غاية الأماني في الرد على النبهاني

الألوسي، محمود شكري

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... غاية الأماني في الرد على النبهاني تأليف: أبو المعالي محمود شكري الألوسي تحقيق: أبو عبد الله الداني بن منير آل زهوي بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين (مقدمة المحقق) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفُسِنَا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70- 71] . أما بعد؛ فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشَرَّ الأمور مُحْدَثَاتُهَا، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار. "فإن الله تعالى أَيَّدَ دِينَهُ بالآيات البينات، والبراهين الساطعات، التي لو تجرَّد كل إنسان من داعية الهوى، وسَلِمَتْ آلاته وأنعم النظر فيها؛ لساقته إلى الإيمان سوقاً، ولدفعته إليه دفعاً.

لكن لما كان في نفوس بعض المخاطبين قصور في الفهم، أو تَلَكُّؤٌ في الاستجابة، أو مكابرة وعناد، أو العيش في بيئة يسودها الكدر والضلال، والبعد عن هدي السنة والكتاب؛ احتاج هؤلاء إلى أسلوب آخر في الاستدلال، يتضمن مجادلة ومناظرة بين الحق من جهة، والباطل من الجهة الأخرى، تثارُ أثناءها كَوَامِنُ الحق في فِطَرِ بني آدم، فيزول عن القلوب رَيْنُها، وعن الأبصار غَشَاوتُها، وعن العقول أقفالها، حتى يعودَ الحق واضحاً جَلِيّاً لكل ذي بصر وبصيرة، فلا يبقى أمامه إلا إعلان الإيمان، وإشهار الإذعان، أو الرضا بالخنوع للباطل، والهروب من الحق. ولقد شهدت البريّةُ- ولا تزال- أنماطاً من الجدل والمناظرة، والأخذ والرد، والكتابة والمناقشة، في شتى الموضوعات؛ ولكن: ليست هناك حجة كَحُجَجِ الله تعالى التي بعثَ بها رسله، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء: 87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122] . فالجدل والمناظرة، والرد على الخصوم والمخالفين؛ ضربٌ من ضروب بيان الحق وتأييده، وقمع الباطل وتزهيقه، وقد استخدمه الله تعالى في القرآن الكريم كثيراً، وبأساليب شتى، وفي حالات متنوعة؛ من تنبيه لغافل، أو إرشاد لمُسترشد، أو إفحام لمعاند. فالقرآن واجه الخصوم والمخالفين وتصدّى لهم، وناظرهم فيما يعتقدونه، وقطعهم بالحجة البالغة، والسلطان القاهر، فما استطاعوا له ردّاً، ولا عنه حِوَلاً. والرسول صلى الله عليه وسلم واجه أصنافاً من الناس؛ منهم المسترشد يطلب الحق، والجاهل يبتغي العلم، والجاحد يسلك سبيل المدافعة والمنازعة، ومنهم المعاند الذي لا يلوي على شيء غيرَ الوقوف أمام كل جديد بالصدّ والإنكار، والتزام ما كان عليه الآباء والأجداد. ومن هؤلاء وهؤلاء من ينتسب إلى كتاب مُنَزَّلٍ أصابه التحريف والتبديل، ومنهم من يعبد الوثن ...

وهناك بعض حديثي العهد بالإسلام قد بقيت معه بعض الشبه والشكوك، التي تقلّدها عن الجاهلية، فهي تحتاج إلى تجلية وكشف حتى يرسخ الإيمان في قلبه، وتصحح الفكرة في عقله. كل هؤلاء وغيرهم واجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام الحق وبيّنه، ودفع الباطل وأذهبه، ودفع الشبه والشكوك، وأقام الله تعالى به الدين؛ فصلوات الله وسلامه عليه تسليماً مزيداً. وكان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيب الأعظم في إقامة الحجة، وإصابة الحق، فهم أعلى الناس به علماً وعملاً، ونظراً ومناظرةً، وجدلاً ومجادلة، وذلك ببركة متابعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وتأسّيهم به. ثم تعرّض الإسلام إلى حملة شرسة من أعدائه؛ من أرباب الديانات المنحرفة، وأساطين الفلسفات القديمة؛ حيث ذهبوا يشكّكون في مسلّماته، ويتعرضون له بإثارة الشبهات، وبحث الوثنية من جديد، قاصدين لدولة الإسلام التي انداحت فشملت أصقاعهم، ونسفت ملكهم، وصدّعت صروحهم. فانبرى لهم أهل الدين والإيمان، من علماء الأمة وحرّاس العقيدة؛ يدفعون صولة الصائلين، وعداية المعتدين، فأقيمت المناظرات، وكتبت الردود، حتى ظهرت الحجة، واتّضحت المحجة. فحماية الدين من العاديات وكفُّ العدوان والمعتدين؛ من أعظم وأخطر مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها. فلا أقوى من سلطان الحجة، ولا أسطع من نور الدليل والبرهان، وهذا من أعظم ما يمتاز به دين الله الحق؛ إذ هو حجة وبيّنة، ودليل وآية، وبرهان ونور، وهدى وشفاء لما في الصدور. ولأهل الإسلام مع أهل الكفر والبدع والأهواء مواقف عَلِيَّة، ومشاهد

سَنِيَّة"1 من كتب وردود، وكشف لأباطيلهم وألاعيبهم، ودحض لأكاذيبهم. وقد كتب العلماء الربانيون قديماً وحديثاً في الرد على أهل البدع والأهواء، حماية للشريعة الغراء، وصيانة للسنة النبوية من أهل الافتراء. ومن هؤلاء العلماء الذين كتبوا في الرد على أهل البدع؛ الإمام العلامة أبي المعالي محمود شكري الألوسي البغدادي الحسيني، كتب كتاباً في الرد على أحد هؤلاء الذين أوقفوا أنفسهم في وجه السنة وأهلها؛ وهو المدعو يوسف بن إسماعيل بن حسن النبهاني، المولود سنة (1266 هـ) والمتوفي سنة (350 هـ) - أحد العاملين في المحاكم المدنية التي يحكم فيها أهلها بغير ما أنزل الله!! في وقته آنذاك-. وقد ردَّ المصنف- رحمه الله- على كتاب النبهاني "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق" ردًّا علمياً منهجياً وافياً، تعرض فيه للمسائل والكلام الذي افتراه النبهاني على دين الله وسنة رسول الله، وعلى العلماء الربانيين من هذه الأمة. وجلَّ المسائل المتكلم فيها في هذا الرد: مسائل التوسل والاستغاثة بغير الله عز وجل، وما يتعلّق بهما. ومسألة شدّ الرحال لزيارة القبور والاستنجاد بأهلها ودعائهم من دون الله تعالى. وقد أطنب المصنف في هذا الكتاب في الدفاع عن العالم الرباني، الإمام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني طيّب الله ثراه، وذلك بنقل كلام أهل العلم من شتى المذاهب في ثنائهم على شيخ الإسلام، وتبرئتهم له مما ينسبه إليه المفترون الظالمون. عدا مسائل عقدية وفقهية هامة، تجدها في ثنايا هذا الرد.

_ 1 من مقدمة الدكتور عثمان بن علي حسن لكتابه"منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد" بتصرف.

والكتاب طبع قديماً طبعة رديئة، ثم طبعت في مصر على نفقة عبد العزيز ومحمد العبد الله الجميع، ثم صوّرت طبعات عدة عن هذه الطبعة، فأحببتُ القيام بتجديد نشر الكتاب في طبعة أنيقة حديثة، مخرّجة الآيات والأحاديث، عليها بعض التعليقات الطفيفة فيما تقتضيه الحاجة دون توسع في ذلك، مصحّحاً فيها الأخطاء التي وقعت في الطبعة القديمة. واعلم أيها القاريء الكريم أن عملي في هذا الكتاب عن أصل مطبوع، وقد بذلت الجهد الذي بمستطاعي في إصلاح الأخطاء والتصحيفات، فإن وجدتَ زللاً أو خطأً أو تقصيراً؛ فادعُ الله لنا أن يتجاوزَ عنا، وأن يرحمنا. هذا وإني أشكر الأخ الفاضل الأستاذ فهد الحمدان- وفقه الله تعالى- على قيامه بنشر هذا الكتاب، وغيره من الكتب النافعة، أجزل الله له المثوبة، ووفقه لكل خير. اللهم إني أسألك السداد فيما أقول وأكتب، اللهم تجاوز عن سيئاتنا وارحم ضعفنا، وسدّد خطانا للحق، اللهم لا تفتنا بعد إذ هديتنا، وثبتنا على دينك. اللهم اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً. اللهم صل على محمد وعلى آله وسلّم تسليماً مزيداً. وكتب: أبو عبد الله السَّلفي الداني بن منير آل زهوي كان الله له الجية، منطقة جبل لبنان الموافق للخامس عشر من شهر جمادى الأولى لعام اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف

وفي أثناء كتابتي لهذه المقدمة فجعنا كما فُجِعَ المسلمون في أقطار الأرض بوفاة العلامة المحدث الإمام الحافظ ريحانة الديار اليمنية وشامتها أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، وذلك يوم السبت في الرابع عشر من شهر جمادى الأولى لهذا العام. والشيخ مقبل- رحمه الله- علم من أعلام السنة، ووالد رحيم لأبناء كثيرين من طلاب العلم من شتى بقاع الأرض، قام على رعايتهم وتعليمهم وتنشئتهم في دار أهل الحديث في"دماج" قرب مدينة "صعدة" اليمنية. وقد أمضى- رحمه الله- عمره وحياته في تعليم الناس وإرشادهم لدعوة الحق، وكان حصناً منيعاً للسنة وأهلها، وسيفاً مسلولاً على أهل البدع والأهواء، وعلماً شامخاً، ومرجعاً عزيزاً، وحافظاً كبيراً، وداعيةً رحيماً، وقد نفع الله به نفعاً عظيماً، غفر الله له وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً. رحمك الله يا أبا عبد الرحمن، وأجزل لك المثوبة، وأخلف الله لنا خلفاً صالحاً يسيروا سيرك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ترجمة المصنف اسمه ونسبه: هو: محمود شكري، أبو المعالي جمال الدين بن السيد عبد الله بهاء الدين ابن السيد محمود شهاب الدين بن عبد الله صلاح الدين بن محمد الخطيب الألوسي البغدادي الحسيني، يرجع نسبه للسيد السبط الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام. مولده: ولد المصنف في بغداد، في التاسع عشر من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف (19رمضان 1273) الموافق (12/ أيار/ 1856) بالتاريخ الأجنبي. وقد وُلِدَ في دار جدّه أبي الثناء رحمه الله. أسرته: ينتسب المصنف- رحمه الله- إلى الأسرة الألوسية، نسبة إلى (أَلُوس) وهذا ما رجّحه العلامة محمد بهجة الأثري في"أعلام العراق" (ص 7) . وقيل: نسبة إلى (آلوسة) بالمد. وهي جزيرة على الفرات في العراق. والأسرة الألوسية بغدادية الأصل، ارتحلت بسبب الفتن والحروب التي كانت تقع في بغداد أواخر المائة الحادية عشرة. وفي أواخر القرن الثاني عشر رجع

جدّ أبي الثناء إلى بغداد، واتخذها وطناً له. والألوسيون أسرة شريفة يرجع نسبها إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال الأستاذ محمد بهجة الأثري- رحمه الله-:"والألوسيون سادة أشراف، محبوكوا الأطراف، ضموا إلى زينة النسب حلية الأدب، فتفيّؤوا في الثرف مكاناً عَلِيّاً. وهم- على ثبوت نسبهم- من أبعد الناس عن التفاخر بالأنساب، ولعمري! إن انتسابهم إلى العلم ليكفيهم، ومحك النسب العمل: إن فاتكم أصل امرىء ففعاله ... تنبيكم عن أصله المتناهي". والأسرة الألوسية أسرة علمية، وجذ المصنف العلامة شهاب الدين محمود الألوسي (1217- 1275) هو صاحب التفسير المعروف بـ "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني". شيوخه: 1- والده عبد الله بهاء الدين الألوسي (1248- 1291 هـ) ، وكان تأثره به شديداً. 2- عمه العلامة السلفي نعمان خير الدين أبو البركات الألوسي. 3- إسماعيل بن مصطفى الموصلي (- 1302 هـ) . 4- الشيخ بهاء الحق الهندي نزيل بغداد، درس عليه طرفا من التفسير (1256 - 1300 هـ) . وقد ترجمه المصنف في"المسك الأذفر" (ص 212) . 5- الشيخ عبد السلام بن محمد بن سعيد النجدي الشهير بالشواف (1243 - 1318) . درس عليه مصطلح الحديث. 6- الشيخ محمد أمين الخراساني الفارسي. وغيرهم. تلاميذه:

1- الأستاذ العلامة محمد بهجة الأثري (1322- 1416هـ) . 2- الشاعر معروف الرصافي، شاعر العراق المشهور (1294- 1364) . 3- نعمان بن أحمد بن الحاج إسماعيل الأعظمي العبيدي (1293- 1358) . 4- علي علاء الدين الألوسي- ابن عم المصنف- (1277-1340) . 5- عبد العزيز الرشيد الكويتي، المؤرخ (توفي سنة: 1357) . 6- طه بن صالح الداوي، الأديب المؤرخ (1310- 1365) . 7- عبد اللطيف ثنيان، اللغوي (ت: 1363) . 8- عباس الغزاوي، المؤرخ العراقي المشهور (ت: 1971م) . 9- منير القاضي (1313- 1390) . 0 1- سليمان الدخيل النجدي (1294- 1364) . وغيرهم كثير. عقيدته بالتتبع والاستقراء لعقيدة الألوسي- من خلال كتبه وسيرته- يلاحظ أنه مرّ في أطوار ثلاثة في اعتقاده: الطور الأول: كان فيه صوفياً خالصاً: وهذا الطور يبدأ من أول حياته إلى أن تجاوز الثلاثين من عمره. وفي هذا يقول العلامة الأثري- رحمه الله- في كتابه "أعلام العراق" (ص: 91) : ".. ولكن الشاب المتأثر بالعقيدة الخلفية، والمتشبع بالروح الصوفية الموروثة له من أبيه وأستاذه الأول لم يستطع ملازمة عمه المستقل بعلمه وآرائه الضارب بالخزعبلات الصوفية والمذاهب التقليدية عرض الحائط، فصرف التعصب بصره عن عمه". الطور الثاني: كان فيه مازجا بين الصوفية والعقيدة السلفية، ولم يستمر هذا الطور معه طويلاً. وفي هذا يقول العلامة الأثري:"لما بلغ الألوسي هذا الطور من حياته،

واتسعت آفاقه الذهنية والعلمية؛ رأيناه يبدأ حالاً جديدة من أحوال التفكير والاجتهاد، ويعيد النظر فيما تعاوره في أثناء الشباب من اختلاط العقائد والنزعات المذهبية المختلفة ... " ["محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية" (ص 76) ] . الطور الثالث: وهو آخر ما استقر عليه المصنف رحمه الله؛ وهو طور نبذ التصوف، والمجاهرة بدعوة التوحيد. وفي هذا يقول العلامة الأثري: "ثم ما لبث الألوسي أن أصحر عن انحيازه في جراءة وقوة إلى الحركة السنية السلفية، مع مقاومة الدولة العثمانية الصوفية لهذه الحركة الإصلاحية بكل قواها الرجعية، واستعلن وقوفه إلى جانبها بكتابه "فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان" الذي فرغ من تأليفه في غرة ذي الحجة سنة (1306هـ) وطبع بالهند سنة (1309هـ) ". مؤلفاته: 1- غاية الأماني في الرد على النبهاني: وهو هذا الكتاب. 2- الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغرى: بعد أن صدر كتاب العلامة الألوسي الأول "غاية الأماني" واطّلع النبهاني عليه؛ نظم قصيدة ركيكة طعن فيها على علماء الملة، فردّ عليه الألوسي بهذا الكتاب. وتوجد نسخة من الكتاب بخط المؤلف كتبها سنة (1330) في مكتبة الآثار العامة، المتحف العراقي في (52) صفحة، برقم: 8721. 3- إتحاف الأمجاد في ما يصحّ به الاستشهاد: نشر ببغداد بتحقيق الدكتور عدنان بن عبد الرحمن الدوري، مطبعة الإرشاد سنة (1982م) في (126) صفحة. 4- الأجوبة المرضية عن الأسئلة المنطقية: في (43) صفحة، كتبه بخطه سنة (1340) ، ومنه نسخة في مكتبة الآثار العامة ببغداد، تحت رقم: (8774) .

5- أخبار الوالد وبنيه الأماجد: ترجم فيه أباه؛ السيد عبد الله بهاء الدين الألوسي. يقع في (102) صفحة بخط المصنف. منه نسخة في مكتبة الآثار العامة (8623) . 6- إزالة الظما بما ورد في الما: منه نسخة خطية بخط المصنف، كتبها سنة (1302) في مكتبة المجمع العلمي العراقي (31/ مجاميع- ورقة: 30-51) . 7- الأسرار الإلهية شرح القصيدة الرفاعية: طبع في المطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1305 هـ، في (96) صفحة. 8- أسواق العرب في الجاهلية: بحث نشر في مجلة"المشرق" البيروتية سنة (1898م) . 9- ألعاب العرب: أو"لعب العرب"منه نسخة بخط المؤلف في مكتبة الآثار العامة (8220) في (14) صفحة. 10- أمثال العوام في مدينة دار السلام: جمع فيه الأمثال العامية في بغداد، ورتبها على حروف الهجاء. منه نسخة خطية في مكتبة الآثار العامة (1798 و 8513) في (76) صفحة. 11- الأندلس وما فيها من البلاد: منه نسخة خطية في مكتبة الآثار العامة رقم (8799) . 12- البابية: منه نسخة خطية في أربع صفحات بخط المصنف، كتبه سنة (1319هـ) في مكتبة الدراسات العليا، رقم: (105) . 13- بدائع الإنشاء: الجزء الأول والثاني منه بخط المصنف في مكتبة الآثار العامة رقم (8550 -8551) .

ومنه قطعة في (16) ورقة في مكتبة الأوقاف العامة رقم (13717) . 14- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: منه أجزاء مخطوطة في مكتبة الآثار برقم (8501، 8502، 8506) . وقد طبع الكتاب في بغداد وفي القاهرة بتحقيق الأستاذ محمد بهجة الأثري. 15- تاريخ بغداد: كتاب كبير في ثلاثة أقسام: الأول: أخبار بغداد وما جاورها من البلاد: ألّفه المصنف سنة (1337هـ) في (155) ورقة. منه نسخة خطية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد في (128) ورقة برقم (24206) . ومنه نسخة في مكتبة الآثار العامة. ومنه نسخة في المكتبة المركزية ببغداد رقم (9) . ومنه نسخة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة رقم (1342) . الثاني: المسك الأذفر في نشر مزايا القرن الثاني عشر والثالث عشر: طبع بتحقيق الدكتور عبد الله الجبوري بدار العلوم بالرياض سنة (1402هـ) . الثالث: تاريخ مساجد بغداد وآثارها: منه نسخ خطية كثيرة في المكتبات البغدادية. 16- تاريخ نجد: حققه ونشره الأستاذ محمد بهجة الأثري. ومنه نسخة خطية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد. 17- تجريد السنان في الذب عن أبي حنيفة النعمان: ومنه نسخة خطية بمكتبة الآثار العامة برقم (8589) . 18- ترجمة الأصمعي: منه نسخة في مكتبة الآثار العامة برقم (8653) .

19- الجواب عما استبهم من الأسئلة المتعلقة بحروف المعجم: أجاب فيه عن أسئلة لغوية سبعة، كان قد وجّهها جلال الدين السيوطي إلى علماء عصره، ولم يُجِبْهُ عنها أحد. منه نسخة بخط المؤلف كتبها سنة (1319هـ) في مكتبة الآثار العامة برقم (8605) في (41) صفحة. 25- الجوهر الثمين في بيان حقيقة التضمين: أي التضمين النحوي. منه نسخة في مكتبة الآثار العامة (برقم: 8533) . 21- الدر اليتيم في شمائل ذي الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم: قال العلامة الأثري في كتابه"محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية" (ص117) : "لم يتمه". منه نسخة في مكتبة الآثار العامة برقم (8547) في (37) صفحة. 22- رسالة في إثبات خاتمية نبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم: منه نسخة بخط المؤلف، كتبها سنة (1319هـ) في مكتبة الآثار العامة برقم (8547) . 23- رسالة في التوحيد والتثليث: في الرد على رسالة إيليا مطران نصيبين. ألّفها سنة (1321هـ) منه نسخة بخط عبد الرزاق بن ملا محمد الحاج فليّح في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد (24317) في 36 صفحة، وأخرى في المكتبة القادرية ببغداد برقم (643) في 28 صفحة. 24- رسالة في قوله جاء المسيح رسولاً: منها نسخة خطية في 12 صفحة بمكتبة الدراسات العليا برقم (1143) . 25- رسالة في كلمات التسبيح: في ست ورقات بخط إبراهيم محمد ثابت الألوسي، في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد رقم (9/24309 مجاميع) .

26- رسالة فيما كانت عليه بغداد: في (12) صفحة بالمتحف العراقي (8798) . 27- رسائل محمود شكري الألوسي إلى الأب أنستاس ماري الكرملي: طبعت بعنوان "أدب الرسائل بين الألوسي والكرملي، بتحقيق كوركيس وميخائيل عواد. 28- الروضة العناء شرح دعاء الثناء: ألّفها سنة (1294هـ) ، ومنه نسخة في المتحف العراقي (8580/1) . 29- رياض الناظرين في مراسلات المعاصرين: وهي الرسائل المتبادلة بين الألوسي وبين علماء عصره. منه نسخة بخط المؤلف في المتحف العراقي برقم (8534) في (560) صفحة. 30- سعادة الدارين في شرح حديث الثقلين: كتبه بالفارسية العلامة عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي صاحب كتاب "التحفة الإثنى عشرية". وقد عربه الألوسي، وزاد عليه بعض الفوائد. ومنه نسخة بمكتبة الآثار العامة برقم (8872) في (26) صفحة، كتبها سنة (1336هـ) . 31- السواك: رسالة في العيدان التي كانت تستاك بها العرب في أيام الجاهلية. نشرها الأستاذ االأثري في مجلة الحرية العراقية. 32- السيوف المشرقة مختصر الصواعق المرسلة: منه نسخة بخط المصنف في (303) صفحة في مكتبة الآثار العامة برقم (8628) . 33- شرح الدر المنضود: وهو شرح القصيدة الأحمدية التي نظمها الشاعر أحمد بك الشاوي الحميري، في مدح السيد محمود شكري الألوسي، فأجازه عليها بشرحها

شرحاً أدبياً، في ثمانين صفحة. وهي بخط المؤلف في مكتبة الآثار العامة برقم (8721/1) . 34- شرح منظومة الشيخ حسن العطار في فن الوضع: منه نسخه خطية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (24309) . وأخرى في المكتبة القادرية ضمن مجموع برقم (1453/ 1) . 35- شرح منظومة عمود النسب وأخبار أخبار سلف العرب: والمنظومة هي للنسابة الشيخ أحمد البدوي المجلي الشنقيطي البوحمدي. وهي في مكتبة الأوقاف العامة برقم (24353) . ونسخة بخط العلامة محمد بهجة الأثري في خزانة كتبه. 36- صب العذاب على من سبّ الأصحاب: منه عدة نسخ خطية في بغداد، وقد طبع الكتاب في مكتبة أضواء السلف بالرياض، بتحقيق عبد الله البخاري، سنة 1417هـ. 37- الضرائر السائغة: وهذا اختصار لكتابه "الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر". منه نسخة في (70) صفحة بخط المصنف في مكتبة الآثار العامة برقم (8579) . 38- الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: منه نسختان بخط المؤلف في مكتبة الآثار العامة برقم (8520، 8680) . وقد حققه ونشره الأستاذ الأثري وطبع بالقاهرة ثم في بيروت. 39- عقد الدرر في شرح مختصر نخبة الفكر: منه نسخة خطية في مكتبة الآثار العامة برقم (8504) ، ونسخة أخرى في مكتبة الأوقاف العامة. وقد طبع الكتاب حديثاً في مكتبة الرشد بالرياض، بتحقيق: إسلام بن محمود درباله. 40- فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان:

كتاب"صلح الإخوان"لداود بن سليمان. وقد رَدَّ عليه الشيخ العلامة عبد اللطيف النجدي بكتاب أسماه: "منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس" ولم يتمه. فأتمه العلامة الألوسي في هذا الكتاب، وفرغ منه سنة (1306هـ) . منه نسخة خطية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (6493) . وطبع على الحجر في بومبي بالهند سنة (1309هـ) في (158) صفحة، على نفقة الأمير الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني حاكم قطر. 41- فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية لإمام محمد بن عبد الوهاب: منه نسخة في مكتبة الآثار العامة برقم (8738/ 1) . ونسخة أخرى في المكتبة القادرية برقم (600) . وطبع باسم "مسائل الجاهلية". 42- القول الأنفع في الردع عن زيارة المدفع: منه نسخة الأوقاف العامة رقم (113791) . 43- القول الظريف في تزييف دعوى ناصيف: وهو نقد المقالات التي ألّفها ناصيف اليازجي (ت: 1287 هـ) بعنوان"مجمع البحرين". قال الأستاذ الأثري في كتابه"أعلام العراق" (ص147) : "فُقِدَ هذا النقد في جملة ما فُقد في مؤلفات الأستاذ، ولكنني وجدتُ منه عدة أوراق من أوائله". وقال في كتابه"محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية" (ص120) :"تبعثر إبان نفيه إلى الأناضول وفُقد أكثره، وعندي قطعة من أوله بخط المؤلف". 44- كنز السعادة في شرح كلمتي الشهادة: منه نسخة في مكتبة الآثار العامة برقم (8694) في (56) صفحة. ونسحة أخرى في مكتبة الأوقاف العامة (13719) . وطبع بتحقيق علي فريد دحروج في بيروت بدار الكتاب العربي.

45- اللؤلؤ المنثور من حلي الصدور: جمع فيه مكاتيب ومراسلات والده وجده. منه نسخة بخط المؤلف في مكتبة الآثار العامة برقم (8654) . 46- ما اشتمل عليه حروف المعجم من الدقائق والحقائق والحكم: منه نسخة بخط المؤلف في مكتبة الآثار العامة برقم (8507) في (116) صفحة. 47- ما دلّ عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان: نشر بالمكتب الإسلامي ببيروت. 48- مجموعة تراجم العلماء: وهو في تراجم مشاهير المتأخرين من أهل بغداد. وما في "المسك الأذفر" من تراجم غير ما ترجم في هذه المجموعة. منه نسخة خطية في مكتبة الآثار العامة (2099) . 49- مختصر مسند الشهاب في الحكم والمواعظ والآداب: قال الأستاذ الأثري عنه: "اختصرناه معاً، ونسخته بخطي ... ". وهو في مكتبة الآثار العامة برقم (8616) . 50- المسفر عن الميسر: منه نسخة في مكتبة الآثار العامة برقم (8505/ 1) ، وأخرى بمكتبة الأوقاف العامة برقم (34258) . 51- المسك الأذفر: انظر مادة"تاريخ بغداد". 52- المفروض من علم العروض: استخرجه من كتاب"لسان العرب" لابن منظور. انظر "أعلام العراق" للأثري (ص 147) . 53- ملخص كتاب الأصنام: وهو تلخيص كتاب "الأصنام" لهشام بن السائب الكلبي.

منه نسخة في مكتبة الآثار العامة برقم (8795/5) . 54- منتهى العرفان والنقل المحض في ربط بعض الآي ببعض: قال الأستاذ الأثري:"شرع في تأليفه في أوائل سنة 1341هـ، فوافته المنية قبل إتمامه". منه نسخة في مكتبة الآثار العامة برقم (8841) . 55- المنحة الإلهية تلخيص ترجمة التحفة الإثني عشرية: أهل الكتاب "التحفة الإثني عشرية" للعلامة عبد العزيز الدهلوي الفاروقي (ت:1240هـ) ، وترجمه إلى العربية: غلام محمد أسلمي الهندي. ولخصه المؤلف وهذبه وضم إليه فوائد جزيلة. وقد طبع الكتاب بالهند ومصر. 56- النحت وبيان حقيقته: رسالة صغير في (13) صفحة، نسختها في مكتبة الآثار العامة برقم (8766) . وغير ذلك من كتبه وتحقيقاته الكثيرة. - مصادر الترجمة: "أعلام العراق" للأثري: محمد بهجة. "محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية" للسابق. "مشاهير علماء نجد وغيرهم". "مقدمة كتاب المسك الأذفر"له بتحقيق الجبورك. "مقدمة كتاب أدب الرسائل". "الأعلام" للزركلي (7/ 172- 173) . "معجم المؤلفين العراقيين في القرنين التاسع عشر والعشرين" لكوركيس عواد. وغيرها.

قالوا في الكتاب قال الشيخ محمد رشيد رضا في تقريظه لهذا الكتاب: "كتاب مؤلف من سفرين كبيرين، لأحد علماء العراق، المكني: بأبي المعالي الحسيني السلامي الشافعي؛ ردّ فيهما ما جاء به النبهاني في كتابه "شواهد الحق" من الجهالات والنقول الكاذبة، والآراء السخيفة، والدلائل المقلوبة، في جواز الاستغاثة بغير الله، وما تعدى به طوره من سبّ أئمة العلم وأنصار السنة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية ... إلى أن قال: وفي هذا الكتاب ما لا أحصيه من الفوائد العلمية في التوحيد، والحديث، والفقه، والآداب، وغير ذلك.. [مجلة المنار/ عدد: 12/ ص: 785] . وقال الشيخ تقي الدين الهلالي: "غاية الأماني في الرد على النبهاني لمؤلفه العالم السَّلفي محمود الألوسي البغدادي- رحمه الله-، وهذا الكتاب من أنفس كتب السلفية؛ جادل المبتدعين من المتصوفة، وشدّد عليهم الخناق بعبارات بليغة، كأنها عقود الجمان في أجياد الحسان، فيه من المتعة والفوائد ما يقل نظيره في الكتب". [الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية/ ص: 22] .

خطبة الكتاب

خطبة الكتاب ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على ما عرفنا من نفسه، وألهمنا من شكره، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيته، ودلّنا عليه من الإخلاص في توحيده، وجنّبنا من الإلحاد والشك في أمره، وهو ربّ العالمين، وقَيُّوم السموات والأرضين. نحمدُه حمداً يضيء لنا به ظلمات البرزخ، ويسهل علينا به سبيل المبعث، ويشرف به منازلنا عند مواقف الأشهاد يوم تُجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون. ونشهد أن لا إله إلا الله العظيم السلطان، والملك الديان، الذي لا شريك له ولا ند، ولا وزير ولا معين، وهو الربّ المستعان، فسبحانه من إله وقفت سيارات العقول حيارى في مواقف عظمته، وتاهت ثوابت أبكار الأفكار سكارى في فيافي قدرته، وأقام أدلة وحدانيته على رؤوس عرائس الكائنات، ونظم براهين تفرده بربوبيته في سلك امتناع تسلسل الموجودات. ونرفع إليه جلّ شأنهُ أَكُفَّ التضرّع والابتهال، ونبسط له- تعالى سلطانه- أيدي التذلل والسؤال، أن يُدِيَم ديم صلاته وسلامه هاطلة على أَجَلِّ من نشر رايات التوحيد، وعقد خنصر قلبه على تقديس ربه المجيد، وتمسِّك بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، سيّدنا ومولانا محمد أمينك على وحيك، ونجيبك من خلقك، وصفّيك من عبادك، إمام الرحمة، وقائد الخير ومفتاح البركة، الذي نصب لأمرك نفسه، وعرض فيك للبلاء بدنه، وكاشف إليك في الدعاء خاصته، وحارب في رضاك أسرته، وقطع في إحياء دينك رحمه، وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك، وأتعبها بالدعاء إلى

ملّتك، وشغلها بالنصح لأهل دعوتك، إرادة منه لإعزاز دينك، واستنصاراً على أهل الكفر بك، حتى استتبّ له ما حاول في أعدائك، واستتم له ما دبر في أوليائك، فنهد إليهم مستفتحاً بعونك، ومتقوياً على ضعفه بنصرك، صلى الله عليه وعلى اله وأصحابه؛ الذين أخلصوا في أعمالهم فخلصوا عن كل نقص حتى لم يبق فيهم كلام، ولخصوا زبدة أعمارهم بالتجرد عن شوائب الغفلة فلم يشبهم شيء من دواعي الملام، شنّوا غارات عزائمهم حتى بددوا كتائب الزيغ والضلالة، ودمغوا بأسنة حججهم رؤوس أهل الشرك والجهالة، الذين أسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وعلى من تبعهم بإحسان، ولم يكن لهم غير الله ملجأ ولا مستعان. أما بعد؛ فقد وصل إليّ- في أواخر رجب الفرد، سنة خمس وعشرين وثلثمائة وألف، من هجرة من تقصر دون كعب علاه بردة المدح والوصف- كتاب قد اشتمل على بهتان عظيم، وعدول عن الصراط المستقيم، ألّفه بعض الجهلة لمصادمة الحق، ومعارضة الصواب بالخطأ المطلق، ومناقضة ما جاءت به رسل الله، وصدحت به الكتب المنزلة، ودلت عليه الدلائل القطعية؛ وهو توحيد الله وإفراده بخصائص الربوبية، وتخصيصه بالالتجاء إليه، والتوكل عليه، والاستعانة به في كل كلية وجزئية، فجاء هذا الغبيّ الجاهل المكابر، وأعرض عن الحق الصريح الظاهر، وجمع كتاباً سماه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) وحشاه من الكذب والافتراء والظلم والعدوان، وشتم أهل الحق ونصرة التوحيد، والحكايات الكاذبة، وكان الحَرِيّ به أن يسمي كتابه هذا شبه الباطل والضلال. ولما تصفحته وجدته كتاباً لا يروج ما فيه حتى على ضعفاء العقول، فضلاً عمن تضلع من فنون المنقول والمعقول، لما اشتمل عليه من واهي الأسانيد وأكاذيب النقول، مباحثه متناقضة، ومطالبه متعارضة، جهل بها مؤلفه، وغفل عنها مصنفه، وبقيت أُقَدّمُ رجلاً وأؤخّر أخرى في الإقدام على إبطاله، وتزييف أقواله، حيث تكلم بالجزاف، وأبان عن قلة معرفة وعدم إنصاف، وكان الرأي عندي أن يعرض عن جهله المستأصل لشافته، ولا يتعرض لغثاثته وسخافته، ولا

يلتفت إلى تخليطه وخرافته، غير أن بعض الإخوان لما علم مقصدي ووقف على ما تقرر عندي التمس مني ذلك، وطلب إبطال ما هنالك، وذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال أبو سفيان يوم أحد: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر، أفيكم ابن الخطاب؟ قال لأصحابه: "لا تجيبوه". تهاوناً به وتحقيراً لشأنه، فلما قال أُعل هبل، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: الله أعلى وأجل". ولما قال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال لهم:"قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم"1. فحينئذ جرّدتْ أسنّة العزائم والرد، واستعنتُ على رد أباطيله بالواحد الفرد، وليت مصنف ذلك الهذيان تنكب عن ميدان الفرسان، ليسلم من أسنة ألسنتهم عرضه، وينطوي من بساط المشاجرة طوله وعرضه، ولم يسمع ما يضيق به صدره، ولم ينتهك بين أفاضل الأمة ستره، وإذا أبى إلا المهارشة والمناقشة، والمواحشة والمفاحشة، فليصبر على حزّ الحلاقم، ونكز الأراقم2، ونهش الضراغم3، والبلاء المتراكم المتلاطم، ومتون الصوارم. فوالذي نفسي بيده؛ ما بارز أهل الحق قط قرن إلا كسروا قرنه، فقرع من ندم سنه، ولا ناحرهم خصم إلا بشّروه بسوء منقلبه، وسدّوا عليه طريق مذهبه لمهربه، ولا فاصحهم أحد -ولو كان مثل خطباء إياد- إلا فصحوه وفضحوه، ولا كافحهم مقاتل -ولو كان من بقية قوم عاد- إلا كبُّوه على وجهه وبطحوه، هذا فعلهم مع الكماة الذين وردوا المنايا تبرعاً، وشربوا كؤوسها تطوعاً، وسعوا إلى الموت الزؤام4 سعياً، وحسبوا طعم الحمام أرياً، والكفاة الذين استحقروا الأقران فلم يهلهم أمر مخوف، وجالوا في ميادين المناضلة واخترقوا الصفوف، وتجالدوا لدى المجادلة بقواطع السيوف.

_ 1 أخرجه البخاري (3039، 4043) وأحمد (4/ 396) ، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. 2 نكز الأراقم: النكز: الدفع والضرب. الأراقم: الحيّات. 3 الضراغم: الأسود. 4 الموت الزؤام: الموت العاجل.

وقد حان أن نشرع بالمقصود، والذب عن شريعة صاحب المقام المحمود، والحوض المورود. اللهم اجعلني أصول بك عند الضرورة، وأسألك عند الحاجة، وأتضرع إليك عند المسكنة، ولا تفتني بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت، ولا بالخضوع لسؤال غيرك إذا افتقرت، ولا بالتضرع إلى من هو دونك إذا رهبت، فأستحق بذلك خذلانك ومنعك وإعراضك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمنّي والتطني والحسد ذكراً لعظمتك، وتفكّراً في قدرتك، وتدبيراً على عدوك، وما أجري على لساني من لفظة فحش، أو انتهاك عرض، أو شهادة باطل، أو اغتياب مؤمن غائب، أو سب حاضر، وما أشبه ذلك؛ نطقاً بالحمد لك، واعترافاً في الثناء عليك، وذهاباً في تمجيدك، وشكراً لنعمتك، واعترافاً بإحسانك، وإحصاءً لمننك، إنك مجيب الدعاء. ولا بد قبل الخوض في إبطال الباطل، ورد الكلام العاطل، من معرفة أمور تزيد من علمها بصيرة في التمييز بين الخطأ والصواب، وتعين على الوقوف على الحق من طرق هذا الباب، ومن الله نستمد التوفيق، وبيده أزمة التدقيق والتحقيق.

الأمور التي يجب التنبيه عليها والإشارة بيسير العبارة إليها

(الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بيسير العبارة إليها) الأمر الأول: إن الكتب المصنفة في حقائق الدين وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا تحصى كثرة في كل عصر من الأعصار، ولاسيما في هذه الأزمان الأخيرة، فقد انتشرت الكتب الإسلامية -بواسطة صناعة الطبع -انتشاراً لم يُعْهَدُ مثله في الأعصر الخالية، ومع ذلك لم تؤثر في القلوب القاسية شيئاً. فإن أمثال النبهاني1 المعرضين عن الحق المتبعين لأهوائهم، كثيرون في الأقطار والبلاد، ودلائل الحق واضحة جلية، ولم يلتفتوا إليها، ولا عرجوا عليها، وهذا وإن اغترَّ به العوام، والجهلة الطغام، فهو لا يضر الحق ولا يمس شرف

_ 1 تقدمت ترجمته في مقدّمة الكتاب.

أهله، فإن الأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جداً، كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم في الهداية1. فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئاً عاداه وعادى أهله، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من قبول الحق أقوى، فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظّمه قوي المانع، فإن انضاف إلى ذلك توهّمه أن الحق الذي دُعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعن شهواته وأغراضه قوي المانع من القبول جداً، فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما نرى كثيراً ممن ينتسب إلى العلم من أهل المناصب والجرايات ينتسبون إلى الطرائق المبتدعة، ويظهرون ما يروج من العقائد لدى حكومتهم ودولتهم، ويتجنبون من العقائد السّلفية، وإظهار السنن النبوية مع علمهم بحقية حقائقها، ووقوفهم على دقائقها محافظة على الزخارف الدنيوية، والسفاسف الدنية، وأعرف من هؤلاء عددا ًكثيراً؛ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 2. فإذا كان الأمر على ما ذكر ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهمّ بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه، وخافهم على نفسه، واختار الكفر على الإسلام بعدما تبين له الهدى، وقصته مشهورة3. ومن أعظم هذه الأسباب؛ الحسد، فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه، وأوتي ما لم يؤتَ نظيره، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟! فإنه لما رآه قد

_ 1 أي "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى"، وقد حقّقتُه- ولله الحمد- عن مخطوطتين؛ يسّر الله نشره. 2 سورة البقرة: 16. 3 انظر قصّته في "صحيح البخاري" (رقم: 7- وانظر أطرافه هناك) .

فضل عليه ورفع فوقه؛ غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة. وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علمًا لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى، فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان، وأطبقوا عليه، وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهّاد، والقضاة والملوك والأمراء، هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة تخالفها ولم يقاتلهم وإنما أتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفاً ورحمة وإحساناً، وجاء مكمّلاً لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان. فكيف يكون حالهم مع نبيّ جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع، مبكتاً لهم بقبائحهم، ومنادياً على فضائحهم، ومخرجاً لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه، وهم معه دائماً في سفاك؟ فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟ وأين تقع حالهم معه من حالهم مع المسيح، وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى، وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمآكل كما تقدم؟! وقد أطنب ابن القيم الكلام، وأتى بما تعشقه الأسماع والأفهام، وله كلام مفصل يتعلق بهذا الباب ذكره في كتاب (مفتاح دار السعادة) ولعلنا نذكر منه شيئاً فيما سيأتي إن شاء الله. والمقصود؛ أن لعدم قبول الحق والإذعان له أسباباً كثيرة كلها موجودة في الغلاة، والغالب منها قسوة قلوبهم، كما أخبر الله تعالى عن اليهود بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1.

_ 1 سورة البقرة: 74.

وفي (باب فضل من علم وعلم) من كتاب (صحيح الإمام البخاري) حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"1. قال شارحه الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني -بعد كلام له ناقلاً عن الإمام القرطبي وغيره-: "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم: العالم العامل المعلم؛ فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله ولم يتفقه فيما جمع، لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: "نضّر الله امرأً سمع مقالتي فأداها كما سمعها" 2. ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره؛ فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها والله أعلم. قال: ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني:

_ 1 أخرجه البخاري (79) ومسلم (45) . 2 حديث صحيح، مروي عن جمع من الصحابة، وقد توسّعتُ في تخرجيه في تحقيقي لـ "شرف أصحاب الحديث" للخطيب البغدادي؛ فأنظره هناك.

الأولى منه: من دخل في الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:"من لم يرفع بذلك رأساً" أي: أعرض عنه لم ينتفع به ولا نفع، والثانية منه: من لم يدخل في الدين أصلاً بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:"ولم يقبل هدى لله الذي جئت به". وقال الطيبي: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما: الذي انتفع بالعلم ولم يعلمه غيره. والثاني: من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره. قلت: والأول داخل في الأول، لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبت الأرض فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيماً، وأما الثاني: فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضاً فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم من لم يرفع بذلك رأساً والله أعلم". انتهى كلام الإمام العسقلاني1. والمقصود: أن الحديث قد دل على أن بعض القلوب كالأرض النقية التي قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، كقلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن تبعهم بإحسان. وبعضها: كالأجادب التي أمسكت الماء، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"رب مبلغ أوعى من سامع"2. وبعضها: كالقيعان التي لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ، كقلوب كثير من الغلاة وأهل البدع والضلالات، فإنها لا يؤثر فيها الهدى والعام، كما أن الأرض السبخة لاتمسك ماءً ولا تنبت كلأً. الأمر الثاني: أنه ورد في الحديث المتفق على صحته: "إنكم لتتبعن سنن من

_ 1 انظر"فتح الباري" (1/ 212- 213) . 2 هو جزء من حديث"نضّر الله امرأً..".

كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"1. أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في أمته من يحذو حذو الأمم السابقة، وهم جاهلية الكتابيين وغيرهم، كما فُسّر في الحديث، ولا شك أن ما أخبره به صلى الله عليه وسلم كائن لا محالة، فإنه الصادق المصدوق، وما ينطق عن الهوى، ومن اليقين أن من استمسك بهديه، واتبع ما ثبت من سنته غير مقصودين بالحديث، لما ثبت في حديث الفرق أنهم الفرقة الناجية، وهم من كان على ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما هو الوارد2؛ فلا بد أن يكون الذين يحذون حذوهم هم من بدَّل وغير، وابتدع وحرف، وحاكى الذاهبين الأوّلين في أفعالهم وأعمالهم، من بناء المشاهد والمساجد على قبور صالحيهم، وندائهم في المهمات والملمات، وغير ذلك مما كان يفعله اليهود والنصارى والمشركون، مما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وفي الغلاة ومبتدعة أهل القبور من خصال الجاهلين من الكتابيين والمشركين ما يصدق به عليهم اتباع سننهم حذو القذة بالقذة، ونحن نذكر بعض ذلك ليكون كالمثال الموضح لما نحن بصدده. فمن خصالهم: أنهم كانوا يتعبدون بإشراك الصالحين في عبادة الله تعالى، ويرون ذلك من تعظيمهم الذي يحبه الله، ويقصدون به أيضاً التقرب والزلفى والفوز بشفاعتهم، لظنهم أن الصالحين يحبون ذلك منهم، وقد أخبر القرآن عن هذه الخصلة قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ

_ 1 أخرجه البخاري (4356، 7320) ومسلم (2669) . 2 في"سنن الترمذي" رقم (2641) بإسناد فيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي؛ وهو ضعيف. لكن الحديث صحيح بطرقه وشواهده؛ انظر"الصحيحة"رقم (203، 204) . وانظر "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله" للمعلمي (ص 72- 73 ط المكتبة العصرية) فقد ذكرت شواهد الحديث هناك.

اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1 وعبادة المشركين لهم كانت بدعائهم لهم وطلب حاجاتهم منهم، والذبح والنذر لهم، والحلف بهم. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بالإخلاص وأخبرهم أنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه، وأن من فعل ما استحسنه حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وهذه المسألة هي الدين كله ولأجلها تفرق الناس بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 3، ومن المعلوم أن للغلاة الحظ الوافر من خصلة أسلافهم هذه كما هو المشاهد. ومن خصالهم: أن دينهم كان مبنياً على أصول أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع من كان قبل ظهور الإسلام من الأمم الأولى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 4. فأمرهم الله تعالى أن يتبعوا الحق فقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 5. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} 6. إلى غير ذلك مما يدل على أن أهل الجاهلية كانوا مقيدين بربقة التقليد لا يحكّمون لهم رأياً، ولا يستعملون نظراً، ولا يشغلون فكراً، فلذلك

_ 1 سورة الزمر: 2- 3. 2 سورة يونس: 18. 3 سورة الأنفال: 39. 4 سورة الزخرف: 23- 24. 5 سورة الأعراف: 3. 6 سورة البقرة: 170.

تاهوا في أودية الجهالة، وقضوا أعمارهم في الضلالة، وهكذا الغلاة وعبدة الأموات قلّدوا آباءهم في تلك العادات، فلا يمكن نقلهم عنها ولو ظهرت الآيات البينات، ولكم بحثت مع عقلائهم فما زادهم ذلك إلا نفوراً، وعتوا على الحق وغرّهم غروراً، فطابق بين الفريقين تجد الموافقة ظاهرة لكل ذي عينين. ومن خصالهم: الإقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم، قال تعالى محذراً للمؤمنين أن يحذوا حذوهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2 إلى آيات أخر تنادي ببطلان الإقتداء بالفسقة والغواة الضالين المضلين. ومن نظر إلى حال النبهاني وأضرابه الصادّين عن سبيل الله تجده على ما كان عليه القرون الأولى الجاهليون. ومن خصالهم: الاحتجاج بما كان عليه القرون السالفة من غير تحكيم للعقل ولا أخذ بالدليل الصحيح، كما دل على ذلك قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} 3. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 4. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ

_ 1 سورة التوبة: 34. 2 سورة المائدة: 77. 3 سورة طه: 49- 54. 4 سورة القصص: 36- 37.

يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} 1. وقال تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 2. فهؤلاء الأمم كلهم جعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل أنه لم يكن عليه أسلافهم، ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم، وجمود قرائحهم، ولو كانت لهم قلوب يفقهون بها وآذان يسمعون بها وأعين يبصرون بها لعرفوا الحق بدليله، وانقادوا لليقين من غير تزييفه ولا تعليله، وهكذا أخلافهم وورّاثهم، هذا النبهاني لم يفد فيه ما ألف من الكتب المفصلة لإثبات الحق وإبطال الباطل، ولم يلتفت إليها بسبب مخالفتها لما كان عليه السبكي3، وابن حجر المكي4. ومن خصائصهم: الاعتماد على الكثرة، والاحتجاج بالسواد الأعظم، وإبطال الشيء بسبب قلة أهله، فأبطل الله تعالى ذلك بقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ

_ 1 سورة المؤمنون: 23- 25. 2 سورة ص: 6- 7. 3 هو: تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الخزرجي الأنصاري السبكي الشافعي المصري. ولد بسبك- من أعمال المنوفية- بمصر، سنة 683. تفقه على والده وجماعة؛ آخرهم ابن رفعة. ولي قضاء دمشق، وفي آخر عمره رجع إلى مصر فأقام بها، وتوفي في جمادى الآخرة في القاهرة سنة 756هـ. انظر "ذيل تذكرة الحفاظ" (5/39) . 4 هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حجر الوائلي السعدي الهيثمي المكي. ولد سنة 909 في محلة أبي الهيثم من إقليم الغربية بمصر، وتوفي في مكة المكرمة سنة 973. من مؤلفاته: "تحفة المحتاج شرح المنهاج"و "الصواعق المحرقة" و"الفتح المبين في شرح الأربعين" و"الزواجر عن اقتراف الكبائر" وغيرها. انظر "البدر الطالع" للشوكاني (1/109) .

أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1 فالكثرة على خلاف الحق لا تستوجب العدول عن اتباعه لمن كان له بصيرة وقلب، فالحق أحق بالاتباع وإن قلَّ أنصاره، كما قال تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 2. فأخبر الله سبحانه عن أهل الحق أنهم قليلون غير أن القلة لا تضرهم، وما أحسن قول القائل 3: تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل والمقصود؛ أن من له بصيرة ينظر إلى الدليل، ويأخذ بما يستنتجه البرهان وإن قلّ العارفون به والمنقادون له، ومن أخذ ما عليه الأكثر وما أَلِفَتْهُ العامة -كما هو ديدن الغلاة وعادتهم من غير نظر لدليل -فهو مخطىء سالك غير سبيل المؤمنين، متبع سنن الجاهلية، مقدوح عند أهل البصائر، وهذه مكيدة عظيمة للغلاة، ولذلك ترى النبهاني لم يزل يردّد في كتابه هذا القول في تصحيح عقائده، ويقول: ما نحن عليه مذهب الجمهور، ومقصوده جمهور العوام الذين هم كالأنعام. ومن خصائصهم: الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريباً، فرد الله تعالى ذلك بقوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 4. ومعنى الآية: (فلولا كان) تحضيض فيه معنى التفجّع، أي: فهلاّ كان (من القرون) أي: الأقوام المقترنة في زمان واحد (من قبلكم أولوا بقية) أي: ذوو

_ 1 سورة الأنعام: 116- 117. 2 سورة ص: 24. 3 القائل هو السموأل، وتمام البيت: وما ضرّنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل 4 سورة هود: 116.

خصلة باقية من الرأي والعقل، أو ذوو فضل، على أن يكون البقية اسماً للفضل، والهاء للنقل، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم، ومنه قولهم: في الزواية خبايا، وفي الرجال بقايا. (ينهون عن الفساد في الأرض) الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم وفسر الفساد بالكفر وما اقترن به من المعاصي. (إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) استثناء منقطع، أي: ولكن قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون. والغلاة يقولون: إن كثيراً من الصلحاء وأهل الطرائق يستغيثون بغير الله ويندبون الصالحين، وأرواحهم تتصرف في هذا العالم، والقول بعدم جواز ذلك غريب جداً لا نلتفت إليه، وأرواح الصالحين تتصرف وتدبر، والقول المخالف له أيضاً نادر شاذ لا يلتفت إليه، وهذا كثيراً ما يكرره النبهاني، ويقول: إن أقوال ابن تيمية شاذة ونحو ذلك، فانظر تشابه قلوبهم، واحمد الله تعالى على السلامة في الدنيا والدين. ومن خصالهم: الغلوّ في الصالحين من العلماء والأولياء، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1. فاتخاذ أحبار الناس أرباباً يحلّلون ويحرّمون، ويتصرّفون في الكون، وينادون في رفع ضرّ أو جَلْبِ نفعٍ من جاهلية الكتابيين، ثم سَرَتْ إلى غيرهم من جاهلية العرب، ولهم اليوم بقايا في مشارق الأرض ومغاربها وهم الغلاة في أهل القبور، فإنك ترى غالب الناس اليوم معرضين عن الله، وعن دينه

_ 1 سورة التوبة: 30- 32.

الذي ارتضاه، متوغلين في البدع، تائهين في أودية الضلال الأشنع، معادين لكتاب الله والسنة ومن قام بهما، فأصبح الدين منهم في أنين، والإسلام في بلاء مبين، والنبهاني له من ذلك الحظ الوافر، كما أخبر عنه بذلك من يعرفه وأيدته كتبه، والله المستعان. ومن خصالهم: الاعتياض عن شرع الله ووحيه بالخوارق الكاذبة وكتب السحر، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 1 الآية. والكلام عليها في كتب التفسير مشهور. وعلى هذه الخصلة اليوم كثير من الناس، لاسيما بعض الغلاة المنتسبين إلى بعض المشايخ والصالحين -وهم بريئون منهم- فإنهم قد تعاطوا بعض الأعمال السحرية من إمساك الحيات، وضرب السلاح، والدخول في النيران، وغير ذلك مما وردت الشريعة بإبطاله، ولم يلتفتوا إليه، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما ألقنه إليهم شياطينهم، وادّعوا أن ذلك من الكرامات وخوارق العادات! ومن المعلوم أن الكرامة لا تصدر عن فاسق ومخالف للشريعة، ومن يتعاطى تلك الأعمال فسقه ظاهر للعيان، وقد اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، وليت شعري لم اختصّت الكرامة بمسك بعض الحيّات والعقارب، والضرب بسلاح مخصوص، والضرب بأيديهم؟! فهلا وقفوا أمام مدفع من المدافع فدلع لسانه عليهم وقرأ سورة الدخان وأطلق كراته على وجوههم لنرى كراماتهم حينئذ أين تبقى؟! ومن مشايخ النبهاني -على ما سمعت- من هو أبو هذه الخبائث وأمها، وسَنُلِمُّ إن شاء الله تعالى على هؤلاء الزائغين مرة بعد أخرى. ومن خصالهم: التحريف لكتب الدين، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ

_ 1 سورة البقرة: 101- 102.

يََقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 1. ومن نظر إلى متصوفة زماننا وغلاته وما صرفوه من النصوص إلى ما تقتضيه شهواتهم وبدعهم رأى أمراً منكراً، وهكذا كثير من القضاة والحكام، وما تلاعبوا به من الأحكام. ومن خصالهم؛ معاداة الدين الذي دانوا به، وموالاتهم للزائغين، كما فعل اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاهم بما أتى به موسى أعرضوا عنه واتبعوا كتب السحر، وهو من دين آل فرعون، والغلاة هجروا السنة وعادوها، ونصروا أقوال شيوخ القرامطة2 والباطنية وأمثالهم. ومن خصالهم: التعصب لباطلهم، فإنهم لما افترقوا خطأ كل فريق منهم الآخرين، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3. وهكذا تجد الغلاة من أهل الطرائق المبتدعة، فالرفاعي يقول: ليس القادري على شيء، والقادري يقول: ليس الرفاعي على شيء، وهذا يقول شيخي أخذ زنبيل4 الأرواح من عزرائيل5 وأعاد كل روح إلى جسدها، وهذا يقول: مرّ شيخي على جهنم فأراد أن يطفيها ببزاقه فحالت الملائكة بينها وبينه!! ومن اتبع العيدروسي يقول:

_ 1 سورة البقرة: 78- 79. 2 سمّوا بذلك نسبة إلى حمدان قرمط. وكان ظهوره سنة (270) -والقرامطة: فرقة من الزنادقة الملاحدة، أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون بنبوة زرادشت ومزدك، وكانوا يبيحون المحرمات ... انظر "البداية والنهاية" (1/61) . 3 سورة البقرة: 113. 4 الزنبيل: الجراب أو الوعاء يحمل فيه. قال ابن منظور: "وقيل الزنبيل خطأ، وإنما هو زبيل". 5 لا يصح تسمة ملك الموت باسم (عزرائيل) لعدم ورود ذلك وثبوته. وانظر "معجم المناهي اللفظية" للشيخ بكر أبو زيد (ص390) .

العيدروسي كان يُحيي ... من الأموات من قد مات دهراً وهكذا تجدهم يتضاربون بالأقوال، ولم يزالوا قائمين على ساق المخاصمة والجدال، والحازم ينظر إلى الدليل فما أداه إليه نظره من الحق أخذ به وترك ما سواه. ومن خصالهم: التعبُّد بما لم يأذن به الله، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 1. المراد بالفاحشة في الآية؛ عبادة الأصنام، وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك مما كان عليه مشركوا العرب في الجاهلية، وفي الآية حذف، أي: وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، محتجين بأمرين: تقليد الآباء، والافتراء على الله. وكان من سنة الحمس أنهم لا يخرجون أيام الموسم إلى عرفات إنما يقفون بالمزدلفة، وكانوا لا يسلؤون ولا يأتقطون، ولا يربطون عنزاً ولا بقرة، ولا يغزلون صوفاً ولا وبراًَ، ولا يدخلون بيتاً من الشَّعر والمدر، وإنما يكتنون في القباب الحمر في الأشهر الحرم، ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وأن يتركوا ثياب الحل ويستبدلوها بثياب الحرم، إما شراء وإما عارية، وإما هبة، فإن وجدوا ذلك فبها وإلا طافوا بالبيت عَرايا، وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك، غير أن المرأة كانت تطوف في درج مفرج القوائم والمآخير، قالت امرأة وهي تطوف بالبيت: اليوم يبدو بعضه أوكله ... وما بدا منه فلا أحله أحثم مثل القعب باد ظله ... كان حمى خيبر لا تمله

_ 1 سورة الأعراف: 28، 29.

وكلفوا العرب أن يفيضوا من مزدلفة وقد كانوا يفيضون من عرفة، إلى غير ذلك من الأمور التي ابتدعوها وشرعوها مما لم يأذن به الله، وقد فصلت في كتب أحوالهم، ومع ذلك كانوا يدعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام. وقد حذا حذوهم حذو القذة بالقذة غلاة هذه الأمة ومتصوفتها، ترى طائفة منهم قد اتخذوا ضرب المعازف وآلات اللهو عبادة يتعبدون بها في بيوت الله ومساجد، وطائفة اتخذوا الطواف على قبور الصالحين أعظم طاعة وعبادة وقصدوها في طلب الحاجات ونذروا لها، ومنهم من ابتدع الرهبانية والحيل الشيطانية والمكائد التي لم تهتد إليها النفوس الإنسانية، وزعم أنه سلك سبيل الزهاد، وطريق العباد، ومقصده الأعلى نيل شهواته الحيوانية، والفوز بزخارف هذه الدنيا الدنية، إلى غير ذلك مما يطول، ولا يعلم الموحد ماذا يقول. إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم ولبعض أكابر أهل العلم رسالة جمع فيها المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، وهي ما يزيد على مائة مسألة، ولنا عليها شرح مفصل1، وخصالهم كلها صادقة على الغلاة ولاسيما النبهاني منهم. وما ذكرناه كاف في التمثيل، ويتبين منه أنه حذا حذو أسلافه الجاهليين، نسأله تعالى العافية في الدنيا والدين. الأمر الثالث؛ من الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بصريح العبارة إليها: أن من مكايد الغلاة؛ التشنيع على أهل الحق ودعاة التوحيد من المؤمنين أنهم يكفّرون المسلمين، ومقصودهم من ذلك تنفير القلوب عنهم، ولذلك يلقبونهم بألقاب مشعرة بالذم، كالمجسّمة والحشوية، وفي هذه الأزمنة يلقبونهم

_ 1 هي رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب "مسائل الجاهلية"وقد شرحها المصنف كما ذكر، وطُبعت طبعات عدة.

بالوهَابية، وبالمنكرين ونحو ذلك، وقد برأهم الله تعالى من كل ما لا يرضيه سبحانه، ومعلوم أن المسلمين من يعتقد عقيدة الإسلام، وقد فُسِّرت في حديث جبريل المشهور1، فمن كان معتقداً تلك العقيدة كان مسلماً، ولا يخرج عن الإسلام إلا إذا أخل بتلك العقيدة، كأن يعتقد أن مع الله إلهاً آخر يعبده بأي عبادة كانت، فإنها أنواع مختلفة، فحينئذ يخرج عن الإسلام، ولا يقال لمن عبد غيره تعالى مسلماً، ولا لمن كفّره أنه كفر مسلماً، ومنه يُعلم أمر الغلاة، وأما أهل البدع فلم يكفَرهم أهل الحق. وقد سئل شيخ الإسلام عن المسائل التي وقع فيها خلاف ونزاع بين أهل السنة والخوارج والروافض فهل يستوجب ذلك التكفير؟ فإنهم كفّروا المسلمين وأهل السنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه، وأصلوه، ووضعوه، وذهبوا إليه وانتحلوه. فأجاب الشيخ بقوله: "أصل التكفير للمسلمين من الخوارج والروافض الذين يكفّرون أئمة المسلمين بما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك قوله لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق ولا يأثم، فإن الله قال في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 2. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن الله قال: قد فعلت" إلخ3. وقال رحمه الله في أثناء كلام له في النهي عن التفرق والاختلاف وترك التعصب لمذهب أو قبيلة أو طريقة، قال: "فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً ولا عاصياً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في

_ 1 وهو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم (8) وغيره. 2 سورة البقرة 286. 3 أخرجه مسلم (126) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وكلام شيخ الإسلام السابق انظره في "مجموع الفتاوى" (28/ 550- 501) .

كتابه في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وثبت في الصحيح "أن الله قال: قد فعلت". لاسيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام، مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي، أو منتسباً إلى الشيخ عدي، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عرضه أو دمه أو ماله مع ما قد ذكر الله من حقوق المسلم والمؤمن، وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله؟! وهذا التفرق الذي حصل بين الأمة- علمائها ومشائخها وأمرائها وكبرائها- هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليهم، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1. وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، ديان الفرقة عذاب، وجماع ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إلى قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2. فمن الأمر بالمعروف؛ الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر؛ إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله تعالى، فمن اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتاً، أو طلب منه الرزق والنصر والهداية، وتوكّل عليه، وسجد له؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلاّ ضُربت عنقه"3 انتهى. فعُلم منه حكم من ابتدع وحكم الغلاة، فإن من اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتاً أو طلب منه الرزق وغير ذلك ليس حكمه حكم المبتدع كما قال، ولا يشترط في الخروج عن الدين- والعياذ بالله- أن يكفر المكلّف بجميع ما جاء به الرسول، بل يكفي في الكفر والردة أن يأتي بما يوجب ذلك ولو في بعض الأصول، وهذا ذكره الفقهاء من أهل كل مذهب، ومن أراد الوقوف على جزئيات وفروع في الكفر

_ 1 سورة المائدة: 14. 2 سورة آل عمران: 102- 104. 3 "مجموع الفتاوى" (3/ 420- 421) .

والردة فعليه بما صنف في ذلك (كالإعلام بقواطع الإسلام) وما عده الفقهاء من أهل كل مذهب في باب حكم المرتد، فمن نطق بالشهادتين ثم أتى بما يعارضهما فلا تنجيانه. قال الشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "الرسالة السنية"- لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم قال:- "فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه -مع عبادته العظيمة حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم- فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام وذلك بأسباب؛ منها بالغلوّ الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} 1. وعليّ بن أبي طالب حرّق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خُدّت لهم عند باب كندة فقُذِفوا فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر الصحابة، وقصتهم معروفة عند العلماء2. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل. فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليُعْبَدَ وحده لا يُجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

_ 1 سورة النساء: 171. 2 القصة في "صحيح البخاري" (3017، 6922) و"مسند الإمام أحمد" (1/ 17، 282) و"سنن أبي داود" (4351) و"الجامع الصحيح" للترمذي (1179) و "سنن النسائي" (7/104) وغيرها.

زُلْفَى} 1 ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2 فبعث الله رسولَهُ ينهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً *أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 3 قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة، فأنزل الله هذه الآية، ثم ذكر آيات في المعنى. انتهى4. والمقصود منه: أنه جعل عُبّاد القبور من شر الخوارج المارقين، فهم شر أصناف الخوارج، وقد توقف بعض السلف في تكفير الخوارج، قيل لعلي: أكفّار هم؟ صال:"من الكفر فرّوا"5. وعُبّاد القبور لم يتوقّف أحد من أهل العلم- الذين يرجع إليهم- في كفره. غاية ما قالوا: لا يقتل حتى يستتاب، أو لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة أو نحو هذا الكلام، والمسلمون لم يكفّرهم أحد من أهل العلم، ولشيخ الإسلام نصوص أخر في هذا المعنى ننقلها تتميماً للفائدة: قال رحمه الله في كتاب "الاستغاثة" الذي رد به على ابن البكري:"إن أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفّرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلِكَ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله تعالى، فلا يكفر إلا من كفّره الله ورسوله. وأيضاً فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر.

_ 1 سورة الزمر: 3. 2 سورة يونس: 18. 3 سورة الإسراء: 56- 57. 4 انظر "فتح القدير" للشوكاني (3/ 329- ط. دار الوفاء) . 5 أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (15/332) بإسناد صحيح.

ولما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب الخمر- وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحاً على ما فهموه من آية المائدة1 -اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصَرُّوا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جُلدوا، فلم يكفّروهم بالاستحلال ابتداءً لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق2، فإذا أصرَّوا على الجحود كفروا، وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذّبه أحداً من العالمين. فأمر الله سبحانه البرّ فردَّ ما أخذ منه، وأمر البحر فردّ ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له"3. فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده، أو جوّز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلاً لم يتبيّن له الحق بياناً يكفر بمخالفته فغفر الله له. ولهذا كنتُ أقول للجهمية من الحلولية والنفاة والذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش- لما وقعت محنتهم-: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهّال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وفضلائهم، وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم من قصور في معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا. فلذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذباً عليه لم يكن له أن يشهد عليه بالزور، ولا أن يقذفه بالفاحشة". انتهى المقصود منه4.

_ 1 وهو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا..} الآية [سورة المائدة: 93] . والخبر أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9/240/ 17075، 17076) . 2 وهذه قاعدة مهمة في مسألة التكفير؛ فاعقلها. 3 أخرجه البخاري (7506) ومسلم (2756) . 4 "الاستغاثة والرد على البكري" (2/ 492- 494- ط. الغرباء الأثرية) .

وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: "إذا خاض هذا- يعني ابن البكري- في مسألة لم يسبقه إليها عالم، ولا معه فيها نقل عن أحد، ولا هي من مسائل النزاع بين العلماء فيختار أحد القولين، بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول، فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لأحد لا لحيّ ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام. وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجتهم بدعائه أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف" انتهى.

ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود

(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود) قد ذكر رحمه الله في فصل حكم الصلاة خلف أهل الأهواء كلاماً مفصّلاً يوضح هذه المسألة ويكشف حجاب تلك المعضلة، فأحببت نقله حرصاً على اقتناء فوائده وإن طال الكلام. قال رحمه الله: "وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع وخلف أهل الفجور؛ ففيه نزاع مشهور وتفصيل، ليس هذا موضع بسطه، لكن أوسط الأقوال في هؤلاء: أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على ذلك، فإن كان مظهراً للفجور أو البدع وجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته. ولهذا فرّق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت؛ فإنه بمنزلة من أسرّ بالذنب، فهذا لا يُنكَرُ عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أُعلنت فلم تنكر ضرت العامة، ولهذا كان المنافقون يقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله بخلاف من أظهر الكفر، فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته لما في ذلك من النهي عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشَرٍّ أعظم ضرراً من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظم الضررين، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها بترجيح خير الخيرين إذا لم [يمكن أن] يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً. فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يُصلّى خلفه ما لا يمكن فعلها إلا خلفه؛ كالجمع والأعياد والجماعة إذا لم يكن هناك إمام غيره.

ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يصلّون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الإقتداء بإمام فاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنها لا يرفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة، ولهذا كان التاركون للجماعات والجمعيات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع، وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعات خلف البَرّ فهو أولى من فعلها خلف الفاجر. وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد للعلماء، منهم من قال يعيد لأنه فعل ما لا يشرع له بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته منهياً عنها فيعيدها، ومنهم من قال لا يعيد، قال لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة، وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة فهنا لا تعاد الصلاة وإعادتها من فعل أهل البدع، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل: إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح أعيدت الجمعة خلفه وإلا لم تعد وليس كذلك، بل النزاع في الإعادة حيث نهي الرجل عن الصلاة، فأما إذا أمر بالصلاة خلفه فالصحيح هنا أنه لا إعادة عليه لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين، وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه، ومن قال إنه يكفر أمر بالإعادة، لأنها صلاة خلف كافر، لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء، فيها قولان، وعن الإمام أحمد أيضاً فيها روايتان، وكذلك أهل الكلام قد ذكروا للأشعري فيها قولين، وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل. وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفراً؛ فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال لا يُحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً

وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 1. فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يُشهد عليه بالوعيد، فلا يُشهد على معيّن من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحوا عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يُشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفه الحق، وقد يكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية والعلمية، أو المسائل الفروعية العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام. وأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، ونوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ من المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه عن ذكره من الفقهاء في كتبهم وهو تفريق متناقض. فإنه يقال لمن فرّق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطىء فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، والفروع مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا، وفي أن عثمان أفضل من عليّ أم عليّ أفضل، وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث؛ هي من المسائل الاعتقادية لا العملية ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحريم الفواحش والخمر؛ هي مسائل علمية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال: الأصول هي الأصول القطعية. قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل النظر ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن يسمع النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه- وعند

_ 1 سورة النساء: 10.

غيره لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية، لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته". ثم ذكر حديث الذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني إلخ.. إلى أن قال: "وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع. لكن المقصود هنا: أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين، ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك ولم يفهموا غور قولهم؛ فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقاً حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي، وربما رجحت التكفير والتخليد، وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله إنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل علياً على عثمان، بل ونصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة، ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وقد ابتلى بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفّرون من لم يجبهم، حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لا يطلقونه حتى يقر بقول الجهمية إن القرآن مخلوق وغير ذلك، ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رضي الله عنه ترحم عليهم واستغفر لهم، لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذّبون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا جاحدون لما جاء به، لكن تأولوا فأخطأوا وقلّدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق كفرتَ بالله العظيم، بين أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك، لأنه لم يتبين

له بعد الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرّح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم. وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد في القدري: إن جحد علم الله كفر، ولفظ بعضهم: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا. وسئل أحمد رحمه الله عن القدري هل يكفر؟ قال: إن جحد العلم كفر. وحينئذ فجاحد العلم هو من جنس الجهمية، وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس كما يقتل المحارب وإن لم يكن في نفس الأمر كافراً، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته، وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها تنبيهاً". انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله1. والذي تحصّل مما سقناه من النصوص: أن الغلاةَ ودعاةَ غير الله وعَبَدَةَ القبور إذا كانوا جهلة بحكم ما هم عليه ولم يكن أحد من أهل العلم قد نبههم على خطئهم فليس لأحد أن يكفرهم. وأما من قامت عليه الحجة وأصرّ على ما عنده واستكبر استكباراً، أو تمكّن من العلم فلم يتعلّم فسنذكر حكمه في الآتي. والمقصود؛ أن من تمسّك من المسلمين بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعتقد والدّين الذي خالفوا به أهل البدع وباينوهم فلم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه الجهمية المعطلة، ولا إلى ما ذهبت إليه القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، ولا إلى ما ذهبت إليه الخوارج والمعتزلة، ولا إلى ما ذهبت إليه الرافضة والمرجئة، ولم يذهبوا إلى ما افتراه الغلاة في الأولياء والصالحين من عباد القبور ونحوهم؛ فإن هؤلاء لا يسمون عند أهل السنة والجماعة غالية، كما سموا به من غلا في عليّ وزعم أنه الإله الحق، فاستتابهم عليّ، فأبوا، فخذّ لهم الأخاديد، وأوقد فيها النيران وقذفهم فيها، وقال:

_ 1 "مجموعة الفتاوى" (3/ 194- 197- الطبعة الجديدة المخرجة) .

إني إذا رأيتُ أمراً منكراً ... أجّجْتُ ناري ودعوتُ قنبراً وفي رواية: لما رأيت الأمر أمراً منكراً إلخ 1. فهؤلاء هم المسلمون الذين لا يكفرون، وتسمية من عبد غير الله مسلماً فهو إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى أن يقام عليه الدليل. الأمر الرابع من الأمور التي يجب التنبيه عليها: أن من مكايد الغلاة التي كادوا بها العوام أنهم يقولون: إن الاستغاثة بالأموات، وندائهم في المهمات، وشد الرحال لزيارة قبورهم، وتقديم قرابينهم إليها ونذورهم؛ هو من علامات محبتهم، والتقرب بقربتهم، ومن أنكر ذلك وأبى ما هنالك، ونهى عن زخرفتها وإيقاد السُّرُج عليها، وبناء المساجد عليها، وقصد أهلها في طلب الحاجات، والالتجاء إليها في المهمات؛ فهو من المبغضين للصالحين، والمنكرين لكرامات الأولياء والصدّيقين! إلى غير ذلك من أقوالهم المناسبة لضلالهم، كبُرت كلمة تخرج من أفواههم. فإن من أنكر مثل تلك البدع والضلالات هم المحبون لهم، والمحافظون على هديهم وطريقتهم، وأما هؤلاء الغلاة وأعداء الهداة، فقد أفسدوا الدين، وسدّوا طريق الموحّدين، يعرف ذلك من وقف على أحوالهم، وما قالوه

_ 1 الخبر أخرجه: الآجري في "الشريعة" (3/559/2066، 2067، 2068) وابن الأعرابي في "معجمه" (1/56/ 67) وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/ 342- 343) وابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 317) والبلاذري في "أنساب الأشراف" (2/ 393- 394- ط. دار الفكر) وابن المؤبد الجويني في "فرائد السمطين" (1/174) من طريق: خارجة بن مصعب، عن سلام بن أبي القاسم، عن عثمان بن أبي عثمان به. وإسناده ضعيف. خارجة بن مصعب "ضعيف؛ يدلّس عن المجهولين الكذابين". وعثمان بن أبي عثمان: "منكر الحديث مجهول" كما في "الميزان". لكن للحديث طرق أخرى، ذكر بعضها الحافظ في "الفتح" (12/282) وحسّنها. والخبر ذكره: الملطي في "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" (ص18) والجوزجاني في "أحوال الرجال" (ص 38) وابن القيم في "الطرق الحكمية" (ص 15) والذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/426- ط. الحجاوي) أو (2/ 404- ط. العلمية) وغيرهم.

في الإسلام وما بدّلوه من الدين. وما عليه أهل البوادي اليوم والأعراب من الكفر بآيات الله ورد أحكام القرآن والاستهزاء بذلك، والرجوع إلى سوالف البادية، وما كانت عليه من العادات والأحكام الجاهلية، وأمثلهم حالاً من عرف أن كتاب الله وأحاديث رسوله عند أهل البلاد فلم يرفع بذلك رأساً، ولم يبال بشيء مما هنالك أو هو جاهل بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، لا شعور له بشيء من ذلك، ولا يدري ما الناس من أمر دينهم. وغالب أهل المدن منهمكون في اللذائذ والشهوات، وقد أعرضوا عن الشريعة وما ورد فيها من الأوامر والنواهي، ولم يلتفتوا إلى ما في كتب الفقه من الأحكام، وظنوا أن سيئاتهم تُغفر بنذورهم إلى القبور ونداء أهلها والاستغاثة بهم، وأن من منعهم من دعاء الأنبياء والصالحين، والاستعانة بهم، والاستغاثة في الشدائد والمهمات وأنهم لا يدعون مع الله في الحاجات والملمات ولا يذبح لهم تقرباً، ولا يطاف بقبورهم ولا يتوكل عليهم؛ فقد استخف بهم وتنقصهم وهضمهم حقهم. وأصل هذا؛ أنهم لا يفرقون بين حق الله وحق عباده، ولا تمييز عندهم في ذلك، بل يرون استحقاقهم كثيراً من العبادات المختصة بالله، وهذا يشبه غلوّ النصارى في المسيح وغيره، وقد قالوا لمن أنكر عليهم عبادة المسيح: قد تنقّصت المسيح وقلت فيه قولاً عظيماً، كما قال عمرو بن العاص وأصحابه للنجاشي- لما قدموا عليه بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة وسألوه أن يخلي بينهم وبين المهاجرين وعنده جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأبى ذلك النجاشي، فقال عمرو-: إنهم يقولون في المسيح قولاً عظيماً. يعني: يقولون هو عبدٌ ليس بإله، فأرسل النجاشي لجعفر وأصحابه وسألهم عن ذلك، فقالوا: نقول فيه ما قال الله تعالى، وتلا جعفر صدر سورة مريم حتى أتى على ذكر المسيح وشأنه، فقال النجاشي: والله ما زاد المسيح على هذا1.

_ 1 القصة أخرجها: أحمد في "المسند" (1/ 201- 202 و5/ 209- 292) والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 301- 303) وأبو نعيم في "دلائل النبوة" (رقم: 194) وفي "حلية الأولياء" (1/115) بإسناد حسن. انظر: "مجمع الزوائد" (6/24-27) وتعليق العلامة أحمد شاكر على "المسند" رقم (1740) وتخريج العلامة الألباني لـ "فقه السيرة" (ص115) .

وبالجملة؛ فمن عرف ما جاءت به الرسل من وجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة وتبين له أن المنع من دعائهم وقصدهم من دون الله في الحاجات والملمات هو عين تعظيمهم، وتوقيرهم، وتعزيزهم، والإيمان بهم وتصديقهم، وقبول ما جاؤوا به، ومنابذة أعدائهم وأضدادهم من المشركين على اختلاف أجناسهم وتباين مللهم، فإن أصل النزاع بينهم وبين أعدائهم في عبادة الله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه، ولا يحصل ولا يتصوّر الإيمان بهم إلا باعتقاد هذا وموافقتهم عليه، وأما مخالفتهم فيه ومعصيتهم فهي عين التنقص والاستخفاف بهم. ومن عرف هذا عرف أن أهل الحق والإيمان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هم المعظّمون للرسل، الموقِّرون لهم، العارفون بحقوقهم، القائمون بما يجب لله، وما يجب لعباده من الحقوق، لا أهل الشرك بهم والمعصية لهم، ونبذ أوامرهم وترك ما جاؤوا به وهجره وعزله عن الحكم به، وتقديم منطق اليونان في باب معرفة الله وصفاته، وتقديم آراء الرجال وحدسهم على النصوص والأحاديث الصريحة، وتقديم غلو النصارى ورأيهم في عبادة الأحبار والرهبان على ما جاء به من تجريد التوحيد وإخلاص الدين لله، هذا هو حقيقة الاستخفاف عند كافة العقلاء، وأما طاعة الرسول في إخلاص الدين دنه، وترك دعاء الأنبياء والصالحين فهو عين التعظيم والتوقير، ولذلك قال عز من قائل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1 فظهر أن كيدهم جعله الله في نحرهم، وتبين أنهم قوم لا يعقلون. فنسألك اللهم أن تخلع من أعداء الحق وثائق قلوبهم وأفئدتهم، وأن تباعد بينهم وبين أزودتهم، وأن تحيرهم في سبلهم، وأن تضللهم عن وجههم، وأن

_ 1 سورة آل عمران: 31.

تقطع المدد عنهم، وأن تنقص منهم العدد، وأن تملأ أفئدتهم بالرعب، وتقبض أيديهم عن البسط، وتحرم ألسنتهم عن النطق، وتشرد بهم من خلفهم، وتنكل بهم من وراءهم، وتقطع بحربهم أطماع من بعدهم، اللهم عقم أرحام نساءهم، ويبّس أصلاب رجالهم، واقطع نسل دوابهم وأنعامهم، اللهم لا تأذن لسمائهم في قطر، ولا لأرضهم في نبات. الأمر الخامس: أن كثيراً ممن يُظهِرُ عقيدة الغلاة وينتصر لهم ويصوّبُ رأيهم- في جواز نداء الصالحين ودعائهم، والالتجاء إليهم والاستغاثة بهم، وقصدهم بالنذور وبكل زور، مما استباحوه من الأعمال والأقوال المناقضة لما جاءت به الأديان التي شرعها ذو الجلال والملك المتعال -هم زنادقة لا يعترفون بأن للعالم إلهاً خالقاً مدبراً للكائنات علويها وسفليها، منكرين للكتب الإلهية وما اشتملت عليه من الأحكام، نافين للمعاد وليوم التناد، ويقولون: لا حساب، ولا كتاب، ولا جنة ولا نار، ولا آخرة ولا دار قرار، ومقصودهم من الانتصار للغلاة وأهل الطرائق المبتدعة وما اشتملت عليه من المنكرات وما لم يأذن به الله من العبادات؛ ستر عوارهم بباطل انتصارهم، والتوصل إلى شتم أهل الحق وحماة الدين، وإغاظة من خاصمهم على باطلهم من الموحدين. وقد سمعت أن بعض الأوغاد من زنادقة بغداد ألّفوا كتاباً سموه "الفجر الصادق"- وكان الحرّيُّ أن يسموه بأقوال المارق -قد اشتمل على تصحيح أقوال المبتدعة وضلالات الغلاة، ومخازي آراء الغواة، معاداة للرادين على أقوالهم، والمظهرين لأحوالهم والكاشفين حجب جهلهم وضلالهم، وتوصلاً إلى شتم من عاداهم من أهل الحق لزيغهم، ومراغمة لمن جرد عليهم صوارم براهين رد باطلهم، وهم من مشاهير زنادقة بغداد، مربع الزور والفساد، قد أنكروا المعبود واليوم الموعود، وجحدوا إرسال الرسل والأنبياء، وما اشتملت عليه الكتب الإلهية من الأحكام، والأنبياء، فليس لهم من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا زي منتحله ورسمه، وكيدهم لا يفيدهم، وحالهم معلوم لدى العموم. ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وقد ذكر المفسرون عند الكلام على قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1. إن المنافق اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويُظْهِرُ إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً، يقال: نافق ينافق منافقة ونفاقاً، وهو مأخوذ من النافقاء، وهي إحدى حجر اليربوع وهي التي يدخل منها، وليس مأخوذاً من النفق وهو السرب الذي يستتر فيه لستره كفره2. وكان المنافقون يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشهدون شهادة مؤكدة أنه رسول الله، فشهد الله عليهم أنهم كاذبون، ومن أصدق من الله قيلاً؟ أفلا ينبغي أن يصدق بأقوالهم؟! وقد عدّد الله تعالى قبائحهم، وهي موجودة في منافقي بغداد وزنادقة العراق، فمنها أن من عادتهم الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة، أي: اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل أو السبي أو نحوهما مما يعامل به الكفار، ومن هنا أخذ الشاعر قوله: وما انتسبوا إلى الإسلام إلا ... لصون دمائهم أن لا تُسَالا وقد أخبر سبحانه عن صفتهم وشأنهم فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} لفصاحتها وتناسب أعضائها {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} 3 لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم، وهكذا أولئك المنافقون يعجب الناس من هياكلهم ويسمعون لكلامهم، أي: ما هم إلا أجرام خالية من الإيمان والخير، كالخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونها أشباحاً خالية عن الفائدة، أو كأنهم أصنام منحوتة من خشب مسندة إلى الحيطان، شُبّهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، وفي مثلهم قال الشاعر:

_ 1 سورة المنافقون: 1. 2 "لسان العرب" (14/ 243) . 3 سورة المنافقون: 4.

لا يخدعنك اللحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقر تراهم كالسحاب منتشراً ... وليس فيها لطالب مطر في شجر السرو منهم شبه ... له رواء وما له ثمر ثم إن الله تعالى زادهم إيضاحاً فقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي: متى سمعوا صياحاً بأي وجه كان طارت عقولهم، وظنوا ذلك إيقاعاً بهم، كما قال جرير يخاطب الأخطل: ما زلتَ تحسب كل شيء بعدهم خيلاً تكر عليهم ورجالاً وقال المتنبي: وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً ثم استأنف سبحانه الكلام عنهم لبيان ما يجب من معاملتهم فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ} أي: هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها، فإن أعدى الأعادي العدو المداجي، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي، ككثير من أبناء الزمان. {فَاحْذَرْهُمْ} لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترنّ بظاهرهم. لا تقنع بأول ما تراه ... فأول طالع فجر كذوب {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أي: لعنهم وطردهم، فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل، وغاية نكاله جل وعلا. والسورة من أولها إلى آخرها في بيان أحوال المنافقين وبيان أحكامهم. والمقصود: أن كثيراً من الزنادقة والمنافقين -ومنهم من سبق ذكرهم- يظهرون ما يظهره الغلاة، وأولئك الزائغون الغواة، لمزيد حبهم للدنيا وخوفهم على مناصبهم ومراتبهم، وهم لا دين لهم ولا إيمان، ولا صلاة ولا زكاة، ولا حج ولا صيام، وهم كل وقت على وجل يحسبون كل صيحة عليهم، فلا يلتفت

إلى هذيانهم وضلالهم وبطلانهم، فما أشبه كلامهم بطنين ذباب، أو صرير باب، أو نبح كلاب، {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 1. وقد تسلب الأيام حالات أهلها ... وتعدو على أسد الرجال الثعالب الأمر السادس من تلك الأمور: أن الغلاة وعبدة القبور وسالكي الطرق المبتدعة يكيدون الجهلة والعوام بمكائد كثيرة؛ منها ما سبق، ومنها: أنهم يقولوا لهم: إن المخالفين لنا لم تزل تصيبهم نكبات الدنيا ومصائبها بخلاف من سلك مسلكنا، فإنا ممتّعون منعّمون بنعم الدنيا ومناصبها الرفيعة، ومراتبها العالية، والقرب من أولياء الأمور، انظروا إلى فلان وفلان وفلان، ويعدّدون لهم كثيراً من كلاب الدنيا الدنية، ويقولون لهم: ثم انظروا إلى مخالفينا كابن تيمية وأضرابه، ويذكرون لهم ما حل بهم من المخالفين، ومثل هذا الكيد كثيراً ما يكرره النبهاني في كتابه "شواهد الحق" الذي تصدّينا لرده، ويقول مرة بعد أخرى: إن ابن تيمية شق العصا، وشوّش عقائد المسلمين بسبب ما اختاره من عدم جواز دعاء غير الله، والالتجاء إلى ما سواه ونحو ذلك، وإن الله لم يبارك في كتبه فلم ينتفع بها أحد من المسلمين لقوله بذلك، وإن العلماء اتفقوا على حبسه الحبس الطويل، فحبسه حاكم مصر يومئذ ومنعه من الكتابة في الحبس، وأن لا يدخل عليه بدواة، ومات في الحبس، ونحو من ذلك الهذيان، وهكذا قال ابن حجر في "الجوهر المنظم" وفي "فتاواه"، وهكذا السبكي في بعض كتبه. واعلم أن من له نظر وبصيرة لا يلتفت إلى مثل هذا الهذيان من هذا الكلام الذي يشبه كلام الصبيان، بل ينظر إلى الدليل والبرهان، وما أصاب ابن تيمية وأضرابه من أهل الحق فله أسوة بسادات أهل الدين والأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، ولو بسطنا الكلام على ما جرى عليهم وما جرى على أكابر المجتهدين وأهل العلم لما وسعه سفر كبير، ولم يختص بذلك عصر، بل هكذا جميع الأعصار.

_ 1 سورة الأنعام: 91.

إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر قال العلامة الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي الدلجي1 -وكان من أكابر حفاظ عصره ومحدثيهم، وأعلمهم بعقائد السلف وعلومهم -في كتاب "الفلاكة والمفلوكين": قلما خلا عالم أو نبيل من نكبة، وأنا أذكر هنا طرفاً لائقاً بمقصودي من ذوي النكبات من الأعيان الذين عرضت لهم:- (مالك بن أنس) بن أبي عامر بن [عمرو بن] الحارث بن غَيْمان -بالغين المعجمة- أبو عبد الله الإمام المدني أحد أئمة الإسلام، سُعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي ابن عم أبي جعفر المنصور، فدعا به وجرده، وضربه سبعين سوطاً، ومدت يداه حتى انخلع كتفاه. وسبب ضربه أنهم سألوه عن مبايعة محمد بن عبد الله بن حسن، وقالوا له: إن في أعناقنا مبايعة أبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد فسعى به فضرب لذلك، ثم لم يزل بعده في علو ورفعة كأنما كانت تلك السياط حلياً تحلى بها، توفي سنة أربع وسبعين ومائة2. (أبو حنيفة النعمان بن ثابت) الفقيه الكوفي أحد الأئمة المتبوعين. كان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين، فأراده لقضاء الكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية فأبى، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وبقي على الامتناع، وسجنه فتوفي بالسجن في أحد القولين، سنة خمسين ومائة ببغداد. (الإمام أحمد بن محمد بن حنبل) بن هلال الشيباني المروزي ثم البغدادي.

_ 1 انظر ترجمته في "الضوء اللامع" (2/ 27) و"هدية العارفين" (1/124) و"الأعلام" للزركلي (1/177) . 2 انظر: "تاريخ الطبري" (7/560) و"سير أعلام البلاء" (8/80-81) و "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (1/228) .

استحوذ على المأمون جماعة من المعتزلة وقوّلوه بخلق القرآن، فعنّ له بطرسوس أن يكتب إلى نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فكان ذلك أول الفتنة، وكان ذلك آخر عمر المأمون قبل موته بشهور سنة ثمانية عشر ومئتين، فلما وصل الكتاب استدعى جماعة من العلماء فامتنعوا، فهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجند سابوري، فحُمِلا على بعير متعادلين مقيّدين إلى الخليفة عن أمره بذلك، ثم جاء الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وأن الأمر شديد، فرُدًا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ومات محمد بن نوح في الطريق، وأودع الإمام أحمد السجن ببغداد نحواً من ثمانية وعشرين شهراً، ثم أحضره المعتصم في قيوده وأجلسه، فجلس ودعاه إلى القول بخلق القرآن، فامتنع وقال: فما قال ذلك ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن القرآن علم الله، ومن علم أن علم الله مخلوق فقد كفر، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به، وناظره أحمد بن أبي دؤاد وغيره، وأنكروا الآثار التي أوردها، وقالوا للمعتصم: هذا أكفرك وأكفرنا، وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين؛ ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه، فأخذ وجيء بالعقابيين والسياط، وضربه ضرباً مبرحاً شديداً، حتى أغمي عليه وغاب عقله، وأمر بإطلاقه إلى أهله فنقل وهو لا يشعر، ولما شفي من الضرب بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وكان الضرب في الخامس والعشرين من رمضان سنة إحدى وعشرين ومائتين، وتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. (يوسف بن يحيى البويطي) صاحب الإمام الشافعي، كان الشافعي يسأل عن الشيء فيحيل عليه، فإذا أجاب قال: هو كما أجاب. وقال عنه الشافعي: هو لساني. حُمِلَ إلى بغداد في أيام الواثق بالله من مصر -وفي عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة حديد فيها طوق وزنتها أربعون رطلاً- وأرادوه على

القول بخلق القرآن فامتنع ومات بالسجن في قيوده سنة إحدى وثلاثين ومائتين1. (الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري) أراد منه خالد بن أحمد الذُّهلي أن يأتيه في بيته ليسمع أولاده فأبى، وقال: في بيته يؤتى الحكم، فاتفق أن جاءه كتاب من محمد بن يحيى الذهلي من نيسابور بأن البخاري يقول بأن لفظه بالقرآن مخلوق، وكان قد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام، وصنّف البخاري في ذلك كتابه (خلق أفعال العباد) فأراد الأمير أن يصرف الناس عن السماع من البخاري فلم يقبلوا، فأمر عند ذلك بنفيه من البلاد، فخرج منها، ودعا على خالد بن أحمد، فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن يُنادى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن ببغداد حتى مات، فبرح البخاري إلى بلد يقال لها (خزتنك) فمات سنة ستين وثلاثمائة. نقلته بلفظه من تاريخ ابن كثير2. (أحمد بن علي بن شعيب النسائي) صاحب السنن إمام عصره، والمقدّم على أضرابه، رحل الآفاق وأخذ عن الحُذّاق، وكان ينسب إلى شيء من التشيّع، قالوا: دخل دمشق فسأله أهلها أن يحدّثهم بشيء من فضائل معاوية، فقال: ما يكفي معاوية أن يذهب رأساً برأس حتى يُروى له فضائل. فجعلوا يطعنون فيه حتى أخرج من الجامع، فسار إلى مكة فمرَّ بالرملة، فسُئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه. فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، فتوفي بمكة مقتولاً شهيداً سنة ثلاث وثلاثمائة3. (أبو عمر عيسى الثقفي النحوي) 4 شيخ سيبويه- صاحب كتاب "الجامع"

_ 1 انظر: "سير أعلام النبلاء" (12/59) . 2 انظر: "البداية والنهاية" (11/ 27) . 3 انظر: "سير أعلام النبلاء" (14/ 127) . 4 انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" (7/ 200) و"معجم الأدباء" لياقوت (16/146) و"النجوم الزاهرة" (2/11) و "بغية الوعاة" (2/ 237- 238/ 1880) .

الذي قيل: إن سيبويه أخذه وزاد عليه ما استفاده من الخليل ونسبه إليه -أودعه شخص وديعة، فنمي الخبر إلى يوسف بن عمر أمير العراقين، فكتب إلى نائبه بالبصرة يأمره أن يحمل عيسى بن عمرو مقيداً، فدعا به، ودعا حداداً وأمره بتقييده، فلما قيده قال له: لا بأس عليك إنما أرادك لتعليم ولده، قال: فما بال القيد إذاً؟! فلما وصل إليه سأله فأنكر، فأمر بضربه فضُرب بالسياط، توفي سنة تسع وأربعين ومائة. كان كثير الاستعمال للغريب والتقعّر في كلامه، وهو القائل: افرنقعوا عني. قال يوماً لأبي عمرو بن العلاء: أنا أفصح من معد بن عدنان، فاستنشده أبو عمرو بيتاً فيه بدا بمعنى ظهر، وقال له: كيف تسنده إلى جماعة الإناث أتقول بدين أو بدان؟ فقال: بدَيْنَ، فقال: أخطأت. ولو قال بدان لأخطأ أيضاً. وإنما أراد أبو عمر تغليطه، وإنما الصواب بَدَوْنَ من بدا يبدو إذا ظهر، وبدأ يبدأ إذا شرع في الشيء معنى آخر ذكرت هذا استطراداً لاشتماله على فائدة. (أبو جعفر محمد بن الزيات بن عبد الملك) 1 وزير المعتصم، ثم ابنه هارون ثم الواثق، ثم لما مات الواثق أشار هو بتولية ولده، وأشار القاضي أحمد بتولية أخيه المتوكل، وتم أمر المتوكل، فحقد ذلك عليه مضموماً إلى حقده عليه القديم، لأنه كان يغلظ عليه في حياة الواثق تقرباً إليه، وكان ابن الزيات قد صنع تنوراً من حديد في أيام وزارته وله مسامير محدودة إلى داخله يعذب فيه الناس، وكان يقول إذا استرحم: الرحمة خور في الطبيعة. فلما اعتقله المتوكل أدخله التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد ومات في التنور، فوجد قد كتب في التنور بفحمة: من له عهد بنور ... يرشد الصب إليه سهرت عيني ونامت ... عين من هنت عليه رحم الله رحيماً ... دلت عيني عليه

_ 1 ترجمته في: "تاريخ الطبري" (11/ 27) و"تاريخ بغداد" (2/ 342) و "سير أعلام النبلاء" (11/ 172) و "البداية والنهاية" (10/ 346) .

توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. (ناصح الدين أبو محمد سعيد المعروف بابن الدهان) النحوي البغدادي شارح كتاب "الأيضاًح" و"التكملة" وكتاب "اللمع" لابن جني، وكان يُفضِّل على ابن أبي محمد الجواليقي وابن الخشاب وابن الشجري المعاصرين له. انتقل إلى الموصل قاصداً جناب الوزير جمال الدين الأصفهاني المعروف بالجواد، وكانت كتبه ببغداد واستولى الغرق في تلك السنة على البلد، فغرقت كتبه، وكان خلف داره مدبغة ففاضت بالغرق إلى بيته فتلفت كتبه بهذا السبب زيادة على تلف الغرق، فأرسل من أحضرها له -وكان قد أفنى عمره فيها- فأشاروا عليه أن يطيبها بالبخور ويصلح ما أمكنه فيها، فبخرها باللاِّذن ولازمها بالبخور إلى أن بخرها بأكثر من ثلاثين رطلاً لاذناً، فطلع ذلك إلى رأسه وعينيه فأحدث له العمى. توفي سنة تسع وستين وخمسمائة1. (أبو العباس أحمد بن محمد بن عطاء) أحد أئمة الصوفية، حدّث عن يوسف بن موسى القطان والمفضل وغيرهما، كانت له ختمة يتلوها سبع عشرة سنة يتدبرّها، مات ولم يكملها. أحضر في أمر الحلاّج -وقد كتب الحلاّج اعتقاده- فسأله الوزير حامد بن العباس عما قاله الحلاج، فقال: من لا يقول بهذا فهو بلا اعتقاد، فقال له الوزير: ويحك تُصَوّب مثل هذا الاعتقاد؟ فقال: مالك ولهذا؟ عليك بما نصبت له من أخذ أموال الناس وظلمهم، مالك والكلام مع هؤلاء السادة. فأمر الوزير بضرب شِدْقَيْهِ، ونزع خُفِّيْهِ وأن يُضْرَبَ بهما رأسه، فما زال يفعل به كذلك حتى سال الدم من منخريه، وأمر بسجنه، فقيل له: أيها الوزير؟ إن العامة تتشوش بهذا. فحُمل إلى منزله. قال ابن عطاء: اللهم اقتله أخبث قتلة، واقطع يديه ورجليه، فمات ابن عطاء بعد سبعة أيام سنة تسع وثلاثمائة، ثم مات الوزير مثل ما دعا عليه ابن عطاء مقطوع اليدين والرجلين مقتولاً2.

_ 1 انظر:"الفلاكة والمفلوكين" (ص126-127) و"سير أعلام النبلاء" (20/581- 582) و"النجوم الزاهرة" (6/72) و"بغية الوعاة" (1/578) . 2 انظر: "سير أعلام النبلاء" (14/256) و"تاريخ بغداد" (5/26- 30) .

(المقري محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت) أبو الحسين المقري المعروف بابن شنبود، روى عن أبي مسلم وبشر بن موسى وخلق، وكان يختار حروفاً أنكرها أهل زمانه عليه، وصنف أبو بكر بن الأنباري محمد بن القاسم الحافظ -الذي كان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة- كتاباً في الرد عليه. كان أبو بكر المذكور من أعلم الناس بالنحو والأدب، وكان لا يأكل إلا البقالي، ولا يشرب ماء إلا قريب العصر مراعاة لحفظه، عقد لابن شنبود مجلس في دار الوزير أبي علي محمد بن مقلة، وادّعى عليه بالحروف التي كان يقرؤها فأقرّ بالبعض، فضربه الوزير أبو علي بالدرة على رأسه واستتيب، فدعا على ابن مقلة فلم يفلح بعد ذلك، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة1. (الوزير ابن مقلة) 2 أحد المشاهير الكتّاب محمد بن علي بن الحسين بن عبد الله بن علي المعروف بابن مقلة الوزير، كان له بستان كبير جداً، وعليه- جمعيه- شبكة من أبريسم، وفيه من الطيور والقماري والهزار والطواويس شيء كثير، وفيه من الغزلان وبقر الوحش وحميره والنعام والأيل شيء كثير أيضاً. وولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء المقتدر والقاهر والراضي، وبنى له داراً فجمع عند بنائها خلقاً كثيراً من المنجّمين، فاتفقوا على أن تبنى في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشاءين كما أشاروا، فما لبث بعد استتمامها إلا يسيراً، وقد أنشد فيه بعض الشعراء: قل لابن مقلة لا تكن عجلاً ... واصبر فإنك في أضغاث أحلام تبني بأنقاض دور الناس مجتهداً ... داراً ستنقض أيضاً بعد أيام ما زلت تختار سعداً تطلبن لها ... فلم يوف بها من نحس بهرام إن القرآن وبطليموس ما اجتمعا ... في حال نقض ولا في حال إبرام

_ 1انظر: "تاريخ بغداد" (1/ 280- 281) . 2 انظر: "سير الأعلام" (15/224) و"البداية والنهاية" (11/195) و"النجوم الزاهرة" (3/268) .

ثم عُزل عن وزارته، وأُحرقت داره، وانقلعت أشجاره، وقطعت يده، ثم قطع لسانه، وأغرم ألف ألف دينار، ثم سجن وحده مع الكبر والضعف والضرورة، وكان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق يدلى الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه، وقاسى جهداً جهيداً، حتى مات في الحبس سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ومن نظمه وهو يبكي على يده: إذا ما مات بعضك فابك بعضاً ... فإن البعض من بعض قريب قال: والنكبات كثيرة لا تُحصى، وفيما ذكرناه مقنع، فإن الكتاب كله أنموذج ومسودة في بابه والله تعالى أعلم. انتهى ما قصدنا نقله من كتاب "الفلاكة" للإمام الحافظ الشيخ شهاب الدين. وقد ذكر عدداً كثيراً من الأئمة المفلوكين الذين أصيبوا بأنواع المصائب والبلايا، وهذا الكتاب فريد في بابه. ولصاحب الأغاني أبي الفرج الأصفهاني كتاب سماه (مقاتل الطالبيين) ذكر فيه ما لاقاه أهل البيت النبويّ من المصائب والنوائب من القتل والحبس وغير ذلك من الخطوب التي جرت عليهم، ويكفيك منها الطامة الكبرى، والمصيبة التي لم تزل عين الدين المحمّدي منها عبرى، وهي ما فعلوه بريحانة الرسول، وقرة عين فاطمة البتول، وهو من أكبر سادات الأمة، وأعز أبناء بني الرحمة، فبأي وجه يلاقي من تجرأ على هذه الجريمة جد أولئك الأئمة. ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ... والصور في نشر الخلائق ينفخ لا بد أن ترد القيامة فاطم ... وقميصها بدم الحسين ملطّخ فيقال للنبهاني: هل كان ما أصاب أولئك الأكابر الأماجد لفساد في الدين؟ أم لخلل في العقائد؟! كلا بل ذلك فضل من الله تعالى عليهم، وإعلاء لشأنهم، ابتلوا فصبروا، والدرجات الرفيعة لا تُنال إلا بالثبات على الأهواء، وهيهات أن تحصل راحة بلا تعب وهيهات، وفي الخبر: "حُفّتِ الجنة بالمكاره، والنار

بالشهوات" 1. والعيش الرغد والاتكاء على الأرائك وإقبال الدنيا؛ إنما يكون لمثل النبهاني وأضرابه، لا لمثل شيخ الإسلام وأحزابه. في النفس أشياء لا أستطيع أذكرها لو قلتها قامت الدنيا على ساق والمقصود؛ أن ما أصاب الشيخ ابن تيمية وأصحابه هو مما يزيد ذوي الألباب بصيرة على علوّ قدره، ورفعة ذكره، ولكن الجهول الحسود لما نظر بعين السخط رأى الحسنات سيئات، والمدائح قبائح. بليت به جهولاً جاهلياً ... ثقيل الروح مذموماً بغيضاً ولم يك أكثر الطلاب علماً ... ولكن كان أسرعهم نهوضاً وستقف إن شاء الله تعالى على حاله، ومبلغ علمه، وسيكون لنا إلمام على هذه المسألة مرة بعد أخرى، كلما عاد إليها الخصم، فهناك ترى ما تنشرح له الصدور. الأمر السابع من تلك الأمور: أن من علم حال النبهاني -وما هو عليه من المعرفة وما يعتقده من العقائد ويراه من الآراء -لم يلتفت إلى ما ذكره في كتابه الذي سماه "شواهد الحق" ولا غيره من هذيانه الصريح، فإن الرجل جاهل كما ستعلم من رد كتابه هذا، سقيم الفهم بأخبار العدول الثقات ورواية الصادقين من الرواة، وما نشره من هذيانه أعدل شاهد على ذلك، وأصح دليل على ما هنالك، فضلاً عما ذكره فيه جهابذة العصر الذين رأوه وخالطوه، وعرفوا حاله وشاهدوا أعماله، ومع ذلك نذكر كلام بعضهم فيه، ليحمد الله من عوفي من شقائه وعضال دائه. (قال الفاضل العلامة السيد بدر الدين الحلبي- متع الله المسلمين بحياته- في كتابه "الإرشاد والتعليم" - عند ذكره مقالات الأمم- ما نصه:-

_ 1 أخرجه البخاري (6487) ومسلم (2823) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (2822) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

"ومن شنيع مقالاتهم في الإسلام قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان، يريدون بذلك: أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود، ولا من مكان إلا وهو فيه موجود -قال حفظه الله-: وهذه المقالة الشنيعة لم نرها لأحد من المتكلمين المتقدمين منهم والمتأخرين، ولا رأيناها في كتب العقائد، ولا كنا نظن أحداً يقول هذه المقالة الشنيعة، وإنما ذكرها الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني البيروتي، صاحب الكتب الكثيرة في الأدعية والصلوات في منظومة له سماها "طيبة الغراء" ناقلاً لها عن البرهان الحلبي. قال: ذكر يوسف النبهاني أنه اطلع على رسالة ألفها البرهان الحلبي في هذا الموضوع، فطالعها وانتفع بها. قال: وهذه مقالة شنيعة في الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وإنزال له فوق منزلته التي أنزله الله بها، فإن هذا إشراك للنبي صلى الله عليه وسلم في أخص أوصاف الباري جل شأنه، ومهما يأوي الناس لإصلاح هذه المقالة الشنيعة فلن يجدوا إلى الخروج عن قبيحها سبيلاً، والأمر لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويا ليت شعري أي دليل قام عند هذا الذي قال هذه المقالة حتى قال بها، هل تلا في ذلك آية منزلة أو حديثاً صحيحاً؟ إن قال ذلك فقد كذب وشهد على نفسه بالكذب، أو ساق الدليل الذي أورده المتكلمون على أن الباري جل شأنه لا يحويه زمان ولا مكان فكيف النبي صلى الله عليه وسلم؟! فحكم له بما حكم للباري جل وعلا، فهو عين الشرك الصريح، ومثل هذه العقائد الفاسدة الباطلة الكاذبة يلقيها أهل الغفلة من المنتمين للعلم في آذان العامة، فتصادف منهم قبولاً وتجتمع عليها قلوبهم حتى يصير من المتعذر نزعها من أذهانهم، وربما كفّروا من أنكرها عليهم، ورأوا أن إنكار ذلك نوع من الإلحاد في الدين، واستخفاف بصاحب الشريعة المطهرة صلى الله عليه وسلم". وقال أيده الله تعالى:"ومثل هذه العقيدة في الشر أو أقل منها فساداً دعوى بعض المغفلين ممن ينتمون إلى العلم أن النجي صلى الله عليه وسلم كان يعلم جميع ما كان وما يكون، ولأهل هذه العقيدة دلائل على هذه المقالة الشنيعة كلها مبنية على مقدّمات

فاسدة أوقعها في قلوبهم المبالغة في إطراء النبي صلى الله عليه وسلم، المنهي عنه بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى"1. وأحاديث موضوعة كاذبة وقعت إليهم فاعتقدوا صحتها، وهي مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويكفي لمن ينكر هذه العقيدة أنه لم يقم دليل من كتاب أو سنة صحيحة عليها، مع الجزم باتفاق الكل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض له الأمر فيتوقف فيه إلى أن يأتيه الوحي من الله به، وحديث الإفك على الصدّيقة الطاهرة شاهد، ومن ادّعى أنه أفيضت عليه بعد ذلك العيون فليأتِ بآية أو حديث، ولا طريق لإثبات مثل هذا إلا الخبر الصادق. وهذه العقيدة هي الفرقان بين أهل السنة وبين المبتدعة عند أكثر مسلمي الهند، فمن كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم جميع ما كان وما يكون فهو من أهل السنة والخير، وإن لم يكن يعتقد ذلك فهو من أهل البدعة والفساد، ولعلمائهم في ذلك رسائل لا تكاد تحصى، شحنوها بالدلائل الفاسدة على هذه المقالة الشنيعة والرد على مخالفيهم فيها. قال: وقد سُئِلْتُ عن هذه المسألة وأنا بالهند سنة تسع عشر وثلاثمائة بعد الألف، وكان قصد السائل تعرف عقيدتي بما أعرف من الحق الذي لا مرية فيه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى على كثير من المغيبات لمصالح يقتضيها التشريع، ولم يطلعه على كل ما كان ويكون، وبينت له أن هذا لا يحط من عليِّ مرتبته عليه السلام، بل من الأدب مع الله ومعه أن لا نصفه بما لم يصف نفسه به، ولا أن نثبت له ما لم يخبر هو بثبوته لنفسه. فأنكر علينا ذلك، وتحركت نفسه للمحاجّة، فقلنا له: أترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم عدد الشعرات التي في لحيتك؟ فقال: لا. فقلنا: أفترى أن لحيتك ليست من المكونات؟ فانقطع في ميدان المناظرة قبل أن ينقل فيه قدماً. إلا أن هذا

_ 1 أخرجه البخاري (3445، 6830) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتمامه: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ؛ فقولوا: عبدُ الله ورسوله".

الشيخ الهندي ما زال بعد أن فارقني يذكر من فساد عقيدتي بين العامة، وتطاولي على الدين، واحتقاري للشرع ما وسوس له به شيطانه، وسولته له نفسه الخبيثة، حتى ألهب قلوبهم حقداً عليّ وغيظاً مني، وتحركت نفوسهم الشريرة لإيذائي على حق أذعته فيهم ونشرته بينهم، وبدعة أنكرتها عليهم، وبيّنتُ لهم فسادها وأنها ليست من الدين". وذكر قصة جرت له بسبب ذلك في أحد مساجد الجامعة في الهند، ثم قال: "هكذا بذر علماء السوء بذور الخرافات والبدع والعقائد الفاسدة في قلوب العامة، فتمكنت في قلوبهم، حتى تعذر على أحذق الناس بأمراض القلوب علاجها، واختيار دواء نافع لها، وليس هذا محل بسط الكلام على هذا الموضوع، وموعدنا إن شاء الله القسم الثاني من هذا الكتاب وهو قسم الإرشاد، فإنه به أمس وأشد ارتباطاً". انتهى كلامه. وقد شفى به صدور المؤمنين جزاه الله خير الجزاء، ومقصودنا منه ما يتعلق بمقالة النبهاني وخرافته، وسقنا الكلام كله حرصاً على ما فيه من الفوائد. ثم إن النبهاني هذا أخذ مقالته هذه من أهل الاتحاد والحلول، قال عبد الكريم الجيلي: إنّ "هو" من قوله: (قل هو الله أحد) راجع إلى ضمير الخطاب المستتر في (قل) المقدّر بِأنْتَ؛ مراداً به الإنسان الكامل، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ضرب من الهذيان تفرّع على قول محي الدين 1: "سبحان من أظهر الأشياء

_ 1 هو محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطائي الحاتمي، المعروف بابن عربي. ولد سنة (560) في مرسيه بالأندلس، وانتقل إلى إشبيليه، ونزل دمشق وتوفي بها سنة (638) . له تصانيف كثيرة ملأها بالشحطات، والقول بوحدة الوجود، مما أدى بجماعة من أهل العلم إلى الحكم بكفره. قال الذهبي في "السير": "ومن أردأ تواليفه كتاب "النصوص" فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة. فواغوثاه بالله". انظر: "سير أعلام النبلاء" (23/ 48) و"ميزان الاعتدال" (3/ 108) و "شذرات الذهب" (5/190) و "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" للبقاعي و"جزء فيه عقيدة ابن عربي وما قال المؤرخون والعماء فيه" لتقي الدين الفاسي.

وهو عينها". وقال الجيلي أيضاً: إن النصارى لم يكفروا بأصل الحلول، وإنما كفروا بالحصر الذي تضمّنه كلامهم: إن الله هو المسيح لا غيره من الأشياء، ولو عمموا لم يكفروا! وهذا الكلام مما تقشَعِرُّ منه جلود المؤمنين. فقول النبهاني: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان- ناقلاً عن البرهان الحلبي- هو من شعب ذلك الوادي. وللقوم غلو في هذا المقام يأباه المتشرعون، ومنه قولهم: إن الشرائع المتقدمة على ظهور صلى الله عليه وسلم شريعته، والأنبياء من قبله نوّابه في التبليغ، ووقوع النسخ في هاتيك الشرائع كوقوعه في شريعته التي ظهر بها، وعلى هذا قول قائلهم: كل النبيين والرسل الكرام أتوا ... نيابة عنه في تبليغ دعواه فهو الرسول إلى كل الخلائق في ... كل الدهور ونابت عنه أفواه وقال ابن الفارض على لسان الحقيقة المحمدية: وإني إن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي ومن ذلك دعواهم لرؤياه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فقد ادّعاها غير واحد منهم، وادّعوا أيضاً الأخذ منه يقظة، قال الشيخ سراج الدين بن الملقِّن في "طبقات الأولياء" في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: كان كثير الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً، فكان يقال إن أكثر أفعاله يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً، ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة، قال له في إحداهن: يا خليفة؛ لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي! وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في "لطائف المنن": قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي: يا سيدي! صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالاً وبلاداً! فقال: والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: وقال الشيخ لو حجب

عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين! ومثل هذه النقول كثير في كتب القوم جداً. وفي "تنوير الحالك" لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف من ذلك، وكل ما أتى به لا دليل فيه، وأطال الكلام في ذلك، ثم قال: وقد ذُكِرَ عن السلف والخلف وهَلُمَّ جراً ممن كانوا رأوه في اليوم، فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوّشين فأخبرهم بتفريجها، ونصّ لهم على الوجوه التي منها فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص! انتهى المراد منه. وليت شعري لم كان عثمان يطلب شاهدين من كل من أتاه بآية يشهدان على أنها من القرآن؟! وهلاّ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وسأله عن تلك الآية، وهو وسائر الصحابة أحق ممن ذكر بهذه الفضيلة، وقد وقع بينهم ما وقع من الاختلاف لم يره أحد منهم ويدفع إشكاله؟! والسيوطي رحمه الله كان فيما ألفه من الكتب حاطب ليل، في كل كتاب له مذهب ومشرب، وما أتى به في كتابه هذا لا يُعوَّلُ عليه كما سيرد عليك مردوداً. ثم إن رؤيته صلى الله عليه وسلم عند القائلين بها يقظة أكثر ما تقع بالقلب، ثم يترقّى الحال إلى أن يُرى بالبصر على ما زعموا، واختلفوا في حقيقة المرئي؛ فقال بعضهم: المرئي ذات المصطفى بجسمه وروحه. وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله، وبه صرّح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يُرى جسمه وبدنه، بل مثالاً له، صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه، قال: والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل هو مثال له على التحقيق. وفصّل القاضي أبو بكر بن العربي فقال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، واستحسنه السيوطي، وقال- بعد نقل أحاديث وآثار- ما نصه: فحصل من مجموع هذا الكلام-

النقول والأحاديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض وفي الملكوت. وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيّبت الملائكة -مع كونهم أحياء بأجسادهم- فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمّن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك، ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال، انتهى. وذهب إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السلام، فقال: إنهم أحياء رُدّت إليهم أرواحهم بعد أن قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم، والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي! وأتى بأخبار كثيرة تشهد له، وكلها لا أصل لها، ولا متصرف في الكون إلا الله تعالى، كما سنبرهن على ذلك إن شاء الله، ويكفي في إبطال هذا القول قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} 1 فإذا أمسك التي قضى عليها فمن أين لها التمكن من التصرف؟ ومن أين لأحد أن يراها؟. وأعجب من ذلك كله؛ ما نقله الشيخ صفيّ الدين بن أبي المنصور، والشيخ عبد الغفار، عن الشيخ أبي العباس الطنجي، من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزعم من زعم أن السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسلام في زمان واحد في إقطار متباعدة يخل به، ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم، وقد سئل عن ذلك فأنشد: كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغارباً اللهم إنا نعوذ بك من أن نقول ما لا ترضاه، وأن تعصمنا من الزيغ والزلل والاشتباه.

_ 1 سورة الزمر: 42.

والمقصود: أن قول النبهاني- الذي سبق بيانه في كلام العلامة السيد بدر الدين الحلبي- وما وافقه من أقوال الذين ذكرناهم كلها من واد واحد، وأنها متفرعة على القول بالحلول والاتحاد، غير أن كلامهم ليس صريحاً في ذلك، ولكن الأمر كما قيل: "ربّ كناية أبلغ من تصريح" فعلى المسلم التجنب عن مثل هذه الأقاويل، والأخذ بالكتاب والسنة، وبما كان عليه سلف الأمة. فخير أمور الدين ما كان سنة ... وشرّ الأمور المحدثات البدائع هذا حال النبهاني في عقائده، وجهله في العلوم النقلية والعقلية أشهر من أن يُنَبّه عليه، كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. لكن بقي علينا بيان حاله، وما هو عليه إلى اليوم من أفعاله وأعماله، وحيث أني لم أقف على حقيقة أمره -وإن كان ما نشره من الكتب تطلعنا على حُلْوِهِ ومُرّه- سألتُ عنه بعض الأفاضل من الأصحاب، ممن رآه واجتمع به، وعرف ما عنده من الفصول والأبواب، فكتب كلاماً طويلاً فيه، وعرّفني بظاهره وخافيه، فمن ذلك قوله: إن النبهاني قد قضى شطراً من عمره في المحاكم النظامية، وتسمى أيضاً بالمحاكم القانونية، ثم ذكر كلاماً طويلاً في بيان حال تلك القوانين، وما فيها من المخالفة لقواعد الدين، ثم قال: إن النبهاني تولّى رياسة الجزاء في بيت الله المقدس عدداً كثيراً من الأعوام، وبين حقيقة هذا المنصب وما يتعاطاه الرئيس من الأحكام، قال: ثم تحول إلى رياسة محكمة البداية في بيروت، وبين ما يرى في هذا المحل من الوظائف والمواد، ثم قال: وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت. قلت: إن كان صادقاً عليه ذلك المقال يكون تائهاً في أودية الجهل والضلال، فكيف يدّعي الإيمان فضلاً عن دعواه المحبة لسيد ولد عدنان، وهو معرض عن هديه وسنته، ناء عن العمل بشريعته، فهلاّ قرأ قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ

_ 1 سورة المائدة: 44.

الظَّالِمُونَ} 1 {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2. وسنذكر إن شاء الله تعالى فيما سيأتي تفصيل هذه المسألة وبيان حكمها بما ينشرح لها الخاطر. ثم ذكر شيئاً كثيراً من بيان أحواله مما يطول ذكره. وظنّ يوسف النبهاني المسكين أنه قد خلا له الجو فصفّر، وطاول العلماء الأعلام بما ذكر في كتابه الذي وسمه بدلائل الحق ما ذكر، وصال وجال وقال ما قال: وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا وتصدِّي مثله لما تصدِّي له دليل على جهله، ومزيد غباوته وخفة عقله، بل هو كما قيل: لو أن خفة عقله في رجله ... سبق الغزال ولم يفته الأرنب ولولا الترفع عن مكافأة أمثاله، والأنفة من مخاطبة أشكاله، لعرفناه قدره، وأوضحنا له شأنه وأمره، ولكن مثله لا يخاطب ولا يعاتب، ولا يؤاخذ بالهذيان ولا يعاقب، وإن الظفر بمثله شر من الهزيمة، والتلطخ بذكره قريب من محاورة بهيمة. إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تقصد إلى الباب تَهْتَدِ والمقصود من ذكر هذه النبذة من أحوال النبهاني؛ أن الذي خاصم أهل الحق كلهم على هذا المنوال، وقد تشابهوا كأسنان الحمار في الاتفاق على الضلال، وباطل الأقوال، فلا يغترّ بما زخرفوه وزوّروه، فإنهم ليسوا من رجال العلم والكمال، والله أعلم بحقيقة الحال. الأمر الثامن من تلك الأمور: لا بد للمتناظرين من مرجع يكون مهيمناً على

_ 1 سورة المائدة: 45. 2 سورة المائدة: 47.

الحق الذي يدّعيه كل منهما، وإلا فالمناظرة لا تتم، قال الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز: كل متناظرين على غير أصل -يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا في شيء من الفروع- فهما كالسائر على غير طريق، وهو لا يعرف المحجة فيتبعها، ولا يعرف الموضع الذي يريده فيقصده، وهو لا يدري من أين جاء فيرجع، فيطلب الطريق أو هو على ضلال. قال: ولكنا نؤصل بيننا أصلاً، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلا رمينا به ولم نلتفت إليه. ثم قال: الأصل بيني وبين خصمي ما أمرنا الله عز وجل واختاره لنا، وعلّمناه وأدّبناه به في التنازع والاختلاف ولم يكلنا إلى غيره، ولا إلى أنفسنا واختيارنا فنعجز، ثم بينه بقوله، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1. فهذا تعليم من الله، وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين ما أصّله المتنازعون بينهم. قال: وقد تنازعت أنا وبِشْرٌ وبيننا كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما أمر الله عز وجل، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه وإلا فإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن وجدناه فيها وإلا ضربناه في الحائط ولم نلتفت إليه، إلى آخر ما قاله في حضرة الخليفة العباسي عند مناظرته مع بِشْر. وقال الإمام العلامة الشيخ عبد اللطيف في موضع من كتبه: "اعلم أن مستند المسلمين في العقائد ومرجعهم في أصول الدين وفروعه إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع من سلف من علماء الأمة، والتقليد في باب أصول الدين ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله لا يفيد ولا يجدي عندهم، وإن كان المقلَّد -بفتح اللام مع التشديد- فاضلاً عالماً في نفسه "إلى آخر ما قال. وقال في موضع آخر: "إن الأصل المعتمد في هذا الباب وغيره من أصول

_ 1 سورة النساء: 59.

الدين وفروعه؛ وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة، هي هذه الأدلة الشرعية بالإجماع، والقياس مختلف فيه، والجمهور على قبوله بشروط1، وليس المعوّل على كلام الآحاد من أهل العلم والدين وإن علت درجتهم وارتفعت رتبتهم، ولا تصلح المعارضة بقول فلان وفلان من أهل العلم والدين، ولا ينتقض الدليل بمخالفة أحد كائناً من كان" انتهى. وقال في موضع آخر: "إن العمدة عند المسلمين في مسائل أصول الدين وفروعه؛ على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم، ولا تُذكر أقوال أهل العلم إلا تبعاً وبياناً، لا أنها المقصودة بالذات والأصالة، ثم المسائل التي لا يلزم بها المجتهد غيره هي ما كان للاجتهاد فيه مساغ، ولم تخالف كتاباً ولا سنة صريحة ولا إجماعاً، وما خالف ذلك فهو مردود على قائله، ويلزمه أهل العلم بصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال إمام الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى: ما منا إلا رادٌ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذا القبر- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وأحسن منه قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ... } 2 الآية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكتِهِ يأتيه الأمر من أمري، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله! ألا وإني أوتيت الكتابَ ومثله معه.." 3. فإذا كان ردُّ السنة محرّماً لا يجوز -ولو ردّها ظاناً أن القرآن لا يدل عليها- فكيف رد الكتاب والسنة وعدم الإلزام بهما لخلاف أحد من الناس كائناً من كان؟. ومسائل معرفة الله ووجوب توحيده، وإسلام الوجه له وحده لا شريك له،

_ 1 انظر في ذلك رسالة "القياس بين مؤيّديه ومعارضيه" للدكتور عمر الأشقر، نشر الدار السلفية بالكويت. 2 سورة النساء: 59. 3 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 130- 131) أو رقم (17223- قرطبة) وأبو داود (4604) والترمذي (2664) وابن ماجه (12) والحاكم (1/109) والدارقطني (4/286) والدارمي (1/153/ 586) والبيهقي (7/76) وغيرهم. من طرق؛ عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه مرفوعاً. وللحديث طرق كثيرة عن المقدام وغيره من الصحابة، وانظر: "الصحيحة" (2870) .

ومسائل ربوبيته، واختصاصه بالخلق والإيجاد والتدبير، ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، كصمديته تعالى، ونفي الكفو والصاحبة والولد، وغناه بذاته، ومباينته لمخلوقاته، وعموم قدرته، وإحاطة سمعه وبصره، وعلمه بجميع المعلومات والمبصرات والمسموعات، ونحو ذلك من أصول الدين؛ فكل الرسل متفقة عليه، وجميع الكتب داعية إليه، والعقول الصحيحة حاكمة به، فكل اجتهاد خالفه فباطل مردود، لا يسوغ العمل به في شريعة من الشرائع، ولا عند عالم من العلماء، ولا فقيه من الفقهاء. ثم قال: قال شمس الدين في "هدايته"1: بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقه على أصول: أحدها: أن الله تعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه، ولا ند ولا ضد، ولا وزير ولا مشير ولا ظهير، ولا شافع إلا من بعد إذنه. الثاني: أنه لا والد له ولا ولد، ولا كُفؤ ولا نسب بوجه من الوجوه، ولا زوجة. الثالث: أنه غني بذاته، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه. الرابع: أنه لا يتغير، ولا تعرض له الآفات، من الهرم والى س ض، والسِنَةُ والنوم، والنسيان، والندم والخوف، والهم والحزن، ونحو ذلك. الخامس: أنه لا يماثله شيء من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. السادس: أنه لا يحل بشيء من مخلوقاته ولا يحل في ذاته شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته والخلق بائنون عنه.

