غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني

الكَوْرَاني، أحمد بن إسماعيل

سورة النجم

سورة النجم مكية، إحدى وستون آية أو اثنتان وستون بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) أقسم بالثريا، فإنه أبدَعُ الكواكب صُنْعاً، والنجم: عَلَمٌ غالبٌ له عند العرب وفي أمثالهم: إِذا طَلَعَ النَّجْم عِشاَءً ... ابتغى الراعي كساءً

(2)

وقيل جنس النجوم، لأنها زينة السماء، ورجوم الشياطين. و (هَوَى) من الهوي، بفتح الهاء وهو السقوط، أو بضمها وهو الطلوع؛ لأنه أدل على كمال الاقتدار، كقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) أو نجم القرآن؛ لأنه نزل منجما، وهذا أوفق لوجود نظائره، وألصق بقوله: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) الضلال: ضد الاهتداء، والغواية: ضد الرشد، وهما جواب القسم، أي. ليس هو كما تزعمون ضالّاً غاوياً في ترك دين آبائه. وفي لفظ "الصاحب" وإضافته توبيخ لهم، حيث عرفوا أمانته وصدق لهجتِه، ثم نسبوه إلى الضلال. (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) في أمر الدين والدعوة إليه. وفى الإتيان به مضارعاً بعد قوله: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) إشارةٌ إلى أنه إذا لم يكن له سابقة ضلال قبل النبوة، فبعدها أبعد. (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) استدل به من منع اجتهاده، وليس بتام؛ لأنه إذا قال له تعالى وتقدس: ما ظننت فهو حكمي يكون اجتهاده وحيًا لا بالوحي، وغيره ليس كذلك. (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) جبرائيل، والإضافة لفظية، أي: قواه الجسمانية من البطش، والسمع، والبصر.

(6)

ذُو مِرَّةٍ ... (6) عقلٍ كاملٍ ورأيٍ وافرٍ، أتى به في أسلوب الترقي. (فَاسْتَوَى) على صورته الحقيقية. (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) مَطلع الشّمس وإنما ظهر له في تلك الصورة، ليتيقن أنه ذلك إذا أتاه في غير تلك الصورة .. (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) قرب من محمد فتعلق به. (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) أي: كان البعد بينهما مسافة قوسين أو أقرب في مرآكم لو رأيتم. القاب والقيب كالقاد والقيد: هو المقدار وقيل: القاب، ما بين المقبض إلى السِّيَةِ فلكل قوس قابان. (أَوْ أَدْنَى) على تقديركم كقوله: أو يزيدون. وهذه الرؤية كانت بعد مجيئه بحراء أول ما بعث، لما فتر الوحي على ما رواه الثقاة، أنه لما

(10)

اشتد به الكَرْب من تكذيب قريش حتى قالوا: هجره شيطانه. قال: " فأردت أن ألْقيَ نفسي من شاهق فلما خرجت فإذا هو جالس عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ، وقالَ: لا تفعَل فإنّكَ رسولُ اللَّه حقًّا فَرُعِبْتُ مِنْه فَرَجعْت إلى أهلي فقلت دَثرُونِي. فنزلت: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2). فهذا معنى الدنو والتدلي، والقرب. لا أنه تمثيل للعروج به. (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) الموحى هو جبرائيل، وضمير (عَبْدِهِ) للَّه، ولا لبْس فيه. والقول بأن الضمائر للَّه. فالدنو والتدلي على التأويل، خلاف الظاهر بعيد عن المساق. (مَا أَوْحَى) لم يأت بالضمير؛ تفخيماً لشأن المُنزل، وأنه مما يجل عن الوصف، أنّى يتوهم التباسه بالشعر والكهانة؟ وكما فخِّم شأن المنزل، كذلك شأن للنزل إليه بإيثار لفظ " العبد " المضاف إليه تعالى؛ إشارة إلى أنه العبد الحقيقي، الكامل، الذي لا يذهب الوهم منه، وإيماء إلى أنه حقيق بالحظوة والاصطفاء. (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أي: ما رآه من صورة جبرائيل، أي: لم يكن قلبه منكراً له إذا رآه مرة أخرى في غير صورته. وقيل: ما رآه من جلال اللَّه تعالى لما روى

(12)

مسلم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: " أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رَأي ربَّه بِفُؤاَدِهِ مَرَّتَيْنِ " والحق أن ذلك ليس تفسيراً للآية وإن صح. (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) تجادلونه، من المراء. أصله المرْي. يقال: مرَيْت الناقة، إذا جذبت ضِرْعَها لتَدُرَّ. وقرأ حمزة والكسائي (أَفَتَمْرُونَهُ) على المغالبة من ماريته فمَرَيته.

(13)

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) فَعْلَة من النزول أي: مرة أخرى؛ ولذلك نصبت على الظرف. (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) ليلة الإسراء، وهي شجرة النبق، كل نَبِقَة كقُلَّة من قِلال هجر، وأوراقها كآذان الفِيَلة، وقد غشيها من الأنوار ما لا يقدر على نعتها إلا اللَّه. وسميت بالمنتهى؛ لانتهاء علم الخلائق إليها، وهي في السماء السابعة. كذلك رواه البخاري.

(15)

(عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) الجنة التي تأوي إليها أرواح الشهداء أو المتقون. (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) من الأنوار والألوان ما يجلّ عن الوصف، وقيل: ملائكة كالغربان على كل ورقة ملك يسبح. (مَا زَاغَ الْبَصَرُ ... (17) ما مال عن سَنَن الاستقامة. (وَمَا طَغَى) وما تجاوز عن المرئي. لما قرر أن الفؤاد لم يكذب ما رأي أزال شبهة من يَتَوهم أن آلة الإدراك قد تخطئ في الإدرإك كما بيّن في موضعه. أو ما مال البصر ولا تجاوز عن مطلبه، وهو الحق تعالى. وهذا مقام مخصوص به لم يتيسر لفرد من البشر.

(18)

(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) استئناف يؤكد ما تقرر. أي: قد رأي من عجائب الملكوت ما لا يمكن وصفه، فضلاً عن رؤية جبرائيل، ويجوز أن يكون الكبرى مفعول الرؤية. أي: رأي كُبْراهنَّ. وبه يتمسك من أثبت الرؤية إذ لا أكبر منها آية. (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) هذه أصنام كان أهل الجاهلية يعبدونها. اللات كان بالطائف يعبده ثقيف، والعزى سمرة بجيلة يعبدها

غطفان. ومناة صنم كان على الساحل يعبده هذيل وخزاعة. وقد همزه ابن كثير جعله مفعلة من النوء؛ لأنهم كانوا يستمطرون عنده بالأنواء. ومن لم يهمِّزْها أخذها من

منى: أراق. فإنهم كانوا يريقون دماء النسائك عليها. والعزى تأنيث الأعز. قطعها خالد بن الوليد، فخرج منها شيطانة ناثرة شعرها، تدعو بالويل، فضربها خالد بن الوليد بالسيف، وقال: كُفراَنك يا عزى لا سبْحانَك فأخبر بذلك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: " تلك العزى ولن تعبد بعد اليوم أبدا ". واللات: قيل: اسم رجل كان يَلِتُّ لها السويق. وعن مجاهد اسم رجل كان

(21)

يلت السمن ويطعمه، فلما مات اتخذوا قبره وثناً. والمعنى: أَبَعْدَ هذا البيان تستمرون على الضلال. فترون هذه الأصنام آلهة تستحق العبادة، وتجعلونها شركاء اللَّه (الْأخْرَى) صفة ذم أي: الوضيعة فإنهم كانوا يرون التقدّم للات والعزى. (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) وأنتم تقتلون الإناث، ولا ترضونها، تأنفون منها عاراً. فكيف تجوِّزون أن تكون أولاداً له وشركاء في الألوهيّة؟! وإذا كان شأنكم في

(22)

الجهالة والضلال هذا. فكيف تضللون من يدعو إلى التوحيد وإلى عبادة من له الخلق والأمر؟. (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) جائرة، من ضَازَه يضيزه إذا ظلمه. أصله ضئزى؛ لأن فعلى صفة لم يثبت على ما ذكره سيبويه. إلا مع التاء كعِزْهات فكسر الفاء لتسلم الياء كما فعل ببيض. وقرأ ابن كثير بالهمز من ضأزه ظلمه. (إِنْ هِيَ ... (23) أي: الأصنام (إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا) أي: لا حقيقة لها باعتبار الألوهية (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) برهان يدلّ على جواز إطلاق اسم الإله عليها، وفيه تهكم بهم بأن العقل لا يجيز إطلاق الآلهة على الجماد، لو فرض ذلك لم يكن إلا تعبداً محضاً من اللَّه. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) يقلدون آباءهم. ولا اعتبار للظن في العقائد ولا

(24)

تقليد. (وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أنفسهم (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) الرسول أو الكتاب الذي هو مناط الإيقان. (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) أم منقطعة، ومعنى همزتها الإنكار، أي: ليس للإنسان ما يتمناه حاصلاً له وهو طمع هؤلاء في شفاعة تلك الجمادات، أو ما كانوا يقولون: لئن كان هناك بعث نحن أحسن حالاً من محمد وأصحابه كقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) و (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أو هو قول عاص بن وائل: (لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77).

(25)

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) يعطي ما يشاء لمن يشاء ليس لأحد فيهما شرك، وقدم الآخرة؛ لأن الكلامَ فيها. (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ... (26) أدنى شيء مع مكانتهم وقربهم عند اللَّه. فكيف تشفع هذه الجمادات التي هي أخسّ الكائنات. والمراد أشراف الملائكة؛ ليدل بالأولوية على انتفائها من غيرهم، ولذلك نكر الملك وخصه بمن في السموات. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ) أن يشفع ويشفع له، (وَيَرْضَى) بتلك الشفاعة أي. تكون مقبولة؛ لأن الإذن في الشفاعة لا يستلزم القبول. (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) حيث قالوا: هم بنات اللَّه. قالوا: تزوج سروات الجن فولدت له الملائكة. والتقييد بالآخرة، إشارة إلى فرط جهلهم بأنهم يعتقدون أن الإنسان يترك سدى، ومن كان هذا شأنه لا يبعد منه تلك المقالة. (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ... (28) لما سمعوه من آبائهم. (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ) الذي لا يمكن تبدله باختلاف الشرائع وتبدل الأعصار وهي المسائل الأصلية والمباحث الإلهية. (شَيْئًا) أدنى شيء.

(29)

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ... (29) أعرضَ عنه ولم يتأمله. والمراد به القرآن. وفي إضافته إلى نفسه؛ إشارة إلى أنه كان حقيقاً بالإقبال. (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) إلا هذا الخسيس، لا أن ذلك كان لعائق آخر. (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ... (30) اعتراض يؤكد الأمر بالإعراض؛ لأن السعي في الإرشاد إنما يجدي لمن له قابلية الترقي (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) يعلم من يجيب ومن لا يجيب، وقد علم أن هؤلاء أهل الطبع. وفي إعادة العلم ثانياً مبالغة دالة على كمال تمايز الحزبين عنده. (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (31) خَلقَاً ومُلْكَاً. نفى به توهم الإهمال، وتركهم سدى من قوله: (فَأَعْرِضْ)، ولذلك عقبه بقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا) بجزاء أعمالهم، (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) غيَّر النظم، للدلالة على أَن جزاءهم ليس على قدر أعمالهم. ويجوز أن يتعلق (لِيَجْزِيَ) بقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ). وقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) اعتراض يؤكد حديث الجزاء بأنهم تحت ملكه. (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ ... (32) بدل من (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أو صفته، أو نصب، أو رفع على المدح. أَي: الكبائر من الإثم فإنه جنس الذنوب. والكبيرة: ما توَعَّد عليه

الشارع بخصوصه كالقتل والزنى، أو كان قبحه أزيد منه أو مساوياً. وقرأ حمزة والكسائي بالإفرإد على إرادة الجنس. (وَالْفَوَاحِشَ): ما زاد قبحه من الكبائر من عطف الخاص على العام. (إِلَّا اللَّمَمَ): ما قلّ قبحة فإنه معفو عنه إذا اجتنب الكبائر، وهو ما دون الكبيرة كمقدمات الزنا والسرقة والقتل قبل الوقوع. وأصل التركيب يدل على القلّة، ومنه اللمة لشعر جاوز الأذن، وإلمام الضيف قال: لقاء أخلاء الصفاء لمام. وهو استثناء منقطع، أو صفة، كأنه قيل: كبائر الإثم غير اللمم؛ لأن المضاف إلى المعرف الجنسي في حكم النكرة. (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث تجاوز عن الصغائر التي قلّ أن يخلو عنه الإنسان. وإليه أشّار - صلى الله عليه وسلم - " إِنْ تَغْفِر اللهُمَّ تَغفِرْ جَمَّا وَأَي عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا ".

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) منكم (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) لما خلق أباكم آدم، وأخرجكم من ظهره ذرية. (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) فعلمه بكم الآن، وبما يصدر منكم أجلى وأظهر. فإن قلت: إذا كان أعلم بهم وقت الإنشاء من الأرض فلا يخفى أنه أعلم بهم حال كونهم أجنة. فما الفائدة في ذكره؟ قلت: أراد أن علمه لا يتفاوت بجلاء المعلوم وخفائه كما هو شأن العلم الحادث. (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) فإن محل التقوى هو القلب، والوقوف على أحواله وأسراره ينقطع دونه التقوى. والمنهي تزكية النفس تمدُّحاً لا شكراً وترغيباً للغير، ويجوز أن يراد مدح المؤمن أخاه لما روى أبو بكرة أن رجلا مدَحَ رجُلاً عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: " قطعْتَ عُنقَ صَاحِبِكَ فإذا كَان أحدُكم مَادحًا أَخَاهُ فَلْيَقلْ أَحْسبهُ كَذا وَلَا أُزَكي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ".

(33)

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) أي: أبَعْد علمك بأن اللَّه هو أعلم بحال الإنسان منه بنفسه أخبرني عن حال من أراد سلوك سبيل الآخرة والوصول إلى اللَّه استقلالاً. تعجيب منه. (وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) وأمسك بعده عن الخير اكتفاء بذلك القليل. أصله أكداء الحافر وهو أن يلقاه كدية أي: صخرة فيمسك عن الحفر. والآية نزلت في الوليد بن المغيرة أراد أن يتبع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فعيِّره بعض المشركين، وقال: تترك دين الأشياخ؟ فقال: إني أخاف عذاب اللَّه. فقال: أعطني بعض مالك وأنا أحمل عنك العذاب، ففعل معتقداً ذلك. ونزولها في عثمان، وتفسير التولي بالفرار يوم أحد باطل؛ لأن السورة من أول ما نزل بمكة.

(35)

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ ... (35) ما فيه العلم بالمغيبات وهو اللوح. (فَهُوَ يَرَى) يشاهد ما فيه، فلذلك اكتفى به واستغنى عن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) والمعنى: أن هذا شرع قديم ليس من خواص ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهلا استغنى في ذلك علماء أهل الكتاب، ليخبروه بجليِّة الحال. وتقديم موسى؛ لكون كتابه أشهر، والاطلاع على ما فيه أيسر. ولا ينافيه قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)؛ لأن الغرض هناك تقرير كون الآخرة خير وأبّقى، وذلك مما سطر في صحف إبراهيم فضلاً عن التوراة الذي هو أعلى وأجل، ولما تأخر ذكره زاده وصفاً، وهو التوفية المبالغة في الوفاء، وأطلق ليتناول كل وفاء، من تبليغ الرسالة، والقيام بسائر المكارم، من ذبح الولد، والصبر على نار نمرود. قيل: كان عاهد اللَّه أن لا يسأل غيره، فلما أُلقي في النار لقيه جبرائيل، فقال له: هل من حاجة يا خليل اللَّه؟ فقال: أما إليك فلا، فقال: سل ربك

(39)

قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي. وروى الترمذي عن أبي ذر أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَلَا أخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّه تَبارَكَ وَتَعَالَى إِبْرَاهيمَ الذي وَفَّى؟ كَانَ إذا أصبح يَقُول كل يوم: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) إلى آخر الآية ". وليس معنى الحديث أنه لمجرد هذا الذكر بلغ تلك الرتبة. بل إشارة إلى أنه كان يحافظ على محاسن الأعمال. (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) إلا سعيه، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، كذلك لا يصل إليه ثواب عمله. وما يصل إلى المؤمن. من ثواب دعاء المؤمنين، واستغفار الملائكة، والصدقة له هو أيضاً من سعيه، لأنه أعم من المباشرة والتسبب وإليه يشير قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من دعا إلى هدى فَلَهٌ أَجْرِ فَاعِلِهِ ".

(40)

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) يوم القيامة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7). (ثُمَّ يُجْزَاهُ ... (41) ثم يجزى العبد سعية، أي: على سعيه، نصب على نزع الخافض (الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) الأوفر من استحقاقه، ولذلك يرى عمله الحقير. نصب على المصدر، ويجوز أن يكون البارز المنصوب ضمير الجزاء المدلول عليه والجزاء الأوفى بدل منه. (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) انتهاء الخلائق كلهم. هذا وما بعده أيضاً من جملة ما في الصحف. (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) أي: خلق الضحك والبكاء وأسبابهما. (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) خلق الموت والحياة. وفيه مراعاة النظير مع اللف والنشر. (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) تُدفق. يقال: مَنى وأمْنى، أو يقدر من مَنِي الماني أي: قدر. وأكّد في الأولين بضمير الفصل؛ لمظنة وهم الغير. ألا يرى إلى قول من حاج إبراهيم: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). وقولهم: " أضحكني الدهر دون هذه إذ لا مجال لذلك الوهم.

(47)

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وفاء بوعده. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالمد كلاهما مصدر نشأة. (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى ... (48) بالمال. (وَأَقْنَى) أي: أعطاه ما يقنيه زيادة على قدر حاجته، من القنية وهي: المال المحفوظ لا للتجارة، أو أرضاه من القنا وهو: الرضى. وعن أبي زيد تقول العرب: من أُعطي مائة من المعز فقد أُعطي القنا، ومن أُعطي مائة من الضأن فقد أُعطي الغنى، ومن أُعطي مائة من الإبل فقد أُعطي المنُى. وعن أبي عبيدة: أقناه اللَّه، أعطاه ما يقتنى من المال والنسب.

(49)

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) كوكب معروف يتبع الجوزاء. وهو كوكب وقَّاد يقال له مِرْزَم الجوزاء كانت [خزاعة] تعبده، أول من عبدها أحد أجداد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من جهة أمه، يسمى أبا كبشة، ولهذا لما ادّعى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - النبوة، وفارق دين آبائه سموه ابن أبي كبشة. كما جاء يا حديث هرقل من قول أبي سفيان. وفيه إشارة إلى رد قولهم الباطل، فإنه وإن وافق جده في مخالفة دينهم، فقد خالفه أيضاً في عبادتها.

(50)

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) والكلام في تأكيد الأوليّن ضمير الفصل وتركه في الأخير كما تقدم آنفاً. و (عَادًا الْأُولَى) قوم هود، والثانية إرم. وقيل الأولى القدماء؛ لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح، أو المتقدمون الأشراف. (وَثَمُودَ ... (51) عطف على (عَادًا)؛ لأن ما بعد " ما " النافية لا يعمل فيما قبلها. (فَمَا أَبْقَى) أي: من الفريقين أحداً كقوله: (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ). وقرأ عاصم، وحمزة (وَثَمُودَ) بغير تنوين. والوقف بالألف لمن قرأ بالتنوين. (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ... (52) من قبل عاد وثمود نصب بما نصبا به. (إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) من الفريقين؛ لأنهم وإن لم يؤمنوا بنبيهم، فلم يؤذوه كما آذى قوم نوح نوحاً، إذ قد تواتر أنهم كانوا يشجونه ويضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: " اللهمَّ اغفرْ لِقَوْمِي فَإنهمْ لَا يعلَمُونَ ".

(53)

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ ... (53) قرى قوم لوط. ائتفك: انقلب. قلبها عليهم جبرائيل جعل عاليها سافلها (أَهْوَى) أسقطها بعد أن رفعها. الإسناد إلى اللَّه؛ لأنه الآمر. (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) المذكورات بعضها وإن كانت نقماً لأقوام فهي نعم للأنبياء وأتباعهم. قال أبو الطيب: بِذا قَضَتِ الأَيامُ ما بَينَ أَهلِها ... مَصَائبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ (تَتَمَارَى) تتشكك. الخطاب لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلهاباً وتهييجاً وتعريضاً بالغير، أو للإنسان على الإطلاق وهذا أوفق.

(56)

(هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أي: هذا القرآن من الإنذارات الأولى، أي: من جنس الكتب المنزلة. فذلكة لما عدّد من الآي والأحكام التي اشتملت عليها الصحف، أو لما افتتح به السورة. أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ). (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) قربت القريبة، وهي الساعة المخبر عن قربها في قوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) و (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ). (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) لا يعلمها غيره لقوله (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، أو ليس نفس تقدر على كشفها إذا وقعت إلا هو لكنه لا يكشفها، أوليس أحد يقدر على كشفها الآن بالتأخير لو وقعت. ويجوز أن يكون كاشفة مصدر كالعافية. (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) أي: من القرآن. (وَتَضْحَكُونَ ... (60) استهزاءًا (وَلَا تَبْكُونَ) وكان الواجب عليكم ذلك كما يفعله الموقنون (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ). (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) مستكبرون. من سمد: رفع رأسه تكابراً، أو لاهون من سمد البعير في سيره.

(62)

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) بعد هذا البيان والترهيب، اعبدوه ولا تعبدوا غيره. تمت سورة النجم، والحمد لكاشف الغم، والصلاة على من فضله أعم.

سورة القمر

سورة القمر مكية، وهي خمس وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ... (1) أي: قد قرب قيام الساعة. (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وانشقاقه من آياتها. روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - " أَن أَهْلَ مَكةَ سَألوا رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يرِيَهُمْ آيةً، فَأَرَاهُمْ القمر شقين حتى رأوا الحراء بينهما ". (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً ... (2) أهل مكة، وإن لم يسبق لهم ذكر للعلم بهم. كقوله: زارتْ عليها للظلامِ رُواق

(3)

(يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) دائم، أي: ليس هذا وحده من سحر محمد، بل كم له من هذا يريدون ما سبقه من المعجزات، أو محكم من استمر مزيده، أو مرّ غاية لا نقدر على إساغته، من استمر الشيء إذا قويت مرارته، أو مار لا بقاء له يسلون بذلك أنفسهم ويمنونها. (وَكَذَّبُوا ... (3) واستمروا على التكذيب ودفع الحق (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) ما سولت لهم أنفسهم (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي: كل أمر له نهاية يثبت فيه كلام مستقل، جاري مجرى المثل كقوله: " كل شيء له آخر والصبر نعم الناصر " أي: كل أمر ينتهي إما إلى السعادة أو إلى الشقاوة، أو كل من أمره وأمرهم يستمر على حاله من خذلان أو نصر، وقرأ أبوجعفر (مُسْتَقِرٍّ) مجروراً عطفاً على (السّاَعَة) أي: اقترب كل أمر مستقر على أن انشق القمر، حال بتقدير قد (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) اعتراض، وفي قراءته زيادة تسلية وتهويل.

(4)

(وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ ... (4) في القرآن مما نزل بأمثالهم. (مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) ازدجار: افتعال من الزجر، قلبت تاؤه دالاً، لتناسب الدال والزاي. (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ... (5) غايتها في الإحكام. بدل من ما، أو خبر مبتدأ محذوف (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) بعدها. نفي أو استفهام إنكار أيّ غناء تغني النذر بعد وصول الأمر إلى الغاية. (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ... (6) أعرضْ (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) إسرافيل، نصب بـ " يخرجون "، أو بـ " اذكر ". أثبت ياء (الداع) البزي عن ابن كثير في الحالين. وأبو عمرو، وورش وصلاً. (إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) منكر تنكره النفوس لفظاعته. قرأ ابن كثير بضم الكاف. (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ... (7) كناية عن الذل، لأن العز والذل يظهر آثارهما في العيون. وإسناد جمع التكسير إلى المظهر فاشٍ فصيح. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي (خاشعاً) وهو المختار. ولم يؤنث لعدم الفاصل، وانتصابه على الحال من فاعل (يَخْرُجُونَ مِنَ

(8)

الْأَجْدَاثِ). وقرئ " خشع " بالرفع على الخبرية، فتكون الجملة حالاً. (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) في الكثرة والتفرق. (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ... (8) مسرعين مادِّين أعناقهم. أثبت ابن كثير ياء (الداع) في الحالين. ونافع وأبو عمرو في الوصل. (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) شاق. (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... (9) تسلية وترهيب. (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) تفصيل لما أجمل، أو كذبوه تكذيباً إثر تكذيب، كلما مضى قرن تبعه آخر. وكذبوا الرسل رأساً فكذبوه؛ لأنه من جملتهم. (وَقَالُوا مَجْنُونٌ) أصابه الجنون. (وَازْدُجِرَ) زجروه شتماً وضرباً. عطف على " قالوا ". وأوثر بناء المفعول؛ تطهيراً للألسنة عن ذكرهم، ودلالة على أن فعلهم أسوء من قولهم، ولتوافق الفواصل، أو هو من قولهم: إنه لمجنون وقد ازدجرته الجن. والأول أوجه وأوفق لقوله: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ (10) بعدما أيس وجرّب الأولاد والأحفاد (فَانْتَصِرْ) انتقم. (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ ... (11) أي: بعد الأمر باتخاذ السفينة والفراغ منها وركوبه بمن معه. (بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) منصب بكثرة وتتابع. مطاوع همره. قيل: لم ينقطع أربعين يوماً.

(12)

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا ... (12) جعلنا الأرض كلها كأنها عيون. أصله فجرنا عيون الأرض، عدل إلى المنزل مبالغة. (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي: ماء الأرض وماء السماء التقيا على مقدار سواء بسواء، أو على أمر قدر في اللوح من هلاك قوم نوح، أو على أمر قدره اللَّه تعالى، واقتضته حكمته. (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) أي: السفينة، عبر بالوصف عن الموصوف كناية كقولهم في الإنسان: " حي مستقيم القامة، عريض الأظفار، وفيه فخامة ". ليس في الأصل، وإشارة إلى كمال الاقتدار؛ لبعد عن حال الخشب والحديد عن دفع ذلك الطوفان العظيم. والدسر: جمع دسار، وهي المسمار من الدَّسر وهو الدفع. (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ... (14) محفوظة بكلائتنا. (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) علة للفتح وما بعده. والذي (كُفِرَ) نوح؛ لأن كل نبي نعمة من اللَّه، أو على حذف الجار وإيصال الفعل أي: كُفِرَ به. (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً ... (15) أي: الفعلة أو السفينة. تواتر خبرها في أقطار الأرض وفي الأعصار كلها إلى آخر الدهر. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) معتبر يتعظ بها. (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وإنذار جمع نذير بمعناه استفهام تعجيب وتهويل.

(17)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ... (17) للاتعاظ؛ لاشتماله على أنباء الأولين والآخرين، وبيان ما أصاب من كذب الرسل، أو سهلناه للتلاوة؛ لأنه عربي مبين يتلوه أهل كل لسان، أو حفظه دون سائر الكتب، أو بأن أنزلناه على سبعة أحرف بحسب لغة القبائل تيسيراً على العرب إزاحة لعذرهم. والأول أوفق بالمقام، ولذلك أعاده مراراً. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ. (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) وإنذاراي لهم قبل نزول العذاب وبعده لمن بعدهم. (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ... (19) باردا من الصِّر بكسر الصاد، أو شديد الصوت من الصرير. (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم (مُسْتَمِرٍّ) شؤمه، أو اليوم على إرادة الحين؛ لأنه كان سبع ليال وثمانية أيام، أو على أشخاصهم لم يدع صغيراً ولا كبيراً، أو شديد مرارته. (تَنْزِعُ النَّاسَ ... (20) تقلعهم. بيان لشؤمه، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أصول نخل منقلع من مغارسها. وتذكير الصفة باعتبار لفظ النخل، وتأنيثه في قوله (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) باعتبار المعنى. روي أنهم كانوا يصطفون آخذاً كل واحد يد الآخر، فيدخلون في الشعاب، ويحفرون فتنزعهم وتدق رقابهم. وقيل: تقلع رؤوسهم وتبقى الجثث ساقطة على الأرض.

(21)

(فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) كرره للتهويل، أو الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيط به في الآخرة؛ لقوله في شأنهم: (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى). (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) بالإنذارات، أو بالآيات، أو بالرسل. (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ ... (24) أنكروا أن يكون الرسول بشراً لا سيما وهو ليس من طائفة أخرى ليكون له المزية، موصوفاً بالوحده والانفراد فكيف يبتعه الجم الغفير. ونصب " بَشَراً " بمضمر على شريطة التفسير، وفي مثله نختار النصب لمكان الاستفهام. (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ) وجنون، يقال: " ناقة مسعورة " أي: مجنونة، أو عكسوا عليه لما دعاهم إلى التوحيد لئلا يقعوا في سعر، قالوا: لو اتبعناه وقعنا فيها. على أن السعر جمع سعير.

(25)

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا ... (25) وفينا من هو أكثر أموالاً وأسباباً. كقول قريش (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ) شديد الكذب، حتى اخترع هذا الكذب البديع. (أَشِرٌ) بطر حمله عليه بطره. (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) أي: يوم القيامة فإن الدنيا والآخرة يومان. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على حكاية قوم صالح، أو التفات من اللَّه تعالى إليهم كأنهم حضور ينعي عليهم جنايتهم ثم حكاه لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دلالةً على أنهم كانوا أحقاء بذلك الوعيد. (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ ... (27) امتحاناً. وذلك بعد أن سألوها. (فَارْتَقِبْهُمْ) انتظرهم مراقباً أحوالهم مع الناقة، (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم. (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ... (28) ذو قسمة لهم شِرْبٌ يوم ولها شِرْب يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وفي الضمير تغليب العقلاء. (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه خاصة. (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ ... (29) قدار بن سالف، أشقى الناس، نطق به القرآن. وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " أشّقى الناس رجلان: عاقر الناقة، وقاتل علي - رضي الله عنه - " (فَتَعَاطَى) اجترأ

(30)

على تعاطي الأمر العظيم. من باب يعطي ويمنع، أو تعاطى قتل الناقة والسيف، والتعاطي: تناول الشيء بتكلف. (فَعَقَرَ) أي: الناقة. (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً ... (31) صاح بهم جبرائيل (فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) كالشجر المنكسر اليابس الذي مرّ عليه زمان طويل. والمحتظر: من يعمل الحظيره لماشيته، أو هو الحشيش الذي يجمعه ليعلفها به في الشتاء. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) لم يُعِد حديث الإنذار كما أعاده في قصة هود؛ اكتفاءً به، وكذا لم يعده في قوم نوح؛ لأنهم بذلك أولى إذ هم أظلم وأطغى، وتركه رأساً في قصة لوط، لتكرره مراراً، وترك ذكر التيسير والادكار في آل فرعون؛ لأنها آخر القصص فاختصر؛ ليدل الاختصار على الاقتصار. فهذا من أسرار التنزيل للَّه دره. (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا ... (34) ريحاً تحصبهم أي: ترميهم بالحجارة، وقد جمع اللَّه عليهم أنواعاً من العذاب قلب الأرض وإمطار الحجارة عليهم والرمي بالحصباء. (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) هو قبيل الصبح صرف، لأنه لم يرد به معين وإلا فعلم وعدل. وقد يطلق على ما بعد انصداع الفجر. فقيّد الأول بالأعلى، ومنه حديث

(35)

عائشة رضي اللَّه عنها: " ما ألقاه السحر الأعلى عندي إلا نائماً " وذلك؛ ليكون في صلاة الصبح على نشاط، بخلاف ما إذا وصل بين التهجد وبينها. (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ... (35) إنعاماً عليه تفضلاً. (كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) بالإيمان والطاعة كائناً من كان. (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ... (36) أخذتنا بالعذاب. (فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ) كذبوا بها متشاكين. (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ... (37) جبرائيل ومن معه من الملائكة (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) مسحناها بحيث لم يبق لها أثر بل بقيت كسائر أجزاء الوجه. طمسها جبرائيل لما دخلوا بيت لوط، بقوا يترددون في الأزقة لا يهتدون إلى منازلهم، وشرعوا يتهددون لوطاً أن إن أصبحنا لنفعلن بك كذا وكذا، فكانوا وقت الصبح في مهم آخر. (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) على تقدير القول من الملائكة. (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً ... (38) أول طلوع الفجر (عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ) لا يفارقهم حتى يسلمهم إلى النار. (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) الأول قيل لهم عند الطمس، وهذا عند قلب الأرض.

(40)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) أعاده في كل قصة؛ تجديداً للإيقاظ، وحثاً على الاتعاظ لئلا تستولي عليهم الغفلة. وهذا شأن كل تكرير في القرآن. (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) الإنذارات. واكتفى بالآل؛ للعلم بأنه شر منهم. (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا ... (42) مع كثرتها، وهي الآيات التسع. لم يعطفه بالفاء، اكتفاء بالاتصال معنى، وإشارة إلى شدة كفرهم كأن تكذيبهم كان مع مجيء تلك الآيات، (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) بأن طبق البحر على ذلك الجيش الكثيف في لمحة طرف كأن لم يكونوا. (أَكُفَّارُكُمْ ... (43) يا أهل مكة (خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) المهلكين زينة وأموالاً وقوة وأسباباً، أو لِين شكِيمَة وعناداً، أي: ليس الأمر كذلك بل هؤلاء أقل أسباباً وأكثر كفراً وعناداً (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) بأن لا عذاب عليكم. الزبر: الكتب السماوية، جمع زبور من زبره: كتبه. (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) أفرد الضمير باعتبار لفظ الجميع، وعدل عن الخطاب كأنه يحكي جهلهم لغيرهم كما يقول المولى بعد استيفاء عتاب عبده: أو به جنون؟! (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) الأدبار، أفرده لإرادة الجنس، أو باعتبار كل واحد. روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أَن رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ يوْمَ بدرٍ من القُبَّةِ يَثِبُ في دِرعِهِ وهو يتلو (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) "، وعن عكرمة أن عمر قال: كنت

(46)

أقول أيَّ جمع يهزم؟. فلما رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر يثب في الدرع وهو يتلوها عرفت تأويلها ". (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) من القتل والأسر. والداهية: داء لا دواء لها، وإنما أعاد لفظ الساعة، تهويلاً، ولئلا يتوهم عود الضمير إلى وقعة بدر. (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ ... (47) في الدنيا (وَسُعُرٍ) نيرانٍ في الآخرة، أو في ضلال وجنون. ناقة مسعورة أي: مجنونة. (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ... (48) ظرف لـ (سعر)، أو بدل اشتمال منه. (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي: يقال لهم هذا القول في ذلك الحين: تقريعاً وإيفاءً لحق السامعة من العذاب. والمس مستعار للإيلام كما يقال: ذاق طعم الموت وسقر: علم نار الآخرة، من سقره وصقره إذا لوَّحَه قال ذو الرمة:

(49)

بأَفْنانِ مَرْبوع الصَّريمةِ مُعْيلِ ... إذا ذابتِ الشمسُ أبقى سعراتها (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) منصوب بمضمرٍ مفسر أي: خلقنا كل شيء وأوجدنا ملتبساً بما سبق من التقدير في الأزل، وسطر في اللوح. روى مسلم والترمذي أنها

(50)

نزلَتْ في أهل القدر. وعن زرارة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لما تلاها قال: هذه في أناس من أمَّتي يكونون في آخر الزمان يُكَذِّبونَ بِالْقَدَرِ. (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ ... (50) إلا فعلة واحدة، دفعة بلا آلة وأسباب (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) في سرعه التكوِّن، كقوله كن فيكون. (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ ... (51) أشباهكم ومن شايعكم في الاعتقاد (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ بمصيبة أولئك. (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) ثابت فيه مسطور، فيجازون به. (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ... (53) قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً (مُسْتَطَرٌ) مكتوب لا محالة.

(54)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) وضياء وسعة، أو في أنهار، واكتفى باسم الجنس. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ... (55) بدل من فِى جنات، سميت به؛ لأنها منزل الصادقين، أو لأنها مكان مرضي كما يقال: رجل صدق أي: مرضيّ الخصال محمود الفعال. (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) حال من المستكن في الخبراء، مقربين ذوي رتب عند سلطان كامل الاقتدار. ولا ألذ للنفس من قرب الملوك؛ ولذا تبذل الأموال والأرواح دونه مع ملوك الدنيا. * * * تمت سورة القمر، وللَّه الحمد في الآصال والبكر. والصلاة على صفوة عدنان ومضر، وآله وصحبه من هاجر أو آوى ونصر.

سورة الرحمن

سورة الرحمن مكية، ست وسبعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) هذه السورة مقصورة على بيان نِعَم الدارين التي لها شأن؛ لأن إحصاء الكل محال؛ فلذلك صدرها بالاسم الدال على جلائل النعم براعة للاستهلال، وبدأ بأجلها وهي نعم الدين، ثم اختار أعلاها شأناً وأسناها مكاناً وهي القرآن الحاوي لأصول الدين وفروعه الموضح للسبل، المصدق لسائر الكتب والرسل. ولما كان كمال الإنسان في تكميل قوته النظرية، وهو الغاية المطلوبة من خلقه؛ قدم تعليم القرآن، ثم أردفه بما يتوقف عليه بقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير الذي لا يمكن تعلم القرآن وتعليمه إلا به. وأتى بالجمل الثلاث على نمط التعديد؛ إشارة إلى تقاعد الإنسان عن الوفاء بشكرها كما تقول فيمن قصر في مكافأة معروفك: " يا هذا كنت صغيراً ربيتك، محتاجاً أعطتك، ضائعاً آويتك ". ثم بعد قضاء الوطر من هذا الأسلوب، أفاض في تعداد النعم واحدة إثر أخرى على النمط المعروف بحرف النسق مراعياً التقارب والتناسب بقوله:

(5)

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) يجري كل منهما في منازله وبروجه بلا اختلال؛ ليضبط بذلك أحوال الكائنات، ويتميز به الفصول والأوقات. (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) ينقادان لأمره فيما خلقا له، شبه ذلك بسجدة المكلف. والنجم: نبت لا ساق له، والشجر: ما له ساق، وارتباط الجملتين بما تقدم معنوي؛ وذلك أنه لما رمز إلى تقاعده في الشكر أخذ في تعداد نعم أخرى حثاً له على ما طلب منه، ولو عطف لم يفد هذا الغرض. فيهما إشارة إلى أن ما في العالم العلوي والسفلي قائم بما خلق له، والإنسان مع كونه المقصود من الكون خسر بذلك، وكان ظلوماً جهولاً. (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ... (7) شرفاً ورتبة، لأنها منشأ أحكامه، ومصدر قضاياه، ومنزل أوامره ونواهيه، أو مكاناً فوق الأرض كقوله: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا). دل به على علو شأنه وعظم كبريائه وسلطانه، مع كونه مبدأ جوده وإحسانه. (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) قانون الشرع الذي به النظام والوفاق بين الأنام الذي هو لأفعال المكلفين كالمكيال والمقياس الذي يعرف به الأشباه والأمثال.

(8)

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) لا تتجاوزوا بالزيادة والنقصان، فيورثكم الندم والخسران. (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ... (9) اجعلوا وزن أعمالكم قويماً لا عوج به بالعدل السوي، وهو ما قننه الشارع. (وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) لا تنقصوا ما وجب عليكم عن حقه. أعاده مبالغة في التوصية. (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) بسطها مدحوة؛ لئلا يشق عليهم التصرف والتردد في اكتساب المعاش والمعاد. والأنام: الإنس والجن كذا عن الحسن، أو كل ذي روح. (فِيهَا فَاكِهَةٌ ... (11) ضروب مما يتفكه به. (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ) جمع كِمّ بالكسر وهو وعاء الطلع، أو أريد به كل ما يغطى من ليفه وسعفه وكُفَرّاه. وبالجملة ليس في شجر النخل ما لا ينتفع به، ولذلك قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " إِن مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ، .. ثم قال إنها النِّخْلَة ". وعلى هذا ذكرها بعد الفاكهة ليس كذكر جبرائيل بعد الملائكة.

(12)

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ... (12) كالبُر وسائر الحبوب، والعصف: ورق النبات. (وَالرَّيْحَانُ) لب الحَبِّ وما يؤكل منه، ولذلك فسر بالرزق. استوعب أقسام ما يتناول في حال الرفاهية؛ لأنه إما للتلذذ وهو الفاكهة، أو له وللتغذي وهو ثمر النخل، أو للتغذي وحده وهو الحب. وفي ذكرها على هذا الأسدوب ترق من الأدنى إلى ما هو أدخل في الامتنان. وقرأ ابن عامر الثلاثة بالنصب عطفاً على الفعلية بتقدير خلق. وعلية رسم الشام، ونافع وابن ذكوان وابن كثير وأبو عمرو وعاصم برفعها عطفاً على الاسمية أي: فيها فاكهة وفيها الحب. وعليه بقية الرسوم. وقرأ حمزة والكسائي بجر الثالث ورفع الأولين أي: ذو العصف والريحان أصله روحان، قلبت واوه ياء تخفيفاً. أو ريوحان حذف واوه فوزنه فيلان. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) الخطاب للثقلين؛ لما تقدم ذكرهما في الأنام، ولقوله: (أَيُّهَ الثَّقَلَانِ). عن جابر " قرأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - علينا سورة الرحمن إلى آخرها ثم

(14)

قال: قرأتها على الجن كانوا أحسن ردًّا منكم كلما أتيت إلى (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قالوا: لا بشّيء من آلائك نكذب ربنا ". (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ ... (14) من طين يابس له صلصلة أي: صوت. (كَالْفَخَّارِ) كالخزف، وعبّر عنه بالطين اللازب والحمأ المسنون والتراب أيضاً باعتبار انقلابه في الأطوار. (وَخَلَقَ الْجَانَّ ... (15) أبا الجن وهو إبليس (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) أي: من نار صافية، أو مختلطة بالدخان. ومنه الأمر المَريج " من " بيان أو من نار مخصوصة ممتازة عن هذه النيران؛ فلهذا نكره فـ " من " ابتدائية. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) إذ إفاضة الجود أجلّ الإنعامات وأولاها. (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) لما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى. (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) أرسلهما متلاقيين، من مرجت الدابة أرسلتها. (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) حاجب من قدرته يمنع أحدهما من التعدي على الآخر بالاختلاط.

(21)

(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) إذ في ذلك من الآيات ما يدل على كمال اقتداره الموصل إلى الإيمان الذي كل نعمة دونه. وتفسر الالتقاء بتماس السطوح، ثم تفسير البرزخ بحاجب من الأرض، وحمل البحرين على بحر فارس والروم غير سديد. (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) أحدهما أبيض يقَق، والآخر أحمر قانئ، وهما من خواص الملح دون العذب، وإنما قال منهما؛ لاتصالهما في المرأي. والقول بأنهما يخرجان من مجمع البحرين ترده المشاهدة. قرأ نافع وأبو عمرو بضم الياء وفتح الراء، والباقون بالعكس. والأولى الأصل، والثانية التعبير باللازم. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وكونهما من فواخر النعم غني عن البيان. (وَلَهُ الْجَوَارِ ... (24) السفن الجارية في البحر (الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ) المرفوعات الشُّرُع. وقرأ حمزة بالكسر أي: رافعات الشرع أو الموج أو السر اتساعاً، أو المبتدئات في الفعل، من أنشأ: شرع في الفعل.

(25)

(كَالْأَعْلَامِ) كالجبال الشامخة. قالت الخنساء: كَأنهُ عَلَمٌ في رأسه نارُ (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) لما في ذلك من الدلائل الدالة على كمال علمه تعالى واقتداره، وما في ضمنه من منافع العباد. (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) أي: على الأرض من الموجودات، و (مَنْ) لتغليب العقلاء، لقوله. (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)، والاقتصار على من على الأرض؛ لأنه في تعداد النعم، وأشار إلى العموم بقوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ... (27) أي: ذاته. يجوز به أولاً عن الجملة كاليد والعين، ثم اشتهر حتى صار حقيقة فاستعمل فيمن تنزه عن الأجزاء. (ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) أي:

(28)

الذي يجله الموحدون وينسبونه إلى الكرم، أو الذي جدير بأن يقال: ما أجلَّه وما أكرمه قيل أو لم يقل. وتقديم صفة السلب، لأنه في مقام الجلال، وقهر الخلق بالفناء. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) لما في ذلك من العلم بكمال الصانع وكبريائه، مع الوصول إلى الجزاء والحياة الأبدية. (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (29) لافتقار الكل إليه ابتداء وبقاء. روي أنه تعالى لمّا لَعَنَ إِبْليس وَطَرَدَهُ مِنْ جِوَارِهِ، وَكَانَ من الحافيّنَ بالعرشِ بَكَى جبرائيلُ وميكائيلُ فسألهما الربّ تعالى وهو أعلم بهما لم تبكيان؟ قالا. يا ربنا من خوفِك. فقال: هكذا كونا رَاهبين. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) يسعد ويشّقي، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) لما في ذلك من دفع الضر وجلب النفع، والاعتبار والتذكر المنجي من عقابه. (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) كناية عن التوفر للانتقام وتوجه الإرادة إليه، أو تمثيل بأن مثل حاله تعالى بعد انتهاء الشؤون إلى واحد وهو الأخذ بالجزاء بحال من له سابقة اشتغال عن شيء ثم فرغ له. والثقلان: الإنس والجن،. لأن الأرض لهما كالحمولة. قرأ حمزة وأبوبكر في وجه (سَيَفْرُغُ) بالياء. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) لما في هذا الترهيب من الحث على الطاعة.

(33)

(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (33) من ملكوتي لتنجو بذلك من دهري (فَانْفُذُوا) أمر تعجيز وفي معناه (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) وقيل: المراد به يوم الحشر فإن الملائكة يحدق بهم سبعة صفوف. (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ). وتقديم الجن؛ لأنهم أعتى وأشد قوة (لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) وأنى لكم ذلك. (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ ... (35) لهب مركّب من النار والدخان. وعن ابن عباس: " نار لا دخان فيه ". وقرأ ابن كثير شِوَاظ بكسر الشين. (مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) صفْرٌ مذابٌ يحشر الناس إلى الموقف. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالجر عطفاً على المجرور أي: من نار ومن نحاس على أن المراد به الدخان. وأنشد: يُضيءُ كَضوءِ سِراج السلِيطِ ... لَم يَجعَلِ اللَّه فِيهِ نُحاسا.

(36)

والرفع أبلغ وإليه ذهب ابن عباس (فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فإن في التهديد كبح عنان العاصي، وحث الطائع على المزيد. (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً (37) قطعة حمراء كلون الورد. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما الوردة أديم أحمر. (كَالدِّهَانِ) كالزيت المذاب الذي يدهن به. كقوله (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) والمعنى: أنها تذوب من حرِّ نار جهنم. والدهان: كل ما يدهن به كالحِزام واللثام والختام. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) هذا في أول الحال قبل شفاعة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - للفصل والقضاء، فلا ينافيه (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) والهاء للإنس والجان؛ لتقدمهما رتبة. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) لما في ذلك الوقت من النعيم في ظل عرش الرحمن (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ (41) بعلامتهم سواد الوجه وزرقة العين (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) مجموعا بينهما، أو على التعاقب.

(42)

(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (44) بلغ نهاية الحرارة. يحترقون بالنار ويشربون من ذلك الحميم. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ... (46) الوقوف بين يديه (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) كقوله: (ذَلِكَ لِمَن خَافَ مَقَامِي)، أو لفظ المقام مقحم أي: لمن خاف اللَّه كقول الشماخ: ............ وَنفيتُ عَنهُ ... مَقامَ الذِئب كالرَجُلِ اللعينِ (جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) أي: لكل واحد إحداهما للاعتقاد والأخرى للعمل، أو إحداهما لترك المعاصي والأخرى لفعل الطاعات. وجعل إحداهما للخائف من الإنس والأخرى للخائف من الجن بعيد مخالف للأحاديث.

(48)

(ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) جمع فَنَن: وهو الغصن. خصها بالذكر؛ لأنها التي ينتفع بظلالها وثمارها وحصن المنظر بأوراقها، أو جمع فن أي: أنواع من الثمار. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) حيث أعد لكم هذا وأنتم بعد في العدم. (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) كيف شاؤوا إحداهما السلسبيل، والأخرى تسنيم. روي أنهما ينبعان من جيل من مسك. والوصف بالجريان؛ لتوفير حظ الباصرة فإن النظر إلى الماء الزلال أجلب شيء للسرور. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) صنفان مما تعلمون ومما لا تعلمون، أو رطب ويابس لئلا يُملّ. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) وأيُّ نعيم أفضل من هذا التنويع؟ (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ... (54) من حرير غليظ، وظهائرها من سندس. نصب على المدح، أو حال من فاعل " خاف "؛ لأنه في معنى الجمع. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) دان قريب يناله القاعد والمتكئ. اسم بمعنى المجني.

(55)

(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ ... (57) أي: في الجنان التي لكل واحد منها جنتان، أو في الجنتين؛ لاشتمالها على الأمكنة، أو في الآلاء المعدودة. (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) على أزواجهن لا ينظرن الغير. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) فهنَّ أبكار كما خلقن. وقرأَ الكسائي في رواية الدوري هنا بضم الميم وكسرها في الثانية، وفي رواية الليث عنه بالعكس، وفي رواية الجوهري بالمرجان خيّر الكسائي بين ضم إحداهما وكسر الأخرى على التعاند. وهذا أحسن جمعاً بين اللغتين بلا ترجيح من غير مرجح.

(58)

(كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) في صفاء الياقوت وبياض المرجان. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لِكُّلِّ وَاحِدٍ زَوجَتَانِ يُرَى مخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاء اللحْم ". وفي رواية ابن مسعود - رضي الله عنه -: " مِنْ وَرَاءِ سَبعين حُلَّة ". (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) أي: لا يكون إلا ذلك. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) دون الجنتين الأولين في الشرف، هما للمقربين وهاتان لأصحاب اليمين، روى البخاري عن عبد اللَّه بن قيس عن

(63)

أبيه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " جَنتان مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فيهِمَا، وَجَنَّتَان مِنْ فضَّة آنيَتُهُمَا وَمَا فيهِمَا ". وفي اللفظ دلالة على مزية الأوليين. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) سوداوان من الرّيّ. في مقابله (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ). (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) في مقابلة (عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ) والنضخ: الفوران، أقل من الجري. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) أفردهما؛ لبيان شرفهما على سائر الفواكه كأنهما جنسان آخران، أو لاشتمالهما على غير التفكه كالتغذي في التمر، والتداوي وفي الرمان؛ ولذلك ذهب أبو حنيفة رحمه اللَّه إلى أن من

(69)

حلف لا يأكل الفاكهة لا يحنث بأكل أحدهما. والوجه هو الأول إذ هذا إنما يتصور في فاكهة الدنيا؛ لأن كل ما يتناول في الجنة لا يتناول إلا على وجه التفكه. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) جميلات حسان الأخلاق، تخفيف خيرات صفة لا اسم تفضيل. إذ ذاك لا يجمع هذا الجمع. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) مخدرات لا يخرجن، أو مقصور طرفهن على أزواجهن. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ... (76) وسائد من حرير أخضر؛ لأنه لون مفرِح، ويقال أيضاً للبسط ولأطراف الخيمة وكل ثوب أخضر. (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) بُسُطٍ حسَنةٍ منسوب إلى عبقر. تزعم العرب أنه اسم بلد للجن ينسبون إليه كلّ شيء عجيب. ومنه في وصف عمر. " فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيّاً يَفْرِي فَريَه " والمراد به الجنس؛ ولذلك جمع وصفه. (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ... (78) كثر خيره وازداد. أراد لفظ الرحمن الذي يعقبه هذه النعم، أو كل اسم له فإنه لا يبدأ به شيء إلا صار ذا بركة

ويمن. (ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) تقدم الكلام فيه. وقرأ ابن عامر (ذو) مرفوعاً صفة للاسم وفيه مبالغة حسنة. * * * تمت سورة الرحمن، والحمد لمن له الفضل والإحسان، والصلاة على المبعوث إلى الإنس والجان، وآله وصحبه ذوي الرتب والشان.

سورة الواقعة

سورة الواقعة مكية، وهي سبع وتسعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) أي: القيامة. عبّر عنها بالواقعة، دلالة على تحقق وقوعها لا محالة كقولك: حدثت الحادثة. و " إذا " ظرف لليس، أو نصب بـ " اذكر "، أو لمقدر أي: إذا وقعت يكون كيت وكيت وهذا أجزل. (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) نفس تكذِّب في الإخبار عن عدم وقوعها كاليوم كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)، أو من كذبته نفسه عند الخطب إذا شجعته على أمر لا طاقة له به. كأنه قال: هذا الخطب ليس من الخطوب التي تقدر نفس على الكذب مع صاحبها في احتماله. وعلى الوجهين اللام للوقت. مثلها في (قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)، أو هو

(3)

كلام على طريقة التمثيل أي: بعد وقوعها ليس نفس تكذب بلسان الحال أو المقال ويقول لها لم تكوني، أو مصدر بمعنى الكذب كما يقال: حمل عليه حملة صادقة. أي: ذات صدق. (خَافِضَةٌ ... (3) لأقوام (رَافِعَةٌ) لِأُخَرَ. لقوم ويل ولقوم نيل. (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) حركت تحريكاً عنيفاً كقوله: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ). (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) سيرت. وفي الحديث: " إذا فُتحت العراقُ يأتي قوم يبسون بأهليهمْ "، أو فتتتْ، لقوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً ... (6) غباراً (مُنْبَثًّا) منتشراً. (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ... (7) أصنافاً (ثَلَاثَةً). (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) أي: أصحاب الجنة هل تدري ما صفتهم، وما هم فيه؟. أقام المظهر مقام المضمر؛ لما فيه من الفخامة. والميمنة: الجهة التي تسامن أقوى الجانين، من اليمن وهو البركة. والعرب تتايمن باليمين، وتتشاءم بالشمال ويسمونها الشُّؤْمى، أو لأن أهل السعادة يؤخذ بهم ذات اليمن، وأهل الشقاوة ذات الشمال.

(9)

(وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) أي: ما هم، وما صفتهم؟. سيق للتعجب. (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) مبتدأ وخبر أي: السابقون إلى الإيمان هم الذين بلغك خبرهم في علوّ الرتية ورفعة الشأن كقوله: " أنا أبو النجم وشعري شعري. وتخصيصهم بالأنبياء مما لا وجه له. (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) أي: للوصوفوف بالسبق هم الذين قربت درجاتهم من اللَّه، وأعلت منازلهم في الجنة. استئناف لبيان ذلك الإبهام. (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) جماعة كثيرون، من الثَّل وهو الصب والهدم. خبر محذوف أي: هم. (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) وفي تفسير الأولين وجهان. قيل: السابقون على هذه الأمة من لدن آدم إلى محمد عليه السلام فالسابقون من أولئك أكثر من سابقي هذه الأمة.

(15)

ورووا هذا عن الحسن، وهذا قول لا سند له. بل السابقون واللاحقون من هذه الأمة، وذلك لما صَح " أن أَهلَ الْجَنَّهِّ مِائَة وعِشْرونَ صَفًّا ثمَانُونَ مِنْ هَذ الأمِّةِ وَأَرْبَعونَ مِنْ سَائِرِ الأمَمِ ". وقد نطق القرآن بأن هذه الأمة خير الأمم. وروى البخاري ومسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " نَحْنُ أَقَل عَمَلًا وَأَكْثَر أَجْرًا ". فكيف يكون السابقون من أربعين أكثر من السابقين من ثمانين، مع أن هؤلاء أكثر أجراً وخيراً من أولئك بنص القرآن والحديث؟! بل الأولون هم أوائل هذه الأمة، الذين أشار إليهم بأنهم خير القرون. (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ). (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) منسوجة بالدر والياقوت داخلاً بعضها في بعض كحلق الدرع، وقيل. متدانية، أدنى بعضها من بعض. (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) حالان من الضمير في (عَلَى سُرُرٍ).

(17)

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) مبقون على تلك الهيئة أبدا، لا يعتريهم تغير وتبدّل من كبر سن، أو في آذانهم الخلدة وهي القُرْطة. وعن الحسن: " هم أولاد الكفار ". والحق أنهم أهل الجنة، وقيل: هم الأولاد والأطفال الذين ماتوا من غير عمل. (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ... (18) متعلق بـ يطوف، والكوب: ما ليس له عروة ولا خرطوم، والإبريق عكس ذلك، وهذا التنوع على طريقة أهل الشرب في الدنيا. (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) هو القدح الذي يشرب به، والمعين: الجاري أي: ليس مثل خمر الدنيا توخمت من مجاورة الدِّنِّ. (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ... (19) لا يحصل لهم بشربها صداع (وَلَا يُنْزِفُونَ) يسكرون يقال: أنزف سَكِرَ. قال:

(20)

لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لبِئْسَ النَّدامى أنتمُ آلَ أَبْجرا أو لا ينفد شرابهم، من أنزف: نفد والمعنى: لا تنفد عقولهم ولا شرابهم. وقرأ غير الكوفيين بفتح الزاي على بناء المفعول، من أنزفه؛ أسكره. وهذا أوفق بقوله (لَا يُصَدَّعُونَ). (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) يرتضون (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) يستلذون. (وَحُورٌ عِينٌ (22) بيض نجل العيون. عطف على ولدان معنىً. أي: لهم ولدان وعندهم حور، أو على فاعل متكئين؛ لوجود الفاصل كقوله (مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا). وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطفاً على جنات أي: في جنات ومعاشرة حور عين،

(23)

وعن الزجاج عطف على بـ " أكواب " أي: يطوف عليهم الولدان بالحور كما هو دأب الملوك يأتي الخادم بحظاياهم إلى أماكن أنسهم، وعن الفراء الجر على الجوار. (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) في الصدف في الصفاء والطراوة، أو المخزون لشرفه وبهائه. (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) مفعول له. أي: هذا الذي أتحفناهم به جزاء أعمالهم. (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ... (25) كلاماً باطلا، (وَلَا تَأْثِيمًا) ولا شيئاً لو كان في الدنيا أوجب إثماً كما يقع من أَهل السُّكْر في مجالسهم. (إِلَّا قِيلًا ... (26) قولا (سَلَامًا) سالماً عن ذلك (سَلَامًا) بدل منه، أو إلا سلاماً إثر سلام. (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) أي: لهم شَأن وأي شأن، ثم شرع يفصله.

(28)

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) عن الشوك كأنه خضد، وقيل: هو موقر الجمل. من خضده: إذا ثناه وأماله. (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) نُضِدَ بالثمر من أسفله إلى أعلاه وهو شجر الموز أو أمُّ غيلان، وقيل: شجر في البادية. والظاهر أنه إنما خُصَّا بالذكر؛ لكثرتهما في أرض العرب وليس لهما ثمر فاخر. فأشار إلى أنهما في الجنة ليسا على ما كانا عليه، وقيل؛ إنما ذكر المعنى، التظليل دون الثمر وليس بوجه؛ لذكر الظل بعده، ولكون الوصف بالخضد والنضد غير ملائم، وقيل. هذا كلام مع أهل الوبر وأم غيلان: له رائحة طيبة، وله شوك، فأشار إلى أن ما في الجنة لا شوك له مع كونه موقراً بالثمر. (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) لا فُرَج فيه ولا يتقلص، كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) على الدوام كيف شاءوا (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) الأنواع (لَا مَقْطُوعَةٍ ... (33) في وقت كفاكهة الدنيا (وَلَا مَمْنُوعَةٍ) من الوصول إليها.

