غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة

حازم خنفر

غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة كتبه حازم خنفر

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن مما أورث القلب حرقةً وأشعر النفس كربةً: ما لاح في زماننا من تعذر أثر الأخوة بين الخلق _ خاصتهم وعامتهم _، حتى أفضى الأمر إلى شد الأرحل بحثًا عن صحبة صرفة؛ صافية من كدر وخالصة من شوب. ولما كان من سجيتي: استئناسي بوحشتي ولزومي مجلسي بمعزل؛ فإني عمدت إلى قلمي أدفع به الحرقة وأرد به الكربة بعد أن غلب على الناس نبذ المحبة واطراح المودة، فما كان من

أثر مسعاي إلا الخلوص إلى كتاب في الصحبة والأخوة، جعلته سلوةً لي ولكل متفجع لحال زماننا. وعمدتي فيه: كتاب الله _ تعالى _، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وآثار سلفنا الصالح _ رضي الله عنهم أجمعين _، ومنثور الأسفار من أخبار وأشعار وحكم وأذخار. فأما كتاب الله؛ فأوردت ما استنبط منه أهل العلم فيما هو من مقاصد كتابي هذا. وأما السنة النبوية؛ فما أوردت منها إلا الصحيح؛ معولًا على حكم المحدث المبرز: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني _ رحمه الله _. وأما الآثار؛ فأوردت ما وقفت عليه من كتب الحديث والأدب دون النظر في صحتها أو ضعفها؛ فإن الأثر إن لم يبلغ مبلغ الصحة؛ فما عساه إلا أن يقصر عن مرتبة الأثر إلى مرتبة الحكمة. وأما منثور الكتب والأسفار من الأقوال والأخبار والأشعار؛ فإني وإن كنت لم أحفل بعقيدة القائل ومسلكه، إلا أني قد أخذت بسمين الأقوال التي ليس فيها ما يخالف الكتاب والسنة ومسلك سلف الأمة، وأضربت عن غثها من شطط ونحوه.

ولما كان اللسان العربي الفصيح _ في هذا الزمان _ قد ظهرت عليه العجمة وغلب عليه اللحن؛ فإني آثرت أن أقيد الحروف بالشكل؛ جمعًا بين الدربة على تقويم اللسان _ نحوًا وصرفًا _ وبين مقاصد الكتاب. ولا أدعي عصمتي من المزلات، فحسبي أني بذلت قصاراي في إقصاء ما يخالف الشرع، وضبط الشكل على ما يوافق فصاحة اللسان. وأسأله _ سبحانه _ أن يقر هذا الكتاب في ميزان الأعمال الصالحات يوم القيامة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. حازم خنفر الأردن / في الثالث من ذي الحجة 1428 هـ الموافق:11/ 12/2007م

فصول الكتاب مقدمة في معنى الصحبة وما يرادفها من الألفاظ الفصل الأول: في فضل الصحبة والأخوة الفصل الثاني: في مراتب الصحبة وأسبابها الفصل الثالث: في مقامات الإخوان ومراتبهم الفصل الرابع: فيمن لا ترجى عشرته ومن تؤثر صحبته الفصل الخامس: في حقوق الصحبة وآدابها ظاهرًا وباطنًا

معنى الصحبة وما يرادفها من الألفاظ

معنى الصحبة وما يرادفها من الألفاظ اعلم _ رحمني الله وإياك _ أن في الاجتماع الإنساني صلات شتى تعرض بين الأفراد؛ فمنها: الصحبة، ومنها: الصداقة، ومنها: الأخوة، ومنها: الرفقة، ومنها: الخلة _ وغيرها _. وتشترك جميعها في معنًى كلي واحد، إلا أنها تختلف في أشياء: أما معنى الصحبة من حيث الاشتقاق الكبير؛ فقد قال ابن فارس في «المقاييس»: «الصاد والحاء والباء: أصل واحد يدل على مقارنة شيء ومقاربته، من ذلك: (الصاحب)، والجمع: (الصحب)». وأما من حيث المعنى الخاص؛ فهي: المعاشرة والملازمة، وقد قيدها بعض أهل اللغة بالرؤية والمجالسة، ولذا قد جاء في تعريف (الصحابي) عند المحدثين: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على الإسلام؛ سواء أطالت صحبته أم قصرت.

إلا أن الصحبة قد تطلق دون هذا القيد، وإنما يراد بها ملازمة الشيء بالبدن أو بغيره؛ كالصحبة مع الله، وقد سئل أبو عثمان _ سعيد بن إسماعيل _ الحيري عن هذه الصحبة، فقال: «الصحبة مع الله: بحسن الأدب ودوام الهيبة ... » كما رواه البيهقي في كتابه «شعب الإيمان». وكذلك: لا تقيد الصحبة بمعاشرة البشر للبشر فقط؛ إنما قد تصرف إلى معاشرة البشر لغيرهم من الكائنات والموجودات. ولا يشترط لها القصد؛ فقد تكون بإكراه ومن غير نية؛ كمصاحبة أهل النار للنار في قوله _ تعالى _: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}. قال أهل التفسير: والصحبة هي: الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة. وقد جمع هذا الأصل وأجمله: الخليل بن أحمد في كتابه «العين»، بقوله: «وكل شيء لاءم شيئًا فقد استصحبه». وضبط ذلك كله الراغب الأصفهاني في كتابه «المفردات في غريب القرآن»، فقال: «الصاحب: الملازم إنسانًا كان أو حيوانًا أو مكانًا أو زمانًا، ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن _ وهو

الأصل والأكثر _، أو بالعناية والهمة ... ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته، ويقال للمالك للشيء: (هو صاحبه)، وكذلك لمن يملك التصرف فيه». وقد فرق أهل اللغة بين الصاحب والقرين: قال أبو هلال العسكري في كتابه «الفروق اللغوية»: « ... أن الصحبة تفيد انتفاع أحد الصاحبين بالآخر، ولهذا يستعمل في الآدميين خاصةً، فيقال: (صحب زيد عمرًا) و (صحبه عمرو)، ولا يقال: (صحب النجم النجم) أو (الكون الكون) ... والمقارنة: تفيد قيام أحد القرينين مع الآخر ويجري على طريقته وإن لم ينفعه، ومن ثم قيل: (قران النجوم)، وقيل للبعيرين يشد أحدهما إلى الآخر بحبل: (قرينان)». قلت: وقد يتوهم بأن ثمة اختلافًا بين ضبط الأصفهاني للصحبة وبين ضبط العسكري لها؛ إذ خصصه أبو هلال بالآدميين خاصةً، أما الراغب الأصفهاني فقد أطلقه وعداه إلى الحيوان والزمان والمكان!! ولا تضارب بين القولين؛ فإن مراد أبي هلال متعلق باشتراط كون طرف الصحبة الأول المتكلم آدميا _ وهو الفاعل _، ولهذا

مثل الخطأ بقول القائل: (صحب النجم ... ) و (صحب الكون ... )، ولا يريد بقوله _ هذا _ عدم جواز قول القائل: (صحبت الدهر) و (صحبت الصبر) و (صحبت الليل)، فهذا كله جائز لأن المتكلم آدمي، وهذا لا يخالف قول الراغب الأصفهاني؛ فإن مراده متعلق بالطرف الثاني _ وهو المفعول به _، فأشار إلى إطلاقه؛ كقول القائل: (صحبت كلبًا) أو (صحبت هذا المكان) _ والله تعالى أعلم _. أما الفرق بين الصحبة وبين ما رادفها من ألفاظ _ كالصداقة والأخوة والرفقة والخلة _؛ فقد ضبط ذلك أهل اللغة في دواوينهم: فأما الصداقة؛ فهي: صدق الاعتقاد في المودة، وذلك مختص بالإنسان دون غيره، وكما قيل: إنما سمي الصديق صديقًا لصدقه، والعدو عدوا لعدوه عليك. وقد ذكر ابن حزم في كتابه «الأخلاق والسير» حد الصداقة، فقال: «هو أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر، ويسره ما يسره، فما سفل عن هذا فليس صديقًا، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق، وقد يكون المرء صديقًا لمن ليس

صديقه ... إذ قد يحب الإنسان من يبغضه، وأكثر ذلك في الآباء مع الأبناء، وفي الإخوة مع إخوتهم، وبين الأزواج، وفيمن صارت محبته عشقًا، وليس كل صديق ناصحًا، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه». وأما الأخوة؛ فهي كل من جمعك وإياه صلب أو بطن، وتستعار لكل من يشاركك في القبيلة أو في الدين أو في الصنعة أو في معاملة أو في مودة _ أو في غير ذلك من المناسبات _. وأما الرفقة؛ فتقال للقوم ما داموا منضمين في مجلس واحد ومسير واحد، فإذا تفرقوا ذهب عنهم اسم الرفقة، ولم يذهب عنهم اسم الرفيق. وأما الخلة؛ فهي الصداقة، إلا أنها رتبة لا تقبل المشاركة، ولهذا اختص بها الخليلان إبراهيم ومحمد _ عليهما السلام _. وقال العسكري في «الفروق»: «والخلة: المودة التي تتخلل الأسرار معها بين الخليلين، وسمي الطريق في الرمل خلا لأنه يتخلل لانعراجه». وقال _ أيضًا _: «الفرق بين الصداقة والخلة: أن الصداقة اتفاق الضمائر على المودة، فإذا أضمر كل واحد من الرجلين

مودة صاحبه، فصار باطنه فيها كظاهره؛ سميا صديقين، ولهذا لا يقال: (الله صديق المؤمن) كما أنه وليه، والخلة: الاختصاص بالتكريم، ولهذا قيل: إبراهيم خليل الله؛ لاختصاص الله إياه بالرسالة، وفيها تكريم له ... ». وقال ثعلب في معنى الخليل: إنما سمي الخليل خليلًا ; لأن محبته تتخلل القلب، فلا تدع فيه خللًا إلا ملأته.

فضل الصحبة والأخوة

فصل في فضل الصحبة والأخوة واعلم أن للأخوة الصالحة أثرًا عظيمًا في سلوك المؤمن، وذلك أن الله _ جل شأنه _ جعلها سببًا من أسباب الهداية؛ فإذا أراد بالعبد خيرًا قيض له صحبةً من الأخيار، وهيأ له من الإخوان من يعينه على صلاح نفسه، فلا يلبث أن يبلغ قدرهم أو يبرز عليهم. قال ابن المقفع في «الأدب الصغير»: «وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس _ ما استطاع _ إلا ذا فضل في العلم والدين والأخلاق فيأخذ عنه، أو موافقًا له على إصلاح ذلك، فيؤيد ما عنده وإن لم يكن عليه فضل؛ فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمي إلا بالموافقين والمؤيدين، وليس لذي الفضل قريب ولا حميم أقرب إليه ممن وافقه على صالح الخصال فزاده وثبته، ولذلك زعم بعض

الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال». وقال الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين» ذاكرًا فضل مجالسة أهل الخير ومصاحبتهم بقوله: «فإذا كاثرهم المجالس وطاولهم المؤانس أحب أن يقتدي بهم في أفعالهم ويتأسى بهم في أعمالهم، ولا يرضى لنفسه أن يقصر عنهم، ولا أن يكون في الخير دونهم، فتبعثه المنافسة على مساواتهم، وربما دعته الحمية إلى الزيادة عليهم والمكاثرة لهم، فيصيروا سببًا لسعادته، وباعثًا على استزادته، والعرب تقول: (لولا الوئام لهلك الأنام)؛ أي: لولا أن الناس يرى بعضهم بعضًا فيقتدى بهم في الخير لهلكوا، ولذلك قال بعض البلغاء: (من خير الاختيار: صحبة الأخيار، ومن شر الاختيار: مودة الأشرار)، وهذا صحيح؛ لأن للمصاحبة تأثيرًا في اكتساب الأخلاق، فتصلح أخلاق المرء بمصاحبة أهل الصلاح، وتفسد بمصاحبة أهل الفساد». قلت: ولهذا جاء النهي عن الهجران، والترهيب منه: فقد أخرج الإمام أحمد في «مسنده» عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده؛ ما تواد اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما».