_ 1 انظر: "هداية الحيارى" لابن القيم (ص522- 525) .

السابع: أنه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كل شيء، وليس فوقه شيء البتة. الثامن: أنه قادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء يريده، بل هو فعال لما يريد. التاسع: أنه عالم بكل شيء، يعلم السِّرَّ وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} 1 ولا متحرك ولا ساكن، إلا وهو يعلمه على حقيقته. العاشر: أنه سميع بصير، يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنّن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، قد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، وعلمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، ونفذت مشيئته في جميع البريّات، وعمّت رحمته جميع المخلوقات، وسع كرسيه الأرض والسموات. الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلِفُ أحداً على ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده، أو يعاونه أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم. الثاني عشر: أنه الأبدي الباقي، الذي لا يضمحل ولا يتلاشى، ولا يعدم ولا يموت. الثالث عشر: أنه المتكلّم المُكَلّم، الآمر الناهي، قائل الحق، وهادي السبيل، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، قائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

_ 1 سورة الأنعام: 59.

الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلاً، ولا أصدق منه حديثاً، وهو لا يخلف الميعاد. الخاص عشر: أنه تعالى صمد بجميع معاني الصمدية، يستحيل عليه ما يناقض صمديته. السادس عشر: أنه قدوس سلام، فهو المبرّأ من كل عيب وآفة ونقص. السابع عشر: أنه الكامل، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه. الثامن عشر: أنه العدل، الذي لا يجور ولا يظلم، ولا يخاف عباده منه ظلماً. وهذا ما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر شيء بخلافه. فترك المثلثة عبّاد الصليب هذا كله، وتمسّكوا بالمتشابه من المعاني، والمجمل من الألفاظ، وأقوال من قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل، وأصول المثلثة ومقالاتهم في رب العالمين تخالف هذا كله وتباينه أشد المخالفة والمباينة" انتهى. قال:"فقف وتأمل هذه الأصول وأولها- وهو أنه تعالى لا شريك له ولا ند ولا شافع إلا من بعد إذنه- ووازن بينه وبين قول الغلاة" إلى آخر ما قال. فعُلِمَ من جميع ما نقلناه أن الدلائل إنما تكون من الكتاب والسنة والإجماع، وعليه كتب الأصول، وأما القياس، فقد اختلف فيه الأصوليون، ومن أراد تفصيل الكلام في هذا المقام فعليه بتلك الكتب. وقد جمع العلامة والفاضل الفهامة، الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي1- حفظه الله تعالى ومتّع المسلمين

_ 1 هو: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل القاسمي الحلاق. علامة الشام وإمامها في العلم، مولده ووفاته فيها؛ ولد سنة (1283) وتوفي سنة (1332هـ) . كان سلفيَّ العقيدة، محارباً للبدع والمحدثات. له كتب قيمة كثيرة؛ أهمها: "قواعد التحديث" و"إصلاح المساجد من البدع والعوائد" وغيرهما. ترجمته في "الأعلام" للزركلي (2/135) .

بحياته- عدة رسائل في أصول الفقه، ترشد الناظر إليها إلى الحق، وتغنيه عن كثير من المطولات. فهذه هي الدلائل لا ما ذكره النبهاني من استدلاله على مطالبه بكلام السبكي أو ولده، أو ابن حجر المكّي وأضرابهم، وكما استدل على مشروعية الاستغاثة بغير الله -في الصحيفة الخامسة والستين ومائة- بما نقل عن أحمد الرفاعي أنه قال: من كانت له حاجة فليستقبل عَبَّادان نحو قبري، ويمشي سبع خطوات ويستغيث بي، فإن حاجته تُقضى إلخ. فمثل هؤلاء إذا قالوا أقوالاً تخالف الكتاب والسنة يضرب بها على وجوه قائليها كان من كان، ومَنْ ابن حجر والسبكي والرفاعي ونحوهم حتى نعارض بكلامهم وحي الرسول صلى الله عليه وسلم ولاسيما في مثل هذه المطالب العالية. فكلام النبهاني من أوله إلى آخره على هذا المنهج، لا يستدل على مطلوبه إلا بحديث موضوع، أو قول أحد الغلاة، أو قول من لا يؤخذ بقوله، على أنه مع بطلانه مقلّد فيه تقليد الخوارج أبا أمامة، وهكذا شأن أسلافه، فلا ينبغي أن يلتفت إلى أقواله، ولولا خوف التطويل، لأتينا في هذا المقام بما يشفي العليل، ويروي الغليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد آن للقلم أن يجري في ميدان المناظرة، ويثير غبار البحث على وجه الخصم الألد الذي ركب متن المكابرة، وأسأل الله تعالى أن لا يذيق فم قلمي صاب الافتراء، وأن يعصمني من الخطأ والزلل في الأقوال والأفعال، فهو الملاذ والملجأ من كل بلاء، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه

[كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه] قال النبهاني: "القسم الأول من المقدمة: في الكلام على انقطاع الاجتهاد المطلق، الذي تدّعيه -بالباطل- فرقة الوهابية، ومن أعجبه شأنهم من جهلة المبتدعين شذاء المذاهب الإسلامية، وجعلت ذلك رسالة سميتها (السهام الصائبة لأصحاب الدعاوي الكاذبة) . ثم ذكر خطبة هذه الرسالة، إلى أن قال: "فأقول: إن دعوى الاجتهاد في هذا الزمان -منهم ومن غيرهم مطلقاً مهما كان عالماً- هي دعوى كاذبة، لا يلتفت إليها، ولا يعوّل عليها، قال: وقد ذكرتُ في كتابي (حجة الله على العالمين) الرد على من يدّعي الاجتهاد في هذا الزمان، ونقلت عبارات العلماء في ذلك، كالإمام الشعراني، والإمام ابن حجر الهيتمي، والإمام المناوي وغيرهم، بما يقنع كل ذي طبع سليم، وفهم مستقيم. إلى أن قال: أما الاجتهاد فلا يدّعيه اليوم إلا مختل العقل والدين، إلا من طريق الولاية، كما قاله الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي". ثم نقل ما نقله المناوي في أول شرحه الكبير على الجامع الصغير عن ابن حجر المكي، أنه قال: "لما ادّعى الجلال السيوطي الاجتهاد قام عليه معاصروه ورموه عن قوس واحدة، وكتبوا له سؤالاً فيه مسائل أطلق الأصحاب فيها وجهين، وطلبوا منه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد وهو اجتهاد الفتوى فليتكلم على الراجح من تلك الأوجه، وعلى الدليل على قواعد المجتهدين، فرد السؤال من غير كتابة، واعتذر بأن له أشغالاً تمنعه من النظر في ذلك. قال الشهاب: فتأمل صعوبة هذه المرتبة، -أعني اجتهاد الفتوى- الذي هو أدنى مراتب الاجتهاد، ويظهر لك أن مدعيها -فضلاً عن مدّعي الاجتهاد المطلق- في حيرة من أمره، وفساد فكره، وإنه ممن ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء. قال: ومن تصور مرتبة الاجتهاد المطلق استحيى من الله أن ينسبها لأحد من أهل هذه الأزمنة، بل قال ابن الصلاح ومن تبعه: إنها انقطعت من نحو ثلائمائة سنة. ولابن الصلاح نحو الثلاثمائة سنة، أي أنه من أهل القرن السادس، فتكون اليوم قد انقطعت من ستمائة سنة، أي بالنظر إلى عصر ابن حجر وهو من أهل القرن العاشر، فيكون لها

الآن منقطعة نحو ألف سنة، إذ نحن في العام السابع عشر من القرن الرابع عشر، وهو عام تأليفي لكتاب (حجة الله على العالمين) . قال: بل نقل ابن الصلاح عن بعض الأصوليين أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل، قال: ثم قال الشهاب ابن حجر: وإذا كان بين الأئمة نزاع طويل في أن إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي- وناهيك بهما- هل هما من أصحاب الوجوه أو لا، فما ظنك بغيرهما؟ بل قال الأئمة في الرويّاني صاحب البحر أنه لم يكن من أصحاب الوجوه، هذا مع قوله لو ضاعت نصوص الشافعي لأمليتها من صدري، فإذا لم يتأهل الأكابر لمرتبة الاجتهاد المذهبي فكيف يسوغ لمن لم يفهم أكثر عباراتهم على وجهها أن يدّعي ما هو أعلى من ذلك وهو الاجتهاد المطلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم". ثم نقل جملة من أقوال العلماء تشهد له بأن الاجتهاد قد انقطع، إلى آخر ما هذي به في هذا الباب، مما يدل على جهله وإفلاسه من كل علم، وعلى دعواه الكاذبة، والكلام على ما اشتمل عليه كلامه من الباطل يطول غير أنا نتكلم على مقاصده على سبيل الإجمال دون التفصيل، فأقول: الكلام على مقالته هذه من وجوه: الوجه الأول: إن نسبة دعوى الاجتهاد إلى الوهابية -وهم على زعمه من كان موافقاً للشيخ محمد بن عبد الوهاب في الاعتقاد- افتراء وكذب وبهتان عليهم، فإن أهل نجد كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، مقلّدون له في فروع الأحكام، وموافقون له في أصول الدين وعقائده، وقد صرح الشيخ محمد بذلك في كثير من رسائله، وهو لم يدّعِ الاجتهاد، ولا دعا أحداً من الناس إلى تقليده، بل أمر بالمعروف ونهى عن المنكر. فنسبة أهل نجد ومن يتّبع السنن النبوية إلى الشيخ وعدّهم فرقة من فرق المسلمين غير فرقة أهل السنة؛ ظلم وعدوان وزور وبهتان، وأعجب من ذلك أن النسبة إلى الشيخ ينبغي أن تكون المحمدية، وأما عبد الوهاب فهو أبو الشيخ محمد، والموافقة في العقائد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما كان للشيخ نفسه لا لأبيه، فإطلاق الوهّابية على

تلامذة الشيخ وموافقيه إما جهل ظاهر، وإما تنابز بالألقاب، وكلا الوجهين لا يخفى حاله. الوجه الثاني: الكلام على باب الاجتهاد مفروغ منه، فقد أطنب الكلام عليه الأصوليون لاسيما في كتاب "الموافقات"1، ومع ذلك فلا بد من ذكر شيء مما يتعلق به على سبيل الاختصار، قالوا2: الاجتهاد استفراغ الوسع لتحصيل ظنْ الحكم من فقيه وهو المجتهد المطلق، وشرطه تكليف، لا عدالة إلا لقبول قوله. وملكة: وهي العقل، يُدرك بها المطلوب مطلقاً أو في تلك الواقعة لتجزي الاجتهاد. وفقه النفس، أي: شدة الفهم بالطبع لمقاصد الكلام، حتى يكون له قدرة على استخراج أحكام الفقه من أدلتها، وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق، والترتيب والتصحيح والإفساد، فإن ذلك ملاك صنعة الفقه، ومن اتصف بالبلادة والعجز عن التصرف لم يكن من أهل الاجتهاد، ويشترط أيضاً توسط درجته عربية وأصولاً، وعلمه بآيات الأحكام وأحاديثها، وخبرته بمواقع الإجماع، والناسخ والمنسوخ، والمتواتر والآحاد، وأسباب النزول، وحال الرواة والمتون، ويكفيه تقليد الحفاظ وأئمة علم الكلام، وندب له البحث عن

_ 1 كتاب "الموافقات" للشاطبي طبع عدة طبعات، كان أفضلها ط. دار ابن عفان بتحقيق الشيخ سليم الهلالي- وفقه الله تعالى- ثم طُبع طبعة جديدة كاملة بتحقيق الشيخ العالم مشهور بن حسن آل سلمان- حفظه الله تعالى- نشر مكتبة التوحيد بالبحرين. 2 انظر: أقوال الأصوليين وتعريفهم للاجتهاد وشروطه في: "التحصيل من المحصول" للأرموي (2/ 281- وما بعدها) و "المحصول" للرازي (6/ 7- وما بعدها) و "نفائس الأصول" للقرافي (9/ 4006- وما بعدها) و " نهاية الوصول في دراية الأصول" لصفي الدين الأرموي الهندي (9/3785- وما بعدها) و"التمهيد في أصول الفقه" للكلوذاني (4/307- وما بعدها) و"روضة الناظر" لابن قدامة (2/ 223- وما بعدها- ط. الدكتور شعبان محمد إسماعيل) و"نهاية السول في شرح منهاج الوصول" (2/1025) و"التحقيقات في "شرح الورقات" لابن قاوان (ص622- وما بعدها) و"إرشاد الفحول" للشوكاني (3/ 832- وما بعدها ط. الباز) أو (2/ 1025- وما بعدها- ط. دار الفضيلة) أو (ص 818- وما بعدها- ط. ابن كثير) و"البرهان" للجويني (2/ 1316) و "المستصفى" للغزالي (2/350) و"الإحكام" لابن حزم (4/ 525- وما بعدها) ، وغيرها من كتب الأصول.

المعارض، ودون المجتهد المطلق مجتهد المذهب بأن يخرج ما يبديه على نصوص أمامه، ودونه مجتهد الفتيا بأن يتبحر ويتمكن من الترجيح. ثم ذكروا مسائل كثيرة في هذا الباب لا غرض لنا بنقلها، ثم اختلف الأصوليون هل يجوز خلو الزمان عن مجتهد أم لا، منهم من قال: يجوز، بل يقع. ومنهم من قال: لا يجوز، استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله"1 أي: الساعة. وسيأتي الكلام على هذه المسألة إن شاء الله. هذا خلاصة ما ذكره الأصوليون في هذا الباب، وقد علمت منه أن شروط الاجتهاد التي اشترطوها ليس وجودها من المحال، بل هي ممكنة الوجود في كل عصر، وعلمَت أيضاً مما ذكرناه من كلامهم أنهم لم يقولوا بسد باب الاجتهاد، ولا اقتضاه كلامهم، ولا دل عليه كتاب ولا سنة، وهما المرجع في التنازع، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2. فقول من قال بانقطاع الاجتهاد قول بلا دليل، فلا يُلْتَفَتُ إليه، بل يُرمَى به على وجه قائله، ويُرَدُّ على صاحبه. الوجه الثالث: قال الحافظ ابن القيم في رد هذا القول: "إن المقلدين حكموا على الله قدراً وشرعاً بالحكم الباطل جهاراً، المخالف لما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فأًخْلُوا الأرض من القائمين لله بحُجَجِهِ، وقالوا: لم يبقَ في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة،

_ 1 أخرجه البخاري (3640، 7311، 7459) ومسلم (1021) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه. وأخرجه البخاري (71، 3117، 3641، 7312) ومسلم (1037) من حديث معاوية بن أبي سفيان. وقد رواه جمع من الصحابة، وتوسّعت في تخريجه في تحقيقي لـ "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله" للمعلّمي (ص 97- 99- ط. المكتبة العصرية ببيروت) . 2 سورة النساء: 59.

وأبي يوسف وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وهذا قول كثير من الحنفية. وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة. وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي، وسفيان الثوري، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك. وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي. واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به من ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث مراتب: طائفة أصحاب وجوه كابن شريح والقفال وأبي حامد، وطائفة أصحاب احتمالات لا أصحاب وجوه، كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات، كابن حامد وغيره. واختلفوا متى انسَدَّ باب الاجتهاد، على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان. وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم لله بحججه، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأخذ الأحكام منها، ولا يقضي ولا يفتي بما فيها حتى يعرضه على قول مقلّده ومتبوعه، فإن وافقه حكم به وأفتى به وإلا ردّه ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم، وإبطال حججه والزهد في كتابه وسنة رسوله، وتلقي الأحكام منهما مبلغها، ويأبى الله إلا أن يُتِمَّ نوره، ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحُجَّتِهِ، ولن تزال طائفة من أمته على مَحْضِ الحق الذي بعثه به، وأنه لا يزال يَبْعَثُ على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدّد لها دينها. ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يُقَالَ لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حَرَّمْتُمْ على الرجل أن يختار ما يؤدّيه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب الله وسنة رسوله، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلّدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرّمتم

تقليد من سواه، ورجَّحْتُمُوهُ على تقليد من سواه، فما الذي سوّغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ولا إجماع ولا قياس، ولا قول صاحب، وحرّمتم اختيار ما عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة -أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة أجمعين، أو من هو مثله من فقهاء الأمصار، أو ممن جاء بعده؟ وموجب هذا القول: أن أشهب، وابن الماجشون، ومطرف بن عبد الله، وأصبغ بن الفرج، وسحنون بن سعيد، وأحمد بن المعدل، ومن في طبقتهم من الفقهاء، كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت -بلا مهلة- ما كان مطلقاً لهم من الاختيار! ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم؟ ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام، وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم؛ كأحمد بن حنبل، والشافعي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ونظرائهم، على سعة علمهم بالسنن، ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم، وتحرّيهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين، ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل، ومن قال منهم بالقياس فقياسه من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص، مع شدة ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علماءهم وعامتهم لهم. فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح -في تقدم زمان أو زهد أو ورع، أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم من بعده، أو كثرة أتباع لم

يكونوا لغيره -أمكن الفريق الآخر أن يبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه، وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعاً: نفوذ قولكم هذا- إن لم تأنفوا من التناقض- يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين، وأعلم وأورع وأزهد، وأكثر اتباعاً وأجل. فأين أتباع ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، بل أتباع عمر وعلي من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة؟ وهذا أبو هريرة قال البخاري: حمل العلم عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع، وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحاب عبد الله بن عباس. وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وجابر بن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السعيدين، والشعبي، ومسروق، وعلقمة، والأسود، وشريح؟ وأين في أتباعهم مثل نافع، وسالم، والقاسم، وعروة، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم؛ فعِظَمُهُم وجلالتُهم وكبرهم منع المتأخرين من الإقتداء بهم، وقالوا بلسان قالهم وحالهم هؤلاء كبار علينا لسنا من زبونهم، كما صرّحوا وشهدوا على أنفسهم، فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة، وقالوا لسنا أهلاً لذلك، لا لقصور الكتاب والسنة، ولكن لعجزنا نحن وقصورنا، فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا! فيقال لهم: فلِمَ تنكرون على من اقتدى بهما، وحكّمهما، وتحاكم إليهما، وعرض أقوال العلماء عليهما، فما وافقهما قبله وما خالفهما رده؟ فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود؛ فلِمَ تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته؟ وكيف تحجرتم الواسع من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا

اقتراحاتهم؟ وهم وإن كانوا في عصركم ونشؤوا معكم، وبينكم وبينهم نسب قريب، فالله يمنُّ على من يشاء من عباده. وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة؛ بأن الله صرفها عن عظماء القرى وعن رؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1. وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي كالمطر، لا يُدْرَى أولُه خيرٌ أم آخره"2. وقد أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} 3 وأخبر سبحانه أنه: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 4. وقال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5 ثم أخبر أن: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 6". انتهى ما ذكره الحافظ بن القيم في كتابه "أعلام الموقعين"7. وقد تبين منه أن ما ذكره النبهاني- تبعاً لأسلافه الزائغين- دليلاً على جهله وإفلاسه من فنون العلم فروعها وأصولها، إذ لا يقول بمقالته إلا من هو أجهل من ابن بوم ممن هو على شاكلته.

_ 1 سورة الزخرف: 32. 2 أخرجه أحمد (3/130، 143) أو (رقم: 12348، 12483) والترمذي (2869) والطيالسي (2023) وأبو يعلى في "مسنده" (6/190/3475) وغيرهم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو حديث صحيح مروي عن جمع من الصحابة، وسيأتي بعد قليل تخريج حديث عمار وعبد الله بن عمرو. وانظر: "فتح الباري" (7/ 8) و"الصحيحة" (2286) . 3 سورة الواقعة: 13- 14. 4 سورة الجمعة: 2-4. 5 سورة الجمعة: 2-4. 6 سورة الجمعة: 2-4. 7 "أعلام الموقعين" (2/275- 279- ط. الوكيل) .

الوجه الرابع من الوجوه الدالة على فساد قول الغبي النبهاني: أن كل ما ليس عليه أثارة من علم ليس بمقبول، وأن الاجتهاد ليس بنبوة حتى ياقل إنه خُتِمَ بفلان وفلان، أما النبوة فقد دل نص الكتاب والسنة على ختمها، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1. وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي؛ كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضِعَتْ هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"2. بل إن الدليل العقلي قام على ذلك أيضاً، وهو كمال الشريعة وشمولها للأحكام على اختلاف الأعصر والأزمان، وصيانتها من تطرق التغيير والتبديل بسبب إعجازها، مع كونها أوسط الشرائع، إذ لا غلوّ فيها ولا تقصير. وهذا كله قد دلّ على أن النبوة ختمت بالخاتم صلى الله عليه وسلم. وأما الاجتهاد فلم نرَ على ختامه دليلاً؛ لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولا من أقوال الصحابة. بل رأينا ما يدل على أن علم الشريعة وعلمائها باقون إلى قيام الساعة. روى كُميل بن نرياد النخعي، قال: أخذ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر جعل يتنفس، ثم قال: "يا كُميل بن زياد؛ القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك، الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسُكَ وأنت تحرس المال، العلم يزكوا على الإنفاق -وفي رواية على العمل- والمال تُنْقِصُه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومحبة العلم

_ 1 سورة الأحزاب: 45. 2 أخرجه البخاري (3535) ومسلم (2286) .

دين يُدَانُ بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزّان الأموال وهم أحياء، إن ههنا علماً، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه هاه، إن ههنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة بلى أصبته لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً للذات، سلس القياد للشهوات، أو مغرى بجمع الأموال والادخار، ليسا من دعاة الدين، أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة، لذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته، كيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قيلاً، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدّوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقاً إلى رؤيتهم، وأستغفر الله لي ولك، إذا شئت فقُم"1. ذكره أبو نعيم

_ 1 وصية الإمام علي بن أبي طالب لكميل بن زياد؛ أخرجها: الخطيب البغدادي في "تاريخه" (6/679) وفي "الفقيه والمتفقه" (1/182-183/176) والشجري في "الأمالي" (1/66) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/79- 80) والذهبي في "تذكرة الحفاظ" (1/11) والمزّي في "تهذيب الكمال" (24/ 220) والنهرواني في "الجليس الصالح" (3/331) وابن عبد ربه الأندلسي في "العقد الفريد" (2/7- 74- ط. المكتبة العصرية) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (14/606) . وذكرها بتمامها أو جزءاً منها. ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/145/149) و (2/984- 985/1878- ط. ابن الجوزي" وابن القيم في "أعلام الموقعين" (2/195) وفي "مفتاح دار السعادة" (1/403- 404- ط. ابن عفان) وابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" (4/311) وابن كثير في "البداية والنهاية" (9/ 47) وابن أبي العز في "الاتباع" (ص85- 86) والشاطبي في "الاعتصام" (2/875- 876- ط. ابن عفان) أو (3/ 466- ط. الشيخ مشهور بن حسن) والماوردي في "أدب الدنيا والدين" (ص 59- ط. ابن كثير) . وشرحها الشيخ الفاضل سليم بن عبد الهلالي -حفظه الله- في "الإسعاد بذكر فوائد وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لكميل بن زياد"وطبعت بدار الصميعي بالرياض.

في "الحلية" وغيره. قال أبو بكر الخطيب: هذا حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظاً. وقد شرح هذا الحديث شرحاً مفصّلاً الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه "مفتاح دار السعادة" ومما قال في شرحه -عند الكلام على قوله: "اللهم بلى لن تخلو الأرض من قائم لله بحجج الله"-:"ويدل عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" 1. ويدل عليه أيضاً ما رواه الترمذي، عن قتيبة، حدثنا حماد بن يحيى الأبَحّ، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره"2. قال: هذا حديث حسن غريب، ويُروى عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان يُثَبِّتُ حمّاد بن يحيى الأبح، وكان يقول: هو من شيوخنا. وفي الباب عن عمار3، وعبد الله بن عمرو4. فلو لم يكن في أواخر الأمة قائم بحجج الله مجتهد لم يكونوا موصوفين بهذه الخيرية. وأيضاً: فإن هذه الأمة أكمل الأمم، وخير أمة أُخْرِجَتْ للناس، ونبيُّها خاتَمُ النبيين، لا نبيَّ بعده، فجعل الله العلماء فيها كلما هلك عالم خلفه

_ 1 تقدّم تخريجه. 2 تقدم تخريجه من حديث أنس رضي الله عنه. 3 حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أخرجه: أحمد (4/319) والطيالسي (647) وابن حبان في "صحيحه" (16/209-210/ 7226) والبزار (3/320/ 2843- كشف) والبيهقي في "الزهد" (397) والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص 109) . 4 حديث عبد الله بن عمرو أخرجه: الطبراني في "الكبير" كما في المجمع (10/ 68) ومحمد بن يحيى بن أبي عمر كما في "المطالب العالية" رقم (4182- ط. العاصمة) من طريق: عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو به مرفوعاً، قال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم؛ وهو ضعيف". قلت: الحديث صحيح بالشواهد كما تقدم، وانظر "الصحيحة" (2286) .

عالم، لئلا تطمس معالم الدين وتخفى أعلامه. وكان بنو إسرائيل كلما هلك نبي خلفه نبي، فكانت تسوسهم الأنبياء1، والعلماء لهذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل. وأيضاً ففي الحديث الآخر:" يَحْمِلُ هذا العلم من كلّ خَلَفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"2. وهذا يدل على أنه لا يزال محمولاً في القرون قرناً بعد قرن. وفي"صحيح أبي حاتم"3 من حديث الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته"4. وغرسُ الله هم أهل العلم والعمل، فلو خلت الأرض من عالم خلت من غرس الله، انتهى المقصود من نقله5. فعُلِمَ من هذا الوجه، بطلان ما ذكره الغبي النبهاني في مقدمة كتابه من

_ 1 انظر: "صحيح البخاري" (3455) و"صحيح مسلم" (1842) . 2 حديث حسن لغيره. فقد أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى" (10/209) وفي "دلائل النبوة" (1/43-44) وابن عدي في "الكامل" (1/127، 153، و2/511- الفكر) وابن عبد البر في "التمهيد" (1/59) والخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" (رقم: 50- بتحقيقي) والآجري في "الشريعة" (1/ 102، 103- 104/ 1، 2) ، وابن حبان في"الثقات" (4/10) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (1) وغيرهم. من طرق؛ عن معان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وإسناد الحديث ضعيف. لكن له شواهد عن جمع من الصحابة، تكلّمتُ عليه وخرّجته بتوسع في تحقيقي لـ (شرف أصحاب الحديث" للخطيب البغدادي، و"عيون الأخبار" لابن قتيبة رقم (324) . 3 يقصد به: "صحيح ابن حبان". 4 أخرجه: أحمد (4/200) أو رقم (17839 - قرطبة) وابن ماجه (8) وابن حبان (2/32- 33/ 326) وفي "الثقات" (4/75) والبخاري في "التاريخ الكبير" (9/61) وابن عدي في "الكامل" (2/ 583- الفكر) . وحسّنه الشيخ الألباني في "الصحيحة" (2442) . 5 انظر: "مفتاح دار السعادة" (1/449- 451) .

الهذيان، وأنه بعيد عن العلم والمعرفة لا فكر له ولا ذوق، والأمر لله. الوجه الخامس: قوله: "أما الاجتهاد فلا يدّعيه اليوم إلا مختل العقل والدين، إلا من طريق الولاية، كما قاله الشيخ الأكبر" إلخ.. لا معنى له ولا محصّل، وقد أسلفنا لك أنه لا يمكن أن يخلو الزمان من مجتهد، كما ذكره الأصوليون من مذهب الحنابلة وأهل الحديث، ولِمَ كان الجامع لشروط الاجتهاد المتأهل لأخذ دينه من الكتاب والسنة مختل العقل والدين؟ فهل هذا إلا كلام جاهل قد تخبطه الشيطان من المس؟ ثم ما معنى قوله: "إلا من طريق الولاية إلخ.." فهل رأى أحد من علماء الفروق والأصول هذه العبارة في باب الاجتهاد؟ ولكن لا بدع أن يصدر مثل هذا الهذيان عن مثل هذا المبتدع الجاهل، والجاهل يعمل بنفسه ما لا يعمل العدو بعدوه، والشيخ محيى الدين1 ممن كان يدّعي الاجتهاد المطلق، كما دلّت عليه نصوص كتبه وقال شعر له: نسبوني إلى ابن حزم وإني ... لست ممن يقول قال ابن حزم بل ولا غيره فإن كلامي ... قال نص الكتاب ذلك حكمي أو يقول الرسول أو أجمع ... الخلق على ما أقول ذلك علمي أشار رحمه الله في هذه الأبيات إلى أنه يأخذ الأحكام الدينية من الكتاب والسنة والإجماع، وهذه عنده هي الدلائل دون القياس، والكلام مستوفى في محله. الوجه السادس: قال: نقل عن ابن حجر المكي أنه قال: "لما ادعى الجلال السيوطي الاجتهاد قام عليه معاصروه، ورموه عن قوس واحدة، وكتبوا له سؤالاً فيه مسائل أطلق الأصحاب فيها وجهين، وطلبوا منه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد -وهو اجتهاد الفتوى- فليتكلم على الراجح من تلك الأوجه، وعلى

_ 1 أي: الإمام النووي رحمه الله. وقد صحّ عنه أنه قال: "لا أجعل في حلٍّ من لقّبني محيي الدين". انظر: "تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيى الدين" لابن العطار (ص 37) - الهامش-.

الدليل على قواعد المجتهدين، فرد السؤال من غير كتابة، واعتذر أن له أشغالاً تمنعه النظر في ذلك"إلخ.. أقول: إن صدق ابن حجر في نقله؛ فإنه لا يُوثَقُ به، فقد افترى على شيخ الإسلام أعظم من ذلك، وتبيّن كذبه عليه كما سيجيء" [فلو صحّ هذا] كان الجواب عن الإمام السيوطي عليه الرحمة أنه لا يلزم المجتهد أن يكون عالماً بما حواه اللوح المحفوظ من العلوم. وقد نُقِلَ أن الإمام مالك سُئِلَ عن أربعين مسألة، فقال في جواب ست وثلاثين مسألة منها: لا أدري. وهكذا نُقِلَ عن الإمام أبي حنيفة وغيره {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 1. الوجه السابع: قول ابن حجر: "بل قال ابن الصلاح ومن تبعه أنها انقطعت من نحو ثلاثمائة سنة، ولابن الصلاح نحو ثلاثمائة سنة، أي لأنه من أهل القرن السادس، فتكون اليوم قد انقطعت من ستمائة سنة، أي بالنظر إلى عصر ابن حجر"إلخ ... أقول: هذا كلام ساقط عن درجة الاعتبار، لما قدمناه في الوجه الثالث من كلام الحافظ ابن القيم، ولما أوردناه من النصوص والدلائل على بطلان هذا القول، وابن حجر مضطرب الكلام لا يثبت على قول، فإنه ذكر هنا أن الاجتهاد قد انقطع من ستمائة سنة بالنظر إلى عصره، مع أنه ذكر في كتابه "الجوهر المنظم" عند شتمه لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه: "ولقد تصدّى شيخ الإسلام، وعالم الأنام، المجمع على جلالته واجتهاده، وصلاحه وإمامته، التقي السبكي- قدس الله روحه ونور ضريحه- للرد في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد، وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب، فشكر الله مسعاه، وأدام عليه شآبيب رحمته ورضاه"اهـ.

_ 1 سورة البقرة: 255.

فانظر إلى ابن حجر كيف ادّعى الإجماع على اجتهاد السبكي لكونه على منهجه ومسلكه في الابتداع واتباع الهوى، ثم إنه لم تسمح نفسه في الإقرار باجتهاد من لا يبلغ هو ولا أشياخه إلى كعب علاه، أعني أبا العباس تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد قال في "الجوهر المنظم"- بعد عبارته السابقة-:"هذا ما وقع من ابن تيمية مما ذُكِر- وإن كان عثره لا تقال أبداً، ومصيبة يستمر عليه شؤمها دواماً وسرمداً- ليس بعجب، فإنه سوّلت له نفسه وهواه وشيطانه أن ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعائب" إلى آخر ما قال، مما تبين منه لدى كل منصف اتباع ابن حجر لهواه، واختياره سبيل الضلال، عامله الله بعدله. والمقصود؛ أن كلام مثل هؤلاء الغلاة لا يجوز أن يحتج به، فهم يتكلمون على حسب أهوائهم، لا أنهم يتبعون الدليل، ويسلكون سواء السبيل، فسقط كلام الغافل النبهاني، ولا يجوز الالتفات إليه بوجه من الوجوه. الوجه الثامن: من الوجوه الدالة على سقوط مقالة الغبي النبهاني: أن كل واحد من الأئمة صرّح بأنه إذا صح الحديث يجب اتباعه والأخذ به، ولذلك صرّح كثير من الأئمة بوجوب الأخذ بالحديث والإضراب عن كل ما يخالفه من أقوال المجتهدين، وفي كتاب (أعلام الموقعين) 1: "وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذمُّوا من أخذ أقوالهم بغير حجة. فقال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري. ذكره البيهقي. وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه. وقال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع أو مالك؟ قال الا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير.

_ (2/ 183- 184) .

وقد فرق أحمد بين التقليد والإتباع، فقال أبو داود: سمعته يقول الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخيّر. وقال أيضاً: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا. وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجل. وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا. وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب. فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟!. وقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله؛ إن عندنا قوماً وضعوا كتباً يقول أحدهم. حدثنا فلان، عن فلان، عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا. ويأخذ بقول إبراهيم. قال مالك: وصحّ عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يستتابون" انتهى. الوجه التاسع: أن قول النبهاني البليد يقتضي أن يقدم كلام من يقلد اليوم على ما صح من الأحاديث النبوية المخالفة لقول المجتهد، وذلك هو عين الخطأ. وقد سمعتُ من بعض قضاة الأتراك أنه قال: إذا رأيتَ نصاً في "منية المصلّي" ورأيتَ حديثاً في صحيح الإمام البخاري يخالف ذلك النص؛ آخذ بما في المنية وأترك الحديث الصحيح ولا أعمل به! فانظر إلى هذه الغباوة والجهل العظيم. وقد سُئِلَ أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه الزكية- عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب، وتبصّر فيه، واشتغل بعده بالحديث، فوجد أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخاً ولا مخصصاً ولا معارضاً،

وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟. فأجاب: "الحمد لله رب العالمين، قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان صدّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنه يقول: أطيعوني ما أطعتُ الله تعالى، فإذا عصيت الله عز وجل فلا طاعة لي عليكم. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الأئمة الأربعة- رحمهم الله تعالى أجمعين- قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه، وذلك هو الواجب، فقال الإمام أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه -أبو يوسف- بإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضراوات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك رحمه الله تعالى بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت لقولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيتُ لرجع كما رجعت. ومالك رحمه الله تعالى كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطىء، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة. أو كلاماً هذا معناه. والشافعي رحمه الله تعالى كان يقول: [إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي "مختصر المزني" لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه؛ قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلّدوني ولا تقلّدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري. وتعلموا كما تعلمنا. وكان

يقول] 1: من ضيق علم الرجل أن يُقلّد دينه الرجال. وقد قال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لم يسلموا من أن يغلطوا. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"2. ولازم ذلك أن من لم يفقّهه الله عز وجل في الدين لم يرد به خيراً، فيكون التفقه في الدين فرضاً، والتفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية، فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً في الدين. لكن من الناس من قد يعجز عنها فيلزمه ما يقدر عليه، ومن كان قادراً على الاستدلال فقيل يحرم عليه التقليد مطلقاً، وقيل يجوز مطلقاً، وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى. والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزي والانقسام، بل يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل [أحد] فاجتهاده بحسب وسعه، فمن نظر في مسألة قد تنازع العلماء فيها فرأى مع أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية، بل مجرد عادة تعارضها عادة غيره واشتغاله بمذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، فحينئذ موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام، وتبقى في النصوص النبوية سالمة في حقه عن المعارض بالعمل، فهذا هو الذي يصلح. وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تاماً في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه. أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع النص؛ فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وإن لم يفعل كان متبعاً للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله تعالى ورسوله، بخلاف من يقول للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص، ويقول أنا لا أعلمها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا

_ 1 ما بين المعقوفتين ساقط في المطبوع، وأثبتُه من"مجموع الفتاوى". 2 أخرجه البخاري (7312) ومسلم (1037) .

اسْتَطَعْتُمْ} 1. [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم] " 2 والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دل على أن هذا القول هو الراجح، فعليك أن تتبع ذلك، ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضاً راجحاً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده. وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود عليه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته، أو الانتقال من قول إلى قول بمجرد عادة وإتباع هوى؛ فهذا مذموم. وإذا كان المقلد قد سمع حديثاً وتركه- لاسيما إذا كان قد رواه أيضاً عدل- فمثل هذا إذا وجد لا يكون عذراً في ترك النص. وقد بينا فيما كتبناه في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" نحو عشرين عذراً في ترك العمل ببعض الأحاديث، وبيّنا أنهم معذورون في الترك لتلك الأعذار، وأما نحن فمعذورون في تركها لهذا القول. فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح، أن راوِيه مجهول أو نحو ذلك، ويكون غيره قد علم صحته، وثقة راويه؛ فقد زال عذر ذلك في حق هذا، ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه أو القياس، أو عمل لبعض الأنصار، وقد تبين للآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل، لم يكن عذر ذلك الرجل عذراً في حقه، فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفائها عنها أمر لا يضبط طرفاه، لاسيما إذا كان التارك للحديث معتقداً أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار -أهل المدينة النبوية وغيرها- الذين يقال: إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ، أو معارض براجح، وقد بلغ من بعدهم أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل قد عمل به بعضهم أو من سمعه منهم أو نحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص. وإذا قيل لهذا المستفتي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه

_ 1 سورة التغابن: 16. 2 ما بين المعقوفتين أثبته من"مجموع الفتاوى". والحديث أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) .

معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست أعلم من هذا ولا هذا، ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى هؤلاء كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم من الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع آخر، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة. وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة. وتركوا قول عمر رضي الله تعالى عنه في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان، لما كان روى من لسان النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "هذه وهذه سواء" 1. وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة، فقال له: قال أبو بكر قال عمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر قال عمر! [وكذلك ابن عمر] لما سُئل عنها2 فأمر بها فعارضوه بقول عمر، فبين أن عمر لم يرد ما يقولونه، فألحوا عليه، فقال: [أمر] رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم [أمر] عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ولو فُتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبقى كل إمام في اتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين، وشيه بما عاب الله تعالى به النصارى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3 والله سبحانه أعلم" انتهى4.

_ 1 أخرجه البخاري (6895) وأحمد (1/277) وأبو داود (4558) والترمذي (4558) وابن ماجه (2652) والنسائي، وغيرهم. 2 أي: متعة الحج؛ وهو: حج التمتع. 3 سورة التوبة: 31. 4 "مجموع الفتاوى" (20/ 211- 214) القديمة. أو (20/ 117- 120- الجديدة) .

الوجه العاشر: أنه يُفهم من كلام النبهاني البليد: أنه يجب على المسلمين منذ نحو ألف سنة في مشارق الأرض ومغاربها أن يُقلّدوا أحد المجتهدين الأربعة، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنة، أو قلّد غير هؤلاء -من صحابي أو غيره- خرج عات جادة الصواب، وسلك غير سبيل المؤمنين، هذا لازم من لوازم كلامه الباطل، وقوله العاطل، وهو مردود لم يقل به عالم يعتد بعلمه. وفي كتاب (أعلام الموقعين) 1 للحافظ ابن القيم عليه الرحمة: "هل يلزم المستفتي أن يجتهد في أعيان المفتين ويسأل الأعلم والأدين أم لا يلزمه ذلك؟ فيه مذهبان كما سبق وبينا مأخذهما -والصحيح أنه يلزمه، لأنه المستطاع من تقوى الله تعالى المأمور بها كل أحد. قال: وتقدم أنه إذا اختلف عليه مفتيان أحدهما أورع والآخر أعلم؛ فأيهما يجب تقليده؟ فيه ثلاثة مذاهب سبق توجيهها. وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان: أحدهما: لا يلزمه، وهو الصواب المقطوع به، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأ أهلها من هذه النسبة، بل لا يصح للعامي مذهب، ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له، لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيراً بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتأوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال: أنا شافعي أو حنبلي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب؛ لم يصر كذلك بمجرد قوله، يوضحه أن القائل أنه شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه، وهذا إنما يصح إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة

_ (4/329- 332) .

والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام وعلمه وطرقه فكيف يصح له الانتساب إليه، إلا بالدعوى المجردة، والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لا يتصور آن يصح له مذهب، ولو تصور له ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحداً قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة، بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره. وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة، وأجل قدراً، وأعلم بالله ورسوله من أن يُلْزِمُوا الناس بذلك، وأبعد منه قوله من قال: يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة. فيالله العجب! ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذاهب التابعين وتابعيهم، وسائر أئمة الإسلام، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء، وهل قال ذلك أحد من الأئمة، أودعا إليه، أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه؟! والذي أوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة، لا يختلف الواجب ولا يتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز، والزمان والمكان والحال، فذلك أيضاً تابع لما أوجبه الله تعالى ورسوله. ومن صحّح للعامي مذهباً؛ قال: هو [قد] اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه، أو أرجح منه، أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فساده على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أنه إذا رأى نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدم عليها قول من انتسب إليه، وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد، فإذا صح الحديث وجب عليه العمل به، حجازياً كان أو عراقياً أو شامياً أو مصرياً أو

يمنياً، وكذلك لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق المسلمين، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإمام وصحّت في العربية وصح سندها جازت القراءة بها، وصحت الصلاة بها اتفاقاً، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده جازت القراءة بها، ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال، والثاني تبطل الصلاة بها، وهاتان الروايتان منصوصتان عن الإمام أحمد. والثالث: إن قرأ بها في الركن لم يكن مؤدياً لفرضه، وإن قرأ بها في غيره لم تكن مبطلة؛ وهذا اختيار أبي البركات ابن تيمية، [قال:] لأنه لم يتحقق الإتيان بالركن في الأول، ولا الإتيان بالمبطل في الثاني. ولكن ليس له أن يتبع رخص المذاهب، وأخذ غرضه من أي مذهب وجده فيه، بل عليه اتباع الحق بحسب الإمكان" انتهى. (فظهر لك) مما قررناه في الوجوه العشرة: أن ما ذكره النبهاني المسكين من القول بانسداد باب الاجتهاد قول باطل مبتدع، فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله، فلم يسقط منها شيئاً وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئاً. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في التابعين، ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم1، فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه -يبيحون به الفروج، والدماء، والأموال، ويحرمونها، ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ -على خطر عظيم، ولهم بين يدي الله موقف شديد، يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء. وقد أطنب الحافظ ابن القيم عليه الرحمة في كتابه (أعلام الموقعين) الكلام في ذم المقلدين، وأبطل فيه قول الجهلة بانقطاع الاجتهاد. وألف جمع من الأفاضل في ذلك كتباً مفيدة، ولولا تعرض هذا الجاهل لهذه المسألة وإن لم يكن

_ 1 بقوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب"..

لها مناسبة لموضوع كتابه ما فتحنا فيها فماً، ولا حرّكنا قلماً، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يفضح من تنقّص العلماء الأخيار، وسادات هذه الأمة، وأن يُري الناس عورته ويغريه بكشفها، ونعوذ بالله من الخذلان، وقد أصابته سهامه الصائبة، وتبين أنه من أصحاب الدعاوي الكاذبة، وكان هو الحري بما أنشده: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى ثم إن النبهاني الغبي عقَّبَ مسألة الاجتهاد بمسألة أخرى لا مناسبة لها أيضاً بموضوع كتابه، لكنه أراد أن يُظهر عجبه ودعاويه الكاذبة في العلم، فقال -بعد أن هذى وتكلّم بكلمات ساقطة تناسب جهله-: "إني سمعت مِراراً من بعضهم لزوم تأليف تفسير للقرآن على مقتضى الأذواق العصرية، وسمعتُ من رجل منهم أنه سيفعل ذلك، ويؤلف تفسيراً بهذه الصفة التي توافق هذا العصر، وهو في نفسه لا يقدر على فهم متن الآجرّومية، وقال لي بعض من يجتمع عليهم ويسمع كلامهم -وقد ثبت في ذهنه بعض نزغاتهم هذه وظنها حقاً-: قد نفعتُ بتأليفك المسلمين نفعاً عظيماً، ولكن بقي عليك شيء واحد. فقلت له: ما هو؟ قال: أن تؤلف تفسيراً للقرآن على مقتضى الأذواق العصرية، فإن هذه التفاسير الموجودة قد ألفوها على مقتضى أذواق أهل العصور السالفة، وقد تغير الحال الآن، واختلفت أذواق الناس ومشاربهم، فيلزم تأليف تفسير يوافقهم. قال: فأجبت أني لست أهلاً لذلك وبيني وبين مرتبة التفسير درجات كثيرة، لا يمكنني الوصول إليها، وتآليفي كلها جمع فؤاد وأكثرها في شؤون النبي صلى الله عليه وسلم من فضائله ومعجزاته ومدائحه ونحو ذلك مما لا رأي لي فيه، وإنما هو نقل صرف، وتفسير القرآن قد فرغ منه العلماء ونقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن بعدهم من أئمة الدين ودوّنوه في تفاسيرهم هذه الموجودة، وهي كافية وافية، وهي كما وافقت أهل العصور السابقة توافق أهل هذا العصر، فإن الأحكام الشرعية التي اشتمل عليها القرآن هي صالحة لكل إنسان، وقد استوت فيها العصور والأزمان، وليس للقرآن معان خاصة بأهل العصور السابقة ومعان أخرى خاصة بأهل العصور اللاحقة، وأما الأذواق والمشارب فهي إن كانت موافقة للشرع فمطلوبها يوجد في هذه التفاسير، وإن

كانت مخالفة للشرع فكيف يمكن أن يفسر القرآن بمعان توافق هذه الأذواق الفاسدة، والمشارب الكاسدة، ونحن لا يجوز لنا أن نفسر القرآن بعقولنا، ونطبقه على الأذواق العصرية كما يقوله السفهاء المخذولون، ويتجاسرون على دعوى اقتدارهم على تفسير كلا االله تعالى بأفهامهم السقيمه، وعقولهم الناقصة، فإن تفسير القرآن بالرأي ممنوع شرعاً". ثم إنه نقل بعض ما قالوه في الفرق بين التفسير والتأويل، وتكلّم بهذيان يوافق فهم أمثاله، ثم ذكر قصيدة له مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "والحاصل أن هذه الفرقة المجدوعة المخذولة من طلبة زماننا في غاية الغباوة، ونقص العقل والدين، وقد عظم ضررهم على أنفسهم وعلى من يخالطهم ويصغي إلى كلامهم من المسلمين، فإنهم مع جمعهم لعقائد شتى من عقائد أهل الزيغ والبدع والوهابية وغيرهم، واستحسانهم ضلالاتهم، هم أضرّ منهم بكثير، وذلك أدن الوهابية قوم أهل بدعة ظهروا بها في بلاد نجد، وانتشر مذهبهم إلى ما حواليهم من البلاد، ثم تقلص ظلهم وقلّوا وذلّوا وانحصروا في أرضهم، وهم مع كونهم حنابلة أنكر عليهم علماء مذهب الإمام أحمد ما هم عليه من الغلو في الدين، وتضليل المسلمين، أما هذه الفرقة الجديدة فهي مؤلفة من سائر المذاهب، بدون علم ولا تقوى، ولا قواعد يستندون إليها كسائر الفرق، وإنما الجامع بينهم فساد الأفكار، والاعتراض على الأئمة الأخيار، وهم يختلطون بالناس ويكتبون آراءهم الفاسدة. ثم أخذ يبدي ويعيد، ويكرر الشتم على أخيار أهل عصره المعرضيين عن بدعه، ثم تعرض بالذم لما طبع من كتب الشيخين وسائر الكتب السلفية ككتاب (الصارم المنكي) 1 ثم ختم رسالته بقصيدة من شعره الركيك، ويغالي برسول الله صلى الله عليه وسلم ويشرك به. حذا ما ذكره في هذا الباب، وهو يشتمل على مفاسد كثيرة، لا يمكن ضبط

_ 1 "الصارم المنكي في الرد على السبكي" لمحمد بن أحمد بن عبد الهادي، كتاب قيّم في بابه، وقد طُبع الكتاب ونشر بمؤسسة الريان بيروت، بتحقيق عقيل بن محمد المقطري- ردّه الله للمنهج الحق- وقدم له العلامة مقبل بن هادي الوادعي- رحمه الله-.

أقلها، بل إن كل كلمة من كلماته دلت على باطل، فكلامه ظلمات بعضها فوق بعض، وكله ينادي على جهله وغلوه، ويدل على أنه ممن أنزل الله تعالى فيه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1 ولو أخذنا نتكلم على جميع ما حواه كلامه من المفاسد لطال الكلام جداً، ولكنا نتكلم على مقاصده على سبيل الإجمال: فأقول: حاصل ما دل عليه كلامه من المقاصد أمور: الأول: أن تفسير القرآن قد أخذ حده، وعلم قد نضج واحترق، ولا يمكن أن يستنبط من التنزيل ما لم يُستنبط. الثاني: من الأمور التي دل عليها كلامه: أن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على الأذواق العصرية وعلومه هو ملحد مبتدع زائغ، إلى آخر ما ذكره فيه من الذم. الثالث: أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم. الرابع: القدح في ابن تيمية، وجرح كتبه وكتب ابن القيم وابن قدامة، هذا ما دل عليه كلامه، ونحن نتكلم على مطلب مطلب على سبيل الإيجاز والاختصار، وبالله التوفيق وهو المستعان.

_ 1 سورة الملك: 10- 11.

الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر

[الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر] إن من طالع كتب التفسير المتداولة بين الأيدي اليوم وجدها أعظم مانع من الوقوف على مراد الله تعالى بكتابه الكريم، فإن منها ما هو مشحون بقواعد النحو ووجوها،، فتراه يذكر في كل آية من الوجوه ما يفوت الحصر، ومنها ما هو مشحون بالمسائل الكلامية، والقواعد الحكمية، حتى يصرف الآيات إلى ما أصله من الأصول ويُؤَول النصوص القطعية إلى ما يوافق معتقده.

إذا نظرت تفسير الرازي والبيضاوي وأبي السعود تعلم حقيقة هذا الكلام. ومنها ما اشتمل على قصص بني إسرائيل وأكاذيبهم وأقوالهم التي تحيلها العقول وتنفر عنها الطباع، ومنها تفاسير لا يدل عليها نقل ولا عقل ولا لغة من اللغات، كالتفسير الشهير بأنه من باب الإشارة، ومنها مما لا يحيط به العد والإحصاء. وقد تكلم على التفسير كلام منصف واقف على الحقيقة العلامة السيد محمد بدر الدين الحلبي- فسح الله تعالى في مدته وبارك في حياته- في كتاب (التعليم والإرشاد) فقال- سلمه الله تعالى بعد أن تكلم على علم التفسير وأن أهل العلم لم يعطوه حقه-: "والذي ينظر فيما طبع من نحو قرن في مصر- وهي محط رحال العلوم الدينية وكعبة العلوم التي يَفِدُ إليها الحجاج من جميع الآفاق، والقدوة لكافة أهل الأمصار؛ يرى العجب العجاب، يرى أن الذي طبع منها إلى الآن "تفسير الخازن"، "تفسير الجلالين" بحاشية الصاوي وبحاشية الجمل، "البيضاوي" بحاشية الشهاب بقطعة من حاشية السيد، "تفسير فخر الدين الرازي"، "تفسير أبي السعود"، "تفسير النسفي"، "تاج التفاسير"، ابن جرير الطبري، "الدر المنثور" للسيوطي، تفسير ابن عباس، وبعض تفاسير ضئيلة، هذه هي كتب التفاسير التي تتداولها أيدي الناس اليوم، وهي التي يعتمد عليها طلاب العلوم الشرعية في تفسير كتاب الله جل شأنه، والوقوف على مراده منه. فأما تفسير الخازن؛ وهو أكثر كتب التفاسير تداولاً، وأعظمها انتشاراً بين عامة المسلمين وطلبة العلوم الشرعية، فهو الكتاب الذي يقف القلم حائراً عند وصفه، لا يدري ما يقول فيه، وما الذي يحذر به المسلمين منه، وخير ما يقال فيه إنه مجموعة الأكاذيب، ولا أرى إلا أن الإنسان لو جرد ما فيه من الأكاذيب الموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقاصيص الكاذبة التي وضعها اليهود -كقصة بابل والغرانيق وإرم ذات العماد وغيرها- لكانت فوق نصف الكتاب، وبعد ذلك فأشياء إن لم تضر لم تنفع.

وهو على اشتماله على هذين الوصفين اللذين هما من أقبح أوصاف المؤلفات فهو العمدة لعامة المسلمين، وأكثر طلبة العلوم الشرعية، وأكثر انتشاراً بينهم، ولقد أرى أن نسخه التي نشرت في مصر لا تقل عن مائة ألف نسخة، فسد بواسطتها عشرة أضعاف هذا العدد من المسلمين، ودخل عليهم في دينهم ما ليس منه من حديث موضوع وتفسير مفترى. ومن العجيب أن لا يوجد في علماء الإسلام من ينهى الناس عن نشر مثل هذه الكتب المفسدة للعلوم والشرائع، المضرة بالأخلاق والعقائد، وقد لا يخلو بلد من بلاد الإسلام عن قوم من أهل العلم -ولو قليلين- يعرفون ما في هذه الكتب من المفاسد، ولا يحظرون على الناس استعمال هذه الكتب لاتقاء شرها، بل ربما سُئلوا عنها فأثنوا عليها خيراً مسايرة لأميال العامة، ومصانعة لهم فيما هو من أهم مهمات الدين". قال: "وهذا البحث موعدنا به إن شاء الله القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو قسم الإرشاد، وإنما غرضنا في هذا القسم النظر في طرق التعليم، وكتب العلم المستعملة، وبيان جيدها من رديئها. وأما "تفسير الجلالين" بحاشيتيه الجمل والصاوي فهما يساويان "تفسير الخازن" انتشاراً وكثرة تداول، إلا أن انتشار الخازن بيد العوام أكثر، وانتشار هذين بيد الخاصة- يعني طلاب العلوم الشرعية- أكثر، فأما الشرح فهو غاية في الاختصار لا يمكن الاستقلال به في فهم كتاب الله تعالى، مع علل فيه أخر يعلمها من جمع بينه وبين بعض تفاسير المتقدمين الموثوق بها وبمؤلفيها، وأما حاشيتاه الضخمتان فهما من مؤلفات متأخري أهل العلم بمصر، وحسبك هذا في معرفة منزلتيهما بين المؤلفات". ثم إنه سلّمه الله عقد فصلاً في انحطاط العلم، ثم قال: وأما الكشاف ومختصره للقاضي البيضاوي فهما المشكلة التي لا تحل إجمالاً وإغلاقاً وغموضاً، ولشدة عراقتها في ذلك أكثر المتأخرون من تعليق الحواشي والشروح عليهما، لبيان عبارتهما وتوضيح مقاصدهما، حتى لو جمعت الحواشي والشروح التي

عليهما لأربت على ألف مجلد، وما ذكره صاحب (كشف الظنون) مما كتب عليهما قليل من كثير، ولولا أنهما بحيث يخفيان إلا على من ألف حل الرموز والطلاسم واستخراج المخبآت لم يعتن من جاء بعدهما بالتوسع في الكتابة عليهما، والمبالغة في توضيح غوامضهما، وفوق هذا كله اشتمالهما على مسائل كثيرة خارجة عن التفسير بالمرة، لا ترتبط فيه بوجه من الوجوه، كالمسائل الكلامية التي حشيا بها كتابيهما، وهي ليست من فن التفسير ولا من متعلقاته، وإنما كان الغرض من ذكرها بيان معتقديهما والاستشهاد له بكتاب الله. ويلحق تفسير أبي السعود بهذين التفسيرين، فإنه صورة أخرى لهما مع بعض تغييرات قليلة جداً، ويلحق تاج التفاسير بتفسير الجلالين، ونسبته إليه كنسبة تفسير أبي السعود إلى تفسيري الكشاف والبيضاوي، وإن اختلف عنه فيسير. وأما تفسير فخر الدين الرازي- وهو كتاب العامة والخاصة وعمدة الناس في هذا الموضوع- فأبو حيان المفسر يقول في تفسيره: تفسير الإمام فخر الدين فيه كل شيء إلا التفسير. وما أحسن ما ترجم به أبو حيان هذا التفسير الكبير، بل البحر العميق، ولقد يفتح الإنسان جزءً من أجزاء هذا التفسير للمراجعة والكشف فيه عن تفيد آية من آي كتاب الله فلا يشعر إلا وقد توسط بحراً لجياً لا يخلص الإنسان منه إلى ساحل. ويظهر مما كتبه الإمام فخر الدين في مقدمة كتابه أنه قد أودع كتابه كثيراً مما لا تعلق له بعلم تفسير كتاب الله، ولا ارتباط له فيه بوجه من الوجوه، وإنما كان غرضه مما جمعه في تفسيره من هذه المسائل الغريبة- مع أن الكتاب في تفسير كتاب الله خاصة على ما يظهر من كلامه في أول كتابه- أن يبرهن على حقيقة ما قاله لبعض مناظريه من أن كتاب الله- جل ثناؤه وعلا سلطانه- لا يمكن استقصاء ما فيه من الأسرار، ولا الإحاطة بما فيه من المعاني والحكم، ولو كتب في ذلك مئات من المجلدات، وإن فاتحة الكتاب يمكن أن يكتب فيها مجلد ضخم في أحكامها وأسرارها ومعانيها، ولذلك وضح في تفسير الفاتحة مجلداً لرد ما أنكره المنكروه عليه، وإن كان لم يصنع شيئاً بالرد عليهم بحشو كتابه بهذه

المسائل التي ذكرها، ولا ارتباط لها بتفسير كتاب الله بوجه من الوجوه، وكل كلام مؤلف كلام الله أو غيره يمكن للعالم أن يتوسع في الكتابة عليه إلى مثل ما توسع به الإمام فخر الدين في تفسير كتاب الله، والمؤلف إذا أغمض عينه وتسامح في تأليفه وراعى المناسب والمجاور ومجاوره استطال في يده حبل الكلام، فلم يقف به عند حد. ولقد رأينا لمتأخر من متأخري المصريين يدعى السحيمي حاشية على شرح عبد السلام على جوهرة التوحيد تقع في أربع مجلدات ضخام، على أن الأمير وهو أطول باعاً منه في علم الكلام وأدق نظراً استوعب الكلام على شرح عبد السلام في مجلد صغير، وكان في قدرة السحيمي أن يضيف إلى مجلداته الأربع أربعة أخر، ولكن رأى أن الاقتصار على هذا المقدار كاف في البلاغ إلى ما قصد من البرهان على سعة إطلاعه". ثم تكلم على تفسير "روح المعاني" وأن مصنفه أخذه من تفسير الإمام فخر الدين، إلا أنه حذف منه كثيراً من الزوائد، وأضاف إليه وأحسن غاية الإحسان، وضم شيئاً من أقوال سلف المفسرين ومتقدميهم، وإن لم يميز بين ما قوي سنده من هذه الأقاويل وما وهي، فبقي في الأمر بعض لبس وإشكال، وأضاف إليه أيضاً جملة كبيرة من تفاسير المتصوفة، فلم يكتف رحمه الله بجمع تأويلات المتكلمين التي تأولوا بها القرآن للاستدلال على عقائدهم وتطبيقها على ما أدتهم إليه عقولهم منها عملاً بقاعدتهم المشهورة عندهم من وجوب تأويل النقل إذا عارض العقل حتى يرجع إلى العقل، فأضاف إلى ذلك تأويلات المتصوفة التي صرفوا بها القرآن عن ظاهره إلى معان لا تدل الألفاظ العربية عليها بوجه من وجوه الدلالات المعروفة عند الناس فجاء كتابه جامعاً للطرق الثلاثة: طريقة السلف، وطريقة المتكلمين، وطريقة المتصوفة؛ إلا أن طريقة السلف لم يتعرض فيها لبيان طرق نقلها وتمييز صحيحها من سقيمها، ولذلك كان ككتب الحديث التي لا يبين فيها سند الحديث وحال رجاله لا تقع الثقة به، سيما إذا تعارض مع غيره ولم يقع الترجيح بينهما بوجه من وجوه الترجيح.

وأما تفسير "الدر المنثور" للجلال السيوطي فقد زعم أنه اختصر به -على حسب عادته- تفسير ابن جرير، الذي جمع فيه صحاح الأحاديث المتعلقة بتفسير كتاب الله تعالى، وبيان أسباب النزول، وأضاف السيوطي في مختصره أحاديث واهية الإسناد في هذا الموضوع نفسه، ومزجها بتلك الأحاديث -أحاديث الأصل- فاختلطت بها حتى لا يمكن التمييز بينها، وقلّت الثقة في الجميع. وربما استبعد أحد أن يضع السيوطي في تفسيره "الدر المنثور" أحاديث واهية الإسناد، أو موضوعة مع ما له من المؤلفات في موضوعات الأحاديث -فنقول إن من علم طريقة السيوطي في التأليف لم يستنكر هذا الذي قلناه، وطريقته- رحمه الله على ما علمنا من استقراء كتبه- أنه كلما وقع إليه كتاب من الكتب في أي فن من الفنون واستحسنه اختصره ونسبه إلى نفسه بدون تمييز بين غث وسمين، ولا وقوف على حقائق العلوم، ولذلك تراه مضطراً في كتبه، لأنه لا يُحَكّم فِكْرَ نفسه، وإنما يُحكّم في كل كتاب فكر ملفه هو، فيضيفه إلى نفسه ببعض تصرف يحدثه في الكتاب. وإن كنت قد قرأت في كتابه الذي سماه (الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير) 1 وكتابه الذي سماه (اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) ورأيت في (الجامع الصغير) كثيراً من الأحاديث التي نصّ في كتابه اللآلىء على أنها موضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تصح عنه بطريق من الطرق، جزمت بصحة هذا الذي قلنا، وعلمت أنه لا يؤلف، وإنما يلخص كتب الناس وينسبها لنفسه. ثم أطال الكلام في السيوطي وابن كمال باشا، وأنهما على منهج واحد في انتحال الكتب بعد الاختصار إلى أن قال سلمه الله:

_ 1 وقد ميّز المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- صحيح أحاديثه من ضعيفها في كتابيه العظيمين المشهورين "صحيح الجامع الصغير" و"ضعيف الجامع الصغير".

وأما تفسير محيى الدين فهو مسخ للقرآن، ونقض للدين من أساسه، ويرى بعض الباحثين أنه ليس من مؤلفات محيي الدين، وإنما هو من مؤلفات القاشاني أحد الملاحدة الباطنية، نسبه لمحيي الدين ليروجه بين عوام المسلمين، ومن يستميتون إلى ما يقول محيي الدين مهما كان حاله، والظن بمحيي الدين أنه لا يضع مثل هذا الكتاب، ولا يذهب هذه المذاهب الفاسدة في تفسير كتاب الله تعالى. وسواء كان من مؤلفات محيي الدين أو غيره فإن انتشاره بين المسلمين بحت ضرر، سيما ولا موقف يوقف الناس على الصحيح والفاسد من هذه الكتب. وأما تفسير ابن عباس؛ فهو من مؤلفات مجد الدين الفيروز آبادي صاحب "القاموس"، جمع فيه رواية محمد بن السائب الكلبي عن ابن عباس. قال: وقد علمت مما ذكرناه في المقدمة حال ابن السائب الكلبي وضعفه، وقلة ثقة العلماء بمروياته. قال: هذه كتب التفسير التي نقرأها اليوم، وإن كان قد فاتنا ذكر شيء منها فإنه لا يخرج عن مضارعة واحد من هذه الكتب التي ذكرناها، فلم يبق بيدنا ما يصح الاعتماد عليه والثقة به غير تفسير ابن جرير، وهو الحسنة الوحيدة للمطابع الإسلامية بعد قرن وأكثر من ظهور المطابع في الممالك الإسلامية، ولولا أن بعض أمراء العرب- من سكان الجزيرة العربية- راسل بعض تجار الكتب بمصر في شأنه، وأعانه على ذلك بمساعدات جليلة، لم يظهر له ظل في عالم المطبوعات، اكتفاء منه (بالخازن والجمل) . وإن أردتَ معرفة تفاسير الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وعلماء القرن الثالث فارجع إلى ما كتبناه في المقدمة على هذا العلم، فقد بسطنا هناك مؤلفات القرون الثلاثة، والباحث عليها إن لم يجدها كلها وجد منها ما يكفي لحاجة الناس. ثم إنه اعتذر عما كتبه بأنه لم يرد انتقاص أحد بذلك، بل إن غرضه بيان أن

هذه التفاسير المتداولة قاطعة عن العلوم الإسلامية، وإن ضرورة المحافظة على الدين تقتضي باختيار الكتب النافعة. قال: فكل ما نذكره فإنما الغرض منه تمحيص الحقيقة والتماس الأنفع لنا في علوم ديننا، وهذا عذرنا في كل ما نسطره عن هذه المؤلفات التي ابتلينا بها اليوم وابتليت بنا إلخ". انتهى المقصود مما ذكره هذا الفاضل المنصف. وبه يعلم حال المتداول من التفاسير على الإجمال، فكيف يقال إن تفسير القرآن قد فرغ منه العلماء، مع أنهم هم الذين قالوا في شأن علم التفسير علم لا نضج ولا احترق، وقالوا: المراد بنضج العلم تقرير قواعده وتفريع فروعها وتوضيح مسائله، والمراد باحتراقه بلوغه النهاية في ذلك؟!. وقد ذكر الإمام السيوطي في (الإتقان) أن القرآن في اللوح المحفوظ كل حرف منه بمنزلة جبل قاف، وكل آية تحتها من التفاسير ما لا يعلمه إلا الله تعالى. انتهى. فمتى أعطاه العلماء حقه حتى يقال أنهم قد فرغوا منه؟ فهل هذا إلا قول من قد بلغ من الجهل بدينه إلى الغاية؟ وأي ذنب لمن طلب في هذا العصر، أو تمنى أن يفسر القرآن تفسيراً نافعاً للعامة والخاصة بعبارة سلسة، يفهمها كل أحد، كعبارات ببناء هذا العصر، وكتّابه النابغين فيه، لا كعبارات الكتاب الماضين من الأعاجم وغيرهم، فإنهم كانوا يتفاخرون بدقة العبارات وصعوبتها وعدم فهمها ويعيبون الواضح منها، مع أن البلغاء المتقدمين والكتبة السابقين على العكس من ذلك، فقد رأيت في بعض كتب أصول الحديث ما نصه: "ويكره كراهة تنزيه الخط الدقيق لفوات الانتفاع أو كماله به لمن ضعف نظره، وربما ضعف نظر كاتبه بعد ذلك فلا ينتفع به، كما قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل لابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل- ورآه يكتب خطاً دقيقاً-: فإنه يخونك أحوج ما تكون إليه" انتهى. فكتب عليه الوالد رحمه الله في هامش الكتاب: "انظر إذا كانت الدقة في الخط هكذا فكيف بها في عبارات العلوم الشرعية؟ وقد عدوا ذلك وجعلوه من

الفضائل العلية، وجعلوا فهمها من أقصى مراتب العلم، حتى أهلموا حفظ العلوم والمسائل، بل لا يعدون ذلك شيئاً، وليت شعري هل كان علم المتقدمين في الصدور أم في السطور؟ وكيف كان علماء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؟ قال: وقد رأيتُ بعض المؤلفين -وأنا أقابل معه تأليفه وقد دقق فيه- يتوقف في فهم بعض العبارات، ولا يهتدي لها إلا بتأمل طويل، فهل ينبغي لمسلم ذلك؟ وليت شعري إذا اشتغل المتعلم في فهم العبارة فمتى يشتغل بحفظ المعنى فأنصف. ثم قال: وما أحوجهم إلى ذلك إلا عبارات الأعاجم الركيكة القاصرة عن مقاصدهم، وكم رأينا ممن رسخ في فهم ذلك ولا يستطيع إعراب بيت من الشعر العربي، فهل يليق ذلك بالعلماء أمناء الدين"؟ انتهى. وشكوى الناس في كل عصر من الكتب المتداولة بين الأيدي قد عرفها كل أحد، فأي ذنب لمن تمنى أن يؤلف في هذا العصر- عصر ظهور كنوز العلم وانتشار الكتب العجيبة -تفسيراً يفصل فيه محاسن الشريعة الغراء، ويطبق فيه أحوال العصر، ويوافق فيه بين القواعد التي ثبتت بالبرهان وبين الآيات الكريمة، مما يستوجب ميل العامة لمطالعته ومراجعته، فإنه الكتاب الذي قال الله تعالى في شأنه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1 وقال عزَّ اسمه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 2 فهذه الآية شملت جميع ما خلق الله تعالى من العرش إلى الفرش، ولمن تكلم على هذه الآية له مجال واسع في البحث عن سائر الفنون، ولهذا كانت هذه السورة من أحب السورة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال سبحانه لما قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. وهنا ذكر المفسرون أن من

_ 1 سورة الأنعام: 38. 2 سورة الأعلى: 1- 3. 3 سورة البقرة:35.

جملة حِكَم خلق الإنسان وتخليفه في الأرض إبراز ما أودع الله في الأرض من خواص النبات والحيوان والمعدن على يدي هذا الخليفة، لما أودع فيه من الشهوات وحوائج المأكل والملبس وغير ذلك مما استنتجه بأفكاره ووصل إليه ببصيرته. فدخل في هذا الباب من العلوم ما لا يحيط به دوائر الأمكان، ولا يقوم به قلم ولا لسان. فالاشتغال بمثل هذا التفسير أليس أولى من صرف العمر بذكر القبور وأهلها وتشويق الجهلة وحثهم على عبادتها؟ والالتجاء إليها؟ مع أنهم لم يقصروا في ذلك وهي لديهم من أعظم الواجبات، بل ليس لهم سوى هذا الكمال من أمور الدنيا والآخرة، فتراهم مفلسين من كل فضيلة. ويقال للنبهاني الجاهل القبوري: هلاّ رأيتَ كتاب الفاضل الشيخ حسين الجسر الطرابلسي؟ وقد كتب ما نصه: "وقد خطر لي حيث وجدت مجالاً للكلام، وسميعاً للنداء، أن أحرر رسالة يستبان منها حقيقة الدين الإسلامي، وكيفية تحققه لمتبعيه على أسلوب جديد سهل الفهم، لا تمله الأنفس ولا تستوعره الأفكار، يروق العقول الحرة، ويعجب الأذهان المطلقة عن قيود التعصب إن شاء الله". انتهى المقصود من نقله. فيقال: إن الكتاب الذي ألفه فيه مغمز لثالب؟ كلا، بل هو كتاب من أجل الكتب المصنفة في هذا الفن -إن لم نقل أحسنها- فأي فائدة في الكلام مع الفلاسفة الأولين؟ وأي نفع يترتب على الكلام في عقائد المعتزلة وإبطال دلائلهم، مع تقلص ظل وجودهم من هذا العالم. وفلاسفة العصر لهم فنون أخرى غير فنون أسلافهم، وسلاحهم الذي يحملونه على أهل الدين غير سلاح أوائلهم، فينبغي للحازم أن يعد لهم ما ينخذلون له وينقادون إليه، فأي ذنب لمن تمنى تفسيراً على هذا المنهج والمسلك الذي سلكه الفاضل الطرابلسي؟! وهلا شد النبهاني رواحله إلى هذا الفاضل وتعرف منه دينه، وداوى أدواء جهله بعقاقير معارفه؟ أو سافر إلى الفاضل السيد

بدر الدين الحلبي؟ فتعلم منه ما يخرجه من ظلمات جهالته، وينور قلبه بأنوار علومه، فإن الرجل ممن ابتلي بداء (النوك) والجهل، فلا بد له من طبيب حاذق وإن قيل إن داء النوك ليس له دواء1. نرى كثيراً من المفسرين يؤول آيات الله تعالى المحكمة ليوافقها مع قواعد هيئة اليونان، ويطبقها على أصول الحكمة الإلهية، أو الطبيعية اليونانية، مع مكابدة المشاق وتحمل الصعوبات، مع أن ما ظهر من الفنون الجديدة التي قام على صحتها البرهان يمكن تطبيقها وتوفيقها مع النصوص من غير كلفة لموافقة صحيح المعقول لصريح المنقول. فلم لم يعترض النبهاني على مثل تفسير الإمام فخر الدين الرازي؟ وقد شحنه من كلام المتكلمين وفلاسفة اليونانيين، ومتى كانت هذه المباحث لدى المسلمين قبل أن تترجم كتب الفلاسفة، فإذا لم يعترض على مثل ذلك فلم يعترض على من يسلك ذلك المسلك في الفلسفة الجديدة التي هي أصح وأولى بالاعتبار من هذيان اليونانيين؟ فهل هذا الكلام منه إلا تحكم وترجيح بلا مرجح؟! ثم إن هذا القبوري لم يعترض على تفاسير القوم التي فسروا بها كلام الله تعالى ولم يقصدها -من كلامه- رب العالمين، بل عد مثل هذه التفاسير من أجلّ المآثر، وأعظم التحف والمفاخر، ولم يتكلم بها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا غيرهم، فلم يعترض على من تمنى أن يصنف تفسير يدلى عليه كلام الله دلالة صريحة ويصدقه العيان ويؤيده البرهان؟! فأي ذنب لمن يطلب تصنيف مثل هذا التفسير؟! (نعم) المذنب هو الذي يطلب تصنيف ذلك من هذا الجاهل القبوري الغبي أحد الغلاة، ويتكلم معه مثل هذا الكلام، وهو- على ما سمعنا به ممن رآه- من قراء المولد، والتهاليل للأموات، فأين هو من مثل هذه المطالب العالية؟ فلا شك أن الذي تكلم معه بذلك الكلام، وطلب منه أن يفسر

_ 1 النوك: الحمق.

القرآن، ومدح كتبه هو من العوام ومن أجهل الناس، فأي كتاب من كتبه يمدح مع كونها مشحونة بالأكاذيب والمغالاة في الدين، ويأسف الناظر إن نظر فيها لحظة على فوات جزء من حياته في العبث، بل ربما بخس تصوره وذهنه بما عقل منها.

الكلام على قول النبهاني: إن الذي يتصدى لطلب تفسير مشتمل على العلوم العصرية ملحد

[الكلام على قول النبهاني: إن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على العلوم العصرية ملحد] قد سبق منا بيان مقصد هذا المتصدي، وذكرنا أنه ليس من المذنبين بهذا الأمل والمقصد، ولم يكن مقصده إلا توفير سواد المسلمين، وحسن دعوة أعداء الدين، وتفهيم العوام أجل مقاصد الإسلام، فكيف يكون مثل هذا هو من الملحدين، والسالكين غير سبيل المؤمنين، والنبهاني لا يحكم بالابتداع والإلحاد على من يفسر التراث برأيه، ويقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وذكاء النفس، ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات (وأنتم تتلون) كتاب فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد (أفلا تعقلون) فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية (بالصبر) على ما يفعل بكم لكي تصلوا إلى مقام الرضا (والصلاة) التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقّي تَجَلِّيَاتِ الرَّبّ، وإن المراقبة لشاقة إلا على المنكسرة قلوبهم اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة، واستيلاء سطواتها القهرية، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم وأنهم إليه راجعون بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته، فلا يجذون في الدار إلا شؤون الملك اللطيف القهار" انتهى. وهذا تفسير قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 1. فانظر أيها المنصف العارف باللغة ومدلولاتها،

_ 1 سورة البقرة: 44- 46.

فمتى دلت ألفاظ هذه الآيات على ما ذكروه من المعاني، وهل هو إلا تفسير بما تهوى الأنفس؟! وحيث انجر الكلام بنا إلى هذا المقام وجب أن نذكر هنا بعض القواعد الأصولية المتعلقة بفن التفسير، ليتميز به الحق من الباطل، ويعرف الخطأ من الصواب، ومن الله نستمد الإعانة والتوفيق. قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني- قدس الله روحه- في كتابه الذي صنفه في أصول التفسير- وهو كتاب مفصل حافل لم يؤلف مثله في هذا الفن- ما نصه: "يجب أن يُعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ لأصحابه معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1 يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤون القرآن؛ كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها [من العلم] 2 والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً3. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وال عمران جل في أعيننا، رواه أحمد في مسنده4. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين، أخرجه في الموطأ5. وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} 6.

_ 1 سورة النحل: 44. 2 سقطت من الأصل. 3 أخرجه: الطبري في "تفسيره" (1/60) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/117/ 29929) وابن سعد في "الطبقات" (6/172) بإسناد حسن. 4 هو في "المسند" (3 /120- 121، 222، 245) أو رقم (12235، 13348، 13599) ، وأخرجه البخاري (3617) ومسلم (2781) وغيرهم. (1/205/11) بلاغاً. 6 سورة ص:29.

وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 1. وتدبّر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟ ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو إن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال. والخلاف بين السلف في التفسير قليل، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمّى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، كتفسيرهم (الصراط المستقيم) بعضٌ بالقرآن؛ أي: اتباعه، وبعض بالإسلام، فالقولان متفقان، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ (صراط) يشعر بوصف ثالث. وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله، وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها. الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثاله: ما نقل في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} 2 الآية. فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات،

_ 1 سورة النساء: 82. 2 سورة فاطر: 32.

والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات، والمقتصدون أصحاب اليمين {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 1 ثم إن كلاً منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. أو يقول: السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط، والظالم مانع الزكاة. قال: وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى، وهو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف. ومن التنازع -الموجود منهم- ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين، إما لكونه مشتركاً في اللغة، كلفظ (القسورة) الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد. ولفظ (عسعس) الذي يراد به إقبال الليل وإدباره. وإما لكونه متواطئاً في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 2. وكلفظ: الفجر والشفع، والوتر، وليال عشر، وأشباه ذلك، فمثل ذلك قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك. فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه، وإما لكون اللفظ متواطئاً فيكون عاماً إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني. ومن الأقوال الموجودة عنهم -ويجعلها بعض الناس اختلافاً- أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة، كما إذا فسر بعضهم (تُبْسَل) بتحبس، وبعضهم بترتهن، لأن كلاًّ منهما قريب من الآخر.

_ 1 سورة الواقعة: 10- 11. 2 سورة النجم: 8- 9.

ثم قال: (فصل) والاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره، ومنه ما لا يمكن ذلك، وهذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه، ولا حاجة بنا إلى معرفته، وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف واسمه، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وفي قدر سفينة نوح وخشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك، فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان منه منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قُبِلَ، ومالا- بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب- وقف عن تصديقه وتكذيبه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"1. وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلاً صحيحاً فالنفس إليه أسكن مما يُنقَل عن التابعين، لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف

_ 1 أخرجه أحمد (4/136) أو (رقم: 17274، 17275- قرطبة) وأبو داود (3644) والبغوي في "شرح السنة" (1/ 217 218/ 124) وابن حبان في "صحيحه" (14/ 151/ 6257) والبيهقي (2/10) والطبراني في "الكبير" (22/ رقم: 874- 879) والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/380) وعبد الرزاق في "مصنفه" (رقم: 20059) والمزي في"تهذيب الكمال" (34/ 354) . من طريق: ابن شهاب الزهري، عن نملة بن أبي نملة الأنصاري، عن أبيه به مرفوعاً. نملة بن أبي نملة الأنصاري؛ قال عنه الحافظ في"التقريب": "مقبول". قلت: وقد روى عن خمسة من الرواة كما في ترجمته من "تهذيب الكمال". والحديث ضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (5052) و"ضعيف سنن أبي داود" (786) وعزاه للضعيفة رقم (1991) فلم أجده فيه. تنبيه: عزا مخرّجا "مجموعة الفتاوى" ط. الوفاء والعبيكان- هذا الحديث للبخاري (4485) ؛ فأبعدا النجعة! وإنما هو فيه من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم".

يقال: إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم؟! وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد، وإن قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل؛ التفسير والملاحم والمغازي1. وذلك لأن الغالب عليها المراسيل، وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين- حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم يإحسان، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفاً لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين، مثل تفسير عبد الرزاق، والفريابي، ووكيع، وعبد، وإسحاق، وأمثالهم- إحداهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها. والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به، فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان. والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم ولسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيراً ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما

_ (1) أخرجه الخطيب البغدادي في"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/231/1536) . ثم قال الخطيب: "وهذا الكلام محمول على وجه؛ وهو أن المراد به كتب مخصوصة في المعاني الثلاثة، غير معتمد عليها ولا موثوق بصحتها لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصاص فيها. فأما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة، وليس يصحّ في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضية، وطرق واضحة جلية. وأما الكتب المصنفة في تفسير القرآن؛ فمن أشهرها كتابا الكلبي ومقاتل بن سليمان.. وأما المغازي؛ فمن المشتهرين بتصنيفها وصرف العناية إليها؛ محمد بن إسحاق المطلبي، ومحمد بن عمر الواقدي. فأما ابن إسحاق؛ فقد تقدّمت مِنّا الحكاية عنه أنه كان يأخذ عن أهل الكتاب أخباره ... وأما الواقدي؛ فسوء ثناء المحدّثين عليه مستفيض ... "اهـ. وانظر الكلام عن قول الإمام أحمد والمقصود منه في مقدمة العلامة أبي إسحاق الحويني الأثري- وفّقه الله ومتع المسلمين بحياته وعلومه- في تحقيقه لتفسير ابن كثير (1/ 12- وما بعدها) .

يغلط في ذلك الذين قبلهم. كما أن الأولين كثيراً ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون. وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الاخرين إلى اللفظ أسبق. والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلاً، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقاً فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول، فالذين أخطؤوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لا في رأيهم ولا تفسيرهم، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم، والجُبّائي، وعبد الجبار، والرماني، والزمخشري، وأمثالهم. ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة، يدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب "الكشاف"ونحوه، حتى أنه يَرُوج على خلق كثير من أهل السنة كثيراً من تفاسيرهم الباطلة، وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة، وأسلم من البدعة، ولو ذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجهه لكان أحسن، فإنه كثيراً ما ينقل من تفسير ابن جرير الطبري- وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدراً- ثم إنه يدع ما ينقله ابن جرير عن السلف ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام، الذين قرّروا أصولهم بطرق من جنس ما قرّرت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة، لكن ينبغي أن يُعطى كل ذي حق حقه، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين؛ صار مشاركاً للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا. وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك بل مبتدعاً؛ لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله.

وأما الذين أخطؤوا في الدليل لا في المدلول- كمثل كثير من الصوفية، والوعاظ، والفقهاء، يفسّرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها، لكن القرآن لا يدل عليها، مثل كثير مما ذكره السّلمي في الحقائق- فإن كان فيما ذكروه معانٍ باطلة دخل في القسم الأول". انتهى كلام شيخ الإسلام ملخصاً1. فقد عُلِمَ من كلامه- رحمه الله تعالى- أن من فسَّر القرآن تفسيراً لا يخرج به عن السنة، ولا يذكر فيه شيئاً يناقض المنصوص، ويذكر ما دل عليه لفظ القرآن بأوجز عبارة، وألطفها وأوضحها، ويُبيّن محاسن ما اشتمل عليه الكتاب الكريم من الأحكام، وأما أخبر به من أمور الدنيا والآخرة، وبيان الحكم المشتمل عليها مما ينطبق على الفنون الصحيحة على ممر الأعصر والأيام- فكيف يكون المتصدي لمثل هذا التفسير والطالب له ملحداً أو مبتدعاً، ويكون النبهاني الذي يحكم بغير ما أنزل الله من قوانين محاكم العدلية مسلماً على المنهج المستقيم؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! قال الله عز ذكره: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2 ومحبة الرسول باتباعه لا بالعمل على خلاف شريعته، ولا بالغلوّ فيه كما غلا النبهاني، حيث اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان، يريد بذلك أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود، وما من مكان إلا وهو فيه موجود، وهذه مقالة شنيعة في الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وإنزال له فوق منزلته التي أنزله الله فيها، فإن هذا إشراك للنبي صلى الله عليه وسلم في أخص أوصاف الباري جل شأنه، فكيف يدّعي محبته من يقول بهذه المقالة، ثم يصرف عمره في الحكم بغير ما أنزل الله، ويذب عن البدع ويحث عليها، ويشتم المحامين عن السنة النبوية، والمحافظين على التوحيد، وسائر ما وردت به الشريعة الغراء، كشيخ الإسلام ابن تيمية وأضرابه؟! فهل يتردد المنصف في أن مثل النبهاني أعدى الأعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 انظر: "مقدمة في أصول التفسير" ط. دار ابن حزم ببيروت. وهي برمتها في "مجموع الفتاوى" (13/329- 375- القديمة) أو (13/176- 229- الجديد ة) . 2 سورة آل عمران: 31.

الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم

[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم] وأخذ يشم المسلمين بكل ما هو أهل له، ولا بد من الكلام على حقيقة ما عليه أهل نجد، وبيان حال خصومهم وعقائدهم، ليتبين الناظر المنصف من المبتدع ومن الزائغ عن المحجة البيضاء. قال العلامة الشيخ عبد اللطيف النجدي1- من أحفاد الإمام الشيخ محمد عليهما الرحمة- في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) : "ونقصّ عليك شيئاً عن سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفاً من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان، وأغراه، وبالغ في كفره واستهواه، فنقول: قد عُرِفَ واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته، ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته؛ أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله تعالى، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحّت بها الأخبار النبوية، وتلقّاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها ويُمِرُّونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان، وسلف الأمة وأئمتها؛ كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وسليمان بن يسار وأمثالهم، ومن الطبقة الثانية؛ كمجاهد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وابن سيرين، وعامر الشعبي، وجنادة بن أبي أمية،

_ 1 هو الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي. ولد سنة (1225 هـ) ببلدة الدرعية، وارتحل إلى مصر، وتوفي بالرياض سنة (1292هـ) . ترجمته في: "معجم المؤلفين" لكحالة (2/215- ط. الرسالة) و"هدية العارفين" (1/619) . والكتاب المذكور طبع في دار العاصمة بتحقيق الشيخ عبد السلام البرجس.

وحسان بن عطية، وأمثالهم، ومن الطبقة الثالثة؛ علي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون، وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس، وإسحق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وإخوانهم وأمثالهم ونظرائهم من أهل الفقه والأثر في كل مصر وعصر. وأما توحيد العبادة والإلهية؛ فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه، يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان. وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين، ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه كائناً من كان. وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن، وأرسل لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وهو يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 3 وقال تعالى عنه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 4

_ 1 سورة النحل: 36. 2 سورة الأنبياء: 25. 3 سورة الزخرف: 26- 28. 4 سورة الشعراء: 75- 77.

وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 2 وذكر عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3. وقال عن أهل الكهف: {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 4 وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 5 في موضعين من كتابه، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 6. قال رحمه الله: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عباد القبور، وعباد الأنبياء، والملائكة، والصالحين، فإن هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يدعونها، ويلتجئون إليها، ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله، كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 7 وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 8. وقال

_ 1 سورة الممتحنة: 4. 2 سورة الزخرف: 45. 3 سورة هود: 50، 61، 84. 4 سورة الكهف: 13- 15. 5 سورة النساء: 48، 116. 6 سورة المائدة: 72. 7 سورة يونس: 18. 8 سورة الزمر: 3.

تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1. قال رحمه الله: ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السموات والأرض، واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 2. فهم معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة، ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لا قل شيء وأدناه من ضر أو رحمة، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3. وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4. ذكر فيه السلف- كابن عباس وغيره- إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه، وفسر شركهم بعبادة غيره. قال رحمه الله: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب، ومنهم من أشرك بالأصنام، وقد رد عليهم جميعهم وكفّر كل أصنافهم، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5 وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ

_ 1 سورة الأحقاف: 28. 2 سورة الزمر: 38. 3 سورة المؤمنون: 84- 89. 4 سورة يوسف: 106. 5 سورة آل عمران: 80.

مَرْيَمَ} 1 الآية. وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 2. ونحو ذلك في القرآن كثير، وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة الكواكب والأصنام من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله. قال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم هي أفعال العبد الصادرة منه؛ كالحب، والخضوع، والإنابة، والتوكل، والدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، والخوف، والرجاء، والنسك، والتقوى، والطواف ببيته رغبة ورجاء، وتعلّق القلوب والآمال بفيضه ومده وإحسانه وكرمه، فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلّها، بل هي لبّ سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها، وكل عمل يخلو منها فهو خِدَاج مردود على صاحبه، وإنما أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأهيله لذلك، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3 وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} 4 وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ} 5 الآية. وحكى عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 6. ومعلوم أنهم ما سوّوهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع، والتعظيم والدعاء، ونحو ذلك من العبادات. قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية،

_ 1 سورة التوبة: 31. 2 سورة النساء: 172. 3 سورة النحل: 17. 4 سورة الأنبياء: 43. 5 سورة الفرقان: 3. 6 سورة الشعراء: 97- 98.

وما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة لا نكفر بها، ولا نحكم على أحد من أهل القبلة -الذين باينوا عباد الأوثان والأصنام والقبور- بكفر بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه، وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج وقالته في أهل الذنوب من المسلمين. قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلماً، بل هو حجة على ابن آدم، خلافاً لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار كالكرّامية1، ومجرد التصديق كالجهمية2، وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وسجل على كذبهم مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 3. فأكدوا بلفظ الشهادة وأن المؤكدة واللام والجملة الاسمية، فأكذبهم وأكد تكذيبهم بمثل ما

_ 1 الكرّامية: نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرّام بن عراق السجستاني (225هـ) وهم مشبهة في الصفات، ومن معتقداتهم أيضاً القول بالتحسين والقبح العقليين ووجوب معرفة الله بالعقل موافقة للمعتزلة، والقول بأن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط. انظر عنهم: "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم (5/73-75) و"الملل والنحل" للشهرستاني (1/ 124- 130- ط. المعرفة) "والفرق بين الفرق" (ص 161- 170-ط. العلمية) و"خطط مصر" للمقريزي (2/349، 375) . 2 الجهمية: هم المنتسبون إلى الجهم بن صفوان أبي محرز مولى بني راسب الخراساني تلميذ الجعد بن الدرهم. والجهمية تطلق ويراد بها المعنى العام؛ أي: نفاة الصفات عن الله تعالى. أو المعنى الخاص؛ أي: أتباع الجهم بن صفوان. ومن آرائهم: نفي الصفات عن الله وتعطيلها، والقول بالجبر، والقول بفناء الجنة والنار، وإنكار الرؤية والكلام، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك من معتقداتهم الباطلة. انظر عنهم: "الفصل" (5/73) و "الملل والنحل" (1/97-99) و "الفَرق بين الفِرق" (ص158-159) و"مقالات الإسلاميين" (1/338) و"فرق معاصرة تنتسب للإسلام" (2/ 983- وما بعدها) . 3 سورة المنافقون: 1.

أكدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم البشيع الفظيع، وبهذا تعلم أن مُسمّى الإيمان لا بد فيه من الصدق والعمل، ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره فلا شهادة له وإن صلّى وزكّى وصام وأتى بشيء من أعمال الإسلام، قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضاً: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 1 الآية، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} 2 الآية، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} 3 الآية. والكفر نوعان؛ مطلق ومقيد، فالمطلق: أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول، والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول. حتى أن بعض العلماء كفّر من أنكر فرعاً مجمعاً عليه- كتوريث الجد والأخت- وإن صلى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين، ويصرف لهم خالص العبادة ولبّها، وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة، بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلّى وصام من جرت على لسانه. قال رحمه الله: والصحابة كفّروا من منع الزكاة وقاتلوهم مع إقرارهم بالشهادتين، والإتيان بالصلاة والصوم والحج. قال رحمه الله: واجتمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح مع أنهم يتكلمون بالشهادتين ويصلّون ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها. وذكر ابن الجوزي أنه صنف كتاباً في وجوب غزوهم وقتالهم، سماه (النصر على مصر) قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتشبيه عباد القبور بأنهم يُصَلّون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام

_ 1 سورة البقرة: 85. 2 سورة النساء: 150. 3 سورة المؤمنون: 117.

وتلبيس ليتفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون. وأما مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل فهو أيضاً فيها على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين يبرأ مما قالته القدرية النفاة والقدرية المجبرة، وما قالته المرجئة والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة والناصبة، يوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه، لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم، وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع والعمل الصالح، وفتح البلاد، ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان والنيران، والأصنام والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام. ويرى البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء لئام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها؛ أبو بكر، فعمر، فعثمان، فعلي، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ويعتقد أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين، كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان. ويبرأ من رأي الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد ابن كلاب، القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما نزل به جبريل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي، ويقول هذا من قول الجهمية، وأول من قسَّم هذا التقسيم هو ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعري وغيره كالقلانسي، ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في دين الله، ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في العبادات والخلوات والأذكار المخالفة للمشروع، ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه، ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده، بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده من أن تترك لقول أحد كائناً من كان. قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". نعم عند الضرورة وعدم الأهلية

والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار يصار إلى التقليد -لا مطلقاً- بل فيما يتعسّر ويخفى. ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة، خلافاً لغلاة المقلدين. ويوالي الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول. ويوالي كافة أهل الإسلام وعلماءهم، من أهل الحديث والفقه والتفسير وأهل الزهد والعبادة. ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر. ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحّت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع وأهدره الرسول. ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين. وأبدى رحمه الله تعالى من التقارير المفيدة، والأبحاث الفريدة على كلمة الإخلاص والتوحيد -شهادة أن لا إله إلا الله- ما دل عليه الكتاب المصدق، والإجماع المستبين المحقق، من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هذا هو معناها وضعا ًومطابقة، خلافاً لمن زعم غير ذلك من المتكلمين؛ كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع، أو بأنه تعالى غني عما سواه، مفتقر إليه ما عداه، فإن هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق لا يكون إلا قادراً غنياً عما سواه، وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع فليس كذلك والمتكلمون خفي عليهم هذا وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد، وليس الأمر كذلك، بل هذا لا يكفي في الإيمان وأصل الإسلام إلا إذا أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة، والحب،

والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، وطاعة الله وطاعة رسوله. هذا اصل الإسلام وقاعدته، والتوحيد الأول توحيد الربوبية والقدرة والخلق والإيجاد هو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة، وهو دليله الأكبر، وأصله الأعظم، كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ} 1 إلى آخر الآيات. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن كان ربك واحداً سبحانه ... فاخصصه بالتوحيد مع إحسان أو كان ربك واحداً أنشاك لم ... يشركه إذ أنشاك ربٌّ ثان فكذاك أيضاً وحده فاعبده لا ... تعبد سواه يا أخا العِرْفان وهذه الجمل منقولة عن السلف والأئمة من المفسرين وغيرهم من أهل اللغة إجمالاً وتفصيلاً. وقد قرر رحمه الله على شهادة أن محمداً رسول الله- من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصرة والمتابعة والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين وفروعه، باطنه وظاهره، خفيه وجليه، كليه وجزئيه -ما ظهر به فضله، وتأكد علمه ونبله، وأنه سباق غايات، وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه ومنازعيه، وخصومه في الفضل وشانيه، يصدق عليهم المثل السائر بين أهل المحابر والدفاتر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً، إنه لذميم

_ 1 سورة البقرة: 163.

وله رحمه الله من المناقب والمآثر ما لا يخفى على أهل الفضائل والبصائر، ومما اختصه الله به من الكرامة تسلط أعداء الدين وخصوم عباد الله المؤمنين على مسبّته، والتعرض لبهته وغيبته. قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أرى الناس ابتلو بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله بذلك ثواباً عند انقطاع أعمالهم". وأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر؛ وقد ابتليا من طعن أهل الجهالة والسفاهة بما لا يخفى. وما حكيناه عن الشيخ حكاه أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة مجملاً ومفصلاً، قال: وهذه عبارة أبي الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين) قال أبو الحسن الأشعري: "جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردُّون من ذلك شيئاً. والله تعالى إله واحد فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله تعالى على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2 وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 وأن له عينين بلا كيف [كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 4] ، وأن له وجهاً جلَّ ذكره، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 5 وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علماً، كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 6. وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ

_ 1 سورة طه: 5. 2 سورة ص: 75. 3 سورة المائدة: 64. 4 سورة القمر: 14. وما بين المعقوفتين زيادة من"مقالات الإسلاميين". 5 سورة الرحمن: 27. 6 سورة النساء: 166.

إِلَّا بِعِلْمِهِ} 1. وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك كما نفته المعتزلة. وأثبتوا لله القوة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 2. وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3 وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، أو أن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله. وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال4 العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً. وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف للمؤمنين، ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف للكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين. وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف لهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم. وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره. ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره. ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله كما قال. ويُلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال. ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ، من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق. ويقولون: إن الله تعالى يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر،

_ 1 سورة فاطر: 11. 2 سورة فصلت: 15. 3 سورة التكوير: 29. 4 في "المقالات": "وأن سيّئات العباد".

ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1. وأن موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلّى للجبل فجعله دكاً، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة. ولم يُكفّروا أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر. والإيمان عندهم هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو أن يشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث. والإسلام عندهم غير الإيمان. ويقرُّون بأن الله مقلب القلوب، ويقرُّون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوضَ حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق. ويقرُّون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق. ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله تعالى ينزلهم حيث شاء، ويقولون أمرهم إلى الله؛ إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوماً من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينكرون الجدل والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما

_ 1 سورة المطففين: 15.

يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من أمر دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقولون كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة. ويقولون إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض بالشر وإن كان مريداً له. ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم. ويقدمون أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علياً رضي الله تعالى عنهم، ويقرّون أنهم الخلفاء الراشدون المهديّون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ويصدّقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1. ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2 ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. ويقرّون أن الله تعالى يجيء يوم القيمة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 3. وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 4. ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر. ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر. ويثبتون فرض الجهاد للمشركين

_ 1 حديث النزول رواه جمع كبير من الصحابة، وهو في "الموطأ" (1/178) - كتاب القرآن- باب ما جاء في الدعاء. والبخاري (1145، 6321) ومسلم (768) وغيرهم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2 سورة النساء: 59. 3 سورة الفجر: 22. 4 سورة ق: 16.

منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال. وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وأن لا يُخْرَج عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة. ويصدّقون بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله. ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج والرؤيا في المنام. وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم. ويصدّقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وأن السحر كائن موجود في الدنيا. ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم. ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله. وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالاً كانت أو حراماً. وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ القرآن1. وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد. وأن الله عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى. ويرون الصبر على حكم الله تعالى، والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والمعصية2 والفخر والكبر والإزراء على الناس والعجب.

_ 1 هذا محل نزاع بين أهل العلم قديماً وحديثاً، وأكثر العلماء على جوازه، والأدلّة تؤيد ذلك. وانظر لتفصيل المسألة: "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (701- 702- ط. دار ابن كثير) و"أصول السرخسي" (2/67) و "الأحكام" للآمدي (3/153) و"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام (12/165) و"نهاية الوصول في دراية الأصول" لصفي الدين الأرموي الهندي (6/ 2339- 2356) و"التحصيل من المحصول" (2/24- 26) و "المحصول" (3/347-352) و"نفائس الأصول في شرح المحصول" للقرافي (6/2604- 2611) و"نهاية السول" للإسنوي (1/ 603- 606) و"التمهيد" للكلوذاني (2/369- 645- ط. الباز) أر (2/809-814- ط. الفضيلة) أو (ص 629- 633- ط. ابن كثير) وغيرها من كتب الأصول. 2 في "المقالات": "والعصبية"وهو الأقرب للصواب.

ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن الخلق، وبذل المعروف، وكفّ الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشرب. فهذه جملة ما يأمرون به، ويعتقدونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل" انتهى1. هذا ما يعتقده أهل نجد ومن يوافقهم، فكيف يقال: إنهم مبتدعون؟ ولكن الأمر كما قيل: ومن يك ذا فم مُر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا وهذا النبهاني الجاهل من أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ولذلك يرميهم بكل منكر، وإذا ذكر إخوانه المبتدعة ذكرهم بكل تعظيم. ثم إن الشيخ عبد اللطيف لما ذكر في منهاجه معتقد جده وأتباعه ذكر طرفاً من حال هذا المبتدع وإخوانه، وعقد فصلاً لذلك، فقال: "ونذكر لك طرفاً من معتقد عباد القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، إن كان الواقف ممن اختصه الله تعالى بالفضل والمن، ولئلاّ يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعاً وتوسلاً واستظهاراً، مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق: من ذلك محبتهم مع الله محبة تأله وخضوع ورجاء، ودعاؤهم مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلا فاطر الأرض والسموات، والعكوف حول أجداثهم، وتقبيل أعتابهم، والتمسح بآثارهم؛ طلباً للغوث، واستجابة الدعوات، وإظهار الفاقة، وإبداء الفقر والضراعة، واستنزال الغيوث والأمطار، وطلب السلامة من شدائد البر والبحار، وسؤالهم تزويجهم الأرامل والأيامى، واللطف بالضعفاء واليتامى، والاعتماد عليهم في المطالب

_ 1 "مقالات الإسلاميين" (1/345- 350) .

العالية، وتأهيلهم لمغفرة الذنوب والنجاة من الهاوية، وإعطاء تلك المراتب السامية، وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم، وفسدت به فطرهم، وعز عنه امتناعهم، لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين من قصد الله تعالى، والإنابة إليه، بل ليس لذلك عندهم إلا الولي الفلاني، ومشهد الشيخ فلان، حتى جعلوا الذهاب إلى المشاهد عوضاً عن الخروج للاستسقاء، والإنابة إلى الله في كشف الشدائد والبلوى، كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم. قال: وقد حدث الشيخ مصطفى البولاقي أن بعض رؤساء الجامع الأزهر عاده لما اشتكى عينيه وقال له: هلاّ ذهبت إلى مولد الشيخ أحمد البدوي؟ فقد حُكي أن إنساناً شكا إليه ذهاب بصره، فسمع قائلاً يقول من الضريح أعطوه عين كذا وكذا!. فانظر إلى ما خطر ببال هذا المتكلم من تعظيم هذا الميت، وتأهيله لتلك المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله القاهر الغالب، وقصد الوساطة هنا على ما فيها ما أظنها تخطر بباله أصلاً، فهل سمعت عن جاهلية العرب مثل هذه الغرائب، التي ينتهي عندها العجب؟ والكلام مع زكي القلب يقظ الذهن قوي الهمة العارف بالحقائق، ومن لا ترضى نفسه بحضيض التقليد في أصول الديانات والتوحيد، وأما ميت القلب، بليد الذهن، وضيع النفس، جامد القريحة، ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد والتعلق على ما يُحكى عن فلان وفلان في معتقد أهل المقابر والتنديد؛ فذاك فاسد الفطرة معتل المزاج، وخطابه محض عناء ولجاج. قال: ومما بلغنا عن بعض علماء زبيد أن رجلين قصدا الطائف فقال أحدهما لصاحبه- والمسؤول ممن يترشح للعلم-: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فأجابه بأن معرفتهم لابن عباس كافية لأنه يعرف الله! فأي ملة- صان الله ملة الإسلام- لا تمانع هذه الكفريات ولا تدافعها؟ وذكر الزبيدي أيضاً أن رجلاً كان بمكة عند بعض المشاهد قال لمن عنده:

أريد الذهاب إلى الطواف، فقال بعض غلاتهم: مقامك ههنا أكرم!. ومن وقف على كتاب مناقب الأربعة المعبودين بمصر -وهم البدوي والرفاعي والدسوقي ورابعهم فيما أظن أبو العلاء- فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم. وبلغنا عن بعض الثقات أن جماعة من المدعين للعلم بزبيد كانوا يقرؤون صحيح البخاري فإذا فرغوا منه -إما أحياناً أو مطلقاً- ذهبوا إلى قبر الجبيرتي أو غيره، فوقفوا عاكفين -ما شاء الله- وعليهم السكينة والوقار، وضرب من الخضوع لنازل الحفرة، قال من نقله: فالله أعلم أهو شيء وجدوه في صحيح البخاري أو غيره أو ما هو؟ قال: ورأيت في حاشية الشيخ إبراهيم البيجوري على السنوسية نقلاً عن الدردير- فيما أظن- عن الشعراني أن الله وكل بقبر كل ولي ملكاً يقضي حاجة من سأل ذلك الولي! فقف هنا وانظر ما آل إليه شركهم وإفكهم، فأين هذا من قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1. وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 2 وقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 3 وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 4. وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 5 الآية. وأي حجة في هذا الذي قال الشعراني لو كانوا يعلمون؟ ولكن القوم أصابهم داء الأمم قبلهم، فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين. ومن هذا الجنس ما ذكره الشعراني في ترجمة الملقب شمس الدين الحنفي،

_ 1 سورة البقرة: 186. 2 سورة الأعراف: 55. 3 سورة الشرح: 7- 8. 4 سورة النمل: 62. 5 سورة غافر: 60.

أنه قال في مرض موته: "من كانت له حاجة فليأت قبري ويطلب أن أقضيها له، فإنما بيني وبينه ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل"! انتهى. وقد اجتمع جماعة من الموحّدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر وبقربه رجل يدّعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت فسأله بمجمع من الحاضرين، فقال له: كم يتصرف في الكون؟ قال: يا سيدي سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان، وفلان وعد أربعة من المعبودين بمصر. فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بعثتُ لهذا الرجل وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام، أو كلاماً نحو هذا. وباب تصرّف المشائخ والأولياء قد اتسع حتى سلكه جمهور من يدّعي الإسلام من أهل البسيطة، وخرقه قد هلك في بحاره أكثر من سكن الغبراء وأظلته المحيطة، حتى نسي القصد الأول من التشفع والوساطة، فلا يعرج عليه عندهم إلا من نسي عهود الحمى، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في" منهاجه"1 عن غلاة الرافضة في عليّ، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير على ما أنكروه من الإلهية. ومن ذلك -وهو من عجيب أمرهم- ما ذكره حسين بن محمد النعمي اليمني في بعض رسائله: أن امرأة كفّ بصرها؛ فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى ولم يبق إلا حسبك!! انتهى. وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج، فذهبوا إلى الضريح المنسوب2 إلى الحسين رضي الله

_ 1 أي "منهاج السنة النبوية" وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله. 2 قوله: "المنسوب"؛ ذلك لأن القبر الذي في مصر لم يصح أن الحسين عليه السلام دفن فيه، لا هو ولا رأسه الشريفة، وللإمام الطبري كلام في هذا الأمر في "تاريخه"، كذا تكلم على هذا الأمر الخطيب البغدادي وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، والله أعلم.

عنه بالقاهرة، فاستقبلوا القبر وأحرموا، ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر، حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه. وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن أن مثل هذا وقع عندهم. وقد حدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن السيد أحمد البدوي، قال فقلت له: هذا لا يكون إلا لله أو كلاماً نحو هذا. فقال: حبي في سيدي أحمد البدوي اقتضى هذا. وحُكي أن رجلاً سأل الآخر: كيف رأيت الجمع عند زيارة الشيخ الفلاني؟ فقال: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرفات، إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الثلاثة أيام. فقال السائل: قد تحملها الشيخ! قال بعض الأفاضل: وباب تحمل الشيخ مصراعاه ما بين بصرى وعدن قد اتسع خرقه، وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد، انتهى. وقد اشتهر ما يقع من السجود على أعتاب المشهد وقصد التبرك مع ما فيه لا يمنع حقيقة العبادة الصورية. ومن المعروف عنهم شراء الولدان من الولي بشيء معين، يبقى رسماً جارياً يؤدّى كل عام، وإن كانت امرأة فمهرها أو نصف مهرها، لأنها مشتراة منه، ولا يمانع هذا إلا مكابر، لأنه استفاض واشتهر فلا ينكره إلا مكابر في الحسيات، وإن فقد بعض أنواعه في بعض البلاد فكم له من نظائر، وهذا أشد، وأشنع مما ذكر جل ذكره عن جاهلية العرب بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} 1 الآية، وكذلك جعل السوائب باسم الولي لا يحمل عليها لا تذبح، وسوق الهدايا والقرابين إلى مشاهد الأولياء وذبحها حباً للشيخ وتقرباً إليه، وهذا وإن ذكر اسم الله عليه فهو أشد تحريماً مما ذبح اللحم وذكر عليه اسم غير الله كعيسى مثلاً، فإن

_ 1 سورة الأنعام: 136.

الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة، ومن ذلك ترك الأشجار والكلأ والعشب إذا كان بقرب المشهد وجعله من ماله. ومنها الحج إلى المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبيت الله، فيطوفون حول الضريح، ويستغيثون، ويَهْدُون لصاحب القبر ويذبحون، وبعض مشائخهم يأمر الزائر بحلق رأسه إذا فرغ من الزيارة، كما يفعلون في بيت الله الحرام بعد الأداء، وقد صنف بعض غلاتهم كتاباً سماه "حج المشاهد" وهو متداول. ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور، فيصلّون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين. والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر، والنصيب الأوفى الأوفر، بل فيه البحر الذي لا ساحل له، والمهامة التي لا ينجو سالكها ولا يكاد، ومن نحوه عرف الكفر وظهر الشرك والفساد، كما يعرف ذلك من له إلمام بالتواريخ ومبدأ الحوادث في الدين. ومن شاهد ما يقع منهم عند مشهد الحسين ومشهد عليّ والكاظم عند رافضتهم، وعبد القادر والحسن البصري والزبير وأمثالهم عند سنتهم، من العبادات، وطلب العطايا والمواهب والتصرفات، وأنواع الموبقات؛ علم أنهم من أجهل الخلق وأضلهم، وأنهم في غاية من الكفر والشرك ما وصل إليها من قبلهم ممن ينتسب إلى الإسلام، والله المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته بمحو هذه الأوثان، حتى يُعبَدَ وحده، فتسلم الوجوه له، وتعود البيضاء كما كانت ليلها كنهارها. ومن ذلك -وإن كان يعلم مما تقدم- اتخاذها أعياداً ومواسم مضاهاة لما شرعه الله ورسوله من الأعياد المكانية والزمانية. ومنها ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من الفجور والفواحش، وترك الصلوات، وفعل الخلاعات، التي هي في الحقيقة خلع لربقة الدين، والتكليف، ومشابهة لما يقع في أعياد النصارى والصابئة والإفرنج ببلاد فرنسا وغيرها من

الفجور والطبول والزمور والخمور، وبالجملة فما أحدثه عباد القبور يعزّ حصره أو استيفاؤه" انتهى كلام الفاضل الشيخ عبد اللطيف في منهاجه. فيا أيها النبهاني الغافل! هذا حال إخوانك ومن هو على شاكلتك، ثم إنك لم ترض بهذه المصائب والمثالب والمعائب حتى زدت في الطنبور نغمة، وذلك اعتقادك أن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وزمان، ونظمت قصيدة من شعرك الركيك الفاسد في ذلك، ثم مع ذلك تدّعي أنك محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلا ثم كلا، وقد أرسله الله تعالى لمحق الشرك وإزالة الضلال، وأنت بجهلك تريد تبديل الأحوال {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1. فمن المبتدع؟ أمن يحافظ على السنة النبوية ويذب عنها من يحاول نقصها في كل كلية وجزئية، أم أمثالك الذين يدعون مع الله إلهاً آخر، ويطعنون على أخيار الأمة، وهداة المسلمين، ويذبون عن البدع وأهل الأهواء، ويحكمون بغير ما انزل الله، ويقدمون المواد القانونية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؟! أفلا يستحي من هذه بعض أوصافه أن يثلب أهل الإيمان، وحملة القرآن وحُفّاظ سنة سيد ولد عدنان؟! ولكن الأمر كما ورد في الحديث الصحيح: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى؛ إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شِئْتَ"2. ولهذا النبهاني عدة قصائد في الاستغاثة والالتجاء إلى غير الله، وهي مطبوعة مشهورة، ولولا أن يدنس القلم ذكرها لذكرتها، فإنها تؤيد ما ذكره الشيخ عبد اللطيف رحمه الله عنهم، وها أنا أذكر شعر بعض الغلاة المشتمل على ما لهم من الغلو في القبور والمشاهد، من ذلك قول بعض العراقيين:- نبا من بنات الماء للكوفة الغرا ... سبوح سرت ليلاً فسبحان من أسرى تمد جناحا من قوادمه الصبا ... تروم بأكناف الغرى لها وكرا

_ 1 سورة التوبة: 32. 2 أخرجه البخاري (3484، 6120) .