(34)

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) على السرر، أو نضد بعضها فوق بعض فارتفعت. روى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال في تفسير (فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) " ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسمِائَهِّ عَام ". أو هو كناية عن الحور. (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) أي: خلقناهن خلقاً جديداً، إما ابتداء وهن الحور أو نساء الدنيا. والضمير للفرش إن كان كناية عن النساء، أو لما دل عليه ذكر الفُرُش وإن لم يسبق له ذكر. وعن أم سلمة رضي اللَّه عنها سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ) قال: هُنَّ اللَّاتِي كُنَّ في الدّنْيَا شُمْطًا رُمْصًا، عَجَائِزَ. (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا ... (37) جمع عَرُوب. متحببات إلى أزواجهن. قرأ أبو بكر بسكون الراء مخففاً. (أَتْرَابًا) لدات، هن والأزواج [في سن واحد وثلاثين] (¬1) وطول آدم ستين ذراعاً في عرض سبعة أذرع. ¬

_ (¬1) المشهور ثلاث وثلاثون. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(38)

(لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) متعلق بـ (أَنْشَأنَا)، أو صفة أخرى لـ (أَبْكَارًا). (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) خبر مبتدأ محذوف. (وَأَصْحَابُ الشِمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِمَالِ (41) في سوء الحال. (فِي سَمُومٍ ... (42) في نار تتقد في المسام. (وَحَمِيمٍ) وماء تناهت في الحرارة. (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) دخان أسود، من الحمة وهي السواد. (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) ليس فيه برد وروح كسائر الظلال. أثبت لهم الظل، ثم نفى برده ورَوْحه؛ تهكمًا وتعريضاً بأن ذلك إنما يستحقه أضدادهم. (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) متنعمين، أذهبوا طيباتهم في الحياة الدنيا. من أترفته النعمة: أطغته. (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) الكفر باللَّه (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) منكرين ذلك مكذبين للرسل، نافين لقدرة المقتدر.

(48)

(أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) مع تقادم العهد هذا أشد بعداً. والعطف على المستكن في مبعوثون؛ لوجود الفاصل، أو على محل اسم إن. وقرأ ابن عامر وقالون بسكون الواو، ويتعين العطف على المحل. (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) الميقات: ما يوقت به الشيء، ومنه ميقات الإحرام أي: إلى وقت معين من يوم معلوم. الإضافة بمعنى " من ". (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) المكذبون بالبعث. قدم الضلالة؛ لأنها منشأ الكذب. (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) " من " الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيان. (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) لغلبة الجوع. (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) الماء المتناهي في الحرارة. وتأنيث الضمير أولاً ثم تذكيره ثانياً باعتبار اللفظ والمعنى، وحمل التذكير على الأكل يفك الضمائر. (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) جمع هيماء: وهي التي لا تروى من العطش لداء بها. قال ذو الرمة. فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ صَداها ... ولا يَقْضي عليها هُيامُها

(56)

أو جمع هَيام: وهو الرمل الذي لا يمسك الماء. والعطف باعتبار الصفة؛ لأن شربهم الحميمم لدفع العطش بديع، كما أن شربهم كشرب الهيم عجيب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي بفتح الشين، وهما لغتان، والضم أشهر. (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) هو ما يعد للضيف النازل، وإذا كان هذا النزل فما بعده أطَمّ. (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ ... (57) لا تشكون في ذلك. (فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) بالإعادة فإنها أوضح من البدء. (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) تلقون في الأرحام من النطف (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) هب أنكم لا تعلمون خلق أنفسكم ألستم شاهدون ما تولد منكم؟! (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ... (60) قضينا بذلك، وسويناكم فيه مع الاختلاف في الأعمار كالأرزاق. (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ... (61) يقال: سبقت على كذا غلبت عليه. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) ما هو وما عهدتم مثله، قدرتنا على الأمرين سواء.

(62)

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) فإنها في غاية الظهور لا تحتاج إلى ترتيب مقدمات. (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) تشقون الأرض وتلقون فيها من البذر. (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ ... (64) تنبتونه وتوصلونه إلى الكمال، (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) الفاعلون لذلك؟!. (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ... (65) متكسراً (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قضيتم نهاركم تتعجبون أو تندمون على تعبكم فيه، أو على المعاصي التي تسببت له. وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يقُلْ أحَدُكمْ زرَعْتُ وليقلْ حرَثتُ". (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) لذهاب رزقنا، من الغرام، أو ملزمون بغرامة ما أنفقنا فيه، من الغرامة. وقرأ أبو بكر بالاستفهام تعجباً، والإخبار أبلغ. (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) مصابون بالحرمان والشقاء. (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) عذباً فراتاً. (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ... (69) جمع مُزْنَة: السحاب الأبيض فإن ماءه أعذب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ... (70) مُرًّا زُعاَقاً لا يسوغ. (فَلَوْلَا

(71)

تَشْكُرُونَ) هذه النعمة. وإنما حذف اللام؛ لتقدمها قريباً مع اشتهار لونها، ولأن المشروب تبع للمأكول، ليدل على أن فقده أهم، والاهتمام به أتم. (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) تقدحون بالزند والزندة. (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا ... (72) المودعة فيها النار؟ (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ... (73) تدل على قدرتنا على الإعادة، وأنموذجاً من نار الآخرة (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) النازلين بالقواء ممدود ومقصور، من القيِّ: وهو المكان القفر، وخص بالذكر؛ لفرط الاحتياج فيه، أو من القوى: وهو الخلو فيعم المسافر والمقيم. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) نزهه عما لا يليق بجلاله بذكر اسمه العظيم شكراً لعظيم آلائه، أو اذكره باسمه العظيم تعجباً ممن يرى هذه النعم ثم يكفر. الباء للاستعانة أو للملابسة. (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) بِمَساقطها، أو في ذلك الوقت يزول سلطانها فيكون أدل على وجود الصانع. وعن الحسن: انتشارها يوم القيامة، وقيل منازلها، وقيل: أوقات نزول القرآن، و " لا " مزيدة. وقرأ حمزة والكسائي " بموقع النجوم " لإرادة الجنس. (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) اعتراض فيه اعتراض لما في المقسم به من كمال القدرة، أو نهاية الرأفة.

(77)

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) شريف، نيط به أمر المعاش والمعاد، أو كريم عند اللَّه، وإنما بالغ في القسم وجعل القرآن مقسماً به؛ لكون السورة مصدرة بأمر المعاد، وقد استوفى فيها أدلة الآفاق والأنفس على وجه تحار فيه الألباب، ولا يبقى لذي العينين ارتياب. (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) مصون عن يد الأغيار، ولم يقع فيه شائبة تبديل. (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) من دنس الآثام، وهم السفرة الكرام البررة، أو المطهرون من الأحداث. رواه مالك وأبو داود، فالنفي بمعنى النهي. (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) مصدر نعت به صفة أخرى للقرآن. (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) متساهلون، من الدهن. فإن المتهاون يلين جانبه.

(82)

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ... (82) شكر ما رزقتم من فهمه، أو رزقكم الذي بيّن في السورة من نعم الدارين (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) به. وقيل: الرزق: المطر، وتكذيبهم به نسبته إلى الأنواء. (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) أي: النفس، والخطاب للذى حول المحتضر (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) نظر المحتاج العاجز. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) ذلك. (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) مربوبين مملوكين، من دان السلطان رعيته: ساسها. (تَرْجِعُونَهَا ... (87) النفس إلى البدن (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في أن لا صانع، وأنكم تتركون سدى. وهؤلاء وإن لم يصرحوا بنفي الصانع إلا أن تكذيبهم الرسل، وإنكار البعث والجزاء مُؤدٍّ إليه، ثم استطرد ذكر الأزواج الثلاثة التي صدر بها السورة؛ زيادة في الترغيب والترهيب، وليَتَجاوب طرفاها رداً لعَجُز على الصدر قال: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) راحة، ورزق، ومقام كريم. قدم الأهم فالأهم. (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) أي: من إخوانك المؤمنين. " من " ابتدائية. وقيل: مُسَلَّم أنك منْهم. (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) أي: من أصحاب الشمال. عبر عنهم بالوصف؛ دلالة على أن ذلك الوصف أورثهم الشقاء. (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) في ذكر النزل تهكم بهم.

(95)

(إِنَّ هَذَا ... (95) ما ذكر في السورة، أو في شأن الأزواج (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) لا يقين فوقه. كقولك آمين حق آمين. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) أي: بعدما بلغت هذا البلاغ المبين نزه ربك عما لا يليق بجلاله مستعيناً باسمه الأعظم (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). * * * تمت سورة الواقعة، والحمد لمن رحمته واسعة، والصلاة على من شفاعته شائعة، وعلى آله وصحبه دائمة متتابعة. * * *

سورة الحديد

سورة الحديد مكية، وهي تسع وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (1) جاء بلفظ الماضي في مواضع والمضارع أخرى، دلالة على أن شأن من أسند إليه الفعل الاستمرار في جميع الأزمان، وحيث كانت هذه أطول ما صدرت بلفظ التسبيح لم يعد الجار في المعطوف بخلاف سائرها، ولم يغلب العقلاء؛ إشارة إلى أنهم في القِلَّة مغمورون في جملة لا تحصى كثرة. فَفِي كُل شيءٍ لَهُ آيةٌ ... تَدُل على أنهُ وَاحد.

(2)

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القاهر. (الْحَكِيمُ) المتقن في صنعه فهو حقيق بالتسبيح. (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ ... (2) مرفوع خبر مبتدأ، أو منصوب حال من المجرور، أو استئناف مقرر لما تَقدم. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كامل القدرة إحياء وإماتة وغيرهما. (هُوَ الْأَوَّلُ ... (3) قبل كل شيء (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فناء كل شيء (وَالظَّاهِرُ) في كل شيء (وَالْبَاطِنُ) عن كل شيء، لا يحيط به شيء علماً. ولا دليل فيه لنا في الرؤيا. وتفسير البطن بعَدم إدراك الحواس قصور، بل بطونه عدم إدراك كنهه أزلاً وأبداً، حساً وعقلاً. تعالى عن ذلك علواً كبيراً. والواو الأولى والثالثة لعطف المفرد على المفرد، والوسطى لعطف المركب على المركب. والمعنى: أنه جامع لهذه الصفات أزلاً وأبداً، ولما أوهم بطونه عن الأشياء بطونها عنه كما في الشاهد رفعه بقوله: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يستوي في علمه الظاهر والباطن. (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ... (4) لتدبير الكائنات تمثيل. (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من ماء وحب. (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) من نبات وزرع (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) من مطر وثلج وبرد، وأقدار وأحكام. (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) من الملائكة والأرواح والأعمال. (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) شاهد لا يخفى عليه الإخلاص والرياء. وإعادة الجلالة، دلالة على أن ذلك من لوازم الألوهية.

(5)

(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (5) أعاده؛ ليقرن به أمر المعاد كما قرن به المبدأ. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازي كلا على حسبه. (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) بمضمراتها أبلغ من قوله (بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (7) إذ لم يبق لكم شبهة. (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) من الأموال التي بأيديكم إذ هي في الحقيقة له تعالى وأنتم بمتزلة الوكلاء والخزان فأنتم تحت أمره فكما يأمركم به يجب علمكم الامتثال، ولا ينبغي أن يشق عليكم إذ لا أخس ممن يشح بمال الغير. (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) مع كونكم غير مالكين. لكم أجر لا يحاط به ترغيب، ووعد فيه مبالغات بناء الخبر على الموصول، وإعادة الإيمان والإنفاق، وتنكير الأجر والوصف بالكبر. (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... (8) ما تصنعون غير مؤمنين باللَّه. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) حال من ضمير لا تؤمنون، وهو من ضمير تصنعون. فهما حالان متداخلان. (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) حال من أحد ضميري يدعوكم، أو حال بعد حال من ضمير تؤمنون. والحال أنه قد أخذ عليكم الميثاق قبل الرسول بما ركب فيكم من العقل

(9)

ونصب الأدلة فقد أزاح الشبهة عنكم من كل وجه. وقرأ أبو عمرو (أُخِذَ) على بناء المفعول. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بموجب الإيمان، فقد بان لكم الموجب بما لا مزيد عليه، كقولك لتارك الصلاة: هذا الماء والمحراب إن كنت تصلي. والعتاب عام لِمَنْ لم يؤمن، ومن آمن ولم ينفق. (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... (9) واضحات الإعجاز أو الدلالة على الأحكام. (ليُخْرِجَكُمْ) أي: اللَّه أو الرسول. والأول أولى؛ لقوله تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) حيث بين لكم وأوضح. (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (10) فيما يكون قربة إليه، من الجهاد والصدقة على المحاويج. (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هو الباقي بعد فناء من في السماوات والأرض، فأي فائدة في الإمساك، هلا يقدم العاقل ماله بين يديه، ويشتري بالفاني الباقي. عنه - صلى الله عليه وسلم - " يَقُول ابنُ آدَمٍ: مَالي مَالي، وَهَلْ لَك مَال إِلَّا مَا أَكَلْتَهُ فَأَفنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَهُ فَأَبلَيتَ، أَوْ تَصَدقْتَ بِهِ فَأَبْقَيتَ "، (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) فتح مكة، وقيل: [الحديبية]، في حال شدة الاحتياج ومن بعده. حذف؛ لوضوح الدلالة عليه. (وَقَاتَلَ) بيان

(11)

لتفاوت الإنفاق، وحثّ على طلب المحل القابل، وتقديم الأولى والأحوج. (أُولَئِكَ) هم المنفقون (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) بعد فتح مكة، (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي: من المنفقين السابقين واللاحقين موعود بالجنة وإن تفاوت حالهم. وقرأ ابن عامر (وَكُلٌّ) بالرفع على الابتداء والفعلية خبر بحذف العائد، والنصب أحسن؛ لعدم التقدير. (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يعلم نية المنفق إخلاصاً ورياء. قيل نزلت في الصدِّيق. أنفق ماله في سبيل اللَّه حتى تخلل بعباء فجاء جبرائيل فقال لرسول اللَّه يقول اللَّه تعالى قل لأبي بكر " هل هو راضٍ عني في فقره؟ وسلم عليه مني ". (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ... (11) مثل حال المنفق في سبيل اللَّه بحال من أقرض إنساناً يؤديه إليه وقت احتياجه. والقرض الحسن: مالا يجر نفعاً ولا يطلب فيه زيادة. (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) أَضْعَافَاً لا يعلمها غيره. قرأه بالنصب ابن عامر وعاصم بأن مضمرة بعد الفاء جواباً للاستفهام معنىً. وقرأ ابن كثير وابن عامر يُضعِّف مشدداً. وكما زاد " كَمًّا "، فكذلك عظم " كيْفاً " بقوله: (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) شريف لا كسائر الأجور يكون مع مهانة. (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... (12) مقدر بـ " اذكر " فإنه يوم عظيم، أو ظرف ليضاعفه، أو له أجر كريم. (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) أي: يسرع نورهم قدامهم، وعن اليمن والشمائل، على قدر سيرهم. منهم من سيرهم كالبرق الخاطف، ومنهم

(13)

كالريح، ومنهم كأجاويد الخيل. وكذلك أنوارهم على قدر أعمالهم حتى أن فيهم من يقوم ويقع لضعف نوره. وفي لفظ الإيمان تغليب. (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ) أي: تقول لهم الملائكة الذي بشرتم به (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) خبر بشراكم. (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي: الفوز الذي بشروا يه من كلامه تعالى. (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ ... (13) بدل من (يَوْمَ تَرَى) (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) بعد القضاء بين العباد يؤخذ بالكفار الخلص إلى النار، وبالمؤمنين إلى الجنة، ويتبعهم المنافقون كما كانوا في الدنيا يعدون أنفسهم منهم، ويعطون نوراً لمجازاة لخدعهم، فإذا توسطوا الصراط انطفى نورهم، نادوا المؤمنين انتظرونا أو انظروا إلينا نأخذ قبساً أي: شعلة من نوركم، كما يفعله الأصحاب في الدنيا إذا انطفى مصباح أحدهم. (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) إلى الدنيا. العائل: المؤمنون أو الملائكة (فَالْتَمِسُوا نُورًا) آخر؛ لأنه محل الأعمال التي صارت اليوم أنوارًا. وقرأ حمزة (أنظرونا) بهمزة القطع أي: أمهلونا وهو قريب من الأول. (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) هو الأعراف: حائط الجنة (لَهُ بَابٌ) يدخل منه

(14)

المؤمنون الجنة (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) وتغيير الأسلوب؛ للدلالة على أن داخله كله نعيم، بخلاف ظاهره لبعد النار عنه. (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ... (14) في الدنيا متفقين في الدين (قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) بخستموها بالنفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر، وقلتم: ريح الإسلام تهب ساعة ثم تسكن (وَارْتَبْتُمْ) في أمر الساعة، وقلتم: (مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ) الكاذبة، وقلتم: إن كان بعث سيُغْفر لنا. (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ) قيام الساعة وأمره بدخول النار، (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الشيطان بوعده الكاذب. (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ... (15) إن لو كان لكم ما تفدون. قرأ ابن عامر بالتاء والتذكير أحسن؛ لوجود الفصل. (وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهراً وباطناً. (مَأْوَاكُمُ النَّارُ) مقامكم، (هِيَ مَوْلَاكُمْ) أي: أولى بكم من غيرها؛ لما معكم مما يلائمها من الأعمال، أو هي التي تتولى أمركم أو ناصركم تهكماً. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيركم. (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ... (16) أي: القرآن، من عطف العام على الخاص، أو عطف باعتبار الصفة. وقرأ نافع وحفص (نزل) مخففاً، والشديد أبلغ. " يأنِ " من أنى يأنى الأمر إذا جاء أناه أي: وقته، والهمزة للاستبطاء كقولك للغلام: ألم أدعك؟. والمعنى: ليس للمؤمنين عذر في عدم خشوع قلوبهم. وما رواه

(17)

مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: " لم يكنْ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبنَا اللَّه إِلا أَربعُ سِنين ". وما رواه قتادة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: إن اللَّه عاتب المؤمنين على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن؛ يدل على أن السورة مكية، فإن قلت: إنها كانت السورة مكية، فما وجه قصة المنافقين، والنفاق إنما نجم بالمدينة؟. قلت: إخبار بما يقع كسائر الأخبار عن المغيبات. (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) عطف على (تَخْشعَ)، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أولئك، (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الزمان. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فغلب عليها القسوة والجفاء لتراكم الذنوب، وظلمات المعاصي فأحدثوا التحريف والبدع. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) خارجون بالكلية عن دينهم لفرط قسوتهم. (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ... (17) مثّل حال القلوب النابية عن الخشوع، ثم تأثرها من ذكر اللَّه، (وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ) بحال أرض غلب عليها اليبس ثم أصابها الغيث فاخضرت. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) في تصدير الكلام

(18)

بـ (اعْلَموا) وختمه بـ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) نوع عتاب، إذ كان الأولى بهم التدبر بدون هذا؛ لجلاء الحال . (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ... (18) عطف على المصدقين، لكونه في معنى الذين صدقوا، وفيه تغلب؛ لئلا يقع فصل بالأجنبي. والمعنى: الذين تصدقوا وأخلصوا في ذلك وأخرجوه من مالهم الطيب. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد من التصديق أي: آمنوا باللَّه ورسوله، والتشديد أولى، لذكر الإيمان بعد (يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) تقدم تفسيره آنفاً. (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... (19) أي: بمنزلة هؤلاء وإن كانوا قاصرين تنزلوا منزلتهم. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي: مثل أجر أولئك ونورهم، لا في الإضعاف أي: جميع ما يحصل لهم من الأجر والإضعاف، بل مثل مجرد أجر الصديقين وحده. فإن قلت: فأي ترغيب في ذلك؟. قلت: كل ترغيب؛ لأن آحاد المؤمنين إذا جعل ثواب عمله مثل ثواب عمل الصّدّيق فأي إحسان فوق ذلك؟ وأما الإضعاف فذلك ليس راجعاً إلى الأعمال. بل ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. ويجوز أن يكون (وَالشُهَدَاءُ) مبتدأ، (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) خبر، وليس بقويّ. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) الذين لا يفارقونها؛ لإفادة الكلام الحصر. (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... (20) لما ذكر ما للفريقين في الآخرة، حقَّر أمر الدنيا بأن حصر ما فيها في أمور خيالية، قليلة النفع، ترغيباً فيما عنده، وتحذيراً عن الاغترار بها. واللعب: ما يجلب السرور. واللَّهو: ما يدفع الهم. (وَزِينَةٌ) بالأموال والبنين، (وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ) أنا ابن فلان، وأنت ابن فلان، (وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) أنا لي كذا

(21)

مالاً وولداً، وأنت لا تملك ما أملك. (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) مثَّل حال الدنيا في قلة جدواها، وسرعة نقضها بحال نبات أنبته الغيث، فاستوى على سوقه اخضرِّ ناضراً وارِقاً، فأعجب الزراع شأنه، أو الكفار باللَّه؛ لقصور نظرهم إلى الدنيا، والمؤمن إذا رآه علم أن ما عند اللَّه هو الباقي، وأن هذا عن قريب زائل. ثم اصفرّ بعد تلك النضارة وتبدل حاله، ثم تكسر وذهب كأن لم يكن. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) تنفير عن الركون إليه. (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) حث على العمل المثمر ذلك. (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) إلا شيء يسير ونفع قليل يغتر به. (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... (21) مسابقة الفرسان إلى إحراز قصب السبق. (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) إنما ذكر العرض؛ لأنه أقصر الامتدادين، فإذا كان حاله كذلك فما ظنك بالطول؟! والمراد جنس السماء، لقوله: (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ). فإن قلت: أيهما أبلغ؟ قلت: الثاني؛ لحذف أداة التِّشْبيه، والتصريح بما يدل على العدد. فإن قلت: لم اختص بموقعه؟ قلتّ: لأن الثاني في آل عمران، وهو متأخر نزولاً، فلو عكس لم يبق فائدة في ذكره. (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) الاستدلال به على أن مجرد الإيمان كافٍ، ليس بناهضٍ؛ لقوله في آل عمران: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الذين نعتهم كيت وكيت. (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) من عباده من غير إيجاب؛ لأن العبد لا

(22)

يستحق على المالك أجرة. (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) لا يحاط بفضله. خلق وهدى وأعطى ما لم يخطر على قلب، من غير وجوب ولا استحقاق. (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ ... (22) في اللوح، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) نخلقها أي: الأنفس أو المصيبة. الأول أوجه؛ لما روى مسلم " أَن اللَّه كَتَبَ مَقَاديرَ الخَلَائِق قبْلَ خَلقِ السِّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بِخَمْسِين أَلْفِ عَامٍ، وَكَان عَرشُه عَلَى الماء ". (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)؛ لعلمه بالأشياء قبل وقوعها، كعلمه بها حال وقوعها. ثم أشار إلى الحكمة في ذلك بقوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ... (23) فإن من علم أن ما أصابه من الضر كان مقدراً علمه في الأزل لم يحزن الحزن الشديد؛ لأنه قد وطن نفسه على ذلك، وكذا في جانب الخير، لأنه كان مترقباً. والمراد بهما ما يخرج إلى الجزع وعدم الصبر، والفرح المطغي المفضي إلى البطر، لا ما يعتري الإنسان من الهم والسرور شكراً لنعمة اللَّه. وقرأ أبو عمرو: (أتَاكُمْ) مقصوراً أي: جاءكم، وهي قراءة حسنه فسرها (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) متكبر، فخور على الناس بكثرة المال. واكتفى بأحد الشقين؛ لدلالته على الآخر، وآثر الثاني، لأنه أشد تكبراً. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ... (24) بدل من (كُلَّ مُخْتَالٍ) وأوفى منه؛ لدلالته على أن عز المال وحبه بلغ حدًّا يشح بمال الغير. وقرأ حمزة والكسائي

(البَخلِ) بفتح الباء، وهما لغتان كالرُّشد والرَّشد. (وَمَنْ يَتَوَلَّ) يعرض ولن ينته عما نهى اللَّه. (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ) لا يحتاج إلى إنفاق المنفق. (الْحَمِيدُ) محمود في ذاته وإن تولوا عن شكره. وقرأ نافع وابن عامر بحذف ضمير الفصل، وعليه رسم مصحف المدينة والشام، والإثبات آكد، وعليه بقية الرسوم. (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ... (25) أي: الملائكة إلى الأنبياء بالمعجزات، لا الأنبياء إلى الناس؛ لقوله: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) قانون الشرع يشمل الميزان الذي به تعِامل الناس، وكل ما يعرف به الإنصاف من أمور المعاش والمعاد؛ ولذلك علله بقوله: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) بالعدل. (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يتخذ منه آلة الجهاد والقتل. وفيه إشارة إلى أن أمر الشرع لا يستقل بدون السيف والسنان. الظلم من شيم النفوس فَإن تَجِد ... ذا عِفةٍ فلعِلَّةٍ لا يظلمُ وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "رِزْقِي تحت ظِلًّ رمحي " (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) إذ لا صنعة إلا وللحديد فيه مدخل. (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) عطف على محذوف دل عليه السياق. أي:

(26)

لنفعهم وَلِيَعْلَمَ اللَّه، وفي الحذف إشارة إلى أن الثاني هو المطلوب بالذات. (بِالْغَيْبِ) حال من المستكن فِي ينصره. أي: غائباً عنه. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " ينصره ولا يبصره ". (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ) ذو قدرة بالغة. (عَزِيزٌ) غالب على كل شيء. وإنما أنزل الحديد وأمر بالقتال؛ لينالوا بذلك القربة عنده والزلفى. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ... (26) أي: الوحي المتلو. أشار إلى أن قانون الشرع والأمر بالقسط بين الناس قديم، من لدن نوح إلى محمد عليهما السلام. (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) غير الأسلوب، للدلالة على أن الغلبة لأهل الضلال. (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا ... (27) أي: آثار نوح وإبراهيم، والجمع للتعظيم، أو هما ومن عاصرهما من الرسل، أو من أرسلا إليه. (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي: انتهى إرسال الرسل إليه. (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً) مصدر رهب: وهو شدة الخوف. والمراد تعبدهم في الجبال والمغائر والكهوف. وذلك أن بني إسرائيل بعد صعود عيسى افترقوا اثنَتيْنِ وسبعين فرقة، ثلاث فرق على الحق والباقون على الضلال، فدعوا الملوك والجبابرة إلى دين عيسى، وقاتلوهم حتى لم يبق منهم إلا قليل، فلم يقدروا على المقاومة، فتفرقوا في الجبال (ابْتَدَعُوهَا) اخترعوها من عند أنفسهم (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) ما فرضناها عليهم. (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) استثناء منقطع. أي: لكن ابتدعوها طلباً لمرضاة اللَّه. (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) ما قاموا بها حق القيام. وفيه إشارة إلى أن التعمق في

(28)

العبادة فوق ما سنه اللَّه ورسوله مذموم. وقد روى البخارى عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الدِّينَ يسْرٌ وَلَنْ يُشَاد أَحَدٌ الدِّيْنَ إِلَّا غَلَبَهُ " " فَإِن بَنِي إِسْرَائيلَ شَددوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْك بَقَايَاهُمْ في الصَّوَامِع رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ". وانتصابها بمضمرٍ مفسر. وجعلها من المجعولات عدول عن الظاهر مخالف للأحاديث. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) الذين وفوا بما نذروا. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) لم يحافظوا على ما عاهدوا اللَّه عليه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... (28) أحدثوا الإيمان. (اتَّقُوا اللَّهَ) في أوامره ونواهيه. (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد عليه السلام، عن ابن عباس والضحاك - رحمه الله - أنها نزلت في مؤمني

أهل الكتاب. ويدل عليه قوله: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) وذلك؛ لما رواه البخاري ومسلم رحمهما اللَّه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أُجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجلٌ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمحَمَّدٍ، وَعَبْدٌ مملوكٌ أَدّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقِّ مَواليهِ، ورَجُل لَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا". والكفْل: الحظ الوافر، والنصيب الكامل كأنه تكفل بالكفاية. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) على الصراط يسعَى بَينَ أَيْديكمْ وَبِأَيْمَانِكمْ، أو نوراً ينقذكم به عن ظلمات الجهل. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما سلف لكم. (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عن سعيد بن جبير - رضي الله عنهما -؛ افتخر مؤمنو أهل الكتاب بأن لهم الأجر مرتين، فأنزل اللَّه تعالى لمؤمني هذه الأمة، وزادهم النور والمغفرة. ويؤيده ما رواه البخاري أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ العَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ "، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ، وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: «هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟» قَالُوا: لاَ، قَالَ: «فَذَلِكَ، فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ». وما قيل، إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أرسل جعفراً يدعو النجاشي إلى

الإيمان، فآمن به وأرسل سبعين رجلاً إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فجاؤوا ورسول اللَّه قد تهيأ لوقعة أُحدٍ كلام لا أصل له. وجعفر إنما قدم مع من هاجر إلى الحبشة، ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في محاصرة خيبر بعد أحد بثلاث سنين. رواه البخاري مكررًا في مواضع.

(29)

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ... (29) " لا " مزيدة. والمعنى على الأول: إنما وعدنا من آمن من أهل الكتاب كفلين من رحمتنا، ليعلم الذين لم يؤمنوا منهم أن إيمانهم السابق لا يورّثهم شيئاً من فضل اللَّه قط. وعلى الثاني: اثبتوا أيها المؤمنون على إيمانكم، واتقوا اللَّه يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجر مرتين، ويزيدكم النور والمغفرة. (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) وقيل: " لا " غير مزيدة. والمعنى: إنما فعلنا كذا وكذا؛ لئلا يعتقد أهل الكتاب أَن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لا يقدرون على حصر فضل اللَّه فيمن آمن بمحمد. وقوله: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) عطف على (ألَّا يَعْلَمَ) ولا يخفى بُعدَه. تمت بحمد اللَّه على العُبيد، ونسأله من فضله المزيد، والصلاة على الماجد الفريد، وآله وصحبه الذين فلقوا بالحديد هامَ كل جبار عنيد.

سورة المجادلة

سورة المجادلة مدنية، وهي اثنتان وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) عن عائشة رضي اللَّه عنها: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، لقد جاءت المجادلة خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن [الصامت] الأنصاري إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تشتكي زوجها وأنا في ناحية البيت يخفى علي بعض كلامها، وكان أوس ولاج الخوالف، وكان به حدة، فدعاها إلى الفراش فأبت فظاهر عنها، فاستفت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: حرمت عليه، فقالت: إن لي منه صبية إن

ضممت إليه ضاعوا، وإن ضممت إلي جاعوا، فقال: قد حرمت، فقالت: أشكو إلى اللَّه فاقتي. فنزلت. روي أنها استوقفت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً زماناً طويلاً، فدنا منها وأصغى إليها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟، قال: ويحك!، هذه خولة التي سمع اللَّه تعالى شكواها من فوق سبع سماوات، لو لم تنصرف لوقفت معها إلى الليل. وفي " قد " دلالة على أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والمجادِلة كانا يتوقعان أن اللَّه سينزل في شأنها ما يفرج كربتها " (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) تراجعكما في الكلام. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) للأقوال والأحوال.

(2)

(الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ... (2) الظهار كان طلاقاً في الجاهلية مؤكداً باليمين. وفي إقحام منكم توبيخ للعرب، وتصوير لزيادة التهجين، لأنه كان مخصوصاً بهم. وقرأ حمزة والكسائي. بفتح الياء والهاء والتشديد من " اظّاهر ". وعاصم بضم الياء وكسر الهاء والتخفيف من " ظاهر ". (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) حقيقة. بكسر التاء قراءة السبعة على أن " ما " عاملة. (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) والمرضعات وأزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملحقات بهن احتراماً. قرأ الكوفيون وابن عامر: " اللائي " بالهمز والتاء، وأبو عمرو وابن كثير في رواإية قنبل: بالياء ساكنة. ونافع في رواية ورش: كالياء مكسوراً وفي رواية قالون وابن كثير في رواية البزي. بالهمز. (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) باطلاً منحرفاً عن الصواب،

(3)

إذ بين الزوجات والأمهات أبعد مما بين الضب والنون. فإن قلت: الظهار كالطلاق، فكيف يوصف بالزور الذي هو من خواص الخبر؟ قلت: باعتبار ما تضمن من إلحاقها بالأم. (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ... (3) الظهار: قول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو كرأسها، أو كجسدها وسائر المحارم كالأم. الآية الأولى في ذم المظاهر، وهذه في بيان حكمه. ثم العود عند الظاهرية أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره. وعند أبي حنيفة - رحمه الله - باستباحة ما حرم [ولو بالنظر بشهوة]. وعند الشافعي رحمة اللَّه بأن يمسكها زماناً يمكنه أن يفارقها، وعند الإمام أحمد رحمه اللَّه أن يعود إلى الجماع، أو يعزم عليه. وعند مالك العزم على الوطئ أو الإمساك. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي: كفارته تحرير رقبة. قيده الشافعي رحمه اللَّه بالمؤمنة بناء على أصله من حمل المطلق على

(4)

المقيد. والفاء للسببية، وفائدتها الدلالة على تكرر الكفارة بتكرر الظهار. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) يستمتع كل من المظاهِر والمظاهَر بالآخر لعموم اللفظ، أو أن يجامعها. وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير. (ذَلكُمْ) التكفير على هذا الوجه، (تُوعَظُونَ بِهِ) تزجرون به؛ لأن المظاهر إذا علم بوجوب الكفَّارة وهي إعتاق رقبة ينزجر. (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) حث على الإتيان به على الوجه الأكمل. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ... (4) مالاً يعتق به رقبة، ومَن مالُه غائب واجد فلا يعدل عن العتق (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فإن أفطر يوماً لغير عذر أو نسي النية، أو مرض بطل تتابعه دون الحيض. والقربان بالليل يقطعه عند أبي حنيفة ومالك دون الشافعي رحمهم اللَّه. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) لفرط شبق، أو لهرم، أو مرض لا يرجى

زواله (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) وهو نصف صاع من بر، أو صاع من شعير اعتباراً بالفطرة. وعنده الشافعي رحمه اللَّه مُدٌّ بمُدِّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو رطل وثلث، وكل خمسة أرطال وثلث، ستمائة درهم وثلاثة وتسعون درهماً وثلث درهم. والدليل للشافعي حديث الأعرابي الذي جامع في رمضان. وإنَّما لم يعِد التماس؛ لتقدمه مكرراً، أو لجوازه في خلال الإطعام كما قال أبو حنيفة رحمه اللَّه. وأجراه بعضهم على الظاهر. (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: فرض ذلك لتصدقوا باللَّه ورسوله فيما شرعا من الأحكام، وتتركوا ما كنتم عليه في الجاهلية. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي. الأحكام المذكورة فلا تتجاوزوها. (وَلِلْكَافِرِينَ) الذين لم يصدقوا. (عَذَابٌ أَلِيمٌ) جزاء لكفرهم.

(5)

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (5) يشاقونهما. من الحد؛ لأن كلاً من المتعادين في حد، أو يقابلوهمما في شرع الحدود، وخلاف ما شرعا. (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أُخْزوا وأهلكوا مثلهم. قيل: الضمير في (كبِتُوا) لبني قريظة. فإن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قتلهم وسبى ذراريهم بعد الخندق. و (مِنْ قَبْلِهِمْ) المشركون يوم بدر. (وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) واضحات لا لُبْس بها. (وَلِلْكَافِرِينَ) بتلك الآيات (عَذَابٌ مُهِينٌ) لاستكبارهم عن الإيمان بها. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ... (6) ظرف لـ (مُهِين)، لأن الخزي في الجمع الكثير أشق، أو منصوب بـ " اذكر ". (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) من التكذيب وسائر المعاصي على رؤوس الأشهاد؛ تكميلاً للخزي والإهانة (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ) (أَحْصَاهُ اللَّهُ) علمه مفصلاً (وَنَسُوهُ) لتهاونهم. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) كل ما يطلق عليه اسم الشيء من الذرات (شَهِيدٌ) حاضر يعلمه عياناً. ثم أقام البرهان عليه بقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (7) من الأجزاء والجزئيات. والخطاب عام. (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ) اسم من النَّجْوِ: وهو القطع؛ لأن السر منقطع عن الغير، أو من النجوة: وهي الارتفاع؛ لعدم وصول العين إليه. والمعنى: ما يكون شيء من نجوى ثلاثة نفر. على أن نجوى مضاف إلى الثلاثة، أو موصوف بها، أي: من

(8)

أهل نجوى. فحذف الأهل، وجعلوا نفس النجوى مبالغة. (إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) في العلم. (وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) كذلك. وتخصيص العددين إما نظراً إلى الواقع وهو ما روي أنها نزلت في حبيب وربيعة ابني عمرو، وصفوان بن أمية كانوا يتناجون بأحوال المؤمنين. وذكر معه الخمسة؛ لتناسب الوترين، أو لأن النجوى إنما تكون من ذوي الأحلام والنُّهَى، وهم قليلون في الأغلب لا يعدون عشرة، فذكر الوترين؛ لأن اللَّه وتر يحب الوتر. ثم أشار إلى الطرفين بقوله: (وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ) على أنه لو ذكر الأربعة لم يتناول الأدنى الإثنين إلا على التوسع. (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) إذ علمه بالأشياء لا يتفاوت، والقرب والبعد منه محالان (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: يجازيهم عليه، أو يوبخهم به تفضيحاً. (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ... (8) تعجيب السامع لوقاحتهم. عن ابن عباس رضي اللَّه عتهما: نزلت في

المنافقين. وعن مجاهد: في اليهود، كانوا إذا رأوا المؤمنين سارَّ بعضهم بعضاً وغمزوهم، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم فلم ينتهوا (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) بالكذب والظلم ومخالفة الرسول. بيان وكشف عن حال نجواهم بما يؤكد ذمهم، ْإذ لو كان تناجيهم بما فيه خير؛ كان أمر الرسول موجباً للانتهاء والامتثال. وقرأ حمزة (يَنتَجُونَ) مقصوراً. عن الفراء كلاهما بمعنى. (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) يقولون: السام عليكم والسام هو الموت. ويقول اللَّه: (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) روى البخاري: " أَن يَهوديّاً مَرِّ بِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَعَائِشَةُ عِنْدَهُ. فَقَالَ: السَّامُ عَلَيك فَقالَت عَائِشَة: وَعَلَيْكُمُ السَّام وَاللعْنُ. فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا تَكُوني فَحَّاشة. قَالَتْ: أَلَمْ تَسمَع مَا قَال؟ قال: أَوَلمَ تسْمَعي مَا قُلتُ؟ قلتُ: وَعَلَيْكَ. فَيُسْتَجَابُ لي وَلا يُسْتَجَابُ ". لَهُ " (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) إن كان نبياً كما يزعم. (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) كافيهم في العذاب. (يَصْلَوْنَهَا) يدخلونها. (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم. والفاء للسببية، مبالغة في استحقاقهم. وليس في القرآن شيء غيره.

(9)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ... (9) صرح بما علم ضمنا؛ ليرتب عليه قوله: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى) بما فيه الثواب والاتقاء عن معصية الرسول. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) في مجامع أموركم. (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَيْطَانِ ... (10) أي: نجوى المنافقين. (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) الشيطان أو النجوى. وقرأ نافع " يُحْزِنَ " بضم الياء على أنهما لغتان. وقال الخليل: أحزنه: أدخل فيه الحزن، فهو أبلغ. (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) فعلى المؤمن إذا رأي شيئاً من ذلك أن لا يحزن. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، لعلمهم بأن لا ضار ولا نافع غيره. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ ... (11) توسعوا وتباعدوا. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - نزلت في مواضع الحرب، كانوا يتنافسون فيها. وعن مقاتل: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصفة يوم الجمعة، فجاء البدريون والصفة غاصة بالناس فلم يجدوا موضع الجلوس فوقفوا. فأقام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - طائفة حتى جلس البدريون. فنزلت. روى

البخاري ومسلم: " أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لا يُقِمْ أَحَدُكم أَخَاهُ ثم يَجْلِس مَكَانَهُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا " وقرأ غير عاصم (المَجْلِس) مفرداً وعليه الرسم. (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) المجلس قيل: لم يضق المكان قط عمن جاء بعد التفسح، أو في أموركم كلها ببركة الامتثال. (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) عن الحسن: انهضوا إلى الحرب. وعن قتادة: إلى كل معروف. وعن أبي زيد: ارتفعوا عن مجلسه. وقرأ نافع وابن عامر وحفص بضم الشين، وأبو بكر بخلاف عنه. وهما لغتان. والكسر أخف. (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) جزم على الجواب أي: إن امتثلوا أمر اللَّه يرفع اللَّه لهم المنزلة لأجل تواضعهم. (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) خاصة (دَرَجَاتٍ)؛ للجمع بين العلم والعمل. وفي الحديث: " فَضلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكمْ " (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ) من الامتثال. (خَبِيرٌ) فليكن ذلك عن إخلاص وصفاء قلب.

(12)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ... (12) كان يخاطبه المؤمن والمنافق، وأجلاف البوادي، والإماء والعبيد، ويبرمون فيما لا طائل تحته. فأراد اللَّه إظهار كرامته، فأوجب لمن أراد أن يناجيه أن يتصدق أمام نجواه بشيء، فبقي الأمر على ذلك عشرة أيام، وقيل: ساعة، ثم نسخ بالذي بعدها. وعن علي بن أبي طالب: لم يعمل بها غيري، كان معي دينار فصرفته، وكنت إذا ناجيت تصدقت قبله بدرهم. وعن ابن عمر: كانت في عليٍّ ثلاث لو كانت فيَّ واحدة كانت أحب إليَّ من جميع النعم: صهارة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بفاطمة، والنجوى، والراية يوم خيبر. (ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: التصدق من الإمساك (وَأَطهَرُ) فإن الصدقة طهرة الذنوب، لا سيما في مناجاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أباح المناجاة من غير تقديم صدقة. (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ... (13) أي: أخفتم مما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى؟. والجمع باعتبار كثرة المخاطبين. الهمزة للتقرير. ولم يرد نص على إظهارهم الخوف، ولكن اللَّه أخبر عما حدثت به أنفسهم. (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بأن رخص لكم ترك الصدقة أمام النجوى. الجمهور على أَن هذا ناسخ لوجوب الصدقة. وقيل: نسخت بوجوب الزكاة. (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) مسبب عما قبله، كأنه قال: لا تقصروا في أدائهما كما قصرتم في الصدقة. وفيه نوع تعيير لهم. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ

(14)

وَرَسُولَهُ) في سائر الأمور وإن كانت شاقة عليكم. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ظاهراً وباطناً، فيجازيكم على حسب ذلك. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... (14) تعجيب من حال المنافقين يتولون اليهود الذين غضب اللَّه عليهم (مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ) أي: المنافقون ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود. (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) الذي هو ادِّعاء الإسلام. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون فيتعمدون الكذب وهي اليمين الغموس. (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ... (15) نوعاً منه متفاقماً. (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) في الأزمنة المتطاولة، أو هو حكاية ما يقال لهم يوم القيامة. (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ... (16) يستترون بها ويدفعون اطلاع المؤمنين على حالهم. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الذين يريدون الإسلام. يوهنون أمر الإسلام، وأنه لا بقاء له. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كَانَ رَسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جَالِسَاً في نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ - رضي الله عنهم - في ظِل حجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهِ، فَقَالَ: سَيَأتيكمُ الآنَ رَجلٌ ينظرُ بِعَينِ شيطَان فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْد اللَّه بنُ نَبتل، فَقَالَ

(17)

لَهُ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: عَلَامَ تَشْتمُني أَنت وأَصْحَابكَ؟. فَجَاءَ أَصْحَابُهُ فَحَلَفُوا أنهمْ لم يفْعَلُوا. فنزلَت. (فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) لكفرهم وصدهم. وقيل: الأول عذاب القبر. وهذا عذاب الآخرة. (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ... (17) من عذاب اللَّه أو شيئاً من الإغناء. وذلك أنهم كانوا يقولون: لنا الأموال والأولاد، إن كان لقول محمد أصل، نفتدي بها يوم القيامة (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أبداً. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ... (18) مجتمعين (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أنهم مؤمنون حقاًّ. (كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) أن تلك الأيمان تروج عنهم كما راجت في الدنيا جاهلين بعلم علام الغيوب. (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) الغالون في الكذب. كأن من عداهم ليس بكاذب.

(19)

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَيْطَانُ ... (19) استولى على قلوبهم. بيان لذلك الكذب المفرط. (فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) فلا يتأملون في صفاته ليتميز لهم ما لا يليق بكبريائه. (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَيْطَانِ) جنده. (أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الكاملون في الخسران. (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (20) أعاده؛ ليفصل أحوالهم المجملة في " كُبتوا "، ويقرن بها أحوال أضدادهم المؤمنين حزب الرحمن. (أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في زمرة هم أذل خلق اللَّه. (كَتَبَ اللَّهُ ... (21) في اللوح (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) بالسيف والبرهان. وذكر اللَّه؛ لبيان أن الرسل عنده بمكان، كأنه معهم في المناظرة والمحاربه، (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ) ذو قدرة كاملة. (عَزِيزٌ) غالب قاهر. (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (22) لأنه جمع بين الضدين. قال: تَوِدُّ عَدوّي ثُمَّ تَزعُمُ أنني ... صَديقُكَ لَيس النَّوكُ عَنكَ بِعازِب والمعنى: لا ينبغي الوجدان. وإنما عبر عنه به؛ مبالغة. فإن الواقع عدم الانبغاء لا الوجدان، فصوِّر بصورته؛ إبرازاً بما لا يمتنع ممتنعاً. (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ

إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) كما فعل أبو عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر وكان أسيراً، ذكر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بما لا يليق به فضرب عنقه. وأبو بكر دعا ابنه إلى البراز يوم بدر. ومصعب بن عمير قتل أخاه يوم بدر. ولما استشار رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الأسرى قال: هؤلاء رؤوس الكفار، مكني من فلان لقريب له، ومكن علياً من عقيل،

وفلاناً من فلان، ليعلم المشركون أن لا هوادة في قلوبنا. (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) ألزمه فيها إلزام المكتوب في الرق. (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) بقوة من عنده حتى اجترأوا على قتل أعزتهم. أو بنور الإيمان فإنه حياة للقلوب. (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) وفيه دليل على أن الإيمان فعل القلب (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) قبل طاعاتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بما جاءهم به. (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولئك هم الفائزون في الدارين بالغلبة في الدنيا، والجنة في العقبى. * * * تمت المجادلة، والحمد لمن آلاؤه شاملة، والصَّلاة على سيد الزمرة الكاملة، وآله وصحبه دائمة متواصلة. * * *

سورة الحشر

سورة الحشر مدنية، وآياتها أربع وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) سبق الكلام عليه. (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ ... (2) لا أنتم. المراد بنو النضير. وذلك أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى المدينة، ودعاهم إلى الإيمان وأبوا، عاهدهم أن لا يكونوا لا له ولا عليه، حتى قَتَلَ عمرو بن أمية رجلَيْن من بني عامر خطأ،

فخرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعين بهم في دية الرجلين. وكان بنو عامر حلفاء بني النضير. فقالوا: نفعل ذلك يا أبا القاسم. وأجلسوه في ظل جدار، وأخذوا في المشاورة وقالوا: ما نرى فرصة أحسن من هذه. فانتدب عمرو بن جحاش لقتله بأن يصعد ويلقي عليه صخرة. فأتاه خبر السماء بكيدهم، فكرَّ راَجِعاً. وكان معه أبو بكر وعمر، وعلي - رضي الله عنه -. فتجهز لقتالهم وسار إليهم. وكانت لهم حصون منيعةٌ، فتحصنوا بها على ما يفصل بعد. كان بعد أُحُد وقيل: بعد بدر بستة أشهر. (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) واللام للتوقيت، مثل (قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) ومعنى أولية الحشر أنهم لم يكن أصابهم جلاء، وأول مجيئهم من الشام إلى أرض العرب كان باختيار منهم، أو أنهم أول من أخرج من جزيرة العرب، أو أن هذا أول حشر أهل الكتاب والثاني: إجلاء عمر أهل خيبر، أو آخر حشرهم يوم القيامة. حاصرهم ستة أيام، ثم اتفقوا على أن لهم ما حملت الإبل فأجلاهم إلى الشام، ولحق بعضهم بخيبر. وأسلم منهم رجلان يامين بن عمرو، وأبو سعيد بن وهب. واستدلال عكرمة بالآية على أن

أرض الشام هي المحشر غير تام. (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أيها المؤمنون لكثرة عددهم وعددهم. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) كان الظاهر وظنوا أن لا يخرجوا. فالعدول إلى المنزل؛ لما في تقديم الخبر ثم إسناد الجملة إلى الضمير من الدلالة على أن ظنهم قارب اليقين، لا كظن المؤمنين. (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي: بأسه. ولم يكن ذلك في حسابهم؛ لاعتمادهم على شدة بأسهم، وحصانة حصونهم. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف الذي يملأ الصدر. وأكده بلفظ القذف الدال على القوة. (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) عن قتادة: كانوا يخربونها ليصلحوا به ما انهدم من السور. أو كانوا ييفعلون ذلك لئلا يبقى للمسلمين جنَّة. (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم تسببوا لذلك. (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ولا تخالفوا أمر اللَّه ورسوله؛ أولا تعتمدوا على قواكم، واتكلوا

(3)

على اللَّه في أموركم. وفيه دليل على جواز القياس فيما لا نص فيه بشرائطه المعلومة في موضعه. وقرأ أبو عمرو بالتشديد وهو أبلغ؛ لدلالته على التكثير. (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ ... (3) الذي هو أشق. (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) بالقتل وسبي الذراري كما فعل ببني قريظة. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) الذي القتل والجلاء عنده أهون شيء. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (4) أي: ذلك الغضب الذي أورثهم عذاب الدارين لأجل أنهم عادوا رسول اللَّه وكذبوه. وذكراللَّه تعالى؛ للدلالة على أن مشاقة رسوله مشاقته، ولذلك اكتفى به في قوله: (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وفيه تهديد لغيرهم.

(5)

(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ... (5) هي النخلة ما عدا العجوةِ والبَرْنِيةِ من اللون. سميت به؛ لاشتمالها على الألوان. قلبت الواو ياء للكسرة. والجمع ليِنٌ. (أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) لما أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بقطعها وتحريقها وقع في قلوب المؤمنين وسوسة. وقيل: أرسلت قريظة تقول: " يا محمد كنت تنهى عن الفساد فنزلت. وفيه يقول حسان بن ثابت: وهانَ عَلى سَراةِ بَني لُؤَي ... حريقٌ بِالبُوَيرَةِ مستَطيرُ وإنما أبقوا العجوة والبرنِيَّة، لأنها أحسن (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) اليهود إذا شاهدوا ذلك. والمعلل محذوف. أي: أذن لكم.

(6)

(وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ... (6) لقرب حصونهم ولم يقع منهم قتال. الإيجاف: الإسراع. والركاب: الإبل التي يسار بها. لا واحد له من لفظه. (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) بإلقاء الرعب في قلوب عدوهم. نزلت حين طلبوا منه قسمة أموالهم كما قسم أموال المشركين ببدر. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ينصر بالملائكة وبدونها. (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... (7) لم يدخل العاطف؛ لأنه بيان الأول شامل لمال بني النضير، ولسائر أموال الفيء إلى يوم القيامة. (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) هذه مصارف مال الفيء وهي مصارف خمس الغنيمة. فلما قطع عنه مطامح أنظار أهل الغزو، أمره أن يضعها هذه المواضع، فكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يأخذ من ذلك قوت سنته وأهله، ثم يصرف الباقي في هذه المصارف. وكذلك فعلت الخلفاء مع أمهات المؤمنين. وذكر اللَّه؛ للتعظيم. وقيل: يصرف سهمه في عمارة الكعبة شرفها اللَّه، ولسائر المساجد. وذهب الشافعى إلى أن المصروف في هذه المصارف في زمانه كان أربعة أخماس الخمس، وأما الأخماس الأربعة مضافاً إليها خمس الخمس، كانت خالصة رسول اللَّه يأخذ منه نفقة أهله، ويَصرف الباقي إلى الكِراع والسلاح، وهي الآن تصرف

إلى المرتزقة. واستدل بحديث رواه البخاري عن عمر بن الخطاب. (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) أي: إنما بينا مصارف الفيء؛ كيْلا يكون جَدًّا وحظاً بين الأغنياء يتكاثرون به. والدُّولَة: ما يدول مع الإنسان من الحظ أي: يدور. فُعْلَةٌ بمعنى الفاعل. أو كي لا يكون دُولة جاهلية. وكان أهل الشوكة يختصون بها ويقولون: " من عَزَّ بَزَّ "، أو بمعنى المفعول. أي: يتداولونه ويتعاورونه، كالغرفة لما يغترف، وقرأ هشام في أحد الوجهين

(8)

بتأنيث الفعل، ونصب (دُولَةً)، على أن كان ناقصة. (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) لا تخالفوه في شيء، ولا تتوهموا في أفعاله وأقواله غير الحق. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) بطاعة رسوله. (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) حقيق بأن يتَّقى. (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ... (8) بدل من ذوي القربى بإعادة الجار لا من الرسول وما عطف عليه، لخروجه عنهم بقوله: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ولكونه أجلّ من أن يطلق عليه اسم الفقير، ولأن المبدل في حكم السقوط وذلك مخلّ بتعظيم الله؛ لأن الاسم الأعظم وإن كان مذكوراً توطئة وتمهيداً إلا أنه لا يليق أن يقال أنه في حكم السقوط. ألا يُرى أنه لا يقال له علامة لمكان التاء؟ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) استولى عليها المشركون. (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) الجنة. (وَرِضْوَانًا) ورضاه. حال مقيدة. (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) دينهما، (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في دعوى الإيمان؛ لتنور دعواهم بالبرهان. (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ... (9) هم الأنصار عطف على المهاجريين. أي: دار الهجرة ودار الإيمان. فاللام في الأول يغني غناء الإضافة وحذف المضاف من الثاني. أو أخلصوا الإيمان كقوله: عَلَفتُها تِبناً وَماءً بارِداً

أو جعل الإيمان مستقَرّاً ومتوطناً على أنه استعارة مكنية. وهنا أبلغ الوجوه. وإطلاق بها الدار حينئذ؛ للتنويه كأنها الدار التي يحق لها أن تسمى داراً. (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل هجرة المهاجرين. وقيل: سبقوا المهاجرين بالتبوء والإيمان. إذ سبق الأنصار بالإيمان على كل من هاجر غير مسلم. ولا يستقيم إلا بتقدير الإضافة. (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) ولا يعدونه كَلًّا. قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف - وكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - آخى بينهما كما آخى بين المهاجرين والأنصار -: أشاطرك مالي، وانظر أيّ زوجيَّ أعجبتك، أطلقها فتزوجها. (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) مما أعطي المهاجرون. وذلك أن

رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يعط من مال بني النضير الأنصار شيئاً، إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقد بالغ في مدحهم حيث نكر الحاجة وذكر الصدر والوجدان. أي: لم يخطر بخاطرهم ما يسمى حاجة، فضلاً عن توجة النفس إلى طلبها، ولذا أوثر الوجدان دون العلم. (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) أي: يختارون المحتاج على أنفسهم بمالهم، فكيف يطمح إلى شيء ليس لهم؟! (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) فقر وحاجة. من خصاص الأثافي: الفرج بيها أحجارها. روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " جاء رجل إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وقد أصابه الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئاً، فقال: " ألا رجل يضيف هذا؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللَّه، فذهب به، فقالت امرأته: ما أجد إلا قوت الصبية. قال: نومي الصبية وقدمي الطعام، ثم قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه ليأكل وحده، فإنه ضيف رسول اللَّه، ففعلت. فلما أصبح جاء إلى رسول اللَّه فقال: لقد عجب اللَّه منك. فنزلت (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) " الشح: البخل مع الحرص. وأضافه إلى النفس،

(10)

لأنه غريزتها. أي: ومن تحفظ عن هذه الرذيلة (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالثناء من اللَّه عاجلاً والثواب آجلاً. والأنصار داخلون أول دخول. (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ... (10) أي: من بعد الفريقين، وهم الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين. وقيل: الذين هاجروا بعد السابقين الأولين. وفيه أنه لا يستوعب مستحق الفيء. ويرده قوله: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)؛ لأن اللاحق هجرة يجوز أن يكون أسبق إيماناً، (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) غشاً وحقداً. من الغلل: وهو الماء بين الأشجار. وعن مالك: أن سابَّ السلف، لا يستحق من الفيء شيئاً، لعدم اتصافه بما في الآية. (رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) حقيق بإجابة دعائنا.

(11)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ... (11) ابن أبيّ رأس المنافقين ومن تبعه. دسوا إلى أهل الكتاب بما أخبر اللَّه به رسوله. والمراد بالأخوة توادهم واتفاقهم في الكفر فلا ينافيه قوله: (مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُم) (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) إذ لا عيش لنا بدونكم. (وَلَا نطِيعُ فِيكمْ) في قتالكم (أَحَدًا أَبَدًا) محمداً وغيره (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) لا محالة (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) في كل ما قالوه. ثم رد مقالتهم مفصلة بقوله: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ ... (12) فرضاً وتقديراً (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) انهزاماً (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) أي: المنافقون بل يقتلون لظهور نفاقهم. وقيل: الضمير لليهود، وليس بوجه؛ لأن سوق الكلام لذم المنافقين. (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ... (13) أي: مرهوبية، والمعنى: يخافونكم في السر أكثر من تخوفهم من اللَّه. أو من إظهارهم الخوف من اللَّه لكم إذ لم يكن لهم خوف من اللَّه. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) عظمة اللَّه، ليعلموا أنه الحقيق بأن يخاف. (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا ... (14) المنافقون واليهود (إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ)، لضعف قلوبهم، واستيلاء الجبن عليها، (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) جمع جدار. كحمر وحمار. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو جدار مفرداً؛ لقصد الجنس، أو إرادة السور الجامع. والجمع أظهر وأوفق بالقرى (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) إذا تقاتلوا، وأما إذا حاربوا اللَّه ورسوله " أجبن من صافر " ً

(15)

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا) ذوي إلف واتحاد ظاهراً (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) جمع شتيت: متفرقة. هؤلاء عبدة الأصنام، وأولئك أهل الكتاب. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) أن تشتت القلوب والآراء مما يورث الفشل والوهن. (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (15) أي: مثل اليهود في محاربة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كمثل المشركين يوم بدر. وعن ابن عباس: بنو قينقاع أجلاهم رسول اللَّه قبل هؤلاء (قَرِيبًا) أي: في زمان قريب. وانتصابه على الحال أي: وجد مثل هؤلاء مثل وجود مثل أولئك قريباً لم ينطمس بعد أثره، فكان لهم عبرة فيهم. (ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) بيان للمشبه به يقرره، وفيه زيادة تجهيل لليهود. الوبال: سوء العاقبة، من قولهم: مرعى وبيل أي: وخيم. (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (كَمَثَلِ الشَيْطَانِ ... (16) لما مثّل حال اليهود بحال أهل بدر مثّل المنافقين بحال الشيطان يوم بدر، جاءهم في صورة سراقة سيد

(17)

كنانة وقال للمشركين: (إِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ) هارباً (وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) (إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) َ والمراد بالإنسان الجنس، أو كفار قريش. وقيل: راهب حمله على الفجور بامرأة، وله قصة يرويها القصاص. (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ... (17) نصب على الحال، والظرف خبر كان، وفيها تأكيد. (وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ). كل كامل في الظلم وهم الكفار. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... (18) يوم القيامة. سماه غداً؛ لقربه، أو لأن اليوم يومان، وتنكيره، لاستقلال الأنفس النواظر كأنه قال: ولتنظر نفس واحدة، أو للتعظيم وهي النفس المطئمنة كأنه قال: ولتنظر النفس التي لها قدر. وأما جعله

(19)

من قبيل علمت نفس يأباه المقام؛ لأن سوق الكلام لبيان استيلاء الغفلة والقسوة على الإنسان. وتنكير (لغدٍ) للتعظيم. أي: غد وأيّ غد. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أعاده، لأن الأول فيما قدم من الأعمال، وهذا جاري مجرى الوعيد؛ ولذا عقبه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) وفي مجيئهما مطلقين من الفخامة ما لا يخفى. (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ... (19) نسوا حقه. (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) حيث لم يرشدهم إلى طريق الهدى. أو أراهم يوم القيامة ما نسوا أنفسهم، (أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الكاملون في الفسق. (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ... (20) كأن الناس لاستيلاء الغفلة عليهم لم يفرقوا بين الفريقين فاحتاجوا إلى الإعلام كقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) واستدلّ الشافعي بالآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي، وذلك لأنه لما نهى المؤمنين أن

(21)

يكونوا كالذين نسوا اللَّه، أشار إلى عدم مساواة الحزبين في أحكام الدارين، وإن كان الملحوظ بالقصد الأول أحكام الآخرة؛ ولذلك عقبه بقوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) بما لم يخطر على قلب بشر. (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... (21) تمثيل وتصوير لزواجر القرآن وما فيه من الوعيد والآيات الدالة على شدة سخطه على من كفر أن لو كان في الجبل فهم وكان هو المكلف والمخاطب لتكسر وتفرقت أجزاؤه من الخوف. (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ) هذا المثل ونظائره (نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وفيه من الدلالة على قسوة قلبه وعدم تدبره ما لا يخفى. (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ... (22) لما أثنى على القرآن وأعلى شأنه بما لا مزيد عليه أقام البرهان على ذلك بأنه كلام من هذه أوصافه ونعوته. (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَهَادَةِ) ما غاب عن الضمير وما شاهدوه، أو الموجود والمعدوم، أو الدنيا والآخرة، أو السر والعلن. (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ... (23) السلطان المنزه عن وصمة النقص والزوال واختلال ملكه كسائر الملوك. (السَّلَامُ) ذو السلامة عن الآفات كأنه عينها. (الْمُؤْمِنُ) الجاعل غيره آمناً. (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب الحفيظ. من الأمن إلا أنه أبلغ منه. وهاؤه منقبلة من الهمزة. وقيل: من الأمانة؛ لأن الأمين هو الحافظ.

