحكم بخلافه مراعاة لهم، واتِّباعًا لرغباتهم وأهوائهم، أو خوفا من العزل، أو لغير ذلك من الأهواء والأغراض الدنيوية، وهذا الجنس هم الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، فإن انضم إلى هذه الأحكام الجائرة تفضيل التقاليد المذهبية والسياسات والنظامات المحدثة على الأحكام الشرعية فهي ردة صريحة وخروج من الإسلام بالكلية، وسواء كان التفضيل من الحاكم الجائر أو غيره، فكل من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من

من الكفر الأصغر كفر النعم

حكمه، فهو كافر الكفر الأكبر، قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وكل ما خالف القرآن أو السنة فهو من حكم الجاهلية، والتحاكم إليه من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى بالكفر به، ومن هذا الباب التحاكم إلى محاكم النصارى وغيرهم من دول الكفر، والرضى بقوانينهم وسياساتهم وأنظمتهم التي وضعوها بآرائهم وأهوائهم، ما أنزل الله بها من سلطان، فكل من اختار التحاكم إليها على التحاكم إلى الكتاب والسنة فهو مرتد عن الإسلام، وما أكثر الواقعين في هذه الهوة المهلكة عياذًا بالله من ذلك. الثاني من حكام هذه الأزمان: الجاهل المركب الذي لا بصيرة له بالحق، وإنما يخبط خبط عشواء، فما وافق رأيه واستحسنه عقله قضى به، وما أكثر هذا الجنس والذي قبله في قضاة هذا الزمان الذي اشتدت فيه غربة الإسلام وعاد العلم عند الأكثرين جهلًا، والجهل علمًا، فالله المستعان. ومن الكفر الأصغر أيضا: كفر النعمة؛ لقول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83]. قال عون بن عبد الله: هو قول الرجل: لولا فلان لكان كذا وكذا، ولولا فلان لما كان كذا. ذكره البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره. قلت: ومن ذلك ما يجري على ألسن كثير من الجُهَّال من إسناد النعم إلى الأسباب، لا إلى المسبب الفاعل المختار جل جلاله، كقولهم: هذا من عمل يدي، أو هذا من تعبي، أو ورثته من آبائي، ونحو هذه الألفاظ

تعلق الفلكيين بالأنواء

التي يسندون فيها النعم إلى الأسباب، ويُعرضون عن المسبِّب المُيَسِّر الخالق الرازق. فريق منهم ومن ذلك أيضا: ما يذكره كثير من أهل التقاويم الفلكية في الأنواء كقولهم: هذا النوء محمود، أو مذموم، أو غزير المطر، أو قليل المطر، أو مطره نافع أو ضار، ونحو ذلك مما يضيفونه إلى الأنواء المخلوقة العاجزة، وينسون فاطر السماوات والأرض وما فيهما، الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ}، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فينزل الغيث على قوم، ويحبسه عن قوم، ويجعله نافعًا لقوم وضارًا لآخرين، وغزيرًا في موضع وقليلا في آخر، وله في كل ذلك الحكمة البالغة والمشيئة النافذة، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}. وفي الصحيحين وغيرهما، عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: صلَّى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب». ولمسلم، والنسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح بها كافرين يقولون: الكواكب وبالكواكب».

وفي رواية لمسلم: «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين؛ ينزل الله الغيث فيقولون: الكوكب كذا وكذا». وفي رواية: «بكوكب كذا وكذا». وله عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مُطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر؛ قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا» قال: فنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [سورة الواقعة: 82]. وروى الإمام أحمد، والبخاري في (التاريخ الكبير)، عن معاوية الليثي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقًا من السماء من رزقه فيصبحون مشركين» فقيل له: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا». ولأحمد أيضا من حديث إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال: شكركم، تقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا». ورواه ابنه عبد الله في (زوائد المسند)، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. وروى سفيان، عن عبد الأعلى هذا الحديث بهذا الإسناد ولم يرفعه. انتهى.

نسبة نزول الأمطار وكثرتها وقلتها إلى طبائع الأماكن وغير ذلك

وروى البخاري في (التاريخ الكبير)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو أمسك الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة منهم كافرين؛ يقولون: بنوء المِجْدَح». قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في (الأم): من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون؛ من إضافة المطر إلى أنه مطر نوء كذا، فذلك كُفر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، على معنى مطرنا في وقت كذا، فلا يكون كفرًا، وغيره من الكلام أحب إليَّ منه. انتهى. وقال ابن قتيبة: كانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء؛ إما بصنعه على زعمهم، وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم وجعله كفرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك فكفره كفر تشريك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة؛ لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشكر واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين، والله أعلم. نقل ذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري). ومن هذا الباب ما يزعمه الجغرافيون في نزول الأمطار وكثرتها وقلتها، أن ذلك راجع إلى طبائع الأماكن الأرضية والرياح، فمن اعتقد منهم أن طبائع الأرض والرياح تستقل بالإيجاد والتكوين؛ فكفره كفر تشريك، وإن زعم أن ذلك من قبيل التجربة ولم يعتقد للطبيعة شركة في الإيجاد؛ فأقل

من الكفر الأصغر رمي المسلم أخاه بالكفر

أحواله الكراهة، ويجوز إطلاق كفر النعمة عليه، والله أعلم. ومن الكفر الأصغر أيضا: ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما» رواه البخاري. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما» متفق عليه. وزاد مسلم في روايته: «إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه». ورواه البخاري في (الأدب المفرد) ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال للآخر: كافر، فقد كفر أحدهما؛ إن كان الذي قال له كافرًا فقد صدق، وإن لم يكن كما قال له فقد باء الذي قال له بالكفر». ورواه الإمام أحمد في المسند بنحوه. وفي الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك» هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: «من دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه». ورواه البخاري بهذا اللفظ في (الأدب المفرد). وله أيضا في الصحيح عن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قذف مؤمنًا بكفر فهو كقتله».

من الكفر الأصغر قتال المسلم

ومن الكفر الأصغر أيضًا: قتال المسلم؛ لما في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر». وفيهما أيضًا عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: «ويلكم -أو ويحكم- انظروا، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض». وفيهما أيضا عن جرير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ولأحمد، والبخاري، عن ابن عباس، وأبي بكرة -رضي الله عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك. وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك أيضا. ومن الكفر الأصغر أيضا: الرغبة عن الآباء مع العلم بهم، والتبرُّؤ من النسب المعروف والانتماء إلى النسب المجهول؛ لما في الصحيحين والمسند وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر». ولمسلم، والبخاري في (الأدب المفرد)، عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس من رجل ادَّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر». وفي صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

من الكفر الأصغر إباق العبد

«إنَّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم». وروى ابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كفر بامرئ ادِّعاء نسب لا يعرفه، أو جحده وإن دقَّ». ورواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط والصغير بنحوه. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب (السنة) عن أبيه بإسناده، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه أنه قال: «كفر بالله انتماء إلى نسب لا يعرف، وكفر بالله انتفاء من نسب وإن دق». ومن الكفر الأصغر أيضا: إباق العبد؛ لما في صحيح مسلم، عن منصور بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن جرير - رضي الله عنه - أنه سمعه يقول: «أيُّما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم» فقال منصور: قد والله رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكني أكره أن يروى عني ههنا بالبصرة. ومن الكفر الأصغر أيضا: أن يتولى الرجل غير مواليه؛ لما رواه البخاري في تاريخه الكبير، والدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: وجد في قائم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابان: «إنَّ أشد الناس عُتوا في الأرض رجل ضرب غير ضاربه، ورجل قتل غير قاتله، ورجل تولى غير أهل نعمته، فمن فعل ذلك فقد كفر بالله وبرسله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلا» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

من الكفر الأصغر الطعن في النسب والنياحة على الميت

قال الشافعي في مسنده: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: وجد في قائم سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب: «إن أعدى الناس على الله سبحانه وتعالى القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فقد كفر بما أنزل الله سبحانه على محمد - صلى الله عليه وسلم -». وقال الشافعي أيضا: أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن إسحاق قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي: ما كان في الصحيفة التي كانت في قراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان فيها: «لعن الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير ولي نعمته فقد كفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -». وروى أبو نعيم في الحلية، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تولى غير ذي نعمته فقد كفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -». ومن الكفر الأصغر أيضًا: الطعن في النسب، والنياحة على الميت؛ لما في المسند، وصحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت». وفي مستدرك الحاكم من حديث الأوزاعي، حدثني إسماعيل بن عبيد الله، قال: حدثتني كريمة المُزَنِيَّة، قالت: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - وهو في بيت أم الدرداء- يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة من الكفر بالله؛ شق الجيب، والنياحة، والطعن في النسب» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال المناوي في (شرح الجامع الصغير): الطعن في الأنساب: الوقوع

النصوص الواردة في تحريم النياحة

في أعراض الناس بنحو القدح في نسب ثبت في ظاهر الشرع، والنياحة على الميت: هي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله. انتهى. وقال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: النياحة: رفع الصوت بالندب، والندب تعديد النائحة بصوتها محاسن الميت، وقيل: هو البكاء عليه مع تعديد محاسنه. انتهى. وقال ابن حجر الهيتمي في كتاب (الزواجر): يحرم الندب وهو تعديد محاسن الميت كواجبلاه، والنوح وهو رفع الصوت بالندب، ومثله إفراط رفعه بالبكاء وإن لم يقترن بندب ولا نَوْحٍ، وضرب نحو الخد، وشق نحو الجيب، ونشر الشعر وحلقه ونتفه، وتسويد الوجه، وإلقاء الرماد على الرأس، والدعاء بالويل والثبور، وكل شيء فيه تغيير للزي، كلبس ما لا يعتاد لبسه أصلا أو على تلك الصفة، وكترك شيء من لباسه والخروج بدونه على خلاف العادة، ثم ذكر العلة في الكل وهو أن ذلك يشعر إشعارًا ظاهرًا بالسخط وعدم الرضا بالقضاء. انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية». وفيهما أيضًا، عن أبي بردة بن أبي موسى قال: وجع أبو موسى وجعًا غشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا برئ ممن برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة».

وفي رواية لمسلم، والنسائي، وابن ماجة، عن عبد الرحمن بن يزيد، وأبي بردة بن أبي موسى قالا: أغمي على أبي موسى فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، قالا: ثم أفاق فقال: ألم تعلمي -وكان يحدثها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق»؟ ورواه أبو داود، والنسائي، من حديث يزيد بن أوس قال: دخلت على أبي موسى وهو ثقيل فذهبت امرأته لتبكي ... فذكر نحوه. قال أبو عبيد الهروي: الصلق: الصوت الشديد، يريد رفعه في المصائب وعند الفجيعة بالموت، ويقال بالسين. انتهى، ومنه قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]، وأما الحالقة: فهي التي تحلق شعرها أو تنتفه عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثيابها، أو تخرقها عند المصيبة. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: وكل هذا حرام باتفاق العلماء. انتهى. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب ما يكره من النياحة على الميت، وقال عمر - رضي الله عنه -: دَعهُنَّ يبكين على أبي سليمان، ما لم يكن نقع أو لقلقة، والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت. انتهى. وفي الصحيحين، وغيرهما عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: «أخذ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند البيعة أن لا ننوح». ولأبي داود: «نهانا عن النياحة».

وله أيضا عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه: «أن لا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلًا، ولا نشق جيبًا، وأن لا ننشر شعرًا». وعن أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَلاَ يَعْصينَكَ في مَعْرُوف} قال: «النَّوْح» رواه ابن ماجه. وعن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: لما نزلت {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} كانت منه النياحة. رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وعن معاوية - رضي الله عنه - أنه خطب بحمص، فذكر في خطبته «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النوح» رواه ابن ماجة. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة والمستمعة» رواه أبو داود في سننه، والبخاري في (التاريخ الكبير). وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور» رواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه. وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» رواه الإمام أحمد، ومسلم. وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «النياحة من أمر الجاهلية، وإن

تعذيب الميت بما نيح عليه

النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثيابًا من قطران ودرعًا من لهب النار» رواه ابن ماجة. وله أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي الصحيحين وغيرهما، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الميت يعذب في قبره بما نيح عليه». وفيهما أيضا عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من نيح عليه؛ فإنه يعذب بما نيح عليه». وزاد مسلم في روايته: «يوم القيامة». وفي المسند من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائح: وا عضداه، وا ناصراه، وا كاسياه، جُبِذ الميت وقيل له: آنت عضدها، آنت ناصرها، آنت كاسيها». ورواه ابن ماجة، ولفظه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالوا: وا عضده، وا كاسياه، وا ناصراه، وا جبلاه ونحو هذا، يتعتع ويقال: آنت كذلك؟ آنت كذلك؟». ورواه الترمذي، ولفظه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: وا جبلاه، وا سنداه، أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت؟» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أسيد بن أسيد، عن موسى بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت ليعذب

ببكاء الحي، فإذا قالت: وا عضداه، وا مانعاه، وا ناصراه، وا كاسياه، جُبِذ الميت فقيل: أناصرها أنت؟ أكاسيها أنت؟ أعاضدها أنت؟» قال: فقلت: سبحان الله! قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] فقال: ويحك! أحدثك عن أبي موسى، عن رسول الله، وتقول هذا؛ فأيّنا كذب؟! فوالله ما كذبت على أبي موسى، وما كذب أبو موسى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه. وقوله: «جبذ الميت» أي جذب بشدة. وقال أبو موسى المديني: «يلهزانه» أي: يدفعانه ويضربانه، واللهز الضرب بجمع الكف في الصدر، ولهزه بالرمح إذا طعنه به. انتهى. وفسر أيضًا التعتعة بأنها: الأذى الذي يقلق ويزعج. وفي صحيح البخاري، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي: وا جبلاه، وا كذا وكذا تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئا إلا قيل لي: آنت كذلك؟ فلما مات لم تبك عليه. ورواه ابن سعد، من حديث أبي عمران الجوني مرسلا، وزاد فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عاده، فأغمي عليه فقال: «اللهم إن كان أجله قد حضر فيسِّر عليه وإلا فاشفه» قال: فوجد خفة فقال: كان مَلَكٌ قد رفع مرزبة من حديد يقول: آنت كذا؟ فلو قلت: نعم، لقمعني بها. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

ضرب عمر رضي الله عنه للنائحة

«إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم». زاد البخاري في روايته: «وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه». وكان عمر - رضي الله عنه - يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب. وذكر الحافظ الذهبي في كتاب (الكبائر) عن الأوزاعي، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سمع صوت بكاء، فدخل ومعه غيره، فمال عليهم ضربًا حتى بلغ النائحة، فضربها حتى سقط خمارها، وقال: اضرب فإنها نائحة، ولا حرمة لها؛ إنها لا تبكي لشجوكم، إنها تهريق دموعها لأخذ دراهمكم، وإنها تؤذي موتاكم في قبورهم وأحياءكم في دورهم؛ لأنها تنهى عن الصبر وقد أمر الله به، وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه. انتهى. وفي المسند من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وقال: مهلا يا عمر، ثم قال: «ابكين وإياكن ونعيق الشيطان» ثم قال: «إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان من الشيطان». وروى أبو نعيم في الحلية من حديث حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاح أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما هذا؟! ليس هذا مِنّا، ليس لصائح حظ، القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نُغضب الرب».

معنى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه

وفي هذين الحديثين، وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الذي قبلهما بيان الفرق بين البكاء الجائز والبكاء المحرم. وأما تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ففيه أقوال للعلماء، وأصحها؛ أن المراد بذلك التألم من توبيخ الملائكة له بسبب النياحة عليه وما يصيبه منهم من الجبذ واللهز والتعتعة، ويدل على ذلك حديث أبي موسى، وقصة عبد الله بن رواحة، والله أعلم. وإذا عرف أن النياحة كفر أصغر، وأنها من أمر الجاهلية، وما يلحق النائحة والمستمعة من اللعن، وما جاء من الوعيد الشديد للنائحة، وأن الميت يعذب في قبره بما نيح عليه، فليعلم أيضا أن النياحة فاشية في هذه الأزمان وما قبلها في كثير من المسلمين، وهي في هذه الأزمان على أضرُب كثيرة. منها: رفع الصوت بالبكاء والعويل، ويصدر هذا كثيرًا من بعض السفيهات من نساء الحاضرة، وهو في نساء البوادي أكثر. ومنها: الدعاء بالويل والثبور وما في معنى ذلك من دعوى الجاهلية، وهذا كثير جدًا في نساء البادية. ومنها: رفع الصوت بتعديد محاسن الميت، والتأسف عليه وإظهار الجزع، وهذا أيضا كثير في نساء البادية. ومنها: شق الجيوب، وهو كثير في نساء البادية أيضًا، وربما فعله بعض السفهاء من الرجال.

الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام وإنشاد الأشعار من النياحة

ومنها: إلقاء التراب أو الرماد على الرأس. ومنها: لطم الخدود ونتف الشعور ونحو ذلك. ومنها: ما يفعل في كثير من الأمصار إذا مات ملك أو رئيس كبير، نكسوا من أجل ذلك أعلامهم، وأغلقوا دكاكينهم، وامتنعوا من البيع والشراء أيامًا معلومة، يحدون فيها على ذلك الميت كما تحد النساء على أزواجهن، ويتركون كثيرا من أعمالهم المعتادة، ويغيرون كثيرا من هيئاتهم وأفعالهم. ومنها: ما يفعل في كثير من الأمصار من الاجتماع عند أهل الميت لحضور قراءة التعزية، والأكل من طعام المأتم الذي يصنعه أهل الميت. وقد روى الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. ومن النياحة أيضا: إنشاد الأشعار، وقراءة المراثي التي تثير الأحزان على أهل المصيبة، وتهيجهم على كثرة البكاء، وتدعوهم إلى الجزع وقلة الصبر. وقد روى ابن ماجة في سننه، والحاكم في مستدركه، عن عبد الله بن أبي أوفي - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن المراثي» قال الحاكم: غريب صحيح، وأقره الذهبي في تلخيصه. ومن أقبح النياحة وأعظمها خزيا وفضيحة نياحة الرافضة على الحسين بن علي رضي الله عنهما، يقيمونها -قبّحهم الله تعالى- في العشر الأُول من

المحرم كل عام؛ فلا يدعون شاذة ولا فاذة من أمور النياحة إلا أتوها، ولا سفهًا وسخفًا إلا فعلوه، وقبائحهم وفضائحهم ورعوناتهم التي تصدر منهم في مأتمهم الشنيع شهيرة معروفة، فلا حاجة بنا إلى تعدادها، وقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. وليس العجب من فعل الروافض الذين هم أضل سبيلا من الأنعام، وإنما العجب من بعض الولاة الذين ينتسبون إلى السنة ثم يخالفونها، ويرتكبون ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من أكل السحت؛ وهو ما يأخذونه من الروافض عوضًا عن تمكينهم من إقامة شعارهم الشنيع ومأتمهم القبيح، ويمنعون البيع والشراء في الأسواق وجميع الأعمال المعتادة من أجل الروافض، معاونة لهم على إشهار مأتمهم الملعون فاعله والمستمع إليه كما تقدم في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة والمستمعة». وإذا كان الراضي بالمعصية شريكًا لفاعلها في الإثم، فلا شك أن من يُمكِّن الروافض من إقامة مأتمهم ويعينهم على إقامته أولى وأحرى أن يكون شريكهم في الوزر والعار، والله أعلم.

من الكفر الأصغر تصديق السحرة والكهان والعرافين وإتيان الحائض والمرأة في دبرها

ومن الكفر الأصغر أيضا: تصديق السحرة والكهان والعرَّافين، وإتيان المرأة الحائض، وإتيان المرأة في دبرها؛ لما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، والبخاري في (التاريخ الكبير)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضًا، أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -». وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا هدبة، حدثنا همام، قال: سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها؟ فقال قتادة: حدثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هي اللوطية الصغرى» قال قتادة: وحدثني عقبة بن وساج، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر. وفي معنى إتيان المرأة في دبرها إتيان الذكر، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرافًا، أو كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» رواه الأمام أحمد، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما جميعًا ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -» رواه البزار

بإسناد جيد. وله أيضا بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -». ورواه أبو نعيم في الحلية، من حديث عمرو بن قيس الملائي، عن أبي إسحاق -يعني السبيعي- قال: حدثنا هبيرة بن يريم، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى كاهنًا، أو ساحرًا فصدقه بما يقول، فقد برئ مما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -» ثم قال أبو نعيم: رواه الثوري، عن أبي إسحاق مثله، ورواه علقمة، وهمام بن الحارث، عن عبد الله موقوفًا. وروى أبو نعيم أيضا، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: دخلت المسجد وأمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه - على المنبر وهو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل فذكر الحديث، وفيه: «إن الله تعالى قال: ليس مني من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له». وفي المسند، وصحيح مسلم، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة». وفي المسند، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، إن منا رجال يأتون الكهان؟ قال: «فلا تأتهم».

المراد بالعراف والكاهن

وتقدم حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يلج الدرجات من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر طائرًا» أي: متطيرًا. رواه ابن مردويه، وأبو نعيم، والبغوي. قال الجوهري: العراف: الكاهن والطبيب. وقال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله في (المغني): العراف: الذي يحدس ويتخرص. وقال ابن الأثير: العراف: المنجم والحازي الذي يدَّعي علم الغيب، وقد استأثر الله به. وقال ابن منظور في (لسان العرب): يقال للحازي عراف، وللقناقن عراف، وللطبيب عراف؛ لمعرفة كل منهم بعلمه، والعراف الكاهن، وفي الحديث: «من أتى عرافًا، أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» أراد بالعراف: المنجم والحازي الذي يدعي علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه. انتهى. وأما الكاهن، فقال الخطابي رحمه الله تعالى: الكاهن: هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدَّعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمور، فمنهم من كان يزعم أن له رِئيًا من الجن، وتابعة تلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه. وكان منهم من يسمى عرافًا وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على موقعها؛ كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة، وتتهم المرأة بالزنا فيعرف من صاحبها، ونحو ذلك من الأمور،

ومنهم من كان يسمى المنجم كاهنًا، فالحديث يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلهم، والرجوع إلى قولهم، وتصديقهم على ما يدَّعونه من هذه الأمور. انتهى. وقال ابن الأثير أيضا: الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدَّعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كهنة؛ كشق، وسطيح، وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعًا من الجن ورئيا يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف؛ كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوها، والحديث الذي فيه: «من أتى كاهنًا» قد يشتمل على إتيان الكاهن والعراف والمنجم. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم؛ كالحازي الذي يدعي علم الغيب، ويدعي الكشف. انتهى. وقال ابن منظور في (لسان العرب): كهن له، وتكهن: قضى له بالغيب، وكذا قال صاحب (القاموس)، قال ابن منظور: ويقال كهن لهم إذا قال لهم قول الكهنة. ونقل مرتضى الحسيني في (تاج العروس) عن (التوشيح) أن الكهانة ادعاء علم الغيب، قال: ومثله في (ضوء النبراس) و (أفعال ابن القطاع) و (الإرشاد). انتهى.

فشو التكهن في هذه الأزمان وصور ذلك

إذا عرف تفسير الكاهن والعراف، وما جاء من الوعيد الشديد في تصديقهما وتصديق السحرة، فليعلم أيضًا أن التكهن فاشٍ في هذه الأزمان، ويسميه بعضهم التنبؤ؛ يعني معرفة المغيبات والحوادث المستقبلة؛ كمجيء الأمطار، وهبوب الرياح، وصفاء الجو وكدره، مما يذيعه أعداء الله وينشرونه كثيرًا. ومن ذلك دعوى معرفة الجنين في بطن أمه أَذَكر هو أم أنثى، ومن ذلك دعوى معرفة موت أحد أو حياته، أو ما يعرض له في حياته من خير أو شر. ومن ذلك دعوى معرفة الماء في بطن الأرض، واختلاف مجاريه تحت طبقاتها، وبعد ما بينه وبين سطح الأرض، وألوان الصخور والأتربة التي بينه وبين سطح الأرض، فكل هذا من العرافة والتكهن، هذا إذا كانت دعوى معرفة الماء وما في باطن الأرض بمجرد الحدس والتخرص كما يفعله بعض الجهال الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وأما إذا كانت بالآلات المعدة لذلك فليس من هذا الباب، والله أعلم. ويسمى من يدعي معرفة الماء في بطن الأرض: القنقن والقناقن. قال ابن منظور في (لسان العرب): القنقن والقناقن -بالضم- البصير بالماء تحت الأرض والجمع القناقن؛ بالفتح. قال ابن بري: القنقن والقناقن؛ المهندس الذي يعرف الماء تحت الأرض، قال: وأصلها بالفارسية، وهو معرب مشتق من الحفر، من قولهم

بالفارسية: كِنْ كن أي: احفر احفر، وسُئل ابن عباس -رضي الله عنهما- لِم تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: لأنه كان قناقنًا يعرف مواضع الماء تحت الأرض، وقيل: القناقن الذي يسمع فيعرف مقدار الماء في البئر قريبًا أو بعيدًا. انتهى. وقد تقدم قوله: إنه يقال للقناقن عراف. وذكر في مادة (حزا) عن ابن شميل أنه قال: الحازي أقل علما من الطارق، والطارق يكاد أن يكون كاهنًا، والحازي يقول بظن وخوف، والعائف العالم بالأمور، ولا يستعاف إلا من علم وجرب وعرف، والعراف الذي يشم الأرض فيعرف مواقع المياه، ويعرف بأي بلد هو. انتهى. والمقصود هنا أنه لا يجوز إتيان القناقن الذين يدَّعون معرفة الماء في بطن الأرض؛ لدخولهم في مسمى العرافين والكهان، كما تقدم عن أئمة اللغة؛ ولأن إخبارهم بالماء إنما هو حدس وتخرص وتهجم على ما استأثر الله به من الغيب، ومن أتى القناقن فصدقهم فهو متعرض للوعيد الشديد الذي تقدم ذكره في الأحاديث التي ذكرناها قريبًا، والله أعلم. ومن ذلك أيضا دعوى معرفة السارق والعائن والساحر، ونحو ذلك من الأمور المغيبة، كمن يخبر اللديغ بلون الحية التي لدغته وطولها وفي أي موضع هي، فكل من أتى أحدًا من هؤلاء الطواغيت الذين يدَّعون معرفة

التنويم المغناطيسي والكهانة

الأمور المغيبة والكوائن المستقبلة فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجن: 26 - 27]، وما أكثر الواقعين في هذه الكفريات التي ذكرنا، نسأل الله العفو والعافية والعصمة، إنه جواد كريم. وبعض هذه الكفريات قد يلتحق بالكفر الأكبر الذي ينقل عن الملة؛ إذ هي بحسب حال فاعلها واعتقاده، والله اعلم. ومن أخبث الكهانة في هذه الأزمان ما يسمونه التنويم المغناطيسي (¬1) وهو شائع عند أمم الكفر والضلال. وفي بعض الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، إذا سُرق من أحدهم شيء، أو ضل عنه شيء من أهله أو ماله أتى إلى الكاهن المسمى عندهم بالمنوم، فأخبره بقصته على الجلية، فيدعو المنوم بصبي دون البلوغ قد أعده لعمل كهانته، فيجلس كل منهما على كرسي مقابل الآخر، ويجلس المسروق منه ونحوه عندهما، فإذا جلسوا جعل المنوم يحد النظر إلى ¬

_ (¬1) قال الوالد رحمه الله تعالى تعليقًا: وقد أطال محمد فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف) الكلام على النوم المغناطيسي، فذكره في الجزء الرابع من صفحة 365 إلى صفحة 400، وذكره أيضا وأطال عليه في الجزء العاشر من صفحة 410 إلى صفحة 420، وذكر أيضا تحضير الأرواح في مادة (اسبرتزم) في الجزء الأول من صفحة 245 إلى صفحة 252، وكل ذلك جهل وضلال وتلاعب من الشياطين ببني آدم.

الصبي، ولا يصرف بصره عنه حتى يلتبس به الشيطان، فيأخذه منه كهيئة النوم، فإذا تمكن منه الشيطان أخبره باسم السارق، وموضع السرقة، وصور له صورة السارق، وموضع السرقة والضالة ونحوهما، وتكلم بذلك على لسانه حينما يسأله المنوم عن ذلك، فإن التبس أمر المسروق والضال ونحوهما على الشيطان أول مرة عاد المنوم إلى تنويم الصبي ثانية وثالثة وأكثر حتى يتم مقصوده، وهذه الكهانة تشبه كهانة أهل الجاهلية من بعض الوجوه؛ لأن مبنى كل منهما على استخدام الشياطين، والتقرب إليهم بما يحبونه من الكفر والفسوق والعصيان، فمن أتى أحدا من الطواغيت المنومين فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.

فصل: من المنكرات الفاشية في زماننا بسبب غربة الإسلام السحر

فصل ومن المنكرات الفاشية في زماننا بسبب غربة الإسلام السحر. وهو في اللغة عبارة عما دقَّ، ولطف مدركه، وخفي سببه. قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): السحر؛ عقد ورقى، وكلام يتكلم به أو يكتبه، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة؛ فمنه ما يقتل، وما يمرض، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، وما يبغض أحدهما إلى الآخر، أو يحبب بين اثنين، قال: ولولا أن السحر له حقيقة لما أمر الله تعالى بالاستعاذة منه، قال: وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها، وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها، حتى صار متواترًا لا يمكن جحده، ورُوي من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه. انتهى ملخصًا. وقال الراغب الأصفهاني: السحر يقال على معانٍ: الأول: الخداع، وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يد، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع، وعلى ذلك قوله: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ} [طه: 66]، وبهذا النظر سموا موسى عليه السلام ساحرًا فقالوا: يا أيها الساحر. والثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه؛ كقوله:

ذم السحر والساحر

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222]، وعلى ذلك قوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. والثالث: ما يذهب إليه الأغتام (¬1)، وهو اسم لفعل يزعمون أنه من قوَّته يغير الصور والطبائع، فيجعل الإنسان حمارًا، ولا حقيقة لذلك عند المحصلين. انتهى. وقال القرطبي: السحر؛ حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك، كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيًا، ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب؛ كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكر أن الجماد ينقلب حيوانًا أو عكسه بسحر الساحر ونحو ذلك. انتهى. وقال الهروي: معنى السحر؛ قلب الشيء في عين الإنسان، وليس بقلب الأعيان. انتهى. وقد ذم الله تبارك وتعالى السحر والساحر، وأخبر أنه من المفسدين في ¬

_ (¬1) الأغتام: العجم، والغتمة؛ عجمة في المنطق، ورجل أغتم، وغتمي؛ لا يفصح شيئا. [يُنظر: لسان العرب مادة غتم].

الأرض، وحكم عليه بالخسران في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، وقال تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77]، وقال تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لا يسعد حيث كان. ذكره البغوي في تفسيره، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] أي من حظ ولا نصيب، {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي: لبئس ما باعوا به أنفسهم {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. وروى عبد الرزاق، عن صفوان بن سليم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تعلم شيئا من السحر قليلًا كان أو كثيرًا كان آخر عهده من الله» وهذا مرسل. وتقدم حديث عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له» الحديث رواه البزار بإسناد جيد. وتقدم أيضًا حديث علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل» فذكر الحديث وفيه: «ليس مني من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له» رواه أبو نعيم في الحلية. وتقدم أيضا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه» رواه النسائي.

كفر الساحر

وتقدم أيضا حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعند ابن حبان قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيء يصنعه النساء؛ يتحببن به إلى أزواجهن. وعند الحاكم قال: التولة ما يهيج النساء. وفي رواية: هو الذي يهيج الرجال. قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): تعلم السحر وتعليمه حرام، لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: وكذلك هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، ثم استدل لذلك بقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ...} إلى قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [سورة البقرة: 102] أي لا تتعلمه فتكفر بذلك. وقال الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى في

كتابه (الإشراف على مذاهب الأشراف): اختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله: فقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة مَن قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومَن تعلمه معتقدًا جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر؛ مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر. انتهى. قلت: وما قاله بعض أصحاب أبي حنيفة من التفصيل مردود عليهم؛ لأن الله تعالى أخبر أن معلم السحر كافر ومتعلمه كافر، وأطلق ولم يقيد، قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} إلى قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، ففي أول الآية دليل على كفر معلم السحر، وفي آخرها دليل على كفر متعلمه، وليس فيها ما يدل على استثناء حالة دون حالة، والله أعلم. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وذلك أنهما علما الخير والشر، والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر. واستدلت طائفة أخرى من السلف على تكفير الساحر بقوله تعالى:

أنواع السحر

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103]، ووجه الدلالة منها ظاهر، وهو أن تعلم السحر وتعليمه ينافي الإيمان والتقوى، فيكون الساحر كافرًا، والله أعلم. ورُوي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: الكاهن ساحر والساحر كافر. ذكره الذهبي في كتاب (الكبائر). ورُوي في ذلك حديث مرفوع، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الهدي): روينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دوما، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- يرفعه «كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة؛ القاتل والساحر ...» وذكر تمام الحديث. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: ترى خلقًا كثيرًا من الضُلاَّل يدخلون في السحر ويظنونه حرامًا فقط، وما يشعرون أنه الكفر، فيدخلون في تعليم السيمياء وعملها وهي محض السحر، وفي عقد الرجل عن زوجته وهو سحر، وفي محبة الرجل للمرأة وبغضها له، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة أكثرها شرك وضلال. انتهى. قلت: السيمياء: تشتمل على أنواع من السحر، منها النواميس والمخاريق، والتدخينات والتعافين، والمراقيد والإخفاءات، والطلسمات والنيرنجات وغير ذلك، وذكر بعضهم أنها تبلغ ثلاثين بابًا، وكلها من السحر. فأما النواميس فمعناها عندهم: إظهار العجائب والغرائب؛ كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، وقطع المسافة الطويلة في وقت يسير، والكلام على ما في الخواطر، ونحو ذلك مما تُعمله لهم الشياطين.

ما يعرف عند العامة بالتقمير هو من السحر

وأما المخاريق: فمعناها التخييلات والإيهامات بما لا حقيقة له. وأما التدخينات: فيعملونها للمخرقة على الناس، ولجمع الحيات، ولغير ذلك من السحر. وأما التعافين: فهي أشياء يدفنها الساحر حتى تتعفن، فيتمكن حينئذ من عمل السحر بها. وأما المراقيد: فهي أشياء يعملها السحرة للتنويم. وأما الإخفاءات: فهي أن يعمل الساحر أعمالًا يسحر بها الأبصار فلا تراه. وأما الطلسمات: فهي ضرب من التنجيم، ومعناها عندهم استنزال الروحانيات العلوية المنسوبة للكواكب. وأما النيرنجات: فهي الصرف والعطف؛ أعني عمل ما يحبب أو يبغض، وكذلك عمل ما يضر بالقلب أو البدن ونحو ذلك، فكل هذه من أعمال الشياطين، يعملونها لمن أطاعهم في معصية الله وأرضاهم بسخط الله. والكلام في حد الساحر وتوبته مبسوط بأدلته في كتب الأحكام فلا حاجة إلى ذكره ههنا، وإنما المقصود التحذير من تعلم السحر وتعليمه، وإتيان السحرة ونحوهم من الكهان والعرافين والمنجمين وتصديقهم فيما قالوه؛ لأن ذلك كفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -. ونذكر ههنا أنواع السحر التي تعمل كثيرًا في هذه الأزمان؛ لتجتنب، ويُنكَر على فاعليها ومن يأتي إليهم ويصدقهم. فمن ذلك ما يسمى عندنا بالتقمير، وهو أن يسحر أعين الناظرين ثم

يخيل إليهم أشياء من العجائب والغرائب، مثل أن يريهم أنه يقطع بعض أعضائه أو أعضاء غيره ثم يردها إلى حالتها الأولى، ويريهم أنه يجرح نفسه جروحًا موحية يسيل منها الدم الكثير ثم تبرأ في الحال ولا يبقى لها أثر، ويريهم أنه يقطع رأس غيره ثم يرده في موضعه، ويريهم أنه يمشي على الماء ويدخل النار ويبتلع الجمر، ويدخل ويخرج من المنافذ الضيقة جدا وفي بطون الحيوانات، ويغرز العصا الدقيقة في الأرض ويرقى فوقها، وربما نكس نفسه عليها فكان رأسه مما يلي العصا ورجلاه من فوق، ويريهم الإنسان في صورة الحيوان، والحيوان في صورة الإنسان، والجماد في صورة المتحرك والمتحرك في صورة الساكن، ويريهم الشيء الكبير جدًا بغاية الصغر، والصغير جدًا بغاية الكبر، إلى غير ذلك من الإيهامات التي لا حقيقة لها في نفس الأمر، وإنما هي مخرقة وتخييل على العيون لا غير، وهذا من أخبث أنواع السحر، وهو سحر سحرة فرعون، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]. وروى البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه، عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانًا وأبان رأسه فعجبنًا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله. ورواه أبو بكر الخلال، عن عبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبيه، عن يحيى بن سعيد، عن أبي إسحاق، عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل

علاقة السينما بالسحر

يلعب، فجاء جندب مشتملًا على سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحرًا. ورواه البيهقي في السنن الكبرى بسنده إلى الأسود، أن الوليد بن عقبة كان بالعراق يلعب بين يديه ساحر، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به فيقوم صارخًا، فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله، يحي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان من الغد اشتمل على سيفه، فذهب يلعب ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه وقال: إن كان صادقًا فليحي نفسه، فأمر به الوليد دينارًا -صاحب السجن- فسجنه. وروي أبو الفرج الأصفهاني بإسناده أن ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة، فجعل يدخل في جوف بقرة ويخرج، فرآه جندب - رضي الله عنه - فاشتمل على سيفه، فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب: أتأتون السحر وأنتم تبصرون؟! ثم ضرب وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر معها، فانذعر الناس، فحبسه الوليد وكتب بذلك إلى عثمان - رضي الله عنه -، وكان على السجن رجل نصراني، فلما رأى جندبًا يقوم الليل ويصبح صائمًا قال النصراني: والله إن قومًا هذا شرهم لقوم صدق، فوكل بالسجن رجلًا ودخل الكوفة، فسأل عن أفضل أهلها؟ فقالوا: الأشعث بن قيس، فاستضافه فرآه ينام الليل ويصبح فيدعو بغدائه، فخرج من عنده وسأل: أي أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا: جرير بن عبد الله، فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه، فاستقبل القبلة فقال: ربي رب جندب، وديني دين جندب، وأسلم. ومما يشبه هذا النوع من السحر في الصورة الظاهرة ما أحدثه شياطين الإنس في هذه الأزمان المتأخرة؛ وهي الآلة الخبيثة المعروفة بالسينما؛

لأن مبناها على التخييلات التي لا حقيقة لها في نفس الأمر، وقد قال الله تعالى عن سحرة فرعون: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، فأخبر سبحانه وتعالى أنهم سحروا أعين الناس؛ حتى خيلوا إليهم أن الحبال والعصي تسعى باختيارها وليست كذلك في نفس الأمر، وهكذا السينما إنما هي تخييلات إلى الناظرين بما ليس له حقيقة في نفس الأمر، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116]، وهكذا أهل السينما يضعون فيها من التخييلات أشياء كثيرة تفزع الناظرين إليها وتسترهبهم، فمن ذلك أنهم يمثلون فيها ساحة القتال حين يلتقي الجمعان ويتقابل الصفان، فيتبارز الشجعان، ويتصاول الأقران، ويصيح بعضهم ببعض ثم يختلطون، فيتضاربون بالسيوف، ويتطاعنون بالرماح وأنواع الأسلحة، ويجندل بعضهم بعضًا مما بين قتيل وما بين جريح متضمخ بدمائه يئن مما به، ويمثلون فيها أيضا من التخييلات المكذوبة ما يدهش الناظرين؛ كالرجل يقتلع النخلة العظيمة فيحملها على عاتقه، وكالرجل يحمل الصخرة العظيمة التي لا يطيق حملها الجماعات من الناس، إلى غير ذلك من المخرقة والتمويه والشعوذة الهائلة التي لم يصل إليها سحر سحرة فرعون ولا غيرهم، ومن ذلك أنهم يمثلون فيها السحاب والبرق والرعد والصواعق ونزول المطر من السماء، وغير ذلك من الأشياء التي تعجز عنها القدرة البشرية. وبالجملة فينبغي عد السينما من أعظم فنون السحر التخييلي؛ لأن جميع ما يأتي به أهل السحر التخييلي يمكن الإتيان به فيها وزيادة، ولا يستريب

في تحريم اتخاذها والحضور عندها إلا جاهل غبي لا علم له بمدارك الأحكام، فأما من نور الله قلبه بنور العلم والإيمان فإنه لا يشك في تحريم اتخاذها والحضور عندها؛ لأنها من السحر، ولعلل أخرى يأتي بيانها في ذكر الملاهي إن شاء الله تعالى. فإن قيل: إن السينما صناعة معروفة، ترسم فيها الصور، وأنواع المرئيات، ويسجل فيها الكلام وأنواع الأصوات، ويدار جميع ذلك بالآلات التي تبرز المرئيات للناظرين والأصوات للسامعين فليست من قبيل السحر. قيل: قد قدمنا أن السحر عبارة عما لطف مدركه وخفي سببه، ومعلوم أن مدارك السينما من ألطف المدارك، وأن الآلات التي تديرها خفية جدًا بحيث إن الحاضرين عندها إنما يرون الصور وأنواع المرئيات تمر عليهم ويسمعون الكلام وأنواع الأصوات تطرق سماعهم ولا يرون شيئا يدير ذلك ويأتي بما فيها ويذهب به، ولا ريب أن هذا من ألطف السحر، وقد عد بعض المفسرين في فنون السحر أشياء دون السينما بكثير. قال الرازي: النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية؛ كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصوروها ضاحكة وباكية -إلى أن قال-: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل، قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل.

الصرف والعطف من السحر الفاشي في هذه الأزمان

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يعني ما قاله بعض المفسرين أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقًا؛ فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها. انتهى. وهذا النوع الذي ذكره الرازي في فنون السحر، وأقره الحافظ ابن كثير على ذلك، يعد كلا شيء بالنسبة إلى السينما، ولولا أن الناس قد عرفوا السينما حق المعرفة واعتادوا رؤيتها لكان رهبهم مما يرون فيها عظيمًا، ولكان شأنها عندهم فوق جميع فنون السحر، فالواجب على ولاة أمور المسلمين منع السفهاء من اتخاذها والحضور عندها، ومنع من في ولاياتهم من أهل الذمة من إظهارها. ومن السحر الفاشي في هذه الأزمان أيضا: الصرف والعطف. فالصرف: إيقاع العداوة والبغضاء بين المتحابين، وعقد الرجل عن امرأته، فلا يقدر على وطئها، وحبس الرجل عن التزوج بغير زوجته، والتفريق بين المرء وزوجه أو تبغيض أحدهما إلى الآخر ونحو ذلك. وقد روي أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أم المؤمنين، ما على المرأة إذا عقلت بعيرها؟ فقالت عائشة رضي الله عنها ولم تفهم مرادها: ليس عليها شيء، فقالت: إني عقلت زوجي عن النساء، فقالت عائشة رضي الله عنها: أخرجوا عني هذه الساحرة. وأما العطف: فهو التولة وما في معناها، وبعض أهل هذه الأزمان يسمى ذلك صرفًا أيضًا، وهذا النوع من السحر يكون بعقد يعقدها الساحر وينفث فيها، ويكون بالرقى الشركية، ويكون بأدوية توضع في طعام المسحور أو

شرابه أو يبخر بها أو تذر عليه، ويكون بغير ذلك مما تعمله الشياطين للسحرة، وكثيرًا ما يؤثر هذا السحر في العقول بالنقص والتغيير، وفي القلوب بالحب والبغض، وفي الأبدان بالسقم والألم، وربما آل بالمسحور إلى الهلاك، وقد قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، ومن هذا الباب سحر لبيد بن الأعصم اليهودي للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وكان السحر قد أثر في بدنه الشريف؛ حتى مرض منه أيامًا بأبي هو وأمي ونفسي صلوات الله وسلامه عليه، وأما قلبه وعقله فلم يصل إليهما السحر بل حماهما الله تعالى وصانهما، وما كان الله تعالى ليسلط السحرة والشياطين على قلب رسوله ومقر وحيه وتنزيله، هذا لا يكون أبدًا، وأما بدنه فهو عرضة للأسقام والآلام كسائر البشر، وذلك لا يحط من قدره شيئًا بل هو مما يزيده أجرًا وثوابًا يوم القيامة. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنهما قالت: ما رأيت أحدًا أشد عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيهما أيضا عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا! قال: «أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: «أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها». وفي سنن ابن ماجة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: دخلت على

النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك، فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: «إِنّا كذلك يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر» قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء» قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: «ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلي بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء». ورواه البخاري في (الأدب المفرد) بنحوه. ورواه الحاكم في مستدركه بنحوه، وعنده قال: يا رسول الله، من أشد الناس بلاء؟ قال: «الأنبياء» قال: ثم من؟ قال: «العلماء» قال: ثم من؟ قال: «الصالحون، كان أحدهم يبتلى بالفقر؛ حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ويبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه. وروى الإمام أحمد، والدارمي، وأهل السنن إلا أبا داود، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن حبان، والحاكم وقال: على شرط الشيخين، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه.

النشرة المحرمة من السحر

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته، وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طُرُوُّهُ عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ولا فضل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان. انتهى. ومن السحر الفاشي في هذه الأزمان أيضا: النشرة المحرمة؛ وهي حل السحر بسحر مثله، ومنه صب الرصاص المذاب في إناء فيه ماء على رأس المسحور ليزول عنه السحر بزعم بعضهم، أو لترتسم صورة الساحر في الرصاص كما يزعمه آخرون، وكل هذا من أفعال الشياطين. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود بإسناد جيد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة، فقال: «هو من عمل الشيطان». وروى أبو نعيم في الحلية، من حديث شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: سألت أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النشرة، فقال: ذكروا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنها من عمل الشيطان». قال الخطابي رحمه الله تعالى: النشرة: ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن به مس الجن، وقيل: سمي نشرة لأنه ينشر بها عنه، أي يحل عنه ما خامره من الداء، ثم روى بإسناده عن الحسن أنه قال: النشرة من السحر.

أنفع علاجات السحر الرقية الشرعية

وذكر ابن الجوزي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز. وقال أيضًا: ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه فأيهما غلب الآخر قهره وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من حب الله معمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان، وفي الحديث: «لم يتعوذ المتعوذون بمثلهما» وكذلك قراءة آية الكرسي، فإنها مطردة للشيطان.

قلت: وكذلك فاتحة الكتاب، فإنها من أنجع الدواء، وقد رقى بها بعض الصحابة رضي الله عنهم لديغًا، فقام في الحال كأنما نشط من عقال، ولما أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك وقال: «وما يدريه أنها رقية؟». وفي سنن ابن ماجة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، عن أبيه أبي ليلي قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه أعرابي فقال: إن لي أخًا وجعًا، قال: «وما وجع أخيك؟» قال: به لمم، قال: «اذهب فأتني به» قال: فذهب فجاء به فأجلسه بين يديه، فسمعته عوَّذه بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول البقرة، وآيتين من وسطها، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وآية الكرسي، وثلاث آيات من خاتمتها، وآية من آل عمران أحسبه قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، وآية من الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ}، وآية من المؤمنين {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}، وآية من الجن {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر الحشر، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، فقام الأعرابي قد برأ ليس به بأس. فهذه الرقية من أنفع العلاج لمن أصيب بسحر أو جنون أو عين أو حُمّه أو غير ذلك من الأمراض. وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور، والآية التي في سورة يونس {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: {إِنَّمَا

من غربة الإسلام هجر الرقى وإتيان السحرة والكهان

صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}. وهذه الرقى الجليلة يكون تأثيرها بحسب إيمان الراقي وتوجهه إلى الله تعالى وتعلق قلبه به، فكلما كان إيمانه أقوى، وتوجهه إلى الله أعظم كان أسرع لإجابة دعوته، وتيسير طلبته، وتأثير رقيته بإذن الله تعالى وحوله وقوته. وحيث إن الدين قد ضعف جانبه في هذه الأزمان وعاد غريبًا كما بدأ؛ صار الأكثرون لا يعبأون بالرقي القرآنية والأدعية النبوية، ولا يرونها تفيد شيئًا، وصاروا يعظمون السحرة والكهان والعرافين ويصدقونهم بالباطل، فإذا أصيب أحدهم بسحر أو غلبت عليه الأوهام والظنون أن به سحرًا بادر إلى إتيان السحرة والكهان والعرافين لعلهم أن يحلوا عنه السحر ولو بسحر مثله، أو يرقوه ولو بالرقى الشركية، أو يخبروه بموضع السحر ليخرجه، أو بمن سحره ليطالبه بحل سحره، وكذلك يفعل كثير من الناس إذا أصيب أحدهم بعين أو مس من الجن أو ظن أن به إصابة العين أو الجن، فإذا ذكر لهم أحد من الكهان أو العرافين ومن يتهم باستخدام الشياطين بادروا إلى إتيانهم لعلهم أن يرقوه، أو يخبروه بالعائن ونحوه، وهذا من مكر الشيطان وتلاعبه بهم، وقد تقدم قريبًا ذكر الأحاديث الواردة في ذم من أتى ساحرًا أو كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول. وروى الإمام أحمد، والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يدخلون الجنة؛ مدمن الخمر، وقاطع الرحم، مصدق بالسحر ...» الحديث.