كساها الأسى ثوب الحداد ومن حلي ... تجملها بالصبر لاعجها أعرى جرت فجرى كل إلى خير موقف ... يقول لعينيه قفا نبك من ذكرى كم غمرة خضنا إليه وإنما ... ويخوض عباب البحر من يطلب الدرا نؤم ضريحاً ما الضراح وإن علا ... بأرفع منه لا وساكنه قدرا حوى المرتضى سيف القضا أسد الشرى ... عليّ الذرى بل زوج فاطمة الزهرا مقام علي كرم الله وجهه ... مقام علي رد عين العلى حسرى أثير مع الأفلاك خالف دوره ... فمن فوقه الغبرا ومن تحته الخضرا أحطنا به وهو المحيط حقيقة ... بنا فتعالى أن نحبط به خبرا تطوف من الأملاك طائفة به ... فتسجد في محراب جامعه شكرا وحزب من العالين يهتف بالثنا ... عليه بوحي كدت أسمعه جهرا جدير بأن يأوى الحجيج لبابه ... ويلمس من أركان كعبته الجدرا حري بتقسيم الفيوض وما سوى ... أبي الحسنين إلا حسنين بها أحرا ثرى منه بالدنيا الثراء لمترب ... وللمذنب الجاني الشفاعة في الأخرى بأهداب أجفان وأحداق أعين ... وحز وجوه عفرتها يد الغبرا أمطنا القذى عن جفن سيف مذكر ... أجل سيوف الله أشهرها ذكرا فوالله ما ندري وقد سطع السنا ... جلونا قراباً أم جلينا له قبرا وجاء من العراقيين من خمس هذه الأبيات فقال: سرينا لنمحوا الإثم أو نغنم الأجرا ... لزورة من تمحو زيارته الوزرا وسارت وقد أرخى علينا الدجى ستراً ... نبا من نبات الماء للكوفة الغرا سبوح سرت ليلاً فسبحان من أسرى تخيرتها دون السفائن مركبا ... وأعددتها للسير شرقاً ومغربا فكانت كمثل الطير إن رمت مطلباً ... تمد جناحاً من قوادمه الصبا تروم بأكناف الغرى لها وكرا

وكانت تحلى قبل هذا تجملاً ... وقد غذيت فيما أمر الذي حلا أظن على فقد الشهيد بكر بلا ... كساها الأسى ثوب الحداد ومن حلى تجملها بالصبر لاعجها أعرى إلى موقف سرنا بغير توقف ... يزيد بكائي عنده بتلهف ولما تجارينا بفلك ومدنف ... جرت فجرى كل إلى خير موقف يقول لعينيه قفا نبك من ذكرى ترامت بنا فلك فيا نعم مرتمى ... إلى درة الفخر التي لن تقوما فخضنا إليه البحر والبحر قد طما ... وكم غمرة خضنا إليه وإنما يخوض عباب البحر من يطلب الدرا إلى مرقد يعلو السماكين منزلا ... وقد نال ما نال الضراح من العلى نسير ولا نلوي على السير معدلاً ... نؤم ضريحاً ما الضراح وإن علا بأرفع منه ولا ساكنه قدرا فزوج ابنة المختار كان غضنفراً ... علا وارتضته الطهر من سائر الورى تعرف من هذا الذي طال مفخراً ... حوى المرتضى سيف القضا أسد الشرى على الذرى بل زوج فاطمة الزهرا عيون الورى إن لاحظت منه كنهه ... ترد عن التشبيه حسرى فينتهوا وإن مقاماً لا ترى العين شبهه ... مقام عليّ كرم الله وجهه مقام عليّ رد عين العلى حسرى لقد صير الغبراء خضراء قبره ... وأشرق فيها في الحقيقة بدره وقد وافق الأعجاز لله دره ... أثير مع الأفلاك خالف دوره فمن فوقه الغبرا ومن تحته الخضرا أحاط بنا علماً فليت سليقة ... تفيد علوماً عن علاه دقيقة

مجازاً وقد جزنا إليه طريقة ... أحطنا به وهو المحيط حقيقة بنا فتعالى أن نحيط به خبرا فطف في مقام حل فيه ولبه ... تر العالم الأعلى حفيفاً بتربه كالمسجد الأقصى وأي تشبه ... تطوف من الأملاك طائفة به فتسجد في محراب جامعه شكرا فأثنى عليه من علا مثل من دنا ... وكل بما أثنى أجاد وأحسنا فحزب من الدانين إذ ذاك أعلنا ... وحزب من العالين يهتف بالثنا عليه بوحي كدت أسمعه جهرا حججنا إلى بيت علا بجنابه ... عشية آوينا إلى باب غابه ومن قد سمت أركان كعبتنا به ... جدير بأن يأوي الحجيج لبابه ويلمس من أركان كعبته الجدرا فيوض علوم الله من قدم حوى ... فقسم منها ما أفاد وما احتوى ومن قبل ما يثوى ومن بعد ما ثوى ... حري بتقسيم الفيوض وما سوى أبي الحسنين إلا حسنين بها أحرى ظللننا وكم جان لديه ومذنب ... وذي حاجة منا وصاحب مطلب نقبل والأجفان تهمى بصيب ... ثرى منه في الدنيا الثراء لمترب وللمذنب الجاني الشفاعة في الأخرى خدمنا أمير المؤمنين بموطن ... نعفر فيه الوجه قصد تيمن ويخدم قبر المرتضى كل مؤمن ... بأهداب أجفان وأحداق أعين وحر وجوه عفرتها يد الغبرا أزلنا غباراً كان في قبر حيدر ... فلاح كغمد المشر في المشهر ولا غرو في ذاك المكان المطهر ... أمطنا القذى عن جفن سيف مذكر أجل سيوف الله أشهرها ذكرا

تبدي سنى أنواره وتبينا ... غداة جلونا قبره فتزينا فحير أفهامها وأبهر أعينا ... فوالله ما ندري وقد سطع السنا جلونا قراباً أم جلينا له قبرا وقال صاحب الأصل وقد خمسها آخر من شعراء العراق أيضاً: شمخت رفعة وعزت منالاً ... واستطالت فخامة وجلالا واستخفت من الجبال الثقالا ... قبة المرتضى علي تعالى شأنها عن موازن وعديل بزغت في الدجى كبدر منير ... وتبدت تزهو بحسن نضير فهي أكسير كل قلب كسير ... من نضار صيغت بغير نظير في مثال منزه عن مثيل قد صفا كالمرآة منها صقال ... فبدا للنجوم فيها مثال فلك لا يحيط فيه خيال ... فوقها كالإكليل لاح هلال رمقته السهى بطرف كليل ملأت قبة العوالم بالضو ... واستقلت بنفسها في ذرى الجو بعلى علت فما ضرها لو ... كبرت فاستقلت الفلك الدو وأرعنها بأن يرى ببديل حل فيها نور الهدى فتحلت ... ودنت فوق قبره فتدلت ملئت هيبة فعزت وجلت ... جللت مرقداً جليلاً تجلت فوقه هيبة المليك الجليل سمكها سامت السماك مقاماً ... حين ضمت ذاك الإمام الهماما أبداً شأو شأنها لن يسامى ... فعلى قبة السماء إذا ما فضلوها أقول بالتفضيل هي عين وللتجلي سجنجل ... كل ذات بعكسها تتمثل

وبمرآة فكر من يتخيل ... هي باء مقلوبة فوق تلك الـ ـنقطة المستحيلة التأويل دار مجد من بابها السعد يدخل ... دار في صحنها الهدى في تسلسل في علاها مهما تشا أبداً قل ... هي فلك بل ما عليه استوى الفلـ ـك ومن فوق لوحه من قبيل كعبة نحوها قطعنا الفجاجا ... بحماها قد آوت الحجاجا ما ترى عند بابها محتاجاً ... هي كهف النجاة طور المناجا ة ثمال العفاة مأوى الدخيل هي كنز لدرة الفخر موئل ... قد حوت كل جوهر متفضل ليس فيها لعارض الدهر معقل ... هي حق للجوهر الخاص ماللـ ـعرض العام عندها من مقيل هي شمس الهدى لمن ضل دوماً ... ما رأى من بها اهتدى قط لوماً كم هدت من غوى الجهالة قوماً ... هي ظل ما ضل من قال يوما بحماها من تحت ظل ظليل صدف قد غلت بدر ثمين ... وإمام للمؤمنين مبين كنزها قد حوى لخير دفين ... هي غمد لذي فقار بطين من سيوف الله العلي صقيل حضرة فوقها الجلال تجلى ... أجمة في عرينها الليث حلا كيف تدنو الأسود منه محلا ... هي غاب ثوي به أسد اللاه عليّ بصدر اشرف غيل هو سيف القضا بأيدي قدير ... نصله ينتضي بيوم عسير حيدر يضرم الوغى بسعير ... ذاك ليث أردى العدى بزئير وحسام أبادهم بصليل

هي روض ونعم مرعى ومنهل ... لأمير النحل الإمام المفضل دار فيها كأس الرحيق المسلسل ... كورة لليعوب مازج صرف الـ ـشهد منها أطالب الزنجبيل فلك دائر منير بشهب ... نورها ظاهر بشرق وغرب هونت في تدبيرها كل صعب ... كرة مستديرة فوق قطب دبر الكائنات بالتعديل صاغها الله من محاسن تعجب ... وطلاها من نوره المتلهب فهي أسنى سبيكة لمذهب ... أفرغتها يمنى المفاخر من تبر المعالي في قالب التبجيل صبغة الله زينت بالتحلى ... وعليها الأملاك للوحي تملى مذ دنا الروح نحوها بالتدلي ... صبغتها بالنور أيدي التجلي بقدامى من خافقي جبرئيل لا يحيط الخيال وقتاً فوقتاً ... بحلاها ولا يخيل نعتا جمعت ذاتها فضائل شتى ... فغشاها النور الإلهي حتى بخيال جلت عن التخييل أحرزت من أزاهر الشرف الغض ... وأحاطت بالمجد في الطول والعرض كل فضل من فضلهما يتبعض ... قد حوى فصل بابها جمل الفضـ ـل التي قد غنين عن تفصيل جليت تزدهي بجسم صقيل ... فهي زهراء ما لها من مثيل منذ زفت لخير مولى جليل ... كعروس بدت بوجه جميل تسبي شمس الضحى بخد أسيل هي بدر الدجى بغير سرار ... هي شمس ضاءت بغير استتار

زندها في كلا الجديدين وار ... هي في الليل مثلها في نهار وبوقت الضحى كوقت الأصيل نالت النيرات من ذاك نيلاً ... يستميل المحب للحب ميلا فتهاوت منها تقبل ذيلاً ... قابلتها البدور باللثم ليلا وشموس النهار بالتقبيل كسراج لنا تجلت مساء ... فاستعارت منها الدراري سناء زينتها التبر يستنير ضياء ... صحنها كالقنديل يزهو صفاء وهي تحكي ذبالة القنديل هل محب يحنو على ما أقاسي ... من غرام دك الجبال الرواسي ما لجرحي سواكما اليوم أسى ... يا خليلي والخليل المواسي منكما من يحب نفع الخليل بالغريبين حاجة أقتضيها ... وبكو فإن بلغة أرتجيها فبحق الزهرا وحق بنيها ... عللاني بذكر من حل فيها إن قلبي يطيب بالتعليل ذو سجايا أصفى من الدر والدر ... ومزايا لم نحصها بالتفكر أخبرت عن نعوته الكتب الغر ... نعته بالزبور جاء وبالفر قان بل بالتوراة والإنجيل هل أتى في سواه بالذكر تملى ... آي وحي بها تسامى محلا وصفه بالقرآن قد جاء يتلى ... الإمام المبين أحصى به الله جميع الأشياء في التنزيل صدره نسخة لما كان في الكو ... ن قديماً من خطها الناس أملو هو علم الكتاب في علمه أو ... فهو اللوح بل وما خط في اللو ح لديه مقيد التسجيل

كم ثملنا منه بكأس رويّ ... فأمطنا برشفها كل غي إن ترم أن تفوز منها بري ... سل سبيلاً لسلسبيل عليّ فعلى ابن السبيل قصد السبيل زره مهما أصابك الخطب مهما ... تلق غيثاً همى وبحراً خضما فأجل في راحه عن القلب هما ... هو ساقي الحوض الذي ليس يظما من حبته يداه بالتنويل كم غليل روى بفيض مقيل ... ما رويناه عن فرات ونيل كم أفاضت كفاه من سلسبيل ... هو ذات الشفا لكل عليل وشفاء لذات كل غليل صاغه الله من ندى وبراه ... وعلى فطرة السخا سواه بحر جود ما للعفاة سواه ... عيلم كل قطرة من نداه هي غيث لكل عام محيل جئت أشكو إليه بثي وحزني ... حاش لله أن يخيب ظني نلت من فضله قصارى التمني ... عرض حال لاغر وإن طال أني لذت في جاهه العريض الطويل غيث فضل يهمي بفيض غزير ... وغياث من كل أمر عسير كيف أرضى منه بمن يسير ... طامع من نواله بكثير ما أنا منه قانع بقليل كم عديم أحيا بجود عميم ... وهدى حائراً لنهج قويم ولا عتابه بقلب سليم ... جئت مستهدياً هدى من كريم لست مستجدياً جدي من بخيل لجناحي أراش بعد تلافي ... بقدامى أفضاله والخوافي

قبره كعبة غداً للطوافي ... من ثراه لي ثروة وحذافي ردعاني بهن أغنى معيل كل من زار قبره أمن الهو ... ل وإن كان ذنبه يملأ الجو ما تراني وقد أحاط بي السو ... زرته والدموع تنهل والأو زار تنهال عن كثيب مهيل حبه بارز بدا من ضميري ... وعلينا فرض ولاء الأمير بولاه كم اغتنى من فقير ... ليس لي بعد حبه من نقير يغن عني شيئاً ولا من فتيل (وقال أيضاً الشاعر العراقي) : حضرة الكاظمين منها المرايا ... قد حكت قلب صب أهل الطفوف صبغتها يد التجلي بكف ... كبرت عن تشبيهها بالكفوف وروت عن غدير خم صفاء ... فتراءت لطرفي المطروف صور الكائنات فوجاً بفوج ... سابحات في موجها المكفوف من قناديل عسجد زينوها ... بصفوف تلوح أثر صفوف رسم تعليقها الأنيق تبدى ... كسطور منضودة من حروف روضة للصدور فيها ورود ... بأكف الألحاظ ذات قطوف قد أظلت شمساً بغير كسوف ... وأقلت بدراً بغير خسوف وطوت كاظماً ولفت جواداً ... فازدهت بالمطوى والملفوف شرفت فيهما وما كل ظرف ... حاز تشريفه من المظروف وغدت للقلبين مثل شغاف ... رق لطفاً كقلبي المشغوف وهي لما على السماء أنافت ... بهما قلت يا سما المجد نوفي كلما زرتها أقول لعيني ... هذه كعبة الجلال فطوفي بحماها كم من ألوف من الزو ... ار فازت من المنى بصنوف فأخشى صروف دهري وإني ... بحماها يخشى الزمان صروفي

حرم آمن فمن كان فيه ... قاطناً كان آمناً من مخوف ومطاف به استدارت فطافت ... زمر كاستدارة الخدروف كم لرشد من حائري هدته ... وبرفدكم قد كفت من كوفي شنفتها العلياء لما أصاخت ... لصرير الأقلام أبهى شنوف شمخت عزة بأنف أشم ... مرغم بالتراب شم الأنوف أرعفت مارن الصباح فأجرت ... دمه من بروقها بسيوف ألفت نفسي الثناء عليها ... وهي لا تنثني عن المألوف لا تلمني على الوقوف بباب ... تتمنى الأملاك فيه وقوفي هو باب مجرب ذو خواص ... كان منها إغاثة الملهوف ملجأ العاجزين كهف اليتامى ... كان منها إغاثة الملهوف من يروم الفتوح مما سواه ... طرقت بابه أكف الحنوف أنا عنه حياً وميتاً بدنيا ... ي وأخراي لست بالمصروف هم بنو المرتضى وعترة طه ... سحب الفضل أبحر المعروف فليلمني من شاء أني موال ... رافل من ولائهم بشفوف فعليهم مني الثنا ما إليهم ... قطع المدلجون كل تنوف وقال: ألا أن صندوقاً أحاط بحيدر ... وذي إلعرش قد أربى إلى حضرة القدس فإن لم يكن لله كرسي عرشه ... فإن الذي في ضمنه آية الكرسي وقال وقد شاهد الزوار ليلاً تتهافت على الصندوق خلال الشموع الموقدة: صندوق قبر المرتضى زواره ... بين الشموع لهم عليه تهافت فكأنه بدربه قد أحدقت ... سيارة من أنجم وثوابت (وقال لما زار موسى الكاظم) : خلعنا نفوساً قبل خلع نعالنا ... غداة حللنا مرقداً منك مأنوسا وليس علينا من جناح بخلعها ... لأنك بالوادي المقدس يا موسى

إلى غير ذلك من شعره الذي جمعه بمجموع سماه (الباقيات الصالحات) وكله على هذا المنهج، ومن العجب من يسلك هذا المسلك كيف يدعي أنه من أهل السنة وليس من الروافض. وله أبيات في الشيخ عبد القادر الكيلاني وهي هذه وقد سلك فيها من الغلو مسلك ما نقلناه من شعره: أبيات شعري حكت آيات تنزيل ... تتلى بحضرة ممدوحي بترتيل وعت من الملأ الأعلى لها آذان ... فشنفتها بتكبير وتهليل قد انطوى العالم الأسمى بأحرفها ... فعطر النشر منها طيب تأويل عن حسنها قاصرات الطرف قد قصرت ... أحبب بكاعبة النهدين عطبول ماست دلالاً تعاطيني الرضاب طلا ... فهمت ما بين عسال ومعسول تاهت على اللؤلؤ المنثور إذ نظمت ... في مدح مولاي عبد القادر الجيلي قطب عليه مدار العالمين له ... دور تسلسل لا في قيد تعطيل غوث وغيث لراجيه وخائفه ... يحمى ويهمى بأفضال وتفضيل سجنجل لتجلي ذاته ظهرت ... لعينه عينه من غير تمثيل جلاء نقطة غين العين تربته ... كم فزت منها بتعفير وتكحيل طوفان علم به نوح النبوة في ... فلك الفتوة ينجى كل محمول خضم فيض بعيد العور فيه رست ... سفن الولاية لا في ساحل النيل مصباح فضل بنبراس الجمال زهت ... مشكاته فيه لا في ضوء قنديل نور بسيط على وجه البسيطة بل ... ببحر محيط بمعقول ومنقول قرآن جمع لأشتات الهبات من الذر ... ات لا قبض بسط العرض والطول فرقان فرق العلى آياته رسمت ... في جبهة كللت منه بإكليل مفتاح غيب بلا ريب ببرزخه ... باب الشهود لديه غير مقفول في عالم الغيب قد صحت مشاهدة ... له فجاء بكشف غير معلول تواثت أولياء الله بعثته ... منذ الست ومن جيل إلى جيل في النشأتين له حال تصرفه ... تالله في كل معقود ومحلول

باب الرجاء وقطب الأولياء وفخر ... الأتقياء ومأوى كل مذلول عين الكمال وسلطان الرجاء وممـ ... ـدوح الفعال وحامي كل مخذول ملجا المريدين منجى اللائذين به ... كنز المقلين مذخوري ومأمولي فخري وفيه غنى فقري ومدحته ... فخري أنال بحشري منه تنويلي إلى موائده اللاتي حوت مدداً ... مددت باعاً به علقت كشكولي تفصيل إجمال جزء من خوارقه ... عن حصرها كل إجمالي وتفصيلي نلت البقا بغنائي في محبته ... فشاغلي فيه أضحى عين مشغولي وبان صحوي بمحوي في هواه وعن ... وهمي بأني سواه بان تخييلي أتى من العلم في مثل الذي أتيا ... موسى وعيسى بتوراة وإنجيل ندب إذا عم خطب أو دجا حزن ... جلاه في سيف حزم غير مفلول تهديك بهجته الغرا وغنيته ... تغنيك عن كل مقصود ومأمول فناده عند نادية لفادحة ... وسله ما شنت تلقى خير مسئول وقبل الترب من أعاب سدته ... وابد الخشوع بدمع منك مسبول فسدرة المنتهى لا شك حضرته ... لقد تناهى إليها علم جبريل ترى المحبين صرعى تحت قبته ... وقلبهم عن هواه غير مشغول أما تراهم وفي أطمارهم ربضوا ... ببابه كأسود الغيل بالغيل إليه من موصل قد جئت منقطعاً ... فيا لقطع بحبل الله موصول كم ظن قوم قبولاً منه تم لهم ... وحققوا الظن أني غير مقبول فدع رجالاً على جهل تعنفني ... فهل سمعت بصب غير معذول وابغ رضا الله في مدح تقدمه ... لفارق بين مفضال ومفضول عليه أزكى سلام الله تتبعه ... تحية الملأ الأعلى بتبجيل ما دوخت ديمة الرضوان مرقده ... وجللته وغشته بمنديل إلى غير ذلك من الشعر الكثير في هذا الباب، ولو استوعبناه لطال به الكتاب. وهذا حال خواصهم، وقد سمعت غلوهم فكيف حال عوامهم؟. وقد حكى العراقيون أن قبر عبد القادر قد غدا اليوم قبلة يطوفون عليه طواف

الحجيج ببيت الله الحرام، وينذرون له النذور، ويوقدون السرج على رغم ما جاء به دين الإسلام، وقد اتخذ ذراري الشيخ ذلك غنيمة يرتعون فيها كما ترتع الأنعام، وبعض سفهاء العقول، وناقصوا الأحلام يتخذهم وسائل في الدنيا والآخرة، وحكى العراقيون أن الكيلانيين اليوم أشر أمة في العراق، وعائلتهم أصبحت بلاء على بغداد، ومن العجيب أن كبير تلك العائلة (النقيب) يدّعي أنه سلفيّ العقيدة، وهو من سدنة الأصنام، لم يزل يأكل النذور المحرمة من الهنديين وغيرهم، نسأله تعالى أن يطهر الأرض من أمثال هؤلاء المعادين لدين الله تعالى، والمضادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أحق هذا النقيب بقول القائل: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت في البيداء أبعد منزل وقد سمعتُ أن بعض أدباء بلدته هجاه بقصائد كثيرة، منها قصيدة مطلعها: أرجح بغداد وإني غريبها ... على جنة الفردوس لولا نقيبها وإني أسأل الله تعالى أن يبصّر المسلمين من أهل الهند وغيرهم حتى لا تكون أموالهم غنيمة لهؤلاء السفهاء، ويصونهم من كيدهم، إنه على كل شيء قدير، ولولا ملاحظة أن يطول الكتاب لأتينا على مفصل أحوال هؤلاء السدنة وعباد الأصنام، وما ذكرناه كاف إن شاء الله تعالى في هذا المقام. فظهر مما ذكرنا أن قول هذا الجاهل: إن الشيخ محمد ومن وافقه من أهل نجد وغيرهم أهل بدعة هو قول عاطل، بل هم الفرقة الناجية إن شاء الله، وهم أهل السنة والجماعة، وهم عصابة الحق، وأن المبتدعة هم هذا الجاهل الغبي ومن على شاكلته لما سمعتَ من جهلهم وضلالهم، ولكن الأمر كما قيل في المثل السائر: "رمتني بدائها وانسلّت". وأما الكلام على ما ذكره من القدح والجرح في كتب الشيخين وأضرابهما فسيأتي البحث عنه مفصلاً فيما خصص له من فصول كتابه وعادته ودأبه تكرير الكلام من غير طائل، بل ليعظم حجم الكتاب فيفرح به. أما قوله: "وقد طبعوا إلى الآن عشرة كتب"، ثم عددها مع الطعن والقدح

فيها- فيقال له: أخطأت في الحساب، كما قد زغت عن جادة الحق والصواب، بل إن الذي طبع من كتب الشيخين ونحوهما نحو مائة كتاب ما بين مختصر ومفصل، منها ما طبع في مصر، ومنها ما طبع في المطابع الهندية، ومنها ما طبع في مكة شرّفها الله، وكل هذه الكتب كنوز علم ومصابيح هدى والحمد لله، كما أنها شجى لأعداء الدين والمبتدعة الملحدين، وإني أبشرك أيها المبتدع أن جميع كتب شيخ الإسلام وأصحابه ستطبع قريباً، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، حيث يظهر بها زيغ الملحدين، وافتراء السبكي وابن حجر1 وأضرابهما من المتبعين لهواهم، الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. ثم ختم كلامه على الكتب بذكر شيء من قصيدته التي سماها طيبة الغراء، وهي التي ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وكل زمان، غير أنه لم يأت بجميع أبياتها هنا، وزعم أنه حاكى بها قصيدة بانت سعاد. فيقال له: لقد حكيت ولكن فاتك الشنب، وشعره ركيك جداً، وسنتكلم عليه فيما يناسب من مباحث الكتاب. ثم نقول: إن هذه القصيدة التي ذكرها لا مناسبة لها مع البحث الذي هو بصدده، وهكذا مباحث كتابه كلها على هذا المنوال لم يزل يذكر مباحث غير متناسبة، ويورد أموراً لا تفيده شيئاً، ولم يكن قصده- والله أعلم- إلا انتفاخ كتابه، وبيان رعونته وجهله، نسأل الله تعالى العافية مما ابتلاه به. ثم إن النبهاني ذكر القسم الثاني من المقدمة، وقال:" إنه يشتمل على اثني عشر تنبيهاً يلزم معرفتها لمن أراد مطالعة هذا الكتاب" وذكر التنبيه الأول، وفيه: "بيان أحوال ابن تيمية والتحذير عنه، وأنه ومن وافقه على ضلال" ثم ذكر التنبيه الثاني وهو بمعنى التنبيه الأول، غير أنه قال: "إنه لا يكفّر ابن تيمية وأصحابه لأنهم من أهل القبلة" وأطال الكلام في ذلك.

_ 1 الهيتمي.

ثم ذكر التنبيه الثالث؛ وفيه ذكر رؤياه لابن السبكي وابن تيمية قائماً والسبكي قاعداً على عجزه مع رجل ثالث ظنه صاحب "الصارم المنكى" ولم يعلم مقصده من هذا التنبيه. ثم ذكر التنبيه الرابع؛ وقد اشتمل على بيان منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه صاحب الشفاعة العظمى، والمقام المحمود، وأن أهل العلم حثوا على دعائه والاستغاثة به، وطلب ما يطلب من الله تعالى منه، وأنه لم يمنع منها سوى محمد بن عبد الوهاب وأصحابه، والسيد صديق حسن خان وحزبه، وأن هذا الرجل هو الذي طبع كتب السنن وأضل الناس بها. ثم ذكر التنبيه الخامس؛ وفيه الثناء على ابن تيمية وابن القيم، ودفع التناقض بين ما كان منه من المدح والذم نظراً لاختلاف الحالات، وتغاير الجهات، وتأييد ذلك بما نقل من كتاب الصواعق الإلهية للشيخ سليمان بن عبد الوهاب الحنبلي. ثم ذكر التنبيه السادس؛ وفيه اعتقاده في ابن تيمية وتلامذته أنهم من أئمة الدين وأكابر علماء المسلمين، وقد نفعوا الأمة المحمدية بعلمهم نفعاً عظيماً، وإن أساؤوا غاية الإساءة في بدعة منع الزيارة والاستغاثة وأضرّوا بها الإسلام والمسلمين، وهذا الذي استوجب رده عليهم حسماً لمادة الفساد. إلى آخر ما هذي به. ثم ذكر التنبيه السابع؛ وفيه يقول: "إياك أيها المسلم أن يخدعك الشيطان بقبول أقوال ابن تيمية وأصحابه، ويقول لك إنهم من أكابر أهل العلم" إلى آخر هذيانه الذي أورده للتنفير عن أقوال الشيخ ومن يوافقه. ثم ذكر التنبيه الثامن؛ وفيه: أنه لو كان كلام ابن تيمية حقاً في مسألة المنع من شد الرحل لزيارة القبور لترك الناس الزيارة وخربت المداينة. ثم ذكر التنبيه التاسع؛ وفيه: أنه لم يقصد بما ألف ردع من يقول بأقوال ابن تيمية عن معتقده المبتدع، فإن هذا مما لا يفيد، بل مقصوده تنبيه الناس على فساد

عقائد هؤلاء القوم، وتحذير المسلمين عن اعتقاد قولهم. ثم ذكر التنبيه العاشر؛ وفيه: أن ابن تيمية وكذلك أصحابه لم يقصدوا بمنعهم من سفر الزيارة الحط من رتبة النبي صلى الله عليه وسلم حاشاهم من ذلك، فإنهم من أكابر علماء المسلمين، وحماة هذا الدين المبين، ولكن لهم مذهب فاسد في ذلك سلكوه بحسب ما ظهر لهم من الأدلة التي قامت عندهم، وما فهموه من الكتاب والسنة على حسب استعدادهم إلخ. وهذه التنبيهات بعضها ينقض بعضاً. ثم نقل عبارة ابن تيمية في كتاب (العقل والنقل) في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ثم تعجب من القائل بهذا القول كيف يمنع من سفر الزيارة والاستغاثة به إلخ. ثم ذكر التنبيه الحادي عشر؛ وفيه: تحذير الناس من مخالطة من يوافق ابن تيمية في الاعتقاد، فإنهم مبتدعة، وتكلم عليهم بكل ما يستبشع. ثم ذكر التنبيه الثاني عشر؛ وفيه: بيان أن ابن تيمية لم يخص أحداً بالرد والتضليل، ولكنه خاصم جميع المسلمين. إلى أن قال: "ويزيد على ذلك تكفير كثير من أئمة الصوفية، الذين هم سادات الأمة" إلخ.. أقول: هذا حاصل ما ذكر في تنبيهاته، ويكفي الواقف عليها معرفة مبلغ هذا الرجل من العلم، وخفّة عقله ورعونته، فإن جميع ما ذكره في هذه التنبيهات ضرب من الوسواس وكلام المعتوهين، أو نوع من هذيان المحموم، ومآل جميعها واحد؛ وهو الحط على ابن تيمية وأصحابه، وتحذير الناس من الميل إليه ومطالعة كتبه والأخذ بأقواله بسبب ما ظهر له من منع سفر الزيارة والاستغاثة بمخلوق، وبسبب قوله بهذه المسألتين قد قامت القيامة وفار التنور، وهذا والأمر لله تعالى من إدبار المسلمين وسوء طوالعهم في هذا العصر، عصر الترقي والأخذ بنواصي الكمالات، ونحن سنتكلم على كلا المسألتين في مقامهما، ونضرب صفحاً عن مؤاخذته في كل ما هذى به في هذه التنبيهات وسنبين أقوال أهل العلم في شأن ابن تيمية مما يلقم النبهاني وأضرابه حجر السكوت.

وذكر في التنبيه الثالث رؤياه ولم يعبرها فوجب تعبيرها له، وذلك أنه قال: رأيت منذ ثلاث سنوات ونيف الإمام ابن تيمية والإمام السبكي في رؤيا وهما في مجلس واحد، والسبكي جالس وهو سمين أسمر عليه هيبة ووقار، وابن تيمية واقف أسمر أغبر نحيف الوجه والجسم عليه هيبة العلم، وقد كان أقرب إلي من السبكي فقصدته لأقبل يده، ويغلب على ظني أني قبلتها وسألته عن مقدار عمره فقال ستمائة سنة، ثم انتبهت". فيقال له: إن صحت رؤياك أيها النبهاني -وإن كان ما تراه يقظة ومناماً أضغاث أحلام- دلت على أن الله تعالى كشف لك عن حال مقتداك، وشيخ بدعك وهو السبكي، فإنه كما هو المعلوم لدى كل منصف كان من ألد الخصوم لشيخ الإسلام، بل لكل أهل الحق، وحيث كان جالساً بين يدي خصمه فهو دليل على أن خصمه وهو ابن تيمية قد أقعده على عجزه، والأمر كما رأيت، فقد تكلم السبكي على ما أفتى به الشيخ ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة، فرد عليه الشيخ ابن تيمية بعدة مجلدات. يقول ابن السبكي: رأيت منها مجلداً. وأما سواد الوجه الذي لاح في السبكي فهو بيان ما ابتدعه، قال عز ذكره: {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} 1. وأما السمن الذي كان فيه فهو علامة غيظه وشقائه بين يدي خصمه، وأما وقوف ابن تيمية على ساقه فهو النصر على خصومه، وأنه لم يزل قائماً على ساق الهمة. وأما نحافة وجهه فهو ما كابده من عناء مخاصمة أهل البدع وأعداء الدين، وتعبير سمرته هو من السؤدد، وتقبيل يديه ذلك له وضراعتك للحق، وأما الرجل الذي رأيته وظننته ابن عبد الهادي أو ابن القيم فهو والله أعلم الأول، لأنه الذي رد على مقتداك السبكي بعد وفاة الشيخ ابن تيمية في كتاب (الصارم المنكى في الرد على السبكي) في كتابه (شفاء السقام) وأقعده على عجزه أيضاً، وبين جهله وغباوته، وقد رأيت ولله الحمد تعبير رؤياك من قبل، وأما قوله لك في جواب سؤال عن مدة عمره أنه ستمائة سنة فهو معنى قوله تعالى: {وَلا

_ 1 سورة الزمر: 60.

تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 1 ومثل ابن تيمية لم يمت على تعاقب الأزمان. وما دام ذكر العبد بالفضل باقياً ... فذلك حي وهو في الترب هالك وقال آخر: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قوم وهم في الناس أموات فالعالم بما جاء به الرسول العامل به أطوع في أهل الأرض من كل أحد، فإذا مات أحيا الله ذكره، ونشر له في العالمين أحسن الثناء، فالعالم بعد وفاته ميت وهو حي بين الناس، والجاهل في حياته حي وهو ميت بين الناس، كما قيل: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسامهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور ومن تأمل أحوال أئمة الإسلام -كأئمة الحديث والفقه- كيف هم تحت التراب وهم في العالمين كأنهم أحياء بينهم لم يفقدوا منهم إلا صورهم، وإلا فذكرهم وحديثهم والثناء عليهم غير منقطع، وهذه هي الحياة حقاً، حتى عد ذلك حياة ثانية، كما قال المتنبي: ذكر الفتى عيشه الثاني وحاجته ... ما فاته وفضول العيش أشغال ولكن النبهاني على ما حكى لي من رآه أنه كذاب، كثيراً ما يحدث بمنامات لا أصل لها، وفي الحقيقة أن غالب هؤلاء المبتدعة كذلك، وهم بيت الكذب، كما أنهم المنهمكون على الدنيا، وهذا من علائم دجاجلة العصر قبحهم الله تعالى. هذا وما ذكره في باقي التنبيهات منه ما لا يستحق أن يُصغى إليه لأنه لا يخفى فساده حتى على صغار الطلبة، ومنه ما ذكره النبهاني في باب مختص به،

_ 1 سورة آل عمران: 169.

فأجلنا البحث عنه والكلام عليه إلى وصولنا إليه، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ثم إنه عقد باباً في إثبات مشروعية السفر إلى زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء والصالحين، وجعله الباب الأول، وافتتحه بأرجوزة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استدل على مشروعية هذا السفر بما ذكره ابن حجر في كتابه (الجوهر المنظّم) وقد أتى بأكثره، والكتاب مشهور، وبما ذكره ابن الحاج في "مدخله" وهو كذلك، ثم بما ذكره السبكي في (شفاء السقام) ثم بما ذكره الشيخ عبد القادر الكيلاني في "الغنية" ثم عقبه بكلام النووي، ثم بكلام ابن الهمام الحنفي في (فتح القدير) ثم بما في (مشارق الأنوار) للشيخ حسن العدوي ثم ذكر ما زوروه من مد اليد للرفاعي1، ثم ذكر أربعين حديثاً في فضل المدينة لأبي الحسن البكري، ثم ختم الباب بخاتمة ذكر اختلاف الناس في التفاضل بين مكة والمدينة، ثم ذكر فصلاً ذكر فيه شيئاً مما لا ينبغي فعله للزائر، نقله من كتاب (الجوهر المنظم) لابن الحجر المكي، ثم نقل عن العدوي كلاماً يتعلق بكرامات الأولياء وتصرفهم، وبه ختم الباب، وحيث أن هذه المباحث مشهورة، بل إنها قد ملتها الأسماع لم أذكرها في هذا المقام لطولها، بل أذكر حاصلها في أثناء الرد عليه، ومن الله التوفيق والهداية إلى أقوم طريق. أقول: كان من الحزم عدم التعرض لهذه المسائل المفروغ عن تحقيقها، وقد سبق منا بيان العذر للكلام على هذيان النبهاني، مع العلم أنه لا يفيد في رد من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فإنه قد ألف في هذا الباب كتب مفصلة ومجملة، قد حقق فيها الكلام على هذه المسائل أتم تحقيق، ومع ذلك لم يؤثر شيئاً في فهم هذا الخصم وأضرابه، وأعاد وأبدى، واستدل بما هو مردود مراراً عديدة، فسبحان من طبع على قلبه.

_ 1 سيأتي الرد على هذه الخرافة.

وهنا كلام لابن القيم يناسب المقام، قال رحمه الله تعالى1: "ومن تأمل القرآن والسنة وسِيَر الأنبياء في أممهم ودعوتهم لهم، وما جرى لهم معهم؛ جزم بخطأ أهل الكلام فيما قالوه، وعلم2 أن القرآن مملوء من الإخبار عن المشركين عباد الأصنام أنهم كانوا يُقٍِرُّون بالله، وأنه هو وحده ربٌّهم وخالِقُهم، وأن الأرض وما فيها له وحده، وأنه ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وأنه هو الذي سخّر الشمس والقمر، وأنزل المطر وأخرج النبات. والقرآن مناد عليهم بذلك، محتج بما أقروا به من ذلك على صحة ما دعتهم إليه رسله، فكيف يقال: إن القوم لم يكونوا مقرّين قط بأن لهم رباً وخالقاً، هذا بهتان عظيم؛ فالكفر أمر وراء مجرد الجهل، بل الكفر الأغلظ هو ما أنكره هؤلاء وزعموا أنه ليس بكفر. قالوا: والقلب عليه واجبان لا يصير مؤمناً إلا بهما جميعاً: واجب المعرفة والعلم، وواجب الحب والانقياد والاستسلام، فكما لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد؛ لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب الحب والانقياد والاستسلام، بل إذا ترك هذا الواجب مع علمه ومعرفته به كان أعظم كفراً، وأبعد عن الإيمان من الكافر جهلاً، فإن الجاهل إذا عرف وعلم فهو قريب إلى الانقياد والاتباع، وأما المعاند فلا دواء فيه، قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3. قالوا: فحبُّ الله ورسوله- بل كون الله ورسوله أحب إلى العبد من سواهما- لا يكون العبد مسلماً إلا به، ولا ريب أن الحب أمر وراء العلم، فما كل من عرف الرسول أحبه كما تقدم. قالوا: وهذا الحاسد يحمله بغض المحسود على معاداته، والسعي في أذاه

_ 1 في "مفتاح دار السعادة" (1/331- 340 ط. ابن عفان) . 2 عبارة "المفتاح": "وعلم أن عامة كفر الأمم عن تيقّن وعلم ومعرفة بصدق أنبيائهم وصحّة دعواهم وما جاؤوا به. وهذا القرآن مملوء من الإخبار ... ". 3 سورة آل عمران: 86.

بكل ممكن، مع علمه بفضله وعلمه، وأنه لا شيء فيه يوجب عداوته إلا محاسنه وفضائله. ولهذا قيل: الحاسد عدو للنعم والمكارم، فالحاسد لم يحمله على معادات المحسود جهله بفضله وكماله، وإنما حمله على ذلك فساد قصده وإرادته، كما هي حال الرسل وورثتهم مع الرؤساء الذين سلبهم الرسل ووارثوهم رياستهم الباطلة، فعادوهم وصدوا النفوس عن متابعتهم، ظناً أن الرياسة تبقى لهم وينفردون بها. وسنة الله في هؤلاء أن يسلبهم رياسة الدنيا والآخرة، ويصغّرهم في عيون الخلق مقابلة لهم بنقيض قصدهم؛ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 1. قال: فهذا موارد احتجاج الفريقين، ومواقف إقدام الطائفتين، فاجلس أيها المنصف منهما مجلس الحكومة، وتوخّ بعلمك وعدلك فصل هذه الخصومة، فقد أدلى كل منهما بحجج لا تُعَارَضُ ولا تُمَانَعُ، وجاء ببينات لا تُرَدُّ ولا تُدَافع، فهل عندك شيء غير هذا يحصل به فصل الخطاب، وينكشف به لطالب الحق وجه الصواب فيرضى الطائفين، ويزول به الاختلاف من البين، وإلا: فخل المطي وحاديها ... وأعط القوس باريها دع الهوى لأناس يعرفون به ... قد كابدوا الحب حتى لان أصعَبُه ومن عرف قدره وعرف لذي الفضل فضله؛ فقد قرع باب التوفيق، والله الفتاح العليم، فنقول وبالله التوفيق: كلا الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم، ولا عدلت عن سنن الحق، وإنما الاختلاف والتباين بينهما من عدم التوارد على محل واحد، ومن إطلاق ألفاظ مجملة بتفصيل معانيها يزول الاختلاف، ويظهر أن كل طائفة موافقة للأخرى على نفس قولها.

_ 1 سورة فصلت: 46.

وبيان هذا؛ أن المقتضى قسمان: مقتضى لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه، لقصوره في نفسه عن التمام، أو لفوات شرط اقتضائه، أو قيام مانع منع تأثيره، فإن أريد بكون العلم مقتضياً للاهتداء والاقتضاء التام الذي لا يتخلف عنه أثره بل يلزمه الاهتداء بالفعل؛ فالصواب قول الطائفة الثانية، وأنه لا يلزم من العلم حصول الاهتداء المطلوب. وإن أريد بكونه موجباً أنه صالح للاهتداء مقتض له وقد يتخلف عنه مقتضاه لقصوره أو فوات شرط أو قيام مانع؛ فالصواب قول الطائفة الأولى. قال: وتفصيل هذه الجملة أن العلم بكون الشيء سببا لمصلحة العبد ولذاته وسروره، قد يتخلف عنه عمله بمقتضاه لأسباب عديدة. السبب الأول: ضعف معرفته بذلك. السبب الثاني: عدم الأهلية، وقد تكون معرفته به تامة، لكن يكون مشروطاً بزكاة المحل وقبوله للتزكية، فإذا كان المحل غير زكي ولا قابل للتزكية كان كالأرض الصلدة التي لا يخالطها الماء، فإنه يمتنع النبات منها لعدم أهليتها وقبولها، فإذا كان القلب قاسياً حجرياً لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه، كما لا تنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبذر فيها كل بذر، كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 1 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2 وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 3 وهذا في القرآن كثير. فإذا كان القلب قاسياً غليظاً جافياً لا يعمل فيه العلم شيئاً، وكذلك إذا كان مريضاً مهيناً مائياً لا صلابة

_ 1 سورة يونس: 96- 97. 2 سورة الأنعام: 111. 3 سورة يونس: 101.

فيه ولا قوة ولا عزيمة لم يؤثر فيه العلم. السبب الثالث: قيام مانع، وهو إما حسد أو كبر، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلّف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم، وهو الذي منع عبد الله بن أُبي من الإيمان، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل وسائر المشركين؛ فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وأن الحق معه، لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر، وبه تخلف الإيمان عن أمية وأضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. السبب الرابع: مانع الرياسة والملك، وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبر عن الانقياد للحق، لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته، فيضن بملكه ورياسته؛ كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه، وأقروا بها باطناً، وأحبوا الدخول في دينه، لكن خافوا على ملكهم، وهذا داء أرباب الملك والولاية والرياسة، وقلَّ من نجا منه إلا من عصم الله، وهو داء فرعون وقومه، ولهذا قالوا: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} 1 أنِفُوا أن يؤمنوا ويتّبعوا موسى وهارون وينقادوا لهما وبنوا إسرائيل عبيد لهم، ولهذا قيل: إن فرعون لما أراد متابعة موسى وتصديقَه شاور هامان وزيره، فقال: بينا أنت إله تُعبد تصير عبداً تعبُد غيرك! فأبى العبودية واختار الرياسة والإلهية المحال. السبب الخامس: مانع الشهوة والمال؛ وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب من الإيمان خوفاً من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم، وقد كان كفار قريش يصدُّون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته فيدخلون عليه منها، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا [والفواحش] إن محمداً يُحرّم الزنا ويحرّم الخمر، وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام.

_ 1 سورة المؤمنون: 47.

قال: وقد فاوضتُ غير واحد من أهل الكتاب في الإسلام وصحّته، فكان آخر ما كلمني به أحدهم أنا لا أترك الخمر وأشربها أمناً، فإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربها! وقال آخر منهم- بعد أن عرف ما قلت له-: لي أقارب أرباب أموال، وإني إن أسلمتُ لم يصل إليّ منها شيء، وأنا أؤمل أن أرثهم، أو كما قال. ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار، فتنفق قوة داعي الشهوة والمال، وضعف داعي الإيمان، فيجيب داعي الشهوة والمال ويقول لا أرغب بنفسي عن آبائي وسَلَفي. السبب السادس: محبة الأهل والأقارب والعشيرة؛ يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاء خلق كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم. السبب السابع: محبة الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب، لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنّوَى فيضنّ بوطنه. السبب الثامن: تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء، وطعناً منه على آبائه وأجداده وذماً لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام؛ استعظموا آبائهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفّهوا أحلام أولئك، وضلّلوا عقولهم، ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك. ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب1. فلم يدعه أعداء الله إلا من هذا الباب، لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب، وأنه إنما حاز الفخر والشرف به، فكيف يأتي أمراً يلزم

_ 1 انظر: "البخاري" (1360) و"مسلم" (24) .

منه غاية تنقيصه وذمه، ولهذا قال: لولا أن تكون مسبةً على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك، أو كما قال1. وهذا شعره يصرح فيه بأنه قد علم وتحقق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، كقوله: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبّة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً وفي قصيدته اللامية2: فوالله لولا أن تكون مسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جَدّاً غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذّبٌ ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل والمسبة التي زعم أنها تُجَرُّ على أشياخه؛ شهادته عليهم بالكفر والضلال، وتسفيه الأحلام، وتضليل العقول، وهذا هو الذي منعه من الإسلام بعد تيقّنه. السبب التاسع: متابعة من يعاديه من الناس للرسول، وسبقه إلى الدخول في دينه، وتخصصه وقربه منه، وهذا القدر منع كثيراً من اتّباع الهدى، يكون للرجل عدوّ ويبغض مكانه، ولا يحب أرضاً يمشي عليها، ويقصد مخالفته ومناقضته فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله، وإن كان لا عداوة بينه وبينهم. وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار، فإنهم كانوا أعداءهم وكانوا يتوعّدونهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يتبعونه ويقاتلونهم معه فلما بدرهم إليه الأنصار وأسلموا حملهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم. السبب العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ؛ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة، كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد، ولا يعقل نفسه إلا

_ 1 انظر: "صحيح مسلم" (24) . 2 انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 338- 347) .

عليها، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه، وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال، ويصعب عليه الزوال. وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنىً فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنَّحَل، ليس مع أكثرهم بل جميعهم، إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربى تربّى عليه طفلاً لا يعرف غيرها، ولا يحسّ به، فدين العوائد هو الغالب على أكثر الناس، فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية. فصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله خصوصاً على خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، كيف غيّروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان، حتى استحدثوا به طبيعة ثانية، خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق، فجزى الله المرسلين أفضل ما جازى به أحداً من العالمين". انتهى المقصود من نقله. وهذا كلام حَسَنٌ يُعْلَمُ به سبب عناد المبتدعة على بدعهم، وعدم تأثير الدعوة الحقّة فيهم، إذ هم على قدم أسلافهم الذين لم ينقادوا للحق، ولم يذعنوا لدعوة المرسلين. وأظن أن هذا الرجل وهو النبهاني المبتدع المجادل بالباطل وكذلك أضرابه من غلاة الشافعية قد توفّرت فيهم الأسباب العشرة السابقة، ولاسيما السبب الأول والثاني؛ فإن اليهود قد أخبر الله تعالى عن حال قلوبهم بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1. ونعود إلى كلام هذا المخذول فنقول: إن ما نقله عن ابن حجر والسُّبكي وغيره كله متّحد معنى، ومن بعد السبكي كلهم قلّدوه في رأيه الفاسد، واعتقاده الكاسد، الذي ذكره في كتابه (شفاء السقام) . وقد علمتَ حال هذا الكتاب، وما

_ 1 سورة البقرة: 74.

جرى عليه من الرد والإبطال، فقد رده الإمام العالم العلامة الحافظ المحقق أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي قدس الله روحه، في كتابه الذي سماه (الصارم المنكي في الرد على السبكي) وقد حقق فيه المسائل المتعلقة بزيارة القبور، وبين ما كان فيها من حق وزور، وأظهر جهل السبكي بعلم الأثر والحديث، وعدم فهمه لمقاصد الشريعة. ومن نظر إلى هذا الكتاب تبين له أن شهرة السبكي بالعلم كانت شهرة كاذبة، وأن نظره كنظر العوام، وأن منزلته من العلماء كقطرة من بحر ماء، ونغبة من داماه لا يعلم شيئاً من معقول ولا منقول، وأن إطراء غلاة الشافعية فيه من محض تعصبهم وقسوة قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة. ولهذا ترى هذا المخذول لم يزل يتمنى أن لم يكن ألف هذا الكتاب، أعني كتاب (الصارم المنكي) فإذا رد هذا الكتاب رد جميع ما ألف في هذه المسألة من كتب الغلاة، ولو لم يكن سوى (الصارم المنكي) لكفى في ذلك، مع أن كتب الرد عليهم لا تعد ولا تحصى، ولا تكاد تستقصى، ولو وقفت على ردود (الجوهر المنظم) لتبين لك أنه خزف لدى كل منصف يعلم، وكل هذه الكتب مشهورة متداولة بين الأيدي، فإذا تكلمنا على ما ذكر هذا المخذول كان عبثاً وتضييعاً للقرطاس. ولما كانت كتب الخصوم كلها في الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكروا عنه ما لم يقل به وزوّروا عليه أموراً كثيرة لم يقل بها، ننقل جميع ما قاله في الزيارة من الكتب والفتاوى، ثم تنبه على بطلان قول الخصم المخذول بأوجز عبارة، ومن الله نستمد التوفيق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في كتابه (الجواب الباهر) 1، لمن سأل من أولياء الأمور عما أفتى به في زيارة المقابر ما نصه- بعد البسملة.

_ 1 طبع الكتاب مستقلاً، وهو ضمن "مجموع الفتاوى" (27/314- 443) أو (27/ 176- وما بعدها- الطبعة الجديدة) .

"قد ذكرتُ فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره -كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج- عمل صالح مستحب. وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك، وكيف يُسلّم عليه، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة؟ على قولين؛ فالأكثرون يقولون: يستقبل الحجرة، كمالك والشافعي وأحمد، وأبو حنيفة يقول: يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول، وخلفه في قول، لأن الحجرة لما كانت خارجة المسجد وكان الصحابة يسلّمون عليه لم يكن يمكن أحد أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة، كما صار ذلك ممكناً بعد دخولها في المسجد. ثم قال: وأما ما ذُكِرَ في المناسك أنه بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه والصلاة والسلام يدعو، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره -وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام- ثم يدعو لنفسه، وذكروا أنه إذا حياه وصلى عليه يستقبل وجهه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم لذلك، فإن الدعاء عند القبر لا يُكْرَهُ مطلقاً، بل يؤمر به، كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمناً وتبعاً، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء للقبر للدعاء عنده، وكذلك ذكر أصحاب مالك، قالوا: يدنو من القبر فيسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة يوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره، فإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، فإما إذ جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خلاف، وصار في الروضة أو أمامها، ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر، فإن ذلك قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجداً أو قبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلّى إليه، ولهذا والله أعلم حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة ولا جعل مسطحاً، ولذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد". ثم إن الشيخ رحمه الله أطال الكلام إلى أن ذكر مسألة السفر للصلاة في المسجد ثم قال: "والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب بإجماع المسلمين، لم

يقل أحد من أئمة المسلمين إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة، ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره صلى الله عليه وسلم، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة، ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك، ولا نهى عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور، بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد، ويعقم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، ونسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتّنا بعدهم، واغفر لنا ولهم"1. وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين، وهو أنا أُمِرْنا أن نصلّي ونسلّم عليه في كل صلاة، وشرع ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية، وأن نصلّي ونسلّم عليه عند دخول مسجده وغير مسجده، وعند الخروج منه، وكل من دخل فلا بد أن يصلّي فيه ويسلّم عليه في الصلاة. والسفر إلى مسجده مشروع، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره، حتى كره مالك أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده، وعند سماع الأذان، وعند كل دعاء، فشرع الصلاة عليه عند كل دعاء، فإنه {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 2 ولهذا يسلّم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين، فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ويصلّي عليه، فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه، وأما غيره فليس عنده مسجد فيستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده، وإنما يشرع أن يزار قبره كما

_ 1 أخرجه مسلم (974/ 103) وغيره من حديث بريدة به مرفوعاً. 2 سورة الأحزاب: 6.

شرعت زيارة القبور، وأما هو فيشرع السفر إلى مسجده وينهى عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة. ويجب التفريق بين الزيارة الشرعية التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين البدعية التي لم يشرعها، بل نهى عن مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر واتخاذه وثناً. وقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"1. حتى أن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجتَ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس"2. فهذه المساجد شُرِعَ السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف، والمسجد الحرام يختص بالطواف لا يطاف بغيره، وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلّى فيها من غير سفر كان ذلك من أفضل الأعمال، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة، والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث"3. ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن يسافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها

_ 1 أخرجه البخاري (1189، 1995) ومسلم (1397/ 511) . 2 أخرجه مالك في "الموطأ" (1/68/16) 5- كتاب الجمعة (7) باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة. وأحمد (6/ 7) أو رقم (23960- قرطبة) والنسائي (3/ 113- 116) وابن حبان في "صحيحه" (7/7/2772) والحميدي في "مسنده" (2/421/944) والطيالسي (1348) . بإسناد صحيح كما في "أحكام الجنائز" للألباني (ص 287- ط. المعارف) . 3 أخرجه البخاري (477، 647) ومسلم (649) .

أو بالعكس أو يسافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعاً باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، إلا خلاف شاذ عن الليث سعد في المساجد، وقال ابن مسلمة من أصحاب مالك في مسجد قباء فقط. ولكن إذا أتى المدينة استُحِتَّ له أن يأتي مسجد قباء ويصلّي فيه، لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً كل سبت ويصلي فيه ركعتين1. وقال: "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء كان له كعمرة" 2 رواه الترمذي وابن أبي شيبة. وقال سعد بن أبي وقاص وابن عمر: صلاة فيه كعمرة. ولو نذر المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين. ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان: أحدهما ليس عليه الوفاء، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، لأنه ليس من جنسه ما يجب بالشرع، والثاني عليه الوفاء بذلك، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر، لأن هذا طاعة لله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"3. ولو نذر السفر إلى غير المساجد، أو السفر إلى مجرد قبر نبي أو صالح؛ لم يلزمه الوفاء بنذره باتفاقهم، فإن هذا السفر لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد قال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد". وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة، وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية -إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم- وفى بنذره، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد". والمسألة ذكرها إسماعيل بن إسحق في "المبسوط"ومعناها في

_ 1 أخرجه البخاري (1191) ومسلم (1399) . 2 أخرجه الترمذي (324) وابن ماجه (1411) وغيرهما من حديث أسيد بن ظهير. وأخرجه أحمد (3/ 487) والنسائي (2/37) وابن ماجه (1412) من حديث سهل بن حنيف. 3 أخرجه البخاري (6696، 6700) .

"المدونة" و"الخلاف"1 وغيرهما من كتب أصحاب مالك. يقول: إن من نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء بنذره، لأن المسجد لا يؤتى إلا للصلاة، ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفّى بنذره، وإن قصد شيئاً آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره، لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة. وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحداً من أئمة المسلمين قال بخلافه، بل كلامهم يدل على موافقته. وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين: التحريم، والإباحة. وقدماؤهم وأئمتهم قالوا: إنه محرم، وكذلك أصحاب مالك وغيرهم. وإنما وقع النزاع بين المتأخرين لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" صيغة خبر، ومعناه النهي، فيكون حراماً، وقال بعضهم: ليس بنهي؛ وإنما معناه أنه لا يشرع، وليس بواجب ولا مستحب، بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها. فيقال له: تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة، بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة، والسفر إلى القبور إنما يُقصد به العبادة، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب، فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبّد مبتدعاً مخالفاً للإجماع، والتعبد به بدعة ليس بمباح، لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر، فإذا تبينت له السنة لم يجز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التعبد بما نهى عنه، كما لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، وكما لا يجوز صوم يومي العيدين -وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات- ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم. فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحباً، وما علمتُ أحداً من أئمة المسلمين قال إن السفر إليها مستحب، وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن، وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا.

_ 1 تحرفت في المطبوع إلى: "الجلاب"!!.

وإذا قيل: هذا كان قولاً ثالثاً في المسألة؛ وحينئذ فيبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة، فإن الصحابة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبعدهم إلى انقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي، ولا رجل صالح. وقبر الخليل عليه السلام بالشام لم يسافر إليه أحد من الصحابة، وكانوا يأتون بيت المقدس ويصلّون فيه، ولا يذهبون إلى قبر الخليل، ولم يكن ظاهراً بل كان في البناء الذي بناه سليمان عليه السلام. ولا كان قبر يوسف يعرف، ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلثمائة سنة من الهجرة، ولهذا وقع فيه نزاع، فكثير من أهل العلم ينكره، ونقل ذلك عن مالك وغيره، لأن الصحابة لم يكونوا يزورونه فيعرف. ولما استولى النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل، واتخذوا المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحاً، وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل عليه السلام مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة، ويسلم من سلم عند دخول المسجد والخروج منه، وهو مدفون في حجرة عائشة، فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجاً عنها في المسجد عند السور، وكان يقدم في خلافة أبي بكر وعمر أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق- وهم الذين قال الله فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1. ويصلون في مسجده كما ذكرنا، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر، ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد، بل السلام عليه من خارج الحجرة، وعمدة مالك وغيره فيه على ما فعل ابن عمر. وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله في مسائل النزاع، وأما أن يجعل هو الدين الحق ويستحل عقوبة من خالفه ويقال بكفره فهذا خلاف إجماع المسلمين، وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة، فإن كان

_ 1 سورة المائدة: 54.

المخالف للرسول في هذه المسألة يكفر؛ فالذي خالف سنته وإجماع الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر. ونحن لا نكفر أحداً من المسلمين بالخطأ لا في هذه المسائل ولا في غيرها، ولكن إن قدر تكفير المخطىء فمن خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والعلماء أولى بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها. فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نهى عنه في هذا وغيره، فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة، وما نهى عنه بخلاف ذلك، بل قد يكون شركاً، كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم؛ حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، ويصلّون إليها، وينذرون لها، ويحجون لها، بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام، ويسمون ذلك الحج الأكبر، وصنّف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات، كما صنف المفيد ابن النعمان كتاباً في مناسك المشاهد، سماه (مناسك حج المشاهد) وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. وأصل دين الإسلام؛ أن تعبد الله وحده، ولا نجعل له من خلقه نداً ولا كفواً ولا سميا، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 1 وقال: وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 2. وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3. وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 4. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلتُ يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشيه أن يطعم معك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تُزَاني بحليلة جارك" 5 وقال تعالى:

_ 1 سورة مريم: 65. 2 سورة الإخلاص: 4. 3 سورة الشورى: 11. 4 سورة البقرة: 22. 5 أخرجه البخاري (4477) ومسلم (86) .

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 1 ممن سوّى بين الخالق والمخلوق في الحب له، والخوف منه، والرجاء له، فهو مشرك. والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه أبو داود2. وقال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده"3. وقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد"4. وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له، فقال له: "ما هذا يا معاذ؟ " فقال: يا رسول الله؛ رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم. فقال:"يا معاذ؛ إنه لا يصلح السجود إلا لله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد؛ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَمِ حقّه عليها"5. فلهذا فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين زيارة أهل التوحيد، وبين زيارة أهل الشرك، فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم، والدعاء لهم، وهو مثل الصلاة على جنائزهم، وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبّهون المخلوق بالخالق؛ ينذرون له، ويسجدون له، ويدعونه، ويحبونه مثل ما يحبون الخالق، فيكونون قد جعلوه لله نِدّاً، وسوّوه برب العالمين، وقد نهى الله تعالى أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 6 وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ

_ 1 سورة البقرة: 165. 2 في "سننه" (3251) وأخرجه أحمد (2/87) ، وهو حديث صحيح. 3 أخرجه أحمد (1/214) وهو في "الصحيحة" (139) . 4 أخرجه أحمد (6/372) والنسائي (7/6) وفي "الكبرى" (6/254/10822،10823) وغيرهما، وهو في "الصحيحة" (137) . 5 أخرجه أحمد (4/381) وابن ماجه (1853) وغيرهما، وهو حديث صحيح؛ انظر "الصحيحة" (1203) . 6 سورة آل عمران: 79-80.

وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزير، ويدعون الملائكة، فأخبرهم الله أن هؤلاء عبيده، يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه بالأعمال. ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق، فلا يشبه بالمخلوق الذي يحتاج إلى الأعوان والحُجّاب ونحو ذلك، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 2. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3. وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء لديه، وشفاعته أعظم الشفاعات، وجاهه عند الله أعظم الجاهات، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم ثم من نوح ثم من إبراهيم ثم من موسى ثم من عيسى كل واحد يحيلهم على الآخر، فإذا جاؤوا إلى المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد؛ عبدٌ غَفَرَ الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: "فأذهب فإذا رأيت ربّي خررتُ له ساجداً، وأحمدُ ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أُحسنها الآن، فيقال: أي محمد؛ ارفع رأسك وقل يُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَه، واشفَعْ تشفّع، قال: فيُحَدُّ لي حداً فأُدْخِلُهم الجنة"4. فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال، كما ينكرها الخوارج والمعتزلة، ومن قال إن مخلوقاً يشفع عند الله بغير إذنه؛ فقد خالف

_ 1 سورة الإسراء: 56- 57. 2 سورة البقرة: 186. 3 سورة سبأ: 22- 23. 4 أخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) .

إجماع المسلمين ونصوص القرآن، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1. وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2. وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 3. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4 وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 5 ومثل هذا في القرآن كثير. فالدين هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يأمر به، وينهى عما نهى عنه، ويحب ما أحبه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص، والله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالفرقان، ففرّق بين هذا وهذا، فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق الله بينه. فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فصلّى في مسجده، وصلى في مسجد قباء، وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب وإلا قُتِلَ. وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع ضال، مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته، وهو الذي ذكر فيه القولان (أحدهما) : أنه محرم (والثاني) : لا شيء عليه ولا أجر له. والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية، يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم،

_ 1 سورة البقرة: 255. 2 سورة الأنبياء: 28. 3 سورة النجم: 26. 4 سورة طه: 108- 159. 5 سورة السجدة: 4.

ويسلّمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة؛ وهذا مشروع باتفاق المسلمين. قد ذكرت هذا في المناسك وفي الفتيا، وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وهذا الذي لم أذكر فيه نزاعاً في الفتيا مع أن فيه نزاعاً، إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقاً، ومنهم من يكرهها مطلقاً، كما نُقِلَ ذلك عن إبراهيم النخعي، والشَّعبي، ومحمد بن سيرين؛ وهؤلاء من أجلة التابعين، ونقل ذلك عن مالك، وعنه أنها مباحة ليست مستحبة. وأما إذا قدر من أتى المسجد فلم يصل فيه ولكن أتى القبر ثم رجع فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمال وغيره، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع؛ هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أحداً من علماء المسلمين استحب مثل هذا". ثم ذكر عليه الرحمة حكم السفر إلى القبور من كلامه في "الجواب الباهر" فقال: "وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجوداً في الإسلام في زمن مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة، قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فأما هذه القرون التي أثنى عليها: رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هذا ظاهراً فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك، ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان أراد المسجد فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد". كذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم أو يطلب منهم الدعاء أو يقصد الدعاء عندهم -لكونه أقرب إجابة في ظنه- فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك، لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإذا كان مالك يكره أن يطيل الوقوف عنده للدعاء فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له، وإنما يقصد دعاءه، وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده، فيؤذي الرسول، ويشرك بالله، ويظلم نفسه؟! ولم يعتمد الأئمة الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي

يرويها بعض الناس في ذلك؛ بمثل ما يروون أنه قال: "من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي" 1. ومن قوله "من زارني وزار أبي في عام ضمنتُ له على الله الجنة"2. ونحو ذلك، فإن هذا لم يروه أحد من أئمة المسلمين، ولم يعتمدوا

_ 1 حديث ضعيف. أخرجه الدارقطني في "سننه" (1/278/193) والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/488/4151) والدينوري في "المجالسة" (1/441/130) والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 362) . من طريق: هارون أبي قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... فذكره. وهذا إسناد ضعيف جداً. هارون أبو قزعة؛ ضعفه يعقوب بن شيبة. وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في "الضعفاء". وقال البخاري: "لا يتابع عليه". انظر: "لسان الميزان" (6/238) . أضف إلى ذلك جهالة الرجل الذي من آل حاط. ومع هذا فقد قام أحد المشوّهين لعلم الحديث -وهو المدعو محمود سعيد ممدوح- في كتابه المتهافت "رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة" بمحاولة بائسة لتحسين الحديث أو الاعتبار به. فقال (ص 274) - بعد أن نقل كلام العلماء في تضعيف هارون بن أبي قزعة: "لكن ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/580) "! قلت: وهذا تلبيس منه وتدليس. أما التلبيس؛ فقوله: ذكره ابن حبان في "الثقات". وهذا حق! لكنه لم يذكر كلام ابن حبان وهو قوله: "يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل". وأما التدليس؛ فهو اعتباره بتوثيق ابن حبان مع ما مرّ وتقدّم من جرح أساطين المحدثين والحفاظ لهذا الراوي؛ فهل هذا من منهج من ينتسب للعلم فضلاً عمن ينتسب للحديث؟! وأغرب من ذلك قوله: "فالرجل ممن يعتبر بحديث ويستشهد به"!! فلا حول ولا وقوة إلا بالله. ثم قال- هداه الله وأخذ بيده للحق-: "وقد قال الحافظ الذهبي: "أجودها-[كذا] (أي: أحاديث الزيارة) - إسناداً حديث حاطب.."! قلت: وهذا كذب وتدليس أيضاً. فإن الذهبي إنما قال: "أجودهما حديث حاطب هذا". يعني أجود الحديثين-[حديث ابن عمر في الزيارة وحديث حاطب]- هو حديث حاطب. وكذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى- ولا يعني هذا- كما هو معلوم- تصحيح الحديث. فماذا بعد الحق إلا الضلال. وانظر: "الصارم المنكي" (ص 110- 111) و "الضعيفة" (1021) . 2 حديث موضوع. قال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 481) : "وهذا باطل ليس هو مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف، بل وضعه بعض الفجرة".

عليها، ولم يروها لا أهل الصحاح، ولا أهل السُّنن التي يُعْتَمَدُ عليها؛ كأبي داود، والنسائي، لأنها ضعيفة بل موضوعة، كما قد بين العلماء الكلام عليها. ومن زاره في حياته كان من المهاجرين إليه، والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، وهو إذا أتى بالفرائض لا يكون مثل الصحابة، فكيف يكون مثلهم في النوافل، أو بما ليس بقربة، أو بما هو منهي عنه؟! وكره مالك رحمه الله أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كره هذا اللفظ لأن السنة لم تأت به في قبره. وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوهاً، ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور، ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده، وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعاً لابن عمر. ومالك رضي الله عنه من أعلم الناس بهذا، لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة، ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك، ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة، فكره أن يطيل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك، وكره لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك. قال مالك: "ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، فإن الأربعة صلوا أئمة في مسجده، والمسلمون يصلون خلفهم، وهم يقولون في الصلاة السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته كما كانوا يقولون ذلك في حياته، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم بأن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وهي المشروعة. وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو الصلاة والدعاء فإنه لم

يشرعه لهم، بل نهاهم، وقال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"1. فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد، وكذلك السلام، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، ومن سلّم عليه [مرة] سلم الله عليه عشراً. وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيداً وهو قد نهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجداً، ولعن من فعل ذلك، ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة. وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلم الناس بسننه، وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى المسجد لا يذهب أحد منهم إلى قبره لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذا كانت عائشة فيها، وبعد ذلك إلى أن بنى الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه، لا لسلام ولا لصلاة، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم- حتى يسمعهم كلاماً وسلاماً فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج- كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلّهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم، ويأمرهم وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبداًن الموتى خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناماً. فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة

_ 1 أخرجه أحمد (2/367) وأبو داود (2042) والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/491/4162) وابن فيل في "جزئه" كما في "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص 107) . من طريق: عبد الله بن نافع؛ أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به مرفوعاً. وهذا إسناد حسن؛ لأجل عبد الله بن نافع، ففي حفظه لين. وحسّن إسناده شيخ الإسلام في "الاقتضاء" (2/ 659-660) وصحّحه النووي في "المجموع" (8/275) وحسّنه الألباني في "أحكام الجنائز" (ص 280) .

أخرجت للناس، وهم تلقّوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه" 1. وهذا قاله لخالد بن الوليد لما تشاجر هو وعبد الرحمن بن عوف، لأن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين الأولين، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وهو فتح الحديبية، وخالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أسلموا في مدة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكة، فكانوا من المهاجرين التابعين لا من المهاجرين الأولين. وأما الذين أسلموا عام فتح مكة فليسوا بمهاجرين، لأنه لا هجرة بعد الفتح بل كان الذين أسلموا من أهل مكة يقال لهم الطلقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم بعد الاستيلاء عليهم عنوة كما يطلق الأسير، والذين بايعوه تحت الشجرة ومن كان من مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وفي الصحيح عن جابر قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة2. ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما نال ممن بعدهم، فلم يكن فيهم يتعمّد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم- وإن كان له أعمال غير ذلك قد تنكر عليه- ولم يكن فيهم من أهل البدع المشهورة، كالخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم، ولم يكن فيهم من طمع الشيطان أن يترائى له في صورة بشر ويقول أنا الخضر، أو أنا إبراهيم، أو موسى، أو عيسى أو المسيح، أو أن يكلمه اعند قبر حتى يظن أن

_ 1 أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2541) . 2 أخرجه البخاري (4154) .

صاحبه كلمه، بل هذا إنما ناله فيمن بعدهم، وناله أيضاً من النصارى، حيث أتاهم بعد الصلب وقال: أنا هو المسيح وهذه مواضع المسامير- ولا يقول أنا الشيطان فإن الشيطان لا يكون جسداً- أو كما قال. وهذا هو الذي اعتمد عليه النصارى في أنه صُلب، لا في مشاهدته فإن أحداً منهم لم يشاهد الصلب، وإنما حضره بعض اليهود، وعلقوا المصلوب وهم يعتقدون أنه المسيح، ولهذا جعل الله هذا من ذنوبهم وإن لم يكونوا صلبوه، ولكنهم قصدوا هذا الفعل وفرحوا به، قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً* وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 1. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود؛ أن الصحابة رضي الله عنهم لم يطمع الشيطان أن يضلَّهم كما أضلَّ غيرهم من أهل البدع؛ الذين تأوّلوا القرآن على غير تأويله، وجهلوا السنة إذا رأوا أو سمعوا أموراً من الخوارق فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين، كما أضل النصارى وأهل البدع بمثل ذلك، فهم يتبعون المتشابه من الكتاب، ويدَعُوَن المحكم، ولذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية، كما يسمع ويرى أموراً فيظن أنه رحماني وإنما هو شيطاني، ويدعون البيّن الحق الذي لا إجمال فيه، ولذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته، ويغيث من استغاث به، أو أن يحمل صوتاً يشبه صوته، لأن الذين رأوه قد علموا أن هذا شرك لا يحل. ولهذا أيضاً لم يطمع فيهم أني قول أحد منهم لأصحابه إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، ولا تستغيثوا بي لا في محياي ولا في مماتي، كما جرى مثل هذا الكثير من المتأخرين، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ويقول: أنا من رجال الغيب، أو الأوتاد الأربعة، أو من السبعة، أو الأربعين، أو يقول له: أنت منهم؛ إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له. ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول: أنا رسول الله- ويخاطبه عند القبر- كما وقع ذلك لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره، وعند غير القبور،

_ 1 سورة النساء: 156- 158.

كما يقع كثير من ذلك للمشركين وأهل الكتاب، يرون بعد الموت من يعظّمونه، فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم، والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم، والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه؛ إما النبي صلى الله عليه وسلم، وإما غيره من الأنبياء- يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل له أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه هو وصاحباه، ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام إلى مكان بعيد، وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عدداً كثيراً، وقد حدثني بما وقع له في ذلك وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم. وهذا موجود عند خلق كثير، كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يعتقد أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه أضل من فعل به ذلك، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله، ومن كان أقل علماً قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافاً ظاهراً، ومن عندهم علم بها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيد فائدة في دينه، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو وإن ظن أنه استفاد شيئاً فالذي خسره من دينه أكثر، ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة أن الخضر أتاه، ولا موسى ولا عيسى، ولا أنه سمع رد النبي صلى الله عليه وسلم. وابن عمر كان يسلم ولم يقل قط أنه سمع الرد، وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا في بعض المتأخرين. وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم، لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به، حتى ابنته فاطمة لم يطمع الشيطان أن يقول لها اذهبي إلى قبره فسليه هل يورث، كما أنهم أيضاً لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا، ولا قال اطلبوا منه أن يستنصر لكم ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم وأن يستغفر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته

أن يطلبوا منه ذلك، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض في مدة قريبة، كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين، لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات، كسفر الحج والعمرة والجهاد، وهم يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم، كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة، فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر، بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزاً حتى يقطعوا المسافة بسرعة. وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أَسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وأنه أراه من آياته الكبرى، وكان هذا من خصائصه فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشيطان يخيل إليه معاريج شيطانية كما خيلها لجماعة من المتأخرين. وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحياناً، مثل أن لا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك، فلهذا كان الله يكرم من يحتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك، كما أكرم به العلاء بن الحضرمي وأصحابه، وأبا مسلم الخولاني وأصحابه، وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب. لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون، وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان، وهي نقيصة لا فضيلة، سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك، بل خير

الناس بعدهم أتبعهم لهم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستناً فليستنّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلّها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"1. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أن الصحابة تركوا البدع المتعلقة بالقبور بقبره وقبر غيره لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور الأنبياء أوثاناً، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلّم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعل. بل كانوا في حياته يسلّمون عليه ثم يخرجون من المسجد لا يأتون إليه عند كل صلاة، وإذا جاء أحد سلم عليه رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك من سلم عليه عند قبره رد عليه، وكانوا يدخلون على عائشة فكانوا يسلمون عليه كما كانوا يسلمون في حياته، ويقول أحدهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقد جاء هذا عامّاً؛ "ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" 2 فإذا كان رد السلام موجوداً في عموم المؤمنين فهو في أفضل الخلق أولى، وإذا سلم المسلم عليه في صلاته فإنه وإن لم يرد عليه لكن الله يسلم عليه عشراً، كما في الحديث:"من سلّم عليَّ مرة سلم الله عليه عشراً"3. فالله يجزيه على هذا السلام أفضل مما يحصل بالرد، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً. وكان ابن عمر يسلّم عليه ثم ينصرف ولا يقف لا لدعاء له إلا لنفسه، لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة، قال مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" مع أن فعل ابن عمر إذا لم يفعل مثله

_ 1 أخرجه الهروي في "ذم الكلام" (4/38/758) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/947/1810) بإسناد منقطع. 2 حديث منكر كما قال ابن رجب في "أهوال القبور". 3 لم أجده بهذا اللفظ.

سائر الصحابة إنما يحصل للتسويغ، كأمثال ذلك فيما يفعله بعض الصحابة. وأما القول بأن هذا الفعل مستحب، أو منهي عنه، أو مباح؛ فلا يثبت إلا بدليل شرعي. فالوجوب، والندب، والإباحة، والاستحباب، والكراهة، والتحريم؛ لا يثبت شيء منها إلا بالأدلة الشرعية، والأدلة الشرعية كلها مرجعها إليه، فالقرآن هو الذي بلغه، والسنة هي التي علمها، والإجماع بقوله عرف أنه معصوم، والقياس إنما يكون حجة إذا علمنا أن الفرع مثل الأصل، أو أن علة الأصل في الفرع. وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض فلا يحكم في المتماثلين بحكمين متناقضين، ولا يحكم بالحكم لعلة تارة ويمنعه أخرى مع وجود العلة، إلا لاختصاص إحدى الصورتين بما يوجب التخصيص، فشرعه هو ما شرعه، وسنته هي ما سَنَّها، لا يضاف إليه قول غيره وفعله وإن كان من أفضل الناس إذا وردت سنته، بل ولا يضاف إليه إلا بدليل يدل على الإضافة، ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وعمر وابن مسعود يقولون باجتهادهم، ويكونون مصيبين موافقين لسنته، لكن يقول أحدهم: أقول في هذا برأي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. فإن كان ما خالف سنته فهو شرع منسوخ مبدل، لكن المجتهدون وإن قالوا برأيهم وأخطؤوا فلهم أجر وخطأهم مغفور لهم. وكان الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة ودعا لنفسه كما كانوا يفعلون في حياته، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة، ولا يدخل أحدهم إلى القبر، والسلام عليه قد شرع للمسلمين في كل صلاة، وشرع للمسلمين إذا دخل أحدهم المسجد أي مسجد كان. فالنوع الأول: كل صلاة يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض"1. فقد شرع للمسلمين

_ 1 أخرجه البخاري (831) ومسلم (402) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

في كل صلاة أن يسلّموا على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً وعلى عباد الله الصالحين من الملائكة والإنس والجن. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" 1 وقد روُي عنه التشهد بألفاظ أخر، كما رواه مسلم من حديث ابن عباس2، وكما كان ابن عمر يعلم الناس التشهد. ورواه مسلم من حديث أبي موسى3، لكن مثل تشهد ابن مسعود. ولكن لم يخرج البخاري إلا تشهد ابن مسعود، وكل ذلك سائغ فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فالتشهد أولى. والمقصود؛ أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن المصلي إذا قال: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض، وهذا يتناول الملائكة والإنس والجن، كما قال تعالى عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} 4. والنوع الثاني: السلام عليه عند دخول المسجد، كما في "المسند" و"السنن" عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اكفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك"5.

_ 1 المصدرين السابقين. 2 مسلم (403) . 3 "صحيح مسلم" (404) . 4 سورة الجن: 11. 5 أخرجه أحمد (6/282) والترمذي (314) وابن ماجه (771) وغيرهم، وصحّحه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" (625) .

وروى مسلم في صحيحه1 الدعاء عند دخول المسجد بأن يفتح له أبواب رحمته، وعند خروجه بسؤال الله من فضله. وهذا الدعاء مؤكد في دخول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكره العلماء فيما صنفوه من المناسك لمن أتى إلى مسجده أن يقول ذلك، فإن السلام عليه مشروع عند دخول المسجد والخروج [منه] ، وفي نفس كل صلاة، وهذا أفضل وأنفع من السلام عند قبره وأدوم، وهذا مصلحة محضة لا مفسدة، فبها يرضى الله، ويوصل نفع ذلك إلى رسول الله وإلى المؤمن، وهذا مشروع في كل صلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه، بخلاف السلام عند القبر؛ مع أن قبره من حين دفن لم يمكن أحد من الدخول إليه، لا لزيارة ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك، ولكن كانت عائشة فيه لأنه بيتها، وكانت ناحية عن القبور لأن القبور في مقدمة الحجرة، وكانت هي في مؤخرة الحجرة، ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك. وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به، وإنما دخلت فيه في خلافة عبد الملك بن مروان بعد موت العبادة ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمر، بل موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة، ولم يكن الصحابة يدخلون إلى عند القبر، ولا يقفون عنده خارجاً، مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلاً ونهاراً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام"2. وقال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس"3. وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلّون في مسجده، ويسلمون عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه، ولا يأتون القبر، إذ كان عندهم مما لم يأمرهم به، ولم يسئه لهم، وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام

_ 1 برقم (713) . 2 أخرجه البخاري (1190) ومسلم (1394) . 3 تقدم تخريجه.

عليه في الصلاة، وعند دخولهم المساجد وغير ذلك، ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر، وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضاً، فهكذا رأي من رأى من العلماء هذا جائزاً اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف ولا يقف يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون ذلك، إذ لم يكن هذا سنة سنها لهم. وكذلك أزواجه كنّ على عهد الخلفاء وبعدهم يسافرون للحج، ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك، وكانت أمداد اليمن الذين قال الله فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1 على عهد أبي بكر وعمر يأتون أفواجاً من اليمن للجهاد في سبيل الله، ويصلّون خلف أبي بكر وعمر في مسجده، ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة، ولا يقف في المسجد خارجاً منها، لا لدعاء ولا صلاة ولا سلام ولا غير ذلك، وكانوا عالمين بسنته، كما علمهم الصحابة والتابعون أن حقوقه ملازمة لحقوق الله، وأن جميع ما أمر الله به وأحبه من حقوقه وحقوق رسوله فإن صاحبها يؤمر بها في جميع المواضع والبقاع، فليست الصلاة والسلام عليه عند قبره بأوكد من ذلك في غير ذلك المكان، بل صاحبها مأمور بها حيث كان، إما مطلقاً وإما عند الأسباب المؤكّدة لها، كالصلاة والدعاء والأذان، ولم يكن شيء من حقوقه ولا شيء من العبادات هو عند قبره أفضل منه في غير تلك البقعة، بل نفس مسجده له فضيلة لكونه مسجده، ومن اعتقد أنه قبل القبر لم يكن له فضيلة -إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرون والأنصار وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد بن عبد الملك لما أدخل الحجرة في مسجده- فهذا لا يقوله إلا جاهل مفرط في الجهل، أو كافر، فهو مكذب لما جاء، مستحق للقتل. وكان الصحابة يدعون في مسجده كما كانوا يدعون في حياته، لم يتجدد لهم

_ 1 سورة المائدة: 54.

شريعة غير الشريعة التي علمهم إياها في حياته، وهو لم يأمرهم إذا كان لأحدهم حاجة أن يذهب إلى قبر نبي أو صالح فيصلّي عنده ويدعوه، أو يدعو بلا صلاة، أو يسأله حوائجه، أو يسأله أن يسأل ربه، فقد علم الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بشيء من ذلك، ولا أمرهم أن يخصُّوا قبره أو حجرته لا بصلاة ولا دعاء، لا له ولا لأنفسهم، بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيداً، فلم يقل لهم كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه: إذا كان لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجداً يصلون فيه لله، ليسد ذريعة الشرك، فصلى الله عليه وعلى اله وأصحابه وسلم تسليماً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، قد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فكان إنعام الله به أفضل نعمة أنعم بها على أهل الأرض. وقد دلهم صلى الله عليه وسلم على أفضل العبادات، وأفضل البقاع، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول؛ أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على مواقيتها" قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". سألته عنهن، ولو استزدته لزادني1. وفي"المسند" و"سنن ابن ماجه" عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"2. والصلاة قد سُنَّ للأمة أن تُتَّخَذَ لها مساجد، وهي أحبُّ البقاع إلى الله، كما ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره أنه قال: "أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق"3. ومع هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد- وهو في مرض الموت- نصيحة للأمة، وحرصاً منه

_ 1 أخرجه البخاري (2782) ومسلم (85) . 2 أخرجه أحمد (5/277) وابن ماجه (277) وصحّحه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (412) و"صحيح سنن ابن ماجه" (224) . 3 أخرجه مسلم (671) .

على هذا، كما نعته الله بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -في مرضه الذي لم يقم منه-: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت عائشة: ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرُه، ولكن كره أن يُتَّخَذَ مسجداً2. وعن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه، فقال- وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذّر ما صنعوا3. ومن حكمة الله تعالى أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التي دفن فيها تروي هذه الأحاديث وقد سمِعَتْها منه، وإن كان غيرها من الصحابة سمعها أيضاً، كابن عباس وأبي هريرة وجندب وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد"4. وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة -فيها تصاوير- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرارُ الخلق عند الله يوم القيامة"5. وفي صحيح مسلم عن جندب قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتّخذتُ أبا بكر خليلاً، ألا

_ 1 سورة التوبة: 128. 2 أخرجه البخاري (1330، 1390، 3453، 4441، 4443، 5815) ومسلم (530) . 3 أخرجه البخاري (436، 3454، 4444، 5816) ومسلم (531) . 4 أخرجه البخاري (437) ومسلم (530) . 5 أخرجه البخاري (427) ومسلم (528) . 101

وإن من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"1. وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصَلّوا إليها" 2. وفي "المسند" و"صحيح أبي حاتم" أنه قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد"3.

_ 1 أخرجه مسلم (532) . 2 أخرجه مسلم (972) . 3 أخرجه أحمد (1/405، 435) وابن حبان في "صحيحه" (15/260-261/6847) والطبراني في "المعجم الكبير" (10/رقم: 10413) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (4/140) والبزار (4/151/3420- كشف الأستار) وابن خزيمة في "صحيحه" (789) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/142) . من طريق: زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً. وإسناده حسن. عاصم بن أبي النجود روى له البخاري ومسلم مقروناً، وهو حسن الحديث. وباقي رجال الإسناد رجال الشيخين. والحديث علّقه البخاري في "صحيحه" (7067) قال: "وقال أبو عوانة؛ عن عاصم.. " فذكره. وأخرجه أحمد (1/454) والبزار (4/151/2421- كثف) . من طريق: قيس بن الربيع الأسدي، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبيدة السلماني، عن ابن مسعود به. وهو حسن بما قبله كما قال الشيخ الألباني. والحديث قال عنه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 27) : "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن". وقال أيضاً (8/ 13) : "رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة؛ وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح". وفاته أن يعزوه لأحمد في الموضعين. وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/674) : "إسناده جيد". وقال المحدث أحمد شاكر- رحمه الله- في تحقيقه على "المسند" (3844) : "إسناده صحيح". وحسّن إسناده العلامة الألباني- رحمه الله- في "تحذير الساجد" (ص 19) و "أحكام الجنائز". (ص 278) .

وقد تقدم نهيه أن يُتَّخَذُ قبرُه عيداً، فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلّى للفرائض التي يتقرب بها إلى الله- لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يتخذونها ويصلون بها وينذرون لها- كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم، كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها- لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس- كان نهيهم عن السجود للشمس أولى، فكان الصحابة يقصدون الصلاة والدعاء والذكر في المساجد التي بُنِيَتْ لله دون قبور الأنبياء والصالحين التي نُهوا أن يتخذوها مساجد وإنما هي بيوت المخلوقين، وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون في حياته". ثم ذكر فصلاً في جوابه عن غلو بعض الناس في تعظيما القبور حتى قال: "إن البلاء يندفع عن أهل البلاد أو الإقليم بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين". قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه في (الجواب الباهر) : "وأما ما يظنه بعض الناس أنه يندفع البلاء عن أهل بغداد بقبور ثلاثة: أحمد بن حنبل، وبشر الحافي، ومنصور بن عمار، ويظن بعضهم أنه يندفع البلاء عن أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء؛ الخليل وغيره عليهم السلام، وبعضهم يظن أنه يندفع البلاء عن أهل مصر بنفيسة أو غيرها، أو يندفع عن أهل الحجاز بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البقيع أو غيرهم؛ فكل هذا غلوّ مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم من انتقم منهم، والرسل الموتى ما عليهم إلا البلاغ، وقد بلّغوهم رسالة ربهم، وكذلك نبيّنا قال الله تعالى في حقه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} 1 وقال: {عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2.

_ 1 سورة الشورى: 48. 2 سورة العنكبوت: 18.

وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره، فمن خالف الرسول استحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً" 1. وقال لمن ولاه من أصحابه: "لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً؛ قد بلّغتك"2. وكان أهل المدينة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أهل الدنيا والآخرة، لتمسكهم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وصاروا رعية لغيرهم، ثم تغيروا بعض التغير فجرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك، والذي فعل بهم ذلك وإن كان ظالماً متعدياً فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما فعل، وقد قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} 3. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة، وكذلك الشام كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين، ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم، ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصارى بذنوبهم، واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه، وجعلوه كنيسة، ثم صلح دينهم فأعزهم الله ونصرهم على عدوه لما أطاعوا الله ورسوله، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، فطاعة الله ورسوله هي قطب السعادة وعليها تدور: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 4. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن

_ 1 أخرجه البخاري (4771) . 2 أخرجه مسلم (1831) . 3 سورة آل عمران: 165. 4 سورة النساء: 69.

يعصِهما فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً" 1. ومكة نفسها لا يدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله كما قال الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 2. وكانوا في الجاهلية يعظّمون حرمة الحرم، ويحجون ويطوفون بالبيت، وكانوا خيراً من غيرهم من المشركين، والله لا يظلم مثقال ذرة، فكانوا يكرمون مالا يكرم غيرهم، ويؤتون مالا يؤتاه غيرهم، لكونهم كانوا متمسكين من دين إبراهيم أعظم ما تمسك به غيرهم، وهم في الإسلام إن كانوا أفضل من يغرهم كان جزاؤهم بحسب فضلهم، وإن كانوا أسوأ عملاً من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيئاتهم، فالمساجد والمشاعر إنما تنفع فضيلتها لمن عمل فيها بطاعة الله، وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب، وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهي عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان بالعراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: "إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الرجل عمله"3. والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكنى الحرمين باتفاق العلماء، ولهذا كان سكنى الصحابة بالمدينة أفضل لهجرة. والله هو الذي خلق الخلق وهو الذي يهديهم ويرزقهم وينصرهم، وكل من

_ 1 أخرجه أبو داود (1097) وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" (238) . 2 سورة إبراهيم: 37. 3 أخرجه أبو داود السجستاني في "الزهد" (رقم: 273) وعبد الله بن أحمد في زوائده على "الزهد" (2/ 90- ط. دار النهضة) أو رقم (193) والدينوري في "المجالسة" في "مصنفه" (6/154/ و 8/182) ووكيع في "أخبار القضاة" (3/200) وأبو نعيم في "الحلية" (1/205) وابن سعد في "الطبقات" (4/ 63) بأسانيد مرسلة.

سواه لا يملك شيئاً من ذلك، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1. وقد فسّروها بأن يؤذن للشافع والمشفوع له جميعاً، فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد الشفاعة قال: "فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمده بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن، فيقال لي: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، قال: فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة"2 وكذلك ذكره في المرة الثانية والثالثة. ولهذا قال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} 3. فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله. وقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} استثناء منقطع؛ أي: من شهد بالحق وهم يعلمون، هم أصحاب الشفاعة، منهم الشافع، ومنهم المشفوع له. وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ فقال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت حرصك على الحديث؛ أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" رواه البخاري4. فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصاً، وقال في الحديث: "إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلّوا عليّ، فإنه من صلّى عليّ مرة صلى الله عليها بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت عليه شفاعتي يوم القيامة"5. فالجزاء من جنس العمل، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من صلّى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، قال:

_ 1 سورة سبأ: 22- 23. 2 تقدم تخريجه. 3 سورة الزخرف: 86. 4 برقم (99) . 5 أخرجه مسلم (384) .

"ومن سأل لي الوسيلة حلّت عليه شفاعتي يوم القيامة" ولم يقل: "كان أسعد الناس بشفاعتي " بل قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه". فعُلِمَ أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال وإن كان صالحاً، كسؤال الوسيلة للرسول، فكيف بما لم يأمر به من الأعمال بل نهى عنه، فذاك لا ينال به خيراً لا في الدنيا ولا في الآخرة، مثل غلوّ النصارى في المسيح، فإنه يضرهم ولا ينفعهم، ونظير هذا في الصحيح عنه أنه قال: "إن لكل نبيّ دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً"1. وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد، فبحسب توحيد العبد لربه وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها، وهو سبحانه علّق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان به وتوحيده وطاعته، فمن كان أكمل في ذلك كان أحق بتولي الله له بخير الدنيا والآخرة، ثم جميع عباده مسلمهم وكافرهم هو الذي رزقهم، وهو الذي يدفع عنهم المكاره، وهو الذي يقصدونه في النوائب، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} 2. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} 3 أي: بدلاً عن الرحمن هذا أصح القولين، كقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} 4 أي: لجعلنا بدلاً منكم، كما قاله عامة المفسرين، ومنه قول الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان أي: بدلاً من ماء زمزم، فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم المكاره إلا الله، قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ

_ 1 أخرجه البخاري (7474) ومسلم (199) . 2 سورة النحل: 53. 3 سورة الأنبياء: 42. 4 سورة الزخرف: 60.

الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} 1. ومن ظن أن أرضاً معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقاً بخصوصها أو لكونها فيها قبور الأنبياء والصالحين فهو غالط، فأفضل البقاع مكة وقد عذب الله أهلها عذاباً شديداً عظيماً، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} 2. ومن فصول (الجواب الباهر لمن سأل من ولاة الأمر عما أفتى به في زيارة المقابر) كلام في أن الزيارة المتضمنة ترك مأمور أو فعل محظور ليست بمشروعة. قال شيخ الإسلام- قدّس الله روحه-: "وقد تنازع المسلمون في زيارة القبور؛ فقال طائفة من السلف: إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري ولم تشتهر، ولما ذكر البخاري (باب زيارة القبور) احتج بحديث المرأة التي بكت على القبر. ونقل ابن بطال عن الشعبي قال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي. وقال النخعي: كانوا يكرهون زيارة القبور، وعن ابن سيرين مثله. قال: وقد سئل مالك عن زيارة القبور فقال: قد كان نهى عنه عليه السلام ثم أذن. فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيراً لم أر بذلك بأساً وليس من عمل الناس. ورُوي عنه أنه كان يضعف زيارتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن زيارة القبور باتفاق العلماء؛ فقيل: لأن ذلك يفضي إلى الشرك. وقيل: لأجل النياحة عندها. وقيل: لأنهم كانوا يتفاخرون بها. وقد ذكر طائف من العلماء في قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} 3 أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتى وممن ذكره ابن عطية في تفسيره. قال: وهذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور، أي: حتى جعلتم أشغالكم

_ 1 سورة الملك: 20- 21. 2 سورة النحل: 112- 113. 3 سورة التكاثر: 1- 2.

القاطعة عن العبادة والعلم زيارة القبور تكثرا بمن سلف وإشادة بذكره. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زياره القبور؛ فزوروها ولا تقولوا هجراً" 1، وكان نهيه في معنى الآية. ثم أباح الزيارة بَعْدُ لمعنى الاتّعاظ، لا لمعنى المباهاة والتفاخر، وتسنيمها بالحجارة الرخام، وتكوينها سرباً2، وبنيان النواويس عليها. هذا لفظ ابن عطية. والمقصود؛ أن العلماء متفقون على أنه كان نهى عن زيارة القبور، ونهى عن الانتباذ في الدُّبّاء3 والحنتم4 والمزفت5 والنقير6. واختلفوا هل نسخ ذلك؟ فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك؛ لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة، ولهذا لم يخرج البخاري ما فيه نسخ عام. وقال الأكثرون: بل نسخ ذلك. ثم قالت طائفة منهم: إنما نسخ إلى الإباحة، فزيارة القبور مباحة لا مستحبة، وهذا قول في مذهب مالك وأحمد، وقالوا لأن صيغة أفعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة، كما قال في الحديث: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنتُ نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا، ولا تشربوا مسكراً"7. وقد رُوي: (ولا تقولوا هجراً) . وهذا يدل على أن النهي كان لما يقال عندها من الأقوال المنكرة سداً للذريعة، كالنهي عن الانتباذ في الأوعية كان، لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدرى بذلك، فيشرب الشارب الخمر وهو لا يدري.

_ 1 أخرجه النسائي (1/285 و 2/329) بهذا اللفظ. 2 كذا؛ وفي "مجموع الفتاوى": (1/285 و 2/ 329) : "وتلوينها سرفاً". 3 الدُّبّاء: القرع. 4 الحنتم: جرار مدهونة خُضر، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثم اتسع فقيل للخزف كله: حنتم. 5 المزفّت: هو الإناء الذي طُلِيَ بالزفت. 6 المُقير: هو الإناء الذي طُلِيَ بالقار؛ وهو شيء أسود يثبه الزفت. 7 أخرجه مسلم (977) .

وقال الأكثرون: زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، وكما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات، وثبت في الصحيح: أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تِفتنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم" 1. وهذا في زيارة قبور المؤمنين، وأما زيارة قبر الكافر فرخّص فيه لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الاستغفار لهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة"2. والعلماء المتنازعون، كل منهم يحتج بدليل شرعي، ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر، فإن العلماء ورثة الأنبياء، قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 3. والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار، فإن الزيارة إذا تضمنت أمراً محرماً من شرك أو كذب أو ندب أو نياحة، وقول هجر؛ فهي محرمة بالإجماع، كزيارة المشركين بالله والساخطين لحكم الله، فإن هؤلاء زيارتهم محرمة، فإنه لا يقبل دين إلا الإسلام، وهو الاستسلام لخالقه وآمره، فنسلم لما قدره الله وقضاه،

_ 1 أخرجه بهذا اللفظ أحمد (6/ 76) أو رقم (24585) بإسناد ضعيف. فقول شيخ الإسلام أابن تيمية،: "وثبت في الصحيح..". فيه نظر؛ لأن لفظ الصحيح هو: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين.. إلى قوله: نسأل لنا ولكم العافية". 2 أخرجه مسلم (976) . 3 سورة الأنبياء: 78- 79.

ونسلم لما يأمر به ونحبه، وهذا نفعله وندعو إليه، وذلك نسلمه وتتوكل فيه عليه، فنرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، ونقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مثل قوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 1 وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} 2. والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت لقرابته أو صداقته؛ فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة، كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة". فهذه الزيارة كان ينهى عنها لما كانوا يصنعون من المنكر، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها، لأن فيها مصلحة وهو تذكر الموت، فكثير من الناس إذا رأى قريبه وهو مقبور ذكر الموت واستعد للآخرة، وقد يحصل منه جزع فيتعارض الأمران، ونفس الجنس مباح إن قصد به طاعة، وإن عمل معصية كان معصية. وأما النوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها- كالصلاة على الجنازة- فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور. وأما زيارة قباء؛ فيستحب لمن أتى المدينة أن يأتي قباء فيصلي في مسجدها، وكذلك يستحب له عند الجمهور أن يأتي البقيع وشهداء أحد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقاً من دون الله، ولا يجوز أن تتخذ مساجد، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت. والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى عند

_ 1 سورة البقرة: 153. 2 سورة هود: 114- 115.

قبورهم، وهذا مشروع، بل هو فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين، ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين، ولو ندبه وناح لكان أيضاً محرماً، وهو دون الأولى. فمن احتج بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع وأهل أحد على الزيارة التي يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة، فهو أعظم ضلالاً ممن يحتج بصلاته على الجنازة على أنه يجوز أنه يشرك بالميت، ويُدْعى من دون الله، ويندب ويناح عليه، كما يفعل ذلك من يستدل بهذا الذي فعله الرسول- وهو عبادة لله وطاعة له، يثاب عليه الفاعل وينتفع المدعو له ويرضى به الرب- على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالته، وإيذاء للميت، وظلم من العبد لنفسه، كزيارة المشركين وأهل الجزع، الذين لا يخلصون له الدين، ولا يسلمون لما حكم به سبحانه وتعالى، فكل زيارة تتضمن فعل ما نهى عنه وترك ما أمر به كالتي تتضمن الجزع، وقول الهجر، وترك الصبر، أو تتضمن الشرك، أو دعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله، فهي منهي عنه. وهذه الثانية أعظم إثماً من الأولى، ولا يجوز أن يصلّى إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها" رواه مسلم في صحيحه1. فزيارة القبور على وجهين: وجه نهى عنه صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أنه غير مشروخ، وهو أن يتخذها مساجد ويتخذها وثناً، ويتخذها عيداً، فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان، ولا أن تُتَّخَذَ عيداً يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى. وأما الزيارة الشرعية؛ فهي مستحبة عند الأكثرين، وقيل: مباحة، وقيل: كلها منهي عنه كما تقدم. والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أنه يحمل المطلق من كلام العلماء على المقيّد.

_ 1 برقم (972) .

وتفصيل الزيارة على ثلاثة أنواع: منهي عنه، ومباح، ومستحب؛ وهو الصواب. قال مالك وغيره لا تأت إلا هذه الآثار: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء، وأهل البقيع، وأحد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين، كان يصلي يوم الجمعة في مسجده، ويوم السبت يذهب إلى قباء، كما في الصحيحين عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين"1. وأما أحاديث النهي فكثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد". ثم ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وقد سبق ذكرها غير مرة. ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". رواه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو حاتم في "صحيحه". وفي "سنن أبي داود" عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني". وفي موطأ مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ثم ذكر الأثر المشهور في "سنن سعيد بن منصور". وقال: فلما أراد الأئمة اتباع سنته في زيارة قبره والسلام طلبوا ما يعتمدون عليه من سنته، فاعتمد الإمام أحمد على الحديث الذي في السنن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". وعنه أخذ أبو داود ذلك، فلم يذكر في زيارة قبره غير هذا الحديث، وترجم عليه (باب زيارة القبر) مع أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل، فإنه لا يدل على كل ما يسميه الناس زيارة باتفاق المسلمين، ويبقى الكلام المذكور فيه هل هو السلام عند القبر- كما كان من دخل على عائشة يسلم عليه- أو يتناول هذا والسلام عليه من خارج الحجرة؟ فالذين استدلوا به جعلوه متناولاً لهذا وهذا، وهو غاية ما كان عندهم في هذا الباب عنه صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يسمع السلام من القبر، وتبلغه الملائكة الصلاة والسلام عليه من البعيد كما في النسائي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن لله

_ 1 تقدم تخريجه.

ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام"1. وفي "السنن" عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ" قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ؟ فقال: "إن الله حرَّمَ على الأرض أن تأكلَ لحوم الأنبياء" 2 صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً. وذكر مالك في "موطئه" أن عبد الله بن عمر كان يأتي فيقول: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت" ثم ينصرف. وفي رواية: كان إذا قدم من سفر3. وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة إذ لم يكن عنده إلا أثر ابن عمر، وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة الصلاة والسلام عليه- فقد كرهه مالك، وذكر أنه بدعة لم يفعلها السلف، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والله تعالى أعلم". هذا ما وجاناه من (الجواب الباهر) وبه علم مذهب الشيخ في زيارة القبور، وأن ما تكلم به الخصوم من غلاة الشافعية ونحوهم هو محض بهتان وزور، وله رضي الله تعالى عنه كتاب آخر في مباحث الزيارة، بحث فيه مع بعض من اعترض عليه من علماء المالكية4، وهو أبسط مما ذكرنا، وفيه مسائل مهمة أيضاً، فنذكر منه ما يخص المقام:

_ 1 أخرجه النسائي (3/43) وفي "عمل اليوم والليلة" (66) بسند صحيح. 2 أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91، 92) وابن ماجه (1085، 1636) وغيرهم. 3 أخرجه مالك في "الموطأ" (1/107/68) 9- كتاب قصر الصلاة فيه السفر (22) باب ما جاء فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والبيهقي (5/345) والقاضي الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" (رقم: 98، 99، 100) بإسناد موقوف صحيح، كما قال الألباني. 4 وهو كتاب "الرد على الأخنائي قاضي المالكية واستحباب زيارة خبر البرية الزيارة الشرعية". وقصت على تحقيق الكتاب- ولله الحمد- وهو تحت الطبع في المكتبة العصرية ببيروت.

"قال المعترض المالكي: وورد في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية، ويحصل بها الترجيح. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: لو ورد من ذلك ما هو صحيح لكان إنما يدل على مطلق الزيارة، وليس في جواب الاستفتاء نهي مطلق عن الزيارة، ولا حكى في ذلك نزاع في الجواب، وإنما فيه ذكر النزاع فيمن لم يكن سفره إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وحينئذ فلو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يتناول محل النزاع، ولا فيه رد على ما ذكره المجيب من النزاع والإجماع. الثاني: أنه لو قدر أنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة لكان المراد بها هو المراد بقول من قال من العلماء: إنه يستحب زيارة قبره، ومرادهم بذلك السفر إلى مسجده، وفي مسجده يسلم عليه ويصلى عليه، ويدعى له ويُثنى عليه، ليس المراد أنه يدخل إلى قبره ويصلى عليه، وحينئذ فهذا المراد قد استحبه المجيب، وذكر أنه مستحب بالنص والإجماع، فمن حكى عن المجيب أنه لا يستحب ما استحبه علماء المسلمين من زيارة قبره على الوجه المشروع فقد استحق ما يستحقه الكاذب المفتري، وإذا كان يستحب هذا وهو المراد بزيارة قبره فزيارة قبره بهذا المعنى من مواقع الإجماع لا من موارد النزاع. الثالث: أن نقول: قول القائل: إنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة قول لم يذكر عليه دليلاً. فإذا قيل له: لا نسلم أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب، وهو لم يذكر شيئاً من تلك الأحاديث كما ذكر قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". وكما ذكر زيارته لأهل البقيع وأحد، فإن هذا صحيح، وهنا لم يذكر شيئاً من الحديث الصحيح، فبقي ما ذكره دعوى مجردة تقابل بالمنع. الوجه الرابع: أن نقول: هذا قول باطل، لم يقله أحد من علماء المسلمين

العارفين بالصحيح، وليس في الأحاديث التي رُويت بلفظ زيارة قبره حديث صحيح عند أهل المعرفة، ولم يخرج أرباب الصحيح شيئاً من ذلك ولا أرباب السنن المعتمدة، كسنن أبي داود والنسائي والترمذي ونحوهم، ولا أهل المساند التي من هذا الجنس، كمسند أحمد وغيره، ولا في موطأ مالك، ولا في مسند الشافعي ونحو ذلك شيء من ذلك، ولا احتج إمام من أئمة المسلمين -كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم- بحديث فيه ذكر زيارة قبره، فكيف يكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث؟ ومن أين لهذا وأمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة وهو لا يعرف هذا الشأن؟! الوجه الخامس: قوله: وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح، فيقال له: اصطلاح الترمذي ومن بعده أن الأحاديث ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف. والضعيف قد يكون موضوعاً فعلم أنه كذب، وقد لا يكون كذلك، فما ليس بصحيح إن كان حسناً على هذا الاصطلاح احتج به، وهو لم يذكر حديثاً وبين أنه حسن يجوز الاستدلال به، فنقول له: لا نسلم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به، وهو لم يذكر إلا دعوى مجردة فتقابل بالمنع. الوجه السادس: أن يقال: ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به، بل كلها ضعيفة، بل موضوعة، كما قد بسط في مواضع، وذكرت هذه الأحاديث، وذكرت كلام الأئمة عليها حديثاً حديثاً، بل ولا عرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره البتة فلم يكن هذا اللفظ معروفاً عندهم، ولهذا كره مالك التكلم بخلاف لفظ زيارة القبور مطلقاً، فإن هذا اللفظ معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وفي القرآن {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} لكن معناه عند الأكثرين الموت، وعند طائفة هي زيارتها للتفاخر بالموتى والتكاثر، وأما لفظ قبر النبي صلى الله عليه وسلم المخصوص فلا يعرف لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وكل ما يروى فيه فهو ضعيف، بل هو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث، كما قد بسط هذا في مواضع.

الوجه السابع: أن يقال: الذين أثبتوا استحباب السلام عليه عند الحجرة- كمالك، وابن حبيب، وأحمد بن حنبل، وأبي داود- احتجوا بفعل ابن عمر، كما احتج بذلك مالك وأحمد وغيرهما، وأما الحديث الذي رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام،." فهذا عمدة أحمد وأبي داود وابن حبيب وأمثالهم، وليس في لفظ الحديث المعروف في السنن والمسند "عند قبري" لكن عرفوا أن هذا هو المراد، وأنه لم يرد على كل مسلم عليه في صلاة في شرق الأرض وغربها مع أن هذا المعنى إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام، وإن كان المراد السلام عليه عند قبره- كما فهمه عامة العلماء- فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة؟ هذا مما تنازع فيه الناس، وقد توزعوا في دلالته: فمن الناس من يقول هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره، كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يرد عليهم، فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم، وهذا قد جاء عموماً في حق المؤمنين "ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"1. قالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره، بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة وكالسلام عليه إذا دخل المسجد وخرج، وهذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2 وهذا السلام قد ورد أنه من سلم عليه مرة سلم الله عليه عشراً، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، فأما أثر "من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً" فهو ثابت من وجوه، بعضها في الصحيح كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلّى عليّ مرة

_ 1 تقدم تخريجه. 2 سورة الأحزاب: 56.

صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة". وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه، كما في حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً"1. وأما السلام؛ فقد جاء أيضاً في أحاديث، من أشهرها حديث عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن سليمان مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه، فقال: "إنه جاءني جبريل فقال: أما يرضيك يا محمد أن الله يقول: إنه لا يصلّي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلّم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً"2. وقد رُوي في عدة أحاديث أن الله يصلي على كل من صلى عليه، ويسلم على كل من سلم عليه، ولم يذكر عدداً لكن الحسنة بعشر أمثالها، فالمقيد يفسر المطلق. قال القاضي عياض من رواية عبد الرحمن بن عوف عنه عليه السلام قال: "لقيتُ جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول من سلّم عليك سلمت عليه، ومن صلى عليك صليت عليه"3. قال: ونحوه من رواية أبي هريرة، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعبد الله بن أبي طلحة. قلتُ: وبسط الكلام على هذه الأحاديث له موضح آخر4.

_ 1 أخرجه مسلم (408) . 2 أخرجه أحمد (4/30) والنسائي (3/445) وفي "عمل اليوم والليلة" (60) وغيرهما. 3 أخرجه أحمد (1/191) والحاكم (1/222- 223) والبيهقي (2/370- 371) وغيرهم. وإسناده ضعيف؛ فيه عبد الرحمن بن أبي الحويرث، وهو ضعيف. لكن الحديث صحيح بالشواهد. 4 انظرها في "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" لابن القيم.

والمقصود هنا؛ أن ما امر الله به من الصلاة والسلام عليه هو كما أمر به صلى الله عليه وسلم من الدعاء له بالوسيلة، وهذا أمر اختصَّ هو به، فإن الله أمر بذلك في حقه بعينه مخصوصاً بذلك، وإن كان السلام على جميع عباد الله الصالحين مشروعاً على وجه العموم، وقد قيل: إن الصلاة تكره على غير الأنبياء، وغلا بعضهم فقال تكره على غيره من الأنبياء، وكذلك قال بعض المتأخرين في السلام على غير الأنبياء، ولكن الصواب الذي عليه عامة العلماء أنه يسلم على غيره، وأما الصلاة فقد جوزها أحمد وغيره والنزاع فيها معروف. وفي تفسير شيبان عن قتادة قال: حدث أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين" 1. وهكذا رواه ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة، ورواه ابن أبي حاتم وغيره، ولم يذكروا فيه سماع قتادة له، وهو في تفسير سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً. وقد قال الله تعالى في كتابه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} 2 وقال: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 وقال لما ذكر نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وهارون وإلياسين: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} 4 {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى

_ 1 أخرجه أبو الشيخ في (طبقات المحدثين بأصبهان، (2/10-11/ 92) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/335) من طريق: إبراهيم بن أيوب، ثنا النعمان بن عبد السلام، عن أبي العوام، عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعاً. وإبراهيم بن أيوب الفرساني "مجهول". انظر "الجرح والتعديل" (2/ 89) . وأخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه" (7/380) بإسناد فيه مجهول أيضاً. وأخرجه ابن أبي عاصم في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، (رقم:70) وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" (4/34) . من طريق: شيبان، عن قتادة، قال: حدثنا أنى، عن أبي طلحة.. فذكره مرفوعاً. وأخرجه ابن أبي عاصم (رقم: 69) من طريق: ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس مرفوعاً. 2 سورة النمل: 59. 3 سورة الصافات: 181- 182. 4 سورة الصافات: 78- 79.

إِبْرَاهِيمَ} 1 {وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} 2 {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} 3. والمقصود هنا؛ أن هذا السلام- المأمور به خصوصاً، والمشروع في الصلاة وغيرها عموماً، على كل عبد صالح كقول المصلي السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإن هذا -ثابت في التشهدات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها، مثل حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين، وحديث أبي موسى وابن عباس اللذين رواهما مسلم، وحديث ابن عمر وعائشة وجابر وغيرهم التي في المساند والسنن، وهذا السلام لا يقتضي رداً من المسلم عليه، بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين واستغفاره لهم، فيه الأجر والثواب من الله، ليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء بخلاف سلام التحية فإنه مشروع بالنص والإجماع في حق كل مسلم، وعلى المسلَّم عليه أن يرد السلام ولو كان المسلِّم عليه كافراً، فإن هذا من العدل الواجب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد على اليهود إذا سلموابقوله: "وعليكم". وإذا سلّم على معيّن تعين الرد، وإذا سلّم على جماعة فهل ردهم فرض على الأعيان أو على الكفاية؟ على قولين معروفين، هما قولان في مذهب أحمد وغيره. وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن هو من هذا الباب، ولهذا رُوي أن الميت يرد السلام مطلقاً. فالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم في مسجده وسائر المساجد وسائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وأما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعاً لما كان ممكناً بدخول من يدخل على عائشة، وأما تخصيص هذا السلام والصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع، وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: منهم من ذكر استحباب الصلاة والسلام عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن

_ 1 سورة الصافات: 108- 109. 2 سورة الصافات: 119- 120. 3 سورة الصافات: 129- 130.

يصلي في المسجد استحب أيضاً أن يأتي إلى القبر ويصلي ويسلم، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد. ومنهم من لم يذكر إلا الثاني فقط، وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط. أما النوع الأول فهو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المجسد وغير هذا المسجد، وأما النوع الثاني فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلد والغرباء، سواء فعله مع الأول أو مجرداً عنه، كما ذكر ذلك ابن حبيب وغيره إذا دخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "باسم الله، وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، السلام علينا من ربنا، وصلى الله وملائكته على محمد، اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وجنتك، وجنبني من الشيطان الرجيم". ثم اقصد إلى الروضة وهي ما بين القبر والمنبر، فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر، تحمد الله فيها، وتسأله تمام ما خرجت إليه والعون عليه، وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتك وفي الروضة أفضل. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة" 1. ثم تقف بالقبر متواضعاً، وتصلي عليه، وتثني بما يحضر، وتسلم على أبي بكر وعمر، وتدعو لهما، وأكثر من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء. قلت: وهذا الذي ذكره من استحباب الصلاة في الروضة قول طائفة، وهو المنقول عن الإمام أحمد في مناسك المروزي. وأما مالك فنُقِلَ عنه: يستحب التطوع في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: لا يتعين لذلك موضع من المسجد، وأما الفرض فيصليه في الصف الأول مع الإمام بلا ريب، والذي ثبت في الصحيح عن سلمة بن الأكوع أنه كان

_ 1 أخرجه أحمد (3/64) بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري (7335) من حديث أبي هريرة بلفظ: "ما بين بتي ومنبري..". وأخرجه البخاري (1195) ومسلم (1390) من حديث عبد الله بن زيد باللفظ السابق.

يتحرّى الصلاة عند الأسطوانة. وأما ما قصد تخصيصه بالصلاة فيه فالصلاة فيه أفضل، وأما مقامه فإنما كان يقوم فيه إذا كان إماماً يصلي بهم الفرض، والسنة أن يقف الإمام وسط المسجد أمام القوم، فلما زيد في المسجد صار موقف الإمام في الزيادة. والمقصود؛ معرفة ما ورد عن السلف من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد وعند القبر، ففي "مسند أبي يعلى" الموصلي: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم- من ولد ذي الجناحين-، حدثنا علي بن عمر، عن أبيه علي بن الحسين، أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه، فقال: ألا أحدّثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"1. وهذا الحديث مما أخرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل صحيح الحاكم، فإن فيه أحاديث كثيرة يظهر أنها كذب موضوعة، فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره. فهذا علي بن الحسين زين العابدين وهو من أجل التابعين علماً وديناً، حتى قال الزهري: ما رأيتُ هاشمياً مثله. وهو يذكر هذا الحديث بإسناده ولفظه: "لا تتخذوا بيتي عيداً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته، كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته، بل قد نهى عن تخصيص

_ 1 أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1/361- 362/ 469) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (4/345) والبزار (1/339- 340/707) والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/186) والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (2/52-53) وعبد الرزاق في "مصنفه" (3/577/6726) والقاضي إسماعيل الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" (رقم: 20) . وانظر: "تحذير الساجد" (ص95) .

بيته بهذا، وهذا وحديث الصلاة مشهور في "سنن أبي داود" وغيره من حديث عبد الله بن نافع، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 1. وهذا حديث حسن، ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به، قال يحيى بن معين: هو ثقة. وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، هو لين تعرف وتنكر. قلت: ومثل هذا قد يخاف أنه يغلط أحياناً، فإذا كان لحديثه شواهد عُلِمَ أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع. كما رواه سعيد بن منصور في "سننه"؛ حدثنا حبان، حدثنا علي، حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني ". وقال سعيد أيضاً: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند عند القبر فناداني -وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء، فقلتُ: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلتَ المسجد فسلم عليه. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء"2. رواه إسماعيل بن إسحاق في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله: "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". لأن مذهبه أن القادم من سفر والمريد للسفر سلامه أفضل، وأن الغرباء يسلّمون إذا دخلوا وخرجوا، وهذه مزية على من بالأندلس، والحسن بن الحسن وغيره لا يفرقون بين

_ 1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (3/577/ 6694) وابن أبي شيبة (4/345) والقاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي في "فضل الصلاة" (30) .

أهل المدينة والغرباء، ولا بين المسافر وغيره. فرواه القاضي إسماعيل عن إبراهيم بن حمزة، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهل بن أبي سهل قال: جئت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن الحسن يتعشّى في بيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فجنته، فقال: ادْنُ فتعشقَّ، قال: قلت: لا أريده. قال: مالي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا دخلت فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في بيوتكم، ولا تجعلوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبياثهم مساجد، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" ولم يذكر قول الحسن. فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد، وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من السلف، كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد، وهذا مشروع في كل مسجد، وهذا الحسن بن الحسن المثنى وهو من التابعين وهو من ظهر علي بن الحسين هذا ابن الحسن وهذا ابن الحسين، وقد ذكر القاضي عياض هذا عن الحسن بن علي نفسه -رضي الله عنهم أجمعين- فقال: وعن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حيثما كنتم فصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني" قال: وعن الحسن بن علي: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". قلت: والصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد مأثور عنه صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من الصحابة والتابعين، مثل الحديث الذي في المسند والترمذي وابن ماجه عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"1 هذا لفظ الترمذي، وفي غيره أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وفي سنن أبي داود عن أبي أسيد أو أبي حميد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل..! وذكر الحديث2. وقال الضحاك بن عثمان: حدثنا سعيد

_ 1 تقدم. 2 وقد تقدم.

المقبري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل اللهم أجرني من الشيطان الرجيم". أخرجه ابن خزيمة في صحيحه1. قال القاضي عياض: ومن مواطن الصلاة والسلام عليه دخول المسجد، قال أبو إسحاق بن شعبان: وينبغي لمن دخل المسجد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ويترحم عليه وعلى آله، ويبارك عليه وعلى آله، ويسلم عليه تسليماً، ويقول: اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك. قال: وقال عمرو بن دينار في قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 2. قال: إن لم يكن في البيت أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته. قال: وقال ابن عباس: المراد بالبيوت المساجد. وقال النخعي: إذا لم يكن في البيت أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال: وعن علقمة قال: إذا دخلتُ المسجد أقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله وملائكته على محمد. قال: ونحوه عن كعب إذا دخل وخرج ولم يذكر الصلاة. قال: واحتج ابن شعبان لما ذكره بحديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا دخل المسجد. قال: ومثله عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وذكر السلام والرحمة. قال: وروى ابن وهب، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخلت المسجد فصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم، وقل اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبوبى رحمتك". وفي رواية أخرى: "فليسلّم وليصل ويقول إذا خرج: اللهم إني أسألك من فضلك". وفي أخرى: "اللهم احفظني من الشيطان". وعن محمد بن سيرين: كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد: صلى الله وملائكته على محمد، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، باسم الله دخلنا وباسم الله خرجنا، وعلى الله توكلنا. وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك. قلت هذا فيه حديث مرفوع في "سنن أبي داود" وغيره أنه يقال

_ 1 برقم (452) وابن ماجه (730) وابن حبان في "صحيحه" (1/رقم:321) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (90) وغيرهم. 2 سورة النور: 61.

عند دخول المسجد: "اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا"1. قال القاضي عياض: وعن أبي

_ 1 قوله: يقال عند دخول المسجد. وهم؛ وقد نبّهتُ عليه في تحقيقي على كتاب "الرد على الأخنائي" فالدعاء مرري عند الدخول إلى المنزل. والحديث أخرجه: أبو داود (5069) والطبراني في "المعجم الكبير" (3/ رقم: 3452) وفي "مسند الشاميين " (1674) وابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/172) . من طريق: محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً. وإسناده ضعيف؛ فيه علتان: الأولى: الانقطاع؛ فمحمد بن إسماعيل لم يسمع من أبيه. الثانية: رواية شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري مرسلة. قال المنذري في "مختصره على سنن أبي داود" (8/4) : "في إسناده محمد بن إسماعيل وأبوه؛ وفيهما مقال". وقال الحافظ في "نتائج الأفكار": "هذا حديث غريب". أما قول النووي في "الأذكار" (ص 50- ط. الهدى) : "لم يضعفه أبو داود. فقد تعقّبه الحافظ ابن حجر بقوله: "يريد في السنن؛ وإلا فقد ضعّف راويه في أسنلة الآجري، فقال: محمد بن إسماعيل بن عياش ليس بذاك، وسألت عنه عمرو بن عثمان؛ فدفعه. وقال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه فحملوه على أن حدّث عنه. قلت:- القائل هو الحافظ- ولعله كانت له من أبيه إجازة، فأطلق فيها التحديث، أو يجوز في إطلاق التحديث على الوجادة. وقد أخرج أبو داود بهذا الإسناد أربعة أحاديث يقول في كل منها: قال محمد بن عوف: وقرأته في أصل محمد بن إسماعيل بن عياش. وإسماعيل وإن كان فيه مقال؛ لكن هذا من روايته عن شامي؟ فتثبل عند الجمهور. وفي السند علّة أخرى؛ قال أبو حاتم: رواية شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري مرسلة. وقد حكى الشيخ الخلاف في اسم أبي مالك، وبقي منه أنه قيل: عامر، وقيل: عبيد الله- بالإضافة-. ومن سمّاه كعباً قال: ابن عاصم. وقال بعضهم: كعب بن كعب. والتحقيق؛ أن أبا مالك الأشعري ثلاثة؛ الحارث بن الحارث، وكعب بن عاصم؛ وهذان مشهوران باسميهما، ولا اختلاف في كنينهما، والثالث هو المختلف في اسمه، وأكثر ما يرد في الروايات بكنتيه وهو راوي هذا الحديث. وقد أخرجه الطبراني في مسند الحارث بن الحارث؛ فوهم. فإنه غيره، والله أعلم" اهـ. قلت: وكلام الحافظ هنا نفيس ومتين قد لا تجده في مكان آخر. ومنه تعلم وهم من حسّن الحديث أو صحّحه. وممن وقع في هذا الوهم الشيخ عبد القادر الأرنؤوط- سلَّمه الله- في تحقيقه على "الإذكار" فحسّنه. وصحّح إسناده هو وشعيب في تحقيقهما على "زاد المعاد" (2/282) . وقد أحسن صنعاً من قام على تحقيق "زاد المعاد" (2/299) ط. مؤسسة الريان- فأشاروا إلى تضعيف الشيخ ناصر للحديث بالعزو إلى "ضعيف سنن أبي داود". فالشيخ رحمه الله كان قد مال إلى تصحيح الحديث في "الصحيحة" (رقم: 225- الطبعة القديمة) وفي "الكلم الطيب" (ص50. رقم: 61) و"صحيح الجامع" (839) . لكنه تراجع عن تصحيحه وضعّفه في "ضعيف سنن أبي داود" (1091) وحذفه من "صحيح الكلم الطيب" الطبعة الجديد، وكذا من "السلسلة الصحيحة".

هريرة: "إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل "اللهم افتح لي" وقلت: وروى ابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن ضرار بن مرة مجاهد في هذه الآية {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} قال: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله، وإذا دخلت على أهلك فقل: السلام عليكم. قلت: والآثار مبسوطة في مواضع. والمقصود هنا؛ أن تعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه وبين سلام التحية الموجب للرد، الذي يشترك فيه كل مؤمن حي، ويرد فيه على الكافر، ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم -إذا دخلوا المسجد لصلاة أو اعتكاف أو تعليم أو تعلم أو ذكر لله ودعاء له ونحو ذلك مما شرع في المساجد -لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك، ولا يقفون خارج الحجرة، كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضاً لزيارة قبره، فلم يكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضاً يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه، وبينوا أن السلف لم يفعلوها، كما ذكره مالك في (المبسوط) وقد ذكره أصحابه، كأبي الوليد الباجي، والقاضي عياض وغيرهما.

قيل لمالك: إن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلا يفعلون ذلك؛ أي يقفون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون عليه، ويدعون له، ولأبي بكر وعمر، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة والأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة. فقال: لم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. فقد كره مالك رحمه الله هذا، وبين أنه لم يبلغه هذا عن أهل العلم بالمدينة ولا عن صدر هذه الأمة وأولها وهم الصحابة، وأن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم، بل هم في ذلك ليسوا دون سائر الأمصار، فإذا لم يكره لأولئك زيارة القبور بل يستحب لهم زيارتها عند جمهور العلماء -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل- فأهل المدينة أولى أن لا يكره لهم، بل يستحب لهم زيارة القبور كما يستحب لغيرهم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قبر النبي صلى الله عليه وسلم خص بالمنع شرعاً وحِسّاً، كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة، كما يزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن، وهذا لعلو قدره وشرفه لا لكون غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين فضلاً عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها. ومن هنا غلط طائفة من الناس، يقولون: إذا كانت زيارة قبر آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والاخرين صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء ظنوا أن زيارة قبر الميت مطلقاً هو من باب الإكرام والتعظيم له، والرسول صلى الله عليه وسلم أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد، وظنوا أن ترك الزيارة فيها تنقص لكرامته، وخالفوا السنة وإجماع الأمة سلفها وخلفها، فقولهم نظير قول من يقول: إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور فإن ذلك أبلغ في الدعاء له، وإن كان مقصوده دعاءه، كما يقصده أهل البدع، فهو أبلغ في

دعائه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه. وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشرع الوصول إلى قبره للدعاء له، ولا لدعائه، ولا لغير ذلك، بل غيره يصلى على قبره عند أكثر السلف، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة تشرع مع القرب والمشاهدة، وهو بالإجماع لا يُصَلَّى على قبره، سواء كان للصلاة حد محدود أو كان يصلى على القبر مطلقاً، ولم يعرف أن أحداً من الصحابة الغائبين لما قدم صلى على قبره صلى الله عليه وسلم. وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته، وهذه الزيارة غير مشروعة في حقه بالنص والإجماع، ولا هي أيضاً ممكنة، فتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المسلمين وهذا من باب القياس الفاسد، ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من القياس والمقيس به كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين كانوا يقيسون الميتة على المذكى، ويقولون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1 وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تُعْبَد هي وعابدوها حصب جهنم قاس ابن الزبعري قبل أن يسلم وهو وغيره من المشركين عيسى بها، وقالوا يجب أن يعذب عيسى، قال: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} 2. وبين تعالى الفرق بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 3. بَيَّنَ أن من كان صالحاً- نبياً أو غير نبيّ- لم يعذَّب لأجل من أشرك به وعبده وهو بريء من إشراكهم، وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصباً للنار، وقد قيل: إنها من الحجارة التي قال الله تعالى فيها {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقال تعالى:

_ 1 سورة الأنعام: 121. 2 سورة الزخرف: 57- 59. 3 سورة الأنبياء: 101.

{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 1 وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا؛ أن يُعرف أن ما ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة من تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره، وهو أيضاً في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ. والمقصود هنا؛ أن يُعرف أن ما ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة من تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره، وهو أيضاً في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ. وأما كونه أتم في حق الله فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركواء به شيئاً، كما ئبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب، فلا يُتّقى غيره، ولا يُخاف غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يُدعى غيره، ولا يصلى لغيره، ولا يُصام لغيره، ولا يُتصدق إلا له، ولا يُحج إلا إلى بيته، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2 فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. فجعل الإيتاء لله والرسول، وجعل التوكل والرغبة لله وحده. وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 3. وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 4 وقال: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 5. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ

_ 1 سورة الجن: 15. 2 سورة النور: 52. 3 سورة التوبة: 59. 4 سورة الشرح: 7- 8. 5 سورة النحل: 51- 52.

الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1 وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3. وهذا الباب واسع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله"4. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" 5. فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، والرقية دعاء فكيف بما هو أبلغ من ذلك. ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيداً ومسجداً ووثناً صار الناس يدعونه ويتضرعون إليه، ويسألونه ويتوكّلون عليه، ويستغيثون ويستجيرون به، وربما سجدوا له وطافوا له، وصاروا يحجّون إليه، وهذه كلها من حقوق الله وحده الذي لا يشركه فيها مخلوق. وكان من حكمة الله دفنه في حجرته، ومنع الناس من مشاهدة قبره، والعكوف عليه والزيارة له ونحو ذلك لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين لله. وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين، فلا يحصل ذلك عندها، وإذا قُدّر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال. وأما كون ذلك أعظم لقدره وأعلى لدرجته فلأن المقصود

_ 1 سورة الإسراء: 56. 2 سورة الأحقاف: 4. 3 سورة سبأ: 22- 23. 4 أخرجه الترمذي (2516) وصححه. 5 أخرجه البخاري (5705، 575، 5641) ومسلم (374) وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

المشروع بزيارة قبور المؤمنين- كأهل البقيع وشهداء أحد- هو الدعاء، كما كان هو يفعل ذلك، كما زارهم وكما سنه لأمته. فلو سنّ للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له –كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحياناً، وبيِّن مالك أنه بدعة لم تبلغه عن صدر هذه الأمة ولا عن أهل العلم بالمدينة، وأنها مكروهة، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها- لكان بعض الناس يزوره ثم لتعظيمه في القلوب، وعلم الخلائق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاهاً، وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه تدعو النفس أن تطلب منه حاجاتها وأغراضها وتعرض عن حقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، فإن الناس مع ربهم كذلك، إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان، وإنما يعظمون الله عند ضرورتهم إليه، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1 وقال تعا لى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} 2 وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 3. ونظائر هذا في القرآن متعددة، فإذا كانوا -إلا من شاء الله- إنما يعظمون ربهم ويوحّدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم، ولا يعرفون حقه إذا خلصهم، فلا يحبونه ويعبدونه، ولا يسألونه، ولا يقومون بطاعته، فكيف يكونون مع الملخوق؟. فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم، وذلك مقدم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين، فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبي أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وجاهه وشفاعته أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم،

_ 1 سورة يونس: 12. 2 سورة الإسراء: 67. 3 سورة الزمر: 8.

كما هو الموجود في عامة الذين يحجّون إلى القبور المعظّمة ويقصدونها لطلب الحوائج، فلو أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في زيارة قبره ومكّنهم من ذلك لأعرضوا عن حق الله الذي يستحقه من عبادته وحقه، وعن حق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يستحقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، بل ومن جعله واسطة بينهم وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره، فكانوا يهضمون حق الله وحق رسوله، كما فعلت النصارى، فإنهم بغلوّهم في المسيح تركوا حق الله من عبادته وحده، وتركوا حق المسيح، فهم لا يدعون له بل هو عندهم رب يدعى، ولا يقومون بحق رسالته فينظرون ما أمر به وما أخبر به، بل اشتغلوا بالشرك به وبغيره وبطلب حوائجهم من يستغيثون به من الملائكة والأنبياء وصالحيهم عما يجب من حقوقهم. وأيضاً فلو جُعِلَتْ الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة -كما قد يكون الدعاء للميت عند قبره أفضل- لكانوا يخصون تلك البقعة بزيادة الدعاء له، وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم، فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول كما يجتهد في المكان الفاضل، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مكان، وأن لا يكون البعيد عن قبره أنقض إيماناً وقياماً بحقه من المجاور لقبره، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". وقد شرع لهم أن يصلّوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذن حيث كانوا؛ وأن يسلموا عليه في كل صلاة، ويصلوا عليه في الصلاة، ويسلموا عليه إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه، فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان، وهو يوجب من القيام بحقه ورفع درجته وإعلاء منزلته ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل، ولا إذا سوّي بين قبره وقبر غيره، بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه بفعل ما شرعه وسنه لأمته من واجب ومستحب، وهو أن يقوموا بحق الله ثم بحق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا من المحبة والموالاة والطاعة وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء وغير ذلك، ولا يقصد تخصيص القبر لما يفضي إليه ذلك من ترك حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا وغيره مما يبين أن ما نهى عنه الناس ومنعوا منه كان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره،

وإن كان زيارة قبر غيره مستحبة فهو أعظم لقدره وأرفع لدرجته وأعلى في منزلته، وإن ذلك أقوم بحق الله، وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإن كان أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه بل ما نهى عنه، وخالفوا الصحابة والتابعين لهم بإحسان فاستحبوا ما كان أولئك يكرهونه ويمنعون منه؛ هم مضاهون للنصارى، وأنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله ورسوله والقيام بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم بقدر ما دخلوا فيه من البدعة التي ضاهوا بها النصارى، فهذا هذا والله أعلم. وأيضاً فإنه إذا أُطيع أمره واتُّبِعَتْ سنته كان له من الأجر بقدر أجر من أطاعه واتبع سنته، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً"1. وقوله: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"2. وأما البدع التي لم يشرعها بل نهى عنها -وإن كانت متضمنة للغلو فيه والشرك به والإطراء له كما فعلت النصارى- فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها، فلا يكون للرسول صلى الله عليه وسلم فيها منفعة، بل صاحبها إن عُذِرَ كان ضالاً لا أجر له فيها، وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسو له" 3 صلى الله عليه وسلم. فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور: إن الناس

_ 1 أخرجه مسلم (2674) وأبو داود (4609) والترمذي (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2 أخرجه مسلم (1017) وأحمد (4/ 357، 358، 359) والترمذي (2675) والنسائيئ (5/ 75- 76) وابن ماجه (203) وغيرهم من حديث جرير بن عبد الله بنحوه. 3 تقدم.

مُنعوا من الوصول إليه تعظيماً لقدره، وجعل سلامهم وخطابهم له من وراء الحجرة لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم. قيل: فهذا موجب الفرق، فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له فيكون ذلك قريباً من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع، فالذي يدعو له داخل الحجرة أقرب، وإن كان القرب مستحباً فكلما كان أقرب كان أفضل كسائر القبور، وإن كان مقصودها ما يقوله أهل الشرك والضلال من دعائه ودعاؤه من القرب أولى فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى، ولما ثبت أن هذا القرب من القبر منه ممنوع منه بالنص والإجماع وهو أيضاً غير مقدور؛ عُلِمَ أن القرب من ذلك ليس يستحب، بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره، فإن القرب منه مستحب ما لم يُفْضِ إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة، فإن أفضى إلى ذلك منع ذلك. ومما يوضّح هذا: أن الشخص الذي يقصد أتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث تمكن زيارته، فيكون له باب يدخل منه إلى القبر، ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه، بل يوسع المكان ليسع الزائرين، ومن اتخذه مسجداً جعل عنده صورة محراب أو قريباً منه، صااذا كان الباب مغلقاً جعل له شباك على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا كله لم يجعل للزائر طريق إليه بوجه من الوجوه، ولا قبر في مكان كبير يتسع للزوار، ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر، بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة له، ومن أعظم ما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته واستجاب دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده، فلا يقدر أحد أن يصلي إلا إلى المسجد، والعبادة المشروعة في المسجد معروفة، بخلاف ما لو كان قبره منفرداً عن المسجد، والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد، وإذا سمي هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له، إنما هو إتيان إلى مسجده، ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ ولا عند قبره قناديل معلقة، ولا ستور مسبلة، بل إنما يعلق القناديل في المسجد المؤسس على التقوى، ولا يقدر أحد أن يخلق نفس قبره بزعفران أو غيره، ولا ينذر له زيتاً ولا شمعاً ولا ستراً ولا غير ذلك مما ينذر لقبر غيره، وإن كان في بعض الأحوال قد ستر بعض

الناس الحجرة أو خلّقها بعضهم بزعفران فهذا إنما هو للحائط الذي يلي المسجد لا نفس باطن الحجرة والقبر كما يفعل بقبر غيره وإن فعل شيء في ظاهر الحجرة، فعلم أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاءه حيث قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" وإن كان كثير من الناس يريدون أن يجعلوه وثناً ويعتقدون أن ذلك تعظيم له كما يريدون ذلك ويعتقدون في قبر غيره، فهم لا يتمكنون من ذلك، بل هذا القصد والاعتقاد خيال في نفوسهم لا حقيقة له في الخارج، بخلاف القبر الذي جعل وثناً. وإن كان الميت ولياً لله لا إثم عليه من فعل من أشرك به، كما لا إثم على المسيح من إثم من أشرك به، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1 وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 2. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} 3. فالمعبودون من دون الله- سواء كانوا أولياء كالملائكة والأنبياء والصالحين أو كانوا أوثاناً- قد تبرّؤوا ممن عبدهم، وبينوا أنه ليس لهم أن يوالوا من عبدهم، ولا أن يواليهم من عبدهم، فالمسيح وغيره وإن كانوا برءاء من الشرك بهم لكن المقصود بيان ما فضل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته، وما أنعم به عليهم من إقامة

_ 1 سورة المائدة: 116- 117. 2 سورة الماثدة: 72. 3 سورة الفرقان: 17- 19.