(24)

(الْعَزِيزُ) الغالب. (الْجَبَّارُ) الذي جبر الخلق على ما أراد، أو كثير الجبر للمنكسرين ما كسر إلا وجبر. (الْمُتَكَبِّرُ) البليغ الكبرياء كلِّت العقول عن إدراك ذاته. (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ليس كمثله شيء. فكيف يكون له شريك؟. (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ ... (24) المقدر للأشياء على وفق حكمته. (الْبَارِئُ) الموجد لها بريئة عما لا يريده بل جاءت كما أراد. (الْمُصَوِّرُ) المفيض للصور والأشكال على المواد القابلة. (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) الدالة على صفات الجلال ونعوت الكمال، وهذه نبذة منها: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " أن لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسعين اسْمًا، مَنْ حفظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ " وقيل: إنما يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً؛ لأنه لم يعرف اللَّه بهذه الأسماء، ولم يؤمن بها. (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) من الأجزاء والجزئيات (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب. (الْحَكِيمُ) المتقن في صنعه. فذلكة للسورة، ورمزاً إلى جلاء اليهود وإيراث أموالهم لرسول اللَّه والمؤمنين. روى الإمام أحمد بن حنبل عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ قَالَ حين يُصبحُ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيع الْعَلِيمِ مِنْ الشَيْطَانِ الرَّجِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثم قرأ

ثلاث آياتٍ مِنْ آخِرِ الْحَشْرِ، وَكَّلَ اللَّه بِه سَبْعين أَلْفَ مَلَك يُصَلونَ عَلَيْه إلى أن يُمسي، وإنْ مَات في يومه مَاتَ شَهِيدًا ". * * * تمت سورة الحشر، والحمد للَّه الرءوف البر، والصلاة على المؤيد بالعز والنصر، وآله وصحبه إلى آخر الدهر. * * *

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة مدنية، وآياتها ثلاث عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ... (1) وكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هادن قريشاً سنة الحديبية، ثم نقضوا العهد، فأراد أن يغزوهم، وكان وقت الفتح الموعود. فقال: اللَّهم أعم عن المشركين شأننا، فكتب حاطب بن أبى بلتعة - وهو رجل من المهاجرين ولم يكن من قريش، بل كان حليفاً لعثمان - رضي الله عنه - وكان قد تخلف عنه أهله وماله - كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم بأمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وقصدهم، وأعطاه لعجوز من عُجُز مزينة. وقيل: لسارة مولاة أبي المطلب. فلما توجهت أخبر جبرائيل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بشأنها، فأرسل

علياً - رضي الله عنه - والزبير وأبا مرثد والمقداد بن الأسود. وقال: إيتوا روضة خاخ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب خذوه منها. قال علي - رضي الله عنه -: فذهبنا تعادى بنا خيلنا فأدركناها فقالت: ليس معي كتاب. فقلت: ما كذب رسول اللَّه لتخرجن الكتاب أو لأجرِّدَنَّك، فأخرجته من حجزتها وكانت محتجزة بكساء وفى رواية أخرجته من عِقَاصِها. فأتوا به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فطلب حاطباً وقال: ما هذا الكتاب؟ قال: يا رسول اللَّه لا تعجل، فواللَّه منذ أسلمت ما ازددت إلا إيماناً، ولكن كان من هاجر من أصحابك لهم قرابات يحمون بها أهليهم، وكنت لصيقا فيهم، فأردت إذ فاتني ذلك أن أصطنع يداً عندهم يحمون بها أهليهم قرابتي. قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: قد صدقكم فلا تقولوا له إلا خيراً، فقال عمر: يا رسول اللَّه، منافق دعني

(2)

أضرب عنقه، فقال: يا عمر وما يدريك أن اللَّه قد اطّلع على أهل بدر وقال: افعلوا ولا حرج قد غفرت لكم. ففاضت عينا عمر فنزلت. والعدو: فعول من عداه جاوزه، ولكونه على زنة المصدر كالقبول يطلق على الجمع. وفي تقديم (عدوي)، إشارة إلى أنه المهم، وإن فرض أن لم يكن عدواً لهم. (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) حال من فاعل (لا تَتَّخِذُوا)، أو صفة (أَوْلِيَاءَ). جرت على غير من هي له من دون الإبراز؛ لكونها فعلاً أو استئنافاً. والباء مزيدة للتوكيد، كما في (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ)، أو للسببية والمفعول محذوف أي: أخبار رسول اللَّه بسبب المودة. (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ). حال من فاعل (تُلْقُونَ) إن جُعِل مستأنفاً، وإلا جاز أن يكون منه أو من فاعل (لَا تَتَّخِذُوا). (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) استئناف جار مجرى التفسير كأنه قيل: كيف كفروا؟ فقيل: كفروا أسد الكَفر لإخراجهم الرسول والمؤمنين لإيمانهم باللَّه مولاهم خاصة لا لغرض آخر. وهذا أملأ فائدة من جعله حالاً من فاعل كفروا. (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي) حذف جواب الشرط؛ لدلالة ما قبله عليه. (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ماذا فعلوا حتى عوتبوا بما عوتبوا؟. ولذلك أوثر إن على إذا. ويجوز إبداله من " تلقون ". و " الباء " فيه كما في تلقون. (وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ) منكم وأطلع رسولي عليه. فأي فائدة في الإسرار بعد علمكم بهذا وإيمانكم به. (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) الطريق القويم. (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً ... (2) إن يظفروا بكم يظهر لكم منهم نتيجة العداوة، من الإضرار بما يمكنهم. (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) بالقتل والشتم.

(3)

جار مجرى تفسير العداوة. (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) يردونكم كفاراً. وإيثار الماضي هنا؛ -وإن كان الماضي والمضارع لا يتفاوتان بعد وقوعهما جزاء الشرط- للإشارة إلى أن ودادتهم لكفر المؤمنين أهم؛ لانحسام مادة العداوة وارتفاع المشاقة حينئذ. والمراد: ودادةً مقارنةً للقدرة على ردهم كفاراً. فلا يرد أن ودادتهم مستمرة، فلا يفيد التقييد بالشرط ليوثر العطف على الشرطية لا الجزاء كما في (ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) في سورة الحشر. (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ... (3) قراباتكم، (وَلَا أَوْلَادُكُمْ) الذين توالون الكفار لأجلهم. خطّأهم أولاً في موالاتهم من هو خالص العداوة لهم، ثم في من يوالون لأجله، ثم بين وجه ذلك بقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) يفرق بينكم (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ). فأي فائدة في موالاة أعداء اللَّه لمن لا بقاء ولا نفع في وده. قرأ غير عاصم بضم الياء وكسر الصاد، ويشدده حمزة والكسائي وابن عامر، وهو أبلغ وأوفق بالمقام. (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ومشاهد له. (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... (4) الأسوة: اسم لما يؤتسى به، كالقدوة لفظاً ومعنىً. كسر همزته غير عاصم. (إِذْ قَالُوا لقَوْمِهِمْ) ظرف لخبر كان وهو لكم. (إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ) جمع بريء، كظرفاء جمع ظريف. (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

(5)

(كَفَرْنَا بِكُمْ) أي: بكل شيء يلتبسون به مما يدان به. والكلام على المشاكلة والتهكمَ إذ الكفر إنما يكون بالحق وما أتى به الرسل. (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) فحينئذٍ تنقلب العداوة موالاة، والبغضاء حباً. (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) مستثنى من أسوة حسنة؛ لأنها عبارة عن قولهم: (إِنَّا بُرَآَءُ) إلى آخره. (وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) هذا وإن صح أن يكون من الأسوة لكونه كلاماً حقاً إلا أنه جعله تابعاً للاستغفار؛ مبالغة في تحقيق الوعد. كأنه قال: أبذل جهدي ولو ملكت غير الاستغفار لفعلته. (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) كلام مستأنف. التجاء إلى اللَّه بعد إظهار العداوة والتبرء عنهم في كفاية شرهم. أو تعليم من الله للصحابة بعد النهي عن موالاة الكفار، والأمر بالاقتداء إبراهيم عليه السلام؛ تتميماً للوصية. كقوله: (انْتَهُوا خَيْرًاْ لَكُمْ). (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... (5) محل فتنة بأن تسلطهم علينا فيفسدوا علينا ديننا. (وَاغْفِرْ لَنَا) ما فرط. (رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) حقيق بإجابة الدعاء وتحقيق رجاء المتوكلين. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ... (6) كرره؛ مبالغة في الحث على الايتساء؛ ولهذا أكده بما هو غاية في التوكيد وهو القسم. وأَبْدَلَ عن قوله (لكم) (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)؛ إشارةً إلى أن من توقف ليس بمؤمن بالآخرة، وعقبه بقوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلا يضره توليه بل ضر نفسه. (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ... (7) توكيد للأمر بالتصلّب، وتهوين عليهم بأن ذلك عن قريب سينقلب مودة وسبباً لسعادة أولئك بدخولهم في

(8)

الإيمان، عكس ما كانوا يودونه من كفر المؤمنين. ويظهر أن (حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ). ولفظ عسى على دأب الملوك في المواعد التي لا يخلفون في إنجازها. (وَاللَّهُ قَدِيرٌ) على ذلك. (وَاللَّهُ غَفُورٌ) لما فرط من موالاتكم سابقاً. (رَحِيمٌ) يجمع بينكم في الإيمان عن قريب. (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ... (8) كالنساء والضعفه (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل من (الَّذينَ) بتقدير مضاف أي: مبرة الذين، (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) تعاملوهم بالعدل فيما بينكم من الحقوق (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). روى البخاري ومسلم: " عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: يا رسول اللَّه أَمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟. قال: نعم صلي أمك. وأرسل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لعمر حلة من حرير، فكساها أخاً مشركاً له بمكة ". (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ ... (9) سعى بعضهم في الإخراج، وعاون عليه البعض. (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل اشتمال من (الَّذين). (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الكاملون في الظلم. إذ لا عذر له بعد هذا البيان. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... (10) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان الامتحان أن تقول: " لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه "، ثم تقول: باللَّه ما

خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة في أرض عن أرض، بل حباً للَّه ولرسوله، وكان الذي يتولى الامتحان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) منكم، وإنما أمركم بالامتحان؛ لإجراء الحكم وعدم اللبس. (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) بالأمارات. أراد الظن، وإطلاق العلم عليه شائع، وفائدته الإمعان في الامتحان. (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) لأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شرط في صلح الحديبية أن من جاء مسلماً يردّه إليهم، فجاءت نساء مؤمنات وهو بأسفل الحديبية على ما رواه الزهري فنزلت، فكانت ناسخة للسنة. وقيل: كان ذلك منه

اجتهاداً، واجتهاده الخطأ لا يقرر. وعن عروة والضَّحَّاك أن الشرط كان في الرجال خاصة، (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أي: الحل مرتفع من الجانبين، لا كالكتابية

مع المسلم. (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا) ما دفعوا إليهن من المهور. وكان هذا مخصوصاً بتلك الواقعة في المهاجرات، وبعد الفتح لا هجرة فانتهى الحكم بانتفاء سببه. (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) المهاجرات؛ لوقوع البينونة وعدم حلهن لأزواجهن. (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) مهورهن؛ لأن المهر أجر البضع. وإنما تعرض له، لئلا يظن أن ما أعطى الأزواج بدل ما أنفقوا يغني عن المهر. وبه استدل أبو حنيفة رحمه اللَّه على أن من أسلمت من الحربيات، وتخلف زوجها في دار الحرب وقعت الفرقة ولا عدة. وأجاب الشافعي رحمه اللَّه بأن عدم التعرض للعدة ليس تعرضاً لعدمها، وعدم العدة يؤدى إلى اختلاط المائين. (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) اللاتي تخلفن في دار الكفر. جمع عصمة وهي النكاح. يقال: هي في عصمة الزوج، أي: في نكاحه. عن المسور بن مخرمة أن عمر طلق يومئذ قريبة بنت أبي أمية،

(11)

فتزوجها معاوية، وأم كلثوم بنت عمرو فتزوجها أبو جهم. (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ) من مهور المشركات. (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) من مهور المهاجرات. أعاده؛ توكيداً لئلا يتهاون به من حيث إنهم مشركون؛ ولذلك أمرهم بالسؤال فإنه حق من حقوقهم. (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ) أي: ما ذكر (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) مستأنف أو حال (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بأحوال العباد (حَكِيمٌ) فيما شرع. (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ... (11) راجعة عن الإسلام. كان في صلح الحديبية أن من في هب إليهم لا يردونه. قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. " مَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا سُحْقًا لَهُ "، ولذلك نكر الشيء استهانة بالراجعة. وقيل: لزيادة العموم. (فَعَاقَبْتُمْ) جاءت عقبتكم أي: نوبتكم. (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) عن الزهري أن المؤمنين لما

(12)

سألوا ما أنفقوا أبى المشركون، فكان الحكم أن ما كان يعطى زوج المهاجرة من المهر يعطى زوج المرتدة. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " فَعَاقبتمْ " غنمتم. أمروا بأن يعطوا زوج الراجعة ما أنفق من الغنيمة. وهو الوجه. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإن الإيمان حامل على التقوى. (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ... (12) من الأشياء. (وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ) كما كانت الوالدات يفعلن ذلك. (وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) كانت إحداهن تلتقط لقيطاً وتقول لزوجها ولدته منك. وما (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) البطن والفرج. (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) هذا القيد -مع أن أمْرُه لا يكون إلا بمعروف-؛ للدلالة على أن " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، ولو فرض أن يكون أنت. (فَبَايِعْهُنَّ) على هذه الشرائط. روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " خطب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر ثم شقّ الرجال وأتى النساء، فقرأ عليهن هذه الآية، ثم قال: أنتنّ على ذلك؟ فأجابته واحدة ثم قال: تصدقن. فشرعن يلقين بالخواتم والأقراط في ثوب بلال " وعن أم عطية لما قال: " (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) "

(13)

قالت امرأة: إن فلانة أسعدتني تريد النياحة وإنما أريد أن أحزنها. فذهبت ثم عادت فبايعت "، وعن عائشة رضي اللَّه عنها: " واللَّه ما مست يده يد امرأة قط، وإنما بايعهن بهذه الآية " (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ) سالف ذنوبهن (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... (13) روي أن بعض فقراء المؤمنين كانوا يوالون اليهود لعلهم يصيبوا منهم بعض ثمار. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) لعنادهم نبوة محمد عليه السلام مع علمهم أنه الموعود في التوراة. (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) من بيان، أي: كما يئس من مات على الكفر من رحمة اللَّه، أو كما يئس الكفار من الموتى لعدم اعتقادهم الحشر. * * * تمت سورة الامتحان، وللَّه المنُّ والإحسان، والصلاة على المبعوث من عدنان، وعلى آله وصحبه إلى انصرام الزمان. * * *

سورة الصف

سورة الصف مدنية، وآيها أربع عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) الاستفهام للإنكار. ولما صار الجار والمجرور لشدة الاتصال كشيء واحد حذف منه الألف. مثله: عَمَّ، وبمَ. ويوقف عليه بالإسكان، وبهاء السكت. عن مقاتل: تمنوا أحب الأعمال فنزلت: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا). فلما ولوا يوم أحد عوتبوا بهذه الآية. وعن قتادة: كانوا يقولون قتلنا ضربنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك. روي أن صهيبا قتل كافراً شديد النكاية في المسلمين، ورآه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فانتحل آخر قتله، فقال عمر: ذلك

(3)

لصهيب فقال إنما قتلته للَّه. ويشمل كل قول خالف الفعل. وبه استدل مالك على أن الوعد ملزم، وحمله الجمهور على أمر الآخرة. (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) بالغ في تهجينه لما في كبر من معنى التعجب. المراد منه تعظيم الجناية، وإسناده إلى القول أولاً، ثم تمييزه بالمقت، وتقديمه، وجعله عند اللَّه، مع كون المقت أشد البغض.

(4)

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ... (4) صافين، فإنه أهْيَبُ في عين العدو، وأشد تقوية لقلب المقاتل. (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) محكم، من الرصاص وهو الآنك. حال من المستكن في الحال. (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ... (5) أي: اذكر للمؤمنين ذلك الوقت. (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) والذنب مع العلم أشد. (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) صرفها عنه (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) لا يوفقهم؛ لأنهم أهل الرَّين الذين خلقوا للنار. (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ... (6) لم يقل يا قوم؛ تذكيراً لهم بأنهم أولاد إسرائيل الذي وصى بنيه أن لا يعبدوا إلا اللَّه، لا أنهم ليسوا من قومه لأنه لا نسب له فيهم؛ لدخوله في ذرية إسرائيل كما تقدم في الأنعام. (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) أي: أنا على ما عليه سائر الرسل من تقدم ومن تأخر. هذا كقول رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ). وانتصاب (مُصَدِّقًا) و (وَمُبَشِرًا) على الحال، والعامل فيه معنى الرسالة في [(رَسُولاً)] لا في (إِلَيْكُمْ)؛ لأن حروف الجرّ إذا وقعت صلة ليس فيها معنى الفعل. (اسْمُهُ أَحْمَدُ) قيل: كذا مكتوباً في الإنجيل. ولعل ذلك؛ لما فيه من الإشارة إلى أنه أكمل الرسل. روى البخاري عن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد ".

(7)

وعن أبي إسحاق: " أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي ". (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي: ما جاء به، أو عيسى؛ مبالغةً، ويؤيده قراءة حمزة والكسائي (ساَحِرٌ)، والرسم على الأول. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ ... (7) أي: لا أحد أظلم منه إذ لا جناية فوقه، مع عدم العذر وزوال الاشتباه. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الكاملين في الظلم. (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ... (8) هم اليهود والذين حرفوا الكلم وبدلوا نعته. مثَّل حالهم بمن يريد إطفاء نور الشمس بنفخ ينفخه في الهواء، والأصل (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا) كما في سورة براءة. وإنما جيء باللام، توكيداً للإرادة لما في اللام من معناها.

(9)

(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) لا محالة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر منوناً ناصباً ما بعده. (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الساترون نعمة اللَّه. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ... (9) الذي لا يتطرقه نسخ ولا تبديل. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) إذ لم يأت أَحد بما جاء به. وضع الإصر والأغلال بالحنيفية السمحاء. ولو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعه. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) عباد الأوثان، واليهود القائلون عزير ابن اللَّه، والنصارى المثلثون. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) قرأ ابن عامر بتشديد الجيم وهو أبلغ. (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ... (11) استئناف. كأنهم قالوا: كيف نعمل قال: تؤمنون. وإيثاره على آمِنوا؛ مبالغة في الحث عليه. كأنهم امتثلوا فهو يخبر عنهم. وهذا سبيل كل دعاء أتى بصيغه الإخبار. (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خير لكم. أي: لو علمتم لسعيتم في تحصيله ببذل الأموال والأنفس. (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ... (12) ما بينكم وبينه. جزم جواباً للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، أو شرط مقدر أي: أن تؤمنوا، أو استفهام أي: هل تتجرون بالإيمان يَغفِر لَكُمْ (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) (ذَلِكَ) المذكور (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا يحيط به الوصف. (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ... (13) أي: ولكم النعمة الأخرى الدنية بالنسبة إلى الأولى، وفي الوصف بالمحبة بعد الدلالة على أنها دون الأولى نوع تعيير لهم. وفي إيثار الاسمية مع العطف

(14)

على الفعلية وهي (يَغْفِرْ لَكُمْ)؛ دلالة على أن هذه الدنية أمكن في نفوسهم وهي إليها أميل. (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ) بدل، أو بيان. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) فتح مكة. وعن الحسن: فارس والروم. (وَبَشِرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على (تُؤْمِنُونَ)؛ لأنه بمعنى آمنوا، وما في البين ليس بأجنبي، كأنهم قالوا: دلنا يا رب على تلك التجارة، فقال: آمنوا وبشر أنت يا محمد. وفيه تنويع الخطاب وإيقاع المظهر موقع المضمر فهو إملاء فائدة من تقدير " فأبشر يا محمد، وبشر. والعطف على " قل " مقدراً، والقول بأن ذاك إنما يحسن إذا أعيد حرف النداء لا سند له، ولو سلم فلعدم تعين المخاطب بدونه وأما إذا تعين فذكره وطيه سيان. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ... (14) أنصار دينه. (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) من جندي متوجهاً إلى نصرة دينه. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (أَنْصاَراً) منوناً، والمعنى: كونوا من جملة من ينصر اللَّه، والإضافة أقوى معنى وأخف لفظاً، ولذلك اتفقوا عليه في آل عمران. (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) الإضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين، والثانية إضافة الفاعل إلى المفعول، والتشبيه بحسب المعنى. أي: قل لهم كقول عيسى، أو كونوا أيها المؤمنون أنصار اللَّه كالحواريين وقت قول عيسى عليه السلام. كانوا اثني عشر رجلاً قصارين يقصرون الثياب؛ ولذا قيل لهم حواريون. وعنه - صلى الله عليه وسلم - " لكل نبي حواري، وحواري الزبير " (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) بعيسى. (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ) على الكافرين. وإيثار لفظ العدو؛ لإشعاره [بالتشفي]. (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) غالبين بالسيف والحجة غلبة لا خفاء بها. * * *

تمت السورة. والحمد لمن آلاؤه منثورة، والصلاة على من سيره مشكورة، وآله وصحبه الذين آثارهم مشهورة. * * *

سورة الجمعة

سورة الجمعة مدنية، وهي [إِحْدَى عشرَة آيَة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ... (1) البليغ التنزه عن وصمة النقص والشين، (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الغالب، البالغ حكمته، توطئة لقوله: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا ... (2) لفرط احتياجهم إليه؛ لأنهم لا يكتبون ولا يقرؤون (مِنْهُمْ) يعرفون صدقه وأمانته؛ ولكونه أشفق بهم وأرفق. (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) مع كونه أُمِّياً مثلهم؛ إشارة إلى معجزته الموقوفة نبوته عليها. (وَيُزَكِّيهِمْ) من الأخلاق الذميمة، أو عند اللَّه حيث يشهد لهم بالإيمان يوم القيامة. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الشرائع. (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ظاهر، يعبدون الحجر ويأكلون الجيَف، ويطوفون بالبيت عراة. (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ... (3) عطف على (الْأُمِّيِّينَ) أي: وفي آخرين من الْأُمِّيِّينَ. (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) بعد، وسيلحقون، لما في (لَمَّا) من معنى التوقّع. روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: لما نزلت سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من هم هؤلاء؟ وفينا سلمان، فوضع يده عليه وقال:

(4)

هم قوم هذا. لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء، وليس فيه منع الغير، فيتناول كل من يأتي بعد الصحابة - رضي الله عنهم - إلى آخر الدهر (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في تمكينه من هذا الأمر العظيم واختياره له. (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ ... (4) كونه رسولاً للأولين والآخرين. وفي إيثار اسم الإشارة بلفظ البعيد، وإضافة الفضل إلى كلمة الجلالة؛ إشارة إلى أن كل فضل دونه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) تفضلاً (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي لا يحاط به. (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ... (5) تعلموها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) لم يعملوا بها، ولا حملوها على محاملها (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) كتباً كباراً من كتب العلم. مثَّل حالهم في حمل التوراة بحال الحمار الحامل لأسفار من الكتب، والجامع: الحرمان من الانتفاع بأبلغ نافع مع الكد والتعب. والجملة في محل النصب على الحال أو الصفة إذ لم يُرَد بالحمار معين، وهذا أبلغ ذماً. واتصاله بما قبله أنهم علموا في التوراة نعت المبعوث في الأميين رسولاً وكتموه. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) أي: مثل الذين كذبوا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أو حذف المخصوص أي: هو والضمير لمثل اليهود، أو (بِئْسَ) مثلاً (مَثَلُ الَّذِينَ) على حذف المفسر وهذا قليل. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي: اليهود الذين لم يحملوا التوراة. (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا ... (6) تهودوا (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم، لأن من علم أن مأواه جنة عدن تمنى الخلاص

(7)

من دار العناء، وإنما خوف الإنسان من عدم علمه بحاله. وإنما أتى بـ " إن " مع الزعم، إشارة إلى أن الأولى بحال من على طريقتهم الشك والدعوى الباطلة. (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... (7) من الكفر وتحريف آيات اللَّه. واختصاص آية البقرة بـ (لن) لأن دعواهم هناك أن اختصاصهم بها أمر مكشوف فبولغ في ْالرد عليهم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ظاهراً وباطناً. (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ... (8) ولا تجترئون على تمنيه (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) ودخول الفاء في خبر الموصوف بالموصول للسببية باعتبار الوصف، كأنه قيل: إن الفرار الذي تظنونه سبب النجاة سبب الملاقات، مبالغة في عدم الفوت. (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ... (9) لما نعى على اليهود ما يمنون به أنفسهم من الأماني الباطلة أمر المؤمنين بالسعي إلى ما فات اليهود من إدراك فضيلة يوم الجمعة. لما روي البخاري ومسلم أن يوم الجمعة هو اليوم الذي فضل على سائر الأيام، واختلف فيه أهل الكتابين فلم يهتدوا إليه. قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فهدانا اللَّه تعالى إليه. نحن الآخرون السابقون يوم القيامة هو سيد الأيام فيه ساعة يستجاب فيها الدعاء. الأصح أنها من وقت خروج الإمام إلى الفراغ من الصلاة، وقيل: بعد العصر، وكانت العرب تسميه يوم العَرُوبَة فسماه الله يوم الجمعة. والمراد النداء بين يدي الخطيب، فإن

(10)

الأول شرعه عثمان على الزوراء عند كثرة الناس. والبيع والشراء وسائر الأشغال حرام اتفاقاً. والمراد بالسعي القصد والاهتمام لا الإسراع لورود النهي عنه. والمراد بذكر اللَّه الخطبة؛ لأنها موعظة وتذكير. (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إيثار (إنْ) على (إذا) مع علمهم بذلك؛ تعييباً لما بدا منهم من الخروج وتركه قائماً؛ لإشعاره بعدم علمهم. (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ... (10) من رزقه جبراً لما فاتكم. روى ابن أبي حاتم عن بعض السلف: " أن من باع أو اشترى بعد الجمعة بارك اللَّه له سبعين مرة ". كَانَ عَرَّاكُ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - إِذا صَلَّى الْجُمُعَةَ انصرَف فوَقفَ عَلَى بَابِ المسْجِدِ، فَقَالَ: "اللَّهمَّ إني أَجبْتُ دعْوَتَك وَصَليْتُ فَرِيضتَك وَانتشَرْتُ كَمَا أَمَرتَنِي فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِين ". وقيل: المراد به الطاعة كعيادة المريض، وتشييع

(11)

الجنازة، وزيارة الإخوان في اللَّه. (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) في الأحوال كلها. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون بمرضاته. (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ... (11) روى البخاري ومسلم عن جابر أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - كان على المنبر يخطب، فقدمت عِيرٌ مِنْ الشَامِ بميرة، فخرجوا إِلا اثْنا عَشَرَ رَجُلًا. قال مقاتل: العير كانت لدحية قبل إسلامه، وكان معها طبل وهو الذي أريد باللَّهو. والضمير للتجارة؛ لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموماً فإلى اللَّهو أولى. (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) فيه غاية التعيير، إذ لو لم يكن إلا تركه على هذه الحالة دون أن يكون

خطيباً كان شنيعاً، (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ) مدخراً لكم. (خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)؛ لكونه باقياً صفواً بلا كدر. (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) هو الرزاق حقيقة، والبواقي وسائل، إليه توجهوا في طلب الرزق. * * * تمت السورة، وللَّه المنة، والصلاة على رسوله وآله وصحبه السابقين إلى الجنة. * * *

سورة المنافقون

سورة المنافقون مدنية، وهي إِحْدَى عشرَة آيَة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ... (1) إنشاء جار مجرى القسم؛ ولذلك أكد بـ " إنَّ " و " اللام " يتضمن ادعاء المواطأة بين القلب واللسان. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) وأن ما قالوه كلام مطابق للواقع قطعاً. (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) في ادعاء المواطأة؛ لأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. أو كاذبون في أنفسهم لا يعتقدون صدق مقالتهم ومطابقتها للواقع. وإنما اعترض بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ)؛ ليميط رجوع التكذيب إلى قولهم " إنك لرسول اللَّه ". (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ... (2) وقاية. استئناف لبيان فائدة تلك الشهادة التي هي بمثابة اليمين. أو كلام مستقل لعد قبائحهم، وأن من دأبهم الاتقاء بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أعرضوا، أو منعوا غيرهم عن سلوكها. (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) من النفاق. إنشاء، كأنه قيل: ما أسوأ ما ارتكبوه. (ذَلِكَ ... (3) كله (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) منع من دخول نور الحق فيها (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) شيئاً من الحق؛ فلذلك جسروا على تلك العظائم. وإنما قال:

(4)

(آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) مع أنهم لم يؤمنوا طرفة عين؛ لأنهم نطقوا بالشهادة ثم ظهر كفرهم. أو نطقوا عند المؤمنين وكفروا بها عند شياطينهم. والحمل على أهل الردة بعيد ناب عنه المقام. (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ... (4) هياكلهم لرواء منظرهم وجسامتهم، (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحة كلامهم، وحلاوة ألفاظهم. قيل: كان ابن أبي رأس المنافقين وبعض أتباعه جساماً وساماً فصحاء بلغاء. والخطاب في (رَأَيْتَهُمْ) إما لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو عام، والأول أوجه؛ لتقدم (إِذَا جَاءَكَ)، ولأنه إذا أعجبته فغيره أولى. (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) إلى الحائط لعدم الانتفاع بها بوجه، أو كالأصنام المسندة إلى الحيطان في حسن الصور وبهجة المنظر. قرأ أبو عمرو، وقنبل، والكسائي بإسكان الشين إما مخفف خشب، أو جمع خشباء وهي الخشبة المجوفة. وهذا أخف وأقوى شبهاً. وناهيك بسفالة النفاق خلة حيث شبه أهله بجماد هذا شأنه، وشبه الكفار بالأنعام. (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) واقعة عليهم. وقيل: كانوا خائفين من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ويظهر أسرارهم، ويبيح دماءهم وديارهم. (هُمُ الْعَدُوُّ) لا غير. لأن أعدى العدو من يلقاك بوجه الصديق؛ لوقوفه على أسرارك، وتمكنه من إشاعة أخبارك. وقيل: (عليهم) صلة، و (هُمُ الْعَدُوُّ) المفعول الثاني، والتذكر باعتبار الخبر، وليس بوجه. (فَاحْذَرْهُمْ) خذ حذرك منهم ولا تغتر. (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) لعنهم اللَّه. دعاء منه تعالى ينبئ عن فرط السخط. أو تعليم للمؤمنين. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الحق. تعجيب عن العدول بعد موجب الإقبال والقبول.

(5)

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ... (5) أمالوها ولم يلقوا السمع إليه. قرأ نافع (لَوَوْا) مخففاً، وقراءة القوم أبلغ. (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون فضلاً عن الاستماع. (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) رافعون أنفسهم فوق حدها. اتفق الثقاة على أن السورة نزلت في ابن سلول، كان مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أو بني المصطلق، فاقتتل على الماء جهجاه بن سعد الغفاري. وكان أجيراً لعمر بن الخطاب، وسنان بن يزيد وكان حليفاً لابن سلول، فبلغ ذلك ابن سلول وكان عنده جمع من الأنصار، فقال: أَوَفَعلوها واللَّه ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل: " سمن كلبك يأكلك " واللَّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فنقل كلامه زيد بن أرقم إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل

(6)

رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى ابن سلول فحلف أنه لم يقل شيئاً من ذلك، فقال عم زيد له: ما أردت إلى أن كذبك رسول اللَّه ومقتك. قال: فبت في شر ليلة، فلما قفل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لقيني في الطريق، ضحك في وجهي وفرك أذني، فلقيني عمر فقال: ماذا قال لك رسول اللَّه؟ قلت: ما زاد على أن ضحك في وجهي وفرك أذني. وكذلك سألني أبو بكر، فلما نزل قرأ عليهم السورة وقال: إن اللَّه قد صدقك يا غلام. ثم أرسل إليهم ليستغفر لهم لَوَّوْا رءوسَهم. (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... (6) لا يؤمنون بك، ولا يعتدون باستغفارك. (لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)؛ لعلمه بأنهم أهل الدرك الأسفل، ومن الذين ذرأهم لجهنم. (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) المنهمكين في الكفر والنفاق. (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ... (7) قاله ابن سلول ذلك اليوم. (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قادر على إغناء محمد وأصحابه عن إنفاق الأنصار. وإنما وفق الأنصار لذلك؛ لينالوا به القربة والزلفى. (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) ذلك. (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ... (8) يريد بالأعز نفسه وبالأذل رسول اللَّه. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) مختصة بهم لا حظَّ لغيرهم فيها، ولا ينافيه (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)؛ لأن عزة الرسول والمؤمنين عزة اللَّه تعالى. (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ) أعاد المظهر؛ لئلا يفارقهم هذا الوصف. (لَا يَعْلَمُونَ) ليسوا من ذوي العلم ليدركوا هذا الأمر الجلي. ولما كان في أمر الرزق نوع خفاء في بادئ الرأي جعل الفاصلة الفقه المنبئ عن نوع تعمل. وعن قتادة: أن ابنه عبد اللَّه لما بلغه ذلك جاء إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -

(9)

وقال: إن كنت قاتلاً أبي فمرني به لأحمل إليك رأسه، وواللَّه لقد علمت الخزرج أن ليس فيهم أبر بوالديه مني، وأخاف أن يقتله غيري فلا أحتمله فأدخل النار، فقال: لا نقتله، بل نحسن صحبته. وعن عكرمة وابن زيد أنه وقف بباب المدينة وسلَّ سيفه، فلما جاء أبوه قال له: وراءك، حتى جاء رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو حابسه، فشكى إليه، فقال له: خل سبيله. وقيل: لم يمكنه حتى أقر أنه الأذل ورسول اللَّه هو الأعز، فدعا له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... (9) لما كان اغترار المنافقين بالحطام الفاني، وأنهم إذا لم ينفقوا على المؤمنين يتلاشى أمرهم، ورد اللَّه عليهم بأنه مالك خزائن السموات والأرض، وكان فيه إشارة إلى أنه سيغني المؤمنين، ويفيض عليهم من خزائنه بما ليس في حسابهم، نهاهم عن الاشتغال بها عن ذكر اللَّه قبل وجودها؛ ليوطنوا أنفسهم على ذلك. والمنهي التوجه إليها بحيث يفوت القيام بحق العبادة. ألا يرى إلى قوله في

(10)

معرض المدح: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ). (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) لاستبدالهم الخسيس بالشريف. (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ... (10) بعض ما رزقناكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أماراته ومخائله، (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ). فعلى العاقل المبادرة إلى التصدق، إذ كل لمحة بصدد الموت، ولا يغتر بالصحة إذ كم صحيح مات وكم سقيم عاش قال: تَعجَبينَ مِن سقَمي ... صِحُّتي هِيَ العَجَبُ وقرأ أبو عمرو " أكون " بالنصب عطفاً على لفظ (فَأَصَّدَّقَ) وهو الأظهر؛ لاحتياج الجزم إلى التقدير. أي. إن أخرتني أصدق وأكن. (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ... (11) انتهاء عمرها. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فاختاروا لنفسكم ما شئتم. وقرأ أبو بكر بياء الغيبة، نظراً إلى (أُولَئِكَ هُمُ) والخطاب لقوله: (لَا تُلْهِكُمْ)، وهذا أشد تهديداً. * * *

تمت سورة المنافقين، والحمد للَّه رب العالمين، والصلاة على صفوة المرسلين، وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة التغابن

سورة التغابن قال عطاء مكية، إلا (يا أيها الذين آمنوا .. ) إلى آخر الثلث. وهي ثماني عشرة آية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (1) تقدم الكلام في مثله. (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) قدم الظرفان؛ لتأكيد الاختصاص وإزاحة الشبهة رأساً. فإن قلت: إذا اختصت المحامد به فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " من لم شكر الناس لم يشكر اللَّه ". قلت: الكلام في حقيقة الحمد، وأما حمد غيره فلجريان نعمة اللَّه على يده، فهو حمد اللَّه حقيقة. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كامل القدرة لا يقاومها قدرة، ولا يشاركها في التأثير، دليل على الاختصاصين. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ... (2) باختياركم لا جبر. فمن رأي خيراً فليحمد اللَّه، ومن رأي شراً فليستغفر اللَّه. (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مشاهد، فيجازي عليه.

(3)

(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... (3) بالحكمة البالغة مرتباً أسباب معايشكم فيها، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فخصكم بأحسن الصور بين المخلوقات، ليس فيها رشاقة قده، ولا صباحة خده، وانظر إن شئت العجب في تركيب بنانه وجواهر أسنانه، وقوس حاجبه ونبال أهدابه، بيدما أودع من القوى الدرَّاكة؛ ولذلك كان نسخة عالم الملك والمكوت. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيسألكم عن النقير والقطمير، فاشكروا نعمه، واحذروا عذابه ونقمه. (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) بمضمراتها فضلاً عن السر والعلن، فاستعملوا في عبادتكم ظواهركم، وطهروا سرائركم، وأخلصوا ضمائركم لتحمدوا عواقبكم. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ... (5) قبلكم. أي: كفار مكة. بل قد أتاكم. (فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) ووخامة كفرهم في الدنيا بالاستئصال، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة. (ذَلِكَ ... (6) المذكور من عذاب الدارين (بِأَنَّهُ) بأن الشأن (كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) ينكرون كون البشر رسولاً مثلكم. يطلق على الواحد والجمع. (فَكَفَرُوا) بالرسل (وَتَوَلَّوْا) أعرضوا (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) بليغ الغنى عن كل شيء، فضلاً عن طاعتهم. (وَاللَّهُ غَنِيٌّ) في ذاته، وصفاته، وأفعاله. (حَمِيدٌ) ذاتاً، وصفة، وفعلاً، دلت على ذلك ذرات الكون.

(7)

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ... (7) أي: كفار مكة، أو هم ومن حملوا على الاعترار بهم. الزعم بمعى العلم، و " أن " مع ما في حَيِّزِها قائم مقام المفعولين. (قُلْ بَلَى) تبعثون. (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) بالمحاسبة والمجازاة. (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)؛ لغناه عن الآلات، ودورانه بين الكاف والنون. (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (8) إليكم. (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) القرآن (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا يخفى عليه منه شيء. (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ... (9) متعلق بـ (خَبِير)، أو بـ (لَتُنَبَّؤُنَّ ... وَذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسِير) وقوله: (فَآمِنُوا) اعتراض. الأول يؤكد القدرة، والثاني ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبالقرآن وبمن جاء به (بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ) من تتمة الثاني، أو نصب بـ " اذكر ". (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ليوم خاص بالجمع، يجمعكم فيه والأولين. اللام للتعليل، كقوله: أعددتك لهذا اليوم. (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) هو أن يغبن التاجر شاريه وبالعكس. استعارة لنيل السعداء، وويل الأشقياء. وكأن لا تغابن إلا ذلك؛ فلذلك عرف وأطلق لكونه علماً له. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). قرأ نافع وابن عامر الفعلين بالنون التفاتاً، وهو أبلغ في الترغيب.

(10)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ... (10) غيَّر الأسلوب إشارة إلى سبق رحمته. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيرهم. الآيتان بيان لوجه التغابن. (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ... (11) بتقديره. كقوله (إِلَّا فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا) ويدخل فيها كفر الكافر أَولاً، إذ لا مصيبة أعظم منها. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يثبته، إن ابتلاه صبر، وإن أعطاه شكر، وإن ظلمه أحد غفر. أو من كان قابلاً مستعداً للإيمان يوفقه له ويؤيده. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم من هو أهل للهداية. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... (12) لأن عصيانهما أعظم المصائب. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) الواضح، وقد وفى به اللَّه. (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)؛ لعلمهم أن لا مؤثر في الكون غيره. وفيه حث لرسول اللَّه والمؤمنين على الصبر لما يصيبهم من أذى الكفار. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ... (14)؛ لأنه يتلهى به عن أمر الدين. كقوله: (لَا تلْهِكمْ أَمْوَالُكمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ) وفي الحديث: " الولد مجبنة مبخلة ". (فَاحْذَرُوهُمْ) خذوا حذركم، ولا تغفلوا عن العدو. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -

(15)

نزلت في أناس أرادوا الهجرة، منعهم نساؤهم وأولادهم، فلما هاجروا بعد برهة وجدوا السابقين قد فقهوا في الدين، تغاضبوا وهموا بالانتقام منهم، فنزلت (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) العفو: محو الجريمة عن الخاطر. والصفح: الإعراض، والغفران: الستر كأن لم يكن. ولما كان الصبر على أذى من أحسنت إليه أشق وأبعث على الانتقام؛ جمع بين الثلاثة. (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ... (15) ابتلاء لينظر هل تؤثرون محبتهم على طاعة اللَّه. (وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) حث على إيثار طاعته. (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ... (16) ما بلغه جهدكم، إذ لا تكليف فوق ذلك. فسرت قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (وَاسْمَعُوا) لأولي الأمر. (وَأَطِيعُوا) أوامرهم مالم يكن معصية إذ " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ". (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ) نصب خيراً بـ (يكن) أي: إن تنفقوا يكن خيراً لكم. أو صفة مصدر. أو بفعل مقدر أي: ايتوا، والقرينة كون السوابق كلها من إتيان الخبر. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون. (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ... (17) عن طيب نفس خالصاً لوجه اللَّه، والتعبير عن الصدقة بلفظ القرض تلطف في الطلب (يُضَاعِفْهُ لَكُمْ) بالواحد عشرة إلى سبعمائة، إلى

(18)

ما لا يعلمه غيره. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما فرط؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات. (وَاللَّهُ شَكُورٌ) يقابل القليل بالكثير. (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقاب. (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَهَادَةِ ... (18) على سواء، حث على الإخلاص. (وهو الْعَزِيزُ) الغالب، لا مانع لعطائه. (الْحَكِيمُ) في كل ما دبر. * * * تمت، والحمد لمن أعطى وشكر، والصَّلاة على المبعوث من مضر، وآله وصحبه ذوي العليا والخطر. * * *

سورة الطلاق

سورة الطلاق مدنية بها وآياتها اثْنَتَا عشرَة آيَة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (1) ناداه أولاً؛ لأنه سيد القوم وإمامهم، وفيه إجلال له، وإشارة إلى أنهم لا يصدرون إلا عن رأيه. والمعنى: إذا أردتم الطلاق كقوله: (إِذَا قُمتُمْ إِلَى الصَّلَاة) وله نظائر. تتزيلاً للمشرف على الشيء منزلة المباشرة. والطلاق المأمور به: أن يكون في طهر لم يجامع فيه، أو حامل استبان حملها. واللام للتوقيت. فالذي يقول: إن الأقراء بالأطهار فلا إشكال عنده. والذي يقول: بالحيض يقدر مستقبلات كقولك: جئتك لليلة بقيت في الشهر. روى البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: " أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر - رضي الله عنه - رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ منه وقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت فليطلقها إن شاء ". فإن قلت إذا كان الغرض إيقاع الطلاق في الطهر فما معنى تكرار الطهر في الحديث؟ قلت: أن لا يكون الرجوع للطلاق،

ولأن طول المدة عسى تؤثر في تبدل الحال، والطلاق أنكر المباحات فاحتيط لذلك، وقوله: " مره فليراجعها " دل على وقوع الطلاق في الحيض، وإطلاقه دل على أن الثلاث دفعة لا بدعة فيها، وما روي أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. " أتلعبون بكتاب اللَّه " لا أصل له، ولا ذكر الثلاث في كتاب اللَّه في معرض الذم. (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) واحفظوها. (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) في التطويل في العدة، والإضرار بالنساء. (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) مساكنهن إلى انقضاء العدة. (وَلَا يَخْرُجْنَ) أيضاً استقلالاً، وإن أذن الأزواج؛ لأن ذلك حق الشارع ليس لأحد إسقاطه. (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) هي الزنا، أو النشوز بأن طلقت وهي ناشزة؛ لأن النشوز يسقط الحق حال الوفاق فأولى أن يسقطه حال الفراق، فالاستثناء راجع إلى الأمرين. أو البذاء وإيذاء الزوج، فيرجع إلى الأول. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) الأحكام. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) عرضها لسخط اللَّه. (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) الرغبة في المطلقة، والندم على فراقها. واستدل الإمام أحمد على أن المبتوتة، والمتوفى عنها زوجها لا سكنى لها.

(2)

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ... (2) شارفن آخر العدة، (فَأَمْسِكُوهُنَّ) راجعوهن إن شئتم. (بِمَعْرُوفٍ) بحسن عشرة؛ لئلا يؤدي إلى فراق آخر. (أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بإيفاء حق، وانتفاء ضرر بأن يراجعها ثم يطلقها تطويلاً للعدة. (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الفراق والرجعة؛ لأنه أبعد عن الريبة وأقطع للنزاع. أمر ندب، وعن الشافعي رحمه اللَّه قول بالوجوب في الرجعة. (وَأَقِيمُوا الشَهَادَهَّ لِلَّهِ) أدوها من غير ميل ولا غرض أيها الشهود. (ذَلِكُمْ) المذكور من إيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج، وإقامة الشهادة. وقيل: إشارة إلى الأخير. والأول أوجه؛ لقوله: (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) سيما إذا جعل (وَمَن يَتَّقِ اللَّه يَجْعَل لَه مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... (3) اعتراضاً مؤكداً لتلك الأمور، وإن كان الأوجه أن يكون استطراداً دالًّا على أن التقوى ملاك الأمر، به نيط سعادة الدارين، ويتناول أمر الزوجين أول تناول. عن ابن إسحاق أن عوف بن مالك الأشجعي أسر ابنه، فشكى إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الفاقة، فأمره

(4)

بالصبر وكثرة قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فلم يفجأ أبويه إلا وهو بالباب يناديهما ومعه سرح القوم قد استاقها، فنزلت. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) في أموره (فَهُوَ حَسْبُهُ) كافيه (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) الذي يريده ولا يفوته، قرأ حفص بالإضافة. (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) تقديراً وتوقيتاً لا يتقدمه ولا يتجاوزه. وفي الحديث " يستجاب لأحدكم ما لم يتعجل ويقول دعوت فلم يجب لي ". (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ ... (4) روى ابن جرير عن أبي بن كعب أنه سأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن عِدَدِ النساء لم تذكرْ في الكتاب فنزلت. والآيسة: هي التي انقطع دمها لكبر السن. واختلاف القراء في اللائي تقدم في الأحزاب، (إِنِ ارْتَبْتُمْ)

جهلتم وشككتم في عدتهن، (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) من الصغر (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ) (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ) طلقت، أو توفي عنها زوجها. (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ذهب علي وابن عباس رضي اللَّه عنهما إلى أن عدة المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين من أربعة أشهر وعشر ومدة الحمل؛ للتعارض من غير علم بتأخر إحداهما. وذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى أن هذه الآية ناسخة لآية البقرة في قدر ما تناولته من الحوامل، وقال: من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى بعد التي في البقرة. والعام المتأخر، ناسخ للخاص المتقدم، فأولى إذا كان العموم من وجه. ويؤيد قول ابن مسعود - رضي الله عنه - ما روى البخاري ومسلم أن سبيعة الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة. توفي زوجها وهي حامل، فوضعت بعده بأربعين يوماً، فأنكحها

(5)

رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وأما كون العموم هنا بالذات وهناك بالعرض، وكون الحكم معللاً مما لا يعد مرجحاً (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) يسهل عليه أمره. (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ... (5) لتعملوا بموجبه. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) يوم الجزاء. ولقد بالغ في أمر النساء بالحث على التقوى مراراً؛ وذلك لضعفهن ونقصان عقلهن، وما يبدو منهن مما يوجب النفرة والغضب. وفي آخر خطبة خطبها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: استوصوا بالنساء خيراً، خلقن من ضلع أعوج إن ذهبت تقيمه كسرته. (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ... (6) ما تقدرون عليه. الوجد: الوسع (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) فيحتجن إلى الخروج. (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) تعميم الإسكان وتخصيص الإنفاق بأولات الأَحمال، دليل ظاهر للشافعي رحمه اللَّه على أن المبانة لا نفقة لها. وللحنفية أن هذا مفهوم لا يعارض ما روى عثمان وعمران أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: لها السكنى والنفقة. وفائدة التقييد: دفع وهم من ذهب إلى أن المدة إذا زادت عن أربعة أشهر وعشر لا يستحق الزيادة. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ

(7)

لَكُمْ) بعد انقطاع النكاح، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) على الإرضاع، مقيد بغير اللّبأ الذي به البقاء غالباً. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أنفقوا على أمر الولد بلا مشاقة. و (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ). (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ) ثم تضايقتم، (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) امرَأة. وفيه معاتبة للأم وحث على المساهلة. (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ... (7) كل من الموسر والمعسر على قدر حاله. (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) من المال، (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وعد للفقراء بأن الحال يتبدل كقوله (إِن مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) وحث على الإنفاق بقدر الطاقة. (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ ... (8) فحلّ بهم بأس اللَّه تعالى. فخذوا حذركم. بعد بيان جمل من الأحكام أشار إلى أن أهل قرى كثيرة عاندوا، واشتغلوا عن امتثال أوامره. قرأ ابن كثير " كاءٍ " على وزن فاعٍ. (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) أهلكناهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من نوقش في الحساب هلك " (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) كالخسف والغرق. (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا ... (9) وخامة الأمر الذي خالفته، (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) لا ربح فيه.

(10)

(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ... (10) يوم القيامة وقيل: الحساب والعذاب يوم القيامة. والتعبير بالماضي كقوله (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)، لأن المترقب من وعده ووعيده كالكائن. وقوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) تكرار للوعيد. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) بعد هذا البيان (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) العقول الخالصة. (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا ... (11) الذكر: القرآن، و (رسولًا) بدل منه بدل اشتمال، والمراد به جبرائيل. أو الشرف فبدل كل. ويجوز أن يراد محمد عليه السلام. أو نصبه بـ (أرسل) مقدراً دل عليه الإنزال. وهذا هو المتبادر، ويدل عليه قوله: (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ)، لأن تلاوة جبرائيل عليهم تجوز. وجعل الخطاب شاملاً له وللمؤمنين تكلف. (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: ليخرجكم. والإتيان بالظاهر؛ للإشارة إلى فائدة الإرسال. (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من الضلالة إلى الهدى. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) قرأ نافع وابن عامر بالنون، وهو أبلغ في الوعد. (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) أي: رزق فيه تعجيب. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ... (12) سبع أرضين أيضا. روى البخاري عن سعيد بن زيد أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: من غصب شبرًا من

الأرض طوقه من سبع أرضين. وفي الحديث: " ما السموات السبع، والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة في فَلاة " وحملها على الأقاليم باطل، (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي: قضاء اللَّه بالإماتة والإحياء، وسائر أحكامه. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا). علة لـ (خلق)، أو لـ (يتنزل)، أو لمقدر يعمهما. فإن كل واحد يدل على كمال القدرة. * * * تمت سورة الطلاق. والحمد للَّه الملك الخلاق. والصلاة على الكامل بالاتِّفاق، وآله وصحبه إلى يوم التلاق. * * *

سورة التحريم

سورة التحريم مدنية، اثْنَتَا عشرَة آيَة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... (1) اضطربت الرواية في سبب نزولها، وما الذي أوجب تحريم ما أحل اللَّه، وما المحرم. روى البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دخل على زينب فشرب عندها عسلاً، فتواطتُ أنا وحفصة على أن أيَّتُنا دخل عليها نقول: نجد منك ريع مغافير -وكان يكره الرائحة الكريهة- فدخل على حفصة فقالت له ذلك. فقال: شربت عسلاً عند زينب، وقد حلفت لا أعود إليه فلا تخبري أحداً.

وفي رواية عن عائشة رضي اللَّه عنها أيضاً: أن التي سقته هي حفصة، وعائشة وسودة رضي اللَّه عنهما هما اللتان تواطأتا. وروى النسائي عن أنس أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أصاب مارية في يوم حفصة في بيتها. فقالت أي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في يومي وفي بيتي؟! فقال: قد حرمتها فلا تقولي لأحد فذكرته لعائشة. (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) حال أو تفسير يفيد زيادة تهجين، أو استئناف كأنه قيل: ما وجه العتاب وقد تقدمه في ذلك الأنبياء كقوله: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)؟ فقيل: يحل مثله عن طلب مرضات النساء في ترك ما أباحه اللَّه. فالمنكر هو الباعث لا التحريم. (وَاللَّهُ غَفُورٌ) غفر لك ما تقدم وما تأخر (رَحِيمٌ) أعطاك ما لم يعط أحداً من العالمين.

(2)

(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ... (2) بينها لكم بشرعية الكفَّارة، " فإذا حلف أحدكم على فعل ورأي غيره خيراً فليأته وليكَفِّر ". أو شرع استثناء اليمين بأن يقول في حلفه: إن شاء اللَّه. واستدل به الإمام أحمد على أن من حرّم شيئاً ضم فعله يلزمه الكفارة. وليس فيه دليل لما في رواية البخاري حلفت. (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ) متولي أموركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بأحوالكم (الْحَكِيمُ) المتقن في أحكامه. فبادروا إلى ما أمرتم به. (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ ... (3) هي حفصة أو سودة. (حَدِيثًا) تحريم العسل، أو مارية. وما قيل: من أن الخلافة بعدي لأبي بكر وعمر منكر. (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ

(4)

وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) أطلعه على إفشائه، (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) عرف مقدار ما علمت اطلاعه وأعرض عن الاستقصاء. على ما هو دأب الكرام. وقرأ الكسائي (عرَف) مخففاً. أي: جازاها على البعض؛ إطلاقاً للسبب على المسبب كقوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ). (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) تعجيباً لبناء الأمر على الكتمان بينهما. (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ) بالأشياء. (الْخَبِيرُ) ببواطنها. (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ... (4) عائشة وحفصة أو سودة. (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) أي: حق لكما التوبة؛ لوجود موجبه وهو ميل قلوبكما إلى مخالفة الرسول. والتفت إليهما مكافحاً؛ زيادة توبيخ، (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) مرة أخرى. وقرأ الكوفيون بالتخفيف بحذف إحدى التائين. (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أي: فلن يعدم مظاهراً من هذا نعته وهو اللَّه، ورئيس الكروبيين الذي يباشر عقاب المخالف، الذين هم أعوانه وأتباعه (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) " ظهير " عطف على قوله: " إن اللَّه مولاه " وما عطف عليه. وفي (بَعْدَ ذَلِكَ) دلالة على أن وجوه نصرة اللَّه له، وإن تنوعت أقواها نصرة الملائكة وفيهم جبرائيل؛ لأن إفراده بالذكر أولاً، لعلو شأنه. (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ... (5) عن أنس - رضي الله عنه - أن عمر - رضي الله عنه - قال: اجتمعت نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة. قلت: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا

(6)

خَيْرًا مِنْكُنَّ) فنزلت. وقرأ نافع وأبو عمرو (أَن يُبْدِلَهُ) بالتخفيف، والتشديد أبلغ (مُسْلِمَاتٍ) منقادات لأوامره. (مُؤْمِنَاتٍ) بأن مخالفته عصيان. (قَانِتَاتٍ) طائعات. (تَائِبَاتٍ) عن الذنوب. (عَابِدَاتٍ) مذللات الأخلاق. (سَائِحَاتٍ) صائمات. لما في الحديث: " سياحة أمتي الصيام ". وقيل مهاجرات. (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) أدخل الواو هنا دون سائر الصفات؛ لأنهما متنافيان، فلابد من العاطف. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ ... (6) بترك المعاصي. (وَأَهْلِيكُمْ) أيضاً بأن تأمروهم بالطاعات، وتنهوهم عن المعاصي، وفي الحديث: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ". (نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) حجر الكبريت تتقد بهما كما يتقد غيرها بالحطب. (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ) الزبانية. تسعة عشر. (غِلَاظٌ) الأخلاق (شِدَادٌ) القوى لا يأخذهم في تعذيب أعداء اللَّه رأفة. (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) فيما مضى (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) في المستقبل. أو يقبلون الأوامر ويأتون بموجباتها. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ... (7) يقال لهم حين يساق بها بهم إلى النار إذ لا عذر لهم، أو لأنه لا يقبل الاعتذار. (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جزاؤه.