قال المناوي في «فيض القدير»: «فيكون التفريق عقوبةً لذلك الذنب، ولهذا قال موسى الكاظم: إذا تغير صاحبك عليك فاعلم أن ذلك من ذنب أحدثته، فتب إلى الله من كل ذنب يستقم لك وده». وأخرج الشيخان عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال؛ يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام». واستثنى أهل العلم من هذا الهجران: أهل البدع والفسوق وغيرهم؛ مستدلين بأحاديث، منها: ما أخرجه الشيخان أن قريبًا لعبد الله بن مغفل خذف، فنهاه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ... فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف؟! لا أكلمك أبدًا. والخذف: هو الرمي بالحصى بين أصبعين. قال النووي في «شرح صحيح مسلم»: «فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائمًا، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم

دائمًا، وهذا الحديث مما يؤيده، مع نظائر له؛ كحديث كعب بن مالك وغيره». وقال ابن رجب في كتابه «جامع العلوم والحكم» بعد أن أورد أحاديث الهجران: «وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية، فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاث، نص عليه أحمد، واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرانهم ... وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء». وأما صحبة أهل المعاصي؛ فقد قال _ تعالى _ فيهم: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِين}. قال الطبري في «تفسيره»: «المتخالون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا: بعضهم لبعض عدو، يتبرأ بعضهم من بعض؛ إلا الذين كانوا تخالوا فيها على تقوى الله». ومما ذكر في هذه الآية: ما حكي عن ابن الجلاء أنه كان يقول لأصحابه: اطلبوا خلة الناس في هذه الدنيا بالتقوى تنفعكم في الدار الآخرة، ألم تسمعوا الله _ تعالى _ يقول: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِين}. قلت: وكذلك فإن في صحبة أهل الخير السلامة، وفي صحبة أهل الشر الأذى.

وفي ذلك قال بعض الحكماء: شر ما في الكريم: أن يمنعك خيره، وخير ما في اللئيم: أن يكف عنك شره. وقال مالك بن دينار: نقل الحجارة مع الأبرار أنفع لك من أكل الخبيص مع الفجار. ولهذا حث الشرع على صحبة الأخيار، فمن ذلك: قوله _ تعالى _: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، قال السعدي في «تفسيره»: «ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى». وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب»، أخرجه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»، أخرجه أحمد والترمذي.

وعن أبي سعيد الخدري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود. وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك وكير الحداد؛ لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثةً»، أخرجه البخاري ومسلم. وعليه: فإن لصحبة أهل الخير والعلم والحكمة عظيم نفع للعبد الصالح وإن لم يبلغ مبلغهم، وكما قيل: من جلس على دكان العطار لم يفقد الرائحة الطيبة. بل وستكون صحبة الأخيار: من حسرات أهل النار يوم القيامة، بعد أن مالت بهم أهواؤهم عنها في الدنيا، ولم يحفلوا بها: قال جعفر بن محمد: «لقد عظمت منزلة الصديق عند أهل النار؛ ألم تسمع إلى قوله _ تعالى _ حاكيًا عنهم: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيم}».

ومما ذكر من محاسن صحبة أهل الفضل: 1 - الذكر الجميل؛ فإن الملازم لأهل الفضل لا بد أن يناله شيء من ذكر جميل وشأن عظيم؛ قال ابن كثير في «تفسيره» عند قوله _ تعالى _: {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيد}: «وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن». قلت: وهذا الذكر والشأن قد خلص إلى كلب لازم أهل الفضل، فما بال من لازمهم واقتدى بصلاحهم؟! 2 - ومما جاء عن السلف في محاسن صحبة الأخيار: الإعانة على طلب العلم؛ كما أخرج الخطيب البغدادي في كتابه «الجامع لأخلاق الراوي» عن علي بن أبي طالب، قال: «يا طالب العلم! إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه: التواضع، وعينه: البراءة من الحسد ... » ثم ذكر أمورًا، وختم قائلًا: «ورفيقه: صحبة الأخيار»؛ أي: ورفيق العلم: صحبة أهل الخير والفضل. وقد ذكر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: لما قدم

أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، سمعت أبي يومًا يقول: ما صليت غير الفرض؛ استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي. 3 - ومما ذكر أهل الحكمة في محاسن صحبة الأخيار: وراثة الخير؛ قال ابن المقفع في كتابه «كليلة ودمنة»: «إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر، وأنه إذا صاحب أحد صاحبًا وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضع، فلا شيء أضيع من مودة تمنح من لا وفاء له، وحباء يصطنع عند من لا شكر له، وأدب يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وإن صحبة الأشرار تورث الشر؛ كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيبًا، وإذا مرت بالنتن حملت نتنًا». 4 - ومن محاسن صحبة الأخيار _ أيضًا _: صون القلب والنفس عن الشيطان ووسوسته؛ قال ابن الحاج في كتابه «المدخل»: «واعلم أن الشيطان إذا نظر إلى العبد مريدًا، صادقًا، مخلصًا، مداومًا، عارفًا بنفسه، عارفًا بهواه، معاندًا لهما، حذرًا، مستعدا، عارفًا بفقره إلى الله _ تعالى _؛ قال

له: (إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالأعوان عليه)، والشيطان على الواحد أقوى، وهو من الاثنين أبعد، فجالس إخوانك، وذاكرهم، وأخبرهم بما ينوبك في عملك من نفسك وهواك ومن عدوك؛ فإنهم يدلونك ويعينونك». قلت: ولهذا كان أهل الفضل يحثون على طلب الصحبة _ دون إكثار كما سيأتي _، ويعدون فقدان الصاحب أمرًا جللًا: فقد روي عن أبي القاسم عبد الله البغوي أنه قال: سمعت الإمام أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذل. وقال سفيان بن عيينة: قال لي أيوب: إنه ليبلغني موت الرجل من إخواني فكأنما سقط عضو من أعضائي. وقال الفرزدق: يمضي أخوك فلا تلقى له خلفًا ... والمال بعد ذهاب المال مكتسب وقال آخر: لكل شيء عدمته عوض ... وما لفقد الصديق من عوض وعن علي: أعجز الناس: من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه: من ضيع من ظفر به منهم.

وقال المغيرة بن شعبة: التارك للإخوان متروك. وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال. وقال علي لابنه الحسن: يا بني! الغريب: من ليس له حبيب. وقال ابن المعتز: من اتخذ إخوانًا كانوا له أعوانًا. وقال ابن الجلاء: من لا إخوان له فلا عيش له. وقالت الحكماء: من لم يرغب بثلاث بلي بست: من لم يرغب في الإخوان بلي بالعداوة والخذلان، ومن لم يرغب في السلامة بلي بالشدائد والامتهان، ومن لم يرغب في المعروف بلي بالندامة والخسران. ومن درر ما دون في الأسفار في فضل الصحبة: ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لقاء الإخوان جلاء الأحزان. وقال جعفر بن محمد: مناغاة الصديق أعبث بالروح وأندى على الفؤاد من مغازلة المعشوق؛ لأنك تفزع بحديث المعشوق إلى الصديق، ولا تفزع بحديث الصديق إلى المعشوق.

وقيل لأعرابي: أي شيء أمتع؟ قال: ممازحة محب، ومحادثة صديق. وقال بعض الأدباء: أفضل الذخائر: أخ وفي. وروي عن محمد بن واسع أنه قيل له: أي العمل في الدنيا أفضل؟ قال: صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا اصطحبوا على البر والتقوى. وقال بعض البلغاء: صديق مساعد: عضد وساعد. وقيل: الصديق إنسان هو أنت، إلا أنه غيرك. وقيل _ أيضًا _: رب صديق أود من شقيق. وقيل لمعاوية: أيما أحب إليك؟ قال: صديق يحببني إلى الناس. وقيل لأعرابي: أبالصديق أنت آنس أم بالعشيق؟ فقال: يا هذا! الصديق لكل شيء؛ للجد والهزل، وللقليل والكثير، وهو روضة العقل وغدير الروح، أما العشيق؛ فإنما هو للعين، وفي الولوع به إفراط مزجور عنه، فأين هذا من ذاك؟!

مراتب الصحبة وأسبابها

فصل في مراتب الصحبة وأسبابها واعلم أن الصحبة لا تتعلق بالأقران فقط، وإنما تكون _ أيضًا _ في معاشرة الأكابر والأصاغر، وقد بينها أبو عبد الرحمن _ محمد بن الحسين _ السلمي في كتابه «آداب الصحبة»: فأما معاشرة الأكابر؛ فتكون بالحرمة والخدمة والقيام بأشغالهم. وأما الأقران؛ فبالنصيحة وبذل الموجود. وأما الأصاغر؛ فبالإرشاد والتأدب. وعليه: فمهما كان وجه المعاشرة فإنه متعلق برتب لا تقوم الصحبة إلا بها، وقد ذكرها الماوردي في «أدب الدنيا والدين»: فمنها: ما يكون مكتسبًا من غير قصد واختيار بسبب المماثلة والاتفاق بين الصاحبين في أمور شتى.

ومنها: ما يكون مكتسبًا بقصد ونية بسبب الرغبة والحاجة. أما ما يكون مكتسبًا بسبب الاتفاق؛ فهي: التجانس، ثم المواصلة، ثم المؤانسة، ثم المصافاة، ثم المودة، ثم المحبة، ثم الاستحسان. 1 - فأولها: التجانس، ويراد به: مماثلة المتصاحبين ومشاكلتهم وائتلافهم في جنس أو صفة. قال الماوردي: «فإن قوي التجانس قوي الائتلاف به، وإن ضعف كان ضعيفًا ما لم تحدث علة أخرى يقوى بها الائتلاف، وإنما كان ذلك كذلك لأن الائتلاف بالتشاكل، والتشاكل بالتجانس، فإذا عدم التجانس من وجه انتفى التشاكل من وجه، ومع انتفاء التشاكل يعدم الائتلاف، فثبت أن التجانس _ وإن تنوع _ أصل الإخاء وقاعدة الائتلاف». قلت: يريد أن الحالة بين اثنين _ من جنس أو صفة _ كلما كانت شديدة المماثلة والمشاكلة فإنها باعثة على شدة الائتلاف والاتفاق بينهما، وإن كانت ضعيفةً ضعف الائتلاف بينهما. ونبه على أن ذلك ليس بقاعدة مطردة، وإنما قد تأتي المماثلة في أمر آخر غير الأمر الذي عدمت المشاكلة فيه؛ فإن

للإنسان صفات عديدةً وطباعًا مختلفةً قد تعدم المماثلة بين الاثنين في واحدة منها، إلا أنهما تجانسا في صفة أخرى غير الأولى، فتكون الصحبة والأخوة بسبب الثانية لا الأولى. ولهذا كان خلق الصاحب دليلًا على خلق صاحبه، فلولا شبه خلقهما لما تصاحبا: فقد أخرج البخاري عن عائشة _ معلقًا _، ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». نقل الحافظ ابن حجر في كتابه «فتح الباري» عن الخطابي قوله: «يحتمل أن يكون إشارةً إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد، وأن الخير من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير ذلك؛ يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر». ونقل عن ابن الجوزي قوله: «ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرةً ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضى ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه».

وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»: قال أهل العلم: أي: على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، فمن رضي دينه وخلقه خالله، ومن لا: تجنبه؛ فإن الطباع سراقة. وروى ابن أبي الدنيا في كتابه «الإخوان» عن عبد الله بن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بأخدانهم؛ فإن الرجل يخادن من يعجبه نحوه. وقال بعض الحكماء: اعرف أخاك بأخيه قبلك. وقال بعض الأدباء: يظن بالمرء ما يظن بقرينه. وقال الأوزاعي: الصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب؛ إذا لم تكن مثله شانته. ومنه قول الشاعر: وما صاحب الإنسان إلا كرقعة ... على ثوبه فليتخذه مشاكلا ولبعضهم: فلا تحتقر نفسي وأنت خليلها ... فكل امرئ يصبو إلى من يشاكل

وقال عدي بن زيد: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي ثم ذكر الماوردي أربع خصال معتبرة في إخائهم بعد المجانسة _ التي هي أصل الاتفاق _، فقال: «فالخصلة الأولى: عقل موفور يهدي إلى مراشد الأمور ... والخصلة الثانية: الدين الواقف بصاحبه على الخيرات؛ فإن تارك الدين عدو لنفسه، فكيف يرجى منه مودة غيره؟! ... والخصلة الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق مرضي الأفعال، مؤثرًا للخير آمرًا به، كارهًا للشر ناهيًا عنه؛ فإن مودة الشرير تكسب الأعداء وتفسد الأخلاق ... والخصلة الرابعة: أن يكون من كل واحد منهما ميل إلى صاحبه، ورغبة في مؤاخاته؛ فإن ذلك أوكد لحال المؤاخاة وأمد لأسباب المصافاة؛ إذ ليس كل مطلوب إليه طالبًا، ولا كل مرغوب إليه راغبًا». 2 - ثم المواصلة، وهي مرحلة ما بعد التشاكل، وقد قال بعض الحكماء: بحسن تشاكل الأخوان يلبث التواصل. وقصد بها: الاجتماع والمداومة على ذلك، وهي مرتبة نتجت من المرتبة الأولى؛ وهي: الاتفاق والائتلاف.