التوحيد لله، والدعوة إلى عبادته وحده، وإعلاء كلمته ودينه، وإظهار ما بعثه الله به من الهدى ودين الحق، وما صانه الله به وصان قبره من أن يتخذ مسجداً، فإن هذا من أقوى أسباب ضلال أهل الكتاب، ولهذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك تحذيراً لأمته، وبيّن أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة، ولما كان أصحابه أعلم الناس بدينه وأطوعهم له لم يظهر فيهم من البدع ما ظهر فيمن بعدهم لا في أمور القبور ولا في غيرها، فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه من تعمد الكذب على نبيهم، وكذلك البدع الظاهرة المشهورة مثل بدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة لم يعرف عن أحد من الصحابة شيء من ذلك، بل النقول الثابتة عنهم تدل على موافقتهم للكتاب والسنة، وكذلك اجتماع رجال الغيب بهم أو الخضر أو غيره، وكذلك مجيء الأنبياء إليهم في اليقظة وحمل من يحمل منهم إلى عرفات ونحو ذلك مما وقع فيه كثير من العباد وظنوا أنه كرامة من الله وكان من إضلال الشياطين لهم، لم تطمع الشياطين أن توقع الصحابة في مثل هذا، فإنهم كانوا يعلمون أن هذا كله من الشيطان. ورجال الغيب هم الجن، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1. وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر نبي يسافر إليه، ولا يقصد للدعاء عنده أو لطلب بركته أو شفاعته أو غير ذلك، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وقبره عندهم محجوب لا يقصده أحد منهم لشيء من ذلك، وكذلك كان التابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره؛ منهم من نهى عن الوقوف للدعاء دون السلام عليه، ومنهم من رخص في هذا وهذا، ومنهم من نهى عن هذا وهذا، وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الأدعية التي ذكروها خالية عن ذلك.

_ 1 سورة الجن: 6.

أما مالك فقد قاد القاضي عياض: وقال مالك في المبسوط: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يسلم ويمضي". وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط، قال: وقال مالك لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر ثم يمضي. وقال مالك ذلك لأن هذا المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت أو يا أبتاه، ثم ينصرت ولا يقف يدعو. فرأى مالك ذلك من البدع، قال: وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده. فقوله في هذه الرواية إذا سلم ودعا؛ قد يريد بالدعاء السلام، فإنه قال: يدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب: يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وقد يراد أنه يدعو له بلفظ الصلاة، كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر. وفي رواية يحيى بن يحيى- وقد غلطه ابن عبد البر وقالوا: إنما لفظ الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما- يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم على أبي بكر وعمر، وقال أبو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر. لما في حديث ابن عمر من الخلاف. قال القاضي عياض: وقال في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أدن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فإن أراد بالدعاء السلام والصلاة فهو موافق لتلك الرواية، وإن أراد دعاء زائداً فهي رواية أخرى، وبكل حال فإنما أراد الدعاء اليسير. وأما ابن حبيب فقال: ثم يقف بالقبر متواضعاً موقّراً فيصلي عليه ويثني بما حضر، ويسلم على أبي بكر وعمر. فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة. واما الإمام أحمد فذكر الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير

الصلاة، ومع دعاء الداعي لنفسه أيضاً لم يذكر أن يطلب منه شيئاً، ولا يقرأ عند القبر قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 1. كما لم يذكر مالك ذلك ولا المتقدمون من أصحابنا ولا جمهورهم، بل قال في منسك المروزي: ثم ائتِ الروضة وهي بين القبر والمنبر فصلِّ فيها وادعُ بما شئت، ثم ائتِ قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقل: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّك رسول الله، وأشهد أنك بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته، ورفع درجتك العليا، وتقبل شفاعتك الكبرى، وأعطاك سؤالك في الآخرة والأولى، كما تقبل من إبرهيم. اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً. وما من دعاء وشهادة وئناء يذكر عند القبر إلا وقد وردت السنة بذلك وما هو منه في سائر البقاع، ولا يمكن أحداً أن يأتي بذكر يشرع عند القبر دون غيره، وهذا تحقيق لنهيه أن يتخذ قبره أو بيته عيداً، فلا يقصد تخصضه بشيء من الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الدعاء لغيره، بل يدعى بذلك للرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان الداعي، فإن ذلك يصل إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف ما شرع عند قبر غيره، كقوله: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين إنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين" فإن هذا لا يشرع إلا عند القبور، ولا يشرع عند غيرها، وهذا مما يظهر به الفرق بينه وبين غيره، وأن ما شرعه وفعله أصحابه من المنع من زيارة قبره كما تزار القبور هو من فضائله، وهو رحمة لأمته ومن تمام نعمة الله عليها، فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً، ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته ويطلب منه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفار

_ 1 سورة النساء: 64.

ولا غير ذلك، وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة، فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام". واستحبه لذلك، وبعضهم لم يستحبه، إما لعدم دخوله، وإما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة -وهو السلام الذي لا يوجب الرد- أفضل من السلام الموجب للرد، فإن هذا مما يدل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه السلف، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن كلاهما لا يوجب عليه الرد، بل الله يصلي على من صلى عليه ويسلم على من سلم عليه، ولأن السلام الذي يوجب الرد هو حق للمسلم كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} 1. ولهذا يرد السلام على من سلم وإن كان كافراً، وكان اليهود إذا سلموا عليه يقول: (وعليكم) . وأمر أمته بذلك2. وإنما قال: (عليكم) لأنهم يقولون السام، والسام: الموت، فيقول: (عليكم) . قال صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا". ولما قالت عائشة: وعليكم السام واللعنة. قال: "مهلاً يا عائشة؛ فإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، أو لم تسمعي ما قلت لهم؟! " 3. يعني رددت عليهم، فقلت: "عليكم". فهذا إذا قالوا السام عليكم، وأما إذا عُلم أنهم قالوا السلام؛ فلا يخصون في الرد فيقال: عليكم. فيصير بمعنى السلام عليكم لا علينا بل يقال وعليكم. وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته "عليكم" جزاء دعائهم وهو دعاء بالسلامة والسلام أمان؛ فقد يكون المستجاب هي سلامتهم منا، أي: من ظلمنا وعداوتنا، وكذلك كل من رد السلام على غيره فإنما دعا له بالسلامة، وهذا مجمل، ومن الممتنع أن يكون كل من رد على النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق دعا له بالسلامة من عذاب الدنيا والآخرة، فقد كان المنافقون يسلمون عليه ويرد عليهم، ويرد على المسلمين

_ 1 سورة النساء: 86. 2 أخرجه البخاري (6257، 6928) ومسلم (2164) من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه البخاري (6258، 6926) ومسلم (2163) من حديث أنى بن مالك. 3 أخرجه البخاري (6256) ومسلم (2165) .

أصحاب الذنوب وغيرهم، لكن السلام فيه أمان، ولهذا لا يبتدأ الكافر الحربي بالسلام، بل لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابه إلى قيصر قال فيه: "من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم؛ سلام على من اتبع الهدى". كما قال موسى لفرعون، والحديث في الصحيحين من رواية ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب في قصته المشهورة لما قرأ قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أحواله1. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ابتداء اليهود بالسلام، فمن العلماء من حمل ذلك على العموم، ومنهم من رخص إذا كان للمسلم إليه حاجة يبتدئه بالسلام بخلاف اللقاء، والكفار كاليهود والنصارى يسلمون عليه وعلى أمته سلام التحية الموجب للرد، وأما السلام المطلق فهو كالصلاة عليه إنما يصلي عليه ويسلم عليه أمته، فاليهود والنصارى لا يصلون عليه ولا يسلمون عليه، وكانوا إذا رأوه يسلمون عليه، فذلك الذي يختص به المؤمنون ابتداءً وجواباً أفضل من هذا الذي يفعله الكفار معه ومع أمته ابتداءً وجواباً، ولا يجوز أن الكفار إذا سلموا عليه سلام التحية فإن الله يسلم عليهم عشراً، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم على ذلك فيوفيهم كما لو كان لهم دين فقضاه. وأما ما يختص بالمؤمنين فإذا صلوا عليه صلى الله على من صلى عليه عشراً، لماذا سلم عليه سلم الله عليه عشراً، وهذا الصلاة والسلام هو المشروع في كل مكان بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى، لا فرق في هذا بين الغرباء وبين أهل المدينة عند القبر. وأما السلام عليه عند القبر فقد عرف أن الصحابة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حياً لكانوا يفعلونه كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه؛ فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلموا عليه، بل السنة لمن جاء إلى قوم أن يسلم عليهم إذا قدم وإذا قام، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك،

_ 1 تقدم في أول الكتاب.

وقال: "ليست الأولى أحق من الآخرة" 1. فهو لما كان حياً كان أحدهم إذا أتى يسلم، وإذا قام يسلم، ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة، ولو كان سلام التحية خارج الحجرة كان مستحباً لكل أحد، ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة، ولا بين حال السفر ويغره، فإن استحباب هذا لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر، وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه ولم يشرع ذلك لأهل المدينة، فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه، ولا هو معروف من عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة. قلت: روى عبد الرزاق في مصنفه، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه2. وأنبأه عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر. هكذا قال: عبيد الله بن عمر العمري الكبير، وهو أعلم آل عمر في زمانه وأحفظهم وأثبتهم. قال الشيخ: كما كان ابن عمر يتحرّى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وغير ذلك في السفر. وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك بل أبوه عمر كان ينهى عن مثل ذلك، كما روى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن

_ 1 أخرجه أحمد (2/230، 287، 439) وأبو داود (5208) والترمذي (2706) والبخاري فى "الأدب المفرد" (1007) والنسائي في "الكبرى" (6/100/ 10200- 10202) وهو حديث صحيح. 2 تقدم تخريجه.

المعرور بن سويد، عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في صلاة الفجر (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) و (لإيلاف قريش) في الثانية. فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار الأنبياء بيعاً، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصلّ، ومن لم تعرض له فليمضِ1. وما اتفق عليه الصحابة- ابن عمر وغيره؛ من أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا بل يكره ذلك- يبين ضعف حجة من احتج بقوله: "ما من رجل يسلّم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أردَّ عليه السلام". فإن هذا لو دل على استحباب السلام عليه من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسيره علم أنه غير مستحب، بل لو كان جائزاً لفعله بعضهم، فدل على أنه كان من المنهي عنه كما دلت عليه سائر الأحاديث. وعلى هذا فالجواب عن الحديث؛ إما بتضعيفه على قول من يضعّفه، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم لا فضيلة المسلم بالرد عليه إذا كان هذا من باب المكافأة والجزاء، حتى أنه يشرع للبر والفاجر التحية بخلاف ما يقصد به الدعاء المجرد وهو السلام المأمور به. وإما بأن يقال: هذا مما هو فيمن سلم عليه من قريب، والقريب أن يكون في بيته، فإنه إن لم يحد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع، كما تقدم ذكر هذا. وأما الوجه: فتوجيهه؛ أن الحديث ليس فيه ثناء على المسلم ولا مدح له ولا ترغيب له في ذلك، ولا ذكر أجر له كما جاء في الصلاة والسلام المأمور بهما، فإنه قد وعد أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، وكذلك من سلم عليه. وأيضاً فهو مأمور بهما وكل مأمور به ففاعله محمود مشكور مأجور. وأما

_ 1 أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (1/118-119/ 2734) من طريق الأعمش به. رهو غير موجود في المطبوع من "سنن سعيد بن منصور".

قوله: "ما من رجل يمر بقبر الرجل فيسلّم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، وما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي حتى أردَّ عليه السلام". فإنما فيه مدح المسلم عليه والإخبار بسماعه السلام، وأنه يرد السلام فيكافىء المسلم عليه لا يبقى للمسلم عليه فضل، فإنه بالرد يحصل المكافأة، كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} 1. ولهذا كان الرد من باب العدل المأمور به الواجب لكل مسلم إذا كان سلامه مشروعاً، وهذا كقوله: "من سَأَلَنَا أعطيناه، ومن لم يَسْأَلْنَا أحبّ إلينا"2. هو إخبار بإعطائه السائل، ليس هذا أمر بالسؤال وإن كان السلام ليس مثل السؤال لكن هذا اللفظ إنما يدل على مدح الراد. وأما المسلّم فيقف الأمر فيه على الدليل، وإذا كان المشروع لأهل المدينة أن لا يقفوا عند الحجرة ويسلّموا عليه عُلِمَ قطعاً أن الحديث لم يُرَغِّبْ في ذلك، ومما يبين ذلك أن مسجده كسائر المساجد لم يختصّ بجنس من العبادات لا تشرع في غيره، وكذلك المسجد الأقصى، ولكن خُصّا بأن العبادة فيهما أفضل، بخلاف المسجد الحرام، فإنه مخصوص بالطواف، واستلام الركن، وتقبيل الحجر، وغير ذلك. وأما المسجدان الآخران فما يشرع فيهما من صلاة، وذكر، واعتكاف، وتعلم وتعليم، وثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلاة عليه، وتسليم وغير ذلك من العبادات فهو مشروع في سائر المساجد، والعمل الذي يسمى زيارة لقبره لا يكون إلا في مسجده لا خارجاً عن المسجد، فعُلِمَ أن المشروع من ذلك العمل مشروع في سائر المساجد لا اختصاص لقبره بجنس من أجناس العبادات، ولكن العبادة في مسجده أفضل منها في غيره لأجل المسجد لا لأجل لقبر. قال الشيخ: ومما يوضح هذا أنه لم يُعرَف عن أحد من الصحابة أنه تكلم

_ 1 سورة النساء: 86. 2 أخرجه أحمد (3/3، 4، 7، 9، 12، 44، 93) أو رقم (11002، 11018، 11058، 11074، 11105، 11416، 11417، 11906- قرطبة) والطيالسي (2161) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

باسم زيارة قبره لا ترغيباً في ذلك ولا غير ترغيب، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم، ثم ذكر ما حكيناه عنه فيما تقدم. ثم قال: والمقصود؛ أن هذا كله يبين ضعف حجة المفرق بين الصادر من المدينة، الوارد عليها، والوارد على مسجده من الغرباء والصادر عنه، وذلك أنه يمتنع أن يقال أنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين بها، فإن أولئك هم أفضل أمته وخواصها، وهم الذين خاطبهم بهذا، فيمتنع أن يكون المعنى من سلم منكم يا أهل المدينة لم أرد عليه ما دمتم مقيمين بها، فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم، وليس في الحديث تخصيص، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك. يبين هذا؛ أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور فيسلمون عليه إنما كان يرد عليهم إذا سلّموا. فإن قيل: إنه لم يكن يرد عليهم فهذا تعطيل للحديث. وإن قيل: كان يرد عليهم من هناك ولا يرد إذا سلّموا من خارج فقد أظهر الفرق. وإن قيل: بل هو يرد على الجميع فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به، وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو الآن مختص بمن سلّم من خارج لزم أن يستحب لأهل المدينة عند الحجرة كلما دخلوا المسجد وخرجوا وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وخلاف قول المفرقين، ومن أهل المدينة من قد لا يسافر منها أو لا يسافر إلا للحج، والقادم قد يقيم بالمدينة العشر والشهر، فهذا يرد عليه عشر مرات في اليوم والليلة وأكثر كلما دخل وخرج، وذاك المدني المقيم لا يرد عليه قط في عمره ولا مرة. وأيضاً فاستحباب هذا للوارد والصادر تشبيه له بالطواف الذي يشرع للحاج عند الورود إلى مكة- وهو الذي يسمى طواف القدوم وطواف التحية وطواف الورود- وعند الصدور- وهو الذي يسمى طواف الوداع- وهذا تشبيه لبيت

المخلوق ببيت الخالق، ولهذا لا يجوز الطواف بالحجرة بالإجماع ولا الصلاة إليها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". وأيضاً فالطواف بالبيت لأهل مكة ولغيرهم كلما دخلوا المسجد والوقوف عند القبر كلما دخل المدني لا يشرع بالاتفاق، فلم يبق الفرق بين المدني وغير المدني له أصل في السنة ولا نظير في الشريعة، ولا هو مما سنه الخلفاء الراشدون وعمل به عامة الصحابة، فلا يجوز أن يجعل هذا من شريعته وسنته، وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم كان غايته أنه يثبت به التسويغ، بحيث يكون هذا مانعاً من دعوى الإجماع على خلافه، بل يكون كسائر المسائل التي ساغ فيها الاجتهاد لبعض العلماء، أما أن يجعل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وشريعته وحكم ما تدل عليه سنته لكون بعض السلف فعل ذلك فهذا لا يجوز، ونظير هذا مسحه للقبر، قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله- يعني الإمام أحمد- قبر النبي صلى الله عليه وسلم يُلْمَسُ ويُتَمَسَّحُ به؟ قال: ما أعرف هذا. قلت فالمنبر؟ قال: أما المنبر، فنعم قد جاء فيه. قال أبو عبد الله: شيء يروونه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن عمر أنه مسح على المنبر. قال: ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة. قلت: ويروى عن يحيى بن سعيد- يعني الأنصاري- شيخ مالك وغيره أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسن ذلك، ثم قال: لعله عند الضرورة. قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحيته فيسلمون. فقال أبو عبد الله: نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل ذلك، ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر أحمد بن حنبل أيضاً في منسك المروزي نظير ما نقل عن ابن عمر وابن المسيب ويحيى بن سعيد، وهذا كله يدل على التسويغ وأن هذا مما فعله بعض الصحابة، فلا يقال انعقد إجماعهم على تركه بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء ببعض السلف لم يبتدع هو شيئاً من عنده، وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ندب إلى ذلك ورغب فيه وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها فهذا يحتاج إلى دليل شرعي لا

يكفي في ذلك فعل بعض السلف، ولا يجوز أن يقال إن الله ورسوله يحب ذلك أو يكرهه، وأنه سنّ ذلك وشرعه، أو نهى عن ذلك وكرهه، أو نحو ذلك؛ إلا بدليل يدل على ذلك، لاسيما إذا عُرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك، فيقال: لو كان هو ندبهم إلى ذلك وأحبه لفعلوه، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير ونظائر هذا متعددة، والله أعلم. والمؤمن قد يتحرّى الدعاء والصلاة في مكان دون مكان لاجتماع قلبه فيه، وحصول خشوعه فيه، لا لأنه يرى الشارع فضل ذلك المكان؛ كصلاة الذي يكون في بيته ونحو ذلك، فمثل هذا إذا لم يكن منهياً عنه فلا بأس به ويكون ذلك مستحباً في حق ذلك الشخص لكون عبادته فيه أفضل، كما إذا صلى القوم خلف إمام يحبونه كانت صلاتهم أفضل من أن يصلوا خلف من هم له كارهون. وقد يكون العمل المفضول في حق بعض الناس أفضل لكونه أنفع له وكونه أرغب فيه وهو أحب إليه من عمل أفضل منه لكونه يعجز عنه فهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص، وهو غير ما ثبت فضل جنسه بالشرع كما ثبت أن الصلاة أفضل، ثم القراءة، ثم الذكر بالأدلة، مع أن العمل المفضول في مكانه هو أفضل من الفاضل في غير مكانه، كفضيلة الذكر والدعاء والقراءة بعد الفجر والعصر على الصلاة المنهي عنها في هذا الوقت، وكفضيلة التسبيح في الركوع والسجود على القراءة لأنه نهى أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، وكفضيلة آخر القرآن هناك لأنه موطن الدعاء، ونظائر هذا متعددة، وبسط هذا له موضع آخر. لكن المقصود هنا؛ أن يعلم أن ما قيل إنه مستحب للأمة قد ندبهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ورغّبهم فيه فلا بد له من دليل يدل على ذلك، ولا يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما صدر عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرض الله على جميع الخلق الإيمان به وطاعته وإتباعه، وإيجاب ما أوجبه وتحريم ما حرمه، وشرع ما شرعه، وبه فرق الله بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم، وهو الذي جعل الرب طاعته طاعة له في مثل قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ

اللَّهَ} 1 وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 2. وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته، ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به واتباعه وطاعته، وبه يمتحنون في القبور، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} 3. وهو الذي أخذ الله الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدقوه، وهو الذي فرق الله به بين أهل الجنة والنار، فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة، ومن كذبه وعصاه كان من أهل النار، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 4. والوعد بسعادة الدنيا والآخرة، والوعيد بشقاوة الدنيا والآخرة يتعلق بطاعته، فطاعته هي الصراط المستقيم، وهي حبل الله المتين، وهي العروة الوثقى، وأصحابها هم أولياء الله المتقون، وحزبه المفلحون، وجنده الغالبون والمخالفون لهم هم أعداء الله، حزب إبليس اللعين، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} 5. وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} 6 وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 7

_ 1 سورة النساء: 80. 2 سورة النساء: 64. 3 سورة الأعراف: 6. 4 سورة النساء: 13- 14. 5 سورة الفرقان: 27- 29. 6 سورة الأحزاب: 66- 68. 7 سورة آل عمران: 32.

وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً* ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} 3. وجميع الرسل أخبروا بأن الله أمر بطاعتهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 4 يأمرون بعبادة الله وحده، وتقواه وحده، وخشيته وحده، ويأمرون بطاعتهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 5. وقال نوح: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 6 وقال في الشعراء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 7. وكذلك قال هود وصالح ولوط وشعيب. والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم فطاعته في كل زمان ومكان، ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، سراً وعلانية، جماعة وفرادى، وهم أحوج إلى ذلك من الطعم والشراب، بل من النفس، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 8 أي: كذّب بما أخبر به وتولى عن طاعته، كما قال تعالى في موضع آخر: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 9. أي: كذّب بما أخبر به وتولى عن طاعته. وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ

_ 1 سورة النساء: 65. 2 سورة النور: 63. 3 سورة النساء: 69- 70. 4 سورة النساء: 64. 5 سورة النور: 52. 6 سورة نوح: 3. 7 سورة الشعراء: 108. 8 سورة الليل: 14- 16. 9 سورة القيامة: 31- 32.

فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} 1 وقال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} 2. والله تعالى قد سماه سراجاً منيراً، وسمى الشمس سراجاً وهّاجاً، والناس إلى السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهّاج، فإنهم يحتاجون إليه ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، وهو أنفع لهم، فإنه منير ليس فيه أذى، بخلاف الوهّاج؛ فإنه ينفع تارة ويضرُّ أخرى. ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته وتعظيمه وتعزيزه وتوقيره عامة في كل مكان وزمان، كان ما يؤمر به من حقوقه عاماً لا يختص بقبره، فمن خص قبره بشيء من الحقوق كان جاهلاً بقدر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدر ما أمر الله به من حقوقه، وكل من اشتغل بما أمر الله به من طاعته شغله عما نهى عنه من البدع المتعلقة بقبره وقبر غيره، ومن اشتغل بالبدع المنهي عنها ترك ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من حقه، فطاعته هي مناط السعادة والنجاة، والذين يحجون إلى القبور ويدعون الموتى من الأنبياء وغيرهم عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأشركوا بالرب، ففاتهم ما أمروا به من تحقيق التوحيد، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع الخلق يأتون يوم القيامة فيُسألون عن هذين الأصلين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ كما بُسِطَ هذا في موضعه. والمقصود؛ أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين يدخلون المسجد، ويصلّون فيه الصلوات الخمس، ويصلّون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلّمون عليه عند دخول المسجد وبعد دخوله، ولم يكونوا يذهبون ويقفون إلى جانب الحجرة ويسلّمون عليه هناك، وكان على عهد الخلفاء الراشدين

_ 1 سورة المزمل: 15- 16. 2 سورة النساء: 41- 42.

والصحابة حجرته خارجة عن المسجد، ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار، ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتاً جابر بن عبد الله، وتوفي في خلافة عبد الملك؛ فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك. وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبه النميري في كتاب "أخبار المدينة" -مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم- عن أشياخه وعمّن حدّثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في المسجد، وأدخل القبر فيه. ثم ذكر الشيخ الآثار المروية في عمارة عمر بن عبد العزيز المسجد وزيادته فيه، وذكر أن حكم الزيادة حكم المزيد، فقال: وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد، تضعف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه، والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجاً منه، ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلّون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك. قال أبو زيد: حدثني محمد بن يحيى، حدثني من أثق به؛ أن عمر زاد في المسجد من القبلة إلى موضع المقصورة التي هي به اليوم. قال: فأما الذي لا يشك فيه أهل بلدنا أن عثمان هو الذي وضع القبلة في موضعها اليوم، ثم لم تغير بعد ذلك. قال أبو زيد: حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد، عن عثمان، عن

مصعب بن ثابت، عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- وهو يوماً في مصلاّه-: "لو زدنا في مسجدنا" 1. وأشار بيده نحو القبلة. حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن ابن أبي ذئب، قال: قال عمر: لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لكان منه. حدثنا محمد بن يحيى، عن سعد بن سعيد، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بُني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي" 2. فكان أبو هريرة يقول: والله لو مد هذا المسجد إلى داري ما عدوت أن أصلي فيه. حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن فليح بن سليمان، عن ابن أبي عمرة، قال: زاد عمر في المسجد في شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا الذي جاءت به الآثار هو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم، فإنهم قالوا: إن الصلاة الفرض خلف الإمام أفضل. وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة. وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان، فإن كليهما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلاة الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفاً من العلماء. قال: وهذه الأمور نبهنا عليها ههنا، فإنه

_ 1 أخرجه ابن النجار في "تاريخ المدينة" (ص 369) كما في "الضعيفة" (2/403/974) وقال الشيخ الألباني هناك: "ضعيف جداً". 2 قال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (2/402/ 973) : "ضعيف جداً".

يحتاج إلى معرفتها، وأكثر الناس لا يعرفون الأمر كيف كان، ولا حكم الله ورسوله في كثير من ذلك. وكان من المقصود أن المسجد لما زاد فيه الوليد وأدخلت فيه الحجرة كان قد مات عامة الصحابة، ولم يبق إلا من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغ من التمييز الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة، ومن المعلوم بالتواتر أن ذلك كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، وقد ذكروا أن ذلك كان سنة إحدى وتسعين، وأن عمر بن عبد العزيز مكث في بنائه ثلاث سنين، وسنة ثلاث وتسعين مات فيها خلق كثير من التابعين، مثل سعيد بن المسيب وغيره من الفقهاء السبعة- ويقال لها سنة الفقهاء- وجابر بن عبد الله، وكان من السابقين الأولين ممن بايع بالعقبة تحت الشجرة، ولم يكن بقي من هؤلاء غيره لما مات، وذلك قبل تغيير المسجد بسنين، ولم يبق بعده ممن كان بالغاً حين موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا سهل بن سعد الساعدي، فإنه توفي سنة ثمان وثمانين، وقيل سنة إحدى وتسعين، ولهذا قيل فيه إنه آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله أبو حاتم البستي وغيره. وأما من مات بعد ذلك فكانوا صغاراً، مثل: السائب بن زيد الكندي ابن أخت نمر، فإنه مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين، وقيل: إنه مات بعده عبد الله بن طلحة الذي حنّكه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك محمود بن الربيع الذي عقل مجة مجّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من بئر كانت في دراهم وله خمس سنين، مات سنة تسع وتسعين وله ثلاث وتسعون سنة. وأبو أمامة بن سهل بن حنيف سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسعد باسم أسعد بن زرارة، مات سنة مائة. لكن هؤلاء لم يكن لهم في حياته من التمييز ما ينقلون عنه أقواله وأفعاله التي ينقلها الصحابة، مثل ما ينقلها جابر وسهل بن سعد وغيرهما. وأما ابن عمر، فكان قد مات قبل ذلك بعد قتل ابن الزبير بمكة سنة أربع وسبعين، وابن عباس مات قبل ذلك بالطائف سنة ثمان وستين، فهؤلاء وأمثالهم من الصحابة لم يدرك أحد منهم تغيير المسجد وإدخال الحجرة فيه. وأنس بن مالك كان بالبصرة ولم يكن بالمدينة، وقيل: إنه آخر من مات بها من الصحابة.

وكانت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم شرقي المسجد وقبليه- وقيل وشاميه- فاشتريت من ملاكها ورثة أزواجه وزيدت في المسجد فدخلت حجرة عائشة، وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة، فسد باب الحجرة وبنوا حائطاً آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلم عليه من وراء الجدار أبعد من المسلّم عليه لما كان جداراً واحداً. قال هؤلاء: ولو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعاً في المسجد لكان له حد ذراع أو ذراعان أو ثلاثة، فلا يعرف الفرق بين المكان الذي يستحب فيه هذا والمكان الذي لا يستحب. فإن قيل: من سلّم عليه عند الحائط الغربي رد عليه. قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق حينئذ، فيلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصلٍّ في صلاة- كما ظنه بعض الغالطين- ومعلوم بطلان ذلك، وإن قيل يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة، قيل: فما حد ذلك؟ وهم لهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة كما استحب ذلك مالك وغيره. ولكن يقال: فما حد ذلك القرب؟ وإذا جعل له حد فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب؟! وآخرون من المتأخرين يستحبون التباعد عن الحجرة، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي، فهل هو بذراع أو باع أو أكثر؟ وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربعة أذرع، فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه مستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، ولا يدنوا أكثر من ذلك، وهذا- والله أعلم- قاله المتقدمون، لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن كالصلاة عليه، ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد، ولا يستقبل به القبلة، ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد. وبالجملة؛ فمن قال إنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد من تحديد مكان ذلك فإن قال: إلى أن يسمع ويرد السلام فإن حد في ذلك ذراعاً أو

ذراعين أو عشرة أذرع، أو قال: إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد؛ فلا بد له من دليل، والأحاديث الثابتة عنه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من صلى عليه وسلام من يسلم عليه، ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حد، ومعلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي وما أحد يحد في ذلك حداً إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق. وأيضاً فذلك يختلف باختلاف ارتفاع الأصوات وانخفاضها، والسنة للمُسَلِّم في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك، بخلاف المسلّم من الحجرة، فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلّم عليه من المسجد، ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته، فالمسلّم عليه إن رفع الصوت أساء الأدب برفع الصوت في المسجد، وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله، الذي يسلّم الله على صاحبه كما يصلّي على من صلَّى عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر. وبالجملة؛ فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء على كل تقدير، فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجّون به، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت وجدت رواتها إما كذّاب وإما ضعيف سيء الحفظ، ونحو ذلك، كما قد بين في غير هذا الموضع. وهذا الحديث الذي فيه: "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، وقيل: هو على شرط مسلم. وهو معروف من حديث حيوة بن شريح المصري الرجل الصالح الثقة، عن أبي صخر. عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة. وأبو صخر هذا؛ متوسط، ولهذا اختلف فيه عن يحيى بن معين، فمرة قال: هو ضعيف، ووافقه النسائي. ومرة قال: لا بأس به، ووافقه أحمد. فلو قذّر أن

هذا؛ مخالف لما هو أصح منه وجب تقديم ذاك عليه. ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث، ولو أريد إثبات سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفاً فيه، فالنزاع في إسناده وفي دلالة متنه. ومسلم روى بهذا الإسناد قوله صلى الله عليه وسلم: "من خرج مع جنازة من بيتها وصلّى عليها ثم تبعها حتى تدفن؛ كان له قيراطان من الأجر، كل قيراط مثل أُحُد، ومن صلّى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد"1. وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة، وعائشة2، من غير هذا الطريق. ومسلم قد يروي عن الرجل في المتابعات ما لا يرويه فيما انفرد به، وهذا معروف منه في عدة رجال، يفرق بين من يروى عنه ما هو معروف من رواية غيره وبين من يعتمد عليه فيما ينفرد به، ولهذا كثير من أهل العلم يمتنعون أن يقولوا في مثل ذلك: هو على شرط مسلم أو البخاري، كما بسط هذا في موضعه. الوجه الثامن: أنه لو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يَخْفَ على الصحابة والتابعين بالمدينة، ولو كان ذلك معروفاً عندهم لم يكره أهل العلم بالمدينة مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فلما كرهوا هذا القول ردّ على أنه ليس عندهم فيه أثر لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه. الوجه التاسع: إن الذين كرهوا هذا القول والذين لم يكرهوه من العلماء متفقون على أن السفر إلى زيارة قبره إنما هو سفر إلى مسجده، ولو لم يقصد إلا السفر إلى القبر لم يمكنه أن يسافر إلا إلى المسجد، لكن قد يختلف الحكم بنيته كما تقدم. وأما زيارة قبره- كما هو المعروف في زيارة القبور- فهذا ممتنع غير مقدور ولا مشروع، وبهذا يظهر أن الذين كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره قولهم أولى بالصواب، فإن هذا ليس زيارة لقبره ولا فيه ما يختص بالقبر، بل كل ما يفعل

_ 1 أخرجه مسلم (945) . 2 أخرجه البخاري (1323، 1324) ومسلم (945) .

فإنما هو عبادة يفعل في المساجد كلها أو في غير المساجد أيضاً، ومعلوم أن زيارة القبر لها اختصاص بالقبر، ولما كانت زيارة قبره المشروعة إنما هي سفر إلى مسجده وعبادة في مسجده ليس فيها ما يختص بالقبر كان قول من كره أن يسمى هذا زيارة لقبره أولى بالشرع والعقل واللغة، ولم يبق إلا السفر إلى مسجده، وهذا مشروع بالنص والإجماع، والذين قالوا يستحب زيارة قبره إنما أرادوا هذا، فليس بين العلماء خلاف في المعنى بل في التسمية والإطلاق، والمجيب لم يحكِ نزاعاً في استحباب هذه الزيارة الشرعية التي تكون في مسجده، وبعضهم يسميها زيارة لقبره، وبعضهم يكره أن تسمى زيارة لقبره، والمجيب يستحب ما يستحب بالنص والإجماع، وقد ذكر ما فيه النزاع، فكان الحاكي عنه خلاف هذا كاذباً مفترياً يستحق ما يستحقه أمثاله من المفترين.

أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي

(أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي) قال المعترض المالكي: وتضافرت النصوص عن الصحابة والتابعين، وعن السادة العلماء المجتهدين، بالحض على ذلك والندب إليه، والغبطة لمن سارع لذلك ودوام عليه، حتى نحا بعضهم في ذلك إلى الوجوب، ورفعه عن درجة المباح والمندوب، ولم يزل الناس مطبقين على ذلك قولاً وعملاً، لا يشكون في ندبه ولا يبغون عنه حولاً، وفي مسند ابن أبي شيبة: "من صلّى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليّ نائياً سمعته". قال الشيخ: هكذا في النسخة التي حَضَرَتْ إليّ مكتوبة عن المعترض، وقد صحّح "ومن صلّى عليّ نائياً سمعته" وهو غلط، فإن لفظ الحديث: "من صلّى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليّ نائياً بلغته"1 هكذا ذكره الناس. وهكذا ذكره القاضي عياض عن ابن أبي شيبة. وهذا المعترض عمدته في مثل هذا كتاب

_ 1 أخرجه أبو الشيخ في "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" كما في "جلاء الأفهام" (ص 109- ط. دار ابن الجوزي) . وقال ابن القيم: "وهذا الحديث غريب جداً".

القاضي عياض، وهذا الحديث قد رواه البيهقي وغيره من حديث العلاء بن عمرو الحنفي، حدثنا أبو عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلّى علي نائياً بلغته"1. قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر. وقد مضى ما يؤكده. قلت: هو تبليغ صلاة أمته وسلامهم عليه، كما في الأحاديث المعروفة، مثل الحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن حسين الجعفي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت- يقولون بليت-؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". وهذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، ورواه أبو حاتم، قال البيهقي: وله شواهد، وروى حديثين عن ابن مسعود وأبي أمامة وله شواهد أكثر مما ذكر البيهقي2. منها: ما رواه ابن ماجه؛ حدثنا عمرو بن سواد المصري، حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لن يصلي عليّ إلا عُرِضَتْ عليّ صلاته حتى يفرغ منها، قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: "وبعد الموت؛ إن الله حرّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء". ورواه أبو جعفر

_ 1 أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/38/ 562) والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/218/ 1583) والخطيب البغدادي في "تاريخه" (3/ 299- 300) وهو حديث لا يصح؛ انظر: "الضعيفة" (رقم: 203) . 2 وهي مذكورة في "جلاء الأفهام".

محمد بن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" من حديث سعيد بن أبي هلال كما تقدم1. ومنها: ما رواه أبو داود وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 2. وهذا له شواهد مراسيل من وجوه مختلفة يصدق بعضها بعضاً. ومنها ما رواه سعيد بن منصور في "سننه": حدثنا حبان بن علي، حدثنا محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"3. وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني- وهو في بيت فاطمة يتعشّى- فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلّوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء". ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم".

_ 1 أخرجه ابن ماجه (1637) وابن جرير في "تفسيره" (30/131) والمزي في "تهذيب الكمال" (10/ 23- 24) وغيرهم، من طريق: ابن وهب به. وإسناده ضعيف. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع في موضعين: عبادة بن نسي روايته عن أبي الدرداء مرسلة؛ قاله العلائي. وزيد بن أيمن عن عبادة بن نُسي مرسلة؛ قاله البخاري". 2 تقدم تخريجه. 3 وأخرجه ابن أبي شيبة (4/345) وإسناده مرسل ضعيف.

ولفظه قال: مالي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. وذكر الحديث، ولم يذكر قول الحسن. وقال إسماعيل: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، عن وهيب، عن أيوب السختياني قال: بلغني والله أعلم أن ملكاً موكل بكل من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبلغه. وأما السلام؛ ففي النسائي وغيره من حديث سفيان الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام". وفي الحديث الذي تقدم من رواية أبي يعلى الموصلي -وقد تقدم إسناده- عن علي بن الحسين، أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي، عن جدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان يصدق بعضها بعضاً، وهي متفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلّي عليه والمسلم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يُعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم تسليماً. ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به، سواء صلى عليه وسلم في مسجده أو مدينته أو مكان آخر، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه. وأما من سلّم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين، ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً كما يصلّي على من صلّى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه، والمراد عند قبره، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها، أو يراد به من كان في الحجرة كما قاله طائفة من

السلف والخلف؟ وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أو لا يستحب بحال؟ وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة. فأما ذاك الحديث1 وإن كان معناه صحيحاً فإسناده لا يحتج به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يُعرف إلا من حديث محمد بن مروان السُّدّي الصغير، عن الأعمش، كما ظنه البيهقي، وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل المعرفة، وهو عندهم موضوع على الأعمش. قال عباس الدوري؛ عن يحيى بن معين: محمد بن مروان ليس بثقة. وقال البخاري: سكتوا عنه لا يكتب حديثه البتة. وقال الجوزجاني: ذاهب الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال صالح جزرة: كان يضع الحديث. وقال أبو حاتم الرازي والأزدي: متروك الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً، ولا الاحتجاج به بحال. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، والضعف على رواياته بيّن. فهذا الكلام على ما ذكره من الحديث مع أنّا قد بينا صحة معناه بأحاديث أخر، وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى نائياً، ليس فيه أنه يسمع ذلك كما قد وجدته منقولاً عن هذا المعترض فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم ولا يعرف في شيء من الحديث، إنما يقوله بعض الجهال، يقولون إنه يوم الجمعة وليلة الجمعة يسمع بأذنيه صلاة من صلى عليه فالقول بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك تبلغه الملائكة.

_ 1 أي: حديث: "من صلى عليّ عند قبري سمعته ... ".

وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من بعيد؛ ممتنع فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه فهذه مكابرة، وإن أراد أنه بحيث يسمع أصوات الخلائق من البعد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم، قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 1 وقال: {وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2. وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون: إن المسيح هو الله، وأنه يعلم ما يفعله العباد، ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3. فلا المسيح ولا غيره من البشر، ولا أحد من الخلق؛ يملك لأحد من الخلق ضراً ولا نفعاً، بل ولا لنفسه، وإن كان أفضل الخلق، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} 4 وقال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} 5 الآية. وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 6.

_ 1 سورة الزخرف: 80. 2 سورة المجادلة: 7. 3 سورة المائدة: 72- 76. 4 سورة الجن: 21. 5 سورة الأنعام: 50. 6 سورة الأعراف: 188.

وقوله: (إلا ما شاء الله) فيه قولان: قيل: هو استثناء متصل، وأنه يملك من ذلك ما ملكه الله. وقيل: هو منقطع، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً بحال. فقوله: (إلا ما شاء الله) استثناء منقطع، أي: لكن يكون من ذلك ما شاء الله، كقول الخليل: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} 1. أي: لا أخاف أن يفعلوا شيئاً، لكن إن شاء ربي شيئاً كان، وإلا لم يكن، وإلا فهم لا يفعلون شيئاً. وكذلك قوله: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ثم قال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. تنفعه الشهادة وتنفع شهاداته، كقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3 وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 4. وبسط هذا له موضع آخر. قال الشيخ: وأما ما ذكره من تضافر النقول عن السلف بالحض على ذلك وإطباق الناس عليه قولاً وعملاً. فيقال: الذي اتفق عليه السلف والخلف وجاءت به الأحاديث الصحيحة هو السفر إلى مسجده، والصلاة والسلام عليه في مسجده، وطلب الوسيلة له، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم، وهذا هو مراد العلماء الذين قالوا يستحب السفر إلى زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن مرادهم بالسفر لزيارته هو السفر إلى مسجده، وذكروا في منسك الحج أنه يستحب زيارة قبره، وهذا هو مراد من ذكر الإجماع على ذلك، كما ذكر القاضي عياض. قال: وزيارة قبره سنة مجمع عليها، وفضيلة مرغّب فيها. فمرادهم الزيارة التي بينوها وشرحوها: كما ذكر ذلك القاضي عياض في هذا الفصل فصل زيارته. قال: وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: ومما لم يزل شأن من حج المرور بالمدينة

_ 1 سورة الأنعام: 85. 2 سورة الزخرف: 86. 3 سورة سبأ: 23. 4 سورة الزمر: 44.

والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك برؤية روضته ومنبره، وقبره ومجلسه، وملامس يديه ومواطىء قدميه، والعمود الذي كان يستند إليه، ونزل جبريل بالوحي عليه فيه، وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، والاعتبار بذلك كله. قلت وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره، يوصل إليه ويجلس عنده، ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة وبدعة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلا إلى مسجده لا يدخل أحد بيته، ولا يصل إلى قبره، بل دفنوه في بيته، بخلاف غيره فإنهم دفنوه في الصحراء، كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. فدفن في بيته لئلاّ يُتّخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً. فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح، عن عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". وفي "الموطأ" وغيره عنه أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها فلم يكني في حياتها أحد يدخل لذلك، إنما يدخلون إليها هي، ولما توفيت لم يبق بها أحد، ثم لما أدخلت في المسجد سُدّت وبنى الجدار البراني عليها، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره، سواء كانت سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده.

ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره ألبتة، ولم يتكلموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم، فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلا يعبروا عن وجوده وهو قد نهى عن اتخاذ بيته وقبره عيداً، وسأل الله تعالى أن لا يجعل وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك وقد باشر التابعين بالمدينة، وهو أعلم الناس بمثل ذلك. ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء، ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة الإخبار بلفظ تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فكيف يكره النطق بلفظه؟! لكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره، وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة، كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه، ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره، وظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثاناً، حتى قد يفضلون تلك البقعة على المساجد، وإن بني عليها مسجد فضلوه على المساجد التي بنيت لله، وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق، إلى غير ذلك مما هو كفر وردة عن الإسلام باتفاق المسلمين. فالذي تضافرت به النقول عن السلف قاطبة وأطبق عليه الأمة قولاً وعملاً هو السفر إلى مسجده المجاور لقبره، والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده، كما يقام بذلك في غير مسجده، لكن مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام

عند الجمهور. وقيل: إنه أفضل مطلقاً؛ كما نقل عن مالك وغيره. ولم يتطابق السلف والخلف على إطلاق زيارة قبره، ولا ورد بذلك حديث صحيح، ولا نقل معروف عن أحد من الصحابة، ولا كان الصحابة المقيمون بالمدينة من المهاجرين والأنصار إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه يجيئون إلى القبر ويقفون عنده ويزورونه، فهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة، وقد ذكر مالك وغيره أن هذا من البدع التي لم تنقل عن السلف وأن هذا منهي عنه، وهذا الذي قاله مالك مما يعرفه أهل العلم الذين لهم عناية بهذا الشأن، يعرفون أن الصحابة لم يكونوا يزورون قبره لعلمهم بأنه قد نهى عن ذلك، ولو كان قبره يزار كما تزار القبور قبور أهل البقيع والشهداء- شهداء أحد- لكان الصحابة يفعلون ذلك، إما بالدخول إلى حجرته، وإما بالوقوف عند قبره إذا دخلوا المسجد، وهم لم يكونوا يفعلون لا هذا ولا هذا، بل هذا من البدع كما بين ذلك أئمة العلم، وهذا كما ذكره القاضي عياض، وهو الذي قال: زيارة قبره سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عليها، وفضِيلةٌ مُرَغَّبٌ فيها، وهو في هذا الفصل ذكر عن مالك أنه كره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر فيه أيضاً: قال مالك في "المبسوط": وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر وإنما ذلك للغرباء. وقال مالك في "المبسوط" أيضاً: ولا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو له ولأبي بكر وعمر، قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدون يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلّمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. فقد بيَّن مالك أنه لم يبلغه عن السلف من الصحابة المقيمين بالمدينة أنهم كانوا يقفون بالقبر عند دخول المسجد إلا لمن قدم من سفر، مع أن الذي يقصد السفر فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع. وقد ذكر القاضي عياض عن أبي الوليد الباجي أنه احتج لما كرهه مالك،

فقال: أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم، وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وقوله: "لا تتخذوا قبري عيداً". وإذا كانت هذه الزيارة مما نهى عنها في الأحاديث فالصحابة أعلم بنهيه وأطوع له، فلهذا لم يكن بالمدينة منهم من يزور قبره باتفاق العلماء، وهذا الوقوف الذي يسميه غير مالك زيارة لقبره- الذي بين مالك وغيره أنه بدعة لم يفعلها السلف- هي زيارة مقصود صاحبها الصلاة والسلام عليه، كما بين ذلك في السؤال لمالك، لكن لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلّوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وروى مثل ذلك في السلام عليه؛ علم أنه كره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام، بل يصلّى عليه ويسلّم في جميع المواضع، وذلك واصل إليه، فإذا كان مثل هذه الزيارة للقبر بدعة منهياً عنها فكيف بمن يقصد ما يقصده من قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم ويستغيث بهم ليس قصده الدعاء لهم؟ ومعلوم أن هذا أعظم في كونه بدعة وضلالة. فالسلف والخلف إنما تطابقوا على زيارة قبره بالمعنى المجمع عليه من قصد مسجده والصلاة فيه كما تقدم، وهذا فرق بينه وبين سائر قبور الأنبياء والصالحين، فإنه يشرع السفر إلى عند قبره لمسجده الذي أُسِّسَ على التقوى، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين، والصلاة مقصورة فيه باتفاق المسلمين، ومن قال إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتِلَ، وليس ذلك سفراً لمجرد الزيارة بل لا بد أن يقصد إتيان المسجد والصلاة فيه، وإن لم يقصد إلا القبر فهذا يندرج في كلام المجيب، حيث قال: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين. فهو ذكر القولين فيمن سافر لمجرد قصد زيارة القبور، أما من سافر لقصد الصلاة في مسجده عند حجرته التي فيها قبره فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين، وقد تقدم قول مالك للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث

الذي جاء: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد". فالسائل سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ففصل مالك في الجواب بين أن يريد القبر أو المسجد مع أن اللفظ إنما هو نذر أن يأتي القبر، فعلم أن لفظ إتيان القبر وزيارة القبر، والسفر إلى القبر ونحو ذلك يتناول من يقصد المسجد وهذا مشروع، ويتناول من لم يقصد إلا القبر وهذا منهي عنه كما دلت عليه النصوص وبينه العلماء مالك وغيره. فمن نقل عن السلف أنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد بحيث لا يقصد المسافر المسجد ولا الصلاة فيه بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها مالك؛ فهذا لا يوجد في كلام أحد من علماء السلف استحباب ذلك فضلاً عن إجماعهم عليه، وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه، ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده، وطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبر وتقوى وقيام بحق الرسول، وما هو شرك وبدعة وضلالة منهي عنها، لئلا يلتبس هذا بهذا، فإن السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين، لكن إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى. وقد تقدم عن مالك وغيره أنه إذا نذر إتيان المدينة؛ إن كان قصده الصلاة في المسجد وإلا لم يوفي بنذره، وأما إذا نذر إتيان المسجد لزمه، لأنه إنما يقصد الصلاة فلم يجعل السفر إلى المدينة سفراً مأموراً به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد، وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشَدَّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وجعل من سافر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفراً منهياً عنه لا يجوز أن يفعله وإن نذره، وهذا قول جمهور العلماء. فمن سافر إلى مدينة الرسول أو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور أو من آثار الأنبياء والصالحين كان سفره محرّماً عند مالك والأكثرين، وقيل إنه سفر مباح ليس بقربة كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو قول ابن عبد البر، وما علمنا أحداً من علماء المسلمين المجتهدين، الذين تذكر أقوالهم في

مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب، فدعوى من ادّعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر، وكذلك إن ادّعى أن هذا قول الأئمة الأربعة أو جمهور علماء المسلمين فهو كذب بلا ريب، وكذلك إن ادّعى أن هذا قول عالم معروف من الأئمة المجتهدين، وإن قال: هذا قول المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك وهو -بعد أن تعرف صحة نقله- نقل قولاً شاذاً مخالفاً لإجماع السلف، مخالفاً لنصوص الرسول، فكفى بقوله فساداً أن يكون قولاً مبتدعاً في الإسلام مخالفاً للسنة والجماعة، لما سنّه الرسول صلى الله عليه وسلم ولما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها. والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك، فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب، وأقل ما في الباب أن يجعل ممن طولب بصحة نقله والألفاظ المجملة والتي يقولها طائفة قد عرف مرادهم، وعياض نفسه الذي ذكر أن زيارته سنة مجمع عليها قد بين الزيارة المشروعة في ذلك، وقد ذكر عياض في قوله: "ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" ما هو ظاهر مذهب مالك أن السفر إلى غيرها محرم، فهو أيضاً يقول إن السفر لمجرد زيارة القبور كما قاله وسائر أصحابه مع ما ذكره من استحباب الزيارة الشرعية مع ما ذكر من كراهة مالك أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. ثم إن المعترض المالكي احتج في زيارة قبر صلى الله عليه وسلم بالقياس على زيارة الحي، فقال المعارض المناقض: وروى مسلم في صحيحه في الذي سافر لزيارة أخ له في الله، ولفظ الحديث: "أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في تلك القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا؛ إلا أني أحببته في الله. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بأن الله أحبك كما أحببته فيه"1. وفي موطأ مالك عن معاذ بن جبل في حديث ذكر فيه: سمعتُ رسول

_ 1 أخرجه مسلم (2567) .

الله صلى الله عليه وسلم يقول- أي عن الله-: " وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ"1. قال: فقد علمتَ أيها الأخ بهذا فضيلة زيارة الأخوان، وما أعدّ الله بها للزائرين من الفضل والإحسان، فكيف بزيارة من هو حي الدارين، وإمام الثقلين، الذي جعل الله حرمته في حال مماته كحرمته في حال حياته، ومن شرفه الحق بما أعطاه من جميع صفاته، ومن هدانا ببركته إلى الصراط المستقيم، وعصمنا به من الشيطان الرجيم، ومن هو آخذ بحجزنا أن نقتحم في نار الجحيم، ومن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم؟ قال الشيخ ابن تيمية: والجواب: أما زيارة الأخ الحي في الله كما في الحديث فهذا نظير زيارته في حياته، يكون الإنسان بذلك من أصحابه وهم خير القرون، وأما جعل زيارة القبر كزيارته حياً كما قاسه هذا المعترض فهذا قياس ما علمتُ أحداً من علماء المسلمين قاسه، ولا علمتُ أحداً منهم احتجّ في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحيّ المحبوب في الله، وهذا من أفسد القياس، فإنه من المعلوم أن من زار الحي حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك ما لا يحصل لمن لم يشاهده ولم يسمع كلامه، وليس رؤية قبره أو رؤية ظاهر الجدار الذي بني على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه، ولو كان هذا مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه، ومعلوم أن هذا من أبطل الباطل. وأيضاً: فالسفر إليه في حياته إما أن يكون لما كانت الهجرة إلية واجبة

_ 1 أخرجه مالك في "الموطأ" (2/354/16) - 51- كتاب الشعر- (5) باب ما جاء في المتحابين في الله. وأحمد (5/229، 236- 237، 239، 247) . أو رقم (2100، 22163، 22179، 22230) وابن حبان في "صحيحه" (2/ 335/ 575) والجوي في "شرح السنة" (3463) والحاكم (4/168- 169) والطبراني في "الكبير" (20/ رقم: 150- 167) وغيرهم. وصححه ابن عبد البر في "التمهيد". وصحّح إسناده الألباني في "المشكاة" (3/1395/5011) .

كالسفر قبل الفتح فيكون المسافر إليه مسافراً للمقام عنده بالمدينة مهاجراً من المهاجرين إليه، وهذا السفر انقطع بفتح مكة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" 1. ولهذا لما جاء صفوان بن أمية مهاجراً أمره أن يرجع إلى مكة. وكذلك سائر الطلقاء كانوا بمكة لم يهاجروا. وإما أن يكون المسافر إليه وافداً إليه ليسلم ويتعلم منه ما يبلغه قومه، كالوفود الذين كانوا يفدون عليه لاسيما سنة تسع وعشر سنة الوفود، وقد أوصى في مرضه بثلاث، فقال: "أخرجوا النصارى من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم"2. ومن الوفود وفد عبد القيس لما قدموا عليه ورجعوا إلى قومهم بالبحرين، لكن هؤلاء أسلموا قديماً قبل فتح مكة، وقالوا: لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، لأن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر -وهم أهل نجد كأسد وغطفان وتميم وغيرهم، فإنهم لم يكونوا قد أسلموا بعد- وكان السفر إليه في حياته لتعلم الإسلام والدين، ولمشاهدته وسماع كلامه، وكان خيراً محضاً. ولم يكن أحد من الأنبياء والصالحين عُبد في حياته بحضرته فإنه كان ينهى من يفعل ما هو دون ذلك من المعاصي فكيف بالشرك؟ كما نهى الذين سجدوا له، ونهى الذين صلّوا خلفه قياماً، وقال: "إن كدتم تفعلون فعل فارس والروم فلا تفعلوا" رواه مسلم3. وفي "المسند" بإسناد صحيح عن أنس قال:، لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك"4.

_ 1 أخرجه البخاري (3080) ومسلم (1863) . 2 أخرجه البخاري (3053، 3168، 4431) ومسلم (1637) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. 3 برقم (413) . 4 أخرجه أحمد (3/ 132، 134، 151، 250) والبخاري في "الأدب المفرد" (946) والترمذي (2754) وغيرهم. وهو حديث صحيح. انظر: "الصحيحة" (358) وكلام الشيخ الألباني في تحقيقه على "الأدب المفرد" (ص 334-335) .

وفي الصحيح؛ أن جارية قالت عنده: وفينا نبيٌّ يعلم ما في غدٍ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين"1. ومثل هذا كثير من نهيه عن المنكر بحضرته، فكل من رآه في حياته لم يتمكن أن يفعل بحضرته منكراً يقرُّ عليه- إلى أن قال-: ومعلوم أنه لو كان حياً في المسجد لكان قصده في المسجد من أفضل العبادات، وقصد القبر الذي اتخذ مسجداً مما نهى عنه ولعن أهل الكتاب على فعله، وأيضاً؛ فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدين وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعة في جميع البقاع، فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظّم للرسول صلى الله عليه وسلم التعظيم التام والمحبة التامة إلا عند قبره، بل هو مأمور بهذا في كل وقت. وزيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسفر إلى القبر بمجرده بالعكس مفسدة راجحة لا مصلحة فيها، بخلاف السفر إلى مسجده فإنه مصلحة راجحة، وهنا يفعل من حقوقه ما يفعل في سائر المساجد. وهذا مما يتبين به كذب الحديث الذي يقال فيه: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي" وهذا الحديث معروف من رواية حفص بن سليمان الغاضري صاحب عاصم، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي" 2. وقد رواه عنه غير واحد، وهو عندهم معروف من طريقه، وهو عندهما ضعيف في

_ 1 أخرجه البخاري (5147) وأحمد (6/359) وأبو داود (4922) والترمذي (1090) وابن ماجه (1897) . 2 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/رقم: 13497) وفي "المعجم الأوسط" (3/286/ 1830- مجمع البحرين) والدارقطني في "سننه" (2/278) والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/246) وفي "شعب الإيمان " (3/ 489/ 4154) وابن عدي في "الكامل " (2/790) . من طريق: حفص به. والحديث ضعّفه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/266) والألباني في "الإرواء" (1128) وقال: "منكر".

الحديث إلى الغاية، حجة في القراءة، قال يحيى بن معين: حفص ليس بثقة. وقال البخاري: تركوه.- ثم سرد الشيخ كلام الأئمة فيه وقال-: وقد رواه الطبراني في "المعجم"1 من حديث الليث بن أبي سليم عن زوجة جده عائشة، عن ليث، وهذا الليث وزوجة جده مجهولان، ونفس المتن باطل. فإن الأعمال التي فرضها الله ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة، بل في الصحيحين عنه أنه قال: "لو أنفق أحدكم مثل أحدٌ ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه"2. فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين، ولا يكون الرجل بها كمن سافر إليه في حياته ورآه، كيف وذلك إما أن يكون مهاجراً إليه؛ كما كانت الهجرة قبل الفتح، أو من الوفود الذين كانوا يَفِدُونَ إليه يتعلّمون الإسلام ويبلّغونه عنه إلى قومهم، وهذا عمل لا يمكن أحداً بعدهم أن يفعل مثلهم، ومن شبّه من زار قبر شخص بمن كان يزوره في حياته فهو مصاب في عقله ودينه. والزيارة الشرعية لقبر الميت مقصودها الدعاء له والاستغفار، كالصلاة على جنازته. والدعاء المشروع المأمور به في حق نبينا- كالصلاة عليه، والسلام عليه، وطلب الوسيلة له- مشروع في جميع الأمكنة لا يختص بقبره، فليس عند قبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة، بل كل عمل صالح يمكن فعله في سائر البقاع، لكن مسجده أفضل من غيره، فالعبادة فيه فضيلة بكونها في مسجده، كما قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". والعبادات المشروعة فيه بعد دفنه مشروعة فيه قبل أن يدفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته،

_ 1 "المعجم الكبير" (12/ رقم: 13496) وفي "الأوسط" (3/ 285/ 1829- مجمع البحرين) . وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 2) : "فيه عائشة بنت يونس؛ ولم أجد من ترجمها". وانظر: "التلخيص" و"الإرواء". 2 تقدم.

وقبل أن تدخل حجرته في المسجد، ولم يتجدد بعد ذلك فيه عبادة غير العبادات التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وغير ما شرعه هو لأمته ورغبهم فيه ودعاهم إليه، وما يشرع للزائر من صلاة وصيام ودعاء له وثناء عليه كل ذلك مشروع في مسجده في حياته، وهي مشروعة في سائر المساجد، بل وفي سائر البقاع التي تجوز فيها الصلاة، وهو صلى الله عليه وسلم قد جعلت له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً، فحيث ما أدركت أحداً الصلاة فليصل، فإنه مسجد، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم. ومن ظن أن زيارة القبر تختص بجنس من العبادة لم تكن مشروعة في المسجد وإنما شرعت لأجل القبر فقد أخطأ، لم يقل هذا أحد من الصحابة والتابعين، وإنما غلط في هذا بعض المتأخرين، وغاية ما نقل عن بعض الصحابة كابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر يقف عند القبر ويسلم. وجنس السلام عليه مشروع في المسجد وغير المسجد، قبل السفر وبعده، وأما كونه عند القبر فهذا كان يفعله ابن عمر إذا قدم من سفر، وكذلك الذين استحبوه من العلماء استحبوه للصادر والوارد من المدينة وإليها من أهلها، وللوارد والصادر من المسجد من الغرباء، مع أن أكثر الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك، ولا فرق أكثر السلف بين الصادر والوارد، بل كلهم ينهون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال أبو الوليد الباجي: إنما فرّق بين أهل المدينة وغيرها لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها ولم يقصدوها من أجل القبر والتسليم، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقال: "لا تجعلوا قبري عيداً". وهذا الذي ذكره من أدلة من سوَّى في النهي، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا ولا تتخذوا بيتي عيداً". نهي لكل أمته أهل المدينة والقادمين إليها، وكذلك نهيه عن اتخاذ القبور مساجد، وخبره بأن غضب الله اشتد على من فعل ذلك؛ هو متناول للجميع، وكذلك دعاؤه بأن لا يتخذ قبره وثناً عام، وما ذكره من أن الغرباء قصدوا لذلك تعليق على العلة ضد مقتضاها، فإن القصد لذلك منهي عنه، كما صرح به مالك وجمهور أصحابه،

وكما نهى عنه، وإذا كان منهياً عنه أو ليس بقربة لم يشرع الإعانة عليه. وابن عمر لم يكن يسافر إلى المدينة لأجل القبر بل المدينة وطنه، فكان يخرج منها لبعض الأمور ثم يرجع إلى وطنه فيأتي المسجد فيصلي فيه ويسلم. فأما السفر لأجل القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة، بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس ولا يزور قبر الخليل صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبوه عمر رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين والأنصار قدموا إلى بيت المقدس ولم يذهبوا إلى قبر الخليل عليه السلام، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر أهل الشام لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وما كان قربة للغرباء فهو قربة لأهل المدينة وما لم يكن قربة لهم لم يكن قربة لغيرهم، كاتخاذ بيته عيداً، واتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، وكالصلاة إلى الحجرة والتمسح بها، وإلصاق البطن بها والطواف بها، وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين، فإن هذا- بإجماع المسلمين- ينهى عنه الغرباء كما ينهى عنه أهل المدينة، ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين. وبالجملة فجنس الصلاة والسلام عليه والثناء عليه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما استحبه بعض العلماء عند القبر للواردين والصادرين هو مشروع في مسجده وسائر المساجد، وأما ما كان سؤالاً له فهذا لم يستحبه أحد من السلف لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم. ثم بعض من يستحب هذا من المتأخرين يدعوا به مع البعد فلا يختص هذا عندهم بالقبر، وأما نفس بيته عند قبره فلا يمكن أحداً الوصول، ولم يشرع هناك عمل يكون هناك منه في غيره، ولو شرع لفتح باب الحجرة للأمة، بل قد قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " صلوات الله وسلامه عليه.

وقد تقدم ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز الدراوردي، عن سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فناداني، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام، مثل معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وغيرهم؛ لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام؛ لا قبر الخليل ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. فإن قيل: الزائر في الحياة إنما أحبه الله لكونه يحبه في الله، والمؤمنون يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم، وكذلك يحبون سائر الأنبياء والصالحين، فإذا زاروهم أثيبوا على هذه المحبة. قيل: حبُّ الرسول من أعظم واجبات الدين، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"1. وفي الحديث الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 2 رواه البخاري عن أبى هريرة، قال: "والذي نفسي بيده".

_ 1 أخرجه البخاري (16) ومسلم 34. 2 أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) .

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ ييد عمر فقال: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلاّ نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك". فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، قال: "الآن يا عمر"1. وتصديق ذلك في القرآن قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 2. وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 3. وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 4. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة؛ اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ". وذكر الحديث5. وفي حديث آخر: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به"6.

_ 1 أخرجه البخاري (3694) . 2 سورة الأحزاب: 6. 3 سورة التوبة: 24. 4 سورة المجادلة: 22. 5 أخرجه البخاري (2399، 4781) . 6 حديث ضعيف. أخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه" (4/369) والبغوي في "شرح السنة" (1/ 212-213/104) وابن أبي عاصم في "السنة" (15) وابن بطة في "الإبانة" (1/387-388/279) والهروي في "ذم الكلام وأهله" (2/ 254- 255/ 320) والحسن بن سفيان النسوي في "الأربعين" (9) والأصبهاني في "الحجة في بيان المحجّة" (1/251/103) والبيهقي في "المدخل" (209) والسِّلَفي في "معجم السفر" (1265) وابن الجوزي في "ذم الهوى" (ص 22- 23- العلمية) . من طريق: نعيم بن حماد، ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مرفوعاً. وإسناده ضعيف. نعيم بن حماد "صدوق يخطىء كثيراً". وقد تفرّد به. ثم إنه اختُلف فيه عليه؛ فمرة يرويه عبد الوهاب عن هشام. ومرة يقول: حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره. وعقبة بن أوس روايته عن عبد الله بن عمرو متكلّم فيها؛ انظر: "جامع التحصيل" للعلائي رقم (528) . وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي؛ قال عنه ابن سعد: "كان ثقة، وفيه ضعف". ووثقه ابن حبان وغيره. وقال الهروي بعد أن روى الحديث: "جوّده الأعين، وله علتان". وقال النووي: "إسناده صحيح"! وقال الحافظ في "الفتح" (13/302) : "أخرجه الحسن بن سفيان، ورجاله ثقات، وقد صحّحه النووي في آخر الأربعين". قلت: قد تكلم الحافظ ابن رجب على علل الحديث بما يكفي في كتابه "جامع العلوم والحكم" (ص 724- 725 ط. ابن الجوزي) أو (2/ 394- 395- ط. الرسالة) فانظره لزاماً. وقال: "تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه ... ثم ذكرها". وضعفه العلامة محمد ناصر الدين الألباني في "المشكاة" (167) وفي "ظلال الجنة" (5) رحم الله الجميع.

لكن حبه وطاعته وتعزيره وتوقيره وسائر ما أمر الله به من حقوقه مأمور به في كل مكان، لا يختص بمكان دون مكان، وليس من كان في المسجد عند القبر بأولى بهذه الحقوق ووجوبها عليه ممن كان في موضع آخر. ومعلوم أن مجرد زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة، ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكنوا من فعل تلك العبادة عند قبره، وهم لم يمكنوا إلا من الدخول إلى مسجده، والذي يشرع في مسجده يشرع في سائر المساجد، لكن مسجده أفضل من سائرها غير المسجد الحرام على نزاع في ذلك، وما يجده المسلم في قلبه من محبته والشوق إليه والإنس بذكره وذكر أحواله فهو مشروع له في كل مكان، وليس في مجرد زيارة ظاهر الحجرة ما يوجب عبادة لا تفعل بدون ذلك، بل نهى عن أن يتخذ ذلك

المكان عيداً، وأمر أن يصلى عليه حيث كان العبد ويسلم عليه، فلا يخص بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا تسليم عليه فكيف بما ليس كذلك؟ وإذا خص قبره بذلك صار ذلك في سائر الأمكنة- دون ما هو عند قبره- ينقص حبه وتعظيمه وتعزيره وموالاته والثناء عليه عند غير قبره عما يفعل عند قبره، كما يجده الناس في قلوبهم إذا رأوا من يحبونه ويعظمونه، يجدون في قلوبهم عند قبره مودة له ورحمة ومحبة أعظم مما يكون بخلاف ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في كل مكان وزمان، فلا يؤمرون بما يوجب نقص محبتهم وإيمانهم في عامة البقاع والأزمنة، مع أن ذلك لو شرع لهم لاشتغلوا بحقوقهم عن حقه، واشتغلوا بطلب الحوائج منه كما هو الواقع، فيدخلون في الشرك بالخالق وفي ترك حق المخلوق، فينقص تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وأما ما شرعه لهم من الصلاة والسلام عليه في كل مكان، وأن لا يتخذوا بيته عيداً ولا مسجداً، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه كما تزار القبور؛ فهذا يوجب كمال توحيدهم للرب تبارك وتعالى، وكمال إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيمه حيث كانوا، واهتمامهم بما أمروا به من طاعته، فإن طاعته هي مدار السعادة، وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار، فأهل طاعته هم أولياء الله المتقون، وجنده المفلحون، وحزبه الغالبون، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك، والذين يقصدون الحج إلى قبره وقبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أنداداً من أهل معصيته ومخالفته، لا من أهل طاعته وموافقته، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنوا أن هذا من موالاته ومحبته كما يظن النصارى أن ما هم عليه من الغلو في المسيح والشرك به من جنس محبته وموالاته، وكذلك دعاؤهم للأنبياء والموتى، كإبراهيم وموسى وغيرهما عليهم السلام، ويظنون أن هذا من محبتهم وموالاتهم وإنما هو من جنس معاداتهم، ولهذا يتبرؤون منهم يوم القيامة، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يتبرأ ممن عصاه، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ

جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} 1. فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرؤوا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 2. وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبة، إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم فيحبهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله وما من الله به عليه وما من به على أمته، فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له لا بنفس رؤية القبر، ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم، وإنما قصد جمهورهم التأكل والترأس بهم، فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رياسة أو مأكلة لا ليزدادوا هم حباً وخيراً. وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد"3. وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يستحقه صلى الله عليه وسلم، والأمر فوق ما ذكره أضعافاً مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به وطاعتنا له، واتباع سنته والتأسي به، والإقتداء به ومحبتنا له، وتعظيمنا له، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، فإن هذا هو طريق النجاة والسعادة وهو سبيل الحق ووسيلتهم إلى الله تعالى، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره، والشرك بالله، واتباع غير سبيل المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو صلى الله عليه وسلم قد قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا". وقال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وقال: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور

_ 1 سورة الشعراء: 214- 216. 2 سورة الممتحنة: 4. 3 تقدم تخريجه.

محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 1. وقال: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"2. إلى غير ذلك من الأدلة التي تبين أن الحجّاج إلى القبور هم من المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم الخارجين عن شريعته وسنته، لا من الموافقين له المطيعين له، كما قد بسط في غير هذا الموضع". هذا آخر ما نقلناه من كتاب شيخ الإسلام فيما يتعلق بالزيارة، وقد عُلِمَ مما نقلناه أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرّم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينهَ عنها، ولم يكرهها، بل استحبها وحض عليها، ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور، ولم ينكر زيارتها في موضع من المواضع، ولا ذكر في ذلك خلافاً إلا نقلاً غريباً ذكره في بعض كتبه عن بعض التابعين، وإنما تكلم على مسألة شد الرحال وإعمال المُطِي إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين؛ أحدهما: القول بإباحة ذلك كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. والثاني:

_ 1 جزء من خطبته الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بها كلامه عند النكاح وغيره، وقد استوعب طرقها وألفاظها العلامة الألباني في رسالة مستقلة بعنوان "خطبة الحاجة" فانظرها. 2 أخرجه أحمد (4/126- 127) وأبو داود (4607) وابن حبان في "صحيحه" (1/ 187/5) والدارمي (1/57/ 95) وابن بطة في "الإبانة" (1/305/ 142) والآجري في "الشريعة" (1/171/ 92، 94) وابن أبي عاصم في "السنة" (32) . من طريق: الوليد بن مسلم، ثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عمر السُّلمي، وحُجر بن حجر الكلاعي، عن العرباض بن سارية مرفوعاً. وأخرجه أحمد (4/126) والترمذي (2678) وابن ماجه (43) والطبراني في "المعجم الكبير" (18/246/ 617) والحاكم (1/96) والآجري في "الشريعة" (1/172/ 94) وابن أبي عاصم في "السنة" (33) . من طريق: معاوية بن صالح، عن صخرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو السُّلمي، عن العرباض به. والحديث صحيح؛ كما قال الحاكم والذهبي، ووافقهما الألباني "في الصحيحة" (937) .

أنه منهي عنه؛ كما نص عليه إمام دار الهجرة مالك بن أنس. ولم يُنقَل عن أحد من الأئمة الثلاثة خلافه، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد. هكذا ذكر الشيخ الخلاف في شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، ولم يذكره في الزيارة الخالية عن شد رحل وإعمال مطي، والسفر إلى زيارة القبور مسألة وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة وجعلهما مسألة واحدة وحكم عليهم بحكم واحد وأخذ في التشيع على من فرق بينهما وبالغ في التنفير عنه فقد حُرِمَ التوفيق، وحاد عن سواء الطريق. واحتج الشيخ لمن قال بمنع شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور بالحديث المشهور المتفق على صحته، وهو "لا تُشَدُّ الرحال" الحديث. وذكر وجه الاستدلال في الكتابين السابقين، وكذا في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" بما لا مزيد عليه. فما نقله النبهاني الغافل الغبي عن السبكي وابن حجر وغيرهما من غلاة أسلافه ساقط عن درجة الاعتبار، بل هو افتراء محض وبهتان صرف على الشيخ في هذه المسألة وغيرها، والمسألة فرضية لا وقوع لها البتة، فإن كل من سافر إلى المدينة من أجل آماله الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ونية زيارة القبر فقط إن وقعت كان حكمها ما ذكره الشيخ حسبما دل عليه الحديث الصحيح. فلا يرد ما ذكره هذا الغبي في التنبيه الثامن من الهذيان، وهو قوله: اعلم أنه لو كان حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم التحريم كما زعمه ابن تيمية لامتنع الناس لذلك من زيارته عليه الصلاة والسلام، ولصارت المدينة المنورة من أحقر المدن، بل من أحقر القرى، وكادت تكون خراباً بلقعاً، فإن عمارتها إنما هو لوجود قبره الشريف صلى الله عليه وسلم فيها، فإن زيارة المؤمنين لها وانتيابهم إياها وترددهم إليها ومجاورتهم فيها كل ذلك إنما هو لأجله صلى الله عليه وسلم، ليكون وسيلتهم إلى الله تعالى في سعادتهم، لأنه ثبت عندهم ثبوتاً أوضح من الشمس أنه صلى الله عليه وسلم أقرب الوسائل وأجلّها وأنجحها إلى الله تعالى.. إلى آخر ما هذى به في ذلك التنبيه.

فانظر أيها المنصف إلى جهل هذا الغبيّ وما أدت إليه حماقته، فإنه إلى الآن لم يعرف أن عمارة المدن بأي شيء تكون، ولا درى أسباب الخراب ما هي، وظن أن زيارة القبور هي سبب عمارة البلاد، والإعراض عنها هو المستوجب لخرابها، ولا بدع إن اعتقد الغلاة الضالون هذا الاعتقاد الفاسد، فمثل ذلك هو اللائق بقلوبهم المختوم عليها. ويقال له: إن الشيخ لم يحرّم الزيارة ولا السفر إليها مطلقاً حتى يرد ما ذكرت، وإن الصلاة في المسجد النبوي إذا كانت بتلك المنزلة فلا شك أن المسلمين لا يهملونها، وما ذكره من قلة زوار البيت المقدس فكذب، وعلى مقتضى تعليله يلزم أن يكون البيت المقدس خراباً لقلة زواره، ومن المعلوم ما بلغ إليه من العمارة والمدنية، والرجل لا يستحي من الكذب والزور، ومقصوده بيان أنه كن رئيس المحكمة الجزائية ليعلم الناس مبلغه من العلم والإيمان قاتله الله ما أعظم حماقته ورعونته. ثم يقال: إن عمارة البلاد بالعلم والتقوى، والإيمان الكامل والعمل الصالح، والسعي للدنيا والآخرة، وأما زيارة القبور أي قبر كان إنما هي للدعاء للميت والاعتبار به، فهي شعبة من شعب الطرق الأخروية. وقد ذكر هذا الغبي أيضاً في تضاعيف كلامه نقلاً عن بعض أسلافه الغلاة: أن زيارة القبور تعظيم، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واجب، فلا يجوز إهماله. قال الإمام الحافظ ابن قدامة في "الصارم المنكي"1: الكلام عليه من وجوه: أحدها: أن يقال: هاتان المقدمتان إن أخذتا على إطلاقهما أنتجتا أن زيارة قبره واجبة، وهو إنتاج لازم للمقدمتين لزوماً بيناً، فإن الضرب الأول من الشكل الأول، والحد الأوسط فيه محمول في الأولى موضوع في الثانية، فتكون النتيجة

_ 1 ص 332- 340.

موضوع الأولى ومحمول الثانية، وهي زيارة قبره واجبة، ثم يلزم على هذا لوازم: منها: أن تارك زيارة قبره عاص آثم مستحق للعقوبة منتفي العدالة لا تصح شهادته ولا تقبل روايته ولا فتواه، وفي هذا تفسيق جميع الصحابة إلا من صح عنه منهم الزيارة، ولا ريب أن هذا شر من قول الرافضة الذين فسّقوا جمهورهم بتركهم تولية علي، بل هو من جنس قول الخوارج الذين يكفرون بالذنب، لأن تارك هذه الزيارة عنده تارك لتعظيمه، وتارك تعظيمه كفر أو ملزوم للكفر، فإن تعظيم الرسول من لوازم الإيمان فعدمه مستلزم الكفر، وعلى هذا فكل من لم يزر قبره فهو كافر، لأنه تارك لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن الروافض والخوارج لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء من الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة. يوضحه الوجه الثاني: أن الخوارج إنما كفّروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم، وأما عباد القبور فكفروا بموافقة الرسول في نفس مقصوده، وجعلوا تجريد التوحيد كفراً وتنقصاً، فأين المكفر بالذنب من المكفر بموافقة الرسول وتجريد التوحيد؟ يوضحه الوجه الثالث: أن زيارة قبره لو كانت تعظيماً له لكانت مما لا يتم الإيمان إلا بها، ولكانت فرضاً معيناً على كل من استطاع إليها سبيلاً من قرب أو بعد، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض، وقام به الخلف الذين خلفوا من بعدهم ويزعمون أنهم بذلك أولياء الرسول، وحزبه القائمون بحقوقه، وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا أهل طاعته، والقيام بما جاء به علماً ومعرفة وعملاً وإرشاداً وجهاداً، الذين جردوا توحيد الخالق وعرفوا للرسول حقه، ووافقوه في تنفيذ ما جاء به والدعوة إليه والذب عنه. الوجه الرابع: أنه إذا كانت زيارة قبره واجبة على الأعيان كانت الهجرة إلى القبر آكد من الهجرة إليه في حياته، فإن الهجرة إلى المدينة انقطعت بعد الفتح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح". وعند عُبّاد القبور أن الهجرة إلى القبر فرض معين على من استطاع إليه سبيلاً، وليس يخاف أن هذا مراغمة صريحة لما

جاء به الرسول، وإحداث في دينه ما لم يأذن به، وكذب عليه وعلى الله، وهذا من أقبح التنقص. وقد ذكر السبكي في موضع من كتابه "شفاء السقام" أنه رأى فتيا بخط شيخ الإسلام وفيها: ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية؛ مقصودها السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً، وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمناً أم كافراً. قال: وقال بعد ذلك: فالزيارة لقبر المؤمن نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته، [يدعى كما يدعى إذا صلى على جنازته] . وأما الزيارة البدعية؛ فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت، مثل طلب الحوائج منه أو به، أو التمسح بقبره وتقبيله، أو السجود له ونحو ذلك، فهذا كله لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من السلف لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره. قال السبكي- بعد حكايته هذا الكلام عن الشيخ-: وبقي قسم لم يذكره، وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به، فهذه ثلاثة أقسام؛ أولها السلام والدعاء له، وقد سلم جوازه وأنه شرعي. والقسم الثاني: التبرك به والدعاء عنده للزائر. قال: وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث، ولا دليل له على ذلك، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه، وأن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين فكيف بالأنبياء والمرسلين؟ ومن ادعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه، وفيه حط لرتبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة من سواه من المؤمنين، وذلك كفر بيقين، فإن من حط رتبة النبي صلى الله عليه وسلم عما يجب له فقد كفر. فإن قال: إن هذا ليس بحط ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له؛ قلت: هذا جهل وسوء أدب، وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك، ونحن نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم يستحق من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته، ولا يرتاب من في قلبه شيء من الإيمان. هذا كله كلام المعترض.

فانظر إلى ما تضمنه من الغلو والجهل والتكفير بمجرد الهوى وقلة العلم، أفلا يستحي من هذا مبلغ علمه أن يرمي أتباع الرسول وحزبه وأولياءه برأيه الذي يشهد به عليه كلامه؟ لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً. الوجه الخامس: أن يقال لهذا المعترض وأشباهه من عباد القبور: أتوجبون كل تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم أو نوعاً خاصاً من التعظيم؟ فإن أوجبتم كل تعظيم لزمكم أن توجبوا السجود لقبره وتقبيله واستلامه والطواف به لأنه من تعظيمه، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من عظمه بما لم يأذن به كتعظيم من سجد له، وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"1. ومعلوم أن مطريه إنما قصد تعظيمه. وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا: "عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". فمن عظّمه بما لا يحب فإنما أتى بضد التعظيم، وهذا نفس ما حرمه الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ونهى عنه وحذر منه. وأيضاً؛ فإن الحلف به تعظيم له، فقولوا: يجب على الحالف أن يحلف به لأنه تعظيم له وتعظيمه واجب، وكذلك تسبيحه وتكبيره والتوكل عليه والذبح باسمه كل هذا تعظيم له، ومعلوم أن إيجاب هذا مثل إيجاب الحج إليه بالزيارة على من استطاع إليه سبيلاً، ولا فرق بينهما. وإن قلتم: إنما نوجب نوعاً خاصاً من التعظيم طولبتم بضابط هذا النوع وحده، والفرق بينه وبين التعظيم الذي لا يجب ولا يجوز، وبيان أن الزيارة من

_ 1 أخرجه أحمد (3/ 153،241، 249) أو رقم (12573، 13554، 13622) وابن حبان (8/46/ 6207) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (248، 244) وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند" (1307) وغيرهم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (1097) .

هذا النوع الواجب، وإلا كنتم متناقضين موجبين في الدين ما لم يوجبه الله وشارعين شرعاً لم يأذن به الله. الوجه السادس: أن يقال: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما خطر بالبال تعظيم له فأَوْجِبُوا له هذا التعظيم، واحكموا على من قال لا يجب أنه تارك لتعظيمه، بل احكموا على من قال لا تجب الصلاة عليه كلما ذكر ولا تجب الصلاة عليه في الصلاة، أو لا تجب في العمر، إلا مرة، أو لا تجب أصلاً؛ بأنه تارك للتعظيم لأن الصلاة عليه تعظيم له بلا ريب، فهل كان أئمة الإسلام وعلماء الأمة نافين لتعظيمه تاركين له بنفيهم الوجوب؟ أم كانوا أشد تعظيماً له منكم وأعرف بحقوقه وأحفظ لدينه أن يزاد فيه ما ليس منه؟! يوضحه الوجه السابع: أن الذين كرهوا من الفقهاء الصلاة عليه عند الذبح يكونون على قولكم تاركين لتعظيمه وذلك قادح في إيمانهم، وكذلك من كره أو حزم الحلف به، وقال: لا تنعقد يمين الحالف به؛ يكون على قولكم تاركاً لتعظيمه لأن الحلف به تعظيم له بلا ريب. الوجه الثامن: أن القول بعدم وجوب زيارة قبره أو بعدم استحبابها أو بعدم جواز شد الرحال لا يقدح في تعظيمه بوجه من الوجوه، وهو بمنزلة قول من قال من أئمة الإسلام: لا تجب الصلاة عليه في التشهد الأخير. وبمنزلة قول من قال منهم: تكره الصلاة عليه عند الذبح. وبمنزلة قول من قال: لا تستحب الصلاة عليه في التشهد الأول، ولا عند التشهد في الأذان. بل قول من نفى وجوب الزيارة أو جواز شد الرحال إلى القبر أولى أن لا يكون منافياً للتعظيم من قول من نفى وجوب الصلاة عليه أو استحبابها في بعض المواضع، لأن الصلاة عليه مأمور بها، وقد ضمن للمصلّي عليه مرة أن يُصلّى عليه عشراً، بل الصلاة عليه محض التعظيم له، فنفي وجوبها أو استحبابها في موضع ليس بترك للتعظيم وليس إنكار وجوب كل من الأمرين قادحاً في تعظيمه، بل ذلك عين تعظيمه. يدل عليه الوجه التاسع: أن تعظيمه هو موافقته في محبة ما يحب،

وكراهة ما يكره، والرضى بما يرضى به، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه، والبعد عما حذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه، ولا يقدم على قوله قول أحد سواه، ولا يعارض ما جاء به بمعقول ثم يقدم المعقول عليه كما يقول أئمة هذا المعترض، الذين تلقّى عنهم أصول دينه وقدم آراءهم وهواجس ظنونهم على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم ينسب ورثة الرسول الواقفين مع أقواله المخالفين لما خالفها إلى ترك التعظيم، وأي إخلال بتعظيم وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن إفادة اليقين، وقدّم عليه آراء الرجال، وزعم أن العقل يعارض ما جاء به، وأن الواجب تقديم المعقول وآراء الرجال على قوله؟! الوجه العاشر: أن إيجاب زيارة قبره واستحبابه وشد الرحال إليه لأجل تعظيمه يتضمن جعل القبر منسكاً يُحَجُّ إليه كما يُحَجُّ إلى البيت العتيق، كما يفعله عباد القبور، سيما فإنهم يأتون عنده بنظير ما يأتي به الحاج من الوقوف والدعاء والتضرع، وكثير منهم يطوف بالقبر ويستلمه ويقبله ويمسح عليه، فلم يبق عليه من أعمال المناسك إلا الحلق والنحر ورمي الجمار، فإيجاب الوسيلة إلى هذا المحذور واستحبابها من أعظم الأمور منافاة لما شرعه الله ورسوله، وقد آل الأمر بكثير من الجهال إلى النحر عند قبور من يشدون الرحال إلى قبورهم، وحلق رؤوسهم عند قبورهم، وتسمية زيارتها حجاً ومناسك، وصنف فيه بعضهم كتاباً سماه "مناسك حج المشاهد" وكان سبب هذا هو الغلو الذي يظنه من قل علمه تعظيماً، ولا ريب أن هذا أكره شيء إلى الرسول قصداً ووسيلة. الوجه الحادي عشر: أن هذا الذي قصده عُبّاد القبور من التعظيم هو بعينه السبب الذي لأجله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، ولعن فاعل ذلك، ونهى عن الصلاة إليها، وحزم اتخاذ قبره عيداً، ودعا ربه أن لا يجعل قبره وثناً يُعْبَد، ولأجله نهى فضلاء الأمة وساداتها عن ذلك. ولأجله أمر عمر بتعفية قبر دانيال لما ظهر في زمان الصحابة. ولأجله منع مالك من نذر إتيان المدينة وأراد القبر أن يوفي بنذره. ولأجله كره الشافعي أن يعظم قبر مخلوق حتى

يجعل مسجداً، كما قال: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً. ولأجله كره مالك أن يقول القائل: زرتُ قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما يوهم هذا اللفظ من أنه إنما قصد المدينة لأجل زيارة القبر، ولما فيه من تعظيم القبر بإضافة الزيارة إليه مع كونه أعظم القبور على الإطلاق وأجلها وأشرف قبر على وجه الأرض، فالفتنة بتعظيمه أقرب من الفتنة بتعظيم غيره من القبور، فحمى مالك رحمه الله تعالى الذريعة حتى في اللفظ، ومنع الناذر من إتيانه، ولو كان إتيانه قربة عنده لأوجب الوفاء به، فإن من أصله أن كل طاعة تجب بالنذر سواء كان من جنسها واجب بالشرع أو لم يكن، ولهذا يوجب إتيان مسجد المدينة على من نذر إتيانه، وقد منع ناذر إتيان القبر من الوفاء بنذره، فلو كان ذلك عنده قربة لألزمه الوفاء به، ومن رد هذا النقل عنه وكذّب الناقل فهو من جنس من افترى الكذب وكذّب بالحق لما جاءه، فإن ناقله ممن له لسان صدق في الأمة بالعلم والأمانة والصدق والجلالة، وهو القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام، وكان نظير الشافعي، وإماماً في سائر العلوم، حتى قال المبرد: إسماعيل القاضي أعلم مني بالتصريف. وروى عن يحيى بن أكثم أنه رآه مقبلاً فقال: قد جاءت المدنية. وقد ذكر هذا النقل عن مالك في أشهر كتبه عند أصحابه وأجلها عندهم وهو "المبسوط". فمن كذبه فهو بمنزلة من كذّب مالكاً والشافعي وأبا يوسف ونظرائهم، ومن وصل الهوى بصاحبه إلى هذا الحد فقد فضح نفسه وكفى خصمه مؤنته، ومن جمع أقوال مالك وأجوبته وضم بعضها إلى بعض، ثم جمعها إلى أقوال السلف وأجوبتهم قطع بمرادهم، وعلم نصيحتهم للأمة وتعظيمهم للرسول، وحرصهم على اتباعه وموافقته في تجريد التوحيد وقطع أسباب الشرك، وبهذا جعلهم الله أئمة، وجعل لهم لسان صدق في الأمة، فلو ورد عنهم شيء خلاف هذا لكان من المتشابه الذي يرد إلى المحكم من كلامهم وأصولهم، فكيف ولم يصح عنهم حرف واحد يخالفه، فتبين أن هذا التعظيم الذي قصده عباد القبور هو الذي كرهه أهل العلم، وهو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى أمته عنه ولعن فاعله، وأخبر بشدة غضب الله عليه حيث يقول: "اشتد

غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومعلوم قطعاً أنهم إنما فعلوا ذلك تعظيماً لهم ولقبورهم، فعلم أن التعظيم للقبور مما يَلْعَنُ الله فاعله ويشتدّ غضبه عليه. الوجه الثاني عشر: أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ويصدق هذه المحبة أمران: أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلي الصبح والعصر لئلا يتشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم، ونهى أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان. ونهى أن يُخْلَفَ بغير الله، وأخبر أدن ذلك شرك، ونهى أن يصلى إلى القبر ويتخذ مسجداً أو عيداً أو يوقد عليها سراج، وذم من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد، فقال له: "بئس الخطيب أنت". بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه. الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضا بحكمه، والانقياد له والتسليم، والإعراض عمن خالفه، وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده المعبود، المألوه، المخوف، المرجى، المستغاث به، المتوكل عليه، الذي إليه الرغبة والرهبة، وإليه الوجهة والعمل، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب، الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده، وأحياهم وحده، ويبعثهم وحده، ويغفر، ويرحم، ويهدي، ويضل، ويسعد،

ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائناً من كان، بل الأمر كله لله، وأقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاهاً وأرفعهم لديه ذكراً وقدراً، وأعمّهم عنده شفاعة؛ ليس له من الأمر شيء، ولا يعطى أحداً شيئاً، ولا يمنع أحداً شيئاً، ولا يملك لأحد ضراً ولا رشداً، وقد قال لأقرب الخلق إليه وهم ابنته وعمه وعمته: "يا فاطمة بنت محمد؛ لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس، عم رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية، عمة رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئاً"1. فهذا هو التعظيم الحق، المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، الذي هو لازم إيمانه وملزومة. وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه فالمغالي المفرط كذلك، وكل منهما شر من الآخر من وجه دون وجه، وأولياؤه سلكوا بين ذلك قواماً. وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه وإعلاء كلمته، ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه. وبالجملة؛ فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض لأجله وفيه، وتحكيمه وحده والرضا بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله، فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد -وكفى بالله شهيداً- وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك وهم يشهدون على أنفسهم بذلك، وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم وأقوال متبوعيهم على قوله، وأنه لا يستفاد من كلامه يقين، وأنه إذا عارضته آراء الرجال قدمت عليه وكان الحكم ما تحكم به.

_ 1 تقدم.

أفلا يستحيي من الله من العقلاء من هذا حاله في أصول دينه وفروعه أن يتستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناصر له، منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه؟ ويأبى الله ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون. {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2 انتهى. وقد أكثر شيخ الإسلام- قدس الله روحه- من الرد على الغلاة القبوريين في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" وغيره من كتبه، وما ذكرناه وافٍ بالغرض على اختصاره، والله أعلم. ثم إن النبهاني الغبي ذكر قصة بلال التي ذكرها السبكي، وهي أن بلالاً رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؛ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟! فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه.. إلى آخرها. وقد تكلم عليها الحافظ ابن قدامة في كتابه "الصارم المنكى في الرد على السبكي"3 وبيّن ضعفها. وذكر النبهاني الغبي أيضاً الأكذوبة المشهورة المسندة لأحمد الرفاعي، فقال: "إن الزيارة وصلة مع الحبيب، وقد وقع لبعض العارفين مخاطبته له صلى الله عليه وسلم وردّه عليه، ومن ذلك المعنى ما ذكره بعض العارفين عن القطب الرفاعي في حال زيارته للقبر الشريف من قوله: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

_ 1 سورة الأنفال: 34. 2 سورة التوبة: 105. (ص 237- وما بعدها) . وانظر: "قصص لا تثبت" (1/ 35- 39) للشيخ يوسف العتيق.

قال: "فمد يده الشريفة من الشباك فقبّلها" انتهى كلامه1. أقول: الكلام على هذه الخرافة في مقامين؛ المقام الأول: في تكذيب وقوع القصة وافترائها على أحمد الرفاعي. المقام الثاني: في بيان عدم إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وأن من ادّعى ذلك فهو كاذب. أما المقام الأول؛ وهو بيان كذب هذه القصة: فمن وجوه كثيرة نذكر منها ما خطر بالبال: الأول: أنه قد ترجم أحمد الرفاعي هذا جماعة من المؤرخين على اختلافهم المذهب، ولم يذكروا هذه القصة في ترجمته، ولو كانت ثابتة لعدّوها من أعظم مآثره وأكبر مفاخره، لاسيما التاج السبكي لتعصبه للمتصوفة، ولاسيما من هو على مذهبه ونحلته، ومع ذلك لم يذكر هذه القصة في ترجمة أحمد الرفاعي لما ترجمه في "طبقاته"2، فإنه قال: "أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة، الشيخ الزاهد الكبير أحد أولياء الله العارفين، والسادات المشمرين، أهل الكرامات الباهرة، أبو العباس بن أبي الحسن بن الرفاعي المغربي. قدم أبوه إلى العراق وسكن ببعض

_ 1 القصة أوردها النبهاني في "شواهد الحق" وفي "جامع كرامات الأولياء" (1/ 298) والصيادي في "قلادة الجواهر" (ص 15، 20، 108) . والقصة كذب صراح لا شك في ذلك؛ لأسباب كثيرة أهمها: 1- أن أصحاب الكتب والتراجم الصوفية القديمة لم تذكر هذه الحادثة. 2- أن المؤرّخين الذين أرّخوا وترجموا للشيخ أحمد الرفاعي لم يذكروها. 3- ليس للقصة إسناد قط. 4- أن القصة لم ينقلها إلا أفراد، فأين العدد الكثير الذين شاهدوا القصة؟! وانظر في بيان بطلان القصة: "دراسات في التصوف" للشيخ المجاهد إحسان إلهي ظهير-رحمه الله- (ص 215- وما بعدها) و "قصص لا تثبت" (3/171- وما بعدها) . 2 "طبقات السبكي" (4/40) .

القرى، وتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد، ورزق منها أولاداً، منهم الشيخ أحمد هذا، لكنه مات وأحمد حمل، فلما ولد رباه وأدبه خاله منصور، وكان مولده في المحرم سنة خمسمائة. وتفقه على مذهب الشافعي، وكان كتابه "التنبيه". ولو أردنا استيعاب فضائله لضاق الوقت، ولكنا نورد ما فيه بلاغ ". ثم ذكر كلاماً في محاسن أخلاقه إلى أن قال: "وقال الشيخ أحمد: سلكتُ كل طريق فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الذل والافتقار والانكسار لتعظيم أمر الله، والشفقة على خلق الله، والإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يجمع الحطب ويحمله إلى بيوت الأرامل والمساكين، وربما كان يحمل الماء لهم "إلى أن قال: "وكان لا يجمع بين قميصين لا في شتاء ولا في صيف، ولا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكلة". ثم قال: "وعن يعقوب- وقد سُئل عن أوراد سيدي أحمد، فقال-: كان يصلي أربع ركعات بألف (قل هو الله أحد) ويستغفر كل يوم [ألف] مرة، واستغفاره أن يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت مع الظالمين، عملتُ سوءاً، وظلمتُ نفسي وأسرفتُ في أمري، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت. توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ومناقبه أكثر من أن تحصى، وقد أفرد لها بعض الصلحاء كتاباً يخصها" انتهى. فلم يذكر قصة مد اليد التي هي من أعظم الخوارق وأعجبها لو صحّت! مع أنه ذكر أعظم مفاخره وهي قصة الهرة التي كانت نائمة على كمه فقطع الكم، وقصة البعوضة التي كانت على يده تمتص دمه، وقصة الكلاب التي كانت تأكل التمر من القوصرة في دار الطعام وهم يتهارجون، فوقف على الباب لئلا يدخل إليهم أحد يؤذيهم. وذكر القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان"1 ما نصه: "أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن

_ (1/94-95/70) .

الرفاعي، كان رجلاً صالحاً فقيهاً شافعي المذهب، أصله من الغرب، وسكن في البطائح بقرية يقال لها أم عبيدة، وانضم إليه خلق عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه، والطائفة المعروفة بالرفاعية والبطائحية من الفقراء منسوبة إليه ولأتباعه، ولهم أحوال عجيبة من أكل الحيّات وهي حية، والنزول في التنانير وهي تتضرم بالنار فيطفئونها". إلى أن قال: "ولم يكن له عقب، وإنما العقب لأخيه وأولاده يتوارثون المشيخة والولاية على تلك الناحية إلى الآن، وأمورهم مشهورة مستفيضة فلا حاجة إلى الإطالة فيها" انتهى. فلم يذكر تلك القصة من مناقبه، ولو صحّت روايتها لكانت غرة وجه مناقبه، وهكذا ذكر كل من ترجمه من الثقات وهذه مما اختلقها له أصحابه بعد موته بعدة سنين، كما ادعوا له الانتساب إلى إبراهيم المرتضى بن موسى الكاظم رضي الله عنه ولا أصل له أيضاً، قال في مختصر "عمدة الطالب": "إن الشيخ أحمد رحمه الله لم يدَّعِ ذلك، وإنما ادّعاه البطن الثالث من ولده، ويقولون هم أحمد بن علي بن الحسين بن المهدي بن أبي القاسم بن محمد بن الحسين بن أحمد الأكبر بن موسى أبي شجه بن إبراهيم المذكور. قال أبو نصر البخاري: لا يصح لإبراهيم المرتضى عقب إلا من موسى وجعفر، ومن انتسب إلى غيرهما فهو كاذب" انتهى المقصود منه. والمقصود؛ أن قصة مد اليد ونحوها من المزايا والمآثر لو صحت لكانت أحق بالذكر من جميع ما ذكروه، فلمّا لم يذكروها علمنا أنها من إفك أفاك أثيم. الوجه الثاني: أن أحسن من رواها الإمام السيوطي، وقد أسندها إلى بعض المجاميع، ولم يذكر لها سنداً واهياً فضلاً عن أن يكون صحيحاً، مع أن حاله في الرواية معلوم، فقال في كتابه (تنوير الحلك في رؤية النبي والملك) : وفي بعض المجاميع؛ وذكر القصة والبيتين على وجه الاختصار مع أن هذه القصة لو صحّت لتوفرت الدواعي على نقلها، لأنها حادث عظيم وخارق عجيب، فالشيء الذي تتوفر الدواعي على نقله ولم يذكره أحد من الثقات بل ذكره الدجالون الضالون المضلون فهو لا شك تزوير وبهتان، وكذب من إفك شيطان.

الوجه الثالث: أن الدجالين الذين رووا هذه القصة المكذوبة ادعوا أن من كان حاضراً هناك ورأوا اليد وسمعوا رد السلام نحو مائة ألف أو يزيدون! سبحانك هذا بهتان عظيم! كيف يمكن أن يكون هناك هذا العدد الكثير؟ وأي محل في المسجد يسعهم أو يسع عشر معشارهم؟! ثم إن القبر قد أحاطت به الجدران فمن أي شباك خرجت اليد؟! ومن المعلوم إذا كان أمر عجيب وشيء غريب يتهاجم على رؤيته الراؤون فلا يمكن الرؤية إلا للقريب، وكذلك سماع رد السلام كيف أمكن للجميع؟ فانظر إلى هذه الأكذوبة التي لا تروج حتى على ضعفاء العقول، ومع ذلك فقد تمسك بها قوم سلب الله منهم الحياء واتخذوها حبالة من حبائل مصائدهم، وأغراهم الله على مثل هذه الدعاوي الكاذبة ليفضحهم بها في الدنيا والآخرة انتقاماً لأهل الحق منهم. الوجه الرابع: أن كثيراً من أهل العلم والأدب نسب البيتين إلى غير أحمد الرفاعي. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في تذكرته: حكي أن ابن الفارض لما اجتمع بالشهاب السهروردي في مكة أنشده في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه نوبة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي وكفى بما ذكره الشيخ صلاح الدين هذا شاهداً على بطلان ما ادعاه غلاة الرفاعية ومبتدعتهم، فإن هذا الشيخ كان إماماً أديباً ناظماً ناثراً، ولد سنة ست وتسعين وستمائة، وقد عقد له ابن السبكي ترجمة مجملة في "طبقاته". وممن نقل ذلك الشهاب الخفاجي الشافعي في كتابه (طراز المجالس) وأن البيتين من شعر ابن الفارض لما اجتمع بالسهروردي في مكة قال: "وقد نسب هذا لغيره، ولم يذكر الغير ولم يصرح باسمه ". الوجه الخامس: حسن الظن بأحمد الرفاعي رحمه الله يقتضي عدم مخالفته للسنة النبوية والشريعة المحمدية، فقد كان على ما روى الثقات بخلاف من يدّعي

الانتماء إليه من المبتدعة الغلاة، وأنه لم يزل على المنهج المستقيم والصراط القويم، فمن البعيد عنه الزيارة البدعية التي وردت عن الجهلة الشيطانية، بل لا بد أن يزور الزيارة التي ذكرها الأئمة الأعلام، وأساطين دين الإسلام، وقد مر بيان ذلك مفصلاً فيما نقلناه من كتابي الشيخ، فكيف يسوغ لمن تأدب بالآداب النبوية أن يتجاسر في ذلك المقام، ويطلب منه ما لم يطلبه غيره من أكابر الصحابة وأئمة أهل البيت وغيرهم؟ ويقول له: امدد يمينك كي تحظى بها شفتي. فهل هذا إلا قول أفاك أثيم أراد أن يروّج زيف كلامه على الجهلة والعوام الطغام؟ فمن اليقين لدى العارفين أن هذه القصة كذب وزور لعن الله من وضعها وافتراها.

المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت

(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت) قد ذكرنا سابقاً بعض الوجوه على القدح برواية مد اليد وقصدنا الاختصار في القول، إذ الكلام عليه طويل جداً، وقد آن أن نتكلم على المقام الثاني وهو أيضاً من بعض الوجوه السابقة، فنقول وبالله التوفيق: إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قد ادّعاها قوم كثيرون بعد وفاته بزمن طويل، وقد ألف الجلال السيوطي رسالته المسماة (بتنوير الحلك في رؤية النبي والملك) لأجل تأييد هذا القول، وحال السيوطي وتلونه معلوم، حتى جعله بعض أهل العلم حاطب ليل، وبعد أن نقل عنه صاحب "روح المعاني" في هذه المسألة ما نقل وكذا عن غيره قال في تفسيره: ثم إني أقول بعد هذا كله: إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه؛ لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، وإلى أبي بكر وعلي ينتهي أغلب سلاسل الصوفية

الذين تنسب إليهم تلك الرؤية، ولم يبلغنا أن أحداً منهم ادّعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره. وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور: "ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه" ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال. وقد وقفتَ على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة، فهل وقفت على أن أحداً منهم ظهر له الرسول صلى الله عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه؟ وقد بلغك ما عري فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك، فهل بلغك عنه عليه الصلاة والسلام أنه ظهر لها كما يظهر للصوفية قبل لوعتها وهوّن حزنها وبين الحال لها؟ وقد سمعتَ بذهاب عائشة إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل، فهل سمعت تعرضه صلى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه؟ إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة. والحاصل؛ أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسلام لأحد من أصحابه وأهل بيته مع احتياجهم الشديد لذلك، وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت. وبالجملة؛ عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام، ولا يحسن مني أن أقول كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدّعيه، وكذا لا يحسن مني أن أقول إنهم إنما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم مناماً فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة، فقالوا رأينا يقظته لما فيه من البعد، ولعل في كلامهم ما يأباه، وغاية ما أقول إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السلام، وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جداً، وأنى يرى النجم

تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع، فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال: إنه لم يقع لحكمة الابتلاء، أو لخوف الفتنة، أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلى الله عليه وسلم، أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنته صلى الله عليه وسلم فيما يهمهم، فيتسع باب الاجتهاد، وتنشر الشريعة، وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد، أو لنحو ذلك، وربما يدعي أنه عليه الصلاة والسلام ظهر ولكن كان مستتراً في ظهوره، كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه. فهذا كالظهور الذي يدّعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى مرآته عليه الصلاة والسلام، وملاحظة أنه كثيراً ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه ابن خلدون، فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت، وإلا فالأمر مشكل فاطلب لك ما يحله، والله سبحانه الموفق للصواب" انتهى كلامه. وتوجيهه الذي وجه به غير مقبول، إذ لا يدل عليه كتاب ولا سنّة صحيحة، وليس الأمر مشكلاً إذا لم يقبل توجيهه كما زعمه، لأن غلط الحس كثير، فإذا صدقوا بروايتهم نجيب حينئذ بما أجاب شيخ الإسلام في كتابة "الجواب الباهر" وقد ذكرناه سابقاً برمته فإنه قد قال: "وكان الصحابة خير القرون، وهم أعلم الناس بسنته وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى المسجد لا يذهب أحد منهم إلى قبره لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحجرة في زمانه يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلوه إليه لا لسلام، ولا لصلاة، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً وسلاماً فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم ويأمرهم

وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناماً، فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة ففهموا من مقاصده وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم" إلى آخر ما ذكره هناك. ثم إنه يؤيد ما ذكره الشيخ أن العرب في الجاهلية كثيراً ما كانوا يسمعون كلاماً من أصنامهم كما سمعوا من صنمهم المسمى بالجلسد وهو صنم كان بحضرموت. وفي كتاب أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرني عمي الحسين بن دريد، قال: أخبرني حاتم بن قبيصة المهلبي، عن هشام بن الكلبي، عن أبي مسكين، قال: كان بحضرموت صنم يسمى الجلسد تعبده كنده وحضرموت، وكانت سدنته بني شكامة بن شبيب بن السكون بن أشرس بن ثور بن مرتع وهو كنده، ثم إلى أهل بيت منهم يقال لهم: بنو علاق، وكان الذي يسدنه منهم يسمى الأخزر بن ثابت، وكان للجلسد حمى ترعاه سوامه وغنمه، وكانت هوا في الغنم إذا رعت حمى الجلسد حرمت على أربابها، وكانوا يكلمون منه، وكان كجثة الرجل العظيم، وهو من صخرة بيضاء لها كالرأس أسود، وإذا تأمله الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان (قال الأخزر) : إني كنت يوماً عند الجلسد وقد ذبح له رجل من بني الأمري بن مهرة ذبحاً إذ سمعنا فيه كهمهمة الرعد فأصغينا، فإذا قائل يقول: شعار أهل عدم، إنه قضاء حتم، إن بطش سهم، فقد فاز سهم، فقلنا: ربنا وضاح وضاح. فأعاد الصوت وهو يقول: ناء نجم العراق، يا أخزر بن علاق، هل أحسست جمعاً عما، وعدد أجما، يهوى من يمن وشام، إلى ذات الآجام، نور أظل وظلام أفل، وملك انتقل من محل إلى محل. ثم سكت فلم ندر ما هو، فقلنا: هذا أمر كائن، فلما كان في العام المقبل-

وقد راث علينا ما كنا نسمع من كلام الصنم وساءت ظنوننا، وقربنا قرباناً ولطخنا بدمه وكذلك كنا نفعل -فإذا الصوت قد عاد إلينا فتباشرنا، فقلنا عم صباحاً ربنا لا مصد عنك ولا محيد، تشارت الشؤون وساءت الظنون، فالعياذ من غضبك والإياب إلى صفحك. فإذا النداء من الصنم يقول: قلبت النبات، وعزاها واللات، وعلياها ومناة، منعت الأفق فلا مصعد، وحرست فلا مقعد، وأبهمت فلا متلدد، وكان قد ناجم نجم، وهاجم الجم، وصامت زجم، وقابل رجم، وداع نطق، وحق سبت، وباطل زهق، ثم سكت. فتحدثت القبائل بهذا في مخاليف اليمن، فإنا لعلى أفان ذلك، إذ أضل رجل من كندة إبلاً فأقبل إلى الجلسد فنحر جزوراً واستعار ثوبين من ثياب السدنة واكتراهما فلبسهما- وكذلك كانوا يفعلون- ثم قال:- أنشدك يا رب أبكراً ضخماً مدمومة دماً مخلوقة بالأفخاذ، مخلوطة بألحاذ، أضللتها بين جماهير النخرة، حيث الشقيقة والصفرة، فاهد رب وأرشد فلم يجب. قال الأخزر فانكسر لذلك، وقد كان فيما مضى يخبرنا بالأعاجيب، فلما جن علينا الليل بت مبيتي عنده، فإذا هاتف يقول: لا شأن للجلسد ولا رثي لهدد، استقام الأود، وعبد الواحد الصمد، وأكفى الحجر الأصلد، والرأس الأسود، قال: فنهضت مذعوراً فأتيت الصنم فإذا هو منقلب على رأسه، وكان لو اجتمع فئام من الناس ما حلحلوه، فوالذي نفسي بيده ما عرجت على أهل ولا مال حتى أتيت راحلتي وخرجت حتى أتيت صنعاء، فقلت: هل من خائبة خبر؟ فقيل: ظهر رجل بمكة يدعو إلى خلع الأوثان، ويزعم أنه نبي، فلم أزل أطوف في مخاليف اليمن حتى ظهر الإسلام، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ. وفي أشعارهم: بات يجتاب شقارى كما ... بيقر من يمشي إلى الجلسد والبيقر: مشية يطأطىء الرجل فيها رأسه. والبيت للمثقب العبدي. ومنهم من قال: إنه لعدي بن الرقاع، ويروى: كما كبر من يمشي إلى الجلسد. وسمعوا أيضاً كلاماً من صنمهم المسمى بالضِمار- وهو بكسر الضاد المعجمة وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة- كأن صنماً لبني سليم، ولما

حضرت مرداساً الوفاة قال للعباس ولده: أي بني اعبد ضماراً فإنه ينفعك ويضرك. فبينما عباس يوماً عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار منادياً يقول: من للقبائل من سليم كلها ... أودى ضمار وعاش أهل المسجد إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد أودى ضمار وكان يعبد مدة ... قبل الكتاب إلى النبي محمد فحرق عباس ضماراً ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظة: أن عباس بن مرداس كان في لقاح له نصف النهار إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب بيض فقال له: يا عباس؛ ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها، وأن الحرب قد حرقت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب الناقة القصوا؟ فقال عباس: فراعني ذلك فجئت وثناً لنا يقال له الضمار كنا نعبده، ونكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به، فإذا صائح يصيح من جوفه: قل للقبائل من قريش كلها ... هلك الضمار وفاز أهل المسجد هلك الضمار وكان يعبد مدة ... قبل الصلاة على النبي محمد إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد قال عباس: فخرجت مع قوم بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت المسجد، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم، فقال: يا عباس؛ كيف إسلامك؟! فقصصت عليه القصة، فقال: صدقت وأسلمت أنا وقومي". وما كفى مبتدعة الرفاعية وغلاتهم تلك الأكذوبة الظاهرة العوار، البينة الفساد حتى اتخذوا لها يوم عيد، ولا يأكلون قبله بسبعة أيام شيئاً من اللحوم، وبعد انقضائها يكون العيد فيهنىء بعضهم بعضاً به ويسمونه عيد مد اليد. ولهم في ذلك رسائل ومصنفات، منها "القواعد المرعية في أصول الطريقة الرفاعية" وفيها قاعدة في الخلوة الأسبوعية المحرمية، وفيها اشترط رجال هذه

الطريقة العلية دخول الخلوة المحرمية في كل سنة في اليوم الثاني عشر من محرم الحرام إلى مساء اليوم السابع عشر، وقد اشترطوا ذلك على كل من انتسب إلى هذه الطريقة، وقالوا يلزم المختلي أن يتخذ له فراشاً خالصاً لا يشاركه فيه النساء، وأن يديم الوضوء كلما حدث له ناقض جدده، ولا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يكثر الكلام لغير ضرورة، وليلزم بيته إلا لعذر وينفرد، وليكن طعامه خالياً عن كل ذي روح، ثم ذكر ما يشرع للسالك في تلك الأيام من أوراد وأذكار. ومنها "الفخر المخلد في منقبة مد اليد" وفيها بيان ما يشرع ليلة عيد الخلوة المحرمية من البدع والأهواء، ولم ينزل الله بها من سلطان، ولم يتكلم بما حوته عالم من العلماء الأعلام، وكلها قد تلقوها عن إخوانهم الباطنية، والنحل الرافضية. وليس هذا المقام مقام الرد عليهم، وبيان ما نسب من الضلال إليهم، وقد رد عليهم شيخ الإسلام في عدة مواضع، وألف فيهم كتباً مفصلة، منها كتابه الذي سماه (كشف حال المشائخ الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية) نذكر منه إن شاء الله تعالى ما يناسب مقامه. وأظن أن ما كتبه النبهاني الغبي في هذه المسألة إنما هو إرضاءً لشيخه شيخ الضلال ومقدمة الدجال، عدو المسلمين، وناصر المبتدعين، الذي، كان قربه من ولى الأمر من أعظم المصائب وأدهى النوائب، وقد روج بدع الرفاعية أي رواج، وعدل بالمسلمين عن سواء السبيل وأقوم منهاج، هذا مع ما هو عليه من الفسق والفجور، والزيغ عن الحق في كل الأمور، وما اكتفى بذلك حتى بث حزبه ومردته يصدون عن الحق في كل سبيل، وأقعدهم على صراط الله المستقيم للإغواء والتضليل، حتى استفحل أمرهم، وعم البر والبحر شرهم، فذكر النبهاني الجاهل هذه القضية التي هي إحدى حبائل شيخه ليستجلب رضاه، فعليه وعلى شيخه ما يستحقان، والردود المؤلفة في القدح على شيخه هذا كثيرة، وكلها مطبوعة ومشتهرة منها كتاب (المسامير) ومنها (الفتح المبين) ومنها (السيف الرباني) ومنها غير ذلك، ولكن الأمر كما قيل:

من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام ثم إن النبهاني أخذ يتكلم على فضل المدينة النبوية، وذكر للشيخ البكري أربعين حديثاً في فضلها، والبكري هذا هو الذي رد عليه الشيخ في كتاب (الإستغاثة) - وهو مجلد كبير- ثم ذكر الخلاف في مكة والمدينة أيهما أفضل.. إلخ. أقول: فضل المدينة مما لا شك فيه، والكتب مملوءة من ذلك، قال ابن خلدون: "اعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه، وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب وينمو بها الأجور، وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفاً بعباده وتسهيلاً لطرق السعادة لهم، وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصحيحين؛ وهي مكة، والمدينة، وبيت المقدس. أما بيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، أمره الله ببنائه وأن يؤذن في الناس بالحج إليه، فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن، وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر منه. وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، أمرهما الله ببناء مسجد ونصب هياكله، ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحق عليه السلام حواليه. قال: والمدينة مهاجر نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، أمره الله تعالى بالهجرة إليها، وإقامة دين الإسلام بها، فبنى مسجده الحرام بها، وكان ملحده الشريف في تربتها. قال: فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين، ومهوى أفئدتهم، وعظمة دينهم، وفي الآثار من فضلها ومضاعفة الثواب في مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف". ثم إنه أشار إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة، وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم.

وقد ذكر ياقوت الحموي ذلك بتفصيل أكثر، على أنه قد أفرد لذلك كتب مخصوصة مشهورة، فلا تتعب القلم بذكرها. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب سؤال ورده؛ عن صحة أصول مذهب أهل المدينة ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم في الإمامة والديانة، وضبط علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار، وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار. أجاب رضي الله عنه؛ "الحمد لله: مذهب أهل المدينة النبوية- دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة، إذ فيها سن الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم سنن الإسلام وشرائعه، وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله، وبها كان الأنصار أنصار الله الذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم- مذهبهم- في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقاً وغرباً، في الأصول والفروع. وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون المفضّلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من وجوه: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"1. فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بلا نزاع. وفي بعض الأحاديث الشك في القرن الثالث بعد قرنه، وقد رُوي في بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة. واعتمد على ذلك أبو حاتم السُّلمي ونحوه من علماء أهل الحديث في طبقات هذه الأمة، بأن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح". ثم إنه ذكر أحاديث الثلاثة والأحاديث التي فيها ذكر القرن الرابع- إلى أن قال-: "وفي القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مذهب أهل المدينة، أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسُّون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها، حتى أنهم لا يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك، وأن افتقار العلماء ومقاصد العباد أكثر من افتقار أهل المدينة حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله بما كان

_ 1 أخرجه مسلم (2535) وابن حبان (6692) .

عندهم من الآثار النبوية التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد، ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة ولا الشام، ولا العراق، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين. ومن حكى عن أبي حنيفة أو أحد من أصحابه أن إجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك. وأما المدينة فقد تكلم الناس في إجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أن إجماع أهلها حجة، وأن بقية الأئمة ينازعونهم في ذلك. والكلام إنما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة. وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان حينئذ في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لاسيما من حين ظهر بها الرفض، فإن أهلها مستمسكون بمذهبهم القديم، منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة أو قبل ذلك أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم، لاسيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية، وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، وبذل لهم أموالاً فكثرت البدعة بها من حينئذ. فأما الأعصار المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين، كما خرج من سائر الأمصار فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها العلم والإيمان خمسة: البحران، والعراقان، والشامان، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام. وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية، فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها. والشام كان بها النصب والقدر. وأما التجهُّم فإنما ظهر من ناحية خراسان، وهو شر البدع، ولأن ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، وتقدم

بعقوبتها الشيعة من الأصناف الثلاثة الغالية حيث حرّقهم عليُّ بالنار، والمفضّلة حيث تقدم جلدهم ثمانين، والسبائية حيث طلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه، ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهم من الصحابة وحدثت المرجئة قريباً من ذلك. وأما الجهمية؛ فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز، وقد روي أنه أنذر بهم، وكان ظهور جهم بخراسان في خلافة هشام بن عبد الملك، وقد قتل المسلمون شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك، ضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: يا أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولم يكلّمْ موسى تكليماً، تعالى عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه. وقد روى أن ذلك بلغ الحسن البصري وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك1. وأما المدينة النبوية؛ فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك كان عندهم مهاناً مذموماً، إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، لكن كانوا مذمومين مقهورين، بخلاف التشيع والإرجاء بالكوفة، والاعتزال وبدع النُسَّاك بالبصرة، والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهراً. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخلها2. ويُحْكَى أن عمرو بن عبيد وهو رأس المعتزلة ممن كان يساجي سفيان الثوري ولم يعلم سفيان به فقال عمرو لرجل: من هذا؟ فقال: سفيان الثوري، أو قال: من أهل الكوفة. قال: ولو علمت بذلك لدعوته إلى رأي ولكن ظننته من هؤلاء المدنيين الذين يجيئونك من فوق. ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهراً إلى زمن أصحاب مالك، وهم أصل

_ 1 قصة ذبح خالد القسري للجعد بن درهم لا تصح؛ انظر تخريجها والكلام عليها في "قصص لا تثبت" (3/251- وما بعدها) للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان- حفظه الله تعالى. 2 انظر: "صحيح مسلم" (2943) .

القرن الرابع، حيث أخذ ذلك القرن عن مالك وأهل طبقته، كالثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة وأمثالهم، وهؤلاء أخذوا عن طوائف من التابعين، وأولئك أخذوا عمن أدركوا من الصحابة، والكلام في إجماع أهل المدينة في تلك الأعصار. والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة، أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب: الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد، وكترك صدقة الخضراوات والأجناس، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء. أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك، وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه، قال أبو يوسف رحمه الله- وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة، لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل، وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر رجع أبو يوسف إلى قوله وقال-: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت. فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه، ويهان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: إن هذه الأحاديث أيضاً صحّت؛ لكن لم تبلغه. ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ بالسفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس، لاعتقاده صحّتهما،

وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما. قال: وقد بينا هذا في رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وبتنا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر، بل لهم نحو من عشرين عذراً: مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم، أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه، كالناسخ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك، والأعذار يكون العالم في بعضها مصيباً فيكون له أجران، ويكون في بعضها مخطئاً بعد اجتهاده، فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1. وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال: "قد فعلت"2. ولأن العلماء ورثة الأنبياء. وقد ذكر الله عن داود وسليمان أنهما حكما في قضية، وأنه فهمها أحدهما، ولم يجب الآخر، بل أثنى على كل واحد منهما بأنه آتاه حكماً وعلماً، فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} 3. وهذه الحكومة تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء: مسألة نفش الدواب في الحرث بالليل، وهو مضمون عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، وأبو حنيفة لم يجعله مضموناً. والثانية: ضمان بالمثل والقيمة، وفي ذلك نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والمأثور عن أكثر السلف في نحو ذلك يقتضي الضمان بالمثل إذا أمكن، كما قضى به سليمان، وكثير من الفقهاء لا يضمنون ذلك إلا بالقيمة كالمعروف من مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. والمقصود هنا؟ أن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل حجة باتفاق

_ 1 سورة البقرة: 286. 2 تقدم تخريجه. 3 سورة الأنبياء: 78- 79.

المسلمين، قال مالك لأبي يوسف- لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها على أسلافهم-: أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق. فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. وسأله عن صدقة الخضراوات، فقال: هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله تعالى عنهما يعني وهي تنبت فيها الخضراوات. وسأله عن الأجناس، فقال: هذا جنس فلان وهذا جنس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما: قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضروات صدقة كمذهب مالك والشافعي وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء. وإنما قال مالك: برطالكم يا أهل العراق؛ لأنه لما انقرضت الدولة الأموية وجاءت دولة ولد العباس قريباً، فقام أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور فبنى بغداد فجعلها دار ملكه، وكان أبو جعفر يعلم أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعنى بدين الإسلام من أهل العراق. ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة، قال: نظرت في هذا الأمر فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس أو نحو ذلك، ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو وجهاد، ووجدت هذا الأمر فيكم. ويقال: إنه قال لمالك: وأنت أعلم أهل الحجاز، أو كما قال. فطلب أبو جعفر علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشروا العلم فيه، فقدم عليهم هشام بن عروة، ومحمد بن إسحق، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي

عبد الرحمن، وحنظلة بن أبي شقيق الجُمَحِي، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وغير هؤلاء. وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء ويتعلم منهم الحديث وأكثر ممن قدم الحجاز. ولهذا يقال في أصحاب أبي حنيفة: أبو يوسف أعلمهم بالحديث، وزفر أطردهم للقياس، والحسن بن زياد اللؤلؤي أكثرهم تفريعاً، ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب، وربما قيل أكثرهم تفريعاً. فلما صارت العراق دار الملك واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة غير المكيال الشرعي برطل أهل العراق، وكان رطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقالاً، مائة وثمانين وعشرون درهماً وأربعة أسباع الدرهم، فهذا هو المرتبة الأولى لإجماع أهل المدينة وهو حجة باتفاق المسلمين. المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان، فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريباً أنه الحق، وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها. وقال أحمد: كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة النبوة. ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة، وكذلك بيعة عليّ كانت بالمدينة، ثم خرج منها وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة بيعة. وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"1. وفي "السنن" من حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً"2.

_ 1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه أبو داود (4646) والترمذي (2226) وأحمد (5/220- 221) وغيرهم، وهو حديث صحيح.

فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان؛ كحديثين وقياسين، جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة؛ ففيه نزاع، فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة. ولأصحاب أحمد وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنه لا يرجح. والثاني: وهو قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به، قيل: هذا هو المنصوص عن أحمد. ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريراً كثيراً، وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة، ويدل المستفتي على إسحاق وأبي عبيدة وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث، ويدله على حلقة المدنيين حلقة أبي مصعب الزهري ونحوه، وأبو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك، مات بعد أحمد بسنة، سنة اثنين وأربعين ومائتين. وكان أحمد يكره أن يرد على أهل المدينة كما يرد على أهل الرأي، ويقول: إنهم اتبعوا الآثار. فهذا مذهب جمهور الأئمة يوافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة. وأما المرتبة الرابعة: فهي العمل المتأخر بالمدينة؛ فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعها أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه أصول الفقه وغيره، ذكر أن هذا ليس إجماعاً ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل الغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد.

قلت: ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في "الموطأ" إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا يذكر. ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها- وإن خالفت النصوص- لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها، وبالإجماع. وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطئه فامتنع من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي أو كما قال. وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحاً للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين. ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة إذ لم يخرج منها أحد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه، فإنه لما فتح الشام والعراق غيرهما أرسل عمر بن الخطاب إلى الأمصار من يعلمهم الكتاب والسنّة، فذهب إلى العراق عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي وغيرهم. وذهب إلى الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح وأمثالهم. وبقي عنده مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، ومثل أبي بن كعب، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت وغيرهم. وكان ابن مسعود وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة يفتي بالفتيا، ثم يأتي المدينة فيسأل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله فيرجع، كما جرى في مسألة أمهات النساء لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة وسأل عن ذلك أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعدما حلت.

وكان أهل المدينة فيما يعملون؛ إما سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب. ويقال: إن مالكاً أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب عن عمر، وعمر محدث. وفي الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر"1. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر"2. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"3. وكان عمر يشاور أكابر الصحابة كعلي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد،

_ 1 أخرجه الترمذي (3686) وأحمد (4/154) والحاكم (3/85) والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/500) والطبراني في "المعجم الكبير" (17/رقم: 822) والروياني في "مسنده" (1/171، 174/214، 223) والقطيعي في زوائده على "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (519) والأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة" (2/358/341) واللالكاني في "شرح أصول الاعتقاد" (7/1313/2491) والبيهقي في "المدخل" (65) والدينوري في "المجالسة" (2/86- 89/217) وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/65/595) . من طريق: حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر مرفوعاً. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في "الصحيحة" (1/2/646/رقم: 327) : "وهذا سند حسن، رجاله كلهم ثقات، وفي مشرح كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، وقد وثقه ابن معين". وحسن إسناده الشيخ مشهور في تحقيقه على "المجالسة"، ونقل توثيق الفسوي في "المعرفة" (2/500) لمشرح بن هاعان، والله تعالى أعلم. 2 أخرجه البخاري (3689) ومسلم (2398) . 3 أخرجه الترمذي (3662) وابن ماجه (97) وغيرهما من غير واحد من الصحابة؛ وانظر: "الصحيحة" (3/233/1233) .

وعبد الرحمن، وهم أهل الشورى. ولهذا قال الشعبي: انظروا ما قضى به عمر فإنه كان يشاور. ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر يشاور فيه هؤلاء أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وكان عمر- في مسائل الدين والأصول والفروع- إنما يتبع لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشاور علياً وغيره من أهل الشورى، كما شاوره في المطلقة المعتدة الرجعية في المرض إذا مات زوجها هل ترث؟ وأمثال ذلك. فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل عليّ إلى العراق هو وطلحة والزبير لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء، ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، ومحمد بن مسلمة، وأمثالهم، من هو أجلّ ممن مع علي من الصحابة، فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة علي وابن مسعود، وعليٌّ كان بالمدينة إذ كان بها عمر وعثمان وابن مسعود وهو نائب عمر وعثمان، ومعلوم أن علياً مع هؤلاء أعظم علماً وفضلاً من جميع من معه من أهل العراق، ولهذا كان الشافعي يناظر بعض أهل العراق في الفقه محتجاً على المناظر بقول عليّ وابن مسعود، فصنف الشافعي كتاب "اختلاف علي وعبد الله " يبين فيه ما تركه المناظر وغيره من أهل العلم من قولهما. وجاء بعده محمد بن نصر المروزي صنف في ذلك أكثر مما صنف الشافعي"- إلى أن قال-: "ومما يوضح الأمر في ذلك أن سائر أمصار المسلمين- غير الكوفة- كانوا منقادين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم كأهل الشام ومصر، مثل الأوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين، ومثل الليث بن سعد ومن قبل ومن بعد من المصريين، وإن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بيّن، وكذلك علماء أهل البصرة كأيوب، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم. ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار، فإن أهل مصر صاروا ناصرة لقول أهل المدينة، وهم أجلاء أصحاب مالك المصريين كابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وعبد الله بن الحكم. والشاميون مثل الوليد بن مسلم، ومروان بن

محمد، وأمثالهم؛ لهم روايات معروفة عن مالك. وأما أهل العراق؛ كعبد الرحمن بن مهدي، وحماد بن زيد، ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم، كانوا على مذهب مالك، وكانوا قضاة القضاة، وإسماعيل ونحوه كانوا من أجلّ علماء الإسلام. وأما الكوفيون بعد الفتنة والفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة، وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا متّبعين لأهل المدينة ومنقادين لهم، لا يعرف قبل مقتل عثمان أن أحداً من أهل الكوفة أو غيرها يدّعي أن أهل مدينته أعلم من أهل المدينة، فلما قتل عثمان وتفرقت الأمة وصاروا شيعاً ظهر من أهل الكوفة من يساوي بعلماء أهل الكوفة علماء أهل المدينة، ووجهه الشبهة في ذلك أنه ضعف أمر المدينة لخروج خلافة النبوة منها، وقوي أمر أهل العراق لحصول عليّ فيها. لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر في خلافة عمر، ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة أولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة. قال عبيدة السلماني -قاضي عليّ كرم الله وجهه-: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة. ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والتفرق ما دل عليه النص والإجماع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من ههنا، الفتنة من ههنا، الفتنة من ههنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" 1 وهذا الحديث قد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه. ومما يوضح الأمر في ذلك؛ أن العلم إما رواية، وإما رأي. وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأياً، وأما حديثهم فأصح الأحاديث. وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة، ثم أحاديث أهل البصرة.

_ 1 أخرجه البخاري (7092، 7093) ومسلم (2905) وللشيخ محمد أشرف سند -رحمه الله- هو رسالة قيمة في شرح هذا الحديث الشريف، موسوعة بـ"أكمل البيان في شرح حديث النجد قرن الشيطان" نشرت بدار المنار بالخرج.

وأما أحاديث أهل الشام؛ فهي دون ذلك، فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء، ولم يكن منهم -يعني أهل المدينة، ومكة، والبصرة، والشام- من يعرف بالكذب، لكن منهم من يضبط، ومنهم من لا يضبط. وأما أهل الكوفة؛ فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم، ففي زمن التابعين كان بها خلق كثير منهم معروفون بالكذب، لاسيما الشيعة، فإنهم أكثر الطوائف كذباً باتفاق أهل العلم، ولأَجْلِ هذا يُذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذّابين، ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب، فأما إذا عَلِمُوا صِدْقَ الحديث فإنهم يحتجون به. كما روى مالك عن أيوب السختياني وهو عراقي، فقيل له ذلك. فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه أو نحو هذا. وهذا القول هو القول القديم للشافعي، حتى روي أنه قيل له: إذا روى سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله حديثاً ألا يحتج به؟ فقال: إن يكن له أصل بالحجاز وإلا فلا. ثم إن الشافعي رجع عن ذلك، وقال لأحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث فأخبرني به حتى أذهب إليه، شامياً كان أو بصرياً أو كوفياً. ولم يقل مكياً أو مدنياً لأنه كان يحتج بهذا قبل. وأما علماء أهل الحديث كشعبة، ويحيى بن سعيد، وأصحاب الصحيح والسنن؛ فكانوا يميزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم ممن بالكوفة والبصرة من الثقات الذين لا ريب فيهم، وأن فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز، ولا يستريب عالم في مثل أصحاب عبد الله بن مسعود؛ كعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، والحارث التيمي، وشريح القاضي. ثم مثل إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة وأمثالهم من أوثق الناس وأحفظهم، فلهذا صار علماء الإسلام متفقين على الاحتجاج بما صححه أهل العلم بالحديث من أي مصر كان. وصنف أبو داود السجستاني مفاريد أهل الأمصار يذكر فيه ما انفرد أهل كل مصر من

المسلمين من أهل العلم بالسنة. وأما الفقه والرأي؛ فقد علم أن أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة في أصول الدين، ولما حدث الكلام في الرأي في أوائل الدولة العباسية وفرع لهم ربيعة بن هرمز فرعاً كما فرع عثمان الليثي وأمثاله بالبصرة، وأبو حنيفة وأمثاله بالكوفة، وصار في الناس من يقبل ذلك وفيهم من يرد، وصار الرادون لذلك مثل هشام بن عروة وأبي الزناد والزهري وابن عيينة وأمثالهم، فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدث بالمدينة فهم للرأي المحدث بالعراق أشد رداً، فلم يكن أهل المدينة أكثر من أهل العراق فيما لا يحمد، وهم فوقهم فيما يحمدونه، وبهذا يظهر الرجحان. وأما ما قال هشام بن عروة: لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون -أبناء سبايا الأمم- فقالوا فيهم بالرأي فضَلُّوا وأضَلُّوا. قال ابن عيينة: فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدث من الرأي إنما هو من المولدين أبناء سبايا الأمم، وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة وبالكوفة، والذين بالمدينة أحمد عند هذا ممن بالعراق من أهل المدينة. ولما قال مالك رضي الله تعالى عنه عن إحدى الدولتين: إنهم كانوا أتبع للسنن من الدولة الأخرى. قال ذلك لأجل ما ظهر بمقاربتها من الحدثان، لأن أولئك أولى بالخلافة نسباً وقرناً. وقد كان المنصور والمهدي والرشيد -وهم سادات خلفاء بني العباس- يرجّحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق، كما كان خلفاء بني أمية يرجحون أهل الحجاز على علماء الشام، ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل بل عدل إلى الآراء المشرقية كثر الأحداث فيهم وضعفت الخلافة. ثم إن بغداد إنما صار فيها من العلم والإيمان وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز، وسكنها من أفشى السنة بها وأظهر حقائق الإسلام، مثل أحمد بن حنبل، وأبي عبيدة، وأمثالهما من فقهاء أهل

الحديث، ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة في الأصول والفروع، وكثر ذلك فيها وانتشر منها إلى الأمصار، وانتشر أيضاً من ذلك الوقت من المشرق والمغرب، فصار في المشرق مثل إسحاق بن إبراهيم بن راهويه وأصحابه، وأصحاب عبد الله بن المبارك، وصار إلى المغرب من علم أهل المدينة ما نقل إليهم من علماء الحديث، فصار في بغداد وخراسان والمغرب من العلم ما يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة، ولم يكن بعد عصر مالك وأصحابه من علماء الحجاز من يفضل على علماء العراق والمشرق والمغرب، وهذا باب يطول تتبعه ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام. إذا تبين ذلك؛ فلا ريب عند أحد أن مالكاً رضي الله عنه أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأياً، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام -الخاص منهم والعام- ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبار الرواة عن مالك فبلغوا ألفاً وسبعمائة أو نحوها، وهؤلاء الذين اتصل إلى الحديث حديثهم نجعد قريب من ثلاثمائة سنة، فكيف بمن انقطعت أخبارهم ولم يتصل إليه خبرهم؟ فإن الخطيب توفي سنة اثنين وسبعين وأربعمائة، وعصره وعصر ابن عبد البر والبيهقي والقاضي أبي يعلى وأمثال هؤلاء واحد. ومالك توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين، وتوفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، ولهذا قال الشافعي: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صواباً بعد كتاب الله من موطأ مالك. وهو كما قال الشافعي رضي الله عنه. وهذا لا يعرض ما عليه أئمة الإسلام من أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم، مع أن الأئمة على أن البخاري أصح من مسلم، ومن رجح مسلماً فإنه رجحه بجمعه ألفاظ الحديث في مكان واحد، فإن ذلك أيسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث. وأما من زعم أن الأحاديث التي انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم

أصح من الأحاديث التي انفرد بها البخاري، ومن الرجال الذين انفرد بهم، فهذا غلط لا يشك فيه عالم. كما لا يشك أحد أن البخاري أعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ، وأنه أفقه منه، إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح والسنن المشهورة، وإن كان قد يتفق لبعض ما انفرد به مسلم أن يرجح على بعض ما انفرد به البخاري فهذا قليل، والغالب بخلاف ذلك، فإن الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم، وإنما كانا كذلك لأنه جرد فيهما الحديث الصحيح المسند، ولم يكن القصد بتصنيفهما ذكر آثار الصحابة والتابعين ولا سائر الحديث من الحسن والمرسل وشبه ذلك، ولا ريب أن ما جرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أصح الكتب، لأنه أصح منقولاً عن المعصوم من الكتب المصنفة. وأما "الموطأ" ونحوه فإنه صُنّف على طريقة العلماء المصنفين إذ ذاك، فإن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن، وقال: "من كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه"1. ثم نُسِخَ ذلك عن جمهور العلماء حيث أذن في الكتابة لعبد الله بن عمر، وقال: "اكتبوا لأبي شاه" 2. وكتب لعمرو بن حزم كتاباً. قالوا: وكان النهي أولاً خوفاً من اشتباه القرآن بغيره، ثم أذن لمّا أَمِنَ ذلك3، فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكتبون، وكتبوا أيضاً غيره، ولم يكونوا يصنفون ذلك في كتب مصنفة إلى زمن تابعي التابعين، فصنف العلم. فأول من صنف ابن جريج شيئاً في التفسير، وشيئاً في الأموات، وصنف سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، ومعمر، وأمثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وهذه هي كانت كتب الفقه والعلم

_ 1 أخرجه مسلم (3004) . 2 أخرجه البخاري (112) ومسلم (1355) . 3 انظر في ذلك "تقييد العلم" للخطيب البغدادي- رحمه الله-.

والأصول والفروع بعد القرآن. فصنف مالك الموطأ على هذه الطريقة، وصنف بَعْدُ عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغير هؤلاء. فهذه الكتب التي كانوا يعدونها في ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي رحمه الله تعالى، فقال: ليس بعد القرآن كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك، فإن حديثه أصح من حديث نظرائه. وكذلك الإمام أحمد- لما سئل عن حديث مالك ورأيه، وحديث غيره ورأيهم- رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم، وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة" 1. فقد رُوي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا: هو مالك. والذين نازعوا في هذا لهم مأخذان: أحدهما: الطعن في الحديث، فزعم بعضهم أن فيه انقطاعاً.

_ 1 أخرجه أحمد (2/299) أو رقم (7967- شاكر) والترمذي (2680) والحاكم (1/90) وابن حبان (9/52/3736) والبهيقي (1/386) والخطيب البغدادي في "تاريخه" (5/306 و6/376 و13/ 17) وابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" (ص 11- 12) وابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (2/284/460) والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/346- 347) وابن عدي في "الكامل" (1/101) والخليلي في " الإرشاد" (1/210) والقزويني في " التدوين لأخبار قزوين" (1/175) وابن عبد البر في "التمهيد" (1/85) وفي "الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء" (ص20- 21) والذهبي في "سير أعلام النبلاء" (8/55) وغيرهم. من طريق: سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به مرفوعاً. وقال الترمذي: "حديث حسن". وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. قلت: الإسناد ضعيف؛ فإن ابن جريج وأبا الزبير من المشهورين بالتدليس، ولم يصرح أحدهما بالتحديث. وانظر لزاماً "المجالسة" (3/172-174) فللشيخ مشهور بن حسن بحث نفيس هناك. والحديث ضعفه العلامة الألباني في "المشكاة" (246) .

والثاني: أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه. فيقال: ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر مقرر لمن كان موجوداً وبالتواتر لمن كان غائباً، فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالك. وهذا يقرر بوجهين: أحدهما: بطلب تقديمه على مثل الثوري، والأوزاعي، والليث، وأبي حنيفة، وهذا فيه نزاع ولا حاجة إليه في هذا المقام. والثاني: أن يقال: إن مالكاً تأخر موته عن هؤلاء كلهم، فإنه توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وهؤلاء كلهم ماتوا قبل ذلك، فمعلوم أنه بعد موت هؤلاء لم يكن في الأمة أعلم من مالك في ذلك العصر، وهذا لا ينازع فيه أحد من المسلمين، ولا رحل إلى أحد من علماء المدينة ما رحل إلى مالك لا قبله ولا بعده، رحل إليه من المشرق والمغرب، ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزهاد، والملوك والعامة، وانتشر موطئه في الأرض حتى لا يعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان أكثر انتشاراً من "الموطأ". وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق، ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما. وكان محمد بن الحسن إذ حدث بالعراق عن مالك والحجازيين يمتلئ داره، وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس لعلمهم بأن علم مالك وأهل المدينة أصح وأثبت، وأجل من أخذ عنه الشافعي العلم اثنان مالك وابن عيينة، ومعلوم عند كل أحد أن مالكاً أجل من ابن عيينة، حتى أنه كان يقول: إني ومالك كما قال القائل: وابن اللبون إذا ما لُزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس ومن زعم أن الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم هو العمري الزاهد مع كونه كان رجلاً صالحاً، زاهداً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لم يعرف أن الناس احتاجوا إلى شيء من علمه، ولا رحلوا إليه فيه، وكان إذا أراد أمراً يستشير مالكاً ويستفتيه، كما نقل أنه استشاره لما كتب إليه من العراق أن يتولى الخلافة،

فقال حتى أشاور مالكاً، فلما استشاره أشار عليه أن لا يدخل في ذلك، وأخبره أن هذا لا يتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة، وذكر له ما ذكر عمر بن عبد العزيز -لما قيل له: وهذه علوم التفسير والحديث والفتيا وغيرها من العلوم لم يعلم أن الناس أخذوا عن العمري الزاهد منها ما يذكر، فكيف يقرن هذا بمالك في العلم ورحلة الناس إليه؟ ثم هذه كتب الصحيح التي أجل ما مها كتاب البخاري؛ أول ما يستفتح الباب بحديث مالك، وإن كان في الباب شيء من حديث مالك لا يقدم على حديثه غيره، ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلم يجدوا عالماً أعلم من مالك في وقته، والناس كلهم مع مالك، وأهل المدينة إما موافق، وإما منازع. فالموافق لهم عضد ونصير، والمنازع لهم معظم لهم مبجل لهم عارف بمقدارهم، وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس معدوداً من أئمة العلم، وذلك لعلمهم أن مالكاً هو القائم بمذهب أهل المدينة، وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، فإن موطأه مشحون إما بحديث أهل المدينة، وإما بما اجتمع عليه أهل المدينة، إما قديماً، وإما حديثاً. وأما مسألة تنازع فيها أهل المدينة وغيرهم فيختار فيها قولاً ويقول هذا أحسن ما سمعت، فإما بآثار معروفة عند علماء المدينة ولو قدر أنه كان في الأزمان المتقدمة من هو أتبع لمذهب أهل المدينة من مالك فقد انقطع ذلك. ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على مالك مخالفته أولاً لأحاديثهم في بعض المسائل، كما يذكر عن عبد العزيز والدراوردي أنه قال له في مسألة تقدير المهر بنصاب السرقة: تعرقت يا أبا عبد الله- أي: صرت فيها إلى قول أهل العراق الذين يقدرون أقل المهر بنصاب السرقة-، لكن النصاب عند أبي حنيفة وأصحابه عشرة دراهم، وأما مالك والشافعي وأحمد فالنصاب عندهم ثلاثة دراهم أو ربع دينار كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، فيقال أولاً أن مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة، وأنهم كانوا يكرهون للرجل أن

يوافقهم، وهذا مشهور عندهم يعيبون الرجل بذلك، كما قال ابن عمر لما استفتاه عن دم البعوض، وكما قال ابن المسيب لربيعة لما سأله عن عقل أصابع المرأة، وأما ثانياً: فمثل هذا في قول مالك قليل جداً، وما من عالم إلا وله ما يرد عليه، وما أحسن ما قال ابن خويز منداد في مسألة بيع كتب الرأي والإجارة عليها: لا فرق عندنا بين رأي صاحبنا مالك وغيره في هذا الحكم، لكنه أقل خطأ من غيره. وأما الحديث؛ فأكثره تجد مالكاً قد قال به في إحدى الروايتين، وإنما ترك طائفة من أصحابه، كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقاً للحديث الذي رواه. لكن ابن القاسم ونحوه من البصريين هم الذين قالوا بالرواية الأولى، ومعلوم أن رواية ابن القاسم أصلها مسائل أسد بن فرات التي فرعها أهل العراق، ثم سأل عنها أسد ابن القاسم، فأجابه بالنقل عن مالك، وتارة بالقياس على قوله، ثم أصحها في رواية سحنون، فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى قول أهل العراق، وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة، ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس، وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس والولاة يستشيرونه، فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك، ثم رواية غيره، ثم انتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها، وقد تكون مرجوحة في المذهب، وعمل أهل المدينة والسنة حتى صاروا يتركون رواية الموطأ- الذي هو متواتر عن مالك، وما زال يحدث به حتى مات- لرواية ابن القاسم، وإن كان طائفة من أئمة المالكية أنكروا ذلك، فمثل هذا إن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك لا على مالك، ويمكن المتبع لمذهبه أن يتبع السنة في عامة الأمور، إذ قل من سنة ألا وله قول يوافقها، بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة فإنهم كثيراً ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك. ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما، حتى أن

الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجع محمد بصاحبه على صاحب الشافعي فقال له الشافعي: بالإنصاف أو بالمكاثرة؟ قال له: بالإنصاف. فقال: ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم. فقال: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ فقال بل صاحبكم. فقال: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ فقال: صاحبكم. فقال: ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس ونحن نقول بالقياس، ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح. وقالوا للإمام أحمد: من أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مالك أم سفيان؟ فقال: بل مالك. فقيل له: أيما أعلم بآثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أم سفيان؟ فقال: بل مالك. فقيل له: أيما أزهد مالك أم سفيان؟ فقال: هذه لكم. ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث، فإن أبا حنيفة، والثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن جني، وشريك بن عبد الله النخعي القاضي كانوا متقاربين في العصر، وهم أئمة فقهاء الكوفة في ذلك العصر، وكان أبو يوسف يتفقه أولاً على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي، ثم إنه اجتمع بأبي حنيفة فرأى أنه أفقه منه فلزمه، وصنف كتاب اختلاف أبي حنيفة وأبي ليلى، وأخذه عنه محمد بن الحسن ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن، وذكر فيه اختياره، وهو المسمى بكتاب (اختلاف العراقيين) . ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة في الحديث مع تقدمه في الفقه والزهد، والذين أنكروا من أهل العراق وغيرهم ما أنكروا من الرأي المحدث بالكوفة لم ينكروا ذلك على سفيان الثوري، بل سفيان عندهم إمام العراق، فتفضيل أحمد لمذهب مالك على مذهب سفيان تفضيل له على مذهب أهل العراق، وقد قال الإمام أحمد في علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة والآثار ما تقدم، مع أن أحمد يقدم سفيان الثوري على هذه الطبقة كلها، وهو يعظم سفيان غاية التعظيم، ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها، وأحمد كان معتدلاً عالماً بالأمور يعطي كل ذي حق حقه،

ولهذا كان يحب الشافعي ويثني عليه ويدعو له ويذب عنه عند من يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعة، ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها، ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره. وكان الشافعي يقول: سموني ببغداد ناصر الحديث. ومناقب الشافعي واجتهاده في اتباع الكتاب والسنة واجتهاده في الرد على من يخالف ذلك كثير جداً، وهو كان على مذهب أهل الحجاز، وكان تفقه على طريقة المكيين أصحاب ابن جريج، كمسلم بن خالد، والزنجي، وسعيد بن سالم القداح، ثم رحل إلى مالك وأخذ عنه الموطأ، وكمل أصول أهل المدينة، فكان أجل علماً وفقهاً وقدراً من أهل مكة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك، ثم اتفقت له محنة ذهب فيها إلى العراق، فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره، وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه، وأخذ من الحديث ما أخذه على أهل العراق، ثم ذهب إلى الحجاز، ثم قدم إلى العراق مرة ثانية، وفيها صنف كتابه القديم المعروف (بالحجة) واجتمع به أحمد بن حنبل في هذه القدمة بالعراق، واجتمع به بمكة، وجمع بينه وبين إسحاق بن راهويه، وتناظرا بحضور أحمد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولم يجتمع بأبي يوسف ولا بالأوزاعي وغيرهما، فمن ذكر ذلك في الرحلة المضافة إليه فهو كاذب، فإن تلك الرحلة فيها من الأكاذيب عليه وعلى مالك وأبي يوسف ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما لا يخفى على عالم، وهي من جنس كذب القصاص، ولم يكن أبو يوسف ومحمد سعيا في أذى الشافعي قط، ولا كان حال مالك معه ما ذكر في تلك الرحلة الكاذبة. ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنف كتابه الجديد، وهو في خطابه وكتابه ينسب إلى مذهب أهل الحجاز، فيقول: قال بعض أصحابنا- وهو يعني أهل المدينة أو بعض علماء أهل المدينة كمالك- ويقول في أثناء كلامه: وخالفنا بعض المشرقيين. وكان الشافعي عند أصحاب مالك واحداً منهم ينسب إلى أصحابهم، واختار سكنى مصر إذ ذاك لأنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من

أهل مصر كالليث بن سعد وأمثاله. وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤلاء، وبعضهم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام، ومذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب، لكن أهل المدينة أجلّ عند الجميع. ثم إن الشافعي رضي الله عنه لما كان مجتهداً في العلم، ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه- وإن خالف قول أصحابه المدنيين- قام بما رآه واجباً عليه، وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم، وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه. وقد أحسن الشافعي فيما فعل، وقام بما يجب عليه، وإن كان قد كره ذلك من كرهه وآذوه، وجرت محنة مصرية معروفة، والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. وأبو يوسف ومحمد هما أصحاب أبي حنيفة، وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك، ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك، وكل ذلك اتباعاً للدليل وقياماً بالواجب. والشافعي قرر أصول أصحابه والكتاب والسنة، وكان كثير الاتباع لما صح عنده من الحديث، ولهذا كان عبد الله بن الحكم يقول لابنه: يا بني، الزم هذا الرجل فإنه صاحب حجج، فما بينك وبين أن تقول قال ابن القاسم فيضحك منك إلا أن تخرج من مصر. قال محمد: فلما صرت إلى العراق جلست إلى حلقة فيها ابن أبي دؤاد، فقلت قال ابن القاسم، فقال: ومن ابن القاسم؟ فقلت: رجل مفت يقول من مصر إلى أقصى المغرب، وأظنه قال: قلت رحم الله أبي، وكان مقصود أبيه اطلب الحجة لقول أصحابك ولا تتبع. فالتقليد إنما يقبل حيث يعظم المقلد بخلاف الحجة، فإنه يقبل في كل مكان، فإن الله أوجب على كل مجتهد أن يقول بموجب ما عنده من العلم، والله يخص هذا من العلم والفهم ما لا يختص به هذا، وقد

يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم في نوع من العلم، أو باب منه، أو مسألة، وهذا هو مخصوص بذلك في نوع آخر، لكن جملة مذاهب أهل المدينة النبوية راجحة في الجملة على مذاهب أهل المغرب والمشرق، وذلك يظهر بقواعد جامعة"1. هذا آخر ما نقلناه من كلام شيخ الإسلام في ترجيح مذهب أهل المدينة؛ وبه يعلم ما كان عليه من الاعتقاد الصحيح، والفطنة الزائدة، والفهم الكثير، فإن كل من تكلم على فضل المدينة تكلم إجمالاً ولم يبين الفضل بالدليل والسبب، وكتابه هذا كتاب جليل، وقد نقلنا منه ما نقلنا حرصاً على حفظ فوائده، وقد بقي منه كلام طويل تكلم فيه على قواعد جامعة تفيد رجحان مذهب المدنيين فعليك به إن أردته. مقصودنا مما ذكرنا؛ بيان إفلاس النبهاني الجاهل من كل فضيلة، وأنه ينقل في كتابه ما يقصد به تعظيم حجم الكتاب من غير فهم لما ينقله ولا محاكمة، بل إنه يقلد غلاة شيوخه تقليداً أعمى، ومع ذلك يجعل نفسه من المتبعين، ويرمي شيخ الإسلام ومن هو على مسلكه بأنهم من المبتدعين، ولا بدع منه فإنه ممن قال الله فيه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2. ثم إن النبهاني عقد فصلاً في ذكر شيء مما لا ينبغي فعله للزائر، ونقل أقوالاً عن ابن حجر وأضرابه ينقض بعضها بعضاً، وساق منها جملة من العبارات، انظر إلى ما قاله ابن حجر في "التحفة" و"الزواجر" مع ما ذكره في "الجوهر المنظم" تجد المناقضة ظاهرة. قال في "التحفة": "وقد أفتى جمع بهدم كل ما في قرافة مصر من الأبنية، حتى قبة إمامنا الشافعي التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة". انتهى.

_ 1 انظر "مجموعة الفتاوى" (20/163- 182) الجديدة. 2 سورة الملك: 10.

وقال في "الزواجر": ومن أعظم أسباب الشرك؛ الصلاة عند القبور، واتخاذها مسجداً، ويجب إزالة كل منكر عليها، ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار، لأنها أُسِّسَتْ على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن ذلك وأمر بهدم القبور، ويجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه أو نذره"1. وقال أيضاً في "الزواجر": "ومن الكبائر اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، والصلاة إليها". انتهى2. وقد نقض ذلك كله في كتابه (الجوهر المنظم) فأباح كل ما منعه في ذينك الكتابين، حتى قال بجواز السجود للقبور إذا غلب الحال على أهل الأحوال، وذكر فيه من الغلو ما فيه قرة لعيون الغلاة، ولولا خوف التطويل لنقلنا كلامه كله والكتاب متداول بين الناس. ثم إن النبهاني عقد باباً آخر في مشروعية الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم، وضمنه أربعة فصول. أولها: ذكر فيه أحاديث وردت في اسغاثة الناس به صلى الله عليه وسلم في حياته. وثانيها: في أحاديث الشفاعة يوم القيامة. وثالثها: في بعض ما قاله العلماء وأثبتوا به مشروعية الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم. ورابعها: في توضيح هذه المسألة من قبل مؤلف الكتاب. أقول- ومن الله المعونة وبيده أزمة التوفيق-: إن الكلام على ما حواه كلامه من الكذب والزور والبطلان يطول جداً، فضلاً عما اشتملت عليه عبارته من الغلط وفساد التركيب وسوء التعبير، فكتابه كله ظلمات بعضها فوق بعض، فلو تكلمنا على ذلك كله لطال الكلام، وكلت عن رقمه الأقلام. فإن النبهاني هذا هو من أعظم الغلاة المحادين لله ورسوله، وكلامه كله باطل، وجهل مركب، وبهت لأهل

_ 1 "الزواجر" (1/287- ط. الباز) . 2 المصدر السابق (1/285) .

الحق، وليس فيه جملة واحدة توافق الحق أصلاً، فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه، وجعلهم عبرة لأوليائه وعباده المؤمنين. أما مشروعية الاستغاثة: ففيها تفصيل، إذ الاستغاثة بالشيء- على ما ذكره بعض المحققين- طلب الإغاثة والغوث منه. كما أن الاستعانة طلب الإعانة منه. فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث كان ذلك سؤالاً منه، وظاهره أن ذلك ليس توسلاً به إلى غيره، إذ قد جرت العادة أن من توسل بأحد عند غيره أن يقول لمستغاثه: أستغيثك على هذا الأمر بفلان. فيوجّه السؤال إليه ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المستغاث به ويقول له: أرجو منك، أو أريد منك، وأستغيث بك، ويقول: إنه وسيلتي إلى ربي. وإن كان كما يقول فما قدر المتوسل إليه حق قدره، وقد رجا وتوكل والتجأ إلى غيره. كيف واستعمال العرب يأبى عنه؟ فإن من يقول: صار لي ضيق فاستغثت بصاحب القبر فحصل الفرج يدل دلالة جلية على أنه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنه توسل به، بل إنما يراد هذا المعنى إذا قال: توسلت أو استغثت عند الله بفلان، أو يقول لمستغاثه استغثت إليك بفلان، فيكون حينئذ مدخول الباء متوسلاً به. ولا يصح إرادة هذا المعنى إذا قلت: استغثت بفلان، وتريد التوسل به، سيما إذا كنت داعيه وسائله، بل قولك هذا نص على أن مدخول الباء مستغاث وليس مستغاثاً به. والقرائن التي تكتنفه من الدعاء وقصر الرجاء والالتجاء شهود عدول، ولا محيد عما شهدت به ولا عدول، فهذه الاستغاثة وتوجه القلب إلى المسؤول بالسؤال والإنابة محظورة على المسلمين، لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين. وهل سمعتم أن أحداً في زمانه صلى الله عليه وسلم أو ممن بعده في القرون المشهود لأهلها بالنجاة والصدق- وهم أعلم منا بهذه المطالب وأحرص على نيل مثل تلك الرغائب- استغاث بمن يزيل كربته التي لا يقدر على إزالتها إلا الله؟ أم كانوا يقصرون الاستغاثة على مالك الأمور ولم يعبدوا إلا إياه؟ ولقد جرت عليهم أمور مهمة، وشدائد مدلهمة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، فهل سمعت عن أحد منهم أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ أو قالوا: إنا مستغيثون بك يا رسول الله؟ أم بلغك أنهم لاذوا

بقبره الشريف وهو سيد القبور حين ضاقت منهم الصدور؟ كلا؛ لا يمكن لهم ذلك، وإن الذي كان بعكس ما هنالك، فلقد أثنى الله عليهم ورضي عنهم، فقال عز من قائل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 1 مبيناً لنا أن هذه الاستغاثة أخص الدعاء وأجلى أحوال الالتجاء، وهي من لوازم السائل المضطر، الذي يضطر إلى طلب الغوث من غيره، فيخص نداءه لدى استغاثته بمزيد الإحسان في سره وجهره، شفي استغاثته بغيره تعالى عند كربته تعطيل لتوحيد معاملته. فإن قلت: إن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى. قلنا له: إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام مالا يقدر عليه إلا الله، أو لسؤال ما لا يعطيه ويمنعه إلا الله. وأما فيما عدى ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس واستغاثة بعضهم ببعض فهذا شيء لا نقول به، ونعد منعه جنوناً كما نعد إباحة ما قبله شركاً وضلالاً. وكون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به، ولا يتوكل عليه، ولا يلتجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد- حي أو ميت، قريب أو بعيد-: ارزقني أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشفِ مريضي، إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد، الفرد الصمد. بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها، أعنّي في حمل متاعبي أو غير ذلك. والقرآن ناطق بخطر الدعاء عن كل أحد لا من الأحياء ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها، فإن الأمور الغير مقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر، ومنشىء البشر، كيف والدعاء عبادة وهي مختصة به سبحانه؟ أسبل الله علينا بفضله عفوه

_ 1 سورة الأنفال: 9.

ورضوانه، فالقصر على ما تعبدنا فيه من محض الإيمان، والعدول عنه عين المقت والخذلان. وهذا خلاصة ما ذكروه من جعل الاستغاثة والاستشفاع بغير الله شركاً ظاهراً لا يغفر، ومتعاطيه جاعل لله نداً، فيذبح بأمر الله تعالى، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ويستغفر. وبالجملة؛ فالاستغاثة والاستعانة والتوكل أغصان دوحة التو-جد، المطلوب من العبيد. بقي ههنا شيء يورده المجيزون على هؤلاء المانعين؛ وهو أنه لا شك أن من عبد غير الله مشرك حلال الدم والمال، وأن الدعاء المختص بالله سبحانه عبادة، بل هو مخ العبادة، ولكن لا نسلم أن طلب الإغاثة ممن استغيث بهم شرك مطلقاً، وإنما يكون شركاً لو كان المستغيث معتقداً أنهم هم الفاعلون لذلك خلقاً وإيجاداً، فحينئذ يكون من الشرك الاعتقادي قطعاً. أما من اعتقدهم الفاعلين كسباً وتسبباً فليس بمسلَّم، ولئن سلمنا فليس المقصود من طلب الإغاثة منهم وندائهم إلا التوسل بهم وبجاههم، وإن كان اللفظ ظاهراً يدل على الطلب منهم وأنهم المطلوبون بهذا النداء، لكن مقصود المستغيث التشفع والتوسل بهم إلى ربهم، وهو صلى الله عليه وسلم من أشرف الوسائل إلى الله سبحانه، وقد أمرنا سبحانه بطلب ما يتوسل به، فقال تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1. فكيف تحظرونها بل تجعلونها شركاً مخرجاً عن الملة؟ وليس في قلوب المسلمين إلا هذا المعنى، وإن في ذلك تكفير أكثر الناس، من غير ارتياب والتباس. وكيف تحكمون على أناس قد أظهروا شعائر الإسلام من أذان وصلاة، وصوم وحج، وإيتاء زكاة، يأتون بكلمة التوحيد، ويحبون الله ويحبون سيد المرسلين، ويتبلغون بالقبول التام ما جاء عنهما من أمور الدين، وغاية الأمر أنهم لرهبتهم من ربهم ومعرفتهم بعلو مرتبة نبيهم وما وعده الله

_ 1 سورة المائدة: 35.

سبحانه من إرضاءه في أمته، كما قال سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 1 ولا يرضى صلى الله عليه وسلم إلا بأن يقف لأمته في مثل هذه التوسلات فينالوا الرغبات، وليس في أقوالكم هذه إلا تنقص بحق هذا النبي الذي أوجب الله علينا حبه أكثر من محبتنا لأنفسنا، وفي مثل ذلك بشاعة في القول، وشناعة بطريق الأولى؟ فالجواب عنهم: منهم أن قالوا: أما أول اعتراضكم وقولكم إنه ليس مقصودهم إلا التوسل- وإن تكلموا بما يفيد غيره- فإنه يدل على أن الشرك لا يكون إلا اعتقادياً، وأنه لا يكون كفر إلا إذا طابق الاعتقاد، وهذا يقتضي سد أبواب الشرائع بأسرها، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الردة ومحقها، كيف وأن الله سبحانه يقول: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 2 وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 3. وقد ذكر المفسرون أنهم قالوها على جهة المزح. وكذلك العلماء كفّروا بألفاظ سهلة جداً، وبأفعال تدل على ما هو دون ذلك، ولو فتحنا هذا الباب لأمكن لكل من تكلم بكلام يحكم على قائله بالردة أن يقول: لم تحكمون بردتي؟ فيذكر احتمالاً ولو بعيداً يخرج به عما كٌفّرَ فيه، ولما احتاج إلى توبة، ولا توجه عليه لوم أبداً، ولساغ لكل أحد أن يتكلم بكل ما أراد، فتنسد الأبواب المتعلقة بأحكام الألفاظ من حد قذف، وكفارة يمين، وظهار، ولانسدت أبواب العقود من نكاح وطلاق، وغير ذلك من الفسوخ والمعاملات، فلا يتعلق حكم من الأحكام بأي لفظ كان- إلا إذا اعتقد المعنى- وإن أفيد بوضع الألفاظ. وأما ما ذكرتم من أنه أشرف الوسائل؛ فهي كلمة حق أريد بها باطل،

_ 1 سورة الضحى: 5. 2 سورة التوبة: 74. 3 سورة التوبة: 65- 66.

كقولكم إنه ذو الجاه العريض والمقام المنيع، ونحن أولى بهذا المقام منكم لاتّباعِنَا لأقواله وأفعاله، واقتدائنا به صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، مقتفين لآثاره واقفين عند أخباره، فهو صلى الله عليه وسلم نبينا وهادينا إلى سبل الإسلام، ومنقذنا برسالته من مهاوي أولئك الجفاة الطعام، فلا نعمل إلا بأمره، ونتلقى ذلك بالسمع والطاعة في حلوه ومره، وقد أوجب علينا أن نتبع سبيل المؤمنين، ونهانا عن الغلو في الدين، فإن غَلَوْنَا فإننا إذاً عن الصراط ناكبون، ولئن عدلنا إنا إذاً لخاسرون. وكيف يحسن طريق يؤدّي إلى الإشراك، وأنّى يليق بالموحدين هذا الوجه المؤدي للارتباك؟ وهذا طريق سلفنا الصالح؛ وهو الاعتقاد الصحيح الراجح، هذا وإن النبي صلى الله عليه وسلم -وأرواحنا له الفداء- لا يرضى بما يغضب الرب المتعال، وكيف لا وقد بعث بحماية التوحيد من هذه الأقوال والأفعال، وقد قالت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن"1 يرضى لرضاه ويسخط لسخطه. فليس لنا وسيلة إلى الله إلا الدعاء المبني على أصول الذل والافتقار والثناء، فهو الوسيلة التي أمرنا الله سبحانه بالتوسل به، وجعله من أفضل الوسائل، وأخبرنا أنه مخ عبادته تحقيقاً لعبوديتنا، فسد به عن غيره أبواب الذرائع. وقد اختلف العلماء -بعد أن اتفقوا على استحباب سؤال الله تعالى به وبأسمائه وبصفاته وأفعاله وبصالح أعمالنا التي حصلت لنا بمحض كرمه وأفضاله -في جواز التوسل بالذوات المنيفة، والأماكن والأوقات الشريفة، فعن العز بن عبد السلام ومن تابعه عدم الجواز إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث صحّ الحديث فيجوز، ويكون ذلك خاصاً به لعلو رتبته. وعن الحنابلة في أصح القولين مكروه كراهة تحريم. ونقل الفقهاء الحنفية عن بشر بن الوليد أنه قال: سمعتُ أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وفي جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل: بحق الأنبياء والرسل، وبحق

_ 1 أخرجه مسلم (746/139) .

البيت والمشعر الحرام؛ مكروه كراهة تحريم. وقال القدوري: المسألة بخلقه تعالى لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. وأما أحاديث: "أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، وبحق نبيك والأنبياء من قبلي.." 1 ففيها وهن. وعلى تسليمها فالمراد بهذا الحق ما أوجبه الله تعالى على نفسه، وذلك من أفعاله، لأن حق السائلين الإجابة، وحق المطيعين الإثابة، وحق الأنبياء التقريب والتفضيل بما يخص أولئك العصابة صلى الله عليه وسلم، وذلك كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 وقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} 3 وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 4. وقوله صلى الله عليه وسلم: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم"5. والسؤال بالأعمال؛ لأن الممشى إلى الطاعة امتثالاً لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 6. ومن نظر إلى الأدعية الواردة في الكتاب والسنة لم يجدها خارجة عما ذكرنا، قال الله تعالى في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ

_ 1 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (3/21) أو رقم (11170) وابن ماجه (778) وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (83) وعلي بن الجعد في "مسنده " (2/791/2118 2) وغيرهم. وهو حديث ضعيف؛ انظر تفصيل الكلام عليه في "الضعيفة" (24) . وللشيخ الألمعي علي بن حسن الحلبي- حفظه الله- رسالة مستقلة في بيان علل هذا الخبر، وهي مطبوعة باسم "الكشف والتبيين لعلل حديث: "اللهم إني أسألك بحق السائلين"، وهي مطبوعة بدار الهجرة بالدمام. 2 سورة الروم: 47. 3 سورة التوبة: 111. 4 سورة الأنعام: 54. 5 متفق عليه من حديث معاذ بن جبل، وقد تقدم. 6 سورة المائدة: 35.

آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 1 وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 2. وقوله تعالى عن الحواريين: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . وكان ابن مسعود يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، فاغفر لي. ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمعه العلماء لا يخرج عن هذا النمط، وخلاف ذلك يعد كالخروج عن جادة الصواب والشطط، فاتبع أيها الناظر نبيك المصطفى تسلم من اللغط والغلط، هذا ما كان من تحرير مدعي المانعين، وتقريره على وجه أبان عن لبات تلخيصهم بتسطيره. ثم أخذ يذكر الجواب عما استدل به المجوزون فإن أردت الوقوف عليه فارجع إلى كتاب "العقد الثمين". فتبين مما نقلناه أن الاستغاثة بمخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى مما لا يجوز، فإن الاستغاثة دعاء والدعاء عبادة بل مخ العبادة، وغير الله تعالى لا يعبد بل هو المخصوص بالعبادة، فإذا أصاب الناس جدب وقحط فلا يقال: يا رسول الله؟ ارفع عنا القحط والجدب. وإذا نزل بالناس بلاء أو وباء فلا يقال: يا رسول الله، أو يا جبريل أو يا ميكائيل؛ ارفع عنا البلاء والوباء. وإذا مرض أحد فلا يقول: يا رسول الله، شافني وعافني، ولا غيره. وإذا احتاج أحد إلى رزق فلا يقول: يا رسول الله؟ ارزقني، ولا غيره. وإذا لم يكن لأحد ولد فلا يجوز له أن يقول: يا رسول الله؟ أعطني ولداً. وإذا كان في شدة في بر أو بحر فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله؟ أدركني، أو ألتجىء إليك، أو أستغيث بك، أو نحو ذلك. بل كل ذلك شرك مخرج عن الدين، لأنه عبادة لغير الله. ونحن نوضح المسألة فقد زلت فيها أقدام، فنبين أولاً معنى العبادة3، ثم نذكر ما هو من خصائص

_ 1 سورة آل عمران: 193. 2 سورة المؤمنون: 109. 3 وللشيخ العلامة عبد الرحمن المعلّمي اليماني- رحمه الله- كتاب في هذا الموضوع، اسمه "العبادة" وهو كتاب نفيس، وقد من الله عليّ بالحصول على مخطوط للكتاب؛ ولكنه كان ناقصاً- وحتى الآن لم أعثر على تتمته- فقمت بنسخ أول الكتاب وتحقيقه، وأخرجته في جزء صغير وسميته بـ"رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله" وهو تحت الطبع بالمكتبة العصرية ببيروت. ولشيخ الإسلام كتاب "العبودية" وهو نفيس في بابه أيضاً.

الألوهية، ومن الله نستمد التوفيق. أما العبادة؛ فهي في اللغة: الذل والانقياد1. واصطلاحاً: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ كالتوحيد فإنه عبادة في نفسه، والصلاة، والزكاة، والحج، وصيام رمضان، والوضوء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والدعاء، والذكر، والقراءة، وحب الله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وغير ذلك مما رضيه وأحبه، فأمر به وتعبد الناس فيه2. قال العلامة عمر بن عبد الرحمن الفارسي في كشفه على الكشاف للزمخشري- عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} 3. وهو خطاب لمشركي أهل مكة، ونقل عن علقمة أن كل خطاب بيا أيها الناس فهو مكي، وبيا أيها الذين آمنوا فهو مدني- ما لفظه: "تحرير الكلام فيه أن العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح بشرط قصد القربة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"4. وهي على هذا غير الإيمان بمعنى التصديق، والنية والإخلاص، بل مشروطة بها، وقد تطلق على التحقق بالعبودية بارتسام ما أمر السيد جل وعلا أو نهى، وعلى هذا يتناول الأعمال والعقائد القلبية أيضاً؛ فيدخل فيها الإيمان وهو

_ 1 انظر "لسان العرب" (9/12) . 2 انظر "العبودية" لشيخ الإسلام (ص 19- ط. دار الأصالة، بتحقيق الشيخ علي الحلبي) . 3 سورة البقرة: 21. 4 حديث موضوع. أخرجه الترمذي (2681) وابن ماجه (222) وغيرهما. وقد خرجته في تحقيقي لكتاب "أخلاق العلماء" للآجري رقم (9، 10) .

عبادة في نفسه، وشرط لسائر العبادات". انتهى. وقال ابن القيم في (شرح منازل السائرين) 1 ما نصه: "فالعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبد أي: مذلل، والتعبد التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له حتى تكون محباً خاضعاً". ثم قال في مكان آخر من شرحه هذا2: "مراتب العبودية وأحكامها لكل واحد من القلب واللسان والجوارح، فواجب القلب منه متفق على وجوبه، ومختلف فيه، فالمتفق على وجوبه؛ كالإخلاص، والتوكل، والمحبة، والصبر، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتصديق الجازم، والنية للعبادة، وهذه قدر زائد على الإخلاص، فإن الإخلاص إفراد المعبود عن غيره. ونية العبادة لها مرتبتان: (إحداهما) : تمييز العبادة عن العادة. (والثانية) : تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض، والأقسام الثلاثة واجبة. وكذلك الصدق، والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوباً وطلباً، فالإخلاص: توحيد مطلوبه. والصدق توحيد الطلب. فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسماً، والصدق: أن لا يكون الطلب منقسماً، فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب. واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة، وكذلك النصح في العبودية، ومدار الدين عليه، وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي به، وأصل هذا واجب، وكماله مرتبة المقربين، وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان واجب مستحق وهو مرتبة أصحاب اليمين، وكما مستحب وهو مرتبة المقربين". انتهى بعض ما قاله في بعض عبودية القلب، وعقبه بعبودية اللسان الواجب منها والمستحب،

_ 1 وهو كتاب "مدارج السالكين". 2 " مدارج السالكين" (1/129- 130- ط. الكتاب العربي) .

وعبودية الجوارح الواجب منها والمستحب أيضاً، ومن اشتغل بالنظر إلى أنواع العبادات هان عليه تمييزها، والله الهادي إلى سواء السبيل. وبالجملة؛ فكل عبادة فهي مقصورة على الإله الواحد من أعمال القلوب والجوارح، فكما لو صلى لغير الله، أو صام على وجه التقرب إليه؛ كان كافراً مشركاً عند جميع الناس، فكذلك من تقرب إليه بالأعمال القلبية المذكورة من التوكل والإنابة والخوف والرجاء، وغير ذلك، لكن لما كانت هذه الأمور القلبية من التألُّه- وكأن الأولون يتألهون بها ويسمون من تأله بها إلهاً، وكان مرجع كل ذلك إلى القلب وأعماله التي هي منبع التوحيد، ومصدر هذا الدين، والمرجع إليه في الشك واليقين، ومع ذلك فهي الفارقة بين الإله الحق الذي اختص بها على الدوام، والإله الباطل الذي لا يحوم الموحد حوله بهذا المقام- كان ذلك هو الداعي للتخصيص والموجب للتنصيص، وأيضاً فالكلام على من حصل منه الشرك بما تألهه في قلبه ورسخ بفؤاده ولبه من الأعمال الغير المختصة بالمسلمين، وأما هذه الأعمال الظاهرة الشرعية المختصة بهم فلا يتعاطاها أحد لمن سواه، ولم نرها تعمل إلا لله، ولم يعبدوا بها إلا إياه، فهذا هو الذي أوجب تخصيصهم لهذه الأعمال القلبية وبعض البدنية، كالسجود وحلق الرأس عبودية، وإلا فجميع العبادات قلبيِّها وقوليِّها وبدنيها مختصة به سبحانه وتعالى لا تصلح إلا له. قال المحقق السعد التفتازاني في شرحه للمقاصد ما نصه: "اعلم أن حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواتمها، ولا نزاع بين أهل الإسلام أن خلق الأجسام وتدبير العالم واستحقاق العبادة من الخواص" ثم قال في آخر هذا المبحث: "وبالجملة فإن التوحيد في الألوهية واجب شرعاً وعقلاً، وفي استحقاق العبادة شرعاً، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً سبحانه وتعالى عما يشركون". انتهى. وقد أفرد شيخ الإسلام لتحقيق معنى العبادة رسالة مفيدة وهي رسالة "العبودية" فراجعها.

وأما الثاني- أعني ما هو من خصائص الألوهية-: فاعلم أن توحيد الله تعالى بالتعظيم- كما قاله العلامة القرافي في كتاب "الفروق"1- ثلاثة أقسام: واجب إجماعاً، وغير واجب إجماعاً، ومختلف فيه؛ هل يجب توحيد الله تعالى به أم لا؟ القسم الأول: الذي يجب توحيد الله تعالى به من التعظيم بالإجماع؛ فذلك كالصلوات على اختلاف أنواعها، والصوم على اختلاف رتبه في الفرض والنفل والنذر، فلا يجوز أن يفعل شيء من ذلك لغير الله تعالى، وكذلك الحج ونحو ذلك- أي: كالاستغاثة والاستعانة والالتجاء- وكذلك الخلق والرزق والإماتة والإحياء والبعث والنشر والسعادة والشقاء والهداية والإضلال والطاعة والمعصية والقبض والبسط، فيجب على كل أحد أن يعتقد توحيد الله تعالى وتوحده بهذه الأمور على سبيل الحقيقة، وإن أضيف شيء منها لغيره تعالى فإنما ذلك على سبيل الربط العادي لا أن ذلك المشار إليه فعل شيئاً حقيقة، كقولنا: قتله السم، وأحرقته النار، وأرواه الماء، فليس شيء من ذلك يفعل شيئاً مما ذكر حقيقة، بل الله تعالى ربط هذه المسببات بهذه الأسباب كما شاء وأراد، ولو شاء لم يربطها، وهو الخالق لمسبباتها عند وجودها، لا أن تلك الأسباب هي الموجدة. وكذلك إخبار الله تعالى عن عيسى عليه السلام أنه كان يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، معناه أن الله تعالى كان يحيي الموتى ويبرىء عند إرادة عيسى عليه السلام لذلك، لا أن عيسى عليه السلام هو الفاعل لذلك حقيقة، بل الله تعالى هو الخالق لذلك، ومعجزة عيسى عليه السلام في ذلك ربط وقوع ذلك الإحياء وذلك الإبراء بإرإدته، فإن غيره يريد ذلك ولا يلزم إرادته ذلك، فاللزوم بإرادته هو معجزته عليه السلام، وكذلك جميع ما يظهر على أيدي الأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات، الله تعالى هو خالقها. وكذلك يجب توحيده تعالى باستحقاق العبادة والإلهية، وعموم تعلق صفاته تعالى، فيتعلق علمه بجميع

_ (3/738- وما بعدها. ط. دار السلام) .

المعلومات، وإرادته بجميع الكائنات، وبصره بجميع الموجودات الباقيات والفانيات، وسمعه بجميع الأصوات، وخبره بجميع المخبرات فهذا ونحوه توحيد واجب بالإجماع من أهل الحق لا مشاركة لأحد فيه. (ثم ذكر القسم الثاني) : وهو المتفق على عدم التوحيد فيه والتوحد، ومثل له بالوجود والعلم ونحوهما وأطنب فيه. (ثم ذكر القسم الثالث) : وهو الذي اختلف فيه هل يجب توحيد الله تعالى به أم لا؟ قال: فهذا هو التعظيم بالقسم، فهل يجوز أن يقسم بغير الله تعالى فلا يكون من التعظيم الذي وجب التوحيد فيه، أو لا يجوز؛ فيكون من التعظيم الذي وجب التوحيد فيه. وأطال الكلام فيه أيضاً، ومرادنا القسم الأول، لأن فيه قوله: وكذلك يجب توحيده تعالى باستحقاق العبادة،. إلخ. وهذا هو المقصود بالنقل. ولا يخفى ما في كلامه من المخالفة للنصوص بسبب القول بأقوال الكلابية، وليس هذا موضع مناقشته بما ذكر. وحيث اتسع الكلام بحسب المقام ننقل ما قاله الفاضل ابن القيم في كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) 1 ما نصه:- "ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة، والتوبة، والتوكل والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون له وحده، ويمنع الغير التشبيه ممن لا شبيه له، ولا مثل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.

_ 1 ويسمى أيضاً "الداء والدواء".

ومن خصائص الإلهية؛ العبودية التي قامت على ساقين لا قِوَام لها بدونهما، وهما غاية الحب مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه غير الله فقد شَبَّهَهُ به في خالص حقه، وهذا من المجال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله تعالى الحسنى، فأرسل إليهم رسله صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نوراً على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1. إذا عرفتَ هذا فمن خصائص الألوهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها: التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها: التوبة، فمن تاب إلى غيره فقد شبهه به. ومنها: الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً، فمن حلف بغيره على هذا الوجه فقد شبهه به" انتهى ما قاله2. والمقصود من ذلك كله؛ القيام بالقسط الذي هو التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، قال عز من قائل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4. فهذا التوحيد أعظم العدل وأقومه، وأصل الدين ومحكمه. وذلك بأن يكون الدين كله لله قولاً وعملاً واعتقاداً بإخلاص هذه الكلمة الطيبة في لفظها ومعناها، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وروح هذه الكلمة إفراد الرب- جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره- بالمحبة والإجلال، والتعظيم والخوف، والرجاء

_ 1 سورة النور: 35. 2 "الداء والدواء" (ص 209- 210. ط. دار ابن الجوزي) . 3 سورة الأعراف: 29. 4 سورة الزخرف: 45.

وتوابع ذلك من التوكل والإنابة، والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، وكلما يحب غيره فإنما يحبه تبعاً لمحبته، وكونه وسيلة إلى زيادة محبته، ولا يخاف سواه، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه، ولا يعمل عملاً قد تعبد الناس به إلا أفرده به، ولا يشرك غيره معه، فيكون قد جمع جميع أنواع العبادات فيه قولاً وعملاً واعتقاداً. وتحقق بما قال وهو كلمة لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره المشركون. وبهذه الحقوق التي هي حق الله تعالى على جميع عباده، وحكمه الذي أوجبه على سائر مخلوقه، تميز المسلمون، واستسْلم إليه المستسلمون. ولما كان الدعاء لا يصدر في الغالب إلا ممن قام بقلبه كمال الذل والافتقار، لاسيما في حالة الانكسار والاضطرار؛ كان كما ورد في الحديث: "الدعاء مخ العبادة"1. ومن وُفِّقَ له فقد أوتي الحسنى وزيادة، وهذا الذي ذكرته ملخص ما أشار إليه المحققون. انتهى. وبما ذكرنا من معنى الاستغاثة واختصاصها بالله تعالى سقط ما ذكره النبهاني وغيره من الغلاة الزائغين من أن الاستغاثة بالأصفياء جائزة، ولو كانت بالأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وهذا شرك محض وعبادة لغير الله تعالى، وهو قول ليس عليه شبهة فضلاً عن الدليل المقبول لدى أهل العلم. ثم إنه عقد فصلاً ذكر فيه أربعين حديثاً من أحاديث الشفاعة، ولا كلام لنا فيها إذا طلبت منهم يوم القيامة، وأما في الدنيا فإنها تُطلب من الله أن يشفع فيهم من يشفع، وسيأتي بعض الكلام عليها إن شاء الله. ثم إنه عقد فصلاً آخر- وهو الثالث- زعم أنه ذكر ما قاله أئمة العلماء،

_ 1 الحديث بهذا اللفظ ضعيف. وقد صحّ بلفظ: "الدعاء هو العبادة". أخرجه أحمد (4/267، 271، 276) والترمذي (3372) وابن ماجه (3828) والبخاري في "الأدب المفرد" (714) والطيالسي (1252) وابن المبارك في "الزهد" (1298) والبغوي في "شرح السنة" (5/184) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

وأثبتوا به مشروعية الاستغاثة بغير الله تعالى، ونقل عبارة ابن حجر في (الجوهر المنظم) المشتملة على الاعتراض على الشيخ ابن تيمية في إنكاره الاستغاثة بغير الله تعالى، وأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم حسن في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه في الدنيا والآخرة. قال ابن حجر: "فمما يدل لطلب التوسل به صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم.. وذكر الحديث؛ وفيه استغاثة آدم به، وذكر حديث الأعمى، وحديث التوسل بالأعمال، وحديث استسقاء الرجل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر كلام السبكي الذي نقله ابن حجر بعينه، قال: "وعبارة ابن حجر السابقة وإن كانت كافية وافية فلا بأس بذكر بعض ما ذكره السبكي وإن تكرر بعضه مع ما تقدم عن ابن حجر، لأنه نقل كثيراً من عباراته وإن لم ينسب بعضها إليه" وساق كلام السبكي، ونقل مثل ذلك عن أمثال هؤلاء الغلاة، ثم قال: "وقد يتوسل بذي الجاه إلى من هو أعلى جاهاً منه، والاستغاثة طلب الغوث، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وغن كان ذلك الغير أعلى منه، فالتوجه والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره ليس لهما معنى في قلوب المسلمين غير ذلك، ولا يقصد بهما أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث، فهو سبحانه مستغاث به والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي مستغاث، والغوث منه سبباً وكسباً". انتهى ما لُخِّصَ من كلامه أقول- وبالله التوفيق-: أما ما في كلام هذا الجاهل الغبي من فساد التركيب وبشاعة التعبير فلسنا بصدد بيانه، والكلام عليه يطول، والغرض إبطال الدعوى ومعارضتها، والكشف عن حالها وحال أئمته السابقين من الأمم، المعارضين للرسل بآرائهم وأهوائهم، ثم نتكلم إن شاء الله بعد الكلام على هذه المقالة على جميع شبههم الفاسدة.

قال العلامة الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) بعد أن نقل عن العراقي مثل ما نقلنا عن النبهاني. والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:- الأول: أن الله سبحانه إنما خلق خلقه لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته، والخضوع له وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والتضرع بين يديه، وهذه زبدة الرسالة الإلهية، وحاصل الدعوة النبوية، وهو الحق الذي خُلِقَتْ له السموات والأرض، وأنزل به الكتاب، وهو الغاية المطلوبة والحكمة المقصودة من إيجاد المخلوقات، وخلق سائر البريات، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 ودعا سبحانه عباده إلى هذا المقصود، وافترض عليهم القيام به حسب ما أمر، والبراءة من الشرك والتنديد المنافي لهذا الأصل الذي هو المراد من خلق سائر العبيد، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3 وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 4. فالقول بجواز الاستغاثة بغير الله ودعاء الأنبياء والصالحين وجعلهم وسائط بين العبد وبين الله، والتقرب إليهم بالنذور والنحر والتعظيم بالحلف وما أشبهه؛ مناقضة ومنافاة لهذه الحكمة التي هي المقصودة بخلق السموات والأرض، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، وفتح لباب الشرك في المحبة والخضوع والتعظيم، ومشاقة ظاهرة لله ولرسله، ولكل نبيّ كريم، والنفوس مجبولة على صرف ذلك المذكور من العبادات، إلى من أهلته لكشف الشدائد وسد الفاقات،

_ 1 سورة الذاريات: 56. 2 سورة النساء: 116. 3 سورة المائدة: 72. 4 سورة الحج: 31.

وقضاء الحاجات، من الأمور العامة التي لا يقدر عليها إلا فاطر الأرض والسموات. الوجه الثاني: أن هذا بعينه قول عُبّاد الأنبياء والصالحين من عهد قوم نوح إلى أن بعث إليهم خاتم النبيين، ولم يزيدوا على ما قال هؤلاء الغلاة فيما انتحلوه من الشرك الوخيم، والقول الذميم، كما حكى الله عنهم ذلك في كتابه الكريم، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3. فهذه النصوص المحكمة صريحة في أن المشركين لم يقصدوا إلا الجاه والشفاعة والتوسل، بمعنى جعلهم وسائط تقربهم إلى الله، وتقضي حوائجهم منه تعالى، وقد أنكر القرآن هذا أشد الإنكار، وأخبر أن أهله هم أصحاب النار، وأن الله تعالى حرم عليهم الجنة دار أوليائه الأبرار، وجمهور هؤلاء المشركين لم يدَّعوا الاستقلال ولا الشركة في توحيد الربوبية، بل قد أقروا واعترفوا بأن ذلك لله وحده، كما حكى سبحانه إقرارهم واعترافهم بذلك في غير موضع من كتابه. فحاصل ما ذكر من جواز الاستغاثة والدعاء والتعظيم بالنذر والحلف –مع نفي الاستقلال، وأن الله يفعل لأجله- هو عين دعوى المشركين، وتعليلهم وشبهتهم لم يزيدوا عليه حرفاً واحداً، إلا أنهم قالوا (قربان وشفعاء) ، والغلاة سموا ذلك توسلاً فالعلة واحدة، والحقيقة متحدة. الوجه الثالث: أن الله سبحانه أمر عباده بدعائه ومسألته والاستغاثة به،

_ 1 سورة يونس: 18. 2 سورة الزمر: 3. 3 سورة الأحقاف: 28.

وإنزال حاجتهم وفاقتهم وضرورتهم به قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2. وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 3 الآية. وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} 4. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 5. وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * َإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6. وفي الحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه"7. وفيه: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين"8. وحديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا،

_ 1 سورة البقرة: 186. 2 سورة غافر: 60. 3 سورة النمل: 62. 4 سورة العنكبوت: 17. 5 سورة الرحمن: 29. 6 سورة الشرح: 7- 8. 7 حديث حسن. أخرجه أحمد (2/442، 477) والبخاري في "الأدب المفرد" (658) والترمذي (3373) وابن ماجه (3827) والحاكم (1/491) والبيهقي في "شعب الإيمان" (1/35/1099) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (10/200) والطبراني في "الدعاء" (2/796/23) وفي "الأوسط" (3/217/2452) وابن عدي في (الكامل" (7/295) وغيرهم. من طريق: صبيح أبي المليح، عن أبي صالح الخوزي، عن أبي هريرة مرفوعاً. ورواه بعضهم بلفظ: "من لم يدعُ الله يغضب عليه". وحسنه الشيخ الألباني في "الصحيحة" (2654) . 8 حديث موضوع. أخرجه أبو يعلى (1/344/439) والحاكم (1/492) وابن عدي في "الكامل" (6/172- ط. دار الفكر) أو (7/372- العلمية) والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/116/143) وغيرهم. من طريق: الحسن بن حماد الكوفي، ثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب مرفوعاً. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، فإن محمد بن الحسن هذا هو التل، وهو صدوق في الكوفيين". ووافقه الذهبي. وذكره الذهبي في "الميزان" (3/513) في ترجمته محمد بن الحسن التل، وقال: "أخرجه الحاكم وصححه، وفيه انقطاع". وقد وهم الحاكم والذهبي في اعتبار أن محمد بن الحسن الذي في إسناد الحديث هو التل؛ وإنما هو: محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني الكذّاب. وإلى هذا أشار الهيثمي في "المجمع" (10/147) بقوله: "رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد؛ وهو متروك". وانظر لتفصيل الكلام "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (1/328/179) .

يقول تعالى: "هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه"؟ 1. وعلى مذهب الغلاة وقولهم باستحباب الاستغاثة بغير الله تعالى، وجعل الوسائط بين العباد وبينه تعالى يهدم هذا الأصل الذي هو أصل الدين، ويسد بابه، ويستغاث بالأنبياء والصالحين، ويرغب إليهم في حاجات الطالبين والسائلين، وضرورات المضطرين من خلق الله أجمعين. الوجه الرابع: أن الله تعالى دعا عباده بربوبيته العامة الشاملة لكليات الممكنات وجزئياتها في الدنيا والآخرة، وانفراده بالإيجاد والتدبير، والتأثير والتقدير، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والعز والذل، والإحياء والإماتة، والسعادة والشقاوة، والهداية والمغفرة، والتوبة على عباده، إلى غير ذلك من أفعال الربوبية وآثارها المشاهدة المصنوعة؛ إلى معرفته وعبادته، الجامعة لمحبته والخضوع له، وتعظيمه ودعائه، وترك التعلق على غيره محبة وتعظيماً واستغاثة، قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 4 إلى قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} . فتأمل هذه الآيات وما تضمنته من تقرير أفعال الربوبية التي لا يخرج عنها فرد من أفراد

_ 1 تقدم تخريجه. 2 سورة النمل: 60- 64. 3 سورة المؤمنون: 84- 89. 4 سورة يونس: 31.

الكائنات، وأعرف ما سيقت له ودلت عليه من وجوب محبته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما عبد من دونه من الأنداد والآلهة والبراءة من ذلك. وانظر هل القوم المخاطبون بهذا زعموا الاستقلال لغير الكبير المتعال، أم أقروا له سبحانه بالاستقلال والتدبير والتأثير، وإنما أتوا من جهة الواسطة والشفاعة، والتوسل بدعاء غير الله وقصده سواه، فيما يحتاجه العبد وما يهواه، وهذا صريح من تلك الحجج البينات، ونص هذه الآيات المحكمات، احتج سبحانه بما أقروا به من الربوبية، والاستقلال على إبطال قصد غيره بالعبادة والدعاء والاستغاثة، كما يفعله أهل الجهل والضلال. فإذا قيل: تجوز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين ودعاؤهم والنذر لهم على أنهم وسائط ووسائل بين الله وبين عباده وأن الله يفعل لأجلهم؛ انهدمت القاعدة الإيمانية، وانتقضت الأصول التوحيدية، وفتح باب الشرك الأعظم، وعادت الرغباب والرهبات، والمقاصد والتوجيهات، إلى سكان القبور والأموات، ومن دعى مع الله من سائر المخلوقات، وهذه هي الغاية الشركية، والعبادة الوثنية، فنعوذ بالله من الضلال والشقاء والانحراف عن أسباب الفلاح والهدى. الوجه الخامس: أنه لا فلاح ولا صلاح ولا نجاح ولا نعيم ولا لذة للعبد إلا بأن يكون الله سبحانه هو إلهه ومحبوبه ومستغاثه، الذي إليه مفزعه عند الشدائد، وإليه مرجعه في عامة المطالب والمقاصد، والعبد به فاقة وضرورة وحاجة إلى أن يكون الله هو معبوده ومستغاثه، إليه إنابته ومفزعه، ولو حصلت له كل الكائنات وتوجه إلى جميع المخلوقات لم تسد فاقته، ولا تدفع ضرورته، ولا يحصل نعيمه وفرحه ويزول همه وكربه وشقاؤه إلا بربه الذي من وجده وجد كل شيء، ومن فاته فاته كل شيء، وهو أجب إليه من كل شيء، وهذه فاقة وضرورة وحاجات لا يشبهها شيء فتقاس به، وإنما تشبه من بعض الوجه حاجة العبد إلى طعامه وشرابه وقوته الذي يقوم بدنه به، فإن البدن لا يقوم إلا بذلك، وفقده غاية انعدام البدن وموته.

وأما فقد محبة الله وعبادته ودعائه فعذاب وشقاء، وجحيم في الآخرة والأولى لا ينفك بحال من الأحوال، قال تعالى: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} 1. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} 2. وفي الحديث القدسي- حديث الأولياء- يقول الله تعالى: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش"3 الحديث. وعلى القول بجعل الوسائط والشفعاء بين العباد وبين الله تقلع أصول هذا الأصل العظيم، الذي هو قطب رحى الإيمان، وينهدم أساسه الذي ركب عليه البنيان، فأي فرح وأي نعيم وأي فاقة سدت وأي ضرورة دفعت وأي سعادة حصلت وأي أنس، واطمئنان إذا كان التوجه والدعاء والاستغاثة والذبح والنذر لغير الملك الحنّان4 المنّان، سبحان الله ما أجرأ هذا المعترض على الله وعلى رسله وعلى دينه وعلى عباده المؤمنين؟! اللهم إنا نبرأ إليك مما جاء به هذا المفتري، وما قاله في دينك وكتابك، وعلى عبادك وأوليائك، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 5. فصلاح السموات والأرض بأن يكون الله سبحانه هو إلهها

_ 1 سورة طه: 123- 127. 2 سورة الرعد: 28- 29. 3 أخرجه البخاري (6502) . 4 الحنّان ليس من أسماء الله الحسنى؛ فتنبه. وانظر لمزيد من التفصيل حول هذا الاسم "معجم المناهي اللفظية" (ص240- 241) . 5 سورة الأنبياء: 22.

دون ما سواه، ومستغاثها الذي تفزع إليه وتلجأ إليه في مطالبها وحاجاتها. وقرر المتكلمون هنا تمانع وجود ربين مدبرين، وأنه لا صلاح للعالم إلا بأن يكون الله قيومه ومدبره. وقرر غيرهم من المحققين امتناع الصلاح بوجود آلهة تُعبد وتُقصد وتُرجى، فالأول يرجع إلى الربوبية، والثاني إلى الإلهية. ال وجه السادس: أن الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والسنة التي سنّها في قبور الأنبياء والصالحين وعامة المؤمنين تنافي هذا القول الشنيع- الذي افتراه هذا الجاهل- وتبطله وتعارضه، فإنه صلى الله عليه وسلم سن عند القبور ما صحّت به الأحاديث النبوية، وجرى عليه عمل علماء الأمة من السلام عند زيارتها والدعاء لأصحابها، وسؤال الله العافية لهم، من جنس ما شرعه من الصلاة على جنائزهم، ونهى عن عبادة الله عند القبور والصلاة فيها وإليها، وخص قبور الأنبياء والصالحين بلعن من اتخذها مساجد يعبد فيها تعالى ويدعى، وتواترت بذلك الأحاديث؛ خرجها أصحاب الصحيحين وأهل السنن ومالك في موطئه. فمنها1: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحديث ابن مسعود: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحديث جابر بن عبد الله: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ". وحديث عائشة: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها، فقال- وهو كذلك-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قالت عائشة: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبرز قبره، ولكن

_ 1 وقد تقدم تخريجها.

خشي أن يُتَّخَذَ مسجداً. وفي رواية لمسلم: (وصالحيهم) . وإنما نهى عن الصلاة عندها واتخاذها مساجد لما يفضي إليه من دعائها والاستغاثة بها، وقَصْدِها للحوائج والمهمات، والتقرّب إليها بالنذور والنحر، ونحو ذلك من القربات، فجاء الغلاة فهتكوا ستر الشريعة، واقتحموا الحمى، وشاقوا الله ورسوله، وقالوا: تُدْعَى ويُسْتَغَاث بها وتُرجى!! ومن شمَّ رائحة العلم، وعرف شيئاً مما جاءت به الرسل؛ عرف أن هذا الذي قاله الغلاة من جنس عبادة الأصنام والأوثان، مناقض لما دلّت عليه السنة والقرآن، ولا يستريب في ذلك عاقل من نوع الإنسان. الوجه السابع: أن الله تعالى نهى عن الغلو ومجاوزة الحد فيما شرعه من حقوق أنبيائه وأوليائه، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} 1. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله ". وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 3 هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا لهم أنصاباً وصوّروا تماثيلهم، فلما مات أولئك ونسي العلم عُبِدَت.. وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم، فلما طال عليهم الأمد عبدت. انتهى.

_ 1 سورة النساء: 171. 2 سورة المائدة: 77. 3 سورة نوح: 23.

فانظر إلى ما آل إليه الغلو بالتصاوير والعكوف من غير دعاء ولا عبادة، فكيف بالدعاء والاستغاثة والتوسل؟ والقول بأن الله تعالى يفعل لأجلهم هذا نفس الشرك، والأول وسيلته التي حدث الشرك بسببها. وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة هذا الشرك، وحمى الحِمَى وسَدَّ الذريعة حتى نهى عن الصلاة عندها، واعتياد المجيء إليها بقوله في أشرف القبور: " لا تجعلوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلّّّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". ونهى عن رفع القبور، وبعث عليّ بن أبي طالب أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّاه. ونهى عن تعظيمها بإيقاد السرج، كل هذا صيانة للتوحيد وحماية لجانبه، فرحم الله امراً آمن بالجنة والنار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامه ومعلمه وقدوته، ولم يلتفت عن غير ما جاء به، ولم يبال بمن خالفه وسلك غير سبيله، وحن إلى ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى في هذا الباب وفي غيره: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 2. الوجه الثامن: أن من أعرض عن الله وقصد غيره وأعد ذلك الغير لحاجته وفاقته واستغاث به ونذر له ولاذ به فقد أساء الظن بربه، وأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به، فإن المسيء به والظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3 وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4 وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه

_ 1 سورة الأنعام: 95. 2 سورة آل عمران: 31- 32. 3 سورة الفتح: 6. 4 سورة فصلت: 23.

الصلاة والسلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره، فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه فقير إليه كل من عداه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم، من الرؤساء، فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، من الوسطاء الذين يعينونهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم. فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء: فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح. يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله له خاضع ذليل له، والرب تبارك وتعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال، والتأله والخضوع والذل، وهذا في خالص حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره ويشرك بينه وبينه فيه، ولاسيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه، كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 2. أي: إذا كان أحدكم يأنف أن مملوكه

_ 1 سورة الصافات: 85- 87. 2 سورة الروم: 28.

شريكه في رزقه فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به؛ وهي الإلهية التي لا تنبغي لغيري، ولا تصلح لسواي؟ فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري، ولا عظمني حق تعظيمي، ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي. فما قدَّر الله حق قدره من عبد معه غيره، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. فما قدّر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه، فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل. وكذلك ما قدّره حق قدره من قال إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً ولا أنزل كتاباً بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً عبثاً. ولا قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فنفى سمعه وبصره، وإرادته، واختياره، وعلوّه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد، أو نفى عموم قدرته وتعلّقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم، فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاؤون بدون مشيئة الرب تبارك وتعالى، فيكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون، تعالى الله عز وجل عن قول أشباه المجوس علواً كبيراً. وكذلك ما قدّره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيها البتة بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله، وهو سبحانه وتعالى الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق المخلوق، فإذا كان من المستقر في الفطر والعقول

_ 1 سورة الزمر: 67.

أن السيد لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحاً؛ فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير، ولا هو واقع بإرادته بل ولا هو فعله البتة، ثم يعاقب عليه عقوبة الأبد؟ تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً. وقول هؤلاء شر من أقوال المجوس، والطائفتان ما قدروا الله حق قدره. وكذلك ما قدّره من لم يصنه عن بئر ولا حشٍ ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان وصانه عن عرشه أن يكون مستوياً عليه، يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وتعرج الملائكة والروح إليه وتنزل من عنده، ويدبرّ الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه، فصانه عن استوائه على سرير الملك1، ثم جعله في كل مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان أن يكون فيه. وما قدره حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا من نفى حقيقة فعله ولم يجعل له فعلاً اختيارياً يقوم به، بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه، فنفى حقيقة محبته وإتيانه واستوائه على عرشه، وتكليمه موسى عليه السلام من جانب الطور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه، إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها وزعموا أنهم بنفيها قدروا الله حق قدره. وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً، وجعله يحل في مخلوقاته وجعله عين هذا الوجود. وكذلك لم يقدره حق قدره من قال إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته وأهمل ذكرهم وجعل فيهم الملك والخلافة والعفو، ووضع أولياء رسوله وأهانهم وأذلهم، وضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا، وهذا يتضمن غاية القدح في الرب-

_ 1 هذه اللفظة لا يصح إطلاقها هكذا، والواجب إثبات صفة الاستواء دون زيادة أو نقص في الألفاظ؛ فنقول كما قال ربنا {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .

تبارك وتعالى عن قول الرافضة علواً كبيراً-. وهذا القول مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين أنه أرسل ملكاً ظالماً فادّعى النبوة لنفسه، وكذب على الله تعالى، ومكث زمناً طويلاً يكذب عليه كل وقت، ويقول قال كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا، وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول الله تعالى أباح لي ذلك، والرب تبارك وتعالى يظهره ويؤيده، ويعليه ويقويه، ويجيب دعواته، ويمكنه ممن يخالفه، ويقيم الأدلة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به فيصدقه بقوله وفعله وتقريره، ويحدث أدلة تصدقه شيئاً بعد شيء، ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى، وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته، تعالى عن قول الجاحدين علواً كبيراً. فوازن بين قول هذا وقول إخوانه من الرافضة تجد القولين: رضيعا لبان ثدي أم تقاسما ... باسحم داج عوض لا يتفرق وكذلك لم يقدره حق قدره من قال إنه يجوز أن يُعذّب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين ويدخلهم دار الجحيم، وينعم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك فمعناه الخبر لا مخالفة حكمته وعدله وقد أنكر سبحانه وتعالى في كتابه على من يجوز عليه ذلك غاية الإنكار وجعل الحكم به من أسوء الأحكام. وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين المشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين. وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه

فضيعه، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، طاعته المخلوق أهم عنده من طاعته، فلله الفَضْلَةُ من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك لأنه المهم عنده، يستخف بنظر الله إليه وإطلاعه عليه وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه وإطلاعهم عليه بكل قلبه وجوارحه، يستحيي من الناس ولا يستحيي من الله عز وجل، ويخشى الناس ولا يخشى الله عز وجل، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامل الله عز وجل عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة، قد فرغ له قلبه وجوارحه، وقدمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حق ربه -إن ساعده القدر-1 قام قياماً لا يراه مثله لمخلوق من مخلوقاته، وبدا له ما لم يستح أن يواجه به مخلوقاً لمثله، فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟ وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه نجي محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل من أقرب الخلق إليه شريكاً في ذلك لكان ذلك جزاؤه، وتوثبا على محض حقه واستهانة به، وتشريكاً بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه وتعالى، فكيف وإنما شرك بينه وبين أبغض الخلق إليه وأهونهم عليه وأمقتهم عنده وهو عدو على الحقيقة، فإنه ما عبد من دون الله إلا الشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2. ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشيطان، وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3.

_ 1 الصواب أن يقال: إن ساعده الله. ولا يجوز إضافة شيء للقدر أو الأقدار.. لأنها مخلوقة. وانظر: "المجموع الثمين في فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (1/115) . 2 سورة يس: 60- 61. 3 سورة سبأ: 40- 41.

فالشيطان يدعو المشرك إلى عبادته ويوهمه أنه ملك. وكذلك عُبّاد الشمس والقمر والكواكب يزعمون أنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب، وهي التي تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج، ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان لعنه الله تعالى فيسجد لها الكفار فيقع سجودهم له وكذلك عند غروبها. وكذلك من عَبَدَ المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان فإنه يزعم أنه يعبد من أمره لعبادته وعبادة أمه ورضيها لهم وأمرهم بها، وهذا هو الشيطان الرجيم- لعنه الله تعالى- لا عبد الله ورسوله، ونزل هذا كله على قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} . فما عبد أحد من بني آدم غير الله عز وجل كائناً من كان إلا وقعت عبادته للشيطان، فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضا الشيطان، ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} من إغوائهم وإضلالهم {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1. فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله تعالى، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود في النار، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه، بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله، وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك، أو يرضى به، تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً انتهى. وإنما سقنا هذا المبحث العظيم الذي يعقد عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ؛ لما فيه من الفوائد التي لا يستغنى عنها من نصح نفسه، وإنما الغرض

_ 1 سورة الأنعام: 128.

بيان ما في التوسل والاستغاثة بالأموات والغائبين من سوء الظن بالله رب العالمين. الوجه التاسع: أن الله تعالى حرم القول عليه بغير علم وجعله أعظم من الشرك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} 1 الآية. فرتب المحرمات منتقلاً من الأدنى إلى الأعلى، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 2. ومن عرف الشرك حق المعرفة يعلم أن من قال تجوز الاستغاثة والتوسل بالأنبياء والصالحين والنذر لهم والحلف وما أشبهه من التعظيم له نصيب وافر من الكذب على الله وعلى رسوله، ومن الصد عن سبيل الله وابتغاء العوج، والله المستعان، وقال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} 3. ويتبين كذب الغلاة على الله وعلى رسوله وعلى عباده الصالحين بالكلام على ما ساقه هذا المعترض من الأدلة التي يزعم أنها تدل على دعواه، وتنصر ما قاله وافتراه. فأما قوله: "اعلم أن المجوزين للاستغاثة بالأنبياء والصالحين مرادهم أنها أسباب ووسائل بدعائهم، وأن الله يفعل لأجلهم لا أنهم الفاعلون استقلالاً من دون الله ".

_ 1 سورة الأعراف: 33. 2 سورة هود: 18- 19. 3 سورة يونى: 68- 70.

فإن هذا كفر بالاتفاق؛ فجواب هذا تقدم في الوجه الثاني، وذكرنا أن المشركين من عهد نوح إلى عهد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم لم يقصدوا سوى هذا، ولم يدعوا لآلهتهم غيره، وأنهم ما زادوا حرفاً واحداً على هذا العراقي وشيعته، وهو يظن أن النزاع في دعواه الاستقلال وليس الأمر كذلك، فإن النزاع بين الرسل وقومهم إنما هو في توحيد العبادة، فكل رسول أول ما يقرع أسماع قومه بقوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1 وكان المشركون من الجاهلية يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" فأثبتوا الشرك في العبادة واعتقدوا أن آلهتهم مملوكة لا مستقلة، وهذا ظاهر في القرآن والسنة، لا يجهله من عرف ما الناس فيه من أمر دينهم، وإنما خفي ذلك على هذا المعترض لفرط جهله وقلة فهمه، ولأنه نشأ بين عباد القبور المتوسلين بها وبأهلها، فظن أن هذا هو الإسلام، والمسكين لم يعرف ربه وما يجب له من الحقوق على كافة الأنام، ولم يتخرج على إمام يعتمد في بيان الشرائع والأحكام، مع أن عباد القبور في هذه الأزمان اعتقدوا التدبير والتصريف لمن يعتقدونه، فطائفة قالت يتصرف في الكون سبعة، وطائفة قالت يتصرف أربعة، وطائفة قالت يتصرف سبعون! واختلفوا في قطبهم الذي إليه يرجعون- تعالى الله عما يقول الظالمون- فأهل مصر يرون أنه البدوي، وأهل العراق يرجّحون الشيخ عبد القادر، والرافضة يرون ذلك للأئمة من أهل البيت، وهذا مشتهر عنهم لا ينكره إلا مكابر. وقد حكم المعترض الجاهل بأن دعوى الاستقلال كفر بالاتفاق، وعلى قول غلاة عباد القبور مصدر التصريف عنهم يستقلون به، لأن الوكيل يستقل بتدبير ما وكل إليه، وحينئذ فإذا لم يعرف العبادة ومسألة النزاع كيف يجادل عن قوم جزم بكفرهم وحكى عليه الاتفاق؟! فالرجل مخلط لا يدري ما يقول. وأما قوله: ولا "يخطر ببال مسلم جاهل فضلاً عن عالم" إلخ.

_ 1 سورة الأعراف: 59.

فيقال: أين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ إذا صح الإسلام لم يرغب أهله إلى دعاء غير الله من العباد والأوثان والأصنام. وأما قوله: "بل ليس هذا خاصاً بنوع الأموات، فإن الأحياء وغيرهم من الأسباب العادية، كالقطع للسكين والشبع للأكل والري والدفء لو اعتقد أحد أنها فاعلة ذلك بنفسها من غير استنادها إلى الله يكفر إجماعاً". فيقال: إذا كان إسناد الفعل إليها استقلالاً يكفر فاعله إجماعاً- وهي من الأسباب العادية التي أودع الله تعالى فيها قوة فاعلة- فكيف لا يكفر من أسند ما لا يقدر عليه إلا الله من إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات إلى غير الله من الصالحين أو غيرهم، وزعم أنهم وسائل، أو أن الله وكّل إليهم التدبير كرامة لهم؟ هذا أولى بالكفر وأحق به ممن قبله. ويقال للزائغ: أنت لا ترضى تكفير أهل القبور لاحتمال العذر والشبهة، وأنه شرك أصغر، يثاب من أخطأ فيه، فكيف جزمت بكفر من أسند القطع للسكين من غير استناد إلى الله؟ وما الفرق بين من عذرته وجزمت بإثابته وبين من كفرته وجزمت بعقابه؟ ليست إحدى المسألتين بأظهر من الأخرى، وما يقال من الجواب فيما أثبته من الكفر يقال فيما نفيته. يوماً بجزوء ويوماً بالعقيق ... وبالعذيب يوماً ويوماً بالخليصاء أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. ويقال: جمهور العقلاء على الفرق بين الأسباب العادية وغيرها، فالشبع والري والدفء أسباب عادية فاعلة، وإنما يكفر من أنكر خلق الله لهذه الأسباب وقال بفعلها دون مدبر عليم حكيم، وهذا البحث يتعلق بتوحيد الربوبية، وأما جعل الأموات أسباباً يُستغاث بها وتُدعى وتُرجى وتُعظّم على أنها وسائط؛ فهذا دين عبَّاد الأصنام، يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله وإن لم يعتقد الاستقلال، كما نص عليه القرآن في غير موضع، فالغلاة معارضون للقرآن مصادمون لنصوصه.

وأما قوله: "إن السبكي والقسطلاني والسمهودي وابن حجر في "الجوهر المنظم" قالوا: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره في معنى التوسل إلى الله تعالى بجاهه" إلخ. فيقال: مسألة الاستغاثة به وبجاهه ليست هي مسألة النزاع، ومراد أهل العلم أن يسأل الله بجاه عبده ورسوله لا أن يسأل الرسول نفسه، فإن هذا لا يطلق عليه توسل بل هو دعاء واستغاثة، وأن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعباد القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله ودعائه رغباً ورهباً، والذبح والنذر والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق، وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة، فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة كما يأتيك مفصلاً إن شاء الله تعالى، ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيه أو بحق عبده الصالح أو بعباده الصالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين كالسبكي والقسطلاني وابن حجر. وبالجملة؛ فما نقله هنا عمن ذكر ليس من مسألة النزاع في شيء، وإن كابر الغلاة وزعموا أنهم قصدوا دعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم أنفسهم وأن هذا يسمى توسلاً، فهذا عين الدعوى والدعوى يحتج لها لا بها، فبطل كلامه على كل تقدير. وأما قوله: "أو بأن يدعو الله كما في حال الحياة إذ هو غير ممتنع". فيقال: هذا جرأة على الله وعلى رسوله، وتقدم إليه بما لم يشرعه ولم يأذن فيه، وأعلم الخلق به أصحابه وأهل بيته وأئمة الدين من أمته لم يفعل أحد منهم ذلك ألبتة ولا نقله من يعتد به، وهم أعلم الخلق به وبدينه وشرعه، وما يجوز وما يمتنع، فلا يخلو إما أن تسلم هذه المقامات ويجزم بأن الخروج عن هديهم من أفظع الجهالات وأضل الضلالات، أو تسلم تلك المقدمات ويدعى أن الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون أحق بالصواب والعلم والمتابعة

في تلك المسائل والمقالات، وهذا إخلال بجملة الدين، وقدح في القرون المفضلة بنص سيد المرسلين، وكفى بهذا فضيحة وجهلاً لو كانوا يعلمون. وأما قوله: "مع علمه بسؤال من سأله والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره". فيقال: أما دعوى عموم العلم بسؤال السائلين لمن يستغيث به جهلة القبوريين فالأخذ به وإطلاقه على غير الله كفر صريح باتفاق أهل العلم، فإن من زعم إحاطة العلم وعمومه لغير الله أو عموم القدرة أو الرزق أو الخلق لغيره سبحانه يكفر كفراً واضحاً، كما ذكره شراح الأسماء وغيرهم من أهل العلم، وأما دعوى تخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي قال: وإن كانت من جنس ما قبلها في الرد والمنع- تبطل مذهب عباد القبور، ودعائهم لغير الله من الغائبين والأموات، فإن دعاء الغافل الذي لا يعلم بحال الداعي ولا يدريها ضلال مستبين، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 1. وأما قوله: "والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره ممن هو أعلى منه وليس لها في قلوب المسلمين غير ذلك" إلى آخره. فيقال: هذا يدل على جهل هذا الغبي باللغة والشرع، فإن الداعي السائل لغيره لا يسمى مغيثاً، والمغيث من يفعل الإغاثة ويحصل الغوث بفعله. قال شيخ الإسلام: "من زعم أن مسألة الله بجاه عبده تقتضي أن يسمى العبد مغيثاً، أو يكون ذلك استغاثة بالعبد فهذا جهل، ونسبته إلى اللغة أو إلى أمة من الأمم كذب ظاهر، فإن المغيث هو فاعل الإغاثة ومحدثها لا من تطلب بجاهه وحقه، ولم يقل أحد أن التوسل بشيء هو الاستغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور- كقول أحدهم: نتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو

_ 1 سورة الأحقاف: 5.

باللوح والقلم، أو بالكعبة، في أدعيتهم- يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، وأن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل وإنما يطلب به، فكل أحد يفرق بين المدعو به والمدعو" وتقدم ذلك. فقول هذا الزائغ: "والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث والغوث منه تسبباً وكسباً". فيقال: نعم هذا معتقد من يعبد الأنبياء والصالحين ويستغيث بهم، يقول هم سببي وواسطتي، يحصلون لي بكسبهم، والله هو الخالق ولا أدعي غير ذلك، ولا نازع في الخلق والربوبية إلا فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه، وجمهور المشركين على الأول كما تقدم تقريره فبطل تعليله. وأما قوله: "ولا يعارض ذلك خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ. لأن في سنده ابن لهيعة والكلام فيه مشهور". فيقال: ابن لهيعة1 خرّج له البخاري ومسلم فجاوز القنطرة، ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلا جاهل بالصناعة والاصطلاح، وهو قاضي مصر وعالمها ومسندها، روى عن عطاء ابن أبي رباح، والأعرج، وعكرمة، وخلق، وعنه روى شعبة ابن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وابن وهب وخلق، ومن طعن في ابن لهيعة بقول بعض الناس فيه لزمه الطعن في كثير من الأكابر المحدثين، كسعيد المقبري، وسعيد بن أياس الجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وإسماعيل بن أبان، وأزهر بن سعد السمان البصري، وأحمد بن صالح المصري، وأبو اليمان، وأمثالهم ممن خرج له البخاري وغيره من الأئمة.

_ 1 انظر: "التاريخ الكبير" (5/182) و"الجرح والتعديل، (5/145) و"تذكرة الحفاظ" (1/237) و"سير الأعلام" (8/10) و "تهذيب الكمال" (2/728) و"الأخطاء الإسنادية وتصويبها ويليه: ما قيل في الإمام ابن لهيعة المصري" لعبد العزيز العيثم- ط. أضواء السلف.

فدَعْ عنك الكتابة لستَ منها ... ولو سوّدتَ وجهك بالمداد وأما قوله: "وبفرض صحته ... " فهو على حد قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"2. وهذا من نوادر جهل هؤلاء الضلال، فإن لفظ الاستغاثة طلب الغوث ممن هو بيده لمن أصابته شدة ووقع في كرب. والأنجح والأولى لمن أصابه ذلك أن يستغيث بمن يجيب المضطر إذا دعاه، الموصوف بأنه غيّاث المستغيثين، مجيب المضطرين، أرحم الراحمين. فلفظ الاستغاثة يستعمل في مخّ العبادة وما لا يقدر عليه إلا الله، عالم الغيب والشهادة. فكره صلى الله عليه وسلم إطلاقه عليه فيما يستطيعه ويقدر عليه حماية لحمى التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق فحماية جانب التوحيد من مقاصد الرسول ومن قواعد هذه الشريعة المطهرة، فأين هذا من قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . فإن الرمي المنفي هو إيصال ما رمى به إلى أعين المشركين جملتهم، وهزيمتهم بذلك، والرمي المثبت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من رمي ما أخذ بكفه الشريفة من التراب واستقبال. وجوه العدو به. وأما قوله: وكثيراً ما تجيء السنة بنحو هذا من بيان حقيقة العلم ويجيء القرآن من إضافة الفعل إلى مكتسبه، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحد الجنة بعمله"3. مع قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4. فالأمر ليس كما توهّمه هذا الزائغ، فإن الباء في الحديث باء المعاوضة والمبادلة، وفي الآية هي باء السببية لا باء المعاوضة، فالمنفي غير المثبت. كما نص عليه أهل العلم وأهل التفسير، وكل

_ 1 سورة الأنفال: 17. 2 أخرجه مسلم (1649) . 3 أخرجه مسلم (2816) . 4 سورة النحل: 32.

فاضل وعارف بصير، نعوذ بالله من القول على الله وعلى كتابه بغير علم ولا سلطان منير. وأما قوله: "إن إطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث ولو تسبباً أمر معلوم لا شك فيه لغة ولا شرعاً". فقد تقدم كلام شيخ الإسلام في نفي الاستغاثة عمن يسأل الله بجاهه وحقه وعمن يدعو لغيره، وأن من قال ذلك قد كذب على سائر اللغات والأمم، وأما من يسأل ويدعو وينادي -كما يفعله عباد القبور بمن يدعونه- فهذا يسمى استغاثة، كما يسمى عبادة لغير الله وشركاً بالله، وهذا النوع ليس النزاع في اسمه وإنما النزاع في جوازه وحله، وأما حديث الشفاعة فهو فيما يقدر عليه البشر من الدعاء كما يسأل الحي الحاضر أن يدعو الله وأن يستسقي. وأما كلام الشيخ ابن تيمية الذي نقله عن المصنفين في أسماء الله فهو حجة لنا على عباد القبور، فإنهم استغاثوا بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. وقوله: وإن حصلت من غيره تعالى فهو مجاز. جوابه: أن الاستغاثة التي هي من جنس الأسباب العادية التي يقدر عليها المخلوق وفي وسعه، فهذه وإن حصلت من العبد فهي حقيقة لا مجاز، ولا ينازع في هذا من عرف شيئاً من اللغة، والعبد يفعل حقيقة، فيأكل حقيقة، ويشرب حقيقة، ويهب حقيقة، وينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً حقيقة، والله سبحانه خلق العبد وما يعمل، وهذا معروف من عقائد أهل السنة والجماعة، وإنما ينفي الفعل حقيقة عن فاعله ومن قام به القدرية المجبرة الذين يزعمون أن العبد مجبور، وأنه لا اختيار له ولا مشيئة، كما هو مبسوط في موضعه، والغلاة صفر اليدين من هذه المباحث المهمة. وكذلك قوله: الاستغاثة بمعنى أن يطلب منه ما هو اللائق بمنصبه؛ لا ينازع فيها مسلم، فاللائق بمنصبه الشريف أن يطلب منه ما يستطيعه ويقدر عليه، كالدعاء وسائر الأسباب العادية ونحو ذلك، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله كهداية

القلوب، ومغفرة الذنوب والإنقاذ من النار ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله الواحد القهار؛ فهذا إنما يليق بمقام الربوبية، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1. وقال: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} 2. وقال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 3. وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 4. وقال رجل: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد، فقال صلى الله عليه وسلم: "عرف الحق لأهله"5. وأما قوله: وقد ذكر المجوّزون أنّ جعل النبي صلى الله عليه وسلم متسبباً لا مانع من ذلك شرعاً وعقلاً. فيقال: هذه العبارة ركيكة التركيب، والمجوزون للاستغاثة الله بغير فيما لا يقدر عليه إلا الله هم خصومنا فلا حجة في كلامهم، بل الشرع والعقل يرد مذهبهم ويبطله كما مر تقريره عن ابن القيم. وأما الأسباب العادية فإنها قد تجب، وقد تُسْتَحَبُّ، وقد تُبَاحُ، وقد تُكْرَه، وليس الكلام، فيها والمستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله لا ينجيه مجرد اعتقاده أن ذلك بإذن الله، بل لا بد من إخلاص الدعاء والاستغاثة، ودعاء المستغيث من أجلّ العبادات، فيجب إخلاصه لله. وقول الغلاة: ومن أقر بالكرامة وأنها بإذن الله لم يجد بداً من اعترافه بجواز ذلك.

_ 1 سورة القصص: 56. 2 سورة آل عمران: 135. 3 سورة الزمر: 19. 4 سورة آل عمران: 128. 5 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (3/435) أو رقم (15629- قرطبة) والحاكم (4/255) والطبراني في " الكبير" (1/رقم: 839، 840) والبيهقي في "شعب الإيمان" (4/103/4225) والدينوري في "المجالسة" (2/387- 388/562) . وصححه الحاكم، وتعقّبه الذهبي. وانظر: "مجمع الزوائد" (10/199) و"ضعيف الجامع" (رقم: 3705) .

فيقال: بل البد والسعة واليسر في القول بأنه لا يستغاث بالمخلوق فيما يختص بالخالق، ولو كان المخلوق قد ثبت له من الكرامة ما ثبت فالكرامة فعل الله لا فعل غيره، والمستغاث هو الله لا غيره، ولم يكن الصحابة يستغيثون ويسألون من ظهرت له كرامة أو حصلت له خارقة من الخوارق، فهذا الكلام الذي قاله الغلاة جهل مركب يليق بقائله، وكل إناء بالذي فيه ينضح. وأما قوله: والأخبار النبوية قد عاضدته، والآثار قد ساعدته. فبالوقوف على ما مر من كلامنا تعرف أن الأخبار النبوية قد عارضته وما عاضدته، بل أبطلته والآثار السلفية قد ردته وما ساعدته. وأما قوله: ومن جعل الله فيه قدرة كاسبة للفعل مع اعتقاده أن الله هو الخالق؛ كيف يمتنع عليه طلب ذلك الشيء؟ فجوابه: أن الله لم يجعل للعباد قدرة على ما يختص به من الإغاثة المطلقة. وأما الإغاثة بالأسباب العادية، وما هو في طوق البشر وقدرتهم؛ فهذا ليس الكلام فيه. والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العادية، وما يطلب من الحيّ الحاضر، فما هنا ليس من ذلك القبيل، وما يستوي الأحياء ولا الأموات، وقد يجعل الله للعبد قدرة على بعض الأشياء ويمنع من سؤاله وطلبه، وفي الحديث: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على وجهه مزعة لحم"1. وفيه: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً في وجهه"2. فهذا له قدرة، وقد منع السائل الغني من سؤاله، بل والسحرة جعل الله لهم قدرة على أنواع السحر والشعبذة وسؤالهم ذلك من أكبر الكبائر. فبطل قول هذا الزائغ أن من جعل الله له قدرة لا مانع من سؤاله، وكون الله قده قرب أنبياءه ورسله، وأوجب

_ 1 أخرجه مسلم (1040) . 2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/388) وأبو داود (1626) والنسائي (3/97) والترمذي (650) وابن ماجه (1840) وغيرهم، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وصحّحه الشيخ الألباني- رحمه الله-.

على العباد برّهم وتعظيمهم لا يقتضي ذلك أن يستغاث بهم أو يطلب منهم مالا يقدر عليهم أحد إلا الله. والتعظيم اللائق بمناصبهم ليس من هذا الجنس، بل تعظيمهم محبتهم وطاعتهم وتعزيرهم وتوقيرهم، والإقتداء بهديهم، والأخذ بما جاؤوا به، وعباد القبور تركوا هذا التعظيم الواجب، وعظموهم بالاستغاثة والعبادة، والذبح والنذر، من جنس تعظيم أهل الكتاب لأنبيائهم ورهبانهم وأحبارهم، وهذا الزائغ- من جهله- يدعو الناس إلى طريقة الغلاة من أهل الكتاب، ويعرض عما جاءت به الرسل، ويصد عن السنة والكتاب، قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} 1. وأما قوله: وقد خلق الله فيه قوة كاسبة. فإن أراد القوة العادية البشرية الإنسانية فليس النزاع في هذا، وإن أراد ما يعتقده عُبّاد القبور في معبوداتهم من الصالحين وغيرهم، وأن لهم قدرة على إجابة المضطر، وإغاثة الملهوف، وقضاء حوائج السائلين؛ فهذا شرك في الربوبية لم يبلغه شرك المشركين من أهل الجاهلية، بل هو قول غلاة المشركين الذين يرون لآلهتهم تصرفاً وتدبيراً. وإن أراد أنهم يُدْعَوْنَ ويُسْأَلُونَ ويُستغاث بهم والله يُعطي لأجلهم؛ فهذا هو قول الجاهلية من الأميين والكتابيين. وتقدمت الآيات الدالة على ذلك، وتقدم ما حكاه الشيخ من قول النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله. فهم طلبوا منها الشفاعة والجاه ليس إلا، وهذا من كفرهم وشركهم مع ما هم عليه من القول في عيسى وأمه- قاتلهم الله-، فإن كان هذا الزائغ أراد هذا الثاني فهو شرك غليظ، وقد تقدم له التصريح بذلك وعبارته هنا توهم الأول، وهو الغالب على عباد القبور في هذه الأزمان، نسأل الله العفو والعافية. وأما كون الأولياء والصالحين في حال مماتهم كحال حياته يدعون لمن

_ 1 سورة الأنفال: 22.

قصدهم ويتسببون في إنقاذه فهذا جهل عظيم، وقول على الله بلا علم، لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا قاله ولا فعله أحد يعتد به ويقتدى به من أهل العلم والإيمان، وقد مضت القرون الثلاثة المفضلة ولم يعهد عن أحد منهم أنه قال ذلك أو فعله، وعندهم أشرف القبور على الإطلاق ولم يعرف عن أحد منهم أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أو دعاه ولا غيره من الصالحين، وخبر العتبي سيأتي الكلام عليه، وأن فاعل ذلك أعرابي ليس مما يُقتدى به ويُحْتَجُّ بقوله، وإن كان بعض المتأخرين احتج بحكاية الأعرابي فهو احتجاج مدخول، وقد نازعهم من هو أقدم منهم وأجل من الأكابر والفحول. وأما قوله في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1. فإن قال قائل: هذا في الحي وله قدرة. قلنا: لا يجوز نسبة الأفعال إلى أحد حي أو ميت على أنه الفاعل استقلالاً من دون الله. فهذا الكلام أورده بناء على أن النزاع في دعوى الاستقلال، وبزعمه أنه إذا لم يعتقد الاستقلال فالأسباب العادية كغيرها، ودعاء الأموات والغائبين يجوز عنده إذا لم يعتقد الاستقلال، هذه دعواه كررها مراراً واحتج بها. والدعوى تحتاج لدليل لا تصلح هي دليلاً، لاسيما هذه الدعوى الضالة الكاذبة الخاطئة، والله سبحانه حكى استغاثة المخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه من نصره على عدوه، وهذا جائز لا نزاع فيه، واعتقاد الاستقلال من دون الله وأن العبد يخلق أفعال نفسه هذه مسألة أخرى لم يقل بها إلا قدرية النفاة، والناس مختلفون في تكفيرهم بهذا القول. وبالجملة؛ فالنزاع في غير هذه المسألة، وإنما هو في دعاء الأموات والغائبين، وإن لم يستقل بذلك المطلوب من دون الله.

_ 1 سورة القصص: 15.

وأما قوله: وقد جعل الله الإغاثة في غيره ... فهو قول ركيك فاسد المعنى، فإن الله لم يجعل الإغاثة في غيره، بل هو المغيث. على الإطلاق، وإنما جعل لعباده عملاً وكسباً في فرد جزئي مما يستطيعه العبد ويكون في قدرته، وعبارة الزائغ في غاية البشاعة. وأما قوله: فلهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإغاثة كما تقدم حيث قال إنه لا يستغاث إلا بالله. فليس النفي لما ذكره الزائغ، فإن المخاطبين يعلمون أن الله خالق أفعال العباد، وإنما نفى الاستغاثة عنه حماية للتوحيد وصيانة لجانبه، كما قال لمن قال له: أنت سيدنا وابن سيدنا: "السيد الله، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 1. ولو كان كما زعم الزائغ لنفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل فعل وكل قول صدر منه، لأنه لا يفعله استقلالاً، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2. والزائغ قد خاض فيما لا يدريه وما هو أجنبي عنه، فالحد في الألفاظ النبوية وحرفها وكابر الحس والمعقول، والمنفي في الحديث الاستغاثة لا الإغاثة، وأظن المعترض لا يفرق بينهما.

_ 1 تقدم. 2 سورة الصافات: 96.

الكلام على شبه الخصم وإبطالها

(الكلام على شبه الخصم وإبطالها) الشبهة الأولى: ما أورده ابن حجر في (الجوهر المنظم) والسبكي في كتابه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب؛ أسألك بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا ما غفرت لي. قال الله: يا آدم؛ كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب؛ لما خلقتني بيدك ونفختَ فيَّ من روحك، رفعتُ رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمتُ أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك. فقال له الله: صدقت يا آدم! إنه لأحب الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقه

فقد غفرتُ لك، ولولا محمد ما خلقتك"1.

_ 1 حديث باطل. أخرجه الحاكم (2/615) والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/488) من طريق: أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب مرفوعاً. وقال الحاكم: "صحيح-[وقع في المطبوعة: صيّح]- الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب". وتعقّبه الذهبي بقوله: "قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ. قال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته له في هذا الكتاب. (قلت) : رواه عبد الله بن مسلم الفهري؛ ولا أدري من ذا، عن إسماعيل بن مسلمة عنه". وقال شيخ الإسلام- رحمه الله- في "قاعدة جليلة" (ص 73- ط. المكتب الإسلامي) أو (1/254- 255- مجموع الفتاوى) : "ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب "المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم": عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه" اهـ. وكذا قال الحافظ في "النكت" (1/318) . وانظر كلام الحاكم في "المدخل إلى الصحيح" (1/199/97) . وقد قال عنه الطحاوي: "حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف". وقال أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (5/233- 234) : " ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحاً وفي الحديث واهياً". وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/57) : "كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف؛ فاستحق الترك". وقال البخاري والنسائي: " ضعّفه عليٌّ جداً". وقال الساجي: "منكر الحديث". وعبد الله بن مسلم الفهري؛ قال عنه الذهبي في "الميزان" (3/218) : "روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً: "يا آدم لولا محمد ما خلقتك.." اهـ. والحديث أخرجه الطبراني في "الصغير" (2/82- 83) وفي "الأوسط" (6502) من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن زيد به. وقال: "لا يُروى عن عمر إلا بهذا الإسناد؛ تفرد به أحمد بن سعيد". وقال في " الأوسط": "لم يرو هذا الحديث عن زيد بن أسلم إلا ابنه عبد الرحمن، ولا عن ابنه إلا عبد الله بن إسماعيل المدني، ولا يُروى عن عمر إلا بهذا الإسناد". قلت: لم يتفرد به عبد الله بن إسماعيل؛ بل تابعه إسماعيل بن مسلمة كما تقدم عند الحاكم والبيهقي. وأخرجه الآجري في "الشريعة" (2/248- 249/1012) موقوفاً على عمر رضي الله عنه. وهذا من خلط عبد الرحمن بن زيد ووهمه. خلاصة القول: إن الحديث باطل موضوع؛ وانظر لزاماً ما كتبه العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني حول الحديث في "الضعيفة" (25) . تنبيه: قال العلامة الفقيه الأصولي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ- حفظه الله ونفع به- في كتابه الماتع "هذه مفاهيمنا" (ص25) هامش رقم (1) : "ومن اللطائف أن طبعة المستدرك الهندية وقع فيها خطأ مطبعي؛ هكذا: "هذا حديث صيّح الإسناد"! وصيح الإسناد من قولك: تصيح الشيء؛ إذا تكسَّرَ. كما في "تاج العروس شرح القاموس" (2/186) . فمعنى: صيح الإسناد: متكسّر الإسناد. وهذه عجيبة، ولله حكمة في وقوع هذا الخطأ؛ فيتبصّروا" اهـ. قلت: وانظر لمزيد من الفائدة "التوسل أنواعه وأحكامه" للشيخ الألباني- رحمه الله- (ص115- وما بعدها) .

والمراد بحقه صلى الله عليه وسلم رتبته ومنزلته لديه تعالى، أو الحق الذي جعله الله سبحانه وتعالى له على الخلق، أو الحق الذي جعله الله تعالى بفضله له عليه.. إلخ. الجواب: أن يقال: هذا الحديث لا أصل له، بل الثابت عند أهل العلم والمفسرين أن قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1. نزل في توبة آدم، وهذه الكلمات هي المفسرة بقوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. وهذا مروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وخالد بن معدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن يزيد. وعن ابن عباس، قال: علم شأن الحج 3. وعن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم: يا رب؛ خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل كتبته عليك قبل

_ 1 سورة البقرة: 37. 2 سورة الأعراف: 23. 3 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/91/408) بإسناد ضعيف.

أن أخلقك، قال: فكما كتبته عليَّ فاغفره لي. فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 1. وعن ابن عباس؛ قال آدم عليه السلام: ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. وعطست فقلت: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل: بلى. وكتبت عليَّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أفرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم2. وكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير، وسعيد بن معبد. ورواه الحاكم في مستدركه إلى ابن عباس3. وروى ابن أبي حاتم حديثاً مرفوعاً شبيهاً بهذا4. وعن مجاهد قال الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم"5. وهذا ما عليه المفسرون، لا ما قاله الغلاة. فإن كان بعض من لا بصيرة له قد ذكره فالحجة فيما ثبت عن الصحابة وعن سلف الأمة وأئمتها، ولا يجوز تفسير القرآن بأقوال شاذة أو موضوعة لا تثبت عند أهل العلم والحديث وأئمة التصحيح والترجيح.

_ 1 أخرجه ابن أبي حاتم (1/1 9/409) وابن جرير في "تفسيره" (1/رقم: 781- 784) وأبو نعيم في "الحلية" (3/273) وأبو الشيخ في "العظمة" (رقم: 1011) . وانظر: "تفسير ابن كثير" بتحقيق الشيخ الحويني- سلمه الله- (2/308) . 2 أخرجه ابن أبي حاتم (1/90- 91/407) بإسناد منقطع. 3 "المستدرك" (2/545) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الحويني في تحقيقه على " تفسير ابن كثير" (2/309) : "إسناد جيد" وانظر باقي كلامه هناك. 4 أخرجه ابن أبي حاتم (1/90/406) وقال الحافظ ابن كثير: "هذا غريب من هذا الوجه، وفيه انقطاع". 5 أخرجه ابن أبي حاتم (1/91/411) وصححه الشيخ الحويني (2/311) .

ولما روى ابن حميد الرازي الحكاية المنسوبة إلى مالك رحمه الله مع أبي جعفر المنصور- وفيها أنه سأل مالكاً فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به. فرد الحفاظ على ابن حميد هذه الحكاية، وذكروا أن إسنادها مظلم منقطع، مشتمل على من يتهم بالكذب، وقالوا: ابن حميد كثير المناكير، ولم يسمع من مالك شيئاً، بل روايته عنه منقطعة، ومحمد بن حميد الرازي هذا تكلّم فيه غير واحد من الأئمة ونسبه بعضهم إلى الكذب1. الشبهة الثانية: أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني. فقال: "إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ، وهو خير لك" إلى أن قال: فأمره أن يتوضأ فيُحْسِنُ وضوءَه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ الرحمة، يا محمد؛ إني أتوجه بك إلى ربي في قضاء حاجتي لتقضي لي، اللهم شفّعه فيّ" فقام وقد أبصر.. إلخ 2.

_ 1 انظر الكلام على هذه القصة وبيان كذبها في "قصص لا تثبت" (5/13- وما بعدها) إعداد: سليمان بن صالح الخراشي. 2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/138) أو رقم (17288، 17289- قرطبة) والترمذي (3578) والنسائي في "الكبرى"- عمل اليوم والليلة- (6/169/10495) وابن ماجه (1385) والطبراني في "الكبير" (19/رقم: 8311) وفي "الدعاء" (2/1289/1051) والحاكم (1/313، 519) والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/166) والبخاري. في "التاريخ الكبير" (6/210) وعبد بن حميد (379) . من طريق: شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف؛ أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني في "التوسل" (ص 75- 76) . وتابع شعبة عليه حمادُ بن سلمة عند: أحمد (4/138) أو رقم (17290- قرطبة) والنسائي في "الكبرى"- عمل اليوم والليلة- (6/168- 169/10494) والبخاري في "التاريخ الكبير" (6/209) . قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي- رحمه الله-: خالفهما-[أي: حماد وشعبة]- هشام الدستوائي وروح بن القاسم؛ فقالا: عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خماشة-[ووقع في مطبوعة السنن الكبرى: خراشة! فلتصحح]- عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان بن حنيف" اهـ. قلت: أما حديث هشام الدستوائي فأخرجه: النسائي في "الكبرى" (6/169/10496) والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/168) والبخاري في "التاريخ الكبير" (6/210) . وحديث روح بن القاسم أخرجه: البخاري في "التاريخ الكبير" (6/210) والحاكم في "المستدرك" (1/526) والبيهقي في "الدلائل" (6/167-168) والطبراني في "المعجم الكبير" (9/رقم: 8311) وفي " الصغير" (1/183-184) وفي "الدعاء" (2/1287-1289/1050) وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (628) . وانظر لزاماً "التوسل" للألباني (ص 75- وما بعدها) . وانظر لتوجيه الحديث: المصدر السابق، و"قاعدة جليلة" لشيخ الإسلام، و"تحفة الأحوذي" للمباركفوري (10/33- وما بعدها) .

والجواب ما ذكره بعض أهل الحديث حيث قال: اعلم أن الجواب عنه يعلم من تأمل معناه، فقوله: "اللهم إني أسألك" أي: أطلب منك. "وأتوجه إليك بنبيك محمد" صرح باسمه، مع ورود النهي عن ذلك، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم لكون التعليم من قبله، وفي ذلك قَصْرُ السؤال الذي هو أصل الدعاء على الله الملك المتعال، ولكنه توسّل بالنبي؛ أي: بدعائه، ولذا قال في آخره: "اللهم فشفّعه فيَّ " إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً، ولو كان المراد التوسل بذاته فقط لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله "بنبيك" كافٍ في إفادة هذا المعنى. فقوله: " يا محمد إني توجّهتُ بك إلى ربي". قال الطيبي1: الباء في بك للاستعانة، وقوله: "إن توجهت بك" بعد قوله: إليك؟ فيه معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2. فيكون خطاباً لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه بدعائه الذي هو عين شفاعته، ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية المفيد كل ذلك أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه، فكأنه

_ 1 في "شرحه على المشكاة" (6/1931- ط. الباز) . 2 سورة البقرة: 255.

استحضره وقت ندائه، ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابية والقرائن الاعتبارية. فقوله: "في حاجتي هذه لتقضى لي" أي: ليقضيها لي ربي بشفاعته فيّ؛ أي: دعائه. وذلك مشروع مأمور به، فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يطلبون منه الدعاء وكان يدعو لهم، وكذلك يجوز الآن أن تأتي رجلاً صالحاً فتطلب منه الدعاء لك، بل يجوز للأعلى أن يطلب من الأدنى الدعاء له كما طلب النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عمرته، بأن قال: "لا تنسنا يا أخي من دعائك"1 قال عمر رضي الله عنه: ما يسرني بها حمر النّعم. قال المناوي2: "سأل الله أولاً أن يأذن لنبيه أن يشفع له، ثم أقبل على النبي ملتمساً شفاعته له، ثم كر مقبلاً على ربه أن يقبل شفاعته. والباء في بنبيك للتعدية، وفي بك للاستعانة. وقوله: "اللهم فشفّعهُ فيّ " أي: اقبل شفاعته في حقي، والعطف على مقدر3، أي: اجعله شفيعاً لي فشفّعه ". وكل هذه المعاني دالة على وجود شفاعته بذلك، وهو دعاؤه صلى الله عليه وسلم بكشف عاهته، وليس ذلك بمحظور، غاية الأمر أنه توسل من غير دعاء، بل هو نداء لحاضر، والدعاء أخص من النداء، إذ هو نداء عبادة شاملة للسؤال بما لا يقدر عليه إلا الله، وإنما المحظور السؤال بالذوات لا مطلقاً بل على معنى أنهم وسائل لله بذواتهم، وأما كونهم وسائل بدعائهم فغير محظور، وإذا اعتقد أنهم وسائل لله بذواتهم فسأل منهم االشفاعة للتقرب إليهم فذلك عين ما كان عليه المشركون الأولون.

_ 1 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (1/29) أو رقم (195- شاكر) وأبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) وغيرهم. وضعّف إسناده العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على "المسند". والألباني في تحقيقه على "المشكاة" (2/695/2248) . 2 في "فيض القدير" (3/1376- ط. الباز) . 3 هكذا عبارة الأصل، وفي "فيض القدير": "ولتقضى" عطف على "أتوجه إليك بنبيك" أي: ... ".

وأما ورود هذا الحديث عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه في زمن عثمان ففي سنده مقال1، فكيف يعارض به جميع كتب الله وسنة رسوله وعمل أصحابه؟ وهل سمعتَ أحداً منهم جاء إليه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته إلى قبره الشريف فطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؟ وهم حريصون على مثل هذه المثوبات، لاسيما والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، تتشبّث بكل ما تقدر عليه، فلو صحّ عند أحدهم أدنى شيء من ذلك لرأيتَ أصحابه يتناوبون قبره الشريف في حوائجهم زمراً زمراً، ومثل ذلك تتوفر الدواعي على نقله، ولا وسّع الله طريقاً لم يتسع للصحابة والتابعين وصلحاء، علماء الدين. الشبهة الثالثة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توسَّلَ بالعباس رضي الله عنه في الاستسقاء ولم يُنكر عليه2. وكان حكمة توسّله به دون النبي صلى الله عليه وسلم وقبره إظهار غاية التواضع لنفسه والرفعة لقرابته صلى الله عليه وسلم، ففي توسله بالعباس توسّل بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيادة.. إلخ. والجواب: أن المراد من التوسل الدعاء لهم، يدل عليه ثبوت دعائه لهم بطلب السقيا كما جاءت به بقية الروايات، وهذا المعنى هو الذي عناه الفقهاء في كتبهم ومرادهم: التوجه إلى الله بدعاء الصالحين بأن يدعو لهم، ولو كان التوسل بالذوات هو المطلوب والمدلول الذي أقاموا عليه الدليل- وهم بمقتضى دليلهم لا يخصون الأحياء بهذا التوسل، ويستحبون التوسل بالذوات الشريفة، ولو بندائهم ودعائهم كما مرَّ تقريره من دليلهم، وأنه على معنى أن الشفعاء يدعون لهم. وقالوا: لا مانع من ذلك عقلاً وشرعاً فإنهم أحياء في قبورهم- لكان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر المهم وهم عنده بالمدينة أولى، ولكان قولهم- كما في رواية البخاري أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس، وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدَبْنَا توسَّلنا إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسْقَوْنَ"-

_ 1 انظر "التوسل" للعلامة الألباني (ص 90- وما بعدها) . 2 أخرجه البخاري (1010) .

عبثاً ضائعاً، بل مُخِلاًّ بما يقولون ويدعون، بل هو أقوى الأدلة وأرجحها وأعلاها وأوثقها وأصحها وأصدقها لما ندَّعِيهِ، فإن قول عمر: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا".. إلخ؛ يدل دلالة ظاهرة على انقطاع ذلك الذي هو الدعاء بدليل قوله: "إنا كنا"، ولما كان العباس حياً طلبوه منه فلما مات فات، فقصرهم له على الموجودين ولو كانوا مفضولين دليل ساطع وبرهان لامع على هذا المراد، ولو كان المقصود الذوات كما يقولون لبقية هذه التوسلات عندهم على حالها لم تتغير ولم تتبدل إلى المفضولين بعد وجود الفاضلين، سيما الأنبياء والمرسلين، فتأمل في هذا فإنه أحسن ما في هذه الأوراق، حقيق بأن يضرب عليه رواق الاتفاق، والله يهديك السبيل فهو نعم المولى ونعم الوكيل. وأما باقي الشبه التي أوردها النبهاني من كلام أسلافه الغلاة؛ فمنها ما لا يمس مقصودنا، ومنها أحاديث لا تخلو عن ضعف أو كذب راوٍ أو غير ذلك مما يمنع العمل بموجبه، كما ذكره من رد عليهم، ولو نضرتَ إليها بعين الإيمان وجدت آثار الوضع لائحة عليها، وأحوال الصحابة وأعمالهم تدل على أنهم غير معترفين بما فيها، ولو كان عندهم من ذلك أدنى رائحة لجاؤوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما ينوبهم على الرواحل، وتركوا عند ذلك جميع المشاغل.

ذكر شبة أخرى للمجوزين للاستغاثة وإبطالها

(ذكر شبة أخرى للمجوّزين للاستغاثة وإبطالها) لم يزل خصوم أهل الحق في كل عصر يسعون في تأييد باطلهم ويستندون إلى شبه هي أوهي من بيت العنكبوت وأنها لمن أوهن البيوت، ويتشبثون لترويج باطلهم حتى بحبال القمر، وقد رأيت رسالة مختصرة صنفها العلامة أبو عبد الله الشيخ محمد رحمه الله سماها (كشف الشبهات) أودعها نبذة من ذلك، وهي على اختصارها نافعة جداً لطالب الحق فأحببت إيراد شيء منها إتماماً للفائدة، قال رحمه الله: "اعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له

أعداء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 1 وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 2. إذا عرفتَ ذلك وعرفتَ أن الطريق إلى الله تعالى لا بد له من أعداء أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يكون لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين، الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} 3. ولكنك إذا أقبلت على الله تعالى وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من خصومه بإذن الله، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 4 فجند الله هم الغالبون بالحجة والبيان كما أنهم الغالبون بالسيف والسِّنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد منَّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 5. قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يرم القيامة. وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله تعالى في كتابه جواباً لكلام احتج به خصوم أهل الحق في زماننا هذا علينا، فنقول: إن جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل.

_ 1 سورة الأنعام: 112. 2 سورة كافر: 83. 3 سورة الأعراف: 16- 17. 4 سورة الصافات: 173. 5 سورة الفرقان: 33.

أما المجمل: فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 1. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2. مثال ذلك: إذا قال لك بعض الخصوم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3. وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء عليهم السلام لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم يستدل به على شيء من باطله، فأجبه بقولك: إن الله تعالى ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وأن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأنه كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء، مع أنهم قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرت لي أيها الخصم من الكتاب الكريم أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله تعالى لا يتناقض وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله. وهذا جواب سديد، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى، فلا تستهونه، فإنه كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 4. وأما الجواب المفصل: فإن أعداء الحق لهم اعتراضات كثيرة يصدون بها الناس:

_ 1 سورة آل عمران: 7. 2 أخرجه البخاري (4547) ومسلم (2665) . 3 سورة يونس: 62. 4 سورة فصلت: 35.