(8)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ ... (8) بالإقلاع عن الذنب، والندم على الماضي. (تَوْبَةً نَصُوحًا) النصح لغة: خلوص كل شيء. يقال: عسل ناصح: صاف. والنصوح صيغة مبالغة منه أي: بالغة في الصفاء عن شوب الذنوب. ويجوز أن يكون من النَّصح بفتح النون: إصلاح الثوب بعد الخرق. وفي الحديث: " من اغتاب خرّق ومن استغفر رفأ "، فهي تنصح صاحبها أو تدعو غيره إلى التوبة؛ لظهور آثارها، على الإسناد المجازي. وفسرها حبر الأمة: باليقين بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالجوارح، والاستمرار على الترك. ْوقرأ أبو بكر بضم النون مصدراً بمعنى: ذات خلوص. (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أردف التوبة النصوح بـ (عَسَى) على دأب الملوك؛ وإشعاراً بأن لا وجوب بل تفضل منه. (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ظرف ليدخلكم، ومعنى المعية: الاجتماع في الإيمان لا في الزمان. (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) استئناف؛ للتعريض بمن ناوأهم وقيل: خبر لـ (الَّذِينَ آمَنُوا) وليس بوجه. (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) إذا رأوا نور المنافقين قد انطفى يعتريهم الخوف على ما هو مقتضى البشرية، وإن كانوا جازمين بالإتمام والنجاة. أو هو قول من يكون نوره ضعيفاً، فإن الأنوار على قدر الأعمال، فيسألون إتمامه تفضلاً. أو يقولون ذلك على وجه التقرب والتلذذ كسائر الأذكار في الجنة. يؤيده قوله: (وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إذ إعطاء النور إنما هو بعد الغفران.

(9)

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ... (9) بالحجة والسيف لأن الرفق قد بلغ مداه. (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيرهم. (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ... (10) مثَّل اللَّه حال الكفار في عدم الانتفاع بما لهم مع الأنبياء والمؤمنين من العلائق صهراً ونسباً بحال المرأتين. (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) ممتازين عن سائر العباد بالصلاح والزلفى. (فَخَانَتَاهُمَا) في الدين لا في الفجور؛ لأنها فراش النبي، ولا عار عليه في كفرها. (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) يسيراً من الإغناء. (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) الذين لا علاقة بينهم وبين الأنبياء. وفيه تهديد للتين تظاهرتا على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، لاسيما التي أفشت سره كامرأة لوط حين دخلت على أضيافه، وإشارة إلى شرف صحبته إنما تفيد زيادة الكرامة إذا نصحت للَّه ولرسوله. (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ... (11) أعدى عدو اللَّه. هى: آسية بنت مزاحم. (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) ومعنى (عِنْدَكَ) مرتفع الدرجة كقوله: (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) من عذابه والابتلاء بعمله. قيل: لما علم يإيمانها هددها لترجع فأبت، وَتَدَ لها أوتاداً فربطها، وأرسل عليها الحيات. (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هم القبط أتباع فرعون.

(12)

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ... (12) عطف على " امرأة فرعون "، جمع في المثل بين ذات الزوج والتي لا زوج لها؛ تسلية للأرامل، وحثاً لهن على المحافظة وتحصين الفروج. (فَنَفَخْنَا فِيهِ) في الفرج. هو نفخ جبرائيل، والإسناد إليه، للشرف. (مِن رُوحِنَا) مخلوق بلا واسطة. (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) بأحكامه. أو الصحف المنزلة، عبر بها عنها، لقصرها. (وَكُتُبِهِ) وقرأ غير أبى عمرو وحفص: (كِتابِهِ) مفرداً على إرادة الجنس. أو الإنجيل، والمؤمن به حقاً مؤمن بسائر الكتب. (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) من جملة العابدين. غلب التذكير؛ إشارة إلى أن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكمَّل. ويجوز أن يكون (من) ابتدائية؛ لأنها كانت من أعقابه هارون، فيكون مدحاً لها بشرف النسب بعد مدحها بكرم الحسب. روى مسلم والبخاري رحمهما الله، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد. وفضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام. وفيه دليل ظاهر على أن عائشة أفضل النساء على الإطلاق. ولأن الرفعة وعلو الشأن إنما هو بالعلم، ولم يدانيها كثير من الرجال، فضلاً عن النساء. * * * تمت سورة التحريم، والحمد لمن فضله عميم، والصلاة على النبي الكريم، وآله وصحبه ذوي الفضل الجسيم. * * *

سورة الملك

سورة الملك مكية، وهي ثلاثون آية، وتسمى الواقية والمنجية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ... (1) تعالى وكثر خيره، ودام من في قبضته الملك المطلق. ذكر اليد معه مثل لاستغنائه عن الكل وافتقار الكل إليه، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ما يصح أن يكون، كان أو لم يكن، مما يطلق عليه اسم الشيء كالدليل على تلك الإحاطة، والاستغناء والافتقار. (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ... (2) قدرهما، أو أوجد الحياة وأعدمها. قدم الموت؛ لأنه أقوى شيء دعا إلى العمل. وفي الحديث: " كَفى بالموت واعظاً " وفيه. " أكثروا ذكر هاذم اللذات ". (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ليعاملكم معاملة من ييلو ويختبر أيكم

(3)

أحسن عملاً. الجملة في محل نصب مفعول ثان للبلوى المتضمن معنى العلم، وليس من باب التعليق؛ لأنه مشروط بإيقاع الجملة موقع المفعولين، وقد تقدم المفعول الأول الاستفهام فانتفى الشرط. روي مرفوعاً أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحسن عملاً: أتم عقلاً عن اللَّه، وأورع عن محارمه، وأسرع في طاعته " (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب (الْغَفُورُ) للذنوب. ترهيب وترغيب للعاصي في التوبة. (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ... (3) بعضها فوق بعص، مصدر طابق النعل، أو خصف بعضها فوق بعض (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) أي: في خلقهن. صفة مقوية لـ " طباقاً ". وإنما أقام الظاهر مقام المضمر؛ تعظيماً ودلالة على أنَّ سبب سلامتها صدورها من الموصوف بنهاية الرحمة، وإشارة إلى أن كونها مبْدَعة على تلك الصفة، كما دل على كمال الاقتدار، تحته من جلائل النعم ما لا يحصى. وقرأ حمزة والكسائي " من تفوُّت ". عن سيبويه وأبي زيد: أنهما بمعنى كتعاهد وتعهد (فَارْجِع الْبَصَرَ) ثانياً؛ لأن النظرة الأولى حمقاء. (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) من شقوق، جمع فطر كبدر وبدور. (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ... (4) ثم بعد النظرة الثانية داوم على النظر متفحصاً أحوالها، ملتمساً خللاً. التثنية للتكرير مثل لبيك. (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) بعيداً كالمطرود عن وجدان الخلل، كليلاً ذا تعب في الطلب. (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ... (5) هذا أدل على كمال الاقتدار من كونها ملساء مستوية. والمصابيح: النجوم المضيئة في السقف المرفوع، كالسرج في سقوف البيت. والدنو بالنسبة إلى من في الأرض، وكونها زينة لها لا تقتضي أن تكون مركوزة فيها.

(6)

(وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَيَاطِينِ) بانفصال الشهب منها كالنار المقتبسة، وعليه يحمل انقضاض الكوكب في الحديث. وأشْعار العرب؛ لأن كونها زينة السماء يقتضي استمرارها، وقيل: جعلناها رجوماً أي: ظنوناً لشياطين الإنس أي: سبب ظنونهم التي يرمون بها الغيب. جمع رَجم بالفتح مصدر سمي به ما يرجم به. (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) في الآخرة. مستطرد لذكر الشياطين. (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ... (6) بعد هذه الدلائل النيرة، (عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم أو عذابه. (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا ... (7) صوتاً كصوت الحمار، إما منها، أو ممن تقدمهم. (وَهِيَ تَفُورُ) فوارن المرجل. (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ... (8) تمثيل لشدة اشتعالها وامتلائها بالنار. أو يخلق الله فيها إدراكاً، كما عليه ظواهر النصوص. (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) ينذركم عذاب اليوم. سؤال توبيخ. (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ... (9) النذير (وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) قط. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ) كلام الكفار للنذير؛ لأنه مصدر وصف به الجمع مبالغة في

(10)

إنذارهم، كرجل عدل. أو يقدر مضاف أي: أهل إنذار. أو من كلام الخزنة على طريق حكاية ما كانوا عليه. أو الضلال الهلاك، أو سمي عقابه باسمه. (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ... (10) كلام الرسل سماع تفهم وتدبر. (أَوْ نَعْقِلُ) نتأمل آيات الآفاق والأنفس، ونستدل بها على أن الإنسان لم يخلق سدى. (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) في جملتهم. (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ... (11) حين لا ينفع الاعتراف. (فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) بعداً لهم. أي: أسحقهم اللَّه إسحاقاً، حذف منه الزائد كأنبت نباتاً، وقرأ الكسائي بضم الحاء على أنها لغة. (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ... (12) ذكر الكفار كان بالعرض؛ لأن الذي سيق له الكلام بيان حال من هو أحسن عملاً كأن قيل: ماذا حال من سيق له الكلام؟ فأثبت لهم كمال العلم الذي أشير إليه بقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وكمال التقوى بقوله: (بِالْغَيْبِ) بالغائب عنهم، أو غائبين عنه، أو بالغائب المخفي وهو القلب. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما فرط منهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) لا يسعه تصورهم. (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ... (13) خطاب عام كما في (ليَبْلُوَكُمْ) أي: اتقوه في السر والعلن؛ لاستوائهما في علمه. حث للخاشي على الاستدامة والترقي إلى حق الخشية، وللغافل المغتر على الإنابة ويجوز أن يكون التفاتاً إلى أصحاب السعير؛ لما روي أن المشركين

(14)

كانوا يقولون: " أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فيخبره " (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) بضمائرها. فضلاً عن الصادر عنها سراً وجهراً. (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ... (14) ألا يعلم السر والجهر من خلق الأشياء كلها؟! (وَهُوَ اللَّطِيفُ) الدقيق في صنعه، دقت حكمته في كل شيء، (الْخَبِيرُ) ببواطن الأشياء. وحذف المفعول من " خلق " للتعميم، ولا يجوز أن يكون من قبيل يعطي ويمنع؛ لارتباطه بما تقدم من حد بها السر فلا بد من ملاحظة المفعول. يجوز أن يكون " من " مفعولاً، وفي " يعلم " ضمير الرب أي: ألا يعلم اللَّه مخلوقه وهذا شأنه. والأول أوجه؛ لإقامة الظاهر مقام المضمر، ولكونه أدل على المحذوف، ولعموم المقدر المتناول له تناولاً أولياً. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ... (15) لينة يسهل عليكم سلوكها. (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) في جوانبها. مثل في فرط التذلل؛ لأن منكب البعير أرق شيء فيه، وأنباه عن وطئ الراكب بقدمه، فإذا ذلل ذلك فقد بلغ التذليل غايته. وقيل: مناكبها جبالها، فالاستعارة فى لفظ المنكب. (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ما أخرج منها أقواتاً وثماراً. (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) فاجتهدوا فى الشكر فإنه يسألكم عنها. (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ... (16) ملكوته وسلطانه. أو نفسه على زعم جهلة العرب. وقيل: الملك الموكل للعذاب وليس برصين. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون.

(17)

مقابل لقوله (فَامْشُوا) بدل اشتمال من " مَنْ ". (فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) تضطرب في ذهاب ومجيء من هيبة اللَّه وشدة غضبه. (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ... (17) ريحاً فيه الحصباء والأحجار كقوم لوط، مقابل لقوله: (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) لقوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ). (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) إذا شاهدتم المنذر به. (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (18) قبل قريش. (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) إنكاري بالانتقام، وقد شاهدوا آثاره وتواتر عندهم خبر ما لم يشاهدوه. (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ ... (19) باسطات أجنحتهن في الجو، فإنها إذا بسطت الأجنحة صفت القوادم. (وَيَقْبِضْنَ) لم يقل قابضات؛ لأن الطيران كالسباحة الأصل فيه المد والقبض تارة وتارة، والفعل دال على التجدد والحدوث. (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) بليغ الرحمة، بأن خلقها على وضع وهيئة يتمكن بها من الطيران، بأن جعل لها القوادم تشق بها الريح، والحوافي تشدها والأذناب تقيمها كما في السفن. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) عليم عياناً لا يخفى عليه شيء مما يدهش الفطن. وفي ذكره عقيب الخسف وإرسال الحاصب؛ إشارة إلى أن من هذا شأنه ذاك أهون شيء عنده، وإيماء إلى أن دافع العذاب عن هؤلاء مع موجباته وتكامل أسبابه منهم إنما هو تلك الرحمة البالغة التي أمسكت الطير في الهواء. (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ ... (20) متعلق بحديث الخسف؛ لأن قوله: (وَلَقَدْ كَذَّبَ) اعتراض يشد من عضد التحذير، وكذا قوله: (أَوَلَمْ

(21)

يَرَوْا) تصوير لقدرته الباهرة. والمعنى: " أم " الذي يقال فيه هذا الذي هو جند لكم أمنكم من عذاب اللَّه؟ على أن " أم " منقطعة والاستفهام تهكم. والمشار إليه إما فوج مقدر، أو أصنامهم. " من " مبتدأ، و " هذا " خبره، والموصول صفة " هذا "، و " ينْصُركُمْ " وصف لـ " جند " محمول على اللفظ. (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) مستغرقون في الغفلة. (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ ... (21) أي: أم الذي يقال فيه هذا الذي يرزقكم؟ (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) أي: اللَّه تعالى بإمساكه أسبابه، من المطر والإنبات. متعلق بإرسال الحاصب. (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ) تمادوا في العناد. (وَنُفُورٍ) وإعراض. وهذا أدل على إغراقهم في الكفر من قوله: (إلا في غرور). كما أن توهم الرزق من الأصنام، أو من فوج مقدر أبعد من تخيل النصر منها. (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى ... (22) يقال: كببته فأكب، وعدوه من النوادر؛ لأن القياس كون المجرد مطاوعاً للمزيد. وقيل: ليس من ذاك بل المعنى: صار ذا كبّ كأغدّ البعير، ومعنى مشيه مكباً على وجهه يقع تارة ويقوم أخرى؛ لكونه ماشياً في غير الطريق، أو لكونه أعمى لا يبصر. (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا مثل ضربه للكافر والمؤمن، فإن الكافر في ظلمات الشبه والشكوك كمن لا يرى جهة قصده، أو يسلك مكاناً وعراً، فهو بين قيام وسقوط، والمؤمن في نور إيمانه كمن يرى مواطئ قدميه، أو كمن سلك طريقاً جادة سهلة السلوك. وإن شئت شبهت الدينين بالمسلكين.

(23)

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ... (23) من تراب، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) آلات الإدراك. وأيّ بعد أَبعد ما بين التراب وهذه الأمور. (قَلِيلًا مَا) جدًّا (تَشْكُرُونَ) بصرفها إلى ما خلقت له، فلا سمعتم سماع تفهم، ولا نظرتم نظر اعتبار، ولا تدبرتم في دلائل الأنفس والآفاق. (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ... (24) بثّكم فيها متمكنين من أي تصرف شئتم. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء، فشمروا له. (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ... (25) أي: الحشر. أو العذاب كالخسف وإرسال الحاصب. (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الخطاب له ولمن آمن به. (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ... (26) لا يعلم ذلك غيره. (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ* فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً ... (27) الضمير للموعود، وعبر عنه بالماضي؛ لتحقق وقوعه. (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ساءها رؤية العذاب وغشيها القترة. (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) تستعجلون، من الدعاء. الباء صلة. أو تدعون أن لا بعث، من الدعوى. فالباء سببية. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ... (28) أماتني (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين، (أَوْ رَحِمَنَا) بتأخير الآجال، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) كانوا يتمنون هلاكه. كما قال اللَّه تعالى: (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي: إن أهلكنا اللَّه كما تمنون أنتم، أو رحمنا بالنصر عليكم كما نرجو نحن، لا مجير لكم من عذاب اللَّه. أو نحن هداتكم ودعاتكم إلى النجاة، فإن أهلك اللَّه هداتكم كما تمنون، أو رحمهم عكس ما تمنون فمن يجيركم، أو نحن مؤمنون

(29)

وحالنا دائرة بين الاهلاك بالذنب والرحمة بالإيمان، فماذا حالكم مع كفركم؟!. وعلى الوجوه من إيقاع المظهر موضع المضمر. (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ ... (29) فيجيرنا من عذابه، ولم نكفر مثلكم. (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) لا على العَدد والعُدد مثلكم. (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) منا ومنكم. من كلام المنصف. وقرأ الكسائي بياء الغيبة. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا ... (30) غائراً في الأرض، (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) جار أو سهل المآخذ. فإن لم تعبدوه للحياة الباقية فاعبدوه للفانية، فالكل منه وإليه. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ). * * * تمت سورة الملك، والحمد للَّه لمن بيده البقاء والهلك، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه إلى يوم القيام. * * *

سورة القلم

سورة القلم مكية، وآياتها ثنتان وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (ن ... (1) اسم السورة، أو من حروف الهجاء كما تقدم في نظائره. وقيل: اسم الحوت الذي عليه الأرض المسمى بالبهموت. وقيل: اسم اللوح الذي كتب فيه القلم ما هو كائن. وقيل: اسم الدواة. وفي الكل بعد، إذ الوجه إعرابه على أن ذكر الحوت مع القلم كذكر الضب مع النون. فإن قلت: إذا كان اسم السورة فلا تنكر سكون آخره، فليكن كذلك إذا جعل اسم الدواة أو اللوح. قلت: قد سبق أن الحكاية في هذه الحروف إنما يصح إذا كانت أسماء للسور للمح معانيها الأصلية؛ إيقاظاً لمن تحدى بها. وأقرب الوجوه أن يكون

(2)

اسماً للدواة التي كتب منها القلم الكائنات، وسكونه؛ إجراء للوصل مجرى الوقف. (وَالْقَلَمِ) هو الذي خلقه اللَّه أول، أو جنسه. أقسم به؛ لشرفه لأنه آلة لكتابة وحيه وحكمه. (وَمَا يَسْطُرُونَ) ما يكتبه من كتب من المعارف. أو الحفظة من الأعمال. ويجوز أن يكون " ما " مصدرية، وأن يراد بالقلم أصحابه وهم كتَّاب وحيه وحملة شرائعه. أقسم بهم وبمسطوراتهم، أو بسطرهم وكتابتهم. (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) جواب القسم والمعنى: ما أنت بمجنون منعماً عليك بما أنعم من رزانة الرأي وحصافة العقل، على أن الجار والمجرور حال من المستكن في (بِمَجْنُونٍ) وهو العامل فيه، والباء فيه زائدة، فلا يمنع العمل فيما قبله. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) غير مقطوع كقوله: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)، أو خالياً عن المنة. والمعنى: أن لك عندنا من الزلفى والمكانة زيادة على أجر صبرك على أذاهم ما لا يستحق الأجر أن يمن به عليك. وقيل: ممنون من الناس؛ لأنه من عطاء ربك. (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) وبه استوجبت تلك الرتبة العظمى. وعن قتادة رحمه اللَّه، قلت لعائشة رضي اللَّه عنها: أخبريني عن خلق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: " كَانَ خُلُقهُ القرْآنَ ". وكذا عن سعد بن هشام رحمه اللَّه تعالى. أشارت إلى قوله (خُذِ الْعَفْوَ

(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). وروى البخاري عن عبد اللَّه بن عمرو - رضي الله عنهما -: " أن نعته في التوراة محمد عبدي سميته المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا يجازي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ". وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس صدراً، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه.

(5)

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) أي: أيكم الذي محن بالجنون. الباء زائدة، أو المفتون مصدر كالمعقول، أو الباء. بمعنى في. أي: في أيّ فريق منكم يوجد من يستحق هذا الاسم. والخطاب وإن كان معه، إلا أن أمته داخلة تبعاً، وهذا أوجه الأوجه؛ لاشتماله على التعريض مع سلامته عن استعمال النادر. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ... (7) أي: بالمجانين. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) العقلاء. أشار إلى أن الجنون والعقل بهذا الاعتبار، لا بما توهموه، فهم في هذا الزعم مجانين. ويجوز أن يكون وعيداً ووعداً أي: أعلم بجزاء الفريقين. (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) كانوا يدعونه إلى عبادة الأصنام وقتاً؛ ليدعوه من غوائلهم، أو يعبد ما يعبدوه وقتاً. (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ... (9) تلين لهم (فَيُدْهِنُونَ) فيلينون لك. الفاء للعطف، أي: ودوا إدهانك فيدهنوا بعد إدهانك. أو السببية، أي: ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا إدهانك فهم الآن يدهنون طمعاً فيه. (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ ... (10) كثير الحلف، وفي جعله فاتحة المثالب وإمام القبائح؛ دلالة على أنه شر الخصال؛ وذلك لأنه يدل على عدم استشعار عظمته تعالى. (مَهِينٍ) حقير. (هَمَّازٍ ... (11) عياب. من الهمز: وهو الكسر. (مَشَاءٍ بِنَمِيمٍ) النميم والنميمة: نقل الحديث لإيقاع الفتنة، وإفساد ذات البين.

(12)

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ... (12) شديد البخل. والخير: المال، أو أهله من الخير: وهو الإيمان. ذكر الممنوع منه دون الممنوع عكس الوجه الأول؛ لأن عدم ذكر الممنوع منه هناك أوقع (مُعْتَدٍ) ظالم متجاوز الحد. (أَثِيمٍ) كثير الإثم. (عُتُلٍّ ... (13) جافٍ غليظ. من عتله: إذا قاده بعنف. (بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) بعدما ذكر من المثالب دعيّ، لا نسب له، وهذا كما إذا عددت مثالب إنسان، ثم تقول: وبعد ذلك لا يحب أبا بكر وعمر رضي اللَّه عنهما. والزنيم: شاة لها زنمة وهي ما يقطع من أذنها من غير فصل فيتدلى. قيل: هو الوليد بن المغيرة استلحقه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده، وقيل: بغت أمه فولدته من الزنا. وقيل: هو الأخنس بن شريق كان من ثقيف وعداده في زهرة، وليس بصواب؛ لأنه أسلم، معدود في الصحابة. (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) متعلق بقوله (وَلَا تُطعْ) أي: لا تطعه بعد هذه المثالب لكونه ذا يسار وحظ من الدنيا. أو بما دل عليه ما بعدُ من معنى التكذيب، لا بـ " قال "؛ لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، أي: كذب بآياتنا؛ لأنه كان مستظهراً بالمال والبنين مغروراً بها. قيل: كان له عشرة من البنين، وله مال وافر، ويقول: " من آمن بمحمد منعت رفدي ".

(16)

وقرأ حمزة وأبو بكر بالاستفهام، إنكاراً لطاعته له لكونه ذا مال، وكذا ابن عامر. إلا أنه سهل الثانية بزيادة ألف بينهما. لهشام ولابن ذكوان بين بين. (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) الوجه أشرف الأعضاء، وأشرف أجزائه الأنف. والعرب على أن الشرف يظهر في الأنف، يقولون: " فلان به شمم " و "القوم شم العرانين "، وفي وصفه - صلى الله عليه وسلم -: " أشم العرنين "، فالكَيُّ على الأنف إهانة وإذلال. يجوز أن يكون حقيقة. أو كناية عن الإذلال، والتعبير عنه بالخرطوم زيادة تشويه؛ لأنه لا يستعمل إلا في الفيل أو الخنزير. وما قيل: أنه خطم يوم بدر فبقي سمة على خرطومه سهو؛ لأن الوليد مات قبل بدر، وأبعد منه ما نقل عن النضر بن شميل أن الخرطوم هو الخمر، ومعناه: سنحده على شربها. (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ... (17) أي: إنا اختبرنا أهل مكة بإرسال محمد نعمة عليهم، فلما كفروا به سلّطنا عليهم القحط، كما اختبرنا أصحاب الجنة. عن سعيد بن جبير أن هؤلاء كانوا من قرية يقال لها: صروان من قرى صنعاء وكان أبوهم ذا

(18)

بر وإحسان على الفقراء، كان يأخذ من غلة بستانه هذه قوت سنة، ويصرف الباقي على الفقراء والمحاويج، فقال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن ذو عيال. (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) داخلين في الصباح قبل أن يعلم بذلك الفقراء (وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) في أيمانهم. لم يقولوا إن شاء اللَّه، بل بتوا القول وجزموا به. وإنما سمي الشرط استثناء؛ لأنه يؤدي مؤداه في الإخراج. (فَطَافَ عَلَيْهَا ... (19) على الجنة (طَائِفٌ) بلاء من الطوفان (مِنْ رَبِّكَ) مرسل من عند اللَّه (وَهُمْ نَائِمُونَ) لا علم لهم بذلك. (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) كالمجدود ثماره. من الصرم وهو: القطع. أو كالليل المظلم محترقاً، أو الليل الأبيض المقمر. فإن الصريم من الأضداد. أو كالرمل المنصرم. أو كالتي أصابها الصرام وهي: الداهية. (فَتَنَادَوْا ... (21) نادى بعضهم بعضاً (مُصْبِحِينَ). (أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ... (22) أن مفسرة، واستعمال الغدوّ بـ (عَلَى)؛ لتضمينه معنى الإقبال، أو لأن الغدو للصرام استيلاء، وهو والاستعلاء من واد واحد. (إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) على الوجه الذي عزمتم عليه.

(23)

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) يتكاتمون الحديث. (أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) أن مفسرة، والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه كقولك: لا أرينَّك هنا. (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) الحرد: المنع، يقال: حاردت السنة إذا منعت المطر، والإبل إذا انجلت بالدَّرِّ، أي: غدوا عازمين على المنع حال كونهم قادرين على الخير. أو غدوا على محاردة جنتهم ومنع خيرها بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها. وقيل الحرد: السرعة. يقال: قطاً حراد أي: سراع. أي: اذهبوا على وجه السرعة لئلا يدركهم المساكين. وقيل. الحرد: القصد. أي: غدوا قاصدين الصرام، قادرين على ذلك من عند أنفسهم حال مقدرة. وقيل: الحرد اسم بستانهم. (فَلَمَّا رَأَوْهَا ... (26) على تلك الحالة: (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) طريق جنتنا. قالوه قبل، فلما تيقنوا الأمر قالوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) حرمنا خير جنتنا لجنايتنا على أنفسنا. (قَالَ أَوْسَطُهُمْ ... (28) أي: خيرهم رأياً (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) أي: تستثنون؛ لتلاقي الاستثناء والتسبيح في التعظيم، فاستعمل مكانه. وعن الحسن لولا تصلون

(29)

فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء. أو لولا تذكرون اللَّه وتتوبون إليه. كأنه نصحهم على خبث نيتهم، فلم يطيعوه. (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) في القصد إلى حرمان المساكين. قالوه بعد خراب البصرة واتِّسَاعِ الخَرق عَلى الراقِع. (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) كل منهم يقول للآخر أنت السبب. أو لأن بعضهم قال، وبعضهم رضي به، وبعضهم كف فلم يطيعوه. (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) فلذلك أصابنا البلاء. (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا ... (32) كما هو شأنه مع التائبين. (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) في العفو ومحو الجريمة، وإفاضة الخير. والظاهر أن اللَّه تعالى قبل توبتهم لوقوعها في أوانها. (كَذَلِكَ الْعَذَابُ ... (33) أي: مثل ما بلوناه أهل مكة، وأصحاب الجنة. العذاب الواقع في الدنيا. وقد أدمج في التمثيل بأصحاب الجنة أن أهل مكة أولى بالبوار والنكال؛ لأن القصد إلى حرمان المساكين إذا أفضى بهم إلى ما ذكر، فكيف بمن عاند الحق وكذب أشرف الرسل، وقطع الرحم التي أوصى اللَّه تعالى بصلتها؟. (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) من عذاب الدنيا. (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) لو كانوا من أهل العلم لعلموا ذلك، ولأخذوا حذرهم.

(34)

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... (34) في جوار قدسه (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) جنات ليس فيها إلا النعيم. تعريض بجنات الدنيا، فإن الغالب فيها التعب والنكد، وحسن موقعه بعد ذكر أصحاب الجنة المذكورة وذكر حالها. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) قال مقاتل: كانوا يقولون إن لم نكن في الآخرة أحسن حالاً من المسلمين، فلا أقل من المساواة، قياساً على حظوظ الدنيا. (مَا لَكُمْ ... (36) ما حصل لكم من الخلل. (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الذي لا يصدر عن ذي مسكة؟. وفي الاستفهام مبالغة في التعجيب من سفاهتهم (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) لكم بما فيه علم تام. (إن لكم فيه لما تخيرون) تختارونه وتشتهونه. وكان الظاهر فتح (إنَّ)؛ لأنه مدروس، وإنما كسر؛ لوجود اللام، أو هو على الحكاية. كقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ). ولا يقدح في هذا تكرار (فيه)؛ لكونه على منوال " قرأت الكشاف إن في الكشاف لفوائد ". وتخير الشيء واختاره: أخذه خيرة. (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا ... (39) يقال: لفلان عليَّ يمين إذا حلفت له على أمر تضمنه له. (بَالِغَةٌ) متناهية في التغليظ. جمع اليمين وأكده؛ لفرط اعتمادهم. (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) غاية للثبوت المقدر في الظرف. أي: ثابتة إلى ذلك اليوم، كالأجل للدين، فإذا وفينا بالمقسم عليه

(40)

خرجنا عن عهدتها. أو مبالغة على معنى أنها مستمرة إلى ذلك اليوم، لا تنحل منها يمين، ولم تبطل حتى يحصل المقسم عليه. (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ) جواب القسم؛ لأن معنى (أَمْ لَكمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا) أم أقسمنا لكم. (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) كافل بإثبات ما ذكر. (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ... (41) في هذه العقيدة. (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) في دعواهم. ومعلوم أنه لا يوافقهم عاقل، فقد انحسم مادة الشبه عقلاً ونقلاً. (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ... (42) منصوب بـ (فَلْيَأْتُوا)، أو بـ " اذكر "، أو بمقدر، أي: يكون كيت وكيت الكشف عن الساق والتشمر عنها. جرى مجرى المثل عن شدة الأمر، واستعمله البلغاء حيث لا يتصور ساق. قال جرير: أَلا رُبَّ سامي الطرفِ مِن آلِ مازِنٍ ... إِذا شَمَّرَت عَن ساقِها الحَرب شَمَّرا وأصل هذا؛ أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم شمر عن ساقه. ولا ينافي هذا ما رواه البخاري عن أبي سعيد أنه سمع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل

(43)

مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان في الدنيا يسجد رياء فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقا". إذ عند الاشتداد والفزع الأكبر يتجلى للمؤمنين بصفة الجمال، وهذا إنما يكون بعد ذهاب أهل النار ولم يبق إلا المؤمنون، وبينهم المنافقون فأرادوا النفاق كما في الدنيا فافتضحوا. وهذا معنى قوله: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ)، لأن هناك دعاء صريحاَّ، وتكليفاً. (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ... (43) تغشاهم. (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) من العوائق. (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ... (44) أي: كِلْه إليَّ فأنا أكفيك. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) أنه استدراج، بأن يفيض عليهم الرزق والعافية فيحسبونه إيثاراً لهم وتفضيلاً على المؤمنين، فيتمادون في الضلالة. والاستدراج: استنزال الشخص درجة بعد درجة حتى يتورط في الهلاك. (وَأُمْلِي لَهُمْ ... (45) أي: أطيل لهم المدة ليزدادوا إثماً (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) قوي. وإنما سمى إحسانه استدراجاً وكيداً، لأنه في صورته.

(46)

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا ... (46) متصل بقوله: (أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ)، وما في البين اعتراض، ترغيباً للسامعين في البدار قبل فوت الوقت (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) فلذلك يعرضون. (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ ... (47) أي: اللوح الذي هو خزائن المغيبات، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) منه، يستغنون به عنك وعما جئت به. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ... (48) وهو إمهالهم إلى وقت معلوم، (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) هو يونس بن متى. (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) في بطن الحوت. (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) والمعنى: لا تكن مكظوماً أي: مملوءاً غيظاً على عدم إيمان قومك مثله. فالمنهي عنه مشابهته إياه في الكظم. ولما كان موهماً بنوع انحطاطه، قال: " لا تفضلوني على يونس بن متَّى " إذ كان غضبه للَّه، وإن لم يكن من عزم الأمور. (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... (49) رحمة منه، أو توفيقه إياه للتوبة. (لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي. امتنع نبذه بالعراء مذموماً؛ لوجود التدارك، فالمعتمد في الجواب (لَوْلَا) هو الحال، لا النبذ؛ لوجوده، العراء: الفضاء الذي لا ساتر له. (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ... (50) بعد الإنابة، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) من عداد الأنبياء. وقيل: استنباه، وهو خطأ فاحش، وكذا القول بنزول الآية حين أراد أن يدعو على المؤمنين الذين انهزموا يوم أحد؛ لأن السورة من أوائل ما نزل بمكة.

(51)

(وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ... (51) زلقه وأزلقه بمعنى: أزاله عن مكانه. وصفهم بالمبالغة في العداوة كأنها سرت من القلب والجوارح إلى النظر فصار يعمل عملها. وإليه أشار من قال: يتقارضون إذا التقَوْا في موطن ... نَظراً يُزِيلُ مَوَاطئَ الأقدامِ وقيل: العين. كان في بني أسد، وكان يتجوع منهم رجل ثلاثة أيام، فلا يمر به شيء يقول: لم أر كاليوم مثله إلا عانه، فأرادوا فعله برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فوقاه اللَّه بعنايته. وعن الحسن أن هذه الآية رقية العين، من خاف من إصابة العين فليقرأها، وروى الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " وَلَوْ كَانَ شَيء سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ العَين " والأخبار في حقية العين متواترة المعنى، ومن شاهد تأثير المغناطيس في جذب الحديد لم يستبعد تأثير العين. وقرأ نافع (يَزْلِقُونَكَ) بفتح الياء. وهي لغة، والضم أشهر. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) القرآن الذي هو شرف لهم. (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) ولذلك خالف كلامه أساليب كلام العرب.

(52)

(وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) عظة لكل ذي عقل من الملائكة والثقلين. أو شرف لمن حفظه وعمل بما فيه كائناً من كان، وهذا أبلغ من قوله: (وَإنَّهُ لَذكْر لَكَ وَلِقَوْمِكَ). * * * تمت سورة نون، والحمد لمن أجره غير ممنون، والصلاة والسلام على خيرة الخلق إلى يوم يبعثون. * * *

سورة الحاقة

سورة الحاقة مكية، وآيها إحدى وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَاقَّةُ (1) من أسماء يوم القيامة، أي: الساعة الثابتة التي لا ريب في ثبوتها، أو التي فيها ثوابت الأمور من الحساب والجزاء على الإسناد المجازي، وكذا إن فسِّرت بما يحق فيها من الأمور، وتعرف على الحقيقة. (مَا الْحَاقَّةُ (2) ما حقيقتها؟. الجملة خبر الأول، والأصل ما هي؟ تعظيم وتهويل لها. وفي وضع المظهر مقام المضمر زيادة ومبالغة. وأكِّد ذلك بقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) أي؛ لم تحط علماً بكنهها، وكل شيء قدّرته في نفسك، فهي أفظع من ذلك. و " ما " الاستفهامية علق عنها الفعل. ولما هوّل أمرها بما لا مزيد عليه، أردفه بذكر المكذبين بها وما حلّ بهم، وادخر لهم في الآخرة؛ تحذيراً لأهل مكة. (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) من أسمائها؛ لأنها تقرع الناس بالإفزاع والأهوال، والجبال بالدّكّ، والسماء بالانفطار، والأرض بالزلزال. وهذا تهويل آخر، حيث لم يعبّر عنها بالضمير، ولا بالمظهر المذكور.

(5)

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) بالواقعة المتجاوزة عن الحدّ في الفظاعة، وهي الصاعقة، لقوله: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ) ويجوز أن يكون معها الصيحة والرجفة، كالحاصب مع الخسف في قوم لوط. وقيل " مصدر كالعاقبة، ولا يلائم قوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ ... (6) لأنَّ الآية من قبيل الجمع والتفريق، والحدث لا يناسب العين. (صَرْصَرٍ) شديدة الصوت، لها صرصرة في هبوبها، أو من الصّر وهو: البرد، كأنها التي كرّر فيها البرد. (عَاتِيَةٍ) على قوم عادٍ، فلم يقروا على دفعها، وعن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - عتت على خزّانها، فخرجت بغير حساب. (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ... (7) سلّطها. (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ) استئناف لبيان الكمية بعد الكيف؛ ليتكامل الهول. (حُسُومًا) حاسمات كل خير، جمع حاسمٍ، كشهود جمع شاهدٍ. والحسم: إزالة أثر الشيء، ومنه الحسم للكي المستأصل للداء، أو متابعة هبوب الريح حتى استأصلتهم، كأن كلّ هبَّة كيَّة. ويجوز أن يكون مصدر الفعل مقدراً، أي: يحسم حسوماً، أي. يفرق بينهم تفريقاً شديداً لا اجتماع بعده، لكمال النحوسة. (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا) في مهابِّها ((صَرْعَى) ملقى على الأرض كالأخشاب اليابسة. قيل: كانت من صبيحة الأربعاء إلى غروب الأربعاء وسميت أيام العجوز؛ لأنَّ عجوزاً توارت في سربٍ فوجدها الريح في اليوم الثامن. وقيل: أيام العجز، وهي آخر الشتاء. وأسماؤها: الضّن، والضّبر والآمر، والمؤتمر، والمعلّل، ومطفئ الجمر. (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) أصول نخلٍ متآكلة الأجواف.

(8)

(فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) بقية، أو نفس باقية، أو بقاء. (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ... (9) قبل فرعون. وقرأ أبو عمرو والكسائي: قِبله بكسر القاف أي: أتباعه، والأول أبلغ وأشمل، إذ ذكر فرعون دلّ على أتباعه. (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) قرى قوم لوط، والإسناد مجاز (بِالْخَاطِئَةِ) بالخطأ، أو بالفعلة ذات الخطأ، أو بالأفعال الخاطئة. مجاز في الحكم. (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ... (10) كلّ منهم رسوله (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) شديدة لعظم جرمهم. من ربا الشيء: زاد. (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ... (11) على الخزان يوم الطوفان، أو جاوز الحدّ. (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) في السفينة. وذكرها باسم الجارية؛ تصوير لإظهار القدرة، إذ لم يكين لها مجرٍ ولا نوتي، بل كان باسم اللَّه مجراها ومرساها. (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً ... (12) تلك الفعلة موعظة. (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) من شأنها الوعي يقال: وعيته إذا حفظته في نفسك، وأوعيته إذا حفظته في وعاءٍ آخر. والتنكر؛ للدلالة على قلة الأذن الموصوفة، وإن واحدة منها إذا وجدت كانت بمثابة السواد الأعظم. وقرأ نافع: بسكون الذال. وعن علي - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " سألت اللَّه أن يجعل أذنك واعية قال: فما نسيت بعد ذلك شيئاً، وما كان لي أن أنسى ". (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وهي النفخة الأولى نفخة الفزع، ويعقبها نفخة الصعق، وبعدها نفخة القيام وابتداء خراب العالم.

(14)

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) ضربت إحداهما على الأخرى بالقدرة الكاملة، فصارتا كثيباً مهيلاً، كما تضرب أنت إحدى البيضتين على الأخرى. (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) قامت القيامة. (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) مسترخية. (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ... (17) حبس الملك على أطرافها. جمع رجا مقصور. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) فإنَّ الحملة اليوم أربعة، فإذا كان ذلك اليوم امتدّوا بأربعة أخرى. وقيل: ثمانية صفوف، لا يعلم عددهم إلا اللَّه. وروى أبو داود في سننه أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه سبعمائة عام ". وإذا نطق القرآن بأمر ممكن ووافقه الحديث، فلا وجه للتأويل والعدول عن الظاهر. (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ... (18) العرض إنما يكون بعد النفخة الأخيرة، والكلام في النفخة الأولى، لأنَّ اليوم أريد به الزمان المتسع. روى الترمذي عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: عرضتان جدال ومعاذير، والثالثة تطير فيها الصحف ".

(19)

(لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) سريرة. والمراد من العرض إظهار المعدلة وإخزاء الجاحدين على رؤوس الأشهاد. وقرأ حمزة والكسائي بالياء، وحسُن؛ لوجود الفصل. (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ... (19) تفصيل للعرض، روى البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " يدني اللَّه المؤمن يوم القيامة، فيقرره بذنوبه حتى إذا رأي أنه قد هلك يقول له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر فـ (يَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ". (فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) بقوله لكل من رآه فرحاً. و " هاؤم " جمع " هاء " بألف بعده همزة، تصرف تصريف الكاف، ومعناه: خذ، اسم فعل. تنازع " هاؤم " و " اقرؤوا " فأعمل الثاني؛ لقربه على ما اختاره البصريون، وإلا لقيل: اقرؤوه. (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) أيقنت، وإنما عبّر عئه بالظن؛ دلالة على أن هواجس النفس وخطراتها مما لا تنفك عنه العلوم النظرية لا يقدح في الاعتقاد. (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) ذات رضاً، كلابن وتامر، فإن النسبة كما تكون في الحرف تكون بالصيغة، أو راض صاحبها، على المجاز في الإسناد. (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) فوق السماء السابع، سقفها عرش الرحمن، أو عالية قصورها وأشجارها، بدل من عيشة، أو خبر بعد خبر.

(23)

(قُطُوفُهَا ... (23) جمع قطف بالكسر من القطاف وهو: تقارب الخطى في سرعة، فإنها تجتنى من غير تعب (دَانِيَةٌ) يتناولها القاعد والمضطجع. (كُلُوا وَاشْرَبُوا ... (24) على تقدير القول (هَنِيئًا) أكلاً وشرباً هنيئاً، أو هنئتم هنيئاً. (بِمَا أَسْلَفْتُمْ) من الأعمال (فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) الماضية في الدنيا. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) لما يرى من سوء الحال. (يَا لَيْتَهَا ... (27) الموتة الأولى (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) القاطعة فلم أُبعث بعدها، أو (يَا لَيْتَهَا) دامت. يرى من الشدة ما يعدّ مرارة الموت حلاوة عندها. (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) شيئاً من الأشياء، أو أيّ شيءٍ أغنى، على أنَّ " ما " استفهامية إنكاراً. (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) ملكي وتسلطي على الأموال والحشم. قرأ حمزة في الوصل بدون " الهاء " في الموضعين، وهذا هو الأصل؛ لأنها هاء السكت ولا سكت في الوصل، ومن أثبتها أجرى الوصل مجرى الوقف اتباعاً للرسم. (خُذُوهُ ... (30) أمرٌ من اللَّه للخزنة. (فَغُلُّوهُ) اجعلوه في الغلِّ. (ثُمَّ الْجَحِيمَ ... (31) وهي النار العظمى. (صَلُّوهُ) لا غيرها. يقال: صليته النار: أدخلته إياها. (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا ... (32) المراد منه الكثرة كقوله: (إِنْ تَسْتَغفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً). (فَاسْلُكُوهُ) أي: لا تسلكوه إلا في السلسلة الموصوفة. ومعنى سلكه فيها: أن تُلفّ عليه مع ذلك الطول المفرط؛ مبالغة في التضييق عليه. و " ثم " في الموضعين للتفاوت بين ما دخله وما تقدّمه.

(33)

(إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ... (33) تعليل على طريقة الاستئناف. (الْعَظِيمِ) أي: ذلك العظيم من العذاب؛ لكفره بالعظيم. (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فيه مبالغتان. ذكره قرين الكفر، وترك الحض دون منع الطعام؛ ليعلم من باب الأولى، وفيه إشارة إلى أنَّ شرَّ الخصال بعد الكفر البخل وقسوة القلب. (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) قريب يحميه، وقد فرَّ كل امرئ من أخيه وأبيه. (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) غسالة أهل النار من دم وصديد. فعلين من الغسل. (لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) العامدون للإثم. من الخِطأ بكسر الخاء، ومن الخَطأ بقتحها ضدّ العمد الذي ذكره الفقهاء. (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) أي: بجميع الكائنات التي هي آثار الصنع. و " لا " مزيدة. أو لا أقسم بهذه الأشياء لظهور الأمر. (إِنَّهُ ... (40) إن القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) مبلغ عن اللَّه. (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ... (41) كما تزعمون. (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) لفرط عنادكم. (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) القلة في الموضعين بمعنى العدم. ولما كان عدم التباس القرآن بالشعر بيّناً؛ جعل الفاصلة عدم الإيمان عناداً، بخلاف الكهانة، فإنها تتوقف

(43)

على سبر أحوال القائل من الصدق والصلاح، فذكر معها التذكر. وقرأ ابن كثير وهشام: " يؤمنون " و " يذكَّرون " بياء الغيبة مسنداً إلى ضمير " الخاطئون ". ولابن ذكوان وجهان. (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) رفع لتوهم أن يكون كلام الرسول حقيقة، لإسناد القول إليه. والمراد بالرسول: محمد لا جبرائيل عليهما السلام، إذ لم ينسبوا إليه شعراً ولا كهانة. ويجوز أن يكون جبرائيل - عليه السلام -، كأنه قيل: إنه لَقول جبرائيل الرسول الكريم، وليس من تلقاء محمد كما تزعمون أنه شاعر أو كاهن. والأول أوجه. (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) أي: لو نسب إلينا قولاً لم نقله، من التقوّل وهو: نسبة القول إلى من لم يقله تكلّفاً. وتسمى الأقوال المنقولة: أقاويل تحقيراً كالأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة. (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) أي: بيمينه. (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) كما يفعله الملوك بمن يكذب عليهم، وصوّر القتل في أشنع صورة، وهو أن يأخذ الجلاد بيمين المصبور ليرى السيف في يده، بخلاف ما إذا أخذه بيساره. والوتين: نياط القلب، وفي ذكره؛ إشارة إلى محلّ الجناية، كاليد للسارق، فإن اللسان ترجمان لا مؤاخذة عليه. (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) عن القتل أو المقتول. أحد استعمل جمعاً، والخطاب للناس كلّهم. (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) لأنّهم المنتفعون به. (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) لما نقوله من تزكية الرسول، وكون القرآن ليس بشعر ولا كهانة.

(50)

(وَإِنَّهُ ... (50) أي: التكذيب، أو القرآن (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ) إذا رأوا ثواب المؤمنين. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) أي: إنّه اليقين حقِّ اليقين. وحاصله: عين اليقين كقولك: عين الشيء ونفسه. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) أي: نزه بذكر اسمه العظيم الدال على تقدّسه عن إمكان التقول عليه، وشكراً لما أولاك وأوحى إليك. تَمَّت، والحمد لمن آلاؤه جلَّت، والصلاة على من به الرسالة تَمَّت.

سورة المعارج

سورة المعارج مكية، وهي أربع وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) السائل هو النضر بن الحارث الذي قال: " إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ". وقيل: رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللَّهم عليك بقريش " ويؤيد الأول قوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا) وقرأ نافع وابن عامر: " سال " بالألف، إما مبدلة من الهمزة تخفيفاً، أو أجوف واوي، كخاف يخاف. قال أبو زيد

(2)

سمعت من يقول: هما يتساولان؛ فهمزة " سائل " بدل عن الواو، كهمزة " كأين ". وعلى الوجهين يتعدى إلى المفعولين بنفسه، وتعديته بالباء؛ لتضمين معنى الاستعجال. أو من سال يسيل، أجوف يائي، كباع يبيع. والمعنى: سال سائل أي جرى وادٍ ذو سيل بعذاب واقع. ويؤيده قراءة ابن عباس - رضي الله عنهما - سال سيل. (لِلْكَافِرِينَ ... (2) صفة (عذَابٍ وَاقِعٍ) أي: كائن، أو يتعلق بالفعل أي: سال للكافرين، أو بـ " واقع " أي: نازل لأجلهم. وعن قتادة: سأل سائل على من ينزل عذاب اللَّه؟. فعلى هذا قوله: " للكافرين " جواب لذاك السائل. والباء؛ لتضمن سأل معنى اهتمّ. (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ) (مِنَ اللَّهِ ... (3) جملة مؤكدة على قول قتادة، صفة أخرى لعذاب على الأول. وعلى الوجهين: (مِنَ اللَّهِ) إمّا متعلق بـ " واقع " أي: من جهته، أو بـ " دافع " أي: لأمته ولا من غيره. (ذِي الْمَعَارِجِ) ذي المصاعد. جمع معراج، أو مَعْرِج يصعد فيها الأعمال الصالحة، أو المؤمنون في سلوكهم، أو دار ثوابهم. (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) بيان وتفصيل لتلك المعارج؛ إظهار لعز شأنه وملكوته. والروح: جبرائيل، وإفراده؛ لمزيته، وقيل: خلق آخر موكَّلون بالملائكة كالملائكة بنا. واليوم: يوم القيامة، وصف بغاية الطول إما كناية عن شدته، أو حقيقة على ما قيل: إن فيه خمسين موطناً يقف الخلق في كل موطن ألف سنة. ويؤيد الأول ما رواه الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي سعيد، أنه قيل لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " ما أطول هذا اليوم؟ قال: " والذي نفسي ييده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من

(5)

صلاة مكتوبة ". وقيل: من أسفل الأرض إلى عرش الرحمن مسافة خمسين ألف سنة لو قطعها الإنسان. وهذا إن صحّ لا تعلق له بتفسير الآية؛ لأنَّ الغرض هو تهويل يوم القيامة. وقرأ الكسائي: يعرج بياء الغيبة. (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) لا قلق معه ولا شكوى بعد علمك بوقوع العقاب على أعدائك. (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) عن إمكان الوقوع. (وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) منه؛ لكمال قدرتنا. والضمير للعذاب، أو لليوم. فإن قلت: السائل سواء كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، لم يسأل إلا عذاب الدنيا كما نزل بسائر الأمم، والسياق يدل على وقوع العذاب يوم القيامة، فكيف طابق السؤال؟ قلت: هو من قبيل قوله: (حسبهُمْ جَهَنَّمُ) كأنه قيل: العذاب المستعجل به ليس بعذاب حقيقة، بل العذاب هو المعد لهم، وهم ينكرونه ويدعون إحالته، ثم هوّل شأنه بما فصله. (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) منصوب بـ " قريباً "، أو بيقع مقدراً؛ لدلالة " واقع " عليه، وبدل عن محل في " يوم " إن علّق بـ " واقع "، أو (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) تكون كيت وكيت. والمهل: دُرْديّ الزيت، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: الفضة المذابة

(9)

(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) كالصوف الملون؛ لاختلاف ألوان الجبال: بيض، وحمر، وغرابيب سود، فإذا طارت في الهواء اختلطت ألوانها. (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) كيف حالك؟. لكلٍّ شأن يغنيه ويشغله عن غيره. (يُبَصَّرُونَهُمْ ... (11) استئناف جواب: لم لا يسأل كأنه لا يراه أو حال. وجمع الضمير؛ لأن المعنى على العموم، والأصل: يبصرون بهم. يقال: بصرته بالشيء إذا أوضحته له، وكأنه ضمن معنى التعريف، أو حذفت الصلة، وأوصل الفعل. (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ) حال من أحد الضميرين، أو استئناف يدل على أنَّ الأمر أهم من الاشتغال بالسؤال عن حال أحدٍ. (بِبَنِيهِ) الذين هم أعزّ من الروح. (وَصَاحِبَتِهِ ... (12) التي يختار ذهاب مهجته دونها غيرة. (وَأَخِيهِ) الذي هو شقيقه. (وَفَصِيلَتِهِ ... (13) وعشيرته الذين فصل منهم (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تضمّه في النسب وعند الشدائد. (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... (14) كائناً من كان (ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف على (يفتدي) استبعاد لما يتمناه. هيهات. (كَلَّا ... (15) ردع له عن ارتكاب ما لا نفع فيه (إِنَّهَا لَظَى) الضمير للنار دلّ عليه ذكر العذاب. أو مبهم فسّره الخبر وهو. " لظى " أو ضمير القصة. و " لظى ": علم النار. منقول من اللظى وهي: اللَّهب، ويجوز أن يراد بها نفس اللَّهب مبالغة كأنَّ كلها لهب خالص. (نَزَّاعَةً لِلشَوَى (16) خبر بعد خبر لـ (إن)، أو خبر (لَظَى) إن كان الضمير للقصة، ويجوز أن يكون صفة إن أريد باللظى اللَّهب؛ لأنَّ علم الجنس كالمعرّف

(17)

يلامه في إجرائه مجرى النكرة وإن لم يجعل علم الجنس، فحذف التنوين، لإجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ حفص: نزاعة بالنصب على الاختصاص كأنه قيل: تتلظى نزاعة. والشوى جمع شواة: جلدة الرأس، أو أطراف الإنسان وكل ما ليس بمقتل، يقال للرامي إذا لم يصب المقتل: أشوى. (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) مجاز عن جذبها وإحضارها، من أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة، أو تدعوهم بلسان المقال: يا كافر، يا منافق، وهنا أبلغ. (وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) لبخله وحرصه وحفظه في الوعاء، ولم يؤد حقّ اللَّه منه. (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) الهلع: شده الجزع عند مسّ المكروه، وسرعة المنع عند مسِّ الخير. وقد فسّره بقوله: (إِذَا مَسَّهُ الشَرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) فإنَّ " جزوعاً " و " منوعاً "، وصف كاشف لـ " هلوعاً ". (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) استثناء منقطع. لما وصف من أدبر وتولى بالهلع قال: لكن المصلين في مقابلة أولئك. أو متصل أي: إنَّ الإنسان خلق هلوعاً واستمر ذلك عليه ولم يفارقه إلا المصلين الموصوفين بالصفات الآتية، فإنهم خلعوا ربقة الهلع عن أعناقهم. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنهما عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " شرّ ما في الرجل شحّ هالع وجن خالع ".

(23)

(الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) لا يتركونها في أوقات الأعذار والضرورات. (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) مقدار معلوم هو الزكاة، لأنَّ وجوبه كان بمكة. وتقدير نصبه مفصلاً بالمدينة. (لِلسَّائِلِ ... (25) الذي يسأل، (وَالْمَحْرُومِ) الذي لا يسأل يعتنون بحاله ويفتشون عليه. (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) أخَّرَه؛ اهتماماً بالصلاة والزكاة. وقيل: يصدقونه بالأعمال، بالأبدان والأموال؛ ولذلك ذكّره بيوم الدين (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) خائفون. (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) اعتراض دلّ على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن وإن كان على قدم راسخٍ في الطاعة. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) دلّ على أنَّ المباح لا يمدح عليه. (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) المتجاوزون. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) حافظون. وقرأ ابن كثير: " أمانتهم " على التوحيد؛ لإرادة الجنس. (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) إحياء للحقوق وهي من الأمانة، أفردها؛ دلالة على زيادة فضلها. وقرأ حفص: بالجمع مناسبة للمضاف إليه، أو لاختلاف أنواعها.

(34)

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) على شرائطها وأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، وكفاها شرفاً حيث ابتدأ بها في عدِّ المحاسن وختم بها. (أُولَئِكَ ... (35) الموصوفون بتلك الصفات. (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) بأنواع الإكرام. (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ ... (36) حولك (مُهْطِعِينَ) مسرعين مادي أعناقهم. (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ عِزِينَ (37) فِرقاً شتى. جمع عزة أصلها عزوة، قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها، ثم حذفت الياء وعوض عنها التاء. كانوا خمسة أرهط. كل واحدة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى. (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كانوا يقولون استهزاء: نحن أولى بالجنة من محمد وأتباعه. (كَلَّا ... (39) ردع لهم عن هذا الاعتقاد. (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) استدل على إمكان البعث بخلقهم أولاً، والقدرة على خلق مثلهم ثانياً، وأشار إلى أنّ استحقاق دخول الجنة إنما هو بالأعمال الزاكية وإلا فأصل نشأتهم من ماء مهين بين المياه يستحيى من ذكره صريحاً؛ لذلك أبهم بقوله (مَا يَعْلَمُونَ). (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ... (41) بأن نذهبهم ونأتي بقوم آخرين، أو نوفق لمحمد طائفةً خيراً من أهل مكة وهم الأوس

(42)

والخزرج. وفي المقسم به دلالة ظاهرة على القدرة على تحقيق المقسم عليه. (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين على ذلك. (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ... (42) في أباطيلهم، (وَيَلْعَبُوا) كالصبيان (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) إضافة اليوم إليهم؛ لمزيد الاختصاص. (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) أي: مسرعين سراعاً يشبه الإسراع الذي كانوا يسرعونه إلى الحجر الذي كان علماً لذبح النسائك. وعن الحسن: كانوا يبتدرون عند طلوع الشمس إلى أصنامهم لا يلوي أحدهم على الآخر. وقرأ ابن عامر وحفص: نُصُب بضم النون والصاد، جمع نصب كسقف جمع سقف، أو مفرد أنصاب. والباقون بفتح النون، وإسكان الصاد، و (سِرَاعًا) وَ (كَأنَّهمْ) حالان من فاعل (يَخْرجُونَ) وكذا. (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ... (44) ويجوز أن يكون أحوالاً متداخلة. (ذَلِكَ الْيَوْمُ) الموصوف (الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا على ألسنة الرسل. * * * تمت سورة المعارج، والحمد لمن لكل همٍّ فارج، والصلاة على المختار عدد رمل عالج. * * *

سورة نوح

سورة نوح مكية، وثمان أو تسع وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ ... (1) بأن أنذر، حذف الجارّ وأوصل الفعل، أو أن مفسرة؛ لاشتمال معنى الإرسال على القول. (قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الطوفان، أو عذاب يوم القيامة، والأول أوجه. (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) لاقتران قولي بالمعجزة. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ... (3) بأن اعبدوا اللَّه. (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ... (4) ما كان لكم من الذنوب أو بعضها. وهي التي تقدّمت الإيمان، " فإنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله ". (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو آخر الآجال. (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ) والتوفيق بينه وبين تأخير الأجل أنَّ القضاء معلّق ومبرم، فالتأخير بالنظر إلى الأول، وعدمه بالنظر إلى الثاني. أي: لو آمنوا عاشوا كذا، وإن لم يؤمنوا فكذا، وهذا معنى زيادة

(5)

الصدقة والصلة في العمر، وما في علمه تعالى لا يبدّل. (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جعلهم جاهلين بذلك لعدم جريهم على موجب العلم. (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) أي: دائماً. (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) عن الإيمان. وإسناد الزيادة إلى الدعاء، إسناد إلى السبب. (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ... (7) أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، فذكر المسبب الذي هو حظهم؛ ليكون أدل على قبح إعراضهم. (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) لئلا يسمعوا كلامي. المجعول في الآذان رؤوس الأنامل، وإطلاق الأصابع مجاز مبالغة. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) تغطوا بها لئلا يروني، كراهة منهم لرؤيتي، أو لئلا أعرفهم فأدعوهم إلى الإيمان. والإتيان بصيغة الطلب للمبالغة، كأنهم طلبوا من الثياب أن تغشاهم. (وَأَصَرُّوا) على الكفر، من أصرّ الحمار على الأتان أذنيه يطردها للسفاد، وكفى بهذا التشبيه مزجرة. (وَاسْتَكْبَرُوا) عن اتباع الحق. (اسْتِكْبَارًا) مفرطاً. (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) هذا دأب الناصح الشفوق، ينصح سراً، وإن لم ينجح يعلن بنصحه؛ لكي يساعده من له وعي، ثم يبالغ بالجمع بين السر والجهر. ونصب " جهاراً " على المصدر من غير فعله، أو على الحال. (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) تفسير لدعائه، وكأنهم كانوا يتعللون بما أسرفوا من الذنوب، فوعدهم المغفرة إن أتوا بما يَجُبُّها من الإيمان.

(11)

(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) قيل: حبس اللَّه عنهم المطر أربعين ستة، وأعقم أرحام نسائهم، فوعدهم بإعادة الخصب إن تابوا. والسماء: المظلة أو السحاب، وإرسالها: إرسال المطر منها؛ دلالة على كثرته، أو المطر كقوله: إذَا نزلَ السَّمَاءُ بأرْضِ قَومٍ والمدرار. اسم فاعل كثير الدرور كالمضراب، يستوي فيه المذكر والمؤنث.