ولا يراد بهذه المواصلة: بلوغ المحبة والود بينهما؛ وإنما هي مرتبة يترقب بها كل منهما الآخر للتثبت من وجود الاتفاق، فلا يكون هذا إلا بالاجتماع والمواصلة. 3 - ثم المؤانسة، وهي شعور بشيء من الأمان والانبساط، فينطلق اللسان، حتى يفضي ذلك إلى الانشراح والسرور والتأنس. 4 - ثم المصافاة، ويراد بها: الإخلاص فيما سيكون من مودة وإخاء؛ قال الماوردي: «وسببها: خلوص النية». 5 - ثم المودة، قال بعض الحكماء: من جاد لك بمودته فقد جعلك عديل نفسه. قال الماوردي: «وهذه الرتبة هي أدنى الكمال في أحوال الإخاء، وما قبلها أسباب تعود إليها، فإن اقترن بها المعاضدة فهي الصداقة». قلت: يريد أن الصحبة تبدأ من هذه المرتبة _ وهي حصول المودة _، أما ما قبلها من مراتب فهي مقدمات لبلوغ هذه المودة، وأشار كذلك إلى أن هذه المرتبة قد تبلغ مبلغ الصداقة إذا كان من كل منهما للآخر النصر والعون.

6 - ثم المحبة، قال الماوردي: «وسببها: الاستحسان». وقد فرق أهل اللغة بين المودة والمحبة؛ قال أبو هلال العسكري في «الفروق اللغوية»: «والمحبة لا تقع إلا على المستقبل، وبه يظهر الفرق بين المحبة والمودة؛ لأن المودة قد تكون بمعنى التمني؛ كقولك: (أود لو قدم زيد)؛ بمعنى: (أتمنى قدومه)، ولا يجوز: (أحب لو قدم زيد)». قلت: ولعل الماوردي أراد برتبة المودة: المحبة غير المعلنة؛ فإنها تكون في أول ائتمان كل منهما للآخر، ولذلك قال: «وسببها: الثقة»؛ أي: والسبب الذي أفضى إلى هذه المودة هو الثقة بينهما، أما رتبة المحبة؛ فقد جعل سببها الاستحسان، ويريد بهذا: التعدي في كتمان هذا الحب إلى إظهاره، وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي عن المقدام بن معدي كرب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» _ والله تعالى أعلم _. والأصل في المحبة أمران: الأول: أن تكون محبته لله. والثاني: أن لا يفرط في هذه المحبة.

أما الأول؛ فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عنه، فقال: هو أن لا يحبه لطمع الدنيا. وقد جاء في ذلك أحاديث؛ منها: ما أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار». وما أخرجاه عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... » وذكر منهم: رجلين تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا. وعند مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله _ تبارك وتعالى _ يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي». وعند أحمد والترمذي، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «قال الله: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء».

ولأبي داود هذا المعنى من حديث عمر، وفيه: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها». ولمسلم من حديث أبي هريرة، أن الملك قال للذي زار أخاه: إني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه. فمما ينبغي أن تكون فيه الصحبة والمعاشرة هو: الحب من أجل حظوظ أخروية لا دنيوية: قال بلال بن سعد: أخ لك كلما لقيك ذكرك _ برؤيته _ ربك: خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارًا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع فتاويه»: «ومن أحب أحدًا لغير الله كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه؛ فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة وذهابها عنه ... وكلاهما ضرر عليه؛ قال _ تعالى _: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب}». وقال أبو حامد في «الإحياء»: «وذلك كمن يحب أستاذه وشيخه لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل،

ومقصوده من العلم والعمل هو: الفوز في الآخرة ... وكذلك من يحب تلميذه لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم ويرقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء». وأما الأمر الثاني؛ فهو عدم الإفراط في المحبة، قال الماوردي: «فإن الإفراط داع إلى التقصير». وقد روى الترمذي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحبب حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»: قال ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث»: «يعني: لا تسرف في الحب والبغض؛ فعسى أن يصير الحبيب بغيضًا والبغيض حبيبًا، فلا تكون قد أسرفت في الحب فتندم، ولا في البغض فتستحيي». ونقل المناوي في كتابه «فيض القدير» عن ابن العربي قوله: «معناه: أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن؛ فقد يعود الحبيب بغيضًا وعكسه، فإذا أمكنته من نفسك حال الحب وعاد بغيضًا كان لمعالم مضارك أجدر؛ لما اطلع منك حال الحب بما أفضيت إليه من الأسرار».

ومن ذلك: ما روي عن علي، أنه قال: ابذل لصديقك كل المروءة، ولا تبذل له كل الطمأنينة، وأعطه من نفسك كل المواساة، ولا تفض إليه بكل الأسرار. وقال بعض السلف: إياك وكره الإخوان؛ فإنه لا يؤذيك إلا من تعرف. وقال عمر بن الخطاب: لا يكن حبك كلفًا، ولا بغضك تلفًا. وقال الحسن البصري: أحبوا هونًا وأبغضوا هونًا؛ فقد أفرط قوم في حب قوم فهلكوا، وأفرط قوم في بغض قوم فهلكوا. وأنشد أحمد بن يحيى: فهونك في حب وبغض فربما ... يرى جانب من صاحب بعد جانب وأخرج الرافعي في كتابه «التدوين في أخبار قزوين» عن أبي إسحاق السبيعي، أنه قال: كان علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ يذاكر أصحابه وجلاسه في استعمال حسن الأدب بقوله: وكن معدنًا للخير واصفح عن الأذى ... فإنك راء ما عملت وسامع وأحبب إذا أحببت حبا مقاربًا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع

وأبغض إذا أبغضت بغضًا مقاربًا ... فإنك لا تدري متى الحب راجع 7 - ثم الاستحسان، فإن كان في الجمال الباطن فهو: الإعظام، وإن كان في الجمال الظاهر فهو: العشق، وقد يكون الاستحسان إعظامًا وعشقًا في آن واحد. أما ما تكون الصحبة فيه بطريق القصد والاختيار؛ فهو على وجهين: 1 - الأول: الرغبة، قال الماوردي: «فأما الرغبة؛ فهي: أن تظهر من الإنسان فضائل تبعث على إخائه، ويتوسم بجميل يدعو إلى اصطفائه، وهذه الحالة أقوى من التي بعدها لظهور الصفات المطلوبة من غير تكلف لطلبها، وإنما يخاف عليها من الاغترار بالتصنع لها، فليس كل من أظهر الخير كان من أهله، ولا كل من تخلق بالحسنى كانت من طبعه». 2 - والثاني: الحاجة؛ قال الماوردي: «وأما الفاقة؛ فهي أن يفتقر الإنسان لوحدة انفراده ومهانة وحدته إلى اصطفاء من يأنس بمؤاخاته ويثق بنصرته وموالاته».

مقامات الإخوان ومراتبهم

فصل في مقامات الإخوان ومراتبهم واعلم أن لكل صحبة طريقةً ومقامًا، وقد ذكرها السلمي في «آداب الصحبة»، وهي: الصحبة مع الله، والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحبة مع الصحابة وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والصحبة مع السلطان، والصحبة مع الأهل والولد، والصحبة مع الإخوان، والصحبة مع العلماء، والصحبة مع الوالدين. وذكر أبو عثمان _ سعيد بن إسماعيل _ الحيري شيئًا من ذلك كما أخرجه السلمي نفسه عنه في كتابه «أدب الصحبة»، ومن طريقه: البيهقي في «شعبه». فأما الصحبة مع الله؛ فبحسن الأدب ودوام الهيبة _ كما تقدم _، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، ودوام ذكره، ودرس كتابه.

وأما الصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فباتباع سنته واجتناب البدع ولزوم ظاهر العلم. وأما الصحبة مع الصحابة وأهل بيته؛ فبالترحم عليهم وحسن القول فيهم. وأما الصحبة مع السلطان؛ فبالطاعة، إلا أن يأمر بمعصية أو مخالفة سنة، والدعاء له بظهر الغيب ليصلحه الله ويصلح على يديه، والنصيحة له في جميع أموره. وأما الصحبة مع الأهل والولد؛ فبالمداراة، وحسن الخلق، وسعة النفس، وتمام الشفقة، وتعليم الأدب والسنة، وحملهم على الطاعات. وأما الصحبة مع الإخوان؛ فبدوام البشر، وبذل المعروف، ونشر المحاسن، وستر القبائح، وتعهدهم بالنفس والأموال، ومجانبة الحقد والحسد والبغي والأذى وما يكرهون من جميع الوجوه، وترك ما يعتذر منه. وأما الصحبة مع العلماء؛ فبقبول قولهم، والرجوع إليهم في النوازل. وأما الصحبة مع الوالدين؛ فبودهما بالنفس والمال،

وخدمتهما في حياتهما، وإنجاز وعدهما، والدعاء لهما في كل الأوقات ما داما في الحياة، وحفظ عهدهما بعد الممات، وإكرام أصدقائهما. وقد جعل أبو عثمان للصحبة مع الجهال مقامًا _ كما في «شعب الإيمان» _، فقال: «والصحبة مع الجهال: بالدعاء لهم والرحمة عليهم، ورؤية نعمة الله عليك أنه لم يبتلك بما ابتلاهم به». أما ما يخص مقام الصحبة مع الإخوان؛ فقد ذكر ابن الحاج في كتابه «المدخل» نقلًا عن شيخه أبي محمد أنها على ثلاث مراتب لا رابع لها. فأما الأولى؛ فهي: أن يكون صاحبك مثل أبيك، وهو أعلاهم. قال: «إذ إنه ليس للولد مع أبيه حديث في شيء؛ لقوله _ عليه الصلاة والسلام _: «أنت ومالك لأبيك»». وأما الثانية؛ فهي: أن يكون صاحبك مثل أخيك الشقيق، وهو أوسطهم. قال: «وهو أقل رتبةً من الأول؛ لأن الأخ الشقيق يقاسم أخاه في جميع الأشياء، فإن أخذ الأخ دينارًا أو درهمًا أو ثوبًا

_ أو غير ذلك _ أخذ الأخ مثله، فكذلك ... إن لبس ثوبًا كسا أخاه مثله، وإن أكل طعامًا أطعم أخاه منه أو مثله _ إلى غير ذلك _». وأما الثالثة؛ فهي: أن يكون صاحبك مثل عبدك. قال: «وهي أقل الإخوان مرتبةً، فإن عجزت عن ذلك فلا أخوة إذ ذاك _ أعني: الأخوة الخاصة بالفقراء، وأما أخوة الإسلام فهي حاصلة _». قلت: ويريد أن انخرام الأخوة المذكور لا يراد به أخوة الإسلام، وإنما هي الأخوة الخاصة بالفقراء _ من إظهار المحبة والمودة _؛ فإن معنى الأخوة قد جاء في القرآن الكريم على ضروب مختلفة كما ذكر المفسرون: فمنها: النسب، ومنه: قوله _ تعالى _: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين}. ومنها: القبيلة، ومنه: قوله _ تعالى _: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}. ومنها: الدين، ومنه: قوله _ تعالى _: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.

ومنها: المعاملة، ومنه: قوله _ تعالى _: {يَا أُخْتَ هَارُونَ}، وهذا على قول من قال بأن المعنى _ هنا _: أخته في الصلاح. ومنها: المودة والمحبة، ومنه: قوله _ تعالى _: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا}. ومنها: الصحبة، ومنه: قوله _ تعالى _: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}، ومن المفسرين من جعل الأخوة _ هنا _ أخوة الدين. ثم قال ابن الحاج معقبًا على كلامه: «أعني: أن العبد يجب عليك أن تقوم بضرورته من غذائه وكسوته وما يحتاج إليه من ضروراته في صلاح دينه ودنياه ... وقد خرج البخاري من حديث المعرور بن سويد، قال: رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألناه عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلًا، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «أعيرته بأمه؟!»، ثم قال: «إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم»».