من أنواع السحر التنجيم

وروى الإمام أحمد أيضًا، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة صاحب خمس؛ مدم خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم، ولا كاهن، ولا منان». وما أكثر من يأتيهم ويصدقهم بالباطل، ولا يبالي بالذم والوعيد على ذلك، فالله المستعان. ومن السحر أيضا: التنجيم. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: التنجيم: هو الاستدلال بالأحوال الفلكية وحركات النجوم على الحوادث. وقال الخطابي رحمه الله تعالى: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، كأخبارهم بأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، وما كان في معانيها من الأمور، يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها وباجتماعها واقترانها، ويدعون لها تأثيرا في السلفيات، وأنها تتصرف على أحكامها وتجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاطٍ لعلم استأثر الله سبحانه به، لا يعلم الغيب أحد سواه. انتهى. وقد روى أبو نعيم في الحلية، عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى أنه قال: كذبوا والله، ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتبعون الكهنة، ويتخذون النجوم علة، ثم قرأ {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222].

وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: قال قتادة: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} خلق هذه النجوم لثلاث؛ جعلها زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدي بها، فمن تأول بغير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وصله عبد بن حميد، من طريق شيبان عنه به، وزاد في آخره: وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة، من أعرس بنجم كذا كان كذا، ومن سافر بنجم كذا كان كذا، ولعمري ما من النجوم نجم إلا ويولد به الطويل والقصير، والأحمر والأبيض، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم، وهذه الدابة، وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب. انتهى. ورواه ابن أبي حاتم بنحوه، وزاد في آخره: وقضى الله أنه {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}. ورواه الخطيب في كتاب (النجوم) وزاد في آخره: ولو أن أحدًا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء. وقد أورده الحافظ ابن كثير في تفسيره من رواية ابن أبي حاتم، ثم قال الحافظ: هو كلام جليل متين صحيح. انتهى. وقال الداودي: قول قتادة في النجوم حسن إلا قوله: أخطأ وأضاع نصيبه؛ فإنه قصر في ذلك، بل قائل ذلك كافر.

حكم التنجيم والمنجمين

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: صناعة التنجيم والاستدلال بها على الحوادث محرم بإجماع المسلمين، وأخذ الأجرة على ذلك سحت، ويمنعون من الجلوس في الحوانيت والطرقات، ويمنع الناس أن يكرموهم، والقيام في منعهم عن ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله تعالى. انتهى. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد». وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس بابًا من علم النجوم لغير ما ذكر الله فقد اقتبس شعبة من السحر، والمنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر» رواه رزين. وروى عبد بن حميد، عن رجاء بن حيوة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة». وروى ابن عساكر عن أبي محجن الثقفي مرفوعًا نحوه. وروى أبو يعلي، وابن علي، والخطيب في كتاب (النجوم)، عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: «أخاف على أمتي من بعدي خصلتين؛ تكذيبا بالقدر، وتصديقًا بالنجوم». إذا عرف هذا؛ فلا يخفى أن التنجيم كثير في هذه الأزمان، وكثيرًا ما ينشره أعداء الله في الإذاعات والصحف، فيصدق به الفئام من الناس

كذب المنجمين في تخرصاتهم

لجهلهم بتحريم ذلك، وأنه من الإيمان بالطاغوت والكفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وكثيرًا ما يتفق المنجمون على حدوث أمر مستقبل، فيفضحهم الله ويبطل قولهم، ويجعل الأمر بعكس ما زعموه، ليعلم الجاهلون بحالهم أنهم كذبة متخرصون {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 23]. وقد حدثني بعض قضاة المدينة النبوية أن المنجمين في الهند أجمعوا على أنه في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا يكون في المدينة ريح عاصف، وظلمة وصواعق، ومطر عظيم، وبرد كثير، فصدقهم الجهال بهذا الباطل وارتقبوا وقوع ذلك، فلما جاء اليوم الموعود كان الأمر فيه بعكس قول أعداء الله تعالى، فكانت الريح ساكنة لا تحرك شيئًا، وكان الجو صافيا جدًا ولم يكن غيم، ولا شيء مما زعموا وقوعه. قلت: وكذب المنجمين بنحو هذا كثيرا جدًا، وكله من التحكم على الغيب، والتعاطي لما استأثر الله به، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26]، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} [لقمان: 34]، وما أحسن ما قيل: إني بأحكام النجوم مكذّب ... ولمدّعيها لائمٌ ومؤنبُ الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيّبُ

من أنواع السحر العيافة وزجر الطير

اللهُ يُعطي وهو يمنع قادرا ... فمن المنجم ويحَهُ والكوكبُ وقال الخليل بن أحمد: أبلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب عالم أن ما يكون وما كا ... ن قضاء من المهيمن واجب ومن السحر أيضا: العيافة والطرق والطيرة؛ لما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، عن قطن بن قبيصة، عن بيه - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت». قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض، والجبت؛ قال الحسن: إنه الشيطان. وقال أبو داود رحمه الله تعالى: الطرق: الزجر، والعيافة: الخط، ثم روى عن عوف الأعرابي أنه قال: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض. وقال أبو عبيد رحمه الله تعالى: العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وكان من عادة العرب كثيرًا. وقال ابن الأثير: الطرق: الضرب بالحصى الذي يفعله النساء، وقيل: هو الخط في الرمل. وذكر الخطابي رحمه الله تعالى عن ابن الأعرابي: أنَّ صورة الخط أنْ

يقعد الحازي، ويأمر غلامًا له بين يديه، فيخط خطوطًا على رمل أو تراب، ويكون ذلك منه في خفة وعجلة؛ كيلا يدركها العد والإحصاء، ثم يأمره فيمحوها خطين خطين وهو يقول: ابنَي عيان، أسرِعا البيان، فإن كان آخر ما يبقى منها خطين فهو آية النجاح، وإن بقي خط واحد فهو الخيبة والحرمان. وذكر أبو السعادات ابن الأثير عن الحربي أنه قال: الخط: هو أن يخط ثلاث خطوط ثم يضرب عليهم بشعير أو نوي ويقول: يكون كذا وكذا، وهو ضرب من الكهانة. انتهى. قلت: وأكثر من يستعمل الكهانة بالخط، والضرب بالحصى والودع ونحو ذلك في زماننا نساء البادية، وما أحسن قول لبيد بن ربيعه - رضي الله عنه -: لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع وقال غيره: الزجر والطير والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال وقال آخر، وهو تاج الدين الكندي ذكره عنه في دائرة المعارف: دَعْ المنجمَ يكبو في ضلالته ... إن ادّعى علم ما يجري به الفلك تفرد الله بالعلم القديم فلا الـ ... إنسان يشركه فيه ولا الملك والفلاسفة يسمون الخط: الرمل، ولعمله وصورته عندهم شكل آخر غير ما ذكره أئمة اللغة، فهم يجعلون للخط بيوتًا كثيرة، ويزعمون أنهم يعرفون بدلالتها السعود والنحوس، وما في الأرحام والضمائر، وغير ذلك من المغيبات.

عد النميمة والإفساد بين الناس من السحر

وكل ذلك سحر وكهانة ورجم بالغيب، فمن أتى أحدًا منهم وصدقه بما يقول فهو ممن آمن بالجبت والطاغوت وكفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال عمر - رضي الله عنه -، والشعبي، ومجاهد: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وقال محمد بن سيرين، ومكحول: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر. وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية: الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن. وقال الجوهري: الجبت: كلمة تقع على الصنم، والكاهن، والساحر، ونحو ذلك. وقال القاضي: الجبت في الأصل: الفسل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله، وللساحر والسحر لخساستها وعدم اعتبارها. ومن السحر أيضًا: المشي بالنميمة والإفساد بين الناس؛ لما رواه الإمام أحمد، ومسلم، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أنبئكم ما العضه، هي النميمة القالة بين الناس». وروى البخاري في (الأدب المفرد)، والبيهقي في سننه، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما العضه؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض ليفسدوا بينهم». قال النووي رحمه الله تعالى: العَضْه بفتح العين المهملة وإسكان الضاد المعجمة وبالهاء على وزن الوَجْه، وروي العِضَه بكسر العين وفتح الضاد

المعجمة على وزن العِدَة، وهي الكذب والبهتان، وعلى الرواية الأولى العَضْة مصدر، يقال: عضهه عضهاً؛ أي رماه بالعضه. انتهى. قال أبو عبيد الهروي: ومنه الحديث أنه لعن العاضهة والمستعضهة، قيل: هي الساحرة والمستسحرة، وسمي السحر عضها؛ لأنه كذب وتخييل لا حقيقة له. انتهى. وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]، قال: السحر. وقال عكرمة: العضه: السحر بلسان قريش. وأما القالة: فهي كثرة القول، وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكي للبعض عن البعض. قاله أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله تعالى. وإنما أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - على النميمة اسم السحر لجامع بينها وبين السحر وهو الإفساد بين الناس؛ فكما أن الساحر يتوصل بسحره إلى إفساد ذات البين، فيفرق بين المرء وزوجه، ويوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين، ويثير الخصومة والشقاق بين الناس، ويبث فيهم أنواع الشر والفساد؛ فكذلك النمام يتوصل بالنميمة إلى ما ذُكر وأكثر منه، فهو من هذه الحيثية شر من الساحر وأعظم منه ضررًا. وقد روى أبو نعيم في الحلية، عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى أنه قال: يفسد النمام في ساعة، ما لا يفسده الساحر في شهر. وذكر ابن عبد البر عنه أنه قال: يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة.

وقال أبو الخطاب في (عيون المسائل): ومن جملة السحر المحرم السعي بين الناس بالنميمة والإفساد بينهم، وذلك شائع وعام في الناس. قال في الفروع: لأنه يقصد أذى الناس بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، فأشبه السحر، ولهذا يعلم بالعادة والعرف أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر وأكثر منه، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين، لكن يقال: إن الساحر إنما كفر بوصف السحر، وهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر، وإنما يؤثر عمله تأثير السحر ويعطى حكمه، إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة. انتهى ملخصًا. إذا عرف هذا، فالنميمة من الكبائر؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة». متفق عليه. وفي رواية للبخاري: «وما يعذبان في كبير» ثم قال: «بلى». وفي أخرى له: «وما يعذبان في كبيرة وإنه لكبير» وذكر تمام الحديث. وقد حكى الإجماع على تحريم النميمة كثير من الأئمة، وورد الوعيد الشديد للنمام، قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} إلى قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 10،11 - 16]. وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يدخل الجنة قتات».

البيان المذموم من السحر

وفي رواية لمسلم: «نمام». قال أبو عبيد الهروي: القتات: هو النمام، يقال: قت الحديث يقته إذا زوره وهيأه وسواه، وقيل: النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليهم، والقتات: الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم، والقساس: الذي يسأل عن الأخبار ثم ينمها. وقال الراغب الأصفهاني: النم: إظهار الحديث بالوشاية، والنميمة: الوشاية، وأصل النميمة الهمس والحركة الخفيفة. وقال أبو السعادات ابن الأثير: النميمة: نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشر. انتهى. وما أكثر المشائين بالنميمة، المفرقين بين الأحبة، الباغين للبرآء العيب والعنت، فيجب الإنكار عليهم، والتحذير من طاعتهم والإصغاء إليهم؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11]. ومن السحر أيضا: بعض البيان؛ وهو ما يخلب القلوب ويغلب على النفوس ويصرف الشيء عن وجهه، وهو كثير جدًا في هذه الأزمان، ومنه مذموم ومنه جائز كما سيأتي بيانه في كلام الأئمة. والدليل على أنه من السحر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان لسحرًا» رواه مالك، وأحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه الإمام أحمد أيضًا، ومسلم، من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه -. ورواه الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والبخاري في (الأدب الفرد)،

والحاكم في مستدركه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه الإمام أحمد أيضا، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. ورواه الإمام أحمد أيضا، من حديث معن بن يزيد، أو أبي معن - رضي الله عنه -. ورواه البخاري في (الأدب المفرد) والتاريخ، من حديث أبي يزيد، أو معن بن يزيد - رضي الله عنه -. ورواه أبو داود أيضا، من حديث بريدة - رضي الله عنه -، وعنده، فقال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وقال أبو عبيد الهروي: أي منه ما يصرف قلوب السامعين وإن كان غير حق، وقيل: معناه أن من البيان ما يكتسب به من الإثم ما يكتسبه الساحر بسحره، فيكون في معرض الذم، ويجوز أن يكون في معرض المدح؛ لأنه يستمال به القلوب ويترضى به الساخط ويستنزل به الصعب. وقال أيضًا: البيان: إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب، قيل: معناه أن الرجل يكون عليه الحق وهو أقوم بحجته من خصمه فيقلب الحق ببيانه إلى نفسه؛ لأن معنى السحر قلب الشيء في عين الإنسان وليس بقلب الأعيان، ألا ترى أن البليغ يمدح إنسانًا حتى يصرف قلوب السامعين إلى حبه، ثم يذمه حتى يصرفها إلى بغضه. وقال الخطابي رحمه الله تعالى: البيان اثنان:

أحدهما: ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان. والآخر: ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب وغلب على النفس، حتى يحول الشيء عن حقيقته ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره، وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح، وإذا صرف إلى الباطل يذم. قال: فعلى هذا فالذي يشبه بالسحر منه هو المذموم. وقال أيضًا: اختلف الناس في هذا وفي تأويله. فقال بعضهم: وجهه أنه ذم التصنع في الكلام، والتكلف لتحسينه وتزويقه ليروق السامعين قوله ويستميل به قلوبهم، فيحيل الشيء عن ظاهره، ويزيله عن موضوعه إرادة التلبيس عليهم، فيصير ذلك بمنزلة السحر الذي هو -أو نوع منه- تخييل لما لا حقيقة له، وتوهيم لما ليس له محصول، والسحر منه مذموم، وكذلك المشبه به. وقال آخرون: بل القصد به مدح البيان، والحث على تخير الألفاظ والتأنق في الكلام. وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا طلب إليه حاجة -كان يتعذر عليه إسعافه بها- فرقق له الكلام فيها حتى استمال به قلبه، فأنجزها له ثم قال: هذا هو السحر الحلال. انتهى. والقول الأول أولى؛ لأن السحر مذموم، فكذلك ما شابهه من البيان المزوق.

والدليل على أنه للذم ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري رحمه الله تعالى في (الأدب المفرد) بإسناد جيد، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قدم رجلان من المشرق خطيبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقاما فتكلما ثم قعدا، وقام ثابت بن قيس خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلم، فعجب الناس من كلامهما، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: «يا أيها الناس قولوا قولكم، فإنما تشقيق الكلام من الشيطان» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان سحرًا». وقال أبو موسى المديني: تشقيق الكلام: التطلب فيه ليخرجه أحسن مخرج. وروى الإمام أحمد أيضا، من حديث معاوية - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لعن الله الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر». قال المناوي في (شرح الجامع الصغير): الشعر بكسر الشين، وسكون العين؛ أي: يلوون ألسنتهم بألفاظ الخطبة يمينًا وشمالًا، ويتكلف فيها الكلام الموزون المسجع؛ حرصا على التفصح، واستعلاء على الغير تيهًا وكبرًا، يقال: تشقق في الكلام والخصومة إذا أخذ يمينا وشمالا وترك القصد وتصلف وتكلف ليخرج الكلام أحسن مخرج. انتهى. وروى البخاري في (الأدب المفرد) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: خطب رجل عند عمر فأكثر الكلام، فقال عمر - رضي الله عنه -: إن كثرة الكلام في الخطب من شقاشق الشيطان. الشقاشق: جمع شقشقة بكسر الشين، وهي ما يخرجه الجمل في فيه إذا

هاج كالرئة. قال أبو عبيد الهروي: الشقشقة: الجلدة الحمراء التي يخرجها الجمل العربي من جوفه ينفخ فيها فتظهر من شدقه، ولا تكون إلا للعربي، شبه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر، ولسانه بشقشقته، ونسبها إلى الشيطان لما يدخل فيه من الكذب والباطل، وكونه لا يبالي بما قال. ومما يدل أيضا على أنه للذم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، قال: وفي الباب عن سعد - رضي الله عنه -. قال أبو السعادات ابن الأثير: هو الذي يتشدق في الكلام، ويفخم به لسانه، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًا. انتهى. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلَّم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً» رواه أبو داود. وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحياء والعِيُّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» رواه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قال الترمذي رحمه الله تعالى: العيّ قلة الكلام، والبذاء هو الفحش في

الكلام، والبيان هو كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيتوسعون في الكلام ويتفصحون فيه من مدح الناس فيما لا يرضي الله. انتهى. فهذا ونحوه من تكلف الفصاحة بالثرثرة، والتشدق، ومدح الناس وذمهم هو البيان المذموم، وهو الغالب على خطباء زماننا، والمتأكلين فيه بألسنتهم وأقلامهم. وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ويرغب فيه، ويبطل الباطل ويبينه وينفر منه فهو ممدوح مرغب فيه، وليس من السحر في شيء، وإنما السحر ما قصد به الباطل، وما اجتلبت به الأمور الدنيوية، والله أعلم. وقد تقدم في أول الكتاب حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها» رواه الإمام أحمد، وأشار إليه الترمذي في جامعه. وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عما سيقع في آخر الزمان، فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، وقد كثر هذا الضرب من الناس في زماننا، ودخل معهم كثير من المنتسبين إلى العلم والأدب، ولهم في تحصيل الحطام طرق شتى، فمنهم من يستعمل بلاغته وبيانه في الخطابة بين يدي الملوك والأكابر؛ فيتكلف الفصاحة وتحسين الكلام وتزويقه، ويتشدق فيه ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًا، وأكثرهم لا يتقيد بالجائز من الكلام، بل يتعدى إلى المنهي عنه من إطراء الملوك والرؤساء ومدحهم بما ليس فيهم، وربما تعدَّى بعضهم

إلى تشريكهم بالله تعالى فيما هو من خصائص الربوبية والألوهية، وقد رأينا وسمعنا وبلغنا من ذلك الشيء الكثير. ومنهم من يتأكل بشعره، ومنهم من يتأكل بما ينشره في الجرائد والمجلات ومقدمات الكتب؛ من مدح الملوك والأكابر، وكلما زادوه قليلاً من حطام الدنيا زاد في إطرائهم ومدحهم بما ليس فيهم. ومنهم من ينشر الطعن والسباب في الجرائد والمجلات، لعله أن يعطى لاتقاء شره، ومنهم من يتأكل بتصنيف الكتب في مدح الملوك وإطرائهم وتمجيدهم بما ليس فيهم، لعله أن يحظى بذلك عندهم ويحصل له الجاه والمال وغير ذلك من المآرب الدنيوية بسببهم، إلى غير ذلك من طرق المآكل وتحصيل الحطام بالتشدق والبلاغة وسحر البيان، فالله المستعان.

فصل: من أعظم المنكرات التهاون بالجمع والجماعات

فصل ومن أعظم المنكرات التي فشت في المسلمين -فانثلم بذلك الإسلام وازداد غربة وضعفًا- تضييع الصلاة، والتهاون بالجُمع والجماعات، فكثير من المنتسبين إلى الإسلام عن صلاتهم ساهون، وبها متهاونون، فبعضهم يتركها بالكلية، وبعضهم يصلي بعضًا ويترك بعضًا، وبعضهم يجمع صلاة الأسبوع ونحوه ثم ينقرها جميعًا، وبعضهم يصلي الجمعة ويترك ما سواها، وكل هذا كفر كما تقدم تقرير ذلك بأدلته من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم. وكثير من المصلين يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو إلى آخر وقتها، ولا يبالون بتأخيرها، وسواء عندهم الصلاة في أول الوقت أو في آخره أو بعده، وهذا الفعل الذميم كثير جدًا في القراء الفسقة، وفي أرباب الوظائف والأعمال الدنيوية، فترى كثيرًا منهم يثابرون على الأعمال الدنيوية ويحافظون على الأوقات المقررة لها ولو كان في ذلك تفويت الصلاة عن وقتها، أو تأخيرها إلى آخر وقتها، وإذا جاء وقت الصلاة وكانوا في عمل من أعمالهم جعلوا ذلك العمل عذرًا لهم في تأخير الصلاة وعدم حضور الجماعة، وإن لم يكونوا في عمل حضرهم حينئذ النوم والكسل وأنواع الشواغل المثبطة، وربما تمارضوا من غير مرض، حتى إذا ما جاء وقت عمل من أعمالهم الدنيوية -في أي وقت كان من ليل أو نهار- قاموا إليه بجد ونشاط ورغبة صادقة، وقطعوا كل شاغل يشغلهم عنه؛ ولو كان من

التهاون بالصلاة من صفات المنافقين

أحب الأشياء إليهم، وكذلك العاكفون على أنواع اللهو واللعب وما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ مثل الراديو والسينما والكرة والجنجفة والكيرم وغيرها من أنواع الميسر والملاهي هم من أكثر الناس تهاونًا بالصلاة، وتضييعًا للأوقات، وتخلفًا عن الجماعات، وغفلة عن ذكر الله تعالى وشكره، وهذا عين النفاق قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}، وقال تعالى: {وَلَا يَاتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى}. وفي الموطأ، والمسند، وصحيح مسلم، والسنن إلا ابن ماجة، من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تلك صلاة المنافق؛ يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا» هذا لفظ مسلم، والترمذي، والنسائي. ولفظ مالك، وأبي داود: «تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين؛ يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان، أو على قرني الشيطان، قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا». ورواه الإمام أحمد بنحوه. وفي رواية لأحمد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بصلاة المنافق؟ يدع العصر حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، أو على قرني الشيطان، قام فنقرها نقرات الديك لا

يذكر الله فيها إلا قليلًا». وعن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بصلاة المنافق؟ أن يؤخر العصر حتى إذا كانت الشمس كثرب البقرة صلاها» رواه الدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه. قوله: «كثرب البقرة» يعني: صفراء، قد تفرق ضوأها (¬1) على وجه الأرض، والثرب: هو الشحم الرقيق الذي يغشي الكرش والأمعاء، شبه به نور الشمس إذا اصفر وصار في موضع دون موضع. وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار». وفي رواية: «ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينا لشهدها؛ يعني صلاة العشاء» هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: «والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء». قال أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى: «مرماة» ما بين ظلف الشاة من اللحم. وقال أبو عبيد الهروي: «المرماة» لف الشاة، وقيل: ما بين ظلفيها، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله سبق قلم، والصواب «ضوؤها».

ما ورد من الوعيد الشديد لمن يؤخر الصلاة عن وقتها

وتكسر ميمه وتفتح. وقال أيضًا: «العرق» بالسكون: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم، يقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك. انتهى. وفي سنن أبي داود، والنسائي، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول لله - صلى الله عليه وسلم - يومًا الصبح فقال: «أشاهد فلان؟» قالوا: لا، قال: «أشاهد فلان؟» قالوا: لا، قال: «إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على الركب». وفي الموطأ، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح، لا يستطيعونهما» أو نحو هذا. وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن إلا الترمذي. وقال أبو الدرداء: لأنا أعلم بشراركم من البيطار بالخيل، هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبرا، ولا يسمعون القرآن إلا هجرًا. رواه الإمام أحمد في (الزهد)، وأبو نعيم في الحلية. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: ابن آدم، أي دينك يعز عليك إذا هانت عليك صلواتك، وإذا هانت عليك صلواتك فهي على الله أهون. رواه الإمام أحمد في (الزهد). وقد ورد الوعيد الشديد لمن يتهاون بالصلاة ويؤخرها عن أوقاتها؛ قال

معنى إضاعة الصلاة الواردة في قوله عز وجل: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة}

الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59 - 60]. قال ابن مسعود، والقاسم بن مخيمرة، وإبراهيم، وعمر بن عبد العزيز: إضاعتها؛ تأخيرها عن وقتها. وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا العصر حتى تغرب الشمس. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فسر الصحابة والتابعون إضاعتها بتفويت وقتها، والتحقيق أن إضاعتها تتناول تركها، وترك وقتها، وترك واجباتها وأركانها. انتهى. وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من ترك الصلاة عامدًا حتى يخرج وقتها عاص لله، وذكر بعضهم أنها كبيرة من الكبائر، وأجمعوا على أن على العاصي أن يتوب من ذنبه بالندم عليه، واعتقاد ترك العود إليه. انتهى. وقد اختلف في معنى قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}: فقيل: عذابًا. قال الراغب الأصفهاني: سماه الغي لما كان الغي هو سببه، وذلك كتسمية الشيء بما هو سببه، قيل: معناه فسوف يلقون أثر الغي وثمرته. انتهى. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي: خسرانا، وهذا قول الضحاك. وقال قتادة: شرًا.

وقيل: هلاكًا. وقيل: نهر في جهنم. وقيل: واد في جهنم. رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وأبي أمامة الباهلي وعائشة وأبي عياض وشفي بن ماتع وعطاء وكعب، وهذا القول يجمع الأقوال؛ لأن دخول جهنم هو غاية العذاب الأليم، ونهاية الخسران المبين، ومنتهى الشر والهلاك، عياذًا بالله من ذلك. قال البغوي في تفسيره: قال وهب: الغي؛ نهر في جهنم، بعيد قعره خبيث طعمه. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: الغي؛ واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره، أُعد للزاني المصر عليه، ولشارب الخمر المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولامرأة أدخلت على زوجها ولدًا. وقال عطاء: الغي؛ واد في جهنم يسيل قيحًا ودمًا. وقال كعب: هو واد في جهنم، أبعدها قعرًا، وأشدها حرًا، فيه بئر تسمى البهيم، كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فتسعر بها جهنم. قلت: وذكر البخاري في (التاريخ الكبير) عن عائشة -رضي الله عنها- {غَيًّا}: نهر في جهنم. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: قال سفيان الثوري، وشعبة، ومحمد بن إسحاق السبيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: واد في جهنم من قيح ودم.

قلت: وقد رواه الحاكم في مستدركه، من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله - رضي الله عنه - في قوله عز وجل: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: نهر في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروى ابن جرير، ومحمد بن نصر المروزي، عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفًا، ثم تنتهي إلى غيٍّ وأثام» قال: قلت: ما غي وأثام؟ قال: «بئران في أسفل جهم، يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، وقوله في الفرقان: {وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]». قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا حديث غريب، ورفعه منكر. انتهى. وروى محمد بن نصر، والبغوي في تفسيره، كلاهما من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشيم بن بشير، أخبرنا زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال: سمعت أبا أمامة الباهلي - رضي الله عنه - يقول: «إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي، أو قال: صخرة تهوي، عِظمها كعشر عشروات سمان» فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد: هل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: نعم، غي وأثام. وقال أيوب بن بشير، عن شفي بن ماتع قال: إن في جهنم واديًا يسمى

المراد بالسهو الوارد في قوله عز وجل: {الذين هم عن صلاتهم ساهون}

غيا، يسيل دمًا وقيحًا، فهو لمن خلق له، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. وقال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل؛ شرّابين للقهوات -يعني الخمور- ترّاكين للصلوات، لعابين بالكعبات، رقّادين عن العتمات، مفرّطين في الغدوات، ترّاكين للجماعات، ثم تلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. ومن الوعيد الشديد للمتهاونين بالصلاة قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}. قال أبو السعادات ابن الأثير: السهو في الشيء تركه عن غير علم، والسهو عنه تركه مع العلم، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}. انتهى. ولهذا قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: {عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ولم يقل: في صلاتهم ساهون. وتقرير كلامه رحمه الله تعالى: إن السهو عن الصلاة هو إضاعتها مع العلم، وذلك مما يؤاخذ به العبد؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]. وأما السهو في الصلاة فإنما يصدر عن غير علم وقصد، وذلك معفو عنه؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]، ولقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} [البقرة: 286]. وثبت في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

«أن الله تعالى قال: نعم»، ومن حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن الله تعالى قال: قد فعلت». وفي سنن ابن ماجة، وصحيح ابن حبان، وسنن الدارقطني، ومستدرك الحاكم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وأيضًا فالسهو عن الصلاة إنما يصدر عن نفاق، وقلة رغبة في العبادة، وأما السهو في الصلاة فإنه يصدر عن النسيان، وهو مما تتقاضاه الطباع البشرية، وقد طرأ على سيد المرسلين مرارًا -صلوات الله وسلامه عليه- وقال: «إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» الحديث، وشتان ما بين السهوين، والله أعلم. وفي ورود الوعيد خاصًا باللذين يتكاسلون عن الصلاة المكتوبة ويتهاونون بها دون أهل الخطأ والنسيان نعمة عظيمة على المؤمنين يجب شكرها، والله الموفق. وقد اختلف السلف في معنى السهو عن الصلاة: فقيل: هو تركها بالكلية. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هم المنافقون، يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس، ويصلونها في العلانية إذا حضروا. وقال حيوة بن شريح: أخبرني أبو صخر أنه سأل محمد بن كعب

القرظي عن قوله: {هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال: هو تاركها. وقال قتادة: ساهٍ عنها لا يبالي صلى أم لم يصل. وقال الحسن: هو الذي إن صلاها صلاها رياء، وإن فاتته لم يندم. وقيل: هو إضاعة الوقت. قاله سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وأبو العالية، ومسروق، وأبو الضحى. قال حماد بن زيد: حدثنا عاصم عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: يا أبتاه، أرأيت قول الله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أينا لا يسهو، أينا لا يحدث نفسه؟! قال: إنه ليس ذاك، ولكنه إضاعة الوقت. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي، وابن جرير، ومحمد بن نصر المروزي، والبغوي، كلهم من حديث عكرمة بن إبراهيم الأزدي، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن أبيه - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال: «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ضعف البيهقي رفعه، وصحح وقفه، وكذلك الحاكم. انتهى. وقال أبو العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها وسجودها. وقال مجاهد: غافلون عنها يتهاونون بها. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: كانوا يؤخرونها حتى يخرج الوقت. قلت: وظاهر الآية العموم؛ فيدخل في ذلك من ترك الصلاة بالكلية، ومن فرط في وقتها، ومن تغافل عنها وتهاون بها، ومن لم يتمها على الوجه

المراد بالويل الوارد في قوله عز وجل: {فويل للمصلين}

المشروع. وقد قرر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} قال: الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها، ثم هم عنها ساهون، إما عن فعلها بالكلية، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعًا فيخرجها عن وقتها بالكلية، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائمًا أو غالبًا، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها؛ فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكن من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها وكمل له النفاق العملي. انتهى. وأما الويل، فقال أبو موسى المديني: هو الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل. وقال ابن كثير: الويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وقال سفيان الثوري، عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل؛ صديد في أصل جهنم. وقال عطاء بن يسار: الويل وادٍ في جهنم، لو سُيِّرت فيه الجبال لماعت. وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر سبعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره». وفي رواية بعضهم: «أربعين خريفًا» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

ومن الوعيد للمتهاونين بالصلاة ما جاء في صحيح البخاري، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم من رؤيا؟» قال: فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وأنه قال لنا ذات غداة: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهد الحجر ههنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق -فذكر الحديث بطوله وفيه- أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة». وروى ابن جرير وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - حديث الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: «ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة». ومن الوعيد أيضا للمتهاونين بالصلاة ما رواه الإمام أحمد، وابنه عبد الله، والطبراني، وابن حبان في صحيحه، والآجري في كتاب (الشريعة) عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: «مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومَن

لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، ويأتي يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف». قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر؛ لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة؛ وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله ماله أو ملكه أو رياسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسة من وزارة أو غيرها فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف. انتهى. وروى مالك، وأحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة». ورواه الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، عن عبادة - رضي الله عنه - قال: أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خمس صلوات افترضهن الله عز وجل على عباده، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، فأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه». وروى أبو داود أيضًا، وابن ماجة عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله

- صلى الله عليه وسلم -: «قال الله عز وجل: إني فرضت على أمتك خمس صلوات وعهدت عندي عهدًا أنه من جاء يحافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي». وروى الإمام مالك في (الموطأ) أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. وروى أبو نعيم في الحلية، من طريق الأوزاعي قال: كتب عمر -يعني ابن عبد العزيز- إلى عماله: اجتنبوا الاشتغال عند حضرة الصلاة، فمن أضاعها فهو لما سواها من شعائر الإسلام أشد تضييعًا. وفي الصحيحين، و (الموطأ)، والمسند، والسنن، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتر أهله وماله». وفي مسند الإمام الشافعي بإسناد صحيح، عن نوفل بن معاوية الديلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله». قال البخاري رحمه الله تعالى: {يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}؛ وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً، أو أخذت له مالاً. وذكر النووي عن مالك رحمه الله أنه قال: معناه: انتزع منه أهله وماله. وقال الخطابي رحمه الله تعالى: معنى وتر: أي نقص أو سلب فبقي وترا فردا بلا أهل ولا مال، يريد: فليكن حذره من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله. انتهى.

الذين يعتادون النوم عن صلاة الصبح داخلون في حكم تاركها

وتقدم كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى مع الأحاديث في حكم تارك الصلاة. وروى الترمذي، وابن أبي حاتم، والدارقطني، والحاكم في مستدركه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من جمع بين الصلاة من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر». وروى ابن أبي حاتم أيضا، عن أبي قتادة العدوي قال: قرئ علينا كتاب عمر - رضي الله عنه -: من الكبائر جمع بين الصلاتين؛ يعني من غير عذر، والفرار من الزحف، والنهبة. وروى أبو داود، وابن ماجة، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا تقبل لهم صلاة؛ الرجل يؤم القوم وهم له كارهون، والرجل لا يأتي الصلاة إلا دبارًا؛ يعني بعدما يفوته الوقت، ومن اعتبد محررًا». وما أكثر من لا يأتي الصلاة إلا دبارًا في زماننا، ولا سيما في صلاة الفجر، فإن كثيرًا من المتهاونين بالصلاة لا يصلونها إلا بعد ارتفاع الشمس، وهذا آية النفاق؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر ...» الحديث. وقد تقدم في حكم تارك الصلاة ما ذكره ابن حزم، والحافظ عبد الحق الإشبيلي، عن جملة من الصحابة، وجمع من الأئمة بعدهم: أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدًا حتى يخرج وقتها فهو كافر، ولا يبعد أن يكون

هؤلاء الذين يعتادون النوم عن صلاة الصبح حتى تطلع الشمس من المتعمدين للتأخير، فيدخلون في حكم المرتدين، والله أعلم. وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، عن جندب بن عبد الله بن سفيان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم» هذا لفظ مسلم. ولفظ الترمذي: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في ذمته». وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى صلاة الصبح فله ذمة الله، فلا تخفروا الله ذمته، فإنه من أخفر ذمته طلبه الله حتى يكبه على وجهه». وفي سنن ابن ماجة، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في عهده، فمن قتله طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه». وله أيضا عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله عز وجل». ورواه الإمام أحمد في مسنده ولفظه قال: «من صلى الغداة فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله تبارك وتعالى في ذمته». وفي جامع الترمذي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من

الاحتجاج بحديث «ليس في النوم تفريط» والجواب عنه

صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن جندب، وابن عمر رضي الله عنهم. فدلت هذه الأحاديث على أن من تهاون بصلاة الفجر وأخرها عن وقتها فليست له ذمة الله، وهذا يشعر بخروجه من الإسلام؛ لأن كل مسلم له ذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم؛ الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» رواه البخاري. فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس في النوم تفريط» وفي الحديث الآخر: «رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- النائم حتى يستيقظ» فدل هذا على أن النائم عن صلاة الصبح وغيرها لا يأثم، ولا يؤاخذ به. قيل: ليس في هذا -بحمد الله تعالى- حجة لأهل الكسل، والتهاون بالصلاة، وبيان ذلك من وجهين: أحدهما: أن النائم لا يخلو إما أن يكون من أهل المحافظة على الصلاة والاهتمام بها، وإيثارها على النوم وغيره من أغراض النفس وشهواتها. وإما أن يكون من أهل السهو عنها والتهاون بها والتضييع لأوقتها. فالقسم الأول إذا غلب أحدهم النوم عنها في بعض الأحيان ولم يكن عنده من يوقظه فهو معذور وليس في نومه تفريط، والدليل على هذا ما

جرى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضي الله عنهم- في بعض أسفارهم من النوم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً أن يكلأ لهم الليل ويوقظهم للصلاة، فغلبه النوم، وفي القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فزع حين استيقظ وكذلك أصحابه قاموا فزعين، وقال بعضهم لبعضهم: قد فرطنا في صلاتنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة». وهكذا حال أتباعهم المحافظين على الصلاة إذا غلب أحدهم النوم عن صلاته قام فزعًا مغتمًا حزينًا على فوات الوقت، يرى أن نومه عن الصلاة مصيبة من المصائب، وهذا بخلاف حال أهل الكسل والإضاعة والتهاون بالصلاة، فإنهم يغضبون إذا أوقظوا للصلاة في وقتها، ويشق ذلك عليهم، ويكرهونه أشد الكراهة، وربما كلح أحدهم في وجه والديه إذا أيقظاه، وواجههما بالقول السيء، فيجمع بين جرمين عظيمين؛ أحدهما: التهاون بالصلاة، وثانيهما: عقوق الوالدين، ويشتم غير والديه، ويسبهم ويزجرهم عن التعرض لإيقاظه، وقلَّ أن يقوم أحدهم إلى الصلاة إذا أُوقظ لها، بل يعود إلى مضجعه حتى تشبع نفسه الخبيثة من النوم، وهذا الضرب إذا لم يخش أحدهم من التأديب على التخلف عن الصلاة لم يقم إليها في الوقت إلا نادرًا، ولا سيما في صلاة الصبح، ومن كانت هذه حاله فلا شك أنه مفرط في حال يقظته ونومه، وكيف لا يكون مفرطًا من يُمضي أكثر ليله في أشغال دنياه، أو في أشغال دنيا غيره، أو في البطالة والقيل والقال والعكوف على الملاهي وما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإذا أقبل وقت الصلاة نام ولم يبال بها، وهذا هو التفريط بعينه، والدليل على أن هؤلاء

كراهة النوم قبل العشاء والحديث بعدها

غير معذورين بنومهم عن الصلاة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» الحديث، فلو كان للمتهاون بالصلاة أدنى عذر لعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يهم بتحريق بيوتهم عليهم. الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبل العشاء الآخرة، والحديث بعدها، وينهى عنه، كما في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها». وقال أبو داود في سننه: باب النهي عن السمر بعد العشاء: حدثنا مسدد، أخبرنا يحيي، عن عوف قال: حدثني أبو المنهال، عن أبي برزة - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النوم قبلها، والحديث بعدها» إسناده صحيح. وقد خرج البخاري رحمه الله تعالى بهذا الإسناد بعينه حديث أبي برزة مطولاً في باب ما يكره من السمر بعد العشاء. وقد رواه الإمام أحمد، عن وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي المنهال، عن أبي برزة - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النوم قبلها والحديث بعدها» إسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه الطبراني في معجمه الصغير، من طريق سوار بن عبد الله القاضي، عن أبي المنهال، عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن

النوم قبل العشاء والحديث بعدها». وروى الطبراني في معجمه الكبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن النوم قبل العشاء، وعن الحديث بعدها». وقال ابن ماجة في سننه: باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء، وعن الحديث بعدها، ساق فيه ثلاثة أحاديث. أحدها: حديث أبي برزة - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره النوم قبلها والحديث بعدها». وثانيها: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل العشاء ولا سمر بعدها». وثالثها: من طريق محمد بن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «جدب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السمر بعد العشاء» قال ابن ماجة: يعني زجرنا، إسناده كلهم ثقات. وقد رواه الإمام أحمد، من طريق خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «جدب إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السمر بعد العشاء» قال خالد: معنى «جدب إلينا» يقول عابه وذمه. ورواه الإمام أحمد أيضًا، عن وكيع، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي وائل، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجدب لنا السمر بعد العشاء». وروى الإمام أحمد أيضا، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا سمر بعد الصلاة -يعني العشاء الآخرة- إلا لأحد رجلين: مصل أو مسافر» ورواه أبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، وذكر الترمذي

الحكمة من كراهية النوم قبل العشاء والسمر بعدها

في جامعة تعليقًا. وروى الحافظ ضياء الدين المقدسي في (الأحكام)، من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: «لا سمر إلا الثلاثة: مصل، أو مسافر، أو عروس». وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يضرب الناس على ذلك ويقول: أسمرًا أول الليل ونومًا آخره؟! قال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: وسبب كراهة النوم قبلها أنه يعرضها لفوات وقتها باستغراق النوم، أو لفوات وقتها المختار والأفضل، ولئلا يتساهل الناس في ذلك فيناموا عن صلاتها جماعة، وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو في وقتها المختار أو الأفضل. انتهى. وإذا تقرر أن علة النهي عن السمر بعد العشاء الآخرة كونه مظنة لترك قيام الليل، وتفويت صلاة الفجر عن وقتها، فلا ريب أن مرتكب النهي من غير عذر شرعي لا يكون معذورًا بنومه عن الصلاة؛ لأن سمره معصية، ونومه عن الصلاة تفريط ظاهر، والله أعلم. فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمر هو وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- في الأمر من أمور المسلمين، وكان يتحدث مع أهله بعد العشاء الآخرة؛ فدل على أن في الأمر سعة. قيل: التوسع في هذا مقيد بما قام الدليل على جوازه، وما عداه يبقى

السمر الجائز

على أصل العموم في النهي والكراهة؛ فمن الجائز سمر ولي الأمر مع خاصته في الأمر من أمور المسلمين لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين، وأنا معهما» رواه الإمام أحمد، والترمذي وقال: حديث حسن، قال: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وأوس بن حذيفة، وعمران بن حصين. وفي ذلك محادثة الرجل أهله قليلاً قبل أن يرقد؛ لما في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «تحدث مع أهله ساعة ثم رقد». ومن ذلك تقديم القِرى للضيف، ومحادثته قليلاً؛ لقصة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - مع أضيافة؛ وهي في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما. ومن ذلك تعلم العلوم الشرعية وتعليمها والمذاكرة فيها؛ لحديث أنس، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء الآخرة وهما في الصحيحين. ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يخرج من الليل فيطوف بالمدينة. رواه الإمام مالك، وابن إسحاق في السيرة. قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد العشاء الآخرة؛ فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء، ورخص بعضهم إذا كان في معنى العلم،

ما يجب مراعاته في السمر الجائز

وما لابد منه من الحوائج، وأكثر الأحاديث على الرخصة؛ يعني فيما ذكر. وقال النووي: اتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها، إلا ما كان في خير. وقال في رياض الصالحين: باب كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة، والمراد به الحديث الذي يكون مباحًا في غير هذا الوقت وفعله وتركه سواء، فأما الحديث المحرم أو المكروه في غير هذا الوقت فهو في هذا الوقت أشد تحريمًا وكراهة، وأما الحديث في الخير كمذاكرة العلم، وحكايات الصالحين، ومكارم الأخلاق، والحديث مع الضيف، ومع طالب حاجة ونحو ذلك، فلا كراهة فيه بل هو مستحب، وكذا الحديث لعذر وعارض لا كراهة فيه. انتهى. إذا تقرر هذا فينبغي أن يراعى في السمر الجائز ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله هو وأصحابه رضي الله عنهم، فإنهم لم يكونوا يتخذون السمر عادة مستمرة كما يفعله أهل الغفلة والبطالة وأهل الجشع والحرص على جمع المال، وإنما كانوا يسمرون في الحين بعد الحين بقدر الحاجة اللازمة، ولم يكونوا يسمرون سمرًا طويلاً يفوت عليه بسببه شيء من قيام الليل؛ فضلاً أن يضيعوا صلاة الصبح ويؤخروها إلى أن ترتفع الشمس كما يفعله كثير من السمار في هذه الأزمان، فالله المستعان. ومما لا ريب في تحريمه سمر كثير من الناس على الأمور المحرمة، فبعضهم على الوقيعة في المسلمين بالبهتان والغيبة، والسب والسخرية والاستهزاء، وما في معنى ذلك من انتهاك الأعراض المحرمة ظلمًا وعدوانًا.

وبعضهم على اللعب بالجنجفة والمقامرة بها، وكذلك اللعب بالكيرم ونحوه، وبعضهم على اللعب بالكرة والمقامرة بها والقمار من الميسر، وبعضهم يعكف على الراديو طول ليله أو أكثره يستمع إلى الغناء وأصوات النساء ونغماتهن، وأنواع المزامير والمعازف، أو إلى الاستهزاء بالقرآن والترجيع به كما يرجع بالغناء والرهبانية والنوح، أو إلى أنواع الخلاعة والمجون وما يدعو إلى الفسوق والعصيان وارتكاب الإثم والفجور، أو إلى الأضاحيك المهزولة والقصص والأحاديث المكذوبة، وقيل وقال وزعموا، وغير ذلك من المنكرات التي مدارها على الصد عن سبيل الله، وبعضهم يسمر الليل كله أو أكثره عند السينما ليشاهد ما فيها من التخييلات السحرية التي هي أعظم من الخمر والميسر في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات التي يسمر عليها أهل الغفلة والبطالة، ويضيعون من أجلها الصلاة المكتوبة وربما تركوها بالكلية، فالله المستعان على زمان كثرت فيه الفتن، وفشت فيه المنكرات وظهرت، وضعف فيه جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واشتدت غربة الإسلام والإيمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فصل: تأخير الصلاة عن وقتها

فصل وكما أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر؛ فكذلك تقديمها على الوقت لا يجوز؛ لأن دخول الوقت شرط من شروط الصلاة، فلا تصح الصلاة بدونه؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي: مفروضا في الأوقات. قال ابن مسعود، وابن عباس -رضي الله عنهم-: إن للصلاة وقتًا كوقت الحج. قال ابن كثير: وكذا روي عن مجاهد، وسالم بن عبد الله، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، والحسن، ومقاتل، والسدي، وعطية العوفي. انتهى. وكما أنه لا يجوز الحج قبل وقته، ولا صيام رمضان قبل دخول شهره، فكذلك الصلاة المفروضة لا تجوز قبل دخول وقتها، ومن صلى قبل الوقت فلا صلاة له سوى من يجوز له الجمع بين الظهرين وبين العشاءين؛ لأن وقتي المجموعتين يصير في حقه كالوقت الواحد فيجوز له تقديم العصر مع الظهر، وتقديم العشاء مع المغرب إذا كان التقديم أرفق به، كما يجوز تأخير الظهر مع العصر، وتأخير المغرب مع العشاء إذا كان التأخير أرفق به، وأما تقديم الفجر والظهر والمغرب على أوقاتهن فلا يجوز مطلقًا لا لمعذور ولا لغير معذور، وإذا عرف هذا فكثير من الجهال واقعون في تقديم الصلاة على وقتها؛ ولا سيما النساء، فقد ذكر لنا أن كثيرًا منهن يصلين الفجر قبل طلوع الفجر، وربما صلى بعضهن العشاء قبل غيبوبة

الشفق من غير عذر، وذكر لنا أيضًا عن كثير من الجهال -من أئمة المساجد وغيرهم- أنهم يصلون الفجر قبل طلوع الفجر، وعن بعضهم أنهم يصلون العشاء في رمضان قبل غيبوبة الشفق؛ حرصا على تعجيل الفراغ من صلاة التراويح، وكل هذا جهل وضلال يجب على كل عالم به إنكاره بحسب قدرته، وتعليم الواقعين فيه بما يجب عليهم من انتظار دخول الوقت، وأن من صلى قبل دخوله فلا صلاة له؛ لتركه شرطًا من شروط الصلاة، والله الموفق.