(12)

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) جمع لهم في الوعد بين منافع الدارين. روي أنَّ رجلاً اشتكى إلى الحسن الجدب، فأمره بالاستغفار، والآخر الفقر، فأمره به، والآخر قلة ريع أرضه فقال: استغفر. فقال الربيع بن صبيح: شكوا إليك أبواباً وسألوك، والجواب واحد؟ فتلا عليه الآية. ولما استسقى عمر في خلافته لم يزد على الاستغفار بها فقيل له في ذلك؟ فقال: " لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) أي: ما حصل لكم من الصارف حتى لا تكونوا على حالة ترجون من اللَّه تعظيماً؟، و " اللَّه " بيان. كأنه قيل: لمن التعظيم إيانا؟ فقيل: لله. ولو أخّر لكان صلة الوقار، ولا يتوهم ذلك مع التقديم، لأنَّ معمول المصدر لا يتقدم عليه فى الأكثر. والحث على الرجاء كناية عن الحث على الإيمان؛ لانعقاد أسبابه، أو لا تخافون للَّه عظمة، أو حلماً؛ لأنَّ الوقور معظم في النفوس، والحلم لا يفارقه. وتفسيره بالعاقبة كما نقل

(14)

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مأخوذ من الوقار بمعنى: الثبات؛ لأن العاقبة حال استقرار الثواب والعقاب. ثم نبههم على النظر في أنفسهم؛ لأنها أقرب منظور بقوله: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) على طريقة الحال. أي: خلقكم تراباً ثم نطفاً، ثم علقاً، ثم مضغاً، ثم لحماً، ثم عظاماً، ثم خلقاً آخر على النظر في الآفاق على وجه التعجيب من تغافلهم بقوله: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) علم ذلك بإخبار القرآن المعجز أو بالأرصاد. والطباق وهو كون بعضها فوق بعض لا يقتضي المماسة. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ... (16) أي: في السماء الدنيا، نُسِبَ إلى الكل؛ لملابسة بينهما. (وَجَعَلَ الشَمْسَ سِرَاجًا) كالسراج في إزاحة ظلمة الليل كقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا). (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) أنشأكم، استعار الإنبات له؛ لأنّه أدلّ على الحدوث والتكون من الأرض. والأصل: أنبتكم فنبتم نباتاً كقولك: كسرته فانكسر. أو نصب بـ أنبتكم؛ لأن الفعل والانفعال واحد حقيقة، والاختلاف بالنسبة إلى القابل والفاعل.

(18)

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ... (18) بعد الموت (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) لا محالة؛ ولذلك أكده بالمصدر كالأول، إشارة إلى اتحاد الرتبة، وكونهما في قرن. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) مبسوطة تتقلبون عليها تقلب الرجل على فراشه (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) طرقاً واسعة، و " مِن "؛ لتضمن الفعل معنى الاتخاذ. (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ... (21) في الأمر بعبادة اللَّه واتقائه بعدما تلوتُ عليهم آيات الآفاق والأنفس. وصرّح باسم نوح؛ لطول الفصل، ولم يعطفه؛ لأنه تفصيل لقوله: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) أي: رؤسائهم المتقدمين بالأموال والأولاد. وأشار إلى أنَّ ذلك -وإن كان في الظاهر سبباً للتقدم- في الحقيقة ليس سبباً إلا للبوار. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي " وُلْدَه " جمع ولد، كأُسْد وأسد. (وَمَكَرُوا ... (22) عطف على (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ)، والجمع باعتبار معنى " من ". (مَكْرًا كُبَّارًا) غاية في الكبر، بأنواع الأذى، وتسليط السفهاء عليه، أبلغ من الكُبَار مخففاً، وهو من الكبير أبلغ.

(23)

(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ... (23) عبادتها (وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) أفردها بالذكر كأنها كانت كبار آلهتهم وأشرافها. أسماء رجال صالحين، فلما هلكوا وسوس الشيطان إلى قومهم أن صوروا صورهم حتى يتبركوا بها ويبقى تذكرة، فلما انقرضوا أولئك وسوس إلى أولادهم أن آباءكم كانوا يعبدونها، فعبدوها من دون اللَّه. روى البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما " أنَّ هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام انتقلت إلى العرب، أما وَدٌّ كَانَتْ بِدومَةِ الْجَنْدَلِ لكلب وسُوَاعٌ كَانت لِهُذَيْلٍ

(24)

ويَغوثُ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيفٍ بِالْجُرُفِ ويَعُوقُ لِهَمْدانَ ونَسْر لِحِمْيَرَ لِآلِ الْكَلَاعِ ". (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ... (24) الضمير للروساء أو للأصنام. كقوله: (رَبِّ إِنَّهنَّ أَضلَلْنَ كَثِيرًا). (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) اللام للعهد. وهم أولئك الذين آيس من

(25)

إيمانهم، والرضاء بكفر العدو مع اسقباحه قصداً إلى زيادة عذابه لا غرو فيه. ألا يُرى قول موسى: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ). وقيل: أراد في ترويح مكرهم، أو الضياع، والهلاك. كقوله: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ). (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ... (25) أي: لأجل خطيئاتهم. و " ما " مزيدة للتوكيد. (أُغْرِقُوا) بالطوفان، وقرأ أبو عمرو: خطاياهم، وهذا أحسن؛ لأنه جمع الكثرة، والأولى تحتاج إلى التأويل. (فَأُدْخِلُوا نَارًا) أي: تعقب الغرق دخول النار من غير تراخ. والمراد: عذاب القبر؛ لأنها روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران. والتنكير؛ للتعظيم أو النوع (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) دون عذابه (أَنْصَارًا) كما كانوا يزعمون النصر من الآلهة. (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) " دياراً " من الألفاظ المستعملة في النفي العام. يقال: " ما في الدار ديار " أي: أحد من الدور، أو من الدار. فيعال قلبت واوه ياء، وأدغمت الأولى، ولو كان فعالاً لكان دوّارا. (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) قال ذلك بعد ما أوحى اللَّه تعالى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، وأيضاً جربهم ألف سنة إلا

(28)

خمسين عاماً، وكانوا يتواصون بعدم الإيمان ويقولون لذريتهم: إياكم وهذا الشيخ، ومضى على هذا جيل بعد جيل، والفاجر الكفار للمولود باعتبار المآل. كقوله: " من قتل قتيلاً ". (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ... (28) كان أبوه لمك بن متوشلخ، وأمه شمخاء بنت أنوش. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) أو مسجدي، أو سفينتي. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) من مضى منهم، ومن هو آتٍ، (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) هلاكاً وبواراً. * * * تمّت سورة نوح، والحمد لمن بيده الخيرات والفتوح، والصلاة على السيد النصوح، وآله وصحبه كل مساء وصبوح. * * *

سورة الجن

سورة الجن مكية، ثمان وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ... (1) النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة. والجن: أحد الثقلين، بُعِث إليهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كما بعث إلى الإنس، فدعاهم إلى اللَّه، منهم من آمن، ومنهم من كفر. وهؤلاء النفر هم الذين سمعوا القرآن من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي الصبح ببطن نخلة كما تقدم في آخر الأحقاف. ولا دلالة فيه على أنه لم ير الجن. وليلة

الجن رواها ابن مسعود - رضي الله عنه -. وروى جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " قرأت سورة الرحمن، فكانوا أحسن مردوداً منكم " والقول بأنها أرواح مجردة، أو نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها، لا يجوز تفسير كلام اللَّه بها، ولم يذهب إليه أحد من أهل الحق، مخالف

(2)

للنصوص (فَقَالُوا) بعدما انصرفوا إلى قومهم (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) في أسلوبه ومعناه. وصفه بالمصدر مبالغة. (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ... (2) إلى الحق. (فَآمَنَّا بِهِ) بما فيه من التوحيد. (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) ولا دلالة فيه على أنهم كانوا مشركين، بل كانوا يهوداً؛ لقولهم: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى). (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ... (3) عظمته من جدَّ فلان: عظم، أو غناه، مستعار من الجدِّ بمعنى البخْتِ. والغرض وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد، وقوله: (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) بيان لذلك. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: " أَنَّ " المسبوقة بالواو بفتح الهمزة في اثني عشر موضعاً متوالية، والباقون بكسرها، ووافقهم على الفتح في: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) ابن كثير، وأبو عمرو. واتفق الكل على فتح: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)

(4)

والوجه في الفتح: العطف على الهاء في (فَآمَنَّا بِهِ) من غير إعادة الجارّ على المذهب الكوفي، أو على محل الجارّ والمجرور، أو الإيصال بعد الحذف، أو إضمار الجارّ. (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا ... (4) إبليس، أو مردة الجن. (عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) قولاً ذا شطط، وصف بالمصدر مبالغة. والشطط: تجاوز الحدّ. (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) نصب على المصدر؛ لأن الكذب نوع من القول. ولا دلالة فيه على أنهم إلى حين سماع القرآن كانوا مشركين. (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ ... (6) كان الرجل من العرب إذا نزل بأرض نازحة يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) فزاد الإنس الجن تكبراً وعتواً باستعاذتهم بهم، أو بالعكس؛ لزيادة إغوائهم الإنس بالاستعاذة. والرهق: غشيان المحارم. وإطلاق الرجل على ذكر الجن؛ للمشاكلة. (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ ... (7) القائل: الجن بعضهم لبعض. والضمير في " أنهم " للإنس، والعكس لا معنى له؛ لأنَّ السياق في حكاية كلام الجن. وقيل: الآية والتي قبلها من كلام اللَّه جار مجرى الاعتراض، يؤكد ما حدث منهم من تماديهم في الكفر. وقراءة الفتح يؤيد الأول. (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا) سادّ مسدّ مفعولي (ظَنُّوا). (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ ... (8) اللمس: المس مجاز عن الطلب؛ لأنَّ اللامس طالب متعرف. والمعنى: طلبنا خبر السماء على ما كنا نفعله قديماً. (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا)

(9)

حُرَّاساً اسم جمع، كخدَم في خدَّام. (شَدِيدًا) أقوياء، أفرده باعتبار اللفظ (وَشُهُبًا) جمع شهاب، وهو الشعلة من النار. (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا ... (9) من السماء (مَقَاعِدَ) خالية عن الحرَّاس (لِلسَّمْعِ) للاستماع (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) هو كالحَرس، اسم جمع أي: ذوي شهاب راصدين للرجم وهم الملائكة، ويجوز أن يكون بمعنى الراصد صفة للشهاب. كانت الشياطين تسترق السمع قبل بعثة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فترجم بالشهب؛ لقوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَيَاطِينِ) ولما روى ابن عباس - رضي الله عنهما -: كنا جلوساً عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فرمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون في هذا في الجاهلية؟ قلنا: كنا نقول: يولد عظيم أو يموت عظيم. وفي لفظ: " مُلِئَتْ " و " مقاعد "؛ إشارة إلى أنَّ ذلك قبل البعثة كان قليلاً، وأما الآن فلا مجال.

(10)

(وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ... (10) بخراب السماء. (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) أمراً ذا رشد. (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ... (11) الأبرار المتقون. (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) وهم المقتصدون. (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) ذوي مذاهب متفرقة، جمع قدة كقطع وقطعة. وعن أبي معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: قلت لجني: فيكم الأهواء التي فينا؟ قال: نعم. قلت: كيف حال الرافضة؟ قال: هم شرُّنا. (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ... (12) كائنين في الأرض أينما كنا. (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) هاربين منها إلى السماء، أو إن طلبنا في الأرض لم نَفُتْه، وإن هربنا منه لم نَنْجُ. والظن بمعنى اليقين؛ لكونه كلام الموقنين.

(13)

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ... (13) القرآن. كانوا كاملي المعرفة حيث جعلوا القرآن نفس الهدى (آمَنَّا بِهِ) من غير توقف (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ) أي: فهو لا يخاف، آثره على لا يَخَفْ؛ لإفادة التقوى والاختصاص كأنه قيل: فهو ناج لا محالة ومختص بذلك. (بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) البخس: النقص، والرهق: القرب من الشيء، ومنه الصبي المراهق. والمعنى: أنَّ المؤمن لاجتنابة البخس وظلم الناس لا يخاف جزاءهما. وكان أصل الكلام: ومن لا يبخس أحداً ولا يرهق ظلمه، فوضع قوله: (فَمَن يُؤْمِنْ) موضعه، إشارة إلى أنَّ حقّ المؤمن وشأنه أن يكون كذلك، أو المعنى: أن المومن لا يخاف نقصان جزائه، ولا أن ترهقه ذلة، وغير المؤمن كل ما فيه عين البخس، لا بخس حقّ. (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ... (14) الجائرون عن طريق الحقّ (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) وأيّ رشد. (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) توقد بهم كما توقد بكفار الإنس. (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ... (16) عطف على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) من كلام اللَّه الموحى إليه. و " أن " مخففة، حذف منها ضمير الشأن. والضمير للإنس، أو للجن، أو لهما. والطريقة: التوحيد والإسلام. (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) لوسّعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء؛ لعزّة وجوده في أرض العرب، ولأنه أصل سائر الأقوات والثمار. والغدق: الكثير. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ... (17) لنبتليهم في ذلك التوسيع أيشكرون أم يكفرون. وقيل: لو استقاموا على ما كانوا عليه ولم يؤمنوا لوسعنا عليهم الرزق استدراجاً. (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ

(18)

(ذِكْرِ رَبِّهِ) عن عبادته؛ لأنَّ الغرض منها ذكر المعبود (يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) أي: في عذاب. كقوله: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) أو ضمن معنى يُدخِله. والصعد: مصدر صعد. وصف به؛ مبالغة في علوِّه على المعذب. كقوله: (تَطلِعُ عَلَى الْأَفْئدَة) وقرأ غير الكوفيين بالنون؛ مبالغة أي: موافقة (لَأَسْقَينَاهُمْ). (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ... (18) من الموحى إليه، ليس من كلام الجني. (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) خطاب للجني. كأنه قيل: قل لمشركي مكة أوحي إليَّ كذا وأن أقول للجن كذا، وفي ضمن الحكاية إثبات الحكم للمشركين أيضاً. ويجوز أن يكون الخطاب للمشركين، أو عاماً للإنس والجن. وعن سيبويه والخليل: " ولأنَّ المساجد للَّه " (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) والوجه فيه: أن يكون كلاماً مستطرداً عقيب وعيدِ المعرِضِ. وعن الحسن: المساجد: الأرض كلها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض مسجداً ". وقيل: المسجد الحرام، لأنه قبلة

(19)

المساجد، فالجمع للتعظيم. وقيل: أعضاء السجود وهي سبعة: الرجلان، والركبتان، واليدان، والجبهة، والأنف. وهذا أوجه؛ لأن فيه تذكيراً لكونه المنعم بها، وأن الحكمة في خلقها خدمة المعبود، والتعبير بالمساجد للَّه؛ إشارة إلى ما خلقت له، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) أي: لما سمع الجن تلاوة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بنخلة، كاد أن يدخل بعضهم في بعض من الازدحام عليه؛ حرصاً على السماع منه كلّ شيء. ألصقته إلى آخرٍ فقد لبدته، أو قال الجن لقومهم: (لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) كاد أصحابه أن يكونوا عليه لبداً من شدّة طواعيتهم. وعن الحسن: " كادت العرب تلبّد عليه لمّا قال: لا إله إلا اللَّه ". وعن قتادة: " كادت الإنس والجنَّ تلبّد عليه وعلى إطفاء نوره ". ثم الوجه على قراءة الكسر: أن يكون استئنافاً ابتداء قصة لبيان حال الرسول مع المشركين، كأنه قال له: قل أوحي إليَّ من حال الجن، وإيمان بعضهم وكفرِ آخرين. وفي ذلك حثٌّ للسامعين على الإيمان ولطف بهم، ثم ابتدأ بقوله: أنه لمّا قام عبد اللَّه يدعوه ويوحده، كاد الفريقان يكونون عليه لبداً عناداً، أو رَوْمًا لإطفاء نوره، مع ما تلا عليهم من الآيات الباهرة والدلائل النيرة. والظاهر لما قمت تدعوه، فالعدول إلى المُظْهَر وإيثار عبد اللَّه على الرسول والنبي، لأنه واقع في كلامه، فيؤديه على ما يقتضيه التواضع. أو أشار تعالى إلى أنَّ

(20)

[العبادة من العبد لا تستبعد، فما لهم ينكرون ذلك؟، فنقل كلامه تعالى؛ إخفاء لنفسه عن البين، إذ لا اعتداد بالأثر بعد العين]. وقرأ هشام في وجه " لُبداً " بضم اللام؛ جمع لِبْدَة كقِرْبة وقُرَب، والكسر جمع لِبَد أخفّ. (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) فما للإنكار وجه على من يعبد ربه. وقرأ عاصم وحمزة: " قال " على منوال " قام "، وعليه رسم الإمام، وهذا أبلغ في مدحه، لقيامة بالجواب من غير تعلم. (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) أي: نفعاً، أو غياً ولا رشداً. عبّر عن أحدهما باسمه، وعن الآخر باسم سببه، أو مسببه؛ إشعاراً بالمعنيين. (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ... (22) جملة معترضة؛ لبيان عجزه، وتأكيد نفي الاستطاعة، فكيف يقدر من هذا شأنه على نفع أحدٍ أو ضرِّه. (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) ملاذاً وملتجأً، من اللحد وهو الميل. (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ ... (23) كائناً منه. استثناء متصل. أي: قل: لا أملك شيئاً إلا بلاغاً، وإن فسِّر بـ " لا أملك أن أَقسركم على الغي والرشد " كان منقطعاً، أو من باب: وَلا عَيبَ فيهِم غَيرَ أَنَّ سُيوفَهُم.

(24)

(وَرِسَالَاتِهِ) عطف على " بلاغاً " بتقدير مضمر، أي: بلاغ رسالاته. والأصل: إلا بلاغ رسالات اللَّه، والعدول إلى المنزل بذكر البلاغ مرتين مبالغة؛ لأن كونه من اللَّه، وكونه بلاغ رسالاته مما يقتضي التشمر له (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ولم يطع أمرهما بالتوحيد. (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) لا محالة (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) جمعه على اعتبار الجمع في " من ". (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ ... (24) غاية لقوله " يكونون عليه لبداً " إن فسّر بالتلبد على العداوة، وإلا فلمقدّرٍ أي: لا يزالون يستضعفون حاله ويستقلون عدده، حتى إذا رأوا يوم بدرٍ أو يوم القيامة تبيّن لهم من المستضعف. دلّ عليه جواب " إذا " و " ما " قبله؛ لأنَّ السورة من فاتحتها تعريف بمشركي مكة، وتعيير لهم؛ لقصور نظرهم عن الجن، وفرط تمرّدهم، حيث بادهوا بالتكذيب بدل مبادهة الجنَّ بالتصديق. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا) هو، أو هُم. (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ ... (25) جواب قولهم: متى يكون هذا الوعد. (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) أي: هو كائن لا محالة، ولا علم لي بوقته. والأمد: يطلق على القريب والبعيد، وأريد به الثاني بقرينة المقام كأنه قال. لا أدري أيقع في الحال وعن قريب، أو ضرب له أمد بعيد؟.

(26)

(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) أي: هو عالم الغيوب كلها، ولا يطلع على غيبه المختص به، وهو ما يتعلق بذاته وصفاته وأفعاله. (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ... (27) ملكي أو بشري، فإنه يطلعه على ما يشاء من ذلك. ولا دلالة في هذا على أن غير ذلك المختص لا يطلع عليه غير الرسول، ولا يجوز حمله على العموم؛ لاستلزامه أن يكون " رسول " مطلعاً على جميع المغيبات. ولا دلالة في الآية على بطلان الكهانة والتنجيم، ولا أن كرامات الأولياء يكون تلقياً من الملائكة، ولا تخصيص الرسول بالملك. على أنَّ قوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) أي: ملائكة يحفظونه من تخاليط الشياطين ظاهر في أنَّ المراد بالغيب: ما هو بطريق الوحي. (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ... (28) علة لقوله: (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) أي: ليتعلق علمه تعالى بإبلاغ الرسل ما أوحي إليهم؛ صانهم عن تخاليط الشياطين، أو ليعلم الرسول أن قد أبلغ جبرائيل والملائكة النازلون. (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) لدى الرسل من الشرائع والأحكام (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) كلّ ما دخل في الوجود في أي عالم كان، ومن هذا شأنه كيف يخفى عليه خافية؟ وكيف لا يحيط بما لدى الرسل؟. * * * تمَّت سورة الجان، والحمد للمنان، والصلاة على خلاصة الإنسان، وآله وصحبه إلى انصرام الزمان. * * *

سورة المزمل

سورة المزمل مكية، وهي [عشرون آية] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) أي: المتزمل وهو المتلفف في ثيابه، أدغمت التاء في الزاء. روى أبو بكر البزار عن جابر: أنَّ مشركي مكة لما اختلفوا، شاعر أو ساحر أو كاهن أو مجنون، تزمّل في ثيابه في بيته حزيناً. فأتاه جبرائيل وقال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) آمراً له بأن ينهض إلى القيام في عبادة ربّه في أشرف الأوقات، وهو الليل الخالي عن الشواغل. وفيه من لطيف العتاب الممزوج بالرأفة، لينشط ويستعدّ لتلقي ما يأتي من قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) وما قيل: " إنه كان متزملاً في مرط لعائشة نصفه عليه، ونصف آخر على عائشة

(2)

رضي اللَّه عنها " لا وجه له، إذ السورة من أوائل القرآن نزولاً، وعائشة لم تكن موجودة فضلاً عن كونها عنده. وكذا القول. بأنه أول ما أتاه جبرائيل أتى خديجة وقال: " زملوني " فبينا هو كذلك إذ ناداه جبرائيل فناداه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) بل كان هذا بعد فترة الوحي، " لما رأي جبرائيل قاعداً على كرسي بين السماء والأرض، فرجع إلى خديجة فنزل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ". (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ ... (3) بدل من الليل، و (إِلَّا قَلِيلًا) استثناء منه، أي: قم أقل من النصف على البتّ. (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ... (4) أنقص النصف أو زد، على التخيير، ولما كان الأقل هو الأصل كرّر، كقولك: أكرم زيداً، أو إما زيداً وإما عمراً. فإن قلت: إذا كان التخيير بين الأقل من النصف على البتِّ، وبين أحد الأمرين النقصان على النصف والزيادة عليه، فقد خرج النصف عن الأقسام، وقراءة الكوفيين وابن كثير: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ

(أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) بنصبه تدلّ على أنه كان يقوم تارة نصف الليل. قلت: الضمير في (مِنْهُ) و (عَلَيْهِ) للنصف، وإذا جاز له الزيادة على النصف فقد جاز له النصف، لا أنه إذا جاز له الأقل جاز له النصف ليلزم استدراك ذكر الزيادة. أَو. (نِصْفَهُ) بدل من (قَلِيلًا) فالتخيير بين أمور ثلاثة: قيام النصف بتمامه، وقيام الناقص منه، وقيام الزائد عليه. وعلى هذا وصف النصف بالقلة بالنظر إلى الكل. وفيه إشارة إلى أنَّ النصف المعمور بالعبادة وذكر اللَّه تعالى جلّ الليل، والنصف الخالي عنه نزر قليل وإن ساواه كمًّا. ويجوز أن يكون الضمير في (مِنْهُ) و (عَلَيْهِ) للأقلّ من النصف كالثلث، والتخيير بينه وبين الأقل منه كالربع، والزائد عليه كالنصف. وعن الأخفش: " (نِصْفَهُ) عطف على (الليْلَ) بمقدّر أي. قم الليل إلا قليلاً، أو قم نصفه، أو ثلثه، أو ثلثيه ". فالتخيير بين أربعة أمور. روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها -: " أن قيام الليل كان فرضاً بأول هذه السورة فقام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، واصفرت وجوههم، فنسخه آخر السورة فصار تطوعاً ". وعن ابن جبير: نسخ بعد عشر سنين. وقيل: نسخ عن الأمة

(5)

فقط. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) اقرأه على مهل وتؤدة لتتمكن من التأمل والتدبر في دقائقه وحكمه، فيكون قيامك في الليل الذي هو أشرف الأوقات على أكمل الأحوال. شبه القراءة المتصلة بالثغر المرتل، وهو المُفَلَّج الشبيه بالأُقْحُوَان. (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) اعتراض دل به على أن قيام الليل من التكاليف الشاقة التي ورد بها القرآن، لأن الليل محل الراحة، فإحياؤه بالعبادة مضاد للطبع، وفيه إيقاظ له على التشمر لتحمله، وتوطن النفس على المكابدة في تبليغه وتحميله. روى البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها: " رأيته في اليوم الشديد البرد ينزل عليه الوحي، وإن جبينه ليتصفد عرقاً ". وقيل: ثقيل في الميزان، أو على الكفار، أو على المتأمل؛ لافتقاره إلى إتعاب القريحة في استنباط معانيه، أو ثقيل تلاوته على الوجه المنزل؛ ولذلك خفف عن هذه الأمة

(6)

بالقراءة على سبعة أحرف، أو على الراسخين؛ لاشتماله على المحكم، والمتشابه، والناسخ، والمنسوخ. وعلى الأوجه: الجملة تعليل للأمر بقيام الليل؛ لأنه يعد للنفس ما به يعالج ذلك الثقل. (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ... (6) قيامه، مصدر نشأ، قام بالحبشية. وقيل: ساعاته؛ لأنها تحدث واحدة إثر أخرى. وقيل: النفس التي تنشأ عن المضجع وترتفع، من نشأت السحابة، ارتفعت. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أول الليل ". وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: " من العشاء إلى الصبح، أيّ وقت كان ". وعن علي، والحسن رضي اللَّه عنهما: " بين العشائين "، وعن عائشة ومجاهد رضي اللَّه عنهما: " الصَّلاة بعد النوم " وهو الأصوب، لمداومة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على القيام بعد النوم، ولقوله: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) أي: موافقة للحواس مع القلب على التوجه لعدم الشاغل. وعن الفراء: " أشق وأكثر علاجاً لترك الراحة ". وعن الأخفش: " أثبت قياماً ". وقرأ

(7)

الكوفيون ونافع وابن كثير " وَطْئاً " بفتح الواو وسكون الطاء من وطأهم وطئأ: ثقل عليهم، ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اللَّهم اشدد وطأتك على مضر "، والمد أحسن وأوفق بقوله: (وَأَقْوَمُ قِيلًا) أي: أصح قراءة؛ لهدوء الأصوات، وعدم الخواطر والالتفاتات. (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) فراغاً، أو منقلباً في معاشك، فتوفر بالليل من عبادة ربك، مستعار من سبح الفرس وهو: مد اليدين في الجري، والطول ترشيح. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ... (8) دم على ذكره في كل الأوقات، واستغرق في ملاحظة المذكور؛ لتحظى بالزلفى والقرب عنده. (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) وانفصل بالكلية عن الدنيا، أو عن وجودك؛ لتبقى بوجوده الباقي. ولما كان المطاوع والمطاوَع واحداً في الخارج ذكر التبتيل موضع التبتل؛ مراعاة للفاصلة، وقيل: لأن معنى تبتل: بتل نفسك. (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ... (9) مبتدأ وخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، و (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) خبر آخر. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة (ربِّ) بالجرّ بدلاً من (رَبِّك). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - جرّ بإضمار حرف القسم جوابه: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).

(10)

(فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) متفرع على التوحيد. أي: إذا انفرد بالألوهية فاجعل أمورك موكولة إليه، أو اجعله كفيلاً ينصرك. (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ... (10) فيك وفيما أنزل إليك. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) أعرض عنهم وجانب من غير مقاولة ولا مقاتلة، نسخت بآية السيف. (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ ... (11) فأنا كافيك أمرهم. كلام من يكون واثقاً بالوفاء، متمكناً منه أقصى التمكن؛ ولذلك أبرزه في صورة المنع عن الاستكفاء. (أُولِي النَّعْمَةِ) التنعم، وبالكسر: الإنعام، وبالضم: المسرَّة. يريد المترفين من صناديد قريش، المغترين بالحطام، المانعين أتباعهم عن الدخول في الإسلام. (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) إمهالاً قليلاً، أو زماناً قليلًا. (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا ... (12) جمع نكل: القيد الثقيل (وَجَحِيمًا) ناراً شديدة الحر والاتقاد. (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ... (13) آخذ بالحلق، بشيع لا يسوغ (وَعَذَابًا أَلِيمًا) نوعاً آخر لا يعرف كنهه إلا اللَّه. (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ ... (14) تضطرب وتتزلزل. منصوب بما في (لَدَينَا) من معنى الفعل (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا) رملاً مجتمعاً من غير مقدار ومقياس، من هلت الدقيق: إذا أرسلته من غير كيل. (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ... (15) الخطاب للمكذبين. التفات حسن الموقع (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا) أي: عصيتموه كما عصاه فرعون ولم يسمه؛ لأن الغرض عصيان الرسول كائناً من كان.

(16)

(فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ... (16) أعاده معرفة؛ لتقدم ذكره. ولا يخفى أن تشبيه عصيانهم بعصيان فرعون ينبئ عن فرط عتو، وزاد لهذا الرسول كونه شاهداً عليهم؛ ليكون عصيانه أبلغ في الذم، وأشار به إلى أنهم لو آمنوا به كان شاهدًا لهم لا عليهم. (فَأَخَذْنَاهُ) في الدنيا. (أَخْذًا وَبِيلًا) ثقيلاً، ومنه الوابل للمطر العظيم القطر، أصله الوخامة يقال: مرعى وبيل. (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا ... (17) مفعول به. أي: هب أنكم لا تؤاخَذون في الدنيا أخذة فرعون، فكيف تتقون أنفسكم هول يوم (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) كناية عن شدته، إذ عند تفاقم المصائب يسرع الشيب. قال أبو الطيب: وَالهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً ... وَيُشيب ناصيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ أو عن طوله. وفي إيثار (إنْ) مع القطع بوجود الكفر واستمراره منهم؛ إشارة إلى أن وجود الكفر مع هذا الرسول الذي هو النور المبين ينبغي أن يكون على الفرض والتقدير. أو المعنى: فكيف تتقون اللَّه في ذلك اليوم بعد فوات الوقت؟ ففيه حث على الإقلاع قبل أن لا ينفع الندم. أو فكيف يرجى منكم التقوى وأنتم جاحدون ذلك اليوم والمجازاة فيه. (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ ... (18) منشق. والتذكر باعتبار السقف. (بِهِ) أي: بذلك اليوم؛ لشدته وهوله. (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) لا محالة. الضمير للَّه، أو لليوم على إضافة المصدر إلى المفعول.

(19)

(إِنَّ هَذِهِ ... (19) الآيات. (تَذْكِرَةٌ) موعظة؛ لجلائها. (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) موصلاً إليه. (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ... (20) لما نزل أول السورة كان الرجل يحتاط في تقدير الأوقات، ولا يدري متى الثلث والنصف والثلثان، فشق ذلك عليهم فنزلت. واستعار الأدنى وهو الأقرب للأقل؛ لأن المسافة بين الشيئين إذا قربت قلت الأحيان. وقرأ الكوفيون " نصفَه وثلثَه " بالنصب عطفاً على " أدنى "، وهو المختار؛ لدلالته على أنهم قاموا بأفضل ما وقع فيه التخيير، وهو الأجدر بجلالة منصبه - على ذاته أفضل الصلاة -. وقرأ هشام بإسكان لام (ثلْثه) تخفيفاً. (وَطَائِفَة مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) من أصحابك. (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) لا يعلم تقدير ساعاتهما وضبط مقدارها غيره. (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي: تقدير الأوقات؛ لاختصاص ذلك به تعالى. (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) رفع عنكم ما كان تركه معصية. (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) في صلاة الليل، أو أي وقت كان. أمر ندب. (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) استئناف لبيان حكمة أخرى أقوى من الأولى، يقتضي الترخيص؛ ولذلك كرر الحكم مرتباً عليه. (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الضرب في الأرض لابتغاء فضل اللَّه: المسافرة للتجارة. (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إخبار في يكون مستقبلاً بالإعجاز؛ لأن الآية مكية. وتسويته بين الضارب في الأرض للتجارة، والمجاهدة في سبيل اللَّه دلت على أن طلب الرزق إذا قرن بالنية الصالحة له مكان عند اللَّه، كيف وقد قدمه على المجاهدة؟!؛ ولذلك روي عن عبد اللَّه بن عمر - رضي الله عنهما -: " ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل اللَّه أحبّ إليَّ من أن أموت بين

شعبتي رحل أضرب في الأرض ابتغاء فضل اللَّه ". (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) المفروضة. فرضت ليلة الإسراء بمكة، بعد خمس من البعثة على الأصح. (وَآتُوا الزَّكَاةَ) قدراً من المال كان فرضاً بمكة، وتقرر المقادير بالمدينة. (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) أنفقوا في سبيله على وجه الإخلاص. يتناول المفروض والمسنون، بل سائر أعمال البر، بدنية ومالية. (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) من تأخير إلى حين الموت والوصية به؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيع ترجو الغنى وتحشى الفقر، ولا تدع أن يبلغ الحلقوم ثم تقول: لفلان كذا لفلان كذا ". وعن الزجاج: " خيرًا من متاع الدنيا " ويرده: (وَأَعظَمَ أَجْرًا). (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) لما فرط منكم؛ لأن الاستقامة متعذرة، أو متعسرة. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) يجعل مكانها الحسنات. * * * تمت سورة المزمل، والحمد للرحيم المتفضل، والصلاة على الكامل المكمل. * * *

سورة المدثر

سورة المدثر مكية، ست وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) ما يلي الجلد من الثياب يسمى شعاراً، وما فوقه دثاراً. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " النَّاس دِثَار والأَنْصَارُ شِعَارٌ ". وأول هذه السورة أول ما نزل بعد فترة الوحي؛ لما روى مسلم والبخاري عن جابر أنه سمع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يحدث عن فترة الوحي: " فَبَيْنا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذا الْمَلَكُ الذي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ فَجُئثْت مِنهُ حَتى هَوَيتُ إِلَى الأَرْضِ فَجئْتُ أَهْلي فَقُلْت زمِّلُوني " فأنزل اللَّه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * .... فَاهْجُر) ولم يقع ذكر حراء في بعض المرويات، فظن أنها أول سورة نزلت، وفي رواية عن ابن

(2)

عباس - رضي الله عنهما -: أن قريشاً لما قالت في رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شاعر، وقال بعضهم ساحر تدثر في ثيابه حزيناً فأنزل اللَّه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ولا منافاة بينهما؛ لإمكان وقوع الأمرين معاً، فأول (اقرأ) كان نبوة، وأول هذه كان إرسالاً. (قُمْ فَأَنْذِرْ (2) أي: قومك؛ لقوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، أو افعل الإنذار، وهذا أبلغ. (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) صفه بالكبرياء وحده. وقيل: لما نزلت كبر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وكبرت خديجة وأيقنت أنه الوحي، إذ الشيطان لا يأمر بالتكبير، وحمله على تكبير الصلاة بعيد. (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) قصّرها، وهذا أول ما أمر به من مخالفة قومه، فإنهم كانوا يجرّون الثياب على الأرض خيلاء، أو طهرها من النجاسة؛ لأنه الواجب في الصلاة والأحب في غيرها، أو أخلاقك عما يدنسها من الرذائل. (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) هو العذاب؛ لقوله: (لَئِنْ كَشَفتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أريد به ما يؤدي إليه أي: دم على ترك الأوثان، وهجران الآثام. والفاءات أجوبة للشرط كأنه قيل: ومهما يكن فكذا. وقرأ حفص بضم الراء، وهما لغتان، والكسر أشهر.

(6)

(وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) لا تعطي شيئاً حال كونك تعده كثيراً؛ لاحتقار متاع الدنيا وإن جلَّ. وقيل: لا تعط مستغزراً أي: طامعاً أن تُعَوَّضَ أكثر مما بذلت. وهو من خواصه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " المستغزر يثاب من هبته "، أو نهي تتزيه. (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) لوجهه، وانقياداً لأمره. استعمل الصبر في مشاق التبليغ، وأذى الكفار. (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) نفخ في الصور، سمي ناقوراً؛ لما روى: أن فيه بعدد كل روح نقرة. بناء مبالغة كالكابوس، والفاء للسببية أي: اصبر على أذاهم إلى زمان تلقى فيه عاقبة صبرك، ويلقون فيه عاقبة ضرهم. والعامل في " إذا " ما دلّ عليه قوله: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ ... (10) " ذَلِكَ " مبتدأ، و " يَوْمٌ عَسِيرٌ " خبره، و " يَوْمَئِذٍ " ظرف أَي: فذلك الوقوع وقوع يوم، فالزمان ليس مظروف الزمان. ويجوز أن يكون " يَوْمَئِذٍ " مرفوع المحل من " ذلك ". (غَيْرُ يَسِيرٍ) فائدته التعريف بحال للمؤمنين، وأنها

(11)

تضاد حال الكفرة، كما في قوله: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) وفي ذلك زيادة غيظ لهم. أو (عَسيرٌ) حالاً ومآلاً، بخلاف عسر الدنيا فإنه سريع التبدل. (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) أطبقوا على أنه [الوليد] بن المغيرة المخزومي. حال من الفاعل أي: دعني وحدي معه في الانتقام ففيّ كفالة إذ خلقته وحدي لم يشاركني أحده في خلقه. والأحسن جعله حالاً من المفعول أي: خلقته منفرداً عن المال؛ لقوله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، ولقوله: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) مبسوطاً من كل نوع. كان صاحب الضرع والزرع والذرع. قيل: كان له بستان في الطائف لا ينقطع ثماره صيفاً وشتاءً وكان يملك ألف ألف. (وَبَنِينَ شُهُودًا (13) معه المجالس والمحافل، وله بهم أبهة ورونق، أو شهوداً عنده لعدم تردادهم في أسباب المعاش استغناء بالخدم، فهو يتمتع بهم ليلاً ونهاراً. قيل. كانوا عشرة، وقيل: ثلاثة عسر، وقيل: سبعة. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) من سائر أسباب الرئاسة والجاه العريض. (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) له. كان يقول: " إن كان محمد صادقاً، فالجنة لي ". أو يطلب أن أزيد له في الدنيا فوق ما هو فيه. (كَلَّا ... (16) ردع له، وعلله بقوله: (إِنَّهُ

(17)

كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) كافراً مكابراً من غير شبهة، وذلك موجب لزوال النعمة فكيف يجعله سبب الزيادة؟. قيل: بعد نزول هذه الآية لم يزل في نقصان حتى ذهب إلى سقر. قيل: أسلم من أولاده خالد، وعمارة، والوليد، ولم يصح إلا إسلام خالد، أما عمارة قتل يوم بدر، أو قتله النجاشي لما أرسله قريش مع عمرو بن العاص بعد بدر؛ لخيانة نسبت إليه، والوليد مختلف فيه. (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) أكلفه مشقًّا عليه طلوعه في جبل من النار طوله سبعون خريفاً، إذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: هو حجرة في جهنم " وقيل. هو مثل لما يلقى في الشدة. (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) بدل، أو بيان لقوله: (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا)، أو تعليل لإرهاقه صعوداً؛ لإبعاده في التفكير، وعوضه على نيل ما يقدح به في كلام رب العزة.

(19)

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) تعجب من فساد تقديره. كقوله: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، أو ثناء عليه تهكماً نحو: " قاتله اللَّه ما أشجعه "، أو حكاية ما قالوه لما سمعوا كلمته الحمقاء. (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) تعجيب أبلغ من الأول؛ لأنه صدر عن رؤية، بخلاف الأول فإنه نشأ عن النظرة الأولى وهي حمقاء. وفي هذا الترقي غاية تهكم به وبمن اغتر بما تفوه به. (ثُمَّ نَظَرَ (21) في أمر القرآن، أو في وجوه الناس. (ثُمَّ عَبَسَ ... (22) قطب وجهه لما لم يجد طعناً شافياً. (وَبَسَرَ) وكلح، من البسور وهو: الكلوح، من توابع عبس، أو من يسر الرجل: طلب الحاجة في غير موضعها حيرة. (ثُمَّ أَدْبَرَ ... (23) عن الحق (وَاسْتَكْبَرَ) عن اتباعه. (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) يروى ويتعلم. والفاء، للدلالة على أنه لما ظفر بها لم يتمالك. (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) من أساطير الأولين، لم يدخل العاطف؛ لأنه تأكيد للأول أو بيان. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما سمع الوليد القرآن، قيل: سمع " حم السجدة " يتلوه رسول اللَّه قال: " إن له حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه

(26)

ليعلو ولا يعلى ". فلما سمعوه قالوا لابن أخيه أبي جهل صبأ الوليد، فجاء وجلس إليه ولامه على ما بدا منه، فقال: فماذا أقول؟! .. واللَّه ما منكم أعلم بالأشعار مني، أعلم رجزه، وقصيده، وأعلم أشعار الجن، ولا يشبه شيئاً من ذلك، فقال: لا يرضى قومك حتى تقول فيه، ففكر وقدر (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ). (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) بدل من " سأرهقه صعودًا ". (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي ... (28) سالماً. (وَلَا تَذَرُ) ولا تدعه بعد إحراقه وإعدامه. أو لا تبقي شيئاً من الأشياء ولا تذر كهذه النيران، بل تهلك كل رطب ويابس. وهذا أوجه وألصق بقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) المسوق للتهويل. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) مسوِّدة أعالي الجلد كاللمل البهيم. من لوّحته الشمس: غيرته وسفعته. وعن الحسن لواحة للبشر شديدة الظهور. كقوله: (لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ).

(30)

(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) يلي أمرها تسعة عشر ملكاً. وقيل: صنفاً، أو صفاً، أو نقيباً. (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ... (31) لأنهم خلاف جنس المعذب من الجن والإنس، فلا تأخذهم رأفة؛ لعدم رقة الجنسية، ولأنهم أطوع خلق اللَّه لتنفيذ أوامره وأشد غضباً له، وأقواهم. عن عمرو بن دينار - رضي الله عنه -: " إنَ وَاحِداً مِنْهم يَدفَعُ بِالدفْعَة الوَاحِدَة في جَهَنَّم أَكثر مِنْ رَبِيعَة ومضَر ". وروي مرفوعاً: " إنَ لَأَحدهم قُوَّةَ الثقَلَيْن يَسوقُ أمة إلى النار على عَاتِقِهِ جَبَل، فإذا أَلْقَاهُم في النار أَلْقَى الجَبَل وَرَاءهم ". (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لما سمع أبو جهل تسعة عشر قال: " ثكلتكم أمهاتكم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطش بواحد منهم؟!. فقال أبو الأشد كلدة بن أشد بن خلف: " أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين ". وكان بلغ من قوته أنه يقف على جلد البقر، ويجذبه عشرة، فيتمزق الجلد تحت رجليه، ولا يقدرون على إخراجه. قال السهيلي: دعا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى

المصارعة وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه مراراً، فلم يؤمن. والمعنى: ما جعلنا عدتهم إلا العدد المخصوص الذي اقتضى فتنتهم واستهزاءهم. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) لتوافق الكتابين في هذا العدد. على حذف العاطف أي: وليستيقن، أو عبر عن المؤثر وهو تسعة عشر بالأثر وهو فتنة للذين كفروا؛ إشارة إلى أن هذا الأثر من لوازم ذلك المؤثر. (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) إذا صدقوا بذلك وإذا رأوا تسليم أهل الكتاب لهذا العدد. (وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) تصريح بما علم ضمناً؛ توكيداً. (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق. إخبار بالغيب عما يكون؛ لأن السورة مكية، والنفاق إنما نجم بالمدينة. أو الشك والارتياب، وكان أكثر المشركين كذلك. (وَالْكَافِرُونَ) غير المنافقين أو الشاكين. وإنما عطف قول المنافقين والكافرين على الاستيقان، مع كون المعطوف عليه غرضاً دون المعطوف؛ لأن اللام للعلة، والعلة لا يلزم أن تكون غرضاً كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر. (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) تمييز أو حال. استعاروا لعدد الخزنة لفظ " المثل " من المثل المضروب؛ لكونه غريباً عندهم بديعاً. (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) الكاف في محل النصب. أي: مثل ذلك الإضلال المذكور والهدى يضل اللَّه الكافرين ويهدي المؤمنين. (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، لفرط الكثرة، فليس تخصص الخزنة بهذا العدد إلا لحكمة اقتضته، كعدد السماوات والأرضين وحمله العرش. (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) متصل

(32)

بوصف سقر، وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ) أي: وما هي. اعتراض يؤكد بعضه بعضاً؛ زيادة في تهويل جهنم. أي: وما سقر، أو وما صفتها، أو وما الآيات المذكورة فيها إلا تذكرة لهم. (كَلَّا ... (32) ردع لتذكرهم أي: وإن جعل تذكرة فهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر. (وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) تولَّى. قال الزجاج: تقول قريش: قبل الشتاء ودبر: جاء وذهب، ومنه أمس الدابر وغيرهم أقبل وأدبر. وعن يونس: أدبر: تولى، ودبر. انقضى. وقرأ نافع وحمزة وحفص " إذ " بسكون الذال، و " أدبر " بهمز القطع، والرسم لا يختلف؛ لوجود صورة الألف في القراءتين، والمختار " إذا "؛ للغة قريش، ولقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) أضاء. (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) جواب القسم، أو تعليل لـ " كلا "، والقسم معترض. والضمير لـ سقر. و " الكبر " جمع كبرى، والفُعَل ليس من أبنية جمع فُعْلَى، بل فُعْلة، كزمرة وزمر. إلا أن الألف ألحقت بالتاء، كالقواصع في جمع قاصعاء؛ لإلحاق ألفها بتاء

(36)

قاصعة. والمعنى: إن سقر من إحدى البلايا التي لا توجد لها نظيرة. كقولك: هند إحدى النساء في العفاف، وعليَّ أحد الرجال في العلم. (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) تمييز من النسبة أي: إحدى الكبر إنذاراً، أو حال عما دلت عليه الجملة أي: كبرت منذرة. (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) بدل من (للْبَشَرِ)، و (أن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) مفعولي (شَاءَ)، أو مبتدأ خبره (لمَنْ شَاءَ) أي: التقدم والتأخر ممكنان لمن شاء. كقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) مصدر كالشتيمة والشريطة، ولو كان وصفاً لجرد عن التاء. (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فإنهم فكوا رقابهم بالأعمال الصالحة. وقيل: هم الملائكة، أو الأطفال. (فِي جَنَّاتٍ ... (40) حال من " أصحاب اليمين "، والتنكير للتعظيم. (يَتَسَاءَلُونَ) (عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) يسأل بعضهم بعضاً، أو يسألون غيرهم. (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) مع جوابه، حكاية لما جرى بين المسؤول عنهم وبين المجرمين، فاختصر الكلام؛ لعدم اللبس. والسؤال عن حالهم (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) مع كونه معلوماً؛ لقصد التوبيخ، وليحكى في الكتاب لطفاً بالسامعين. ومن فسر أصحاب اليمين بالأطفال أيده بهذه السؤال؛ لأن الأطفال لا يعلمون موجب ذلك.

(43)

(قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) الداخلين في عدادهم. (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) المحتاج. أي: لم نعظم أمر اللَّه، ولم نشفق على خلق اللَّه. وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) نشرع في الباطل مع كل مبطل، ونغوى مع كل غاو. (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) وبعد ذلك كله كنا نكذب بيوم الجزاء. كقوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا). (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) الموت؛ لقوله. (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَافِعِينَ (48) لو فرض شفاعتهم، إذ لا يشفعون إلا لمن ارتضى. (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) حال من المجرور كقولك: مالك قائماً. والتذكرة: القرآن، أو هو وسائر المواعظ.

(50)

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) حمر الوحش. مثل في النفار من أدنى شيء. والقسورة: الأسد. وعن ابن عباس: " الصائد " وابن جبير: " الرامي ". فوعلة من القسر، كالحيذرة فيعلة من الحذر، وكلاهما ملحق بالفعللة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون " مستنفِرة " بكسر الفاء. يقال: نفر واستنفر مثل: عجب واستعجب. (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَرَةً (52) تنشر وتقرأ (وَقَالُوا لَنْ نؤمِنَ) ... (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ). (كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) ولذلك يتعنتون ويعاندون، ولم يريدوا بقولهم (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا) إلا عناداً. (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). (كَلَّا ... (54) حقاً. (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) وإن أعرضوا. والأول ردع عن اقتراحهم الآيات، وهذا عن الإعراض. (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) من الذُّكر بضم الذال، فعل القلب. (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... (56) مشيئتهم؛ لقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، أو ذِكْرَهم. وقرأ نافع " تذكرون " بالخطاب على الالتفات، أو قل لهم. (هُوَ

أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) حقيق بأن يتقى؛ لعلو شأنه، وجدير بالمغفرة؛ لسعة غفرانه روى الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد عن أنس بن مالك: " أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لما تلاها قال: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى مِمَّنْ اتَّقى، فَمَنْ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا، فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ ". * * * تمت بحمد اللَّه، والصلاة على أفضل خلق اللَّه. * * *

سورة القيامة

سورة القيامة مكية، وهي تسع وثلاثون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) " لا " صلة، تزاد لتأكيد القسم، مثلها في (لئلا يعلم)؛ لتأكيد العلم. وقيل: هذا إنما يكون إذا وقعت في خلال الكلام كقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ)، وأما إذا وقعت في صدر الكلام كما في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي. والمعنى: نفى أن يقسم بيوم القيامة؛ لأن الإقسام بالشيء إعظام له؛ ليتوسل به إلى تأكيد المقسم عليه. وحاصله: أن يوم القيامة في نفسه أعظم من أن يعظم بالقسم. ويجوز أن يكون " لا " رداً لقولهم: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، والمعنى: أقسم باليوم لا النفس اللوامة. وقرأ ابن كثير (لَا أُقسِمُ) على أن اللام جواب القسم. (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) هي: المتقية التي تلوم النفوس المقصرة يوم القيامة على التقصير، أو نفس السالك التي تلوم نفسها إذا ترقت إلى مقام أعلى، فهي أبداً في اللوم،

(3)

أو نفس آدم؛ لأنها بعد الجناية داومت على اللوم. والحمل على الجنس استدلالاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِن نَفْسٍ بَرّةٍ وَفَاجِرَةِ إِلّا تَلُومُ نَفْسَهَا يَومَ القِيَامَةِ ". لا يلائم الإعظام بالقسم، وقيل: النفس المطمئنة؛ لأنها تلوم الأَمَّارَة أي: في حال الاطمئنان تلوم نفسها على ما فرط منها. وجواب القسم محذوف أي: لتبعثن، دل عليه قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بعد تفرقها. قيل: نزلت في عدي بن ربيعة ختن الأخنس بن شريق سأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن أمر الساعة فأخبره فقال: " واللَّه لو عاينت ذلك لم أومن بك ". (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) مع صغر العظام فكيف بكبارها؟، وإذا قدرنا على الألطف الأبعد عن العادة فعلى الغير أقدر. ومآله إلى عدم التفاوت بين الإعادة والبدء. وقيل: معنى تسوية بنانه جعلها كخف البعير؛ دلالة على كمال القدرة. والظاهر: أن تخصيص البنان بالذكر؛ لأنه أعجب شيء في الإنسان، وأخص به من بين الحيوانات. ثم في تصدير الكلام بالقسم بيوم البعث والمبعوث فيه على تحقق البعث على أسلوب: " وثناياكِ إنها

(5)

أغريض "، ثم إيثار الحسبان وهمزة الإنكار مسند إلى الجنس، والإتيان بحرف الإيجاب، وإيقاع " قادرين " حالاً بعده، من المبالغات في تحقيق المطلوب وتهجين حال المعرض عن الاستعداد له ما يبهر عجائبه، وزاده رونقاً وحسناً بقوله: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) عطفاً على " أيحسب ". ترق في الإنكار؛ لدلالته على أن ذلك الحسبان لمجرد إرادة الفجور، أو إضراب عن الإنكار عن حاله بما هو أدخل في اللوم كأنه قيل: دع الإنكار عليه، أنى يرتدع بالإنكار وهو يريد الدوام على الفجور؟. وعلى الوجهين فيه إيماء إلى أنه عالم بوقوع البعث إلا أنه يتغابى. (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) سؤال تعنّت لما تقدم من إنكاره. (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) تحيّر فزعاً، كأنه نظر البرق فدُهِشَ بصره. وقرأ نافع (بَرَقَ) بفتح الراء أي: لمع، من البريق. وعن الفراء هما لغتان والكسر أفصح. (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) بذهاب ضوءه. (وَجُمِعَ الشَمْسُ وَالْقَمَرُ (9) في الطلوع من المغرب، أو في النار يعذب بهما من عبدهما. وتذكير الفعل؛ لأنه أحد الجائزين. ولموافقة " خسف " ومقارنة " القمر " حسن.

(10)

(يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) أي: الفرار، وبكسر الفاء اسم مكان (كَلَّا ... (11) زجر عن طلب المفرِّ (لَا وَزَرَ) لا ملجأ، أصله الجبل؛ لأنه يلجأ إليه في الغارات. (إِلَى رَبِّكَ ... (12) خاصة. (يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) لا ملجأ غيره، أو إلى حكمه ترجع أمور العباد، أو إلى مشيئته استقرار فريق في الجنة وفريق السعير. (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بما قدم من ماله فتصدق، وبما خلفه، أو بما قدم من الأعمال وأَخر لم يعمل، أو بما أخر من سنة حسنة أو سيئة، أو بأول عمله وآخره. (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) حجة واضحة، فلا يحتاج معها إلى أن ينبأ؛ لأنه الذي ينبأ بما قدم وأخر حين تنطق جوارحه. (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) أي: لو أتى يكل معذرة لا تقبل؛ لأن الشاهد من نفسه لا يقبل الجرح. وعن مجاهد: " المعاذير: الستور " عليه. والمعنى: ولو ألقى الستور عليه حين عصيانه لا يغني عنه شيئاً؛ لأن عليه من نفسه بصيرة. لاحظ قوله. (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ) والمعاذير: اسم جمع كالمناكير؛ لأن قياس جمع المعذرة بدون التاء، وجمع معذار على تفسير مجاهد. (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ... (16) أي: بالقرآن عند أخذه من جبرائيل. (لِتَعْجَلَ بِهِ) تحفظ مخافة أن يشذ عنك شيء.

(17)

(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ... (17) في صدرك. (وَقُرْآنَهُ) وقراءته على لسانك. (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ... (18) قرأه جبرائيل، والإسناد إليه؛ لأنه سفيره. (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قراءته، أي: اقرأه بعد ذلك. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) بيان ما أشكل عليك من معانيه. وعن ابن عباس: (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فاستمع لقراءته (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) قراءته على لسانك. كان يستعجل الأخذ من جبرائيل مخافة أن يفوته منه شيء، فنهي عنه. (كَلَّا ... (20) ردع له عما كان عليه. واستطراده بين حبّي العاجلة المدلول عليه بقوله: (بَل يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)، وقوله: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ)؛ للدلالة على أن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو رحمة وشفاء فكيف بما هو محنة وشقاء؟. وفي (تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) تغليب للمخاطب، كأنه قال: وأنتم يا بني آدم عادتكم العجلة في كّل شيء؛ لجبلتكم على ذلك. (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) " فإن قلت: إذا كانت العجلة جِبلّة في الإنسان، فما معنى الردع في " كلا "؟ قلت: وإن كانت من مقتضى الطبع إلا أنَّها قابلة العلاج كسائر الملكات الرديّة، ومن كان في أعلى منصب الرسالة لا ينبغي له إلا استئصال شأفة تلك الملكات. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر تحبون.

(21)

(وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) بالتاء، وهو أبلغ؛ لأن فيه التفاتاً وإخراجاً له عن صريح الخطاب بحب العاجلة، مع الرمز اللطيف اللائق بشأنه - صلى الله عليه وسلم -. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) بهيّة عليها أثر السرور. (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) قصداً، لا إلى غيره، كالطالب رؤية الهلال، أو إن النظر إلى غيره تعالى كـ " لا نظر " كما تقدم في ذلك الكتاب، أو التقدم؛ للاهتماتم ورعاية الفاصلة. والحمل على الانتظار موت أحمر كناية عن الرجاء لا يلائم. روى الترمذي والإمام أحمد بن حنبل أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أكرم الخلق على اللَّه تعالى من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ الآية ".

(24)

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) عابسة شديدة الكلوح. (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) الداهية الشديدة، كأنها تكسر فقار الظهر. وإيثار الظن؛ لأنها آناً فآناً تتوقع وتترقب أشد مما هي فيه. (كَلَّا ... (26) ردع عن حب العاجلة، وإيثار الدنيا على الآخرة بذكر ما هو أوعظ شيء للإنسان وهو الموت وأهواله. (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ) الضمير للنفس، وإن لم تتقدم؛ لأن قرينتها " أظهر من نار على علم ". ألا ترى أن حاتماً من بلغاء العرب، وهو الذي لا يشق غباره في قوى الأرواح بحكمة، كما حاز قصب السبق في مضمار قِرَى الأشباح بنعمة سلك هذه الطريقة:

(27)

أَماوِيُّ ما يُغني الثَّراءُ منِ الفَتى ... إِذا حشرَجَت يوماً وَضاقَ بِها الصَّدرُ ويخاطب ماوية بنت عقر وكانت ملكة تحت حاتم. والتراقي: العظام المتداخلة عن يمين النحر وشماله. (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) القائل الأحباب والخلان بعضهم لبعض من يرقيه منكم لعل أن يكون ببركة الرقية نجاة. وهذا إنما يقال عند اليأس وعجز الأطباء. وقرأ حفص بسكتة لطيفة على " مَن "؛ للدلالة على أن الإدكم فيه غير لازم، وخلاصاً من ثقل التقارب. (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) أي: ظن الحاضر أنه الفراق الحقيقي.

(29)

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) من شدة الألم وسقوط القوى مع خوف المآل. بعض المشايخ جزع جزعاً شديداً عند الموت. قال بعض أصحابه على ما هذا الجزع قال: " يا رب باب أدقه سبعين سنة الآن يفتح ولا أدري ما وراءه ". (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) لا إلى غيره وهو عليم بذات الصدور، وقد علمتم أن حب الدنيا رأس كل خطيئة فكيف تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة؟. (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) أي: الإنسان الحاسب (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) لا صدّق بقلب، ولا أتى بالأعمال المصدقة لعقد القلب، وعبر عنها بالصلاة؛ لأنها رئيسة العبادات. أو لا يصدّق بما له يقال صدقاً إذا أعطى الصدقة. (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) عن الطاعة.