قلت: وقد أخرج حديث المعرور بن سويد: مسلم _ أيضًا _. والخول: هم الخدم والعبيد _ ونحوهم _، والكلمة للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: «سموا بذلك؛ لأنهم يتخولون الأمور؛ أي: يصلحونها». ولا يتوهم من هذا الحديث وجوب إطعام السيد عبده مما يأكل وإلباسه مما يلبس؛ قال النووي في شرحه لـ «صحيح مسلم» معلقًا: «والأمر بإطعامهم مما يأكل السيد وإلباسهم مما يلبس: محمول على الاستحباب لا على الإيجاب، وهذا بإجماع المسلمين، وأما فعل أبي ذر في كسوة غلامه مثل كسوته فعمل بالمستحب، وإنما يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص؛ سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه، حتى لو قتر السيد على نفسه تقتيرًا خارجًا عن عادة أمثاله _ إما زهدًا أو شحا _؛ لا يحل له التقتير على المملوك وإلزامه وموافقته إلا برضاه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره». ثم علل ابن الحاج في «المدخل» _ نقلًا عن شيخه _ نفي

الأخوة بعد هذه المرتبة بقوله: «فإن تعذرت عليه هذه المرتبة الثالثة؛ فينبغي _ أو يتعين _ عليه أن لا يدعي الأخوة؛ لعجزه عن القيام بحقها؛ إذ إنه قد يشبع وأخوه جائع، وقد يلبس وأخوه عريان، فيوجب على نفسه حقا له ... فتتعمر الذمة بالحقوق لغير ضرورة شرعية، وهذا المعنى قد كثر في هذا الزمان، فإذا أحسنوا الظن بأحد من الفقراء طلبوا منه الأخوة، فإن أجابهم لما طلبوه وجبت عليهم حقوق كثيرة، ثم إنهم ينصرفون بعد الأخوة معه، ولا يرجعون إليه غالبًا بعد ذلك، ولا يعرفون كيف حاله أبات جائعًا أم لا أو هو عريان أم لا، وقد يكون منهم من يتفقده لكن بالرؤية والسؤال _ ليس إلا _، دون إعانة ومشاركة، فشغلوا ذمتهم بشيء كانوا في غنًى عن ترتبه فيها، ألا ترى أن العبد إذا لم يقدر السيد على نفقته وكسوته أمره الشرع ببيعه، فالبيع في حق العبد مقابله في حق الأخ؛ فإنك إذا عجزت عن المرتبة الثالثة نزلت أخاك منزلة بيع العبد عند العجز ... فينبغي أن تكون المؤاخاة على هذا الأسلوب ... فإن لم تكن لك قدرة فلا تدعيها؛ إذ إن من ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان». ومما جاء في مراتب الأصحاب: قيل: منهم من هو كالغذاء الذي يمسك رمقك، ولا بد

لك منه على كل حال؛ لأنه قوام حياتك وزينة دهرك، ومنهم من هو كالدواء يحتاج إليه في الحين بعد الحين على مقدار محدود، ومنهم من هو كالسهم الذي لا ينبغي أن تقربه؛ فإنه سبب هلكتك. وقيل: الإخوان كالسلاح، فمنهم من يجب أن يكون كالرمح يطعن به من بعيد، ومنهم كالسهم يرمى به ولا يعود إليك، ومنهم كالسيف الذي لا ينبغي أن يفارقك. وكذلك روي عن المأمون أنه قال: الإخوان على ثلاث طبقات: كالغذاء؛ لا يستغنى عنهم أبدًا، وهم إخوان الصفاء، وإخوان كالدواء؛ يحتاج إليهم في بعض الأوقات، وهم الفقهاء، وإخوان كالداء؛ لا يحتاج إليهم أبدًا، وهم أهل الملق والنفاق، لا خير فيهم. وفي معناه: ما نقله ابن الحاج عن أبي عبد الرحمن الصقلي أنه قال: «الإخوان أربعة: أخ كالدواء، وأخ كالغذاء، وأخ كالداء، وأخ كالدفلى، فالأول معدوم، والثاني مفقود، والثالث موجود، والرابع مشهود». قال معقبًا: «أما الأول الذي هو كالدواء فهو مثل

المشايخ ... وكالصلحاء والعلماء، فهم قدوة للمقتدين ... وأما الذي هو كالغذاء فهو مثل الأخ في الله _ تعالى _، المشفق الودود الحنون، الذي يؤلمه ما يؤلمك، ويسره ما يسرك، ويجوع نفسه لجوعك، ويتعرى لعريك، ويكابد ما نزل بك أكثر من مكابدة ما نزل به، وأنت ترى فقده في هذا الزمان، لكن بين الفقد والعدم فرق، وهو أن المعدوم لا يوجد ألبتة، والمفقود قد يوجد في موضع ما ... وأما القسم الثالث ... _ وهو قوله: (والثالث موجود) _؛ فلا شك أنك إذا خالطت كثيرًا من الناس في هذا الزمان أو عاشرتهم بملابسة ما؛ تجد من كثير منهم الأذية البالغة؛ إما في دينك أو دنياك أو عرضك، وهذا هو الداء الذي لا شك فيه، فإن أنت خالطته وجدت ما ذكره، وأما القسم الرابع الذي قال عنه: (إنه مشهود)؛ فلا شك في مباشرة ذلك في هذا الزمان؛ ألا ترى أنك إذا تكلمت مع أحد منهم في صلاح دينه في شيء ما قابلك بانزعاج وخلق سيئ، وأقل جوابه: أن يقول لك: (ما حقرت في الناس إلا أنا حتى تأمرني وتنهاني!)، أو يتسلط عليك ببذاءة لسانه وينظر لك عورات يظهرها أو حسنات يخفيها أو يردها سيئات، وهذا فيه من المرارة بحيث المنتهى، كما هي الدفلى إذا تناولت منها شيئًا، وقد يفضي ذلك

إلى العدم؛ إذ قيل: (إنها سم)، فيتعين عليك أن تفر ممن هذه صفته، فالعاقل اللبيب من شمر عن ساعديه، وبالغ في الفحص عن القسمين الأولين ... فإن عدمهما فيتعين عليه الخلوة والاعتزال إن أراد السلامة ... ».

فيمن لا ترجى عشرته من الأشرار، ومن تؤثر صحبته من الأخيار

فصل فيمن لا ترجى عشرته من الأشرار، ومن تؤثر صحبته من الأخيار واعلم أن لأهل الفضل _ ممن تبتغى صحبتهم _ خصالًا لا يتحلى بها إلا قلة من الناس، وقد جعل أهل العلم لاختيار الصاحب ضابطًا: قال السفاريني في كتابه «غذاء الألباب»: «كل من لم تستفد من صحبته شيئًا فتركه أولى، وكل من تضرك صحبته في دينك فتركه واجب، وكذا في دنياك ضررًا له قيمة حيث كان لك منه بد، ودفع المضار مقدم على جلب المنافع، ويدفع أشد الضررين بأخفهما». قلت: ولهذا ورد عن طائفة من السلف وأهل الحكمة الأنفة من استكثار الأصحاب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في معناه:

فقد أخرج البخاري عن ابن عمر، أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وأخرجه الخطابي في كتابه «العزلة»، وبوب عليه بقوله: «باب في ترك الاستكثار من الأصدقاء وما يستحب من قلة الالتقاء». أما ما جاء عن السلف وغيرهم: فقد روى الخطابي _ أيضًا _ عن عمرو بن العاص أنه قال: «إذا كثر الأخلاء كثر الغرماء». وعن سفيان، قال: «كثرة أصدقاء المرء من سخافة دينه»؛ قال الخطابي: «يريد أنه ما لم يداهنهم ولم يحابهم لم يكثروا؛ لأن الكثرة إنما هي في أهل الريبة، وإذا كان الرجل صلب الدين لم يصحب إلا الأبرار والأتقياء _ وفيهم قلة _». وعن الناشي، قال: الاستكثار من الإخوان وسيلة الهجران. قال الخطابي: «يريد: أنهم إذا كثروا كثرت حقوقهم، فلم يسعهم برك، فإذا تأخرت عن حقوقهم استبطأوك فهجروك وعادوك».

وقال جعفر الصادق لبعض إخوانه: أقلل من معرفة الناس، وأنكر من عرفت منهم، وإن كان لك مئة صديق فاطرح تسعةً وتسعين، وكن من الواحد على حذر. وقال محمد بن يوسف الفريابي: قلت للثوري: إني أريد الشام، فأوصني، قال: إن قدرت أن تنكر كل من تعرف فافعل، وإن استطعت أن تستفيد مئة أخ حتى إذا خلصوا لك تسقط منهم تسعةً وتسعين وتكون في الواحد شاكا فافعل. وقال جعفر بن يحيى لأحدهم: كم لك من صديق؟ قال: صديقان، قال: إنك لمكثر من الأصدقاء. وقال إبراهيم بن العباس الصولي: مثل الإخوان كالنار؛ قليلها متاع، وكثيرها بوار. وقيل: المستكثر من الإخوان من غير اختيار كالمستوفر من الحجارة، والمقل من الإخوان المتخير لهم كالذي يتخير الجوهر. وقال بعض البلغاء: ليكن غرضك في اتخاذ الإخوان واصطناع النصحاء: تكثير العدة لا تكثير العدة، وتحصيل النفع لا تحصيل الجمع، فواحد يحصل به المراد خير من ألف تكثر الأعداد.

وقد قال في ذلك الشاعر: لكل امرئ شكل من الناس مثله ... فأكثرهم شكلًا أقلهم عقلا وكل أناس آلفون لشكلهم ... فأكثرهم عقلًا أقلهم شكلا لأن كثير العقل لست بواجد ... له في طريق حين يسلكه مثلا وكل سفيه طائش إن فقدته ... وجدت له في كل ناحية عدلا وقال ابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر»: «رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء، فبحثت بالتجارب عنهم، فإذا أكثرهم حساد على النعم، وأعداء لا يسترون زلةً، ولا يعرفون لجليس حقا، ولا يواسون من مالهم صديقًا، فتأملت الأمر، فإذا الحق _ سبحانه _ يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئًا يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها ليكون أنسه به، فينبغي أن تعد الخلق كلهم معارف، ولا تظهر سرك لمخلوق منهم ... بل عاملهم بالظاهر، ولا تخالطهم إلا حالة الضرورة وبالتوقي لحظةً، ثم انفر عنهم، وأقبل على شأنك متوكلًا على خالقك؛ فإنه لا يجلب الخير سواه، ولا يصرف السوء إلا إياه». وقد جاء عن بعضهم أن الصحبة قد انخرمت في زمانهم؛ منها: ما روي عن وهيب بن الورد أنه قال: صحبت الناس

خمسين سنةً، فما وجدت رجلًا غفر لي زلةً، ولا أقالني عثرةً، ولا ستر لي عورةً. وروى ابن أبي الدنيا في كتابه «مداراة الناس» عن حفص بن حميد الأكاف، أنه قال: «جربت الناس منذ خمسين سنةً، فما وجدت أخًا لي ستر عورةً، ولا غفر لي ذنبًا فيما بيني وبينه، ولا وصلني إذا قطعته، ولا أمنته إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حمق كبير، كلما أصبحت تقول: (أتخذ اليوم صديقًا)، ثم تنظر ما يرضيه عنك: أي هدية؟! أي تسليم؟! أي دعوة؟! فأنت _ أبدًا _ مشغول». وقال مالك بن دينار: إخوة هذا الزمان مثل مرقة الطباخ في السوق؛ طيب الريح، لا طعم له. وقال ابن الجوزي: «نسخ في هذا الزمان رسم الأخوة وحكمه، فلم يبق إلا الحديث عن القدماء، فإن سمعت بإخوان صدق فلا تصدق». وقال _ أيضًا _: «وجمهور الناس _ اليوم _ معارف، ويندر منهم صديق في الظاهر، وأما الأخوة والمصافاة؛ فذلك شيء نسخ، فلا تطمع فيه، وما أرى الإنسان يصفو له أخوه من النسب

ولا ولده ولا زوجته، فدع الطمع في الصفاء، وخذ عن الكل جانبًا، وعاملهم معاملة الغرباء، وإياك أن تخدع بمن يظهر لك الود؛ فإنه مع الزمان يبين لك الخلل فيما أظهره، وقد قال الفضيل: (إذا أردت أن تصادق صديقًا فأغضبه، فإن رأيته كما ينبغي فصادقه)، وهذا _ اليوم _ مخاطرة؛ لأنك إذا أغضبت أحدًا صار عدوا في الحال، والسبب في نسخ حكم الصفاء: أن السلف كانت همتهم الآخرة وحدها، فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة، فكانت دينًا لا دنيا، والآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب». وقيل لرويم بن أحمد: ما الذي أقعدك عن طلب الصديق؟ قال: يأسي من وجدانه. وقيل لأعرابي: ألك صديق؟ قال: أما صديق فلا، ولكن نصف صديق، قيل: كيف انتفاعك به؟ قال: انتفاع العريان بالثوب البالي. وقيل لبعضهم: ما الصديق؟ قال: اسم وضع على غير مسمى، وحيوان غير موجود. وقيل لبعضهم: ما معنى الصديق؟ قال: لفظ بلا معنًى.