فصل: في نقر الصلاة وعدم الاطمئنان فيها

فصل وكثير من المصلين ينقرون الصلاة، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئنون فيما سوى ذلك من أفعالها، وهذا عين الاستخفاف بحق الصلاة والاستهانة بشأنها، وفاعل ذلك من أسوأ الناس سرقة؛ لما روى الإمام مالك في موطئه، عن النعمان بن مرة الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ترون في الشارب والسارق والزاني؟» وذلك قبل أن ينزل فيهم، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هن فواحش، وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته» قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: «لا يتم ركوعها ولا سجودها» قال النعمان: وكان عمر يقول: إن وجه دينكم الصلاة، فزينوا وجه دينكم بالخشوع. وقد رواه الإمام الشافعي في مسنده من طريق مالك مختصرًا. وروى الإمام أحمد، والحاكم في مستدركه، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته» قيل: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: «لا يتم ركوعها، ولا سجودها» زاد أحمد: «ولا خشوعها» وفي رواية له: «ولا القراءة فيها» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروى الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث أبي قتادة، وقال: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

ولأحمد وأبي داود الطيالسي وأبي يعلى، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك أيضًا. رواه الطبراني. قال الطيبِي: جعل جنس السرقة نوعين: متعارفًا وغير متعارفٍ، وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا، ويستحل صاحبه، أو يَحِد فينجو من عذاب الآخرة، بخلاف هذا، فإنه سرق حق نفسه من الثواب، وأبدل له منه العقاب في العُقبى. انتهى. ويقال أيضا: إن سارق الصلاة سارق دين، فكان أسوأ من سارق الدنيا، والصلاة عماد الدين وركنه الأعظم بعد الشهادتين، فلا ريب أن السرقة منها أسوأ وأقبح من سرقة الأموال. ويقال أيضًا: إن السارق قد استهان بالمسروق منه، حيث أقدم على الانتقاص من حقه، والصلاة من أعظم حقوق الله تعالى، فالسرقة منها أسوأ من السرقة من حقوق الآدميين، وقد روى عبد الرزاق في جامعه، وأبو يعلى الموصلي في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس ثم أساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه». وقال بعض العلماء: أكثر ما يفسد صلاة العامة تهاونهم بعلم الطمأنينة، والعمل بها في أركان الصلاة، وأصلها سكون على عمل الركن من ركوع أو

بيان الطمأنينة الواجبة في الصلاة

سجود أو جلوس زمنا ما. قلت: وقد جاء بيان الطمأنينة الواجبة في حديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء -يعني مواضعه- ثم يكبر، ويحمد الله عز وجل ويثني عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول، الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائمًا ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصلة، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته» رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود وهذا لفظه، والترمذي، والنسائي، وصححه ابن حبان، وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لأبي داود: «ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه، وربما قال: جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يكبر فيستوي قاعدًا على مقعده ويقيم صلبه» فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ. وفي رواية له: «وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، وقال: إذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى». وفي رواية له: «فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك

اليسرى، ثم تشهد». وفي رواية للشافعي، وأحمد: «فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك ومكن لركوعك، فإذا رفعت رأسك فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها، فإذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت رأسك فاعتمد على فخذك اليسرى، ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة». وفي رواية: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئًا فقد انتقصت من صلاتك». وفي رواية النسائي: «ثم يكبر فيركع حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يستوي قائمًا حتى يقيم صلبه، ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه -وقد سمعته يقول- جبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يكبر فيرفع حتى يستوي قاعدًا على مقعدته ويقيم صلبه، ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه ويسترخي، فإذا لم يفعل هكذا لم تتم صلاته». وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل» ثلاث مرات، ثم علمه الصلاة، وبيّن له الطمأنينة بنحو ما في حديث رفاعة بن رافع، ففيه دليل على أن من ترك الطمأنينة فصلاته فاسدة. وفي المسند، والسنن، عن ابن مسعود البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود»

قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ورواه الدارقطني في سننه وقال: إسناده ثابت صحيح. قال الترمذي: وفي الباب عن علي بن شيبان، وأنس، وأبي هريرة، ورفاعة الزرقي. قلت: أما حديث أبي هريرة، وحديث رفاعة -رضي الله عنهما- فقد سبق ذكرهما. وأما حديث علي بن شيبان - رضي الله عنه - فرواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينيه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا معشر المسلمين، إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود». وأما حديث أنس - رضي الله عنه - فرواه الطبراني في الصغير قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في المسجد رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقبل صلاة رجل لا يتم الركوع والسجود». وفي الباب أيضا عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» رواه البيهقي في سننه. ففي هذه الأحاديث النص على فساد صلاة من لا يقيم ظهره بعد الركوع والسجود. قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: والعمل على هذا عند أهل العلم

من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود. وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود». انتهى. وفي المسند، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده». وفي المسند أيضا، عن طلق بن علي الحنفي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صلبه بين ركوعها وسجودها» وفي المسند أيضًا، عن علي بن شيبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله عز وجل إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده». وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء الحديث «إن الرجل يصلي ستين سنة وما له صلاة!» قيل: وكيف ذلك؟ قال: «يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع». وجاء الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه بينما يحدث أصحابه إذ قطع حديثه فقالوا: ما لك يا أبا عبد الرحمن قطعت حديثك؟ قال: إني أرى عجبًا؛ أرى رجلين، أما أحدهما فلا ينظر الله إليه، وأما الآخر فلا يقبل الله صلاته، قالوا: مَن هما؟ قال: أما الذي لا ينظر الله إليه فذلك الذي

النقر في الصلاة وما ورد من الوعيد الشديد على فعله

يمشي يختال في مشيته، وأما الذي لا يتقبل الله صلاته فذلك الذي يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده. وقد ورد النهي عن النقر في الصلاة والوعيد الشديد على فعله؛ ففي المسند من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاث؛ عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب». وروى الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، عن عبد الرحمن بن شبل - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول لله - صلى الله عليه وسلم - عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير» قال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى رزين، عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النقر فقال: «ليس لنا مثل السوء، ليس منا من ينقر نقر الغراب» قال: «ونهى عن افتراش السبع». وروى البخاري في تاريخه، وأبو يعلى، والطبراني، وابن خزيمة في صحيحه، عن أبي عبد الله الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده وهو يصلي فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ترون هذا! لو مات مات على غير ملة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم» ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين، لا يغنيان عنه شيئًا» قال أبو صالح الأشعري: فقلت لأبي عبد الله: من حدَّثك بهذا الحديث؟ قال: أمراء الأجناد؛ خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشرحبيل

ابن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، كل هؤلاء سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي صحيح البخاري، من حديث أبي وائل، عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته قال له حذيفة: ما صليت! قال: وأحسبه قال: ولو مت متّ على غير سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ورواه البخاري أيضا، من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود فقال: ما صليت! ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. ورواه النسائي، من حديث طلحة بن مصرف، عن زيد بن وهب، عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأي رجلا يصلي فطفف، فقال له حذيفة: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة، قال: ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة مت على غير فطرة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: إن الرجل ليخفف ويتم ويحسن. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): قوله: «ما صليت» هو نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: «فإنك لم تصل»، قال: واستدل به على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى أن الإخلال بها مبطل للصلاة. انتهى. وأما قوله: «لو متّ متَّ على غير الفطرة» وفي الرواية الأُخرى: «على غير السنة» فكلاهما المراد به هنا الدين والشريعة. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: وليس المراد به فعل المستحبات، فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد، فلا يكاد

أحد يموت على كل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من المستحبات، ولأن لفظ الفطرة والسنة في كلامهم هو الدين والشريعة، وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ السنة يراد به ما ليس بفرض؛ إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه» فهي تتناول ما سنه من الواجبات، أعظم مما سنه من التطوعات. انتهى. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء الحديث «إن العبد إذا صلى فأحسن الصلاة صعدت ولها نور، فإذا انتهت إلى أبواب السماء فتحت أبواب السماء لها، وتشفع لصاحبها وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا أساء في صلاته فلم يتم ركوعها ولا سجودها ولا حدودها صعدت ولها ظلمة فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، فإذا انتهت إلى أبواب السماء غلقت دونها، ثم لفت كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها» هكذا ذكره الإمام أحمد تعليقًا. ورواه أبو داود الطيالسي، وأبو جعفر العقيلي، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي المسند، عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الصلاة مكيال، فمن وفَّى وُفِّيَ له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين». وروي البيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-

مرفوعًا: «الصلاة ميزان، فمن أوفى استوفى». وروى الإمام مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - انصرف من صلاة العصر فلقي رجلاً لم يشهد العصر، فقال عمر - رضي الله عنه -: ما حبسك عن صلاة العصر؟ فذكر له الرجل عذرًا، فقال عمر - رضي الله عنه -: طففت، قال مالك: ويقال: لكل شيء وفاء وتطفيف. وفي جامع الترمذي، وسنن النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر ...» الحديث، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وفي الباب عن تميم الداري - رضي الله عنه -. وروى مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد أنه قال: بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله. وقال الإمام أحمد في كتاب (الصلاة): جاء في الحديث «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن صلاته، فإن تُقُبِّلت تُقُبِّل منه سائر عمله، وإن رُدت صلاته رُد سائر عمله». وروى الطبراني في الأوسط، والحافظ ضياء الدين المقدسي، من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله».

الإنكار على النقارين واجب على من رآهم

قال الطيبِي: الصلاح كون الشيء على حالة استقامته وكماله، والفساد ضد ذلك؛ وذلك لأن الصلاة بمنزلة القلب من الإنسان، فإذا صلحت صلحت الأعمال كلها، وإذا فسدت فسدت. انتهى. وقد تقدم قول أبي العالية في تفسير قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها وسجودها. وتقدم أيضا تفسير الويل الذي توعد الله به الساهين عن الصلاة. وما أكثر سُرَّاق الصلاة، والمتهاونين بشأنها، المضيعين لأوقاتها وحدودها في زماننا هذا الذي اشتدت فيه غربة الإسلام الحقيقي، وليس ذلك في الجهال والعوام فقط، بل هو كثير جدًا في القراء المفتونين الذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون العلم لنيل الوظائف والشهوات والحظوظ العاجلة، فالله المستعان. وإذا عرف ما يلحق النقارين للصلاة، والمضيعين لأوقاتها وحدودها من الوعيد الشديد، فليعلم أيضا أن الإنكار عليهم واجب على كل من رآهم؛ لأن الاستخفاف بالصلاة والاستهانة بها من أعظم المنكرات، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

والمحسن في صلاته شريك المسيء في صلاته إذا لم ينهه وينصحه. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): سارق الصلاة قد وجب الإنكار عليه ممن رآه والنصيحة له، أرأيت لو أن سارقًا سرق درهمًا ألم يكن ذلك منكرًا ويجب الإنكار عليه ممن رآه؟ فسارق الصلاة أعظم سرقة من سرقة الدرهم، وجاء الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «من رأى من يسيء في صلاته فلم ينهه شاركه في وزرها وعارها»، وجاء الحديث عن بلال بن سعد أنه قال: الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، فإذا ظهرت ولم تغير ضرت العامة، وإنما تضر العامة لتركهم لما يجب عليهم من الإنكار والتغيير على الذي ظهرت منه الخطيئة، فلو أن عبدًا صلى حيث لا يراه الناس فضيع صلاته ولم يتم الركوع ولا السجود كان وزر ذلك عليه، وإن صلى حيث يراه الناس وضيع صلاته فلم يتم ركوعها ولا سجودها كان وزر ذلك عليه وعليهم إذا تركوا الإنكار عليه، فاتقوا الله عباد الله في أموركم عامة، وفي صلاتكم خاصة، وأحكموها في أنفسكم وانصحوا فيها إخوانكم، فإنها آخر دينكم، فتمسكوا بآخر دينكم وما وصى به ربكم خاصة من بين الطاعات التي أوصى بها عامة، وتمسكوا بما عهد إليكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من بين عهوده إليكم فيما افترض عليكم ربكم عامة. وجاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان آخر وصيته لأمته عنه خروجه من الدنيا أنه قال: «اتقوا الله في الصلاة، وفيما ملكت أيمانكم»، وجاء الحديث أنها آخر وصية كل نبي لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا، وهي آخر ما يذهب من الإسلام، ليس بعد ذهابها إسلام ولا دين، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله، وهي عمود الإسلام إذا

قطع النافلة بعد الإقامة

سقط الفسطاط فلا ينتفع بالأطناب والأوتاد، وكذلك الصلاة إذا ذهبت فقد ذهب الإسلام، إلى أن قال - رضي الله عنه -: فإن رأيتم من يصلي تطوعًا ولا يقيم صلبه بين الركوع والسجود، فقد وجب عليكم أمره ونهيه ونصيحته، فإن لم تفعلوا كنتم شركاء في الإساءة والوزر والإثم والتضييع. واعلموا أن مما جهل الناس أن يصلي أحدهم متطوعًا ولا يتم الركوع ولا السجود ولا يقيم صلبه؛ لأنه تطوع، فيظن أن ذلك يجزيه وليس يجزئه ذلك التطوع؛ لأنه من دخل في التطوع فقد صار واجبًا عليه لازمًا له يجب عليه إتمامه وإحكامه، كما أن الرجل لو أحرم بحجة تطوعًا وجب عليه قضاؤها، وإن أصاب فيها صيدًا وجبت عليه الكفارة، وكما أن الرجل لو صام يومًا تطوعًا ثم أفطر عند العصر وجب عليه قضاء ذلك اليوم، وكما أن الرجل لو تصدق بدرهم على فقير ثم أخذه منه وجب عليه رد ذلك الدرهم على الفقير، فكل تطوع دخل فيه لزمه، ووجب عليه أداؤه تامًا محكمًا؛ لأنه حين دخل فيه فقد أوجبه على نفسه، ولو لم يدخل فيه لم يكن عليه شيء، فإذا رأيتم من يصلي تطوعًا أو فريضة فأمروه بتمام ذلك وإحكامه، إن لا تفعلوا تكونوا آثمين، عصمنا الله وإياكم. انتهى. ومما يفعله كثير من الجهال؛ أن أحدهم إذا دخل المسجد قبل الإقامة فأحرم بصلاة نافلة ثم أخذ المؤذن بعد في الإقامة، فإن كان قد ركع مضى في صلاته، وإن لم يكن ركوع بادر بقطعها، وبعضهم يقطعها بتسليمة واحدة عن يمينه وهو قائم كما يفعل في صلاة الجنازة، وبعضهم بتسليمتين عن

يمينه وعن شماله، وقطعهم للنافلة والحالة هذه خطأ وإساءة، فينبغي نهيهم عن ذلك، وأمرهم بإتمام النافلة خفيفة. قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): إن أقيمت الصلاة وهو في النافلة ولم يخش فوات الجماعة أتمها ولم يقطعها؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وإن خشي فوات الجماعة فعلى روايتين: إحداهما: يتمها لذلك. والثانية: يقطعها؛ لأن ما يدركه من الجماعة أعظم أجرًا، وأكثر ثوابًا مما يفوته بقطع النافلة؛ لأن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الرجل وحده سبعًا وعشرين درجة. انتهى. فلم يذكر رحمه الله تعالى خلافًا في إتمام النافلة لمن أمن فوات الجماعة؛ وإنما الخلاف فيمن خشي فواتها، والجماعة إنما تفوت بالرفع من الركوع في الركعة الأخيرة، والمتنفل إذا أتى بالصلاة خفيفة في تمام لم يخش فوات الجماعة قطعًا، بل الغالب أنه يدرك الركعة الأولى فيحرز نافلته تامة وفريضته تامة. وظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه إذا قطع النافلة من غير عذر وجب عليه قضاؤها؛ لأنه قد أوجبها على نفسه بالدخول فيها فلزمه القضاء، ومن ذلك هذه الصورة التي ذكرها ههنا، والله أعلم. فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم، وأهل السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ورواه الإمام أحمد بلفظ: «فلا صلاة إلا التي أقيمت». وفي الصحيحين، عن عبد الله بن مالك بن بحينة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً -وقد أقيمت الصلاة- يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاث به الناس، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «آلصبح أربعًا؟ آلصبح أربعًا؟» هذا لفظ البخاري. ورواه الإمام أحمد بنحوه. ورواية مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح، فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فما انصرفنا أحطنا نقول: ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قال لي: «يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا!». ورواه الإمام أحمد، وابن ماجة بمثله. وفي رواية لمسلم والنسائي: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي والمؤذن يقيم فقال: «أتصلي الصبح أربعًا؟!». وروى أبو داود الطيالسي، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت أصلي، وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «أتصلي الصبح أربعًا؟». فالجواب: أن ظاهر هذه الأحاديث دال على أن المنهي عنه هو إنشاء النافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة، وهذا هو الذي فهمه النووي وغيره من المحققين، وترجم له النسائي في سننه بقوله: ما يكره من الصلاة عند الإقامة.

وقال النووي في شرح مسلم: باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة، سواء السنة الراتبة كسنة الصبح والظهر وغيرها، وسواء علم أنه يدرك الركعة مع الإمام أم لا. انتهى. ويدل لما قلناه أحاديث؛ منها حديث عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - قال: دخل رجل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا فلان، بأي الصلاتين اعتددت، أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟» رواه مسلم، وأهل السنن إلا الترمذي. ومنها ما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أقيمت صلاة الصبح فقام رجل يصلي الركعتين، فجذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوبه فقال: «أتصلي الصبح أربعًا؟!». وفي رواية قال: أقيمت الصلاة ولم أصل الركعتين، فرآني وأنا أصليهما، فدنا وقال: «أتريد أن تصلي الصبح أربعًا؟!» فقيل لابن عباس -رضي الله عنهما-: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال: أقيمت الصلاة، فقمت أصلي ركعتين، فجذبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أتصلي الصبح أربعًا؟» قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وهذه الرواية عند الإمام أحمد والحاكم تدفع ما لعله يفهم من رواية

أولئك من أن ابن عباس -رضي الله عنهما- شرع في النافلة قبل شروع المؤذن في الإقامة. ومنها: ما رواه الإمام مالك في موطئه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون، فخرج عليهم رسول الله فقال: «أصلاتان معًا، أصلاتان معًا؟!» وذلك في صلاة الصبح، في الركعتين اللتين قبل الصبح. ومنها: ما رواه الطبراني في معجمه الصغير، عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأي رجلاً صلى ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم، فغمز النبي - صلى الله عليه وسلم - منكبيه وقال: «ألا كان هذا قبل ذا؟!». فهذه الأحاديث صريحة في أن المنع إنما هو عن إنشاء النافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة، فأما الاستمرار فيما شرع فيه قبل ذلك وإتمامه مع التخفيف فمستفاد من عموم قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على الإنكار على من رآه يصلي بعد الإقامة، ولم يأمره بقطع ما شرع فيه، ولو كان القطع واجبًا لأمره به، فدل على أن من شرع في النافلة قبل الشروع في الإقامة أولى أن يستمر فيها ولا يقطعها، والله أعلم.

فصل: في التحذير من أشياء يفعلها كثير من الجهال والمتهاونين بشأن الصلاة، وبيان ما ورد فيها من النهي الأكيد والوعيد الشديد

فصل في التحذير من أشياء يفعلها كثير من الجهال والمتهاونين بشأن الصلاة، وبيان ما ورد فيها من النهي الأكيد والوعيد الشديد. فمن ذلك مسابقة الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع، أو موافقته في هذه الأفعال. وما أكثر من يفعل ذلك في زماننا، وما أقل من ينكر ذلك عليهم، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): ليس لمن يسبق الإمام صلاة، بذلك جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين؛ جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أما يخشى الذين يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟!» وذلك لإساءته في صلاته؛ لأنه لا صلاة له، ولو كانت له صلاة لرجا له الثواب، ولم يخف عليه العقاب أن يحول الله رأسه رأس حمار. قلت: وهذا الحديث الذي ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى مخرج في الصحيحين، والمسند، والسنن، وغيرها من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما يخشى أحدكم -أو ألا يخشى أحدكم- إذا رفع رأسه قبل الإمام؛ أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار» هذا لفظ البخاري. وفي رواية لمسلم: «أن يجعل الله وجهه وجه حمار». ورواه الطبراني، وابن حبان في صحيحه ولفظهما: «ما يُؤمّن أحدكم إذا

رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب». وعنه - رضي الله عنه - مرفوعًا: «الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان» رواه البزار. ورواه الإمام مالك في موطئه، وعبد الرزاق موقوفًا، قال الحافظ ابن حجر: وهو المحفوظ. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): وجاء الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه نظر إلى من سبق الإمام، فقال: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت، قال أحمد رحمه الله تعالى: والذي لم يصل وحده، ولم يقتد بإمامه فذلك لا صلاة له. وجاء الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه نظر إلى من سبق الإمام فقال له: لا صليت وحدك، ولا صليت مع إمامك، ثم ضربه فأمره أن يعيد الصلاة. قال أحمد رحمه الله تعالى: فلو كان له صلاة عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ما أوجب عليه الإعادة. قال: ومن العجب أن الرجل يكون في منزله فيسمع الأذان، فيقوم فزعًا يتهيأ من منزله يريد الصلاة لا يريد غيرها، ثم لعله يخرج في الليلة المطيرة ويتخبط في الطين ويخوض إلى أن تبتل ثيابه، وإن كان في ليالي الصيف فليس يأمن العقارب والهوام في ظلمة الليل، ولعله مع هذا أن يكون مريضا ضعيفًا فلا يدع الخروج إلى المسجد، فيحتمل هذا كله إيثارًا للصلاة وحبًا

لها وقصدًا إليها، لم يخرجه من منزله غيرها، فإذا دخل في الصلاة مع الإمام خدعه الشيطان، فسابق الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع، خدعًا من الشيطان لما يريده من إحباط عمله وإبطال صلاته، فيخرج من المسجد ولا صلاة له، ومن العجب أنهم كلهم يستيقنون أنه ليس أحدًا ممن خلف الإمام ينصرف من صلاته حتى ينصرف الإمام، وكلهم ينتظرون الإمام حتى يسلم بهم، وكلهم إلا ما شاء الله يسابقونه في الركوع والسجود والرفع والخفض خدعًا من الشيطان واستخفافًا بالصلاة منهم واستهانة بها، وذلك حظهم من الإسلام. وقد جاء في الحديث: «لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة» فكل مستخف بالصلاة مستهين بها، فهو مستخف بالإسلام مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم في الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة، فاعرف نفسك يا عبد الله، واحذر أن تلقى الله ولا قدر للإسلام عندك، فإنّ قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك، وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلاة عمود الإسلام» ألست تعلم أن الفسطاط إذا سقط عموده سقط الفسطاط، لم ينتفع بالأطناب ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود الفسطاط انتفع بالأطناب والأوتاد، فكذلك الصلاة من الإسلام. فانظروا رحمكم الله، واعقلوا وأحكموا الصلاة، واتقوا الله فيها، وتعاونوا عليها، وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض، والتذكر من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان، فإن الله عز وجل قد أمركم أن تعاونوا

على البر والتقوى، والصلاة من أفضل البر، وقد جاء في الحديث «أن كل مصل راع ومسؤول عن رعيته»، وقد قيل: إن الإمام راع لمن يصلي بهم؛ فما أولى الإمام بالنصيحة لمن يصلي خلفه، وأن ينهاهم عن المسابقة في الركوع والسجود، وأن لا يركعوا ويسجدوا مع الإمام، بل يأمرهم بأن يكون ركوعهم وسجودهم ورفعهم وخفضهم بعده، وأن يحسن أدبهم وتعليمهم إذا كان راعيًا لهم، وكان غدًا مسؤولاً عنهم، فرحم الله رجلاً رأى أخاه يسبق الإمام فيركع أو يسجد معه، أو يصلي وحده فيسيء في صلاته، فينصحه ويأمره وينهاه ولم يسكت عنه؛ فإن نصيحته واجبة عليه لازمة له، وسكوته عنه إثم ووزر، وإن الشيطان يريد أن تسكتوا عن الكلام بما أمركم الله به، وأن تدعوا التعاون على البر والتقوى الذي أوصاكم الله به، والنصيحة التي عليكم بعضكم لبعض؛ لتكونوا مأثومين مأزورين؛ وأن يضمحل الدين ويذهب، وأن لا تحيوا سنة ولا تميتوا بدعة، فأطيعوا الله بما أمركم به من التناصح والتعاون على البر والتقوى، ولا تطيعوا الشيطان فإن الشيطان لكم عدو مبين. وقد قال بعض أهل الجهل: ليس على من سبق الإمام ساهيًا شيء؛ تأويلاً منهم للحديث الذي جاء «ليس على من خلف الإمام سهو» وقد جاء الحديث بذلك، ولكنهم أخطأوا معناه وتأويله؛ إنما معناه: من قام ساهيًا فيما ينبغي له أن يجلس فيه، أو يجلس ساهيًا فيما له أن يقوم فيه، أو سهى فلم يَدرِ كم صلى ثلاثًا أو أربعًا، أو ترك بعض التكبيرات ساهيًا، فليس عليه سهو، وليس ذلك فيمن سبق الإمام. فلم يجئ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن

المهاجرين والأنصار لمن سبق الإمام ساهيًا أو غير ساه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار» لم يقل إلا أن يكون ساهيًا، ولم يأمره بسجدتي السهو، وقول ابن مسعود -رضي الله عنهما-: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت، لم يقل إلا أن يكون ساهيًا، ولم يأمره بسجدتي السهو، وقول ابن عمر -رضي الله عنهما-: ما صليت وحدك ولا صليت مع الإمام، ولم يقل إلا أن يكون ساهيًا، ولم يأمره بسجدتي السهو، ولكن ضربه وأمره بالإعادة، وقول سلمان - رضي الله عنه -: الذي يرفع رأسه قبل الإمام ويخفض قبله ناصيته بيد الشيطان يخفضه ويرفعه، ولم يقل إلا أن يكون ساهيًا، ولم يأمره بسجدتي السهو. وقد سها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسها عمر، وسها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فمنهم من سها وترك القراءة في الركعتين الأوليين ثم قرأ في الأخريين، ومنهم من سها فقام فيما ينبغي له أن يجلس فيه وجلس فيما ينبغي أن يقوم فيه، ففي هذا كله وفيما أشبهه سجدتا السهو، بذلك جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضي الله عنهم، وذلك هو السنة. فأما من سبق الإمام، فإنما جاء عنهم أنه لا صلاة له؛ على ما فسرت لك من قولهم: مَن سبق الإمام فلا صلاة له، ساهيًا كان أو غير ساه، وليس للسهو هاهنا موضع يعذر فيه صاحبه، وكيف يجوز السهو هاهنا وهو إذا رأى الإمام قد هوى من قيامه بادره فيسجد قبله، أو ينظر إلى الإمام ساجدًا بعده، وهو قد رفع رأسه، أو ينظر إليه يريد أن يسجد فيبادر قبله، أو ساعة يفرغ الإمام من القراءة يبادر فيركع قبله من قبل أن يكبر الإمام فيركع، وإنما

ينبغي في هذا كله أن ينتظر حتى يركع أو يسجد أو يرفع أو يخفض وينقطع تكبيره في ذلك كله ثم يتبعه بعد فعل الإمام وبعد انقطاع تكبيره، وليس للسهو هاهنا موضع يعذر به صاحبه، ولم يعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه رضي الله عنهم، ولا أمروه بسجدتي السهو ولكن أمروه بالإعادة، وخوّفه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحول رأسه رأس حمار؛ إنما ذلك لاستخفافه بالصلاة واستهانته بها، وصغر خطرها في قلبه. فليحذر جاهل أن يعذر نفسه فيما لا عذر له فيه، فيحمل وزر نفسه، ووزر من يفتنه بحجة مدحوضة لم يحتج بها أحد من الأبرار، فاعتنوا عباد الله بصلاتكم؛ فإنها آخر دينكم، وليحذر امرؤ أن يظن أنه قد صلى وهو لم يصل. انتهى المقصود من كلام الإمام أحمد - رضي الله عنه - ملخصًا. وفي المسند، وسنن أبي داود، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون». وروى الإمام أحمد أيضا، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا، فبين لنا سنتنا وعلَّمنا صلاتنا -فذكر الحديث- وفيه: «فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا؛ فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم» وفيه: «وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا؛ فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم» الحديث. وفي الصحيحين، والسنن إلا ابن ماجة، عن البراء بن عازب -رضي الله

عنهما- قال: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال: «سمع الله لمن حمده» لم يحن أحد ظهره حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض. زاد في رواية مسلم: «ثم يخر مَن وراءه سجدًا». وفي رواية له ولأبي داود: أنهم كانوا يصلون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا ركع ركعوا، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: «سمع الله لمن حمده» لم نزل قيامًا حتى نراه قد وضع وجهه في الأرض، ثم نتبعه. وفي رواية النسائي نحوه. وفي صحيح مسلم، عن عمرو بن حريث - رضي الله عنه - قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر فسمعته يقرأ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجدًا. وفي المسند، وصحيح مسلم، عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف». قال النووي رحمه الله تعالى: المراد بالانصراف السلام. وفي سنن ابن ماجة، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ركعت فاركعوا، وإذا رفعت فارفعوا، وإذا سجدت فاسجدوا، ولا ألفين رجلا يسبقني إلى الركوع ولا إلى السجود». وله أيضًا، ولأبي داود، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود، فمهما أسبقكم به

حكم مسابقة الإمام وحكم صلاة المسبوق

إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت، ومهما أسبقكم به إذا سجدت تدركوني به إذا رفعت». وفي الباب أحاديث سوى ما ذكرنا هاهنا، وفيما ذكرنا كفاية ومقنع لمن أراد الله هدايته. وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أن مسابقة الإمام حرام باتفاق الأئمة، قال: ومن سبقه سهوًا لم تبطل صلاته ولم يعتد له بما سبق إمامه؛ فلهذا أمره الصحابة -رضي الله عنهم- أن يتخلف بمقدار ما سبق به الإمام، ليكون فعله بقدر فعل الإمام، فأما إذا سبقه عمدًا ففي بطلان صلاته قولان في مذهب أحمد وغيره. انتهى. قلت: والصحيح البطلان، نص عليه أحمد رحمه الله تعالى كما تقدم في كلامه قريبًا، واستدل على ذلك بالأحاديث، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، ولم يفرق بين المتعمد والساهي، بل جعل حكمهما سواء، ولعل ذلك -والله أعلم- فيمن سها فسبق الإمام، ثم علم بالسبق واستمر على إتمام ما سبق به إمامه، ولم يرجع ليأتي به بعد الإمام ثم يتابعه فيما بقي، والله أعلم.

فصل: في الالتفات في الصلاة

فصل ومن الأفعال السيئة الالتفات في الصلاة، فينبغي التحذير منه، والإنكار على من فعله؛ لما رواه الترمذي في جامعة، والطبراني في المعجم الصغير، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بني، إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لابد ففي التطوع، لا في فريضة» قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى الإمام أحمد، والبخاري، وأهل السنن إلا ابن ماجة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد». وروى الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، والنسائي، والحاكم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي حديث الحارث الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن يحيى بن زكريا -عليهما السلام- قال لبني إسرائيل: وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والطبراني، والحاكم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري-: الحارث الأشعري له

الالتفات المذموم في الصلاة

صحبه، وله غير هذا الحديث. وقال الحاكم: قد أخرج الشيخان برواة هذا الحديث عن آخرهم، والحديث على شرط الأئمة صحيح محفوظ، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقال في موضع آخر: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا الحديث عظيم الشأن، ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقله. انتهى. وفي المسند، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: «يا أيها الناس، إياكم والالتفات؛ فإنه لا صلاة للملتفت، فإن غُلبتم في التطوع فلا تغلبن في الفريضة». والالتفات المذموم هو ما كان لغير حاجة، أو كان لها وكثر، فأما إن كان يسيرًا لحاجة فهو معفو عنه، وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر الصديق، وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وفي معنى الالتفات المذموم نظر المصلي إلى ما يلهيه، كالنظر إلى السقوف والحيطان وما فيهما من نقوش وكتابة وغيرها، وكالنظر إلى ثيابه أو ما بين يديه من آدميين أو حيوانات، أو غير ذلك مما يلهيه ويشغل قلبه عن الحضور في الصلاة، وكذلك التفكر في الأمور الدنيوية وغير ذلك مما يلهي القلب ويصده عن الخشوع والحضور الذي هو روح الصلاة ومقصودها، والاسترسال مع الوساوس والأفكار إنما يكون من التفات القلب، كما أن ما ذكر قبله جامع بين التفات الوجه والقلب، وكل ذلك من اختلاس الشيطان، والله أعلم.

فصل: في رفع البصر إلى السماء في الصلاة

فصل ومن الأفعال السيئة رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وقد حكى ابن بطال وغيره الإجماع على كراهته، ووردت السنة بالزجر عنه، والوعيد الشديد على فعله؛ كما في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم» فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأهل السنن إلا الترمذي. وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء أن تلتمع - يعني في الصلاة -» رواه ابن ماجة. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثه أنه سمع رسول الله يقول: «إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يرفع بصره إلى السماء أن يلتمع بصره» رواه النسائي. وهذا الوعيد الشديد يقتضي تحريم رفع البصر إلى السماء في الصلاة،

وقد صرح بذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) قال: وأفرط ابن حزم فقال يبطل الصلاة. انتهى. إذا علم هذا فكثير من الجهال واقعون في هذا المنكر الذميم، وكثير من الناس يراهم يفعلون ويسكت عنهم، ويظن أن السكوت يسعه وليس كذلك؛ لأن المحسن في صلاته شريك المسيء في صلاته إذا لم ينهه وينصحه، فكل من رآهم وجب عليه نصيحتهم والإنكار عليهم بحسب الاستطاعة، فإن لم يفعل فهو شريكهم كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: من رأى من يسيء في صلاته فلم ينهه شاركه في وزرها وعارها. ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة).

فصل: فيما ينقص الصلاة من أفعال الجوارح

فصل ومن ذلك العبث باللحية والشارب والأنف، وكثرة مسح الحصى وتسوية الأرض، وكثرة تعديل الثياب، وفرقعة الأصابع وتشبيكها، والتثاؤب والتمطي، وتغميض العينين، وتغطية الفم، وكثرة مسح الجبهة قبل السلام؛ فكل هذه الأفعال تنقص الصلاة، وكثير من الجهال واقعون فيها، وقد جاءت السنة بذم بعض ذلك والنهي عن بعضه، والذم يقتضي النهي، كما أن النهي يقتضي الذم على المخالفة. فمما ورد في هذا الباب من الأحاديث ما رواه الحكيم الترمذي في (النوادر) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» في إسناده سليمان بن عمرو أبو داود النخعي الكوفي، قال البخاري رحمه الله تعالى: معروف بالكذب، سمعت قتيبة يقول. وقال في تاريخه الصغير: رماه قتيبة وإسحاق بالكذب. وقال النسائي: متروك. وقال ابن عدي: أجمعوا على أنه يضع الحديث. وقال الزين العراقي: متفق على ضعفه. ومن هذه الأقوال يعلم أن إسناد الحديث ساقط، وأما متنه فمعناه مستقيم وليس فيه نكارة، ولهذا يستشهد به الفقهاء في هذا الموضع. ويدل لصحة معناه ما في الصحيحين وغيرهما، من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب».

مس الحصى في الصلاة

فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن الجسد كله تبع للقلب في الصلاح أو الفساد، ومن ذلك حال العبد إذا دخل في الصلاة، إن أقبل عليها وخشع قلبه خشعت جميع الجوارح تبعًا له، وإن سها القلب ولها عمَّا هو فيه انبعثت الجوارح على أنواع العبث مما ذكرنا وما لم نذكره، فمنشأ العبث في الصلاة من غفلة القلب وعدم خشوعه، والله أعلم. ومن الأحاديث في هذا الباب أيضا ما رواه مسلم في صحيحه، وأهل السنن إلا النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مس الحصى فقد لغا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ومنها ما في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن معيقيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال: «إن كنت فاعلاً فواحدة». وفي رواية لمسلم قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح في المسجد -يعني الحصى- قال: «إن كنت لابد فاعلاً فواحدة». وفي أخرى له أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسح في الصلاة، فقال: «واحدة». وفي رواية أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تمسح وأنت تصلي، فإن كنت لابد فاعلاً فواحدة تسوية الحصى». ومنها ما في المسند، والسنن، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه» قال الترمذي: حديث حسن.

كف الشعر والثوب في الصلاة

وفي رواية لأحمد: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل شيء، حتى سألته عن مس الحصى، فقال: «واحدة، أو دع». وعنه - رضي الله عنه - أنه قال: «مسح الحصى مسحة واحدة، وتركها خير من حمر النعم» رواه مالك في موطئه. ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسح الحصباء؟ فقال: «واحدة، ولأن تمسك عنها خير من مائة ناقة كلها سود الحدق». ومنها ما في سنن النسائي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه رأى رجلاً يحرك الحصى بيده وهو في الصلاة، فلما انصرف قال له عبد الله: لا تحرك الحصى وأنت في الصلاة، فإن ذلك من الشيطان، ولكن اصنع كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع، قال: وكيف كان يصنع؟ قال: فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورمي ببصره إليها أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع. ومنها ما في الصحيحين، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، والسنن الأربع، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعرًا ولا ثوبًا». وفي رواية لمسلم والنسائي: «ونهى أن يكف الشعر والثياب» ورواه الشافعي في مسنده بنحوه. وفي رواية للبخاري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرنا أن نسجد على سبعة

فرقعة الأصابع والتشبيك بينهن

أعظم، ولا نكف ثوبًا ولا شعرًا». ومنها ما في سنن ابن ماجة، عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تفقع أصابعك وأنت في الصلاة». قال أبو عبيد الهروي: التفقيع هو فرقعة الأصابع وغمز مفاصلها حتى تصوت. ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه». ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والترمذي، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة». ومنها ما رواه ابن ماجة، عن كعب بن عجرة أيضا - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه. ومنها ما رواه الترمذي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد كره قوم من أهل العلم التثاؤب في الصلاة؛ قال إبراهيم: إني لأرد التثاؤب بالتنحنح. انتهى. وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على

التمطي في الصلاة

فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه» رواه ابن ماجة. ومنها ما رواه الدارقطني في الأفراد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «نهى أن يتمطى الرجل في الصلاة، أو عند النساء إلا عند امرأته أو جواريه». ومنها ما رواه الطبراني، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه» قال ابن أبي حاتم هو حديث منكر. وروي عن الإمام أحمد وسفيان أنهما قالا: هو فعل اليهود. واختار ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لا يكره التغميض، إذا كان في قبلة المصلي من الزخرفة والتزويق أو غيره ما يشوش قلبه، ويحول بينه وبين الخشوع، قال: والقول باستحبابه في هذه الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة. انتهى. ومنها ما رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغطي الرجل فاه في الصلاة» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن المُجَبّر أنه كان يرى سالم بن عبد الله إذا رأى الإنسان يغطي فاه وهو يصلي جبذ الثوب عن فيه جبذًا شديدًا حتى ينزعه عن فيه. ومنها ما رواه ابن ماجة أيضا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته».

فصل: الجهر بالنية عند الصلاة

فصل ومن الأفعال السيئة أيضًا: النطق بالنية عند تكبيرة الإحرام وتكريرها، وذلك من البدع التي شرعها الشيطان للموسوسين وزينها لهم، وأضلهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. ويتفرع عن هذه البدعة السخيفة ستة أمور ذميمة: أحدها: الاستهزاء بالمعبود، وافتتاح عبادته ومناجاته بما يشبه هذيان المجانين، وفاعل هذا جدير بالمقت والبعد من الله تعالى، ولو أن رجلاً وقف بين يدي ملك من ملوك الدنيا لخدمته ومناجاته، وقال عند إرادة الشروع في العمل المرسوم له: نويت أن أعمل للملك كذا وكذا، وجعل يهذي بين يدي الملك بنحو ما يهذي به الموسوسون عند افتتاح الصلاة ويكرر ذلك، ويتهوع باسم الملك كما يتهوع الموسوسون بتكبيرة الإحرام لعد الملك ذلك استهزاء به، واستخفافًا بحرمته وحقه، وأهون ما يفعل مع الهاذي بين يديه أن يمقته أشد المقت، ويطرده عن حضرته. والله تبارك وتعالى له المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، الذي يستحق كمال التعظيم والخضوع والخشوع والإخبات بين يديه وإظهار الذل له والافتقار إليه في جميع الأحوال، والتأدب التام في خدمته ومناجاته، أفلا يستحي الموسوسون من مقابلتهم ملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى بما لا يرضى بمثله ملك من ملوك الدنيا، بل لا يرضى به أحد

من عقلاء بني آدم. الأمر الثاني: تعليم الله تعالى بما هو عالم به، لا تخفى عليه منه خافية. وقد أنكر الله تعالى مثل هذا على الأعراب بقوله: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]، وأساس الدين وروحه النية كما في الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ومحل النية القلب ولا تعلق لها باللسان أصلا، فإذا قال الموسوس: نويت أن أصلي صلاة كذا وكذا لله تعالى، فإنه يعلم الله تعالى بنيته وعمله، والله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، مطلع على أعمال العباد كلها خفيها وجليها، فأي حاجة به تبارك وتعالى إلى أن يعلمه الموسوسون بنياتهم وأعمالهم وهو سبحانه وتعالى أعلم بذلك منهم، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69]، وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]. الأمر الثالث: التشويش على من حولهم من المصلين، حتى إن بعض الناس تلتبس عليه القراءة بسبب [جهر] (¬1) من حوله من الموسوسين بالنية. وقد روى مالك في الموطأ، عن أبي حازم التمار، عن البياضي أن رسول ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.

الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن». وروى أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» أو قال: «في الصلاة» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد صحيحان. انتهى. وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف، وخطب الناس فقال: «أما إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة» إسناده جيد. وإذا كان المصلي منفردًا ومثله التالي للقرآن في غير صلاة منهيًا عن الجهر الذي يحصل منه تشويش على من حوله من المصلين والتالين، فنهي المبتدع عن الجهر بنيته أولى لأمرين: أحدهما: أن التأذي بالوسوسة أعظم من التأذي بالقراءة. الثاني: إن الجهر بالنية بدعة، والبدع يجب تغييرها والإنكار على

أهلها، والله أعلم. الأمر الرابع: مشابهة المجانين، فإن كلا من المجنون والموسوس بالنية يهذي بما يستقبحه كل عاقل. الأمر الخامس: تعذيب الموسوس نفسه بما لم يأمره الله به ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد رأيت بعض الحجاج في المسجد الحرام يعالجون في إخراج النية أعظم شدة ومشقة، وتنتفخ أوداج بعضهم ويحمر وجهه، مما يصيبه من الكرب في إخراج النية، كأنه يستخرجها من أقصى جوفه، ثم يتهوع بتكبيرة الإحرام كما يتهوع الذي يتقيأ، وهذا من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان في أعناق الموسوسين، وأهل السنة في عافية منها، ولله والحمد والمنة. الأمر السادس: فوات الفضيلة على الموسوسين، وهم في ذلك درجات؛ فبعضهم تفوته تكبيرة الإحرام مع الإمام، وبعضهم تفوته قراءة الفاتحة، وبعضهم يتمادى به الوسواس ويردده الشيطان في تصحيح النية حتى تفوته الركعة، وربما فاته ركعتان أو ثلاث، وربما فاتته الصلاة كلها مع الجماعة، وربما صلى وحده صلوات كثيرة، كلما صلى صلاة جاءه الشيطان فقال: إنك لم تصحح النية فأعد صلاتك، فلا يزال في طاعة الشيطان متلددًا حيرانًا يدخل في الصلاة ثم يقطعها، أو يتمها ثم يعيدها، وهذا من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان في أعناق الموسوسين.

محل النية في العبادات

وإذا علم حاصل من اتبع البدعة ولم تسعه السنة فليعلم أيضا أن النية الواجبة في العبادات كلها محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين، حكى ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه. قال في جواب له: الجهر بلفظ النية ليس مشروعًا عند أحد من علماء المسلمين، ولا فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، ومن ادعى أن ذلك دين الله وأنه واجب فإنه يجب تعريفه الشريعة واستتابته من هذا القول، فإن أصر على ذلك قتل، بل النية الواجبة للعبادات كالوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصيام والكفارة وغير ذلك محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين، والنية هي القصد والإرادة، والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان باتفاق العقلاء، فلو نوى بقلبه صحت نيته عند الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين من الأولين والآخرين، وليس في ذلك خلاف عند من يقتدي به ويفتي بقوله، ولكن بعض المتأخرين -من أتباع الأئمة- زعم أن اللفظ بالنية واجب ولم يقل إن الجهر بها واجب، ومع أن هذا القول خطأ صريح، مخالف لإجماع المسلمين؛ ولما عُلم بالاضطرار من دين الإسلام عند من يعلم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه، وكيف كان يصلي الصحابة والتابعون، فإن كل من يعلم ذلك يعلم أنهم لم يكونوا يتلفظون بالنية، ولا أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولا علّمه لأحد من الصحابة، بل قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه قال للأعرابي: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن».

فساد التلفظ بالنية من ناحية العقل

وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليليها التسليم». وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين». وقد ثبت بالنقل المتواتر وإجماع علماء المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير، ولم ينقل مسلم لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة أنه تلفظ قبل التكبير بلفظ النية لا جهرًا ولا سرًا، ولا أنه أمر بذلك، ومن المعلوم أن الهمم والدواعي متوفرة على نقل ذلك لو كان، وأنه يمتنع من أهل التواتر عادة وشرعًا كتمان نقل ذلك، فإذا لم ينقله أحد عُلم قطعًا أنه لم يكن. وأيضا فإن التلفظ بالنية فاسد في العقل، فإن قول القائل: أنوي أن أفعل كذا وكذا بمنزلة قوله: أنوي أكل هذا الطعام لأشبع، وأنوي ألبس هذا الثوب لأستتر، وأمثال ذلك من النيات الموجودة في القلب التي يستقبح النطق بها. وبالجملة فلا بد من النية في القلب بلا نزاع، وأما التلفظ بها سرًا فهل يكره أو يستحب؟ فيه نزاع بين المتأخرين، وأما الجهر بها فهو مكروه منهي عنه غير مشروع باتفاق المسلمين. وكذلك تكريرها أشد وأشد، وسواء في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد، فكل هؤلاء لا يشرع لأحد منهم أن يجهر بلفظ النية ولا يكررها باتفاق المسلمين، بل ينهون عن ذلك.

انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى ملخصًا. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: علم الفاعل بما يفعله وقصده له هو النية، والعاقل المختار لا يفعل فعلاً إلا مسبوقًا بتصوره وإرادته، وذلك حقيقة النية، فليست النية أمرًا خارجًا عن تصور الفاعل وقصده لما يريد أن يفعله، وبهذا يعلم غلط من ظن أن للتلفظ مدخلاً في تحصيل النية، فإن القائل إذا قال: نويت صلاة الظهر، أو نويت رفع الحدث، إما أن يكون مخبرًا أو منشئًا، فإن كان مخبرًا فإما أن يكون إخباره لنفسه أو لغيره، وكلاهما عبث لا فائدة فيه؛ لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمن تعريف المخبَر ما لم يكن عارفًا به، وهذا محال في إخباره لنفسه، وإن كان إخبارًا لغيره بالنية فهو عبث محض، وهو غير مشروع ولا مفيد، وهو بمثابة إخباره له بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجة وزكاته، بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحبه وبغضه، بل قد تكون في هذا الإخبار فائدة، وأما إخبار المأمومين أو الإمام أو غيرهما بالنية فعبث محض، ولا يصح أن يكون ذلك إنشاء، فإن اللفظ لا ينشئ وجود النية، وإنما إنشاؤها إحضار حقيقتها في القلب لا إنشاء اللفظ الدال عليها، فعلم بهذا أن التلفظ بها عبث محض، فتأمل هذه النكتة البديعة. انتهى.

فصل: تعويج الصفوف وترك الفرج فيها

فصل ومن الأفعال السيئة أيضًا تعويج الصفوف، وترك الفرج فيها، وذلك مما ينقص الصلاة؛ لما في الصحيحين، وسنن أبي داود، وابن ماجة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة»، ولفظ البخاري: «من إقامة الصلاة». وفي المسند عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من تمام الصلاة إقامة الصف». وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة». وفيهما أيضا عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لتسونّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم». وفي رواية لمسلم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلا باديًا صدره من الصف فقال: «عباد الله، لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح، قال: وفي الباب عن جابر بن سمرة، والبراء، وجابر بن عبد الله، وأنس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم. وفي رواية لأحمد وأبي داود قال: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه. صححه ابن خزيمة.