منها: قولهم: نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم. فأجبه: أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بما ذكرت، ومقرين أن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه له، فإن قال: إن هذه الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام فكيف تجعلون الصالحين أصناماً، فأجبه بأنه إذا أقر أن الكفار كانوا يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، وإذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أن الكفار منهم من كان يدعو الصالحين والأصنام، ومنهم من كان يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1. وقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. واذكر قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3. فقل له: أعرفت أن الله تعالى كفَّر من قصد الأصنام، وكفَّر أيضاً من قصد الصالحين، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن قال: إن الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله تعالى هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكني بقصدهم أرجو من الله تعالى شفاعتهم.

_ 1 سورة الإسراء: 57. 2 سورة المائدة: 75. 3 سورة سبأ: 40- 41.

فأجبه: أن هذا قول الكفار سواء بسواء، فاقرأ عليه قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1. وقوله تعالى: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله تعالى وضحها في كتابه وفهمتها فهماً جيداً فما بعدها أيسر منها. فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله؛ والالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة. فقل له: أنت تُقِرُّ أن الله تعالى فرض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك؟ فإذا قال: نعم. فقل له: بيِّن لي هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها، فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 3 إذا علمت بهذا هل هو عبادة؟ فلا بد أن يقول نعم والدعاء مخ العبادة. فقل له: إذا أقررت أنها عبادة ودعوت الله ليلاً ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثم دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره- إذ قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 4 وأطعت الله ونحرت له؟ فلا بد أن يقول: نعم؟ فقل له: إذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله تعالى؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم. وقل له أيضاً: إن المشركين الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يبعدون الملائكة والصالحين والات والعزى وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول نعم؟ فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك، وإلا فهم مقرون أنهم عبيد لله تحت قهره، وأن الله تعالى هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جداً.

_ 1 سورة الزمر: 3. 2 سورة يونس: 18. 3 سورة الأعراف: 55. 4 سورة الكوثر: 2.

فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها؟ فقل له: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأرجو شفاعته، لكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1 ولا تكون إلا من بعد إذنه سبحانه، كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2 ولا يشفع لأحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه، كما قال جل جلاله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 3 وهو لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4. فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد؛ تبين أن الشفاعة كلها لله، وأطلبها منه، وأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه فيَّ، وأمثال هذا. فإن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة وأنا أطلب مما أعطاه الله. فقل له: إن الله تعالى أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا، وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5. وأيضاً: فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأنا أطلبها منهم؟ فإن قلت هذا؛ رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك إن الله تعالى أعطاه الشفاعة وأنا أطلب مما أعطاه الله.

_ 1 سورة الزمر: 44. 2 سورة البقرة: 255. 3 سورة الأنبياء: 28. 4 سورة آل عمران: 85. 5 سورة الجن: 18.

فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئاً- حاشا وكلا- والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك. فقوله: إذا كنت تقر أن الله تعالى قد حرم الشرك أعظم من تحريمه الزنا، وتقر أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي عظمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري. فقل له: كيف تبرىء نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا. فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام. فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم كانوا يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن. وإن قال: هو قصد خشبة أو حجر أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون أنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع عنا ببركته! فقل له: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار، والأبنية التي على القبور وغيرها، فهذا قد أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام. ويقال له أيضاً: قولك: الشرك عبادة الأصنام؛ هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا وأن الاعتماد على الصالحين ودعائهم لا يدخل في هذا؟ فهذا يرده ما ذكره الله تعالى في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى والصالحين، فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين. فهو الشرك المطلوب في القرآن وهذا هو المطلوب. وسر المسألة؛ أنه إذا قال لك: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام. فقل له: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي. فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدّعي شيئاً وهو لا يعرفه؟ وإن فسَّر ذلك بغير معناه؛ فبين له الآية الواضحة في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان مما يفعل في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون عليها ويصيحون كما صاح إخوانهم، حيث قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ

إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1. فإذا عرفت أن هذا الذي يُسمّيه خصوم الحق في وقتنا الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه، فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل عصرنا من وجهين: أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله تعالى إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} 2. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 3 وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} إلى قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 4. وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 5. فمن فهم هذه المسألة التي أوضحها الله تعالى في كتابه، وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله تعالى وحده لا شريك له وينسون ساداتهم؛ تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً، والله المستعان. والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله، إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة، ويدعون أشجاراً وأحجاراً مطيعة لله ليست عاصية،

_ 1 سورة ص: 5. 2 سورة الإسراء: 67. 3 سورة الأنعام: 40- 41. 4 سورة الزمر: 8. 5 سورة لقمان: 32.

وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، ومن يعتقد في الصالحين ومن يعبد ما لا يعصى كالخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به. إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم، فاصغ سمعك لجوابها؛ وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فيكف تجعلوننا مثل أولئك؟ فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول صلى الله عليه وسلم في شيء وكذّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج. ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج أنزل الله تعالى في حقهم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1. ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وحل دمه وماله، كما قال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} 2. فإذا كان الله تعالى قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً زالت هذه الشبهة عن قلبه. ويقال: إذا كنت تقرُّ أن من صدّق الرسول في كل شيء وجحد وجوب

_ 1 سورة آل عمران: 97. 2 سورة النساء: 150- 151.

الصلاة أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان لا يجحد هذا ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر وإن عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله ما أعجب هذا الجهل؟! ويقال أيضاً: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويؤذنون. فإن قال: إنهم يقولون أن مسيلمة نبي. قلنا: هذا هو المطلوب؛ إذا كان من رفع رجلاً في رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع ولياً أو صحابياً أو نبياً في مرتبة جبار السموات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1. ويقال أيضاً؛ إن الذين حرّقهم علي بن أبي طالب كلهم يدّعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وقد تعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في عليّ مثل الاعتقاد في الصلحاء، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في صلحاء العصر لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟ ويقال أيضاً: إن بني عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر أيام بني العباس كلهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدّعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم

_ 1 سورة الروم: 59.

المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين. ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفّروا إلا من جمع بين الشرك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكره الفقهاء من كل مذهب وهو باب حكم المرتد وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه؟ وذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب. ويقال أيضاً إن الذين قال تعالى فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 1 أما سمعت الله تعالى كفّرهم بكلمة، ويزكّون ويحجّون ويوحّدون، وكذلك الذين قال الله تعالى فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2. فهؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم كفروا بعد إيمانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك؛ قد قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح. فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم تكفّرون المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلُّون ويصومون. ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق. ومن الدليل على ذلك أيضاً: ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 3. وقال ناس من الصحابة: "اجعل لنا ذات أنواط". فحلف صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل "اجعل لنا إلها"4.

_ 1 سورة التوبة: 74. 2 سورة التوبة: 65- 66. 3 سورة الأعراف: 138. 4 أخرجه أحمد (5/218) والترمذي (2180) والنسائي في "الكبرى" (6/346/11185) وابن جرير الطبري في "تفسيره" (9/31) وأبو يعلى في "مسنده" (3/30/1441) وعبد الرزاق في "مصنفه" (11/369/20763) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (15/101/19222) والطبراني في "المعجم الكبير" (3/رقم: 3290- 3294) والطيالسي في "مسنده" (1346) والحميدي في "مسنده" (2/375/848) وابن حبان في "صحيحه" (15/94/6702) والبيهقي في "معرفة السنن والآثار" (1/108) وابن أبي عاصم في "السنة" (76) وابن نصر المروزي في "السنة" (ص 11- 12) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (1/139- 140/204، 205) وابن بطة في "الإبانة" (1/2/568- 569/710) . من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه. وعزاه الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص 38- ط. ابن الجوزي) للبخاري؛ فوهم. والحديث صححه الترمذي، ووافقه العلامة الألباني- رحم الله الجميع.

ولكن لخصوم الحق شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون إن بني إسرائيل لم يكفروا وكذلك الذين قالوا: "اجعل لنا ذات أنواط " لم يكفروا. فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك ولو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب. وهذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل فهمنا التوحيد من أكبر الجهل ومن مكائد الشيطان، وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر- وهو لا يدري- فنبه على ذلك وتاب من ساعته أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم. وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولخصوم الحق وأعداء الدين شبهة أخرى، وهي أنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله، وقال: "أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله" 1. وكذلك قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"2. إلى

_ 1 أخرجه البخاري (2269) ومسلم (96) . 2 أخرجه البخاري (1399) ومسلم (20- 21) .

أحاديث أخر في الكف عمن قالها. ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل. فيقال لهم من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم1، وهم يقولون لا إله إلا الله. وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويدّعون الإسلام. وكذلك الذين حرّقهم علي بن أبي طالب بالنار. وهؤلاء الجهلة يقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقُتِلَ، ولو قالها؛ فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل ورأسه؛ ولكن أعداء الله لم يفهموا معنى الأحاديث. فأما أحاديث أسامة؛ فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبيّن منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} 2. أي: تثبتوا. فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: "فتبينوا" ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى. وكذلك الأحاديث الأخر معناها ما ذكرناه، وأن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه، إلا أن يتبين منه ما يناقض ذلك. والدليل على هذا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: "أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله"؟ وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ". وهو الذي قال في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" 3. مع

_ 1 في الأصل: و "سألهم"! وهو تصحيف. 2 سورة النساء: 94. 3 أخرجه البخاري (6930) ومسلم (1064- 1066) .

كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً، حتى أن الصحابة رضي الله عنهم يحقرون أنفسهم عندهم، وقد تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم كلمة لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة. وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة رضي الله عنهم بني حنيفة. وكذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل منهم أنهم منعوا الزكاة، حتى أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1. وكان الرجل كاذباً عليهم، وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه. ولهم شبهة أخرى؛ وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً. والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2. وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله، إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، مثل أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك، تقول له: ادع الله لي. كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا إنهم لم

_ 1 سورة النساء: 94. 2 سورة النساء: 94.

يسألوا ذلك، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه صلى الله عليه وسلم. ولهم شبهة أخرى؛ وهي قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، اعترض له جبريل في الهواء، وقال له: ألك حاجة، فقال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا1. قالوا: فلو كانت الاستغاثة شركاً لم يعرضها على إبراهيم عليه السلام. والجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عليه السلام عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه: {شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ} 2. فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم عليه السلام وما حولها ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره الله تعالى أن يضع إبراهيم عليه السلام عنهم في مكان بعيد لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو يهبه شيئاً يقضي به حاجته، فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟ هذا آخر ما قصدنا نقله من كتاب (كشف الشبهات) . وقد خطر لي بيتان من الشعر في قصة إبراهيم عليه السلام نظمهما بعض الأدباء العصريين وهما: أصبحت ملة إبراهيم متبعاً ... لا أبتغي من سوى رب العلى بدلا لو قال لي الروح جبرائيل هل لك من ... حاج لقلت له أما إليك فلا وهذا هو التوحيد الذي يرغم أنف النبهاني وأضرابه من الغلاة الطغاة، وما نقلناه عن الشيخ كلام مفيد لذوي البصائر والأفهام، وقد سقط به ما ذكره النبهاني من توضيح مسألة الاستغاثة، فإن كلامه هنا مجرد إعادة عبارة سابقة

_ 1 القصة لا أصل لها كما قال المحدث الألباني في "الضعيفة" (21) . 2 سورة النجم: 5- 6.

ليعظم لديه حجم كتابه، نسأله تعالى أن يهدينا سبلنا، ويصلح لنا أحوالنا بمنه وكرمه. ثم إن النبهاني الغبي ذكر في آخر الفصل الرابع تتمة زعم أنها اشتملت على كلام بعض أئمة أهل العلم والأولياء في زيارة قبور الصالحين والانتفاع بزيارتها وصفاء أرواحهم بعد مماتهم، ثم نقل عن ابن دحلان هذيانه الذي في كتابه، "تقريب الأصول لتسهيل الوصول" وهو قوله: قد صرّح كثير من العارفين أن الولي بعد وفاته تتعلق روحه بمريديه، فيحصل لهم ببركته أنوار وفيوضات، قال: وممن صرح بذلك قطب الإرشاد سيدي عبد الله بن علوي الحداد، فإنه قال: الولي يكون اعتناؤه بقرابته واللائذين به بعد موته أكثر من اعتنائه بهم في حياته، لأنه في حياته كان مشغولاً بالتكليف وبعد موته طرح عنه الأعباء وتجرد، والحي فيه خصوصية وبشرية، وربما غلبت إحداهما الأخرى، وخصوصاً في هذا الزمان فإنها تغلب البشرية، والميت ما فيه إلا الخصوصية فقط- ثم بقي يهذي إلى أن قال-: وكان الشيخ أبو المواهب أيضاً يقول: من الأولياء من ينفع مريده الصادق بعد مماته أكثر مما ينفعه حال حياته، ومن العباد من تولى الله تعالى تربيته بنفسه بغير واسطة، ومنهم من تولاه بواسطة بعض أوليائه ولو ميتاً في قبره فيربى مريده وهو في قبره ويسمع مريده صوته من القبر، ولله عباد يتولى تربيتهم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه من غير واسطة لكثرة صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم. ثم نقل كلام الإمام فخر الدين الرازي- الذي ذكره في الفصل الثالث عشر من كتابه "المطالب العالية في بيان كيفية الانتفاع بزيارة القبور والموتى"- وهو قوله: "إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس كامل الجواهر ووقف هناك ساعة وحصل تأثير في نفسه حين حصل من الزائر تعلق بزيارة تلك التربة فلا يخفى أن لنفس ذلك الميت تعلقاً بتلك التربة أيضاً، فحينئذ يحصل لنفس الزائر الحي ولنفس ذلك الإنسان الميت تعلق بتلك التربة وملاقاة بسبب اجتماعهما بتلك التربة أيضاً، فصار هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين متقابلتين بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى، فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي

من المعارف والبراهين والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة من الخشوع لله تعالى والرضا بقضاء الله تعالى ينعكس منه نور إلى روح هذا الحي الزائر، وبهذه الطريقة تصير تلك الزيارة سبباً لحصول تلك المنفعة الكبرى والبهجة العظمى لروح هذا الزائر، فهذا هو السبب والأصل في مشروعية الزيارة، ولا يبعد أن يحصل منها أسرار أخرى أدق وأخفى مما ذكرنا، وتمام الحقائق ليس إلا عند الله تعالى". انتهى كلام الرازي. ثم قال: قال الشيخ أبو المواهب: قال بعض العارفين: وللأولياء عند زيارة الأولياء وقائع كثيرة تدل على اعتناء المزور بالزائر وتوجهه إليه بالكلية على قدر توجهه وقابليته. قال النبهاني: "انتهى ما نقلته من (تقريب الأصول) للسيد أحمد دحلان ". أقول: إنما نقلت كلام ابن دحلان الذي استدل به النبهاني على باطله من أوله إلى آخره- وإن كان فيه تضييع المداد والقرطاس ويؤسف على ما يصرف مدة نقله على الأنفاس- ليقف عليه المؤمن فيحمد الله على الإيمان والإسلام، ونجاته من ظلمات مثل هذه الأوهام، ولشناعتها وبشاعتها لدى ذوي العقول السليمة لا تحتاج إلى إقامة دليل ولا برهان، على ما حوته من بداهة البطلان، وجميع من نقل عنه ذلك الهذيان كانوا من غلاة الشافعية فقط. ومن الأسف على مثل هذا المذهب أن دنسه هؤلاء الغلاة وأضرابهم مع ما كان عليه الإمام الشافعي من الاتباع للسنة، وقد صان الله تعالى السادة الحنفية والمالكية والحنابلة عن مثل هذه العقيدة الزائغة والقول الباطل، ومن المعلوم لديك أن النبهاني عقد باباً لزيارة القبور، وباباً للسفر إليها، وهذى بما هذى في كلا البابين، وكأنه نسي أن يذكر هذا الكلام في موضعه فتداركه في هذا المقام، فإن له تعلقاً به من حيث الاستعداد والاستفاضة اللذان ادعاهما في الزيارة، قاتله الله ما أعظم جهله وغباوته. ثم إنا قد أسلفنا الكلام على الزيارة، وبينا ما فيه الكفاية لمن كان له قلب سليم، وقلنا: إن الزيارة منها ما هو سُنّي وهو الذي كان يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه من شأنها، ومنها ما هو بدعي لم ينزل الله به من سلطان، وأطنبنا الكلام على كل

ذلك، نقلنا ما كتبه شيخ الإسلام في (الجواب الباهر) وكتابه في الرد على المعترض المالكي وهو الذي لم يسبقه أحد إليه. ومنه يعلم أن ما كتبه ابن دحلان وما نقله عن الرازي كلام ساقط كل السقوط، وليس عليه دليلاً لا من كتاب ولا من سنة ولا من كلام السلف الصالح، وكان الذي قال يقول الرازي من المتقدمين والمتأخرين إنما أخذوه عن الإشراقيين من فلاسفة اليونان، ومن الأسف على مثل الرازي أن يتفوه بمثل ما نقل عنه ومنزلته في العلم ما تعلم، لكن الإمام الذهبي قد بين حقيقته ومبلغه من علوم الدين، وابن السبكي تأثر من شيخه الذهبي إذ بين حقيقته وأطال اللسان عليه في طبقاته في الكلام على ترجمة الرازي. وابن دحلان ليس مما يلام على جهله، وغباوته ودعواه في العلم معلومة، وعجبه وكبره مما يقتضي ما رأيت من جهله، والحاصل أنه لو لم يكن لنا دليل على بطلان ما نقله النبهاني عمن نقله سوى مخالفته للنقل الصحيح والعقل الصريح لكفانا ذلك، فكيف والأدلة على بطلانه كثيرة كما يعلم مما سبق. ثم إن النبهاني نقل كلام ابن دحلان في كتابه (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام) وعقد له باباً وجعله ثالث الأبواب، وهو كلام ليس عليه أثارة من علم، ونقله النبهاني بأسره. فذكر الشبه التي تمسك به الوهابية على زعمه، فقال: "ينبغي أولاً أن نذكر الشبهات التي تمسك بها ابن عبد الوهاب في إضلال العباد، ثم نذكر الرد عليه ببيان أن كل ما تمسك به زور وافتراء وتلبيس على عوام الموحدين". قال: "فمن شبهاته التي تمسك بها؛ زعمه أن الناس مشركون في توسلهم. بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم وندائهم له بقولهم: يا رسول الله نسألك الشفاعة، وزعم أن ذلك كله إشراك، وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين،

كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2 وقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 3 وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 5 وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 6. وأمثال هذه الآيات كثيرة في القرآن كلها حملها على الموحدين".. إلخ. أقول- ومن الله أستمد التوفيق-: إن النبهاني لم يزل يكرر مباحث كتابه ويعيد حتى يعظم حجم كتابه، وما أدري ماذا قصد بنقل كلام ابن دحلان، فهل للاستدلال به على باطله وهو لا يفيد ذلك فإن الرجل ليس ممن يحتج بقوله، بل ولا ممن يوثق به فإنه مبتدع بل من الغلاة المشهورين، وإن كان نقله لكلامه ليبين للناس أنه له أمثالاً في الغلو والضلال فهذا مما لا يحتاج، فقد قيل: ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وعلى كل حال فإن ما نقله النبهاني عن صاحب مؤلف كتاب (خلاصة الكلام) وكتاب (الدرر السنية في الرد على الوهابية) قد رددناه سابقاً كما قد رد عليه من قبلي علماء أفاضل محققون، وقد انتشرت كتبهم، منها كتاب (صيانة

_ 1 سورة الجن: 18. 2 سورة الأحقاف: 5- 6. 3 سورة الشعراء: 213. 4 سورة يونس: 106. 5 سورة فاطر: 13- 14. 6 سورة الإسراء: 56- 57.

الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان) للعلامة المحدث الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الرحيم السندي رحمه الله تعالى، وقد أجاد في رده عليه وأظهر زيغه وعواره، فقد قال في خطبة كتابه: "أما بعد؛ فإني وقفت على الرسالة التي جمعها الشيخ أحمد بن زيني دحلان وسماها (الدرر السنية في الرد على الوهابية) ورأيت مؤلفها يدّعي في ديباجة رسالته الباطلة الساقطة الدنية الردية أنه جمع فيها ما تمسك به أهل السنة قي زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به من الدلائل والحجج القوية، من الآيات والأحاديث النبوية، فتعجبت منه التعجب الصراح، كيف وليس في الباب حديث واحد حسن فضلاً عن الصحاح، فتأملتُ فيها تأمل الناقد البصير لكي أعلم به هل صدق في تلك الدعوى أم كذب كذب المجادل الضرير، فوجدت دعواها عارية عن لباس الصدق والحق المبين، محلاة بحلية الزور والكذب والباطل المهين، فإنه ليس فيها من الأحاديث إلا ما أورده التقي السبكي في "شفاء السقام " وهي دائرة بين الاحتمالات الثلاثة السقام، إما موضوعة عملتها أيدي الوضّاع اللئام، أو ضعاف واهية رواها من وسم بمثل كثرة الغلط والخطأ والأوهام، أو شيء يسير من الصحيح والحسن في زعمه قاصر عن إفادة المرام، كما بين ذلك كله الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في كتابه (الصارم المنكي) وليس فيها من الآيات والأحاديث الصحاح والحسان ما يدل على المطلوب المحكي، وكان حقاً على المؤلف تعاطي واحد مما يذكر، لئلا يعد كلامه مما يهجر وينكر، إما إيراده لأحاديث صحيحة أو حسنة دالة على المطلوب غير ما أورد في الشفاء، أو الإجابة عما تكلم به عليها صاحب الصارم وغيره من الأئمة الأذكياء، وإن لم يفعل هذا ولا ذاك فليس لها فائدة، ولا يؤول هذا الطول إلى منفعة وفائدة، ومن عجائب صنيعه أن المؤلف مع زعمه أنه من جملة المقلدين يستدل بالأدلة الشرعية وهو منصب المجتهدين، فعن لي أن أنبه على ما وقع فيها من مساوىء المفاهيم، وزخارف الأقوال، وأراجيف الاستدلال، لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا خبرة له بحقائق علم السنة من المتون والرجال، فبالله أستعين وأقول: ... " إلى آخر ما قال.

فإذا عرفتَ ما كان من الردود على أقوال ابن دحلان فالتعرض لها في مثل هذا المقام فضول، ومع ذلك نشير إشارة إجمالية إلى الرد عليها، فنقول: قوله: فمن شبهاته التي تمسك بها زعمه أن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.. إلخ. لا أصل له، بل إن له دلائل قطعية من الكتاب والسنة على أن العبادة مختصة بالله تعالى لا يشركه غيره، لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: "إذا استعنت فاستعن بالله" إلخ. وبيّن أن مالا يقدر عليه إلا الله فطلبه منه مخ العبادة، فمن صرفه لغيره فلا شك أنه عبد الغير، ومن عبد الغير فقد أشرك على ما سبق فيما نقل عنه من كتاب (كشف الشبهات) . ثم إنه لم يقل إن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور سائر الأنبياء والصلحاء الزيارة المشروعة شرك بل ندبها واستحبها. نعم إن الزيارة المخالفة لما ورد فهي ليست بمقبولة، كما أنها كذلك عند المحققين من الأئمة، وقد سبق بيان ذلك فيما نقلناه عن شيخ الإسلام، وكذلك التوسل به بمعنى جعله وسيلة والطلب من الله تعالى ليس مما نوزع فيه. وقوله: وندائهم له.. إلخ؛ قد أسلفنا لك فيما نقلناه من كتاب (كشف الشبهات) . ثم إنه لم يقل إن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور سائر الأنبياء والصلحاء الزيارة المشروعة شرك بل ندبها واستحبها. نعم إن الزيارة المخالفة لما ورد فهي ليست بمقبولة، كما أنها كذلك عند المحققين من الأئمة، وقد سبق بيان ذلك فيما نقلناه عن شيخ الإسلام، وكذلك التوسل به بمعنى جعله وسيلة والطلب من الله تعالى ليس مما نوزع فيه. وقوله: ونداهم له.. إلخ؛ قد أسلفنا لك فيما نقلناه من كتاب (كشف

الشبهات) أن الشفاعة تطلب من الله تعالى، وتقدم تفصيله. وقوله: وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين.. إلخ. فقد تقدم أيضاً بيان ذلك مفصّلاً في (كشف الشبهات) ، وحاصل ما أسلفناه أن من عبد غير الله شملته نصوص المشركين وإن صام وإن صلى، فلا حاجة إلى تكرير الكلام في هذا المقام، وقد تكلم على هذه الاعتراضات على وجه البسط أيضاً الشيخ عبد الله السندي في رده على ابن دحلان فراجعه إن شئت فإنه مفيد. ثم إن النبهاني نقل كلام ابن دحلان بجملته، وهو عين ما هذى به في كتابه (الدرر السنية) وما فيها منقول عن (الجوهر المنظم) و (شفاء السقام) وقد عرفت ما كان من الكتابين، وما كان من الرد عليهما فلا نتعب البنان برده. ثم قال بعد كلام طويل: "إن الذين اعتنوا بالرد على محمد بن عبد الوهاب خلائق لا يحصون من مشارق الأرض ومغاربها من أرباب المذاهب الأربعة في كتب مبسوطة ومختصرة". ثم ذكر أحاديث الزيارة التي سبق الكلام عليها وبها ختم الباب. أقول: يجاب عن هذا الكلام من وجوه: الوجه الأول: أن كثيراً من العلماء المحققين انتصروا للشيخ، وردوا على من رد عليه بكتب مفضّلة مفيدة لا يسع المقام ذكرها1. الوجه الثاني: أن رد كثير من العلماء على الشيخ لا يقتضي بطلان ما كان عليه ولا حقية ما كان عليه خصومه، إنما معيار الحق شهادة الكتاب العزيز والسنة النبوية، وإذا كان قوله وعمله موافقاً للنقلين فلا مبالاة بمخالفة الغير كائناً من كان.

_ 1 انظر "كتب حذّر منها العلماء" للمحقق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان (1/250- وما بعدها) .

إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضباناً على لئامها الوجه الثالث: أن الأمة لم تزل بين راد ومردود، ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم، وكثير من علماء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين قد خالفهم كثير من العلماء. هؤلاء المذاهب الأربعة كل واحد منهم له من المخالفين أكثر من الموافقين، وكل منهم قد رد عليه خصومه بردود مفصلة، وهذا من المسلّمات التي لا يسوغ النزاع فيها، فالشيخ الدحلاني كأنه غضّ طرفه عما جرى بين أئمته وأتباعهم، وما كان من خراب الديار بسبب تنازعهم، ورأى ما اعترض به خصوم ابن عبد الوهاب عليه لما أظهر زيفهم وزيغهم وباطلهم وضلالهم، والحق بيد الشيخ الدحلاني فإنه على جهله قد ادعى الرياسة على قوم لم يميزوا بين يمينهم وشمالهم، وأطاعوه لموافقته لهم على ما ألفوه من الضلال والغي. فإذا علمتَ أقوال هذا الرجل، وتبصّر بها من تبصر تقطعت حبائل ابن دحلان وأمثاله من حزب الشيطان، ثم إنه ليس هو بأول من رد عليه ولا أول من عودي وحسد، ففي البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبر ورقة بن نوفل ما رأى قال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً؛ إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم"؟ قال: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً"1. ولو أخذنا نذكر ما جرى على الأئمة طال الكلام. وقد ذكر الشيخ عبد اللطيف في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) كلاماً مفيداً يعلم منه السبب في معاداة الناس لجده الشيخ محمد، ولا بأس بذكره فإنه يرد به على الخصوم، قال عليه الرحمة: "أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وكان الناس قبل مبعثه على أديان متفرقة، ونحل متباينة، وطرائق مختلفة، وضلال مستبين، كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله نظر إلى أهل

_ 1 تقدم تخريجه.

الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب". فقام صلى الله عليه وسلم بأعباء النبوة والرسالة، وصدع بالإنكار على كافة أهل الجهالة والضلالة، ودعى الناس إلى معرفة الله تعالى وتوحيده، وأمرهم بإخلاص الدين لله وتجريده، ولم يزل صلى الله عليه وسلم إلى الله داعياً، وإلى سبيله هادياً، حتى أظهره الله على سائر فرق المشركين، الأميين منهم والكتابيين، واستعلن الدين واستنار، وقهر الإسلام كل مشرك جبار، فأكمل الله للأمة الدين، وأتم النعمة بما جاء به رسوله الأمين، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأشرقت الأرض بنور النبوة واهتزت طرباً وابتهاجاً، ومحا الله آثار الأصنام والأوثان، وخمدت معابد الصلبان والنيران، ورفعت أعلام السنة والقرآن، حتى تركهم صلى الله عليه وسلم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يضل سالكها ولا تلتبس عليه مناهجها ومسالكها، ولم يزل خلفاؤه الراشدون ومن بعدهم من تلك الأعصار الفاضلة والقرون على هذا المنهج المنير متفقون، وبعروته مستمسكون، فاستمر الأمر على ذلك، ومضى الصالحون على تلك المناهج الواضحة والمسالك، ثم نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ولم يميز بين شعب الشرك والأصول الإسلامية، فانتقضت من الدين عراه، وعز خلاصه وعظمت بالجهال محنته وبلواه، وآلت الرياسة إلى الجهال والأغمار، وجاءت دولة غربة الدين واشتد الإدبار، فوقع الشرك بالصالحين وغيرهم صرفاً لم يشب، هرم عليه الكبير ونشأ الصغير وشب، واستحكم الأمر استحكاماً لا مزيد عليه، حتى جزم الأكثر بكفر من أنكر ذلك وأشير به إليه، وهذا من أعلام نبوة نبينا المصطفى، زاده الله تعالى صلاة وسلاماً وشرفاً، فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1. وجاء نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وفيه زيادة: "وباعاً بباع" وفيه: "حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم

_ 1 أخرجه البخاري (3456) ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

جامع أمه في الطريق لفعلتموه"1. وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه2، وشداد بن أوس3، وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده4. فصار الأمر طبق ما أخبر به هذه الأمة نبيها، وظهر وجه الشبه بينهم وبينها، وانتهى الحال إلى أن قيل بالاتحاد والحلول، وكثرت في ذلك إشارات القوم والنقول، وصار هو مذهب الخاصة والخلاصة عند الأكثرين، ومن أنكره فهو عندهم ليس على شيء من العلم والدين، وعُبِدَتْ الكواكب والنجوم، وصُنّف في ذلك مثل أبي معشر وصاحب السر المكتوم، وعُظّمت القبور، وبُنيت عليها المساجد، وعُبدت تلك الضرائح والمشاهد، وجُعِلَتْ لها الأعياد الزمانية والمكانية، وصُرفت لها العبادات المالية والبدنية، ونُحِرَتْ لها النحائر والقرابين، وطاف بها الفوج بعد الفوج من الزائرين والسائلين، وحَلَقَتْ لأربابها رؤوس الوافدين، وهتف بدعائها ورجائها من حضر أو غاب من المعتقدين والمحبين، واعتمدوا عليها في المهمات من دون الله رب العالمين، وانتهكت بأعيادها وموالدها محظورات الشريعة والمحرمات، واسْتُبيح فيها ما اتفق على تحريمه جميع الشرائع والنبوات، وكثر المكاء والتصدية بتلك الفجاج والعرصات، وبارزوا بتلك القبائح والعظائم فاطر الأرض والسموات، وصنف في استحبابه بعض شيوخهم كابن المفيد، وظنه الأكثر من دين الإسلام والتوحيد، وأشير إلى من أنكره بالكفر الشديد، وقد ضمن الله تعالى لهذه الأمة أن لا تجتمع على ضلالة، وأن لا يزال فيها من يعبد الله تعالى قائماً على أي وصف وحالة، وجاء الحديث بأنه تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر الدين، ويقوم من الحجة بالواضح المستبين، فمنهم من قص علينا نبؤه ووصل، ومنهم

_ 1 أخرجه الحاكم (4/455) والبزار (3285-كشف الأستار) . وانظر "الصحيحة" (3/334/1348) . 2 أخرجه البخاري (7319) . 3 أخرجه ابن الجعد في "مسنده" (3424) والآجري في "الشريعة" (1/134/36) بإسناد ضعيف، لكن الحديث صحيح بشواهده. 4 أخرجه الآجري (1/134/35) بإسناد ضعيف جداً.

من انقطع عنا خبره وما اتصل، وأحق أهل القرن الثاني عشر- عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر، من حصول الوصف الكاشف المعتبر- شيخ الإسلام والمسلمين، المجدد لما درس من أصول الملة والدين، السّلفي الأول- وإن تأخر زمانه- عند من عقل وتأمل؛ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وأجزل له الثواب، وكان قيامه رحمه الله تعالى بعد الخمسين ومائة وألف من سني الهجرة المحمدية، وابتداء التواريخ الإسلامية، فشمر رحمه الله تعالى عن ساعدي جده واجتهاده، وأعلن بالنصح لله ولكتابه ولرسوله وسائر عباده، وصبر على ما ناقله من أعباء تلك الرتبة والدعوة، وما قصد به من أنواع المحنة والجفوة، وقرر رحمه الله تعالى أن الواقع الذي حكينا، والصنيع الذي رأينا وروينا، عن عباد القبور والصالحين، هو بعينه فعل الجاهلية الوثنيين، وهو الذي جاءت الرسل بمحوه وإبطاله، وتكفير فاعله ورد باطله ومحاله، وقال إن حقيقة دين الإسلام وزبدة ما جاءت به الرسل الكرام: هو إفراد الله تعالى بالقصد والعبادة، وإسلام الوجه له بالعمل والإرادة، وترك التعلق على الأولياء من دونه والأنداد، والبراءة من عبادة ما سواه من سائر المخلوقات والعباد، وهذا معنى كلمة الإخلاص والتوحيد، وهو الحكمة المقصودة بخلق جميع الكائنات والعبيد، وقرر رحمه الله أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة مع مخالفة ما دلت عليه الأصول المقررة ومع الشرك الأكبر في العبادة لا يدخل المكلف في الإسلام، إذ المقصود من الشهادتين حقيقة الأعمال التي لا يقوم الإيمان بدونها، كمحبة الله وحده، والخضوع له، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإفراده بالاستعانة، والاستغاثة فيما لا يقدر عليه سواه، وعدم الإشراك به فيما يستحقه من العبادات، كالذبح والنذر والتقوى والخشية ونحو ذلك من الطاعات. واستدل لذلك بنصوص قاطعة، وبراهين واضحة ساطعة، وحكى الإجماع على ذلك عن الأئمة الفضلاء، والسادة النبلاء، من سائر أهل الفقه والفتوى، وذكر عبارة من حكى الإجماع من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وألف في ذلك التأليف، وقرر الحجة وصنف التصانيف، وقد عارضه من الغلاة المارقين، ومن

الدعاة إلى عبادة الأولياء والصالحين أناس من أهل وقته، فباؤوا بغضب الله ومقته، وأظهره الله عليهم بعد الامتحان، وحقت كلمة ربك على أهل الكفر والطغيان، وهذه سنة الله التي قد خلت من قبل، وحكمته التي يظهر بها ميزان الفضل والعدل، وقد جمع أعداؤه شبهات في رد ما أبداه، وجحد ما قرره وأملاه، واستعانوا بملئهم من العجم والعرب، ونسبوه إلى ما يستحي من ذكره أهل العقل والأدب، فضلاً عن ذوي العلوم والرتب، وزعموا أنه خارجي مخالف للسنة والجماعة، كمقالة أسلافهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صابئي صاحب إفك وصناعة" انتهى ما قصدنا نقله من الكلام. ثم إن النبهاني عقد باباً رابعاً نقل فيه على زعمه أقوال علماء المذاهب الأربعة في الرد على ابن تيمية، والكلام على بعض كتبه، ومخالفته أهل السنة في بعض المسائل المهمة، ومنها اعتقاد الجهة في جانب الله تعالى وتقدس. قال: "فممن عاصره الإمام صدر الدين ابن الوكيل العروف بابن مرحل الشافعي1 وقد ناظره". أقول ومن الله المدد والإعانة: هذا الباب هو عمدة أبواب كتاب النبهاني وبيت قصيده، ولأجل ذكره ألّف كتابه، فإن الغلاة بغضهم لشيخ الإسلام ابن تيمية مما لا شبهة فيه، والنبهاني في هذا من حثالتهم وفضلاتهم، فلا شك أنه من أشد الناس عداوة لهذا الإمام، لأن غالب كتبه في الرد على المبتدعة وأهل الزيغ والضلال والإلحاد. ثم إنه ذكر ابن الوكيل قبل كل أحد من أعداء الشيخ لأنه كان عريقاً في البدع، مبغضاً للسنة النبوية، وكان من غلاة الشافعية أيضاً، وقعت بينه وبين شيخ الإسلام قدس الله روحه مناظرات، وقد أثار عليه فتناً كثيرة.

_ 1 هو محمد بن عمر بن مكي صدر الدين المعروف بابن المرحل أو ابن الوكيل. ولد سنة (665) وتوفي سنة (710) . انظر: ترجمته في "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/233/519) و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (6/23- 28) و"البداية والنهاية" (14/80) و"النجوم الزاهرة" (9/233) .

وقد رأيت أن أذكر ما كان من المناظرة بين الشيخ وخصومه ليتبين للناظر أعداؤه من محبيه، ورأيت رسالة من جملة "الرسائل الكبرى" التي طبعت حديثاً في مصر مشتملة على بيان مناظرته، ورأيت فيها تحريفاً كثيراً ونقصاناً، مع أن الشيخ ألف كتاباً فيما عقد له من المجالس وما جرى له فيها، فأحببت أن أذكر ما وجدته من ذلك، ليكون المصنف على بصيرة من أمره، وكلام صاحب الواقعة أصح من غيره، ولذلك أتحفت أهل العلم بذكرها لما اشتملت عليه من الفوائد الغزيرة، والمسائل الكثيرة.

ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية

(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية) 1 (وهي من مصنفاته رضي الله تعالى عنه) قال بعد البسملة: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله إلى الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وعلى سائر عباد الله الصالحين. أما بعد؛ فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أمر الاعتقاد، بمقتضى ما ورد من كتاب ذي السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد، لما سعى إليه قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد، فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة، قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشايخ ممن له حرمة وبه اعتداد، وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد، وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة، فقال لي: هذا المجلس عقد

_ 1 وهي ضمن "مجموع الفتاوى" (3/160- وما بعدها) . وطبعت مستقلة عدة مرات. وشرحها وعلّق عليها كثير من أهل العلم.

لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد، وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء ويتباحثون في ذلك. فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم، وأما الكتب فما كتبت إلى أحد كتاباً ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من سألني من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغني أنه زوّر عليّ كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير أستاذ ذي السلطان يتضمن ذكر عقيدة محرفة ولم أعلم بحقيقته لكن علمت أنه مكذوب. وكان يرد علي من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد فأجبته بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فقال: نريد أن تكتب لنا عقيدتك فقلت اكتبوا. فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب؛ فكتب له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر، ومسائل الإيمان، والوعيد، والإمامة، والتفضيل، وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة وأحبها ورضيها، وونهى عن المعصية وكرهها، والعبد فاعل حقيقة، والله خالق فعله، وأن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص، وأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بالذنوب، ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحداً، وأن أفضل الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وذكرت هذا أو نحوه، فإني الآن قد بعد عهدي ولم أحفظ لفظ ما أمليته، لكنه كتب إذ ذاك.

ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواماً يكذِبُونَ عليَّ كما قد كذبوا غير مرة، وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون كتم بعضه أو داهن ودارى، فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين قبل أن يجيء التتر إلى لشام. وقلت قبل حضورها كلاماً قد بعد عهدي به، وغضضت غضباً شديداً، لكني أذكر أني قلت أنا أعلم أن أقواماً كذبوا عليَّ، وقالوا للسلطان أشياء وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري، ومن الذي أوضح دلائله وبينه وجاهد أعداءه وأقامه لما مال حين تخلى عنه كل أحد، ولا أحد ينطق بحجته ولا أحد يجاهد عنه، وقمت مظهراً الحجة مجاهداً عنه مرغباً فيه، فإذا هؤلاء يطمعون في الكلام فيَّ فكيف يصنعون بغيري، ولو أن يهودياً طلب من السلطان الأنصاف لوجب عليه أن ينصفه، وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو بل أطلب الأنصاف منه، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليكافؤوا على افترائهم، وقلت كلاماً أطول من هذا الجنس لكن بعد عهدي به. فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محي الدين بأن يكتب في ذلك، وقلت أيضاً: كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه، وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده، لكن قلت أيضاً بعد حضورها وقرائتها ما ذكرت فيها فصلاً إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف، ثم أرسلت من أحضرها ومعه كراريس بخطي من المنزل، فحضرت العقيدة الواسطية، وقلت لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم عليَّ من أرض واسط بعض قضاة نواحيها شيخ يقال له رضي الدين الواسطي من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجاً وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد في دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة فخذ بعض عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال وقال ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، وقد انتشرت بها نسخ

كثيرة في مصر والعراف وغيرهما، فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا لرفع الريبة، وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين فقرأها على الحاضرين حرفاً حرفاً، والجماعة الحاضرون يسمعونها ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء، والأمير أيضاً سأل عن مواضع فيها، وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد وبعضه بغير ذلك، ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس، فإنه كثير لا ينضبط لكن اكتب ملخص ما حضرني من ذلك مع بعد العهد بذلك، ومع أنه كان يجري رفع أصوات ولغط لا ينضبط. فكان مما اعترض عليه بعضهم لما ذكر في أولها: ومن الإيمان بالله؛ الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. فقال: ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي أثبته أهل التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إما وجوباً وإما جوازاً، فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه، كما ذمه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً، ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم من الجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم، فسكت وفي نفسه ما فيها. وذكرت في غير هذا المجلس أني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، فبينت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات، لأنه لفظ له عدة معان، كما بينته في موضعه من القواعد، فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه، وغير معنى [لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير] ،

_ 1 سورة النساء: 164.

وكان أحب إليّ من لفظ ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، وإن كان قد يعني بنفيه معنى تسمى تأويلاً ما هو صحيح منقول عن بعض السلف فلم أنف ما تقوم به الحجة على صحته، إذ ما قامت الحجة على صحته وهو منقول عن السلف فليس من التحريف. وقلت لهم أيضاً: ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه، حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1. وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2. وكان أحب إليّ من لفظ ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح كما قد يعني به معنى فاسد، ولما ذكرت أنهم لا ينفون عنه ما وصف به نفسه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته جعل بعض الحاضرين يتمعض من ذلك لاستشعاره ما في ذلك من الرد الظاهر عليه، ولكن لم يتوجه له ما يقوله، وأراد أن يدور بالأسئلة التي أعلمها فلم يتمكن لعلمه بالجواب. ولما ذكرت آية الكرسي أظنه سأل الأمير عن قولنا: لا يقر به شيطان حتى يصبح؛ وذكرت حديث أبي هريرة في الذي كان يسرق صدقة الفطر، وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه3. وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم، ويطنبون في هذا، ويعرضون لما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك. وقلت: قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل، وإنما اخترتُ هذين الاسمين لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف، كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" فاتفق هؤلاء السلف على أن التكييف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك اتباعاً لسلف الأمة، وهو أيضاً منفيٌّ بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي

_ 1 سورة الشورى: 11. 2 سورة مريم: 65. 3 برقم (2311) .

لا يعلمه إلا الله، كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التأويل، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله. وكذلك التمثيل منفيّ بالنص، والإجماع القديم، مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف، إذ كنه الباري غير معلوم للبشر، وذكرت في ضمن ذلك الخطأ الذي نقل أنه مذهب السلف وهو إجراء الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها إذ الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف؛ فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف. وقال أحد كبار المخالفين: فحينئذ يجوز أن يقال هو جسم لا كالأجسام. فقلت له أنا وبعض الفضلاء الحاضرين: إنما قيل أنه يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال. وأخذ بعض القضاة المعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفي عنا ما يقول وينسبه البعض إلينا فجعل يريد المبالغة في نفي التشبيه والتجسيم، فقلت: ذكرت فيها في غير موضع من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وقلت في صدرها: ومن الإيمان بالله؛ الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصف به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ثم قلت: وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك. إلى أن قلت: إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط

في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وبين أهل التمثيل المشبهة. ولما رأى هذا الحاكم العدل ممالأتهم وتعصّبهم، ورأى قلة العارف الناصر وخافهم؛ قال: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول هذا اعتقاد أحمد؟ يعني والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم. فقلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجيء به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم. وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"- يخالف ما ذكرناه فأنا أرجع عن ذلك، وعلى أن آتي بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرناه، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم. وقلت أيضاً في غير هذا المجلس: الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لما انتهى إليه من السنة ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما انتهى إلى غيره، وابتلي بالمحنة والرد على أهل البدع أكثر من غيره؛ كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره، فصار إماماً في السنة أظهر من غيره، وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء، قال: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد بن حنبل، يعني أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام، وإن كان لبعضهم من الزيادة أو البيان أو إظهار الحق ودفع الباطل ما ليس لبعض. ولما جاء فيها: وما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل العلم بالقبول، ولما جاء حديث أبي سعيد- المتفق عليه في

الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله يوم القيامة: يا آدم؛ فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً إلى النار" الحديث-1 سألهم الأمير: هل الحديث صحيح؟ فقلت: نعم هو في الصحيحين، ولم يخالف في ذلك أحد، واحتاج المنازع إلى الإقرار به ووافق الجماعة على ذلك. وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف والصوت، لأن ذلك طلب منه، فقلت: هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلي- كما نقله مجد الدين الخطيب وغيره- كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد، ولا أحد من علماء المسلمين، لا من أصحاب أحمد ولا غيرهم، وأخرجت كراساً قد أحضرته مع العقيدة فيه ألفاظ أحمد مما ذكره الشيخ أبو بكر الخلال في (كتاب السنة) عن الإمام أحمد، وما جمعه صاحبه أبو بكر المروزي من كلام الإمام أحمد، وكلام أئمة زمانه وسائر أصحابه، فإن من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. قلت: وهذا هو الذي نقله الأشعري في كتاب "المقالات" عن أهل السنة وأصحاب الحديث. وقال: إنه يقول به. قلت: فكيف بمن يقول لفظي قديم؟ فكيف بمن يقوله صوتي غير مخلوق؟ فكيف بمن يقول صوتي قديم؟ ونصوص الإمام أحمد: في الفرق بين تكلم الله بصوت وبين صوت العبد، كما نقله البخاري صاحب الصحيح في كتاب (خلق أفعال العباد) وغيره من أئمة السنة. وأحضرت جواب مسألة، كنت سئلت عنها قديماً فيمن حلف بالطلاق في مسألة الحرف والصوت، ومسألة الظاهر في العرش، فذكرت من الجواب القديم في هذه المسألة وتفصيل القول فيها وإن إطلاق القول إن القرآن هو الحرف والصوت أو ليس بحرف ولا صوت كلاهما بدعة حدثت بعد المائة الثالثة، وقلت: هذا جوابي، وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ممن كان بعضهم حاضراً في المجلس، فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم، وكانوا قد

_ 1 أخرجه البخاري (3348) ومسلم (222) .

ظنوا أنه إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله حصل مقصودهم من الشناعة، وإن أجبت بما يقولونه هم حصل مقصودهم من الموافقة، فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة وليس هو كما يقولونه هم ولا ما ينقلونه عن أهل السنة أو قد يقوله بعض الجهال بهتوا لذلك، وفيه أن القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه، ليس القرآن اسماً لمجرد الحروف ولا لمجرد المعاني. وقلت في ضمن الكلام لصدر الدين ابن الوكيل- لبيان كثرة تناقضه وأنه لا يستقر على مقالة واحدة، وإنما يسعى في الفتن والتفريق بين المسلمين- عندي عقيدة للشيخ أبي البيان فيها أن من قال إن حرفاً من القرآن مخلوق فقد كفر، وقد كتبت عليها بخطك أن هذا مذهب الشافعي وأئمة أصحابه، وأنك تدين الله بها، فاعترف بذلك، فأنكر عليه الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني ذلك. فقال ابن الوكيل: هذا نص الشافعي وراجعه في ذلك مراراً، فلما اجتمعنا في المجلس الثاني ذكر لابن الوكيل أن ابن درباس نقل في كتاب "الانتصار" عن الشافعي مثل ما نقلت، فلما كان في المجلس الثالث أعاد ابن الوكيل الكلام في ذلك، فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين بن الوكيل: قد قلت في ذلك المجلس للشيخ تقي الدين إنه من قال إن حرفاً من القرآن مخلوق فهو كافر، فأعاده مراراً، فغضب هنا الشيخ كمال الدين غضباً شديداً ورفع صوته، وقال: هذا يكفّر أصحابنا المتكلمين الأشعرية، الذين يقولون إن حروف القرآن مخلوقة مثل إمام الحرمين وغيره، وما نصبر على تكفير أصحابنا، فأنكر ابن الوكيل أنه قال ذلك، وقال: ما قلت: إن من أنكر حرفاً من القرآن فقد كفر، فرد ذلك عليه الحاضرون، وقالوا: ما قلت إلا كذا وكذا، وقالوا: ما ينبغي لك أن تقول قولاً وترجع عنه. وقال بعضهم: ما قال هذا. فلما حرفوا؛ قال: ما سمعناه قال هذا، حتى قال نائب السلطان واحد يكذب، وآخر يشهد، والشيخ كمال الدين مغضب، فالتفت إلى قاضي القضاة نجم الدين الشافعي يستصرخه للانتصار على ابن الوكيل حيث كفر أصحابه، فقال القاضي نجم الدين: ما سمعت هذا، فغضب الشيخ كمال الدين وقال كلاماً لم أضبط لفظه إلا أن معناه: إن هذا غضاضة على الشافعي، وعار عليهم أن أئمتهم يكفرون ولا

ينتصر لهم، ولم أسمع من الشيخ كمال الدين ما قال في حق القاضي نجم الدين، واستثبت غيري ممن حضر هل سمع منه في حقه شيئاً فقالوا لا، لكن القاضي اعتقد أن التعبير لأجله ولكونه قاضي المذهب ولم ينتصر لأصحابه وأن الشيخ كمال الدين قصده بذلك فغضب قاضي القضاة نجم الدين، وقال اشهدوا عليّ أني عزلت نفسي، وأخذ يذكر ما يستحق به التقديم والاستحقاق وعفته عن التكلم في أعراض الجماعة، ويستشهد بنائب السلطان في ذلك، وقلت له كلاماً مضمونه تعظيمه واستحقاقه لدوام المباشرة في هذه الحال. ولما جاءت مسألة القرآن، ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود؛ نازع بعضهم في كونه منه بدأ وإليه يعود وطلبوا تفسير ذلك. فقلت: أما هذا القول فهو المأثور الثابت عن السلف، مثل ما نقله عمرو بن دينار، قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن؛ فإنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، كالحافظ أبي الفضل بن ناصر، والحافظ أبي عبد الله المقدسي. وأما معناه: فإن قولهم منه بدأ، أي: هو المتكلم به وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقوله الجهمية أنه خلق في الهواء أو غيره وبدا من عند غيره، وأما إليه يعود فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف، ووافق على ذلك غالب الحاضرين وسكت المنازعون. وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادري وفيها: أنه كلام الله خرج منه، فتوقف في هذا اللفظ. فقلت: هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" يعني القرآن1.

_ 1 أخرجه أحمد (5/268) والترمذي (2911) وغيرهما، وضعفه الألباني في "الضعيفة" (1957) .

وقال خباب بن الأرت: يا هذا؛ تقرب إلى الله بما استطعت، فلن يتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه. وقال أبو بكر الصديق لما قرأ قرآن مسيلمة الكذاب: إن هذا الكلام لم يخرج من إلَّ؛ يعني: رب. وجاء فيها: ومن الإيمان به؛ الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً. فتمعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة بعد تسليمه أن الله تعالى تكلم به حقيقة، ثم إنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه، ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم وشعر الشعراء المضاف إليهم هو كلامهم حقيقة فلا يكون شبه القرآن بأقل من ذلك، فوافق الجماعة كلهم على ما ذكر في مسألة القرآن، وأن الله متكلم حقيقة، وأن القرآن كلام الله حقيقة لا كلام غيره. ولما ذكر فيها أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً؛ استحسنوا هذا الكلام وعظموه، وأخذ أكبر الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام كابن الوكيل وغيره، وأظهر الفرج بهذا التلخيص، وقال: إنك قد أزلت عنا هذه الشبهة، وشفيت الصدور، ويذكر شيئاً من هذا النمط. ولما جاء ما ذكر من الإيمان باليوم الآخر وتفصيله ونظمه استحسنوا ذلك وعظموه، وكذلك لما جاء ذكر الإيمان بالقدر وأنه على درجتين، إلى غير ذلك من القواعد الجليلة، وكذا لما جاء ذكر الكلام في الفاسق الملي وفي الإيمان، لكن اعترضه على ذلك بما سأذكره، وكان ما اعترض به المنازعون المعاندون بعد انقضاء قراءة جميعها والبحث فيها عن أربعة أسئلة. الأول: قولنا: ومن أصول الفرقة الناجية أن الإيمان والدين قول وعمل،

يزيد وينقص، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. قالوا: إذا قيل: إن هذا من أصول الفرقة الناجية خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل ذلك، مثل أصحابنا المتكلمين، الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق، ومن يقول الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين. وأما الأسئلة الثلاثة؛ وهي التي كانت عمدتهم فأوردوها على قولنا: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سمواته على عرشه عليّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 وليس معنى قوله: (وهو معكم) أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر أينما كان وغير المسافر، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة. السؤال الثاني: قال بعضهم: نقرّ باللفظ الوارد، مثل حديث س العباس، حديث الأوعال، والله فوق العرش، ولا نقول فوق السموات، ولا نقول على العرش استوى، ولا نقول مستو. وأعادوا هذا المعنى مراراً أن اللفظ الذي ورد يقال اللفظ بعينه، ولا يبدل بلفظ يرادفه، ولا يفهم له معنى أصلاً، ولا يقال إنه

_ 1 سورة الحديد: 4.

يدل على صفة لله أصلاً، ويبسط الكلام في هذا في المجلس الثاني كما سنذكره إن شاء الله تعالى. السؤال الثالث: قالوا: التشبيه بالقمر فيه تشبيه كون الله في السماء بكون القمر في السماء. السؤال الرابع: قالوا: قولك: حق على حقيقته؛ الحقيقة هي المعنى اللغوي، ولا نفهم من الحقيقة اللغوية إلا استواء الأجسام وفوقيتها، ولم تضع العرب ذلك إلا لها، فإثبات الحقيقة هو محض التجسيم، ونفي التجسيم مع هذا تناقض ومصانعة. فأجبتهم عن الأسئلة؛ بأن قولي: اعتقاد الفرقة الناجية؛ هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة، حيث قال: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 1. فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص. وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك. ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد تكون هل من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً، كما يقال: "من صمت نجا". وأما السؤال الثاني؛ فأجبتهم أولاً: بأن كل لفظ قلته فهو مأثور عن

_ 1 تقدم تخريجه.

النبي صلى الله عليه وسلم، مثل لفظ فوق السموات، ولفظ على العرش، وفوق العرش. وقلت: اكتبوا الجواب، فأخذ الكاتب في كتابته، ثم قال بعض الجماعة قد طال المجلس اليوم فيؤخر هذا إلى مجلس آخر، وتكتبون أنتم الجواب وتحضرونه في ذلك المجلس، فأشار بعض الموافقين بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب، لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم، وكان الخصوم لهم غرض في تأخير كتابة الجواب، ليستعدوا لأنفسهم ويطالعوا ويحضروا من غاب من أصحابهم، ويتأملوا العقيدة فيما بينهم، ليتمكنوا من الطعن والاعتراض، فحصل الاتفاق أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة، وقمنا على ذلك، وقد أظهر الله من قيام الحجة وبيان المحجة ما أعز به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة. وفي نفوس كثير من الناس أمور لم تحدث في المجلس الثاني، وأخذا في تلك الأيام يتأملونها ما أجبت به في مسائل تتعلق بالاعتقاد مثل (المسألة الحموية في الاستواء والصفات الخبرية) وغيرها. قال عليه الرحمة: (فصل) فلما كان المجلس الثاني يوم الجمعة في اثني عشر رجب وقد أحضروا أكثر شيوخهم ممن لم يكن حاضراً ذلك المجلس، وأحضروا معهم زيادة صفي الدين الهندي، وقالوا: هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام، وبحثوا فيما بينهم، واتفقوا وتواطؤوا، وحضروا بقوة واستعداد للمخاطب الذي هو المسؤول والمجيب والمناظر. فلما اجتمعنا- وقد أحضرت ما كتبته من الجواب عن أسئلتهم المتقدمة التي طلبوا تأخيره إلى اليوم- حمدت الله بخطبة الحاجة خطبة ابن مسعود رضي الله عنه، ثم قلت: إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف، وقال لنا في القرآن: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2 وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} 3.

_ 1 سورة آل عمران: 103. 2 سورة الأنعام: 159. 3 سورة آل عمران: 105.

وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت الأسرار، وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور مالا أقوله في هذا المجلس، فإن للسلم كلاماً، وللحرب كلاماً. وقلت: لا شك أن الناس يتنازعون؛ يقول هذا: أنا حنبلي، ويقول هذا: أنا أشعري. ويجري بينهم تفرق وفتن واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها، وأنا قد أحضرت ما يبين اتفاق المذاهب فيما ذكرته، وأحضرت كتاب (تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري) رضي الله عنه، تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر رحمه الله، وقلت: لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل هذا، وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتابه (الإبانة) . فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة سأل الأمير عن معنى المعتزلة، فقلت: كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملّي- وهو من أول اختلاف حدث في الملة- هل هو كافر أو مؤمن، فقالت الخوارج: إنه كافر، وقالت الجماعة: إنه مؤمن، وقالت طائفة: تقول هو فاسق لا مؤمن ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه رحمه الله تعالى فسموا معتزلة. وقال الشيخ الكبير بجبته وردائه: ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون مسألة الكلام، وسمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك، وكان أول من قالها عمرو بن عبيد، ثم خلف بعد موته عطاء بن واصل. هكذا قال، وذكر نحواً من هذا. فغضبت عليه، وقلت: أخطأت؛ وهذا كذب مخالف للإجماع. وقلت له:

لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب. ثم قلت: الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون، وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير من زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعيد. فقال: هذا ذكره الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل) فقلت الشهرستاني ذكره في اسم المتكلمي لِمَ سموا متكلمين، لم يذكره في اسم المعتزلة، والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة. وأنكر الحاضرون عليه وقالوا: غلطت. وقلت في ضمن كلام: أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها. وأيضاً فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين، فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم قبل منازعتهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء إنه متكلم، ويصفونه بالكلام، ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام، وقلت أنا وغيري: إنما هو واصل بن عطاء، أي: لا عطاء بن واصل كما ذكره المعترض. قلت: وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد وإنما كان قرينه، وقد روي أن واصلاً تكلم مرة بكلام فقال عمرو بن عبيد: لو بعث نبياً ما كان يتكلم بأحسن من هذا. وفصاحته مشهورة؛ حتى قيل: إنه كان ألثغ وكان يحترز عن الراء، حتى قيل له أمر الأمير أن يحفر بئر، فقال: أوعز القائد أن يقلب قليب. ولما انتهى الكلام إلى ما قاله الأشعري قال الشيخ المقدم فيهم: لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر من أكبر أئمة الإسلام لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء، فقلت: أما هذا فحق، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريء، قد انتسب إلى مالك أناس مالك بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى أبي حنيفة

أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى موسى عليه السلام أناس هو منهم بريء، وانتسب إلى عيسى عليه السلام أناس هو منهم بريء، وقد انتسب إلى علي بن أبي طالب أناس هو بريء منهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف الملحدة والمنافقين من هو بريء منهم. وذكر في كلامه أنه انتسب إلى أحمد من الحشوية والمشبهة ونحو هذا الكلام. فقلت: المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، هؤلاء أصناف: الأكراد كلهم شافعية وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية، قلت: وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم، وكان من تمام الجواب أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية. وتكلمت على لفظ الحشوية -ما أدري جواباً عن سؤال الأمير أو غيره أو غير جواب- فقلت هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة، فإنهم يسمون الجماعة والسواد الأعظم الحشو، كما تسميهم الرافضة الجمهور1، وحشو الناس هم عموم الناس وجمهورهم، وهم غير الأعيان المتميزين، يقولون هذا من حشو الناس، كما يقال هذا من جمهورهم، وأول من تكلم بهذا عمرو بن عبيد، قال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حشوياً، فالمعتزلة سموا الجماعة حشواً كما تسميهم الرافضة الجمهور. وقلت- لا أدري في المجلس الأول أو الثاني- أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي. وقلت لهذا الشيخ: من في أصحاب الإمام أحمد رحمه الله حشوي بالمعنى الذي تريده؟ الأثرم، أبو داود، المروزي، الخلال، أبو بكر عبد العزيز، أبو الحسن التميمي، ابن حامد، القاضي أبو يعلى، أبو الخطاب، ابن عقيل؟ ورفعت

_ 1 وكذلك يسمونهم (العامة) !

صوتي، وقلت سمّهم، قل لي من هم؟ من هم؟ أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة وتندرس معالم الدين؟ كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وإن الصوت والمداد قديم أزلي من قال هذا؟ وفي أيّ كتاب وجد هذا عنهم قل لي؟ وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه والمقدمة التي نقلها، وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ من أنه كبير الجماعة وشيخهم وأن فيه من العقل والدين ما يستحق أن يعامل بموجبه. وأمرت بقراءة العقيدة جميعها عليه، فإنه لم يكن حاضراً في المجلس الأول، وإنما أحضروه في الثاني انتصاراً، وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس؟ أنه اجتمع به وقال له: أخبرني عن هذا المجلس فقال: ما لفلان ذنب ولا لي، فإن الأمير سأل عن شيء فأجابه عنه فظننته سأل عن شيء آخر، وقال: قلت أنتم مالكم على الرجل اعتراض، فإنه نصر ترك التأويل وأنتم تنصرون قول التأويل، وهما قولان للأشعري وقال: أنا أختار قول ترك التأويل، وأخرج وصيته التي أوصى بها وفيها قولي ترك التأويل. قال الحاكي لي: فقلت له بلغني عنك أنك قلت في آخر المجلس لما أشهد الجماعة على أنفسهم بالموافقة لا تكتبوا عني نفياً ولا إثباتاً فلم ذاك؟ فقال: لوجهين: (أحدهما) : أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول. (والثاني) : لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي فما كان يليق أن أظهر مخالفتهم فسكت عن الطائفتين. وأمرت غير مرة أن يعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ، فرأى بعض الجماعة أن ذلك تطويل، وأنه لا يقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال، وأعظموه لفظ الحقيقة، فقرأوه عليه، فذكر هو بحثاً حسناً يتعلق بدلالة اللفظ، فحسنته ومدحته عليه، وقلت: لا ريب أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، سميع حقيقة، بصير حقيقة، وهذا متفق عليه بين أهل السنة والصفاتية من جميع الطوائف، ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك فلا ريب أن الله موجود

والمخلوق موجود، ولفظ الوجود سواء كان مقولاً عليهما بطريق الاشتراك الاشتراك اللفظي، أو بطريق التواطىء المتضمن للاشتراك لفظاً ومعنى، أو بالتشكيك الذي هو نوع من التواطىء، فعلى كل قول فالله موجود حقيقة، والمخلوق موجود حقيقة، ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق والمخلوق بطريق الحقيقة محذور، ولم أر أرجح في ذلك المقال قولاً من هذه الثلاثة على الآخر، لأن غرضي تحصل على كل مقصودي، وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة والأشعري وأكابر أصحابه على ما ذكرته، فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية والحنفية وغيرهم من عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه وخافوا على نفوسهم أيضاً من تفرق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته، ولم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها صارت فرقة وتعصب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم بما في ذلك من تمكن أعداؤهم من اعتراضهم، فإذا كان من أئمة مذهبهم من يقول ذلك وقامت عليه الحجة وبان أنه مذهب السلف أمكنهم إظهار القول به ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق، حتى قال بعض الأكابر من الحنفية- وقد اجتمع بي- لو قلت هذا مذهب أحمد وتثبت ذلك لانقطع النزاع، ومقصوده أنه يحصل دفع الخصوم عنك بأنه مذهب متبوع ويستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة، فقلت: لا والله ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضاً هذا: اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين والفقهاء الأربعة والمتكلمين وأهل الحديث والصوفية، وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية لا تبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي وأذكر قول الأشعري وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين

أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه، وإنما هو قول طائفة من أصحابه، فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان. فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي سمي بها المخلوق كلفظ الوجود الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب والممكن على الأقوال الثلاثة: تنازع كبيران هل هو مقول بالاشتراك أو بالتواطىء؟ فقال أحدهما هو متواطىء، وقال الآخر هو مشترك لتلازم التركيب، وقال هذا قد ذكر فخر الدين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا؟ فمن قال وجود كل شيء عين ماهيته قال إنه مقول بالاشتراك، ومن قال إن وجوده قدر زائد على ماهيته قال إنه مقول بالتواطىء، فقال الثاني مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته، فأنكر الأول ذلك فقلت: أما متكلموا أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته، وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وكل منهما أصاب من وجه، فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطىء كما قد قررته في غير هذا الموضع، وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين، وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينه فهو من اللغط المضاف إلى ابن الخطيب، فأنا وإن قلنا أن وجود الشيء عين ماهيته لا يجب أن يكون الاسم مقولاً عليه وعلى نظيره بالاشتراك اللفظي فقط، كما في جميع أسماء الأجناس، فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطىء، وليسر هذا السواد عين هذا السواد، إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي، لكنه لا يوجد مطلقاً بشرط الإطلاق إلا في الذهن، ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج، فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة وهي جمهور الأسماء في الغالب، وهي أسماء الأجناس اللغوية، وهو الاسم المطلق على الشيء وعلى كل ما أشبهه، سواء كان اسم عين أو اسم صفة، جامداً أو مشتقاً، وسواء كان جنساً منطقياً أو فقهياً أو لم يكن، بل اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك، وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة.

وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة ليطعن في بعضها فعرفت مقصوده، فقلت: كأنك قد استعددت للطعن في حديث الأوعال1 حديث العباس بن عبد المطلب -وكانوا قد تعبوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم من قول البخاري في تاريخه: عبد الله بن عمرة لا يعرف له سماع من الأحنف- فقلت: هذا الحديث- مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم فهو- مروي من طريقين من مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر. فقال: أليس مداره على ابن عميرة وقد قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف؟ فقلت: قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في (كتاب التوحيد) الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف لم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره ما ثبت به الإسناد كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره وعدم معرفته، ووافق الجماعة على ذلك، وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه، وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن

_ 1 أخرجه أحمد (1/206، 207) وأبو داود (4724، 4725) والترمذي (2320) وابن ماجه (193) وابن خزيمة في "التوحيد" (1/234، 237/144،145) واللالكاني في "شرح أصول الاعتقاد" (3/431، 432/649، 650،651) وأبو يعلى في "مسنده" (12/75/6713) والآجري في "الشريعة" (2/72، 73/707، 708) وابن أبي عاصم في "السنة" (1/394/589- جوابرة) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/24) والدارمي في "الرد على الجهمية" (233) وفي "رده على المريسي" (رقم 113- ط. السماري) والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/285- 286، 316/847، 882) وابن أبي شيبة في "كتاب العرش" (9) وابن مندة في "التوحيد" (21) والحاكم (2/378،500، 501) والعقيلي في "الضعفاء" (2/284) وأبو الشيخ في "العظمة" (2/566- 569) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/2) وابن عبد البر في "التمهيد" (7/140) وغيرهم كثير. من طرق؛ عن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب.. وذكر القصة. والحديث ضعيف إسناده الألباني في "ظلال الجنة" (رقم:577) .

في العقيدة، ولكن إنما تعلقوا بما أجبت به في مسائل وله تعلق بما قد يفهمونه من العقيدة. فأحضر بعض أكابرهم (كتاب الأسماء والصفات) للبيهقي رحمه الله تعالى، فقال: هذا فيه تأويل الوجه عن السلف، فقلت: لعلك تعني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1. فقال: نعم، قد قال مجاهد والشافعي: يعني قبلة الله. فقلت: نعم هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما وهذا حق، وليست هذه آية من آيات الصفات، ومن عدها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة، فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والمشرف والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال أي وجه تريد: أيّ: أقي جهة، وأنا أريد هذا الوجه أي هذه الجهة، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} 2 ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي تستقبلوا وتتوجهوا" انتهى. هذا ما وجدناه منقولاً عمن نقل من خط المصنف شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه. وغرضنا من نقله أن يتبين للناظر في هذا الكتاب أن من ينقل عنهم الغبي النبهاني من مطاعن الشيخ كصدر الدين ابن الوكيل، وابن الزملكاني، وصفي الدين الهندي، والعز بن جماعة، والسبكي، ونحوهم من غلاة الشافعية، كلهم كانوا خصوماً ألدّاء للشيخ، فلا يلتفت إلى قدحهم وجرحهم. والشيخ قد كابد منهم ما كابد، وهؤلاء وأضرابهم الذين شيدوا أركان البدع، ونفثوا سم ضلالهم في أفواه متّبعيهم قاتلهم الله أجمعين، على أن ما ذكر في هذه المناظرة تنفع في مباحث كثيرة تأتي إن شاء الله، وبها يرتدع الخصم الألد. قال النبهاني: "ومنهم الإمام أبو حيان وكان صديقاً له، فلما اطلع على بدعه رفضه رفضاً بتاً وحذّر الناس منه".

_ 1 سورة البقرة: 115. 2 سورة البقرة: 148.

أقول: نعم، كان الشيخ أبو حيان من المثنين على ابن تيمية بالثناء الحسن الجميل، وله شعر جيد في مدحه نذكره في مناقبه المنقولة عن الشيخ مرعي الحنبلي1. وما ذكره من الرفض لم نعلمه ممن يوثق به، نعم ذكر الإمام الذهبي أنه بعد أن مدحه دار بينهما كلام، فجرى ذكر سيبويه، فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره أبو حيان بسببه، ثم عاد ذاماً له، وصيّر ذلك ذنباً لا يغفر. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو، ولا معصوماً، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه، وذكره في "تفسيره البحر" بكل سوء، وكذا في مختصره "النهر". انتهى 2. فمثن الممكن أن يقع بين العلماء مثل ذلك، ولكن من المعلوم أن طعن أبي حيان إنما كان بعد تخطئة ابن تيمية له والحط على سيبويه، وما ذكره النبهاني الجاهل أن رفضه كان بعد أن اطلع على بدعه قول ساقط، والسبب الذي كان من أجله المنافرة قد ذكره أهل العلم، وأي بدعة تنسب للشيخ تقي الدين حتى يهجره بسببها أبو حيان النحوي؟ وما ذهب إليه من الاختيارات كلها مبرهنة بالكتاب والسنة، كما في كتاب (الاختيارات) . ولكن النبهاني الجاهل الغافل ظن ذلك هيعة فطار إليها، ثم إن من مدح وذم فقد كذب مرتين، على أن قدح المعاصر معلوم حاله، والرجل ليس من أهل الجرح والتعديل حتى يعوّل عليه. قال النبهاني: "ومنهم الإمام عز الدين بن جماعة رد عليه وشنّع عليه كثيراً". جوابه: أن العز هذا كان من أعظم خصوم الشيخ وحسدته، وكانت أقواله في الشيخ تقي الدين وبهتانه عليه من أنكى سلاح ابن حجر المكي في الطعن على أهل

_ 1 انظر "الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية" (ص 31- 32) . 2 انظر (دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات الإسلامية المعاصرة وموقف الخصوم منها" للشيخ صلاح الدين مقبول أحمد- وفقه الله- (2/383- وما بعدها) .

التوحيد وأعداء الغلاة. وقد عقد ابن السبكي ترجمة له في "طبقاته" فلا نتعب القلم بها. قال النبهاني: ومنهم الإمام كمال الدين الزملكاني الشافعي المتوفي سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ثم نقل ترجمته عن تاريخ ابن الوردي والثناء عليه، ثم نقل عن كتاب "كشف الظنون " كتاب "الدرة المضية في الرد على ابن تيمية" قال: وقد ناظره في مسائله التي شذّ بها عن المذاهب الأربعة. ثم قال: ومن أشنعها مسألة منعه شد الرحل وإعمال المطي لزيارة القبور، ومنعه الاستغاثة بغير الله، ثم أورد له أبياتاً التجأ فيها بغير الله" إلى آخر ما قال. جوابه: أن كمال الدين هذا قد سبق ذكره في مجالس المناظرة، وأنه أحد خصوم الشيخ تقي الدين، ومثله لا يرجى منه أن يثني عليه، ومع ذلك فقد أثنى عليه كل الثناء، وسيأتي بيانه عند الكلام على مناقب الشيخ عليه الرحمة، ثم إن الرد على بعض مسائل ابن تيمية لا يقتضي الجرح فيه، فمن المعلوم ما ألف من الردود على العلماء والمجتهدين، هؤلاء الأئمة الأربعة كم ردوا عليهم وكم خالفهم من مخالف، حتى أن أصحاب الأئمة يردون على أئمتهم، ولم يقل أحد إن كل من يرد عليه كلامه يكون من المبتدعين والسالكين غير سبيل المؤمنين، كما يزعمه هذا الغبي وأضرابه من غلاة الشافعية. قال النبهاني: ومنهم الإمام الكبير الشهير تقي الدين السبكي، ثم نقل عنه عبارته التي في كتاب (شفاء السقام) المشتملة على القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها قوله: وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قول لم يقله عالم قبله، وصار به بين أهل الإسلام مثله. إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال. أقول في الجواب عن هذا الهذيان والكلام العاري عن الدليل والبرهان: إن السبكي هذا شيخ أعداء ابن تيمية وعميدهم، وعليه يعتمد الطاعنون شقيهم وسعيدهم، والمناظرات التي كانت بين السبكي وبين الشيخ قد ملأت الدفاتر،

ونفذت منها المحابر، وما هذى به السبكي في حق الشيخ كله قد رد عليه وعاد وباله إليه، وما كتبه في مسألة الطلاق من الاعتراض قد رد شيخ الإسلام بمجلدات رأى ابن السبكي منها مجلداً. "وشفاء السقام" رد عليه الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، وبرد السبكي على الشيخ في المسألتين السابقتين لم يزل يفتخر على أهل الحق نظمأ ونثراً، ومن نظمه في ذلك ما قاله في أبياته المشهورة: لو كان حياً يرى قولي ويسمعه ... رددت ما قال رداً غير مشتبه كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيارة أقفو أثر سبسبه وبعده لا أرى للرد فائدة ... هذا وجوهره مما أضن به والرد يحسن في حالين واحدة ... لقطع خصم قوي في تغلبه وحالة لانتفاع الناس حيث به ... هدى وربح لديهم في تكسبه وما أحسن ما رد عليه الإمام أبو المظفر الحنبلي معارضاً لأبياته هذه: وقلت من بعد هذا قول ذي حسد ... أخطأ الهدي وتجارى في تنكبه لو كان حياً يرى قولي ويسمعه ... رددت ما قال رداً غير مشتبه كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيارة أقفو أثر سبسبه فضحت نفسك في هذا المقال ولم ... تشعر وعجت عن المرعى وأخصبه عرفتنا أن ما قد قلت ليس لوجـ ... ـه لله بل للمرا أقبح بمنصبه إذ لو أردت بيان الحق فهت به ... في محضر الخصم إما في مغيبه ما ذاك صدك بل خوف الجواب كما ... أجبت قبل بسهم من مصوبه ذا شأن من لم يجرد صارماً ذكراً ... ماضي الغرارين غضباً من مجربه لكن إذا الأسد الضرغام غاب عن الـ ... ـعرين تسمع فيه ضج ثعلبه كذا الجبان خلا في البر صاح ألا ... مبارزٌ وتغالى في توثبه ولو سمعت جواب الرد رحت فتى ... من أعظم الخلق عن جرم وأتوبه وقد كفاني أبو العباس كلفته ... كذا أرحت لساني غير متعبه ووافقته سراة الناس عن كثب ... من أهل مذهبه أو غير مذهبه

من أهل بغداد والآيات شاهدة ... لهم وللحق مصباح يبين به عبت الذي قال ما فيه الخلاف من إيـ ... ـقاع الثلاث ولو أفتى بأغربه وقلت تنكح زوجاً غيره ونكا ... حها مع الخلف باق في تذبذبه وكيف تنكح من لم تبر عصمتها ... بلا خلاف لشخص مع تجنبه وفي الزيارة لم تنصف رددت على ... ما لم يقله ولم تمرر بسبسبه رداً ملخصه أشياء أذكرها ... إما حديث ضعيف عند مطلبه إما صحيح ولكن لا دليل به ... على مرادك بل هدم لمنصبه إما بمجمل لفظ قول خصمك من ... أقوى المقال به قسراً وأصوبه إما بلا علم لي والجهل غايته ... أيعذر الشخص فيما لا أحاط به فأي رد لعمري قد رددت وما ... ذا قلت إذ قلت أقفو أثر سبسبه إن كان عندك في شد الرحال إلى الـ ... ـقبور نقل فعارضه بموكبه ليعرف الحق من كان أخا نظر ... خال عن العلم ناء عن تعصبه أنى وذلك كالعنقاء في عدم ... وكالسمندل يحكي مع تغيبه ما أنت إلا كما قد قيل في مَثَلٍ ... خَالِفْ لتُعْرَف مشهور لضرّبه فشيخنا بصريح الحق حجته ... ونقد نقلك زيف في تقلبه فمن أحق بحق القول أن ظهر الـ ... إنصاف مرتفعاً من فوق مرقبه وقلت ما بعده للرد فائدة ... هذا وجوهره مما أضن به ماذا الكلام وما معناه قله لنا ... أمدح أم هجو أعرب عن معربه ما ذلك الجوهر المضنون ويحك هل ... تعني به الشيخ أو رداً لمذهبه فإن يك ماذا الطعن فيه أو الـ ... ـجواب عن قوله نور بغيهبه والرد يحسن في حالين واحدة ... لقطع خصم قوي في تغلبه وحالة لانتفاع الناس حيث به ... هدى وربح لديهم في تكسبه كتم العلوم حرام لا يجوز لذي ... علم يضن بعلم عند طلبه والرد في الحالة الأولى مضي هدرا ... فاستدرك الحال الأخرى قبل مذهبه فقل ورد إن اسطعت السبيل إذاً ... وانفع به الناس كي تحظى بأثوبه

حاشا وكلا وإني بالسبيل إلى ... رد الصواب وقد وافى بكبكبه قل كي ترى سنناً تستن في سنن الـ ... ـهدى تنكس جهماً عن توثبه ورهطه وتريك الحق أظهر من ... شمس الضحى وهلالاً وسط غيهبه وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن جمال الدين الشافعي رحمه الله من جملة قصيدته التي عارض السبكي بها: وما رددت عليه في الطلاق فما ... حققت نقلاً ولا عقلاً ظفرت به بل فاسد القصد أعمى الذهن منك ... كما هي عادة الله فيمن شان مذهبه نزلت حول حماه كي تنازله ... فما علوت عليه بل علوت به وقد أجابك فانظر في الجواب ترى ... سيفاً تجول المنايا عند مضربه أخذت منه علوماً فانتصرت بها ... على سواه وكانت من مهذبه وحزتها مجملات من مفصلة ... ففصل الآن ما أجملت تحظ به وهكذا كل من سارت ركائبه ... يقفو خطاه فسائل من مجربه وإن تبجَّحْت بالردين لست له ... كُفواً ولا أهل هذا العصر فانتبه كم بحر علم أتاه عاد ساقية ... وكم جهول أتاه صار منتبه وما نرى لكم في الخلق فائدة ... غير التنعم في النعماء من شبه أين الثريا مكاناً في ترفعها ... من الثرى قال هذا كل منتبه من ذا يقيس نقي الجلد من درن الـ ... ـدنيا وأمراضها يوماً بأجربه لو كان عندك إنصاف ومكرمة ... لو كان عندك إنصاف ومكرمة لكنت تقفو وراه قفو مجتهد ... علماً ودنيا وأمراً تفلحن به لو وفق الله أهل الأرض قاطبة ... إلى الصواب لساروا خلف مذهبه وما نسبتم إليه عند ذكركم ... ترك الزيارة أمر لا يقول به فقد أجابكم عن ذا بأجوبة ... أزال فيها صدى الإشكال والشبه وقد تبين هذا في مناسكه ... لكل ذي فطنة في القول معربه رميتموه ببهتان يشان به ... والله ينصفه ممن رماه به وفي الجواب أمور من تدبرها ... سقى الأنام بها من صفو مشربه

ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل ... شد الرحال إليها فادر وانتبه تمسكاً بصحيح النقل متبعاً ... خير القرون أولي التحقيق والنبه مع الأئمة أهل الحق كلهم ... قالوا كما قال قول غير مشتبه وقد علمت يقيناً حين وافقه ... أهل العراق على فتياه فافت به هذا وقد قلت فيما قلت مرتجلاً ... فيما تقدم قولاً غير منجبه لو كان حياً ترى قولي ويسمعه ... رددت ما قال رداً غير مشتبه فابرز ورد ترى والله أجوبة ... مثل الصواعق تردي من تمر به عقلاً ونقلاً وآيات مفصلة ... من كل أروع شهم القلب منتبه ماضي الجنان كحد السيف فكرته ... يريك نثراً ونظماً في تأدبه وقّاد ذهن إذا جالت قريحته ... يكاد يخشى عليه من تلهبه يقابلون الذي يأتي بمشتبه ... من الكلام ولا يخشون ذا النبة فنزل القوم في أعلى منازلهم ... فليس ذو منصب يحمى بمنصبه وانظر إلى من طغى في الأرض من أمم ... ولا تكن سالكاً في أثر سبسبه إن الإله يجازي كل ذي عمل ... بمثل إحسانه أو قبح مكسبه هذا جوابك يا هذا موازنة ... بحراً وقافية في النظم والشبه والحمد لله حمداً لا نفاد له ... جار على مرما يقضي وأطيبه ثم الصلاة على خير الورى شرفاً ... محمد المصطفى الهادي بمذهبه وآله والصحاب الغر كلهم ... ما أشرق الجو من أنوار كوكبه وكلا القصيدتين مشهورتان. وقد رأيت ما لقي السبكي من الويل والعطب بسبب مجاوزته حده في الجهل والحسد، وما أحسن ما وصف به الحافظ أبو عبد الله بن قدامة كتاب (شفاء السقام) وترجم مؤلفه السبكي. أما وصف الكتاب فهو هذا: قال الحافظ: "أما بعد؛ فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية، في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، وذكر أنه

قد سماه "شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة" ثم زعم أنه اختار أن يسميه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة، والآثار القوية المقبولة وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظاهرها، بالتأويلات المستنكرة المردودة. ثم أخذ يصف المؤلف ويترجم أحواله، فقال: ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه، متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة، والآراء الساقطة، صار في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة، والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يُسْبَقْ إليها، ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها، وهو في الجملة لون غريب وبناء عجيب، تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد، ومرة يزعم فيما يقوله ويدّعيه أنه من جملة المقلدين فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد، هذا مع أنه إن ذكر حديثاً مرفوعاً أو أثراً موقوفاً- وهو غير ثابت- قبله إذا كان موافقاً لهواه، وإن كان ثابتاً رده إما بتأويل أو غيره إذا كان مخالفاً لهواه، وإن نقل عن بعض الأئمة الأعلام- كمالك وغيره- ما يوافق رأيه قبله وإن كان مطعوناً فيه غير صحيح عنه، وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم يقبله؛ وإن كان صحيحاً ثابتاً، وإن حكى شيئاً مما يتعلق بالكلام على الحديث وأحوال الرواة عن أحد من أئمة الجرح والتعديل- كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي، وأبي حاتم البستي، وأبي جعفر العقيلي، وأبي أحمد بن عدي، وأبي عبد الله الحاكم صاحب "المستدرك"، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم من الحفاظ، وكان مخالفاً لما ذهب إليه- لم يقبل قوله ورده عليه وناقشه فيه، وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول ووافقه غيره من الأئمة عليه، وإن كان موافقاً لما صار إليه تلقاه بالقبول واحتج به واعتمد عليه، وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه، وهذا هو عين الجور والظلم وعدم القيام بالقسط، نسأل الله التوفيق ونعوذ به من

الخذلان واتباع الهوى، هذا مع أنه حمله إعجابه برأيه وغلبه اتباع هواه على أن نسب سوء الفهم والغلط في النقل إلى جماعة من العلماء الأعلام، المعتمد عليهم في حكاية مذاهب الفقهاء واختلافهم وتحقيق معرفة الأحكام، حتى زعم أن ما نقله الشيخ أبو زكريا النووي في "شرح مسلم" عن الشيخ أبي محمد الجويني من النهي عن شد الرحال، وإعمال المطيّ إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الأنبياء والصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك- هو مما غلط فيه على الشيخ أبي محمد، وأن ذلك وقع منه على سبيل السهو والغفلة، قال: ولو قاله يعني الشيخ أبا محمد أو غيره ممن يقبل كلامه الغلط لحكمنا بغلطه وأنه لم يفهم مقصود الحديث. فانظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأي الفاسد، واجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ الإسلام من الافتراء العظيم، والإفك المبين، والكذب الصراح، وهو ما نقله عنه من أنه جعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء عليهم السلام معصية بالإجماع مقطوعاً بها، هكذا ذكر المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال هذا القول الذي لا يشك عاقل من أصحابه وغير أصحابه أنه كذب مفترى، لم يقله قط ولا يوجد في شيء من كتبه ولا دل كلامه عليه، بل كتبه كلها ومناسكه وفتاويه وأقواله وأفعاله تشهد ببطلان هذا النقل عنه، ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بأن هذا مفتعل مختلق على الشيخ، وأنه لم يقله قط، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1. وهذا المعترض يعلم أن ما نقله هذا القاضي المشهور- بما لا أحب حكايته عنه- في هذا المقام عن شيخ الإسلام من هذا الكلام كذب مفترى لا يرتاب في ذلك، ونكنه يطفف ويداهن ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال: ولقد أخبرني الثقة أنه ألّف هذا الكتاب لما كان بمصر قبل أن يلي القضاء بالشام بمدة كبيرة،

_ 1 سورة الحجرات: 6.

ليتقرب به إلى القاضي الذي حكى عنه هذا الكذب ويحظى لديه فخاب أمله ولم ينفق عنده، وقد كان هذا القاضي الذي جمع المعترض- أعني السبكي- كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين، وقد زعم هذا المعترض أيضاً- مع هذا الأمر الفظيع الذي ارتكبه من التكذيب بالصدق، والتصديق بالكذب- أن الفتاوى المشهورة التي أجاب بها علماء أهل بغداد موافقة للشيخ مختلقة موضوعة، وضعها بعض الشياطين- هكذا زعم- مع علم الخاص والعام بأن هذه الفتاوى مما شاع خبرها وذاع، واشتهر أمرها وانتشر، وهي صحيحة ثابتة متواترة عمن أفتى بها من العلماء، وقد رأيت أنا وغيري خطوطهم بها، فانظر إلى تكذيب هذا المعترض بما لم يحط به علماً، وجرأته على إنكار ما اشتهر وتواتر، وكيف يحل لمن ينتسب إلى شيء من الدين أن ينسب أمراً مقطوعاً بكذبه إلى من لم يقله، ويقدح في أمر مشاهد مقطوع بصحته، ويزعم أنه مختلق من بعض الشياطين؟! هذه عثرة لا تقال وله مثلها كثيراً، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. قال: فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور وهو (شفاء السقام) أحببت أن أنبه على ما وقع فيه من الأمور المنكرة، والأشياء المردودة، وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس لطال الخطاب، ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم، والله المستعان" انتهى. وقال الحافظ أبو عبد الله أيضاً في موضع آخر من كتابه (الصارم المنكي) : "وقد سمعت أخا شيخ الإسلام يذكر هذا النص الذي حكاه القاضي إسماعيل في "المبسوط" عن مالك لهذا المعترض بحضرة بعض ولاة الأمر، فغضب المعترض - وهو السبكي- غضباً شديداً ولم يجبه بأكثر من قوله هذا كذب على مالك. فانظر إلى جرأة هذا المعترض وإقدامه على تكذيب ما لم يحط بعلمه بغير برهان ولا

حجة بل بمجرد الهوى والتخرص، وليس هذا ببدع منه فإنه قد عرف منه مثل ذلك في غير موضع، وهو من أشد الناس مخالفة لمالك في هذه المواضع التي لا يعرف لأحد من كبار الأئمة أنه خالف مالكاً فيها، بل قد حمله فرط غلوه ومتابعته هواه على نسبة أمور عظيمة- لا أحب ذكرها- إلى من قال بقول مالك في هذه المواضع التي لا يعرف عن إمام متبوع مخالفته فيها، نعوذ بالله من الخذلان، ومن عجب أن هذا المعترض صحح الحكاية المنقولة عن مالك مع أبي جعفر المنصور لأن فيها ما يتابع هواه، مع أنها غير صحيحة، بل هي باطلة موضوعة، وكذب هذا النقل الثابت الذي ذكره القاضي إسماعيل في "المبسوط" لشدة مخالفته لهواه ومقصده وما ذهب إليه، وأعرض عما ذكره أيضاً في "المبسوط" من قول مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي. لأنه مخالف لهواه، وتمسك بما في كتاب (الموازنة) لمتابعته هواه في ظنه، وهكذا عادته ودأبه يكذّب النصوص الثابتة أو يعرض عنها، ويقبل الأشياء الواهية التي لم تثبت والأمور المجملة الخفية ويتمسك بها بكلتا يديه، وليس هذا شأن من يقصد الحق وإيضاح الدين للخلق، نسأل الله تعالى التوفيق". وذكر هذا الإمام الحافظ في أثناء كتابه كثيراً من أحوال السبكي التي لا ترضي الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بدع من هذا المبتدع بل القبوري وهو النبهاني أن يحتج على ترويج مقاصده بالسبكي وأمثاله من أسلافه غلاة الشافعية، بل الفرقة الزائغة الحلولية أعداء الحق وأهله، وخصوم الدين ومن أخذ به. قال النبهاني: ورأيتُ للإمام السبكي عبارة موجودة الآن بخط يده هي المكتبة الخالدية في القدس، وقد أرسلت فاستكتبتها وهذه صورتها بحروفها: قال رحمه الله تعالى: في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وقفت على كتاب "العقل والنقل" لابن تيمية، فوجدت فيه مواضع أنكرتها وكتبت على بعضها حواشي، فتحركت أنوف خلق له، ففكرت في انتشار أصحاب هذا الرجل وما يخشى من انتشار بدعته وعدم من يقاومهم، فكتبت ليلة السبت عاشر شوال سنة أحد وخمسين وسبعمائة رقعة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أسأل الله فيها ذلك. (وفي آخرها) :

إن كنت مصيباً في اعتقادي فقوّني، وإن كنت مخطئاً فاهدني. ثم أصبحت ورفعتها للشيخ نور الدين السخاوي ليحملها فإنه عزم على الحج وكان ذلك قبل الظهر، فلما كان الظهر جاءني شخص فأخبرني عن ابن تيمية بخبر يوجب شوطي فيه، وكنت سمعت عنه من شخص مسألة من نحو أربعين سنة فلم أصدقها فلما تابعها هذا وقع في قلبي صحة ذلك، ثم جاء آخر وآخر وآخر بمثل ذلك، ثم نظمت قصيدة أرسلتها مع الشيخ نور الدين أيضاً، فلما أكملت نظمها في ليلة الاثنين ثاني عشر الشهر المذكور وقع في قلبي أن الله تعالى ما هيأ لي تلك الأخبار في ذلك اليوم إلا هداية وجواباً عما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر هذه القضية مما أجبها، وفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ. وها أنا أذكر نص ما كتبته في تلك الورقة وما نظمته إن شاء الله، والمرجو من الله إرسالهما ووصولهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونجحهما إن شاء الله، أما الورقة فنص ما فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله إني عبيد ضعيف عاجز مسكين، وجميع ما حصل لي من خير الدنيا والآخرة أنت كنت سببه، وأنت وسيلتي إلى الله سبحانه، وإني نشأت على دين الإسلام سالماً عن الشبه والبدع والأهوية والأغراض والميل إلى جانب من الجوانب، لا أعرف غير أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم اشتغلت بالقرآن، ثم بالفقه على مذهب الشافعي، لا أعرف غير ذلك، ولم أسمع ولم يدخل في قلبي شيء غير ذلك، لا من العقائد ولا من غيرها، ثم اشتغلت بنحو وأصول وفرائض، ثم بعلم الحديث ذا تصويب فيه إليك، ثم نظرت في شيء من العلوم العقلية، واشتغلت بعلم الكلام على طريقة الأشعري، لأنها المشهورة في بلادنا التي رأيت عليها أهلي وقومي، وبقيت أراها طريقة وسطى بين الحشو والاعتزال، ولا زلت على تلك حتى جاوزت عشرين سنة من عمري وأنا بالديار المصرية، فشاع عندنا خبر ابن تيمية وما يتفق له بدمشق، وكان بها إذ ذاك علماء يقاومونه وفي مصر القاهرة علماء وأكابر، فأحضروه واتفق له ما اتفق بسبب العقائد، ثم كتبت كلامه

في التوسل والاستغاثة، وتكلم معه من هو أكبر مني ورأيته واجتمعت به كثيراً، ثم عاد إلى الشام، ثم بلغنا كلامه في الطلاق وأن من علق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث لا يقع عليه طلاق، ورددت عليه في ذلك، ثم بلغنا كلامه في السفر إلى زيارتك ومنعه إياه ورددت عليه في ذلك، ثم توفي وله أصحاب كثيرون يشيعون رأيه وينشرون تصانيفه، وجئت إلى دمشق كما يقال نائب شريعتك ومن لي برضاك بذلك، فأنا أقل عبيدك، مسكت عن الكلام في العقائد من الجانبين، لأني في نفسي أن عقولنا تضعف عن إدراك سبحات الحق جل جلاله، وأرى البقاء على الفطرة السليمة، والاكتفاء بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن لا ينبه العوام لشيء آخر، ومن كان عالماً ينظر بما ييسر له، والمعصوم من عصم الله، لكن الطلاق والزيارة أنا شديد الإنكار لقول ابن تيمية فيهما ظاهراً وباطناً، والعقائد لا يعجبني ما اعتمده فيها من تحريك قلوب العوام فيها. قال النبهاني: انتهت عبارة الإمام السبكي بحروفها، وهي مكتوبة بخطه بلا نقط، وهكذا جاءتني صورتها فنقطتها، أما القصيدة التي ذكرها فغير موجودة". انتهى. أقول- ومنه سبحانه المدد والتوفيق-: قد نقلت في هذا المقام ما ذكره النبهاني بحذافيره من غير تلخيص ولا اختصار- وإن كان في نقلها تضييع للمداد والقرطاس- فليعلم الناظر في هذا المقام ما خلق الله من العقول والأفهام، فيحمد الله تعالى من عوفي من داء هذا الجهل الوخيم، والضلال القديم، والنبهاني هذا رجل كذاب لا يؤمن على نقله ولا يصدق بروايته، فإنه من الغلاة والجهلة الغواة، ولكنه قد يصدق الكذوب، فإن صحت روايته هذه عن السبكي كفاه خزياً ذلك وهو الذي يناسب ما كان عليه من الغلو والابتداع الظاهر، وهذه المقالة عن السبكي قادحة في عدالته مسقطة له عن درجة أهل العلم، موصلة له إلى طبقة العوام السفلى، ومن العجيب أنه قال في أول مقالته ففكرت في انتشار أصحاب هذا الرجل وما يخشى من انتشار بدعته.. إلخ، فنسب البدعة إلى الشيخ ابن تيمية حافظ الأمة مع شهرة حاله في التعصب للسنة، فعبر عنه بالمبتدع وجعل نفسه هو

المتبع، وفي المثل السائر: "رمتني القرعى بدائها وانسلت" وهكذا تكون الوقاحة وعدم الحياء من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستِح فاصنع ما شئتَ" 1. وهذا هو الهوى المتّبع وإعجاب المرء بنفسه الذي ورد في الخبر، وليت النبهاني المثبور كان عنده شيء من البصيرة والفهم، فلم ينقل هذه المقالة الشنعاء عن السبكي حتى فضحه بها، وقد توفاه الله تعالى منذ مئات من السنين، ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقّص خيار الأمة وسلفها بكشف عورات جهالاتهم. ثم إن ما حكاه عن السبكي من المقالة الفظيعة مختلة المبنى والمعنى يرد على كل كلمة من كلماتها إيرادات ومؤاخذات لو بسطنا الكلام فيها لاستوجب أن يفرد له كتاب مفصل، والوقت يضيق عن الاشتغال بمثل ذلك فكان من الواجب علينا أن نتكلم عليها إجمالاً، ونذكر ما يرد على محصلها ومقصدها، ولولا سوء الأدب لأجبنا مقالته تلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرنا له ما تعدى به طوره وتجاوز حده، ولكن نعوذ بالله من التجاسر على مقام النبوة والتفوه بما لم يقله، كما أنا نلجأ إليه أن يعصمنا من سوء الأدب. ثم إن الكلام على ما قصده السبكي في مقالته من وجوه: الوجه الأول: أن كتاب (العقل والنقل) ويسمى أيضاً (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ويسمى أيضاً (قسطاس الإنصاف والعدل في رد تعارض العقل والنقل) من مصنفات الآية الظاهرة، والحجة الباهرة، ماشطة العصر بل نادرة الدهر، بحر العلوم، وصدر القروم، الناسك العابد، والورع الزاهد؛ شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، ألفه في الجواب عن سؤال ورد إليه، وهو: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو العقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات، فهل يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يرادا جميعاً، وإما

_ 1 أخرجه البخاري (3484، 6120) .

أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فيجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول، وإما أن يفوض، وإما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجواب عنهما ولم يمتنع ارتفاعهما؟. فذكر في الجواب تسعة عشر وجهاً، مفصلة أتم تفصيل في بيان أن صريح المعقول لا يخالف صحيح المنقول. وفيه الذب عن الشريعة الغراء، وأنها وافية بكل ما يستوجب سعادة الدارين، ليس لها حاجة إلى إكمالها بالقواعد التي وضعها علماء الكلام من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما جاءت به الشريعة الغراء مما يوافق ما تقتضيه العقول السليمة، وأن نصوصها لا تؤول لأجل تطبيقها على ما اخترعوه من الآراء الفاسدة، والأقوال الكاسدة، وبسط الكلام كل البسط في كل وجه من تلك الوجوه، هذا موضوع الكتاب، وهو كتاب جليل ليس له نظير في بابه، ومن النعم العظمى على الأمة ظهور هذا الكتاب في هذا العصر وانتشاره بين الناس، وما أحسن ما قال فيه الشيخ ابن القيم في منظومته "الشافية الكافية"1، وقد عقد فصلاً في ذكر مؤلفات شيخ الإسلام: واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثان فجزى الله تعالى عن المسلمين كل خير من سعى في طبعه ونشره، ومثل هذا الكتاب كيف يشتكي منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من له أدنى بصيرة في العلم أقل نظر في معرفة الشريعة، اللهم إلا إذا كان السبكي ممن ختم الله على قلبه فلم يفهمه، وتصدى للرد عليه والاستئذان من الرسول عليه السلام لأجل ذلك وما بعد الحق إلا الضلال.

_ 1 وهي المعروفة بالنونية، وقد شرحها جمع من أهل العلم منهم الشيخ أحمد بن عيسى، والشيخ محمد خليل هراس، والعلامة السعدي، والعلامة محمد بن صالح العثيمين- رحمهم الله أجمعين-. وأقوم مع أحد طلبة العلم من إخواننا الأفاضل على جمع هذه الشروح والتنسيق بينها والتعليق عليها، وسينشر الكتاب بإذن الله في مكتبة الرشد، يسّر الله أمرنا

الوجه الثاني: أن الله تعالى أكمل الدين المبين قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت الشريعة الغراء ليلها كنهارها، لم تغادر شيئاً من الأحكام ولا من بيان الحلال والحرام، وبسط الكلام عليها الأئمة ومجتهدوا الأمة فلم يبق حاجة إلى مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، بل إن عمر رضي الله تعالى عنه لم يوافق على كتابة الكتاب في مرضه- وقد طلب دواة وقرطاساً- والحديث مشهور. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1. فإذا أشكل أمر على أحد راجع أهل الذكر إن كان ممن لا يعلم، أو فتش على مقصده كتب الشريعة ونصوصها فما دلت عليه واقتضته عمل بموجبه من غير حاجة إلى كتابة شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابته عند قبره، وقال عز اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2. ذكر المفسرون: أن الخطاب عام للمؤمنين مطلقاً، والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى: فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين فردّوه إلى الله، أي: فارجعوا فيه إلى كتابه، والرسول، أي: إلى سنته. ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء، لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء، إذ المراد بهم المجتهدون، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم، وجعل بعضهم الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضاً مجادلة ومحاجة، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. وبعضهم قال: يراد الأعم مع أنه يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين، وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء. والمقصود؛ أن الله تعالى أمر المؤمنين عند التنازع أن يراجعوا الكتاب

_ 1 سورة المائدة: 3. 2 سورة النساء: 59.

والسنة، لا أن يكتبوا كتاباً لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلقى الجواب بمحض الأوهام كما فعله السبكي، وتمام الكلام على الآية يطلب من محله. الوجه الثالث: أن الصحابة الكرام اختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلافة اختلافاً كثيراً، وهو مذكور في محله، فلم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولم يكتبوا له: أن الأنصار يا رسول الله يقولون منا أمير ومنكم أمير، وأن بعضهم يريد أبا بكر، ومنهم من يطلب علياً، ومنهم ومنهم. ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في مسائل علمية ولم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولم يجىء أحد منهم يسأله ماذا حكم الجد مع الإخوة، وأن فاطمة جاءت إلى أبي بكر تطلب إرث أبيها منه فأورد لها خبر: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث" فلم ترض بقوله وقامت وهي عليه غضبى1. ولم تستفتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولا كتبت إليه ما فعل معها أبو بكر. وخرج على عثمان أهل مصر وغيرهم فلم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبره عما كان من عثمان، ولا أن عثمان شكى عليه كما فعل السبكي. وأن علياً ومعاوية تنازعا الأمر، وجرى بين الفريقين ما جرى؛ ولم يصدر عن أحد ما صدر عن السبكي من الشكوى والاستئذان، ومثل هذه المسائل مما لا يحيط به القلم. الوجه الرابع: أن من اشتبه عليه أمر ولم يعلم هل هو خير أم شر ليعمل بموجبه يستخير الله تعالى، فإن الاستخارة مما درج عليه السلف وتجرى على منهاجهم الخلف، وقد تكلموا عليها في فصول: منها: في الأمور التي هي محل الاستخارة، فقالوا: ما من شأنه أن يراد ينقسم أولاً إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما يعلم كونه خيراً قطعاً كالواجب المضيق.

_ 1 انظر "البخاري" (3092، 3711، 4035، 4240، 6725) و "مسلم" (1759) . وانظر: "رفع الاشتباه" للمعلمي (ص 153- 154- بتحقيقي- ط. المكتبة العصرية) .

الثاني: ما يعلم كونه شراً قطعاً كالمحرم المجمع على تحريمه. الثالث: ما لا يعلم على القطع خيريته ولا شريته في وقت مخصوص كالواجب الموسع والمندوب كذلك، والمندوب المضيق الذي يعارضه مندوب آخر في ذلك الوقت من غير ظهور رجحان لأحدهما والمباحات كلها، ولما كان معناها طلب خير الأمرين من الفعل في وقت معين أو تركه فيه لم يكن الأولان محلين لها، إذ أولهما خير قطعاً فلا رخصة في تركه، وثانيهما شر قطعاً فلا رخصة في فعله، فليس محلاً لها إلا الثالث، فما يوهم العموم في بعض الأخبار كالأمور في خبر جابر الآتي عام مخصص، أو أن أل فيه للعهد. ومنها: في سرد بعض أحاديثها؛ روى البخاري في (باب ما جاء من التطوع مثنى مثنى) من "صحيحه" عن جابر بن عبد الله، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدِرُ ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال- عاجل أمري، وآجله؛ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال- في عاجل أمري، وآجله؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به، قال: ويسمّي حاجته"1. وروى في (كتاب الدعوات) 2 عن جابر أيضاً، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كسورة من القرآن، إذا همّ أحدكم بالأ مر فليركع ثم يقول: "اللهم إني أستخيرك" وساق الدعاء، وقال في آخره أيضاً: ويسمي حاجته) .

_ 1 أخرجه البخاري (1166) . 2 برقم (6382) .

وروى في (كتاب التوحيد) 1 من الصحيح عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، إلى قوله: وأنت علام الغيوب- ولم يقل العظيم- اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر- ثم يسميه بعينه- خيراً لي في عاجل أمري وآجله قال: أو في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضّني به". وروى الطبراني في "المعجم الصغير"2 عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان في هذا الأمر خير في ديني ودنياي وعاقبة أمري فاقدره لي، وإن كان غير ذلك خيراً لي فسهّل لي الخير حيث كان، واصرف عني الشرّ حيث كان، ورضّني بقضائك". وروي في "الكبير" عنه أيضاً قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة، فقال: "إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك- ولم يقل العظيم- وقال: فإن كان هذا الذي أريد خيراً في ديني وعاقبة أمري فيسره لي، وإن كان غير ذلك خيراً فاقدر لي الخير حيث كان، يقول: ثم يعزم". وروى الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر في كتابه (موارد

_ 1 برقم (7390) . 2 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (10/رقم: 10012، 10052) و"المعجم الأوسط" (2/321/1133- "مجمع البحرين" وفي "المعجم الصغير" (1/190) وهو حسن بالشواهد.

الظمآن إلى زوائد ابن حبان) عن أبي أيوب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اكتم الخطبة ثم توضأ فأحسن وضوءك، ثم صل ما كتب الله لك، ثم احمد ربك ومجده، ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، فإن رأيت لي فلانة تسميها باسمها خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها، وإن كانت غيرها خيراً لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي ذلك"1. وروى فيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد أحدكم أمراً، فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي وأعنّي عليه، وإن كان كذا وكذا الأمر الذي تريد شراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري فاصرفه عني، ثم اقدر لي الخير أينما كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله" 2. وروى فيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم

_ 1 أخرجه أحمد (5/423) أو رقم (23706- قرطبة) وابن خزيمة في "صحيحه" (2/226/1220) وابن حبان في "صحيحه" (9/348/4040) والطبراني في "الكبير" (4/رقم: 3901) والحاكم (1/314) والبيهقي (7/147) . من طريق: ابن وهب، أخبرني حيوة، أن الوليد بن أبي الوليد أخبره، عن أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاري عن أبيه عن جده به مرفوعاً. قال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي! "وليس كما قالا؛ فإن خالد بن أبي أيوب أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/2/322) بهذا السند، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول العين. وابنه أيوب بن خالد؛ قال الحافظ: "فيه لين". أفاد ذلك العلامة الألباني. وأخرجه أحمد (5/423) أو رقم (23705) من طريق: ابن لهيعة، عن الوليد بن أبي الوليد وانظر: "الضعيفة" رقم (2875) . 2 أخرجه ابن حبان (3/167/885) والطبراني في "الدعاء" (3/1408/1304) وأبو يعلى (2/497/1342) والبزار (4/56/3185) .

أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني وخيراً لي في معيشتي وخيراً لي في عاقبة أمري فاقدره لي وبارك لي فيه، وإن كان غير ذلك خيراً فاقدر لي الخير حيث كان ورضني بقدرك "1. وروى الحافظ السخاوي في (كتاب الابتهاج بأذكار المسافر والحاج) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنس رضي الله عنه: "إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإن الخير فيه" وعزاه السيوطي إلى الديلمي في "مسند الفردوس"2. ومنها: في بيان كيفية صلاتها المذكور في كثير من الكتب إن من أراد الاستخارة يصلي ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعوه وهو المصرح به في حديث جابر، وقال الحافظ ابن حجر في، "فتح الباري"3: قال النووي في "الأذكار": لو دعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة الظهر مثلاً أو غيرها من الراتبة والمطلقة سواء اقتصر على ركعتين أو أكثر أجزأ، كذا أطلق وفيه نظر، ويظهر أن يقال: محله إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معاً، بخلاف ما إذا لم ينو، وتفارق تحية المسجد لأن المراد بها شغل البقعة بالصلاة، والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها. إلى آخرها قال اهـ. ثم إن ظاهر ما في حديث أبي أيوب ثم صل ما كتب الله لك أن الركعة الواحدة يحصل بها المقصود، وكلام الفقهاء على هذه المسألة مفصل ى في كتب الفقه.

_ 1 أخرجه ابن حبان (3/168/886) والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/258) وابن عدي في (الكامل" (4/1467) والطبراني في "الدعاء" (3/1409/1306) . 2 أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (598) وقال الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" (735) : "ضعيف جداً". (11/189) .

ومنها: إذا فرغ المستخير من الدعاء فليمض كما قال النووي لما انشرح له صدره. قال الهيثمي: "فإن لم ينشرح صدره لشيء فالذي يظهر أنه يكرر الاستخارة بصلاتها ودعائها حتى ينشرح صدره لشيء وإن زاد على السبع، والتقييد بها في خبر أنس: "إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإن الخير فيه". لعله جرى على الغالب إذ انشراح الصدر لا يتأخر عن السبع، على أن الخبر إسناده غريب. ووقع للشافعي أنه استخار في أمر سنة، والكلام في هذا الباب طويل، والمقصود أن السبكي ابتدع ما لم يسبق إليه أحد وترك الأمر المسنون وهو الاستخارة إن كان ما تصدى إليه من مواضعها. الوجه الخامس: أن السبكي زعم أنه حصل له الإذن بالرد على كتاب (العقل والنقل) وأنه أمر بذلك أمراً معنوياً كما استنبطه هو بفكره الثاقب ورأيه الصائب، فلم لم يمتثله وأين رده الذي رد به على هذا الكتاب؟ وليته ألفه ليمزق بسهام الأقلام ويكون مثلة بين الأنام، فإن الذي مبلغه من العلم ما سمعت كيف يرد على شيء لا يفهمه ولا يعرفه، ثم إن ولده تاج الدين ذكر في طبقاته ترجمة والده، ونسب إليه كل فضيلة وعزا إليه كل منقبة جليلة، وذكر مصنفاته واختياراته وكلماته وهذياناته، ولم يذكر في كتبه هذا الرد، فعلم أنه بهتان مبين، وأنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم على زعمه. الوجه السادس: أن حديث عرض الأعمال في أيام مخصوصة على ما سبق بيانه في كلام شيخ الإسلام تقي الدين لا يقتضي كتابة شيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في قبره، بل إن أعمال أمته تعرض عليه فإن رأى خيراً سره وإن رأى غير ذلك احتسب، ولم يقل أحد أن له قدرة على تغيير ما لا يرضى الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وحياته البرزخية ليست الحياة المتعارفة وإلا لاقتضت لوازمها وأنّى له ذلك، فكيف يعرض عليه مثل تلك الأمور وما ذلك إلا عثرة من السبكي لا تقال،

ولا يصدر مثلها حتى عن ضعفاء العقول من الجهال؟ فبطل كلامه وزال مقصده ومرامه. الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم- عند النبهاني وأسلافه الغلاة- ما كان وما يكون، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فما فائدة إعلامه بما أعلمه به السبكي من أنه رجل شافعي المذهب أشعري العقيدة إلى آخر ما هذى به، فإنه إذا علم ما كان وما يكون- ومنه أعمال السبكي وأفعاله- فلأجل أي شيء يخبره به؟ لا يقال: إن ذلك كإخبار امرأة عمران بما وضعت، وهو الذي حكاه سبحانه بقوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1 الآية. قالوا: إن الله عالم بما كان فَلِمَ أخبرته امرأة عمران بما أخبرته؟ أجابوا: إن الخبر تارة يُقْصَدُ به إفادة المخاطب الحكم إذا كان غير عارف به، وتارة يقصد به إفادة لازم من لوازمه المفصلة في علم المعاني، ولازم خبر امرأة عمران هو التحزن والتحسر على خيبتها وانعكاس أملها، وحمل السبكي كلامه على ذلك مما لا وجه له. وهذا الذي ذكرنا هـ- من أن الغلاة يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه- هو مما لم يمكنهم إنكاره، كيف والنبهاني على ما أسلفناه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وكل زمان، وقد تكلمت يوماً مع أحد غلاة الرفاعية الزنادقة ومشركيهم- إذ استغاث بالرفاعي قبل الشروع في ذكرهم- فقلت له: هل يسمع الآن نداءك الرفاعي وهو في قبره في أم عبيدة ويمدك؟. قال: نعم. قلت: فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة ومواضع متعددة ألوف مؤلفة وإن كانوا

_ 1 سورة آل عمران: 35- 37.

في أقطار شاسعة؛ فهل يسمعهم أحمد الرفاعي ويمدهم ويغيثهم؟ قال: نعم. قلت: هذا هو الغلو الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم. قال: ليس هذا من الغلو بل هو مقتضى الدين، ألم تسمع حديث الأولياء وهو قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: "وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" الحديث؟ فظن هذا الغبي الجاهل أن معناه ما يعتقده إخوانه أهل الزيغ والإلحاد من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدرات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله تعالى هو الذاكر لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج. أقول قد زلَّتْ أقدام أقوام في معنى هذا الحديث واستشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره. والجواب على ما ذكره العسقلاني في شرحه من أوجه: أحدها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح. ثانيها: أن المعنى كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه إلا ما يرضيني ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به. ثالثها: أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره إلخ. رابعها: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه. خامسها: قال الفاكهاني، وسبقه إلى معناه ابن هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه

على حذف مضاف والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك إلخ. سادسها: قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذ إلا بتلاوة كلامي، ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلا لعجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك" انتهى. وقد ذكرت هذه المسألة في موضع آخر. والمقصود؛ أن الغلاة يعتقدون أن الولي يعلم كما يعلم الله، ويبصر كما يبصر الله، ويسمع كما يسمع الله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأولياء والأصفياء، فلا بد أنهم يعتقدون فوق اعتقادهم في الولي، فإذا كان الأمر على ما ذكر فلا وجه لما كتبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان السبكي لا يعتقد ذلك الذي ذكرناه من الصفات التي لا تثبت إلا للخالق دون الخلوق فما وجه كتابة تلك المقالة ونظم القصيدة وإرسالهما مع الشيخ نور الدين السخاوي؟ فعلى كلا الوجهين أن السبكي قد أخطأ فيما فعله وأبان به جهله وغيه وضلاله. هذا حال السبكي الذي أعده النبهاني المسكين سلاحاً في ميدان الطعن بشيخ الإسلام وجرحه، والحمد لله الذي جعل أعداء أهل الحق في كل عصر وزمان من أجهل الناس وأضلهم وأغواهم، ومن العجائب أن السبكي- مع هذه الأحوال التي سمعتها- قد جعله ابن حجر المكي من المجتهدين الاجتهاد المطلق، وأنه مما لم يخالف أحد في وصوله إلى هذه المرتبة، وأنه أمام أهل التحقيق، التدقيق، وأنه ليس له نظير ولا قرين في كل فن، إلى غير ذلك من الأوصاف الجليلة، فإذا جرى ذكر تقي الدين ابن تيمية وأصحابه من أهل الحديث الحفاظ المتقنين شتمهم بكل ما خطر له، وذمهم بكل ما يقع في تصوره، فانظر إلى هذا التعصب وعدم الإنصاف، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت انحطاط الإسلام إلى ما نرى،

وأعظمها تطاول السفهاء وإناطة الأمر إلى غير أهله، وعنده يترقب الخراب العام. وابن السبكي الذي جرى مجرى أبيه لم يدع منقبة من مناقب الأولين والآخرين إلا وأثبتها لوالده ظناً منه أن الحقائق تخفى، وما درى هذا المسكين أن الأمر كما قيل: ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وفي المثل السائر: كل فتاة بأبيها معجبة. والمقصود؛ أن قدح مثل السبكي بمثل الشيخ ابن تيمية كصرير باب، وطنين ذباب، ولولا التُّقى لقلنا: لا يضر السحاب نبح الكلاب. قال النبهاني: ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، وذكر من فضله وغزارة علمه ما هو غني عن البيان، ونقل عنه عبارة ذكرها في "فتح الباري" عند الكلام على حديث: "لا تشد الرحال" إلخ، وهي قوله في مسألة تحريم شد الرحل والسفر إلى زيارة القبور: وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية إلخ، ثم نقل عنه ما قاله في تقريظه على كتاب (الرد الوافر) مما ليس فيه مطعن ولا مغمز لثالب. جوابه أن الحافظ ابن حجر العسقلاني موالاته ومحبته للشيخ ابن تيمية مما لا ينكره إلا جاهل1، وقد تلّقى العلم عن تلامذة الشيخ وأصحابه وانتفع بكتبه وقرأ كثيراً منها درساً، وهذا هو اللائق به وبأمثاله من أهل الفضل والعلم، وقد قيل: إنما يعرف ذا الفضل ذووه. والعبارة التي نقلها النبهاني عنه وهي قوله عن منعه من سفر الزيارة: وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية إلخ. أي طعن فيها وقدح في عدالة ابن تيمية؟ ومن المعلوم ما كان من الردود على كل من الأئمة، ولم يخل ذلك بشرفهم ولا خفض من منزلتهم، وقد قال غير واحد من أهل العلم: إن مسألة التزوج بالبنت من الزنا من أبشع المسائل المنقولة عن

_ 1 وللحافظ ابن حجر العسقلاني ترجمة مستقلة لشيخ الإسلام، وقد طبعت بدار ابن حزم ببيروت.

الشافعي، وأن مسألة تزوج المغربي بالمشرقي أو بالعكس ثم ولدت الزوجة ولداً يلحق بالأب وإن لم يجتمع الزوجان قط من أبشع المسائل المنقولة عن أبي حنيفة، وإن جواز التيمم بالثلج من أبشع المسائل المنقولة عن الإمام مالك، وهكذا إلى ما لا يسعه المقام، وأي إمام من الأئمة لم ينسب إليه أقوال شاذة؟! هذا إذا قلنا إن مسألة المنع من سفر الزيارة من الشواذ، مع أن الأمر ليس كما ذكروا، كيف والأدلة القطعية قائمة على ما قاله؟ وقد سبقه إليه الأئمة المقتدى بهم وقد سبق بيان ذلك مفصلاً فيما نقلناه عن الشيخ من الكتابين، وما نقله النبهاني من كلام الحافظ العسقلاني على (الرد الوافر) هو رد عليه، لأنه ليس فيه إلا الثناء والمدح، وتبرئته عما يوجب اللوم والقدح، ولم ينقل العبارة بعينها لأن ذلك مناقض لغرضه الفاسد، ومخالف لما يرومه من التلبيس والتدليس قالته الله ما أجهله، وها نحن ننقلها بنصها ليتبين ما ذكرناه أنه كان من أخلص الناس مودة لشيخ الإسلام: قال العلامة المحدث السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس عليه الرحمة في كتابه (القول الجليّ في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي) صورة تقريظ للإمام الحافظ في عصره بل حافظ الدنيا العلامة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن العسقلاني قدس الله سره على (الرد الوافر) 1 لابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى ولفظه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرفه، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين ابن تيمية أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره وتجنب الإنصاف، فما أكثر غلط من

_ (ص 246- وما بعدها) .

تعاطى ذلك وأكثر عثاره، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور نفوسنا، وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله. ولو لم يكن من فضل هذا الرجل1 إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه؛ أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين لكفى، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جداً شهدها مؤون ألوف، لكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير ما كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم من شهود جنازته، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد، وكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم، بخلاف ابن تيمية، وكان أمير البلد حين مات غائباً، وكان أكثر من في البلد من الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس تأخروا خشية على أنفسهم من العامة، ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنتم شهداء الله في الأرض"2. ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعُقِدَتْ له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة ودمشق، ولا يعلم عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا حكم بسفك دمه، مع شدة المتعصب عليه حينئذ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم يعترف بسعة علمه وزهده ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصرة الإسلام، والدعاء إلى الله تعالى في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كافر بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك فإنه شيخ مشايخ الإسلام في عصره بلا ريب. والمسائل التي أُنكِرَتْ عليه ما كان يقولها بالتشهّي، ولا يصر على القول بها بعد

_ 1 في "الرد الوافر": "ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل..". 2 أخرجه البخاري (2642) ومسلم (949) .

قيام الدليل عليه عناداً. وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبرّي منه. ومع ذلك فهو بشر يخطىء ويصيب، فالذي أصاب فيه- وهو الأكثر- يستفاد منه ويترحّم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه بل هو معذور، لأن علماء الشريعة شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه العاملين في إيصال الشر إليه- وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني- شهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره. ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان من أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفره من أهل العلم. فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر، فليحذر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء الأنجاب. ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف؛ لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد بالتقدم في العلوم والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة؟ فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام لا يلتفت إليه ولا يُعَوَّلُ في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذاك إلى أن يراجع الحق ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قال: وكتبه أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي عفا الله عنه، وذلك

التاسع من شهر ربيع الأول عام خمسة وثلاثين وثمانمائة، حامداً لله ومصلياً على محمد ومسلماً. هذا آخر كلامه. فانظر أيها المنصف إلى كلام هذا الإمام في الذب عن شيخ الإسلام؛ هل تراه منتصراً له أم طاعناً عليه؟ وهل تجده مادحاً له أم موجهاً سهام الذم بين يديه؟ وانظر إلى تحريف النبهاني الذي سبق به تحريف أسلافه اليهود، فقد نقل منه ما ظن بزعمه أنه ينفعه، وترك ما هو شجي في فمه، كل ذلك لأجل ترويج ضلاله وهواه وباطله. فبالله عليك أيها الواقف على مثل هذه الأحوال؛ هل يليق أن يولى هذا الرجل الحكم على أموال الناس وأعراضهم ودمائهم، وهو يخون- جهلاً واتباعاً لهواه- هذه الخيانة التي لم تخف على أحد من طلبة العلم فضلاً عن أكابر العلماء، ومحققي الفضلاء؟! فيا خسارة لمن تولى الحكم عليه هذا الغبي الجاهل، وعبث كما أداه إليه هواه في المحافل. قال النبهاني: ومنهم السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس ألف كتاباً مستقلاً سماه (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي) ذكر فيه مناقبه وكلام العلماء في الثناء عليه، إلى أن قال: قال صفي الدين في كتابه المذكور: قد نص على أنه- أي ابن تيمية- بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين، ومن أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد قال به قبله أبو عبد الله بن بطة الحنبلي في "الإبانة الصغرى". ثم قال صفي الدين في موضع آخر من كتابه: فإن قلت ما نقلته في هذا الجزء يدل على براءة الشيخ مما نسب إليه، فما بال عليّ القاري والتقي الحصني وابن حجر الهيتمي وغيرهم ينسبونه إلى أمور فظيعة. قلت: اعلم- وفقك الله تعالى- أن ابن تيمية رحمه الله تعالى كان رجلاً

مشهوراً بالعلم والفضل وحفظ السنة، وكان مبالغاً في مذهب الإثبات، وكان يكره التأويل أشد الكراهة، وكان يرد على الصوفية ما ذكروه في كتبهم من وحدة الوجود وما شاكلها على عادة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين، فرد على الشيخ محي الدين ابن العربي، والشيخ عمر بن الفارض، وعبد الحي بن سبعين وأضرابهم، وكان قد خالف الأئمة الأربعة في بعض الفروع كمسألة الزيارة والطلاق، وكان يناظر عليهما فقام عليه ناس وحسدوه وأبغضوه وأشاعوا عنه ما لم يقله من التشبيه والتجسيم وغير ذلك، فدخل ذلك على بعض أهل العلم من الحنفية والشافعية وغيرهم ولم يطلبوا تحقيق ذلك من كتبه المشهورة، واعتمدوا على السماع فوقع منهم ما قد وقع، وقد وقع مثل هذا لغير واحد من أهل العلم والفضل. ثم قال: وقد أنكروا على الشيخ أشياء لا بأس بذكر الجواب عنها والاعتذار؛ فأقول: قالوا يقول بحرمة السفر إلى زيارة القبور، وقد خالف في ذلك الإجماع، قال صفي الدين: قلت وهو مخطىء في ذلك أشد الخطأ، ولكن لا يلزم من القول به التفسيق فضلاً عن التكفير، لأنه صدر ذلك عن شبهة ولو كان ذلك الدليل خطأ عندنا". انتهى كلام صفي الدين البخاري. ومثله العلماء الذين أثنوا على ابن تيمية ذكروا خطأه الفاحش في مسائله التي خالف فيها الإجماع". انتهى كلام النبهاني. والجواب: أن كلام النبهاني هذا على نمط ما قبله، فإن السيد صفي الدين الحنفي عليه الرحمة ألف كتابه (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) وذكر فيه أقوال أساطين العلماء الذين أثنوا عليه، وذب عنه وأجاب عما نسب إليه من الاختيارات بما لا مزيد عليه، وقال في خطبة كتابه: "وبعد؛ فهذا جزء لطيف في ترجمة شيخ الإسلام، وبركة الأنام، علم الزهاد، وأوحد العباد، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، تقي الدين أبي العباس، وذكر نسبه إلى أن قال ابن تيمية الحراني نزيل دمشق رحمه الله، لخصته مما اجتمع عندي من كلام الفقهاء والمحدثين، رجاء للثواب ونفعاً للأحباب ".