(33)

(ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) يتبختر ذاهباً إلى أهله مفتخراً بما فعل من التكذيب والتولي، من غاية جهله يعتقد أن أشنع المثالب أرفع المناقب. (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) أي: أولاك ما تكرهه فأولاك مرة بعد أخرى. واللام مثل اللام في (رَدِفَ لَكُمْ). وقيل: أفعل من الويل بعد القلب. (ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أبلغ فأبلغ. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) مهملاً لا جزاء ولا حساب. أي: لا يكون ما حسب؛ لأن فيه بطلان الحكمة. (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) قرأ حفص بالتذكير. والضمير للمني. (ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فقدره وعدله (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ ... (39) الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى). أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) الصانع. روى أبو داود عن موسى بن أبي عائشة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأها قال: " " سبحانك بلى ". * * *

تمت، والحمد للَّه على إنعامه، والصلاة على محمد، وآله وصحبه. * * *

سورة الإنسان

سورة الإنسان مكية، وهي إحدى وثلاثون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ... (1) هل بمعنى قد مع الاستفهام أي: أقد. كقوله: أَهل رَأَونا بِسَفح القاعِ ذي الأَكَمِ والمعنى: على التقرير والتقريب. (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) طائفة من الزمن الممتد غير المحدود. (لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) شيئاً يعتد به ويُذكر، بل متقلّباً في الأطوار: نطفة وعلقة ومضغة. والمراد به بنوا آدم؛ لقوله تعالى:

(2)

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ... (2) فالمعرفة عين الأولى، وفي إيثار المُظهر فضل تقرير. وقيل: الأول: آدم، والثاني: بنوه. (أَمْشَاجٍ) جمع مشيج، كأيتام في يتيم. لأنَّ ماء الرجل والمرأة كل منهما مختلف الأجزاء رقّة وقواماً وخواصاً، وما يصلح مادّة جزء منه لا يصلح لآخر. وعن أبي مسعود - رضي الله عنه -: " عروق النطفة ". وعن قتادة: " أمشاج: ألوان وأطوار ". وقيل: لفظه جمع ومعناه مفرد كـ (بُرْمَةُ أعشارٍ وبُرْدُ أكباش). (نَبْتَلِيهِ) حال مقدَّرة. أي: مقدّرين ومريدين ابتلاءه، أو ناقلين له من حال إلى حال، فالابتلاء مستعار؛ لأنَّ في كل طور يظهر ظهوراً آخر كظهور الممتحن، وقيل: على التقديم والتأخير أي: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) نبتليه، وفيه تكلف؛ لوجود الفاء. وتخصيص السمع والبصر؛ لأنهما أعظم الحواس، وبهما يتلقى الأوامر ويشاهد المعجزات.

(3)

(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ... (3) بإنزال الآيات ونصب الأدلة. (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) حال من الهاء. أي: هديناه في حاليه؛ لئلا يكون للكفر حجة. ومقابلة الشاكر بالكفور؛ إشارة إلى غلبة الكفران على الإنسان. (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) ذكر الوعد والوعيد بعد ذكر الشاكر والكفور وقدّم الوعيد مع تأخر الكفور؛ لأن الإنذار أهمّ، وليكون فتح الكلام وختمه مع المؤمنين. قرأ نافع والكسائي وأبو بكر وهشام. " سلاسلاً " منوناً؛ ليناسب " أغلالاً ". وحمزة وقتبل: بإسكان اللام في الوقف، وكذا حفص وابن ذكوان والبزي في وجه؛ لمنعها من الصرف. (إِنَّ الْأَبْرَارَ ... (5) جمع برّ، كأرباب جمع ربٍّ. (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) هو الزجاج ما دام فيه الخمر، ويطلق على الخمر وهو المراد؛ لقوله: (كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) أي: ماء كافور وهو عين في الجنة، وقيل: نخلق فيه رائحة الكافور وبرده، وقيل: يمزج خمرهم بالكافور. (عَيْنًا ... (6) بدل من (كَافُورًا) على الأول، وعلى الآخرين من محلّ (مِنْ كَأسٍ) على تقدير مضاف كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص. (يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) المقربون. أي: يمزجون الخمر بمائها. كقوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ). هذا إن جعل " كَافورًا " اسم عين. والألف والباء مزيدة. (يُفَجِّرُونَهَا) حيث شاءوا من منازلهم. (تَفْجِيرًا) سهلاً بلا تعبٍ.

(7)

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ... (7) استئناف لما عسى أن يسأل: لماذا كان ذلك الإكرام؟. ونبّه بذكر النذر على أنهم في واجبات اللَّه أسعى وأوفى. (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) منتشراً أقصى ما يمكن من الانتشار. من استطار الفجر. (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ... (8) أي: حب الطعام والاحتياج؛ لقوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وقيل: على حب اللَّه. وفي قوله: " لوجه اللَّه " غنية عن هذا. (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) مدح لهم على اختيار موضع الصدقة، فإنها كالبذر لا تنبت إلا في أرض طيبة. ويدخل في الأسير: المسلم والكافر والغريم والمملوك. وفي الحديث. " غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ". وكان يؤتى بالأسير إلى رسول اللَّه فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول: " أحسن إليه ". (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ... (9) يقولونه بلسان الحال، أو بلسان المقال؛ منعاً لمن أحسنوا إليه عن المكافآت والثناء، (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) توكيد للأولى. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا ... (10) عذاب يوم. أي: إنما أردنا بالإطعام وجه اللَّه؛ لأنا نخاف جزاء ذلك اليوم، ومن خاف ذلك لازم الإخلاص، أو لم نرد منكم على الصدقة مكافأة؛ خوفاً من عقاب اللَّه على طلب المكافأة. (عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) شديد العبوس. من

(11)

القطر والميم مزيدة يقال: " جمع فلان قطرته إذا اشتد تغيِّره مغضباً ". إما مجاز حكمي وصفٌ بوصَف أهله؛ لما في الحديث: " إنَّ الكافر يعبس حتى يسيل من بين عينيه شبه القطران "، أو استعارة بالكناية، شُبِّه بالأسدِ العبوس في ضراوته. (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ... (11) لما قدموا له من البر. (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) بهجة في وجوههم. (وَسُرُورًا) في قلبهم. وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) ليأكلوا الهنيء، ويلبسوا البهيّ. وما نقلوه عن عليّ لا يصح؛ لأن السورة مكية. (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ... (13) على هيئة المترفين. نصب على الحال. (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) أي: لا حرَّ ولا برد؛ لاعتدال الهواء. وعن ثعلب الزمهرير: القمر بلغة طي. وأنشد:

(14)

قطَعتهَا وَالزَمْهَريرُ مَا زَهَرْ ... وَلَيْلَةٍ ظَلَامُهَا قَدِ اعتكرْ والمعنى: لا احتياج إلى الشمس والقمر؛ لضياء الهواء. (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا ... (14) عطف على الجملة الحالية؛ لأنَّها في تأويل المفرد، والواو؛ للدلالة على اجتماع الأمرين لهم. كأنه قيل: جامعين في الجنة بين البعد عن الحرّ، ودنو الظلال عليهم. ويجوز أن يجعل " متكئين " وما بعده صفات لـ " جنة " على مذهب من لا يوجب إبراز الضمير في صفة جرت على غير من هي له؛ لكون " متكئين " كذلك، أو عطف على " جنة " على أنهم وعدوا جنتين كقوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) أي: لا تمتنع على القِطاف، بل يقطفون كما شاءوا. عطف على دانية. وإيثار الفعلية لقصد التجدد؛ لأنَّ القطوف بحسب الحاجة. أو صفة مثلها، أو حال من ضميرها. (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ ... (15) أباريق بلا عرى. (كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ ... (16) القارورة: ما يكون من الزجاج، استعيرت لما كان من فضة بجامع الصفاء والشفيف فجاءت حسنة بديعة. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص:

(17)

قواريرا. الأول غير منون، ووقف عليه حمزة بدون ألف، وهم مع ابن كثير الثاني أيضاً، ووقفوا بلا ألف سوى هشام. (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) صفة قوارير. أي: جاءت على مقدار صوّروها في أنفسهم، أو قدّروها بأعمالهم الصالحة، أو الضمير للطائعين، والمعنى: قدروا الشراب الذي فيها على قدر الرِّيِّ وهو ألذ للشارب. (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) لأن العرب تستلذ طعمه. قال الأعشي: كأنَّ القُرُنْفُلَ والزَّنْجَبِيْلَ ... بائناً بها وأَرْياً مَشُورا

(18)

وعن قتادة: يمزج لهم تارة بالكافور البارد، وأخرى بالزنجبيل الحار؛ ليعتدل الأمر. (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) بدل من زنجبيل. وقيل: يخلق اللَّه تعالى طعمه. فيها، وقيل: يمزج بالزنجبيل. وعلى الوجهين " عينًا " بدل من " كأس ". والسلسبيل كالسلسل والسلسال: سهل الانحدار، أي: وإن كان فيها طعم الزنجبيل فليس فيه لذعه. ولإرادة المبالغة جيء به خماسياً. وقيل: أصله سل سبيلاً سمي به؛ لأنه لا يشرب منها إلا من يسأل السبيل إليها بالعمل الصالح، وفيه تكلف وفوات المبالغة بالوصف. (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) في الحسن وصفاء اللون، والتفرق في المجالس، وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض، أو كأنهم لؤلؤ نثر من [صدفة رطبًا]، من تشبيه المفرد. (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ ... (20) لم يقدّر له مفعول. والمعنى. إذا كنت ذا بصر هناك. (رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) واسعاً، حيث وقع بصرك. عن ابن عمر أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ أدنى أهل الجنة لمن ينظر في ملكه ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه ". وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ آخر أهل الجنة دخولاً، له مثل الدنيا عشر مرات ".

(21)

عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ... (21) " عاليهم " نصب على الحال، إما من المجرور في (عَلَيْهِمْ)؛ أو المنصوب في " حَسِبْتَهُم "، أو " لقاهم " أو " جزاهم ". وقرأ نافع وحمزة بسكون الياء على أنه مبتدأ مفرد في معنى الجمع. كـ "دائر القوم " و (سَامِرًا تَهْجُرون). و " ثياب سندس " خبره (خُضرٍ) بالجر صفة " سندسٍ ". وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص بالرفع صفة " ثيابُ " " وَإِسْتَبْرَق " بالجر عطف على " سُنْدُسٍ ". ورفعه نافع، وابن كثير، وعاصم عطفاً على " ثِيَابُ ". والسندس: ما رقَّ من الحرير، والاستبرق: ما غلظ، معرّب استبرك. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " كما ترى الرجل يكون عليه الثياب يعلوها الأفضل ". ويجوز أن يكون الاستبرق: بطانة؛ لقوله: (بَطائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) ولا ينافيه قوله: (أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ)، لاحتمال الجمع والمعاقبة. وقيل: الفضة للأبرار، والذهب للمقربين. (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) طهّر باطنهم عن الغل والحسد، كما زيّن ظاهرهم بالثياب والحلي. وقيل: هذا نوع آخر فوق الأول؛ ولذلك أسنده إلى ذاته ووصفه بالطهور، فإنه يذهب عن خاطرهم، سوى الاستغراق بمطالعة جماله. وهذا نهاية درجاتهم؛ ولذلك ختم به حديث السؤال.

(22)

(إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً ... (22) على أعمالكم. والمشار إليه الثواب المذكور. (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) مجاز عن الاعتداد به. وفائدة هذا القول: إبراز الفضل في صورة الأجر المستحق، إخراجاً له عن صورة الممنون به. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) كرِّر الضمير، وأكده بـ (إنَّا) مع إيثار التنزيل الدال على التفريق الذي هو مقتضى الحكمة؛ ليدل على أنَّ قوله: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ... (24) صادر عن حكمة بالغة، وأنَّ تأخير نصره لما فيه من الحكم الخفية. (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) أي: كل واحد منهما؛ ولذلك آثر " أو " لئلا يتوهم الجمع. وهم وإن كانوا كلهم كفرة إلا أنَّ منهم من كان يدعوه إلى الإثم، ومنهم من يدعوه إلى الكفر. وقيل الآثم: عتبةُ، والكفور: الوليد؛ لأنَّ ذلك كان غالباً في الفسوق، وهذا في الكفر. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) طرفي النهار؛ لتنال به حلاوة تذهب عنك مرارة الصبر. وخصّ طرفي النهار؛ لشرفهما. وقيل. داوم على صلاة الفجر والظهر والعصر، فإنَّ الأصيل يتناولهما. (وَمِنَ اللَّيْلِ ... (26) بعض الليل. (فَاسْجُد لَهُ) فإنه وقت الاقتراب إليه؛ لدنو رحمته، وخلو الوقت للمناجاة. وقيل: صلاتي المغرب والعشاء. ويؤيده: (وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) أي: نزهه، أو صلِّ له تطوّعاً.

(27)

(إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) استعار له الثقل من الجملة، والمراد: شدّته. (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ... (28) الأسر: الربط الوثيق بالأسار. والمراد: توصيل عظامهم بعضها مع بعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب. (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا) أي: أهلكناهم وأنشأناهم نشأة أخرى. فالتبديل في الصفات؛ لأنَّ المعاد هو للبتدأ. أو بدلنا مكانهم قوماً آخرين كقوله. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ). و " إذا " مع أنَّ ذلك أمر فرضي؛ للدلالة على تمام الاقتدار. (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ ... (29) السورة والآيات القريبة. (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) موصلاً إليه تقرب بالطاعة إليه. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... (30) مشيئكم؛ لأنَّ المفعول المحذوف وهو ما دل عليه المذكور كقولك: لو شئت لقتلت زيداً أي: ولو شئت قتله. وفي إثبات المشيئتين بطلان الجبر والاعتزال (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) وقرأ نافع

(31)

والكوفيون: (تَشَاءُونَ) بالخطاب. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا) بكنه الأشياء (حَكِيمًا) لا يشاء إلا ما اقتضته الحكمة. (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ... (31) بالهداية والتوفيق (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) نصب " الظالمين " على شريطة التفسير بما يلائم المفسر. نحو: أوعد وكافأ. * * * تمّت سورة الإنسان، والحمد للواحد المنان، والصلاة على صفوة الإنسان، وآله وصحبه إلى آخر الزمان. * * *

سورة المرسلات

سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ مكية، وهى خمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) أقسم بطوائف من الملائكة أرسلهنَّ لإمضاء أوامره، حال كونها كعرف الفرس في الاجتماع والتتابع. (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) يعصفن عصف الرياح مبادرة إلى امتثال أمره، أو العرف ضدّ النكرة، مفعول له أي: المرسلة لإنقاذ الأنبياء وإهلاك الكفار، نعمة لأولئك ونقمة لهؤلاء. (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) نشرن أجنحتهن في الجوّ نازلين بالوحي، أو ناشرين الشرائع، أو النفوس الموتى بآفة الجهل. (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) بين الحقِّ والباطل. (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) وحياً إلى الأنبياء فإن قلت: الإلقاء مقدّم على الفرق فما وجه العطف بالفاء؟ قلت: الإلقاء مقدم على العلم بالفرق لا عليه. وقيل: على تقدير الإرادة. أو أقسم برياح أرسلت للعذاب متتابعة عاصفات، وبأخرى نشرن السحاب في

(6)

الجوّ ففرقن بينه كقوله: (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا). أو نشرن الموتى ففرقن بين المؤمن القائل: مطرنا بفضل اللَّه تعالى، والكافر القائل: بالأنواء. وإلقاء الذكر منها؛ لكونها سبباً له إذا شكرت النعمة. (عُذْرًا ... (6) مصدر عذر: محى الإساءة. (أَوْ نُذْرًا) اسم مصدر هو الإنذار، أو مصدر نَذَرَ بمعنى أنْذَر. أو جمع عذير بمعنى المعذرة وجمع نذير. وانتصابهما على العلِّية، أي: (عُذْرًا) للمحقين، (أَوْ نُذْرًا) للمبطلين. و (أَوْ) للتنويع لا الترديد، أو البدل من " ذِكرًا ". ويجوز أن يكونا بمعنى العاذر والمنذر فالنصب على الحال. وقرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي، وحفص: " نذراً " بالتخفيف. (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) لا محالة، وهو قيام الساعة. (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) محيت وأعدمت، أو أُذهبَ نورُها. (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) فُتحَت، فكانت أبواباً. (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) نسف الحبّ والرمل، فكانت كثيباً مهيلاً. وأصله القلع بسرعة. (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) بلغت وقتها الموعود وهو وقت الحضور للشهادة على الأمم. وقرأ أبو عمرو بالواو وهو الأصل؛ لأنه من الوقت إلا أنَّ الرسم على الهمزة؛ لأنه وإن كان أثقل من الواو، إلا أنَّ الضمّ عليه أخفّ منه على الواو.

(12)

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) الرسل. (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) بيان ليوم التأجيل. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) بالغ في تهويله بإبهامه أولاً، ثم ببيانه بأنه يوم الحكم والقضاء، ثم هوّل شَأنَه بأنّك لم تحط علماً بكنه ذلك. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) الويل: الهلاك. أصله النصب على المصدر لغير فعله؛ لعدم استعماله، والعدول إلى الرفع؛ لكونه أبلغ في الدعاء؛ لدلالته على الدوام. (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) من تقدّم كفار مكة من الأمم المكذبة. (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) نحن نتبع أولئك في الإهلاك أهل مكة. (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) بكلّ مجرم في كلّ عصر. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أي: يوم إهلاكهم فليس فيه تكرير؛ لأنَّ الأول لعذاب الآخرة، وهذا لعذاب الدنيا. مع أنَّ التكرير للتهويل له موقع حسن. (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) هي النطفة القذرة (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) هو الرحم، تفصيل لكيفية الخلق (إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) له تعالى وهو وقت الولادة. فَقَدَرْنَا ... (23) على ذلك (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) نحن على الإعادة. وقرأ نافع والكسائي: (فَقَدَّرْنَا) بالتشديد. إلى ذلك المولود شقياً أو سعيداً، إلى غير ذلك من حال النطفة علقة، ومضغة، وعظاماً. و (فَقَدَرْنَا) بمعنى مقدِّرون. من قدَّرت الشيء أقدّره. قال الشاعر:

(24)

وقد قدر الرحمن ما هو قادر وهذا أوفق؛ لقوله: (مِنْ نُطْفَةِ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)، ولأن حديث القدرة قد تم في قوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُم)؛ لكون الاستفهام للتقرير. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) اسم لما يكفت أي: يجمع، كضمام اسم لما يضم، أو مصدر نعت به، لا جمع كافت، كصيام في صائم؛ لإسناده إلى ضمير الأرض. (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) نكّرهما؛ لأنَّ أحياء الإنس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات. ولا ينافيه التفخيم؛ لدلالته على كثرة لا تحصى. وانتصابهما على المفعولية أو الحالية من مفعوله المحذوف. (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ... (27) جبالاً ثوابت طوالاً. والتنكير للتعظيم، أو التبعيض؛ لكون بعض الجبال في السماء لقوله: (مِنْ جِبَالٍ فِيهَا). (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) عذباً وأيّ عذب.

(28)

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) بامتثال هذه النعم. (انْطَلِقُوا ... (29) على تقدير القول (إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من العذاب. (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ... (30) من حرِّ الشمس (ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) يحيط همم من فوقهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم. (لَا ظَلِيلٍ ... (31) تهكّم بهم، وردّ لما أوهم لفظ الظلّ. (وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) وغير مغنٍ من الحرِّ كقوله: (لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ)، وهذا الظل: هو الدخان الذي هو سرادق النار. (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) يقفون فيه إلى الفراغ من الحساب، بدل وقوف المؤمنين في ظل عرش اللَّه. (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) في العظم (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) جمع جمال، أو " جمالة " جمع جمل. شبهت أولاً بالقصور ثم بالجمال، فإنَّ العرب تشبه الإبل بالقصور. قال: [كما طيَّنْتَ بالفَدَن السِّياعَا]

(34)

شبه الشرر حين ينقص من النار بالقَصْر في العظم، حين يأخذ في الارتفاع، والانشقاق عن أعداد غير محصورة مع الحركات السريعة في الجهات بالجمال. وعن ابن عباس: " كنا نرفع خشبة للشتاء طولها ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ أو أقلّ، فَنسَمِّيهِ الْقَصَرَ ". وعنه: " الجمالات: حِبَال السفُنِ تُجْمَعُ حَتّى تَكُونَ كَأَوسَاطِ الرِّجَالِ ". والأول هو الوجه. وقد روي عنه أيضاً. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص: " جمالة "، و (جمالات) أبلغ، وأوفق بالمقام. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) بذلك اليوم (هَذَا ... (35) أي: الذي قصّ عليكم. (يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ) يوم القيامة ذو مواطن، ينطقون في موطن دون آخر. ولا ينطقون بما يحق أن يسمى نطقاً؛ لعرائه عن الفائدة. (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) عطف على " يُؤْذَنُ " أي: لا إذن ولا اعتذار مطلقاً. ولو جعل جواباً لدلّ على أن عدم الاعتذار لعدم الإذن. وأوهم أنَّ لهم عذراً يعتدّ به، لكن لم يؤذن لهم فيه.

(37)

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)) للحكم بين المحقّ والمبطل. (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) توبيخ لهم على ما كانوا يكيدون به المؤمنين، وتسجيلٌ عليهم بالاستكانة. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ ... (41) من الشرك؛ لأنّه في مقابلة " المكذبين "، (فِي ظِلَالٍ) متراكمة. (وَعُيُونٍ) جارية. (وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كثيرة الأنواع. (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ... (43) على تقدير القول (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من الصالحات. (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) المخلصين. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) تذكير لما كان يقال لهم في الدنيا، وتخسير لهم بإيثار الحقير على الخطير. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) به. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) متصل بقوله: " للمكذبين " كأنه قيل: ويل يومئذ للذين كذبوا، والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. ويجوز اتصاله بالمجرمين كأنه قيل: هم أحقاء بأن يقال لهم: كلوا وتمتعوا؛ لكونهم مجرمين، ولكونهم إذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) به. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) أي: بعد القرآن، فإنه لا حديث يدانيه فضلاً أن يساويه. وعن أبي هريرة أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قرأ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فليقل آمنت باللَّه وبما أنزل ". * * * تمّت المرسلات، والحمد لواهب البركات، وعلى المختار أفضل الصلوات. * * *

سورة النبإ

سُورَةُ النَّبَإِ مكية، وآيها أربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) أصله " عن ما " فاتصلت في الخط وحذف الألف؛ فرقاً بينها وبين الخبرية، وإيذاناً بشدة الاتصال وكثرة الدوران. وقرأ ابن كثير في رواية البزي: " عمَّه " بهاء السكت في الوقف؛ ليكون حيراناً عن الذاهب وهو أحد حرفي الثنائي. كان مشركو مكة يسأل بعضهم بعضاً عن أمر القيامة، أو رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين استهزاء. على أن التساؤل بمعنى السؤال، كالتداعي والترائي بمعنى: الدعوة والرؤية. والمراد: تفخيم شأن المسئول عنه مجرداً عن الاستفهام؛ لوقوعه في كلام من لا يخفى عليه خافية. (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) بيان لشأن المفخم، أو متعلق بـ (يَتَسَاءَلُونَ) و (عَمَّ) بما فسره (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) منهم المنكر له ومنهم الشاك. والضمير للفريقين، المؤمنون يسألون لزيادة الاستيقان والاستعداد له، والكفار استهزاءً وعناداً.

(4)

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ردع للمتسائلين هزواً، ووعيد. (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) كرِّره مبالغة، وآثر (ثم)؛ دلالة على أنَّ الثاني أشدّ من الأول، وكما فخم شأن البعث فخم ما يقع بعده. وقيل: الأول عند النزع والثاني في القيامة، أو الأول للبعث، والثاني للجزاء. (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وأنتم لا تنكرون شيئاً من ذلك، فإنكار البعث لماذا؟ وهل ذاك إلا على منوال هذا؟. أو من أبدع هنه الأشياء إنما أبدعها لحكمة لا عبثاً، فلا بد من البعث والجزاء. (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) ذكراً وأنثى. (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) موتاً. منْ السبت وهو: القطع. والنوم أحد الموتين. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) ساتراً عن العيون يمكن إخفاء ما لا يراد إظهاره من بيات العدو، أو الفرار منه إلى أمور شتى. (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وقت معاشكم تتقلبون فيه لحوائجكم. استدل بخلقهم ذكراً وأنثى، واستوفى أحوالهم مفترقين ومقترنين. وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) محكمة لا يؤثر فيها مرور الدهور. (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) أي: الشمس النير الأعظم، من وهجتِ النار: التهبت أو أضاءت.

(14)

(وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ... (14) من السحاب التي شارفت أن يعصرها الرياح للمطر. من أعصرت الجارية: قاربت عصر الحيض، أو من الرياح التي حان لها عصر السحاب. وعن الحسن وقتادة رضي اللَّه عنهما: من السموات؛ لأن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنَّ السماوات يعصرن أي. يُمَكّن من العصر. (مَاءً ثَجَّاجًا) منصَبّاً بكثرة، يُقال: ثجَّه، وثجَّ بنفسه. وفي الحديث: " الحجُّ عجٌّ وثجٌّ " أي: رفع الصوت بالتلبية والذكر، وكثرة دماء القرابين. (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا ... (15) للإنسان. (وَنَبَاتًا) للدواب (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) ملتفة، جمع لُفّ كخُفّ وخفاف، أو جمع لفيف كشريف، أو لَفَّاء كخضراء. أو ملتف بحذف الزوائد. وفيه أن هذا لا نظير له؛ لأن تصغير الترخيم ثابت دون تكسيره. (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) في علم اللَّه. والميقات: ما يؤقت به الشيء، والمراد به: حدّ الدنيا ونهايته، أو حدّ الخلائق وما ينتهون إليه. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ... (18) بدل أو بيان ليوم الفصل. (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) جماعات (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ). والحديث المروي: " أنَّ أمته - صلى الله عليه وسلم - تحشر عشرة أصناف " موضوع مختلق.

(19)

(وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) عطف على " فتأتون "، وإيثار الماضي؛ لكونه محقق الوقوع، أو حال أي: فتأتون والحال أنها قد فتِّحت، والمراد: كثرة الطرق والشقوق، كقوله: (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا). وقرأ الكوفيون مخففاً. (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ ... (20) في الهواء تمرُّ مرَّ السحاب. (فَكَانَتْ سَرَابًا) أي: كالسراب يحسب ماء ولا ماء؛ لأن شأن الجبل الثبات والقرار. (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) مكاناً يرصد فيه خزنة النار الكفارَ، أو خزان الجنة المؤمنين يحرسونهم إذا مرّوا عليها. (لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) مرجعاً ومأوى. (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) الأحقاب جمع حقب وهي ثمانون سنة. وقيل: دهر طويل كقوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)

(26)

والمعنى: يلبثون أحقاباً كثيرة لا يذوقون فيها إلا الماء الحار وغسالة أهل النار وصديدهم، ثم ينقلون إلى نوع آخر من العذاب. وإن جعل (لَا يَذُوقُونَ) استئنافاً فالمراد بأحقاب: دهوراً غير متناهية كلما مضى حقب تبعه آخر، ألا يرى كيف وقع وهم الانقطاع بقوله: (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا). وقرأ حمزة: (لَابِثِينَ) مقصوراً، وهو أقوى وعليه الرسم، وحمزة والكسائي وحفص: (غَسَّاقًا) مشددا. (جَزَاءً وِفَاقًا (26) أي: جوزوا جزاءً ذا وفاقٍ؛ لأعمالهم أو وصف بالمصدر. (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) يقال: كذّب تكذيباً وكذاباً. قال سيبويه: الأصلي كذَّاباً والتاء عوض عن التضعيف، والياء عن الألف. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) نصب على المصدر، أي: إحصاء، أو أحصيناه بمعنى: كتبنا؛ لتلاقي الإحصاء والكتبة في الضبط، أو على الحال أي: مكتوباً في اللوح أو في صحف الحفظة. (فَذُوقُوا ... (30) أي: العذاب. التفت إليهم في مقام السخط؛ زيادة في العذاب. (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) استثناء من الأعم أي: شيئا من الأشياء. وعن أبي برزة الأسلمي: " سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن أشدّ آية في كتاب اللَّه على الكفار فتلاها ".

(31)

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) مكان فوز من الجنة كما أن جهنّم للطاغين مئاباً، ثمّ فسِّره بقوله: (حَدَائِقَ ... (32) جمع حديقة وهي: روضة ذات أشجار وقيل: روضة أحاط بها حائط. (وَأَعْنَابًا) أفردها؛ لقلة وجودها في أرض العرب. (وَكَوَاعِبَ ... (33) جمع كاعب ناهدة الثدي. (أَتْرَابًا) لدات. (وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) مترعة، من أدهقتُ الحوضَ فهو داهق (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) أي: لا يتأذُّون من سماع اللغو وتكذيب بعضهم بعضاً. وقرأ الكسائي: " كِذَاباً " مخففاً إما مصدر كاذب، أو كذب نحو: كتبت كتاباً، كقول الأعشى: فَصدّقَهَا وَكَذَبَتْهُ ... وَالمرءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُه أي: لا يصدر منهم كذب حتى يسمعه السامع. (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ ... (36) نُصب على المصدر. (عَطَاءً) بدل من جزاء، أو مفعول به، له أو لناصبه المحذوف (حِسَابًا) صفة بمعنى كافياً، من أحسبه الشيء إذا كفاه، حتى قال: حسبي، وقيل: على حسب أعمالهم.

(37)

(رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ... (37) بدل من ربك، ورفعه نافع وابن كثير وأبو عمرو على أنه مبتدأ خبره (الرَّحْمَنُ)، أو هو بدل خبره (لَا يَمْلِكُونَ) وقرأ " الرحمنِ " بالجرّ ابن عامر وعاصم على البدل. ومن جرِّ الأول ورفع الثاني أبدل الأول وجعل الثاني مبتدأ خبره (لَا يَمْلِكُونَ) أو خبر محذوف. (مِنْهُ خِطَابًا) أي: من اللَّه، والمعنى: لا يملكون من جهته شيئاً من الخطاب؛ لأن المملوك لا يملك شيئاً على مالكه. وهذا لا ينافي الشفاعة بعد الإذن. (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ... (38) ظرف لـ " يملكون "، أو لما بعده. والروح: جبريل، وإفراده؛ لشرفه " وقيل: نوع آخر من المخلوقات. وقيل: ملك لم يخلق اللَّه بعد العرش أعظم منه. (لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) أي: من تكلم من هؤلاء الأشراف إنما يتكلم بشرط الإذن وقيل: الصواب. ففيه تقرير وتوكيد لقوله: " لا يملكون منه خطابا " (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ... (39) الكائن لا محالة. (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) منزلاً ومأوى بالإيمان والعمل الصالح. (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ... (40) إذ كل آتٍ قريب. ولأنَّ ابتداءه من الموت. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أي: كل امرئ ينظر عمله خيراً كان أو شراً؛ لقوله: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) وقيل: المرء هو: الكافر؛ لقوله: (إنَّا أَنذَرْنَاكُمْ) وضع موضع المضمر. وعن قتادة: هو المؤمن؛ لقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ) والأول هو الوجه؛ لقوله، (إنَّ يَوْمَ الْفَصلِ)، ولقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ

تُرَابًا) في الدنيا لم أخلق، أو في هذا اليوم؛ لما يرى سائر الحيوانات والوحوش تصير تراباً بعد جريان القصاص بينهما. * * * تمّت، والحمد للَّه على الدوام، والصلاة على خير الأنام، وآله وصحبه يوم القيام. * * *

سورة النازعات

سُورَةُ النَّازِعَاتِ مكية، وهي خمس أو ست وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) أقسم بالملائكة الموصوفة بصفات تدل على كمال قدرته ونفاذ أمره. فالنازعات: هم ملك الموت وأعوانه الذين ينزعون أرواح الكفار من أعماق أبدانهم. والغرق: اسم الإغراق، كالسلام اسم التسليم، أو مصدر بحذف الزوائد. والناشطات: الذين ينشطون أرواح المؤمنين برفق، من نشط الدلو: أخرجها من البئر. ونشّط الحبل: حلّه برفق. ويسبحون أي: يسرعون فيما أصروا به، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، فيدبرون أمر ثوابها وعقابها، أو النجوم تنزع من المشرق إلى المغرب، وإغراقها: قطع الفلك بتمامه إلى أن تغرب بأن تنشط من برج إلى آخر. من نشط الثور: إذا خرج من بلد إلى آخر. فتسرع في السير، فيسبق بعضها بعضاً، فتدبر ما نيط بها من الفوائد. أو خيول الغزاة تنزع في أعنتها إغراقاً؛ لطول أعناقها؛ لأنها عِراب، فيخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر، فيسبح في جريها فيسبق بعضها بعضاً، فتدبر أمر الظفر على المجاز، أو نفوس السالكين تنزع عن الشهوات رأساً، وتنشط إلى عالم الملكوت، فتسبع في بحر المعارف، فيسبق بعضها بعضاً بقدر القابليات، فتدبر سائر النفوس بالإرشاد والتكميل. والمقسم عليه محذوف دلّ عليه ذكر القيامة بعد. أي: لتبعثن.

(6)

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) نصب بذلك المحذوف. الراجفة: الواقعة، وصفت بما يحدث بحدوثها من رجف الأرض والجبال مبالغة، وهي: النفخة الأولى. وإنما صحّ أن يكون وقتها ظرفاً للبعث مع أنه لا يكون بعد الثانية؛ لاتساع الوقت على أن: (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) وهي: النفخة الثانية حال منها، فلابد من الامتداد إلى وجودها. وقيل: الراجفة الأَرض والجبال، والرادفة السماء والكواكب. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) شديدة الاضطراب. الوجيف والوجيب أخوان. (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) خبر قلوب؛ لأَنها نكرة موصوفة، كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أو خبر بعد خبر؛ لأنَّ تنكير التنويع قائم مقام الوصف. (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) يريدون الحياة الدنيا بعد الموت، والحالة التي كانوا عليها في الدنيا؛ إنكاراً للمعاد، والحافرة: الطريقة التي حفرها، وأثر فيها بمشيه. والقياس محفورة، فإما على تقدير ذات حفر، أو على الإسناد مجازاً نحو (عيشة راضية). وعن ابن السكيت: حافرة الشيء: أوله. واستشهد بما أنشده ابن الأعرابي:

(11)

أحاَفِرَةً عَلَى ضَلَعِ وشيْبٍ ... مَعاذَ اللَّه من سَفهٍ وعَارِ (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) أنى يكون ذلك. والنخرة: البالية، من النخر وهو صوت الريح، والعظم إذا بلي نخر فيه الريح؛ لصيرورته أجوف. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: بالمدِّ، والقصر أبلغ. وإذا منصوب بمقدر أي: تُرَدُّ وتُبْعَثُ. قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) أي: رجعة ذات خسران، أو خاسر صاحبها إن صحّ ما يقوله محمد. قالوه استهزاء. (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) لا استبعاد ولا استصعاب، بل هي في غاية السهولة على اللَّه. لا توقف لها إلا على صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية.

(14)

(فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) أحياء، كقوله: (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) والساهرة: الأرض البيضاء المستوية؛ لأنَّ السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة أي: جارية، أو على المجاز؛ لأنَّ ساكنها لا ينام خوفاً. وعن قتادة: اسم جهنم. ولما كان الكلام من مفتتح السورة إلى هنا مسوقاً للتهديد، مدمجاً فيه تسلية رسوله، عقبّه بقصة موسى وفرعون؛ لعراقتها في هذا الباب. هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) أي: أليس قد أتاك حديثه المشتمل على نصره وقهر عدوّه؟، ففيه ما يسلّيك. ثمّ فصّله بقوله: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) الذي قُدّس؛ لأنه مَهبطُ الوحي (طوًى) عطفُ بيان أو بدل. ونَوَّنَهُ الكوفيون وابن عامر بتأويل المكان. اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) على إرادة القول: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) أي: هل لك رغبة في أن تتطهّر من رجس الكفر والطغيان. أرشده إلى طريق الدعوة بألطف طريق، وذلك أن يعرض عليه لِيؤامر نفسه ويرى رأيه، كما تقول للضيف: ألا تنزل بنا؟ وهذا فحوى قوله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) وقرأ نافع وابن كثير: تزَّكَّى بتشديد الزاي، على إدغام إحدى التائين في الزاي. وحذفها الآخرون تخفيفاً.

(19)

(وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ ... (19) إلى معرفته. (فَتَخْشَى) لأنَّ الخشية على قدر المعرفة. قال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وروى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إنَّ سلعة اللَّه غالية ". (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) أي: فذهب إليه فدعاه فأبى، فأراه المعجزة العظمى من معجزاته وهي: قلب العصا ثعباناً، أو كل معجزاته؛ لأنها كالواحدة في الدلالة. (فَكَذَّبَ ... (21) موسى (وَعَصَى) ربه (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) أي: أقبل يسعى في دفع موسى بمكائده، من قولهم: أقبل يفعل كذا، وعبّر عنه بالإدبار؛ إشارة إلى أنَّ ذلك الإقبال كان إدباراً وعليه دماراً، أو أدبر هارباً لما انقلبت العصا ثعباناً. (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) أي: حشر السحرة، أو جنوده. فنادى بنفسه، أو من أمره به على أنه إسناد إلى السبب. (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) أي: أعلى من كل ربٍّ. لما تقدّم في الأعراف أنه كان أمر قومه باتخاذ الأصنام يتقربون بها إليه.

(25)

(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) النّكال: كالسلام اسم للتنكيل أي: نكّل اللَّه به في الدنيا بالإغراق، وفي الآخرة بالإحراق. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: نكال كلمته الأولى، هي قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) والأخرى: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). (إِنَّ فِي ذَلِكَ ... (26) أي: فيما حكي عنه وعن ماله (لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) لمن كان من شأنه الخشية. أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا ... (27) الخطاب لمشركي مكة. (أَمِ السَّمَاءُ) ولا شكَّ أنَّ الثاني أصعب. ثم شرع يبين كيفية إيجادها من غير آلة ومعين؛ ليدل به على أن إنكار البعث إما عناد أو تعامٍ أو تصامٍ. (بَنَاهَا) خلقها على صورة القبة المبنية. (رَفَعَ سَمْكَهَا ... (28) أي: جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديداً رفيعاً مقدار خمسمائة عام. (فَسَوَّاهَا) فعدلها مستوية الأجزاء مزينة بالكواكب على ما اقتضته الحكمة. (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ... (29) أظلمه. يقال: غطش الليلَ وأغطشه اللَّه كظلم وأظلمه. ويقال: أغطش الليلُ أيضاً لازماً. (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) وأبرز ضوء شمسها. وإنما أضاف الليل والشمس إلى السماء؛ لأنَّ الليل ظلّ السماء في المرأي، وإن كان ظلّ الأرض حقيقة، أو لأنهما يحصلان بغروب الشمس وطلوعها.

(30)

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) بسطها. وقد سبق الكلام في سبق خلق الأرض في أوائل البقرة في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) بما لا مزيد عليه. (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) أي: رعيها تفسير للدحوّ بما لابدّ؛ لتأتي السكنى منه من المأكل والمشرب، أو حال بإضمارِ " قد ". ودلّ بالماء والمرعى على كل ما يرتفق به من أمر المعاش. (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) أثبتها كالأوتاد لتستقر الأرض (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) لسائر الحيوانات، ففيه تغليب. (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) الداهية العظمى التي تطمِّ على سائر الدواهي. من طمِّ الشيء: علاه. وعليه فالوصف للتأكيد والمراد: النفخة الثانية، أو الساعة التي يساق الفريقان إلى دار الخلود. (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) بدل من " إذا جاءت ". أي: يتذكر أعماله السيئة إذا رأي الكتاب منشوراً، وأنى له الذكرى و " ما " موصولة، أو مصدرية. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) لكل راء لا يخفى على أحد. (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) إما مع جوابه جواب (إذا جاءت)، أي: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى). فالطاغي مأواه الجحيم، أو جواب " إذا " محذوف أي: كان كيت وكيت، والمذكور بعد " أمّا " تفصيل له.

(40)

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ... (40) أي: بين يديه للحساب. (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) لعلمه بأنه بجانب الهدى (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) هي مأواه لا غير. (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ... (42) تعنُّتاً (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) أي: أقامها، من أرسيت الشيء: أثبته، أو متى استقرارها؟ كما أنَّ مرسى السفينة استقرارها وانتهاؤها. (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) أي: في أي شيء أنت من ذكر الساعة لهم؟ فإنَّ علمها من أمِّهات الغيوب لا ينفد فيه إلا علمه تعالى، أو (فِيمَ) إنكار لسؤالهم، و (أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) ابتداء كلام. والمعنى: في أي شيء هم من سؤال الساعة، أنت من علاماتها فإنك بعثت في نسيم الساعة، واسمك نبي آخر الزمان فقد دنت الساعة (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) انتهاء علمها. (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ ... (45) ما أنت إلا منذر. (مَنْ يَخْشَاهَا) من يخاف هولها. ولست مبعوثاً لتعليمهم بوقت الساعة. وعن أبي عمرو: (مُنْذِرٌ) بالتنوين. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا ... (46) في الدنيا، أو في القبور. (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) عشية يوم أو ضحاه كقوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)؛ ولذلك أضاف الضحى، ولو قطع لاحتُمل عشية يوم وضحى آخر، فيتوهم الاستمرار في ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر. واحتمل أيضاً أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم؛ تجوزاً. * * *

سورة عبس

سُورَةُ عَبَسَ مكية، وهي إحدى وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) اتفقوا على أنها نزلت في ابن أم مكتوم مؤذن رسول اللَّه، واسمه عمرو بن قيس أو عبد اللَّه بن عمرو، واسم أمه عاتكة بنت عبد اللَّه المخزومية، جاء إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى اللَّه باهتمام، وقطع عليه كلامه وكرر عليه يقول: يا رسول اللَّه علمني ما علمك اللَّه ولم يعلم

(3)

تشاغله، فعبس في وجهه وأعرض عنه. والمعنى: عبس لأن جاءه، وأعرض لذلك على تنازع الفعلين. وفي الوصف بالأعمى دون اسمه، أو وصف آخر توكيد للعتاب؛ فإنَّ ذلك يناسب الإقبال والتعطف دون العبوس والإعراض، وإيماء إلى أنَّ كل ضعيف في معناه. كقوله: " لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَينَ اثنَيْن وَهُوَ غَضْبَان" فكان بعد ذلك يكرمه ويقول: " مرحبا بمن عاتبني فيه ربِّي ". (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) بما يسمعه منك من أوضار الآثام. والمراد: نفي درايته بما هو مترقب. والرجاء إما راجع إلى الأعمى، أو إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وإيثاره؛ للدلالة على أن رجاء التزكي كافٍ في منع العبوس والإعراض، كيف وهو في نفسه زكي حقيقة؟. وقيل: الضمير للكافر أي: وما يدريك أنَّ ما طمعت فيه من تزكية كائن حتى تهتمّ به، فالترجي لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أو يتّعظ فتنفعه موعظتك. وقرأ عاصم بالنصب جواب (لعل) المحمول على التمني، وهذا يؤيد رجوع الضمير إلى الكافر، إلا أن يحمل في

(5)

الوجه الأول على المبالغة. أي: كأن الأعمى جديراً بالإقبال لضعفه وإن كان يعيداً حصول تزكيته. (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) تتعرض بالإقبال إليه. (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) أي: وليس عليك عتب في أن لا يزكى بالإسلام، إن عليك إلا البلاغ. هذا وأمثاله وإن كان عتاباً في الظاهر، لكن فيه كمال مدح له - صلى الله عليه وسلم - لاهتمامه بشأن ما أرسل به وبذل جهده. (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) يسرع إلى تعلم شرائع الإسلام. (وَهُوَ يَخْشَى (9) يخاف اللَّه بقلبه. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) وهو التشاغل، من لهي يلهى. وقدم الضمير في الموضعين؛ للتقوى. ويجوز التخصيص على معنى أن التصدي والتلهي إنما ينكر منه دون غيره؛ لعلو مقامه. (كَلَّا ... (11) ردع عن المعاتب عليه والعود إلى مثله (إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) الضمير للقرآن، والتأنيث باعتبار الخبر؛ ولذا ذكره ثانياً. والمعنى: أن القرآن موعظة، فمن شاء حفظها، فلا حاجة في الموعظة إلى المبالغة. وفيه توكيد لما تقدم. (فِي صُحُفٍ ... (13) مكتوبه فيها. خير ثان، أو خبر محذوف، أو صفةلـ " تذكرة ". (مُكَرَّمَةٍ) عند اللَّه؛ لأنَّها أَوعية كلامه. (مَرْفُوعَةٍ ... (14) في السماء، أو مرفوعة المقدار. (مُطَهَّرَةٍ) عن أيدي الشياطين. (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ، جمع سافر: وهو الكاتب، أو من السفر: وهو الكشف؛ لإظهاره المكتوب. منه السفر، لأنه يكشف عن الأخلاق.

(16)

(كِرَامٍ ... (16) عند اللَّه. (بَرَرَةٍ) أتقياء، روى البخاري عن عائشة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ ". (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) القتل أعظم ما يخافه الإنسان من الشدائد. وعابه على الإنسان المرتكب أعظم القبائح. والدعاء منه تعالى؛ إظهار لغاية السخط. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) تحقيراً له؛ ولذلك فسّره بقوله: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ ... (19) ولا أقدر منه. (فَقَدَّرَهُ) فسوّاه مهيئاً معداً بالقوى والآلات لمصالح التكليف. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) أي: طريق خروجه من بطن أمّه بأن فتح له فم الرحم وألهمه بأن ينتكس، فإنه في البطن جالس وجهه إلى ظهر أمه فإذا حان وقت خروجه قدّم رأسه وأخرّ رجليه على صفة الغواص، أو ذلّل له سبيل الخير ولم يكلفه ما لا طاقة له به. وفي هذا إشارة إلى أن الدنيا طريق الآخرة كسبيل المارة. وانتصاب السبيل بما يفسِّره الظاهر. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) عدّ الموت من النعم؛ لأنه وسيلة إلى النعيم في الجملة. يقال: قَبرت الرجل: إذا دفنته، وأقبرته: إذا مكنته من أن يقبر. (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) للجزاء. (كَلَّا ... (23) ردع للإنسان عما هو عليه. (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) اللَّه به من الإيمان به بعد هذه النعم. وعن مجاهد: لم يقض أحد من لدن آدم إلى هذا الأوان ما أمره اللَّه

(24)

به إذ لم يخل أحد من نوع تفريط. ووجه ذلك أنَّ الضمير عائد إلى مطلق الإنسان المذكور في ضمن المقيّد؛ ولذلك أعاد ذكر الإنسان في قوله: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)؛ لأن المذكور بعده يعمّ الكل. (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) استئناف؛ لبيان كيفية إيجاد الطعام، وقرأ الكوفيون: (أَنَّا) بفتح الألف بدل اشتمال. (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) بالنبات أو الحراث، وأسنده إلى ذاته؛ لأنه السبب. (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) جنس الحبوب. (وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) مصدر قضبَ: قطع، سمي به الرطبة وهي المسمى بالقت؛ لأنها تقطع في عام مراراً. وعن الحسن: كل علف يقطع. (وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) متكاثفة الأوراق والعروق. مستعار من وصف الرقاب بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع تداخل بعضها في بعض. (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) هو للدواب كالفاكهة للإنسان، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كل مرعى الدواب أبٌّ. وروى أبو عبيد القاسم بن سلام أن الصدّيق - رضي الله عنه - سئل عن الأبِّ

(32)

فقال. لا أقول في كتاب اللَّه ما لا أعلم. وعن أنس أنَّ عمر بن الخطاب تلا هذه الآية فلما وصل إلى قوله: (وَأَبًّا) قال: ما الأبُّ، ثم حاد وقال: لعمرك يا عمر إن هذا لهو التكلّف. وهذا يدل على أنهم كانوا طالبين لمقاصد كلام اللَّه تعالى والعمل بمقتضى ما علموا ولهم عن طلب اللغات شغل شاغل وقد علموا أنَّ الآية مسوقة للامتنان على الإنسان، فهم كانوا ساعين في القيام بشكر تلك النعم (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) أي: المذكورات. (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) أي: النفخة الثانية يقال: صخَّ للحديث وأصاخ: إذا استمع له. وصفت النفخة به مجازاً؛ لأنَّ الناس يصخّون عندها. (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لاشتغاله بحاله، أو خوفاً من مطالبتهم إياه بما قصَّر فيه من حقوقهم. ويؤيد الأول قوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وقول الرسل نفسى نفسي. وتأخير الأحب فالأحب؛ للترقي كأنه قيل: يفرّ من أخيه من أبويه من صاحبته من بنيّه. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) مضيئة، من أسفر الصبح: أضاء؛ لسرور القلوب، وقيل: من الصلاة بالليل فإن من تَهَجَّدَ استناَرَ وجهُه. وقيل: من آثار الوضوء. وقيل: من طول ما اغبرّت في سبيل اللَّه. (ضَاحِكَةٌ ... (39) بما نالت من الربح والفوز. (مُسْتَبْشِرَةٌ) برحمة الله ورضوانه. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) غبار وكدورة.

(41)

(تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) يعلوها سواد كالدخان، ولا ترى أقبح من سواد الوجه إذا علاه الغبار. (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) أي: الموصوفون باغبرار الوجوه واسودادها هم الذين ضموا إلى الكفر الفجور، فالجزاء على وفق العمل. * * * تمّت سورة عبس، والحمد لمن عن كل مكروب نفَّس، والصلاة على رسوله بالليل [إذا] عسعس، وآله وصحبه ما الصبح تنفس. * * *

سورة التكوير

سُورَةُ التَّكْوِيرِ مكية، وهي سبع وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَمْسُ كُوِّرَتْ (1) روى الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من سرّه أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ (إِذَا الشَمْسُ كُوِّرَتْ) و (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطرت) و (إذَا السَّمَاءُ انْشَقت) ". والتكوير من كورت العمامة إذا لففتها، والمراد: إذهاب ضوئها أو عينها؛ لأن الثوب إذا أريد دفعه لفّ

(2)

وطوي. أو من طعنه فكوّره أي: ألقاها لما روى " أنَّ الشمس والقمر يكوران في جهنّم "؛ لقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) انتثرت؛ لقوله: (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) وقيل: أظلمت من كدّرت الماء فانكدر، وهو تفسير باللازم. (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) عن وجه الأرض تمرّ مرَّ السحاب. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) أهملت. جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، ويبقى هذا الاسم بعد حملها أيضاً؛ ولذلك فسِّر تعطيلها بعدم الحلب وقيل: هى السحاب عطّلت عن المطر. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) من كلّ أوْبٍ كما يحشر الإنس والجن. (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) ملئت بأن يفجر بعضها إلى بعضٍ حتى تصير بحراً واحداً، أو أحْمِيَت، من سجّرت التنور. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أوقدت فصارت نيراناً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " سجِرت " مخفّفاً، والتشديد أبلغ وأوفق بقوله: (زِدْنَاهُم سَعِيرًا).

(7)

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) كل نفس بشكلها في الموقف الأنبياء ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الأمثل فالأمثل، أو زوجت بأعمالها. وقيل: نفوس المؤمنين بالحور والكفار بالشياطين. (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) الوأد: دفن الحي في القبر. والغرض من سؤالها تبكيت الوائد على فعله. وليس في الآية دليل على أنَّها في الجنة، ولكن دلت الأحاديث على أنَّ أطفالَ المشركين في الجنة، فهي من باب الأولى، فإن قلت: روى سلمة بن يزيد أنه سأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن أمه قد وأدت أختاً له في الجاهلية فقال: " الْوَائِدَةُ وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ ". قلت: مُعاَرِضاً بِماَ رَوَتْ خنساء بنت معاوية أنَّ عمّها أخبرها أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " الْمَوْءُودَةُ في الجنة "، ويحمل قوله: " الْمَوْءُودَةُ في النار " على أن تلك المعينة كانت بالغة فإنهم كانوا يدفنون إذا صار قامتها ستة أشبار.

(10)

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) عند الحساب فإنَّها تطوى بعد الموت. وقيل: هي غير صحف الأعمال بل صحف تطير من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في الجنة، وصحيفة الكافر في يده في النار. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي؛ (نشِّرت) مشدداً؛ لكثرة الصحف، أو لشدة التطاير. (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) كما يكشط الجلد من المسلوخ (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) أوقدت إيقاداً شديداً. وقرأ نافع وابن ذكوان وحفص بتشديد العين، والأبلغية فيه كما في سجِّرت. (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) قرّبت من المؤمنين كقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) هذه اثنتا عشر خصلة ستٌّ منها في الدنيا، وستٌّ في الآخرة. (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) جواب (إِذَا الشَمْسُ كُوِّرَتْ) وما عطف عليه، وهو العامل فيها. والمعنى: علمت كلّ نفس؛ لقوله. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ)، وإنما نكّره؛ لأن الكلام صادر عن مقام الكبرياء إشارة إلى أن من يكَوِّرُ يعتبر هذه الأجرام العظام فعله يستقلّ النفوس الإنسانية في جنب قدرته، فهي كنفس واحدة. (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) هي الكواكب؛ لأنَّها تخنس أي: تتأخر في المغيب، أو تختفي، ومنه سمي الشيطان خناساً؛ لأنه يتأخر إذا ذكر اللَّه. وقيل: هي السيّارة دون الثوابت. وقال الفراء: " هي الخمسة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ".

(16)

(الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) التي تكنس أي: تستتر، من كنس الظبي: دخل في كناسه، وقيل. تظهر بالليل بعد الخنس بالنهار. (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) أدبر؛ لقول العجاج: حتى إذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسا ... وانْجابَ عَنْها لَيْلُها وَعَسْعَسا وقيل: أقبل، وهو من الأضداد. وكلا المعنين حسن. (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) النهار بغشيان الليل يصير كالمكروب، فجعل تخلصه منه بانكشاف الليل عنه كتنفس المكروب بعد زوال الكرب، أو جعل نسيم الصباح؛ لاشتماله على الروح كالتنفس المفرج عن القلب. (إِنَّهُ ... (19) أي: القرآن. (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) عند اللَّه، وهو جبرائيل. وكون القرآن قوله؛ لملابسة التبليغ. (ذِي قُوَّةٍ ... (20) أي: قوة كقوله: (شَدِيدُ الْقُوَى) (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) ذي مكانة وعزٍّ.

(21)

(مُطَاعٍ ... (21) بين الملأ الأعلى والكروبيين. (ثَمَّ أَمِينٍ) أي: عند اللَّه موصوف بالأمانة على وحي اللَّه وتنفيذ أوامره. (وَمَا صَاحِبُكُمْ ... (22) أي: رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. (بِمَجْنُونٍ) كما تزعمون. [وليس الكلام مسوقاً للموازنة والمفاضلة بين جبرائيل ورسول اللَّه عليهما السلام حتى يستدل بتلك الأوصاف الفاضلة على أفضليته على المرسل إليه، بل مسوق؛ لبيان حقية المنزل. ولا شكّ أنَّ وصف الآتي به بتلك الصفات الكوامل يشد من أعضاده أبلغ شد، ألا يرى إلى مقام الحث على اتباعه كيف جعله سراجاً منيراً ورحمة للعالمين]. (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) بمطلع الشمس الأعلى. (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ ... (24) أي: محمد في إخباره عن المغيبات. (بِضَنِينٍ) بمتهم؛ ولذلك تعدى إلى مفعول واحد، أي: ولا يتهم فيما يوحى إليه بنقص أو زيادة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: بالضاد وعليه الرسم، أي. ليس ببخيل في تبليغ ما أوحي إليه. والأول أوفق بقوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) وقوله. (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ونظائرها. (وَمَا هُوَ ... (25) أي: القرآن. (بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) مطرود، تصريح بما علم ضمناً ونفي للكهانة والتنجيم، ولتقابل به (رَسُولٍ كَرِيمٍ). (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) شبه عقولهم عن الحق واتباعه بالعدول عن الجادة والذهاب عنها إلى المهالك من الفيافي والمفاوز. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ... (27) موعظة. (لِلْعَالَمِينَ) من الثقلين. (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) بدل من (الْعَالَمِينَ)؛ لأنهم المنتفعون بالتذكير.

(29)

(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... (29) مشيئتكم، حذف؛ لدلالة الفعل عليه. (رَبُّ الْعَالَمِينَ) مالكهم والمتصرف فيه، فلا يكون شيء إلا بإرادته ومقتضى مشيئته. * * * تمت سورة التكوير، والحمد للواحد الخبير، والصلاة على البشير النذير، وآله وصحبه كل صغير وكبير. * * *

سورة الانفطار

سُورَةُ الانْفِطَارِ مكية، وآيها سبع عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) انشقت (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) تساقطت. (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) بعضها إلى بعض بإزالة البرزخ فتصير بحراً واحداً، ثم تنشق الأرض فتبقى مستوية (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) بعثت موتاها. والتاء زائدة للإلحاق مبالغة، مثله بحشر لفظاً ومعنى. (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) ما قدمت من الأعمال الصالحة وما ضيعت، أو ما أخرت من سنة حسنة أو سيئة، أو ما قدمت في أول عمرها وما أخرت في آخره. (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) أيِّ شيءٍ جرَّأك على عصيانه. وذكر الكريم؛ للمبالغة في المنع عن الاغترار، وللإشارة إلى أن الباعث على ذلك إنما كان تسويل الشيطان بأن ربَّك كريم يعفو ويغفر. وقيل؛ إنما ذكر وصف الكريم من كرمه تلقيناً له

(7)

ليقول: غرني كرمك. وهذا باطل؛ لأنَّ الإنسان المذكور خاص بالكافر؛ لقوله: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ)، أو عام له وللمؤمن؛ لقوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)، ولا وجه لتلقين الكافر حجته. (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) الذي أوجدك سويّاً، تامَّ الخلق، معتدل الأعضاء، فلا يد أطول من أختها، ولا عين أوسع من نظيرتها، وكذا ماثل بين سائر الأطراف. وقرأ الكوفيون: " عَدَلَكَ " مخففاً، من العدل وهو الميل فكالمشدد إلا ما فيه من المبالغة أو الصرف، أي: نحا بك عن خلق سائر الحيوانات، أو إلى شبه الأبوين، أو إلى الطول والقصر، أو الذُّكورة والأنوثة. (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) أي: ركبّك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته، فـ " ما " زائدة، و " أَيِّ " للصفة، ولمّا أريد التعميم حذف موصوفها، ويجوز تعليقها بـ (عَدَلَكَ) أي: عدلك في صورة وأيّ صورة. كقولك: مررت برجل أيِّ رجل، وحذف الموصوف؛ لزيادة التفخيم والتعجب، ثم قال (مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) أي: ركبّك ما شاء أي: تركيياً بديعاً.

(9)

(كَلَّا ... (9) ردع عن الاغترار بكرمه. (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إضراب إلى ما هو السبب الأصلي في الاغترار وهو تكذيب القرآن والرسل بوقوع الجزاء. فإن قلت. هذا إنما يستقيم إذا أريد بالإنسان الكافر، أما إذا كان عاماً فلا. قلت: إذا كان عاماً يكون خطاباً للكل بما وجد بينهم. (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) جملة حالية، أي: إنكم تكذبون بالجزاء، والحال أن شأنه أمر خطير، مع علمه الشامل قد وكّل بكم من يحفظ عليكم النقير والقطمير، وأثنى على الكتبة إشارة إلى عظم أمر الجزاء. (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) اللام للعهد. وهم الذين يكذبون بيوم الدين؛ لقوله: (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) كقوله: (وَمَا همْ منهَا بمُخرَجِين) صريح في سرمدية العذاب، ثمّ فخّم شأن الجزاء بتفخيم يومه بقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) أبهم أمره، وخاطب أعلم الخلق بأنه لم يحط بكنه ذلك اليوم، وكرّر ذلك، وآثر " ثم " للتراخي رتبة؛ إشارة إلى أنه مهما ترقى في العلم لم يبلغ ذلك، ثم أجمل بقوله:

(19)

(يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) تقريراً لشدة هوله وفخامة أمره. وقرأ ابن كثر وأبو عمرو. " يومُ "؛ بالرفع خبر مبتدأ، أَي: يوم الدين يوم لا يملك، أو بدل كل منه ومن قرأ بالفتح بناه؛ لإضافته إلى غير المتمكن، كقول علي - رضي الله عنه -: أيَوم لم يُقدر أم يَومَ قُدر ... من أيِّ يِومَي زمنَ الموت أَفرّ ... * * * تمت سورة انفطرت، والحمد لمن آلاؤه تواترت، والصلاة على من آياته بهرت، وآله وصحبه ما غابت النجوم أو لمعت. * * *

سورة المطففين

سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ آيها ست وثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) التطفيف: نقص الكيل والوزن، من الطفف وهو القليل؛ لأن الذي يسرق من كيل أو وزن واحد لا يكون إلا قليلاً، وعن الزجاج: مأخوذ من طفّ الشيء: جانبه. روى النسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما " أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وهم أخبث الناس كيلاً، فنزلت، فأحسنوا الكيل ". وروى أنه لما قرأ الآية عليهم قال: " خمس بخمس ما نقض قوم العهد إلا سلط اللَّه عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل به إلا سلط عليهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا أخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر ".