تكليف من يقوم بإقامة الصفوف

وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - نحو ذلك. وفي رواية لأبي داود عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يسوي صفوفنا إذا قمنا للصلاة، فإذا استوينا كبر». وروى الإمام مالك في موطئه، عن نافع مولى ابن عمر -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يأمر بتسوية الصفوف، فإذا جاءوه فأخبروه أن قد استوت كبر. وروى أيضا عن أبي سهيل نافع بن مالك الأصبحي، عن أبيه قال: كنت مع عثمان بن عفان، فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض لي، فلم أزل أكلمه وهو يسوي الحصباء بنعليه، حتى جاءه رجال قد كان وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثم كبر. وروى أيضا عن أبي النضر مولي عمر بن عبيد الله، عن مالك بن أبي عامر -وهو جد الإمام مالك- أن عثمان - رضي الله عنه - كان لا يكبر حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف، فيخبرونه أن قد استوت، فيكبر. ورواه الشافعي في مسنده عن مالك. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء عن عمر أنه كان يقوم مقام الإمام، لا يكبر حتى يأتيه رجل قد وكله بإقامة الصفوف، فيخبره أنهم قد استووا فيكبر. وجاء عن عمر بن عبد العزيز مثل ذلك.

وروي أن بلالاً كان يسوي الصفوف، ويضرب عراقيبهم بالدرة، حتى يستووا. قال بعض العلماء: قد يشبه أن يكون هذا من بلال على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إقامته قبل أن يدخل في الصلاة. وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه: روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يوكل رجلاً بإقامة الصفوف، ولا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت. وروي عن علي وعثمان أنهما كان يتعاهدان ذلك ويقولان: استووا، وكان علي يقول: تقدم يا فلان، تأخر يا فلان. وقال ابن حزم: صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف، وصح عن سويد بن غفلة قال: كان بلال يسوي مناكبنا، ويضرب أقدامنا في الصلاة. انتهى. وهذا الذي ذكره سويد في فعل بلال كان بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا شك؛ لأن سويدًا لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلعل بلالاً كان يفعل ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، والله أعلم. وفي المسند وسنن أبي داود، عن محمد بن مسلم بن السائب -صاحب المقصورة- قال: صليت إلى جنب أنس بن مالك يومًا فقال: هل تدري لم صنع هذا العود؟ فقلت: لا والله, قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع عليه يده فيقول: «استووا واعدلوا صفوفكم». وفي رواية لأبي داود قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة أخذ

المراد بتسوية الصفوف

بيمينه ثم التفت فقال: «اعتدلوا سووا صفوفكم» ثم أخذه بيساره فقال: «اعتدلوا سووا صفوفكم». وفي سنن النسائي، عنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «استووا، استووا، استووا، فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي». وفي المسند، وصحيح مسلم، وسنن النسائي، وابن ماجة، عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». وفي المسند، وسنن أبي داود، والترمذي، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِيَلِنِي منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق» قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقد رواه مسلم في صحيحه، وليس عنده «ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم». قال الخطابي: «هيشات الأسواق» ما يكون فيها من الجلبة وارتفاع الأصوات، وما يحدث فيها من الفتن، وأصله من الهوش وهو الاختلاط، يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا، ودخل بعضهم في بعض، وبينهم تهاوش أي اختلاط واختلاف. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: المراد بتسوية الصفوف: اعتدال القائمين بها

حكم تسوية الصفوف

على سمت واحد، أو يراد بها: سد الخلل الذي في الصف. انتهى. قلت: كلا الأمرين من تسوية الصفوف وإقامتها، وظواهر الأحاديث التي تقدمت والتي ستأتي تشمل الأمرين، وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ويدل على ذلك قول النعمان وأنس -رضي الله عنهما-: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه. وأما ما جاء من النص على سد الخلل، مع الأمر بتسوية الصفوف كما سيأتي في حديث أبي أمامة وابن عمر رضي الله عنهم، فليس المراد بذلك المغايرة بين الأمرين، وإنما هو اهتمام ببعض أفراد تسوية الصفوف وإقامتها، والله أعلم. وفي قوله: «لتسوون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم» دليل على وجوب تسوية الصفوف، وهو ظاهر كلام الإمام أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه، ومال إليه الحافظ ابن حجر، قال: والتفريط فيه حرام. قال: واختلف في الوعيد المذكور؛ فقيل هو على حقيقته، والمراد بتسوية الوجه بتحويل خلقه عن وجهه (¬1) بجعله موضع القفا، أو نحو ذلك، فهو نظير ما تقدم من الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام، أن يجعل الله رأسه رأس حمار. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي الفتح: والمراد تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه ... إلخ [فتح الباري 2/ 207].

وفيه من اللطائف: وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة. ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة: «لتسوون الصفوف، أو لتطمسن الوجوه» أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف، ولهذا قال ابن الجوزي: الظاهر أنه مثل الوعيد المذكور في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}. ومنهم من حملة على المجاز، قال النووي: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء، واختلاف القلوب، كما تقول: تغير وجه فلان على أي ظهر لي من وجهه كراهية؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيده رواية أبي داود وغيره بلفظ: «أو ليخالفن الله بين قلوبكم». انتهى. قال أبو موسى المديني في قوله: «أو ليخالفن الله بين وجوهكم»: أراد وجوه القلوب؛ كحديثه الآخر: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» أي: هواها وإرادتها. انتهى، وهذا موافق لقول النووي. وذكر الحافظ أيضا فيه قولين ضعيفين لا حاجة إلى ذكرهما، والله أعلم. وفي المسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وكان يقول: «إن الله عز وجل وملائكته يصلون على الصفوف الأول». ورواه الحاكم في مستدركه بنحوه.

رص الصفوف في الصلاة وسد الخلل

وفي المسند، وصحيح مسلم، والسنن إلا الترمذي، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟» فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف». وفي المسند أيضا، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف». وفي سنن أبي داود، والنسائي، عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشياطين تدخل من خلال الصف، كأنها الحذف». قال الخطابي رحمه الله تعالى: الحذف غنم سود صغار، ويقال: إنها أكثر ما تكون باليمن. وقال أبو السعادات ابن الأثير: هي الغنم الصغار الحجازية؛ واحدتها حذفة بالتحريك، وقيل: هي صغار جرد ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها من جرش اليمن. قلت: وقد جاء تفسير الحذف مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فروى الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الصغير، والحاكم في مستدركه، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقيموا صفوفكم، لا يتخللكم كأولاد الحذف» قيل: يا رسول الله، وما أولاد الحذف؟ قال:

«سود جرد تكون بأرض اليمن» هذا لفظ أحمد. ولفظ الطبراني قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تراصوا في الصفوف، ولا يتخللكم الشيطان كأولاد الحذف» قيل: وما أولاد الحذف؟ قال: «ضأن سود تكون بأرض اليمن». ولفظ الحاكم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تراصوا في الصف، لا يتخللكم أولاد الحذف» قلت: يا رسول الله، ما أولاد الحذف؟ قال: «ضأن جرد سود تكون بأرض اليمن» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي المسند، وسنن أبي داود، ومستدرك الحاكم، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقيموا الصفوف، فإنما تصفون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا في أيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله تبارك وتعالى، ومن قطع صفا قطعه الله» هذا لفظ أحمد رحمه الله، وصححه ابن خزيمة، والحاكم وقال: على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى النسائي منه قوله: «من وصل صفًا ...» إلى آخره. وفي المسند، وسنن ابن ماجة، وصحيح ابن حبان، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وملائكته يصلون على الذين يَصِلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة».

فضل الصفوف الأولى

وروى الحاكم منه قوله: «إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف» ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي المسند أيضا، وسنن أبي داود، والنسائي عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر». وفي سنن أبي داود، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار». وفي صحيح مسلم، والسنن إلا الترمذي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في أصحابه تأخرًا فقال: «تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله». وفي المسند، وصحيح مسلم، والسنن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» قال الترمذي: حسن صحيح. وفي سنن ابن ماجة، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير صفوف الرجال مقدمها، وشرها مؤخرها، وخير صفوف النساء مؤخرها، وشرها مقدمها». وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، وسنن النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم الناس ما في النداء

اعتناء الأئمة بأمر المأمومين

والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه» الحديث. وفي رواية لمسلم، وابن ماجة، عنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو تعلمون -أو يعلمون- ما في الصف المقدم لكانت قرعة». وفي رواية لمسلم: «ما كانت إلا قرعة». وفي سنن النسائي، وابن ماجة، ومستدرك الحاكم، والحلية لأبي نعيم، عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان يصلي على الصف الأول ثلاثًا، وعلى الثاني واحدة» هذا لفظ النسائي، ولفظ أبي نعيم نحوه، ولفظ ابن ماجة «كان يستغفر للصف المقدم ثلاثًا وللثاني مرة» قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح على شرطهما ولم يخرجا للعرباض. وفي المسند، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول». ولابن ماجة أيضا، عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك. وفي سنن أبي داود، وابن ماجة، وصحيح ابن حبان، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف». وإذا علم اعتناء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين بتسوية الصفوف ورصها، وسد ما كان فيها من الفرجات، فالواجب على الأئمة أن يقتدوا بنبيهم - صلى الله عليه وسلم -

وبأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وأن يعتنوا بأمر المأمومين ولا يتركوهم هملاً، فإنهم مسؤولون عنهم كما جاء في الحديث الصحيح: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته»، وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء في الحديث: «إن كل مصل راع ومسئول عن رعيته» وقد قيل: إن الإمام راع لمن يصلي بهم، فما أولى الإمام بالنصيحة لمن يصلي خلفه، وأن يحسن أدبهم وتعليمهم إذ كان راعيًا لهم وكان غدا مسؤولاً عنهم -إلى أن قال-: وَامُر يا عبد الله الإمام ألا يكبر أول ما يقوم مقامه للصلاة حتى يلتفت يمينًا وشمالاً، فإن رأى الصف معوجًا والمناكب مختلفة أمرهم أن يسووا صفوفهم وأن يحاذوا مناكبهم، فإن رأى بين كل [رجلين] (¬1) فرجة أمرهم أن يدنو بعضهم من بعض حتى تتماس مناكبهم، واعلموا أن اعوجاج الصفوف واختلاف المناكب ينقص من الصلاة، فاحذروا ذلك -ثم ذكر أحاديث في النهي عن ذلك وتقدم ذكرها ثم قال-: فتسوية الصفوف، ودنو الرجال بعضهم من بعض من تمام الصلاة، وترك ذلك نقص في الصلاة. انتهى. والواجب على المأمومين أن يمتثلوا أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بتسوية صفوفهم ورصها، والمقاربة بينها، وسد الخلل فيها، ويبتعدوا عما نهاهم عنه من الاختلاف الذي يؤدي إلى الاختلاف بين وجوههم وقلوبهم، ويجب عليهم أن يسيروا على منهاج الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- في تعديل ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل المخطوط.

صفوفهم ورصها، بحيث كان الرجل منهم يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه، ولا يتركوا بينهم فرجات تدخل فيها الشياطين، وينبغي لهم أيضا أن يسارعوا إلى الصف الأول، وميمنة الصف ليغتنموا فضل ذلك، ولا يتأخروا مع المتأخرين فيؤخرهم الله تعالى، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

فضل: صلاة المنفرد خلف الصف

فصل ومما يقع من كثير من الجُهَّال أن يصلي أحدهم منفردًا خلف الصف. وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على من رآه يصلي فذا خلف الصف، وأمره أن يعيد الصلاة؛ قال علي بن شيبان - رضي الله عنه -: خرجنا حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه وصلينا خلفه، قال: ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلاً فردًا يصلي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انصرف قال: «استقبل صلاتك، لا صلاة للذين خلف الصف» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة وهذا لفظه، وأشار إليه الترمذي في جامعه. وفي رواية أحمد فقال له: «استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف». ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته نظر إلى رجل خلف الصف وحده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هكذا صليت؟» قال: نعم، قال: «فأَعِد صلاتك، فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف وحده». وفي المسند، والسنن إلا النسائي، عن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده «فأمره أن يعيد الصلاة». ورواه ابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن. وقال ابن المنذر: ثبت الحديث أحمد، وإسحاق.

حكم صفوف النساء إذا كثرن كحكم الرجال

وفي رواية لأحمد قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل صلى خلف الصفوف وحده، فقال: «يعيد الصلاة». إذا عرف هذا فحكم النساء إذا كثرن كحكم الرجال؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه؛ فلو وقفت امرأة خلف صف النساء فذة لم تصح صلاتها؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لفرد خلف الصف». قال ابن حزم: على النساء من إقامة الصفوف إذا كثرن ما على الرجال لعموم الأمر بذلك. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: والمرأة إذا كان معها امرأة أخرى تصاففها كان من حقها أن تقف معها، وكان حكمها إن لم تقف معها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال؛ وهو أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله تعالى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما المرأة فإن السنة وقوفها فذة إذا لم يكن هناك امرأة تقف معها؛ لأنها منهية عن مصافة الرجال، فموقفها المشروع أن تكون خلف الصف فذة، فإن قيل: فلو كان معها نساء ووقفت وحدها صحت صلاتها، قيل: هذا غير مسلم، بل إذا كان صف النساء فحكم المرأة بالنسبة إليه في كونها فذة كحكم الرجل بالنسبة إلى صف الرجال. انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى أيضًا في موضع آخر: فإن قيل لو وقفت

المرأة فذة خلف صف النساء صحت صلاتها، قيل: ليس كذلك؛ بل إذا انفردت المرأة عن صف النساء لم تصح صلاتها؛ كالرجل الفذ خلف صف الرجال، ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في تعليقه؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لفرد خلف الصف» خرج من هذا ما إذا كانت وحدها خلف الرجال للحديث الصحيح بقي فيما عداه على هذا العموم. انتهى. والمقصود ههنا التنبيه على أن صلاة الفذ خلف الصف غير مجزئة، وعليه أن يعيد الصلاة، وأن حكم المرأة إذا كان معها من يصاففها كحكم الرجل، والله أعلم.

فصل: الفصل بين الفريضة والنافلة

فصل ومما يفعله كثير من الجهال أنهم لا يفصلون بين صلاة الفريضة وصلاة النافلة بالفصل المأمور به شرعًا، بل يصل أحدهم سلام الفريضة بالإحرام بالنافلة، وقد رأيت كثيرًا من أهل الآفاق يفعلون ذلك في المسجد الحرام أيام الموسم، يقومون في مواضعهم من حين يسلمون من الفريضة فيحرمون بالنافلة من غير فصل بينها وبين الفريضة، وما رأيت أحدًا ينكر ذلك عليهم وينهاهم عن مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار، أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد -ابن أخت نمر- يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة، فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إليَّ فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرنا بذلك ألا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: السنة أن يفصل بين الفرض والنفل في الجمعة وغيرها، وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض، كما يميز بين العبادة وغير العبادة. انتهى.

فصل: فيمن يقدم للإمامة

فصل قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): ومن الحق الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارهم، وأهل الدين، والأفضل منهم أهل العلم بالله تعالى، الذين يخافون الله ويراقبونه، وقد جاء الحديث: «إذا أم بالقوم رجل وخلفه من هو أفضل منه لم يزالوا في سفال»، وجاء الحديث: «أجعلوا أمر دينكم إلى فقهائكم، وأئمتكم قرائكم»، وإنما معناه الفقهاء والقراء أهل الدين والفضل والعلم بالله تعالى، والخوف من الله تعالى، الذين يعتنون بصلاتهم وصلاة من خلفهم، ويتقون ما يلزمهم من وزر أنفسهم ووزر من خلفهم إن أساوؤا في صلاتهم، ومعنى القراء ليس على حفظ القرآن، فقد يحفظ القرآن من لا يعمل به، ولا يعبأ بدينه، ولا بإقامة حدود القرآن، وما فرض الله عز وجل عليه فيه، وقد جاء الحديث: «إن أحق الناس بهذا القرآن من كان يعمل به وإن كان لا يقرأ»، فالإمام بالناس المقدم بين أيديهم أعلمهم بالله وأخوفهم له، وذلك واجب ولازم لهم فتزكو صلاتهم، وإن تركوا ذلك لم يزالوا في سفال وإدبار وانتقاص في دينهم، وبُعد من الله ورضوانه ومِن جنته، فرحم الله قومًا عنوا بدينهم وعنوا بصلاتهم، فقدموا خيارهم واتبعوا في ذلك سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وطلبوا بذلك القربة إلى ربهم. انتهى. وقد روى الدارقطني في سننه بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن سركم أن تزكو صلاتكم فقدموا خياركم».

تقديم القبوريين وأهل البدع في الصلاة

وفي سننه أيضًا بإسناد ضعيف، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله عز وجل». وفي سننه أيضًا، ومستدرك الحاكم بإسناد ضعيف، عن مرثد بن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم». إذا علم هذا فمن أسفل السفال، وأسوأ الأفعال، تقديم المفتونين بالقبور ومن فيها من الأموات، وتقديم أشباههم من المشركين الذين يجعلون لبعض المخلوقين شيئا من خصائص الربوبية والإلهية، وكذلك تقديم الجهمية الذين كفّرهم السلف وأتباع السلف إلى يومنا هذا. وكذلك تقديم غيرهم من أهل البدع، ولا سيما من كان يظهر بدعته ويدعو إليها. وكذلك تقديم أهل الفسق والفجور، ولا سيما من كان يجاهر بالمعاصي ولا يبالي بإظهارها، وبعض القضاة والمدرسين الجاهلين يقدمون أمثال هؤلاء الذين ذكرنا، ويصلون خلفهم طوعًا واختيارًا من غير خوف ولا قهر من سلطان، فالله المستعان. وقد روى ابن ماجة في سننه، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَؤمَّنَّ امرأةٌ رجلا، ولا يَؤم أعرابي مهاجرًا، ولا يؤم فاجر مؤمنًا؛ إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه» في إسناده مقال.

الصلاة خلف المبتدعة

وروى أبو نعيم في الحلية، عن أحمد بن عبد الله بن يوسف قال: سمعت رجلاً يقول لسفيان -يعني الثوري-: رجل يكذب بالقدر، أأصلي وراءه؟ قال: لا تُقدِّموه، قال: هو إمام القرية ليس لهم إمام غيره، قال: لا تقدموه، لا تقدموه، وجعل يصيح. وروى أبو نعيم أيضًا، عن إبراهيم بن المغيرة قال: سألت سفيان -يعني الثوري-: أأصلي خلف من يقول: الإيمان قول بلا عمل؟ قال: لا، ولا كرامة. وروى أبو نعيم أيضا، عن بشر بن منصور قال: سمعت سفيان الثوري يقول، وسأله رجل فقال: على بابي مسجد إمامه صاحب بدعة؟ قال: لا تصل خلفه، قال: تكون الليلة المطيرة وأنا شيخ كبير؟ قال: لا تصل خلفه. وقال محمد بن يوسف بن الطباع: سمعت رجلاً سأل أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله: أصلي خلف من يشرب المسكر؟ قال: لا، قال: فأصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: سبحان الله، أنهاك عن مسلم وتسألني عن كافر. وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب (الورع): سألت عبد الوهاب -يعني الوراق- عمن لا يُكفِّر الجهمية، قلت: يا أبا الحسن يصلى خلفه؟ قال: لا يُصلى خلفه، هذا ضال مضل، متهم على الإسلام. وقال سعيد بن أبي سعيد الأراطي: سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن الصلاة خلف لمبتدعة؟ فقال: أما الجهمي فلا، وأما الرافضة الذين يردون الحديث فلا.

الصلاة خلف شارب الخمر

وقال في رواية أبي الحارث: لا يُصلي خلف مرجئ ولا رافضي ولا فاسق، إلا أن يخافهم فيصلي ثم يعيد. وقال أبو داود: قلت أيام كان يصلي الجُمع الجهمية، قلت له -يعني أحمد بن حنبل-: الجمعة؟ قال: أنا أعيد، ومتى ما صليتَ خلف أحد ممن يقول: القرآن مخلوق فأعد، قلت: وتعرفه؟ قال: نعم. قال أبو داود: قلت لأحمد: أصلي خلف المرجئ؟ قال: إذا كان داعيًا فلا يُصلى خلفه. وقال حرب بن إسماعيل الكرماني: قلت لأحمد: أيُصلى خلف رجل يُقدِّم عليًا على أبي بكر وعمر؟ قال: لا يصلى خلف هذا. وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن الذي يشتم معاوية نصلي خلفه؟ قال: لا، ولا كرامة. وقال أبو داود: سمعت أحمد رحمه الله تعالى وقيل له: إذا كان الإمام يسكر؟ قال: لا يُصلى خلفه البتة. وقال أيضا: سمعت أحمد وسأله رجل قال: صليت خلف رجل ثم علمت أنه يسكر أعيد؟ قال: نعم أعد، قال: أيتهما صلاتي؟ قال: التي صليتَ وحدك. وقال أيضًا: سمعت رجلا سأل أحمد قال: رأيت رجلا يسكر، أنا أصلي

الصلاة خلف شارب الدخان

خلفه؟ قال: لا، قال: أصلي وحدي؟ قال: أين أنت؟! في البادية المساجد كثيرة، قال: أنا في حانوتي، قال: تخطاه إلى غيره من المساجد. وقال علي بن الموفق: سئل أحمد بن حنبل عن الصلاة خلف من يشرب النبيذ الذي يُلقى فيه الذاذي والأكشوث ولوز مُر؟ فقال أحمد: لا يُصلى خلف من يشرب هذا، ولا خلف من يجلس إلى من يشرب هذا. قلت: ومثله من يشرب الدخان الخبيث المسمي بالتتن؛ لأنه قد اجتمع فيه علتان من علل التحريم؛ الخبث والإسكار، فلا يُصلى خلف من يشربه، ولا خلف من يجالس شاربيه، ويماشيهم وينبسط إليهم. قال في القاموس: الذاذي: نبت له عنقود طويل، والأكشوث: نبت يتعلق بالأغصان ولا عرق له في الأرض. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: لا يجوز أن يولى الإمامة بالناس من يأكل الحشيشة، أو يفعل شيئا من المنكرات المحرمة مع إمكان تولية من هو خير منه. وقال أيضًا: لا تصح خلف أهل الأهواء والبدع والفسقة، مع القدرة على الصلاة خلف غيرهم. وقال في موضع آخر: ليس للناس أن يولوا عليهم الفساق. وذكر رحمه الله تعالى أن الأئمة متفقون على كراهة الصلاة خلف الفاسق، لكن اختلفوا في صحتها. فقيل: لا تصح؛ كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما.

حقيقة الفسوق في اللغة والشرع

وقيل: بل تصح؛ كقول أبي حنيفة، والشافعي، والرواية الأخرى عنهما، ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته. انتهى. إذا تقرر هذا فأصل الفسق في اللغة الخروج؛ يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها. والمراد به في الشرع: الخروج عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو السعادات ابن الأثير: أصل الفسوق الخروج عن الاستقامة، والجور، وبه سمي العاصي فاسقًا. وقال في القاموس: الفسق -بالكسر- الترك لأمر الله تعالى، والعصيان، والخروج عن طريق الحق أو الفجور كالفسوق. وقال الراغب الأصفهاني: فسق فلان خرج عن حجر الشرع، وهو أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تُعورف فيما كان كثيرًا، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة. انتهى. ومن المصائب المؤلمة أن كثيرًا من قراء زماننا والمنتسبين منهم إلى العلم قد خرجوا عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتجاسروا على إظهار أنواع الفسوق والعصيان بلا خجل منهم ولا استحياء كما تقدم وصفهم في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بأنهم «ليست لهم زعة»؛ فبعضهم يحلق لحيته ويتشبه بالمجوس وطوائف الإفرنج في زماننا، وبعضهم ينتفها

نتفًا، وذلك مثل الحلق أو أقبح. وكثير منهم يصفقون بأيديهم في المحافل، تشبها بمشركي قريش وبطوائف الإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال في زماننا، وتشبهًا بالنساء أيضًا، وكثير منهم يشربون الدخان الخبيث المسمى بالتتن، ويدمون شربه وهو من المسكرات، وكثير منهم يتحلون بالساعات في أيديهم تشبهًا بالنساء في لبسهن الأساور، وكثير منهم يشترون المصورات ويقتنون الصور وينصبونها في مجالسهم، وكثير منهم يلعبون بالكرة والجنجفة ويأخذون القمار على الغلبة في ذلك، وهو من الميسر، وكثير منهم يتخذون آلات اللهو كالراديو والفونغراف، ويستمعون إلى الغناء والمزامير وأنواع الألحان وآلات اللهو والطرب، وأصوات النساء الأجنبيات ونغماتهن بالألحان المطربة التي تدعو إلى الفجور وارتكاب الفواحش، وبعضهم يدعو نساءه ليستمعن إلى ما ذُكر أو يجعل لهن آلة خاصة كلما اشتقن إلى سماع الغناء وآلات اللهو فتحنها، وبعضهم يحضر عند السينما الخبيثة، وربما حضر هو ونساؤه لمشاهدة ما فيها من السحر والخلاعة والمجون، وربما ترك بعضهم الصلاة المكتوبة أو أخرها عن وقتها إيثارًا لحضور السينما، أو للعكوف على الراديو، ويقدِّم ذلك على ذكر الله تعالى وعبادته، وبعضهم ينصب في مجلسه من الساعات التي فيها الموسيقي المطربة، وكثير منهم يعاشرون النساء الأجنبيات، ويخلون بهن، ويتلذذون بالنظر إليهن وإلى سماع أصواتهن، ومن فعل هذا لم يستبعد منه أن يفعل معهن ما هو أعظم من ذلك من المحرمات، وكثير منهم يعاشرون المردان

من أم قوما وهم له كارهون

والأنذال والسفل الساقطين، وكثير منهم ينكرون على من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ... إلى غير ذلك مما يجاهرون به من أنواع الفسوق والعصيان. ومع هذا فمن هؤلاء من يتقدم إلى الإمامة في الصلاة، ولا يبالي بما هو مُصرّ عليه من المعاصي، ولا باللعن والوعيد الشديد لمن أَمَّ قومًا وهم له كارهون، ولا بِردِّ صلاته عليه كما في جامع الترمذي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة؛ رجل أم قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الفلاح ثم لم يجب» قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عباس، وطلحة، وعبد الله ابن عمرو، وأبي أمامة رضي الله عنهم، ثم قال الترمذي: حدثنا هناد، أخبرنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق - رضي الله عنه - قال: كان يقال: أشد الناس عذابًا اثنان؛ امرأة عصت زوجها، وإمام قوم وهم له كارهون. قال جرير: قال منصور: فسألنا عن الإمام، فقيل لنا: إنما عني بهذا الأئمة الظلمة، فأما من أقام السنة فإنما الإثم على من كرهه. قلت: والأحاديث التي علقها الترمذي قد رُويت كلها موصولة، فأما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فرواه الحاكم في مستدركه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لعنهم الله؛ من تقدم قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب».

عزل من بصق في القبلة دليل على عزل من أكل الحشيشة وشرب المسكر

وفي سنن ابن ماجة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا؛ رجل أَمَّ قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأَخَوَان متصارمان». وأما حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -، فرواه الطبراني عنه أنه صلى بقوم، فلما انصرف قال: إني نسيت أن أستأمركم قبل أن أتقدم، أرضيتم بصلاتي؟ قالوا: نعم، ومن يكره ذلك؟! قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أيما رجل أم قومًا وهم له كارهون لم تجاوز صلاته أذنيه». وأما حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- فرواه أبو داود وابن ماجة في سننيهما قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة؛ من تقدم قومًا وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارًا؛ والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته، ورجل اعتبد محرره». وأما حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، فرواه الترمذي في جامعه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم؛ العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قلت: وفي الباب أيضا عن جنادة بن أبي أمية - رضي الله عنه - مرفوعًا: «من أَمَّ قومًا وهم له كارهون فإن صلاته لا تجاوز ترقوته» رواه الطبراني. وفي سنن أبي داود، وصحيح ابن حبان، عن أبي سهلة السائب بن خلاد -من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا أَمَّ قومًا، فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ: «لا يصلي لكم»، فأراد بعد ذلك

أن يصلي لهم، فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نعم»، وحسبت أنه قال: «إنك آذيت الله ورسوله». وروى الطبراني في الكبير، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بالناس الظهر، فتفل في القبلة وهو يصلي بالناس، فلما كان صلاة العصر أرسل إلى آخر، فأشفق الرجل الأول، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أنزل فيَّ شيء؟ قال: «لا، ولكنك تَفَلْتَ بين يديك وأنت تؤم الناس، فآذيت الله والملائكة». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا كان المرء يُعزل لأجل إساءته في الصلاة، وبصاقه في القبلة، فكيف بالمُصرِّ على أكل الحشيشة، لا سيما إن كان مستحلاً للمسكر منها كما عليه طائفة من الناس، فإن مثل هذا ينبغي أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ إذ السكر منها حرام بالإجماع، واستحلال ذلك كفر بلا نزاع. انتهى. قلت: وكذا يقال فيمن يستحل السكر، من أي نوع كان من المسكرات كالكلولونيا، والاسبرتو، والدخان المنتن الخبيث المسمى بالتتن، وغير ذلك من أنواع الخمور المسكرة، وسواءً كان المسكر مأكولاً، أو مشروبًا، أو مشمومًا، فكل ما وجد فيه الإسكار فهو حرام بالنص والإجماع، ومن استحله كفر، والله أعلم. وإذا عرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بادر الذي بصق في القبلة بعزله عن الإمامة ولم يعذره بالجهل؛ فالواجب على المسلمين أن يتبعوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله،

من يقيم حروف القرآن ويضيع حدوده ليس بأهل للإمامة

ويمتثلوا جميع أقواله، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، فإذا تقدم في الإمامة مستور الحال، ثم ظهر أنه يفعل شيئًا من المنكرات التي تقدح في عدالته مما ذكرنا قريبا ومما لم نذكره فالواجب المبادرة بعزله، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في عزله الذي بصق في القبلة، وامتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم قراؤكم» رواه أبو داود، وابن ماجة، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: هم الفقهاء والقراء، أهل الدين والفضل والعلم بالله تعالى والخوف من الله تعالى، الذين يعتنون بصلاتهم وصلاة من خلفهم، ويتقون ما يلزمهم من وزر أنفسهم ووزر من خلفهم إن أساؤوا في صلاتهم ... إلى آخر كلامه، وتقدم في أول الفصل. وأما القراء الذين يقيمون حروف القرآن، ويضيعون حدوده، فليسوا بأهل للإمامة والولايات الدينية، وما أكثرهم في هذه الأزمان، لا كثرهم الله، وما أشبهم بالذين قال الله تعالى فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، وتولية هؤلاء وأشباههم في الولايات الدينية خيانة قبيحة؛ لما في مستدرك الحاكم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من استعمل رجلاً من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان ورسوله وخان المؤمنين» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فالواجب على المسلمين أن يولوا في الإمامة وغيرها من الولايات

الصلاة خلف من يأخذ كراء على الإمامة

الدينية من كان عدلاً مرضيًا، ولا يجوز لهم أن يولوا الفُسَّاق والجُهَّال، ولا يُقروا أحدًا منهم مع القدرة على عزله، ولا يُصلُّوا خلف فاسق مع القدرة على الصلاة خلف غيره. وكذلك ينبغي للناس أن لا يصلوا خلف من يأخذ كراء على إمامته، ولا سيما إن كان يشارط على ذلك. قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن إمام قال لقوم: أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهمًا؟ قال: أسأل الله العافية، من يصلي خلف هذا؟! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -: «واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. فكل من الإمامة والأذان لا تجوز أخذ الأجرة عليه، ولا ينبغي أن يولى فيهما من طلب الأجرة عليهما، وإن أُعطي رزقًا من بيت المال بدون طلب منه ومشارطة وبغير إشراف نفس فلا بأس من أن يأخذه، والله أعلم. وقد روى أبو نعيم في الحلية، من حديث علي الطنافسي، حدثنا عبد الرحمن بن مصعب قال: كان رجل ضرير يجالس سفيان الثوري، فإذا كان شهر رمضان يخرج إلى السواد، فيصلي بالناس، فيُكسى ويُعطى، فقال سفيان: إذا كان يوم القيامة أثيب أهل القرآن من قراءتهم ويقال لمثل هذا قد تعجلت ثوابك في الدنيا، فقال: يا أبا عبد الله، تقول لي هذا وأنا

جليسك! قال: أخاف أن يقال لي يوم القيامة: كان هذا جليسك، أفلا نصحته؟ قلت: لعل هذا الضرير إنما كان يخرج إلى السواد يصلي بأهله من أجل ما يحصل منهم من الكسوة والعطية، وهذا من طلب الدنيا بعمل الآخرة؛ فلهذا قال له سفيان رحمه الله تعالى ما قال. وما أكثر السالكين على منهج هذا الضرير من أهل زماننا من ضريرين وأصحاء، فالله المستعان. وقد تقدم في حديثي ابن مسعود وحذيفة -رضي الله عنهما-: «إن من أشراط الساعة التماس الدنيا بعمل الآخرة» وقد وقع الأمر طبق ما جاء فيهما، فصارت أعمال الآخرة طرقًا ووسائل لتحصيل حطام الدنيا وملاذها، ومن ذلك أخذ الأجرة على الإمامة والأذان، وتعلم العلم وتعليمه، وغير ذلك من أعمال الآخرة، والله المستعان.

فصل: التخلف عن الجمعة والجماعة من غير عذر

فصل ومن أسوأ الأفعال وكبائر الإثم التخلف عن الجمعة والجماعة من غير عذر، وقد فشا هذا المنكر الذميم في زماننا وظهر، وكثر في القراء والمنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين، فضلاً عن الجهال والغوغاء ونحوهم من العوام والسوقة. وهذا مصداق ما تقدم ذكره في حديث معاذ بن جبل، وحديث أنس، وحديث حذيفة -رضي الله عنهم-: «أنه يكون في آخر الزمان قراء فسقة»، ولهذا كثير منهم يعكفون على الراديو لاستماع ما يذاع فيه من الهذيانات وأنواع المجنون والمحرمات، ويؤْثِرون الحضور عنده على حضور الصلوات في الجماعات، وربما أخَّر أحدهم الصلاة عن وقتها إيثارًا للعكوف على الراديو أو على الجرائد والمجلات وما شابهها من الكتب العصرية التي قل خيرها وكثر شرها وعظم ضررها على الدين، وربما ترك أحدهم الصلاة بالكلية، وبعضهم إذا نُهي عن تخلفه عن الصلاة في جماعة غضب من ذلك واشمأز واستكبر عن قبول النصيحة، وأخذ يعذر نفسه بما ليس بعذر، ويجادل من نهاه عن المنكر ويقع في عرضه بالسب والتنقص وأنواع الأذى، فيجمع بين أنواع كبائر الإثم، وقد وقع هذا كثيرًا من الذين مَثَلهم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}؛ وما ذاك إلا لاستهانتهم بالصلاة، وقلة رغبتهم في الباقيات الصالحات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الصلاة فارقة بين المؤمنين والمنافقين

فأما الأعمال الدنيوية والوظائف التي فيها تحصيل الحطام والحظوظ العاجلة فإنهم يثابرون عليها، ويحافظون على الأوقات المقررة لها، ويقطعون كل شاغل يشغلهم عنها ولو كان من أحب الأشياء إليهم، وإذا حضر وقتها سارعوا إليها في أوله بجد ونشاط ورغبة صادقة خوفًا من العزل وخشية أن يقتطع عليهم من الراتب شيء ولو كان درهمًا أو بعض درهم، وكذلك أرباب الوظائف والأعمال الدنيوية من غير المنتسبين إلى العلم ترى كثيرًا منهم يثابرون على الوظائف والأعمال الدنيوية، ويحافظون على الأوقات المقررة لها، ويسارعون إليها في أول وقتها خوفًا من العزل بسبب التأخر، وإذا جاء وقت الصلاة وهم في عمل من أعمالهم جعلوا ذلك العمل عذرًا لهم عن حضور الجماعة، وإن لم يكونوا في عمل فإنه يحضرهم النوم والكسل وأنواع الشواغل المثبطة عن حضور الجماعة. وكذلك غيرهم من المشتغلين بالأعمال الدنيوية من غير من أشرنا إليهم، فكثير منهم لا يبالون بالصلاة، ولا بحضور الجمعة والجماعة. وكذلك العاكفون على أنواع اللهو واللعب وما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ مثل الراديو والسينما والفونغراف والكرة والجنجفة والكيرم، وغير ذلك من أنواع المسير والملاهي، هم من أكثر الناس تهاونًا بالصلاة، وتخلفًا عن الجمعة والجماعة، وقد رأينا من هذه الأجناس الرديئة كثيرًا، فالله المستعان. وقد جعل الله تبارك وتعالى الصلاة علامة فارقة بين المؤمنين والمنافقين، فمن اهتم بها وحافظ على أدائها تامة في أوقاتها وفي جماعة فذلك دليل على إيمانه، ومن تهاون بها فلم يتمها، أو ضيع أوقاتها أو تخلف عن

الجماعة من غير عذر فذلك دليل على نفاقه، قال الله تعالى في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 9 - 11]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ قال الله تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. وفي رواية للترمذي: «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد ...» والباقي نحوه.

ثقل العشاء والفجر على المنافقين

وأما المنافقون فقد قال الله تعالى في وصفهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}، وقال تعالى: {وَلَا يَاتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى}، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هم المنافقون، يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس، ويصلونها في العلانية إذا حضروا، وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: عطلوا المساجد، ولزموا الضيعات. وقال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل: شرابين للقهوات -يعني الخمور- تراكين للصلوات، لعابين بالكعبات، رقادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجماعات، ثم تلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا». قال النووي رحمه الله تعالى: فيه الحث البليغ على حضورهما. وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): دل هذا على أن الصلاة كلها

ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَاتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما؛ لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم. انتهى. وفي المسند، وسنن أبي داود، والنسائي، وصحيح الحاكم، عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا الصبح فقال: «أشاهد فلان؟» قالوا: لا، قال: «أشاهد فلان؟» قالوا: لا، قال: «إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على الركب» قال الحاكم: قد حكم أئمة الحديث؛ يحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيي الذهلي وغيرهم لهذا الحديث بالصحة، وصححه الحاكم أيضا، وأقره الذهبي في تلخيصه. وفي سنن ابن ماجة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناس ما في صلاة العشاء وصلاة الفجر لأتوهما ولو حبوًا». وروى الطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، وسنن النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما لو حبوًا».

وروى مالك في الموطأ أيضًا، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح، لا يستطيعونهما» أو نحو هذا. ورواه الشافعي في مسنده، عن مالك، عن عبد الرحمن بن حرملة، ولم يذكر فيه سعيد بن المسيب، وما في الموطأ هو المعتمد. وروى البزار، والطبراني، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا إذا تخلف منا إنسان في صلاة العشاء والصبح في جماعة أسأنا به الظن أن يكون قد نافق. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه. وروى الإمام أحمد، والطبراني، عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله تعالى ينادي بالصلاة ويدعو إلى الفلاح فلا يجيبه». وفي سنن ابن ماجة، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق». وفي صحيح مسلم، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله؛ يعني ابن مسعود - رضي الله عنه -: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا سنن الهُدَى وإن من سنن الهُدَى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. وفي رواية قال عبد الله - رضي الله عنه -: من سرَّه أن يلقى الله غدا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سنن الهُدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهَادى بين الرجُلَين حتى يُقام في الصف. ورواه الإمام أحمد، وأهل السنن إلا الترمذي. وفي رواية أبي داود والنسائي: وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم. هذا لفظ أبي داود، ولفظ النسائي: لضللتم. ورواه الإمام أحمد أيضا بنحو رواية النسائي. وروي أبو نعيم في الحلية، من طريق محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: صلوا الصلوات في المسجد، فإنها من الهدى وسُنة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وفي هذا الحديث رد على جهلة المعلمين والمتعلمين الذين يتهاونون بالصلاة في المساجد ويصلون في المدارس والبيوت من غير خوف ولا مرض. وفيه أيضا رد لقول من قال من الفقهاء: إن له فعل الجماعة في بيته من غير عذر، وإن إقامتها في الربط والمدارس ونحوها مثل إقامتها في المساجد، فإن هذا قول ضعيف، ترده الأحاديث الصحيحة وأقوال الصحابة -رضي الله عنهم- كما سيأتي إيرادها قريبًا إن شاء الله تعالى. وقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم؛ يعني بالسُنَّة هاهنا طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها، وشريعته التي شرعها لأمته، وهي التي يثاب فاعلها ويعاقب تاركها من غير عذر، وليس المراد بها السنة التي من شاء فعلها ومن شاء تركها ولا حرج عليه، فإن تركها لا يكون ضلالاً ولا من علامات النفاق؛ كترك صلاة الضحى وقيام الليل وصيام الاثنين والخميس ونحو ذلك من السنن التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، والله أعلم. قال الطيبِي في قوله: لضللتم: هذا يدل على أن المراد بالسُنَّة العزيمة. انتهى. وقد رُوي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - نحو قول ابن مسعود - رضي الله عنه -، فروى الحافظ أبو نعيم في الحلية، عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس الكندي، قال: دخلت مسجد حمص فسمعت معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول: من سره أن

حكم الصلاة في البيوت من غير عذر

يأتي الله عز وجل آمنًا، فليأت هذه الصلوات الخمس حيث ينادي بهن، فإنهن من سنن الهدى، ومما سنه لكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقال: إن لي مصلى في بيتي فأصلي فيه؛ فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لضللتم. وقد تضافرت الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة مع الجماعة في مساجد المسلمين، لا في الربط والمدارس والبيوت ونحوها كما سيأتي إيرادها قريبًا إن شاء الله تعالى، واختلف فيمن صلى في بيته جماعة من غير عذر؛ هل تصح صلاته أم لا؟ وفي ذلك قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد. قال أبو البركات ابن تيمية في شرحه: فإن خالف وصلاها في بيته جماعة لا تصح من غير عذر، بناء على ما اختاره ابن عقيل في تركه الجماعة حيث ارتكب النهي، ويعضده قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» قال: والمذهب الصحة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الرجل في جماعة تضاعف على صلاته في بيته أو في سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا» ويُحمل قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» على نفي الكمال جمعًا بينهما. قال: والرواية الأولى اختيار أصحابنا، وأن حضور المساجد لا يجب، وهي عندي بعيدة جدًا إن حملت على ظاهرها، فإن الصلاة في المسجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته، وفي تركها بالكلية أو في المساجد محو آثار الصلاة، بحيث تفضي إلى فتور همم أكثر الخلق عن أصل فعلها، ولهذا قال عبد الله بن مسعود: لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته،

لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. قال: وإنما معنى هذه الرواية -والله أعلم- أن فعلها في البيت جائز لآحاد الناس إذا كانت تقام في المساجد، فيكون فعلها في المسجد فرض كفاية على هذه الرواية، وعلى الأخرى فرض عين. قال: ويدل على ذلك جواز الجمع بين الصلاتين للأمطار، ولو كان الواجب فعل الجماعة فقط دون الفعل في المسجد لما جاز الجمع لذلك؛ لأن أكثر الناس قادرون على الجماعة في البيوت، فإن الإنسان غالبًا لا يخلو أن تكون عنده زوجة أو ولد أو غلام أو صديق أو نحوهم، فيمكنه الصلاة جماعة فلا يجوز ترك الشرط -وهو الوقت- من أجل السنة، فلما جاز الجمع علم أن الجماعة في المساجد فرض إما على الكفاية وإما على الأعيان. هكذا ساق ابن القيم رحمه الله تعالى كلام أبي البركات في كتاب (الصلاة)، ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار، ولما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغ أهل مكة موته خطبهم سهيل بن عمرو، وكان عتاب بن أسيد عامله على مكة قد توارى خوفًا من أهل مكة، فأخرجه سهيل وثبت أهل مكة على الإسلام، فخطبهم بعد ذلك عتاب وقال: يا أهل مكة، والله لا يبلغني أن

أدلة وجوب الصلاة في المساجد مع الجماعة

أحدًا منكم تخلف عن الصلاة في المسجد في الجماعة إلا ضربت عنقه. وشكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الصنيع، وزاده رفعة في أعينهم، فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى. وهذا الذي قاله هو الصواب الذي ندين الله به، وعليه يدل ظاهر الكتاب ونصوص الأحاديث وأقوال الصحابة رضي الله عنهم. أما الكتاب فقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 36 - 37]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كل تسبيح في القرآن هو الصلاة. وقال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: قال أهل التفسير: أراد به الصلوات المفروضات، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الصبح، والتي تؤدى بالآصال الظهر والعصر والعشائين؛ لأن اسم الأصيل يجمعهما. انتهى. وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وقال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ

تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} [التوبة: 18]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية [الجمعة: 9 - 10]. وأما الأحاديث فكثيرة؛ منها ما في صحيح مسلم وسنن النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبيَ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسَأَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولَّى دعاه فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» فقال: نعم، قال: «فأجب». ومنها ما في المسند، وسنن أبي داود، وابن ماجة، وصحيح الحاكم، عن ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني رجل ضرير، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: «هل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «لا أجد لك رخصة». ولأبي داود، والنسائي، والحاكم، عنه - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، قال: «هل تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟» قال: نعم، قال: «فحيَّ هلا» زاد النسائي: ولم يرخص له. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالي في تلخيصه. و «حي هلا» كلمة حث واستعجال. قاله الخطابي، والهروي،

وغيرهما من أئمة اللغة، ومعناها: أقبِل مسرعًا ولا تتأخر عن إجابة الداعي الذي يدعوك إلى الصلاة والفلاح. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء الحديث عن عبد الله بن أم مكتوم أنه قال: يا رسول الله، إني شيخ ضرير البصر، شاسع الدار، بيني وبين المسجد نخل وواد، فهل من رخصة إن صليت في منزلي؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «أجب». ورواه في المسند بنحوه، قال رحمه الله تعالى: ولم يرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ضرير البصر، شاسع الدار، بينه وبين المسجد نخل وواد، فأنكِروا على المتخلفين عن الصلاة، فإن ذنوبهم في تخلفهم عظيمة، وأنتم شركاؤهم في عظم تلك الذنوب إن تركتم نصيحتهم والإنكار عليهم وأنتم تقدرون على ذلك. انتهى. ومنها ما في المسند، عن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - أنه كان رجلاً محجوب البصر، وأنه ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - التخلف عن الصلاة؟ قال: «هل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال: فلم يرخص له. ومنها ما في سنن الدارقطني، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه -، أن أعمى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني أسمع النداء ولعلي لا أجد قائدًا؟ قال: «فإذا سمعت النداء فأجب داعي الله عز وجل». ومنها ما رواه أبو نعيم في الحلية، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سمعتم النداء فقوموا فإنها عزمة من الله».

ومنها ما في صحيح مسلم، عن أبي الشعثاء المحاربي قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة - رضي الله عنه - فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية قال: سمعت أبا هريرة ورأى رجلاً يجتاز المسجد خارجًا بعد الأذان فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. ورواه الإمام أحمد، وأهل السنن بنحوه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن عثمان - رضي الله عنه -. قلت: وهو ما رواه ابن ماجة في سننه عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق». قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، ألا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه. انتهى. ومنها ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية».