فانظر أيها المنصف كيف ساغ للنبهاني الجهول أن يذكر السيد صفي الدين هذا من جملة من رد على الشيخ ابن تيمية وينقل عنه ما يهدم بنيانه؟ وهل ذلك إلا من جملة أحكام منصبه التي يحكم بها بغير ما أنزل الله؟ قاتله الله تعالى ما أشغفه بالباطل واتباع الهوى! والعبارة التي نقلها محرفة غير منقولة بتمامها، وكتاب السيد صفي الدين بين الأيدي فلا نتعب البنان بنقل كلامه في هذا المقام، وقد أسلفنا مراراً أن رد بعض العلماء على بعض لا يستوجب القدح على من رد عليه ولا تبديعه ولا تفسيقه بوجه، هذا فخر الدين الرازي قد حشى تفسيره من الرد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وملأه من الهذيان عليه فأيّ قدح لحق بالإمام أبا حنيفة من ذلك؟ واعترض بعض علماء المالكية على الإمام الشافعي بما لا مزيد عليه فأفي نقص لحقه منه؟ وهكذا مما لا يسع المقام بيانه، هذا لو سلمنا أن السيد صفي الدين قد رد على الشيخ، فكيف والأمر بخلاف ذلك؟. قال النبهاني: "ومنهم الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي، ثم نقل من كتاب السيد صفي الدين ما ذكره من عبارته المشتملة على الثناء على الحافظ ابن القيم، إلى أن قال: نعم أوذي بسبب قوله بقول الشيخ ابن تيمية في مسألة الطلاق، ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك فلم ينفرد به كما هو مبين في موضعه، وهو وإن كان خطأ فاحشاً فلا يوجب التفسيق" انتهى. والجواب: ما حكيناه سابقاً؛ فإن ما نقله من الكلام هو أيضاً على نسق ما قبله، فإن النبهاني ينقل ما ذكره السيد صفي الدين من أقوال العلماء الذابة عن الشيخ فيعكس النبهاني القضية ويجعل تلك الأقوال رادة عليه، ثم ذكر كلام البلقيني، والإمام السيوطي، والكزبري، والشيخ علي القاري، والخفاجي، وابن إسحاق المالكي، والزرقاني، والصفدي، والمناوي، في الرد على الشيخ بزعمه، مع أن غالب من ذُكِرَ كانوا من المثنين عليه والموالين له، وكلامهم الذي نقله عنهم يشهد لما قلناه، ولو سلم أن في كلام بعضهم غض على الشيخ استوجبه

التعصب والتقليد للأشياخ وعدم الإنصاف فلا نتعب البنان بنقل عباراتهم والكلام عليه. قال النبهاني: "ومنهم صاحبنا العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ مصطفى بن أحمد الشطي الحنبلي الدمشقي، قال: ألف حفظه الله رسالة مخصوصة سماها (النقول الشرعية في الرد على الوهّابية) وختمها بخاتمة في تأييد مذهب سادتنا الصوفية، وطبعها ونشرها، فمما قاله في المقالة الأولى منها- التي تكلم فيها على الاجتهاد-: "لا شك أن من ادّعى ذلك في هذا الزمان عليه إمارة البهتان، كما يقع دعوى ذلك من فرقة شاذة نسبت نفسها للحنابلة". إلى أن قال: "وقد ينكرون دعوى الاجتهاد ويحتجون بعبارة شيخ الإسلام ابن تيمية فقط مع أن الإمام المذكور قد خرج من مذهب الحنبلي في عدة مسائل تفرد بها وتهيأ بخصوصها للاجتهاد المطلق، إلا أنها لم تدون على كونها مذهباً له كما دونت فروع مسائل المذاهب الأربعة. ثم ذكر بعض تلك المسائل إلى أن قال: وذكر في المقالة الرابعة من هذه الرسالة جواز التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالأنبياء والأولياء والصالحين حال حياتهم وبعد مماتهم، وأقام الدليل على ذلك من الكتاب والسنة ... إلى آخر قوله". والجواب: أن النبهاني كالغريق يتشبث بالحشيش، حيث استدل بكل قول سمعه ووافق هواه، ولو كان صادراً من الأطفال والصبيان، وقصده أن يعظم حجم كتابه ليهول به على أمثاله من الجهلة، ومن الشيخ مصطفى هذا الذي ذكره حتى يحتج بقوله في باب الجرح والتعديل؟! أيظن أنه بسبب انتمائه إلى مذاهب الحنابلة يؤخذ بقوله ويوثق بنقله؟ فهل يلزم أن من ينتمي إلى الشافعي كلهم كالسبكي وابن حجر المكي ونحوهما من الغلاة؟ لا والله؛ بل فيهم أئمة هادون مهديون، وأفاضل منصفون، وهكذا أصحاب كل مذهب والناس معادن. وما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مصقول الحديد يماني

هذا مع أن ما نقله عن صاحبه فلا حجة فيه لما هو بصدده. أما مسألة انقطاع الاجتهاد التي ذكرها فقد تكلمنا عليها أول الكتاب بما لا مزيد عليه، وأما ما نقله عن شيخ الإسلام فهو حق وقد شهد له بالاجتهاد المطلق أكابر العلماء، وأما قوله بالاستغاثة والتوسل فقد مر الكلام على بطلانها مفصلاً، وأما ثناؤه على الصوفية فلم يبين الثناء منه كان على أي قسم منهم، فأما من كان منهم على منهج الجنيد وأضرابه فهم أهل للثناء، وأما من كان يقول منهم بوحدة الوجود ويتكلم بما يصادم الشريعة فمدحهم والثناء عليهم مما يأباه العلماء الربانيون، فما نقله عن صاحبه لا يفيده فيما هو بصدده من ذكر كلام الرادين على شيخ الإسلام، وقد ذكرنا أنه ليس في كلامه ما يرد عليه، وكتاب النقول الشرعية قد رد عليه علماء أهل السنة فلا نناقشه على ما ذكر من السقط. قال النبهاني: ومنهم الإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهو أشدهم رداً على ابن تيمية محاماة عن الدين، وشفقة على المسلمين، من أن يسري إليهم شيء من غلطاته الفاحشة، ولاسيما فيما يتعلق بسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نظر بعين الإنصاف شهد لهذا الإمام ابن حجر بالولاية، وأنه ربما يكون قد أطلعه الله! على ما سيحصل في المستقبل من الأضرار العظيمة التي ترتبت على أقوال ابن تيمية، من فرقته الوهابية، التي هو أصل اعتقادها، وأساس فسادها، ولا يخفى ما خصل منها من الأضرار العظيمة في حق المسلمين والإسلام، ولاسيما في الحرمين الشريفين وجزيرة العرب، فمن المحتمل احتمالاً قريباً أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد أطلع الإمام ابن حجر على ذلك على سبيل الكرامة! وهو أهل لذلك، فإنه رضي الله عنه كان من أكابر العلماء العاملين، والأئمة الهادين المهديين، وهذا علمه وكتبه النافعة التي خدم بها الأمة المحمدية خدمة لم يشاركه فيها سواه من عصره إلى الآن قد ملأت الدنيا، وانتفع بها الخاص والعام في جميع بلاد الإسلام، ومن كان كذلك لا يستبعد عليه أن يكون الله تعالى قد أكرمه بإطلاعه على بعض المغيبات، ومنها ما حدث من فرقة الوهّابية أتباع ابن تيمية من المضار العظيمة على الشريعة

المحمدية، والملة الإسلامية، ولذلك كان رضي الله عنه أشد أئمة المسلمين إنكاراً لبدع ابن تيمية ورداً عليه بأشد العبارات شفقة على المسلمين، ومحاماة عن هذا الدين المبين، وله في ذلك عبارات كثيرة في كتبه ولاسيما في الفتاوى الحديثية، ولم أر حاجة إلى نقلها هنا فمن شاءها فليراجعها. أقول: إنا قد أسلفنا عن النبهاني هذا المفتري على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد اتصف بصفات الخزي والسوء وعدم الأدب والحياء من الله ومن الناس فلا يستحى من كذب ولا يبالي بخزي، وأما مساويه فهي كما قال القائل: مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق وهو- والأمر لله تعالى- لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فلا ينجع فيه كلام ولا يؤثر فيه سهام الملام، بل هو كما قال المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام ولم يزل يبدي ويعيد بباطله، ويكرر كلامه مرة بعد أخرى، وينقل المسائل التي قد تكرر الرد عليها من العلماء الأعلام، ومزقوها بسهام الملام، ولم يؤثر فيه كل ذلك حتى كأنه لم يسمع بما قيل فيها وطعن عليها، بل يعتقدها وحياً منزلاً من الله عز وجل، فهو ممن قال الله تعالى فيه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 1. وقد ذكر في هذا الكلام كلاماً لابن حجر المكي- عامله الله بعدله - في قدح ابن تيمية وسبه وشتمه، وقال: إنه كان أشدهم رداً عليه. والأحرى به أن يقول إنه كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فإنه قد ملأ كتبه بشتم عباد الله الصالحين، أهل الحديث النبوي وخدّام السنة المطهرة والشريعة الغراء، وقد انتدب للرد عليه بعض أهل العلم من عصرنا وقبله وبينوا سقطاته

_ 1 سورة البقرة: 74.

وغلطاته، وكذبه وافترائه، وخيانته في النقل، وتحريفه للكلم عن مواضعه، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدم عليها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومزقوا بسهام أقلامهم جميع ما حاكه من نسج الأباطيل وزخرف الأقاويل بما لا مزيد عليه، كما قد ردوا على أسلافه الغلاة بمثل ذلك، وكتبهم مشهورة متداولة بين الأيدي، وفيها الكفاية لمن أخذت الهداية بيديه، ومن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وحيث أن النبهاني ميت القلب، بليد الطبع، جامد القريحة، يرى كلام متبوعيه وأسلافه كالشريعة المنزلة والدين المتّبع، ولا شك أن ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية، ففي "شرح مسائل الجاهلية" التي أبطلها الإسلام للعلامة أبي عبد الله الشيخ محمد قوله: "ومنها الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم وقد حذرهم الله تعالى من ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. إلى آيات أخر تنادي ببطلان الاقتداء بالفسقة وأهل الضلالة والغي، وذلك من سنن أهل الجاهلية، وطرائقهم المعوجة الردية. قال: ومنها الاحتجاج بما كان عليه القرون السالفة من غير تحكيم العقل والأخذ بالدليل الصحيح، وقد أبطل الله ذلك بقوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى *كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} 3 الآية. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا

_ 1 سورة التوبة: 34. 2 سورة المائدة: 77. 3 سورة طه: 49- 54.

الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 1. وقال عز ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} 2. وفي آية أخرى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 3. فجعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل أنه لم يكن عليه أسلافهم ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم وجمود قرائحهم، ولو كانت لهم أعين يبصرون بها وآذان يسمعون بها لعرفوا الحق بدليله، وانقادوا لليقين من غير تعليله، وهكذا أخلافهم ووراثهم قد تشابهت قلوبهم"اهـ. والنبهاني من هؤلاء القوم الذين تكلم عليهم في شرح المسائل، وهو مع جهله بكل علم ألف كتاباً ذكر فيه مباحث كأنه لم يسمع بردها، ولا علم بباطلها، وملأه من الهذيان والزور والبهتان، فكان ممن قالوا: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . ومع ذلك فنحن نتكلم على ما نقله هنا عن ابن حجر، ونجيب عنه بجوابين مجمل ومفصل. أما الجواب المجمل؛ فهو أن ما نُقِلَ عن ابن حجر لا يضر شيخ الإسلام فإنه عدو له ومن خصومه الألداء، كما يدل على ذلك ما كان منه من الشتم والسب واللعن وغير ذلك مما لا ينبغي أن يذكر بعضه في حق أعداء الله كاليهود وغيرهم من أعداء الدين، وذلك خارج عن قوانين المناظرة المقصود منها إظهار الصواب، والحامل له على ذلك تعصبه للسبكي، فإن كثيراً من الشافعية لهم حظ وافر مما

_ 1 سورة القصص: 36- 37. 2 سورة المؤمنون: 23- 25. 3 سورة ص: 6-7.

كان عليه أهل الجاهلية من انتصار بعضهم لبعض ولو ظلماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من تعزّى بعزاء الجاهلية فاعضّوه بِهنّ أبيه ولا تكنوا"1. وفي "شرح المسائل" التي أبطلها الإسلام ما نصه: "ومن خصال الجاهلية أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما تقول به طائفتهم، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. ومعنى (نؤمن بما أنزل علينا) أي: نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل في تقرير حكمها. ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل وهو الظاهر وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغياً وحسداً على نزوله على من ليس منهم، وإما أنفسهم، ومعنى الإنزال عليهم: تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن، ودسائس اليهود مشهورة، أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم، كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه. (ويكفرون بما وراءه وهو الحق) أي: هم مقارنون لحقيقته أي عالمون بها. (مصدقاً لما معهم) لأن كتب الله يصدق بعضها بعضاً، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم:

_ 1 أخرجه أحمد (5/133، 136) أو رقم (21298، 21313، 21314، 21315، 21317) والبخاري في "الأدب المفرد" (963) والنسائي في "الكبرى" (6/242/1080، 10811، 10812) والطبراني في "المعجم الكبير" (1/رقم: 532) وغيرهم، وصححه الألباني في "الصحيحة" (269) . قال الجيلاني في "فضل الله الصمد" (2/428) : "تعزّى: التعزي: الانتساب إلى قوم، كقولهم: يا لفلان، يا لبكر، يا لتميم. وأعضوه بهن أبيه: أي: اشتموه صريحاً وسبّوه. والعض أخذ الشيء بالأسنان، والمعنى: اعضض بهن أبيك الذي كان سبباً لولادتك تنكيلاً". 2 سورة البقرة: 91.

{نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} حيث أن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك تسكيتاً لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوغه. قال: ومنها التعصب للمذهب والإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه، قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. قال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا آخر النهار، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذاك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا إنهم أهل كتاب وهم أعلم به، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم" انتهى. وما كان عليه ابن حجر المكي من الغلو في القبور والقول بأقوال المتصوفة الكاذبة وترويج بدعهم المعلومة أمر لا يسعه الإنكار، وكتبه طافحة بمثل هذه الأكاذيب، وشيخ الإسلام قد بين أحكام الله تعالى في هذه الفئة الزائغة، وذكر ما وردت به الشريعة من القول الحق الذي يذعن له كل من يسمعه ويصغي إليه، وذلك من المسلم حتى لدى خصومه. فمن جملة ما كتبه أبو الحسن السبكي إلى الحافظ الذهبي أحد من أخذ على شيخ الإسلام في حق الشيخ تقي الدين ما نصه: "وأما قول سيدي في الشيخ فالمملوك متحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من

_ 1 سورة آل عمران: 72- 74.

ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمع الله له من الورع والزهادة والديانة، ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه من ذاك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان" انتهى. والمقصود؛ أن كل ما اعترض به ابن حجر على شيخ الإسلام مردود عليه، فإن منه ما هو افتراء، ومنه ما هو مؤيد بالحجج والدلائل القطعية، ومنه ما لم ينفرد به بل قال بقوله جمع من المجتهدين، وإن ما كان من تهور ابن حجر ليس من الدين في شيء وإنما لمزيد حبه وغيه واتباعه لهواه، فكلامه الذي نقله الغبي النبهاني وغيره كله مردود عليه. وأما الجواب المفصل؛ فنقول: أما قول ابن حجر فيه ما قال فذلك قول النبهاني هو أشدهم رداً على ابن تيمية محاماة عن الدين وشفقة على المسلمين إلخ.. فقد صدق في جملة من هاتين الجملتين وكذب في الأخرى، أما ما صدق فيها فقوله عن ابن حجر أنه أشد الناس رداً عليه، والأمر كما قال. والسبب في ذلك ما ذكرناه سابقاً من الحب للبدع والكراهة للسنن النبوية، فإن من نظر إلى كتب الشيخ ابن تيمية وجدها ديناً خالصاً، وكلاماً أشبه شيء بالذهب المُصَفّى، وعلم منها حرصه رحمه الله على السنة والمحاماة للشريعة، والحط على أعداء الدين وخصماء السنة، ومزيد حبه للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن راجع بعض فصول كتابه (الصارم المسلول) تبين له ما قلناه. كل ذلك بخلاف ما كان عليه ابن حجر، فتراه في كثير من كتبه يروّج البدع ويدافع عنها، ويذب عن أهلها، ويخاصم أتباع السنن، ويعادي أهل الحديث أشد العداوة، وينسب إليهم كل ما خطر على باله وجرى على لسان قلمه من الإفك والزور والبهتان، انظر إلى ما ذكره في فتاواه الحديثية بل البدعية تجدها مشحونة من العدوان على ابن تيمية، وقبل أن تنشر كتب شيخ الإسلام تقي الدين ربما كان يظن من يظن أنه صادق في منقوله، فلما انتشرت وتداولتها الأيدي تبين لكل ذي عينين أن ابن حجر كذب وافترى ولم يتوثق به أحد بعد ذلك، وسقط من درجة

الاعتبار بالكلية إلا لدى من أعمى الله عين بصيرته من الأغبياء. وبذلك يظهر كذب النبهاني في الجملة الأخرى، وهي أن إنكاره كان شفقة على الدين.. إلخ، بل لو أنصف لقال: إن إنكاره كان من بغضه للدين، فإنه شوق الناس على البدع والأهواء، وحذرهم من كتب السنة ومحبة أهلها والمحامين لها، ولذلك ترى من اغتر بأقواله الكاسدة في ظلمات من الجهل والغي والعمى، لا ينجع فيهم كلام ولا تمضي فيهم سهام الملام. وأما من طالع كتب السنة- ولاسيما كتب شيخ الإسلام- تراه قد انكشفت عن بصيرته غشاوة التعصب واتبع ما اقتضاه الدليل، وهكذا الفرق بين المبتدع والسني، ترى المبتدعة يصرفون النصوص والدلائل إلى ما تهواه أنفسهم، وأهل السنة يذهبون إلى ما يقوده إليهم الدليل، ويتركون له ما تهواه أنفسهم، وهذا بحمد الله بين. وأما قوله: "ومن نظر بعين الإنصاف شهد لهذا الإمام ابن حجر بالولاية، وأنه ربما يكون قد أطلعه الله على ما سيحصل في المستقبل من الأضرار العظيمة". فجوابه من وجوه: أما أولاً: فيقال: إن الولاية والكرامة إنما تكون لصلحاء الأمة، أهل التقوى والورع والكرامة، لا تكون لمثل ابن حجر من الكذابين المفترين المتناقضين في أقوالهم المضطربين في دينهم، وما أحسن ما في كتاب "إنباء الأبناء بأحسن الأنباء": "يا بني؛ من رأيتموه يطير في الهواء أو يمشي على وجه الماء- وقد خالف شيئاً من الشريعة الغراء- فذاك من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن، فإياكم وإياه، واشتغلوا عنه بتقوى الله، وقال شيخ الإسلام في كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان": ومن حيث بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم جعله الفارق بين أولياء الله وأعدائه، فلا يكون ولي الله إلا من آمن به واتبعه ظاهراً وباطناً، ومن ادّعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من

أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1. قال الحسن البصري: ادّعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم2. وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن ادّعى محبة الله ولم يتبع الرسول فليس من أولياء الله تعالى، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فإن اليهود والنصارى يعدون أنهم أولياء الله وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان منهم، بل يذعون أنهم أبناء الله وأحباؤه قال تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} إلى قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 3. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} إلى قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 4. وكان مشركوا العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} 5. وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} إلى قوله: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 6. فبين سبحانه وتعالى أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون. وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاصر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهاراً غير سر: " إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين"7. وهذا موافق لقوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} إلى قوله:

_ 1 سورة آل عمران: 31. 2 انظر "تفسير الطبري " (6/322) . 3 سورة المائدة: 18. 4 سورة البقرة: 111- 112. 5 سورة المؤمنون: 66- 67. 6 سورة الأنفال: 30- 34. 7 أخرجه البخاري (5644) ومسلم (366) .

{ظَهِيرٌ} 1. وصالحوا المؤمنين المتقون أولياء الله، ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة كلهم في الجنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة "2. ومثل هذا الحديث الآخر: "إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا"3. كما أن من الكفار من يدّعي أنه ولي الله وليس ولياً لله بل عدواً له، وكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه مرسل إلى جميع الإنس، بل إلى الثقلين الإنس والجن. ويعتقدون في البواطن ما يناقض ذلك، مثل أن لا يقروا في الباطن أنه رسول الله، إنما كان ملكاً مطاعاً ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقول إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب؛ كما يقول كثير من اليهود والنصارى، أو يقول: إنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إ ليهم ولا يحتاجون إليه، أو أن لهم طريقاً إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كلما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنية فلم يرسل بها ولم يكن يعرفها، أو هم أعرف منه أو يعرفونها بمثل ما يعرفها هو من غير طريقته، وقد يقول بعض هؤلاء إن أهل الصفة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم" إلى آخر ما ذكره من التفصيل الذي لا تجده في غيره. ومنه يعلم أن ابن حجر المكي ليس منهم في شيء، فإنه كان ممن يُجَوِّزُ الالتجاء إلى غير الله تعالى، والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والاستعانة بهم والتوسل، وغير ذلك مما أسلفنا حكمه، وبينا اختلاف أهل العلم في إيمانه

_ 1 سورة التحريم: 4. 2 أخرجه مسلم (2496) . 3 أخرجه أحمد (5/235) .

وإسلامه، هذا ما عدا ما ذكره في تضاعيف كلامه ولاسيما في كتابه (الجوهر المنظم) وما عدا ما اقترف من الإثم في شتم خيار الأمة وسبّهم ولعنهم، والافتراء عليهم، فإن هذه الأمور متى اتصف بها شخص كان حكمه معلوماً، فكيف يجعل من الأولياء ويثبت له كرامات وخوارق؟! نعم، إنه يليق أن يكون لدى النبهاني من الأولياء، وإن الشياطين بعضهم أولياء بعض. وأما ثانياً: فلأن الأضرار التي ادّعاها لموافقي ابن تيمية لم يبيّن ما هي، ونحن نعلم أن كل ما يخالف الكتاب والسنة فوجوده ضرر محض، ومن وافق ابن تيمية في أقواله إنما نهى عن المنكرات التي كانت بين الناس مما لم يكن مثلها في الجاهلية الأولى، وأمر بالمعروف الذي يحبه الله ورسوله، كل ذلك معلوم لدى العقلاء، فلِمَ لَمْ يُطْلِع اللهُ ابنَ حجر- إذا كان ولياً وصاحب كرامة- على ما حدث في الإسلام من الزيغ والاعوجاج والمنكرات الكثيرة في أخص بلاد الإسلام وأشرفها، وما صادم الدين المبين من القواعد والأحكام التي يعرفها النبهاني ولا يحتاج إلى أن ينبه عليها، فإنها اختلطت بلحمه وعظمه وعليها مدار معاشه وانتعاشه؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 1. وأما ثالثاً: فإن قوله: "إن الأضرار التي ترتبت على أقوال ابن تيمية من فرقته الوهابية".. إلخ. ليس له محصّل ولا حاصل، فنحن نطالبه ببيان تلك الأضرار التي ادّعاها أنها ترتبت على أقوال ابن تيمية، مع أن أقواله هي عن الكتاب والسنة، وما يترتب على الكتاب والسنة يترتب على الأقوال المأخوذة عنها، والله سبحانه هو الذي أمر بجهاد المشركين ومحوهم من الأرض، أفيقال أن ذلك من المضار وفي الكتاب والسنة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما هو معلوم لدى كل ذي بصر؟ أفيقال إن ما يترتب على ذلك هو ضرر والكتاب والسنة أَوْجَبَا إزالة البدع والأهواء

_ 1 سورة البقرة: 16.

وإبطالها وإن أضر بأهلها؟ أفيقال: إن ما يترتب على ذلك يعد من الضرر؟ والكتاب والسنة نهيا عن جميع الكبائر والمحرمات المفصلة في غير هذا الموضع، فهل لوحظ ما يترتب على ذلك من الضرر على من تعاطاه؟ فقول النبهاني هذا ساقط ليس له وجه. وأما رابعاً: فإن الذين أطلق عليهم اسم الوهابية- إطلاقاً غلطأً- هم أهل نجد وهم حنابلة من خيار أهل السنة، وهم من أتباع الإمام أحمد في الفروع لا من أتباع ابن تيمية، وأما في العقائد والأصول فهم ليسوا بمقلّدين لأحد فيها، وهم لم يبتدعوا شيئاً في الدين يكونون به فرقة أخرى، ولم يتخذوا مع الله آلهة أخرى كما اتخذه الغلاة. وأما خامساً: فأي مضار ترتبت على موافقي ابن تيمية وهم الذين فعلوا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وامتثلوا أمره في الطاعة لوليّ الأمر، ويعتقدون أن مخالفته من خصال الجاهلية، ففي "شرح المسائل": "أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له عندهم فضيلة، وبعضهم يجعله ديناً، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمرهم بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد، وهذه الثلاث هي التي ورد فيها ما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" 1 وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية"2. وروى أيضاً عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهي مريض، فقلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعنا فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً

_ 1 أخرجه مسلم (1715) . 2 أخرجه البخاري (7053، 7054، 7143) ومسلم (1849) .

بواحاً عندكم من الله فيه برهان"1. والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية" انتهى. وما كان من الحروب في نجد بين رؤسائهم أي ذنب لهم فيه، وهم لم يبدأوا أحداً بحرب ولا ضرب حتى يبدأ الغير به، فحينئذ يدافعون عن أنفسهم، ودفع الصائل مأمور به، فلم يحصل منهم ضرر على الشريعة بل هم أكثر المسلمين محاماة عليها كما سبق. وأما سادساً: أن ما ينقل عن أهل نجد مما فعلوه بالحرمين لا أصل له كما لا يخفى على من طالع كتب تواريخهم، وفي كتاب (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) وتتمته نبذة من ذلك، وجزيرة العرب تشمل الحرمين، بل هما الجزيرة بلسان الشرع، فلا وجه لعطف الجزيرة على الحرمين. وأما قوله: ولذلك كان رضي الله عنه أشد أئمة المسلمين إنكاراً لبدع ابن تيمية إلخ. فجوابه: إنا قد ذكرنا سابقاً أن ما كان منه من التهور والتجاوز على ابن تيمية اتباعاً لهواه، وابن تيمية من أعظم الناس اتباعاً للسنة وأكثرهم رداً للبدع، وقول النبهاني شبيه بقول إخوانه المشركين، ففي كتاب "شرح المسائل التي أبطلها الإسلام من خصال الجاهلية": تسميتهم أتباع الإسلام شركاً، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. أخرج ابن إسحق بسنده حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران- نصراني يقال له

_ 1 أخرجه البخاري (7055، 7200) . 2 سورة آل عمران: 79- 80.

الرئيس-: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره؛ ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني" فأنزل الله تعالى الآية1 انتهى. وأظن أن النبهاني لا يفرق بين البدعة والسنة، ولا ما يطلق عليه كل واحدة منهما، بل لا يعرف الإيمان من ضده، ولذلك سمى ابن تيمية مبتدعاً، وسمى نفسه وأضرابه مؤمناً ومن أهل السنة، وقُل له منشداً: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل وقل له: أيها المدّعي لسلمى انتساباً ... لست منها ولا قلامة ظفر ولا بد من الكلام على البدعة حتى يعلم بعد معرفتها من المبتدع الذي أطلقه على شيخ الإسلام.

_ 1 أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (6/539/7296- ط. شاكر) وابن أبي حاتم (2/693/3756) والبيهقى في "دلائل النبوة" (5/384) وهو في "السيرة النبوية" لابن هشام (1/554) .

كلام مفيد في تعريف البدعة

(كلام مفيد في تعريف البدعة) 2. اعلم أن البدعة لغة: المحدثة مطلقاً. واصطلاحاً: إذا قوبلت بالسنة يراد بها المحدثة في الدين، إما بزيادة أو نقصان، وهي السيئة التي ليس لها أصل ظاهر من الكتاب والسنة أو سند صحيح استنبطه علماء الأمة. فأما ما كانت حسنة ناشئة عن هذه الأصول فهي قد تكون مباحة، كالمواظبة على أكل لب الحنطة مثلاً، وقد تكون مستحبة كبناء المنارة وتصنيف الكتب، وقد تكون واجبة كنظم الدلائل لرد

_ 2 انظر في ذلك: "الاعتصام" للشاطبي فقد أفاد وأجاد و"حقيقة البدعة وأحكامها" للغامدي. ط. مكتبة الرشد. و"علم أصولالبدع" للشيخ علي الحلبي. و"الإبداع" للشيخ علي محفوظ، وغيرها.

كيد الملاحدة وشبه الفرق الضالة. وقد وقع من ذلك عن الصحابة شيء كثير، كما وقع لأبي بكر وعمر، ولزيد بن ثابت في جمع القرآن، فإن عمر أشار به على أبي بكر خوفاً من اندراس القرآن بموت الصحابة رضوان الله عليهم لما كثر فيهم القتل يوم اليمامة وغيره، فتوقف أبو بكر لكونه صورة بدعة، ثم شرح الله صدره لفعله لأنه ظهر له أنه يرجع إلى الدين وأنه غير خارج عنه. ولما دعا زيد بن ثابت وأمره بالجمع قال له: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله إنه حق. وكما وقع لعمر في جمع الناس لصلاة التراويح في المسجد مع تركه صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن كان فعله ليالي، وقال: "نعمت البدعة هي" لأنها وإن سماها بدعة باعتبار معناها اللغوي فليس فيها رد لما مضى وزيادة في الدين، بل هي من الدين لأنه صلى الله عليه وسلم علّل الترك بخشية الافتراض وقد زال بوفاته صلى الله عليه وسلم، ومنشأ الذم ما قاد إلى شيء من مخالفة السنة ودعا إلى الضلالة1. ثم قال الفاضل السويدي: والقول الفصل الموضح لما تقدم هو أن البدعة لها معنيان: (أحدهما) لغوي، وهو المحدث مطلقاً سواء من العادات أو العبادات. (وثانيهما) شرعي؛ وهو الزيادة في الدين أو النقصان منه من غير إذن من الشارع، لا قولاً ولا فعلاً ولا تصريحاً ولا إشارة. فالبدعة التي هي ضلالة كما في الحديث؛ هي بحسب معناها الشرعي، فيقتصر بها على غير العادات من العبادات التي هي لأصول الشريعة من الكتاب والسنة والإذن من الشارع مخالفات، فالمنارة عون لأعلام وقت الصلاة، وتصنيف الكتب عون للتعليم، ونظم الدلائل لرد الشبه ذب عن الدين، فكل ذلك مأذون فيه، لأن البدعة الحسنة2 ما لم يحتج إليه الأوائل واحتاج إليه الأواخر، وعند الاستقراء لا توجد

_ 1 وافقه هذا جيداً لتعلم ضلال وانحراف من كان دينهم مبنياً على البدع، ثم بعد ذلك يتهمون الفاروق عمر رضي الله عنه بأنه ابتاع في الدين!. وانظر: "الاعتصام" للشاطبي (1/45، 323- 326، و 3/7- ط. الشيخ مشهور) . 2 الصواب أن يقال في الأمثلة المضروبة أنها من باب (المصالح المرسلة) . أما لفظ البدعة الحسنة فهو غير حسن لأن: "كل بدعة ضلالة" كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم.

هذه البدعة في العبادات البدنية المحضة كالصوم والصلاة والذكر والقراءة، بل لا تكون البدعة فيها إلا سيئة. قال صاحب "مجالس الأبرار" ما ملخصه: لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول إما لعدم الحاجة إليها، أو لوجود مانع، أو لعدم تنبه، أو لتكاسل، أو لكراهة، أو لعدم مشروعية. والأولان منتفيان في العبادات البدنية المحضة، لأن الحاجة في التقرب إلى الله تعالى لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع، ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم التنبه أو التكاسل، فذاك أسوأ الظن المؤدي إلى الكفر، فلم يبق إلا كونها سيئة غير مشروعة. وكذلك يقال لك من أتى في العبادات البدنية المحضة بصفة لم تكن في زمن الصحابة، إذ لو كان وصف العبادة في الفعل المبتدع يقتضي كونه بدعة حسنة لما وجد في العبادات ما هو بدعة مكروهة، ولما جعل الفقهاء مل صلاة الرغائب والجماعة فيها، ومثل أنواع النغمات الواقعة في الخطب وفي الأذان، وقراءة القرآن في الركوع مثلاً والجهر بالذكر أمام الجنازة من البدع المنكرة، فمن قال بحسنها قيل له: ما ثبت حسنه بالأدلة الشرعية؛ فهو إما غير بدعة فيبقى عموم العام في حديث: "كل بدعة ضلالة". وحديث: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"1 على حاله، أو يكون مخصوصاً من هذا العام، والعام المخصوص دليل فيما عَدَا ما خُصّ منه، فمن ادّعى الخصوص فيما أحدث أيضاً احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص من كتاب أو سنة أو إجماع مختص بأهل الاجتهاد، ولا نظر للعوام ولعادة أكثر البلاد فيه، فمن أحدث شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى من قول أو فعل فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فعلم أن كل بدعة في العبادات البدنية المحضة لا تكون إلا سيئة. والحاصل أن كل ما أحدث ينظر في سببه؛ فإن كان لداعي الحاجة بعد أن لم

_ 1 أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) .

يكن- كنظم الدلائل لرد الشبه التي لم تكن في عصر الصحابة، أو كان وقد ترك لعارض زال بموت النبي صلى الله عليه وسلم كجمع القرآن؛ فإن المانع منه كون الوحي لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء وقد زال- كان حسناً، وإلا فإحداثه بصرف العبادات البدنية القولية والفعلية تغيير لدين الله تعالى، مثلاً الأذان في الجمعة سنة، وقبل صلاة العيد بدعة، ومع ذلك فإنه يدخل في عموم قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} 1. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} 2. فيقول قائل: هذا زيادة عمل صالح لا يضر. فإنه يقال له: هكذا تتغير شرائع الرسل، فإن الزيادة لو جازت لجاز أن يصلي الفجر أربعاً والظهر ستاً. ويقال: هذا عمل صالح زيادته لا تضر، لكن أهل السنة يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الفعل والترك، فإن الله تعالى قد بين لنا الشرائع وأتم لنا الدين، فهذا هو من غير زيادة أو نقص، فالزيادة عليه كالنقصان، فنعبده بما شرع، ولا نعبده بالبدع، فعقولنا عن مثل ذلك قاصرة، وآراؤنا إذاً كاسدة خاسرة، والعقول لا تهتدي إلى الأسرار الإلهية، فيما شرعه من الأحكام الدينية، أو ما ترى كيف نوديت إلى الصلاة دائماً، ونهيت عنها في الأوقات الخمسة، وذلك ينتهي إلى قدر ثلث النهار، فينبغي لك أن تكون حريصاً على التفتيش عن أحوال الصحابة وأعمالهم فهم السواد الأعظم، ومنهم يعرف الحسن من القبيح، والمرجوح من الرجيح، وإذا وقع أمر ينظر فيه إلى قواعد المجتهدين الذين هم السلف لمن خلف، فإن وافق أصولهم قبله المتبع بقلبه، وإلا فلينبذه وراء ظهره وليتبصر في جلية آمره، ولا تغرنك عوائد الناس فإنها السموم القاتلة والداء العضال، وعين المشاقة المؤدية إلى الضلال، وقد كان هشام بن عروة يقول: لا تسألوا الناس اليوم عما أحدثوه فإنهم قد أعدوا له جواباً، لكن سلوهم عن السنة فإنهم لا يعرفونها. وأخرج أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه، قال: "كل عبادة لم تفعلها

_ 1 سورة الأحزاب: 41. 2 سورة فصلت: 33.

الصحابة فلا تفعلوها"1. وأخرج البيهقي أن ابن عباس قال: "أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع". فمن البدع السيئة ما خالفت شيئاً من ذلك صريحاً أو التزاماً، وقد تنتهي إلى ما يوجب التحريم تارة والكراهة أخرى، وإلى ما يظن أنه طاعة وقربة. فمن الأول: الانتماء إلى جماعة يزعمون التصوف ويخالفون ما كان عليه مشائخ الطريق من الزهد والورع وسائر الكمالات المشهورة عنهم، بل كثير من أولئك إباحية لا يحرمون حراماً لتلبيس الشيطان عليهم أحوالهم القبيحة الشنيعة، فهم باسم الفسق أو الكفر أحق منهم باسم التصوف أو الفقر. ومنه ما عمت به البلوى من تزيين الشيطان للعامة تخليق حائط أو عمود، أو تعظيم نحو عين أو حجر أو شجرة، لرجاء شفاء أو قضاء حاجة، وقبائحهم في هذا ظاهرة غنية عن الإيضاح والبيان. وقد صح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مروا بشجرة سدر قبل حنين كان المشركون يعظّمونها وينوطون بها أسلحتهم- أي: يعلقونها بها-، فقالوا: يا رسول الله؛ اجعل لنا ذوات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم"2. ومن الثاني: ومنشأه أن الشارع يخص عبادة بزمن أو مكان أو شخص أو حال، فيعممونها جهلاً وظناً أنها طاعة مطلقاً، نحو صوم يوم الشك أو التشريق والوصال، ومنه التعريف بغير عرفة، ومنه صلاة ليلة الرغائب أول جمعة في رجب، وليلة النصف من شعبان؛ فهما بدعتان مذمومتان.

_ 1 عزاه لأبي داود كل من السيوطي في "الأمر بالاتباع" (ص 62) والقاسمي في "إصلاح المساجد" (ص12) . وقال الشيخ الألباني في "تحقيقه على الإصلاح": "لم أره في "السنن" وقد عزاه إليه غير المصنف أيضاً، وأظنه تابعاً لهم فيه". 2 تقدم تخريجه.

قال السويدي: ومن أعظم البدع، الغلو في تعظيم القبور، فلقد اتخذوها في هذا الزمان معابد يعتقدون أن الصلاة عندها أفضل من الصلاة في جميع بيوت الله، وهم وإن لم يصرحوا؛ ولكن طبعت قلوبهم على ذلك، فتراهم يقصدونها من الأماكن البعيدة وربما أن تكون بحذائهم مساجد مهجورة فيعطلونها، وإذا لحقوا على الصلاة فيها ولو في أوقات الكراهة كانت أفضل عندهم من الصلاة في الأوقات الفضيلة في المساجد، وتلك المساجد التي بحذاء القبور ليست مقصودة لكونها بيوتاً لله بل لكونها حضرات لمن انتسبت إليه من أهل تلك القبور، يدلك على ذلك كله أنهم لا يسمونها إلا حضرات، فإذا قلت لأحدهم: أين صليت؟ قال لك: صليت في حضرة الشيخ فلان! وليس مقصودهم به إلا التقرب به وبحضرته، وكلما أكثر الرجل الترداد إلى القبور- ولو كانت مشتملة على أنواع المنكرات من ستور الحرير والديباج والترصيع بالفضة والعقيان فضلاً عن غيرها- كان مشهوراً بين الناس بالديانات، مغفور الزلات، مقرباً عند أصحاب تلك الحضرات، ولقد امتلأت قلوب العوام من رجائهم ومخافتهم، فتراهم إذا عضلت عليهم الأمور أوصى بعضهم بعضاً بقصد أصحاب القبور، وكذلك إذا وقع على أحد يمين بالله حلف به من غير أدنى وجل أو حذر، وإذا قيل له احلف بفلان عند قبره خصوصاً إذا أمره بالغسل لهذا اليمين ليكون ذلك من أقوى العبادات؛ خاف خوفاً يظهر على جميع جوارحه، فلو سلمنا أنه أدخل إلى قبره وتعدت فرائصه وانحلت قواه، وربما أن أحدهم- لكثرة أوهامه وشدة خوفه- تبطل حواسه فيزدادون كفراً، وتضحك عليهم الشياطين جهراً، وترى كثيراً منهم يعلقون مرضاهم عليهم، فيأخذون المريض وهو في غاية شدته فيدخلونه على قبره، والسعيد عندهم من يدخلونه داخل شباكه ويتعلق بستر قبره، والرزية العظمى أنهم في حالتي السراء والضراء يتلاعب إبليس بهم، فإن مات مريضهم قالوا ما قبلنا الشيخ فلان يعنون به صاحب القبر، وإن صادت القدر فعوفي سيما إذا وافق مطلوبهم ذلك الوقت فرحوا بما عندهم من الكفر، فأرسلوا القرابين ومعها شموع العسل موقدة من بيوتهم، إظهاراً لقدر صاحب القبر وتنبيهاً على فضيلته، وكثيراً ما ينشرون الرايات له على

طريقة أهل الجهل من الأعراب أن من فعل شيئاً عظيماً نشرت له راية بيضاء، وقد رأيت من لم يفعل ذلك ولكنه ينصب راية بيضاء على سطح داره ثلاثة أيام يصيح كل يوم وقت المغرب بأعلى صوته الراية البيضاء المبنية لفلان بيض الله وجهه. قال: وبالجملة؛ فأكثر البدع الخبيثة نشأت من هنالك، حتى أني رأيت بدمشق الشام أناساً ينذرون للشيخ عبد القادر الجيلي قنديلاً يعلقونه في رؤوس المنابر، ويستقبلون به جهة بغداد، ويبقى موقداً إلى الصباح، وهم يعتقدون أن ذلك من أتم القربات إليه، كأنهم يقولون بلسان حالهم: أينما توقدوا فثم عبد القادر. فيالله العجب! ما هذه الخرافات؟! وأين دين الله الذي قد مات؟ بال الشيطان في عقولهم وأضلهم عن سبيلهم، ولا ترى أحداً ينهى وينكر أمثال ذلك. وأعظم مما هنالك ومن أقبح المنكرات: ما يستعملها جميع الناس عند وضع الإناث ولاسيما في شدة الطلق، فإنهن يستغثن بعلي بن أبي طالب، وكلما اشتد الطلق صاحت النساء بأعلى أصواتهن داعيات ومستغيثات به ليفرج عنهن ما قد كربهن، ومن يسمعهن يتيقن إشراكهن، وقلما تسلم امرأة منهن في هذا الحال العظيم، والخطب الجسيم، وكثير منهن يزعمن أنه الموكل بالأرحام، والموكل إليه في هذه الأحوال العظام. ومن البدع المنكرة؛ أن كثيراً من أهل الهند وأهل الأماكن القاصية يرسلون الهدايا العظيمة، والأموال الكثيرة، إما لإجراء القنوات لأجل المجاورين عند قبورهم، فإنهم عندهم أفضل خلق الله، ومن جاور عندهم فكأنما ابتاع منهم قطعة من الجنان، وإما لعمل قبابهم بصفائح الذهب والعقيان، وبعضهم يرسل هدايا عظيمة ليرسل له السدنة أعلاماً ينشرونها على فلكهم إذا وقعوا في شدتهم، فيكون اسمه المكتوب في تلك الأعلام المرسلة إليهم كشافاً لكربتهم نفاعاً لهم بإنجاح بغيتهم. قال: وأكثر نساء بغداد إذا قمن صحيحات من وضعهن يخبزن خبزاً يسمينه

عباس المستعجل يزعمن أن العباس بن علي بن أبي طالب هو المتكفل بهذه الأمور العظام. ومن ذلك عند الناس شيء كثير، من أحجار وآبار، وصخور وأشجار، يزعمون منها شفاء الأمراض وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات. ولو بسطت الكلام في ذلك- مما يستعمله الرجال والنساء، أو يختص بالنساء، من أشياء يعلقنها عليهن، ويبين خواصها وتأثيراتها في أزواجهن، ويسمينها بأسماء لو رجعت الجاهلية الأولى لعجزت عن أقل القليل من هذه الجهالات وسوء الاعتقادات- لاحتمل مجلدات، والويل كل الويل لمن أنكر ذلك، أو تكلم بأدنى شيء ينجى من تلكم المهالك. ومن أسخف البدع؛ أنك تسمع وقت خسوف القمر من الضرب بالطسوس والنحاس شيئاً عظيماً، ولا تكاد تسمع برجل دخل بيتاً من بيوت الله للصلاة فيه أو صلى في بيته أو استغفر أو تاب أو تصدق، فبالله نستعين على زمان أميتت فيه السنن واستؤنس بالبدع، اللهم وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين آمين. ومن البدع المنكرة؛ ما يستعمله المتصوفة من أذكار اشتملت على الدفوف والطبلات والغناء وأنواع الرقص ويسمونه حالاً، وتراهم يعملون ذلك ومغنيهم ينشدهم من الشعر المشتمل على ما لا يرضي الله تعالى، ويحضره الفسقة والمرد والنساء، فيحصل من ذلك ما تظهر به شعائر الفسق والعصيان، وترى الشيخ لو حصلت له مواجهة الظلمة وظفر بدراهمهم لعدها من أطيب المكاسب، وأقرب المراتب، لا أكثر الله من أمثالهم. وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة؛ مبتدعة الرفاعية، فلا تجد بدعة إلا ومنهم مصدرها وعنهم موردها ومأخذها، فذكرهم عبارة عن رقص وغناء والتجاء إلى غير الله وعبادة مشائخهم، وأعمالهم عبارة عن مسك الحيات والعقارب ونحو ذلك.

قال ابن خلدون في (كتابه العبر) : "قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ أحمد وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذ التتار العراق، من دخول النيران، وركوب السباع، واللعب بالحيات، وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشيطان الرجيم" انتهى. وشيخ الإسلام ابن تيمية قد أطنب في بيان ضلالاتهم وجهالاتهم وحيلهم، وما يخدعون به الجهال وغير ذلك من أفعالهم وأعمالهم، ولهم معه حوادث ومجالس، فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بمراجعة كتابه الذي ألّفه في بيان أحوالهم وسماه: (كشف حال المشائخ الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية) ولولا طول الكلام لأتحفنا القراء بذكر شيء منه. والحاصل؛ أنه لو أراد الإنسان أن يفصل منكرات القبور وتكيات الصوفية ومنكرات الحيطان والآبار والصخور والأحجار والتماثيل، وكذا منكرات المساجد والحمامات والطرقات والأسواق والبوادي والأمصار، فضلاً عن الدخول في منكرات المجالس والملابس والبيع والشراء، وما ابتدعوه فيها وجعلوه كالسنة المأمور بها؛ لضاق عنه التحرير، وعجز عن ضبطه من تصدى للتسطير، وعسى الله سبحانه وتعالى أن يرسل في هذه الأمة من يجدد لها أمر الدين، ويتبع سبيل المؤمنين. والمقصود؛ أن النبهاني لم يعرف معنى البدعة ولا محل إطلاقها، فلذلك جعل شيخ الإسلام مبتدعاً وجعل نفسه متبعاً، مع قوله بوحدة الوجود، ونداء غير الله في الحاجات والضرورات، وصرف عمره بأحكام العدلية وقوانينها،. واعتقاده بألوهية النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الأمور التي لو اعتقد أحد أمراً واحداً منها كفى في إخراجه عن الدين المبين، وزيغه عن اتباع سبيل المؤمنين، وما أحقه بقول القائل من الأكابر والأماثل: مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق وأما شيخ الإسلام وعلم الأعلام؛ فقيامه بنصرة الدين أمر معلوم، وجهاده

في الله حق الجهاد لا ينكره ذوو الفهوم. وقول النبهاني هذا كما حكى الله عن إخوانه الجاهليين، ففي "شرح المسائل من خصالهم": الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيل المشركين على المسلمين، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1. قالوا: نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب؛ فلا يؤمن هذا أن يكون مكراً منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل، ثم قال كعب: يا أهل مكة، ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجر الكوماء، ونسقيهم اللبن، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وديننا القديم، ودين محمد الحديث. فقال كعب: أنت والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد. فأنزل الله في ذلك الآية2. والجبت في الأصل: اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله.

_ 1 سورة النساء: 50. 2 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/974/5441) وابن جرير الطبري (8/467- 468/9787، 9788، 9789) والواحدي في "أسباب النزول" (ص 156- ط. الحميدان) والطبراني في "الكبير" (رقم: 11645) والبيهقي في "الدلائل" (3/190- 191) بإسناد مرسل.

والطاغوت: يطلق على كل باطل من معبود أو غيره. ومعنى الإيمان بهما: إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلاً، والمتبادر المعنى الأول؛ أي: أنهم يصدّقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما. اهـ. قال النبهاني: فقد ثبت وتحقق وظهر ظهور الشمس في رابعة النهار أن علماء المذاهب الأربعة قد اتفقوا على رد بدعة ابن تيمية، ومنهم من طعن بصحة نقله كما طعن بكمال عقله، فضلاً عن شدة تشنيعهم عليه في خطئه الفاحش في تلك المسائل التي شذ بها في الدين، وخالف بها إجماع المسلمين، ولاسيما فيما يتعلق بسيد المرسلين. الجواب عنه: أنه قد ثبت وتحقق لدى كل منصف أن علماء المذاهب الأربعة أثنوا عليه، واعترفوا بفضله، وألفوا في مناقبه كتباً مفصّلة، ومن شذّ منهم وطعن عليه أُلْقِمَ الحجر ورُدَّ عليه كلامه، وإن اعتراضه كان لجهل أو غرض أو تعصب أو نحو ذلك. وتبين أن ابن تيمية لم يبتدع شيئاً في الدين، وما اختار شيئاً إلا وأقام عليه الدلائل الصحيحة والبراهين، ومن طعن بصحة نقله فهو عدو له مبين، ولم يسلم أحد من لسان الخلق حتى رب العالمين، وسيد الأوّلين والآخرين، وغزارة عقمه من سعة عقله وكمال فضله، وما ذهب إليه من المسائل هو الحق، الحقيق بالقبول، وحديث الإجماع على خلافها كذب عند علماء المنقول والمعقول. قال الحافظ الذهبي: "ما رأيت أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة". وقال حافظ الإسلام الحبر النبيل أستاذ أئمة الجرح والتعديل شيخ المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الركن عبد الرحمن المزّي الشافعي في ابن تيمية: "ما رأيتُ مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه"1. وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين المستوعبين أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي. وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين ابن دقيق العيد الشافعي لما اجتمع به وسمع كلامه: "كنت أظن أن الله تعالى ما بقى يخلق مثلك" وقال أيضاً: "رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد"2. وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير الشافعي: "وبالجملة كان رحمه الله تعالى من كبار العلماء، وممن يخطىء ويصيب، ولكن خطؤه بالنسبة لصوابه كنقطة في بحر لجيّ، وخطؤه أيضاً مغفور له لما صح في صحيح البخاري: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"3. قال السيد صفي الدين الحنفي في ترجمة ابن تيمية: "قد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء؛ منهم الإمام أبو عبد الله الذهبي، والحافظ ابن حجر، والحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين" إلخ انتهى. وسنفرد له إن شاء الله فصلاً مفصّلاً في ذكر مناقبه. وبهذا أيضاً تبين إلحاد النبهاني وزوره وكذبه واتباعه لهواه، وقد جادل بغير علم، وذلك كما كان عليه أهل الجاهلية. (وفي شرح المسائل) : "الجدال بغير علم كما ترى كثيراً من أهل الجهل يجادلون أهل العلم عند نهيهم عما ألفوه من البدع والضلالات، وهي خصلة جاهلية نهانا الله تعالى عن التخلق بها، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ

_ 1 انظر "الرد الوافر" (ص 213- 214) و"الشهادة الزكية" (ص 44- 45) . 2 "الرد الوافر" (ص 107) و"الشهادة الزكية" (ص 28) . 3 "الرد الوافر" (ص 198) .

فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. أخرج ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً. وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية المنادية على جهلهم وغباوتهم"2. انتهى. فَوَازِنْ بين النبهاني وبين إخوانه تجد الفريقين كما قال القائل: رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... باسم داج عوض لا نتفرق وأما قوله: ولاسيما فيما يتعلق بسيد المرسلين.. إلخ.

_ 1 سورة آل عمران: 65- 66. 2 أخرجه ابن جرير (6/484/7194) والبيهقي في "الدلائل" (5/384) وهو في "السيرة النبوية" لابن هشام (1/553) .

الرد على النبهاني فيما ادعاه من أن ابن تيمية مخل بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم

[الرد على النبهاني فيما ادّعاه من أن ابن تيمية مُخِلٌّ بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم] فإنه يدل على أن ابن تيمية مخل بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وبه صرح مراراً، حيث قال: إن ابن تيمية حيث لم يجوّز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا دعاءه ولا الالتجاء إليه ولا شد الرحل إلى زيارة قبره. فاعلم أن حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه باتباع شريعته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وحبه وتعظيمه بما ذكره الخصم؛ هو من قبيل تعظيم النصارى لعيسى، وغلوهم في الأنبياء والرسل عليهم السلام، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} 3.

_ 3 سورة النساء: 171.

والغلو في المخلوق هو أعظم أسباب عبادة الأصنام والصالحين، كما كان في قوم نوح من عبادة نسر وسواع ويغوث ويعوق ونحوهم، وكما كان من عبادة النصارى للمسيح عليه السلام، وهذا هو القول على الله بغير الحق. والمقصود؛ أن مراعاة حقوق النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكون بالمحافظة على شريعته لا بما يقول النبهاني الغبي، ومن المعلوم ما كان عليه ابن تيمية من اتباع السنن، والمحافظة على الشريعة الغراء، ومزيد الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه عقد فصلاً في كتابه (الصارم المسلول) لبذل الأموال وسفك الدماء في تعزير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره. وفصلاً آخر في فرض الله علينا تعزيره وتوقيره. وفصلاً آخر في أن قيام المدحة والتعظيم والثناء عليه صلى الله عليه وسلم قيام الدين كله. وفصلاً آخر في أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين قتله. وفصلاً آخر في أن الله تعالى أوجب لنبيه صلى الله عليه وسلم حقوقاً زائدة على القلب واللسان والجوارح، وأن سبه سب لجميع المسلمين، وطعن في دينهم. وفصلاً آخر في أن التعظيم والمحبة للرسول صلى الله عليه وسلم لازم للإيمان. وفصلاً آخر في بيان حكم الطعن في نسبه أو خلقه أو خُلقه أو أمانته أو وفائه أو صدقه. وذكر فصولاً أخرى مهمة كلها تدل على ما انطوى عليه من مزيد حبه وأدبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه قال نقلاً عن القاضي عياض: "جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به شبهة بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو البغض منه والعيب له؛ فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم الساب يقتل، ولا تستثن فصلاً من فصول هذا الباب عن هذا المقصد، ولا تمتر فيه تصريحاً كان أو تلويحاً، وكذلك من لعنه، أو تمنى مضرة له، أو دعا عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عيبه في جهة الغريزة بسخف من الكلام، وهجر ومنكر من القول وزوراً، أو عيره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه، أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهود لديه، قال: وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه، وهلم جراً. وقال ابن القاسم؛ عن مالك: من سب النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، ولم يُستتب. قال ابن

القاسم: أو شتمه أو عابه أو تنقّصه، فإنه يقتل كالزنديق، وقد فرض الله توقيره. وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلماً كان أو كافراً ولا يستتاب. وروى ابن وهب عن مالك: من قال إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم وسخ وأراد به عيبه قتل. وروى بعض المالكية إجماع العلماء على من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة. وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضية بعضهم وفصلها" انتهى ما قصدنا نقله من كتاب (الصارم المسلول) 1. وهو كتاب جليل يدل دلالة صريحة على ما كان عليه مؤلفه من المحبة بالاتباع، وبه يسقط كل ما هذى به النبهاني من الباطل والزور. قال النبهاني: ويقوي عدم اعتبار نقل ابن تيمية في بعض ما ينقله ما قاله في حقه الحافظ العراقي الكبير، وها أنا أنقله تتميماً للفائدة وتقوية للحجة، وإن لم يكن مما نحن فيه، فأقول: قد اطلعت على جزء لطيف تأليف الحافظ العراقي، شيخ الحافظ ابن حجر والإمام العيني، تكلم فيه على أكل الدجاج والحبوب والتوسعة على العيال يوم عاشوراء، رد به على الإمام ابن تيمية في منعه ذلك، ثم إنه أورد الرسالة بتمامها. جوابه: أن ما ذكرناه سابقاً بل ويأتي أيضاً من ثناء أهل العلم وأكابر المحدثين وعدهم له من أكابر الحفاظ يستوجب سقوط ما ذكره النبهاني من عدم اعتبار نقله، وهو الثقة الصدوق، شهد له بذلك أحباؤه وخصومه، ولم يخالف في ذلك أحد، حتى إن علماء الحديث قالوا: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فهو ليس بحديث، فانظر إلى هذه المنزلة العظيمة والدرجة العليا من الصدق، وما نقله عن العراقي- إن صح نقله- فهو دليل على جهله وعدم معرفته بأحكام الدين، فإن تخصيص يوم عاشوراء بشيء من الأمور الدينية والدنيوية مما لا أصل له، كما عليه

_ 1 انظر "الصارم المسلول " (3/978- 980) .

أئمة المذاهب وفقهاؤها والأحاديث التي أوردها منها ما هو موضوع، ومنها ما لا يدل على الغرض المقصود، وتفصيل الكلام فيها يخرجنا عن موضوع الكتاب1. ولقد تكثر النبهاني من ذكر خصوم الشيخ والطاعنين فيه مع أن الاعتماد على الكثرة والسواد الأعظم والاحتجاج على بطلان الشيء بقلة أهله من الجهل بمكان، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 2 فالكثرة على خلاف الحق لا تستوجب العدول عن اتباعه لمن كان له بصيرة وقلب فالحق أحق بالاتباع وإن قل أنصاره، كما قال تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 3. فأخبر الله عن أهل الحق أنهم قليلون غير أن القلة لا تضرهم، فإن من له بصيرة نظر إلى الدليل، وأخذ بما اقتضاه البرهان وإن قل العارفون به والمنقادون له، ومن أخذ بما عليه الأكثر وما ألفته العامة من غير نظر إلى دليل؛ فهو مخطىء سالك غير سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

_ 1 انظر "ردع الأنام عن محدثات عاشر المحرم الحرام" لأبي الطيب محمد عطاء الله ضيف. ط. دار ابن حزم ببيروت. 2 سورة الأنعام: 116- 117. 3 سورة ص: 24.

الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية

[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية] قال النبهاني: الكلام على بعض كتب ابن تيمية و"تلبيس إبليس" لابن الجوزي. قال: فمن كتب ابن تيمية (الجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح) وهو أربعة مجلدات متوسطة، وهو في غاية النفاسة لو خلا من التعرض لبدعه التي انفرد بها وشذّ عن المسلمين من منعه الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء

والصالحين، وكتعرضه لأكابر أولياء الله بالتكفير والتشنيع فضلاً عن التبديع، كسيدي محيي الدين بن العربي، وسيدي عمر بن الفارض وغيرهم ممن ذكر بعضهم في كتابه "الفرقان " وشنع عليهم وكفّرهم وجعلهم أولياء الشيطان، وهذا دأبه عفا الله عنه في كتبه، ولذلك قلل الله النفع بها، كما جرت عادته تعالى فيمن يتعرض لأوليائه بالسوء، إذ قد ورد في الحديث القدسي: "من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" وأي أذية أعظم من تكفيرهم وإخراجهم من دائرة الإسلام بالكلية؟! أقول: جوابه: إن كتب شيخ الإسلام جميعها من الكتب التي أنعم الله تعالى بها على الأمة، وهي على اختلاف أنواعها وفنونها ليس لها نظير في بابها، وقد ذكرها الحافظ ابن القيم في "الكافية الشافية" وحث على مطالعتها فقال: فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة ... شيخ الوجود العالم الرباني أعني أبا العباس أحمد ذاك الـ ... ـبحر المحيط بسائر الخلجان وأقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثان وكذاك منهاج له في رده ... قول الروافض شيعة الشيطان وكذاك أهل الاعتزال فإنه ... أرداهم في حفرة الجبان وكذلك التأسيس أصبح نقضه ... أعجوبة للعالم الرباني وكذاك أجوبة له مصرية ... في ست أسفار كتبن سمان وكذا جواب للنصارى فيه ما ... يشفي الصدور وإنه سفران وكذاك شرح عقيدة للأصبها ... ني شارح المحصول شرح بيان فيها النبوات التي إثباتها ... في غاية التقرير والتبيان والله ما لأولي الكلام نظيره ... أبداً وكتبهم بكل مكان وكذا حدوث العالم العلوي والـ ... ـسفلي فيه في أتم بيان وكذا قواعد الاستقامة إنها ... سفران فيما بيننا ضخمان وقرأت أكثرها عليه فزادني ... والله في علم وفي إيمان هذا ولو حدثت نفسي أنه ... قبلي يموت لكان غير الشان

وكذاك توحيد الفلاسفة الألي ... توحيدهم هو غاية الكفران سفر لطيف فيه نقض أصولهم ... بحقيقة المعقول والبرهان وكذاك تسعينية فيها له ... رد على من قال بالنفساني تسعون وجهاً بينت بطلانه ... أعني كلام النفس ذا الوجدان وكذا قواعدها الكبار فإنها ... أوفى من المائتين في الحسبان لم يتسع نظمي لها فأسوقها ... فأشرت بعض إشارة لبيان وكذا رسائله إلى البلدان والـ ... ـأطراف والأصحاب والإخوان هي في الورى مبثوثة معلومة ... تبتاع بالغالي من الأثمان وكذا فتاواه فأخبرني الذي ... أضحى عليها دائم الطوفان بلغ الذي ألفاه منها عدة الأ ... يام من شهر بلا نقصان سفر يقابل كل يوم والذي ... قد فاتني منها بلا حسبان هذا وليس يقصر التفسير عن ... عشر كبار ليس ذا نقصان وكذا المفاريد التي في كل مسأ ... لة فسفر واضح التبيان ما بين عشر أو تزيد بضعفها ... هي كالنجوم لسالك حيران وله المقامات الشهيرة في الورى ... قد قامها لله غير جبان نصر الإله ودينه وكتابه ... ورسوله بالسيف والبرهان أبدى فضائحهم وبين جهلهم ... وأرى تناقضهم بكل زمان وأصارهم والله تحت نعال أهـ ... ـل الحق بعد ملابس التيجان وأصارهم تحت الحضيض وطالما ... كانوا هم الأعلام في البلدان ومن العجائب أنه بسلاحهم ... أرداهم تحت الحضيض الداني كانت نواصينا بأيديهم فما ... منالهم إلا أسير عان فغدت نواصيهم بأيدينا فلا ... يلوننا إلا بحبل أمان وغدت ملوكهم مماليكا لأنـ ... ـصار الرسول بمنة الرحمن وأتت جنودهم التي صالوا بها ... منقادة لعساكر الإيمان يدري بهذا من له خبر بما ... قد قاله في ربه الفئتان

والفدم يوحشنا وليس هناكم ... فحضوره ومغيبه سيان وقلت في شرح هذه الأبيات: اعلم أن الناظم لم يذكر كتبه مرتبة أعني كتب كل فن على حدة لعدم مساعدة النظم على ذلك، ونحن نشرحها حسبما ذكرها فنقول: قوله: واقرأ كتاب العقل والنقل ... إلخ. هذا كتاب ألّفه في بيان أن الشريعة كافية بنصوصها، ولا حاجة بها إلى ما أحدث من القواعد الكلامية المأخوذة من الحكمة اليونانية، وأن الدليل النقلي يفيد اليقين، وهذا الكتاب متداول بين الأيدي، ونسخه كثيرة في الهند وبلاد العرب والفرس، وتوجد منه نسخة كاملة لا نقص فيها في خزانة كتب راغب باشا في دار السلطنة المحروسة. قو له: وكذاك منهاج له في رده ... إلخ.. هذا الكتاب أيضاً من كتب الشيخ المهمة، وهو أحسن كتاب ألف في الرد على الروافض، مشتمل على فنون كثيرة وعلم غزير، نسخه أيضاً كثيرة في البلاد، وكثير من خزائن الكتب الإسلامية مشتملة عليه. قوله: وكذلك التأسيس أصبح نقضه ... إلخ. إشارة إلى كتاب "نقض أساس التأسيس" وهو في الرد على "أساس التأسيس" للإمام فخر الدين الرازي اشتمل على مسائل مهمة في علم الكلام، ونسخته في خزانة كتب الملك العادل في دمشق الشام وهو في ست أسفار على ما نقل لي. وقوله: وكذاك أجوبة مصرية ... إلخ. هي أيضاً فتاوى مشتملة على مسائل مهمة في ست أسفار. وقوله: وكذا جواب للنصارى ... إلخ. يريد به (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) ولم يؤلف في الرد على

النصارى كتاب مثله وكتبت في شأنه بعض المجلات المصرية ما نصه: (الجواب الصحيح والدين الصريح) إذا أطلق الإنسان حريته، وجرّده عن عوامل التقييدات ومحض فطرته، وتأمل في جواهر الأديان ومد النظر في مجال ما حدث به كل نبي عن ربه يرى أن الحقيقة واحدة والأمنية لكل متحدة، فلباب الشرائع الإلهية واحد، ومقصد الشراعين متحد، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 1 وغير ذلك من الآيات الدالة على اتفاقهم في المقصد واتحادهم في الغرض، وقد اتفقت كلمتهم على التوحيد والنهي عن التفرق والاختلاف، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 2. ولكن أبى الإنسان الناقص بأصل فطرته القاصر عن فهم حكمة ربه البالغة إلا أن يجعل ما هو أصلاً في الاتفاق سبباً في الافتراق، وما هو أصل السعادة سبباً في الشقاء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لجمع الكلمة وتوحيد الأمة، فتغلبت قوة الشر وطبيعة النقص على هذا الخير المحض والكمال المطلق، فمزقت هذه الجامعة الإنسانية، والوحدة الدينية، فتعددت فيهم المذاهب والنحل والآراء والملل، وقامت بينهم حروب الأقلام وتلتها معارك السنان، واشتغل كل فريق بالرد والاعتراض وانتصر لكل جماعات وأفراد، وهكذا كثر القيل والقال، والمشاغبة والجدال، وذهبت الحقيقة تحت أستار المغالبة، واحتجبت بحجاب المراء والمخاصمة، وما أتى فريق لكشف تلك الشبهات بجلاء، بل بعدوا عن الحقيقة بعد الأرض من السماء، إلى أن انبرى في القرون الوسطى لنصرة الحق لذاته شيخ الإسلام وقدوة الأنام تقي الدين أحمد بن تيمية، فكتب كتابه الموسوم (بالجواب الصحيح) سلك فيه مسلك العدل والإنصاف، وأظهر الحق وأبطل الباطل، وترفع عن المجادلة والمشاغبة وتنزه عن المشاتمة والمغالبة، فما نحى أحد منحاه، ولا سلك طريقته وهداه، وكان الباعث لتأليف هذا الكتاب الذي أوضح فيه الحقيقة لأولي الألباب، كتاباً

_ 1 سورة القمر: 50. 2 سورة الشورى: 13.

ورد من مدينة قبرص ألفه بولص الراهب أسقف صيدا الأنطاكي، جمع فيه جميع الاحتجاجات لدين النصارى التي يحتج بها علماؤهم وفضلاء ملتهم، وكان ما في ذلك الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في كل زمان ومكان، وهو محصور في ستة مطالب هي دعائم الديانة المسيحية وأصول مذاهبهم الملية، وقد أجابهم على كل دعوى بما فيه لذوي البصيرة مقنع، ثم ذكر مشتملات الكتاب. ثم قال: فجاء هذا الإمام الجليل وطرح الآراء المذهبية، وترك التعصبات الدينية، وأظهر الحقيقة في ذاتها، وأبان كنهها لطالبها بما هيأتها، فأخذ أولاً في تفنيد تلك المطالب على طريقة أهل الجدل، وقلب هذه الأدلة الموهومة فجعلها منتجة ضد مطلوبها، فكانت عليه لا له، ثم استقام في الاستدلال ونهج منهج الاعتدال، وأرجع كل هذه الاختلافات إلى الاتفاق، والمخاصمات إلى الوفاق، وأبان أن أصل الأديان واحد، وأن ما يترآى من الاختلافات نشأ من حب الرياسة والشهوات حسب الأزمنة والأمكنة، وقد اطلع على هذا الكتاب بعض قسيسي المجمع العلمي المنعقد في بعض البلاد الإفرنجية، فقدروه قدره وأثنوا على مؤلفه خيراً، وقالوا لو جمع مؤلفه كتاباً آخر في محاسن دين الإسلام لدخل الناس فيه أفواجاً. وبالجملة؛ فهذا الكتاب جدير بالمطالعة والاقتناء، يحتاجه المسلم في إسلامه، والنصراني لنصرانيته، وكل معترف بدين أو كتاب.. إلخ. قوله: وكذلك شرح عقيدة للأصفهاني.. إلخ. أي: من جملة مصنفاته كتاب (شرح عقيدة الأصفهاني) وهو كتاب جليل القدر، مشتمل على مطالب مهمة، لاسيما مباحث النبوات وحدوث العالم العلوي والسفلي. قوله: وكذا قواعد الاستقامة. إلخ. وهو من أفيد كتبه، وهو مفصل يبلغ سفرين، توجد نسخه في بلاد العرب ودمشق وفي بعض بلاد الهند.

قوله: وكذاك توحيد الفلاسفة الآلي.. إلخ. يريد به الرد على الفلاسفة، وهو عدة أسفار، يقال: إن من نسخه في بعض خزائن كتب دار السلطنة، لكن الناظم يقول هو سفر لطيف إلخ. وهو أدرى به من غيره. قوله: وكذاك تسعينية. إلخ. هذا الكتاب كبير، وهو في الرد على من يقول بالكلام النفسي من تسعين وجهاً، وهو بين الأيدي. قوله: وكذا قواعده الكبار.. إلخ. هي على منهج قواعد القرافي وغيره إلا أنها أكثر فائدة، ونسخه في البلاد العربية. قوله: وكذا رسائله إلى البلدان.. إلخ. وقوله: وكذا فتاواه.. إلخ. وأما رسائله المختصرة وكتبه فلا يحيط بها الإحصاء، وفتاواه- كما قال الناظم- بلغت نحو ثلاثين سفراً. قوله: هذا وليس يقصر التفسير عن.. إلخ. هو لم يفسر القرآن مرتباً، ولكنه كتب على كثير من سوره ومواضعه المشكلة1، فله على الاستعاذة، وعلى البسملة وكلامه في الجهر بها، وكتب على قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 وكتب على قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} 3 وعلى قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} 4 وعلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 5 وعلى قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} وعلى آية الكرسي، وعلى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 6

_ 1 وقد جمع كلامه على التفسير عبد الرحمن عميرة في كتاب أسماه "التفسير الكبير" وهو مطبوع بدار الكتب العلمية ببيروت. 2 سورة الفاتحة: 5. 3 سورة البقرة: 8. 4 سورة البقرة: 17. 5 سورة البقرة: 21. 6 سورة الشورى: 11.

وعلى قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 1 إلخ. وعلى قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2 وعلى سورة المائدة، وعلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3 الآية، وعلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} 4. وعلى سورة يوسف، وعلى سورة النور، وعلى سورة القلم، وأنها أول سورة نزلت، وعلى سورة لم يكن، والكافرون، وتبت، والمعوذتين، وكتب على سورة الإخلاص وغير ذلك. قوله: وكذا المفاريد التي في كل مسألة إلخ.. منها الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية، وشرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي، وجواب ما أورده كمال الدين الشريشي، وشرح كتاب الغزنوي في أصول الدين، و"الرد على المنطق"5، وكتاب الزواجر، وقاعدة قي القضايا الوهمية، وقاعدة في قياس ما لا يتناهى، وجواب الرسالة الصفدية، وجوابه عن قول بعض الفلاسفة إن معجزات الأنبياء عليهم السلام قوى نفسانية، والرد على ابن سينا في إثبات المعاد، وشرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد في الأصول، وثبوت النبوات عقلاً ونقلاً، والمعجزات والكرامات، وقاعدة في الكليات، والرسالة القبرصية، ورسالته إلى أهل طبرستان وحلان في خلق الروح والنور، والرسالة البعلبكية، والرسالة الأزهرية القادرية البغدادية، وأجوبة القرآن والنطق، وجواب من حلف بالطلاق الثلاث، ورسالة في أن القرآن حرف وصوت، وكتاب في إثبات الصفات والعلو والاستواء، والمراكشية في صفات الكمال والضابط، جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء، جواب من قال لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه، أجوبة كون جهة

_ 1 سورة آل عمران: 18. 2 سورة النساء: 79. 3 سورة المائدة: 6. 4 سورة الأعراف: 172. 5 وأقوم على تحقيقه عن نسخة خطية- يسّر الله إتمامه.

السموات كرية، رسالة في سبب قصد القلوب العلو، جواب كون الشيء في جهة العلو مع كونه ليس بجوهر ولا عرض هل هو معقول أو مستحيل، جواب هل الاستواء والنزول حقيقة، وهل لازم المذهب مذهب، مسألة أهل الأربيلية، شرح حديث النزول، واختلافه باختلاف وقته، وباختلاف البلدان والمطالع، بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث، قاعدة في قرب الرب من عابديه، الكلام على نقض المرشد، المسائل الإسكندرانية، في الرد على الحلولية والاتحادية، رسالة فيما تضمنه فصوص الحكم، جواب في لقاء الله عز وجل، جواب في رؤيا النساء ربهن في الجنة، الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية الهلاوونية، جواب سؤال ورد على لسان ملك التتار، قواعد في الرد على القدرية والجبرية، جواب في خلق الله الخلق وإنشاء الأيام لعلة أم لا، شرح حديث فحج آدم موسى، تنبيه الرجل العاقل على تمويه المجادل، تناسي الشدائد في اختلاف العقائد، كتاب الإيمان، شرح حديث جبريل في الإيمان والإسلام، رسالة في عصمة الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه عن ربهم، مسألة في العقل والروح، مسألة في المقربين هل يسألهم منكر ونكير أم لا، مسألة هل يعذب الجسد مع الروح في القبر أم لا، الرد على أهل الكسروان وهم من الروافض، فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على غيرهما، رسالة في معاوية بن أبي سفيان، تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس، رسالة مختصرة في كفر النصيرية، رسالة في جواز قتال الرافضة، الرد على تقي الدين السبكي في مسألة بقاء الجنة والنار وفي فنائهما، هذه كلها في أصول الدين. ومن مؤلفاته في أصول الفقه: قاعدة غالبها أقوال الفقهاء، قاعدة كل حمد وذم من الأقوال والأفعال لا يكون إلا بالكتاب والسنة، رسالة في شمول النصوص للأحكام، قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام، جواب في الإجماع والخبر المتواتر، قاعدة في كيفية الاستدلال على الأحكام بالنص والإجماع، والرد على من قال إن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين، قاعدة فيما نص من تعارض النص والإجماع، مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع، قاعدة في تقرير القياس، قاعدة في

الاجتهاد والتقليد في الأحكام، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، قاعدة في الاستحسان وفي وصف العموم والإلحاق والإطلاق، قاعدة في أن المخطىء في الاجتهاد لا يأثم، رسالة في أنه هل القاضي يجب عليه تقليد مذهب معين، جواب في ترك التقليد، رسالة فيمن يقول مذهبي مذهب النبي صلى الله عليه وسلم وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة، جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثاً صحيحاً هل يعمل به أم لا، جواب تقليد الحنفي الشافعي في المطر والوتر، رسالة في الفتح على الإمام في الصلاة، تفضيل قواعد مالك وأهل المدينة، تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم، قاعدة في تفضيل الإمام أحمد، جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبياً، جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً بشرع من قبله، قواعد أن النهي يقتضي المضادة. ومن مؤلفاته في الفقه: شرح المحرر في مذهب الإمام أحمد، شرح العمدة لموفق الدين، جواب مسائل وردت من أصبهان، جواب مسائل وردت من الصلت، جواب مسائل وردت من بغداد، جواب مسائل وردت من الزرع، جواب مسائل وردت من طرابلس، قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها، جواب أربعين مسألة وردت من الوجنة، الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية، المردانية الطرابلسية، قاعدة في حديث القلتين وعدم رفعه، قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح، جواز الاستجمار مع وجود الماء، نواقض الوضوء، قواعد في عدم نقضه بلمس النساء، رسالة في أن التسمية على الوضوء خطأ، القول بجواز المسح على الخفين، جواز المسح على الخفين المخترقين والجوربين والفائف، وفيمن لا يعطى أجرة الحمام، تحريم دخول النساء بلا مئزر في الحمام والاغتسال وذم الوسواس، جواز طواف الحائض، تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر، كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها في الأذكار، كراهية تقديم بسط السجادة للمصلي قبل مجيئه، الكلم الطيب في الركعتين اللتين تصلى قبل الجمعة وفي الصلاة بعد أذان الجمعة، القنوت في الصبح والوتر، تارك المثاني وكفره، الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر، أهل البدع هل يصلى

خلفهم، صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض، الصلوات المبتدعة، تحريم السماع، تحريم الشبابة، تحريم اللعب بالشطرنج، تحريم الحشيشة المغيبة والحد عليها وتنجيسها، النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يفعل في عاشوراء، قاعدة في مقدار الكفارة باليمين وفي أن المطلقة ثلاثاً لا تحل إلا بنكاح زوج ثان، بيان الحلال والحرام في الطلاق، جواب من حلف لا يفعل شيئاً على المذاهب الأربعة ثم طلق ثلاثاً في الحيض، الفرق المبين بين الطلاق واليمين، لمعة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، كتاب التحقيق في الفرق بين أهل الإيمان والتطليق، الطلاق البدعي لا يقع، مسائل الفرق بين الطلاق البدعي ونحو ذلك، مناسك الحج في حجة النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة المكية، في شراء السلاح بتبوك، وشرب السويق بالعقبة، وأكل التمر بالروضة، وما يلبس المحرم، وزيارة الخليل عليه السلام عقب الحج، وزيارة البيت المقدس مطلقاً، جميع أيمان المسلمين مكفرة، بيان الدليل على إبطال التحليل، الرسالة التدمرية، جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال الغيب والأبدال. من كتبه في أنواع شتى: الكلام على الفتوى المصطلحة، وليس لها أصل متصل بعلي رضي الله عنه، كشف حال الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية، ما يقوله أهل بيت الشيخ عدي، النجوم هل لها تأثير عند القرآن والمقابلة وهل يقبل قول المنجمين فيه رؤية الأهلة، تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصرع الصحيح وصفة الخواتيم، أبطال الكيميا ولو صحت، كتاب السياسة الشرعية، كتاب التصوف، كتاب الاستقامة، كتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، كتاب المحنة المصرية، كتاب الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، الرد على الأخنائي في مسألة الزيارة، طهارة بول ما يؤكل لحمه، الصارم المسلول على منتقص الرسول، كتاب اقتضاء الصراط المستقيم، جواب أهل الإيمان في التفاضل بين آيات القرآن، الرد على البكري في مسألة الاستغاثة، التحرير في مسألة حفير، سفر في مسألة القسمة كتبها اعتراضاً على النحوي في

حادثة حكم فيها، الفرقان بين الحق والبطلان، كتاب الوسيلة، التحفة العراقية في الأعمال القلبية، وله غير ذلك مما يطول ذكره، وجميعها مفصلة ما بين سفر وسفرين وأكثر، مع سلاسة عبارة وذكر دليل ودفع إيراد وكل منها فريد في بابه حري بالتقريظ، ولو تكلمنا على كل واحد منها بما يليق به من الثناء والمدح لاستوجب ذلك إفراد مؤلف منفصل. وأما انتقاد النبهاني (كتاب الجواب الصحيح) أن الكتاب في غاية النفاسة لو خلا من التعرض لبدعه التي انفرد بها عن المسلمين.. إلخ. فجوابه: أن ما انتقده هو من محاسن الكتاب وأجل فصوله، فإن الاستغاثة بالمخلوق والاستعانة به والالتجاء به هو الذي كان من غلو أهل الكتاب، وهو مذهب النصارى، فإن عبادة المسيح وأمه عبارة عن ذلك، فلو لم يبطل هذا القول لما ساغ له الرد عليهم، وكذلك الرد على القائلين بالحلول والاتحاد، فإنه لو لم يرد عليهم ويبطل دعواهم ويخرجهم عن الملة لما ساغ له إبطال قول النصارى في دعواهم حلول الإله في المسيح أو الاتحاد به أو نحو ذلك، فإن لقائل أن يقول حينئذ: إن من المسلمين من يقول بأشنع من هذا القول، وهو دعوى الحلول والاتحاد التي أبطلها الشيخ وغيره من العلماء الربانيين المتبعين لما جاء به الشرع المبين، ولعلنا نبسط الكلام على ذلك فيما يناسب المقام، ونذكر كلام من رد عليهم وأبطل دعواهم، ونفصل القول فيهم تفصيلاً، هذا الذي نقمه النبهاني الزائغ وانتقد به كلام الشيخ من أوضح ما يدل على زيغه واتباعه لهواه: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 1 ومثل ما حكى الله عن إخوانه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.

_ 1 سورة البروج: 8. 2 سورة البقرة: 19- 25.

وما أحسن ما قال القائل: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا وقال آخر: تعد ذنوبي عند قومي كثيرة ... ولا ذنب لي إلا العلا والفواضل ولم يعرف النبهاني وأضرابه من الغلاة قدر كتب شيخ الإسلام، وتمنى عدم وجودها وفقدها من العالم، لأنها تبطل ما ذهب إليه من الأقوال الفاسدة، وتهدم بنيان أشياخه، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1. وأهل الحق وذوو البصائر إذا ظفروا بكتاب من كتبه تراهم كأنهم ظفروا بكنز من كنوز العلم، وقد رأيت كتاباً كتب على ظهر ترجمة شيخ الإسلام وبيان مناقبه، وهي: (الدرر البهية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية) للحافظ الشيخ شمس الدين بن عبد الهادي المقدسي. وذلك الكتاب أرسله بعض أفاضل العراق المعاصرين لشيخ الإسلام، وكان من أكابر الشافعية، وهو العلامة الشيخ عبد الله بن حامد وكتابه هذا: "بسم الله الرحمن الرحيم. من أصغر العباد عبد الله بن حامد، إلى الشيخ الإمام العالم العامل، قدوة الأفاضل والمحافل، المحامي عن دين الله، والذاب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعتصم بحبل الله، الشيخ المكرم المبجل أبي عبد الله أسبغ عليه نعمه، وأيد بإصابة الصواب لسانه وقلمه، وجمع له بين السعادتين، ورفع درجته في الدارين بمنه ورحمته، السلام عليكم ورحمة الله وبركا ته. أما بعد؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ثم وافاني كتابك وأنا إليك بالأشواق، ولم أزل سائلاً ومستخبراً الصادر والوارد عن الأنباء التي طاب

_ 1 سورة البقرة: 120.

مسموعها، وسر ما يسر منها، وما تأخر كتابي عنك هذه المدة مللاً ولا خللاً بالمودة، ولا تهاوناً بحقوق الإخاء، حاش لله أن يشوب الإخوة في الله جفاء، ولا أزال أتعلل بعد وفاة الشيخ الإمام إمام الدنيا رضي الله تعالى عنه بالاسترواح إلى أخبار تلامذته وإخوانه، وأقاربه وعشيرته، والخصيصين به، لما في نفسي من المحبة الضرورية التي لا يدفعها شيء، على الخصوص لما اطلعت على مباحثه واستدلالاته التي تزلزل أركان المبطلين، ولا يثبت في ميدانها سفسطة المتفلسفين، ولا يقف في حلباتها أقدام المبتدعين من المتكلمين. وكنت قبل وقوفي على مباحث إمام الدنيا رحمه الله قد طالعت مصنفات المتقدمين ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الإسلام، فرأيت فيها الزخارف والأباطيل، والشكوك التي يأنف المسلم الضعيف في الإسلام أن تخطر بباله فضلاً عن القوي في الدين، فكان يتعب قلبي ويحزنني ما يصير إليه الأعاظم من المقالات السخيفة، والآراء الضعيفة، التي لا يعتقد جوازها آحاد الأمة، وكنت أفتش على السنة المحضة في مصنفات المتكلمين من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله على الخصوص، لاشتهارهم بمنصوصات إمامهم في أصول العقائد، فلا أجد عندهم ما يكفي، وكنت أراهم يتناقضون إذ يؤصلون أصولاً يلزم فيها ضد ما يعتقدونه، ويعتقدون خلاف مقتضى أدلتهم، فإذا جمعت بين أقاويل المعتزلة والأشعرية وحنابلة بغداد وكرامية خراسان أرى أن إجماع هؤلاء المتكلمين في المسألة الواحدة على ما يخالف الدليل العقلي والنقلي، فيسوؤني ذلك وأظل أحزن حزناً لا يعلم كنهه إلا الله، حتى قاسيت من مكابدتي هذه الأمور شيئاً عظيماً لا أستطيع شرح أيسره، وكنت ألتجىء إلى الله سبحانه وتعالى وأتضرع إليه وأهرب إلى ظواهر النصوص، وألقي المعقولات المتباينة والتأويلات المصنوعة لنبوة الفطرة عن قبولها، ثم قد تشبثت فطرتي بالحق الصريح في أمهات المسائل غير متجاسرة على التصريح بالمجاهرة قولاً وتصحيحاً للعقد، حيث لا أراه مأثوراً عن الأئمة وقدماء السلف، إلى أن قدر الله سبحانه وقوع تصنيف الشيخ الإمام إمام الدنيا في يدي قبيل واقعته الأخيرة بقليل، فوجدت فيه ما بهرني في موافقة

فطرتي، لما فيه من عزو الحق إلى أئمة السنة وسلف الأمة مع مطابقة المعقول والمنقول، فبهت لذلك سروراً بالحق، وفرحاً بوجود الضالة التي ليس لفقدها عوض، فصارت محبة هذا الرجل رحمه الله محبة ضرورية تقصر عن شرح أقلها العبارة ولو أطنبت. ولما عزمت على المهاجرة إلى لقيه وصلني خبر اعتقاله، وأصابني لذلك المقيم المقعد، ولما حججت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة صممت العزم على السفر إلى دمشق لأتوصل إلى ملاقاته ببذل ما أمكن من النفس والمال للتفريج عنه، فوافاني خبر وفاته رحمه الله تعالى مع الرجوع إلى العراق قبيل وصولي إلى الكوفة، فوجدت عليه ما لا يجده الأخ على شقيقه، واستغفر الله بل ولا الوالد الثاكل على ولده، وما دخل على قلبي من الحزن لموت أحد من الولد والأقارب والإخوان كما وجدته عليه رحمه الله تعالى، ولا تخيلته قط في نفسي ولا تمثلته في قلبي إلا ويتجدد لي حزن جديد كأنه محدث، ووالله ما كتبتها إلا وأدمعي تتساقط عند ذكره أسفاً على فراقه وعدم ملاقاته، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وما شرحت هذه النبذة من محبة الشيخ رحمه الله تعالى إلا ليتحقق بعدي عن تلك الوهوم، لكن لما سبق الوعد الكريم منكم بإنفاذ فهرس مصنفات الشيخ رضي الله تعالى عنه وتأخر ذلك عني: اعتقدت أن الإضراب عن ذلك نوع تقية، أو لعذر لا يسعني السؤال عنه، فسكت عن الطلب خشية أن يلحق أحداً ضرر والعياذ بالله بسببي لما كان قد اشتهر من تلك الأحوال، فإن أنعمتم بشيء من مصنفات الشيخ رحمه الله تعالى كانت لكم الحسنة عند الله علينا بذلك، فما أشبه كلام هذا الرجل بالتبر الخالص المصفى، وقد يقع في كلام غيره من الغش والشبه المدلس بالتبر ما لا يخفى على طالب الحق بحرص وعدم هوى، ولا أزال أتعجب من المنتسبين إلى حب الإنصاف في البحث المبرزين على أهل التقليد أن المعقولات التي يزعمون أن مستندهم الأعظم الصريح منها كيف يباينون ما أوضحه الحق وكشف عن قناعه.

وقد كان الواجب على الطلبة شد الرحال إليه من الآفاق ليروا العجب، وما أشبه حال المباينين له- من المنتسبين للعلم الطالبين للحق الصريح الذي أعياهم وجد أنه- بحال قوم ذبحهم العطش والظمأ في بعض المفازاة، فحين أشرفوا على التلف لمع لهم شط كالفرات أو دجلة أو كالنيل، فعند معاينتهم لذلك اعتقدوه سراباً لا شراباً، فتولوا عنه مدبرين، فتقطعت أعناقهم عطشاً وظمأ، فالحكم لله العلي الكبير. وما أرسلنا المقابلة من الطرفين ففيه تعسف وتمهدون العذر في الإطناب فهذا الذي ذكرته من حالي مع الشيخ كالقطرة من البحر، وإن أنعمتم بالسلام على أصحاب الشيخ وأقاربه كبيرهم وصغيرهم كان ذلك مضافاً إلى سابق إنعامكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأنتم في أمان الله تعالى ورعايته، والحمد لله وحده- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، عبد الله بن حامد". وأما قول النبهاني: وهذا دأبه في كتبه، ولذلك قلل الله النفع بها، كما جرت عادته فيمن يتعرض لأوليائه بالسوء.. إلخ. فجوابه: أن من الواجب على العالم أن يظهر علمه وإلا ألجمه الله بلجام من نار، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 1. قال الإمام الشافعي: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم. وبيان ذلك: أن المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله. إحداها: معرفة الحق. الثانية: عمله به. الثالثة: تعليمه من لا يحسنه.

_ 1 سورة العصر:1- 3.

الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا؛ وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة، وعملوا الصالحات؛ وهم الذين عملوا بما علموه من الحق، فهذه مرتبة أخرى. وتواصوا بالحق؛ وصى به بعضهم بعضاً تعليماً وإرشاداً، فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر؛ صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضاً بالصبر عليه والثبات، فهذه مرتبة رابعة. وهذا نهاية الكمال، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل، فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره، والحمد لله الذي جعل كتابه كافياً عن كل ما سواه، شافياً من كل داء، هادياً إلى كل خير" اهـ. فعُلِمَ أنه يجب على العالم أن يصدع بالحق وأن كثر المخالفون له، وقد رأى من الحق التنبيه على الفرق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، وقد أطنب الكلام في ذلك. ومما قال: "وقد ظن طائفة غالطة؛ أن خاتم الأولياء يكون أفضل الأولياء قياساً على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن حكيم الترمذي صنف فيه مصنفاً غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدّعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زعم ذلك ابن العربي صاحب كتاب (الفتوحات) في كتاب (الفصوص) فخالفوا الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله وأولياء الله- كما يقال لمن قال: "فخر عليهم السقف من تحتهم" لا عقل ولا قرآن- وذلك لأن الأنبياء أسبق في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف يكون الأنبياء كلهم والأولياء يستفيدون معرفة الله ممن

يأتي بعدهم ويدّعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء ثبت بالنصوص الدالة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"1. وقوله: "آتي باب الجنة فاستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك"2. وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم، فكان أحقهم بقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 3. إلى غير ذلك من الدلائل. والأنبياء كلهم يأتيه الوحي من الله لاسيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجاً إلى غيره، فلم تحتج شريعته لا إلى نبي سابق ولا إلى لاحق، بخلاف غيره، فإن المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وشريعة التوراة جاء المسيح بتكميلها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوة المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور، وتمام الأربع والعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى المحدثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه لا إلى نبي ولا إلى محدث، جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضله الله به من الله- بما أنزل الله وأرسله إليه- لا بتوسط بشر، وهذا بخلاف الأولياء فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكل ما حصل له من الهدي ودين الحق بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بلغته رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسله إليه، ومن ادّعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهو كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم في علم الظاهر دون الباطن، أو في الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو أشر

_ 1 أخرجه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة وابن ماجه (4308) من حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ له. 2 أخرجه مسلم (333) . 3 سورة البقرة: 253.

من اليهود والنصارى الذين قالوا إن محمداً رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض ما جاء به وكفروا ببعض، فكانوا كفاراً بذلك، وكذلك هذا الذي يقول إن محمداً بعث بعلم الظاهر دون الباطن، آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض، وهذا كافر أكفر من أولئك، لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة، فإذا ادعى المدعي أن محمداً إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان وأنه لا يأخذ الحقائق من الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول أو من ببعض وأكفر ببعض ولا يدّعي أن هذا البعض الذي آمن به أولى القسمين، وهؤلاء الملاحدة قد يدّعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويلبسون على الناس، ويقولون: إن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من نبوته وينشدون: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم لم يماثله فيها أحد، لا إبراهيم، ولا موسى، فضلاً عن أن يماثله فيها هؤلاء الملاحدة، وكل رسول نبي وكل نبي ولي، فالرسول نبي وولي، ورسالته متضمنة للنبوة، ونبوته متضمنة لولايته، فكيف تكون ولايته المتضمنة في نبوته أفضل من نبوته، لداخلة في ولايته؟ وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنباء الله إياه يمتنع أن لا يكون ولياً لله، فلا تكون نبوة مجردة عن ولاية، ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلاً للرسول في ولايته لله، وهؤلاء قد يقولون- كما يقول صاحب الفصوص ابن عربي- إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول، وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة ملاحدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب الكشف وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة شبيهة بهما- كما يقول أرسطو وأتباعه- أولها موجب بذاته- كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله- ولا يقولون إن الرب خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة

أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات، بل إما أن ينكروا علمه مطلقاً- كقول أرسطو- أو يقولون إنما يعلم من الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا. وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معنى جزئي، والأفلاك كل منها معنى جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا في الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان، والكلام على هؤلاء قد بسط في موضع آخر في بحث "تعارض العقل والنقل" وغيره، فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، إذ جميع هؤلاء يقولون إن الله خلق السموات والأرض، وأنه يخلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من متفلسفة اليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة ولا الأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك، وإنما غالب علم القوم الأمور الطبيعية، وأما الأمور الإلهية فكلامهم فيها قليل كثير الخطأ. واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا شيئاً من بعض أصول الجهمية والمعتزلة وركبوا منه ومن قول أولئك مذهباً قد يعتزي إليه متفلسفة أهل الملل، وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبه على بعضه في غير هذا الموضع. وهؤلاء لما رأوا أن أمر الرسل- كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم-. قد ظهر للعالم واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن؛ أرادوا أن يجمعوا بين ذلك وبين قول أسلافهم اليونان، الذين هم من أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله، وأولئك قد أثبتوا عقولاً عشرة يسمونها المجردات والمفارقات، وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن، فسموا تلك مفارقة لمفارقتها المادة ومجرد لتجردها عنها، وأثبتوا للأفلاك لكل فلك نفساً، وأكثرهم جعلها أعراضاً، وبعضهم جعلها

جواهر، وهذه المجردات التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان لا في الأعيان، كما أثبت أصحاب أرسطو أعداداً مجردة، وكما أثبت أفلاطون المثل الأفلاطونية المجردة، وأثبتوا هيولى1 مجردة عن الصورة مدة وخلاء مجردين، وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان. فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبتوا أمر النبوة على أصولهم الفاسدة زعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي: أن يكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها العلم بلا تعلم. وأن يكون له قوة تخيلية تخيل ما يعقله في نفسه بحيث يرى في نفسه صوراً ويسمع في نفسه صوتاً كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله. وأن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم، وجعلوا كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء وخوارق السحرة من قول النفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم دون قلب العصا حية ودون انشقاق القمر ونحو ذلك فإنهم ينكرون وجود هذا. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع، وبينا أن كلامهم هذا من أفسد كلام، وأن هذا الذي جعلوه من خصائص النبي يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأقل أتباع الأنبياء، وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله، وهم كثيرون، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، وليسوا عشرة، وليسوا أعراضاً، لاسيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول عنه صدر كل ما سواه، فهو عندهم رب كل ما سوى الله. وكذلك كل عقل رب كل ما دونه، والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت

_ 1 قال شيخ الإسلام في "تفسير سورة الإخلاص" (ص 88) : "الهيولي في لغتهم بمعنى المحل، يقال: الفضلة هيولى الخاتم والدرهم، والخشب هيولى الكرسي، أي: هذا المحل الذي تصنع فيه هذه الصورة، وهذه الصورة الصناعية عرض من الأعراض".

فلك القمر، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل فليس أحد من الملائكة مبدعاً لكل ما سوى الله، وهؤلاء يزعمون أن العقل الأول هو العقل المذكور في حديث يروى: "إن أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر. فقال: وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب وعليك العقاب" 1 ويسمونه أيضاً القلم لما رأوا أنه قد رُوِيَ: "إن أول ما خلق الله القلم"2. والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أولي المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم والبيهقي، وأبو الحسن الدارقطني، وابن الجوزي وغيرهم، وليس هو في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها، ومع هذا فلفظه لو كان ثابتاً لكان حجة عليهم، فإن لفظه "أول ما خلق الله العقل قال له" ويروى "لما خلق الله العقل قال له". وفي الحديث أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ليس معناه أنه أول المخلوقات، وأول منصوب على الظرف كما قي اللفظ الآخر لما، وتمام الحديث: "ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك". فهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره، ثم قال: "فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وعليك العذاب" فذكر أربعة أنواع من الأعراض، وعندهم أن جميع جواهر العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل فأين هذا من هذا؟! وسبب غلطهم: أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونانيين، فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً كما في القرآن: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 3 وقوله تعالى: {إِنَّ فِي

_ 1 حديث موضوع. أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 272/ 366) والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 175/ تحت ترجمة رقم: 1169) والبيهقي في "شعب الإيمان" (4/ 157/4645) وغيرهم. وانظر: "الفوائد المجموعة" (ص 477) . 2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/317) وأبو داود (3375) والترمذي (2244، 3375) وغيرهم، وهو في "الصحيحة" رقم (133) . 3 سورة الملك: 10.

ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 ويراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله للإنسان يعقل بها، وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقاً للغة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام، وأما العقول والنفوس فيسميها عالم الأمر، وقد يسمى العقل عالم الجبروت، والنفوس عالم الملكوت، والأجسام عالم الملك، ويظن من لا يعرف لغة الرسول ومعاني الكتاب والسنة أن في القرآن والسنة من ذلك الملك والملكوت والجبروت ما يوافق هذا وليس الأمر كذلك. وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيساً كثيراً، كإطلاقهم أن الفلك محدث أي: معلول مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقاً بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثاً، والله سبحانه قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك، كما بسط في غير هذا الموضع. وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبرائيل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الصوفية الذين شاركوا هؤلاء المتفلسفة وزعوا أنهم أولياء الله، وأن الولي أفضل من النبي، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة، كابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص، فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، والمعدن عنده هو العقل،

_ 1 سورة الرعد: 4. 2 سورة الحج: 46.

والملك هو الخيال، والخيال تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن العقل الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي، ولو كان خاصة النبي ما ذكروه لم يكن هو من جنسه فضلاً عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين، والنبوة أمر وراء ذلك؟ فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من الصوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل الكلام فضلاً عن أن يكونوا من مشائخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن الأدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثاله. والله سبحانه قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 1 {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} إلى قوله: {وَيَرْضَى} 2. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3. وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} 4. وقد أخبر أن الملائكة جاءت إبراهيم في صورة البشر، وأن الملك تمثل لمريم بشراً سوياً، وكان جبرائيل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وفي صورة الأعرابي، فرآهم الناس كذلك. وقد وصف جبرإئيل بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رآه بالأفق المبين،

_ 1 سورة الأنبياء: 26- 29. 2 سورة النجم: 26. 3 سورة سبأ: 22- 23. 4 سورة الأنبياء: 19- 20.

ووصف بأنه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 1. وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ير جبرائيل في الصورة التي خلق عليها إلا مرتين2، يعني مرة في الأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى، ووصف جبرائيل في مواضع أخر بأنه الروح الأمين، ووصفه بأنه روح القدس، إلى غير ذلك من الصفات التي تبين منها أنه من أعظم مخلوقات الله الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه، ليس خيالاً في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة المدعون ولاية الله وأنهم أعلم من الأنبياء، وغاية تحقيق هؤلاء إنكار أصول الإيمان، فإن أصول الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق، هو وجود الخالق، وقالوا الوجود واحد، ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود كما يشترك الناس في مسمى الإنسان والحيوانات في مسمى الحيوان، ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركاً كلياً إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالنفوس، ووجود السموات ليس بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله مباين لوجود مخلوقاته، وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع، فإنه لم ينكر هذا الوجود المشهود لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك ولكن زعموا أنه هو الله، فكانوا أضل منه، وإن كان هو أظهر فساداً منهم، ولهذا جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، وقالوا: لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف قال أنا ربكم الأعلى وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا ربكم الأعلى بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، قالوا ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قال أقروا له بذلك وقالوا. له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ

_ 1 سورة النجم: 5- 18. 2 انظر البخاري (4574) ومسلم (287) .

إِِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1 قالوا: فصح قول فرعون (أنا ربكم الأعلى) وإن كان فرعون على عين الحق. ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله وباليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم، وليس هذا موضع بسط بيان إلحاد هؤلاء، ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس دعوى لولاية الله وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان فنبهنا على ذلك، ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الخيالات الشيطانية، ويقولون ما يقول صاحب الفتوحات بأن أرض الحقيقة هي أرض الخيال، فيعترف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، والخيال محل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} 2. إلى قوله: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} () . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} إلى قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} 3. وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} 4. وقال تعالى: {) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 5. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن في الحديث الصحيح أنه رأى جبرائيل ينزع

_ 1 سورة طه: 72. 2 سورة الزخرف: 36- 38. 3 سورة النساء: 116- 120. 4 سورة إبراهيم: 22. 5 سورة الأنفال: 48.

الملائكة1. والشياطين إذا رأت ملائكته التي يؤيد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} إلى قوله: {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 3. وقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 4. وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} 5. وقال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 6. وهؤلاء تأتيهم أرواح فتخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظن أنها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام، وكان من أول من ظهر من هؤلاء في الإسلام المختار بن عبيد الثقفي، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير"7. فكان الكذاب: المختار بن عبيد الثقفي، وكان المبير: الحجاج بن يوسف. فقيل لابن عمر: أن المختار يزعم أنه ينزل عليه، فقال: صدق، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 8. وقال

_ 1 انظر "الموطأ" (1/422) - كتاب الحج، باب جامع الحج. 2 سورة الأنفال: 12. 3 سورة الأحزاب: 9 4 سورة التوبة: 26. 5 سورة التوبة: 40. 6 سورة آل عمران: 124- 126. 7 أخرجه مسلم (2545) . 8 سورة الشعراء: 221- 222.

الآخر: وقيل له إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} 1. ومن هذه الأرواح الشيطانية الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه ألقي إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعاً من الخلوات بطعام معين وحال معين، وهذه مما تفتح لصاحبها الاتصال بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأولياء وإنما هو من الأحوال الشيطانية، وأعرف من هؤلاء عدداً منهم من كان يحمل إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسترقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السراق يجعل له من الناس أو بعطيتهم له إذا دلهم على سرقاتهم ونحو ذلك. ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله عليهم كما يوجد من صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك أنه يمدح الكفار، مثل قوم نوح، وهود، وفرعون وغيرهم، ويتنقص بالأنبياء: بنوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون وغيرهم، ويذم شيوخ المسلمين: كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهما، ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في التجليات الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس الله سره كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث أي الخالق والمخلوق. وصاحب الفصوص أنكر هذا، وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له: يا جنيد! هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما؟ فخطأ الجنيد في قوله إفراد المحدث عن القديم، لألن قوله إن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في (فصوصه) : ومن أسمائه الحسنى العلي على من، وما ثم إلا هو وعماذا وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو. إلى أن قال: فهو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر،

_ 1 سورة الأنعام: 121.

وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات. فيقال لهذا الملحد: ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثاً غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وبين غيره، وليس هو ثالثاً، فالعبد يحرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، واستشهدنا بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطناً وظاهراً، وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم وهو أحذقهم في إلحادهم لما قرىء عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف قولكم. فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له: إذا كان الوجود واحداً فلم كانت الزوجة حلالاً والأخت حراماً؟ قال: الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم، وهذا مع كفره العظيم تناقض ظاهر، فإن الوجود إذا كان واحد فمن المحجوب ومن الحاجب؟! ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده: من قال لك إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده فمن هو الذي يكذب؟ وقالوا لآخر: هذه مظاهر، فقال لهم: المظاهر غير الظاهر أم هي هو؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالتثنية، وإن كانت هي إياها فلا فرق. وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر، وبينا حقيقة كل واحد منهم، وأن صاحب الفصوص يقول المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليه، فيفرق بين الوجود والثبوت، والمعتزلة الذين قالوا المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه، فإن أولئك قالوا إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجوداً ليس هو وجود الرب، وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليها فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه القونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق، وصنف مفتاح غيب الجمع والوجود، وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الإطلاق- وهو الكلي العقلي- لا يكون

إلا في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط شيء- وهو الكلي الطبيعي وإن قيل أنه موجود في الخارج- فلا يوجد في الخارج إلا معيناً، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج، فيلزمه أن يكون وجود الرب إما متعيناً في الخارج وإما أن يكون عين وجود المخلوقات، وهل يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه أم العدم يخلق الوجود أو يكون بعض الشيء خالقاً لجميعه، وهؤلاء يفرون من الحلول لأنه يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحداً، ويقولون إن النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله ولو عمموا لما كفروا، وكذلك يقولون في عباد الأصنام إنما أخطؤوا لما اعتقدوا بعض المظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطؤوا عندهم، وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائماً من التناقض لأنه يقال لهم فمن المخطىء؟ لكنهم يقولون إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق، ويقولون إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق، ويقولون ما قاله صاحب الفصوص فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفاً أو عقلاً أو شرعاً، أو مذمومة عرفاً أو عقلاً أو شرعاً، فليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وهم مع هذا الكفر لا يندفع عنهم التناقض، فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذلك، وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني: إنه ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل، ويقولون من أراد التحقيق- يعني تحقيقهم- فليترك العقل والشرع. وقد قلت لمن خاطبت منهم: معلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبر غيرهم، والأنبياء صلوات الله عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض العقل الصريح، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا عقليين أو سمعيين، أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فكيف بمن ادعى كشفاً يناقض

الشرع والعقل، وهؤلاء قد لا يريدون الكذب لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين، وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع كما يذكر عن ابن سبعين ونحوه، ويجعلون المراتب ثلاثة، يقولون: العبد يشهد أولاً طاعة ومعصية، ثم طاعة بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية. والشهود الأول- وهو الشهود الصحيح- هو الفرق بين الطاعات والمعاصي. وأما الثاني: فيريدون به شهود القدر كما أن بعض هؤلاء يقول أنا كافر برب يعصى، وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة، والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة، ويقول شاعرهم: أصبحت منفعلاً لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله، كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} 1. وسنذكر الإرادة الكونية والدينية، والأمر الكوني والديني وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية، فبينها الجنيد رحمه الله، فمن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل، فإنهم تكلموا أن الأمور كلها مشتركة في مشيئته وقدرته وخلقه فيجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه وأعدائه، كما قال تعالى:

_ 1 سورة النساء: 13- 14.

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 1. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 2. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 3. وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} 4. ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء وإن كانت واقعة بمشيئته، فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم. والمرتبة الثالثة: أن لا يشهد طاعة ولا معصية، فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا هو غاية التحقيق والولاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته، وغاية العداوة لله، فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 5. ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 6. وقال الخليل لقومه المشركين: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 7. وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ

_ 1 سورة القلم: 35- 36. 2 سورة ص: 28. 3 سورة الجاثية: 21. 4 سورة غافر: 58. 5 سورة المائدة: 51. 6 سورة الممتحنة: 4. 7 سورة الشعراء: 75- 77.

أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 1. وهؤلاء قد صنف بعضهم كتاباً وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة بنظم السلوك، ويقول فيها: لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة إلى أن يقول: وما زلت إياها لهاياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت إلا رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي على استدلت إلى رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي على استدلت فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ونبت إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان القائل عند الموت ينشد: إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفر تنفسي بها زمناً ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه، وهؤلاء ممن قال الله سبحانه فيهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} 2. وقد قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فجميع ما في السموات وما في الأرض يسبح الله، ثم قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللهم رب

_ 1 سورة المجادلة: 22. 2 سورة فاطر: 8. 3 سورة الحديد: 1- 3.

السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن؛ أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر"1. ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} 2. فلفظ مع لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 3 وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} 5. ولفظة (مع) جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 6. فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس، والضحاك، وسفيان الثوري، والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم: هو معهم بعلمه. وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ

_ 1 أخرجه مسلم (2713) . 2 سورة الحديد: 4. 3 سورة التوبة: 119. 4 سورة الفتح: 29. 5 سورة الأنفال: 75. 6 سورة المجادلة: 7.

مُحْسِنُونَ} 1 وقوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 2. وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 3. يعني: النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق، فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، وهو مع الذين اتقوا وكانوا محسنين دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 4. أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض، كما قال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 5. وكذلك قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 6. كما قرره أئمة العلم أنه المعبود في السموات والأرض. وأجمع سلف الأمة وأئمتها أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في شيء من صفات الكمال، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 7. قال ابن عباس: الصمد؛ العليم الذي كمل في علمه. العظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده.

_ 1 سورة النحل: 128. 2 سورة طه: 46. 3 سورة التوبة: 40. 4 سورة الزخرف: 84. 5 سورة الروم: 27. 6 سورة الأنعام: 3. 7 سورة الإخلاص: 1- 4.

وقال ابن مسعود وغيره: الصمد الذي لا جوف له، والأحد الذي لا نظير له، فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه، واسمه الأحد يتضمن أنه لا مثل له، وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وكونها تعدل ثلث القرآن"1 انتهى المقصود نقله من كلام شيخ الإسلام قدس الله وهذه نبذة مما يتعلق بأهل الحلول والاتحاد. وللشيخ علي القاري، والسعد التفتازاني، والشيخ محمد البخاري، والشيخ عبد الباري، والعلامة عضد الملة والدين، كتب مفردة في الكلام عليهم وردهم، ولعلنا إن شاء الله تعالى نفرد في ذلك كتاباً نذكر فيه جميع ما قاله العلماء الربانيون فيهم، ونذكر بدع أهل الطرائق المبتدعة وما عندهم من المخالفات للشريعة. والمقصود مما نقلناه كله؛ أن قول النبهاني عن أهل الحلول والاتحاد أنهم أولياء الله كلام دل علي جهله واتباعه لهواه وغيه، وقد ذكر الشيخ على القاري في الرد على الفصوص من المنكرات والأوهام والغلطات ما تقشعر منها الجلود، وقال في آخر كتابه: "وما سبق من المنكرات في كلام ابن عربي لا سبيل إلى صحة تأويلها، فلا يستقيم اعتقاد أنه من أولياء الله مع اعتقاد صدور هذه الكلمات منه إلا باعتقاد أنها لم تصدر عنه، أو أنه رجع إلى ما يعتقده أهل الإسلام في ذلك، ولم يجىء بذلك عنه خبر ولا روي عنه أثر، فذمه جماعة من أعيان العلماء وأكابر الأولياء لأجل كلامه المنكر". وأما قول النبهاني عن كتب ابن تيمية: أنه بسبب كلامه على القائلين بالحلول والاتحاد وغير ذلك مما يدل على البطلان والفساد قلل الله النفع بها إلخ. فجوابه: أن الله تعالى لم يقلل الانتفاع بها، بل لم يزل الناس يلتقطون منها درر الفوائد، ويصححون بها أعمالهم والعقائد، وهي كما قال الحافظ ابن القيم تشترى بالغالي من الأثمان في كل عصر وزمان، فأي عالم من العلماء انتفع الناس

_ 1 "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " (ص 190- 249) .

بكتبه كما انتفعوا بكتب شيخ الإسلام، وذلك من المعلوم بين الخاص والعام، ولكن الأمر كما قيل: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم وكتب المتأخرين من الحنابلة وغيرهم مشحونة بالنقل عن كتبه، والمنقولات عنها زينة للكتب وغرة محاسنها، وقد أودع الله تعالى فيها خاصية التأثير في القلوب فلا تجد أحداً يطالع فيها إلا وفتح الله عليه أبواب العلوم، وأفاض عليه من زلال عذب منطوقها والمفهوم، إلا من قسى قلبه وكشف حجابه، كما قال تعالى عن كتابه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1. قال النبهاني: "ومن كتبه (منهاج السنة) في الرد على الروافض وكتاب (العقل والنقل) في الرد على المتكلمين من أهل السنة، كالأشعري والماتريدي وأصحابهما، وهم معظم الأمة المحمدية. قال: و"منهاج السنة" وإن كان مؤلفاً في الرد على الروافض إلا أنه حشاه بالرد على أهل السنة، والرد على ساداتنا الصوفية ومن يعتقد فيهم، كقوله في جواب قول الرافضي: يجب في كل زمان إمام معصوم- بعد أن بين فساده- وهل هذا إلا أفسد عما يدعيه كثير من العامة في القطب والغوث ونحو ذلك من أسماء يعظمون مسماها بما هو أعظم من مرتبة النبوة من غير تعيين لشخص معين يمكن أن ينتفع به الانتفاع المذكور في مسمى هذه الأسماء، وكما يدّعي كثير منهم حياة الخضر مع أنهم لم يستفيدوا بهذه الدعوى منفعة لا في دينهم ولا في دنياهم، وإنما غاية من يدّعي ذلك أنه يدعي جريان بعض ما يقدر الله على يدي مثل هؤلاء، وهذا مع أنهم لا حاجة لهم إلى معرفته لم ينتفعوا بذلك لو كان حقاً فكيف إذا كان ما يدّعونه باطلاً؟ ومن هؤلاء من يتمثل له الجني في صورة ويقول أنا الخضر ويكون كاذباً، وكذلك الذين

_ 1 سورة البقرة: 26- 27.

يذكرون رجال الغيب ورؤيتهم إنما رأوا الجن وهم رجال غائبون وقد يظنون أنهم إنس، وهذا قد بيناه في مواضع تطول حكايتها مما تواتر عندنا. قال النبهاني في الاعتراض على الشيخ: وهكذا دأبه في إنكار ما لم يحط بعلمه، وجعله في درجة المستحيلات، مع أنه ثبت عند غيره من جماهير المسلمين- من الأولياء العارفين، والعلماء العاملين، والعباد والصالحين وغيرهم- ثبوتاً لا يحتمل وقوع الشك في صحته، ثم إنه استشهد على صحة دعواه بكلام اليافعي، وابن حجر المكي، ونجم الدين الأصفهاني وأضرابهم من الغلاة". أقول: جوابه من وجوه: الأول: إنّا تكلمنا سابقاً عن جميع كتب الشيخ، وذكرنا في مدحها وتقريظها ما ذكرنا، وقلنا إن (منهاج السنة) من أجل كتب الشيخ، وفيه من الفوائد الدينية ما يعز وجود نظيره في غيره، وما أحسن ما قرظ به الأديب الفهامة الشيخ طه بن محمود رئيس التصحيح في المطبعة الكبرى، وهو: بأقوم منهاج أتى القوم أحمد ... فمالي لا أثني عليه وأحمد إمام حباه الله علماً وحكمة ... وقلباً تقياً نوره يتوقد فقام بأمر الحق في الناس صادعاً ... بأوضح برهان له العقل يشهد وبدد أهواء تجمع شملها ... بها ضل قوم والضلال مبدد أتاهم وهم شتى المذاهب مالهم ... من العقل هاد أو من الدين مرشد أتاهم وليل الرفض والنصب حالك ... وقاعدة الطغيان فيهم توطد أتى معشراً للغي أهدى من القطا ... ولم يبصروا طرق الرشاد فيهتدوا أتى أمة بغض الصحابة دينهم ... وسب أبي بكر به قد تعبدوا فأنكر ماقد خالف الدين والتقى ... ومن ديننا إنكار ما ليس يحمد وأفشى كتاب الله فيهم وأنهم ... أباة عن الإذعان للحق شرد وناضل عن صحب النبي وحزبه ... ومن لهم رأي وقول مسدد فهل مثل هذا الحبر أولى بشكره ... على ما أتاه أم تراه يفند

ولكن أعداء الفضائل جمة ... وهل ساد إلا ذو الأيادي المحسد سأشكره دهري عن الناس إذ غدا ... عليهم جميعاً لابن تيمية اليد فلو كان تأليف الفتى مخلداً له ... لكان من المنهاج والله مخلد ولو كان في الدنيا جزاء لمحسن ... لكان له فيها النعيم المؤبد فأسألك اللهم هتان رحمة ... على قبره ما لاح في الأفق فرقد فانتقاد النبهاني على هذا الكتاب أشبه شيء بنبح الكلاب للسحاب، أبان للناس جهله وغباوته وضلاله، وعداوته للدين، وانحرافه عن سبيل المسلمين والمؤمنين. الوجه الثاني: أن النبهاني انتقد كتاب المنهاج واعترض على مصنفه في إنكاره الخضر، والأقطاب، والأوتاد، ورجال الغيب، وغيرهم مما ابتدعه المتصوفة والغلاة ترويجاً لمقاصدهم، وانتقاده هذا مما لا وجه له، لأن الرافضة لما أوجبوا اللطف على الله ومراعاة الأصلح وأن الأئمة منحصرون بزعمهم في اثني عشر إماماً وهم لا يستوعبون الزمان إلى قيام الساعة؛ لزمهم القول بالمنتظر، مع أن حجج الله لا تقوم بخفي مستور لا يقع العام له على خبر، ولا ينتفعون به في شيء أصلاً، فلا جاهل يتعلم منه، ولا ضال يهتدي به، ولا خائف يأمن به، ولا ذليل يتعزز به، فأي حجة لله قامت بمن لا يرى له شخص، ولا يسمع منه كلمة، ولا يعلم له مكان؟ ولاسيما على أصول القائلين به، فإن الذي دعاهم إلى ذلك؛ أنهم قالوا لا بد منه في اللطف بالمكلفين وانقطاع حجتهم عن الله، فيالله العجب أي لطف حصل بهذا المعدوم لا المعصوم؟ وأي حجة أثبتم للخلق على ربهم بأصلكم الباطل؟ فإن هذا المعدوم إذا لم يكن لهم سبيل قط إلى لقائه والاهتداء به فهل في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ وهل في العذر والحجة أبلغ من هذا؟ فالذي فررتم منه وقعتم في شر منه، وكنتم في ذلك كما قيل: المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقّص بالصحابة الأخيار، وبسادة هذه الأمة

الأبرار، وأن يُريَ الناس عورته، ويغريه بكشفها ونعوذ بالله من الخذلان، ولقد أحسن القائل: ما آن للسرداب أن يلد الذي ... ثلثتموه بزعمكم ما آن فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... ثلثتم العنقاء والغيلانا ولقد بطلت حجج استودعها مثل هذا الغائب وضاعت أعظم ضياع، فهم أبطلوا حجج الله من حيث زعموا حفظها. فلما رد الشيخ على ابن المطهر الحلي القول بالمنتظر على أحسن وجه: أراد سد أبواب طرق مناظرتهم وحجاجهم ومعارضتهم على الخضر والأقطاب والأوتاد ونحوهم، وأبطل القول بوجودهم، وأنه ليس من الدين في شيء، ولولا ذلك لأمكن أن يقولوا إن القول بالمنتظر كالقول بالخضر والقطب والبدل والوتد وغيرهم، لاسيما وحياة الخضر أطول بكثير، والقائلون به أكثر، فما هو جوابكم فهو جوابنا، فكان من الواجب على الشيخ بيان الحقيقة في ذلك، وإقامة الدليل على نفي وجودهم، وكيف يمكن مخاصمة الروافض في المهدي المنتظر وإنكاره مع القول بحياة الخضر وإثبات الأقطاب ونحوهم، فلا شك أن انتقاد النبهاني هنا في غاية السقوط. الوجه الثالث: اعتراض النبهاني على الشيخ في تعرضه لبعض من يزعم أنه من أهل السنة من الأشعرية والماتريدية وساداته الصوفية. فنقول: إن الشيخ تكلم على كل من ابتدع وأحدث في الدين ما ليس منه، ولم يتخوف من الأسماء، فمن خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة فهو ممن اتبع غير سبيل المؤمنين، فكيف لا يرد على المخالفين، وكل آخذ يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال ذلك إمام دار الهجرة، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على السنة وما هي ومن أهلها ليعلم ما في كلام النبهاني من الجهل والغلط. الوجه الرابع: أن القول بوجود الخضر وحياته والاعتقاد برجال الغيب وأمثاله؛ إن كان من واجبات الشريعة وأركان الديانة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه

ورسله واليوم الآخر ووجود الجن ونحو ذلك مما وردت نصوص الكتاب والسنة به، فلِمَ لم ينصّ عليها في القرآن ولم يرد فيها حديث صحيح؟ فإذا سأل رب العالمين عبداً من عباده وقال له: لم لم تؤمن بحياة الخضر الأبدية، وكذّبت بالأقطاب والأوتاد والأبدال؟ ونحوهم مما قال به الصوفية! ثم أجابه بقوله: يا رب العالمين، ويا خالق السموات والأرضين؛ إنك كلفت الناس أن يؤمنوا بك وإن لم تَرَكَ العيون ولم تحط بك الظنون، ولكن نصبت لهم دلائل في الآفاق والأنفس على وجودك عدا ما ورد من النصوص على لسان أنبيائك ورسلك، وأودعت في كل شيء آية تدل على أنك الواحد، بل كل ذرة من ذرات العوالم هي أعدل شاهد، ثم إنك ملأت كتابك الكريم من ذكر الملائكة والرسل والجن وغير ذلك مما لم نره، ثم إن نبيك صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء كلهم أخبروا بذلك، فلذلك اعترفنا وصدقنا بما ذكر، وأما الخضر ومن ذكر معه فلم نر في كتابك الكريم آية تدل على خلوده ولا وجوده ووجودهم، وأما ما رواه الكذابون عن نبيك صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال المحققون من أهل العلم: إنها كذب لا أصل لها، بل الوارد خلاف ذلك، فكيف يا إلهي أؤمن بأمور موهومة وأشخاص غير معلومة؟ وقد أنعمت علي بعقل أزن فيه الأمور وأجعله حكماً عدلاً، ودليلاً هادياً إذا أعضلت علي المقاصد، فإذا لم أنتفع يا إلهي بما أنعمت علي من نعمة العقل أكون إذاً كالنبهاني الغبي أخبط خبط عشواء ولا أفرق بين السماء والماء. ثم أقول: إلهي! ما فائدة القول بوجود الخضر والأقطاب والأبدال ونحوهم؟ لا جاهل يستفيد منهم العلم بدينه، ولا مظلوم يستصرخهم على دفع ظلمه، والشمس أنت تطلعها وتغيبها، والفلك أنت تديره، والقمر أنت تنيره، والكواكب أنت جعلتها زينة للسماء وحفظاً من كل شيطان ما رد، والسحاب أنت تنشئه، والغيث أنت تغيث به عبادك، والمريض أنت تشفيه، والجائع أنت تطعمه، والعطشان أنت تسقيه، وقد أودعت كتابك كل علم، وبيان كل حكم، وأنزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 فالخضر وغيره حينئذ ماذا يفعلون إذا لم تكن لهم

_ 1 سورة المائدة: 3.

وظيفة وعمل؟ والله المستعان على ما يصفون. الوجه الخامس: أدن النبهاني وأضرابه استدلوا على وجود من ذكر بقول ابن حجر المكي ونحوه، ومن المعلوم أن كلام أمثال هؤلاء لا يفيد في هذا الباب شيئاً، وقد تقدم أن العمدة عند أهل العلم في مسائل أصول الدين وفروعه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم من هذه الأمة، ولا تذكر أقوال أهل العلم إلا تبعاً وبياناً، لا أنها المقصودة بالذات والأصالة. ثم المسائل التي لا يلزم بها المجتهد غيره هي ما كان للاجتهاد فيه مساغ، ولم تخالف كتاباً ولا سنة صريحة ولا إجماعاً، وما خالف ذلك فهو مردود على قائله، ويلزمه أهل العلم بصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال إمام دار الهجرة مالك ابن أنس رحمه الله تعالى: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"- يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحس منه قوله الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه"2. فإذا كان رد السنة محرماً لا يجوز ولو ردها ظاناً أن القرآن لا يدل عليها؛ فكيف رد الكتاب والسنة وعدم الإلزام بهما لخلاف أحد من الناس كائناً من كان؟! والمقصود؛ أن النبهاني وأضرابه لم يورودا على إثبات مقصدهم بدليل يليق أن يتلقى بالقبول، وابن حجر المكي ونحوه من الغلاة هم خصوم الحق وأعداؤه، فكيف يسوغ أدن نستدل بكلامهم على ما لا يقول به أهل الحق؟!

_ 1 سورة النساء: 59. 2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/130- 131) وأبو داود (4604) وغيرهما، من حديث المقدام بن معدي كرب. وهو مروي عن جمع من الصحابة. انظر: "الصحيحة" (2870) .