وقيل لأحدهم: من أطول الناس سفرًا؟ قال: من سافر في طلب صديق. وحكي عن أحدهم أنه كتب على باب داره: جزى الله من لم نعرفه ولم يعرفنا خيرًا؛ فإننا ما أوتينا من نكبتنا هذه إلا من المعارف. وقال البحتري: إياك تغتر أو تخدعك بارقة ... من ذي خداع يري بشرًا وإلطافا فلو قلبت جميع الأرض قاطبةً ... وسرت في الأرض أوساطًا وأطرافا لم تلق فيها صديقًا صادقًا أبدًا ... ولا أخًا يبذل الإنصاف إن صافى وقال آخر: خليلي جربت الزمان وأهله ... فما نالني منهم سوى الهم والعنا وعاشرت أبناء الرجال فلم أجد ... خليلًا وفيا بالعهود ولا أنا وقال أبو العباس الناشي: سمعنا بالصديق ولا نراه ... على التحقيق يوجد في الأنام وأحسبه محالًا نمقوه ... على وجه المجاز من الكلام وقال صفي الدين الحلي: لما رأيت بني الزمان وما بهم ... خل وفي للشدائد أصطفي

أيقنت أن المستحيل ثلاثة ... الغول والعنقاء والخل الوفي قال السفاريني في «غذاء الألباب» معلقًا: «فإذا كان هذا كلام من كان في أوائل الإسلام أو في أوساطه، وقد مضى بعده أكثر من خمس مئة عام، وقد زعموا أن رسم الأخوة قد نسخ، وعقد الصداقة قد فسخ، فما بالك بزمان وفاؤه غدر، وخيره شر، ونفعه ضر، وصدقه كذب، وحسنته ذنب، وصديقه خائن، وصادقه مائن، وخليله غادر، وناسكه فاجر، وعالمه جاهل، وعاذره عاذل، وقد صارت صلاة أهل زماننا عادةً لا عبادةً، وزكاتهم مغرمًا يغرمونها، لا يرجون من عودها إفادةً، وصيامهم كجوع البهائم، وذكرهم كرغاء البعير الهائم، فأين هذه الحالة من حالة من يتضجر لعدم وفاء إخوانه وأقرانه وأخدانه؟!». وأقول معقبًا على كلام السفاريني: فإذا كان هذا كلام من كان في أوائل الإسلام أو في أوساطه، وقد مضى على كلام السفاريني أكثر من مئتي عام، وقد زعموا أن رسم الأخوة قد نسخ، وعقد الصداقة قد فسخ، فما بالنا بزماننا؟! أما خصال من لا ترجى عشرته؛ فقد ذكر ابن مفلح في كتابه «الآداب الشرعية» نقلًا عن الخلال في «الأدب»، عن

علي بن الحسين، أنه قال: «ينبغي للمرء أن لا يصاحب خمسةً: الماجن، والكذاب، والأحمق، والبخيل، والجبان، فأما الماجن فعيب إن دخل عليك، وعيب إن خرج من عندك، لا يعين على معاد، ويتمنى أنك مثله، وأما الكذاب فإنه ينقل حديث هؤلاء إلى هؤلاء، ويلقي الشحنة في الصدور، وأما الأحمق فإنه لا يرشد لسوء يصرفه عنك، وربما أراد أن ينفعك فيضرك، فبعده خير من قربه، وموته خير من حياته، وأما البخيل فأحوج ما تكون إليه: أبعد ما تكون منه، ففي أشد حالاته يهرب ويدعك». ثم قال ابن مفلح: «ورواه القاضي المعافى بن زكريا _ وغيره _ بنحوه ومعناه، إلا أنهم لم يذكروا الماجن والجبان، وذكروا الفاسق، قال: «فإنه بائعك بأكلة أو أقل منها للطمع فيها، ثم لا ينالها»، وقاطع رحمه؛ لأنه ملعون في كتاب الله في (البقرة) و (الرعد) و (الذين كفروا ... )». وقال ابن المقفع في «الأدب الكبير»: «إذا نظرت في حال من ترتاد لإخائك؛ فإن كان من إخوان الدين فليكن فقيهًا غير مراء ولا حريص، وإن كان من إخوان الدنيا فليكن حرا ليس بجاهل ولا كذاب ولا شرير ولا مشنوع؛ فإن الجاهل أهل أن يهرب منه أبواه، وإن الكذاب لا يكون أخًا صادقًا؛ لأن الكذب

الذي يجري على لسانه إنما هو من فضول كذب قلبه ... وإن الشرير يكسبك الأعداء، ولا حاجة لك في صداقة تجلب لك العداوة، وإن المشنوع شانع صاحبه». وأما خصال من تؤثر صحبته؛ فقد ذكرها أبو حامد في «إحيائه» بقوله: «أن يكون عاقلًا، حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا». فأما العاقل؛ فقال: «فهو رأس المال، وهو الأصل، فلا خير في صحبة الأحمق؛ فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها». وقال الماوردي: «فإن الحمق لا تثبت معه مودة، ولا تدوم لصاحبه استقامة ... وقال بعض الحكماء: عداوة العاقل أقل ضررًا من مودة الأحمق؛ لأن الأحمق ربما ضر وهو يقدر أن ينفع، والعاقل لا يتجاوز الحد في مضرته، فمضرته لها حد يقف عليه العقل، ومضرة الجاهل ليست بذات حد ... وقال بعض الأدباء: من أشار عليك باصطناع جاهل أو عاجز لم يخل أن يكون صديقًا جاهلًا أو عدوا عاقلًا؛ لأنه يشير بما يضرك ويحتال فيما يضع منك». وقد جاء عن الحسن البصري، أنه قال: «صلة العاقل:

إقامة لدين الله، وهجران الأحمق: قربة إلى الله، وإكرام المؤمن: خدمة لله وتواضع له». وقال المنصور للمسيب بن زهير: ما مادة العقل؟ فقال: مجالسة العقلاء. وقال بعض البلغاء: من الجهل: صحبة ذوي الجهل، ومن المحال: مجادلة ذوي المحال. وقال بعض العلماء: التمس ود الرجل العاقل في كل حين، وود الرجل ذي النكر في بعض الأحايين، ولا تلتمس ود الرجل الجاهل في حين. وقال ابن المقفع في «الأدب الصغير»: «لا يؤمننك شر الجاهل قرابة ولا جوار ولا إلف ... إن جاورك أنصبك، وإن ناسبك جنى عليك، وإن ألفك حمل عليك ما لا تطيق، وإن عاشرك آذاك وأخافك ... فأنت بالهرب منه أحق منك بالهرب من سم الأساود والحريق المخوف والدين الفادح والداء العياء». ولبعضهم: ولئن يعادي عاقلًا خير له ... من أن يكون له صديق أحمق فاربأ بنفسك لا تصادق أحمقًا ... إن الصديق على الصدوق مصدق

وقال ربيعة بن عامر الدارمي _ المعروف بالمسكين _: اتق الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق كلما رقعت منه جانبًا ... حركته الريح وهنًا فانخرق وقال آخر: تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل فإني رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان دون اليوم يسعد بالعقل وقال آخر: إذا ما كنت متخذًا خليلًا ... فلا تثقن بكل أخي إخاء فإن خيرت بينهم فألصق ... بأهل العقل منهم والحياء فإن العقل ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء وقال سراقة البارقي: مجالسة السفيه سفاه رأي ... ومن عقل مجالسة الحكيم فإنك والقرين معًا سواء ... كما قد الأديم من الأديم وأما حسن الخلق؛ فقد نبه أبو حامد إلى أنه لا يكتفى بالعقل دونه، وقال: «إذ رب عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه، ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع

هواه، وخالف ما هو المعلوم عنده؛ لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه، فلا خير في صحبته». وأما الفاسق؛ فلا فائدة في صحبته؛ معللًا ذلك بقوله: «لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته، ولا يوثق بصداقته؛ بل يتغير بتغير الأغراض، وقال _ تعالى _: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، وقال _ تعالى _: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}، وقال _ تعالى _: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، وقال: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق». وأما المبتدع؛ فقال: «ففي صحبته خطر سراية البدعة، وتعدي شؤمها إليه، فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة، فكيف تؤثر صحبته؟!». قلت: وقد جاء عن أهل السنة النهي عن مجالسة أهل البدع ومخالطتهم: فقد ذكر ابن أبي يعلى في كتابه «طبقات الحنابلة» أن الإمام

أحمد بن حنبل قال في رسالته إلى مسدد بن مسرهد: «ولا تشاور أحدًا من أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفرك». وقال الإمام أبو محمد _ الحسن بن علي _ البربهاري في كتابه «شرح السنة»: «وإذا رأيت الرجل رديء الطريق والمذهب، فاسقًا فاجرًا، صاحب معاص، ظالمًا، وهو من أهل السنة؛ فاصحبه، واجلس معه؛ فإنك لن تضرك معصيته، وإذا رأيت عابدًا، مجتهدًا، متقشفًا، متحزقًا بالعبادة، صاحب هوًى؛ فلا تجلس معه، ولا تسمع كلامه، ولا تمش معه في طريق؛ فإني لا آمن أن تستحلي طريقته فتهلك معه». ونقل ابن مفلح في كتابيه «الفروع» و «الآداب الشرعية» عن أبي الفرج الشيرازي في كتاب «التبصرة» له، أن الإمام أحمد بن حنبل قال: «وإذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أصحاب البدع فايأس منه؛ فإن الشاب على أول نشوئه». ونقل في «الآداب الشرعية» عن ابن الجوزي أنه قال في كتابه «السر المكتوم» لما ذكر المعتزلة والفلاسفة _ وغيرهم _: «الله الله من مصاحبة هؤلاء، ويجب منع الصبيان من مخالطتهم؛

لئلا يثبت في قلوبهم من ذلك شيء، وأشغلوهم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعجن بها طبائعهم». وأما الحريص على الدنيا؛ فقد نبه أبو حامد إلى خطر صحبته بقوله: «فصحبته سم قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء؛ بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا، فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا، وتستحب صحبة الراغبين في الآخرة». وذكر ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» عند ترجمته لأبيه القاضي أبي يعلى، أن أبا الحسن _ علي بن المبارك _ النهري قال عنه: وكان ينهانا دائمًا عن مخالطة أبناء الدنيا والنظر إليهم والاجتماع بهم، ويأمرنا بالاشتغال بالعلم ومخالطة الصالحين. وذكر _ أيضًا _ عن خاله أبي محمد عبد الله بن جابر بن ياسين، عن القاضي أبي يعلى _ والد المصنف _، أن شيخه إبراهيم الحربي استزاره المعتضد، وقربه، وأجازه، فرد جائزته، فقال له المعتضد: اكتم مجلسنا، ولا تخبر بما فعلنا بك وبما قابلتنا به، فقال له الحربي: لي إخوان لو علموا باجتماعي معك لهجروني.

ومما ذكر ابن عبد البر في كتابه «بهجة المجالس» عن أبي العباس أحمد بن يحيى الشيباني، أنه أنشد: إن صحبنا الملوك تاهوا وعقوا ... واستخفوا كبرًا بحق الجليس أو صحبنا التجار صرنا إلى البؤس ... وعدنا إلى عداد الفلوس فلزمنا البيوت نستخرج العلم ... ونملا به بطون الطروس قلت: ولا يراد بما ذكر: قطع كل صلة بكل مخالف وفاسق؛ فقد يخالط ويدارى لحضه على الخير أو لاجتناب شره، إلا أن هذه المخالطة والمداراة لا يحسن من فاعلها أن تبلغ مبلغ الصحبة الصرفة، وإنما هي لإيثار مصلحة أو دفع مفسدة. أما إيثار المصلحة؛ فبمعاشرته بحسن الخلق ومداراته بحنكة، فيبعث ذلك على ترقق قلبه، ويحفزه على التأسي بأهل الفضل وترك قبيح الأفعال. وقد روي عن علي أنه قال: «خالط المؤمن بقلبك، والفاجر بخلقك». وروي عن عبد الله بن جعفر أنه قال: «كمال الرجل بخلال ثلاث: معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس

بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة، فذو الثلاثة سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث؛ لم يسلم له صديق، ولم يتحنن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق». ونقل ابن مفلح في «الآداب الشرعية» عن ابن الجوزي قوله: «العاقل: من لم يثق بأحد ولم يسكن إلى مخلوق، ومع هذا فالمباينة للكل لا تصلح؛ إذ لا بد منهم، وإنما تبتغى المداراة لا المودة، والمسايرة بالأحوال لا المجاهرة، وكتمان الأمور من الخلق كلهم مهما أمكن _ الأقارب والأباعد _، والنظر للنفس في مصالحها». وأما دفع المفسدة؛ فباتقاء شره وفحشه وتجنب عداوته؛ فإن العداوة قد تفضي إلى التظالم، وكان أبو العباس السفاح إذا تعادى اثنان من أهل بطانته لا يسمع من أحدهما في صاحبه شيئًا وإن كان عدلًا، ويقول: العداوة تزيل العدالة. وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ائذنوا له؛ بئس أخو العشيرة _ أو ابن العشيرة _»، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله!

قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام! قال: «أي عائشة! إن شر الناس: من تركه الناس _ أو ودعه الناس _ اتقاء فحشه». قال النووي في شرحه لـ «صحيح مسلم»: «وفي هذا الحديث مداراة من يتقى فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه ... ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه؛ إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام». وقال الماوردي: «فإن أغفل تألف الأعداء مع وفور النعمة وظهور الحسدة توالى عليه مكر حليمهم وبادرة سفيههم ... وليس ينبغي أن يكون لهم راكنًا، وبهم واثقًا؛ بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز؛ فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعًا لا يستحيل، وجبلةً لا تزول، وإنما يستكفى بالتألف إظهارها، وتستدفع به أضرارها؛ كالنار يستدفع بالماء إحراقها ويستفاد به إنضاجها وإن كانت محرقةً بطبع لا يزول وجوهر لا يتغير». قلت: ويريد بهذا المثل قول ابن نباتة السعدي الذي ذكره بعد كلامه: وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزج له إن المزاج وفاق

فالنار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق وقال بعض الحكماء: من علامة الإقبال: اصطناع الرجال. وقال الحسن: لا تشتر مودة ألف بعداوة واحد. وقال بعض البلغاء: من استصلح عدوه زاد في عدده، ومن استفسد صديقه نقص من عدده. وقال بعض الأدباء: العجب ممن يطرح عاقلًا كافيًا لما يضمره من عداوته، ويصطنع عاجزًا جاهلًا لما يظهره من محبته، وهو قادر على استصلاح من يعاديه بحسن صنائعه وأياديه. وقيل لعبد الملك بن مروان: ما أفدت في ملكك هذا؟ قال: مودة الرجال. وروي عن سليمان بن داود، أنه قال لابنه: لا تستكثر أن يكون لك ألف صديق؛ فالألف قليل، ولا تستقل أن يكون لك عدو واحد؛ فالواحد كثير. وفي هذا المعنى: تكثر من الإخوان ما اسطعت ... إنهم بطون إذا استنجدتهم وظهور

وما بكثير ألف خل لعاقل ... وإن عدوا واحدًا لكثير وأنشد صلاءة بن عمرو _ المعروف بالأفوه الأودي _: بلوت الناس قرنًا بعد قرن ... فلم أر غير ختال وقالي وذقت مرارة الأشياء طرا ... فما طعم أمر من السؤال ولم أر في الخطوب أشد هولًا ... وأصعب من معاداة الرجال وقال القاضي التنوخي: الق العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودات الرفق يمن وخير القول أصدقه ... وكثرة المزح مفتاح العداوات ولبعضهم: لما عفوت ولم أحقد على أحد ... أرحت نفسي من هم العداوات إني أحيي عدوي عند رؤيته ... لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنما قد حشى قلبي محبات الناس داء دواء الناس قربهم ... وفي اعتزالهم قطع المودات ومن ثمار ما ذكر من خصال حسنة _ من عقل وحسن خلق وحرص على السنة وزهد في الدنيا _: الصدق في المشورة.

ففي اجتماع هذه الخصال تنشأ الحكمة ويصيب القول ويسدد الرأي، فبها ينتفع مجالس أهل الفضل، وذلك بأن يرشدوه إلى ما هو خير له بأمانة وصدق. وكان يقال: لا تدخل في رأيك بخيلًا فيقصر فعلك، ولا جبانًا فيخوفك ما لا يخاف، ولا حريصًا فيبعدك عما لا يرجى. وقال بعض الحكماء: نصف رأيك مع أخيك، فشاوره ليكمل لك الرأي. وقال بعض البلغاء: إذا أشكلت عليك الأمور وتغير لك الجمهور؛ فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة العلماء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد، فلأن تسأل وتسلم خير لك من أن تستبد وتندم. وقيل: استشر عدوك العاقل، ولا تستشر صديقك الأحمق؛ فإن العاقل يتقي على رأيه الزلل كما يتقي الورع على دينه الحرج. وقد ذكر الماوردي خمس خصال لأهل المشورة: الخصلة الأولى: عقل كامل مع تجربة سالفة. قال: «فإنه بكثرة التجارب تصح الروية».

والخصلة الثانية: أن يكون ذا دين وتقًى. قال: «فإن ذلك عماد كل صلاح وباب كل نجاح». والخصلة الثالثة: أن يكون ناصحًا ودودًا. قال: «فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحضان الرأي». وقال بعض السلف: ضربة الناصح خير لك من تحية الشانئ. وقال أعرابي: نصح الصديق تأديب، ونصح العدو تأنيب. والخصلة الرابعة: أن يكون سليم الفكر من هم قاطع وغم شاغل. قال: «فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر». والخصلة الخامسة: أن لا يكون له في الأمر المستشار غرض يتابعه ولا هوًى يساعده. قال: «فإن الأغراض جاذبة والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد».

ومن منثور الأخبار والأشعار فيمن تؤثر صحبته ومن لا ترجى عشرته: ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: عليك بإخوان الصدق، فعش في أكنافهم؛ فإنهم زين في الرخاء، وعدة في البلاء. وقالت الحكماء: اعرف الرجل من فعله لا من كلامه، واعرف محبته من عينه لا من لسانه. وقال بعض البلغاء: مصارمة قبل اختبار أفضل من مؤاخاة على اغترار. وقال بعض الحكماء: اصطف من الإخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب؛ فإنه ردء لك عند حاجتك، ويد عند نائبتك، وأنس عند وحشتك، وزين عند عافيتك. وقال جعفر بن محمد لابنه: يا بني! من غضب من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءًا فاتخذه لنفسك خلا. وروي أن رجلًا قال لابنه: أي بني! لا تؤاخ أحدًا حتى تعرف موارد أموره ومصادرها، فإذا استطبت منه الخبر ورضيت منه العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة عند العسرة.

وقال عبد الله بن المعتز: إخوان الشر كشجر النارنج يحرق بعضها بعضًا. وقال بعض الحكماء: مخالطة الأشرار على خطر، والصبر على صحبتهم كركوب البحر الذي من سلم منه ببدنه من التلف فيه لم يسلم بقلبه من الحذر منه. وقال رجل لداود الطائي: أوصني، قال: اصحب أهل التقوى؛ فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤنةً، وأكثرهم لك معونةً. وقال بعض البلغاء: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار. وقال علي: شر الأصدقاء من أحوجك إلى المداراة، وألجأك إلى الاعتذار. وروي عنه أنه قال: شر الإخوان: من تكلف له، وخيرهم: من أحدثت لك رؤيته ثقةً به، وأهدت إليك غيبته طمأنينةً إليه. وقيل في منثور الحكم: لا تغترن بمقاربة العدو؛ فإنه كالماء وإن أطيل إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها. وكان علي بن أبي طالب يقول: اللهم إني أعوذ بك ممن

لا يلتمس خالص مودتي إلا بموافقة شهوتي، وممن ساعدني على سرور ساعتي ولا يفكر في حوادث غدي. وقال بعض البلغاء: ما ودك من أهمل ودك، ولا أحبك من أبغض حبك. وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من يكتم ويستر عيبك، ويكون معك في النوائب، ويؤثرك في الرغائب، وينشر حسنتك، ويطوي سيئتك، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك. وقيل لأعرابي: من أكرم الناس عشرةً؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضويق سمح، فمن ظفر به فقد أفلح وأنجح. وقال موسى بن جعفر: اتق العدو، وكن من الصديق على حذر؛ فإن القلوب إنما سميت قلوبًا لتقلبها. وقيل لابن السماك _ محمد بن صبيح _: أي الإخوان أحق بإبقاء المودة؟ قال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله.

وقيل لخالد بن صفوان التميمي المنقري: أي إخوانك أحب إليك؟ قال: الذي يسد خلتي، ويغفر زلتي، ويقيل عثرتي. وروي عنه _ أيضًا _ أنه قال: اصحب من ينسى معروفه عندك، ويذكر حقوقك عليه. وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: يا عبد الملك! كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك. وقال عمر بن عبد العزيز: لا تودن عاقا، كيف يودك وقد عق أباه؟! وكذا قاطع الرحم. وقيل: اصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أصابتك خصاصة مانك، وإن رأى منك حسنةً سر بها، وإن رأى منك سقطةً سترها، ومن إذا قلت صدق قولك، ومن هو فوقك في الدين ودونك في الدنيا. وكل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيرًا فانبذ عنك صحبته. وأوصى رجل ابنه، فقال: يا بني! اصحب من إذا غبت

عنه خلفك، وإن حضرت كنفك، وإن لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كفه عنك. وقيل: شر الإخوان من كانت مودته مع الزمان إذا أقبل، فإذا أدبر الزمان أدبر عنك. وفي هذا المعنى قال الشاعر: شر الأخلاء من كانت مودته ... مع الزمان إذا ما خاف أو رغبا إذا وترت امرأً فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا إن العدو وإن أبدى مسالمةً ... إذا رأى منك يومًا فرصةً وثبا وقال بعض الشعراء: لا تحمدن امرأً حتى تجربه ... ولا تذمنه من غير تجريب فحمدك المرء ما لم تبله خطأ ... وذمه بعد حمد شر تكذيب ولبعضهم: إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي وقال بعض الشعراء: وكل أخ عند الهوينا ملاطف ... ولكنما الإخوان عند الشدائد

وقال يزيد بن الحكم الثقفي: تكاشرني كرهًا كأنك ناصح ... وعينك تبدي أن صدرك لي دوي لسانك ماذي ونفسك علقم ... وشرك مبسوط وخيرك ملتوي فليت كفافًا كان خيرك كله ... وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي وقال السيوطي: إني عزمت وما عزمي بمنجزم ... ما لم تساعده ألطاف من الباري أن لا أصاحب إلا من خبرتهم ... دهرًا مديدًا وأزمانًا بأسفار ولا أجالس إلا عالمًا فطنًا ... أو صالحًا أو صديقًا لا بإكثار ولبعضهم: احذر مودة ماذق ... مزج المرارة بالحلاوه يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوه وقال آخر: فصاحب تقيا عالمًا تنتفع به ... فصحبة أهل الخير ترجى وتطلب وإياك والفساق لا تصحبنهم ... فقربهم يعدي وهذا مجرب من الإلف ثم الشر للناس أغلب فإنا رأينا المرء يسرق طبعه كما قيل طين لاصق أو مؤثر ... كذا دود مرج خضرةً منه يكسب

وجانب ذوي الأوزار لا تقربنهم ... فقربهم يردي وللعرض يسلب وقال حسان بن ثابت: أخلاء الرخاء هم كثير ... ولكن في البلاء هم قليل فلا يغررك خلة من تؤاخي ... فما لك عند نائبة خليل وكل أخ يقول أنا وفي ... ولكن ليس يفعل ما يقول سوى خل له حسب ودين ... فذاك لما يقول هو الفعول وقال حماد بن يحيى: كم من أخ لك ليس تنكره ... ما دمت في دنياك في يسر متصنع لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشر فإذا عدا والدهر ذو غير ... دهر عليك عدا مع الدهر فارفض بإجمال مودة من ... يقلي المقل ويعشق المثري وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إما كنت واليسر

حقوق الصحبة وآدابها ظاهرا وباطنا

فصل في حقوق الصحبة وآدابها ظاهرًا وباطنًا واعلم أن لقوام الصحبة حقوقًا، فبقدر تأديتها أو الإخلال بها: تدوم الأخوة أو تنخرم. وكانت الحكماء تقول: إن مما يجب للأخ على أخيه: مودته بقلبه، وتزيينه بلسانه، ورفده بماله، وتقويمه بأدبه، وحسن الذب والمدافعة عنه في غيبته. وقد جمع هذه الحقوق أبو حامد في «إحيائه»، وهي: الإخلاص والوفاء، والإعانة، وحفظ اللسان بالسكوت عن المكاره وإطلاقه بالنطق بالمحاب، والعفو عن الزلات، والتخفيف عليه، وإخبار صاحبه بمحبته له، والدعاء له. أما الإخلاص والوفاء؛ فقال: «ومعنى الوفاء: الثبات على الحق، وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع أولاده

وأصدقائه؛ فإن الحب إنما يراد للآخرة ... فمن الوفاء للأخ: مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به، ومراعاتهم أوقع في قلب الصديق من مراعاة الأخ في نفسه؛ فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر». قلت: ومن الإخلاص والوفاء: أن لا يعاشر صاحبه بالمكر والخديعة، وقد قيل: من عاشر الإخوان بالمكر كافؤوه بالغدر. ومنه أيضًا: أن لا يقبل في صاحبه مقالة سوء من عدو. قال الخليل بن أحمد: من نم لك نم عليك، ومن أخبرك خبر غيرك أخبره بخبرك. ومن جميل ما ذكر في ذلك: ما روي أن رجلًا جاء إلى مطيع بن إياس، فقال: قد جئتك خاطبًا، قال: لمن؟ قال: لمودتك، قال: قد أنكحتها، وجعلت الصداق: أن لا تقبل في مقالة قائل. فأما الإعانة؛ فببذل المال والنفس لصاحبه عند حاجته وافتقاره. قال مجاهد: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه، فكان يخدمني أكثر.

وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ابن عمر قوله: لقد رأيتنا وما الرجل المسلم بأحق بديناره ولا درهمه من أخيه المسلم. وقال ابن الجوزي: وكان الرجل إذا أراد شين أخيه طلب حاجته إلى غيره. وقال ابن المقفع في كتابه «الأدب الكبير»: «ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك وإنصافك». وقيل لأحدهم: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرت إليه في حاجة وجدته أشد مسارعةً إلى قضائها مني إلى طلبها. وقد حكي أن رجلًا لقي صاحبًا له، فقال له: إني أحبك، فقال: كذبت؛ لو كنت صادقًا ما كان لفرسك برقع وليس لي عباءة. وقال الشاعر: وإن كان الصديق قليل مال ... يضيق بذرعه ما في يديه فمن أسنى فعال المرء أن لا ... يضن على الصديق بما لديه

وقد ذكر ابن الجوزي ثلاث مراتب في بذل المال للصاحب وإعانته: فأدناها: المساهمة، وذلك بأن يبذل له نزرًا منه. وأوسطها: المساواة، وذلك بأن يشاطره حقه، فيبذل له نصفه. وأرفعها: الإيثار، وذلك بأن يؤثر لصاحبه أكثر ماله على نفسه. قلت: وهذا الإيثار للخلق قد يبلغ مبلغ الذم إذا خلص إلى ثلاثة أمور؛ ذكرها أبو إسماعيل _ عبد الله بن محمد _ الأنصاري الهروي في كتابه «منازل السائرين»، وهي: أن لا يخرم عليك هذا الإيثار دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يفسد عليك وقتًا. وقد أظهر العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه «مدارج السالكين» معنى كلام الهروي: فأما الأول؛ فقال: «مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ؛ بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين». وأما الثاني؛ فقال: «لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير

إلى الله _ تعالى _، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك ... فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق، لقيه رجل فاستوقفه، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق». وأما الثالث؛ فقال: «مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله، فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره، فهذا _ أيضًا _ إيثار غير محمود». وقد قسم الماوردي أحوال الناس في الإعانة إلى أربعة أقسام: الأول: الذي يعين صاحبه، ويلتمس الإعانة منه، وهو أعدلهم. قال: «فهو معاوض منصف، يؤدي ما عليه، ويستوفي ما له ... وهو مشكور في معونته، ومعذور في استعانته». والثاني: الذي لا يعين صاحبه، ولا يلتمس الإعانة منه. قال الماوردي: «فهو لا صديق يرجى ولا عدو يخشى ... كالصورة الممثلة؛ يروقك حسنها ويخونك نفعها، فلا هو مذموم لقمع شره، ولا هو مشكور لمنع خيره، وإن كان باللوم

أجدر ... غير أن فساد الوقت وتغير أهله: يوجب شكر من كان شره مقطوعًا وإن كان خيره ممنوعًا». والثالث: الذي لا يعين صاحبه، إلا أنه يلتمس الإعانة منه. قال: «فهو لئيم كل ... فلا خيره يرجى ولا شره يؤمن ... فليس لمثله في الإخاء حظ، ولا في الوداد نصيب». والرابع: الذي يعين صاحبه، إلا أنه لا يلتمس الإعانة منه، وهو أشرف الإخوان نفسًا وأكرمهم طبعًا. قال الماوردي عنه: «فهو كريم الطبع، مشكور الصنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يرى ثقيلًا في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة ... فينبغي لمن أوجد الزمان مثله _ وقل أن يكون له مثل؛ لأنه البر الكريم والدر اليتيم _ أن يثني عليه خنصره، ويعض عليه ناجذه، ويكون به أشد ضنا منه بنفائس أمواله وسني ذخائره؛ لأن نفع الإخوان عام، ونفع المال خاص، ومن كان أعم نفعًا فهو بالادخار أحق». وقد وصف صاحب «الإحياء» الإعانة بالنفس بقوله: «فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح».

وأما اللسان؛ فذلك بأن ينصح صديقه ويحفظه في غيبته وبعد مماته، وأن لا يتفوه بشيء يريد به شينه، ولا يكون ذا فضول بسؤال صاحبه عن أحواله وشؤونه التي يستأثرها لنفسه ولا يحب أن يطلع عليها أحد. قال صاحب «الإحياء»: «ومن ذلك: أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله ... وكذلك الثناء على أولاده وأهله وصنعته وفعله حتى عقله وخلقه وهيئته ... وجميع ما يفرح به، وذلك من غير كذب وإفراط». قلت: ويريد بقوله: (من غير كذب وإفراط): أن لا يرفع صاحبه فوق قدره _ سواء في حضرته أو غيبته _، وقد روي عن الشافعي أنه قال: ما رفعت أحدًا _ قط _ فوق قدره إلا غض مني بقدر ما رفعت منه. وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن مجاهد، قال: «إذا لقيت أخاك فلا تسأله: (من أين جئت؟)، ولا: (أين تذهب؟)، ولا تحد النظر إلى أخيك». وقال الأعمش: أدركت أقوامًا كان الرجل منهم لا يلقى أخاه شهرًا وشهرين، فإذا لقيه لم يزده على: (كيف أنت؟)

و (كيف الحال؟)، ولو سأله شطر ماله لأعطاه، ثم أدركت أقوامًا لو كان أحدهم لا يلقى أخاه يومًا سأله عن الدجاجة في البيت، ولو سأله حبةً من ماله لمنعه. وقال صاحب «الإحياء»: «أما ذكر مساوئه وعيوبه ومساوئ أهله؛ فهو من الغيبة، وذلك حرام في حق كل مسلم، ويزجرك عنه أمران: أحدهما: أن تطالع أحوال نفسك، فإن وجدت فيها شيئًا واحدًا مذمومًا فهون على نفسك ما تراه من أخيك، وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة كما أنك عاجز عما أنت مبتلًى به، ولا تستثقله بخصلة واحدة مذمومة، فأي الرجال المهذب؟! ... والأمر الثاني: أنك تعلم أنك لو طلبت منزهًا عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافةً، ولن تجد من تصاحبه أصلًا، فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ». قلت: ومن حفظ اللسان _ أيضًا _: كفه عن المن ولو على سبيل الهزل؛ فإنه يكثر في الأصحاب، وهو يبطل الخير والعمل؛ كما في قوله _ تعالى _: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}. وقد أخرج مسلم _ وغيره _ عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم،

أنه قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئًا إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره». وقد ذكر الأصمعي عن أعرابي، أنه قال: حمل المنن أثقل من الصبر على العدم. وقال أبو الفرج _ المعروف بالببغاء _: ما الذل إلا تحمل المنن ... فكن عزيزًا إن شئت أو فهن وأما العفو عن الزلات؛ فذلك بأن يقيل عثرات أخيه، ويعفو عن زلاته، وأن يلتمس له أعذارًا، وأن لا يعترض على هناته دون روية؛ فإن ذلك قد يبعث على القطيعة والهجران، فإن وقع التقاطع والتهاجر أخذ كل منهما ينشد صحبةً أخرى. وأكثر من يبلغ هذا المبلغ لا يجد في الصاحب المنشود اختلافًا عمن هجره؛ بل قد يجد من الود والصفات الحميدة في المهجور ما لم يجده في المنشود. وفي هذا المعنى أشعار كثيرة: قال الشاعر: كم صديق منحته صفو ودي ... فجفاني وملني وقلاني

مل ما مل ثم عاود وصلي ... بعدما مل صحبة الخلان وقال آخر: عتبت على بشر فلما جفوته ... وصاحبت أقوامًا بكيت على بشر وقال آخر: ونعتب أحيانًا عليه ولو مضى ... لكنا على الباقي من الناس أعتبا ولهذا كان من أكثر الأمور ثباتًا للصحبة: هو التماس العذر للصاحب، والصبر عليه لخلق فيه ليس بمستحسن، والاعتراض علىه بمداراة وحكمة، والإقلال من معاتبته: روى أبو نعيم _ وغيره _ في «الحلية» عن أبي قلابة، قال: «إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه». وروى ابن أبي الدنيا في «مداراة الناس» عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تظن بكلمة خرجت من في مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملًا. وروى كذلك عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: إذا سمعت كلمةً من مسلم فاحملها على أحسن ما تجد، حتى لا تجد محملًا.

وقيل: لا تقطع أحدًا إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه، ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعةً فينسد طريقه عن الرجوع إليك، فلعل التجارب ترده إليك وتصلحه لك. وقال الماوردي: «ثم لا ينبغي أن يزهد فيه لخلق أو خلقين ينكرهما منه إذا رضي سائر أخلاقه وحمد أكثر شيمه؛ لأن اليسير مغفور والكمال معوز ... وحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره». وقال أعرابي: إذا جاد لك أخوك بأكثره فتجاف له عن أيسره. وروي عن علي في قوله _ تعالى _: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل}؛ قال: الرضى بغير عتاب. وقال أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده. وقال القرطبي عند قوله _ تعالى _: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}: «وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر الاعتراض، فتعين الفراق والإعراض».

وقال ابن الجوزي: «وإذا رأيت عيبًا في شخص فلا تلحن عليه بالتأديب، فالطبع عليه أغلب، وداره فحسب، واعلم أن التأديب مثله كمثل البذر، والمؤدب كالأرض؛ متى كانت الأرض رديئةً ضاع البذر فيها، ومتى كانت صالحةً نشأ ونما، فتأمل بفراستك من تخاطبه وتؤدبه وتعاشره، ومل إليه بقدر صلاح ما ترى من بدنه وآدابه». وقال _ أيضًا _: «كان لي أصدقاء وإخوان، فرأيت منهم الجفاء، فأخذت أعتب، فقلت: وما ينفع العتاب؟ فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء، فهممت بمقاطعتهم، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم؛ ينبغي أن تنقلهم إلى ديوان الصداقة الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها فإلى جملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم». وقال ابن المقفع في «الأدب الكبير»: «اجعل غاية نيتك في مؤاخاة من تؤاخي ومواصلة من تواصل: توطين نفسك على أنه لا سبيل إلى قطيعة أخيك وإن ظهر لك منه ما تكره فإنه ليس كالمملوك الذي تعتقه إذا شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك؛ فإنما مروة الرجل إخوانه وأخدانه، فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلًا من إخوانك _ وإن كنت معذرًا _ نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء

والملال فيه، وإن أنت مع ذلك تصبرت على مقاربته على غير الرضى؛ دعا ذلك إليك العيب والنقيصة، فالارتياد الارتياد، والتثبت التثبت». ونقل ابن مفلح في «الآداب الشرعية» عن أبي الوفاء علي بن عقيل، أنه قال في كتابه «الفنون» في أثناء كلام له: «الذي ينبغي أن يكون حد الصداقة: اكتساب نفس إلى نفسك وروح إلى روحك، وهذا الحد يريحك عن طلب ما ليس في الوجود حصوله؛ لأن نفسك الأصلية لا تعطيك محض النفع الذي لا يشوبه إضرار ... فإذا ثبتت هذه القاعدة أفادت شيئين: إقامة الأعذار وحسن التأويل الحافظ للمودات، والدخول على بصيرة بأن ما يندر من الأخلاق المحمودة إذا غلب على أخلاق الشخص مع الشخص فهما الصديقان، فأما طلب الدوام والسلامة من الإخلال في ذلك والانخرام فهو الذي أوجب القول لمن قال: (إن الصديق اسم لمن لم يخرج إلى الوجود)، وإن تبع ذلك في الأسماء كلها وجب إفلاس المسميات، فأما تسمية الإنسان نفسه عبدًا مع ارتكاب المخالفة فهي بعيدة ... فاقنع من الصداقة بما قنع الله _ سبحانه _ منك في العبودية ... وإذا كان الأمر كله كذا؛ فطلب ما وراء الطباع طلب ما لا يستطاع، وذلك

نوع من العنت والتنطع، ومن طلب العزيز الممتنع عذب نفسه وجهل عقله وضلل رأيه، وقبيح بالعقل أن يعتمد إضرار نفسه وإتعابها فيما لا يجدي نفعًا بتعجيل التعب ضررًا». وقال _ أيضًا _: «إن وجدت من نفسك خلال الصداقة وشروطها مع النقد والاختبار من الهوى لم تجد لنفسك ثانيًا، فقل ما شئت من اللوم والعذل والتوبيخ، ونح على أبناء الزمان بالوحدة في هذا المقام، فأما إذا لم تجد ذاك في نفسك لعجز البنية عنه فاقطع القول في ذلك، فلا مؤاخذة على ما لا يدخل تحت القدرة». وقال الماوردي ذاكرًا العتاب: «فإن كثرة العتاب سبب للقطيعة، واطراح جميعه دليل على قلة الاكتراث بأمر الصديق ... بل تتوسط حالتا تركه وعتابه، فيسامح بالمتاركة، ويستصلح بالمعاتبة؛ فإن المسامحة والاستصلاح إذا اجتمعا لم يلبث معهما نفور، ولم يبق معهما وجد». وقال بعض الحكماء: لا تكثرن معاتبة إخوانك، فيهون عليهم سخطك. وقال الأصمعي: قال أعرابي: عاتب من ترجو رجوعه. وقال آخر: كثرة العتاب إلحاف، وتركه استخفاف.

وأنشد بعضهم: إن الظنين من الإخوان يبرمه ... طول العتاب وتغنيه المعاذير وذو الصفاء إذا مسته معتبة ... كانت له عظة فيها وتذكير وقال أبو العباس الناشي: ولست معاتبًا خلا لأني ... رأيت العتب يغري بالعقوق ولو أني أوقف لي صديقًا ... على ذنب بقيت بلا صديق وقال منصور النمري: أقلل عتاب من استربت بوده ... ليست تنال مودة بعتاب وقال بشار بن برد: إذا كنت في كل الأمور معاتبًا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرةً ومجانبه إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه وقد دون أهل الحكمة في أسفارهم وفرةً من درر الأقوال والحكم والأشعار في العفو عن الأصحاب: قال أكثم بن صيفي: من شدد نفر، ومن تراخى تألف، والشرف في التغافل.