ما ورد من الوعيد الشديد لمن تخلف عن الجمعة

ورواه رزين وزاد: «وإن ذئب الإنسان الشيطان، إذا خلا به أكله» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه، قال السائب -وهو ابن حبيش الكلاعي-: يعني بالجماعة؛ الصلاة في جماعة. ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضًا، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد». وقد ورد التغليظ في التخلف عن الجمعة والجماعة من غير عذر، والوعيد الشديد على ذلك. فمما جاء في الجمعة بخصوصها ما في صحيح مسلم عن الحكم بن ميناء، أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة -رضي الله عنهم- حدثاه أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجُمُعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونُن من الغافلين». ورواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجة، من حديث الحكم، عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. ومنها ما رواه الشافعي في مسنده، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي قال: سمعت عمرو بن أمية - رضي الله عنه - يقول: «لا يترك رجل مسلم الجمعة ثلاثًا تهاونًا بها لا يشهدها إلا كتب من الغافلين» وهذا له حكم الرفع. ومنها ما رواه الشافعي أيضا، وأحمد، وأهل السنن، عن أبي الجعد

الضمري -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها طبع الله على قلبه» قال الترمذي: حديث حسن. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: «من ترك الجمعة ثلاثًا من غير عذر فهو منافق» قال المنذري: وفي رواية ذكرها رزين: «فقد برئ من الله». ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضًا، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك الجمعة ثلاثًا من غير ضرورة طبع الله على قلبه». ورواه البيهقي وزاد: «وجعل قلبه قلب منافق» قال الحافظ ابن الذهبي في تلخيصه: صحيح. ومنها ما رواه ابن ماجه أيضًا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلاء فيرتفع، ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، حتى يطبع على قلبه» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه. قال أبو عبيد الهروي: الصبة: الجماعة من الناس. وقال أبو السعادات ابن الأثير: والصبة من الغنم الجماعة منها، تشبيهًا

بجماعة الناس، وقد اختلف في عددها، فقيل: ما بين العشرين إلى الأربعين، وقيل: نحو الخمسين، وقيل: ما بين الستين إلى السبعين، والصبة من الإبل نحو خمس أو ست. انتهى. ومنها ما رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه». ومنها ما في الموطأ، عن صفوان بن سليم -قال مالك: لا أدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا- أنه قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه». ومنها ما رواه الطبراني، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- مرفوعًا: «من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين». ومنها ما رواه الدارقطني، والبيهقي، عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد». وروى أبو نعيم في الحلية، من حديث شعبة ومسعر قالا: حدثنا أبو السفر، حدثنا ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا أن تكون امرأة أو عبدًا أو صبيًا أو مسافرًا، ومن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد».

ما ورد من الوعيد للمتخلفين عن حضور الجماعة في المساجد

وروي الطبراني في الأوسط، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليسع إلى الجمعة، ومن استغنى عنها بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد». ومنها ما في سنن ابن ماجة، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر أنه قال في خطبته: «اعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودا لها فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه» الحديث. ومنها ما في المسند، وصحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: «لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم». فهذا ما يتعلق بالمتخلفين عن الجمعة، وكفى به وعيدًا زاجرًا لمن يعقل، وتذكرة نافعة لمن يخشى. وأما ما جاء من الوعيد للمتخلفين عن حضور الجماعة في المساجد فكثير، ويدخل في ذلك من تخلف عن الجمعة أيضًا. فمن ذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}.

قال إبراهيم التيمي: يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة. وقال سعيد بن المسيب: كانوا يسمعون حيّ على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون، وهم أصحاء سالمون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين تخلفوا عن الجماعة. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} قال: الصلاة في الجماعة. وقد رواه أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن عثمان، عن أبيه، عن شعبة فذكره. وقد تقدم كلام ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآية في حكم تارك الصلاة. ومن ذلك: ما في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنني أبي داود وابن ماجة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار». وفي رواية البخاري: «لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد». وفي رواية في الصحيحين، والموطأ، ومسند الشافعي، وسنن النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن

آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ناسًا في بعض الصلوات فقال: «لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها، يعني صلاة العشاء». وفي رواية للإمام أحمد: «ولو علم أحدكم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مرماتين حسنتين إذن لشهد الصلوات». وفي رواية له أيضا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار». وفي رواية له أيضا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء الآخرة في الجميع أو لأحرقن حول بيوتهم بحزم الحطب». وفي رواية لأبي داود، والطبراني، عن يزيد بن يزيد بن جابر، حدثني يزيد بن الأصم قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزمًا من حطب، ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم» قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا

عوف، الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صُمَّتا أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر جمعة ولا غيرها. ورواه مسلم، والترمذي بنحوه مختصرًا، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي رواية للطبراني عن أبي ليلى -مولي الأنصار- عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنظر فمن لم يشهد المسجد فأحرق عليه بيته». ومن ذلك ما رواه ابن ماجة في سننه، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم». ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد هممت أن آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم آمر بأناس لا يصلون معنا فتحرق عليهم بيوتهم». ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا في مسنده، عن ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المسجد فرأى في القوم رقة فقال: «إني لأهم أن أجعل للناس إمامًا، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه» فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرًا ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال: «أتسمع الإقامة؟» قال: نعم، قال: «فأتها». ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه بنحوه وزاد: ولم

يرخص له. وصححه وأقره الحافظ الذهبي. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): مُرُوا رحمكم الله بالصلاة في المساجد من تخلف عنها، وعاتبوهم إذا تخلفوا عنها، وأنكِروا عليهم بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، واعلموا أنه لا يسعكم السكوت عنهم؛ لأن المتخلف عن الصلاة عظيم المعصية، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى قوم في منازلهم لا يشهدون الصلاة في جماعة فأحرقها عليهم» فهددهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرق منازلهم، فلولا أن تخلفهم عن الصلاة في المسجد معصية كبيرة عظيمة لما هددهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرق منازلهم، وجاء الحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وجار المسجد الذي بينه وبين المسجد أربعون دارًا، وجاء الحديث قال: «من سمع المؤذن فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر» فاتقوا الله وأمُرُوا بالصلاة في جماعة من تخلف، وإن لم تفعلوا تكونوا آثمين، ومن أوارهم غير سالمين؛ لوجوب النصيحة لإخوانكم عليكم، ولوجوب إنكار المنكر عليكم بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، وقد جاء الحديث قال: «يجيء الرجل يوم القيامة متعلقًا بجاره فيقول: يا رب، هذا خانني، فيقول: يا رب، وعزتك ما خنته في أهل ولا مال، فيقول: صدق يا رب، ولكنه رآني على معصية فلم ينهني عنها» والمتخلف عن الصلاة عظيم المعصية، فاحذر تعلقه بك غدًا، وخصومته إياك بين يدي الجبار، ولا تدع نصيحته اليوم إن شتمك

حديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»

وآذاك وعاداك، فإن معاداته لك اليوم أهون من تعلقه بك غدًا وخصومته إياك بين يدي الجبار ودحضه حجتك في ذلك المقام العظيم، فاحتمل الشتمة اليوم لله وفي الله لعلك تفوز غدًا مع النبيين والتابعين لهم في الدين. انتهى ملخصًا. وحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» رواه الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: فقد النبي - صلى الله عليه وسلم - قومًا في الصلاة فقال: «ما خلفكم عن الصلاة؟» قالوا: لحاء كان بيننا، فقال: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفي رواية: «لا صلاة لمن سمع النداء ثم لم يأتِ إلا من علة». وفي سنن الدارقطني أيضًا، ومستدرك الحاكم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فهذا اللفظ قد قيل: إنه لا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر عبد الحق الإشبيلي أنه رواه بإسناد كلهم ثقات، وبكل حال فهو مأثور عن علي - رضي الله عنه -. قلت: وسيأتي حديث علي - رضي الله عنه - قريبًا. وأما حديث «من سمع المؤذن فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر» فقد رواه أبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والدارقطني في سننه, والحاكم في مستدركه، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتِّباعه عذر» قالوا:

وما العذر؟ قال: «خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقد رواه قاسم بن أصبغ في كتابه، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن حبيب بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر». قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وحسبك بهذا الإسناد صحة. وفي صحيح الحاكم، عن أبي موسى - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع النداء فارغًا صحيحًا فلم يجب فلا صلاة له» قال الحاكم: صحت الرواية فيه عن أبي موسى - رضي الله عنه -، وقال الذهبي: صحيح. قلت: وكفى بهذين الحديثين حجة لمن قال إن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا من عذر. وقد تقدم في الفضل الذي قبل هذا حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة؛ رجل أَمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الفلاح ثم لم يجب» رواه الترمذي. وتقدم فيه أيضا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله

الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم في وجوب الصلاة مع الجماعة

- صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لعنهم الله؛ من تقدم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب» رواه الحاكم في مستدركه. فكل من هذه الأحاديث التي سقنا في هذا الفصل يدل على تعين حضور الجماعة في المسجد إلا من عذر. وأما الآثار عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهم أجمعين فكثيرة، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى جملة منها في كتاب (الصلاة). منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له». ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: «من سمع المنادي فلم يجب بغير عذر فلا صلاة له». ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضا، عن علي - رضي الله عنه - قال: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» قيل: ومن جار المسجد؟ قال: «من سمع المنادي». ورواه الدارقطني في سننه، ولفظه قال: «من كان جار المسجد فسمع المنادي ينادي فلم يجبه من غير عذر فلا صلاة له». ومنها ما رواه سعيد بن منصور، عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: «من سمع النداء فلم يأته لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر».

ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن علي - رضي الله عنه - قال: «من سمع النداء من جيران المسجد وهو صحيح من غير عذر فلا صلاة له». ومنها ما رواه وكيع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «لأن تمتلئ أذنا ابن آدم رصاصًا مذابًا خير له من أن يسمع المنادي ثم لا يجيبه». ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: «من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر لم يجد خيرًا ولم يرد به». ومنها ما رواه وكيع عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له». ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن ليث، عن مجاهد قال: سأل رجلٌ ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: رجل يصوم النهار ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة؟ فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هو في النار، ثم جاء الغد فسأله عن ذلك فقال: هو في النار، قال: واختلف إليه قريبًا من شهر يسأله عن ذلك ويقول ابن عباس: هو في النار. قلت: وقد رواه الترمذي مختصرًا كما سيأتي. وقال المسعودي: عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله» ذكر هذا الأثر ابن كثير في تفسيره. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فهذه نصوص الصحابة كما تراها صحة

وشهرة وانتشارًا، ولم يجئ عن صحابي واحد خلاف ذلك، وكل من هذه الآثار دليل مستقل في المسألة لو كان وحده، فكيف إذا تعاضدت وتضافرت! انتهى. وقد تقدم قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: كنا إذا تخلف منا إنسان في صلاة العشاء والصبح في جماعة أسأنا به الظن أن يكون قد نافق. وتقدم أيضًا قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض. وقوله أيضا: ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، أو قال: لكفرتم. وتقدم أيضًا قول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، وفيه: ولا يقل إن لي مصلى في بيتي فأصلي فيه، فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لضللتم. وتقدم أيضًا ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من قول عتاب بن أسيد لأهل مكة، وأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكروا صنيعه. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب (الصلاة): جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه فقد رجلا في الصلاة، فأتي منزله فصوت به، فخرج الرجل، قال: ما حبسك عن الصلاة؟ قال: علة يا أمير المؤمنين، ولولا أني سمعت صوتك ما خرجت، أو قال: ما استطعت أن أخرج، فقال عمر - رضي الله عنه -: لقد تركت دعوة من هو أوجب عليك إجابة مني؛ منادي الله إلى

الصلاة. وجاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه فقد أقوامًا في الصلاة فقال: ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة فيتخلف لتخلفهم آخرون، ليحضرن المسجد أو لأبعثن إليهم من يجافي رقابهم، ثم يقول: احضروا الصلاة، احضروا الصلاة، احضروا الصلاة. وجاء عن أبي الدرداء وعن ابن مسعود رضي الله عنهما: إن الله تبارك وتعالى سن لكل نبي سنة وسن لنبيكم، فمن سنة نبيكم هذه الصلاة الخمس في جماعة، وقد علمت أن لكل رجل منكم مسجدًا في بيته، ولو صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه: قد روي عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له. وقال بعض أهل العلم: هذا على التغليظ والتشديد، ولا رخصة لأحد في ترك الجماعة إلا من عذر. قال مجاهد: وسئل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة، فقال: هو في النار، حدثنا بذلك هناد، أخبرنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد؛ ومعنى الحديث أن لا يشهد الجماعة والجمعة رغبة عنها واستخفافًا لحقها وتهاونًا بها. انتهى كلام الترمذي رحمه الله تعالى. فتأمل أيها المسلم الناصح لنفسه ما ذكرنا في هذا الفصل من الآيات

دعوى أن ما ورد في الأحاديث محمول على نفي الكمال، والجواب عن ذلك

والأحاديث وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، لتعلم عظم شأن الصلاة في المساجد مع الجماعة، وأن من استهان بها فقد عصى الله ورسوله، واستهان بدين الإسلام، ورغب عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وآثر طريقة غير طريقته التي كان عليها هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. وقد قال الإمام أبو محمد -الحسن بن علي بن خلف البربهاري، من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار، والإنكار على أهل البدع، ومن الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى- قال في شرح السنة: من ترك صلاة الجمعة والجماعة في المسجد من غير عذر فهو مبتدع، والعذر؛ المريض الذي لا طاقة له بالخروج إلى المسجد، أو خوف من سلطان ظالم، وما سوى ذلك فلا عذر لك. انتهى. وأما قول من قال من الفقهاء في قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وما شابهه من الأحاديث إن ذلك محمول على نفي الكمال، فقد أجاب عنه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: وأما ما يقوله بعض الناس: إن هذا لنفي الكمال، فيقال له: نعم هو لنفي الكمال، لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات. فأما الأول فحق، وأما الثاني فباطل؛ لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - قط، وليس بحق، فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه، وأيضًا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين والآخرين؛ لأن كمال المستحبات من أندر الأمور، وعلى هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته، ثم ذكر

الشيخ حديث «من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له». قال: ولا ريب أن هذا يقتضي أن إجابة المؤذن المنادي والصلاة في جماعة من الواجبات، لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه ويثاب على ما فعله من الصلاة، أم يقال إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها؟ هذا فيه نزاع بين العلماء. انتهى. فاتقوا الله أيها المسلمون في جميع أموركم عامة وفي صلاتكم خاصة، وإياكم والتخلف عن الجمعة والجماعة من غير عذر؛ فإن ذلك عنوان النفاق، وسبب الختم على القلوب والطبع عليها، واللعن، وعدم قبول الصلاة، كما دلت على ذلك الأحاديث التي ذكرنا، والله الموفق.

فصل: فضل المشي إلى الصلاة مع الجماعة في المساجد

فصل وقد جاء في فضل المشي إلى الصلاة مع الجماعة في مساجد المسلمين آيات وأحاديث كثيرة، نذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى؛ ليعلم المتخلفون في البيوت والمدارس ونحوها أنهم قد خسروا تجارة رابحة، وحُرموا خيرًا كثيرًا. فأما الآيات فمنها قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: كل عسى في القرآن فهي واجبة. وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله تعالى: وعسى من الله حق. وقال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: وعسى من الله واجب؛ أي فأولئك هم المهتدون، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة. انتهى. ومنها قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38]. وكفى بهؤلاء الآيات شرفًا وفضيلة للمحافظين على أداء الصلوات

الخمس في المساجد مع الجماعة. ومنها قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} [يس: 12]. وروى أبو نعيم في الحلية، من طريق الأوزاعي قال: سمعت عثمان بن أبي سودة يقول في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} قال: أولهم رواحا إلى المسجد، وأولهم خروجًا في سبيل الله. وأما الأحاديث، فمنها حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن إلا الترمذي، وتقدم في أول الفصل الذي قبل هذا الفصل، وفيه: «وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة». زاد أحمد، والنسائي في روايتهما: «ولقد رأيتنا نقارب بين الخطا». الحديث الثاني: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما

لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه» رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، وهذا لفظ مسلم. ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة مختصرًا. ومعنى «لا ينهزه إلا الصلاة» أي لا يبعثه ولا يشخصه إلا ذلك، ومن هذا انتهاز الفرصة، وهو الانبعاث لها والمبادرة إليها. قاله الخطابي رحمه الله تعالى. الحديث الثالث: عن أبي هريرة أيضا - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تطهر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة» رواه مسلم. الحديث الرابع: عن عبد الله بن عمر بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة، ذاهبًا وراجعًا» الحديث رواه الإمام أحمد والطبراني. الحديث الخامس: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلا الصلاة، لم تزل رجله اليسرى تمحو عنه سيئة وتكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد» رواه الطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. الحديث السادس: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من

حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجده فرجل تكتب حسنة والأخرى تمحو سيئة» رواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. الحديث السابع: عن سعيد بن المسيب قال: حضر رجلا من الأنصار الموتُ فقال: إني محدثكم حديثًا، ما أحدثكموه إلا احتسابًا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عز وجل عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضًا وبقى بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك» رواه أبو داود. الحديث الثامن: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا كتب الله له مثل أجر من حضرها، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا» رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. الحديث التاسع: عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه» رواه

مسلم والنسائي. ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه. وفي رواية لمسلم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: «من توضأ هكذا، ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، غفر له ما خلا من ذنبه». الحديث العاشر: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين» رواه أبو داود، والبغوي في تفسيره. قوله: «إلى تسبيح الضحى» قال الخطابي رحمه الله تعالى: يريد به صلاة الضحى، وكل صلاة يتطوع بها فهي تسبيح وسبحة. وقوله: «لا ينصبه إلا إياه» معناه: لا يتعبه ولا يزعجه إلا ذلك، وأصله من النصب وهو معاناة المشقة. وقد روى هذا الحديث الطبراني في معجمه الكبير بلفظ: «من مشى إلى صلاة مكتوبة في الجماعة فهي كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة نافلة». الحديث الحادي عشر: عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد فيرعى الصلاة، كتب له كاتبه أو كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد

يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي. الحديث الثالث عشر: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الرابع عشر: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» رواه مالك، وأحمد، ومسلم، والنسائي، وابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه ابن ماجة في سننه مختصرًا، ولفظه قال: «كفارات الخطايا إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد». قال الترمذي: وفي الباب عن علي، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس، وعبيدة ويقال عبيدة بن عمرو، وعائشة، وعبد الرحمن بن عائش، وأنس. الحديث الخامس عشر، والحديث السادس عشر، والحديث السابع عشر: عن أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأبي أيوب -رضي الله

عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. أما حديث أبي سعيد فرواه ابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وأما حديث جابر فرواه ابن جرير في تفسيره. وأما حديث أبي أيوب فرواه ابن مردويه في تفسيره. الحديث الثامن عشر: عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً» رواه الحافظ أبو يعلى، والبزار، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، وأشار إليه الترمذي في جامعه، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. الحديث التاسع عشر: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات؛ فأما المهلكات: فَشُحٌّ مطاع، وهوى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام» رواه الطبراني وغيره.

الحديث العشرون: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة -قال: أحسبه في المنام- فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي، أو قال: في نحري، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الكفارات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه ... الحديث» رواه الإمام أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، قال: وفي الباب عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عائش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث الحادي والعشرون: عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر نحو حديث ابن عباس رضي الله عنهما. رواه البغوي في تفسيره، عن عبد الرحمن بن عائش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب (السنة) عن أبيه بإسناده إلى عبد الرحمن بن عائش، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث الثاني والعشرون: عن عبد الرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث ابن عباس، وفيه قال: «وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات،

والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات» الحديث رواه الإمام أحمد وغيره. الحديث الثالث والعشرون: عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام» متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «حتى يصليها مع الإمام في جماعة». الحديث الرابع والعشرون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الخامس والعشرون: عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له: أو قلتُ له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد جمع الله لك ذلك كله» رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وهذا لفظ مسلم، وفي رواية له: «إن لك ما احتسبت» وهي رواية ابن ماجة. الحديث السادس والعشرون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة» متفق عليه.

الحديث السابع والعشرون: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن لكم بكل خطوة درجة» رواه مسلم. وفي رواية له وللإمام أحمد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: «يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم». الحديث الثامن والعشرون: عن أنس - رضي الله عنه - قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة وقال: «يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم» فأقاموا. رواه البخاري وابن ماجة. الحديث التاسع والعشرون: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا. رواه الترمذي، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الثلاثون: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يقتربوا، فنزلت {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} قال: فثبتوا. رواه ابن ماجة، وابن جرير، والطبراني. الحديث الحادي والثلاثون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح»

رواه الإمام أحمد، والشيخان. الحديث الثاني والثلاثون: ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها. وروى الطبراني في الكبير، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مثله مرفوعًا. الحديث الثالث والثلاثون: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «الغدو والرواح إلى المساجد من الجهاد في سبيل الله» رواه الطبراني وغيره. الحديث الرابع والثلاثون: عنه - رضي الله عنه - أيضا، عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل؛ رجل خرج غازيا في سبيل الله، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل» رواه أبو داود في سننه، والبخاري في (الأدب المفرد)، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. الحديث الخامس والثلاثون: عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من جاهد في سبيل الله كان ضامنًا على الله، ومن جلس في بيته لا يغتاب أحدًا بسوء كان ضامنًا على الله، ومن عاد مريضًا كان ضامنًا على الله، ومن غدا إلى المسجد أو راح كان ضامنا على الله،

ومن دخل على إمام يعزره كان ضامنًا على الله» رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث رواته ثقات ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. الحديث السادس والثلاثون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة في ضمان الله عز وجل؛ رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازيا في سبيل الله، ورجل خرج حاجًا» رواه أبو نعيم في الحلية من طريق محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا عبد الله بن الزبير، حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. الحديث السابع والثلاثون: عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا: «ثلاث من كن فيه أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ الوضوء على المكاره، والمشي إلى المساجد في الظلم، وإطعام الجائع» رواه أبو الشيخ في كتاب (الثواب)، والأصبهاني في كتاب (الترغيب والترهيب). الحديث الثامن والثلاثون: عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» رواه أبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث غريب. الحديث التاسع والثلاثون: عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -، عن النبي بمثل حديث بريدة. رواه ابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. الحديث الأربعون: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث

بريدة وسهل رضي الله عنهما. رواه ابن ماجة، والحاكم في مستدركه وقال: إنها رواية مجهولة. الحديث الحادي والأربعون: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد آتاه الله نورًا يوم القيامة» رواه أبو نعيم في الحلية. الحديث الثاني والأربعون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المشاؤون إلى المساجد في الظلم، أولئك الخواضون في رحمة الله» رواه ابن ماجة. الحديث الثالث والأربعون: عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: «إذا أراد الله بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم» رواه الدارقطني في الأفراد وقال: غريب. الحديث الرابع والأربعون: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. الحديث الخامس والأربعون: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما عمار المساجد هم أهل الله» رواه عبد بن حميد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، والبيهقي في سننه.

الحديث السادس والأربعون: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له من حين يخرج من بيته كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة بإسناد صحيح، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لأحمد والحاكم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتوضأ أحد فيحسن وضوءه ويسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته» هذا لفظ أحمد، وفي رواية الحاكم: «كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم». الحديث السابع والأربعون: عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين؛ قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله» رواه الترمذي، والضياء في المختارة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. الحديث الثامن والأربعون: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «من صلى في مسجد جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقًا من النار» رواه ابن ماجة. الحديث التاسع والأربعون: عن سلمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من غدا إلى صلاة الصبح غدا براية الإيمان، ومن غدا إلى

أعظم فضائل المشي إلى المساجد

السوق غدا براية إبليس» رواه ابن ماجة. ومن أعظم فضائل المشي إلى المساجد للصلاة فيها مع الجماعة أن ذلك من سنن الهدى التي شرعها الله تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متمسكًا بهذه السنة هو وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 36]، وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. وكفى باتِّباع طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقة أصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- شرفًا وفضيلة لمن اقتفى أثرهم وسار على منهاجهم، مع ما وعد الله على ذلك من محبته ورضوانه والفوز بالجنة والنجاة من النار، فانظروا أيها المخالفون للسنة المثلى بتخلفكم في البيوت والمدارس من غير عذر، ماذا فاتكم من الخيرات والفضائل! مع ما ارتكبتم من معصية الله تعالى ومعصية رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتخلفكم ومشابهتكم المنافقين الذين ذمهم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومع ما يلحقكم على التخلف عن الصلاة في المساجد من الوعيد الشديد كما تقدم ذكره في الفصل الذي قبل هذا. فاتقوا الله أيها المفرطون في صلاة الجماعة {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ

تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 54 - 58]

فضل: في تفرق أهل المذاهب في الصلاة

فصل وقد تلاعب الشيطان بجَهَلة المقلدين للأئمة الأربعة مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وحسَّن لهم التفرق والاختلاف الذي نهى الله عنه وذم أهله، فصاروا في بعض الأمصار يصلي كل أهل مذهب وحدهم، ولا يصلون مع أهل المذهب الآخر، وربما اجتمع الكل في بعض المساجد الكبار فيقوم فريق منهم يصلون وحدهم والباقون من أهل المذاهب جلوس ينتظرونهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الثاني يصلون وحدهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الثالث يصلون وحدهم، فإذا فرغوا قام أهل المذهب الرابع يصلون وحدهم، وهذا خلاف ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ولم يحدث هذا التفرق والاختلاف إلا بعد القرون المفضلة، وما زال جهال المقلدين متمسكين به إلى زماننا، ولكن ذلك في بعض الأمصار دون بعض، وقد كان معمولاً به في الحرمين الشريفين في الأزمان الماضية، حتى يسر الله محوه على أيدي النجديين (¬1) ولله الحمد والمنة. ولا يخفى على طالب علم لا يتعصب للمذاهب، أن تفرق المقلدين في الصلوات الخمس من الأمور المحدثة المخالفة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون مردودًا بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين، وسنن أبي داود، ¬

_ (¬1) إطلاق لفظ النجديين اصطلاح درج عليه كثير من العلماء -والمؤرخون منهم خاصة- على رعية الدولة السعودية بمراحلها الثلاث، نسبة إلى موطن الحكم ومنشئه.

وابن ماجة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي المسند، والسنن، عن العرباص بن سارية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم وقال: ليس له علة، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم: «عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم، والخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا على نواجذكم بالحق» قال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعًا، ولا أعرف له علة، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه، ولا يتخلف عن الصلاة معه إلا من بعدت دورهم وشق عليهم المجيء إلى مسجده، وكذلك كان في أسفاره يصلي بأصحابه جميعًا، ولا يتخلف عن الصلاة معه إلا من كان له عذر يمنعه عن الحضور، حتى أنه كان في حال الخوف ومصافّة العدو يصلي بأصحابه جميعًا، وهذا بخلاف ما عليه جهال المقلدين في حال الأمن، فإنهم يجتمعون في المسجد الواحد فيقيمون فيه جماعتين أو ثلاثة أو أربعا من غير عذر، فهم في واد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان في واد آخر، وليس لجهال المقلدين مستند فيما يفعلونه إلا الجهل الصرف والتقليد الأعمى الذي كان أئمة المذاهب ينهون أصحابهم عنه.

الاعتزال عن المصلين في المسجد

وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من الصلاة فرأى رجلاً معتزلاً لم يصل معهم أنكر عليه، كما في الصحيحين وغيرهما، عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فصلى بالناس، فإذا هو برجل معتزل فقال: «ما منعك أن تصلي؟» قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك». وفي المسند، والسنن إلا ابن ماجة، عن يزيد بن الأسود قال: شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا، فقال: «عليَّ بهما» فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا»؛ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: «فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم. وفي الموطأ، والمسند، وسنن النسائي، عن بسر بن محجن، عن أبيه محجن بن الأدرع الأسلمي - رضي الله عنه - أنه كان في مجلس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأذن بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى، ورجع ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم» قال: بلى يا رسول الله، كنت قد صليت في أهلي، فقال له: «إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت». وفي سنن أبي داود، عن يزيد بن عامر - رضي الله عنه - قال: جئت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة، فانصرف علينا رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - فرأى يزيد جالسًا فقال: «ألم تُسلم يا يزيد؟» قال: بلى يا رسول الله، قد أسلمت، قال: «فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟» قال: إني كنت قد صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليتم، فقال: «إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت قد صليت، تكن لك نافلة وهذه مكتوبة». وهذه الأحاديث دالة على أنه يجب الإنكار على جهلة المقلدين الذين يجتمعون في المسجد الواحد ويعتزل بعضهم بعضًا، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر المصلين في رحالهم بإعادة الصلاة مع الجماعة وأنكر عليهم الاعتزال عنهم، فلا ريب أن الإنكار على المقلدين الذين وصفنا حالهم أولى، ولارتكابهم ما أنكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع مخالفتهم لهديه وهدي أصحابه والتابعين لهم بإحسان، فالواجب على أهل العلم وولاة الأمور الذين يعمل عندهم بالتفرق بين أهل المذهب أن يبذلوا جهدهم في محو ذلك عملاً بقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104 - 105]. وفي المسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاتهم مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله» وهذا الحديث دال على أن التفرق في صلاة الجماعة في المسجد

الواحد خلاف ما يحبه الله ويرضاه. وفي صحيح مسلم، وسنن النسائي، وابن ماجة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم». وفي سنن أبي داود، والنسائي، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- نحوه. وإذا كان اعوجاج الصفوف من أسباب اختلاف القلوب، فما الظن باختلاف الجماعة الواحدة وتفرقهم في المسجد الواحد كل فريق منهم يصلون وحدهم، ولا يستجيزون الصلاة مع الآخرين، فهذا أحرى باختلاف القلوب وتنافرها، فالله المستعان.

فصل: في تحجر الأمكنة القريبة من الإمام

فصل ومن المنكر الفاشي في زماننا تحجر الأمكنة القريبة من الإمام في المسجد ولا سيما يوم الجمعة، فإن كثيرًا من الجهال يتسابقون فيه إلى تحجر الصف الأول بما يضعونه فيه من العصي والخرق والنعال وغير ذلك كالمفارش في بعض البلدان، وربما تحجروا في الصف الثاني والثالث وغيرهما من الصفوف، وكثير من الجُهَّال يتحجر موضعين وثلاثة وأكثر من ذلك له ولأبيه ومن يعز عليه من قريب وصديق وغيرهما، وكثير من الذين يتحجرون الأمكنة أو تُتَحجر لهم لا يأتون إلى المسجد إلا إذا قرب وقت الصلاة، وكثير منهم يتخطون رقاب الناس ويؤذونهم فيجمعون بين ثلاثة أشياء كل منها منهي عنه: أحدها: غصب المواضع الفاضلة، ومنع السابقين قبلهم من الصلاة فيها. الثاني: تأخير الرواح إلى الصلاة. الثالث: إيذاء الناس بتخطي رقابهم، وقد جاءت السنة بذم من فعل ذلك؛ ففي الموطأ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقول: لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة. قال ابن عبد البر: هذا المعنى مرفوع. وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجلس، فقد آذيت» زاد أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم: «وآنيت» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي سنن ابن ماجة، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجعل يتخطى الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجلس، فقد آذيت وآنيت». قال أبو عبيد الهروي: أي آذيت الناس بتخطيك، وأخرت المجيء وأبطأت. وروى الطبراني، عن أنس - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس إذ جاء رجل يتخطى رقاب الناس حتى جلس قريبا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: «ما منعك يا فلان أن تجمع معنا؟» قال: يا رسول الله، قد حرصت أن أضع نفسي بالمكان الذي ترى، قال: «قد رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم، من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل». وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحضر الجمعة ثلاثة نفر؛ رجل حضرها يلغو وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدًا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]».

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومسّ من طيب إن كان عندهم، ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها» قال: ويقول أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول: إن الحسنة بعشر مثالها. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروي أبو داود أيضًا، والبيهقي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة، كانت كفارة لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظُهرًا». وروى الإمام أحمد، والطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، عن الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قُصْبَه في النار»؛ القصب بالضم الأمعاء. وروى الإمام أحمد أيضا، والترمذي، وابن ماجة، عن معاذ بن أنس الجُهني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرًا إلى جهنم» قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد والعمل عليه عند أهل العلم، كرهوا أن يتخطى

حكم تخطي الرقاب يوم الجمعة

الرجل يوم الجمعة رقاب الناس، وشددوا في ذلك، وقد تكلم بعض أهل العلم في رشدين بن سعد وضعفه من قبل حفظه. انتهى. وجزم شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وغير واحد من علماء الحنابلة أنه يحرم تخطي رقاب الناس. قلت: ودليل التحريم ظاهر من الأحاديث التي ذكرنا. وقال أبو العباس في موضع آخر: ليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس، ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فرجة لا يوم الجمعة ولا غيره؛ لأن هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى. وحكى رحمه الله تعالى الاتفاق على النهي عن تقديم المفارش إلى المسجد. ومثل ذلك ما يفعل في زماننا من تقديم العصي والخرق والنعال. قال رحمه الله تعالى في جواب له: وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين، بل يحرم، وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان، ومن صلى في بقعة في المسجد مع منع غيره أن يصلي فيها فهل هو كالصلاة في الأرض المغصوبة؟ على وجهين، وفي الصلاة في الأرض المغصوبة قولان للعلماء، وهذا مستند من كره الصلاة

رفع ما وضع من الفرش والصلاة مكانه

في المقاصير التي يمنع الصلاة فيها عموم الناس. والمشروع في المسجد أن الناس يُتمون الصف الأول كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا». والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين: من وجه تأخره وهو مأمور بالتقدم، ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه للسابقين أن يصلوا فيه وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى الناس إذا حضروا وفي الحديث «الذي يتخطى رقاب الناس يتخذ جسرًا إلى جهنم». ثم إذا فرش هذا فهل لمن يسبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له؛ لأنه تصرف في ملك الغير. والثاني: وهو الصحيح أن لغيره رفعه والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم، وهو مأمور بذلك أيضا، وهو لا يتمكن من فعل المأمور به واستيفاء هذا الحق إلا برفع ذلك المفروش، وما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به، وأيضا فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب وذلك منكر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، لكن

من جلس في مكان ثم بدا له حاجة فقام ثم رجع فهو أحق بالمكان

ينبغي أن يراعى في ذلك أن لا يؤول إلى منكر أعظم منه، والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وأما إذا تقدم الرجل بنفسه إلى مكان فاضل في المسجد، وصلى فيه ما تيسر ثم وضع فيه عصاه أو نعليه أو خرقة أو غير ذلك، وخرج لأكل، أو شرب، أو وضوء، أو غلبة نوم، أو قام إلى ناحية من نواحي المسجد لشمس أو ظل أو نحو ذلك، فقد قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين رحمه الله تعالى: إن هذا ما يقال فيه شيء. وقال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): إذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة أو احتاج إلى وضوء فله الخروج، وإذا قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به، وحكمه في التخطي حكم من رأى بين يديه فرجة. انتهى. قلت: والأولى اجتناب التخطي مهما أمكن؛ لأمرين: أحدهما: رجاء أن يحوز فضل الجمعة تامًا؛ لقوله في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- الذي تقدم «... ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدًا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام» ونحوه ما في حديثه الآخر، وحديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما. الثاني: السلامة من الوعيد لمن تخطى رقاب الناس، والله أعلم.

فصل: دخول المسجد بالنعال والخفاف والصلاة فيها

فصل وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضي الله عنهم- يدخلون المسجد في نعالهم وخفافهم، ويصلون فيها، كما في الصحيحين، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال: نعم. ورواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، قال: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن أبي حبيبة، وعبد الله بن عمرو، وعمرو بن حريب، وشداد بن أوس، وأوس الثقفي، وأبي هريرة، وعطاء؛ رجل من بني شيبة. وفي الصحيحين عن همام بن الحارث قال: رأيت جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - بال ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى، فسئل، فقال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل هذا» هذا لفظ البخاري. وفيهما أيضا عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: «وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح على خفيه وصلى» هذا لفظ البخاري. وفي سنن ابن ماجة، عن ابن أبي أوس قال: كان جدي أوس أحيانًا يصلي فيشير إليَّ وهو في الصلاة، فأعطيه نعليه، ويقول: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه». وله أيضا عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لقد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في النعلين والخفين».

وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، وفيه قصة وهي: أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أتى أبا موسى الأشعري في منزله، فحضرت الصلاة، فقال أبو موسى: تقدم يا أبا عبد الرحمن فإنك أقدم سنا وأعلم، قال: لا، بل تقدم أنت، فإنما أتيناك في منزلك ومسجدك فأنت أحق، فتقدم أبو موسى فخلع نعليه، فلما سلم، قال: ما أردت إلى خلعهما، أبالوادي المقدس أنت؟! «لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الخفين والنعلين». وفي المسند، وسنن أبي داود، وابن ماجة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قائمًا وقاعدًا وحافيًا ومنتعلاً». وروي أبو نعيم في الحلية، من حديث مكحول، عن مسروق، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافيًا، ومنتعلاً، وينصرف عن يمينه، وعن شماله». وفي سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القومُ ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: «ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟» قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا» وقال: «إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا فليمسحه وليصل فيهما». ورواه الإمام أحمد، والحاكم بنحوه، وقال الحاكم: صحيح على شرط

مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى رزين، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنعليه وفيهما قذر فأخبره جبريل فحذفهما وأتم صلاته». وفي صحيح الحاكم عن أنس - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلع نعليه في الصلاة قط إلا مرة واحدة، خلع فخلع الناس فقال: «مالكم؟» قالوا: خلعت فخلعنا، فقال: «إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرًا أو أذى» قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي سنن الدارقطني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: الصلاة في النعلين، وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نعليه، فخلعهما، فخلع الناس، فلما قضى الصلاة قال: «لم خلعتم نعالكم؟» قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: «إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: إن فيهما دم حلمة». وفي سنن أبي داود، وصحيح الحاكم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لأبي داود: «إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب». وله أيضا عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه. وروى أبو داود أيضا، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا اليهود؛ فإنهم لا

يصلون في نعالهم ولا خفافهم». ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: «صلوا في نعالكم، ولا تشبهوا باليهود» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي السنن إلا الترمذي، عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنه - قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي يوم الفتح، ووضع نعليه عن يساره». وفي رواية للنسائي عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنه - قال: «حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وصلى في قِبَل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يساره ...» وذكر تمام الحديث. وقد رواه الحاكم في مستدركه مستشهدًا به لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المذكور بعده، وهو ما رواه أبو داود في سننه، والحاكم من حديث يوسف بن ماهك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره؛ فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقد رواه أبو داود، والحاكم أيضا من حديث الأوزاعي، حدثني محمد بن الوليد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدًا، ليجمعهما بين رجليه أو ليصل فيهما» هذا لفظ أبي داود.

ولفظ الحاكم: «إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه، أو ليصل فيهما» قال الحافظ الذهبي في تلخيصه: على شرطهما؛ يعني الشيخين. وقد رواه الحاكم أيضًا من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله القرشي، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس نعليه، أو ليخلعهما بين رجليه، ولا يؤذ بهما غيره» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وقد رواه ابن ماجة في سننه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد -وهو ضعيف- عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألزِم نعليك قدميك، فإن خلعتهما فاجعلهما بين رجليك، ولا تجعلهما عن يمينك ولا عن يمين صاحبك ولا ورائك فتؤذي من خلفك». ورواه الطبراني في الصغير، من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدًا، ليخلعهما بين رجليه» في إسناده يحيى بن عبد الله البابلتي، روى له البخاري تعليقًا، وتكلم فيه ابن حبان وابن عدي. وفي الموطأ، عن أبي سهيل نافع بن مالك الأصبحي، عن أبيه قال: كنت مع عثمان، فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض لي، فلم أزل أكلمه وهو يسوي الحصا بنعليه، حتى جاءه رجال قد كان وكلهم بتسوية الصفوف، فأخبروه أن قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثم كبَّر.

فوائد الأحاديث والآثار الواردة في الصلاة في النعال

فهذا ما تيسر إيراده من الأحاديث في هذا الفصل، وقد اشتملت على فوائد كثيرة نذكر منها ما يتعلق بالمقصود ههنا: إحداها: أن الصلاة في النعال والخفاف سُنّة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمر بها، وفعلها هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ولهذا لما قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: أيصلي الرجل في نعليه؟ قال: إي والله. فأما الصلاة في الخفاف فلا يزال العمل بها باقيًا في كثير من البلاد الإسلامية حتى الآن، وأما الصلاة في النعال فقد عفى أثرها في هذه الأزمان حتى صارت في بعض الأماكن من قبيل البدع ومنكرات الأفعال. الثانية: جواز دخول المساجد في النعال والخفاف خلافًا لما عليه كثير من الناس. الثالثة: أمر من جاء إلى المسجد أن يقلب نعليه أو خفيه وينظر فيهما، فإن رأى فيهما قذرًا أو أذى مسحه بالتراب، وصلى فيهما. الرابعة: أن مسحهما بالتراب يطهرهما ولا حاجة إلى الغسل. الخامسة: أن من نسي أن ينظر في نعليه أو خفيه حتى فرغ من صلاته فصلاته صحيحة، ولو كان فيهما نجاسة. السادسة: أن من علم بنجاسة نعليه وهو في الصلاة فعليه أن يخلعهما، فإن لم يفعل بطلت صلاته لملابسته للنجاسة عالمًا مختارًا. السابعة: نهي المصلي أن يؤذي أحدًا بنعليه إذا خلعهما. الثامنة: نهيه أن يضعهما عن يمينه أو عن يمين غيره.

التاسعة: إرشاده إلى وضعها بين رجليه، أو عن يساره إن كان إمامًا، وكذلك المأموم والمنفرد، إذا لم يكن عن يسارهما أحد. ويفهم من فحوى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه لا يجوز للمصلي أن يضع نعليه قِبَل وجهه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بوضعهما بين الرجلين أو عن اليسار إذا كان خاليًا، فدل على أنه لا يجوز وضعهما قِبَل الوجه. وأيضا فإن جهة الإمام في حال الصلاة أشرف من جهة اليمين فما نزهت عنه جهة اليمين فجهة الإمام أولى بالتنزيه عنه، ويدل على ذلك ما في الصحيحين وغيرهما، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه، فإن الله قِبَل وجهه إذا صلى». وفي الصحيحين وغيرهما، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدميه». وفي رواية للبخاري: «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قِبَل قِبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه». وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكًا، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه

خفاء الأمر بوضع النعلين بين الرجلين، أو عن اليسار في الصلاة

فيدفنها» هذا لفظ البخاري. وفي صحيح مسلم، وسنن أبي داود، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى». وفي سنن أبي داود أيضا، وصحيح الحاكم، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه والمَلَك عن يمينه، فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه، وليبصق تحت قدمه اليسرى أو عن يساره» هذا لفظ الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن جهة قبلة المصلي أشرف من جهة يمينه، وأنه يجب تنزيههما عن البصاق، فدل ذلك على أنه ينبغي تنزيه جهة القبلة عن وضع النعلين فيهما كجهة اليمين، بل هي أولى بالتنزيه والاحترام، والله أعلم. وقد جاء في هذا حديث مرفوع، فروى الطبراني في الصغير بإسناد فيه ضعف، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا خلع أحدكم نعليه في الصلاة فلا يجعلهما بين يديه فيأتم بهما، ولا من خلفه فيأتم (¬1) بهما أخوه المسلم، ولكن ليجعلهما بين رجليه». وقد خفي الأمر بوضع النعلين بين الرجلين في الصلاة أو عن اليسار إذا ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل بالمثناة في الموضعين، وكذا هو في المطبوع من المعجم الصغير (2/ 13)، وفي المطبوع من الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني (2/ 70) بالمثلثة «فيأثم».

كان خاليًا على كثير من المنتسبين إلى العلم في زماننا هذا فضلا عن العامة، وقلَّ أن يُرى أحد يعمل في هذا بمقتضى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، بل قد صار عمل الخاصة والعامة على خلافه، فتراهم يضعون النعال أمامهم وعن أيمانهم وعن أيمان الغير، ولا يرون بذلك بأسًا، والحامل لهم على هذا جهلهم بالسنة، فالواجب على من علم بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا وغيره أن يُعلِّم الجاهلين به، فقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال: «ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه». والواجب على الجاهل أن يقابل أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرضا والتسليم. وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم» وإنما يكون الويل للعالم إذا ترك تعليم الجاهل كما هو مصرح به في الحديث الذي ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى، والويل للجاهل إذا أمره العالم بمعروف فلم يأتمر أو نهاه عن منكر فلم ينته، والله أعلم. العاشرة: من فوائد الأحاديث المتقدمة أن العمل اليسير في الصلاة معفو عنه. الحادية عشرة: أن الأمة أُسوتها نبيُّها - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام ما لم يرد دليل على الاختصاص، ولهذا لما خلع النبي - صلى الله عليه وسلم - نعليه بادر الصحابة -رضي الله عنهم- فخلعوا نعالهم تأسيًا به. الثانية عشرة: أن ترك الصلاة في النعال والخفاف من فعل اليهود.

الثالثة عشرة: الأمر بمخالفتهم والنهي عن التشبه بهم. الرابعة عشرة: الرد على الموسوسين الذين لا يصلون في النعال والخفاف، ولا يدخلون المساجد فيها إما بالكلية كما في بعض الأماكن وإما إلى موضع الصلاة كما في أماكن أخرى، وهذا من الغلو والتعمق، والرغبة عما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. وقد جاء في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب، فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: قالت: صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا فترخص فيه، فبلغ ذلك ناسًا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك فقام خطيبًا فقال: «ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه؟ فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية». وفي لفظ له: قالت: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر، فتنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال: «ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه؟ فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية». وفي الصحيحين أيضا من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رغب عن سُنتي فليس مِنِّي».

ومن غلو الموسوسين وتعمقهم أنهم يمنعون غيرهم من دخول المساجد في النعال والخفاف، وينكرون ذلك عليهم أشد الإنكار، ولا سيما في المسجد الحرام والمسجد النبوي، فإن العامة لا يمكِّنون أحدا من الدخول فيهما بنعليه ولا خفيه إلا أن يكونا في يده، ولو رأوا أحدًا يدخل فيهما بنعليه أو خفيه لاستعظموا ذلك واشتد إنكارهم على فاعله، وربما عدوه مبتدعًا أو مرتكبًا لكبيرة من الكبائر، وإنما يحملهم على هذا جهلهم بالسنة، وما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- من التيسر وترك التعسير، كما في صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين». وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا أبا داود، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - نحوه. ولابن ماجة أيضا عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - نحو ذلك. وفي المسند، وسنن أبي داود، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنت فتى شابًا عزبًا، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك. ورواه البخاري في صحيحه مختصرًا معلقًا بصيغة الجزم. وفي صحيح البخاري أيضًا، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا الترمذي،

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله. الحديث. وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد، ومعه بلال، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد» الحديث. وهذا لفظ البخاري. ولفظ أحمد ومسلم: «حتى أناخ بفناء الكعبة». وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت وهو على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر». وعن جابر بن عبد الله، وعائشة، وأبي الطفيل، وصفية بنت شيبة، وابن عباس -رضي الله عنهم- نحو ذلك. فأما حديث جابر - رضي الله عنه - فرواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. وأما حديث عائشة -رضي الله عنها- فرواه مسلم، والنسائي. وأما حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة - رضي الله عنه - فرواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجة. وأما حديث صفية بنت شيبة رضي الله عنها فرواه أبو داود، وابن ماجة. وأما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فرواه الإمام أحمد، وأبو داود وفيه: «فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين».

وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا الترمذي، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني اشتكي، فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور. وفي رواية للبخاري والنسائي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أقيمت الصلاة فطوفي على بعيرك من وراء الناس». ففي هذه الأحاديث بيان ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التيسير على أمته. فمن ذلك أنه ترك الأعرابي الجاهل يتم بوله في المسجد، ونهى أصحابه أن يزرموه بأن يقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يصبوا على بوله ذنوبًا من ماء، ثم دعا الأعرابي فعلمه برفق وقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه -. وعند ابن ماجة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال الأعرابي بعد أن فقه: فقام إليَّ بأبي وأمي فلم يؤنب ولم يسب فقال: «إن هذا المسجد لا يبال فيه، وإنما بني لذكر الله وللصلاة ...» الحديث، وهذا بعكس ما يفعله كثير من الجهال في هذه الأزمان مع متبعي السنة، فإنهم إذا رأوا أحدًا منهم يدخل المسجد في نعليه كان أهون ما يفعلون معه أن يعنفوه ويوبخوه على فعله، ولا يردهم عنه كونه ينظر في نعليه قبل أن يدخل المسجد ويمسح ما فيهما من الأذى والقذر، وهذا في الحقيقة إنكار للسنة، ورد على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما

هو معلوم من الأحاديث التي تقدمت في أول الفصل، والله أعلم. ومن ذلك أن الكلاب كانت تبول وتقبل وتدبر في المسجد النبوي في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- يعبأون بذلك، وهذا أعظم مما ينكره الجهال من المشي في المساجد بالنعال والخفاف. ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - أدخل بعيره في المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأفضلها على الإطلاق، وأعظمها حرمة عند الله تعالى، وأولاها بالتطهير والتنزيه من جميع الأقذار، وطاف - صلى الله عليه وسلم - راكبًا عليه، وأناخه في المسجد بفناء الكعبة، وأمر أم سلمة -رضي الله عنها- أن تطوف على بعيرها، وأقرَّ الأعرابي على إدخاله بعيره في المسجد النبوي وعقله إياه فيه، وهذا أعظم مما ينكره الجهال من المشي بالنعال والخفاف في المسجدين الشريفين وغيرهما من المساجد؛ لأن ما يخشى من تلويث المسجد بما يعلق بالنعال والخفاف من الأذى والقذر يخشى أكثر منه في أخفاف البعير؛ فإن الإنسان يحترز غالبًا من وطء الأقذار بخلاف البعير، وأيضًا فإن الإنسان مأمور إذا أتى المسجد أن ينظر في نعليه ويمسح ما يراه فيهما من الأذى والقذر، وبذلك يطهران ويزول عنهما ما يخشى من تلويث المسجد، وأيضا فإن البعير لا يؤمن أن يلوث المسجد برجيعه وبوله، وهما وإن كانا طاهرين فتنزيه المسجد منهما أولى، ولما كان الشارع المبعوث بالتيسير والحنيفية السمحة لم يعبأ بشيء مما يحتمل وقوعه من البعير، ولم يُنقل عنه أنه نظر في أخفاف بعيره لما أراد أن يدخله المسجد الحرام، ولا أمر أم سلمة

والأعرابي بشيء من ذلك، دل هذا على أن في الأمر سعة، ولكن الجهال الموسوسين قد أبوا ذلك، وضيقوا على الناس، حتى منعوهم من دخول المسجدين بالنعال والخفاف فضلا عما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر به وأقره، فالله المستعان (¬1). وفي الصحيحين، وسنن أبي داود، وابن ماجة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي رواية لأحمد، ومسلم، والبخاري تعليقًا مجزومًا به: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». ورواه الدارقطني في سننه، والحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بلفظ: «من فعل أمرًا ليس عليه أمرنا فهو رد». قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: المراد بأمره ههنا: دينه وشرعه. انتهى. والرد هنا: بمعنى المردود، من إطلاق المصدر على اسم المفعول. قال النووي وغيره: معناه فهو باطل غير معتد به. انتهى. ومن تأمل الأحاديث التي ذكرنا في أول الفصل علم أن إنكار دخول المساجد في النعال والخفاف وإنكار الصلاة فيها إنما هو جهل صرف، وأمر محدث، ليس عليه أمر الشارع، فيكون مردودًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) هذا الكلام منه رحمه الله يوم أن كان المسجد عامته بالحصباء لا فُرُش ولا غيرها مما يستقذر الناس وطأه بالخفاف والنعال، وأما آخر الأمر فلقد رأيناه رحمه الله يخلع نعله عند باب المسجد الحرام عند إرادة دخوله مما يدل على أنه يرى التفريق بين الأمرين، والله أعلم.

فصل: في زخرفة المساجد والمباهاة فيها

فصل ومن المذموم شرعًا زخرفة المساجد والمباهاة فيها، وقد فشا ذلك في هذه الأزمان، وسيأتي الكلام عليه وسياق ما ورد في ذلك من الأحاديث في فصول التحذير من التشبه باليهود والنصارى والمشركين إن شاء الله تعالى، وبه الثقة (¬1). ¬

_ (¬1) هذا مما أحال عليه رحمه الله ولم يبلغه قلمه فيما وجد من هذا الكتاب المبارك، وله مؤلف خاص بعنوان (الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين).

فصل: فيما أحدث في الأذان

فصل وقد أحدث الجهال في الأذان محدثات زينها لهم الشيطان اللعين. فمنها: المبالغة في التطريب به في بعض الأماكن، حتى يصير شبيهًا بالغناء والأصوات الموسيقية. ومنها: الانتفاض حال التأذين في أماكن أخرى، بحيث يكون المؤذن كالمحموم، أو المصاب بالبرد الشديد. ومنها: تمطيطه والتنطع في إخراجه حتى يتولد من الحرف حرف آخر أو حرفان أو ثلاثة أو أكثر من شدة التمطيط، وفي هذه الأفعال المبتدعة من الاستهزاء بذكر الله تعالى، والاستخفاف بشأن الأذان ما لا يخفى على من في قلبه حياة، وتسمية أهلها بالمستهزئين بذكر الله تعالى أولى من تسميتهم بالمؤذنين، فالواجب على المسلمين تغيير هذه المنكرات بحسب القدرة، والواجب على ولاة الأمور أن يفعلوا مع المطربين بالأذان ونحوهم من المبتدعين فيه مثل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع سلفهم في هذه البدعة، وما فعله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أيضا؛ ففي سنن الدارقطني، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذن يطرب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الأذان سمح سهل؛ فإن كان أذانك سهلاً سمحًا وإلا فلا تؤذن». وذكر البخاري في صحيحه تعليقًا مجزومًا به، ووصله ابن أبي شيبة: أن مؤذنًا أذَّن فطرّب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أذِّن أذانًا سمحًا، وإلا فاعتزلنا.

زيادة الرافضة في الأذان

وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر على المطرب في الأذان فالإنكار على الذين يجعلونه شبيهًا بالغناء والأصوات الموسيقية أولى وأحرى، وكذلك الذين يمططونه، ويتنطعون فيه، وينتفضون معه، فكل هؤلاء أولى بأن ينكر عليهم؛ لأنهم أعظم استخفافًا بالأذان ممن يطرب به. ويجب أيضا تغيير ما زادته الرافضة في الأذان من الجُمل التي ما أنزل الله بها من سلطان، إنما هي من تزيين الشيطان وكيده؛ كقولهم: أشهد أن عليًا ولي الله، وكقولهم: حي على خير العمل. والله المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.

فصل: التجاوب بالتكبير يوم العيد

فصل ومن الاستهزاء بذكر الله تعالى ما يفعل في المسجد الحرام يوم العيد، من التجاوب بالتكبير بين أهل المنارات وأهل المقامات بأصوات عالية ملحنة، يخرجونها مخرجًا واحدًا على نحو ما يفعله أهل الغناء المحرم، وقد رأيت بعض الحاضرين يطربون لهذه الأصوات كما يطرب المفتونون بالغناء للغناء، وفعلهم هذا من البدع التي يجب إنكارها، وقد أنكر ابن مسعود وأبو موسى الأشعري -رضي الله عنهما- ما هو دون ذلك، وعده ابن مسعود - رضي الله عنه - من البدع؛ فروى الطبراني في الكبير، عن عمرو بن سلمة قال: كنا قعودا على باب ابن مسعود - رضي الله عنه - بين المغرب والعشاء، فأتى أبو موسى - رضي الله عنه - فقال: اخرج إلينا أبا عبد الرحمن، فخرج ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال: أبا موسى، ما جاء بك هذه الساعة؟ قال: لا والله، إلا إني رأيت أمرا ذعرني وإنه لخير ولقد ذعرني وإنه لخير؛ قوم جلوس في المسجد ورجل يقول: سبحوا كذا وكذا، احمدوا كذا وكذا، قال: فانطلق عبد الله وانطلقنا معه (¬1) حتى أتاهم فقال: ما أسرع ما ضللتم وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحياء، وأزواجه شواب، وثيابه وآنيته لم تغير، أحصوا سيئاتكم فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم. وروى الدارمي، عن عمرو بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قبل صلاة الغداة فإذا ¬

_ (¬1) في الأصل (معهم) ولعله سبق قلم، والتصحيح من معجم الطبراني الكبير (9/ 136).

خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أَخَرَجَ إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك، أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم -! أو مفتتحي باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه! وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في (زوائد الزهد)، والطبراني، وأبو الفرج بن الجوزي واللفظ له، عن أبي البختري قال: أخبر رجل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن قومًا ما يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل

يقول كبروا الله كذا وكذا، وسبحوا الله كذا وكذا، واحمدوا الله كذا وكذا، قال عبد الله: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فاتِنِي فأَخبِرنِي بمجلسهم، فأتاهم فجلس، فلما سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعود فجاء -وكان رجلاً حديدًا- فقال: أنا عبد الله بن مسعود، والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا! عليكم بالطريق فالزموه، ولئن أخذتم يمينًا وشمالاً لتضلن ضلالا بعيدًا. وفي رواية الطبراني: فأمرهم أن يتفرقوا. وروى محمد بن وضاح، أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حُدِّث أن ناسًا يسبحون بالحصى في المسجد، فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم كومة من حصى، فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد وهو يقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماء، أو قد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا! إذا علم هذا، فصنيع المتجاوبين بالتكبير يوم العيد مما لا ريب أنه من المنكرات، وأنه أعظم مما أنكره ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما، وأولى بأن ينكر على فاعليه، ويمنعوا منه، وبيان ذلك من وجهين: أحدهما: ما في فعل المتجاوبين بالتكبير من التطريب به، واجتماع الجماعة على إخراجه بأصوات عالية متطابقة، كأنها من تطابقها صوت واحد على نحو ما يفعله المغنون، وهذا المسلك مما ينبغي تنزيه ذكر الله وإجلاله عنه. الثاني: التشويش على من في المسجد الحرام من التالين للقرآن والذاكرين الله تعالى بالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح وغير ذلك من

النهي عن التشويش على من في المسجد ولو بتلاوة القرآن

أنواع الذكر والدعاء، فتلتبس القراءة على القاري والذكر على الذاكر والدعاء على الداعي، وقد نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجهر بالقرآن إذا حصل من الجهر به تشويش على الغير، كما في الموطأ، عن أبي حازم التمار، عن البياضي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن». وروى أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة -أو قال- في الصلاة». قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان. انتهى. وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف، وخطب الناس فقال: «أما إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة» إسناده جيد. وإذا كان المصلي منفردًا، ومثله التالي للقرآن في غير صلاة منهيًا عن الجهر الذي يحصل منه تشويش على من حوله من المصلين والتالين فنهي

المتجاوبين بالتكبير أولى؛ لأن صنيعهم فيه من المحدثات، مع ما في ذلك من التشويش على التالين والذاكرين والداعين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه الشيخان، وأبو داود، وابن ماجة، من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي رواية لأحمد، ومسلم، والبخاري تعليقًا مجزومًا به: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1). ¬

_ (¬1) وله رحمه الله رسالة مستقلة في هذا الموضوع سماها: إنكار التكبير الجماعي وغيره.

فصل: من أعظم أسباب اغتراب الإسلام تهاون الأكثرين بالزكاة المفروضة

فصل ومن أعظم أسباب اغتراب الإسلام تهاون الأكثرين بالزكاة المفروضة؛ إيتاءً، وتفريقًا، وأخذًا. فأما الإيتاء فالناس فيه على طرائق شتى: منهم من يترك الزكاة بالكلية ولعلهم الأكثرون من المنتسبين إلى الإسلام. ومنهم من يخرج الزكاة عن بعض ماله ويترك بعضه فلا يزكيه. ومنهم من يخرجها عن الأموال الظاهرة ويتركها عن الخفية. وكثير من أهل الزروع والثمار لا يخرجون الزكاة إلا بقدر المخروص عندهم، ولا يخرجونها عما زاد عليه، وبعضهم يخرج الزكاة من رديء ما عنده، وبعض الناس تكون عنده الأعناب الكثيرة وغيرها من أنواع الحبوب والثمار التي تكال وتدخر فلا يخرج منها الزكاة. ومن التجار من يخرجها عما عنده من الذهب والفضة ولا يخرجها عن عروض التجارة. ومنهم من لا يعتني بإحصاء ماله، بأن يعد المعدودات ويقوم غيرها من العروض بقيمتها وقت إخراج الزكاة ليخرج الزكاة كاملة عن الجميع، وإنما يخرج عنها بالحدس والتخمين، ونحو ذلك مما لا تبرأ به الذمة. وبعض الناس تكون تجارته في الرقيق أو في المواشي أو في العقارات كالأراضي والبيوت والدكاكين وغيرها، أو في السيارات وغيرها من المتحركات، فإذا جاء وقت الزكاة أهملها ولم يسلك بهذه الأشياء سبيل عروض التجارة؛ بأن يقومها بقيمتها حينئذ، ليخرج الزكاة عنها كاملة

كم المتهاون بإيتاء الزكاة

موفرة؛ وإنما يخرج عنها بالحدس والتخمين، وبعضهم يترك الزكاة عنها بالكلية ولا يعبأ بها. فكل هؤلاء الذين ذكرنا متهاونون بالزكاة، مفرطون في ركن عظيم من أركان الإسلام، وأقل الناس من يخرج الزكاة من أصناف ماله كاملة موفرة طيبة بها نفسه، وقد تقدم الكلام في حكم تارك الزكاة عمدًا، وذكرت هناك أن طائفة من السلف ذهبوا إلى تكفيره، وذكرت دليل قولهم من الكتاب والسنة واتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- على قتال مانعي الزكاة، والحكم عليهم بالردة، وذكرت أيضًا ما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب (السنة) بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: ما تارك الزكاة بمسلم. وروى عبد الله أيضًا بإسناد صحيح عنه أنه قال: من أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة فلا صلاة له. وروى أيضا بإسناد صحيح عنه أنه قال: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له. وروى أسد بن موسى، عن الضحاك قال: لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها: إحداها: قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [التغابن: 12]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.

قرنت الصلاة بالزكاة في سبعة وعشرين موضعا في القرآن الكريم

الثانية: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه. الثالثة: قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه. وذكر هذا الأثر الحافظ الذهبي في كتاب (الكبائر). وعنه - رضي الله عنه - أنه قال: صلاتنا وزكاتنا أُختَان. وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا ابن ماجة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه قال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: إن الله عز وجل قرن الزكاة في كتابه مع الصلاة، فمن ترك الزكاة فلا صلاة له. ذكره الآجري في كتابه (الشريعة). وقد جاء في هذا حديث مرفوع رواه أبو نعيم في الحلية، من طريق محمد بن أسلم الطواسي، حدثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا عبد الحكم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقبل الله صلاة رجل لا يؤدي الزكاة حتى يجمعهما؛ فإن الله تعالى قد جمعهما، فلا تفرقوا بينهما». قلت: وقد تتبعت الآيات التي قُرنت فيها الصلاة والزكاة فوجدت ذلك في سبعة وعشرين موضعًا، وذكرت الزكاة وحدها في مواضع كثيرة، وهذا مما يدل على شرفها وعظم شأنها عند الله تعالى، ولهذا كانت أعظم أركان الإسلام ومبانيه بعد الشهادتين والصلاة.

من فضائل إيتاء الزكاة

ومن فضائلها: أن الله تعالى جعلها طُهرة وزكاة لأهل الأموال كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. قال البغوي رحمه الله تعالى: تطهرهم بها من ذنوبهم، وتزكيهم بها أي ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين، وقيل: تنمي أموالهم. انتهى. قلت: ولا منافاة بين القولين، وكلا المعنيين موجود في الزكاة، فإن فيها تطهير للمزكين وتنمية لأموالهم، والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد، والحاكم، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضره، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تخرج الزكاة من مالك، فإنها طُهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» الحديث. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. ومن فضائلها أيضًا: أن الله تعالى جعل أداءها آية من آيات الإيمان والإحسان، وسببا من أسباب الهداية والفلاح، والرحمة والمغفرة والرضوان، والفوز بالجنة والنجاة من النار، قال الله تعالى: {الم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 1 - 5]، وقال تعالى: {طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى

وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 1 - 3]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وقد تقدم قريبًا قول ابن إسحاق البغوي: إن عسى من الله حق، وقول البغوي وابن كثير: إن عسى من الله واجبة. قال البغوي: أي فأولئك هم المهتدون، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة. انتهى. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 3]، وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277]، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا

تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 36 - 38]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 71 - 72]، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، فعلق إخوتهم للمؤمنين بإيتاء الزكاة، فدل على أن من لم يؤدها فليس بمؤمن. وقد روى أبو داود في سننه، والطبراني في معجمه الصغير، عن عبد الله بن

معاوية الغاضري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان؛ من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام؛ ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله عز وجل لم يسألكم خيرها، ولم يأمركم بشرها وزكى نفسه» فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: «أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان» هذا لفظ الطبراني. وروى أبو جعفر ابن جرير وأبو بكر الآجري، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة؛ من حافظ على الصلوات الخمس؛ على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها، وكأنه يقول: وأيم والله لا يفعل ذلك إلا مؤمن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأدى الأمانة» قال أبو الدرداء: وما أداء الأمانة؟ قال: «الغسل من الجنابة، فإن الله عز وجل لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها». ورواه الطبراني في الصغير، وأبو نعيم في الحلية بنحوه. وهذا الحديث في سنن أبي داود، من رواية أبي سعيد ابن الأعرابي عنه، وفيه اختصار يسير عما هنا. وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلاة نور، والصدقة برهان ...» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه النسائي وابن ماجة بلفظ: «الصلاة نور والزكاة برهان».

قال الراغب الأصفهاني: البرهان: أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبدًا لا محالة. وقال أبو السعادات ابن الأثير: البرهان: الحجة والدليل، أي أنها حجة لطالب الأجر من أجل أنها فرض يجازي الله به وعليه، وقيل: هي دليل على صحة إيمان صاحبها لطيب نفسه بإخراجها، وذلك لعلاقة ما بين النفس والمال. انتهى. وعلى القول الأخير اقتصر النووي في شرح الأربعين، قال: وسميت صدقة لأنها دليل على صدق إيمانه؛ وذلك أن المنافق قد يصلي ولا تسهل عليه الصدقة غالبًا، ونقل نحو هذا في شرح مسلم، ثم قال: فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه، والله أعلم. انتهى. وروى ابن ماجة، والبزار، والحاكم في مستدركه، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راضٍ» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن أعرابيًا عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله، أو يا محمد، أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار، قال: فكفّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نظر في أصحابه ثم قال: «لقد وفق، أو لقد هدي» قال: كيف؟ قال: فأعاد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم

الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة» هذا لفظ مسلم. وفيهما أيضا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا». وروى الإمام أحمد، وأهل السنن إلا أبا داود، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قلت: يا نبي الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الطبراني وغيره، من حديث المغيرة بن عبد الله اليشكري، أن أباه حدثه قال: انطلقت إلى الكوفة فدخلت المسجد، فإذا رجل من قيس يقال له ابن المنتفق وهو يقول: وُصف لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلبته، فلقيته بعرفات، فزاحمت عليه حتى خلصت إليه، فأخذت بخطام راحلته، فما غير عليّ، قال: شيئين أسألك عنهما؛ ما ينجيني من النار، وما يدخلني الجنة؟ قال: فنظر إلى السماء ثم أقبل عليَّ بوجهه الكريم فقال: «لإن كنت أوجزت

المسألة، لقد أعظمت وطولت فاعقل عليَّ، اعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان». وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي، عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وصيام رمضان» قال: هل عليَّ غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفلح إن صدق»، وفي رواية: «أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق». وروى الإمام أحمد، والبخاري تعليقًا، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث ثابت، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: «صدق» قال: فمن خلق السماء؟ قال: «الله» قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله» قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله» قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: «نعم»

قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال: «صدق» قال: ثم ولى، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لئن صدق ليدخلن الجنة». وقد رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأهل السنن إلا الترمذي، من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس - رضي الله عنه - بنحوه، ورواية أبي داود مختصرة. وللنسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه أيضا. وكذا لأحمد، والحاكم، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وفي آخره فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة». ورواه أبو داود مختصرًا، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى البخاري في تاريخه، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي، من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع فقال: «اتقوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» قال الترمذي: هذا حديث حسن

صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولا نعرف له علة ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث يزيد بن مرثد، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما عصمة هذا الأمر، وعراه، ووثائقه؟» قال: فعقد بيمينه فقال: «أخلصوا عبادة ربكم، وأقيموا خمسكم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيتكم، تدخلوا جنة ربكم». وروى الطبراني في الأوسط والصغير، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن حوله من أمته: «اكفلوا لي ست خصال أكفل لكم الجنة؛ الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان» قال المنذري: إسناده لا بأس به، وقال الهيثمي: فيه حماد الطائي لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وفي سنن النسائي، عن أبي هريرة وأبي سعيد -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، فقيل له: ادخل بسلام». ورواه البخاري في تاريخه، وابن جرير في تفسيره، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي المسند، وسنن النسائي، عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله

- صلى الله عليه وسلم -: «من عَبَدَ الله لا يشرك به شيئًا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر فله الجنة، أو دخل الجنة». ورواه الحاكم في المستدرك بنحوه، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعراف له علة، ولم يخرجاه. وفي سنن النسائي أيضا، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، ومات لا يشرك بالله شيئًا، كان حقًا على الله أن يغفر له، هاجر أو مات في مولده» الحديث. وروى ابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه، عن عبيد بن عمير، عن أبيه - رضي الله عنه - أنه حدثه -وكانت له صحبة- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: «ألا إن أولياء الله المصلون، من يقيم الصلوات الخمس التي كتب الله عليه، ويصوم رمضان، ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق، ويعطي زكاة ماله يحتسبها، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها» ثم إن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فقال: «تسع؛ الشرك بالله، وقتل نفس المؤمن بغير حق، وفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا» ثم قال: «لا يموت رجل لم يعمل هذه الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار أبوابها مصاريع من ذهب». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد روى أبو داود، والنسائي في سننيهما طرفًا منه في ذكر الكبائر فقط.

وكل ما جاء في القرآن والسنة من مدح الإنفاق والصدقة، ووعد المنفقين والمتصدقين بجزيل الأجر والثواب، فعمومه يشمل الواجب والمندوب، والله أعلم. ومن فضائل الزكاة أيضا أنها تطهر المال، وتطيبه وتذهب شره، كما في صحيح البخاري، وسنن ابن ماجة، عن خالد بن أسلم قال: خرجت مع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فلحقه أعرابي، فقال له قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: مَن كنزها، فلم يؤد زكاتها، فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهورًا للأموال. زاد في رواية ابن ماجة: ثم التفت فقال: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا، أعلم عدده وأزكيه وأعمل فيه بطاعة الله عز وجل. وفي سنن أبي داود، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا أفرج عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم». قال: فكبر عمر - رضي الله عنه -. الحديث. ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم

يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروى ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. ومن فضائل الزكاة أيضا: أن في أدائها براءة من الشح الذي هو أشد البخل، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي، والطبراني وغيرهما، عن خالد بن زيد بن حارثة الأنصاري - رضي الله عنه - مرفوعًا: «برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة». وروى الطبراني أيضا في معجمه الصغير، عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من كن فيه فقد برئ من الشح؛ من أدى زكاة ماله طيبة بها نفسه، وقرى الضيف، وأعطى في النوائب». ومن فضائلها أيضا: أنها حصن للمال، وحرز له من التلف والآفات، وهذا أمر معروف عند الناس؛ حتى إن العامة يقولون في المال إذا وقع في مظان الهلكة وسلم منها: هذا مال مزكى، ويقولون مثل هذه الكلمة أيضا في الشيء يضيع أو يسرق ثم يجده صاحبه. وقد روى الطبراني، وأبو نعيم في الحلية بإسناد ضعيف، عن ابن مسعود

- رضي الله عنه - مرفوعًا: «حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء». وروى أبو داود في مراسيله، عن الحسن مرسلاً نحوه. وروى الطبراني أيضا بإسناد فيه ضعف عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: «ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة». وله أيضا من حديث عبادة نحوه وزاد: «فحرزوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا طوارق البلايا بالدعاء، فإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، ما نزل يكشفه وما لم ينزل يحبسه». ومن فضائل الزكاة أيضًا: أنها سبب لنماء المال وكثرته، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]: إن المعنى تنمي أموالهم. قال النووي في شرح مسلم: الزكاة في اللغة النماء والتطهير، فالمال ينمي بها من حيث لا يُرى، وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمي أجرها عند الله تعالى، وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها، وقيل: لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه. انتهى. وقال الراغب الأصفهاني: سُمِّيت بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة، أو لتزكية النفس أي تنميتها بالخيرات والبركات، أو لهما جميعًا، فإن الخيرين موجودان فيها. انتهى.

وأيضا فإن إيتاء الزكاة على الوجه المأمور به من أعظم الشكر على نعمة المال، وقد وعد الله الشاكرين بالمزيد، وأقسم على ذلك فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. ومن فضائل الزكاة أيضا: أنها من الخصال التي اهتم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته، وأوصى بها أمته -إن صح الحديث بذلك- فروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، والبخاري في (الأدب المفرد) عن علي - رضي الله عنه - قال: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده، قال: فخشيت أن تفوتني نفسه، قال: قلت: إني أحفظ وأعي، قال: «أُوصِي بالصلاة، والزكاة، وما ملكت أيمانكم». فهذا ما يسره الله تعالى من بيان فضائل الزكاة، وحيث كانت بهذه المثابة فينبغي لكل مسلم أن يبادر إلى إخراجها إذا جاء وقتها ولا يؤخرها، ويخرجها من أوسط ما عنده من الأموال كاملة موفرة طيبة بها نفسه، ولا يتبعها منا ولا أذى، ولا يريد بها رياء ولا سمعة، ولا يبتغي بها محمدة الناس وثنائهم عليه، بل يخرجها إيمانًا واحتسابًا يريد بها وجه الله تعالى ويرجو برها وذخرها في الدار الآخرة، ومن أخرجها على هذا الوجه فعسى أن يحوز فوائدها الدنيوية والأخروية، ولو لم يكن للأغنياء فيها من الفوائد إلا أن أموالهم تحفظ بسببها وتنمو وتكثر، لكان ينبغي لهم أن يبادروا إلى إخراجها لأجل هذه الفائدة، والله الموفق.

فصل: الوعيد الشديد لمانع الزكاة

فصل وقد ورد الوعيد الشديد لمانع الزكاة والتصريح بلعنه، قال الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]، وقد تقدم الكلام على معنى الويل مستوفى عند ذكر الوعيد للمتهاونين بالصلاة فليراجع. وقال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]. وفي المسند، وصحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوي بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال: «ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحدًا، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم

كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى لجنة وإما إلى النار» قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: «ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقدار خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ...» وذكر تمام الحديث. ورواه أبو داود في سننه بنحو مما ذكر ههنا. ورواه البخاري، والنسائي مختصرًا، وزاد النسائي قال: «ويكون كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا أقرع، يفر منه صاحبه ويطلبه: أنا كنزك، فلا يزال حتى يلقمه أصبعه». ورواه ابن ماجة من وجه آخر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تأتي الإبل التي لم يعط الحق منها تطأ صاحبها بأخفافها، وتأتي البقر والغنم تطأ صاحبها بأظلافها وتنطحه بقرونها، ويأتي الكنز شجاعًا أقرع فيلقى صاحبه يوم القيامة فيفر منه صاحبه مرتين ثم يستقبله، فيقر فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: أنا كنزك أنا كنزك، فيتقيه بيده فيلقمها». قوله: «شجاعًا»: هو بضم الشين؛ الحية الذكر، و «الأقرع» الذي قد تمعط جلد رأسه؛ لكثرة سمه وطول عمره. قاله أبو عبيد الهروي وغيره من أئمة اللغة.

وقال القرطبي: الأقرع من الحيات الذي ابيض رأسه من السم، ومن الناس الذي لا شعر برأسه. قال النووي: وقيل: الشجاع الذي يواثب الراجل والفارس ويقوم على ذَنَبِه، وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحاري. وفي صحيح مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تستن عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جمَّاء ولا منكسر قرنها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فرّ منه، فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني، فإذا رأى أن لابد منه سلك يده في فيه، فيقضمها قضم الفحل». وقال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول: قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل؟ قال: «حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنيحتها، وحمل عليها في سبيل الله». ثم رواه مسلم، والنسائي من وجه آخر، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي

حقها إلا أُقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جمّاء ولا مكسورة القرن» قلنا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: «إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله، ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه، ويقال: هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لابد منه أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل». وفي الصحيحين، والمسند، والسنن إلا أبا داود، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يُقضى بين الناس». وروى الحافظ أبو يعلى، وابن جرير، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك بعده كنزًا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يتبعه، فيقول: من أنت ويلك؟! فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبع سائر جسده» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الحافظ الذهبي في تلخيصه: على شرطهما؛ يعني الشيخين. وفي مستدرك الحاكم أيضا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا أقرع ذا زبيبتين يتبع صاحبه وهو يتعوذ منه، فلا يزال يتبعه وهو يفر منه حتى يلقمه إصبعيه» قال

الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قوله: «له زبيبتان»؛ قال الجوهري وغيره: هما الزَّبَدتان في الشدقين. وقيل: هما النكتتان السوداوان فوق عيني الحية. وقال غيره: هما نقطتان تكتنفان فاها. وقيل: هما في حلقها بمنزلة زنمتي العنز. وقيل: لحمتان على رأسها مثل القرنين. وقيل: نابان يخرجان من فيها. وفي صحيح البخاري، وسنن النسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من آتاه الله ما لا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -يعني بشدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك» ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية. وقد رواه مالك في موطئه، والشافعي في مسنده، من طريق مالك مختصرًا موقوفًا. ورواه الإمام أحمد في مسنده، ولفظه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان له مال فلم يؤد حقه جعل يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يتبعه حتى يضع يده في فيه، فلا يزال يقضمها حتى يقضى بين العباد». وفي المسند، وسنن النسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله عز وجل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك، أنا كنزك». وروى الشافعي، وأحمد، وأهل السنن إلا أبا داود، عن عبد الله بن

مسعود - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، حتى يطوق عنقه» ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية. هذا لفظ ابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن خزيمة والحاكم. وفي الصحيحين، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: «بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل» قال: فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. وذكر تمام الحديث، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية له، عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر وهو يقول: «بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم» قال: ثم تنحى فقعد، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئا قد سمعته من نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه. وروى الطبراني عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: والله الذي لا إله غيره لا يكوى عبد بكنز، فيمس دينار دينارًا، ولا درهم درهمًا، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته.

معنى الكنز اللغوي والشرعي

إذا عرف هذا، فللكنز معنيان؛ لغوي، وشرعي. فأما معناه في اللغة، فقال الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى: الكنز كل شيء مجموع بعضه على بعض، سواء كان في بطن الأرض أم على ظهرها. قال النووي رحمه الله تعالى: وزاد صاحب العين وغيره: وكان مخزونًا. قلت: وكذا قال الراغب الأصفهاني: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء. انتهى. واقتصر الجوهري وغيره من أئمة اللغة على تعريف الكنز بأنه المال المدفون. والصحيح ما قاله غيرهم؛ لأن الله تعالى أطلق اسم الكنز على المدفون وعلى غير المدفون؛ قال تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} [الكهف: 82] فهذا في المدفون، وقال تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: 12]، وفي الآية الأخرى: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8] فهذا في غير المدفون، وقال تعالى فيما جمع بعضه على بعض: {وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]. وأما معناه في الشرع، فقال الإمام مالك في موطئه: عن عبد الله بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وهو يسأل عن الكنز، ما هو؟

كل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا

فقال: هو المال الذي لا تؤدي منه الزكاة. ورواه الإمام الشافعي في مسنده من طريق مالك. وروى الشافعي أيضا، عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: كل مال تؤدي زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا، وكل مال لا تؤدي زكاته فهو كنز وإن لم يكن مدفونًا. وقال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب ما أدى زكاته فليس بكنز، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ثم ذكر ما رواه الزهري - رضي الله عنه - عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال أعرابي: أخبرني عن قوله الله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: من كنزها فلم يؤد زكاتها، فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرًا للأموال. ورواه ابن ماجة في سننه وزاد: ثم التفت فقال: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا أعلم عدده وأزكيه وأعمل فيه بطاعة الله عز وجل. وروى البيهقي، من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا وموقوفًا: «كل ما أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكل ما لا تؤدي زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض». قال البيهقي رحمه الله تعالى عن المرفوع: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: وقد روي هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة -رضي الله عنهم- موقوفًا، ومرفوعًا.

قلت: أما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فروى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: ما أدى زكاته فليس بكنز. وأما حديث جابر وأبي هريرة -رضي الله عنهما- فسيأتي ذكرهما قريبا إن شاء الله تعالى. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض. ويشهد لهذه الآثار ما تقدم قريبا في حديث جابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن مسعود -رضي الله عنهم- أن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع يطوقه، ويقول: أنا مالك، أنا كنزك. وفي سنن أبي داود، والدارقطني، ومستدرك الحاكم، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب فقلت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال: «ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز» قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قال أبو السعادات ابن الأثير: الكنز في الأصل المال المدفون تحت الأرض، فإذا أخرج منه الواجب عليه لم يبق كنزًا وإن كان مكنوزًا، وهو حكم شرعي تجوز فيه عن الأصل. وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: والاسم الشرعي قاض على الاسم اللغوي، ولا أعلم مخالفًا في أن الكنز ما لم تؤد زكاته إلا شيئاً روي عن علي، وأبي ذر، والضحاك، وذهب إليه قومٌ من أهل الزهد، قالوا: إن في المال حقوقًا سوى الزكاة.

ثم استدل ابن عبد البر وغيره لقول الجمهور بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» رواه الترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قال الترمذي: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه ذكر الزكاة فقال رجل: هل علي غيرها؟ فقال: «لا، إلا أن تطوع». قلت: والأحاديث التي تقدمت قريبًا عن جابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن مسعود -رضي الله عنهم- تدل بظاهرها لقول الجمهور، وحديث أم سلمة -رضي الله عنها- الذي تقدم قريبًا نص صريح الدلالة لقولهم، ونحوه ما تقدم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كبُر ذلك على المسلمين، فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا أفرج عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم ...» الحديث. رواه أبو داود، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي مستدرك الحاكم أيضًا، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. ومن الوعيد أيضا على منع الزكاة: ما رواه الترمذي في جامعة، عن ابن

عباس -رضي الله عنهما- قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو يجب عليه فيه زكاة فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: سأتلو عليك بذلك قرآنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 - 11] قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدًا، قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والبعير. ورواه الترمذي أيضا مرفوعًا، وذكر أن الموقوف أصح. ومن الوعيد الشديد أيضا على منع الزكاة: ما رواه الطبراني في الصغير، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مانع الزكاة يوم القيامة في النار». وروى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال، وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله، وفقير فخور». وفي المسند وسنن النسائي، من حديث الحارث، عن علي - رضي الله عنه - أن

منع الزكاة من أسباب تلف المال وحبس القطر

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لعن مانع الصدقة». ورواه الترمذي في جامعة معلقًا موقوفًا فقال: وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «لعن مانع الصدقة». وروى الإمام أحمد، والنسائي، وأبو يعلى، والطبراني، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهداه إذا علموا ذلك، والواشمة، والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيًا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قوله: «ولاوي الصدقة» يعني المماطل بها والممتنع من أدائها. وكما أن منع الزكاة من موجبات اللعن والعذاب الأليم في الآخرة، فكذلك هو من أعظم الأسباب لتلف المال وحبس القطر من السماء، كما في الحديث الذي رواه الطبراني، عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: «ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة». وروى الشافعي في مسنده، والبخاري في التاريخ الكبير، وابن عدي، والبيهقي في سننه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما خالطت صدقة مالا قط إلا أهلكته». ورواه الحميدي وزاد: قال: «يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيُهلك الحرامُ الحلالَ».

وفي سنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، والحلية لأبي نعيم، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن؛ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد روى الطبراني في الكبير طرفًا منه، وهو قوله: «ولم يمنع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا». وروى الطبراني أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خمس بخمس» قالوا: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال والميزان إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» قال المنذري: سنده قريب من الحسن وله شواهد.

وفي مستدرك الحاكم، من حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

فصل: في التهاون في تفريق الزكاة

فصل وأما تفريق الزكاة، فالأغنياء فيه على طرائف شتى: منهم من يدفع زكاته أو بعضها إلى أقاربه الذين لا حظ لهم في الزكاة؛ إما لغناهم أو لكونهم أقوياء على التكسب، وهذا الدفع لا تبرأ به ذمة الغني من الزكاة. ومثل هذا من يقي ماله بالزكاة، فيستخدم بها، ويكافئ من له عليه معروف، ويصل أصدقاءه الذين ليسوا من أهل الزكاة ونحو ذلك. وبعض الأغنياء يحابي بها أقاربه المحتاجين، ويترك من هو أشد حاجة منهم من الفقراء والمساكين، وهذا فيه نوع اعتداء في تفريق الزكاة، وهو أخف مما قبله. وبعد الولاة يعطي الفقراء قسمًا يسيرًا من الزكاة ويفرق أكثرها على مقتضى نظره في غير الأصناف الثمانية. وبعض المؤتمنين على تفريق الزكاة يعطون من ليس من أهلها، ولا سيما من يخافون من لسانه، وهذا وما أشبهه من الاعتداء في الزكاة، والتهاون بشأنها، وتبديل الحكم الشرعي فيها. وقد روى الإمام أحمد، وأهل السنن إلا النسائي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المعتدي في الصدقة كمانعها» قال الترمذي: حديث غريب، قال: وفي الباب عن ابن عمر، وأم سلمة، وأبي هريرة رضي الله عنهم. قلت: وفيه أيضا عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال النبي

- صلى الله عليه وسلم -: «المعتدي في الصدقة كمانعها» رواه البخاري في تاريخه. قال الترمذي: وقوله: «المعتدي في الصدقة كمانعها» يقول: على المعتدي من الإثم كما على المانع إذا منع. انتهى. وروى الإمام أحمد أيضًا، والحاكم في مستدركه، عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله، إذا أديت الزكاة إلى رسولك، فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، فلك أجرها وإثمها على من بدلها» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. إذا علم هذا، فأقل الأغنياء في زماننا من يفرق زكاة ماله على الوجه المشروع، ويتوخى بها الأحوج فالأحوج من الفقراء والمساكين، ولو أن الأغنياء في هذه الأزمان أخرجوا زكاة أموالهم كاملة، وفرقوها على الوجه المشروع، لأوشك أن يستغني كل فقير؛ لأن الأموال قد كثرت جدًا، وفاضت فيضانًا لا حد له.

فصل: في التهاون بالأخذ من الزكاة

فصل وأما التهاون بالأخذ من الزكاة فكثير من أهل الجشع والهلع ممن لا تحل لهم الزكاة، يزاحمون الفقراء في الأخذ من أوساخ الناس، ولا يرون بذلك بأسًا، وهذا في الحقيقة دناءة وعدم مروءة، وبعضهم إذا لم يعط من الزكاة شيئًا أو أعطي منها قليلاً غضب من ذلك، وجدَّ واجتهد في الطلب والاستكثار مما لا يحل له، فإن عجز ولم يحصل له مراده، فغايته الحقد على الذين يفرقون الزكاة، وإكثار التشكي والتظلم منهم، والوقيعة في أعراضهم بغير حق، فيجمع بين ثلاثة أنوع من الظلم: أحدها: طلب ما لا يحل له. الثاني: مزاحمة الفقراء في حقوقهم. الثالث: إيذاء الناس بالسب والغيبة. وقد روى البخاري في التاريخ الكبير، عن عطاء بن زهير، عن أبيه قال: لقيت عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- فقلت: أخبرني عن الصدقة، قال: شر مال، مال العميان والعرجان والكسحان واليتامى وكل منقطع به، قلت: إن للعاملين عليها فيها حقًا؟ قال: بقدر عمالتهم، قلت: والمجاهدين؟ قال: قوم قد أحل لهم، إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي. وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا

تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» قال الحاكم: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم في مستدركه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، إلا أنه قال في رواية الدارقطني: «لذي مرة قوي». وفي رواية لأحمد، وأبي داود، والحاكم مثله، وقال الترمذي: حديث حسن. وروى الدارقطني أيضًا، عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة، فركبه الناس، فقال: «إنها لا تصلح لغني، ولا لصحيح سوي، ولا لعامل قوي». قال الجوهري، والهروي، وغيرهما من أهل اللغة: «المرة» القوة والشدة. قال الجوهري: ورجل مرير أي قوي. وقال الراغب الأصفهاني: أمررت الحبل إذا فتلته، ومنه فلان ذو مرة كأنه محكم الفتل. وقال أبو الفرج ابن الجوزي: «المرة» القوة، وأصلها من شدة فتل الحبل، يقال: أمررت الحبل إذا أحكمت فتله، فمعنى المرة في الحديث شدة الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكل والتعب. قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا تحل الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب. انتهى. وأما السوي: فهو الصحيح الأعضاء، فمتى كان المرء صحيح الأعضاء قويا على التكسب فلا حظ له في الصدقة، إلا أن يكون من الخمسة الذين

الأخذ من الزكاة بغير حق سبب لهلاك المال

يأتي ذكرهم في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. وروى الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألانه من الصدقة، فقلّب فيهما البصر، فرآهما جلدين فقال: «إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب». وروى أبو داود، والدارقطني، عن زياد بن الحارث الصدائي - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعته، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة حتى حكم فيها هو، فجزّأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك». وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة؛ لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها، فأهدى منها لغني» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. إذا عرف هذا، فهؤلاء الذين لا مروءة لهم، ولا يأنفون من التزيي بزي الفقراء، ومزاحمتهم في أوساخ الناس، إذا أخذ أحدهم شيئا من الزكاة كان سببا لهلاك ماله كما تقدم في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما خالطت صدقة مالا قط إلا أهلكته» وفسر ذلك

الإمام أحمد رحمه الله تعالى بأن يأخذ الرجل الزكاة وهو غني عنها، فيضعها مع ماله فتهلكه. وفي الصحيحين وغيرهما، عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارَك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى». ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، وألحفت عليه فقال: «ما أنكر مسألتك يا حكيم، إنما هذا المال خضرة حلوة، وإنما هو أوساخ أيد الناس، ويد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد السائل، ويد السائل أسفل الأيدي» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل -أو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة». وفي رواية لمسلم: «فمن يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع». وروى مالك، والشيخان أيضا، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله،

وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر». ولأحمد، والنسائي، والدارقطني عنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف». ورواه أبو داود مختصرا. وفي المسند، والسنن، وسنن الدارقطني، ومستدرك الحاكم، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش أو خدوش أو كدوح في وجهه» فقيل: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال: «خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب» هذا لفظ أبي داود، والحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن. وفي المسند، وسنن أبي داود، عن سهل بن الحنظلية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم» قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: «ما يغديه أو يعشيه» هذا لفظ أحمد، وفي بعض ألفاظ أبي داود: «أن يكون له شبع يوم وليلة». وفي المسند أيضًا، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة، فمن شاء فليستبق على وجهه». وفي المسند أيضا، وصحيح مسلم، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تبارك وتعالى وليس في وجهه مزعة لحم».