(2)

(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) أي: إذا اكتالوا لأنفسهم ما لهم على الناس يأخذونه كملاً. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أي: كالوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل، أو مكيلهم فحذف المضاف. وقيل: الضمير للفصل راجع إلى المطففين وليس كذلك؛ لأن الغرض بيان اختلاف حالهم في الأخذ والإعطاء لا بيان المباشرة وعدمها، ولاستدعائه إثبات الألف بعد الواو كما في نظائره، ولم يذكر الاتزان مع الاكتيال اكتفاء به. وقيل. كأنهم كانوا يأخذون الموزون بالمكيال ليتمكنوا من الاستيفاء والسرقة لاحتمال أن تزعزع الكيل ويحتال في المليء، بخلاف الميزان؛ لأنه لا يقبل ذلك. (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) صدر الكلام بحرف التنبيه إيقاظاً، وذكر الظن؛ دلالة على أن الظن كاف في الكَفِّ عن التطفيف، كيف والفاعل قاطع متيقن؟. ووصف اليوم بالعِظَمِ؛ لعِظمِ ما يقع فيه. واسم الإشارة للشتم نحو: ذلك اللعين. وكل هذه التشديدات ليس من حيث التطفيف؛ بل لأن الميزان قانون العدل الذي به قامت السماوات والأرض.

(6)

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) نصب بـ (مَبعُوثونَ)، أو بدل من الجار والمجرور. روى البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - " أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ". (كَلَّا ... (7) ردع عن التطفيف. (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) عقب ذكر التطفيف حديث الفجار؛ زيادة تنفير عنه. والسجّين: فعيل من السجن وهو الضيق، سمي به الكتاب الجامع لأعمال الشياطين والكفرة؛ لأنه سبب للتضييق، أو لأنه مطروح في مكان مظلم تحت الأرض السابعة، فيقدّر مضاف أي: أن موضع كتاب الفجار، ونقل الواحدى بإسناده: " أن السِّجِّين بئر مفتوح في جهتم ". والغرض من وصف كتابهم بالوصف الشنيع تقبيح حالهم وسفالة محلّهم. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، أو مسطور بيّن الكتابة. وإن كان اسم موضع فالتقدير: ما كتاب السجين، أو محلّ كتاب مرقوم، حذف منه المضاف.

(10)

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وصف مؤكد أو ذامّ؛ لأنَّ اللام في المكذبين للعهد. (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ ... (12) متجاوز عن الحدّ حيث تقلد فيما لا يصح فيه، وقطع النظر عن الآيات والنذرَ (أَثِيمٍ) كثير الإثم منهمك في الشهوات حيث شغله ذلك عن التفكر. (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) من فرط جهله وعدم تأمله، لا ينفعه شواهد النقل كما لا ينفعه دلائل العقل. (كَلَّا ... (14) ليس الأمر كما قالوا من أنه أساطير (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الرين: صدأٌ يعتري القلب من تكاثر الذنوب. عن الحسن: " هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب ". روى النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أذنب العبد ذنباً كانت نكتة في قلبه فإن هو نزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد ازدادت حتى يعلو القلب فهو الرين الذي قال اللَّه تعالى: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ".

(15)

(كَلَّا ... (15) ردع عن الكسب الرائن (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) تمثيل لحالهم في الإهانة بحال من استأذن على ملك فلم يؤذن له. (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) لداخلون النار لا محالة. (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) تقريعاً لهم، وزيادة في العذاب. (كَلَّا ... (18) تكرير للأول؛ ليعقب له وعد الأبرار كما عقب به وعيد الفجار، أو ردع عن التكذيب (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) علم كتاب الأبرار، أو موضع يكون فيه الكتاب. جمع علّيّ في الأصل، من العلو، سمي به؛ لأنه سيب العلو والارتفاع في الجنة، أو لأنه مرفوع إلى السماء السابعة. (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) الكروبيون يحفظون منه المعارف، أو ليشهدوا على ما فيه يوم القيامة. (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) على الأسرة الحجال ينظرون إلى ما شاءوا مدّ أبصارهم مما تستلذه الأعين. (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) بهجة التنعم ورونقه كما ترى وجوه أهل الثروة والملوك في الدنيا. (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ ... (25) من أسماء الخمر (مَخْتُومٍ)؛ لئلا يبتذله الأيدي.

(26)

(خِتَامُهُ مِسْكٌ ... (26) مكان الطينة في أباريق الملوك، وهذا غاية الإكرام. وقرأ الكسائي: وخاتَمه بفتح التاء وهو ما يختم به، كالأول. وقيل: معنى الأول أنَّ المسك سرى إلى آخره. (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) فليرتغب المرتغبون. (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) اسم عين، في الأصل مصدر سنَّمَة: إذا رفعه. إما لأنها أرفع شراب في الجنة، أو لأنَّها تجري في الهواء متسنمة، فتنصب في أوانيهم. (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) صِرفاً؛ لأنهم لم يلتفتوا إلى غير طاعة اللَّه تعالى ولم يشغلوا سرِّهم بغيره، وانتصاب " عَيْنًا " على المدح، أو الحال " مِنْ تَسْنِيمٍ "، و " الباء " في " بِهَا " مزيدة، أو بمعنى " مِن ". (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) هم أبو جهل وأضرابه كانوا إذا رأوا صهيباً وبلالاً وعماراً، وسائر الفقراء يضحكون استهزاء بهم. (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) يشير بعضهم إلى بعض بالعين والحاجب استحقاراً.

(31)

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) مستلذين أشراً وبطراً مما هم فيه من الحطام، وبما فيه فقراء الصحابة - رضي الله عنهم - من الضنك واللأواء. وقرأ حفص: " فَكِهِينَ " مقصوراً، والمد أولى؛ لوجود ذلك وقت الانقلاب. والرسم على القصر. (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) طريق الرشاد في اتباع محمد وترك دين الأشياخ. (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) موكلين بهم حتى يقولوا فيهم بالضلال والرشد. رد منه تعالى عليهم، أو هو كلام الكفار لهم إذا دعوهم إلى الإيمان. وكان الظاهر: وما أرسلوا علينا حافطين إلا أنه سلك طريقة الغيبة كقولك: قال زيد ليفعلن كذا. (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) بدل ما كانوا يضحكون منهم في الدنيا. (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) حال من " يَضْحَكُونَ ". (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) المخاطب: هم المؤمنون عَلَى الْأَرَإئِكِ إذا نظروا إلى الكفار في جهنم؛ زيادة في سرورهم، وأن اللَّه تعالى قد كافأهم. والتثويب: الإثابة، استعمل في العذاب؛ تهكماً، والاستفهام للتقرير. * * * تمّت سورة التطفيف، والحمد للكريم اللطيف، والصلاة على الرسول الشريف، وآله وصحبه ذوي الفضل المنيف. * * *

سورة الانشقاق

سُورَةُ الانْشِقَاقِ مكية، وآيها خمس وعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) أي: بالغمام وتنزل فيه ملائكة العذاب كقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا). وعن علي - رضي الله عنه -: " تنشق من المجرة". (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا ... (2) واستمعت له، من الإذن وهو الاستماع. والمعنى: أطاعت لما أريد منها من الانشقاق إطاعة المأمور إذا ورد عليه أمر من الآمر المطاع. (وَحُقَّتْ) وكانت محقوقة جديرة بالإطاعة؛ لورود أمر القاهر المقتدر الذي لا يتأبى عليه مراد. والجواب محذوف؛ ليذهب المقدر كل مذهب، أو اكتفاء بما علم في سورتي التكوير والانفطار. وقيل: الجواب: ما دل عليه (فَمُلَاقِيهِ) أي: إذا وقع ذلك لاقى الإنسان كدحه، أو (فَمُلَاقِيهِ) على أنَّ (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) اعتراض.

(3)

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) عن ابن عباس: " مدِّ الأديم العكاظي (لَا تَرَى فيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) "، أو هو من المدد أي: زيدت سعة وبسطة، والأول أظهر؛ إذ إيجاد أَجزاء أخر مضافة لم يشهد له خبر ولا أثر. (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا ... (4) من الأموات والكنوز (وَتَخَلَّتْ) غاية الخلو؛ لدلالة التفعّل على التكلف. كأنها كلفت أن تبلغ في ذلك غاية الجهد. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) أي: في إلقاء ما في بطنها وتخليها، ولا تكرار؛ لأن الأول في السماء وهذا في الأرض. (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) الكدح: الجد والجهد في العمل. والضمير في (فَملَاقيهِ) للرب أَي. لا مفرّ لك منه، أو للكدح أي: ملاقٍ جزاءه كما في الحديث. " إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالكُمْ تردّ إليكم " ثم فصل ذلك بقوله:

(7)

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) سهلاً من غير مناقشة تشق عليه. روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي اللَّه عنها: " أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس أحد يحاسب إلا عُذِّب قلت: أو ليس اللَّه يقول: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) قال: ذَلِكِ الْعَرض وَلَكِنْ مَنْ نوقِشَ الْحِسَاب هلك ". وعنها: " سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللَّهم حاسبني حسابا يسيرا قلت: يا رسول اللَّه ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه ". (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ ... (9) أي: عشيرته، أو إلى فريق المؤمنين، أو إلى أهله في الجنة من الحور والولدان. (مَسْرُورًا) فرحاً. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) تغلّ يمناه إلى عنقه، وتثنى شماله إلى وراء ظهره. (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) أي: يدعو بالويل والهلاك.

(12)

(وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي: بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، من التصلية كقوله: (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) معدى إلى مفعولين. (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) سرور بطر بالمال والجاه، لا يخطر بباله أمر الآخرة. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) تعليل لذلك السرور. (بَلَى ... (15) إيجاب بعد النفي بـ " لن ". أي: ليحورنَّ لا محالة. والحور: هو الرجوع. وفي الحديث: " نعوذ باللَّه من ْالحَوْر بعد الكَوْر " أي: الرجوع عن الدين بعد الدخول فيه. (إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) فيجازيه على أعماله. (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَفَقِ (16) وهي الحمرة بعد مغيب الشمس، وعن أبي حنيفة: هي البياض، وروى أسد بن عمرو: أنه رجع عن ذلك، مأخوذ من الشفقة؛ لرقته.

(17)

(وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وما أحاط به الليل من الكائنات، من الوسق وهو الجمع. (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) انتظم واجتمع نوره إذا كان بدراً. (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) أي: حالاً متجاوزاً عن الآخر في الشدة، وهي الموت وما بعده من الأهوال. والطبق: ما طابق غيره أي: وافقه، ومنه أطباق الثرى، والطبق: الغطاء. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء على أنه خطاب لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وعد له بالإسراء أي: لتسلكن أطباق السماوات في المعراج، أو لكل أحد من أفراد الإنسان نظراً إلى لفظه أي: لفظ الإنسان فإنه مفرد. (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) بالبعث بعد ظهور دلائله. (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) لا يخضعون إكراماً له؛ لدلالة إعجازه على أنه كلام اللَّه. واستدل به أبو حنيفة رحمه اللَّه على وجوب السجود؛ لأنَّ الذم لا يكون إلا على ترك الواجب. روى مسلم والبخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " أنه سجد فيها وقال سجدت خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه ". قيل:

(22)

قرأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فسجد وسجد معه المؤمنون فصفق المشركون وتضاحكوا فنزلت: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) بالقرآن، والدليل إنما ينفع المسترشد. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) بما يضمرونه من الكفر والرذائل، أو بما يجمعونه في صحائف أعمالهم. (فَبَشِرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) تهكم بهم. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... (25) استتناء منقطع، أو متصل بتقدير الضمير أي: منهم. (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) مقطوع، أو مشوب بالمنة. * * * تمّت سورة الانشقاق، والحمد للواحد الخلَّاق، والصلاة على الكامل بالاتفاق، وآله وصحبه إلى يوم التلاق. * * *

سورة البروج

سُورَةُ الْبُرُوجِ مكية، وآيها اثنتان وعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) هي البروج الاثنا عشر المشهورة. والإقسام بها؛ لأن سير الشمس فيها، وبه نيط نظام العالم السفلي. أو منازل القمر؛ لأن تلك البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلاً. أو الكواكب العظام. أو أبواب السماء، فإنَّ النوازل يظهر منها. وأصل التركيب للظهور، ومنه تبرج المرأة. (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) يوم القيامة. (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) عن أبي هريرة وأبي مالك الأشعري عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة " وكذا عن سعيد بن المسيب، وعن ابن عباس

(4)

- صلى الله عليه وسلم -: " الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة؛ وعن سعيد بن جبير: " الشاهد: هو اللَّه، والمشهود: يوم القيامة ". (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) دليل جواب القسم، أي: أقسم أنَّ قريشاً لملعونون، أحقاء بأن يقال فيهم: قتلوا كما قتل أصحاب الأخدود. وقيل: المذكور هو الجواب. والأول: هو الوجه، لأنَّ الكلام مسوق لتصبير المؤمنين وتهديد المشركن كما دل عليه آخر السورة. والأخدود: جمع خدّ وهو الشق. وفي الحديث: " أَنْهَارُ الجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدود " والقصة على ما رواها مسلم: " أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه كان فيمن كان قبلكم ملك كافر له ساحر، فلما كبر سأل الملك أن يدفع إليه غلاماً ليعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً، وكان في طريق الغلام راهب على ملة عيسى، فسَمِعَ الرَّاهِبَ وأَعْجَبَهُ كلامه، فانقطع من الساحر إلى الراهب، فكان يضربه الساحر لانقطاعه، فقال له الراهب، إذا قال لك الساحر ما حبسك عني قل حبسني أهلي، وإذا سألك أهلك قل حبسني الساحر، فمرّ يوماً على دابة عظيمة في الطريق قد حبست الناس، فأخذ حجراً فقال: " اللَّهم إن كان أمر الراهب أحب

إليك من الساحر فاقتل هذه الدابة "، فرماها فقتلها فأخبر الراهب فقال: " إنك أفضل مني، وستبتلى فلا تدل عليَّ "، فشرع الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، وكان جليس الملك قد عمي، فأتى الغلامَ بأموال وقال: " اشفني "، قال. " الشافي هو اللَّه، فإن آمنت به دعوت اللَّه فشفاك "، فآمن فدعا الغلام فشفاه اللَّه، فلما حضر الملك قال. " من ردّ عليك البصر "؟ قال: " ربي "، قال: " أنا "؟ قال: " لا، ربي وربك اللَّه "، فأخذه يعذبه حتى دل على الغلام، فلما أتي به قال: " بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص "؟ قال: " الشافي هو اللَّه "، قال: " أولك ربٌّ غيري "؟ قال: " ربي وربك اللَّه "، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب، فقال للراهب: " ارجع عن دينك " فلم يرجع، فوضع المنشار على رأسه فشقه، ودفع الغلام إلى جماعة فقال: " اذهبوا به إلى ذروة شاهق فألقوه "، فلما علوا به الجبل، فقال: " اللَّهم أكفنيهم "، فرجف بهم الجبل فهلكوا عن آخرهم، فرجع الغلام سالماً، فسأله الملك عن القوم؟ فقال: " هلكوا "، فدفعه إلى نفر وقال: " اجعلوه في قرقور " فإذا توسطتم البحر فألقوه في البحر "، فلما توسطوا البحر قال: " اللَّهم اكفنيهم "، فغرقوا ورجع الغلام إلى الملك، فقال: " ما فعل أصحابك "؟ قال: " غرقوا "، ثم قال للملك: " أنت لا تقدر على قتلي إلا إذا فعلت ما آمرك به، اجمع الناس في صعيد واحد واصلبني، وخذ سهمًا من كنانتي وقل: بسم اللَّه ربِّ الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قدرت على قتلي "، ففعل ذلك فقُتل الغلام، فقال الناس: " آمنا بربِّ الغلام " فأمر بأفواه السكك فخدّت أخاديد وأضرمت فيها النيران وقال: " من رجع عن دينه فدعوه "، فكانوا يتعادون ويتدافعون إلى النار رغبة في الموت على الدِّين، فجاءت امرأة تحمل رضيعا فتقاعست فناداها الرضيع: " يا أمِّاه اصبري فإنك على الحق "، فألقت نفسها مع الصبي ". وعن عليٍّ: أنهم حين اختلفوا في

أحكام المجوس، قال: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين به، فشرب بعض ملوكهم الخمر، ووقع على أخته، فلمّا صحا ندم وطلب المخرَجَ، فقالت أختُه: المخرج أن يخطب ويقول في الخُطبة: أيها الناس إنَّ اللَّه قد أحلّ نكاحَ الأخواتِ، ثم بعد ذلك تَخْطُبُ وتقول: إنَّ الله قد حرّم ذلك، فخطب، فلم يقبلوا منه فبسط فيهم السوطَ فلم يقبلوا، فقالت: ابسِطْ فيهم السيفَ، ففعل فلم يقبلوا، فأمرتْه بالأخدودِ وإيقادِ النار وإلقاء من أبى فيها ". وروى ابن إسحاق: أنَّ رجلا عالماً من علماء النصارى وقع بنجران فدعاهم إلى دين عيسى فآمنوا به فسار إليهم ذو نواس اليهودي من بلاد اليمن، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا،

(5)

فأحرق منهم اثني عشر ألفاً، وقيل سبعين ونجا منهم رجل فلحق بقيصر، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يحثه على قتال ذي نواس ونصر دين عيسى، فأرسل النجاشي جيشاً أميرهم أرياط فهزم ذا نواس اليهودي، حتى دخل البحر في سفينة وغرق فيها، واستمر مُلك اليمن في يد الحبشة سبعين سنة حتى استنقذه سيف بن ذي يزن من أبناء تبع وهو الذي أخبر عبد المطلب بشأن رسول اللَّه وصفاته ". (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) النار بدل اشتمال. و (ذَاتِ الْوَقُودِ) صفة لها بالعظمة وكثرة الوقود من الحطب والناس. قيل: كان طول الأخدود أربعين ذراعاً في عرض اثني عشر. (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) ظرفا لـ " قتل "، أي: لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها.

(7)

(وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه سعى في إحراقهم ولم يقصر، أو يشهدون يوم القيامة على أنفسهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ). (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) أي: وما عابوا منهم إلا أفضل المناقب، وأحسن الخصال وهو الإيمان بمن هذه صفاته، من كونه غالباً على كل شيء، منعماً محموداً على نعمه. كقوله: وَلا عَيبَ فيهِم غَيرَ أَن سييوفَهُم ... بِهِنِّ فُلولٌ مِن قِراعِ الكَتائبِ. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) أعاد المظهر؛ للدلالة على أنَّ شمول العلم شأن الألوهية ومن لوازمها. (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ... (10) يشمل أصحاب الأخدود وغيرهم (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) لكفرهم. (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) نار أخرى عظيمة تتسع بهم كما يتسع الحريق لفتنتهم، وقيل: هم أصحاب الأخدود لما روي " أنَّ النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ". (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) الذي يستحقر ملك الدنيا دونه.

(12)

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) البطش: هو الأخذ بالشدة والعنف. فالوصف بالشدة زيادة مبالغة، ثم قرر ذلك بقوله: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) ومَن هذا شأنه يكون بطشه وانتقامه من أعدائه في نهاية الشدة، وقيل: يبدئ البطش في الدنيا ويعيده في الآخرة، وهذا يلائم ما قيل: إنَّ النار انقلبت على أصحاب الأخدود. وَهُوَ الْغَفُورُ ... (14) للذنوب (الْوَدُودُ) لمن تاب (ذُو الْعَرْشِ ... (15) خالق العرش، أو كنى به عن الملك (الْمَجِيدُ) خبر رابع لـ " هو ". ومجد اللَّه عظمته وكبرياؤه. وقرأ حمزة والكسائي بالجر صفة العرش، والمراد به: عظمة جرمه، أو اتساع الملك؛ دلالة على كمال الاقتدار. والرفع أولى؛ لكونه غالباً في صفاته تعالى. (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) لا يتأتى عليه مراد. خبر مبتدأ محذوف، لدلالته على تحقق الوصفين: البطش بالأَعداء، والمغفرة والودّ للأولياء. ولو جعل خبر " هو " المذكور " فات " ولا يخفى ما في التنكير وزيادة اللام من الفخامة. (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) أبدلهما عن " الجنود "؛ لأنَّ المراد: فرعون وملأه، وضمّ ثمود إليه دون غيرهم؛ لقرب بلادهم، ورعاية للفاصلة. والمعنى: قد أحطت علماً بتكذيبهم، وما حاق بهم؛ تسلية له وتهديد لقومه. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) في الإضراب دلالة على أن حال هؤلاء أعجب من أولئك، فإنهم سمعوا بأخبارهم وشهدوا آثارهم وهم مستغرقون في التكذيب.

(20)

(وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) علماً وقدرة، لا يفوته أحد. جملة معترضة. (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) أي: ما كذبوا به قرآن شريف معجز. في الإضراب ترقٍّ، وإشارة إلى أنَّ تكذيبه خارج عن سائر أنواع التكذيب. (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) عن جمهور الملائكة، لا يطلع عليه إلا بعض المقربين، فكيف يكون كذباً؟. * * *

سورة الطارق

سُورَةُ الطَّارِقِ مكية، وآيها سبع عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) الطارق: من الطرق وهو القرع والدّق، أطلق على الآتي بالليل؛ لأنه يحتاج إلى دق الباب. والمراد به: الكوكب؛ لظهوره بالليل. (النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) أبهمه أولاً ثم فسّره؛ إظهاراً لفخامه شأن المقسم به. والثاقب: المضيء كأنه يثقب الظلام بنوره. (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) إن: هي المخففة، و " اللام ": الفارقة، و " ما " مزيدة. أي: إنَّ الشأن كل نفس عليها حافظ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: لمّا بتشديد الميم بمعنى: إلَّا، على إن " إن " نافية، والجملة جواب القسم. (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) أي: لما ثبت أن عليه حافظاً، فلينظر في نفسه، فإنها أقرب الأشياء إليه، وكيفية تَكَوّنها، فإن ذلك النظر يوصله إلى الحافظ الحقيقي، ويعرفه أنه لم يخلق سدى. (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) ذي دفق نسبة كَلاَبنٍ وتَامِر. أو إسناد مجازي وصف بوصف صاحبه. (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) أي: صلب الرجل وترائب المرأة: موضع القلادة، أو ما بين ثدييها. كذا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، جمع تربة. ولا ينافي قول الأطباء أنه

(8)

يتولد من جميع أجزاء البدن بعد الهضم الرابع، فيأخذ من كل عضو ما يستعد لأن يكون عضواً آخر مثله؛ لأنه نبّه مع الاختصار على الأعضاء التي هي أصول في التولد، وذلك أن الترائب تشمل القلب والكبد والكلى، والصلب الدماغ؛ لاتصال النخاع بالدماغ، وينزل من الدماغ شعب إلى مقدم البدن، وهي الترائب، على أنَّ كلامهم مبناه على الأوهام والظنون، وكلام اللَّه تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. (إِنَّهُ ... (8) أي: اللَّه تعالى، فخّم أولاً بترك الفاعل في (مِمَّ خُلِقَ)، وثانياً بالإضمار؛ لعدم ذهاب الوهم إلى الغير. (عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) أي: على إعادة الإنسان، وقيل: الضمير للماء أي: يقدر على رجعه إلى مخرجه. (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) منصوب بـ (رَجْعِهِ)، والفاصل ليس بأجنبي؛ لأنه متعلّق الجار، أي: تكشف وتظهر. جمع سريرة وهي ما أخفي من العقائد والأعمال. (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) من منعة في نفسه ولا من غيره. (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) ذات المطر، سمي رجعاً؛ تفاؤلاً، أو لأن اللَّه يرجعه وقتاً وقتاً، أو لأن العرب تزعم أن السحاب يُحمل من بحار الأرض ثم ترجعه إلى الأرض. (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) النبات، أو الشَّق بالنبات والعيون. (إِنَّهُ ... (13) أي: القرآن، أو ما أخبرتم به من الاقتدار على الإحياء، والأول أولى؛ لتناوله هذا وغيره. (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) حدٌّ فاصل بين الحقِّ والباطل (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) في شيء، بل جدُّ كله.

(15)

(إِنَّهُمْ ... (15) أي: أهل مكة (يَكِيدُونَ كَيْدًا) يجتهدون في نصب المكائد وإطفاء نوره، يسمونه شعراً وسحراً وكهانة. (وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) بإفاضته النعم عليهم، والعافية في مقابلة ذلك؛ استدراجاً ليزدادوا. (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ ... (17) إلى الوقت المضروب لهم في علمه تعالى. (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) إمهالًا يسيراً، كرر؛ مبالغة في التسكين والتصبير، وخالف؛ لأنه أوكد من مجرد التكرار. * * * تمت سورة الطارق، والحمد للخالق، والصلاة على الكامل الصادق، وآله وصحبه ما لمع شارق. * * *

سورة الأعلى

سُورَةُ الْأَعْلَى مكية، وهي سبع عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الخطاب عام، أو له وأمته تبع. وكما يجب أن ينزه ذاته عمّا لا يليق من الأوصاف، فكذا الأسماء الدالة عليه تحمل على معاني الكمال والجلال، وتصان عن التأويلات الزائغة، وأن لا يذكر إلا على وجه التعظيم؛ تأدباً بآداب اللَّه. ألا يرى إلى قوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) كيف يرشد إلى ذلك؟ (الأعلى) الأولى جعله صفة للاسم، ويجوز أن يكون وصفاً للرب. عن عقبة بن عامر قال: " لما نزل (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال لنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوه في ركوعكم، ولما نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال: اجعلوه في سجودكم ".

(2)

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) خلق كل شيء فسواه، بأن جعل له ما يتأتى كماله به ويتم معاشه. (وَالَّذِي قَدَّرَ ... (3) الأشياء أجناساً وأنواعاً وأشخاصاً. (فَهَدَى) بنصب الدلائل، والإلهام وإرسال الرسل، وإنزال الآيات. قرأ الكسائي: "قَدَرَ " مخففاً من القدرة، والتشديد أبلغ وأوفق بسائر الآيات. (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) النبات الذي ترعاه الدواب. (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) حطاماً أسود بعد خضرته ورفيفه. والأولى جعل " أحوى " حالاً من المرعى. أي: أخرجه أسود من شدة الخضرة، والفاصل بين الحال وصاحبها ليس أجنبياً. وفي تقديمه إشاره إلى سرعة طريان الجفاف كأنه قيل: إن يتمّ رفيفه يصير غثاء. (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) كأنه لما أمر بتنزيه اسمه خالج قلبه خوف النسيان، فبشره تعالى بإكمال قوته الحافظة بأن لا ينسى شيئاً. (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ... (7) نسيانه، ولا بأس عليه في ذلك. وفي الحديث: " إِنِّمَا أَنَا بَشرٌ أَنسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي "، أو

(8)

إلا ما شاء اللَّه نسيانه برفع تلاوته وحكمه، وقيل: نفى النسيان رأساً. وقيل: نهي، والألف للفاصلة. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) وقد علم خوفك من النسيان ولذلك أزاله عنك. أو عالم بالأحوال، ولذلك تنسى ما فيه حكمة ومصلحة، أو يعلم جهرك في القراءة مع جبرائيل مخافة فوت شيء منه، فلذلك ضمن لك حفظه. (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) نوفقّك للطريقة التي هي أيسر الطرق، وهي شريعته التي لا إصر فيها ولا إغلال كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " جئتكم بالحنيفية السمحاء لو كان ابن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي ". عطف على " سنقرئك ". وقوله: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) اعتراض. (فَذَكِّرْ ... (9) اشتغل بالتذكير بعد أمنك من النسيان. (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) كان مأموراً بالتبليغ والدعوة نفعت الذكرى أو لم تنفع، فلما دعاهم وبلغ في ذلك أقصى جهده حتى قال له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أشار إلى استبعاد النفع فيهم كأنه قال: افعل ما أمرت به لتؤجر، وإن كانوا أهل الطبع. أو المعنى: ذكّر

(10)

المؤمنين وأعرض عن هؤلاء (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) يؤيده قوله: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) يخشى اللَّه فإنه يتفكر في الآيات ويتعظ بالمواعظ. (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) أي: الكامل في الشقاوة وهو الكافر. و " أفعل " للزيادة المطلقة؛ لدخول الفاسق في السعداء في قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ). (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) نار جهنم في مقابلة النار الصغرى وهي نار الدنيا، أو الدرك الأسفل. (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ... (13) فيستريح. (وَلَا يَحْيَى) حياة طيبة. " ثم "؛ للدلالة على أن كونه لا ميتاً ولا حياً أقطع من دخول النار. وروى مسلم عن أبي سعيد عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " أنّ أهل النار الذين لا يريد اللَّه إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون؛ والذين يريد إخراجهم يميتهم فيها إماتة ثم يخرجون فيلقون في أنهار الجنة ". (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) تطهر من أوضار الشرك والمعاصي، أو تكثّر من صفات التقوى، أو تطهّر للصلاة، أو آتى الزكاة. والرواية عن علي: " أن المراد زكاة الفطر ". لا

(15)

تصح؛ لأن السورة مكية، ولا عيد بها ولا فطر. والأوجه حمله على التزكي في الأعمال والإخلاص فيها؛ لقوله: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ). (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) ولا دلالة فيه على تكبيرة الافتتاح ليستدل به على خروجها عن الصلاة. وجواز قيام سائر الأذكار مقام التكبير. (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) الخطاب عام أو خاص بأهل مكة. والمضرب عنه (قَد أَفْلَحَ)، أو (ذَكَرَ) أي: تؤثرون الحياة على الفلاح أو الذكر، وقرأ أبو عمرو بالغيبة باعتبار (الْأَشْقَى) إذا لم يرد به معين. والخطاب أولى؛ لقول ابن مسعود - رضي الله عنه - " عجلت لنا الدنيا فآثرناها "، ولقراءة أُبيٍّ: (بَلْ أَنتمْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدنيا) وفيه إشارة إلى قلة النفوس الكمّل، على أسلوب (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَكُورُ). (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إذ نعم الدنيا لا تشارك نعم الآخرة إلا في الاسم مع سرعة زوالها.

(18)

(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) المشار إليه جميع ما في السورة، أو (قَدْ أَفْلَحَ منْ تَزَكَّى)، أو (خَيْرٌ وَأَبْقَى). والأول أعمِّ وأصح؛ لما روى النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلها ". (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) روي عن أبي ذر أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنزل اللَّه تعالى مائة وأربعة كتب، على آدم عشر صحائف، وعلى شيت خمسين، وعلى إدريس ثلاثين، وعلى إبراهيم عشراً، والتوراة والزبور، والإنجيل، والفرقان ". * * * تمت سورة الأعلى، والحمد لمن له الأسماء الحسنى، والصلاة على صاحب المعراج والإسراء، وآله وصحبه أولي الفضائل والتقى. * * *

سورة الغاشية

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ مكية، ست وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) أي: القيامة؛ لأنها تغشى الناس بأهوالها وأفزاعها. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) ذليلة. (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) عملت في الدنيا وتعبت بلا نفع (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، أو " عاملة " في النار بجر السلاسل والأغلال، " نَاصِبَةٌ " في الصعود والهبوط في جبال النار وأوديتها. وقل: هؤلاء نُسّاك اليهود والنصارى أصحاب الصوامع كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. (تَصْلَى نَارًا ... (4) تدخلها، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر بضم التاء على بناء المفعول، من أصليته أدخلته النار وهو أبلغ وأوفق بقوله: " تُسْقَى ". (حَامِيَةً) في غاية الحرارة؛ لأنَّ النار لا تكون إلا حارة. (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5). متناهية.

(6)

(لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً فإذا يبس تتحاماه، وهو سمٌّ قاتل، ولا ينافيه (إلا مِنْ غسلِين)؛ لاختلاف طبقات الأكل، لبعضهم الغسلين، ولبعضهم الضريع، ولبعضهم الزقوم. أو بحسب الأوقات كمأكولات الدنيا، في كل فصل يؤكل ما يلائمه جزاء على ما كانوا فيه من التنقل في اللذات. (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) مرفوع المحل، أو مجروره على وصف " طعام "، أو " ضَرِيعٍ " أي: مع ما يقاسون منه في التناول لم تترتب فائدة الأكل؛ لأنَّ الغرض منه أحد الأمرّين. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) ذات بهجة ورونق كقوله: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ). ولم يعطف الوجوه على الوجوه عطف أحد الضدين على الآخر؛ لأن الإتيان هما على وجه الاعتراض استطراداً. (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) لما رأت من ثوابها. (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) علو المكان والمقدار. لَا تَسْمَعُ فِيهَا ... (11) في المخاطبة أو الوجوه. (لَاغِيَةً) كلمة ذات لغو أو لغواً أو نفساً تلغو فإن كلام أهل الجنة ذكر وحكم.

(12)

(فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) أي: عيون كثيرة كقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ) وقيل: التنكير للتعظيم. (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) سِمْكاً، أو قدراً. (وَأَكْوَابٌ ... (14) أباريق لا عرى لها. (مَوْضُوعَةٌ) عن حدّ الكبر أي: أوساط معتدلة، أو موضوعة بين أيديهم لا يحتاجون إلى الطلب، أو على حافات العيون؛ لأنَّها ألذ منظراً كما يتعاطاه أهل الشرب في مجالسهم. (وَنَمَارِقُ ... (15) جمع نُمْرُقة بضم النون والراء وكسرهما وهي الوسادة. (مَصْفُوفَةٌ) بعضها إلى بعض ليجلس حيث اختار كما يفعله الملوك في قصورهم؛ لئلا يحتاجوا إلى النقل. (وَزَرَابِيُّ ... (16) بُسُطٌ عِرَاضٌ فاخِرةٌ. وقيل: ما فيه حمل رقيق، جمع زَرِبيةٌ (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة، أو مفرقة في المجالس. أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) عاد إلى ما افتتح به السورة من ذكر القيامة وأهوالها. ولما كان الكلام مع العرب، وجلّ مالهم هي الإبل، ولم تزل مخيلتهم مشحونة بتخيل الماء والمرعى. فكما انتظم خيالهم الإبل، والمطر النازل من السماء المنبت في الجبال والأراضي الكلأ، انتظم الذكر على نحو ما انتظمه ذلك الخيال. وفي خلق الإبل، وإعضائها، وأخلاقها، من التحمل على المشاق، وسرعة الانقياد، مع عظم الجثة ما يقضي منه العجب. حكى بعض الثقات " أن قطاراً منها افتقدت، فوجدوها قد أخذ فأره بحبل

(18)

خطامها، فدخلت به بيتها، فتبعتها ". قال بعض الأدباء: " أردت أن أؤلف كتاباً في شرح خلقها، فتصورت أن لو فعلت جاء مجلدا ". (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) بلا عمد (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) نصباً راسخاً لا تميل ولا تزول في تلك المدد المتطاولة (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) حتى صارت مهاداً، سهل التقلب عليها. فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) بمتسلط كقوله: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) روى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النِّاسَ حَتَّى يَقُولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَإِذا قَالُوا عَصموا مِنِّي دِمَاءَهمْ وَأَموَالَهُم إِلا بِحَقِّهَا وَحسابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قرَأَ: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ". قرأ خلف عن حمزة بإشمام الصاد زاياً. ولخلاد وجهان: الصاد الخالصة، والإشمام. وهشام بالسين وهو الأصل. والباقون بالصاد وعليه الرسم.

(23)

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) استثناء منقطع، أي: ولكن من أعرض وكفر (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) عذاب الحريق في جهنم، وقيل: متصل فإن الجهاد مع الكفار تسلط عليهم، وقيل: استثناء من " فذكر " أي: فذكر إلا المعرض الكافر، وما بينهما اعتراض. (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) رجوعهم (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) لا محالة. سبق به الوعد، وفيه تسلية له، وتهديد لهم. * * * تمت سورة الغاشية، والحمد على نعمه الوافرة الوافية، والصلاة على من شفاعته كافية، وعلى آله وصحبه صلاة زاكية. * * *

سورة الفجر

سُورَةُ الْفَجْرِ مكية، وآيها تسع وعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالْفَجْرِ (1) هو الصبح. أقسم به كما أقسم به في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) وعن عكرمة ومحمد بن كعب: هو فجر يوم النحر. وقيل: بتقدير المضاف أي: وصلاة الفجر. (وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) عشر ذي الحجة قاله: ابن عباس ومجاهد رضي اللَّه عنهما. روى البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى اللَّه فيهن من عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد يا رسول اللَّه؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج بماله، ونفسه، ثم لم

(3)

يرجع بشيء منهما ". وإنما لم تعرّف الليالي العشر؛ لأنَّها ليال مخصوصة، فلو عرّفت كانت اللام للعهد، فلم يجانس السابقة واللاحقة. (وَالشَفْعِ وَالْوَتْرِ (3) الأشياء كلها، أو الخلق؛ لقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ). وقد أكثروا القول في الاحتمالات، ولا طائل تحته. وقرأ حمزة والكسائي: (الوِتر) بكسر الواو، وهما لغتان، والفتح أخف، ومصدر وَتِر أحق بالكسر لا غير. (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) إذا انقضى ومضى كقوله: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ). أثبت ياءه ابن كثير في الحالين، ونافع وأبو عمرو في الوصل، وحذَفَهُ الباقون اكتفاءً بالكسر. (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أي: هل في الأشياء المذكورة ما يحق عنده أن يكون مقسماً به؟، أو هل في الإقسام بها إقسام له؟. وعلى الوجهين أريد تعظيم المقسم به، ويلزم منه توكيد المقسم عليه، والاستفهام للتقرير. والحجر: العقل؛ لأنه يمنع صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية لذلك. وجواب القسم محذوف أي: ليعذبن، دلّ عليه قوله: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَّ سَوْطَ عَذَابٍ).

(6)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) ألم تعلم؟، والخطاب عام، وكان هذا متواترًا عند العرب. وعاد هو: ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح سميت أولاده عاداً، كما يقال لبني هاشم. (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) " إرم " عطف بيان لـ " عاد "؛ وذلك أن أولاد إرم سموا عاداً الأولى. وقيل " إرم " بلدتهم. وعلى الوجهين؛ منع الصرف للعلمية والتأنيث، وإنما وصفوا بذات العماد؛ لكونهم أهل خيام يسكنون البادية، أو لطول قامتهم. روي: " أن منهم كان أربعمائة ذراع "، فشبهت قدودهم بالأعمد. والظاهر: أن " إرم " اسم بلدة، و " ذات العماد " صفتها؛ لِما تواتر وكثر في الأشعار ذكرها. وقصتها: " أن عاداً كان له ابنان شدّاد وشديد. ملكا الأرض، وقهرا الملوك، ثم مات شديد واشتغل شدّاد بالملك، ملك الدنيا بأسرها بلا منازع، فسمع بذكر الجنة، وكان عمره إذ ذاك ستمائة سنة، فبنى مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من اليواقيت والزبرجد، في مدة ثلاثمائة سنة، وفيها الأشجار والأنهار المطردة، وكانت بأرض عدن، فلما تم بناؤها سار إليها بعسكره ليتمتع بتلك القصور والأنهار، فلما كان بينه وبين المدينة مسيرة يوم وليلة، صاح بهم مَلَكٌ صيحة هلكوا عن آخرهم ". وحكي أن عبد اللَّه بن قلابة خرج في طلب إبل له فاتفق دخوله فيها فحمل ما قدر عليه، وأتى به معاوية وأخبر الخبر " واللَّه أعلم.

(8)

(الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) صفة أخرى لـ " إرم ". وهذا أيضاً يؤيد أنها اسم البلدة، إذ لو كان اسم القبيلة كان المناسب لم يخلق مثلها في العباد. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) قطعوا الصخور واتخذوا فيها بيوتاً كقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) قيل: نحتوا من الجبال ألفاً وسبعمائة مدينة بالوادي، وادي القرى. أثبت البزي وقنبل في أحد وجهيه الياء في الحالين، وورش وقنبل في الوجه الآخر في الوصل، وحذفها الآخرون. (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) سمي به؛ لكثرة جنوده. إما لأنَّ الجنود كالأوتاد للأمير على التشبيه، أو لكثرة خيامهم، أو لأنه كان يعذّب بالأوتاد وهذا أشهر.

(11)

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) صفة المذكورين من عادٍ، وثمودٍ، وفرعون. مرفوع، أو منصوب. (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) تفسير لطغيانهم. (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) الإضافة بمعنى أي: سوطاً منه. والمراد: تقليل ما أصابهم في جنب عذاب الآخرة؛ ولذلك روي عن الحسن أنه لما تلاها قال: " إنَّ عند اللَّه أسواطاً كثيرة ". وقيل: ما غلظ منه، وذكر السوط كناية عنه. والأول أوفق بسائر الآيات وأشد تهويلاً. (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) مفعال، من رصده: إذا ترقبه، كناية عن عدم الفوت. (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ ... (15) متعلق بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) كأنه قيل: إنَّ اللَّه تعالى يرصد العصاة بالعقوبة، والإنسان لا يهمه إلا العاجلة (إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) اختبره بالغنى (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بالمال والجاه (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) مفتخراً بذلك مدعياً استحقاقه، ولم يتلقه بالشكر. (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ... (16) ضيقه عليه. وقرأ ابن عامر: (قَدَّرَ) مشدداً، والمخفف أخف وأوفق بقوله: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ). (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)؛ لقصور نظره إلى الحطام، ولم يدر أنَّ الدنيا لا تساوي عند اللَّه جناح بعوضة، وأنَّ التعبير قد يؤدي إلا كرامة الدارين، ولذلك زواها عن أكثر أصفيائه، أثبت نافع في الوصل، والبزي

(17)

في الحالين ياء " أكرمن " و " أهانن "، ولأبي عمرو وجهان: الحذف والإثبات، وحذفها الباقون اكتفاء بالكسر. (كَلَّا ... (17) ردع للإنسان عن هذا القول، ثم أشار إلى أنه مرتكب ما هو شر من هذا القول (بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) لا تتفقدون اليتيم بالإحسان، ولا تحثون أنفسكم ولا غيركم على طعام المسكين من غاية الشح، وقلّة الشفقة. وقرأ الكوفيون: بفتح التاء والحاء والألف بعده من التفاعل حذف منه إحدى التائين، أي: لا يحث بعضهم بعضاً، وهذا أبلغ؛ لدلالته على أنهم لا يفعلون المعروف ولا يأمرون به. (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ ... (19) الميراث، أصله: وراث، قلبت الواو تاءً كما في " تجاه ". (أَكْلًا لَمًّا) ذا لمٍّ، أي: جمع بين الحلال والحرام، لأنهم كانوا لا يورثون النساء ويقولون: المال لمن يحمي الحريم، أو تأكلون ما جمعه المورّث من الحلال والحرام لا يميزون بينهما، أو يسرفون في أنواع المواكيل والفواكه كما يفعله الآن الوارث؛ لأنه لم يتعب في تحصيله. (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) شديداً، مع الشره والحرص ومنع الحقوق. وقرأ أبو عمرو: الأفعال الأربعة بالياء غيبة، والخطاب أبلغ تقريعاً. كَلَّا ... (21) ردع لهم، وإنكار لفعلهم (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) دكًّا بعد دكٍّ حتى يصير هباءً منبثًّا. وعيد لهم على تلك الأفعال التي يتحسرون على تركها حين لا ينفع. (وَجَاءَ رَبُّكَ ... (22) مثَّل حاله في ظهور آثار قدرته وسلطانه وتوجه إرادته إلى الانتقام من المجرمين بحال ملك اعتنى بقهر أعدائه، فلم يكتف بالجند والعساكر، بل باشر

(23)

بنفسه. (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي: الملائكة كلهم صفّاً بعد صفٍّ على قدر مراتبهم، محدقين بالإنس والجن. (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ ... (23) روى مسلم والترمذي عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك ". " يَوْمَئِذٍ " بدل من " إذا دكَّت "، والعامل فيهما (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) ما فرط منه، أو يتّعظ (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) استبعاداً لها من حيث النفع؛ لئلا يتناقض ما يتقدمه. ومن استدل به على عدم وجوب قبول التوبة فقد أبعد عن الصواب؛ لأن عدم قبولها ليس بناء على عدم وجوب القبول، بل لفوات الوقت بانقطاع التكليف. (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) هذه وهي حياة الآخرة، أو وقت حياتي في الدنيا كقولك: جئت لعشر خلون من رجب. وهذا من تمني المحال، وفيه دلالة على أن للإنسان اختياراً في أفعاله. (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) الضمير: للَّه أي: لا يتولى عذاب الكافر ولا إيثاقه أحد غيره تعالى، ففيه تهويل. نعوذ باللَّه من غضب اللَّه الحليم. أو للإنسان، إضافة للمصدر إلى المفعول أي: لا يعذب الزبانية أحداً من خلق اللَّه مثل تعذيب

(27)

هذا الإنسان. وقرأ الكسائي: بفتح الذال. والعذاب بمعنى: التعذيب والوثاق بمعنى: الإيثاق، كالسلام بمعنى: التسليم والعطاء بمعنى: الإعطاء والضمير للإنسان، والمعنى كالوجه الثاني في قراءة الكسر. (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) المؤمنة التي اطمأنت في الدنيا إلى ذكر اللَّه تعالى (أَلَا بِذكْرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أو الآمنة من الخوف، والحزن، القائلة: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) تحزّناً وتحسّراً. وهذا إما عند الموت، أو البعث، أو دخول الجنة. (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ... (28) بما أوتيت ما لا عين رأت (مَرْضِيَّةً) عند اللَّه. (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) في زمرة عبادي الصالحين. (وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) دار كرامتي ومقر أوليائي. * * * تمت، والحمد لمن نعمه عمَّت، والصلاة على من به الرسل تمت. * * *

سورة البلد

سُورَةُ الْبَلَدِ مكية، وآيها عشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) أقسم تعالى بالبلد الحرام الذي هو أشرف الأماكن حرمة يوم خلق السماوات والأرض على أنَّ الإنسان مخلوق في كبد مستغرق في الشدائد. واعترض بين القسم والمقسوم عليه: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) دلالة على أنَّ من المكائد كون مثلك حلاً أي: مستحلا حرمته في مثل هذه البلدة التي لا يجوز التعرض لنباتها فضلاً عن صيدها. وفيه تسكين له، وإشارة إلى أنَّ سوء صنع المشركين قد بلغ الغاية القصوى، فيقع الذم الآتي لهم في حاق موقعه، أو وعد له بفتح مكة؛ تسلية له بأن ما يقاسيه من الأذى والمكائد عاقبته الظفر، وحلّ البلد الذي لم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده، يفعل فيه ما يشاء قتلاً ونهباً، وفيه من إجلال قدره ما ترى، ونظيره في الاستقبال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ) وقولك لمن تعده: أنت مكرم.

(3)

(وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) وآدم وذريته، أو إبراهيم مؤسس البلد وإسماعيل، أو محمد وذريته الطاهرة. والعدول إلى " ما "؛ للدلالة على الوصفية، فيفيد فخامة كقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ). (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أي: في شدة ومشقة؛ لأنَّ أول أحواله ضيق الرحم، وآخره الموت وضيق القبر وما بعده. من كبد الرجل: إذا أوجع كبده. ثم اتسع فيه فأطلق على كل مشقة. (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يظن هذا الصنديد القوي أن لن تقوم القيامة، ولا يقدر أحد على الانتقام منه. ثم ذكر ما يقول في ذلك اليوم: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) كثيراً. من تلبّد الشيء: إذا اجتمع. يريد ما كان ينفقه رياء وسمعة مما كانوا في الجاهلية ينفقونه مفاخرة. والمعنى على العموم، وإن نزلت في أبي الأسد بن كلدة، فإنه كان قوياً، يبسط الأديم العكاظي تحت قدميه ويقوم عليه ثم يقول: من أزالني عنه فله كذا، فينقطع ويبقى ما تحت قدميه. وقيل: نزلت في الوليد. (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) حين ينفق ما ينفق رياء وفخراً؟! أي: أنَّ اللَّه كان رقيباً عليه. (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) يبصر بهما. (وَلِسَانًا ... (9) يترجم به ويعبر به عن مقاصده. (وَشَفَتَيْنِ) زينة، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب،

(10)

(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) طريقي الخير والشر. كقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) والنجيد: ما ارتفع، ففيه إشارة إلى غاية الإيضاح والبيان. وقيل: هما الثديان، فإنَّ العرب تقسم بهما، ويقولون: ونجديها. فالبطن كالغور وهما نجدان. (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) بعد هذه النعم (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) أبهم على وجه الاعتراض، ثم فسره بقوله: (فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) العقبة: ما صعب من طرق الجبال، كنى به عن صعوبة هذه الأعمال على النفس؛ ولذلك عبّر عن الإتيان هما بالاقتحام الذي هو: الدخول في الشيء عنفاً، من القحمة: وهى الشدة. والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب: إذا جاع. وقرب: في النسب والقرابة. وترب: افتقر كأنه التصق بالتراب. والمعنى: أن الإنفاق عند اللَّه هو هذا، لا ما افتخر به ذلك المرائي. وقدّم (فَكُّ رَقَبَةٍ)؛ لأنه أقرب القربات. روى مسلم والبخاري عن عمرو بن عبسة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَنْ أَعْتَقَ رَقبَةً مُسلِمَةً كانت له فكاكاً من النار عضواً بعضوٍ " وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: " فك وإطعام " مصدرين مضافين إلى المفعول بالرفع على الخبرية، والباقون: بالفعل بدلًا من " اقتحم "، و " لا " مكررة؛ تقديراً أي:

(17)

لا فك ولا أطعم، على أن تكرارها غير لازم. ونحو (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) إنما يدل على الوقوع دون اللزوم. (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ... (17) عطف على اقتحم أي: لا اقتحم ولا آمن. ولا يلزم كونه خارجاً منه، بل لكونه أَشرف الأجزاء وأساس سائرها خصّ بالذكر مع " ثمّ " دلالة على أناقة محله. (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى مشاق الطاعات. (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) الشفقة على خلق اللَّه (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) اليمين، أو اليمن. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) الشؤم، أو الشمال. (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) مطبقة. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص: بالهمز، يقال: أوصدت الباب وأصده: إذا أغلقته. والواو أفصح؛ لاتفاقهم في الوصيد. * * * تمت سورة البلد، والحمد لمن وفق وسدد، والصلاة على السيد الأوحد، وآله وصحبه إلى آخر الأمد. * * *

سورة الشمس

سُورَةُ الشَمْسِ مكية، وآيها خمس عشرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالشَمْسِ وَضُحَاهَا (1) أقسم بالشمس وضوئها؛ لأن كلًّا منهما من بدائع صنعه. الضحوة: وقت ارتفاع النهار، والضحى: فوق ذلك. والضحاء بالفتح والمد: قرب نصف النهار. (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) تلا الشمس في النور والكمال ليلة البدر، فإنه يظهر سلطانه كوقت الضحى للشمس، أو تلا الشمس: أخذ من نورها، وذلك في النصف الأول من الشهر، وأما في النصف الثاني فلا تلو؛ لأنه مفارق، أو تلا طلوعه طلوعها. (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) أي: الشمس، على التقابل كما جعل الليل غاشياً الشمس جعل النهار مجلّياً لها، فإنها تظهر غاية الظهور إذا انبسط النهار. وقيل: الضمير للظلمة، أو الليل، أو الأرض. (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) يغشى الشمس بستر ضوئها بظلامه. ولما كانت واوات العطف نوائب للواو القسمية الجارة بنفسها قائمة مقام الفعل، سادة مسده، بحيث طرح ذكره رأساً، بخلاف الباء جاز أن [تكون] عوامل الفعل والجارِّ معاً كقولك: ضرب زيد عمرواً وبكر

(5)

خالداً من غير عطف على عاملين مختلفين. هذا ويرد عليه (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) فإنه عطف على المجرور بـ " الباء ". والحق أنَّ الظرف ليس متعلقاً بفعل القسم؛ لأنَّ التقييد بالزمان غير مراد لا حالاً ولا استقبالاً، بل المعنى: وعظمة الليل وقت غشيانه؛ لأن الإقسام بالشيء إعظام له. (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) " ما " ليست مصدرية؛ لقوله: (فَأَلْهَمَهَا) بل موصولة، وإيثارها على " من "؛ لإرادة الوصف، فتفيد فخامة كأنه قال: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، وكذا يقدر ما يناسب في غيرها. والقول بإضمار العائد إليه تعالى للعلم به مفوت لتلك الفخامة. (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) دحاها وبسطها. (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) هي نفس آدم، أو التنكير للتكثير أي: كل نفس، وتسويتها: خلقها في أحسن تقويم. (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) أرشدها إلى طريق الخير والشر. وتقديم الفجور؛ للدلالة على أنه بقدرته وإرادته أيضاً، ولا ينافي مدخلية قدرة العبد كسباً. فإن قلت: التسوية خلق الأعضاء وتعديلها، وإفاضة الروح والقوى وإلهام الفجور والتقوى إنما يكون بعد البلوغ وتوجه التكليف، و " الفاء " تقتضي التعقيب من غير تراخ. قلت: التعقيب أمر عرفي، ولما كان تكامل القوى وقت البلوغ، فكان لا تسوية قبله .......

(9)

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) طهّرها من درن الأخلاق الذميمة، وأنماها بالأعمال السنية. جواب القسم حذف منه اللام؛ لطول الفصل. وقيل: مستطرد لذكر بعض أحوال النفس. والجواب محذوف أي: ليدمدمنَّ اللَّه على كفار مكة كما دمدم على ثمود. (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) أخفاها، وأطفأ نور الفطرة بظلمات المعاصي. أصله دسس قلبت الثانية ياء كما في أمليت وتقضي البازي. وإسناد التزكية والتدسية إلى العبد إنما يقتضي القيام به لا الاستقلال ولا الإيجاد، فلا دليل فيه للقدرية، على أنَّ الأرجح ............

(11)

المستتر إليه تعالى، والبارز المنصوب إلى " من " بتأويل النفس؛ لما روى زيد بن أرقم عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " اللَّهمَّ آتِ نَفسِي تَقْوَاهَا وَزَكهَا أَنْت خَيْرُ مَنْ زَكاهَا ". (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) اسم بمعنى الطغيان؛ ولذلك قلبت ياؤه واواً فرقاً بينه وبين الصفة، أي: كذبت بسبب طغيانها، أو بعذابها الموعود ذي الطغوى. كقوله: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) فالباء صلة. (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) أشقى ثمود قدار بن سالف، أو هو ومن وافقه؛ لأن اسم التفضيل إذا أضيف صلح لما فوق الواحد. (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ ... (13) نصب على التحذير. ولما أضاف الناقة إليه تشريفاً ذكر صالحاً باسم الرسول وأضافه أيضاً؛ لأنه أولى بالاجلال. (وَسُقْيَاهَا) لا تذودوها عنه. (فَكَذَّبُوهُ ... (14) فيما حذرهم به من نزول العذاب (فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أطبق عليهم العذاب وعمهم به. تكرير دمّ الشيء كبسه نحو كبكب في كبّ. وقيل: غضب، من الدمدمة وهو: الكلام المزعج. وقيل: أرجف الأرض بهم. (بِذَنْبِهِمْ) بسبب ذنبهم. (فَسَوَّاهَا) أي: العقوبة بينهم عموماً، أو سوى ثمود بالأرض.

(15)

(وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) عقبى الدمدمة، أو التسوية. والواو للحال أي: فعل ذلك والحال أنه غير خائف من عاقبة فعله كبعض الملوك. وقرأ نافع وابن عامر بالفاء، والواو أبلغ. روى البخارى ومسلم عن عمار بن ياسر أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -. " ألا أخبرك بأشقى الناس، قال. بلى، قال: أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك على هذا، وأشار إلى قرن رأسه حتى تبتل منه هذه " يريد لحيته. * * * تمت والحمد لمن آلاؤه عمت. * * *

سورة الليل

سُورَةُ اللَّيْلِ مكية، وآيها إحدى وعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) بظلامه كل ما يواريه، أو النهار، أو الشمس. (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) تبين وتكشف بانسلاخ الليل عنه. (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) والقادر الذي خلق الزوجين من كل نوع، أو آدم وحواء. ويجوز أن يكون " ما " مصدرية. وقرأ ابن مسعود وأبو الدرداء رضي اللَّه عنهما: " والذكر والأنثى ". (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) جمع شتيت. جواب القسم، أو أنَّ مساعيكم مختلفة الأغراض، متبايتة الجزاء. ثم فضل بما على أثره: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) أعطى الطاعة في حقوق اللَّه تعالى، واتقى المعصية، وصدِّق بالتوحيد أو الجنة. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) فسنوفقه للخلة التي تؤديه إلى اليسر والراحة.

(8)

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ... (8) بحقوق اللَّه. (وَاسْتَغْنَى) بالحطام الفاني. (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) بالنعيم الباقي، أو التوحيد. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) فسنخذله وندله على الطريقة التي اختارها. وإطلاق التيسير؛ للمشاكلة. (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) سقط في حفرة القبر، أو في قعر جهنم، أو مات من الردى: وهو الموت. نفي، أو استفهام إنكار. (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) الدلالة والإرشاد إلى طريق الصواب بشرع الأحكام وبيان الحلال والحرام. (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) نعطي ما نشاء لمن نشاء، أو لنا الغنى المطلق لا تنفعنا طاعة ولا تضرنا معصية. (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) تتلهب (لَا يَصْلَاهَا ... (15) لا يدخلها (إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ ... (16) بالحق (وَتَوَلَّى) وأعرض عنه. (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الحصر فيه ادعائي كأن غير هذا الأشقى لا يصلاها، وغير هذا الأتقى لا يجنب؛ لاتفاق الكل على أنَّها نزلت في أبى بكر، وأمية بن خلف حين اشترى منه بلالاً ببردة وعشر أواق. وقيل: أبي جهل وأمية، وأبي بكر. فالأشقى لم يرد به واحداً. وأما تفسير الصلي باللزوم فلا يدل عليه اللفظ، ويلزم منه أنَّ الشقيّ لا يلزم بها، وينافيه (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا).