وقال شبيب بن شيبة: العاقل: هو الفطن المتغافل. وقيل لبعض العارفين: ما المروءة؟ قال: التغافل عن زلة الإخوان. وقيل: من حقوق المودة: أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصير _ إن كان _. وروى ابن حبان في كتابه «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء» عن بنت عبد الله بن مطيع، أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري: ما رأيت أحدًا _ قط _ ألأم من أصحابك، قال: مه! لا تقولي ذاك فيهم، وما رأيت من لؤمهم؟ قالت: أمرًا _ والله _ بينًا، قال: وما هو؟ قالت: إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت جانبوك، قال: ما زدت على أن وصفتهم بمكارم الأخلاق، قالت: وما هذا من مكارم الأخلاق؟! قال: يأتوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال الضعف منا عنهم. وأورد هذا الخبر الماوردي، وقال معقبًا: «فانظر كيف تأول بكرمه هذا التأويل حتى جعل قبيح فعلهم حسنًا، وظاهر غدرهم وفاءً، وهذا محض الكرم ولباب الفضل».

وقالت الحكماء: أي عالم لا يهفو، وأي صارم لا ينبو، وأي جواد لا يكبو. وقالوا: من حاول صديقًا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كضال الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابًا إلا ازداد من غايته بعدًا. وقال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل. وحكى الأصمعي عن أعرابي أنه قال: تناس مساوئ الإخوان يدم لك ودهم. ووصى بعض الأدباء أخًا له، فقال: كن للود حافظًا وإن لم تجد محافظًا، وللخل واصلًا وإن لم تجد مواصلًا. وقيل في منثور الحكم: لا يفسدنك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. وروى البيهقي _ وغيره _ في «شعب الإيمان» أن يونس بن عبيد بن دينار أصيب بمصيبة، فقيل له: إن ابن عون لم يأتك، فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخينا لا يضره أنه ليس يأتينا. وقال بعض البلغاء: لا يزهدنك في رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت فضله، وبطنت عقله: عيب تحيط به

كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله؛ فإنك لن تجد _ ما بقيت _ مهذبًا لا يكون فيه عيب ولا يقع منه ذنب، فاعتبر نفسك بعد أن لا تراها بعين الرضى ولا تجري فيها على حكم الهوى؛ فإن في اعتبارك واختيارك لها ما يؤيسك مما تطلب، ويعطفك على من يذنب. وفي معناه: ما حكي أن أخوين التقيا في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله، فقال: والله يا أخي لو علمت منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي. وقال الحسن بن علي: لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره. وقال الشاعر: اقبل معاذير من يأتيك معتذرًا ... إن بر عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا وقال كثير بن عبد الرحمن الملحي: ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهدًا كل عثرة ... يجدها ولم يسلم له الدهر صاحب وقال نصر بن أحمد البصري: إني أعاتب إخواني وهم ثقتي ... طورًا وقد تصقل الأسياف أحيانا هي الذنوب إذا ما كشفت درست ... من القلوب وإلا صرن أضغانا وقال الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه وأنشد بعضهم: هم الناس والدنيا ولا بد من قذًى ... يلم بعين أو يكدر مشربا ومن قلة الإنصاف أنك تبتغي الـ ... مهذب في الدنيا ولست المهذبا وقال أبو العتاهية: إذا ما بدت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالًا لزلته عذرا وقد ذكر أبو حامد لزلة الصاحب أمرين، قال: «إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية، أو في حقك بتقصيره في الأخوة، أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها؛ فعليك التلطف في نصحه بما يقوم أوده ويجمع شمله، ويعيد إلى الصلاح والورع حاله».

ثم ذكر اختلاف السلف فيمن عجز عن ردع صاحبه عن المعصية؛ فمنهم من ذهب إلى الهجر والانقطاع عنه وأن ذلك من البغض في الله، ومنهم إلى خلافه: فمن المأثور عن بعضهم قوله: إذا تغير أخوك فلا تدعه؛ فإن أخاك يعوج مرةً ويستقيم مرةً أخرى. وقيل عن بعضهم: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب؛ فإنه يرتكبه اليوم ويتركه غدًا. وأما التخفيف عليه؛ فذلك بأن لا يكلفه ما يعجز عنه. قال صاحب «الإحياء»: «وذلك بأن لا يكلف أخاه ما يشق عليه؛ بل يروح سره من مهماته وحاجاته، ويرفهه عن أن يحمله شيئًا من أعبائه». قلت: ومن التخفيف عليه: التوسط في الزيارة، قال الماوردي: «فإن تقليل الزيارة داعية الهجران، وكثرتها سبب الملال». وقد روى البيهقي _ وغيره _ في «شعب الإيمان» عن أبي هريرة وأبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «زر غبا؛ تزدد حبا»، قال ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث»: «الغب من أوراد

الإبل: أن ترد الماء يومًا وتدعه يومًا، ثم تعود، فنقله إلى الزيارة وإن جاء بعد أيام، يقال: (غب الرجل) إذا جاء زائرًا بعد أيام، وقال الحسن: في كل أسبوع». وقد أخذ الشاعر معنى الحديث، فقال: إذا شئت أن تقلى فزر متواترًا ... وإن شئت أن تزداد حبا فزر غبا وفي «أسنى المطالب»: «وتسن زيارة الصالحين والجيران _ غير الأشرار _، والإخوان والأقارب، وإكرامهم؛ بحيث لا يشق عليه ولا عليهم، فتختلف زيارتهم باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم». وروى الخطابي في «العزلة» عن شبيب بن شيبة، أنه قال: إن من إخواني من لا يأتيني في السنة إلا اليوم الواحد، هم الذين أتخذهم وأعدهم للمحيا والممات، ومنهم من يأتيني كل يوم، فيقبلني وأقبله، ولو قدرت أن أجعل مكان قبلتي عضةً لعضضته. وروى _ أيضًا _ عن إسحاق بن إبراهيم أنه قال: كان بين عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان مودة وإخاء، فكانت السنة تمر عليهما لا يلتقيان، فقيل لأحدهما في ذلك،

فقال: إذا تقاربت القلوب لم يضر تباعد الأجسام _ أو كلمةً نحوها _. وقال لبيد: توقف عن زيارة كل يوم ... إذا أكثرت ملك من تزور وقال أبو العتاهية: أقلل زيارتك الصديق ولا تطل ... هجرانه فيلج في هجرانه إن الصديق يلج في غشيانه ... لصديقه فيمل من غشيانه حتى تراه بعد طول مسرة ... بمكانه مستثقلًا لمكانه وذكر الخطيب في «تاريخ بغداد» عن محمد بن الجهم أنه أنشد: لا تضجرن مريضًا جئت عائده ... إن العيادة يوم إثر يومين بل سله عن حاله وادع الإله له ... واقعد بقدر فواق بين حلبين من زار غبا أخًا دامت مودته ... وكان ذاك صلاحًا للخليلين وأما إخباره بمحبته له؛ فلما تقدم من حديث المقدام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه»، رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

وأما الدعاء لصاحبه؛ فقد روى مسلم عن أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل». قال أبو حامد: «فتدعو له كما تدعو لنفسك، ولا تفرق بين نفسك وبينه؛ فإن دعاءك له دعاء لنفسك». وقال يحيى بن معاذ الرازي: بئس الصديق صديقًا يحتاج أن يقال له: اذكرني في دعائك. وقد ذكر السلمي في «آداب الصحبة» أكثر من ثمانين وجهًا جمع فيها بين آداب الصحبة وحقوق الأصحاب، فأذكر شيئًا منها مما تعلق بحقوق الصحبة، وهي: 1_ أن يخالق أصحابه بالخلق الحسن. 2_ وأن يحسن ما يعاينه من عيوب أصحابه. 3_ وأن يعاشر الموثوق بدينه وأمانته ظاهرًا وباطنًا. 4_ وأن يصفح عن عثراتهم، ويترك تأنيبهم عليها. 5_ وأن يقلل الخلاف لهم، وأن يلزم موافقتهم فيما يبيحه العلم والشريعة.

6_ وأن يحمدهم على حسن ثنائهم وإن لم يساعدهم باليد. 7_ وأن لا يحسدهم على ما يرى عليهم من آثار نعمة الله؛ بل يفرح بذلك. 8_ وأن لا يواجههم بما يكرهون. 9_ وأن يلازم الحياء في كل حاله. 10_ وأن تصدق مروءته معهم وتصفو محبته؛ فإنها لا تتم إلا بهما. 11_ وأن يسلم قلبه لهم، وينصح لهم، ويقبلها منهم. 12_ وأن لا يخلف وعده معهم؛ فإنه نفاق. 13_ وأن يراعي في صحبة إخوانه صلاحهم لا مرادهم. 14_ وأن يحمل كلامهم على أحسن الوجوه. 15_ وأن يعرف أسماءهم وأسماء آبائهم؛ لئلا يقصر في حقوقهم. 16_ وأن يجانب الحقد، وأن يلزم الصفح والعفو عنهم. 17_ وأن يغضي عن الصاحب في بعض المكاره.

18_ وأن يترك الاستخفاف بالأصحاب، وأن يعرف كل واحد منهم ليكرم على قدره. 19_ وأن لا يقطع صاحبًا بعد مصاحبته، ولا يرده بعد قبول. 20_ وأن يتواضع لهم ويترك التكبر عليهم. 21_ وأن يحفظ المودة القديمة والأخوة الثابتة. 22_ وأن يؤثرهم بالكرامة على نفسه. 23_ وأن يحفظ سرهم. 24_ وأن يشاورهم، ويقبل المشورة منهم. 25_ وأن يصاحبهم على الوفاء والدين، دون الرغبة والرهبة والطمع. 26_ وأن يترك المداهنة في الدين مع من يصاحبه. 27_ وأن لا يقبل عليهم قول واش نمام. 28_ وأن يجتهد في ستر عوراتهم وقبائحهم. 29_ وأن يقبل أعذارهم. 30_ وأن يصون سمعه عن القبيح، واللسان عن نطقه.

31_ وأن يزورهم، ويسأل عن أحوالهم. 32_ وأن يحفظ حرماتهم وعشرتهم. 33_ وأن ينصفهم من نفسه. 34_ وأن لا يتغير عنهم إذا حدث له غنًى. 35_ وأن لا يغرق في الخصومة، ويترك للصلح موضعًا. 36_ وأن يعرف قدرهم، ويعاشرهم على حسب ما يستحقونه. 37_ وأن لا يعاشر من يخالفه في اعتقاده. 38_ وأن يعرف حق من سبقه بالمودة. 39_ وأن يترك الثناء بعد الصحبة والمودة. أما آداب الصحبة؛ فقد جعلها السلمي على ضربين: ظاهرة وباطنة؛ فإن من الأصحاب من حسن ظاهره وخبث باطنه، وقد ضرب ذو الرمة في ذلك مثلًا بالماء، فقال: ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا ونظر بعض الحكماء إلى رجل سوء حسن الوجه، فقال: أما البيت فحسن، وأما الساكن فرديء.

ولبعضهم: لا تركنن إلى ذي منظر حسن ... فرب رائقة قد ساء مخبرها ما كل أصفر دينار لصفرته ... صفر العقارب أرداها وأنكرها فأما الظاهرة؛ فتختص بالعين والسمع واللسان واليدين والرجلين: فآداب العين: أن ينظر إلى إخوانه نظرة مودة ومحبة يعرفها منه هو ومن حضر المجلس. وآداب السمع: أن يستمع إلى حديث صاحبه سماع مشته لما سمعه، متلذذ به. وآداب اللسان: أن يكلم إخوانه بما يحبون وفي وقت نشاطهم، وأن يبذل النصيحة لهم، ويدلهم على ما فيه صلاحهم، ويسقط من كلامه ما يعلم أن أخاه يكرهه من حديث أو لفظ _ أو غيره _، وأن لا يرفع عليه صوته، ولا يخاطبه بما لا يفهم، ويكلمه بمقدار فهمه وعلمه. وآداب اليدين: أن يكونا مبسوطتين لإخوانه بالبر والمعونة. وآداب الرجلين: أن يماشي إخوانه على حد التبع، وأن لا يتقدمهم.

وأما الباطنة؛ فتكون بملازمة الإخلاص، والتوكل، والخوف، والرجاء، والرضا، والصبر، وسلامة الصدر، وحسن الظن بهم، والاهتمام بأمورهم. وقال: «فمن تأدب في الباطن بهذه الآداب، وتأدب في الظاهر بما بيناه؛ رجوت أن يكون من الموفقين». قال حازم خنفر _ معد هذا الكتاب _: هذا آخر ما بلغ إليه جهدي فيما كتبت وجمعت، راجيًا منه _ سبحانه _ القبول والمغفرة، إنه سميع مجيب.

§1/1