من تحل له المسألة؟

وفي رواية لمسلم: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم». وفي المسند أيضًا، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، والدارقطني، عن قبيصة بن مخارق الهلالي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا». والأحاديث في ذم السؤال كثيرة جدًا، وفيما ذكرت ههنا كفاية إن شاء الله تعالى، وعموماتها تشمل من سأل من الزكاة المفروضة، ومن سأل من صدقات التطوع، ومن سأل سوى ذلك من أموال الناس إلا أن يكون من الثلاثة الذين تحل لهم المسألة، وكذلك الفقير والضعيف الذي لا يقدر على التكسب إذا سألا من الصدقة، لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب». ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا أن كثيرًا من الناس إذا تحمل حمالة لم يقتصر في السؤال على قدر ما تحمله ثم يمسك، بل لا يزال يسأل الناس ليحصل له فضل عما تحمله، فربما حصل لبعضهم ضعف ما تحمله أو أضعافه، وهذا الفضل سحت؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فما سواهن من المسألة

ثمرة ما ذكر في أمر الزكاة

سحت يأكلها صاحبها سحتًا»، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. والمقصود مما ذكرنا في الزكاة خمسة أمور: أحدها: إرشاد الأغنياء إلى فضائل الزكاة، وإعلامهم بما هو مرتب على أدائها من نماء المال ونزول البركة فيه، وما وعد الله على ذلك من جزيل المثوبة في الآخرة. الثاني: تحذيرهم مما هو مرتب على منعها من العقوبات العاجلة والآجلة. الثالث: تحذيرهم أيضًا وتحذير غيرهم من المؤتمنين على تفريق الزكاة من الاعتداء في تفريقها، فيصير عليهم من الإثم مثل ما على مانعها. الرابع: حثهم على العدل في تفريقها، وإعلامهم بما في ذلك من الفضل وما يرجى عليه من جزيل الأجر، كما في جامع الترمذي، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته» قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملاً موفرًا طيبة به

نفسه، حتى يدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين». الخامس: تحذير من ليس من أهل الزكاة من الأخذ منها فإن ذلك لا يحل، فإن ضم إلى ذلك السؤال منها كما يفعله كثير من الناس فذلك أسوأ، وأسوأ منه وأقبح أن يلح في السؤال، ويكثر التشكي، ويظهر الفاقة، ويجحد ما أنعم الله به عليه من الغنى أو القوة على التكسب، كما يفعله كثيرون أيضا، وفاعل هذا متعرض للمقت والعقوبة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 36 - 37]، وقال تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فصل: من أسباب اغتراب الإسلام الاستخفاف بصيام رمضان، وأنواع الاستخفاف بالصيام

فصل ومن أسباب اغتراب الإسلام أيضًا الاستخفاف بصيام شهر رمضان في كثير من الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام. ففي بعض البلدان تقام أسواق الأكل والشرب في نهار رمضان علانية، وينتابها الفئام من المنتسبين إلى الإسلام فيأكلون ويشربون جهارًا، وليس ثَمَّ من ينكر ذلك عليهم، وليس معهم من الإيمان ما يكفهم عن انتهاك حرمات الله وتعدي حدوده، وليس ثَمَّ وازع سلطاني يأخذ على أيديهم، ويأطرهم على الحق أطرًا، ويؤدبهم على المعاصي، وإنما هم متروكون هملاً كالأنعام السائمة، يأكلون ويشربون ما شاءوا من المحرمات، ويرتكبون ما شاءوا من الفواحش والقاذورات، وسواء عندهم في ذلك شهر رمضان وغيره من الشهور، وهذا من نتائج قبولهم للحرية الإفرنجية، وابتعادهم عن الشريعة المحمدية، فالله المستعان. وبعض البلدان التي قد غلبت فيها الحرية الإفرنجية يستتر أهلها بهذه الأفعال في نهار شهر رمضان بعض الاستتار، لكن مواضع الأكل والشرب والفواحش معروفة عند الكبير منهم والصغير، فمن أراد شيئًا من ذلك ذهب إلى موضعه فأصاب حاجته، ولا صاد له عن ذلك ولا راد. وبعد المباشرين للأعمال التي ربما حصل منها بعض التعب والمشقة يفطرون في رمضان من غير ضرورة تبيح لهم الفطر. وبعض الناس يترك الصيام طاعة لبعض الأطباء الكفرة من يهودي أو

نصراني أو غيرهما؛ فإذا قال له عدو الله: إن الصيام يؤدي إلى نقص صحتك، فلا تصم عشرة أعوام أو أقل أو أكثر، بادر إلى قبول قوله، وقابل أمره بالتسليم والتقديم على أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم المسكين أن عدو الله لا يألوه خبالاً وإركاسًا في الفتن، وإفسادًا لدينه مهما أمكنه، ولو طمع عدو الله أن المسكين يجيبه إلى الكفر بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لأمره بذلك، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]. فاحذروا أيها المسلمون غوائل أعداء الله ومكائدهم، واجتنبوا حبائلهم ومصائدهم، ولا يغرنكم منهم الابتسام ولين الكلام وإظهار الشفقة والنصيحة، فإن ذلك منهم في الغالب مكر وخديعة، واعتبروا بما فعله شيخهم ومقدمهم إبليس لعنه الله من المكر والخديعة لأبوي البشر آدم وزوجه، فإن في ذلك أعظم عبرة وعظة، والسعيد من وعظ بغيره، قال الله تعالى: {وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 19 - 22]، ثم حذر تبارك وتعالى بني آدم من فتنة الشيطان وقبيله، وذكَّرهم بصنيع الخبيث مع أبويهم؛ ليعتبروا بذلك، ويأخذوا حذرهم من عدو الله وذريته وأوليائه من الكفار والمنافقين، فقال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ

الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]. فينبغي للمسلم أن يحذر غاية الحذر من مكائد الشيطان وحزبه، ويجعل قصة شيخهم وإمامهم على باله كل وقت، ولا يسترسل مع أعداء الله، ولا يطمئن إلى قولهم، ولا يثق بنصحهم، ولا سيما إذا تضمن الأمر بترك واجب أو فعل محرم، فإنه يكون مثل نصح إبليس للأبوين سواء بسواء، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، والآيات في التحذير من طاعة أعداء الله كثيرة جدًا، وفيما ذكرنا ههنا كفاية لمن أراد الله هدايته {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]. وبالجملة فكل من أفطر في رمضان متعمدًا من غير عذر شرعي يبيح له الفطر، فهو في الحقيقة مستهين بأمر ربه، ومستخف بدين الإسلام، ولو كان عنده للإسلام قدر لحافظ على القيام بأركانه مهما أمكنه، وقد روى الإمام أحمد، والبخاري تعليقًا، وأهل السنن، وابن خزيمة في صحيحه، والدارقطني، والبيهقي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أفطر يومًا من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر». قال البخاري رحمه الله تعالى: وبه قال ابن مسعود - رضي الله عنه -. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - وصله

قصة عجيبة في عقوبة من تعمد الفطر واستهزأ بالعقوبة

البيهقي، ورويناه عاليًا في جزء هلال الحفار، من طريق منصور، عن واصل، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري قال: حدثت أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: من أفطر يومًا من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر حتى يلقي الله، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه. ووصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من وجه آخر، عن واصل، عن المغيرة، عن فلان بن الحارث، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. ووصله الطبراني والبيهقي أيضا من وجه آخر، عن عرفجة قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: من أفطر يومًا في رمضان متعمدًا من غير علة، ثم قضى طول الدهر لم يقبل منه. وبهذا الإسناد عن علي - رضي الله عنه - مثله. وذكر ابن حزم من طريق ابن المبارك بإسناد له فيه انقطاع أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيما أوصاه به: من صام شهر رمضان في غيره لم يقبل منه لو صام الدهر أجمع. انتهى ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى. وقد تقدم ذكر الأحاديث، وأقوال العلماء، في تكفير من ترك صيام رمضان عمدًا من غير عذر عقب الكلام في كفر تارك الصلاة، فليراجع. ونذكر ههنا قصة عجيبة فيها عظة لمن أراد الله هدايته {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]. حدثنا بعض الثقات عن رجل كان من جيراننا مدة وهو ممن يقبل خبره، قال: ركبنا بحر فارس للغياصة فيه ابتغاء الدر، فلما دخل شهر رمضان

صام من في السفينة معنا إلا واحدًا ماجنا أبى أن يصوم؛ وكنا ننهاه عن انتهاك حرمة رمضان ونخوفه من العقوبة، فيسخر منا ويستهزئ بنا، فلما كان يوم عيد الفطر صدنا سمكًا كثيرًا، وجعلنا نشوي منه ونأكل، فنشب في حلق ذلك الماجن عظم فمات، فذهبنا به إلى الساحل لندفنه هناك، فلما وضعناه في اللحد ذهبنا نطلب أحجارًا لننصبها على اللحد، فوجدنا حجرًا كبيرًا، فلما قلبناه خرج من تحته ثعبان عظيم، فأردنا قتله فأعجزنا هربا، وسعى بين أيدينا قاصدًا نحو القبر حتى دخل مع الميت في لحده، فاجتهدنا أن نقتله أو نخرجه من عنده فلم نستطع، فسوينا عليه التراب والثعبان معه، قال: وما زلت وجلاً خائفا مما رأيت من عقوبة ذلك الماجن. قلت: وفي هذه القصة عبرة لمن اعتبر، فليحذر المخالفون لأوامر الله، والمرتكبون لنواهيه، من حلول النقمات والمثلات بهم، ولا يغتروا بحلم الله عنهم، وإمهاله لهم، فقد قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44 - 45]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

فصل: من أسباب غربة الإسلام تشييد البناء على القبور

فصل ومن أعظم أسباب غربة الإسلام تشييد البناء على القبور، ومضاهاة كثير منها بمواضع الحج، بحيث تكسى جدران الضريح كما تكسى الكعبة، ويجعل حوله بلاط يطاف فيه كما يطاف حول الكعبة، وينتابه الفئام من الجهلة الطغام الذين هم أضل سبيلاً من الأنعام، يأتون إليه مشاة وركبانا مما قرب منه ومما بعد عنه مسافة أيام وشهور، فيطوفون بالضريح كما يطوف المسلمون بالبيت العتيق، ويستلمون أركانه ويقبلون حيطانه مضاهاة لتقبيل المسلمين الحجر الأسود واستلامهم إياه مع الركن اليماني، ويضجون في طوافهم حول الضريح بدعاء صاحب القبر كما يضج المسلمون حول البيت العتيق بدعاء رب البيت تبارك وتعالى، ويقربون القرابين لصاحب الضريح ويحلقون الرؤوس عنده، مضاهاة لما يفعله الحاج بمنى، إلى غير ذلك مما يفعلونه حول القبور يضاهئون به أفعال الحاج إلى البيت الحرام، ويحادون به الله ورسوله، وكثير منهم يرون أن زيارتهم للوثن وحجهم إليه يماثل الحج إلى بيت الله الحرام، وبعضهم يفضل زيارة الوثن على الحج، وبعض غلاتهم يزعم أنها أفضل من سبع حجج، وبعضهم يزعم أنها أفضل من سبعين حجة، قاتلهم الله أنى يؤفكون. والآفة كل الآفة من طواغيتهم، وقادتهم الذين يضلونهم بغير علم، ويصنفون لهم الكتب في مناسك حج القبور، والترغيب في زيارتها، والحج إليها واتخاذها أوثانًا تعبد من دون الله، فيزيدون جهالهم الطغام شرًا

أعظم الأوثان فتنة في الأمصار

إلى شرهم وهلاكًا إلى هلاكهم، وقد قال الله تعالى في أشباههم وسلفهم من المشركين الأولين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21]. وأعظم هذه الأوثان التي أشرنا إليها فتنة مشهد البدوي بمصر، ومشهد علي، ومشهد الحسين، ومشهد الشيخ عبد القادر الجيلاني بالعراق، فهذه المشاهد التي بعضها مكذوب ينتابها من الزوار والحجاج أكثر مما ينتاب بيت الله الحرام، وربما قصد الواحد منها أكثر من الحاج. وفي كثير من الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام أوثان كثيرة سوى ما ذكرنا، يقصدها من الزوار والحجاج فئام من أشباه الأنعام، وهم مع هذا ينتسبون إلى الإسلام {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 18 - 21]، وأي محادة لله ورسوله أعظم من الشرك بالله، وابتداع دين لم يأذن به الله، يريد بذلك أعداء الله ورسوله مضاهاة ما شرعه الله للحنفاء من حج البيت العتيق، وما في ضمن ذلك من أنواع العبادات التي أمر الله بها ورضيها لعباده، وقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]،

التهاون بالحج والتثاقل عن أدائه

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 5 - 6]. فأما المسلمون فكثير من جهالهم يتهاونون بالحج، ويتثاقلون عن أداء الفريضة مع استطاعتهم السبيل إلى البيت، وبعضهم يموت وهو لم يحج، وقد قدمنا الكلام في حكم تارك الحج متعمدًا عقب الكلام في حكم تارك الصلاة، وذكرنا هناك قول من قال بتكفيره، وما روي في ذلك من الأحاديث وأقوال الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من أكابر العلماء فليراجع، وليراجع أيضا ما رواه الترمذي في جامعه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا وموقوفًا أنه قال: «من كان له مال يبلغه حج بيت الله أو تجب فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت» الحديث، وقد تقدم قريبًا في ذكر عقوبة مانع الزكاة. وقد جاء الأمر بالتعجل بالحج من قبل أن تعوق العوائق بين المرء وبينه؛ ففي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، عن أبي صفوان الجمال قال: سمعت أبن عباس -رضي الله عنهما- يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أراد الحج فليتعجل» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد أيضًا، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له».

ورواه الإمام أحمد أيضًا، وابن ماجة، والبيهقي في سننه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة». وفي رواية لأحمد مثله، إلا أنه قال: «وتضل الراحلة». وروى الدارقطني والبيهقي في سننيهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حجوا قبل أن لا تحجوا» قالوا: وما شأن الحج يا رسول الله؟ قال: «تقعد أعرابها على أذناب أوديتها، فلا يصل إلى الحج أحد». وروى الحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه، عن الحارث بن سويد قال: سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول: «حجوا قبل أن لا تحجوا، فكأني أنظر إلى حبشي أصمع أفدع بيده معول يهدمها حجرًا حجرًا» فقلت له: شيء تقوله برأيك أو سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولكني سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. في إسناده مقال، ولكن له شاهد في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة». وفي صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كأني به أسود أفحج يقلعها حجرًا حجرًا». وفي المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها

الدفع من عرفات قبل الغروب

حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله». وفي مستدرك الحاكم عنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي صحيح الحاكم، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استمتعوا من هذا البيت، فإنه قد هدم مرتين، ويرفع الثالثة» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. ومما ينبغي تنبيه الجهال عليه: ما يفعله كثير منهم، من الدفع من عرفات قبل غروب الشمس ثم لا يعودون إليها، وهذا خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حكي عن مالك أنه قال: من دفع قبل الغروب فلا حج له، والجمهور من العلماء على أن حجه صحيح، وعليه دم. ومما ينبغي تنبيه الجهال عليه أيضا: ما يفعله كثير منهم، من النزول في بطن عرنة، والوقوف فيه إلى غروب الشمس، ظنًا منهم أنه من عرفات وليس هو من عرفات ولا من الحرم، وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: بينه وبين الموقف نحو ميل. قلت: لعله يريد بالموقف هنا موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات، وجبل

موضع الوقوف بعرفة

إلال الذي تسميه العامة جبل الرحمة. فأما أول موضع الوقوف فهو من حين يخرج الإنسان من بطن عرنة ذاهبًا نحو جبل إلال، وهناك ميلان طويلان قد جعلا علمين لتمييز موضع الوقوف من بطن عرنة، فما كان شرقًا عنهما فهو من موضع الوقوف، وما كان غربًا عنهما فهو من بطن عرنة غربًا بالعلمين الفاصلين بين المزدلفة وبطن عرنة. وفي بطن عرنة المسجد الذي يصلي فيه الإمام الظهر والعصر يوم عرفة، ويسمى مسجد إبراهيم، قال بعضهم: نسبة إلى إبراهيم خليل الرحمن، وقال بعضهم: نسبة إلى إبراهيم الإمام أخي السفاح والمنصور، وهذا القول الأخير أقرب. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وإنما بني في أول دولة بني العباس. انتهى. ولا يجزئ الوقوف في المسجد ولا ما حوله، وما يُسامت ذلك شمالاً وجنوبًا مما هو خارج عن حدود عرفات (¬1). وقال النووي رحمه الله تعالى: عرنة بضم العين وفتح الراء، وبعدها نون، وليست من أرض عرفات عند الشافعي والعلماء كافة، إلا مالكًا فقال: هي من عرفات. انتهى. ¬

_ (¬1) مراده رحمه الله المسجد القديم، أما المسجد الحديث فجزؤه الشرقي من الموقف وقد وضعت أعلام في المسجد تدل على ذلك، فليتنبه.

البناء والتحجر في منى

وقال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في (المغني): ليس وادي عرنة من الموقف، ولا يجزئه الوقوف فيه. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من وقف به لا يجزئه، وحكي عن مالك أنه يهريق دمًا وحجة تام، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة» رواه ابن ماجة. ولأنه لم يقف بعرفة فلم يجزئه كما لو وقف بالمزدلفة. انتهى. ومما ينبغي التنبيه عليه أيضًا: ما عظمت به البلوى في زماننا من اغتصاب أكثر منى بالبناء والتحجر، وإبعاد كثير من الحجاج عنها، واضطرارهم إلى النزول في وادي محسر وما وراءه من ناحية مزدلفة، بحيث يفوت عليهم ما يجب عليهم من المبيت بمنى ليالي منى (¬1)، وسيأتي الكلام على حكم البناء في منى في فصل التحذير من الظلم إن شاء الله تعالى (¬2). ومما ينبغي التنبيه عليه أيضاً: أن كثيراً من جهال المسلمين وغيرهم من المنتسبين إلى الإسلام يرون أن من تمام الحج زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحج أو بعده، ويتعلقون في ذلك بأحاديث واهية لا تقوم بشيء منها حجة، ويعدلون عن النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن اتخاذ قبره عيدًا يعتاد المجيء إليه والاجتماع عنده وتشد إليه الرحال؛ كما في سنن أبي داود، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» صححه النووي. ¬

_ (¬1) وقد أزيل أكثر ذلك بحمد الله في الآونة الأخيرة. (¬2) هذا مما أشار إليه رحمه الله، ولم يبلغه قلمه فيما وجد من الكتاب، فالله المستعان.

موضع السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذا حديث حسن، ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به، قال يحيى بن معين: هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقًا، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، هو لين تعرف وتنكر، قال الشيخ: ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانًا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: إسناده حسن، ورواته كلهم ثقات مشاهير. وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. انتهى. ومن شواهده التي ذكرها شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وغيره، ما رواه سعيد بن منصور في سننه، حدثنا حبان بن علي، حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا بيتي عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وقال سعيد أيضا: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا بيتي عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ

فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: ورواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب (فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -) ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله: ما أنتم ومن بالأندلس سواء. قلت: ورواه عبد الرزاق في مصنفه، عن الثوري، عن ابن عجلان، عن سهيل، عن الحسن بن الحسن بن علي، قال: رأى قومًا عند القبر فنهاهم، وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى: فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد، وهو السلام المشروع الذي رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجماعة من السلف كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد وهذا مشروع في كل مسجد. وقال الشيخ في موضع آخر: هذان المرسلان، من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لاسيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسنده غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندًا! انتهى. وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في التاريخ الكبير، وأبو يعلى الموصلي في مسنده، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا

ما يباح له شد الرحل

بيوتكم قبورًا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم». ورواه الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه (المختارة) -وهو ما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين- قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي، وأبي حاتم البستي ونحوهم، فإن الغلط في هذا قليل ليس هو مثل تصحيح الحاكم. قال الشيخ: فهذا علي بن الحسين زين العابدين، وهو من أجلِّ التابعين علمًا ودينا حتى قال الزهري: ما رأيت هاشميًا مثله، وهو يذكر هذا الحديث بإسناده ولفظه: «لا تتخذوا بيتي عيدًا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته، كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته، بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا وهذا. وقال الشيخ في موضع آخر: انظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط. انتهى. وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا الترمذي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى» هذا لفظ البخاري. وفي رواية لمسلم: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد؛ مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء». قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): قوله: «لا تشد الرحال» بضم

أوله بلفظ النفي والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال الطيبِي: هو أبلغ من صريح النهي؛ كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع؛ لاختصاصها بما اختصت به، وكنَّى بشَدِّ الرحال عن السفر لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور، ويدل عليه قوله في بعض طرقه: «إنما يسافر». انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي» هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى». وروى ابن ماجة في سننه، من حديث أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو رواية البخاري. وروي الطبراني في الصغير، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى». وفي الموطأ، وسنن النسائي وغيرها، عن بصرة بن أبي بصرة - رضي الله عنه - أنه قال لأبي هريرة - رضي الله عنه -، وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى».

حكم السفر لزيارة شيء من القبور

ورواه البخاري في التاريخ الكبير بنحوه. وفي المسند وغيره، عن قزعة قال: أتيت ابن عمر -رضي الله عنهما- فقلت: إني أريد الطور، فقال: لا، إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور، فلا تأته. فتحصل من ألفاظ هذه الأحاديث ثلاث صيغ: النفي، والنهي، والحصر، وكل واحدة من هذه الصيغ تفيد أنه لا يجوز السفر إلى زيارة شيء من القبور ولا المساجد والأماكن المعظمة، سوى المساجد الثلاثة، وباجتماع هذه الصيغ الثلاث يزداد المنع شدة، والله أعلم. وقد أبى الجاهلون والغالون في القبور إلا أن يرتكبوا ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك بشدهم الرحال إلى قبره، واتخاذهم بيته عيدًا، يعتادون المجيء إليه والاجتماع عنده، ويختلط الرجال بالنساء، ويضجون بالأصوات المرتفعة، ويسيئون الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، فنهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن الجهر لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالقول كما يجهر بعضهم لبعض، وأخبرهم أن ذلك من أسباب حبوط الأعمال الصالحة، لأنه خلاف ما أمر الله به من توقيره واحترامه وحسن الأدب معه، ثم أثنى تبارك وتعالى على الذين يوقرون رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويحترمونه ويستعملون أحسن الآداب معه، ووعدهم على ذلك المغفرة

رفع الأصوات في مسجده - صلى الله عليه وسلم -

والأجر العظيم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}، وكما أنه لا يجوز الضجيج ورفع الأصوات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته، فكذلك لا يجوز شيء من ذلك حول قبره؛ لأن حرمته ميتًا كحرمته حيًا بأبي هو وأمي ونفسي صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين. وقد روى البخاري في صحيحه، عن السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وروي النسائي بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر - رضي الله عنه - صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟! فدل هذا الحديث والذي قبله على أن رفع الأصوات في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنكرات التي يجب تغييرها. وجاء في حديث ضعيف أن ذلك عام في جميع المساجد، فروى ابن ماجة في سننه، عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجُمع».

وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا؛ فلبعضه شواهد في الصحيحين وغيرهما تُقويه. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في الكلام على حديث عمر - رضي الله عنه - قوله: «لو كنتما» يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك، وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفي مثله، قوله «لأوجعتكما» زاد الإسماعيلي «جلدًا»، ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن عمر - رضي الله عنه - لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي. انتهى. وإذا كان هذا قول أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - وأرضاه لرجلين رفعا أصواتهما في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يقال في جهال أهل هذه الأزمان وغوغائهم، الذين يفعلون هذا المنكر كثيرًا في غالب الأوقات، ويضمون معه منكرات أخر. منها: إساءة الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة الضجيج حول قبره ورفع الأصوات عنده. ومنها: اختلاط الرجال بالنساء، وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة. رواه الخلال بإسناده. واختلاط الرجال بالنساء مما يثير الشهوة، ويدعو إلى الفتنة والشر والفساد، وقد ذكر لنا أن بعض السفهاء هناك يغامزون النساء، وربما مس بعضهم فروج بعضهن؛ ليعلموا من تلين معهم فتجيبهم إلى الفاحشة ممن تأبى ذلك. وربما وقع من بعضهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وهو الشرك الأكبر

بعض مظاهر الشرك عند قبره - صلى الله عليه وسلم -

ووسائله، وقد حدثني بعض أصحابنا من قضاة المدينة النبوية أن خُدَّام المسجد النبوي إذا كان ليلة الجمعة أخرجوا ما يلقيه الغوغاء داخل الشباك الذي حول الحجرة من أواني الطيب والكتب الكثيرة، قال: وقد عرض عليَّ بعض الكتب التي تلقى هناك فإذا هي مشتملة على الشرك الأكبر، فبعضهم يسأل المغفرة والرحمة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضهم يسأل منه أن يهب له الأولاد، وبعضهم يطلب منه تيسير النكاح إذا تعسر عليه، إلى غير ذلك من الأمور التي يفزعون فيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينسون الرب الواحد الأحد الفرد الصمد المالك المتصرف في خلقه بما يشاء، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة، لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وقد قال تبارك وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى، وقد عكس المشركون هذا الأمر فزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يملك لهم الضر والرشد، والإعطاء والمنع، وهذا عين المحادة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الأمور الشركية التي تفعل عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعند غيره من قبور الصالحين أو من يظن صلاحه، هي من ثمرات الغلو الذي حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته؛ كما في المسند، وسنن النسائي، وابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» هذا لفظ ابن ماجة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ومن ذلك: التشويش على من حولهم في المسجد من المصلين، والتالين للقرآن. وقد روى مالك في الموطأ، عن أبي حازم التمار، عن البياضي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: «إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن». وروى أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال في الصلاة» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان. انتهى. وإذا كان المصلي منفردا، ومثله التالي للقرآن في غير صلاة منهيًا عن الجهر الذي يحصل منه تشويش على من حوله من المصلين والتالين للقرآن، فنهي أهل هذه الاجتماعات المحدثة والضجيج المنكر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحول قبره يكون بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم. ومن ذلك: اتخاذ قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا ومخالفة نهيه عن ذلك، وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

زيارة النساء لقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه

ومن ذلك: زيارة النساء للقبر الشريف، وقبري أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وذلك لا يجوز لهن؛ لما في المسند، والسنن، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان، والحاكم. وروى الإمام أحمد أيضًا، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن ابن عباس، وحسان بن ثابت رضي الله عنهم. قلت: أما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فهو ما تقدم آنفًا، وأما حديث حسان بن ثابت - رضي الله عنه - فقد رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الرحمن بن حسان، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور» قال في الزوائد: إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح، ورجاله ثقات. انتهى. وهذه الأحاديث دالة على أن زيارة القبور حرام على النساء مطلقًا، سواء في ذلك قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر غيره، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ينافي هذه الأحاديث أو يخصصها، فوجب منع النساء من زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن زيارة غيره من سائر القبور، والله أعلم. إلى غير ذلك من المنكرات التي تكون في كثير من تلك الاجتماعات المحدثة، والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين لإنكار المنكرات، والأخذ علي أيدي السفهاء، والسير فيهم

بسيرة الخليفة الراشد العادل الذي وضع الله الحق على لسانه وقلبه؛ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه، فكفى به قدوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - وأرضاه. وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر» قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وللترمذي، والحاكم أيضًا، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي المسند، والسنن، من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم وقال: ليس له علة، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم: «عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا على نواجذكم بالحق» قال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعا ولا أعرف له علة، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. قال الخطابي رحمه الله تعالى في قوله: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين»: فيه دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولا وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى. انتهى.

وهذه الاجتماعات عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من محدثات الأمور التي لم تكن في صدر الإسلام، فلا ريب أنها داخلة فيما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، والله أعلم. وكذلك شد الرحال لأجل القبر هو من محدثات الأمور التي لم تكن في صدر الإسلام، وقد اتفق الأئمة على عدم جوازه، لأنه سفر معصية. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يأتي المدينة لزيارة قبور أهل البقيع أو الشهداء أو غيرهم لم يوف بنذره، ومالك والأكثرون قالوا: لا يجوز أن يوفي بنذره فإنه معصية، ولو نذر السفر إلى نفس المسجد للصلاة فيه لم يحرم عليه الوفاء بالإجماع، بل يستحب الوفاء، وقيل: يجب، على قولين للشافعي، والوجوب مذهب مالك، وأحمد، ونفي الوجوب مذهب أبي حنيفة، فظهر أن أقوال أئمة المسلمين موافقة لما دلت عليه السنة من الفرق بين السفر إلى المدينة لأجل مسجد الرسول والصلاة فيه، والسفر إليها لغير مسجده؛ كالسفر لأجل مسجد قباء، أو لزيارة القبور التي فيها قبر الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبور من فيها من السابقين الأولين وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين. انتهى. ونقل أيضا ما ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه (المبسوط) أنه رُوي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليأته، وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». انتهى. فالواجب على المسلمين عامة، وعلى علمائهم وولاة أمورهم خاصة،

إنكار هذه المنكرات التي تفعل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند قبره، والإنكار على من يشد الرحال إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من القبور والمساجد والأماكن المعظمة سوى المسجد الحرام ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى، وإنكار غير ذلك من المنكرات الظاهرة في جميع البلاد الإسلامية. وكل أحد ينكر على حسب قدرته؛ كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية للنسائي: «من رأى منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان». وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».

فصل: من أعظم أسباب اغتراب الإسلام ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل

فصل ومن أعظم أسباب اغتراب الإسلام ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل، والاعتياض عن ذلك بالهوان، والتذلل لأعداء الله تعالى من الكفار والمنافقين، ومصادقتهم والإلقاء إليهم بالمودة. وبسبب النكول عن الجهاد في سبيل الله عز وجل، وكثرة المخالفات لأوامر الله وارتكاب نواهيه، وتخاذل المسلمين وتفرق كلمتهم استولى أعداء الله على أكثر الممالك الإسلامية، بعضها أخذوه بالقوة، وبعضها أخذوه بالمكر والحيلة، حتى صار كثير من المسلمين تحت حكم أعداء الله تعالى، يستذلونهم كما يستذل أهل الذمة في صدر الإسلام، ويحكون فيهم بحكم الطاغوت من قوانينهم وسياساتهم الخاطئة الفاجرة، ويحملونهم على التحاكم إليها، وقد جاء في بعض الآثار: يقول الله تعالى: «إذا عصاني من يعرفني، سلطت عليه من لا يعرفني». وقد تقدم في أول الكتاب حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن» فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والبيهقي في دلائل النبوة. وتقدم أيضا في أوله حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم» رواه الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان. ورواه أبو داود بلفظ: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم». وهذا الحديث وحديث ثوبان فيهما علم من أعلام النبوة؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عما سيقع في آخر الزمان، فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، فقد تداعت أمم الكفر والضلال على المسلمين من كل جانب، ونزع الله من صدورهم المهابة من المسلمين، وقذف في قلوب المسلمين الوهن والخور، وسلط عليهم الذل والخوف من الأعداء جزاء على نكولهم عن الجهاد في سبيل الله وحبهم الدنيا وكراهيتهم الموت في سبيل الله عز وجل، مع ما عليه أكثرهم من مخالفة أوامر الله وارتكاب نواهيه. ولن يستعيد المسلمون عزَّهم التالد، ومجدهم الشامخ حتى يراجعوا دينهم؛ فيطيعوا الله ورسوله باتباع الأوامر واجتناب النواهي، ويجاهدوا في سبيل الله، ويبذلوا مهجهم وأموالهم في قتال أعداء الله، حتى لا

تكون فتنة ويكون الدين كله لله. ولهم في الجهاد إحدى الحسنيين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة؛ كما سيأتي بيان ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وما ضم إليه من الأحاديث، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَالَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وقال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73 - التحريم: 9]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

أدلة فضل الجهاد والمجاهدين

قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39]، ثم قال الله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]، وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، والآيات في الأمر بالجهاد والحث عليه وبيان فضائله، وما وعد الله المجاهدين في سبيله من النصر وجزيل الثواب والأجر كثيرة جدًا لا يتسع هذا الموضع لذكرها. وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «توكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة» هذا لفظ البخاري. وفي جامع الترمذي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني يقول الله-: «المجاهد في سبيلي هو علي ضمان، إن قبضته أورثته الجنة، وإن رجعته رجعته بأجر وغنيمة» قال الترمذي: هذا حديث غريب صحيح من هذا الوجه. وفي سنن النسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكيه عن ربه قال: «أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيل الله ابتغاء مرضاتي

ضمن له أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له ورحمته». وفي سنن ابن ماجة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المجاهد في سبيل الله مضمون على الله، إما أن يكفته إلى مغفرته ورحمته، وإما أن يرجعه بأجر وغنيمة، ومثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الذي لا يفتر حتى يرجع». وفي الموطأ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع». وروى أبو داود في سننه، والبخاري في (الأدب المفرد)، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل؛ رجل خرج غازيا في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ...» الحديث. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي جامع الترمذي، ومستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟! اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وفي السنن إلا أبا داود، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قاتل في سبيل الله عز وجل من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة» قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وصححه أيضًا الحاكم وقال: على شرط مسلم. وفي الصحيحين، عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف». وفي صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف». وفي المسند أيضًا، عن المقدام بن معدي كرب الكندي - رضي الله عنه -، أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة، كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتناول وبرة بين أنملتيه فقال: «إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا؛ فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله، القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم، ينجي الله به من الهم والغم». قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا حديث حسن عظيم.

قلت: وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرًا من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض». وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي سنن النسائي، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك أيضًا. وفي صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، عن أبي عبس عبد الرحمن بن جبر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار» هذا لفظ البخاري. وفي الصحيحين وغيرهما، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها». وفيهما أيضًا، عن أبي هريرة وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ولفظ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري: «لغدوة أو روحة في سبيل

الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب». وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وروى الإمام أحمد أيضًا، وابنه عبد الله، والترمذي، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث أنس - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: حسن غريب. وروى الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم». قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وروي ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق». وروى أبو داود أيضًا، وابن ماجة، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لم يغز ويجهز غازيًا، أو يخلف غازيًا في أهله بخير، أصابه الله عز وجل بقارعة قبل يوم القيامة». وفي جامع السنن، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لقي الله وليس له أثر في سبيل الله، لقي الله وفيه ثلمة».

من آثار ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل

وفي المسند، والسنن إلا أبا داود، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه البخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. والأحاديث في فضل الجهاد والحث عليه، وبيان ما وعد الله المجاهدين في سبيله من جزيل الأجر والثواب كثيرة جدًا، لا يتسع لذكرها هذا الموضع، وفيما ذكرنا ههنا كفاية إن شاء الله تعالى. وكما أن في الجهاد إحدى الحسنيين فكذلك في تركه الهم والغم؛ كما يدل على ذلك حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وقد تقدم قريبًا. وفي تركه أيضًا الذل والتهلكة؛ كما تقدم بيان ذلك في حديث ثوبان وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم. وفي السنن إلا ابن ماجة، عن أسلم أبي عمران التجيبِي قال: كنا بمدينة الروم؛ فأخرجوا إلينا صفًا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يُلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فقال: يا أيها الناس، إنكم لتُأوِّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرًا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد

أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يرد علينا ما قلنا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فكانت التهلكة: الإقامة على الأموال وإصلاحها وتَرْكنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض [الروم] (¬1). هذا لفظ الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. ومع ما عليه المسلمون في زماننا من ترك الجهاد في سبيل الله، ورضى كثير منهم بالذل والهوان والتهلكة، فقد قام فيهم كثير من المنتسبين إلى العلم يرغبونهم في مصادقة أعداء الله، ويثبطونهم عن الجهاد في سبيل الله، ويستدلون على ذلك بالمتشابه والمنسوخ؛ كما أخبر الله عنهم بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، وآخرون من الجبناء يفتّون في أعضاد المسلمين، ويرهبونهم من شدة بأس أعداء الله وكثرة عَدَدهم وقوة عُدَدهم وكثرتها، ونسوا قول الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال: 10]، وقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، ونسوا أيضًا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معهم من المسلمين قهروا المرتدين من أحياء العرب وهم أضعاف ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، والتصحيح من سنن الترمذي [5/ 212].

أضعافهم، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها في مدة يسيرة، وظهروا على الفرس والروم والقبط وأنواع السودان والترك والصقالبة وغيرهم من أعداء الله تعالى مع كثرة عدد أعداء الله تعالى وقوة عددهم، وقلة عدد المسلمين وضعف عددهم، وغاب عنهم أيضًا ما وعد الله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته في آخر الزمان من قتل اليهود وأمم الكفر والضلال، والظهور عليهم ولا سيما يوم الملحمة الكبرى، ويومئذ لا ينفع أعداء الله كثرتهم ولا تغني عنهم قوتهم وعددهم شيئا. فليبشر المسلمون بالنصر والظفر على الأعداء والتمكين في الأرض إذا هم أطاعوا الله ورسوله؛ بامتثال المأمورات واجتناب المحظورات، وساروا على منهاج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جهاد المرتدين وغيرهم من أصناف الكفار والمنافقين، مع الغلظة عليهم ومصارمتهم وإظهار البغض والعداوة لهم، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} الأنبياء: 105 - 106].

فصل: في ابتداء المشركين بالقتال على الإسلام

فصل وقد رأيت لبعض المنتسبين إلى العلم في زماننا مقالاً زعم فيه أن ابتداء المشركين بالقتال على الإسلام غير مشروع، وإنما يشرع القتال دفاعًا عن الإسلام إذا اعتدى المشركون على المسلمين، أو حالوا بينهم وبين الدعوة إلى الإسلام، فحينئذ يحاربون، لا ليسلموا بل ليتركوا عدوانهم، ويكفوا عن وضع العراقيل في طريق الدعاة، فأما إذا لم يحصل منهم اعتداء، ولا وضع عراقيل في طريق الدعاة، فأساس العلاقة بينهم وبين المسلمين المسالمة والمتاركة. زعم أيضا أن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، كما لا يجيز مطلقا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم، هذا حاصل مقاله. وقد أطال الكلام في تقرير هذا الرأي الخاطئ، واستدل له بقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وبقوله تعالى {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90]، وبقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وبقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، ثم قال: وهذا الرأي هو المعقول المقبول، وهو الرأي الذي تتفق معه نظرة علماء القانون الدولي في الأساس الذي تبني الدولة عليه علاقاتها بعضها

ببعض ... إلى آخر كلامه المصادم للآيات المحكمات، ونصوص الأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكفى بالوصول إلى هذه الغاية السيئة جهلاً وخذلانًا لصاحب المقال وأشباهه من المثبطين عن الجهاد في سبيل الله، المائلين إلى آراء أعداء الله وقوانينهم المخالفة لدين الله وما شرعه لعباده المؤمنين. وأنا أذكر بعون لله وتأييده من نصوص القرآن، والأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ما يبطل قول صاحب المقال، ويكشف شبهته ويسفه رأيه. أما نصوص القرآن فكثيرة جدًا منها: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]. قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: قال الحسين بن الفضل: هذه الآية نَسَخَت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: هذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم: إنها نَسَخَت كل عهد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أحد المشركين وكل عقد وكل مدة. وقال العوفي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم،

العلة في قتال الكفار

ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية: أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد، إن لم يدخلوا في الإسلام، ونقض ما كان سمى لهم من العهد والميثاق، وأذهب الشرط الأول. انتهى. فقد أباح الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة دماء المشركين، وأمر المسلمين أن يقتلوهم حيث وجدوهم من الأرض، ويأخذوهم أسرى، ويقصدوهم بالحصار في بلادهم، ويضيقوا عليهم بوضع الأرصاد لهم في طريقهم ومسالكهم حتى يسلموا، أو يستسلموا للقتل أو الأسر، وهذا يبطل ما زعمه صاحب المقال من أن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، ويبطل أيضا قوله: إن الإسلام لا يجيز مطلقًا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم، فإن ما أمر به في هذه الآية لا يمكن المسلمين فعله إلا بالقوة. ودلت الآية على أن العلة في قتال الكفار هي ما هم عليه من الشرك بالله تعالى، والإعراض عن دين الإسلام، فيجب قتالهم ما دامت العلة موجودة فيهم، فإذا زالت العلة وجب الكف عنهم، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، وهذا يبطل قول صاحب المقال: إنهم إنما يُقَاتلوا لترك العدوان لا ليسلموا. ودلت الآية أيضا على أنهم يُبدءون بالقتال، من أجل ما هم عليه من الشرك، وإن لم يحصل منهم اعتداء على المسلمين، ولا وضع عراقيل في

طريق الدعاء إلى الإسلام، وهذا يبطل قول صاحب المقال: إنهم إنما يقاتلون دفاعًا عن الإسلام، إذا اعتدوا على المسلمين، أو وضعوا العراقيل في طريق الدعوة. وهذه الآية الكريمة كافية في إبطال ما قرره هذا المثبط الذي أشرنا إليه، وما كان يدعوا إليه هو وأشباهه من مسالمة الكفار ومتاركتهم. الآية الثانية: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. الآية الثالثة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]. الآية الرابعة: قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73، التحريم: 9]. الآية الخامسة: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فدلت هذه الآية الكريمة على أن العلة في قتال أهل الكتاب هي ما هم عليه من الكفر بالله واليوم الآخر، وتحليل ما حرم الله ورسوله، والإعراض عن الإسلام الذي هو دين الحق، ولو كان الاعتداء ووضع العراقيل علة للقتال لذكر ذلك ولم يهمله؛ قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].

ودلت الآية أيضا على مشروعية ابتداء أهل الكتاب بالقتال على الإسلام وإن لم يحصل منهم اعتداء على المسلمين، ولا وضع عراقيل في طريق الدعاة إلى الإسلام، ويدل على ذلك أيضًا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه لما نزلت عليه هذه الآية تجهّز يريد قتال الروم بالشام وأوعب المسلمون معه، فسار بهم حتى بلغ تبوك فأقام بها قريبا من عشرين يوما، ثم رجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس، ثم غزاهم المسلمون بعد ذلك في ديارهم وبدأوهم بالقتال لما أبوا قبول الدعوة الإسلامية أو بذل الجزية حتى أثخنوهم قتلاً وأسرًا وتشريدًا، كما هو معروف في كتب المغازي والسير، والله أعلم. وهؤلاء الآيات الخمس كلها من سورة براءة، وهي من آخر ما نزل من القرآن، ولم ينسخ منهن شيء. ومن الآيات المحكمات أيضا: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]، وهذه الآية الكريمة مما نزل بعد صلح الحديبية، ولم ينسخها شيء، وقد قال تعالى فيها: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} فأوجب ابتداءهم بالقتال واستمراره معهم ما داموا على الشرك، فدل على أنه هو علة القتال، ولو كانت العلة اعتدائهم ووضعهم العراقيل في طريق الدعاة -كما قال هذا المثبط وأمثاله- لكان ينبغي الكف عنهم إذا زالت هذه العلة، وهذا خلاف نص القرآن. ومن الآيات المحكمات أيضا: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}: يعني لا يكون شرك. وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، ذكره عنهم الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره. وقال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: {وَقَاتِلُوهُمْ} يعني المشركين {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شرك؛ يعني: قاتلوهم حتى يسلموا، فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام، فإن أبى قُتل {وَيَكُونَ الدِّينُ} أي الطاعة والعبادة {لله} وحده فلا يعبد شيء دونه. انتهى. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}: أي يخلص التوحيد لله. وقال الحسن وقتادة: أن يقال: لا إله إلا الله. وقال محمد بن إسحاق: ويكون التوحيد خالصًا لله، ليس فيه شرك، ويخلع ما دونه من الأنداد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا يكون مع دينكم كفر. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة براءة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، كقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وقد زعم صاحب المقال

الذين أشرنا إليه أن معنى قوله تعالى: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}: أي حتى لا تحول القوة بين الإسلام وقلوب الناس، ويصبح الدين لله لا يتدخل في شأنه أحد من الناس ليرغم أحدًا آخر على قبول رأي معين، هذا تفسير صاحب المقال للآية، وهو تفسير جديد لم يسبقه إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، وهو كما قال: مما يتفق مع نظرة علماء القانون الدولي من طواغيت الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى، ولعل ميله إليهم، وإعجابه بآرائهم وقوانينهم هو الذي حداه على التخبيط في تفسير هذه الآية وغيرها بمجرد رأيه، وإطراح ما قال ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من أئمة السلف. ولا يبعد أن يكون صاحب المقال وأشباهه ممن عناهم الله تعالى بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، ومغزاه في تفسير هذه الآية ظاهر؛ وهو الدعوة إلى إبطال الجهاد الذي أوجبه الله على عباده المؤمنين وجعله سنامًا لدين الإسلام. ومن الآيات المحكمات أيضا: قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} الآية [محمد: 4]. قال البغوي رحمه الله تعالى: معنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر؛ حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام، ويكون الدين كله لله، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. انتهى.

وهذه الآية تبطل ما زعمه صاحب المقال من أن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، وما زعمه أيضًا من أن الإسلام لا يجيز مطلقا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم، وقد أبانت هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث كذبه على الإسلام، وقوله على الله بغير علم، ولولا اتخاذ المسلمين للقوة لما استطاعوا قتل أعداء الله، وإثخانهم، وأخذهم أسرى. ودلت الآية على مشروعية ابتداء الكفار بالقتال، إذا كانوا ممن بلغتهم الدعوة الإسلامية فلم يقبلوها. ودلت أيضًا بظاهرها على أنه لا فرق بين الكفار المعتدين وغير المعتدين؛ لأن العلة الموجبة لقتالهم هو ما هم عليه من الكفر بالله تعالى، وذلك مما يستوي فيه المعتدون وغيرهم. وقد قيل في قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}: إن ذلك منسوخ بآية السيف، وقيل: ليس بمنسوخ، فأما ضرب رقاب المشركين وإثخانهم، وأخذهم أسرى فهذا من المحكم الموافق لآية السيف، والله أعلم. والآيات في الرد على صاحب المقال كثيرة ليس هذا موضع استقصائها، وفيما ذكرنا ههنا كفاية لمن وفقه الله تعالى وأراد هدايته، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.

فصل: الأحاديث في إبطال دعوى إنكار جهاد الطلب

فصل وأما الأحاديث في إبطال ما ادعاه فكثيرة أيضًا. منها: ما في الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله». وفي المسند، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي المسند، وسنن ابن ماجة أيضا، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك أيضًا، ورواية ابن ماجة في كلا الحديثين مختصرة. وفي سنن النسائي، ومستدرك الحاكم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب، فقال عمر - رضي الله عنه -: يا أبا بكر، كيف تقاتل العرب؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. وفي الصحيحين، والمسند، والسنن إلا ابن ماجة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر - رضي الله عنه -، وكفر من كفر من

العرب، قال عمر - رضي الله عنه -: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»؟! قال أبو بكر - رضي الله عنه -: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يوؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، قال عمر - رضي الله عنه -: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - للقتال فعرفت أنه الحق. وفي الصحيحين، والمسند، والسنن الأربع، عن أبي هريرة أيضًا - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله». زاد أحمد والنسائي في رواية لهما: فلما كانت الردة قال عمر لأبي بكر -رضي الله عنهما-: أتقاتلهم وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا؟ فقال: والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة، ولأقاتلن من فرق بينهما، وقاتلنا معه فرأينا ذلك رشدًا. وفي رواية لأحمد نحوه وفيه: فلما قام أبو بكر، وارتد من ارتد، أراد أبو بكر قتالهم، قال عمر: كيف تقاتل هؤلاء القوم وهم يصلون؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن قومًا ارتدوا عن الزكاة، والله لو منعوني عناقًا مما فرض الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم، قال عمر: فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتالهم عرفت أنه الحق. وفي صحيح مسلم، وسنن ابن ماجة، عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

نحو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفي سنن النسائي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه أيضًا. وللنسائي أيضًا، وابن ماجة، عن أوس بن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك أيضًا. وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وفي صحيحه أيضا، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله». وفي رواية له: «من وحد الله» والباقي مثله. ورواه الإمام أحمد في مسنده بمثل الرواية الأخيرة. وفي صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا ابن ماجة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها؛ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين». فهذه أحاديث متواترة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين،

وهي من أوضح البراهين على أن ابتداء المشركين بالقتال مشروع، وأن دماءهم وأموالهم حلال للمسلمين ما داموا على الشرك، وظاهرها أنه لا فرق في ذلك بين الكفار المعتدين وغير المعتدين، ومن وقف منهم في طريق الدعاة إلى الإسلام ومن لم يقف في طريقهم، فكلهم يُقَاتلون ابتداء لما هم عليه من الشرك بالله تعالى حتى يتركوا الشرك ويدخلوا في دين الإسلام ويلتزموا بحقوقه. وفي الباب أيضا أحاديث كثيرة تدل على ما دلت عليه هذه الأحاديث التي ذكرنا وفيها زيادة أحكام، فنذكر منها ههنا ما تيسر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة. فمنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم» وروى البخاري بعضه تعليقًا، وأخرج أبو داود منه قوله: «من تشبه بقوم فهو منهم». ومنها: ما في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، والسنن إلا النسائي، عن بريدة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصيته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم

إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» وذكر تمام الحديث. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الباب عن النعمان بن مقرن - رضي الله عنه -. قلت: وحديث النعمان هذا ساق مسلم، وأبو داود، وابن ماجة إسناده عقب حديث بريدة، وأحال الراوي بالمتن على حديث بريدة، فعند مسلم قال: نحوه، وعند أبي داود وابن ماجة قال: مثله. ومنها: ما في مسند الإمام أحمد، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا باسم الله؛ تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع». ومنها: ما في المسند أيضا، وسنن ابن ماجة، عن صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فقال: «سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا». ومنها: ما في مستدرك الحاكم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يتجهز لسرية بعثه عليها، وأمر بلالاً أن يدفع إليه اللواء، فحمد الله تعالى وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: خذ ابن عوف فاغزوا جميعا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها: ما في سنن أبي داود، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين». ومنها: ما رواه الطبراني في معجمه الصغير، عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية قال: «بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوالدان». ومنها: ما رواه الطبراني في الصغير أيضا، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية قال: «اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا». ومنها: ما في جامع الترمذي، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وقد تقدم في بيان فضل الجهاد بأطول من هذا. ومنها: ما في السنن إلا أبا داود، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قاتل في سبيل الله عز وجل من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة» قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وصححه أيضا الحاكم وقال: على شرط مسلم. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، من حديث عبادة الصامت - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاهدوا الناس في الله، القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم». ومنها: ما في صحيح البخاري، عن جبير بن حية الثقفي قال: بعث عمر - رضي الله عنه - الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين، فذكر الحديث وفيه أن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال لترجمان جيش كسرى: «أمرنا نبينا، رسول ربنا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن رسالة ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم». ومنها: ما في المسند، وجامع الترمذي واللفظ له، عن أبي البختري، أن جيشًا من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي - رضي الله عنه - حاصروا قصرًا من قصور فارس، فقالوا: يا أبا عبد الله، ألا تنهد إليهم؟ قال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو، فأتاهم سلمان - رضي الله عنه - فقال: إنما أنا رجل منكم فارسي، ترون العرب يطيعوني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي

لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، قال: ورطن إليهم بالفارسية وأنتم غير محمودين، وإن أبيتم نابذناكم على سواء، قالوا: ما نحن بالذي يعطي الجزية، ولكننا نقاتلكم، فقالوا: يا أبا عبد الله، ألا تنهد إليهم؟ قال: لا، قال: فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا ثم قال: انهدوا إليهم، قال: فنهدنا إليهم ففتحنا ذلك القصر. قال الترمذي: حديث حسن. ومنها: ما في الصحيحين، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، وسنن أبي داود، عن أبن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام؛ وقد أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم؛ وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث. حدثني به عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وكان في ذلك الجيش. ومنها: ما في صحيح البخاري، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله إذا غزا قومًا لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك وإن لم يسمع أذاناً أغار بعد ما يصبح». وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، ولفظ مسلم: «كان يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار» وذكر تمام الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ومنها: ما رواه الشافعي، وأحمد أيضًا، وأبو داود، والترمذي، عن عصام المزني - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فقال: «إذا رأيتم مسجدا أو

الفوائد من الأحاديث الواردة في جهاد الطلب

سمعتم مؤذنًا فلا تقتلوا أحدًا» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ومنها: ما رواه أبو داود أيضا، وابن ماجة، عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: أمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه -، فغزونا ناسا من المشركين، فبيّتناهم فقتلناهم، قال سلمة: فقتلت بيدي تلك الليلة سبعة أهل أبيات من المشركين. إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على نقيض ما قرره صاحب المقال وأشباهه من المعجبين بآراء أعداء الله تعالى وقوانينهم، وقد اشتملت هذه الأحاديث التي ذكرنا ههنا على فوائد كثيرة نذكر منها ما نحن بصدده: فمنها: مشروعية ابتداء المشركين بالقتال، إذا كانوا ممن بلغتهم دعوة الإسلام فلم يقبلوها، وهذا يرد قول صاحب المقال أنه لا يجوز قتالهم ابتداء، وإنما يقاتلون دفاعًا عن الإسلام إذا اعتدوا على المسلمين، أو وقفوا في طريق الدعاة. ومنها: تعليل قتال المشركين وأهل الكتاب بما هم عليه من الكفر بالله وتعالى، فيقاتلون على الإسلام حتى يدخلوا فيه، أو يبذلوا الجزية إذا كانوا ممن تقبل منهم الجزية، والنصوص على ذلك واضحة في كثير من هذه الأحاديث، وهذا يرد قول صاحب المقال أنهم إنما يقاتلون لترك العدوان، لا ليسلموا. ومنها: أنه لا فرق بين من اعتدى منهم على المسلمين، ومن لم يعتد، ومن وقف منهم في طريق الدعاة إلى الإسلام، ومن لم يقف، فكلهم

يقاتلون ابتداءً من أجل الشرك، ولو كان التفريق بينهم معتبرًا لَبَيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يهمله. ومنها: أن قتال الكفار على الإسلام من ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته، بخلاف مسالمتهم ومتاركتهم من غير جزية تؤخذ منهم، فإن ذلك من سياسات أعداء الله، ونظرات علماء قوانينهم الدولية وقد قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية، ويستثنى من ذلك ما إذا عقد المسلمون بينهم وبين الكفار هدنة على ترك القتال مدة معلومة، فإن ذلك جائز للحاجة والمصلحة للمسلمين، ويجب الوفاء به ما لم ينقضه العدو. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في (المغنى): ولا تجوز المهادنة مطلقًا من غير تقدير مدة، لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية. انتهى، وكذا قال غيره من أكابر العلماء، والله أعلم. ومنها: جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من الكفار في حال غرتهم وغفلتهم، وجواز تبييتهم في الليل. ومنها: جواز قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، ففيه رد على صاحب المقال الذي أشرنا إليه، حيث زعم أن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، ولعل صاحب المقال أخذ هذا القول من نظرات علماء القانون الدولي وما تقتضيه الحرية الإفرنجية ثم نسبه إلى الإسلام، والإسلام بريء من هذا القول المفترى عليه كما تدل على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة مما ذكرنا ومما لم نذكره.