(18)

(الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ ... (18) في مصارف الخير. (يَتَزَكَّى) من الزكاء أي: يطلب أن يكون عند اللَّه زكيًّا لا رياء، أو من الزكاة، بدل من " يُؤْتِي " داخل في حكم الصلة، أو حال من فاعله. (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) قيل: لما اشترى بلالاً قالوا: ما اشتراه إلا ليدلّه عليه. وعن ابن الزبير أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان يشتري الضعفه فيعتقهم، فقال له أبوه: لو اشتريت الأقوياء. (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) منقطع، أي: لكن ابتغاء وجه ربه، أو متصل مفعول له عن محذوف أي: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه. (وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) بما تقرّ به عينه. وعد جميل، وفي إبهامه ما لا يخفى. * * *

سورة الضحى

سُورَةُ الضُّحَى مكية، وهي إحدى عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحَى (1) أي: وقت الضحى، وهو حين ارتفاع الشمس وظهور سلطانه. وقيل: أقسم به؛ لأنه وقت غلبة موسى فرعون؛ لقوله: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى). وقيل: جميع النهار؛ لقوله تعالى: (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى) في مقابلة " بياتاً "، (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) ستر، متعد من سجيته، أو سكن من فيه، أو سكن ظلامه واستقر. قدّم الليل تارة باعتبار الأصل فإن الليالي غرر الأيام، والنهار أخرى باعتبار الشرف. (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ... (3) جواب القسم أي: ما تركك ترك المودِّع. (وَمَا قَلَى) ما أبغضك، من القِلى بكسر القاف مقصوراً. روى البخاري عن جندب البجلي: " أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -

(4)

اشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك فأنزل اللَّه تعالى (وَالضحَى) ". (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) أي: الأوقات المستقبلة خير لك من الأيام الماضية، فإنه يعلو شأنك فيها ويظهر دينك على سائر الأديان وترى الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ ... (5) في الدارين (فَتَرْضَى) بحيث لا يبقى لك طلب بعد تلك العطية. وإنما حذف المفعول؛ لغرض العموم، فيشمل مقام الشفاعة وسائر المزايا التي تخصه. و " اللام " للابتداء -دخل الخبر بعد حذف المبتدأ، والتقدير: لأنت سوف يعطيك- لا للقسم؛ فإنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون؛ وجمع مع " سوف "؛ للدلالة على أنَّ العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة. (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) من الوجود بمعنى: العلم. والاستفهام للتقرير أي: قد كنت يتيما فآواك، مات أبوه وهو جنين أتى عليه ستة أشهر، فلما ولد كان في حجر أمه، ويحوطه عبد المطلب جده إلى أن بلغ عمره ثمان سنين، مات عبد المطلب وأمه، فعطف اللَّه تعالى عليه عمه أبا طالب.

(7)

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) قيل: أضلته ظئره حليمة عند باب مكة. وقيل: ضل في بعض شعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عمه أبي طالب. وقيل: ضلّ في طريق الشام أضله إبليس حلِّ راحلته فردّه جبرائيل إلى الركب، أو كنت ضالاًّ عن علم الشرائع والأحكام وما طريقه السمع (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ). (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) كنت عديم المال فأغناك بمال خديجة رضي اللَّه عنها، أو أحلّ لك الغنائم ولم يحِلّها لأحد قبلك، أو كنت مبعوثاً إلى الأحمر والأسود، فأغناك بكنز المعارف وهو القرآن، فسيخرج أمتك من فرائد درّه إلى آخر الدهر. عدّد عليه بعض نعمه السابقة، تقريراً لقوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)؛ لأنه إذا كانت هذه عنايته معه ولم يكن لابساً خلعة رسالته، فكيف به وقد أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً. (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) لا تظلمه في حقه وتعطف عليه، واذكر حالك في اليتم. (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) لا تزجر، يشمل الفقير والمسترشد في دينه.

(11)

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) فإنَّ إشاعتها شكر لها. روى أبو داود عن جابر - رضي الله عنه -: " أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فليكاف فإن لَمْ يَجِدْ فَلْيثنِ بهِ فَمَنْ أَثْنَى فَقَد شَكَرَ، وَمَنْ كَتَمَ فَقدْ كَفَرَ ". ولما منَّ اللَّه عليه بثلاث خلال، أرشده وحثَّه على ثلاث في مقابلتها؛ ليكون متخلقاً بأخلاق اللَّه، وتقتدي به في ذلك أمته. * * * تمّت سورة الضحى، والحمد لمن له العطاء، والصلاة على المجتبى، وآله وصحبه الأتقياء. * * *

سورة (ألم نشرح)

سُورَةُ (أَلَمْ نَشْرَحْ) مكية، وهي ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) أي: شرحناه؛ لأنَّ إنكار النفي إثبات، والمعنى: نورنا لك صدرك بنور النبوة حتى وسع علم الأولين والآخرين. روى البخاري عن مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - " أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن ليلة أسري به قال. فجاء جبرائيل بطست من ذهب ملئ حكمة وإيماناً، فشق من ثغرة نحري إلى مراقِّ بطني، فأخرج قلبي وشقه، ثم غسله بماء زمزم، فحشاه حكمة وإيماناً " أوثر فيه الإجمال والتفضيل مبالغة في الإيضاح. (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) ما كان يثقل عليك من عدم العلم بالحكم والأحكام، أو ما كنت ترى من ضلال قومك، مع عدم الاهتداء إلى ما ترشدهم إليه، أو ما كنت تلقى من الشدة عند تلقي الوحي خوفاً من فوت شيء منه، فضمنا لك حتى سكن

(3)

روعك. (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) من النقيض وهو: صوت الرحل من ثقل الحمل. مثّل حاله به، كناية عن غاية الشدة. (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) في الدارين، بأنك سيد المرسلين وخاتم النبيين، ونعتك في زبر الأولين، واسمك مقرون باسم ربِّ العالمين. (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). عدّد عليه بعض جلائل نعمه، ثم قال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) كأنه قال: إذا كنت بهذه الرتبة عندنا، فلا تُبال بقول من قصر نظره على حطام الدنيا، معيّراً لك ولأصحابك بضيق ذات اليد، فإنكم سترون عن قريب يسراً وأيّ يسرٍ. ودل على القرب بلفظ " مع " الدال على المقارنة والمصاحبة. (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) استئناف. واليسر الثاني غير الأول على قانون النكرة المعادة، وترجيحاً للتأسيس على التأكيد، وحملاً لكلام اللَّه تعالى على أبلغ احتمالين مع اقتضاء المقام زيادة التسلية والتنفيس. ولما روي مرفوعاً أنه قال. " لَنْ يَغْلِبَ عُسرٌ يُسْرَيْنِ ". فإن قلت:

(7)

فما تقول في معنى الحديث، من حمل الثاني على التأكيد، وجعله مثل قولك: إنَّ زيداً قائم، إنَّ زيداً قائم؟. قلت: يحمل اليسرين على يسر الدنيا والآخرة. فإن قلت: كان الواجب تعريفه؛ لأنه الأول كالعسر. قلت: ذلك ليس بواجب، بل أكثري عدل عنه للتفخيم. (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) فإذا فرغت من عبادة أتبعها بأخرى ليكون شكرك على وفق النعم. وأشار بلفظ النصب وهو التعب إلى الترقي كمًّا في جانب النعم بقوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -. " إذا فرغت من الصلاة، فاجتهد في الدعاء " وذلك؛ لأن " الصلاة عماد الدين " و " الدُّعَاءُ مُخّ الْعِبَادةِ ". وعن الحسن: " إذا فرغت من الغزو، فاجتهد في العبادة ". وكأنه لاحظ قوله: " رجعنا من الجهاد ْالأصغر إلى الجهاد الأكبر ". (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) في مطالبك لا إلى غيره، لعدمك بتفرده بالتأثير لا يشاركه أحد، الكل منه وبه وإليه، فتوكل عليه. * * *

تمّت سورة ألم نشرح بحمد اللَّه، والصلاة على أفضل خلق اللَّه. * * *

سورة التين

سُورَةُ التِّينِ مكية، وهي ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) أقسم بجبال الأرض المقدسة. والأولان سميا باسم الشجرتين النابتتين بهما. والطور: هو الجبل الذي كلم اللَّه تعالى عليه موسى. و (سِينِينَ) وسيناء: اسم البقعة التي بها الجبل. قال ابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس. وقيل: أراد الشجرتين لكثرة منافعهما، وليس بقوي؛ لأنَّ النخلة أشرف الأشجار حتى قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في مدحها: " مثلها مثل المسلم "، ولعدم الملائمة بين المعطوف والمعطوف عليه.

(3)

(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) الحافظ داخله. هي مكة شرفها اللَّه كأنه قال: والأرض المباركة ديناً ودنياً، والبلد الذي من دخله كان آمنا في الدارين. وفيه نهج الترقي، إذ لا مطمح وراء أمنِ الدارين. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) تعديل. شكلاً وصورة، لا ترى في الكائنات أحسن منه، حتى يبلغ منه سرّ الملاحة حداً يعجز الواصف عن إبرازه قطعاً. (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) وهو الكافر. في النار سِنّه مثل أحد، ويجر شفته على الأرض، والوجه أسود مظلم، وما بين كتفيه ما بين مكة والمدينة. عافانا اللَّه. أو رددناه في الدنيا بعد ذلك الحسن والجمال أسفل، من تسفل: تقوّس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد اسوداده، وكَلَّ سمعهُ وبصره، وتناقصت قواه وعقله، وأَنِفَه من كان يحبه. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... (6) استثناء متصل على الأول ظاهر الاتصال، منقطع على الثاني. أي: لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى. (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع. بل يجري عليهم ثواب الأعمال التي كانوا يعملونها وهم أقوياء. (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (7) الخطاب للإنسان، أي: بعد هذه الدلائل المشاهدة أيّ شيء يجعلك كاذباً بالإعادة؟، فإن مكذب الحق كاذب. و " الباء " للسببية. أو لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلهاباً له، أو تعريضاً بالمكذبين، أي: بعد هذا البيان لا يكذبك شيء كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات اللَّه تعالى. وعلى الأول استفهام توبيخ.

(8)

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) أليس ذلك الموصوف أقدر من كل قادر؟. فما وجه إنكار الإعادة بعد إخباره؟. وآثر الاسم الأعظم؛ دلالة على أنَّ ذلك من خواص الألوهية. * * * تمت سورة التين، والحمد للَّه رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة (اقرأ)

سُورَةُ (اقْرَأْ) مكية، وهي تسع عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... (1) الجار في محل النصب على الحال أي: اقرأ حال كونك مفتتحاً قراءتك باسم اللَّه. (الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ ... (2) أي: خلق كل شيء، ثم خصّ الإنسان، لأنه أشرف البرية والمقصود بالإنزال، أو المراد: خلق الإنسان: أوثر فيه الإبهام والتفسير. وفيه إشارة إلى أنه مخلوق للقراءة والدراية (مِنْ عَلَقٍ) جمع باعتبار الأفراد. (اقْرَأْ ... (3) تكرير للأول، وهو محزة، لأنه أول أمر ورد بالقراءة، ولإنكاره القراءة بقوله: " ما أنا بقارئ " وقيل: الأول لنفسه، والثاني للتبليغ، أو الأول خارج الصلاة، والثاني فيها. (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) على الإطلاق، إذ كرم غيره تكلّف في جزئي لغرض (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) دليل على أكرميته؛ لأنَّ كل عطية دون العلم والمعرفة كنقطة من المحيط. (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا). ورمز في ضمن ذلك إلى فضل الكتابة؛ لأنها

(5)

آلة التعليم، وضابطة الحكم، وفى المثل: " العلم صيد والكتابة قيد ". (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ما لا يمكنه علمه إلا بالتعليم. (كَلَّا ... (6) ردع للإنسان الذي قابل هذه النعم بالكفر والطغيان. (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى) ليتجاوز عن حدّه. (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) لأن رأي نفسه غنياً أي: علم؛ ولذلك جاز أن يكون الفاعل والمفعول ضميرين لشيء واحد، وذلك من بعض خصائص فعل القلب. (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) خطاب لذلك الإنسان الطاغي التفاتاً؛ لكونه أبلغ تحذيراً. و (الرُّجْعَى) مصدر كالبشرى. (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) روى الترمذي والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أنَّ أبا جهل قال: هَل يُعَفِّرُ مُحَمَّد وَجْهَهُ بَينَ أَظهرِكمْ؟ قالوا: نعم. قال: والذي يحلف به، لَئِنْ رَأَيته لَأَطَأَنَّ عَلَى عنقه. فمرّ به وهو يصلي عند المقام، فتوجه إليه، والمشركون ينظرون إليه. فما رأوه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويبقي بيدية. فقيل له: ما بدا لك؟ فقال: رأَيت بيْني وبينَهَ خَندَقًا مِنْ نَارٍ وَهَولًا وَأَجْنِحَةً. فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: لَوْ دَنَا منِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضوًا ".

(11)

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) " أرأيت " تكرير للأول، والشرط مفعول ثان حذف منه الجواب؛ لدلالة قوله: (أَلَمْ يَعْلَمْ) عليه، وحذف المفعول الأول؛ لظهوره. (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) مقابل للأول لتقابل الشرطين والمعنى: أخبرني يا من له أدنى تمييز عن حال من ينهى عبداً يصلي، إن كان ذلك الناهي على طريق الرشاد، " أَوْ أَمَرَ بِالتقْوَى " في أمره بعبادة الأوثان أخبرني إن كان مكذباً معرضاً. (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) ويشاهد. وسوق الكلام على طريقة المنصف والتهكم؛ لأنَّ الناهي عن الصلاة ليس على الهدى قطعاً، وكذا كونه مكذباً مجزوم به. (كَلَّا ... (15) ردع للناهي. (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذن بناصيته ولنجرنه إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجره بعنف. قال عمرو بن معدي كرب: قَوْمٌ إذا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سَافِع

(16)

(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) بدل من الأول، وحسنه الوصف، وكان أوفى بالمقصود؛ لدلالته على عدة السفع. وإسناد الكذب والخطأ إلى الناصية مجاز حكمي، وتخصيصها؛ لأنها أشرف الأعضاء. (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن أبا جهل لما لم يقدر أن يقرب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - توعده بالكلام، فأغلظ له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: تهددني يا محمد وأنا أكثر أهل الوادي نادياً. أراد عشيرته فسماهم باسم مجلسهم ومجتمعهم. (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) عن قريب ليجروه إلى النار. حمع زابن، أو زباني، أو زبنية كعفرية. قال الأخفش: العرب لا تكاد تعرف هذا، بل تجعله من الجمع الذي لا واحد له مثل: أبابيل. وأصل الزبن: الدفع. (كَلَّا ... (19) ردع للناهي أيضاً. (لَا تُطِعْهُ) الخطاب لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أي: دم على عصيانه. (وَاسْجُدْ) ودُم على الصلاة ولا تبال بالناهي.

(وَاقْتَرِبْ) بها؛ فإنَّها المعراج إليه، أو بالسجود؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَقْرَبُ مَا يَكُون الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجدٌ ". * * * تمت سورة العلق، والحمد لمن خلق، والصلاة على من في مضمار السعادة سبق، وآله وصحبه ما الليل وسق. * * *

سورة القدر

سُورَةُ الْقَدْرِ مدنية، وآيها خمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) فخّم شأن القرآن بأن خص إنزاله به، وبالإضمار؛ لأنه العلم الذي لا يذهب الوهم إلى غيره، وبزمان نزوله. اتفقوا على أن القرآن نزل به جبرائيل في ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا، فكتبه السفرة، ثم نزل منجّماً في ثلاث وعشرين سنة. وسميت ليلة للقدر؛ لأن الأمور المتعلقة بذلك العام وأقدارها تكتب من اللوح فيها وتدفع إلى الملائكة. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لم تبلغ درايتك كنه فضلها. ثم بينه بقوله: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) أي: القيام بالعبادة فيها خير من القيام بالعبادة في ألف شهر خالية عنها. عن مجاهد: ذَكَرَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رَجلًا مِنْ بَنِي إِسرَائِيلَ، لَبِسَ السِّلاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ، فَتعَجِبَ الْمُسلِمُونَ فنزلت. وروى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ قَامَ لَيلَة الْقَدْرِ إيمانًا

(4)

وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مِنْ ذَنْبهِ مَا تَقدِّمَ ". والأكثر على أنها في أوتار العشر الأخيرة من رمضان. ومن علامتها: أنَّ ليلتها ساكنة لا حرّ ولا برد، ولا يرمى فيها بكوكب، وهي صافية كأنها قمراء تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع، وروى الترمذي عن حسن بن علي عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فنزلت، وعدوا أيام بني أمية فوجدوها ألف شهر. وأهل الحديث ينكرونه. (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ... (4) بيان لما فصلت. والروح: جبرائيل. وقيل: خلق لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة. (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي: تنزل لأجل كل أمر، وقضاء وقدر في تلك السنة. وإنما تنزل تعظيماً لها، ونشراً لخيرها وبركتها. (سَلَامٌ هِيَ ... (5) مثل " تميمي أنا " أي: ما هي إلا سلامة أي: لا يقضى فيها إلا السلامة والخير. وعن مجاهد: لا يستطيع الشيطان في تلك الليلة على عمل السوء. وقيل: سميت سلاماً؛ لكثرة سلام الملائكة على المؤمنين والمؤمنات. (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) غاية

للسلامة أو السلام، والمطلع مصدر أو زمان. وقرأ الكسائي: بكسر اللام والفتح أخف، وهو القياس. * * * تمت سورة القدر، وللَّه الحمد. * * *

سورة القيمة

سُورَةُ الْقَيِّمَةِ مكية، وقيل مدنية، وهي ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) حكاية مقالة أهل الكتاب والمشركين، كانوا قبل البعثة يقولون: لا ننفك عمّا نحن فيه حتى يأتينا النبي الموعود. (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ) بدل من البينة. (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) الصحف: صحائف المصاحف، والكتب القيمة: القضايا والأحكام القويمة المسطورة فيها. (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) توبيخ لهم، وإلزام بأنَّ ما كانوا يعدونه سبب الوفاق والوئام، جعلوه سبب الافتراق والاختلاف. ونظيره قوله. (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وإنما أفرد

(5)

أهل الكتاب بعد جمعهم مع المشركن أولاً؛ لأنهم إذا تفرقوا مع علمهم فالمشركون أولى بذلك. (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... (5) استدل به على وجوب البينة في العبادات. (حُنَفَاءَ) مائلين عن الباطل، والعقائد الزائغة. (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) دين الملة القويمة. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ... (6) يوم القيامة، أو بعد موتهم؛ لأن قبورهم حفر النيران. والاشتراك في مطلق الدخول لا في مقدار العذاب والدركات. (أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) الخليقة. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ... (8) أطنب في أوصاف الجنة وقيّد الجزاء بأنه عنده، وأكد الخلود بالتأبيد؛ إشارة إلى سبق رحمته. (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) فوق ذلك الجزاء، (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ). (وَرَضُوا عَنْهُ) بما منحهم مما لا مزيد عليه. (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) ذلك المذكور لكل من خشي ربه. وقرأ نافع وابن ذكوان البريئة بالهمز وهو الأصل، من برأ: خلق. قال يونس: خالف أهل مكة العرب فهمزوا البريئة والنبيء، وكذا عن سيبويه. * * * تمّت، والحمد على نعم عمَّت. * * *

سورة الزلزلة

سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ مختلف فيها وهي سبع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) الزلزلة: تحريك بعنف، ومنه الزلزال للشدائد، وإضافته للأرض للمبالغة أي: ما يمكن لها من الزلزال والمراد: النفخة الثانية؛ لقوله: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) ما في بطنها من الأموات والكنوز. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا، كالأسطوان مِن الذهبِ وَالْفِضَّةِ، فيقول القاتل: فِي

(3)

هَذَا قَتَلت ويقول القاطع: فِي هَذَا قَطعْتُ رَحِمِي ويقول السارق: في هَذا قطِعَت يَدي ثُمَّ يَدَعُونه فَلَا يَأخُذون مِنْهُ شَيْئًا ". (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) حتى أخْرَجت هذه الأثقال. يقولون تعجباً. وقيل: القائل الكافر؛ لأنه كان لا يؤمن بالبعث، وأما المؤمن فيقول: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدقَ الْمُرْسَلُونَ). (يَوْمَئِذٍ ... (4) بدل من " إذا ". وناصبهما " تُحَدِّثُ "، أو انتصب " إذا " بمضمرٍ. ويومئذ (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) أي: تحدِّث كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها. رواه الترمذي والنسائي وأحمد. وقيل: بلسان الحال وهى الأحوال التي أحدثها اللَّه تعالى فيها من الزلزلة، ولفظ الأموات، والدفائن.

(5)

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) الباء للسببية، أو بسبب إيحاء ربك إليها بالتحديث ويجوز أن يكون (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) بدلاً من (أَخْبَارَهَا) يقال: أوحى له وإليه كذا وبكذا. (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ... (6) متفرقين، كل شيعة مع إمامها كما كانوا في الدنيا (يَوْمَ نَدْعُوا كل أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يمشي يوماً بين أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، آخذاً بيد كل منهما فقال. هَكَذَا نُبْعَث يَوْمَ الْقيَامَة إن شاء اللَّه تعالى ". (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا). (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) أي: يرى جزاءه. وتفصيل؛ لقوله (أَشْتَاتًا). وحسنات الكافر لها مدخل في التخفيف كما أنَّ زيادة سيئاته توجب ضعف العذاب. ولا ينافي حبوط عمله؛ لأنَّ ذاك معنى آخر. روى البخارى بسنده أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس في القرآن آية أشمل منها وأعمّ لكل عمل. * * *

تمّت السورة، والحمد للَّه على آلائه الموفورة. * * *

سورة العاديات

سُورَةُ الْعَادِيَاتِ مكية، أحد عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) أقسم بخيل الغزاة العاديات في الكر والفر. والضبح: صوت أنفاسها حين العدو. وعن أبي عبيد: هو السير. نصبه على المصدر إما من فعله المحذوف، أو بالعاديات؛ لأنّه يلازم العدو، أو الحال. وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنها الإبل؛ إذ لم يكن مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر سوى فرسين: فرس المقداد، وفرس أبي قتادة. ولا أظن صحته؛ لأن الخيل آلة الجهاد لقوله: " وَمَنْ رَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّه فلهُ أجرُ أبوالِها وأرْواثِها " رواه البخاري. وناهيك قوله. (مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)، وعدم وجدان الخيل في غزوة بدر لا تمنع الإقسام بها. أدلّ من ذلك: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فالمخرجات ناراً من الحجارة بصكِّ حوافرها قادحات.

(3)

(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) وقت الصباح " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ينزل بقرب العدو حتى يصبح، فإن سمع الآذان كفَّ وإلَّا أغار ". وقال: " إِنَّا إِذا نزلْنَا بسَاحَة قَوْمٍ (فَسَاءَ صَباح الْمُنْذَرِينَ) ". (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) بذلك الوقت والمكان غباراً كما ترى في مواقع الحروب: كَأَنَّ مُثارَ النَقع فَوقَ رؤوسنا ... وَأَسيافَنا لَيلٌ تَهاوى كَواكِبُه وقيل: أصوات الذين أغير عليهم. (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) من جموع الأعداء. أو أقسم بالنفوس العدية في طلب الكمال، المتأوهة على الفرطات، المورية بإقدام الأفكار من صخور المسالك أنوار المعارف، المغيرات على جيش الهوى بالاستغفار في الأسحار، فأثرن به غبار الشوق، فوسطن به جمعاً من جموع الملأ الأعلى. (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) لكفور جحود، وعن الحسن: هو الذي يذكر المصائب وينسى النعم. وعن أبي أمامة: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "

(7)

لَكَفُورٌ مَنْ يَأكلُ وَحْدَهُ وَيَضْرِب عَبْدَه، يمنع رِفْدَهُ ". (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) يدل على كونه كنوداً حاله. وعن الثوري: الضمير للَّه. (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) شديد الحب للمال الكثير. "لوْ كانَ له واديان مِن ذَهب لابتغَى ثالثاً وَلَا يَمْلَأ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ ". (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) [من الموتى أي: البعث، وفي زيادة الراء مبالغة كبحث مع بحثر]. (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) أبرز ما فيها من السرائر والضمائر. (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) بأعمالهم والإخلاص فيها. وآثر " ما " أولاً ثم قال: " بهم "؛ لأنهم حال البعث تراب ورفات. * * * تمت ولله الحمد، والصلاة على رسوله وآله وصحبه. * * *

سورة القارعة

سُورَةُ الْقَارِعَةِ مكية، عشر آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) القرع؛ الضرب بشدة، والقارعة: من أسماء الساعة؛ لأنها تقرع الناس بالأهوال والأفزاع، أو تقرع أعداء اللَّه بالعذاب، أو لاصطكاك الأجرام العلوية والسفلية فيها. وقد بالغ في التهويل بإبهام أمرها مرتين. ولفظ القارعة أبلغ من الحاقة. (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) يَوْمَ نُصب بما دلّ عليه القارعة. شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار، مثله قوله: (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) وهذه أبلغ؛ لما في المثل: " أضعف من فِراَشَةٍ وأذَلّ وأجهل ". (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) الصوف الملون المندوف؛ لأن الجبال بيض وحمر وغرابيب سود. (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) ترجحت مقادير حسناته. روى البخاري بسنده أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ينشر للمؤمن صحائف سيئاته ثلاثمائة صحيفة، كل منها مد بصره، ثم

(7)

يخرج له بطاقة فيها كلمة لا إله إلا اللَّه، ويقال: احْضُرْ وَزنكَ فيقول: ماذا عسى تفعل هذه البطاقة مع تلك الصحائف؟! فتوضع البطاقة في كفه، والصحائف في أخرى، فتطيش صحائف السيئات، ولا يوازن اسم اللَّه تعالى شيء ". ((فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) مرضية. الإسناد مجازي، أو ذات رضى. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) وهو الكافر الذي ليست معه كلمة الإخلاص. (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) من أسماء النار؛ لأنها تهوي بالداخل فيها سبعين خريفا. وسميت " أمًّا " على التشبيه؛ لأنَّ الأمّ تأوي الولد. وعن قتادة: أمّ رأسه هاوية؛ لأنه يسقط فيها منكوساً. ويردّه قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) لأنه شرع للهاوية. فإن قلت: كل نار حامية! قلت: معناه حامية وأي حامية، كأن سائر النيران بالنسبة إليها ليست حامية. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " نَارُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ

جُزءاً مِنْ نَارِ جَهَنِّمَ ". وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أُوقِدَ عَلَيها أَلف سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّت، ثُمَّ أُوقدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّت ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَة حَتى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَودَاءُ مظْلِمَة " عفانا اللَّه منها. * * * تمّت والحمد للَّه على الدوام، وعلى رسوله أفضل الصلاة والسلام. * * *

سورة التكاثر

سُورَةُ التَّكَاثُرِ مختلف فيها وهي ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) شغلكم التباري والتباهي بالكثرة عن طاعة اللَّه، لهى عن الشيء: غفل عنه. (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) أي: إلى حين الموت لم ترجعوا عنه. وقيل: تفاخر بنو عبد مناف وبنو سهم بكثرة القبيلة فنزلت. عن قتادة: نزلت في طائفتين من الأنصار تكاثروا حتى عدوا الأموات. (كَلَّا ... (3) ردع لهم عن مثله (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) خطأكم في ذلك. ما لابن آدم وللفخر، وأوله نطفة مَذِرَة، وآخره جِيفةٌ قذرةٌ بين الحجر والتراب. (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كرره تأكيداً، والأول عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور. وفي " ثم " دلالة على أن الثاني أبلغ.

(5)

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) تكرير للتنبيه. والجواب محذوف أي: لو علمتم بإقدامكم على العقبة الكؤودة كما تستيقنون من سائر الأمور، لجهدتم غاية الجهد. وفي الحديث. " لَو علمتم مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيتم كَثيرًا ". (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) جواب قسم محذوف، ولا يصلح أن يكون جواب لو؛ لكونه محقق الوقوع. قرأ ابن عامر، والكسائي. (لَتُرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بضم التاء. (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) مشاهدة. ولا علم فوقها. (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) الذي كنتم فيه، هل شكرتم أم لا؟ وروى البخاري أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأبَا بكر، وعمر رضي اللَّه عنهما دخلوا حديقة أبي الهيثم أيام

الرطب، فذبح شاة وأطعمهم من الرطب والبسر، وسقى ماء بارداً، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامهَ ". وقيل: الخطاب خاص بمن ألهاه النعمة والتكاثر بالأسباب، عما يعنيه من الشكر لموليها. * * * تمت، والحمد لمن آلاؤه جلَّت. * * *

سورة العصر

سُورَةُ الْعَصْرِ مكية، ثلاث آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) وصلاة العصر، فإنها أفضل الصلوات؛ لأنها الصلاة الوسطى. أو بالليل والنهار، وهو الدهر عظمه؛ لأنهم كانوا يسبون الدهر، أو بوقت العصر؛ لأنه وقت شريف كما أقسم بالضحى، أو بالعصر الذي أنت فيه فإنه أشرف الأعصار بوجودك. (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)؛ لأنَّ رأس ماله عمره، وهو شيء لا أعز منه يشترى به النعيم المقيم، فإذا ضيّعه لا يكون أخسر منه. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... (3) فإنهم ربحوا ما لا عين رأت، ولا خطر على قلبٍ، في جوار رب العالمين (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) وصّى بعضهم بعضاً بالدين الثابت مرشداً له تكميلاً كما كمُل في نفسه. (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) على إقامة الحق؛ لكثرة المبطلين أعداء الدين، أو بالصبر عن اتباع الشهوات. * * *

سورة الهمزة

سُورَةُ الْهُمَزَةِ مكية، تسع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الهمز: الكسر، واللمز: الإشارة بالعين قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) والمراد: الطعن في الأعراض قولاً وفعلاً صريحاً وإشارة. والبناء يفيد الاعتماد والاستمرار كالضحكة واللحنة. نزلت في أمية أو في الوليد. كان هذا شأنهم مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وفقراء الصحابة. والحكم عام؛ ولذلك صرّح بلفظ الكل. (الَّذِي جَمَعَ مَالًا ... (2) أي: كثيراً، أو مذموماً يعذب به يوم القيامة. بدل كل أو رفع، أو نصب على الذم. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالتشديد، وهو أبلغ ذمّاً، (وَعَدَّدَهُ) أحصاه وضبطه كما هو شأن البخلاء، ليلاً ونهاراً تراهم في الحساب، أو جعله عدة وذخيرة. يقال: أعددته وعددته بمعنى. روي أنَّ الأخنس قال لموسر: ما تقول في ألوف لم

(3)

أفتديها من لئيم، ولا تفضلت على كريم، قال: ولكن لماذا؟ قال: لجفوة السلطان، ونوائب الزمان قال: إذن تدعه لمن لا يحمدك، وترد على من لا يعذرك. (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) لجهلة وغروره واشتغاله عمّا أمامه من قوارع الآخرة، أو يفعل أفعال من يظن أنه مخلده، من تشديد الأركان وتشييد البنيان. وفيه تعريض بالعمل الصالح بأنه المخلّد. (كَلَّا ... (4) ردع له عن حسبانه. (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) من أسماء النار؛ لأنَّها تحطم أي: تكسر ما يلقى فيها. قابل كسر الأعراض بكسر الأعضاء. واستحقاره بالنبذ الدال على غاية الحقارة. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) لم تحط بها علماً. نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) التي أوقدها للانتقام، والإضافة فيه كما في: ناقة الله (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) تستولي عليها بالإحراق، بعد إحراق الأعضاء. والفؤاد ألطف الأجزاء يتأذى بأدنى شيء، فكيف بنار جهنم؟!، أو تطلع على الأفئدة أي: تنظر فيها وتطالعها؛ لأنها معادن الذنوب ومصادرها؛ ليكون العذاب على قدر ما تولد منها.

(8)

(إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) مطبقة. واختلاف القراء كما في سورة البلد. (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) حال من ضمير " مؤصدة "، والمعنى. نغلق عليهم أبواب النار، وتوثق بالأعمدة؛ توكيداً ليأسهم من الخروج. أو من المجرور في " عليهم " أي نغلق عليهم الأبواب حال كونهم مسلسلين في العمد كاللصوص في المقاطر؛ لأنهم سراق الأعراض. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر: عُمُد بضمتين، والباقون بالفتح، وكلاهما جمع عمود. * * * تمت وللَّه الحمد، والصلاة على رسوله محمد. * * * ......

سورة الفيل

سُورَةُ الْفِيلِ مكية، وآيها خمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) هم أبرهة الأشرم والي [اليمن] من قبل النجاشي ملك الحيشة وليس بأصحمة الذي صلى عليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وقصته: أنه قتل أرياطاً من أمراء النجاشي، فغضب عليه فتدارك أبرهة ذلك بأن بنى له كنيسة بصنعاء اليمن لم ير مثلها، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، وأرسل يخبر بذلك النجاشي، فأعجبه ذلك ورضي عنه، فشق ذلك على العرب، فاحتال رجل من كندة فدخلها ليلاً وأحدث فيها، فأخبروا بذلك أبرهة، فاشتدّ غضبه، وعزم على تخريب الكعبة الشريفة زادها اللَّه شرفاً. واصطحب فيلة ليهد البيت بها، فلما توجه عارضه ذو نفر من قومه من بني قحطان فلم ......

يقدر عليه فأسره، فلما بلغ أرض خثعم قاتله نفيل بن حبيب الخثعمي فأسره أيضاً ولم يقتله ليدله على الطريق، ولما بلغ المغَمَّس وهو موضع بقرب مكة. فأرسل حناطة الحميري ليخبرهم بأنَّ الملك لم يأت لحربهم، وإنما قصده تخريب البيت، ويأتيه بأشرف البلد، فجاء عبد المطلب فخرج معه إلى أبرهة، فلما رآه أكرمه، وكان عبد المطلب وسيماً حسن المنظر، فقام له أبرهة، وأجلسه على سريره، وسأله عن حاجته، فقال: إن جيشك قد أغار على سرح مكة، وأخذوا لي إبلاً، وكانوا أخذوا له مائتي بعير، فقال لترجمانه: قل له: إني جئت في تخريب بيت هو شرفك وشرف آبائك، فلم تذكره وتطلب الإبل، فقال عبد المطلب: أنا رجل مضياف، ولا أقدر على قيام الضيافة إلا بالإبل، والبيت له صاحب أنت وذاك، فردَّ إبله

(2)

وذهب، فلما أصبحوا هيئوا الفيلة، وكان أكبرها اسمه محمود، فقدّموه فبرك، فضربوه ضرباً شديداً لم يتحرك، فوجهوه نحو اليمن فهرول، ثم نحو الشام فهرول، ثم نحو مكة فبرك. هذا؛ وعبد المطلب آخذ بحلقة الكعبة وهو يقول: لا همَّ إن المرءَ يمنع رَحْله فامنع رحالك ... لا يَغْلِبَنَّ صليبَهم ومِحالهم غدوا مِحالك إن تتركهم وكعبتَنا فأمرٌ ما بدا لك ... جروا جموعَ بلادِهم والفيلَ كيْ يسبُوا عِياَلك عمَدوا حِماَك بَكيْدم جهلاً وما رقبوا حلالك. فلم يتمَّ كلامَه إلا والطير أقبلت. (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) في تضييع. (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) جماعات متفرقة. كسراويل لا واحد له. وقيل: جمع أبالة وهي الجماعة. وقيل: إبَّول كعِجَّول وقيل: إبِّيل كقنديل. كانت في جُثَّة الخطاطيف. (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) معرّب من سبك وكل. وقيل: من السجل وهو الدلو الكبير. وقيل: من الإسجال وهو الإرسال. وقيل: من السجلّ، فإنه كان مكتوبًا على كل حجارة اسم من قتل بها.

(5)

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) كورق زرع أكله الدود، أو كروث الدواب. وإنما عدل إلى المنزل؛ على نمط آداب القرآن. قيل: كان كل طير يحمل أحجاراً ثلاثة يرمي بكل واحدة إنساناً، لا يردّه شيء من الحديد ففرّ أبو كيسوم وزيره حتى بلغ النجاشي فأخبره، فلما أتمّ حديثه كان فوق رأسه طير فرماه بحجر فقتله، وأما أبرهة فتساقطت أعضاؤه، وتصدّع صدره وقلبه، وجمع عبد المطلب وأهل الحرم أموالهم. وما نقل عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: " رأيت قائد الفيل وسايسه مُقْعَدَين "، ظاهر القرآن يخالفه، واتفق الثقات أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولد في ذلك العام بعد وقعة الفيل. ذلك يُمْنُ مقدمه للَّه دره، من صارم قبل ما سُلَّ يقطع. * * * تمت وللَّه الحمد والمنة، والصَّلاة على كاشف الغمة. * * *

سورة قريش

سُورَةُ قُرَيْشٍ مكية، وآيها أربع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) يتعلق بآخر الأولى كأنه قيل: إنما جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أو باعجبوا، أو بقوله: (فَلْيَعبدوا)، والفاء جواب الشرط. أي: إن لم يعبدوا اللَّه لنعم الدارين، فليعبدوه لإيلافهم. (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِتَاءِ ... (2) إلى اليمن. (وَالصَّيْفِ) إلى الشام نصبه على مفعولية الإيلاف. يقال: ألف الشيء وألفه بمعنىً. وقرأ ابن عامر الأول بحذف الياء جمعاً بين اللغتين، أو هو أيضاً مصدر ألف. روي أنَّ قريشاً وهم أولاد النضر بن كنانة -والقرش: دابة

(3)

عظيمة في البحر تلعب في السفن، ولا يدفعها غير النار- والتصغير للتعظيم، كانوا سكان الحرم، وكان إذا أصابهم مجاعة خرجوا إلى البر، وضربوا الأخبية متفرقين ربما مات طائفة جوعاً، فقام هاشم يوماً خطيباً وحثهم على الرحلتين، فأثروا بعد ذلك وحسن حالهم. ولما أهلك اللَّه أصحاب الفيل أمنوا من تعرض الناس، فمنَّ اللَّه عليهم بذلك (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا). (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) * * * تمت، والحمد لمن آلاؤه عمت. والصَّلاة على المختار من هاشم. * * *

سورة الماعون

سُورَةُ الْمَاعُون مكية، وآيها سبع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) أي: بالجزاء؛ لاعتقاده عدم البعث. الاستفهام للتعجيب. وقرأ الكسائي: بحذف الهمزة إلحاقاً له بالمضارع. ولما كان في التعجيب تشويق إلى تعرف حال المكذب؛ رتّب عليه قوله: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) أي: يدفعه عنيفاً، هو أبو جهل، كان وصياً على يتيم فجاءه عرياناً سأله عن مال نفسه فدفعه. وقيل: الوليد وقيل: أبو سفيان، سأله يتيم وكان نحر جزوراً فقرعه بالعصا. واسم الإشارة للتحقير، وفي الصلة؛ إشارة إلى أنَّ المكذب بالجزاء لا ينفك عن هذه الرذائل.

(3)

(وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) غيره، فهو مخل بكلا الوجهين لا يفعل الخير ولا يأمر به. (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) تاركون لها غير مبالين. (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) بأعمالهم. (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) الزكاة، فاعول من العون؛ لكونه معواناً للفقراء والمحاويج. وفي الكلام ترقٍّ؛ ولذلك زاد لفظ الويل أي: إذا كان دعّ اليتيم وترك الحض على الإطعام من سمات التكذيب ومعرفاته، فالويل لمن ترك عماد الدين قلة مبالاة، والزكاة التي هي قنطرة الإسلام، وتلبس بالرياء الذي هو الشرك الخفي. فأشار إلى العقيدة بالتكذيب، وإلى الأفعال بهذه الخصال؛ ولذا كان دليلاً على كونه مخاطباً بالفروع، فعلى المؤمن بالدين البعد عنها بمراحل. فإن قلت: عن ابن مسعود: أن الماعون محقرات المتاع كالفأس والنار والملح. فما وجه ذلك؟ قلتُ: المراد تجريد المكذب عن الخير رأساً، والوصف بكمال الخسة وعدم المروءة. * * * تمت، والحمد للَّه على نعم عمت، والصلاة على محمد وآله وصحبه. * * *

سورة الكوثر

سُورَةُ الْكَوْثَرِ مكية، وآيها ثلاث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فعول، من الكثرة وهو الإفراط في الخير، من العلم والعمل وشرف الدارين. روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليلة أسري بي أَتَيْتُ علَى نَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَاب اللؤلؤِ فَقُلْتُ: مَا هَذا يَا جِبْرِيلُ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ ". وفي رواية: " ترابه المسك وحصباؤه اللؤلؤ مَاؤُهُ أَحْلَى مِنْ الْعَسلِ وأبيضُ من اللن وأبرد من الثلج، آنيته أكثر من نُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظمَأ بَعْدَهَا أول من يرد عليه فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ ".

(2)

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ ... (2) أي: إذا أخصك اللَّه بذلك، فخصه بالصلاة والسجود. (وَانْحَرْ) له القرابين والبدن مراغماً للمشركن الذين يسجدون للأوثان وينحرون لها. وقيل: ضع يدك على النحر في الصلاة، وفيه بعد، ويؤيد الأول قوله. (إِنَّ صَلَاتِي وَنسُكِي). (إِنَّ شَانِئَكَ ... (3) عائبك ومبغضك. (هُوَ الْأَبْتَرُ) الذي لا عقب له. مات له ابن عابه بذلك العاص بن وائل قال: محمد أبتر إذا مات انقطع ذكره، وقيل: القائل أبو لهب. وقيل: كعب بن الأشرف. والمعنى: إنَّ الأبتر من انقطع ذكره بموته، والنسل يكون سبباً للذكر، وأنت مرفوع الذكر على المنابر إلى آخر الدهر. بيد ما أخفي لك من الشرف والمقام المحمود، وشانئك عليه اللعن من كل مؤمن، ومأواه جهنم مقروناً مع الشيطان، فلينظر من الأبتر. * * * تمّت سورة الكوثر، والحمد على الحظ الأوفر، والصلاة على خير البشر. * * *

سورة الكافرون

سُورَةُ الْكَافِرُونَ مكية، وآيها ست بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) الخطاب لرهط من قريش، وهم الذين ماتوا على الكفر دعَوهُ إلى عبادة آلهتهم ليعبدوا إلهه. (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) في المستقبل؛ لأنَّ " لا " لنفيه كما أنَّ " ما " لنفي الحال (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) أيضاً (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) في الماضي إذا لم أكن مرسلاً، فكيف وأنا رسول من ربِّ العالمين. (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) أي: ما عبدت وأنا مستمر على عبادته؛ لذلك لم يقابل الماضي بمثله. وقيل: إنما عدل عنه؛ لأنه لم يكن موسوماً بعبادةٍ قبل البعثة ولا عبادته على نمط التكليف، وأما طوافه، وتحنّثه، كان على جري العادة دون التعبد، وهذا كلام باطل. بل كان متعبداً قطعاً إما شرع من شرائع من قبله، أو اجتهاداً. كيف وقد صحَّ في البخاري تعبّده بحراء وكان قريش في موسم الحج يقفون بمزدلفة وهو بعرفات، فأين اقتضاء العادة؟.

(6)

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) كلٌّ منا لا يتجاوز دينه إلى أن يموت. وليس فيه نسخ كما ظُنَّ، ولا منع عن القتال معهم بعد الإذن واللَّه أعلم. * * * تمّت سورة الكافرين، والحمد للَّه ربِّ العالمين، والصَّلاة على سيِّد المرسلين، وعلى آله وصحبه الكرام، الغر المحجلين. * * *

سورة النصر

سُورَةُ النَّصْرِ مدنية، وآيها [ثلاث] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ... (1) دينه (وَالْفَتْحُ) فتح مكة. نزلت في حجة الوداع ففهم رسول اللَّه تمام الأمر، فركب ناقته القصواء في المسجد الحرام، وخطب الناس الخطبة المشهورة، وودّع فيها وقال: ليبلغ الشاهدُ الغائبَ؛ فلذلك سميت حجة الوداع، وكان بين حجته وإجابته داعي الحقِّ ثلاثة أشهر ونيف. فإن قلت: فتح مكة كان سنة ثمان من الهجرة، وحجة الوداع سنة عشر. فكيف يصح نزولها في حجة الوداع و " إِذَا " يدل على الاستقبال؟ قلت: قد روي أنَّها نزلت قبل سنتين، وعلى تلك الرواية يحمل " إِذَا ". ولما كان فتح مكة أمّ الفتوح جعله مترقباً باعتبار ما ردفه من الفتوح، وإن كان متحققاً في نفسه يدل عليه قوله:

(2)

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) جماعات كثيرة فوجاً بعد فوجٍ. كانت العرب والأعراب ينتظرون فتح مكة ويظنون أنَّ من قصد مكة يصيبه ما أصاب أصحاب الفيل، فلما فتحها قهراً وتمكن من رقابهم ثم أعتقهم، وسموا مُسْلمة الفَتح " طلقاء " لذلك؛ فبادروا إلى الإسلام قبيلة قبيلة. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... (3) نزهه عن خلف الوعد الذي سبق معك بالنصر وفتح مكة بقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، (وَاسْتَغْفِرْهُ) لما عسى فرط منك من خلاف الأَوْلى الذي لا يليق بجلالة قدرك. أو لأمتك؛ لما روت عائشة رضي اللَّه عنها: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عندي في ليلة فلما ظنَّ أني نائمة قام إلى الباب ففتحه خفية وذهب، فتلففتُ بخماري وذهبت وراءه، فجاء إلى البقيع فوقف ودعا زماناً طويلاً ثم انصرف، فأسرعت وأسرع ورائي حتى دخلت البيت فدخل فوجدني ألهث، فقال " ما لك؟ قلت. لا شيء، قال: أخبريني أو ليخبرني العليم الخبير، قلت: خرجت، فظننت أنك ذهبت إلى بعض أزواجك فقال لي: أنت ذاك السواد الذي رأيته؟ قلت: بلى، قال: جاءني جبرائيل وناداني من وراء الباب، ولم يدخل لأنك وضعت الخمار، وقال لي: تعال استغفر لأهل البقيع فذهبت " ثم قال: وارأساه، فكان ذلك ابتداء مرضه صلوات اللَّه عليه. (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) لمن استغفر. * * *

تمت سورة النصر، ونسأل اللَّه النصر على الأعادي، بحق أفضل العباد. * * *

سورة (تبت)

سُورَةُ (تَبَّتْ) مكية، وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ... (1) التباب: الهلاك، والمراد: جملته؛ لأن اليدين للإنسان كالجناحين للطائر، فمن عدمت يداه فهو والهالك سواء. وقيل: رمى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حجراً بيديه. روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أنِّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صعد الجبل، ثم نادى واصباحاه!، فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدّثتكم أنَّ العدو مصبحكم هل أنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً. قال: فإنّي نَذِيرٌ لَكمْ بَيْنَ يَدَي عَذابٍ شَدِيدٍ، فقال أبو لهب. تبًّا لك ألهذا جمعتنا؟! فنزلت ". واسمه عبد العزى، وإنما سمي أبا لهب لَإشراق وجهه، وكان أحول العين، وهو عمّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ ابن كثير: (أبي لَهْبٍ) بسكون الهاء (وَتَبَّ) أي: كان ذلك وحصل. فالأول دعاء، والثاني إخبار كما في قوله: جزاء الكلاب العاويات وقد فعل.

(2)

(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) استئناف رداً لما كان يقول: أنا أفتدي بمالي إن صدق محمد. والمراد من الكسب: الربح، أو ما حصّله من مال ورثه، أو ما عمله من أعمال البر، أو أولاده. وفي الحديث: " ولد العبد من كسبه ". (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) تصوير للهلاك بما يظهر معه عدم إغناء المال والولد. وجمع بين طريقي التأكيد بقوله: " وتب " أولاً ماضياً للتحقق، والسين ثانياً لتأكيد الوعيد. (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) اسمها أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، كانت مع زوجها في الكفر شنًّا وطبقة. عدل عن كنيتها؛ لاتصافها بالضد. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كانت تحمل الشوك على ظهرها فتضعه في طريق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج

(5)

للصلاة وقيل: مجاز عن المشي بالنميمة وحمل الخطايا. وقرأ عاصم: " حمالةَ " بالنصب على الذم والشتم، وقد طبَّق فيه المِفْصَل. (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) المسد: الليف، أو شجر باليمن، وعن أبى عبيد: حبل مفتل من أخلاط. حقَّر شأنها بأن صوَّرها بصورة بعض الحطّابات اللاتي لا تجد حمولة فتجعل الحبل في العنق الذي هو أشرف الأعضاء. هذا وهي من الثروة وشرف النسب بمكان. أو هذا حالها في جهنم، صورها اللَّه لأهل النار بما كانت متصفة به في الدنيا، جعل الغل في عنقها وعلى ظهرها حزمة من حطب الزقوم والضريع. وكذا كل مجرم يعذب بما يماثل عمله. * * * تمت سورة تَبَّتْ، والحمد على نعم عمَّت، والصلاة على سيد الرسل وموضح السُّبل. * * *

سورة الإخلاص

سُورَةُ الْإِخْلَاصِ مكية، وهي أربع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) روى الترمذي والإمام أحمد أن المشركين سألوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يصف لهم الإله الذي يدعو إلى عبادته فنزلت. فضمير " هُوَ " لما سألوه مبتدأ والجملة خبر، ولا حاجة إلى العائد؛ لأنَّ الجملة إذا كان أحد جزئيها عين المبتدأ كقوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) لا يحتاج إلى رابط، وكذا إن جعل ضمير الشأن؛ لأن الشأن (اللَّهُ أَحَدٌ) نفسه. وعلى الأول يجوز أن يكون " اللَّه " بدلاً؛ ولذلك قُرئ: " اللَّه أحد " بدون " هو "، وأما جعل " أحد " بدلاً فلا؛ لأن النكرة لا تبدل من المعرفة. والأحدية: توحيد الذات بانتفاء أنحاء جهات التركيب عقلاً وخارجاً، والموصوف بها هو الواحد الحقيقي. والواحدية: عدم المماثلة في الصفات. وكل منهما يجوز انفكاكه عن الآخر، وفي ذاته تعالى يتلازمان؛

(2)

ولذلك وصف بالواحد الأحد. وقُدِّمَ وصف الواحدية؛ لأنه محل الاشتباه في الجملة، وأما كونه أحَدِيُّ الذات جليٌّ لا يخفى. (اللَّهُ الصَّمَدُ (2) الصمد: فعل بمعنى المصمود وهو السيد الذي يقصد في الحوائج، من الصمد وهو المكان المرتفع. أخلاه عن العاطف؛ لأنه نتيجة الأولى، إذ من كان أَحَدِيُّ الذات وأَحَدِيُّ الصفات لا يكون إلا غنياً مطلقاً، أو دليل لها؛ لأنَّ من كان مقصود الكل في الاحتياج ولا يحتاج إلى شيء فهو المتوحد ذاتاً وصفة. (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) لاقتضائهما التجانس والتماثل. وقد دلّ التوحّد على انتفائهما (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ)، ولأنه لو وَلَدَ أو وُلِدَ لم يكن غنياً مطلقاً. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) كفؤ الشيء: ما يماثله ذاتاً أو صفة. فالمتوحد المطلق الغني عن كل شيء، لا يماثله أحد في شيء، والاشتراك في الشيئية ليس إلا في الاسم؛ ولذا تقيد بكونه شيئاً لا كالأشياء. وقرأ حمزة. كفوءاً " بإسكان الفاء وبالواو ووقفاً، وكذا حفص وقفاً ووصلاً بالإبدال؛ لاستثقال الهمز بعد الضمتين. روى البخاري عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال. " لا يعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم، فقال: قل هو اللَّه أحد ثلث القرآن " وذلك؛ لاشتماله على التوحيد، ومباحث المبدأ والمعاد. ومقاصد القرآن ثلاث: عقائد وأحكام وقصص. روى مالك وأحمد والترمذي

والنسائي أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقرأ " قل هو اللَّه أحد " فقال: " وجبت "، قيل يا رسول اللَّه ما وجبت؟ قال: " وجبت له الجنة "، وروى الإمام أحمد عن تميم الداري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال: لا إله إلا اللَّه واحداً أحداً صمداً لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد عشر مرات كتب له أربعون ألف ألفِ حسنة " وعن بريدة أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فسمع رجلاً يقول: " اللَّهم إني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، فقال: " والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب ". * * * تمّت، وفضائلها لا تتم، والحمد للواحد الأحد، والصلاة على الأوحد في جميع الرسل وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة الفلق

سُورَةُ الْفَلَقِ مدنية، وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) فلق الشيء: شقّه. قال تعالى: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) والمراد: الصباح، فَعَلٌ بمعنى المفعولِ؛ لأنَّ الليل يُفْلق عنه، أو لأن اللَّه تعالى أخرجه من جيب الليل؛ لقوله: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) وفي المثل: " فلق الصبح فالقه ". وعن الضحاك: هو الخلق

(2)

كله، لأنه فلق من ظلمة العدم. وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: " جبٌّ في جهنم إذا فُتح صاح أهل النار من شدة حرِّه ". وأصل الفلق: المطمئن من الأرض. (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) من شر مخلوقاته كلها، ذوي العقول وغيرهم، يعم شرّ الدارين في العالم السفلي والعلوى. (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) من شرّ الليل إذا دخل ظلامه، من الغسق وهو الظلام، لقوله: (إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) يقال: غسقت العين إذا امتلأت دَمْعاً. وخصّ بالذكر؛ لأَن انبثاث الشرِّ فيه أكثر، والتحرز منه أشقّ. روى البخاري أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا دخل الظلام أجيفوا الأبواب، وكفّوا الصبيان حتى تذهب فحمة العشاء؛ لأن الشياطن تنتشر بعد المغرب ". وقيل: هو العمر إذا خسف؛ لقول عائشة رضي اللَّه عنها أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ونظر إلى القمر وقال: " تعوذي من شرّ هذا، فإنه الغاسق إذا وقب ". والمعنى: أنه

(4)

يغسق الليل بوقوبه، فالإسناد مجازي، وأضاف الشر إليه للملابسة، لأنه يحدث بسببه. والوقوب: الدخول، من وقب العين وهو النقرة التي تكون فيها العين. (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) من شر النفوس الساحرة التي تعقد الخيوط وتنفث فيها لعمل السحر. ولعل ذلك أكثري إذ قد يكون بدونه. والنفث: فوق النفخ، يجوز أن يكون معه ريق، والتفل: لا يكون إلا مع ريق. والتعوذ من إثم ذلك العمل والاتصاف به، أو من الانخداع لتلك الأباطيل، أو مما يصيب اللَّه به المسحور " فإنه سُحر حتى كان يخيل إليه أنه فعل شيئاً لم يكن فعله ". سحره لبيد بن الأعصم اليهودي. فإن قلت: إذا صحّ أنه سحر فكيف كذبهم اللَّه في قولهم: (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) قلت: هذه مقالة المشركين بمكة، وإنما سحر بالمدينة وعائشة رضي اللَّه عنها عنده، وأيضاً لم يكن قصدهم في تسميته مسحوراً ذلك المعنى. بل الجنون بواسطة السحر. (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) إذا ظهر حسده بالقول أو الفعل. والحسد: تمني زوال نعمة الغير وحصولها للحاسد. والاغتباط: هو تمني حصول مثله من غير طلب زوال عنه، وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا حسد إلا في اثنين العلم الذي يعمل به، والمال الذي ينفق في سبيل

الخير ". وإنما عبر عنهما بالحسد؛ مبالغة في الحرص عليهما. وإنما عرف النفاثات دون غاسق وحاسد؛ لوصفهما بالظرف بعدهما. وقيل: لأنَّ كل النفاثات شرّ بخلاف الغاسق والحاسد؛ استدلالاً بالحديث، وليس بناهضٍ؛ لما أشير إليه من الفرق بين الحسد والاغتباط، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دخل الظلام، أجيفوا الأبواب وكفوا الصبيان " من غير تفرقة بين غاسق وغاسق. وفي دعائه - صلى الله عليه وسلم -: " أعوذ بك من شر كلِّ حاسد ". * * * تمت والحمد للَّه وحده. * * *

سورة الناس

سُورَةُ النَّاسِ مدنية، ست آيات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) بسيّدهم المتولي أمورهم، المتصرف فيهم. (مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) عطف بيان على طريقة الترقي؛ لأنَّ الرب قد لا يكون سلطاناً، وهو أعمّ من أن يكون إلهاً يستحق العبادة. " وتكرير " الناس " مظهراً؛ لأنه أكمل في البيان. (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ... (4) الموسوس، اسم المصدر، أطلق على الفاعل مبالغة. والوسوسة: حديث النفس بالشر، أصله صوت الحلي. قال الأعشى: تَسمَعُ لِلحَلي وَسواساً إِذا انصرَفت

(5)

روى الترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ للشيطان بابن آدم لمة يوعده بالشر وتكذيب الحق ". (الْخَنَّاسِ) المنسوب إلى الخنوس وهو التأخر؛ لأنه كلما سمع ذكر اللَّه تأخر. (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " تجاوز اللَّه عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تكلم أو تعمل به ". ويجوز في محل الموصول الحركات الثلاث: الجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم. (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) بيان لـ " الذي يوسوس " على أنَّ الشيطان يعمّ القبيلين؛ لقوله. (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)، ويجوز أن يكون " من " ابتدائية أي: من جهة هذين النوعين.

فإن قلت: الوسوسة: حديث النفس وذلك مختص بشيطان الجن، فكيف أسند إلى الإنس؟ قلت: المراد بالوسوسة: الدلالة على الشر وإلقاؤه في النفس فهي تتحدّث به سواء كان بطريق ظاهر أو خفي؛ ولذلك قيل: شيطان الإنس أشدّ إغواء من شيطان الجن؛ لأنه يخنس عند ذكر اللَّه تعالى دون شيطان الإنس، ولما كان شأن الديانة أهم وأولى أفرد الاستعاذة له بعدما كان داخلاً في عموم شرّ ما خلق. روى مسلم عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألم تر آيات أنزلت الليلة، لم ير مثلهن قط، قل أعوذ بربِّ الفلق، وقل أعوذ بربِّ الناس ". وروى البخارى ومسلم عن عائشة رضي اللَّه عنها: " كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفيه وقرأ: قل هو اللَّه أحد، والمعوذتين، ونفث فيهما، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده ". هذا وأنا أعوذ بهما من شر نفسي وشر كل ما ذرأ وبرأ، وأستغفر اللَّه من خطرات الأوهام وعثرات الأقلام، وأسأله العفو والمغفرة لي ولوالدي ولمشايخي الكرام ولكافة المسلمين.

هذا آخر ما أوردته من تفسير كلام الملك العلَّام، مع انحطاط رتبتي عن هذا المقام، ولكن للمجتهد الأجر وإن حُرم إصابة المرام وقصَّر عن شَأْو الكرام. والحمد للَّه المفضل المنعم أولاً وآخراً، والصلاة على أكمل خلقه ترغيماً للشيطان، وعلى إخوانه من المرسلين وسائر الأنبياء، والصالحين من آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. فرغ مؤلفه من تأليفه يوم الخميس الثالث من رجب الفرد، الواقع في سنة سبع وستين وثمانمائة، وكان الابتداء به في أواخر سنة ستين وثمانمائة في المسجد الأقصى، تجاه باب الجنة تفاؤلاً، واللَّه خير مأمول ومسؤول. أتم حامداً للَّه تعالى، وعلى نبيه مصلياً. قد وقع الفراغ من تحرير هذا التفسير الشريف من شهر أواسط شوال المبارك سنة أربع وثمانين وثمانمائة، على يد العبد الضعيف النحيف الأسيف، المحتاج إلى رحمة ربه العفو الغفور اللطيف، الفقير المعتصم بالصمد إبراهيم بن أحمد بن خليل السينائي الحنفي عاملهم اللَّه تعالى بلطفه الخفي. * * *

§1/1