ويكفي في رد هذا القول ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بني المصطلق، وما فعله أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه مع غيرهم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بذلك، وفي الصحيحين، والمسند، والسنن، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة». وفي المسند، وسنن النسائي، وابن ماجة، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا فيقتل بها». وفي المسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إسلامه، أو النفس بالنفس». وفي صحيح البخاري، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، والسنن، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بدل دينه فاقتلوه». وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى - رضي الله عنه - إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال له: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًا فأسلم ثم تهود، قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله.

وفي المسند، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شرخهم» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال: والشرخ؛ الغلمان الذين لم ينبتوا. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: سألت أبي عن تفسير هذا الحديث «اقتلوا شيوخ المشركين» قال: يقول: الشيخ لا يكاد أن يسلم، والشاب أي يسلم كأنه أقرب إلى الإسلام من الشيخ، قال: والشرخ الشباب. وفي الصحيحين، ومسندي الإمامين الشافعي وأحمد، والسنن إلا النسائي، عن الصعب بن جثامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ قال: «هم منهم»، زاد أبو داود: قال الزهري: ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان. وقال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن عمه - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والولدان. وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة يوم فتح مكة مقتولة فقال: «ما كانت هذه تقاتل»، ثم نهى عن قتل النساء والصبيان. وفي الموطأ، عن يحيى بن سعيد، أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه قال ليزيد بن أبي سفيان: إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وستجد قومًا فحصوا عن أوساط

رؤوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيًا، ولا كبيرًا هرمًا ... وذكر تمام الحديث. فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها مما تقدم ذكرها، ومما لم نذكره، تدل على أن الإسلام يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله، إذا لم يدن بالإسلام، ولم يبذل الجزية، إذا كان من أهل الكتاب ونحوهم ممن تؤخذ منهم الجزية، إلا ما استثني فيها من النساء والصبيان والشيوخ الفانين وأصحاب الصوامع؛ فهؤلاء لا يجوز قتل أحد منهم إلا أن يباشر القتال أو يعين عليه ولو بالرأي، فيقتل كما قتل دريد بن الصمة. وقد روى أبو داود في سننه، من حديث صخر بن العيلة الهذلي الأحمسي - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن القوم إذا أسلموا فقد أحرزوا دماءهم وأموالهم». ورواه الإمام أحمد في مسنده بمعناه، وفيه دليل على إهدار دماء المشركين، وحل أموالهم للمسلمين ما داموا على الشرك، والله أعلم. وقد قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}، وقال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَاخُذُونَهَا} الآية، وقال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق على صحته: «أحل الله لنا الغنائم»، وقال أيضا في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- المتفق على صحته: «أحلت لي الغنائم»، ورتب صلوات الله وسلامه عليه في الأحاديث المتقدمة عصمة

اتخاذ القوة لتأييد الدعوة الإسلامية

دماء المشركين وأموالهم بالدخول في الإسلام، وعصمة دماء أهل الكتاب وأموالهم بذلك أو ببذل الجزية، ومع هذا كله يقول صاحب المقال إن الإسلام لا يجيز قتل الإنسان وإهدار دمه وماله لمجرد أنه لا يدين به، وهذا منه جرأة عظيمة على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتكذيب منه لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، فالله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ومن فوائد الأحاديث المتقدمة أيضا: وجوب اتخاذ القوة؛ لتأييد الدعوة الإسلامية وقتال من خالفها، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله»، فإن الأمر بالقتال يتضمن الأمر باتخاذ القوة لذلك؛ لأن القتال بدون القوة غير ممكن، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويدل عليه أيضا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله من بعث الجيوش والسرايا لقتال من لم يدخل في الإسلام، وما فعله مع بني المصطلق وغيرهم من المشركين وأهل الكتاب؛ من الإغارة عليهم ومهاجمتهم بما معه من القوة، وما فعله أصحابه -رضي الله عنهم- من بعث الجيوش والقوات لقتال المرتدين وغيرهم من أمم الكفر والضلال، وهذا يبطل ما زعمه صاحب المقال من أن الإسلام لا يجيز مطلقًا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم. ومن فوائدها أيضا: وجوب التثبت في أمر الكفار إذا أظهروا شعائر الإسلام؛ بأن سمع عندهم أذان أو رُؤي عندهم مسجد، فلا يغار عليهم والحالة هذه، ولا يقتل منهم أحد، بل يجب الكف عنهم حتى تتضح حقيقية

أمرهم. قال الخطابي رحمه الله تعالى: إظهار شعائر الإسلام في القتال وعند شن الغارة يحقن به الدم، وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة التي يتسع فيها معرفة الأمور على حقائقها واستيفاء الشروط اللازمة فيها. انتهى. وظاهر حديث أنس، وحديث عصام المزني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخص بالإغارة المعتدين من الكفار، والواقفين منهم في طريق الدعاة إلى الإسلام دون غيرهم، بل كان يغير ويأمر بالإغارة على من بلغتهم الدعوة الإسلامية فلم يقبلوها، سواء كانوا معتدين أو غير معتدين، وسواء كانوا من الواقفين في طريق الدعاة إلى الإسلام أو لم يكونوا منهم، والله أعلم.

فصل: في قتال المرتدين

فصل وقد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه على قتال المرتدين، من سائر أحياء العرب، فساروا إليهم في ديارهم، وبدأوهم بالقتال حتى فرغوا منهم، ثم ساروا بأمر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه إلى قتال فارس والروم، فدعوهم إلى الإسلام، وقاتلوهم عليه، واستمر الأمر كذلك في خلافة عمر وعثمان -رضي الله عنهما وأرضاهما- حتى دوخوا كثيرًا من أمم الكفر والضلال في مشارق الأرض ومغاربها، وأثخنوهم قتلاً وأسرًا، وسبوا من ذراريهم وغنموا من أموالهم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وضربوا الجزية على من صالحهم من تلك الأمم، وظهر بذلك مصداق قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}، ثم كان الأمر كذلك في دولة بني أمية وصدر من دولة بني العباس، فكثرت الفتوحات، واتسعت الممالك الإسلامية، حتى بلغت من ناحية المشرق إلى أطرف الصين، وبلغت من ناحية المغرب إلى البحر المحيط، وظهر بذلك مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثوبان - رضي الله عنه -: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» رواه مسلم، وأهل السنن إلا النسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي المسند، من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ولا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يومنا هذا أنه طعن على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من

غزواتهم، وبدئهم الكفار بالقتال على الإسلام، واتخاذهم القوة لذلك، واستحلالهم لدماء أعداء الله وأموالهم. وكذلك لا يعرف عن أحد من التابعين وتابعيهم بإحسان، أنه طعن على بني أمية وبني العباس في شيء من هذه الأمور الشرعية، حتى جاء صاحب المقال وأشباهه من المعجبين بآراء أعداء الله تعالى وقوانينهم الدولية، فأصدروا المقالات التي ظاهرها الطعن على الجميع، تقليدًا منهم لأعداء الله تعالى، وتقربًا إليهم بما يوافق أهواءهم، بل ظاهرها الطعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما كان يفعله مع المشركين وأهل الكتاب، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يقاتلهم على الإسلام، ويهاجمهم إذا لم يقبلوا دعوته، ويغير عليهم في حال غرتهم، وكل ذلك على زعم صاحب المقال لا يجوز له، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستحل دماءهم وأموالهم، وذلك على زعم صاحب المقال لا يجوز له. وكان - صلى الله عليه وسلم - يعد لأعداء الله تعالى ما استطاع من القوة، ويجاهد بها من أبى منهم قبول الدعوة، وذلك على زعم صاحب المقال لا يجوز له. وكان - صلى الله عليه وسلم - يقاتل المعرضين عن الإسلام سواء كانوا من المعتدين أو غير المعتدين، وعلى زعم صاحب المقال أن قتال غير المعتدين لا يجوز له. فانظروا أيها المسلمون إلى جريرة التقليد لأعداء الله تعالى، والاغترار بآرائهم الفاسدة وقوانينهم الباطلة، كيف أوقعا هذا المسكين في هذه الأوحال التي تناقض دين الإسلام، وتقتضي المروق منه بالكلية، وقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي

قصر الجهاد على جهاد الدفع، وإبطال هذه الدعوى

بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112]. فالحذر الحذر أيها المسلمون من الاغترار بزخارف أعداء الله تعالى وأباطيلهم، فإنهم لا يألون المسلمين خبالاً وإضلالاً، قال الله تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]، ثم إن صاحب المقال لم يكتف بما ظاهره الطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وعلى من بعدهم من المسلمين الذين جاهدوا الكفار على الإسلام، وبدأوهم بالقتال، واستحلوا دماءهم وأموالهم لما أعرضوا عن قبول الدعوة، بل تجاوز ذلك إلى ما يفهم منه تسفيه آرائهم في قتال الذين لم يعتدوا عليهم ولم يقفوا في طريق الدعاة وإن كانوا ممن بلغتهم الدعوة الإسلامية فلم يقبلوها، ولم يبذلوا الجزية، وهذا من صاحب المقال أقبح وأبشع وأفظع مما قبله، وعنده وعند أشباهه أن الرأي المعقول المقبول هو ما يتفق مع نظرة علماء القانون الدولي، من مسالمة أعداء الله ومتاركتهم ما لم يعتدوا على المسلمين أو يقفوا في طريق الدعاة إلى الإسلام، ومفهوم هذه العبارة لا يخفى على طال علم، فالله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وقد تقدم قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها؛ فعلل قتاله للمرتدين

بمنعهم للزكاة التي هي من آكد حقوق الإسلام، وقد وافقه عمر - رضي الله عنه - وأرضاه وجميع الصحابة -رضي الله عنهم- على ذلك، وقال عمر - رضي الله عنه -: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قاتلنا معه فرأينا ذلك رشدًا، ولو كانت العلة ما يقوله صاحب المقال وأشباهه لكان ينبغي لأبي بكر - رضي الله عنه - أن يقول: نقاتلهم على اعتدائهم علينا ووقوفهم في طريق الدعاة إلى الإسلام. وتقدم أيضًا قول أبي بكر - رضي الله عنه - ليزيد بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-: ستجد قومًا فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. رواه مالك في الموطأ، وهؤلاء هم الشمامسة من النصارى، والعلة في قتلهم هي مخالفتهم للإسلام وهديه الذي هو خير الهدي، ولو كان الأمر كما يقوله صاحب المقال وأشباهه لعلل الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه بذلك. وتقدم أيضا ما رواه البخاري في صحيحه، عن جبير بن حية الثقفي قال: بعث عمر - رضي الله عنه - الناس في أفناء الأمصار، يقاتلون المشركين -فذكر الحديث- وفيه أن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال لترجمان جيش كسرى: «أمرنا نبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن رسالة ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم»، ففي هذا الحديث بيان العلة التي لأجلها بعث عمر - رضي الله عنه - الجيوش إلى الأمصار يقاتلون الناس؛ وهي ما هم عليه من الشرك بالله تعالى واتخاذ الآلهة من دونه، ولو كان الأمر كما يقوله صاحب المقال لقال جبير: يقاتلون من اعتدى على

المسلمين، ولقال المغيرة: أمرنا أن نقاتلكم حتى تنتهوا عن اعتدائكم على المسلمين، وقد صرح المغيرة - رضي الله عنه - أن قتالهم للمشركين بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صادر عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بذلك. وتقدم أيضًا ما فعله سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لما حاصروا قصرًا من قصور فارس؛ فإنه دعاهم إلى الإسلام، ثم إلى بذل الجزية، فلما لم يقبلوا قاتلهم بمن معه حتى فتحوا القصر، ولو كان الأمر كما يقول صاحب المقال لقال لهم سلمان - رضي الله عنه -: ندعوكم إلى المسالمة، وترك العدوان علينا، وأن تكفوا عن وضع العراقيل في طريق الدعاة. وروى مالك في الموطأ بلاغًا أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتب إلى عامل من عماله: إنه بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث سرية يقول لهم: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا»، فقل ذلك لجيوشك وسراياك إن شاء الله، والسلام عليك. فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أمر جيوشه بقتال المشركين، وعلل قتالهم بما علل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كفرهم بالله تعالى، ولم يعلل بما علل به صاحب المقال وأشباهه من المتحذلقين. والمقصود هاهنا أن قتال المشركين، واستباحة دمائهم وأموالهم من أجل شركهم بالله تعالى أمر مجمع عليه، وصادر عن أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما لا يخفى على من له أدنى علم وفهم عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -،

ومعرفة بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين في جهاد المشركين وأهل الكتاب، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر معاند للحق، يتعامى عنه لما عنده من الميل إلى الحرية الإفرنجية والتعظيم لأعداء الله تعالى والإعجاب بآرائهم وقوانينهم الدولية، فلذلك يروم كثير منهم التوفيق بينها وبين الأحكام الشرعية، وما أكثر هذا الضرب الرديء في زماننا لا كثرهم الله. وقد وردت أحاديث كثيرة أخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمغازي المسلمين من بعده وفتوحاتهم، وهي من الأدلة على مشروعية ابتداء المشركين وأهل الكتاب بالقتال على الإسلام، وإن لم يتقدم منهم اعتداء على المسلمين ولا وقوف في طريق الدعاة. فمن ذلك: ما رواه أبو داود في سننه، عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ستفتح عليكم الأمصار، وستكون جنود مجندة» الحديث. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» هذا لفظ أحمد ومسلم. ولفظ الترمذي: «ألا إن الله سيفتح لكم الأرض وستكفون المؤنة، فلا يعجزن أحدكم أن يلهو بأسهمه». ومنها: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعة، والحاكم

في مستدركه، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر» وذكر تمام الحديث، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها: ما رواه مسلم، وأهل السنن إلا النسائي، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي المسند، من حديث شداد بن أوس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. قال النووي: قال العلماء: المراد بالكنزين الذهب والفضة، والمراد كنز كسرى وقيصر ملكي العراق والشام. ومنها: ما في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله». وفيهما أيضًا، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ولمسلم عنه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لتفتحن عصابة من المسلمين، أو من المؤمنين كنز آل كسرى الذي في الأبيض». وروى الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه، عن

الآثار في جهاد المسلمين وفتوحاتهم

عبد الله بن حوالة الأزدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتفتحن لكم الشام، ثم لتقسمن كنوز فارس والروم ...» الحديث. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومن المعلوم أن المسلمين هم الذين ساروا إلى الفرس والروم في ديارهم، وإلى غيرهم من أمم الكفر والضلال في مشارق الأرض ومغاربها، فدعوهم إلى الإسلام، وقاتلوا من أبى منهم الدخول فيه أو بذل الجزية، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم وأنفقوها في سبيل الله كما أخبرهم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرف عن أحد من تلك الأمم التي ظهر عليها المسلمون أنهم ساروا قبل ذلك إلى البلاد العربية يريدون قتال المسلمين والتضييق عليهم ومنعهم من بعث الدعاة إلى الإسلام، حتى يكون قتال المسلمين إياهم دفاعا كما زعمه صاحب المقال، وإنما الأمر كان بالعكس؛ فالمسلمون هم الذي ساروا إلى أعداء الله تعالى في ديارهم، وقاتلوهم على الإسلام، وضيقوا عليهم المسالك، فقاتلهم المشركون دفاعًا عن أنفسهم وأموالهم، فما نفعهم ذلك شيئًا، وكانت العاقبة بالنصر والتمكين لأولياء الله وحزبه، كما وعدهم بذلك نبيهم الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجة، والبخاري في تاريخه، عن نافع بن عتبة بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تقاتلون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تقاتلون فارس فيفتحها الله لكم، ثم تقاتلون الروم فيفتحها الله لكم، ثم تقاتلون الدجال فيفتحه الله لكم».

وقد رواه ابن جرير، وابن عبد البر من طريقه، والحاكم في مستدركه، من حديث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يظهر المسلمون على جزيرة العرب، ويظهر المسلمون على فارس، ويظهر المسلمون على الروم، ويظهر المسلمون على الأعور الدجال». وفي قوله: «تقاتلون جزيرة العرب، ثم تقاتلون فارس، ثم تقاتلون الروم» إشارة إلى أن المسلمين هم الذين يبدءون هذه الأمم بالقتال على الإسلام، وقد وقع الأمر طبق ما في هذا الحديث، وسيقع ما أخبر به من قتال الدجال والظهور عليه، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. ومنها: ما رواه النسائي في سننه، عن أبي سكينة -رجل من المحررين- عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر -فذكر الحديث في ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها ثلاث مرات حتى ذهبت وفيه- قال سلمان - رضي الله عنه -: يا رسول الله، رأيتك حين ضربتَ، ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة؟ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا سلمان رأيت ذلك؟!» فقال: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، قال: «فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني»، قال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله، أدع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، «ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي

مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني»، قالوا: يا رسول الله، ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، «ثم ضربت الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني»، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم». وقد روى أبو داود في سننه طرفا منه وهو قوله: «دعوا الحبشة ...» إلى آخره. ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجة في سننيهما، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله قال: «إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتًا يقال لها الحمامات ...» الحديث. ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أم حرام -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا» قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال: «أنت فيهم» ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا». ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا». وفي رواية: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط»

والباقي بنحوه. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: وعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة الهند، فإن أدركتها أنفق نفسي ومالي، فإن أقتل كنت من أفضل الشهداء، وإن أرجع فأنا أبو هريرة المحرر. وفي رواية لأحمد قال: حدثني خليلي الصادق المصدوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه يكون في هذه الأمة بعث إلى السند والهند ...» وذكر بقيته بنحوه وزاد: «قد أعتقني من النار» وهذه الزيادة تبين معنى قوله المحرر. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، والطبراني وغيرهم، عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار، عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام». ومنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن جرير، وأبو بكر الآجري، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام- أنه يقاتل الناس على الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام. وهذا الحديث يدل على أن مشروعية ابتداء المشركين بالقتال لا تزال باقية ما بقي المسلمون، وعلى أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- إذا نزل في آخر الزمان يسير على منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتال أصناف المشركين حتى لا يبقى إلا الإسلام، وعلى أنه يتخذ القوة لقتال أعداء الله تعالى؛ لأن اتخاذ القوة من اللوازم الضرورية للقتال، وعلى أنه لا يخص بالقتال المعتدين من

الكفار دون غيرهم، بل يقاتلهم جميعًا، وعلى أن مسالمة الكفار ومتاركتهم ليست من أمور الإسلام، وما كان من ذلك في أول الإسلام فإنه منسوخ بآية السيف وغيرها من آيات براءة، ويستثنى من ذلك عقد الهدنة على مدة معلومة كما تقدم تقريره قريبا، والله أعلم. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في الحلية، عن عبد الله بن السعدي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار». ومنها: ما رواه الإمام أحمد أيضا، والنسائي، والبخاري في تاريخه، عن سلمة بن نفيل الكندي - رضي الله عنه - قال: كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه وقال: «كذبوا، الآن جاء القتال، ولا تزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله» وذكر تمام الحديث. وهذا لفظ النسائي. وقوله: «أذال الناس الخيل» معناه: أنهم سيَّبوها كما تدل على ذلك رواية الإمام أحمد. وقال أبو السعادات ابن الأثير: الإذالة: الإهانة والابتذال. ومنها: ما في صحيح مسلم، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة». ومنها: ما في صحيحه أيضا، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ...» الحديث. ومنها: ما في صحيحه أيضًا، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة». ومنها: ما في سنن أبي داود، ومستدرك الحاكم، عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه. ومنها: ما في سنن أبي داود أيضًا، عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل». ومنها: ما رواه أبو نعيم في الحلية، من حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة، لا ينقض ذلك جور جائر ولا عدل عادل». إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن قتال الكفار على الإسلام

شبهة حول جهاد الطلب والجواب عنها

مشروع إلى قرب قيام الساعة. وفيها الرد على صاحب المقال وأشباهه، من المثبطين الذين يُرغِّبون المسلمين في مسالمة أعداء الله تعالى ومتاركتهم أبدًا، موافقة لما تقتضيه الحرية الإفرنجية، التي قد فشت في أكثر الأقطار الإسلامية، وعظم شرها وضررها على الشريعة المحمدية، فالله المستعان. وأما قول صاحب المقال: إن الإسلام لا يجيز مطلقا أن يتخذ المسلمون القوة من سبل الدعوة إلى دينهم، فهو كذب منه على الإسلام، يرده قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، ويرده أيضًا آية السيف وغيرها من الآيات التي أمر الله فيها بقتال المشركين وأهل الكتاب، فإن كل آية منها تقتضي الأمر باتخاذ القوة للقتال؛ لأن القتال لا يُستَطَاع بدون القوة، فالأمر بها ضمنًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو مقرر عند الأصوليين، والله أعلم. ويرده أيضًا ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن إلا النسائي، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: «{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي». ويرده أيضا ما تقدم قريبا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك

له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي ...» الحديث رواه الإمام أحمد وغيره. ويرده أيضاً ما رواه ابن ماجة في سننه، والأثرم واللفظ له، عن عليِّ - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوكأ على قوس له عربية إذ رأى رجلاً معه قوس فارسية فقال: «ألقها فهي ملعونة، ولكن عليكم بالقسي العربية، وبرماح القنا، فبها يؤيد الله الدين، وبها يمكن لكم في الأرض». وروى الطبراني، من حديث عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، عن أبيه عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ويرده أيضا ما في الصحيحين، والمسند، والسنن إلا ابن ماجة، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ينفق على أهله منها نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. ويرده أيضا ما رواه النسائي في سننه، عن الحسن بن مسلم قال: اختلفوا في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ سهم الرسول، وسهم ذي القربى، فقال قائل: سهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - للخليفة من بعده، وقال قائل: سهم ذي القربى لقرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال قائل: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة، فاجتمع رأيهم على أن جعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا في ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ويرده أيضًا ما رواه البخاري في التفسير من صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -

الإكراه على الإسلام، ومعنى الإكراه

موقوفًا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. ورواه في الجهاد من وجه آخر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل». وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل». ورواه ابن حبان في صحيحه ثم قال: والقصد في هذا الخبر السبي الذين يسبيهم المسلمون من دار الشرك مُكتّفين في السلاسل يقادون بها إلى دور الإسلام حتى يسلموا فيدخلوا الجنة. انتهى. وقد قرر هذا المعنى أيضاً ابن الجوزي أحسن تقرير فقال: معناه أنهم أُسروا وقُيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعًا فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر والتقييد هو السبب الأول، وكأنه أطلق على الإكراه التسلسل، ولما كان هو السبب في دخول الجنة أقام المسبب مقام السبب. انتهى. وفي المسند، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «عجبت من قوم يُقادون في السلاسل إلى الجنة». وفي المسند أيضًا، عن سهل بن سهل الساعدي - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخندق فأخذ الكِرْزين فحفر به، فصادف حجرًا فضحك، قيل:

إعداد القوة لإرهاب أعداء الله

ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ضحكت من ناس يؤتى بهم من قبل المشرق في النكول يساقون إلى الجنة». وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدون من بعده، وأمراء المسلمين من بعدهم يعدون ما استطاعوا من القوة لقتال أعداء الله، وإرهاب القريب والبعيد منهم بذلك؛ امتثالاً لما أمرهم الله به في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية، وكانوا يجعلون القوة ردءا للدعوة إلى الإسلام، فكل قوم بلغتهم الدعوة الإسلامية فلم يقبلوها ولم يبذلوا الجزية إن كانوا ممن تؤخذ منهم الجزية فإنهم يهاجمونهم بما أعدوا لهم من القوة حتى يضطروهم إلى القتل أو الأسر أو الهرب، وهذا معلوم من سيرتهم مع أعداء الله تعالى، ولا ينكره إلا جاهل أو مكابر معاند، وقد جعل الله لهم في اتخاذ القوة خيرًا كثيرا ونصرهم وظفرهم، وفتح لهم مشارق الأرض ومغاربها، ومكن لهم في الأرض، وأظهرهم على الأمم الكثيرة من أعداء الإسلام، ومنحهم أكتافهم، وملكهم رقابهم، يقتلون فريقًا منهم ويأسرون فريقًا آخر، حتى اتسعت رقعة الإسلام ودخل فيه من تلك الأمم ما لا يحصيه إلا الله تعالى. وكثير منهم إنما دخلوا في الإسلام بسبب القوة التي غلبتهم على أنفسهم، وأوقعتهم أسارى في أيدي المسلمين، فصار ذلك سببا لمعرفتهم الإسلام، ورغبتهم الدخول فيه باختيار منهم، وظهر بذلك مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل». وليس العجب من صاحب المقال في تعاميه عن هذه الأمور الجلية،

ومعارضته لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة وإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان، ومكابرته في إنكار ما هو معلوم بالضرورة، وإنما العجب من الذين يثقون به وبأشباهه، ويأتمنونهم على التعليم وغيره، فالله المستعان.

شبه حول اتخاذ القوة لإرهاب العدو والجواب عنها

فصل وقد زعم صاحب المقال أن شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه يوافقه على الرأي الذي شذ به هو وأشباهه عن جماعة المسلمين؛ قال في آخر مقاله: وهذا الرأي الأخير أعني القائل بأن الحرب للدفاع عن الدعوة ضد المعتدين عليها هو الرأي المعقول المقبول، فليس مما يشرف الدعوة الإسلامية أو أية دعوة أخرى أن تتخذ القوة وسيلة لنشرها، وإرغام الناس على قبولها، وهو الرأي الذي تتفق معه نظرة علماء القانون الدولي في الأساس الذي تبني الدول عليه علاقاتها بعضها ببعض، وهو الرأي الذي يرى ابن تيمية فيه أنه هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار. هذا كلام صاحب المقال. ويفهم من فحواه أنه يحوم حول الاعتراض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- في اتخاذهم القوة لجهاد الكفار على الإسلام، ولا سيما في قوله: فليس مما يشرف الدعوة ... إلى آخر العبارة، فإنه يكاد أن يكون صريحًا في الاعتراض؛ ولهذا سوى بين اتخاذهم القوة لإعلاء كلمة الله تعالى وبين اتخاذ غيرهم القوة لإعلاء باطلهم وكلمتهم؛ فالكل في ظاهر كلامه على حد سواء، وهذا ينبئ عن خبث طوية وعقيدة سيئة، وقد تقدم له غير ذلك مما نبهت عليه في أول الفصل. وأما ما نسبه إلى شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فالظاهر والله أعلم أنه مكذوب على الشيخ، وليس صاحب المقال هو الذي

أجوبة لشيخ الإسلام رحمه الله حول الجهاد المشروع

كذب عليه؛ ولكنه اغتر برسالة منسوبة إلى الشيخ يظهر لمن تأملها من ذوي العلم والفهم أنها ليست من تصانيفه لمناقضتها لما قرره في كثير من كتبه، وقد حدثنا بعض المشايخ أن شيخه العلامة المحقق سليمان بن سحمان قدس الله روحه وقف على تلك الرسالة فرد عليها ردًا جيدًا، أكثره من كلام شيخ الإسلام وتقريراته، ونكتفي في رد ما ذكره صاحب المقام هنا بكلام للشيخ قدس الله روحه في أجوبة له ثلاثة: قال في إحداها: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين؛ وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها؛ مثل أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي

توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين لله. وقال في الجواب الثاني: اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة الممتنعة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها؛ فإذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة أو الزكاة أو صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة، أو عن تحريم الفواحش أو الخمر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن استحلال النفوس والأموال بغير حق، أو الربا أو الميسر أو الجهاد للكفار، أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب ونحو ذلك من شرائع الإسلام؛ فإنهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله. وقال في الجواب الثالث: أيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الزنا أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء. انتهى.

فانظر إلى توافق كلام الشيخ قدس الله روحه في هذه الأجوبة الثلاثة، وتصديق بعضه بعضًا، وانظر إلى تصريحه بوجوب جهاد الكفار إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإنه صريح في وجوب قتال الطلب دفعًا لمفسدة الكفر، وصريح أيضًا في رد ما ذكره صاحب المقال عنه أنه لا يرى الحرب إلا للدفاع عن الدعوة ضد المعتدين عليها. وتأمل ما ذكره من الاتفاق على وجوب قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، ومنها جهاد الكفار على الإسلام وضرب الجزية على أهل الكتاب. وتأمل أيضا قوله: فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه لغير الله، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله. وتأمل أيضًا ما صرح به من تكفير الجاحد لوجوب شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، ومنها جهاد الكفار على الإسلام، وضرب الجزية على أهل الكتاب، فكل جملة من هذه الجمل ترد ما نسب إليه من القول بأنه لا يرى الحرب إلا للدفاع عن الدعوة ضد المعتدين عليها. وكلام الشيخ قد الله روحه في وجوب جهاد الكفار على الإسلام كثير في مواضع من كتبه، وفيما ذكرنا ههنا كفاية إن شاء الله تعالى. وتأمل قوله في الجواب الأول: إن الطائفة الممتنعة إذا أظهرت التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين فإنها تقاتل على ذلك، وكذلك إذا أظهرت الطعن في السابقين الأولين من

المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. ثم تأمل سيرة المسلمين مع الكفار على عهد الخلفاء الراشدين؛ فإنهم كانوا يقاتلونهم على الإسلام، لا فرق عندهم بين المعتدين منهم وغير المعتدين، وكانوا يبدءونهم بالقتال إذا لم يقبلوا الدعوة الإسلامية، أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهل الكتاب ونحوهم، وكانوا يتخذون القوة لقتال أعداء الله، وكانوا يستحلون دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وكانوا لا يسالمون أحدًا منهم ويتاركونه إلا بجزية يبذلها لهم، أو في هدنة لمصلحة المسلمين. وكل هذه الأمور المعروفة عنهم ينكر صاحب المقال جوازها، والظاهر من كلامه أنه يكذب بها، فكلامه دائر بين التكذيب بسيرة المسلمين مع أعداء الله، وبين الطعن عليهم فيما يفعلونه مما زعم أن الإسلام لا يجيزه، فعلى ما قرره شيخ الإسلام قدس الله روحه في الجواب الأول ينبغي استتابة صاحب المقال؛ وتأديبه بما يليق بجرمه، وأنه لو كان في جماعة ممتنعة يرون رأيه وجب قتالهم حتى يتوبوا عن رأيهم الفاسد الذي شذوا به عن جماعة المسلمين وعارضوا به نصوص القرآن والسنة، والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويقيم لدينه حماة يجاهدون المبطلين بالحجة والبرهان، ويجالدون المعاندين بالسيف والسنان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

فصل: اعتراض المعترض بالآيات الواردة في الكف عن القتال والجواب عن ذلك

فصل وأما استدلال صحاب المقال على رأيه بالآيات الأربع المذكورات مع كلامه في أول الفصل الذي قبل هذا الفصل، فهو استدلال غريب لا نعلم أن أحدًا من أئمة التفسير سبقه إليه؛ لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من أئمة العلم والهدى من بعدهم، إذ ليس أحد منهم يرى مسالمة الكفار ومتاركتهم بدون جزية يبذلونها للمسلمين إن كانوا من أهل الجزية، أو مهادنة يعقدها المسلمون بينهم وبين أعداء الله، وإنما يرى ذلك صاحب المقال وأشباهه من المتأثرين بالحرية الإفرنجية والقوانين الدولية، الحائمين حول إبطال الجهاد في سبيل الله بالكلية، فلذلك يحملون الآيات على غير محاملها وما يراد بها، ويتأولونها على غير تأويلها المأثور عن علماء التفسير من أكابر السلف وأئمة الخلف، وليس لصاحب المقال في الآيات المذكورات ما يتعلق به. أما على قول من قال بنسخهن، ونسخ ما أشبههن بآية السيف التي في سورة براءة فظاهر، وقد تقدم ما نقله البغوي عن الحسين بن الفضل في ذلك، وما نقله ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما، والضحاك بن مزاحم. وأما على قول من لم ير النسخ فإحكام هذه الآيات معروفة عند علماء السنة سلفًا وخلفًا، وليس فيها ما يوافق رأي صاحب المقال وأشباهه. فأما الآية الأولى وهي قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فقد ذكر ابن كثير وغيره فيها قولين عن العلماء:

أحدهما: أنها محمولة على أهل الكتاب، ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل، إذا بذلوا الجزية. قال البغوي: قال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعًا وكرهًا أنزل الله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام. انتهى. والقول الثاني: أنها منسوخة بآية السيف. قال البغوي رحمه الله تعالى: وهو قول ابن مسعود - رضي الله عنه -. وأما آية النساء وهي قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} إلى قوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90] ففيها قولان أيضًا: أحدهما: أن المسلمين إذا عقدوا بينهم وبين قوم من الكفار مهادنة، أو عقدوا لقوم من أهل الكتاب ذمة، فإن حكم من يلجأ إليهم من غيرهم كحكمهم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير. والقول الثاني أنها منسوخة؛ قال ابن كثير: روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: نسخها قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الآية. وأما آية الأنفال وهي قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}

[الأنفال: 61] ففيها أيضًا قولان: أحدهما: أنها دالة على مشروعية المصالحة والمهادنة مع المشركين إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. اختار هذا القول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو ظاهر اختيار البخاري رحمه الله تعالى، قال في آخر كتاب الخمس من صحيحه: باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره وإثم من لم يف بالعهد. وقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} قال الحافظ ابن حجر: معنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظ للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرًا على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا. انتهى. والقول الثاني: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة، ذكره عنهم الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، وذكره البغوي عن الحسن وقتادة. وأما آية الممتحنة وهي قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، فإنها دالة على جواز البر والإحسان إلى ضعفة المعاهدين؛ كالنساء والصبيان ونحوهم ممن ليس من أهل الشوكة والقتال، ولا سيما إذا كان الضعفة من الأقارب كما يرشد إلى ذلك سبب نزول الآية الكريمة، وقد استدل بها البخاري رحمه الله تعالى على جواز الهدية للمشركين.

وقال أيضًا: باب صلة الوالد المشرك، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام بن عروة، أخبرني أبي، أخبرتني أسماء ابنة أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أصلها؟ قال: «نعم». قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}. وقال الشافعي في مسنده: أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه - قالت: أتتني أمي راغبة في عهد قريش، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصلها؟ قال: «نعم». وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، من حديث أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، قدمت علي أمي وهي راغبة، أَفَأَصِل أمي؟ قال: «نعم، صِلي أمك». ورواه أبو داود في سننه، من حديث عيسى بن يونس، عن هشام بنحوه، وترجم عليه بقوله: باب الصدقة على أهل الذمة. وهذا من قوة فقهه ودقة فهمه رحمه الله تعالى، يعني أنه إذا جاز بر المعاهدين والصدقة عليهم فبر أهل الذمة والصدقة عليهم جائز كذلك وأولى. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- بنحو رواية

الصحيحين. وروى الإمام أحمد أيضًا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وغيرهم، عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخر الآية، «فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وزاد ابن أبي حاتم: إنها قدمت في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قيل: إن الآية منسوخة. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ. وقال قتادة: نسخ بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقريب من هذا قول الحسن: إنها خاصة بحلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بينه وبينه عهد. فهذه أقوال المفسرين في الآيات الأربع، ليس فيها ما يوافق رأي صاحب المقال وأشباهه فيما شذوا به عن المسلمين وأرادوا به التوفيق بين الأحكام الشرعية في الجهاد وبين آراء أعداء الله وقوانينهم. والمقصود ههنا التحذير من هذا المقال وغيره من مقالات المتهوكين

وآرائهم وتخرصاتهم؛ فإن كثيرًا منها مأخوذ من آراء الإفرنج، وأمثالهم من أمم الكفر والضلال، وما تقتضيه قوانينهم وحريتهم ومدنيتهم. وقد روى مسلم في مقدمة صحيحه، والبخاري في التاريخ الكبير، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم». وفي رواية لمسلم: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم» ولا يبعد أن يكون صاحب المقال ممن أشار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح، والله أعلم.

فصل: مسألتان مهمتان تتعلقان بالجهاد

فصل ونذكر ههنا مسألتين مهمتين من المسائل المتعقلة بالجهاد، ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين للعمل بهما، وأن يعيذهم من اتِّباع شياطين الإنس والجن الداعين إلى التهاون بهما. إحداهما: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. وألحق جماعة من العلماء بدار الكفر دار البغاة ودار البدع المضلة كالرفض والاعتزال. وألحق آخرون بذلك أيضًا دار المعاصي إذا لم يقدر على تغييرها. قال البغوي رحمه الله تعالى: يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تتهيأ له العبادة، قال: وقال سعيد بن جبير: إذا عمل في الأرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرض الله واسعة. قلت: وقد رواه أبو نعيم في الحلية بإسناده عنه. وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يهلك الناس هذا الحي من قريش» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «لو أن الناس اعتزلوهم». قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): يؤخذ من هذا الحديث استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية، فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك.

أقسام الناس في الهجرة

قال ابن وهب، عن مالك: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا، وقد صنع ذلك جماعة من السلف. انتهى. وفي المسند، وسنن أبي داود، والكنى للبخاري، عن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها». وفي المسند أيضًا، وسنن النسائي، وصحيح ابن حبان، والحلية لأبي نعيم، عن عبد الله بن السعدي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار». قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في كتاب (المغني): الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار؛ فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب؛ ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه لقول

الأدلة على حرمة مساكنة المشركين اختيارا

الله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 98]، ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها. والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر، فتستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة. انتهى. قال في (الفروع): وذكر ابن الجوزي أنها تجب عليه -يعني على هذا الضرب الأخير- قال: وأطلق ذلك. انتهى. قلت: وهذا الذي ذكره ابن الجوزي جيد قوي، يدل عليه ظاهر القرآن والأحاديث الآتية. أما القرآن فإن الله تعالى لم يعذر عن الهجرة إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ولو كان للقوي القادر على إظهار دينه في دار الكفر عذر لعذره الله تعالى كما عذر المستضعفين، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فقطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فدل على أنه لا عذر إلا للمستضعفين الذين نص عليهم في سورة النساء. وأما الأحاديث: فالأول ما رواه أبو داود في سننه، عن سمرة بن جندب

- رضي الله عنه - قال: أما بعد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله». ورواه الترمذي في جامعه معلقًا بصيغة الجزم فقال: وروى سمرة بن جندب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم». ورواه الحاكم في مستدركه موصولا من حديث الحسن، عن سمرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا» قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ورمز الحافظ الذهبي في تلخيصه إلى أنه على شرط الشيخين. وظاهر هذا الحديث العموم لكل من جامع المشركين وساكنهم اختيارًا منه لذلك لا اضطرارًا وعجزًا. الحديث الثاني: عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: «لا ترآءى ناراهما» رواه أبو داود، والترمذي بهذا اللفظ. ورواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في سننه بلفظ: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة». قال الفضل بن زياد: سمعت أحمد رحمه الله تعالى يُسأل عن معنى «لا ترآءى ناراهما» فقال: لا تنزل من المشركين في موضع إذا أوقدتَ رأوا فيه

أخذ مشورة غير المسلمين

نارك، وإذا أوقدوا رأيت فيه نارهم، ولكن تباعد عنهم. قلت: وفي هذين الحديثين وعيد شديد لمن جامع المشركين وساكنهم اختيارًا، فليحذر المسلمون المقيمون بين الوثنيين، والمرتدين، والنصارى، والمجوس وغيرهم من أعداء الله تعالى أن يلحقهم هذا الوعيد الشديد، وكذلك ليحذروا أن يلحقهم الوعيد الشديد المذكور في سورة النساء. الحديث الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تستضيئوا بنار المشركين» رواه الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه، والنسائي، وأبو يعلى. قال بعض العلماء: معناه: لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم، بل تباعدوا منهم وهاجروا من بلادهم. وقال أبو السعادات ابن الأثير: معناه لا تستشيروهم ولا تأخذوا بآرائهم، جعل الضوء مثلاً للرأي عند الحيرة. قلت: وهذا القول مروي عن الحسن البصري. وعنه أيضا أنه قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستعان بالمشركين على شيء. والظاهر أن النهي شامل للأمرين كليهما، فلا يجوز للمسلم مساكنة المشركين اختيارًا، ولا مشاورتهم وأخذ آرائهم، والقول الأول أظهر، ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تراءى نارهما»، وقوله في حديث الزهري: «وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب» والله أعلم. الحديث الرابع: عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه - أن رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقبل الله من مشرك بعد ما يسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين» رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الخامس: عن يزيد بن الشخير قال: بينا أنا مع مطرف بالمربد، إذ دخل رجل معه قطعة أدم قال: كتب لي هذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل أحد منكم يقرأ؟ قال: قلت: أنا أقرأ، فإذا فيها: «من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني زهير بن أقيش أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأقروا بالخُمس في غنائمهم وسهم النبي وصفيه؛ أنهم آمنوا بأمان الله ورسوله» رواه الإمام أحمد، والنسائي. الحديث السادس: عن جرير - رضي الله عنه - قال: «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق المشركين» رواه النسائي. وفي رواية له قال جرير: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع فقلت: يا رسول الله، أبسط يدك حتى أبايعك، واشترط علي فأنت أعلم، قال: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين». الحديث السابع: عن أبي اليسر كعب بن عمرو - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع الناس فقلت: يا رسول الله، أبسط يدك حتى أبايعك، واشترط علي فأنت أعلم بالشرط، قال: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلم، وتفارق المشرك» رواه الحاكم في مستدركه.

الحديث الثامن: عن الزهري مرسلاً، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال: «تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب» رواه ابن جرير. فليتأمل المسلمون الساكنون مع أعداء الله تعالى هذا الأحاديث، وليعطوها حقها من العمل، فقد قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 - 18].

فصل: سكنى المشركين في جزيرة العرب

فصل المسألة الثانية: منع المشركين واليهود والنصارى من السكنى في جزيرة العرب، وإخراج من كان منهم ساكنًا فيها؛ عملاً بما عزم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته من إجلائهم عنها، مؤكدا عزمه على ذلك بالقسم كما في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أخبرني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع إلا مسلمًا». ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي رواية لأحمد، والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لئن عشت -إن شاء الله- لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب». زاد أحمد: «حتى لا أترك فيها إلا مسلمًا». ولما عاجلت المنية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فعل ما عزم عليه أوصى أمته أن تفعل ذلك بعد موته؛ كما في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته بثلاث: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» ونسيت الثالثة. وفي المسند أيضًا، عن أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - قال: آخر ما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب». ورواه البخاري في التاريخ الكبير مختصرًا.

حد جزيرة العرب

وفي المسند أيضًا عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: آخر ما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان». وفي الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقرهم بها أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نقركم بها على ذلك ما شئنا» فقروا بها حتى أجلاهم عمر - رضي الله عنه - إلى تيماء وأريحاء. وروى أبو داود في سننه، عن مالك أنه قال: عمر أجلى أهل نجران ولم يجلوا من تيماء لأنها ليست من بلاد العرب، فأما الوادي -يعني وادي القرى- فإني أرى إنما لم يجل من فيها من اليهود أنهم لم يروها من أرض العرب. وروى أبو داود أيضًا، عن مالك أنه قال: قد أجلى عمر يهود نجران وفدك. وروى أبو داود أيضا، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: جزيرة العرب ما بين الوادي -يعني وادي القرى- إلى أقصى اليمين إلى تخوم العراق إلى البحر. وقال الأصمعي: هي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام.

وقال أبو عبيدة، وأبو عبيد، والجوهري وغيرهم: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العرض ما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة. قال الخليل: إنما قيل لها جزيرة؛ لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها، ونسبت على العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها. وقال الأزهري: سميت جزيرة؛ لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبيها، وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات. وقال البخاري في صحيحه: قال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب، فقال: مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وأخرجه يعقوب بن شبَّة، عن أحمد بن المعدل، عن يعقوب بن محمد، عن مالك بن أنس مثله. انتهى. وحكى غيره عن مالك أنه قال: جزيرة العرب هي الحجاز، واليمن، واليمامة، وما لم يبلغه ملك فارس والروم. وحكى الشيخ أبو محمد المقدسي في (المغني) عن أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: جزيرة العرب المدينة وما والاها. قال الشيخ: يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها، وهي مكة، واليمامة، وخيبر، والينبع، وفدك، ومخاليفها،، وما والاها، وهذا قول الشافعي. وقال النووي في شرح مسلم: أخذ بحديث «أخرجوا المشركين من

اجتياز الكفار لجزيرة العرب وترددهم مسافرين فيها

جزيرة العرب» مالك، والشافعي، وغيرهما من العلماء، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سكناها، ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب، وهو الحجاز، وهو عنده مكة، والمدينة، واليمامة وأعمالها، دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه. قال العلماء: ولا يُمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز، ولا يُمكّنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام. قال الشافعي وموافقوه: إلا مكة وحرمها، فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإن دخل في خفية وجب إخراجه، فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج ما لم يتغير، هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء. وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم. وحجة الجماهير قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والله أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى. وما ذكره عن الشافعي من تخصيص الحكم ببعض جزيرة العرب مردود بعمومات الأحاديث الصحيحة التي تقدمت في أول الفصل، والله أعلم. وهذه المسائل التي ذكرها النووي في شرح مسلم قد ذكرها الشيخ أبو محمد المقدسي مستوفاة بأدلتها وتعاليلها في كتاب الجزية من (المغني)، وذكر أيضا ما يتعلق بها من المسائل مما لم يذكره النووي، وكذا ذكرها غيره من أصحابنا وغيرهم من العلماء، فمن أراد الوقوف على ذلك فهو سهل يسير بحمد الله تعالى.

وإذا عرف ما ذكرنا ههنا من الأحاديث، وكلام الأئمة، فالواجب على ولاة أمور المسلمين تنفيذ وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراج المشركين من جزيرة العرب، فلا يتركون فيها وثنيًا، ولا يهوديًا، ولا نصرانيا، ولا مجوسيًا، ولا غيرهم من أعداء الله تعالى، وليحذر ولاة أمور المسلمين من مخالفة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتهاون به، فقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، ولا يجوز لهم أن يمكنوا المسافرين من أعداء الله تعالى للتجارة أو غيرها من الإقامة في موضع واحد من جزيرة العرب أكثر من ثلاثة أيام، اللهم إلا أن يكون بالمسلمين حاجة ضرورية إلى أحد منهم لمباشرة عمل يعجز عنه المسلمون فيُمكّن المباشرون له من الإقامة بقدر الحاجة ثم يخرجون. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية، إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، قال الشيخ: وفي هذه المسألة نزاع. انتهى. والله المسؤول أن يوفق ولاة أمور المسلمين، ورعاياهم للعمل بكتابه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن يوفق الولاة للسير على منهاج الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، إن ربي لسميع الدعاء قريب مجيب.

فصل: من أسباب اغتراب الإسلام ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فصل ومن أعظم أسباب اغتراب الإسلام ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أكثر الأقطار الإسلامية، وضعف جانبه في البلاد التي فيها أمر ونهي، فأما الأقطار التي قد غلبت فيها ... ... هذا آخر ما وجد بخط الوالد رحمه الله من هذا الكتاب المبارك. وقد تمَّ مقابلة وتصحيحًا على أصله، مع مراعاة ما أشار إليه رحمه الله تعالى من الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير. وكان الفراغ من ذلك آخر ساعة من يوم الجمعة المبارك، لثلاث خلت من شهر رجب المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة بعد الألف من هجرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، بمكة المكرمة، قبالة الكعبة زادها الله تشريفًا. وكتب/ عبد الكريم بن حمود بن عبد الله التويجري

§1/1