الوجه السادس: أن ما ذكره الشيخ لم يذكره الخصم بتمامه، بل حرف فيه وغيَّرَ، وحذف منه ما يجب ذكره، ونحن ننقل هنا ما وجدناه من كلامه في مواضع متفرقة، وإذا جمعت في موضع واحد وتبين دليلها سلم المنصف كلامه وسقط عنده قول من أنكر عليه من الغلاة السالكين غير سبيل المؤمنين، ومن الله التوفيق: قال شيخ الإسلام- رحمه الله في أثناء جواب سؤال سأله بعضهم عن الاستغاثة بأهل القبور والنذر لهم ونحو ذلك1-: "وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع: فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام، مثل تفسير بعضهم أن الغوث الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى قد يقولون إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته، فهذا من جنس قول النصارى في المسيح والغالية في عليّ عليه السلام، وهذا كفر صريح يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته، ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في العقول العشرة التي قد يزعمون أنها الملائكة، وما يقوله النصارى في المسيح، ونحو ذلك؛ كفراً صريحاً باتفاق المسلمين، وكذلك إن عني بالغوث ما يقول بعضهم إن في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وقد يسميهم النجباء، فينتقى منهم سبعون هم النقباء، ومنهم أربعون هم الأبدال، ومنهم سبعة هم الأقطاب، ومنهم أربعة هم الأوتاد، ومنهم واحد هو الغوث، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا للثلاثمائة والبضعة عشر رجلاً، وأولئك يفزعون إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد. وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب، فإن لهم فيها مقالات متعددة، حتى يقول بعضهم أنه ينزل من السماء على الكعبة ورقة خضراء باسم غوث الوقت واسم خضره على قول من يقول إن الخضر هو مرتبه،

_ 1 "مجموعة الفتاوى" (27/ 56- وما بعدها) الطبعة الجديدة.

وأن لكل زمان خضراً فإن لهم في ذلك قولين. وهذا كله باطل لا أصل له لا في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا من الشيوخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كانوا خير الخلق في زمنهم وكانوا بالمدينة ولم يكونوا بمكة، وقد روى بعضهم حديثاً في هلال غلام المغيرة بن شعبة وأنه أحد السبعين، والحديث كذب باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في "حلية الأولياء"1 والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا نغتر بذلك فإنه يروي الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والكذب. ولا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع، وتارة يروونه على عادة أهل الحديث الذين يروون ما سمعوه ولا يميزون بين صحيحه من باطله، وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذّابين"2. وبالجملة؛ فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل في الرغبة والرهبة- مثل دعائهم عند الكسوف والاعتداد لدفع البلاء وأمثال ذلك- إنما يدعون في مثل ذلك الله وحده، لا يشركون به شيئاً، لم يكن للمسلمين أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله، بل كان المشركون في جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله، أفتراه بعد التوحيد الإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} 3 الآية، وقال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 4 الآية. وقال تعالى:

_ 1 "الحلية" (2/24) . 2 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/9) . 3 سورة يونس: 12. 4 سورة الإسراء: 67.

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} 1 الآية، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. والنبي صلى الله عليه وسلم استسقى لأصحابه بصلاة الاستسقاء وبغير صلاة، وصلى بهم للاستسقاء وصلاة الكسوف، وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين، كذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكذلك أئمة الدين، ومشائخ المسلمين؛ ما زالوا على هذه الطريقة، ولهذا يقال ثلاثة أشياء مالها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة، وغوث الجهال. فإن النصيرية تدّعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس، وأنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، لكن دعوى النصيرية فيه باطلة، وأما محمد بن الحسن المنتظر، والغوث المقيم بمكة، ونحو هذا؛ فإنه باطل ليس له أصل في الوجود ولا وجود، وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله وعددهم، فكيف بهؤلاء الضالين المفترين الكذّابين؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن يراهم بسيما الوضوء وهو الغرة والتحجيل، ومن هؤلاء من أولياء الله مالا يحصيه إلا الله، وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم، بل قال الله تعالى له: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 3. وموسى لم يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر وإني بأرضك السلام؟ فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم. فكان قد بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه. ومن قال: إنه نقيب الأولياء وأنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل. والصواب الذي عليه المحققون، أنه ميت4، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو

_ 1 سورة الأنعام: 40. 2 سورة الأنعام: 42- 43. 3 سورة غافر: 78. 4 انظر "مظاهر الانحراف العقدية عند الصوفية" لأبي عبد العزيز إدريس محمود إدريس (2/ 531- وما بعدها) ط. مكتبة الرشد بالرياض.

كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون بمكة والمدينة، وكان يكون حضوره مع الصحابة رضي الله عنهم للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى له من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم، ولم يكن عن خير أمة خرجت للناس مختفياً، وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم. ثم ليس للمسلمين به وبأمثاله حاجة لا في دينهم ولا دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، الذي علمهم الكتاب والحكمة، وقال لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حية ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم"1. وعيسى ابن مريم إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر أو غيره والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال: "كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى فني آخرها"2. فإذا كان هذان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وسلم ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لعوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟ وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قط؟ ولا أخبر به أمته ولا خلفاءه الراشدين. وقول القائل: إنه نقيب الأولياء. فيقال: من ولآه النقابة؟ وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وليس فيهم الخضر، وعامة ما يحكى في هذا الباب من حكايات " بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجال، مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر أو قال إنه خضر، كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدّعي ذلك، وروي عن الإمام أحمد أنه قال- وقد ذكر له الخضر- من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسن الناس إلا شيطان، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

_ 1 أخرجه أحمد (3/ 471) أو رقم (15908) بإسناد ضعيف. 2 لا يصح؛ وانظر "كنز العمال" (38682) .

أما إذا قصد القائل بقوله القطب الغوث الفرد الجامع، أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن، لكن من الممكن أن يكون في الزمان اثنان متساويان في الفضل وثلاثة وأربعة، ولا يجزم بأن لا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحداً، وقد يكون جماعة بعضهم أفضل من بعض من وجوه، وتلك الوجوه إما متقاربة أو متساوية، ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان، فتسميته الغوث الفرد الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وما زال السلف يظنون في بعض أنه أفضل أو من أفضل أهل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لاسيما من المنتحلين لهذا الاسم من يدّعي أن أول هؤلاء الأقطاب هو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، ثم يتسلسل الأمر إلى ما دونه إلى بعض المشايخ المتأخرين، وهذا لا يصح على مذهب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة، فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والسابقون من المهاجرين والأنصار؟ والحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد كان قارب سنه الاحتلام، وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا الاسم؛ أن القطب الفرد الغوث الجامع ينطبق علمه على علم الله، وقدرته على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه، ويقدر على ما يقدر عليه الله، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك، وأن هذا انتقل منه إلى الحسن، فتسلسل إلى شيخه" فبينتا له أن هذا كفر صريح، وجهل قبيح، وأن دعوى هذا في رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر دع من سواه، وقد قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} 1 وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 2 الآية. وقال تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 3. وقال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ

_ 1 سورة الأنعام: 50. 2 سورة الأعراف: 188. 3 سورة آل عمران: 154.

فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} 1 والآية بعدها. وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2. والله تعالى قد أمرنا أن نطيع رسوله فقد قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 3. وأمرنا أن نتبعه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 4. وأمرنا أن نعززه ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله حتى أوجب علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا، فقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 5. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {الْفَاسِقِينَ} 6. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أن أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال: فأنت أحب إلي من نفسي، قال: "الآن يا عمر"7. وقال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"8. وقد بين في كتابه الحقوق التي لا تصلح إلا له، وحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض- كما قد بسطنا دلك في غير هذا الموضع- وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَن

_ 1 سورة آل عمران: 127- 128. 2 سورة القصص: 56. 3 سورة النساء: 80. 4 سورة آل عمران: 31. 5 سورة الأحزاب: 6. 6 سورة التوبة: 24. 7 تقدم تخريجه. 8 تقدم تخريجه.

يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 1. فالطاعة لله والرسول، والخشية والتقوى لله وحده، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 2 فالإيتاء لله وللرسول، كقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله. وأما التحسب فهو لله وحده، كما قالوا حسبنا الله ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4 أي: يكفيك ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو المقطوع به في معنى هذه الآية، ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام "حسبنا الله ونعم الوكيل". الوجه السابع: في بيان حجج المنكرين لحياته- أعني الخضر- اليوم، ودلائل خصومهم، وبيان الحق الحقيق بالقبول من القولين. اعلم أن العلماء اختلفوا في حياته اليوم كما اختلفوا في نبوته، فذهب جمع إلى أنه ليس بحي اليوم، وسئل البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال: كيف يكون هذا؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم- أي قبل وفاته بقليل: "لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد" 5. والذي في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته: "ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية"6 وهذا أبعد عن التأويل. وسئل عن ذلك غيره من الأئمة

_ 1 سورة النور: 52. 2 سورة التوبة: 59. 3 سورة الحشر: 7. 4 سورة الأنفال: 64. 5 "صحيح البخاري" (1/ 255- فتح) . 6 أخرجه مسلم (2538، 2539) .

فقرأ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} 1. وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد بين يديه ويتعلم منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"2 فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، فأين كان الخضر حينئذ؟! وسُئِلَ إبراهيم الحربي عن بقائه، فقال: من أحال على غائب لم ينصف وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان3. ونقل في البحر عن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي القول بموته أيضاً. ونقله ابن الجوزي عن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما أيضاً. وكذا عن إبراهيم بن إسحق الحربي، وقال أيضاً: كان أبو الحسين بن المنادي يقبح قول من يقول إنه حيّ. وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب محمد. وكيف يعقل وجود الخضر ولا يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة والجماعة، ولا يشهد معه الجهاد مع قوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"4؟ وقوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 5 وثبوت أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف أمام هذه الأمة، ولا

_ 1 سورة الأنبياء: 34. 2 جزء من حديث أخرجه مسلم (1763) . 3 انظر "روح المعاني " (10/320) . 4 أخرجه أحمد (3/387) أو رقم (15199- قرطبة) وحسّنه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (6/34/1589) بشواهده. 5 سورة آل عمران: 81.

يتقدم عليه في مبدأ الأمر، وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة. ثم قال: وعندنا من المعقول وجوه على عدم حياته: أحدها: أن الذي قال بحياته قال إنه ابن آدم عليه السلام لصلبه، وهذا فاسد لوجهين. الأول: إنه يلزم أن يكون عمره اليوم ستة آلاف سنة أو أكثر، ومثل هذا بعيد في العادات في حق البشر. والثاني: أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من أولاده- كما زعموا أنه وزير ذي القرنين- لكان مهول الخلقة مفرط الطول والعرض، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلق آدم وطوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص بعده"1. وما ذكر أحد ممن يزعم رؤية الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة، وهو من أقدم الناس. والوجه الثاني: أنه لو كان الخضر قبل نوح عليه السلام لركب معه في السفينة، ولم ينقل هذا أحد. الثالث: أن العلماء اتفقوا على أن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة مات من معه ولم يبق غير نسله ودليل ذلك قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} 2. الرابع: أنه لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لكان ذلك من أعظم الآيات والعجائب، وكان خبره في القرآن مذكوراً في مواضع، لأنه من آيات الربوبية، وقد ذكر سبحانه عز وجل من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاماً وجعله آية، فكيف لا يذكر جل وعلا من استحياه أضعاف ذلك؟! الخامس: أن القول بحياة الخضر قول على الله تعالى بغير علم، وهو حرام بنص القرآن، أما المقدمة الثانية فظاهرة، وأما الأولى: فلأن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة، فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة

_ 1 أخرجه البخاري (3326، 6227) ومسلم (2841) . 2 سورة الصافات: 77.

الخضر؟ وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين ما يدل على ذلك بوجه؟ وهؤلاء علماء الأمة فمتى أجمعوا على حياته؟. السادس: أن غاية ما يتمسك به في حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر، فيالله تعالى العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله أنا الخضر، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله تعالى، فمن أين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟ السابع: أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه، وقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} 1 فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة، الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم. وكل منهم يقول: قال لي الخضر، جاءني الخضر، أوصاني الخضر؟ فيا عجباً له يفارق الكليم، ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم، سبحانك هذا بهتان عظيم!. الثامن: أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا لم يُلْتَفَتْ إلى قوله، ولم يحتج به في الدين ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول إنه لم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بايعه، أو يقول إنه لم يرسل إليه، وفي هذا من الكفر ما فيه. التاسع: أنه لو كان حياً لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله تعالى ومقامه في الصف ساعة، وحضوره الجمعة والجماعة، وإرشاد جهلة الأمة؟ أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات إلى غير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ماله وما عليه. وشاع الاستدلال بخبر: "لو كان الخضر حياً لزارني" وهو كما قال الحفاظ: خبر موضوع لا أصل له. ولو صحّ لأغنى عن القيل والقال، ولأنقطع به الخصام والجدال.

_ 1 سورة الكهف: 78.

الذاهبون إلى حياته

(الذاهبون إلى حياته) ومن الناس من قال بحياته، وهو موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية على ما قاله النووي، ونقل عن الثعلبي المفسر: أن الخضر نبي معمر على جميع الأقوال، محجوب عن أبصار أكثر الرجال. وقال ابن الصلاح: هو حي اليوم، وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين، واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة. منها: ما يروى عن ابن عباس أنه قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال. ومثله لا يقال من قبل الرأي. ومنها: ما أخرجه ابن عساكر، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا أصحابنا أن آدم عليه السلام لما حضره الموت جمع بنيه، فقال: يا بني إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذاباً فليكن جسدي معكم في المغارة حتى إذا هبطتم فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام، فكان جسده معهم، فلما بعث الله تعالى نوحاً ضم ذلك الجسد، وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت زماناً، فجاء نوح حتى نزل بابل، وأوصى بنيه الثلاثة أن يذهبوا بجسده إلى المغار الذي أمرهم أن يدفنوه به، فقالوا الأرض وحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريف ولكن كف حتى يأمن الناس ويكثروا، فقال لهم نوح: إن آدم قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة، فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، فأنجز الله تعالى له ما وعده فهو يحيا إلى ما شاء الله تعالى له أن يحيا. وفي هذا سبب طول بقائه وكأنه سبب بعيد وإلا فالمشهور فيه أنه شرب من عين الحياة حين دخل الظلمة مع ذي القرنين وكان على مقدمته. ومنها: ما أخرجه الخطيب وابن عساكر، عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي وأخذنا في جهازه خرج الناس وخلا الموضع، فلما وضعته على المغتسل إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت بأعلى صوته: لا تغسلوا محمداً، فإنه

طاهر مطهر، فوقع في قلبي شيء من ذلك وقلت ويلك من أنت فإن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أمرنا وهذه سنته، وإذا بهاتف آخر يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته غسّلوا محمداً فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون حسد محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدخل قبره مغسولاً. فقلت: جزاك الله تعالى خيراً قد أخبرتني بأن ذلك إبليس فمن أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد صلى الله عليه وسلم. وعن علي كرم الله وجهه قال: بينما أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم بالحجاج الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة رحمتك. قلت: يا عبد الله أعد الكلام، قال: أسمعته؟ قلت: نعم. قال: والذي نفس الخضر بيده -وكان هو الخضر- لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج، وعدد المطر، وورق الشجر. ومنها: ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن جابر، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الصحابة؛ دخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم فبكى، ثم التفت إلى الصحابة فقال: إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة، وعوضاً من كل فائت، وخلفاً من كل هالك، فإلى الله تعالى فأنيبوا، وإليه تعالى فارغبوا، وننهره سبحانه إليكم في البلاء؛ فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر، فقال أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما: هذا الخضر عليه السلام1.

_ 1 أخرجه الحاكم (3/57) والطبراني في "الأوسط" (2/ 388/1234- مجمع البحرين) من طريق: كامل بن طلحة الجحدري، ثنا عباد بن عبد الصمد، ثنا أنس بن مالك به. وقد وهم المصنف في نقله أن الخبر من حديث جابر. تال الحاكم: "هذا شاهد لما تقدم؛ وإن كان عباد بن عبد الصمد ليس من شرط هذا الكتاب". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 3) : "عباد ضعّفه البخاري وقد اعتذر الحاكم عن إيراده" قلت: عباد بن عبد الصمد أبو معمر، ضعيف جداً كما قال أبو حاتم، وقال البخاري: "منكر الحديث فيه نظر".

إلى غير ذلك مما لم يدل على حياته اليوم بل يدل على أنه كان حياً في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من حياته إذ ذاك حياته اليوم. والنافون أجابوا عن هذه الأحاديث، وقالوا: إن الأخبار التي ذُكر فيها الخضر عليه السلام وحياته كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد، ومن ادّعى الصحة فعليه البيان. ثم إن المشايخ لم يتفقوا على القول بحياته، فقد نقل الشيخ صدر الدين إسحق القونوي في كتابه (تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي) أن وجود الخضر عليه السلام في عالم المثال. وذهب عبد الرزاق الكاشي إلى أن الخضر عبارة عن البسط وإلياس عن القبض. وذهب بعضهم إلى أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر الذي كان في زمن موسى عليهما السلام، إلى غير ذلك من الأقوال المذكورة في "روح المعاني". وفيه أيضاً: ثم اعلم بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته أي مساعدة، وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة، ولا مقتضى للعدول عن تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية -والله أعلم بصحتها- عن بعض الصالحين الأخيار. هذا ملخص ما في تفسير "روح المعاني" مما يرغم أنف لنبهاني، فتمسك بما قاله أئمة المحدّثين، فهم أعلم الناس بشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. الوجه الثامن من الوجوه الدالة على فساد قول النبهاني: أن ما نقله عن ابن حجر المكي وما وقع له مع شيخه وأبي يحيي زكريا الأنصاري وأن أبا يحيي قال لشيخ ابن حجر- وكان منكراً للأقطاب والأبدال-: هكذا يا شيخ محمد. وكرر ذلك عليه، حتى قال له الشيخ محمد: يا مولانا شيخ الإسلام آمنت بذلك وصدقت به وقد تبت. فقال: هذا هو الظن بك ... إلخ-؛ لا يقوم حجة على المنكرين، إذ مدار الاستدلال على الكتاب والسنة، لا بمثل قول أبي يحيي للشيخ

محمد عند إنكاره هكذا يا شيخ محمد مكرراً ذلك. ومثل هذه الخرافات يأنف عن نقلها أرباب العقول السليمة، ففي "روح المعاني"- عند الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} 1 بعد نقل عبارة الفتوحات في النقباء من أنواع الأولياء- قال: "وقد عد الشيخ أنواعاً كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض فتاوى ابن تيمية: وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة "فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى، ولا هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله وجهه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن فيهم- يعني أهل الأبدال- أربعين رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً"2 ولا توجد أيضاً في كلام السلف" انتهى. غير أني رأيت في موضع آخر من (روح المعاني) عند الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 3: "ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها، وفي (الفتوحات) هو الذي تولاه الله تعالى في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة: الهوى، والنفس، والشيطان، والدنيا، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام: منها الأقطاب، والأوتاد، والأبدال، والنقباء، والنجباء، وقد ورد ذلك مرفوعاً وموقوفاً من حديث عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وعوف بن مالك، ومعاذ بن جبل، وواثلة بن الأسقع، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأم سلمة، ومن مرسل الحسن، وعطاء،

_ 1 سورة المائدة: 12. 2 حديث موضوع؛ انظر "الضعيفة" (935، 936) . 3 سورة يونس: 62- 64.

وبكر بن خنيس، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى، وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له، وشيد أركانه، وأنكره كما قدمنا بعضهم، والحق مع المثبتين، وأنا والحمد لله تعالى منهم، وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرت بن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك ". وفي موضع آخر من تفسير (روح المعاني) عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 قال بعد كلام طويل: "إن الآية متضمنة الوعد منه عز وجل لأهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم إن ينتهوا عما ينهون عنه، ويأتمروا بما يأمرهم به؛ يُذْهِبْ عنهم- لا محالة- مبادىء ما يُسْتَهْجَن، ويحليهم أجل تحلية بما يستحسن، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم، وترتب الآثار الجميلة عليها قطعاً، ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم، من حيث أن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك، ولذا تجد عباد أهل البيت أتم حالاً من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة، وأحسن أخلاقاً وأزكى نفساً، وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها- كما لا يخفى على سالكيها- التخلية والتحلية، اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس، والوقوف على أركان الأنس، حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم، خلافاً للأستاذ أبي العباس المرسي حيا ذهب- كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء الله- إلى أنه قد يكون من غيرهم. قال: ورأيت في مكتوبات الإمام الفاروقي الرباني مجدد الألف الثاني ما حاصله: أن القطبية لم تكن على سبيل الأصالة إلا لأئمة أهل البيت المشهورين، ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم، حتى انتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فنال مرتبة القطبية على سبيل الأصالة، فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه،

_ 1 سورة الأحزاب: 33.

فإذا جاء المهدي ينالها أصالة كما نالها غيره من الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين" انتهى. ثم قال بعد ذلك: "وأقول إن السيد الشيخ عبد القادر قد نال ما نال من القطبية بواسطة جده عليه الصلاة والسلام على أتم وجه وأكمل حال، فقد كان رضي الله تعالى عنه من أجلّة أهل البيت حسنياً من جهة الأب حسينياً من جهة الأم، لم يصبه نقص لو أن وعسى وليت، ولا ينكر ذلك إلا زنديق أو رافضي ينكر صحبة الصديق "انتهت عبارة "روح المعاني". وأنت تعلم مما أسلفناه إليك أن هذا الكلام ساقط عن الاعتبار عند المحققين من الحفاظ وأئمة المحدثين، إذ ليس لهم على ذلك دليل يعتمد عليه لا من الكتاب ولا من السنة النبوية الصحيحة، ولا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال، وقد تحصل من جميع ما ذكرناه أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الحق الذي اقتضاه الكتاب والسنة، وما يخالفه ساقط لا يلتفت إليه، والله ولي التوفيق.

الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام

[الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام] قال النبهاني: وها أنا أرجع إلى الكلام على (منهاج السنة) للإمام ابن تيمية فأقول: لما كان كثير من طلبة العلم في هذا الزمان- فضلاً عن العوام- غير ماهرين في علم الكلام، ومعرفة ما يخالف أو يوافق العقيدة الصحيحة من أبحاثهم الدقيقة، التي لا يهتدي لمعرفتها والتفريق بين الحق والباطل منها إلا أكابر علماء الإسلام- الذين قضوا زمناً طويلاً من أعمارهم في مباحث علم الكلام -كان من الواجب على علماء أهل السنة والجماعة من الأشعرية والماتريدية- وهم أهل المذاهب الثلاثة وبعض الحنابلة أيضاً- أن يحذروا العوام وضعاف الطلبة من مطالعة هذين الكتابين، لكثرة ما فيهما من خلط الحق بالباطل، والرد على أهل السنة والجماعة بحجج مزخرفات، ربما لا يهتدي لدفعها القاصرون من طلبة العلم فضلاً عن العوام.

قال: وقد تقدم في كلام الإمام السبكي أنه رد على كتابه (العقل والنقل) فرده هو لا شك من الجهات التي خالف بها أهل السنة ورد عليهم مثل الإمام الأشعري وغيره. ثم إنه نقل عن الزبيدي ما يؤيد قوله من أن أهل السنة هم الأشاعرة ونحوهم، وعن التاج السبكي ووالده مثل ذلك، وأنه لا فرق بين الأشاعرة وبين الماتريدية إلا في مسائل. ثم إنه نقل أيضاً عن الزبيدي أيضاً أن للسبكي شرحاً على قصيدة ابن زفيل الحنبلي التي رد فيها على الأشاعرة وأضرابهم، وهي التي يقول فيها: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فعليك إثم الكاذب الفتان جهم بن صفوان وشيعته الألى ... جحدوا صفات الخالق الديان بل عطلوا منه السموات العلى ... والعرش أخلوه من الرحمن والعبد عندهم فليس بفاعل ... بل فعله كتحرك الرجفان اعلم أن هذه الأبيات من نونية ابن القيم رحمه الله تعالى، وهي المسماة (بالكافية الشافية) ولم نسمع أن أحداً سماه ابن زفيل، وكلامه يوهم أنه شخص آخر، وهكذا شأن الغلاة ديدنهم ودينهم تحريف الكلام عن مواضعه. والسبكي ليس من رجال هذه المنظومة حتى يكتب عليها شيئاً، ومن ادّعى غير ما ذكرناه فعليه البيان حتى نتكلم عليه بما يجب. ثم نقل من شرح السبكي على هذه الأبيات ذم علم الكلام، وذم الشيخ ابن تيمية وأصحابه بسبب قولهم في المسائل المختارة للشيخ وما افتراه عليهم خصومهم. وبعد أن فرغ من عبارة السبكي التي نقلها الزبيدي، قال النبهاني: إذا علمت ذلك أيها المسلم الشافعي أو الحنفي أو المالكي أو الحنبلي الصالح الموفق تعلم أنه يجب عليك الحذر التام من كتب الإمام ابن تيمية وجماعته المتعلقة بالعقائد، لئلا تهوى في مهواة الضلال، ولا ينفعك الندم بعدم ذلك بحال من الأحوال، وإياك أن تغتر بكلام السيد نعمان أفندي الألوسي البغدادي في كتابه

(جلاء العينين) وتظنه أنه حنفي من أهل السنة والجماعة، فهو بهذا الكتاب قد خرج عن حنفيته وسنيته، وصار من جماعة ابن تيمية ناصراً لمذهبه مذهب الوهابية- عفا الله عنه وعنهم أجمعين- فإنهم بلا شك من جملة المسلمين وإن كانوا فيما خالفوا أهل السنة مبتدعين، وهم إنما يغرون أهل الإسلام من ضعاف الطلبة والعوام بقولهم إنهم على مذهب السلف. ثم نقل بعض العبارات عن كتاب "المنهاج" زعم أن فيها إثبات الجهة، إلى آخر هذيانه. وحاصل كلامه الطويل السخيف العليل؛ أنه حذر طلبة العلم من مطالعة كتب ابن تيمية، ولاسيما كتاب "العقل والنقل"، و"المنهاج"، ومن كتاب "جلاء العينين"، فإن تلك الكتب مخالفة لعقائد أهل السنة، وأن مؤلف "جلاء العينين" بسبب الذب عن ابن تيمية وإبطال بهتان ابن حجر خرج عن حنفيته وسنيته، وله الفضل حيث لم يخرجه أيضاً عن حنيفيته، وأن ابن تيمية قائل بالجهة، هذا حاصل جميع هذيانه في هذا المقام، والله المستعان، وقد جعل الموافقين لابن تيمية مبتدعة، وقد كرر ذلك الكلام مراراً، وأعاده مرة بعد أخرى. أقول في الجواب عن غلطه: إنا قد قدمنا الكلام على كتب الشيخ ابن تيمية مفصلاً، وذكرنا ما ذكرنا من تقاريظ أهل العلم عليها، وما قالوه من الثناء الذي لم يكن لغيرها، وهي الكتب التي فتح الله بها عيوناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وكانت من بعض آيات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إن كان فرد من أفراد أمته بلغ ما بلغ من العلم بحمد الله وتوفيقه، ويقال للنبهاني كما أنشدناه سابقاً: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم ويقال له أيضاً: من أين لك علم بعلم الكلام، بل بعلم من العلوم؟ فإن كتابك هذا الذي نراه من أوضح الدلائل على جهلك لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم. ويقال له أيضا: إن كان لك علم وفهم فلم لم تنصح نفسك وتردعها عن سلوك هذا المسلك الذي أنت متلوث به والنفس مقدمة على الغير؟

وما أحسن ما قيل: يا أيها الشيخ المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم ويقال له أيضاً: لم لم تنصح- إن كان لك فهم وذوق- عن مطالعة الكتب التي تصادم الشريعة الغراء وتناقضها، ككتب الشيخ محي الدين ابن العربي وأضرابه من المتصوفة، التي تقشعر من سماعها جلود المؤمنين، قال الشيخ محي الدين عند الكلام على تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية برواية أبي زرعة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ستروا محبتهم {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} 1 استوى عندهم إنذارك وعدم إنذارك لما جعلنا عندهم (لا يؤمنون) بك ولا يأخذون عنك، إنما يأخذون عنا. (ختم الله على قلوبهم) فلا يعقلون إلا عنه. (وعلى سمعهم) فلا يسمعون إلا منه. (وعلى أبصارهم غشاوة) فلا يبصرون إلا إليه، ولا يلتفتون إليك وإلى ما عندك بما جعلناه عندهم وألقيناه إليهم (ولهم عذاب) من العذوبة (عظيم) ! انتهى. ولكن النبهاني وأضرابه من الغلاة يذبون عن مثل هذه الكتب، ويحثون على مطالعتها، ويلمزون كتب السنة الداعية إلى توحيد الله، وهكذا شأن علماء أهل الكتاب وأحبارهم. فقد ناقل الحافظ ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى" عند رده على من طعن في علم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما نصه- من كلام طويل-: "وما يدريكم معاشر المثلثة وعُبّاد الصليب وأمة اللعنة والغضب؛ بالفقه والعلم، ومسمى هذا الاسم، حيث تسلبونه أصحاب محمد الذين هم وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل؟ وهل يميز بين العلماء والجهال ويعرف مقادير العلماء إلا من هو من جملتهم، ومعدود في زمرتهم؟ فأما طائفة شبه الله علماءهم بالحمير التي تحمل الأسفار، وطائفة علماؤها يقولون في الله ما لا يرضاه أمة من الأمم فيمن تعظمه وتجله، وتأخذ دينها عن كل كاذب ومفتر على الله وعلى أنبيائه، فمثلها كمثل عريان

_ 1 سورة البقرة: 6.

يحارب شاكي السلاح، ومن سقف بيته زجاج وهو يزاحم أصحاب القصور بالأحجار، ولا يستكثر على من قال في الله ورسوله ما قال أن يقول في أعلم الخلق إنهم عوام. فليهن أمة الغضب علم [المشنا] والتلموذ وما فيها من الكذب على الله وعلى كليمه موسى، وما يحدثه لهم أحبارهم وعلماء السوء منهم كل وقت، وليهنهم علوم دلتهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شق عليه، وبكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، وغير ذلك. وليهن أمة الضلال علومهم التي فارقوا بها جميع شرائع الأنبياء، وخالفوا بها المسيح خلافاً يتحققه علماؤهم في كل أمره، وعلومهم التي قالوا بها في رب العالمين ما قالوا مما كادت السموات تنشق منه والأرض تتفطر، والجبال تنهد، لولا أن أمسكها الحكيم المصور، وعلومهم التي دلتهم على التثليث وعبادة خشبة الصليب والصور المدهونة، ودلتكم على قول عالمكم أن السيد التي جلبت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوت، وأن الشبر الذي ذرعت به السموات هو الذي سمر على الخشبة، وقول عالمكم الآخر من لم يقل إن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله"1 انتهى ما قصدنا نقله وبقي منه كلام طويل من أراده فليرجع إليه. سمعت أيها النبهاني ما قال إخوانك وما قيل لهم، فوازن بين كلامهم وطعنهم على أهل الحق وعلومهم وبين كلامك وقدحك في كتب السنة والدين الخالص، ووازن بين ما أجابوا به وما أجبت به، ولقد تشابهت قلوبكم، وتوافقت مثالبكم وعيوبكم، كل ذلك أيها النبهاني من جهلك الذي أنت فيه، وهو الذي أوقعك في مهواة البلاء وعجبك بنفسك، وتكبرك الذي دعاك إلى أن ضربت بسهم مع الأفاضل وأرباب التقوى، مع أنك كما قال القائل: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت في البيداء أبعد منزل ثم نقول: إن ما ادعاه النبهاني- تقليداً لأسلافه- أن الأشاعرة والماتريدية

_ 1 "هداية الحيارى" (ص 459- 460- ط. دار القلم) .

هم أهل السنة وأن من كان على طريقة السلف- كشيخ الإسلام ابن تيمية- هم من المبتدعة كلام لا أظنه يصدر عن ذي فهم ولا معرفة، فلا بد من الكلام على تحقيق هذه المسألة وبيان المراد بالسنة والبدعة، ليتبين الحق من الباطل، ويعلم به أنه الأحق باسم المبتدع هو هذا الخصم الألد، ومن على منهجه من أسلافه الغلاة قبحهم الله تعالى وخذلهم. اعلم أن أهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام والتوحيد، المتمسكون بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد والنحل والعبادات الباطنة والظاهرة، الذين لم يشوبوها ببدع أهل الأهواء وأهل الكلام في أبواب العلم والاعتقادات، ولم يخرجوا عنها في باب العمل والإرادات، كما عليه جهال أهل الطرائق والعبادات. فإن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سَنَّهُ أو أَمَرَ به من أصول الدين وفروعه، حتى الهَدْيَ والسمت، ثم خُصّت في بعض الإطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات، خلافاً للجهمية المعطلة النفاة، وخُصّت بإثبات القدر ونفي الجبر خلافاً للقدرية النفاة، وللقدرية الجبرية العصاة، وتطلق أيضاً على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل، والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمياته، لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن أعظم وشرط أكبر، كقوله: "الحج عرفة"1 أو لأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم، ولذلك سمى العلماء كتبهم في هذه الأصول كتب السنة، ككتاب السنة للألكائي، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة للخلال، والسنة لابن خزيمة، والسنة لعبد الله بن أحمد، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم. فما قاله النبهاني إن في كتب ابن تيمية التي ذكرها حكماً على أهل السنة والجماعة بالتكفير والإشراك؛ كذب ظاهر، وبهت جلي، ما قيل ولا صدر فضلاً عن كونه عرف واشتهر، وآحاد العامة فضلاً عن الخاصة لا يخفى عليهم أن الشيخ

_ 1 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 309، 335) وأبو داود (1949) والنسائي (5/ 256) والترمذي (889) وابن ماجه (3015) وغيرهم.

وأصحابه كانوا من أكابر أهل السنة والجماعة، وأنهم تصدوا للرد على المبطلين والمشركين، من اليهود والنصارى، والصابئة والفلاسفة، وعباد القبور والمشائخ، ولم يكفروا غير هذه الطوائف ومن ضاهاهم، كغلاة الجهمية، والقدرية، والرافضة، هذا يعرفه كثير من العوام. فما قاله النبهاني من أن الشيخ ابن تيمية رد في كتابه "منهاج السنة" وكتاب "العقل والنقل" على أهل السنة لا أصل له، بل إنه رد على الغلاة من عبدة القبور. وتسمية هؤلاء أهل سنة وجماعة جهل عظيم بحدود ما أنزل الله على رسوله، وقلب للمسميات الشرعية وما يراد من الإسلام والإيمان، والشرك والكفر، قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} 1. والنبهاني وأمثاله أجدر من أولئك بالجهل وعدم العلم بالحدود لغربة الإسلام وبعد العهد بآثار النبوة، كما أفاده العلامة الشيخ عبد اللطيف في منهاجه. وظن النبهاني أن دعاء غير الله والعمل بغير الشريعة الأحمدية والقول بالحلول والاتحاد؛ لا يخرجه عن جادة الحق مع الإتيان بالشهادتين، مع أنه لا يشترط في ذلك أن يكفر المكلف بجميع ما جاء به الرسول، بل يكفي في الكفر والردة- والعياذ بالله تعالى- أن يأتي بما يوجب ذلك ولو في بعض الأصول، وهذا ذكره الفقهاء من كل مذهب، وهو من عجيب جهل النبهاني وأمثاله من الغلاة، لأنه يعرفه المبتدئون في الفقه والعلم، ومن أراد الوقوف على جزئيات وفروع في الكفر والردة فعليه بما صنف في ذلك، كالأعلام لابن حجر، وما عقده الفقهاء من أهل كل مذهب في باب حكم المرتد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرسالة السنية" لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قال: "فإذا كان عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه

_ 1 سورة التوبة: 97.

ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عباداته العظيمة حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتاله؛ فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب؛ منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1 الآية. وعليّ رضي الله عنه حرَّق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدَّت لهم عند باب كندة فقُذِفُوا فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر الصحابة، وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في عليّ بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية- مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أجرني أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال- فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا يجعل معه إلهاً آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى- مثل المسيح والملائكة والأصنام- لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، وتنزل المطر، وتنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3 فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 4. قال طائفة من السلف: "كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فأنزل

_ 1 سورة النساء: 171. 2 سورة الزمر: 3. 3 سورة يونس: 18. 4 سورة الإسراء: 56- 57.

الله هذه الآية، ثم ذكر آيات في المعنى". انتهى. وقال شيخ الإسلام أيضاً في "الفرقان بين الحق والباطل": "وأهل الضلال الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم كما قال مجاهد: أهل البدع والشبهات يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل. وكما قال فيهم الإمام أحمد، قال: هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يحتجون بالمتشابه من الكلام، ويضلون الناس بما يشبهون عليهم، والموافقة من أهل الضلال تجعل لها ديناً وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث فإن وافقه احتجوا به اعتقاداً لا اعتماداً، وإن خالفه: فتارة يحرفون الكلام عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله، وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه ويقولون نفوض معناه إلى الله، وهذا فعل عامتهم، وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة يجب اتباعها واعتقاد موجبها، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول، ويجعلون كلام الله ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا الله، أو لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم، والراسخون عندهم من كان موافقاً لهم على ذلك القول، وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب وترك المحكم، كالنصارى والخوارج وغيرهم، إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام الله وجعلوه محكماً وجعلوا المحكم متشابها، وأما أولئك -كنفات. الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم كالفلاسفة- فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت في الأنبياء وإن كان صريحاً قد يعلم معناه بالضرورة ويجعلونه من المتشابه، ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع، حتى قال يوسف بن أسباط، وعبد الله بن المبارك، وغيرهما كطائفة من أصحاب أحمد: إن الجهمية نفاة الصفات خارجون عن الثنتين والسبعين فرقة. قالوا: وأصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية، وقد

ذكرنا في غير هذا الموضع أن قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1 في المتشابهات قولان: أحدهما أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس، والثاني: وهو الصحيح- أن التشابه أمر نسبي فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم، كما قال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} 2 وهذا كقوله: "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبين ذلك أمور لا يعلمهن كثير من الناس"3 وكذلك قولهم: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} 4. وقد صنف أحمد كتاباً في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله، وفسر تلك الآيات كلها، وذمهم على أنهم تأولوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامتها آيات معروفة قد تكلم العلماء في تفسيرها، مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق لابن عباس، قال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وماذا عنى بها، ومن قال من السلف إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله فقد أصاب أيضاً، ومراده بالتأويل ما استأثر الله بعلمه، مثل وقت الساعة، ومجيء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعده في الجنة لأوليائه، وكان من أسباب نزول الآية احتجاج النصارى بما تشابه عليهم، كقوله: (أنا) و (نحن) وهذا يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم الذي له أعوان، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة، فتأويل هذا- الذي هو تفسيره- يعلمه الراسخون، ويفرقون بين ما قيل فيه (أنا) وما قيل فيه (إنا) بدخول الملائكة فيما يرسلهم فيه إذ كانوا رسله، وأما كونه هو المعبود الإله فهو له وحده، ولهذا لا يقول فإيانا فاعبدوا، ولا إيانا فارهبوا، بل متى جاء الأمر بالعبادة والتقوى والخشية والتوكل ذكر نفسه وحده باسمه الخاص، وإذا ذكر الأفعال التي يرسل فيها

_ 1 سورة آل عمران: 7. 2 سورة هود: 1. 3 أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) . 4 سورة البقرة: 70.

الملائكة قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} 1 {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 2 {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} 3 ونحو ذلك مع أن تأويل هذا وهو حقيقة ما دل عليه من الملائكة وصفاتهم وكيفية إرسال الرب لهم لا يعلمه إلا الله، كما قد بسط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا؛ أن الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه، ويعقل ويعرف برهانه ودليله، إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة. فيقال لأصحاب هذه الألفاظ: يحتمل كذا وكذا ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبِلَ وإن أرادوا بها ما يخالفه رد، وهذا مثل لفظ المركب، والجسم، والمتحيز، والجوهر، والجهة، والعرض، ونحو ذلك، ولفظ الحيز ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة أيضاً، بل هم يختصمون بالتعبير بها على معان لم يعبر غيرهم عن تلك المعاني بهذه الألفاظ، فيفسر تلك المعاني بعبارات أخرى، ويبطل ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وعرف وجه الكلام على أدلتهم فإنها ملفقة من مقدمات مشركة يأخذون اللفظ المشترك في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، فهو في صورة اللفظ دليل وفي المعنى ليس بدليل، كمن يقول سهيل بعيد من الثريا لا يجوز أن يقترن بها ولا يتزوجها، والذي قال: أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان

_ 1 سورة الفتح: 1. 2 سورة القيامة: 18. 3 سورة القصص: 3.

أراد امرأة اسمها الثريا ورجلاً اسمه سهيل، ثم قال: عمرك الله.. إلخ. هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني وهذا لفظ مشترك، فجعل تعجبه وإنكاره مع الظاهر من جهة اللفظ المشترك، وقد بسط الكلام على أدلتهم المفصلة في غير موضع. والأصل الذي بنى عليه نفات الصفات وعطلوا ما عطلوا حتى صار منتهاهم إلى قول فرعون الذي جحد الخالق وكذب رسوله موسى في أن الله كلَّمَةُ؛ هو استدلالهم على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة، واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، وهذا أصل قول الجهمية الذين أطبق السلف والأئمة على ذمهم، وأصل قول المتكلمين الذين أطبقوا على ذمهم. وقد صنف الناس مصنفات متعددة فيها أقوال السلف والأئمة في ذم الجهمية وفي ذم هؤلاء المتكلمين، والسلف لم يذموا جنس الكلام فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به رسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلاماً هو حق بل ذموا الكلام الباطل وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضاً، وهو الباطل. فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل، ولكن كثيراً من الناس خفي عليه بطلان هذا الكلام، فمنهم من اعتقده موافقاً للشرع والعقل حتى اعتقد أن إبراهيم الخليل استدل به، ومن هؤلاء من يجعله أصل الدين ولا يحصل الإيمان أو لا يتم إلا به، ولكن من عرف ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة علم بالاضطرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، فصار من عرف ذلك يعرف أن هذا بدعة، وكثير منهم لا يعرف أنه فاسد، بل يظن مع ذلك أنه صحيح من جهة العقل لكنه طويل أو بعيد المعرفة أو هو طريق مخيفة مخطر يخاف على سالكه، فصاروا يعيبونه كما يعاب الطريق الطويل والطريق المخيف، مع اعتقادهم أنه يوصل إلى المعرفة وأنه صحيح في

نفسه، وأما الحذاق العارفون تحقيقه فعلموا أنه باطل عقلاً وشرعاً، وأنه ليس بطريق موصل إلى المعرفة، بل إنما يوصل لمن اعتقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك، إذ كان حقيقته أن كل موجود فهو حادث مسبوق بالعدم، وليس في الوجود قديم، وهذا مكابرة، فإن الوجود مشهود، وهو إما حادث وإما قديم، والحادث لا بد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين. وكذلك ما ابتدعه في هذه الطريق ابن سينا وأتباعه من الاستدلال بالممكن على الواجب أبطل من ذلك، كما قد بسط ذلك في غير هذا الموضع. وحقيقته؛ أن كل موجود فهو ممكن، ليس في الوجود موجود بنفسه، مع أنهم جعلوا هذا طريقاً لإثبات الواجب بنفسه، كما يجعل أولئك هذا طريقاً لإثبات القديم، وكلاهما يناقض ثبوت القديم والواجب، فليس في واحد منهما إثبات قديم ولا واجب بنفسه، مع أن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم بالضرورة، ولهذا صار حذاق هؤلاء إلى أن الموجود الواجب والقديم هو العالم بنفسه، وقالوا هو الله، وأنكروا أن لا يكون للعالم رب مباين للعالم، إذ كان ثبوت القديم الواجب بنفسه لا بد منه على كل قول، وفرعون ونحوه ممن أنكر الصانع ما كان ينكر هذا الوجود المشهود. فلما كان حقيقة قول أولئك يستلزم أنه ليس موجود قديم ولا واجب لكنهم لا يعرفون أن هذا يلزمهم، بل يظنون أنهم أقاموا الدليل على إثبات القديم الواجب بنفسه، ولكن وصفوه بصفات الممتنع، فقالوا لا داخل العالم ولا خارجه، ولا هو صفة ولا موصوف، ولا يشار إليه ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تستلزم عدمه، وكان هذا مما تنفر عنه العقول والفطر، ويعرف أن هذا صفة المعدوم الممتنع لا صفة الموجود، فدليلهم في نفس الأمر يستلزم أنه ما ثم قديم ولا واجب، ولكن ظنوا أنهم أثبتوا القديم والواجب، وهذا الذي أثبتوه ممتنع فما أثبتوا قديماً ولا واجباً.

فجاء آخرون من جهتهم فرأوا هذا مكابرة، وأنه لا بد من إثبات القديم والواجب، فقالوا هو هذا العالم، فكان قدماء الجهمية يقولون إنه بذاته في كل مكان، وهؤلاء قالوا هو غير الموجودات، والموجود القديم الواجب هو نفس الوجود المحدث الممكن، والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه. وأما حقيقة قولهم فهو النفي؛ أن لا داخل العالم ولا خارجه، ولكن هذا لم يسمعه الأئمة ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم، ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان، ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية، وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام: جهمية الأوصاف إلا أنها ... قد حليت بمحاسن الأشياء وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب، فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر، إذ كان خلاف ما يعلمه كل واحد ببديهة عقله، فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها، ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث لا يحدث بنفسه، ولهذا قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 1 وقد قيل: خلقوا من غير شيء من غير رب خلقهم وقيل من غير مادة، وقيل من غير عاقبة وجزاء. والأول مراد قطعاً، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلا بد له من خالق. ثم ذكر الشيخ رحمه الله معرفة الفطر، ثم ذكر قول الأشعرية، والهشامية، والكرامية، وغيرهم، ثم أبطله بأوضح بيان وأجلى برهان. والمقصود، أن شيخ الإسلام لم يَرُدّ إلا على من خالف الشريعة وصادمها بقواعده، ولم يرد على أهل السنة وهم الذين كانوا على الصراط المستقيم ولم يخالفوا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، بل ذب عنهم وانتصر

_ 1 سورة الطور: 35.

لأقوالهم، غير أن النبهاني ظن أن ما هو عليه من الزيغ والإلحاد هو مذهب أهل السنة، ى قد سبق فيما نقلناه من مجالس الشيخ الثلاثة ما ينفع في المقام، بل كتبه طافحة بتفصيل ما قررناه فراجع أيّ كتاب شئت منها. وبما قررناه علم أيضاً أن ما نقله الزبيدي من كلام السبكي عند كلامه على أبيات ابن زفيل ساقط عن درجة الاعتبار، لأنه من خصوم شيخ الإسلام وحسدته، عدا ما كان عليه من الغلو والجهل والافتراء على أهل الحق، والظاهر أنه ليس له من الكلام على قصيدة العلامة ابن زفيل سوى ما نقله الزبيدي إن صح نقله، وإلا لذكره ولده التاج فيما عد من مؤلفاته في "الطبقات" ولم يذكره مع أنه أتى بجميع عُجَرِهِ وبُجَرِهِ. وأما ما نسب النبهاني إلى الشيخ من القول بالجهة فهو من افتراءات السبكي وابن حجر المكي وغيرهما من أعدائه وخصومه، والنبهاني قلدهم في هذا القول تقليداً أعمى كما هو ديدنه وعادته، وكتب الشيخ طافحة من تنزيه الله تعالى عن الجهة والجسمية، ومدار كلامه على ما ثبت بالكتاب والسنة وأقوال السلف، وأنشد في كتاب الفرقان: أيها المقتدي لتطلب علماً ... كل علم عبد لعلم الرسول تطلب الفرع كي تصحح حكماً ... ثم أغفلت أصل أصل الأصول ثم قال: والله يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. قال: وهذه الأصول ينبني عليها ما في القلوب ويتفرع عليها، وقد ضرب الله مثل الكلمة الطيبة التي في قلوب المؤمنين، ومثل الكلمة الخبيثة التي في قلوب الكافرين. ثم إنه أطنب الكلام في شرح الكلمتين، وأتى بما تقر به من المؤمن العين، كما هي عادته رحمة الله عليه، وسنتكلم إن شاء الله على العلو والاستواء عند

إبطال أقوال النبهاني التي هذى بها في هذا الباب، ويتميز بحوله تعالى القشر من اللباب.

[الكلام على كتاب "جلاء العينين"] وأما ما تكلم به النبهاني من الهذيان في شأن (جلاء العينين) ومصنفه، وتحذير المسلمين من مطالعته، وإخراج مصنفه عن حنفيته بل سنيته بسبب الذب عن ابن تيمية وانتصاره له؛ فهو كلام من لا ينبغي أن يخاطب ولا يوجه إليه مقال، فإن الله تعالى قال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1 وقال عز من قائل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. ومصنف "جلاء العينين" لم يذكر فيه إلا أقوال الفريقين وبسط فيه دلائل الطرفين، ودعا إلى الله وتوحيده، وبرهن على وجوب إفراده سبحانه بالعبادة، وذب عن خلص عباد الله، وحكى ما كان وأظهر ما زوره الخصم من البهتان، ومثل (جلاء العينين) ينبغي لكل مسلم أن يطالعه ويستفيد منه حقيقة دينه، ثم يدعو لمؤلفه بالمغفرة والرحمة والرضوان، وأن يجزيه عن خلص عباده خير الجزاء. ثم إنا قد ذكرنا حقيقة السنة والبدعة، وما ذكر فيهما أهل العلم من البيان الشافي والكلام الوافي، فأي مسألة ذكرت في "جلاء العينين" تخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وتستوجب التبديع، نعم ذكر فيه ضلالات أهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد، وهي ليست بخفية على أحد من الناس، وكتب العلم طافحة بذكر ذلك الهذيان ورد هذا الوسواس، فقد ألف السعد التفتازاني كتاباً رد فيه على الفصوص، وكذا العلامة الملا علي القاري الحنفي، والفهامة الشيخ محمد البخاري الحنفي وغيرهم.

_ 1 سورة الزمر: 18. 2 سورة آل عمران: 104.

وذكر أيضاً بدع القبوريين وأعمالهم الشركيه، وأظهر افتراء ابن حجر وخيانته في النقل واتباعه لهواه وخصومته للحق، وما كان من السبكي من العدوان والقول على الله بغير علم، وأي مذهب من مذاهب المسلمين يسوغ ما كان ابن حجر والسبكي ونحوهما من التجاوز والقدح في علماء السنة النبوية وحفّاظ الحديث بغير حق. أيرضى الإمام الشافعي وأكابر أصحابه والمنصفون من أتباعه بما كان من هؤلاء الغلاة؟ أم هل يسوغ الإمام أبو حنيفة أن يتلاعب أحد بالدين ويعرض عما ورد فيه الكتاب والسنة ويسلم لابن حجر وأضرابه كل ما هذى به؟ أم هل يبيح إمام دار الهجرة أن تباح أعراض ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم وحفّاظ حديثه أن يمزقها ابن حجر بأظفاره وأنيابه؟! وهكذا جميع أئمة الدين، وأكابر المجتهدين، وقد أوصى كل منهم باتباع الحق والإعراض عن الهوى ومجانبة التعصب، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ثم يقال للنبهاني: الخروج عن المذهب متى يكون؟ والتقليد بماذا كان؛ هل في الفروع والأصول معاً أم في الفروع لا في الأصول أم بالعكس؟ ولا شك أن النبهاني جاهل بكل ذلك لا يفرق بين الأصول والفروع، بل لا يميز بين الكوع والكرسوع. وأهل العلم ذكروا أن التقليد هو أخذ قول الغير من غير معرفة دليله من حيث إفادته الحكم إن لم يتمكن من استفراغ الوسع لتحصيل ظن الحكم، وإلا فيحرم عليه كما يحرم التقليد في العقائد، وقد رأيت كلاماً مفيداً لبعض أكابر الشافعية في بحث التقليد نذكره تتميماً للفائدة، قال: "ثم إني لم أزل متشبثاً بأذيال هذا الإمام، متمسكاً بعرى أقوال ذياك الهمام، مستغرقاً النهار والليل في استكشاف دقيق كلامه، مستنهضاً الرجل والخيل لارتشاف رحيق مدامه، لم أعرج على غير حماه، ولم أعرج لسوى سماه. أبعد سليمى مطلق ومرام ... وغير هواها لوعة وغرام

وكذا شأني مع أصحابه الكرام، وحالي مع أتباعه الفخام، لا ألوي عناني إلا على أطلالهم، ولا أسترشد بغير أقوالهم. وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد لا أميل إلى تقليد أحد من الأئمة، مع علمي بأن اختلافهم في الفروع رحمة، بل ديدني رفاقهم أنجدوا أم اتهموا، وديني وفاقهم أيمنوا أم أشأموا، إلى أن خاصمني مخاصم الإنصاف فخصمني، وعارضني معارض الاعتساف فأفحمني، وتبين لي بمخالطة الأنام، أن كثيراً من العقود لا تصح على مذهب الإمام، وأن تصحيحها كالمحال، وأن ليس للشافعي في ذلك مجال، فلم أر بدأ في هذا الزمان من تقليد إمام الأئمة أبي حنيفة النعمان، فقلدته في جميع معاملاتي، ولولا ما في قلبي للشافعي لاتبعته في سائر دياناتي. نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل ثم قال: فها أنا ذاك شافعي في عباداتي، حنفي في سائر معاملاتي، وهكذا سائر علماء الزمان في المعاملات على مذهب النعمان، قد طووا سنن الشافعي، ورفعوا أذكار النووي والرافعي، فلا نرى جاهلاً يستفتى، ولا عالماً في هاتيك المسائل يفتي. ما في الصحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خلاً نجاريه ويقال للنبهاني إذا كان الرجل من أتباع الإمام الشافعي قد قلد غيره في كثير من المسائل لا يخرجه ذلك عن تقليد إمامه فكيف حكم على من لم يتحقق لديه مخالفة إمامه ولا في مسألة واحدة بالخروج عن تقليده؛ بل كم رأينا من أصحاب الأئمة من خالفه في مسائل كثيرة ولم يقل أحد بخروجهم في ذلك عن التقليد أفيقال إن الإمام أبا يوسف بسبب مخالفته لإمامه في مسائل كثيرة خرج عن كونه حنفياً، وكذلك محمد، وكذلك زفر، وهكذا أصحاب كل إمام، فكيف يحكم النبهاني بهذا الحكم الفاسد، ويقول هذا القول الكاسد؟!

وللشيخ أحمد الطيبي منظومة فيما يحتاج الشافعي فيه إلى تقليد الإمام أبي حنيفة، وهي هذه بعد البسملة: الحمد لله الذي ما جعلا ... من حرج في الدين لكن سهلا لهذه الأمة فضلاً وكرم ... سبيل رشدها وأسبغ النعم ثم صلاة وسلام سرمدى ... منه على خير الأنام أحمد نبينا الذي به نلنا الهدى ... وآله وكل من به اهتدى وبعد فاعلم أن من قد قلدا ... من الأنام عالماً مجتهدا فجائز له بأن يقلدا ... آخر إلا أن يكون اعتقدا بأن من قلده في الأول ... أعلم من ثانيه فالمنع جلي فإذ عرفت الشرط واحتجت إلى ... تقليد غير الشافعي فافعلا كأن تقلد الإمام الأعظما ... أبا حنيفة الزكي المقدما في البيع والشرا بلا إيجاب ... ولا قبول منك في الخطاب بل بالمعاطاة إذا ما كثرا ... أوقل ما به المبيع والشرا وفي النجاسات التي البليه ... عمت بها ما لم تكن كلبيه من ذلك الفراء في الأثواب ... وفي القباقيب وفي النشاب وهو الفرا المعمول من غير السمك ... أما الذي منه فليس فيه شك كذا الفرا من نحو قط ونمر ... وكل مأكول ولم يكن نحر كذا الرماد من نجاسة حصل ... في مائع أو ما قليل أو محل أو شربة مع طينها قد عجنا ... أو طين أرض أو جدار أو لنا والعفو عن نجاسة قد كثفت ... ووزنها الدرهم حين وزنت كذاك عن رفيقة وبلغت ... مقدار بسط الكف لما بسطت كذاك في نقل زكاة الواجد ... للمستحق ولشخص واحد يدفعها ولو صبياً إن قبض ... إن بلغ التمييز ذاك المفترض ودفعنا من ذهب عن فضة ... وعكسه عند أبي حنيفة يكفي كذاك كلما ينتفع ... به الفقير كثياب تدفع

وقل زكاة الفطر مثل المنال ... فقس به في سائر الأحوال فتدفع القيمة عنها إن تشا ... أين أردت أو سواها كنشا كذاك في الأنثى إذا ما زوجت ... لنفسها أو غيرها إذ وكلت كذاك في التأجيل للصداق ... إلى الممات أو إلى الطلاق وأن ما يؤخذ من أموال ... بقصد تعزير من الحلال والقول في تعلق الحرام ... بذمة الجاني من الأنام لا يتعدى لسواها أصلاً ... قد رد حيث لم يلاق جهلاً نعم إذا غير من قد عصبا ... مغصوبه يملكه وإن أبى لكنه يحرم الانتفاع به ... حتى يؤدي للضمان فانتبه ونية الصلاة حيث وجدت ... ولم تكن من المصلي اقترنت بلفظة التكبير للإحرام ... فهي صحيحة لدى الإمام فمن يقلده به لا يعمل ... إلا بتطهير لديه يقبل وسعينا بين الصفا والمروة ... في حجنا وهكذا في العمرة ما عده فرضاً ولكن واجبا ... فمن به أخل لن يطالبا إلا بفدية ونسكه يصح ... وتلك شاة فادر فهو متضح ولم يقل شرط الطواف الطهر ... فإن يضق بنفساء الأمر أو حائض وهجمت وطافت ... فهو صحيح وفدت وتابت فإن يكن حجاً فدت ببدنه ... أو اعتماداً فبشاة بينه وإن تطلق ذات حيض وانقطع ... ما لم تحض ثم بلا التباس بأشهر ثلاثة تعتد ... كذاك قال الشافعي الفرد كذا أبو حنيفة وقالا ... في ذاك مالك وأحمد لا وإنما سبيلها إذا مضت ... تسع شهور بعد ما قد طلبت تعتد بالثلاثة الأشهر من ... بعد وسن اليأس عندنا ابن بانه اثنان وستون سنة ... على الصحيح وحكى من بينه عند الإمام الأعظم النعمان ... خمس وخمسون احتفظ بياني

وقس بما حوته ذي الصحيفة ... مقلدا غير أبي حنيفة فإن تكن قلدت في الكلبية ... مالكاً افعل ما مضى في النية ففي الوضوء امسح جميع الرأس ... لكي تتمه بلا التباس والحمد لله الذي ما عسرا ... على عباده ولكن يسرا والكلام في هذا الباب طويل، وكم أفرده بالتأليف فاضل جليل، وليس هذا مقام التفصيل. ثم نعود إلى النبهاني ونقول له: إن كثيراً من المعتزلة قلّدوا الإمام أبا حنيفة وهم- مع اعتقادهم الفاسد- لم يقل أحد بخروجهم عن مذهب أبي حنيفة، وهكذا في اتباع الشافعي وغيره من كان على عقيدة الاعتزال، حتى أن عد السبكي في "طبقاته" جماعة واتهم الماوردي أيضاً بذلك، وكثير من الكرامية والمرجئة كانوا أتباع الإمام أبي حنيفة، وكثير من المجسمة كانوا أتباع الشافعي، وقد سبق ذكر شيء من ذلك في المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام، كل هؤلاء على سوء اعتقادهم لم يخرجوا عن مذهب من قلدوه، فكيف ساغ للنبهاني أن يخرج عن الحنفية والسنة مصنف (جلاء العينين) وذكر العلة في ذلك وقال بسبب انتصاره لابن تيمية والذب عنه وتبريته عما نسب إليه. فلينظر المنصفون إلى حال هذا الرجل وغلوه وجهله وضلاله واتباعه لهواه وعجبه بنفسه، فكيف يسوغ أن يولى الحكم على بشر ويكون بيده زمام بعض الأمور؟ ما أنت بالحكم الترضي حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل اللهم إنا نشكو إليك ما أصبح اليوم عليه العالم الإسلامي من البلاء المبين، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها واستفتاء من غوى وضل عن سبيلك، وحيث أن هذا المبطل قد أفرد فصلاً من كتابه في الكلام على (جلاء العينين) ومصنفه أخرنا تمام البحث إلى أن نتكلم على ذلك الفصل إن شاء الله تعالى قال النبهاني بعد كلام له على الجهة وتكفير القائل بها: ولما كانت كتبه-

يعني ابن تيمية- قد طبعت ونشرت وكان فيها مسائل في العقائد مخالفة لعقائد أهل السنة والجماعة من الأشعرية والماتريدية، كان من اللازم على أكابر العلماء في هذا العصر أن يتصدوا لبيان تلك المسائل التي وقع فيها مخالفة أهل السنة، والتنبيه عليها ليحذرها الناس خوفاً عليهم من تشويش عقائدهم، ولما كان من أهم تلك اله سائل القول باعتقاد الجهة وهو كما ترى- وإن تستر بعض الحنابلة بنفيه عنه وعدم اعتقاده إياه- فهو مصرح باعتقاده. ثم قال: فقد رأيت أن أجمع رسالة أنقل فيها أقوال أكابر علماء المذاهب في استحالة الجهة على الله، قال: فجمعتها على هذا الوجه وسميتها (رفع الاشتباه في استحالة الجهة على الله) ثم ذكر الرسالة بحذافيرها وركة عباراتها، وزعم أن ما فيها اعتقاد جمهور علماء الأمة وأوليائها وأتباع المذاهب الأربعة وجميع الصوفية، وهم صفوة الصفوة من هذه الأمة، وخلاصة الخلاصة من أهل الملة، وخاصة الخاصة من المتبعين للكتاب والسنة، قال: فقد اتفق جمهورهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم في جميع الأعصار والأقطار، وفي كل القرى والبوادي والأمصار: على أن الله تعالى منزه عن الجهات، ونقل بزعمه ما يؤيد كلامه عن الغزالي والسيد مرتضى الزبيدي والفخر الرازي وشمس الدين محمد بن اللبان الشافعي واليافعي وابن حجر المكي وأمثال هؤلاء، ثم ختم رسالته بقصيدة زعم أنه قارض بها القصيدتين في الرد على أبيات السبكي، هذا حاصل ما تكلم به في هذا الباب وأتى بما قدر عليه. أقول في الجواب عن كلام النبهاني- هذا ومنه سبحانه التوفيق-: إن مسألة العلو والاستواء والنزول من غوامض المسائل، والنزاع فيها قديماً وحديثاً من المشهور بين العلماء، وقد ألف فيها كتب مفصلة وفرغ أهل العلم منها نفياً وإثباتاً، ومن المعلوم لدى كل منصف أن النبهاني ليس من رجال هذا الميدان، ولا ممن يعد في زمرة ذوي العرفان، ولا ممن له نصيب في فن من الفنون، ولا ممن يلتفت إليه في باب الجرح والتعديل ولا تنظر إليه العيون، بل هو الحريّ بقول القائل: أقول لمحرز لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام

وقد رأيت في طبقات ابن السبكي رسالة أخرى أشبه شيء بهذيان النبهاني، نسبها ابن السبكي للشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيي بن إسماعيل الكلابي الحلبي، وحيث كانت في الرد على ابن تيمية أدرجها ابن السبكي في ترجمة مؤلفها بتمامها ظناً منه أنها تروي غليله وتشفي عليله، وما دراها أنها سراب يحسبه الظمآن أعذب شراب، وهي نحو اثنين وثلاثين صحيفة قد اشتملت على كل سخيفة. وبناء على تعرض هؤلاء الغلاة لهذه المسألة وجب التصدي لرد إفكهم ورفع شركهم ببيان ما يعارضهم من النصوص، وما يناقضهم من البناء المرصوص، فنقول: إن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في هذا الباب مما لا يحصيها أولو الألباب، منها قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 1 وفي تفسير "روح المعاني" بعد أن ذكر كلام المؤولين: أن الداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة، والله تعالى منزه عنها، لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم أيضاً من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي وغيره، واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل، وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال2 عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله". وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي استشفع بالله تعالى عليه: "ويحك أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته - وقال بأصابعه مثل القبة- وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب"3. ومن حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة: "لقد حكمت

_ 1 سورة الأنعام: 18. 2 تقدم أنه حديث ضعيف. 3 أخرجه أبو داود (4726) وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" (1017) .

فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات"1. وفي حديث آخر قال: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 2. فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه"3. وأنشد عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته: شهدتُ بأن وعدَ الله حقٌّ ... وأن النارَ مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه4. وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله: شهدت بإذن الله أن محمداً ... رسول الذي فوق السموات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل وأن الذي عادى اليهود ابن مريم ... رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يقوم بذات الله فيهم ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد"5.

_ 1 أخرجه البخاري (3043) ومسلم (1768) . 2 سورة يس: 58. 3 أخرجه ابن ماجه (184) وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" (33) . 4 القصة ضعيفة لا تثبت، فصّل الكلام عليها العلامة المحقق مشهور بن- حسن آل سلمان- وفقه الله- في الجزء الثاني من "قصص لا تثبت" (ص 21- وما بعدها) . 5 أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (8/ 95/ 6068) وابن قدامة في "صفة العلو" (رقم: 37، 68) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (4/ 129- ط. دار الفكر) والذهبي في "العرش" (2/ 58- 59/ 53) وفي "العلو" (1/ رقم: 69، 73) وذكره في "السير" (2/ 518- 519) وذكره المزي في "تهذيب الكمال" (6/21) وابن القيم في "اجتماع الجيوش" (ص 117، 307، ط. الرشد) وابن أبي العز في "شرح الطحاوية" (ص 282- ط. المكتب الإسلامي) والهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/24) وقال: "رواه أبو يعلى، وهو مرسل". وقال الذهبي في "العرش،: "وأخبرنا بإسناد صحح ثابت..، وقال في "العلو": "مرسل". قلت: الإسناد إلى حبيب بن أبي ثابت صحيح؛ لكن حبيباً لم يدرك أحداً من الصحابة، وهو كان يدلس. فالإسناد مرسل. وقال العلامة الألباني في تحقيقه على "شرح الطحاوية": "ضعيف، رواه ابن سعد في "الطبقات" بسند ضعيف ومنقطع".

وعن ابن عباس في قوله تعالى- حكاية عن إبليس-: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} 1 أنه قال: لم يستطع أن يقول: "ومن فوقهم" لأنه قد علم أن الله تعالى من فوقهم2. والآيات والأخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية- كقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 3 {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4 وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 5 و {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 6. وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه

_ 1 سورة الأعراف: 17. 2 أثر ضعيف. أخرجه إسحاق بن راهويه كما في "المطالب العالية" (12/ رقم: 3011- ط. العاصمة) و"إتحاف الخيرة المهرة" (1/ 186/ 232- ط. دار الوطن) و"اجتماع الجيوش الإسلامية"، لابن القيم (ص 124) وابن قدامة في "العلو" (رقم 78) وعلقه الذهبي في "العلو" (2/825/ 262) . من طريق: إسحاق بن راهويه؛ عن إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وإسناده ضعيف لأجل إبراهيم بن الحكم؛ فهو "ضعيف". وأخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (12/341/ 14382) من طريق: حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان به. وإسناده ضعيف لأجل حفص بن عمر "مجمع على ضعفه". 3 سورة الزمر: 1. 4 سورة فاطر: 10. 5 سورة النساء: 158. 6 سورة المعارج: 4.

مسلم1 "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء" كثيرة جداً، وكذا كلام السلف في ذلك، فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) يسنده إلى أبي مطيع البلخي، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه عمن قال لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 وعرشه فوق سبع سموات، فقال: قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض فقال رضي الله عنه: هو كافر، لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله تعالى في أعلى عليين فهو يدعى من أعلى لا من أسفل"3 انتهى. وأيد القول بالفوقية أيضاً بأن الله لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلآ للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى سلم بأنه جل جلاله ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنياً فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعاً؛ فقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات، فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة

_ 1 برقم (2713) . 2 سورة طه: 5. 3 الخبر في "العلو" للذهبي (2/ 935/ 332) و"الفقه الأكبر" رواية أبي مطيع البلخي (ص 40، 44) و "شرحه" للقاري (ص 171) و"مجموع الفتاوى" (5/ 183) و"درء التعارض" (6/ 263) و"الفتوى الحموية" (ص 256) و"اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 139) و"شرح العقيدة الطحاوية" (ص 288) وغيرها كثير.

الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها غير الباطل، لاسيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟! قال: فلطم الإمام على رأسه ونزل- وأظنه قال وبكى- وقال: حيرني الهمداني1. وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ثم هو أيضاً منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولاً: فلأن كون السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من سلطان، والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في دعائه جماعة المسلمين. وأما ثانياً: فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة، وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلاً لا يسمى قبلة أصلاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، ولم يثبت ذلك في شرع أصلاً. وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض، فإن واضع الجبهة إنما

_ 1 الخبر في: "الفتاوى" (4/ 61) وفي "الاستقامة" (1/ 167) و "العلو" للذهبي (2/ 1347/ 538) و"السير" (18/ 477) و"الطبقات" للسبكي (5/190) و"اجتماع الجيوش " (ص 275) . وقال الشيخ الألباني في "مختصر العلو" (277/308) : "وإسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ".

قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته، بك هذا لا يخطر في قلب ساجد، نعم سُمِعَ عن بشر المريسي أنه يقول: سبحان ربي الأسفل!! تعالى عما يقول الجاحدون والظالمون علواً كبيراً. وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل، كما يقال الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم. وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداء: الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوء من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك، وليس في ذلك أيضاً تمجيد ولا تعظيم لله تعالى، بل هو من أرذل الكلام، فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه؟ وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، على أن في ذلك تنقيصاً لله تعالى شأنه، ففي المثل السائر: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف خير من العصا نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجاً على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1 وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} 2 وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 3 فهو أمر لا اعتراض عليه، ولا توجه سهام الطعن إليه. والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضاً، وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات، ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته

_ 1 سورة يوسف: 39. 2 سورة النحل: 59. 3 سورة طه: 73.

سبحانه وتعالى، منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه، ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً، لئلا يثبتوا معنى فاسداً أو ينفوا معنى صحيحاً، فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه. وأما لفظ الجهة؛ فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك. وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس لعناك إلا الله تعالى وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعنى ذلك أنه. فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه سبحانه كان قبل الجهات، وأنه من قال إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، وأنه جل شأنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليمس في شيء من المخلوقات سواء سمي جهة أم لم يسم وهو كلام حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك. وبالجملة؛ يجب تنزيه الله تعالى من مشابهة المخلوقين، وتفويض علم ما جاء به من المتشابهات إليه عز شأنه، والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه، والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف، والله أعلم بمراده. انتهى ما ذكر في "روح المعاني" وهو مما يزهق روح النبهاني، ويرد التأويل الذي تلعق به الشيخ أحمد الحلبي الكلابي. وتفصيل الكلام في هذا المقام يطلب من كتب شيخ الإسلام وتلامذته، فإنهم أحسن من صنف في هذه المسائل، وفيها يجد المنشد ضالته، وقد ألف

الشيخ الحافظ أبو بكر الشهير بابن القيم كتابه (غزو الجيوش الإسلامية في الرد على الجهمية) وكتابه (الصواعق المرسلة على الدهرية والمعطلة) في هذه المطالب العالية، وبسط كلامه فيها كل البسط كما هو شأن كرمهم وجودهم في سخاء نفوسهم ببذل كنوز العلم طيب الله تعالى ثراهم. وقد تكلم ابن القيم في "غزو الجيوش الإسلامية" على مسألة العلو، فذكر أولاً مما ورد من النصوص في الكتاب والسنة وبين معانيها على أتم وجه، ثم ذكر فصلاً فيما حفظ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، ولا يمكن هنا استيفاء ما ذكروه كله بل نقتصر على ذكر أقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى1: (قول الإمام أبي حنيفة قدس الله روحه) قال البيهقي2: حدثنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، قال حدثنا أبو حيان: أن أحمد بن جعفر بن نصر قال: حدثنا يحيي بن يعلى، سمعت نعيم بن حماد يقول: سمعتُ نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر إذ جاءته امرأة من ترمِذ كانت تجالس جهماً فدخلت الكوفة، فقيل لها: إن ههنا رجلاً قد نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة فَأْتِيه، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك؟ أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا وقد وضع كتاباً: أن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى {َهُوَ مَعَكُمْ} 3 قال: هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب. قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيما نفى عن الله تعالى وتقدس من الكون في الأرض وفيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السمع في

_ 1 "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 137- وما بعدها) . 2 "الأسماء والصفات" (2/337- 338/ 905) . وقال محققه (عبد الله الحاشدي- ردّه الله للحق) : إسناده ضعيف جداً. 3 سورة الحديد: 4.

قوله الله عز وجل: {فِي السَّمَاءِ} 1. قال شيخ الإسلام: وفي كتاب "الفقه الأكبر" المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رواه- بإسناد عن أبي مطيع البلخي- الحكم بن عبد الله، قال سألت أبا حنيفة عن "الفقه الأكبر" قال: لا تكفر أحداً بذنب، ولا تنفي أحداً من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توال أحداً دون أحد، وإن ترد أمر عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما إلى الله تعالى. قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه عز وجل خير من أن يجمع العلم الكثير، قال أبو مطيع: قلت: فأخبرني عن أفضل الفقه، قال: يتعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة، وذكر مسائل في الإيمان، ثم ذكر مسائل في القدر، ثم قال: فقلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك ناس فيخرج عن الجماعة هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ فقال: كذلك لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام، وذكر الكلام في قتال الخوارج والبغاة إلى أن قال: قال أبو حنيفة: ومن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر، لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 وعرشه فوق سبع سموات، قلت: فإن قال إنه على العرش ومنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وفي لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرت ربي شي السماء أو في

_ 1 سورة البقرة: 144. 2 سورة طه: 5.

الأرض، قال: كفر لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سموات، قال فإنه يقول على العرش استوى، ولكنه لا يدري العرش في الأرض أو في السماء، قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. روى هذا عن شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) بإسناده. قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى: ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة رحمه الله عند أصحابه أنه كفر الواقف الذي يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء ولا في الأرض، واحتج على كفره بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله الرحمن على العرش استوىا بتن في أن الله عز وجل فوق السموات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله فوق العرش، ثم أردف بذلك بكفر من توقف في كون العرش في السماء أو في الأرض قال لأنه أنكر أن يكون في السماء وأن الله في أعلى عليين، وأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل، واحتج بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله عز وجل في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وكذلك أصحابه من بعده كأبي يوسف وهشام بن عبد الله الرازي، كما روى ابن أبي حاتم وشيخ الإسلام بأسانيدهما أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري حبس رجلاً في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه. فقال: أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن في خلقه. قال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب. وسيأتي قول الطحاوي عند أقوال أهل الحديث. (قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى) ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد) 1 بسنده، قال: قال مالك بن أنس: الله في السماء وعلمه

_ 1 "التمهيد" (7/138) .

في كل مكان لا يخلو منه مكان. قال: وقيل لمالك: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فقال رحمه الله تعالى: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤال عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء. (وكذلك أئمة أصحاب مالك من بعده) قال يحيى بن إبراهيم الطليطلي في كتاب (سير الفقهاء) - وهو كتاب جليل غزير العلم- بسنده: كانوا يكرهون قول الرجل: يا خيبة الدهر، وكانوا يقولون: الله هو الدهر، وكانوا يكرهون قول الرجل رغم أنفي لله، وإنما يرغم أنف الكافر، وكانوا يكرهون قول الرجل: والله حيث كان أو أن الله بكل مكان، قال أصبغ: وهو مستو على عرشه وبكل مكان علمه وإحاطته. وأصبغ من أجل أصحاب مالك وأفقههم. (ذكر قول أبي عمرو الطلمنكي) قال في كتابه في الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضاً: أجمع أهل السنة على أن الله استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز. ثم ساق سنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان. ثم قال في هذا الكتاب: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1 ونحو ذلك من القرآن بأن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته مستقر على عرشه كيف شاء، وهذه القصة في كتابه. (قول الإمام الحافظ أبي عمر بن عبد البر) إمام السنة في زمانه رحمه الله تعالى، قال في كتاب (التمهيد) في شرح الحديث الثامن لابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له" هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية

_ 1 سورة الحديد: 4.

في قولهم إن الله في كل مكان وليس على العرش، والدليل على صحة ما قال أهل الحق في ذلك قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 2 وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} 3 وقوله تعالى: {إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 4 وقوله تبارك اسمه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 5. وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} 6. وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 7 وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} 8 وهذا من العلو، وكذلك قوله تعالى: {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 9 و {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 10 و {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْش} 1 1 و {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 12 والجهمي يقول إنه أسفل، وقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 1 3 وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 14 وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ} 15 وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 16 وقال تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ

_ 1 سورة طه: 5. 2 سورة السجدة: 4. 3 سورة فصلت: 11. 4 سورة الإسراء: 42. 5 سورة فاطر: 18. 6 سورة الأعراف: 143. 7 سورة الملك: 16. 8 سورة الأعلى: 1. 9 سورة البقرة: 255. 10 سورة الرعد: 9. 11 سورة غافر: 15. 12 سورة النحل: 50. 13 سورة آل عمران: 55. 14 سورة النساء: 158. 15 سورة فصلت: 38. 16 سورة السجدة: 5.

الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 1 والعروج هو الصعود. وأما قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 2 فمعناه من على السماء، يعني على العرش، وقد تكون في بمعنى على، ألا ترى إلى قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} 3 أي على الأرض، وكذلك قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 4 وهذا كله يعضده قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5 وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا، وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة. وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل (استوى) استولى فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله على الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له، ولو ساغ ادعاء الممجاز لكل مبتدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح "عناه عند السامعين. والاستواء معلوم وفي اللغة مفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: علا، قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي: استقر، واحتج بقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 6 انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: الاستواء

_ 1 سورة المعارج: 2- 4. 2 سورة الملك: 16. 3 سورة التوبة: 2. 4 سورة طه: 71. 5 سورة المعارج: 4. 6 سورة القصص: 14.

الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه، فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} 1 وقال تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 2 وقال تعالى: {اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 3. قال الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى لأن النجم لا يستولي، وقد ذكر النضر بن شميل- وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة- قال: حدثني الخليل- وحسبك بالخليل- قال أتيت أبا ربيعة الأعرابي- وكان من أعلم ما رأيت- فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال أعرابي إلى جانبه إنه أمركم أن ترتفعوا، فقال الخليل هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} 4 فصعدنا إليه. قال: وأما من نازع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان. فالجواب: أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولون وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث لو عقلوا وأنصفوا؟ أما سمعوا الله سبحانه يقول: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ *

_ 1 سورة الزخرف: 13. 2 سورة هود: 44. 3 سورة المؤمنون: 28. 4 سورة فصلت: 11.

أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} 1. وقال الشاعر: فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت، وفيه يقول في وصف الملائكة: وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه ... يعظم رباً فوقه ويمجد قال: فإن احتجوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} 2 وبقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 3 وبقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} 4. وزعموا أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته- تبارك وتعالى جده-. قيل: لا خلاف بيننا وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود لأهل السماء، وفي الأرض إله معبود لأهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش، فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر. وأما قوله في الآية الأخرى {وفي الأرض له} فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد بأنه معبود أهل الأرض وأهل السماء، فتدبر هذا فإنه قاطع. ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السموات ألسبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر ونزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء يستغيثون الله

_ 1 سورة غافر: 36- 37. 2 سورة الزخرف: 84. 3 سورة الأنعام: 3. 4 سورة المجادلة: 7.

ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاجوا فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطراري لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنظره عليهم مسلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأَمَة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة فاختبرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال لها: "أين الله"؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: "من أنا"؟ قالت: أنت رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة" 1. فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه. قال: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش وعلمه في كل مكان. وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، وذكر سنيد عن مقاتل بن حبان عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 2 قال: هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا3. قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله، قال سنيد بسنده إلى ابن مسعود، قال: الله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. ثم ساق من طريق يزيد من هارون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة

_ 1 أخرجه مسلم (537) وغيره. وهو حديث صحيح خرّجه جمع كبير من أئمة الحديث وحفّاظهم من طرق صحيحة كالشمس في واضحة النهار، ولكن أهل البدع لا يعقلون، فيعلّون الحديث تارة بالاضطراب! وتارة بالشذوذ!! ولا اضطراب إلا في عقولهم، ولا شذوذ إلا في أفكارهم، والله المستعان وحده، ولا حول ولا قوة إلا به. 2 سورة المجادلة:7. 3 أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (7/139) وعبد الله بن أحمد في "السنة" (1/304/592) والذهبي في "العلو" (2/918/326) – معلقاً – وابن بطة في "الإبانة" (رقم:109) والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/341/909) وغيرهم؛ بإسناد حسن.

لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1 وأنه يجيء يوم القيامة بعد أن لم يكن جائياً والملك صفاً صفاً لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأنه يرضى، ويحب التوّابين، ويسقط على من كفر به، ويغضب ولا يقوم شيء لغضبه، وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، وأن لله سبحانه كرسياً، كما قال عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 2 كما جاءت به الأحاديث: أن الله سبحانه يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء. وقال مجاهد: كانوا يقولون ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض. وأن الله سبحانه يراه أولياؤه في المعاد بأبصارهم لا يضامون في رؤيته، كما قال عز وجل في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 4 هو النظر إلى وجهه الكريم5. وأنه يكلم عباده يوم القيامة ليس بينه وبينهم واسطة ولا ترجمان، وأن الجنة والنار داران قد خلقتا؛ أعدت الجنة للمؤمنين المتقين، والنار للكافرين الجاحدين، ولا يفنيان، والإيمان بالقدر خيره وشره، وكل ذلك قد قدره ربنا سبحانه وتعالى وأحصاه وعلمه، وأن مقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه، تفضل على من أطاع فوفقه وحبب الإيمان إليه وزينه في قلبه فيسره، وشرح له صدره ونور قلبه فهداه، ومن يهدي الله فما له من مضل، وخذل من عصاه وكفر به فأسلمه ويسره فحجبه وأضله، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً، وكل ينتهي إلى سابق علمه لا تخصيص لأحد عنه. وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد ذلك بالطاعة وينقص بالمعصية نقصاً عن حقائق الكمال لا محبط للإيمان، ولا قول

_ 1 سورة ص: 75. 2 سورة البقرة: 255. 3 سورة القيامة: 22- 23. 4 سورة يونس: 26. 5 انظر "صحيح مسلم" (163) بنحوه.

إلا بعمل، ولا عمل ولا قول إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة. وأنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وإن كان كبيراً، ولا يحبط الإيمان غير الشرك بالله تعالى، كما قال سبحانه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} 1 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} 3 وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 4 وأن ملك الموت يقبض الأرواح كلها بإذن الله تعالى متى شاء، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 5. إن الخلق ميتون بآجالهم، فأرواح أهل السعادة باقية منعمة إلى يوم القيامة، وأرواح أهل الشقاء في سجين معذبة إلى يوم القيامة، وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأن عذاب القبر حق، وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويضغطون ويسألون، ويثبت الله منطق من أحب تثبيته، وأنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، كما بدأهم يعودون، حفاة عراة غرلاً، وأن الأجساد التي أطاعت أو عصت هي التي تبعث يوم القيامة لتجازى، والجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على من تشهد عليه منهم، وينصب الموازيبن لوزن أعمال العباد، فأفلح من ثقلت موازينه، وخاب وخسر من خفت موازينه، ويؤتون صحائفهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً، ومن أوتي كتابه بشماله فسوف يدعو تبوراً ويصلى سعيراً، وأن الصراط

_ 1 سورة الزمر: 65. 2 سورة النساء: 48. 3 سورة الإنفطار: 10- 11. 4 سورة ق: 18. 5 سورة السجدة: 11.

جسر مورود يجوزه العباد بقدر أعمالهم، فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أبقتهم أعمالهم فيها يتساقطون. وأنه يخرج من النار من في قلبه شيء من الإيمان، وأن الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين، ويخرج بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من النار من أمته بعد أن صاروا فحماً، يطرحون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل. والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من غير وبدل. والإيمان بما جاء من خبر الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم على ما صحت به الروايات، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى من آيات ربه الكبرى، وبما ثبت من خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام حكماً عدلاً وقتله الدجال، وبالآيات التي بين يدي الساعة من طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة وغير ذلك مما صحت به الروايات. ونصدق بما جاءنا عن الله في كتابه وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأخباره، فوجب العمل بمحكمه، ونؤمن بمشكله ومتشابهه، ونكل ما غاب عنا من حقيقة تفسيره إلى الله تعالى، والله يعلم تأويل المتشابه من كتابه، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وبكل ما غاب عنا من حقيقة تفسيره، كل من عند ربنا. وقال بعض الناس: الراسخون في العلم يعلمون مشكله، ولكن الأول قول أهل المدينة وعليه يدل الكتاب. وإن أفضل القرون قرن الصحابة رضي الله عنهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وأن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، وقيل ثم عثمان وعلي، ويكف عن التفضيل بينهما، روي ذلك عن مالك، وقال: ما أدركت أحداً أقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه، فرأى الكف عنهما، وروي عنه القول الأول وهو قول أهل الحديث، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر من المهاجرين ومن الأنصار ومن جميع الصحابة على قدر الهجرة والسابقة والفضيلة، وكل من صحبه ولو ساعة أو رآه ولو مرة فهو بذلك أفضل من التابعين. والكف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير ما يذكرون به، وهم أحق أن ننشر ذكر محاسنهم، ونلتمس لهم أفضل مخارجهم، ونظن بهم أحسن المذاهب، قال

النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوني في أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 1 وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا"2 قال أهل العلم لا يذكرون إلا بأحسن ذكر. والسمع والطاعة لأئمة المسلمين، وكل من ولي أمر المسلمين عن رضى أو عن غلبة أو شدة، وطاعته من بر أو فاجر فلا يخرج عليه جار أو عدل، ونغزو معه العدو، ونحج معه البيت، ودفع الصدقات إليهم مجزية إذا طلبوها، ونصلي خلفهم الجمعة والعيدين- قاله غير واحد من العلماء- وقال مالك: لا نصلي خلف المبتدع منهم إلا أن نخافه فنصلي خلفه- واختلف في الإعادة- ولا بأس بقتال من دافعك من الخوارج واللصوص من أهل المسلمين وأهل الذمة عن نفسك ومالك، والتسليم للمسلمين لا تعارض برأي ولا تدافع بقياس، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه، وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا عنه، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوا ورأوه في الحوادث، ولا نخرج من جماعاتهم فيما اختلفوا فيه وفي تأويله، وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيناه، وكله قول مالك، فمنه منصوص من قوله ومنه من مذهبه، قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور سنناً؛ الأخذ بها تصديق لكتاب الله تعالى، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله تعالى، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها، من اهتدى بها هدي، ومن استنصر بها نصر، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً3. قال مالك:

_ 1 تقدم تخريجه بلفظ: "لا تسبوا أصحابي..". 2 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (10/ رقم: 10448) وأبو نعيم في "الحلية" (4/108) رفي "الإمامة والرد على الرافضة" (رقم: 198) من حديث عبد الله بن مسعود. وهو حديث صحيح بالشواهد؛ انظر: "الصحيحة" رقم (34) . 3 الخبر أخرجه: الآجري في "الشريعة" (1/174، 200/ 98، 146- ط. الوليد سيف النصر) والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 386) واللالكاني في "شرح أصول الاعتقاد" (1/94/134) وابن بطة في "الإبانة" (رقم: 230، 231) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/1176/ 2326) والخلال في "السنة" (4/127/1329) والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (1/435-436/455) وفي "شرف أصحاب الحديث" (رقم:50) . وهو أثر صحيح. وذكره كل من: الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة" (1/109) والشاطبي في "الاعتصام" (1/144- ط. الشيخ مشهور) والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/172) وغيرهم كثير.

أعجبني عزم عمر رضي الله عنه في ذلك، ما أصلبه في السنة وأقومه بها. (قول الإمام أبي بكر محمد بن وهب المالكي شارح رسالة ابن أبي زيد ومن المشهورين بالفقه والسنة رحمه الله تعالى) قال في شرحه للرسالة: ومعنى فوق وعلى واحد بين جميع العرب في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تصديق ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 1 وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 وقال تعالى في وصف الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 3 وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 4 ونحو ذلك كثير، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعجمية: "أين الله " فأشارت إلى السماء. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرج به من الأرض إلى السماء ثم من سماء إلى سماء إلى سدرة المنتهى، ثم إلى ما فوقها، حتى لقد قال: "سمعت صريف الأقلام". ولما فرضت الصلاة جعل كلما هبط من مكانه تلقاه موسى عليه السلام في بعض السماوات وأمره بسؤال التخفيف عن أمته، فرجع صاعداً مرتفعاً إلى الله سبحانه وتعالى يسأله حتى انتهت إلى خمس صلوات، وسنذكره إن شاء الله تعالى عن قريب. (قول الإمام أبي القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي رحمه الله تعالى) قال في الجزء الأول من كتاب (الاهتداء لأهل الحق والاقتداء) من تصنيفه من شرح الملخص للشيخ أبي الحسن القابسي رحمه الله تعالى عن مالك بن شهاب عن

_ 1 سورة الفرقان: 59. 2 سورة طه: 5. 3 سورة النحل: 50. 4 سورة فاطر: 10.

عبد الله الأغر وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا- حين يبقى ثلث الليل الآخر- فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفر فأغفر له؟ ". في هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سموات من غير مماسة ولا تكييف كما قال أهل العلم، ودليل قولهم أيضاً من القرآن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 1 وقوله تعالى: {إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 2 وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} 3 وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 4. وقوله لعيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 5 وقوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} 6. {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 7 والعروج هو الصعود، قال مالك ابن أنس رحمه الله تعالى: الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان. يريد والله أعلم بقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 8 وكما قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 9 أي: من على السماء يعني على العرش، وكما قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} 10 أي: على الأرض. وقيل لمالك {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال مالك رحمه الله

_ 1 سورة السجدة: 4. 2 سورة الإسراء: 42. 3 سورة السجدة: 5. 4 سورة المعارج: 4. 5 سورة آل عمران: 55. 6 سورة المعارج: 2- 3. 7 سورة المعارج: 4. 8 سورة طه: 71. 9 سورة الملك: 16. 10 سورة التوبة: 2.

لقائله: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء. قال أبو حنيفة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 أي علا. قال: ويقول العرب استويت فوق الدابة أو فوف البيت. وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء، وإن استوى بمعنى استولى، لأن الاستيلاء في اللغة المغالبة وأنه لا يغالبه أحد، وإن من حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا سبحانه وتعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله تعالى إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع ذلك ما يوجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله تعالى أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة وهو العلو والارتفاع والتمكن. ومن الحجة أيضاً في أن الله سبحانه وتعالى على العرش فوق السموات السبع: أن الموحدين أجمعين إذا كرهبم أمر رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون الله ربهم، وقوله صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها أن يعتقها: "أين الله "؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: "من أنا"؟ قالت: أنت رسول الله، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". فاكتفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء دل على ما قدمناه أنه على العرش، والعرش فوق السموات السبع، ودليل قولنا أيضاً قول أمية ابن أبي الصلت في وصف الملائكة عليهم السلام: وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه ... يعظم رباً فوقه ويمجد فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ

_ 1 سورة طه: 5.

السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 1 فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذباً. فإن احتج أحد علينا فيما قدمناه وقال له كان كذلك لأشبه المخلوقات لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق؛ فشيء لا يلزم ولا معنى له، لأنه تعالى ليس كمثله شيء من خلقه، ولا يقاس بشيء من بريته، ولا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس، كان قبل الأمكنة، ثم يكون بعدها، لا إله إلا هو خالق كل شيء لا شريك له، وقد اتفق المسلمون وكل ذي لب أنه لا يعقل كائن إلا في مكان ما وما ليس في مكان فهو عدم، وقد صح في العقول وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل لا في مكان وليس بمعدوم فكيف يقاس على شيء من خلقه أو يجري بينهم وبينه تمثيل أو تشبيه؟! تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فإن قال قائل: إذا وصفنا ربنا تعالى أنه كان في الأزل لا في مكان ثم خلق الأماكن فصار في مكان؛ ففي ذلك إقرار منافيه بالتغيير والانتقال إذا زالت عن صفته في الأزل وصار في مكان دون مكان. قيل له: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان ثم صار في كل مكان فنقل صفته من الكون لا في مكان إلى صفة هي الكون في كل مكان فقد تغير عندك معبودك وانتقل من لا مكان إلى كل مكان. فإن قال: إنه كان في الأزل في كل مكان وكما هو الآن؛ فقد وجب الأماكن والأشياء معه في أزليته وهذا فاسد. فإن قال: فهل يجوز عندك أن ينتقل من مكان في الأزل إلى مكان؟ قيل له: أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه، لأن كونه في الأزل لا يوجب مكاناً، وكذلك نقلته توجب مكاناً وليس في ذلك كالخلق، لأن كونه يوجب مكاناً من الخلق ونقلته لا توجب مكاناً ويصير منتقلاً من مكان إلى

_ 1 سورة غافر: 36- 37.

مكان، والله تعالى ليس كذلك، ولكن نقول استوى من لا مكان إلى مكان، ولا نقول انتقل وإن كان المعنى في ذلك واحداً، كما نقول له عرش ولا نقول له سرير، ونقول هو الحكيم ولا نقول هو العاقل، ونقول خليل إبراهيم ولا نقول صديق إبراهيم عليه السلام وإن كان المعنى في ذلك واحداً، لأنا لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه على ما تقدم، ولا ندفع ما وصف به نفسه لأنه دفع للقرآن، وقد قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 1 وليس مجيئه حركة ولا زوالاً ولا ابتدالاً، لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسماً أو جوهراً، فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا انتقالاً، ولو اعتبرت ذلك بقولهم جاءت فلاناً قيامته وجاءه الموت وجاءه المرض وشبه ذلك مما هو وجود نازل به لا مجيء؛ لبان ذلك وبالله العصمة والتوفيق. فإن قال: إنه لا يكون مستوياً على مكان إلا مقروناً بالكيف. قيل له: قد يكون الاستواء واجباً والتكييف مرتفعاً، وليس رفع التكييف يوجب رفع الاستواء، ولو لزم هذا لزم التكييف في الأزل ولا يكون كائناً في الإمكان ولا مقروناً بالتكييف. فإن قال: إنه كان ولا مكان وهو غير مقرون بالتكييف، وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحاً في أبداننا ولا نعلم كيفية ذلك وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أن ليس على عرشه، وقد روى عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله؛ أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماء والأرض؟ قال: "كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء" 2. قال أبو القاسم: العماء؛ ممدود وهو السحاب، والعمى مقصور وهو الظلمة، وقد زوي الحديث بالمد والقصر، فمن رواه بالمد فهو عنده

_ 1 سورة الفجر: 22. 2 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (4/11) والترمذي (3109) وابن ماجه (182) وغيرهم، وضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" (602) .

"كان في عَمَاء سحاب ما تحته هواء وما فوقه هواء" والهاء راجعة إلى العماء، ومن رواه بالقصر فمعناه عنده: كان في عمى عن خلقه، لأنه من عمى عن الشيء فقد أظلم عنه. وعن مجاهد قال: إن بين العرش وبين الملائكة لسبعين حجاباً من نور وحجاباً من ظلمة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله تعالى على العرش، ويعلم أعمالكم. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أيضاً: إنه فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. قال أبو القاسم: يريد فوق العرش، لأن العرش آخر المخلوقات ليس فوقه مخلوق، والله تعالى أعلى المخلوقات دون تكييف ولا مماسة، ولا أعلم في هذا الباب حدثاً مرفوعاً إلا حديث عبد الله بن عميرة عن الأحنف عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى سحابة فقال: "ما تسمون هذه؟ " قالوا: السحاب، قال: "والمزن؟ " قالوا: والمزن، قال: "والعنان؟ " قالوا: والعنان، قال: "كم ترون بينكم وبين السماء؟ " قالوا: لا ندري، قال: " بينكم وبينها إما واحد أو اثنان أو ثلاث وسبعون سنة، والسماء فوقها كذلك بينهما مثل ذلك حتى عد سبع سموات، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك"1. هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود. (قول الإمام أبي عبد الله محمد بن عيسى المالكي المشهور بابن أبي زمنين رحمه الله تعالى) قال في كتابه الذي صنفه في أصول السنة: (باب الإيمان بالعرش) : ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وفي قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

_ 1 أخرجه أبو داود (4723) وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" (1014) وقد تقدم.

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} 1 وذكر حديث أبي رزين العقيلي (قلت: يا رسول الله؛ أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: "كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء". ثم ذكر الآثار في ذلك، إلى أن قال: (باب الإيمان بالحجب) . قال: ومن قول أهل السنة أن الله تعالى بائن من خلقه محتجب عنهم بالحجب؛ إلى أن قال: (باب الإيمان بالنزول) قال: ومن قول أهل السنة إن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وذكر حديث النزول، ثم قال: وهذا الحديث يبين أن الله تعالى على عرشه في السماء دون الأرض، وهو أيضاً بيّن في كتاب الله تعالى وتقدس في غير ما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 2 وساق الآيات في العلو، وذكر من طريق مالك قول النبي صلى الله عليه وسلم "أين الله؟ " ثم قال: والحديث في مثل هذا كثير. (قول القاضي عبد الوهاب إمام المالكية بالعراق ومن كبار أهل السنة رحمه الله تعالى) صرح بأن الله استوى على عرشه بذاته، نقله شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى وقدس روحه- في غير موضع من كتبه، ونقله عنه القرطبي في شرح الأسماء الحسنى.

_ 1 سورة الحديد: 4. 2 سورة السجدة: 5.

الكلام على كتاب "جلاء العينين"

الكلام على كتاب "جلاء العينين" ... خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش ويعلم أعمالكم1. وذكر هذا الكلام أو قريباً منه في كتاب "الاستذكار". (ذكر قول الإمام مالك الصغير) أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني. قال في خطبته برسالته المشهورة: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات؛ من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان: أن الله إله واحد، لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، ولا يبلغ كنه صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2 وهو العليم الخبير، المدبر القدير، السميع البصير، العلي الكبير، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو بكل مكان بعلمه. وكذلك ذكر مثل هذا في نوادره وغيرها من كتبه. وذكر في كتاب المفرد في السنة تقرير العلو واستواء الرب تعالى على عرشه بذاته أتم تقرير، فقال: ما اجتمعت عليه الأمة من أمور الديانة من السنن التي خلافها بدعة وضلالة؛ أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، لم يزل بجميع صفاته، وهو سبحانه موصوف بأنه له علماً وقدرة ومشيئة، أحاط علماً بجميع ما بدم قبل كونه، وفطر الأشياء بإرادته وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3 وأن كلامه صفة من صفاته ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد، وأن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام بذاته، وأسمعه كلامه لا كلاماً قام في غيره، وأنه يسمع ويرى، ويقبض ويبسط، وأن يديه مبسوطتان، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، وأن يديه غير نعمته في ذلك، وفي قوله سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ

_ 1 أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" (1/ 242- 244/ 149، 150) . 2 سورة البقرة: 255. 3 سورة يس: 82.

ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وقدس روحه

(ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وقدس روحه) قال الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا أبو شعيب وأبو ثور، عن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم- مثل سفيان ومالك وغيرهما-؛ الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً

رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء. قال عبد الرحمن: وحدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول- وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به- فقال: لله أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدل، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بروية الفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، وتثبت هذه الصفات وتنفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وصح عن الشافعي أنه قال: خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حق قضاها الله في سمائه، وجمع عليها قلوب عباده، ومعلوم أن المقضي في الأرض والقضاء فعله سبحانه وتعالى المتضمن لمشيئته وقدرته. (وقال في خطبة رسالته) : الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه، فجعل صفاته سبحانه إنما تتلقى بالسمع. وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي محمد ابن إدريس الشافعي رضي الله عنه: الأصل قرآن وسنة فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد منه فهو سنة، والإجماع أكبر من الخبر الفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره فهو أولاها به. ثم ذكر قول صاحبه إمام الشافعية في وقته، أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى

_ 1 سورة الشورى: 11.

المزني في رسالته في السنة التي رواها أبو طاهر السلفي عنه بإسناده وساقها كلها. وقول إمام الشافعية في وقته، أبي العباس بن شريح رحمه الله تعالى، وساق كلامه أيضاً. وقول الإمام حجة الإسلام أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد، ثم ساق كلامه. وقول الإمام إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي صاحب كتاب "الترهيب والترغيب" وكتاب "الحجة في بيان المحجة ومذهب أهل السنة" وكان إمام الشافعية في وقته رحمه الله تعالى، ونقل فصلاً من كتاب الحجة في بيان استواء الله تعالى على عرشه، وساقه كله. ثم ذكر قول الإمام أبي عمر، وعثمان بن أبي الحسن بن الحسين السهروردي الفقيه المحدث من أئمة أصحاب الشافعي من أقران البيهقي، وأبي عثمان الصابوني وطبقتهما، له كتاب في أصول الدين، وساق كلامه وفيه: ومن صفاته تبارك وتعالى فوقيته واستواؤه على عرشه بذاته كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف ... إلخ. ثم ذكر قول إمام الشافعية في وقته، الإمام أبي بكر محمد بن محمود بن سورة التيمي فقيه نيسابور رحمه الله تعالى، وساق كلامه في كتابه الذي ألفه في السنة على مذهب أهل الحديث. ثم ذكر أقوال جماعة من اتباع الأئمة الأربعة ممن يقتدى بأقوالهم سوى ما تقدم منهم أبو بكر محمد بن وهب المالكي شارح رسالة ابن أبي زيد عليهما الرحمة، وساق كلامه الذي في شرحه بنصه. ومنهم إمام الشافعية في وقته بل هو الشافعي الثاني أبو حامد الإسفرائيني رحمه الله، وكان من كبار أئمة السنة المثبتين للصفات، فقد قال: مذهبي ومذهب الشافعي وجميع علماء الأمصار أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن قال

مخلوق فهو كافر. إلى آخر كلامه، وفيه إثبات صفة العلو لله. ومنهم إمام الشافعية في وقته سعد بن علي الزنجاني صرح بالفوقية بالذات، فقال: هو فوق عرشه بوجود ذاته هذا لفظه، وهو إمام في السنة له قصيدة فيها معروفة، أولها: تمسك بحبل الله واتبع الأثرا. وقد شرحها. ومنهم الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري الإمام في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ واللغة والنحو والقرآن، ثم ساق عبارته في كتابه "صريح السنة" وفيه إثبات العلو لله تعالى، وعبارته من تفسيره عند الكلام على قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} علا وارتفع. وساق جميع عباراته التي ذكرها في هذا الباب. ومنهم الإمام أبو القاسم الطبري اللالكائي أحد أئمة أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى، وساق كلامه في كتاب "السنة" وهو مشتمل على مثل ما سبق. ومنهم الإمام محيي السنة الحسين بن مسعود البغوي، وساق كلامه الذي هو شجي في طوف الجهمية والمعطلة في سورة الأعراف في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1. ثم ذكر أقوال الإمام أحمد بن حنبل وجماعة من أصحابه، وكلها مصرحة بإثبات صفة العلو والفوقية الله تعالى، ومثلهم أئمة الحديث المشهورون. ثم ذكر أقوال أئمة التفسير. ثم ذكر أقوال أئمة اللغة والعربية الذين يحتج بقولهم فيها، كأبي عبيدة معمر بن المثنى، ويحيى بن زياد الفراء إمام أهل الكوفة، وأبي العباس ثعلب وغيرهم مما يطول ذكرهم.

_ 1 سورة الأعراف: 54.

ثم ذكر أقوال الزهاد أهل الاتباع وسلفهم، مثل ثابت البناني، وسليمان التيمي، وشريح بن عبيد، وعبيد بن عمير، والفضيل بن عياض، وعطاء السلمي، وأبو عبيدة الخواص، وبشر الحافي، وذي النون المصري، والحارث بن أسد المحاسبي، والإمام العارف أبي عبد الله محمد بن عثمان المكي إمام الصوفية في وقته، وأبي جعفر الهمداني الصوفي، والإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني شيخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة، والشيخ عبد القادر الجيلي، وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي إمام الصوفية في وقته، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري صاحب كتاب "منازل السائرين" و"الفاروق" و"ذم الكلام" وغيره، وشيخ الصوفية والمحدثين أبي نعيم صاحب كتاب "حلية الأولياء"، والإمام يحيى بن عمار السجزي شيخ أبي إسماعيل الأنصاري إمام الصوفية. وكل من هؤلاء الأبرار، والزهّاد الأخيار، صرح بإثبات العلو والفوقية لله تعالى. وذكر الشيخ ابن القيم نص عبارتهم في كتابه "غزو الجيوش الإسلامية" ولولا خوف طول الكلام وملل السامعين لنقلناها، والكتاب متداول بين الناس. ثم ذكر أقوال الشارحين لأسماء الله الحسنى، كالقرطبي في شرحه، قال: وقد كان الصدر الأول لا ينفون الجهة، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة، وخص بذلك دون غيره لأنه أعظم مخلوقات الله، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته، كما قال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن الكيف بدعة. إلى آخر ما قال. ثم ذكر أقوال أهل الكلام من أهل الإثبات المخالفين للجهمية والمعتزلة والمعطلة، فذكر قول الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الطائفة الكلابية، وقال: كان من أعظم أهل الإثبات للصفات والفوقية وعلو الله تعالى على عرشه، وذكر له كلاماً طويلاً في هذا الباب من أحب الوقوف عليه فليرجع إلى كتابه "غزو الجيوش".

ثم ذكر قول أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إمام الطائفة الأشعرية، قال: إن كلامه فيما وقفنا عليه من كتبه، كالموجز، والإبانة، والمقالات، وما نقله أعظم الناس انتصاراً له، وهو الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في الكتاب الذي سماه "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري"- هو مثل كلام السلف، ثم نقل ما قاله ابن عساكر، وما قاله الأشعري في "الإبانة". ثم ذكر قول الحسين بن أحمد الأشعري المتكلم من متكلمي أهل الحديث صاحب الجامع الكبير والصغير في أصول الدين، ونقل كلامه في جامعه الصغير المصرح بصفة الفوقية لله والعلو على العرش حقيقة. ثم ذكر قول الإمام فخر الدين الرازي في آخر كتبه- وهو كتاب أقسام اللذات- وبين أنها ثلاثة: الحسية؛ كالأكل والشرب والنكاح واللباس، واللذة الخيالية الوهمية؛ كلذة الرياسة والأمر والنهي والترفع ونحوها، واللذة العقلية؛ كلذة العلوم والمعارف، وتكلم على كل واحد من هذه الأقسام إلى أن قال: وأما اللذة العقلية؛ فلا سبيل إلى الوصول إليها والتعلق بها، فلهذا السبب نقول: يا ليتنا بقينا على العدم الأول، يا ليتنا ما شهدنا هذا العالم، وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن، وفي المعنى قلت: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال واعلم أنه بعد التوغل في هذه المضائق، والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق، رأيت الأصوب الأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم، والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السموات والأرضين على وجوب وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في

التفاصيل، فاقرأ في التنزيه قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاء} 1 وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} واقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2 وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 3 وقوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 4 وفي تنزيهه عما لا ينبغي قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 5 وعلى هذا القانون فقس وختم الكتاب. ثم ذكر قول متكلم السنة إمام الصوفية أبي العباس أحمد بن محمد المظفري المختار الرازي صاحب كتاب قرع الصفات في تقريع نفاة الصفات، وهو على صغر حجمه كتاب جليل غزير العلم، قال فيه بعد حكاية مذاهب الناس، وقالت الحنابلة وأصحاب الظواهر والسلف من أهل الحديث أن الله على العرش. ثم قال: أما حجة المثبتين فمن حيث الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والمعقول، ثم ذكر حجج القرآن والسنة، ثم حكى كلام الصحابة، إلى أن قال: ثم إن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج أم لا. واختلافهم في الرؤية تلك الليلة اختلاف منهم على أن الله على العرش، لأن المخالفين لا يفرقون بين الأرض والسماء بالنسبة إلى ذاته، وهم فرقوا حيث اختلفوا في أحدهما دون الآخر، قلت: مراده إنما اختلفوا في رؤيته لربه ليلة الإسراء به إلى عنده فجاوز السبع الطباق، ولولا أنه على العرش لكان لا فرق في الرؤية نفياً وإثباتاً من تلك الليلة وغيرها. ثم قال: وأما المعقول فمنه وجوه؛ أحدها: إطباق الناس كافة وإجماع الخلق عامة من الماضين والغابرين والمؤمنين والكافرين على رفع الأيدي عند

_ 1 سورة محمد: 38. 2 سورة النحل: 50. 3 سورة فاطر: 10. 4 سورة النساء: 78. 5 سورة النساء: 79.

السؤال والدعاء، بخلاف السجود فإنه تواضع متعارف، وبخلاف التوجه إلى الكعبة فإنه تعبد غير معقول، أما رفع الأيدي بالسؤال نحو المسؤول فأمر معقول متعارف قال: ومن نظر في قصص الأنبياء وأخبار الأوائل القدماء وأنباء الأمم الماضية والقرون الخالية؛ اتضحت له هذه المعاني، واستحكمت له هذه المباني، ثم قرر العلو وساق شبه النفاة ونقضها نقض من يقلع عروشها كل القلع رحمه الله تعالى. ثم ذكر قول شعراء الإسلام منهم حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أنشد النبي صلى الله عليه وسلم قوله: شهدت بإذن الله أن محمداً ... رسول الذي فوق السموات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يقوم بذات الله فيه ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم "وأنا أشهد". وقال حسان أيضاً في قصيدته الدالية: ألم تر أن الله أرسل عبده ... ببرهانه والله أعلى وأمجد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله ميمون يلوح ويشهد ومنهم عبد الله بن رواحة، فإنه أنشد شعراً في قصة له مع امرأته، وهو قوله: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا ومنهم العباس بن مرداس السلمي، قال عوانة بن الحكم: لما استخلف

عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم، فبينما هم كذلك من بهم علي بن أرطأة، فدخل على عمر فقال: الشعراء ببابك يا أمير المؤمنين، فقال: ويحك مالي وللشعراء؟ قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح فأعطى، مدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة، قال: أو تروي من شعره شيئاً؟ قال: نعم؛ فأنشده علي بن أرطأة قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتاباً جاء بالحق معلما شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما تعالى علواً فوق سبع الهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما ومنهم لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك العامري أحد شعراء الجاهلية والإسلام، أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن شعره: لله نافلة الأجل الأفضل ... وله العلى وأثيل كل مؤثل لا يستطيع الناس محو كتابه ... أنى وليس قضاؤه بمبدل سوى فأعلى دون عالي عرشه ... سبعاً طباقاً دون قرع المغفل والأرض تحتهم مهاداً راسياً ... ثبتت جوانبها بصم الجندل (ذكر ما أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت) مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق الخلق ... وسوى فوق السماء سريرا شر جعا ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا ومن شعره قوله في داليته المشهورة: لك الحمد والنعماء والملك ربنا ... فلا شيء أعلى منه جداً وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد عليه حجاب النور والنور حوله ... وأنهار نور حوله تتوقد فلا بشر يسمو إليه بطرفه ... ودون حجاب النور خلق مؤيد

وفيها وصف الملائكة فقال: وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه ... يعظم رباً فوقه ويمجد (ذكر القصيدة التي أنشدها إسماعيل بن الترمذي للإمام أحمد في حبسه) قال إبراهيم بن إسحق العبلي: أخذت هذه القصيدة من أبي بكر المروزي، وذكر أن إسماعيل بن خلان الترمذي قالها وأنشدها أحمد بن حنبل في السجن: تبارك من لا يعلم الغيب غيره ... ومن لم يزل يثني عليه ويذكر علا في السموات العلى فوق عرشه ... إلى خلقه في البر والبحر ينظر سميع بصير لا نشمك مدبر ... ومن دونه عبد ذليل مدبر يدا ربنا مبسوطتان كلاهما ... تسحان والأيدي من الخلق تقتر وساق القصيدة وهي أحسن القصائد، ولم ينكرها أحد من أهل الحديث بل أثنوا عليها. وقال يحيى بن يوسف بن يحيي بن يوسف الصرصرقي الأنصاري اللغوي الفقيه: تواضع لرب العرش علك ترفع ... فقد فاز عبد المهيمن يخضع فداوي بذكر الله قلبك إنه ... لا على دواء للقلوب وأنفع وخذ من تقى الرحمن أمناً وعدة ... ليوم به غير التقى مروع إلى أن قال: سميع بصير ماله في صفاته ... شبيه يرى من فوق سبع ويسمع قضي خلقه ثم استوى فوق عرشه ... ومن علمه لم يخل في الأرض موضع وقال في لاميته: ويوم ينادي العالمين فيسمح إلـ ... ـقصي كدان في المقال المطول أنا الملك الديان والنقل ثابت ... فهل ههنا ينساغ تأويل جهل وينظره أهل البصائر في غد ... بأبصارهم لا ريب فيه لمجتل

كما ينظرون الشمس ما حال دونها ... سحاب إلا بعداً لأهل التعزل توحد نحو العرش والخلق دونه ... واحكم ما سواه أحكام مكمل وقال أيضاً: أسير وقلبي في هواك أسير ... فهل لي من جور الفراق مجير واستجلب السلوى وفي القلب حسرة ... فيرتد عنك الطرف وهو حسير وما ذاك إلا أن فيك لناظري ... مدى غصن غض بالنبات نضير إذا ما تجلى سافراً فجماله ... إلى القلب من جيش الغرام سفير إذا ما اجتمعنا وانتفى الشمل فالتقى ... رقيب علينا والعقاب غفور يؤكد عقد الود بيني وبينه اعـ ... ـتقاد عليه للهداية نور كلانا محب للإمام ابن حنبل ... لا سيافنا في شانئيه هبير نقر بأن الله جل ثناؤه ... سميع لأقوال العباد بصير ويطوى السموات العلى بيمينه ... وذلك في وصف القوي يسير وخاطب موسى بالكلام مكلماً ... فخر صريعاً إذ تقطع طور وخط له التوراة فيها مواعظ ... فلاحت على الألواح منه زبور وأن قلوب الخلق بين أصابع إلـ ... ـإله فمنها ثابت ونفور ونثبت في الأخرى لرؤية ربنا ... حديثاً رواه في الصحيح جرير وأي نعيم في الجنان لأهلها ... وأنى لهم لو لم يروه سرور ونؤمن أن العرش من فوق سبعة ... تطوف به أملاكه وتدور قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه ... تقدس كرسي له وسرير هو الله ربي في السماء محجب ... وليس كمخلوق حوته قصور إليه تعالى طيب القول صاعد ... وينزل منه بالقضاء أمور لقد صح إسلام الجويرية التي ... باصبعها نحو السماء تشير وقال رحمه الله تعالى في قصيدته المنامية التي يقول فيها: رأيت رسول الله في النوم مرة ... فقبلت فاه مثل تقبيل مشتاق

ولو أنني أوتيت رشدي قائماً ... لقبلت مشاه الكريم بآماقي فبشرني منه بأزكى شهادة ... بها جبر كسرى يوم فقري وإملاقي لموت سعيد في كتاب وسنة ... فلانت لبشراه شراسة أخلاقي فها أنا ذا والحمد لله وحده ... مقر لبشراه بأثبت مصداقي بأني على حسن اعتقاد ابن حنبل ... مقيم وإن قام العدالي على ساق أقر بأن الله من فوق عرشه ... يقدر آجالاً ويقضي بأرزاق سميع بصير ليس شيء كمثله ... قديم الصفات الواحد الأحد الباقي أمر أحاديث الصفات كما أتت ... أتابع فيها كل أزهر سباق ولست إلى التشبيه يوماً بجانح ... ولا قائل تأويل أشدق مهان وقال رحمه الله تعالى في قصيدته اللامية التي نظم فيها اعتقاد الشافعي رضي الله عنه، أولها: أيشعر حزب الجهم ذاك المضلل ... بأني حرب للعدا غير أفكل أشن عليهم غيرتي وحميتي ... لدين الهدى غارات أشرس مقتل لوقع قريض في صميم قلوبهم ... أشد عليهم من سنان ومنصل أفوق منه حين أنظر نحوهم ... مقاتل تصمي منه كل مقتل هم انحرفوا عن منهج الحق سالكي ... مهالك من تحريفهم والتأول لقد برىء الحبر ابن إدريس منهم ... براءة موسى من يهود محول وقال فيها: ويعقد عند الشافعي يمين من ... غدا حالفاً بالمصحف المتقبل فهذا دليل منه إذ كان لا يرى أنـ ... ـعقاداً بمخلوق لخلق مؤثل ومذهبه في الاستواء كمالك ... وكالسلف الأبرار أهل التفضل وقل مستو بالذات من فوق عرشه ... ولا تقل استولى فمن قال أبطل فذلك زنديق لقائل قسوة ... لذي خطل راو لغث وأعطل وقد بان منه خلقه وهو بائن ... من الخلق محض للخفي وللجلي

وأقرب من حبل الوريد مفسر ... وما كان في معناه بالعلم فاعقل علا في سماء الله فوق عباده ... دليلك في القرآن غير مقلل وإثبات إيمان الجويرية اتخذ ... دليلاً عليه مسنداً غير مرسل وقال رحمه الله تعالى يهجو ابن خنفر الجهمي الخبيث أولها: أطع الهدى لا ما يقول العذل ... فالحب ذو أمر يجور ويعدل واتبع لسلمى ما استطعت مسلماً ... فالحسن ينصرها وصبرك يخذل بيضاء دون مرامها لمحبها ... بيض الصوارم والرماح الذبل تخفى فيعرفها الوشاة بعرفها ... وتضيء والأظلام ستر مرسل تضحى الدماء لهجرها هدراً وهل ... يخفى قصاص القتل طرف أكحل كيف البقاء لعاشق أودى به ... سهم اللحاظ وقد أصيب المتقل ومنها: نبذ الكتاب وراء ظهر واغتدى ... شيخ الضلالة للصفات يعطل وعقيدة الملعون أن المصحف الـ ... ـمكنون منبوذ تطأه الأرجل ما قالت الكفار مثل مقاله ... وكذا اليهود ولا النصارى الضلل آل الجحود به إلى وادي لظى ... للغاية السفلى فبئس الموئل وزعمت أن الحنبلي مجسم ... حاشا لمثل الحنبلي يمثل بل يورد الأخبار إذ كانت تصحـ ... ـحها الرواة عن الثقات وتنقل قد قالها خير الورى في سادة ... لم ينكروا هذا ولم يتأولوا وتقبلوها مع غزارة علمهم ... أفأنت أم تلك العصابة أعقل وقال رحمه الله تعالى: واها لفرط حرارة لا تبرد ... ولواعج بين الحشى تتردد في كل يوم سنة مدروسة ... بين الأنام وبدعة تتجدد صدق النبي ولم يزل متسربلا ... بالصدق إذ يعد الجميل ويوعد

إذ قال يفترق الضلال ثلاثة ... زيدت على السبعين قولاً يسند وقضى بأسباب النجاة لفرقة ... تسعى بسنته إليه وتحفد فإن ابتغيت إلى النجاة وسيلة ... فاقبل مقالة ناصح يتقلد إياك والبدع المضلة إنها ... تهدي إلى نار الجحيم وتورد وعليك بالسنن المنيرة فافقها ... فهي المحجة والطريق الأقصد فالأكثرون بمبدعات عقولهم ... نبذوا الهدى فتنصروا وتهودوا منهم أناس في الضلال تجمعوا ... وبسب أصحاب النبي تفردوا قد فارقوا جمع الهدى وجماعة إلـ ... ـسلام ثم تزندقوا وتمردوا بالله يا أنصار دين محمد ... نوحوا على الدين الحنيف وعددوا لعبت بدينكم الروافض جهرة ... وتألفوا في دحضه وتحشدوا نصبوا حبائلهم بكل بلية ... وتغلغلوا في المعضلات وشددوا ورموا خيار الخلق بالكذب الذي ... هم أهله لا من رموه وأفسدوا نقضوا مراتب هن أشرف منصب ... في الفخر من فاق السماء وأمجد لمراتب الصديق جف لسانهم ... يبغون وهي من التناول أبعد أو ما هو السباق في غزو العدا ... ولقد زكى من بل منه المحتد ولقد أشاد بذكره رب العلى ... فبناؤه في المكرمات مسدد نطق الكتاب بمجده لأعلى ففي ... آي الحديد مناقب لا تنفد لا يستوي منكم وفيها مقنع ... والليل يثبت فضله ويؤكد وبراءة تثنى بصحبته وهل ... يهوى رفيع علاه إلا ملحد أو ما هو الأتقى الذي استولى على إلـ ... وإخلاص طارف ماله والمتلد لما مضى لسبيله خير الورى ... وحوى شمائله صفيح ملحد منع الأعاريب الزكاة لفقده ... وارتد منهم حائر متردد وتوقدت نار الضلال وخالطت ... إبليس أطماع كوامن رصد هذا أبو بكر بصدق عزيمة ... وثبات إيمان ورأي يحمد فتمزقت عصب الضلال وأشرقت ... شمس الهدي وتقوم المتأود

أم رتبة الفاروق في إظهاره ... للدين تلك فضيلة لا تجحد وهو الموفق للصواب كأنما ... ملك يصوب قوله ويسدد بوفاقه آي الكتاب تنزلت ... وبفضله نطق المشفع أحمد لو كان من بعدي نبياً كنته ... خبراً صحيحاً في الرواية مسند وبعدله الأمثال تضرب في الورى ... وفتوحه في كل قطر يوجد وتمام فضلهما جوار المصطفى ... في تربة فيها الملائك تحشد وتعمقوا في سب عثمان الذي ... ألفاه كفواً لابنتيه محمد ولبيعه الرضوان مد شماله ... عوض اليمين وهي منه أوكد وحباه في بدر بسهم مجاهد ... إذ فاته بالعذر ذاك المشهد من هده من بعض غر صفاته ... ما ضره ما قال فيه الحسد ثم ادعوا حب الإمام المرتضى ... هيهات مطلبه عليه يبعد أنَّى وقد جحدوا الدين بفضلهم ... أثنى أبو الحسن الإمام السيد ما في علاه مقالة لمخالف ... فمسائل الإجماع فيه تعقد ولنحن أولى بالإمام وحبه ... عقد ندين به الإله مؤكد وولاؤه لا يستقيم ببغضهم ... واضرب لهم مثلاً يغيظ ويكمد مثل الذي جحد ابن مريم وادعى ... حب الكليم وتلك دعوى تفسد وبقذف عائشة الطهور تجشموا ... أمراً تظل له الفرائص ترعد تنزيهها في سبع عشرة آية ... والرافضي بضد ذلك يشهد لو أن أمر المسلمين إليهم ... لم يبق في هذي البسيطة مسجد ولو استطاعوا لسعت بمرامهم ... قدم ولامتدت بكفهم يد لم يبق للإسلام ما بين الورى ... علم يشي ولا لواء يعقد علقوا بحبل الكفر واعتصموا به ... والعالقون بحبله لم يسعدوا وأشدهم كفراً جهول يدعي ... علم الأصول وفاسق متزهد فهما وإن وهناً أشد مضرة ... في الدين من فار السفين وأفسد وإذا سألت فقيههم عن مذهب ... فإلى اعتزال في الشريعة يلحد

كالخائض الرمضاء أقلقه لظي ... منها ففر إلى جحيم يوقد إن المقال بالاعتزال لخطة ... عمياء حل بها الغواة المرد هجموا على سبل الهدى بعقولهم ... ليلاً فعاثوا في الديار وأفسدوا صم إذا ذكر الحديث لديهم ... نفروا كأن لم يسمعوه وغردوا واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت ... أسد العرين فهن منه شرد والجاحد الجهمي أسوأ منهما ... حالاً وأخبث في القياس وأفسد أمسى لرب العرش قال منزهاً ... من أن يكون عليه رب يعبد ونفى القرآن برأيه والمصحف الـ ... أعلى المطهر عنده يتوسد وإذا ذكرت له على العرش استوى ... فإلى هو استولى يحيد ويخلد فإلى من الأيدي تمد تضرعاً ... وبأي شيء في الدجى يتهجد ومن الذي هو للقضاء منزل ... وإليه أعمال البرية تصعد وبما تنزل جبرئيل مصدقاً ... ولأي معجزة الخصوم تبلد ومن الذي استولى عليه بقهره ... إن كان فوق العرش ضد أيد جلت صفات الحق عن تأويلهم ... وتقدست عما يقول الملحد لما بغوا تنزيهه بقياسهم ... ضلوا وفاتهم الطريق الأرشد ويقول لا سمع ولا بصر ولا ... وجه لربك ذي الجلال ولا يد من كان هذا وصفه لإلهه ... فأراه للأصنام سراً يسجد الحق أثبتها بنص كتابه ... ورسوله وغدا المنافق يجحد فمن الذي أولى بأخذ كلامه ... جهم أو الرحمن قولوا وارشدوا والصحب لم يتأولوا لسماعها ... فهم إلى التأويل أم هو أرشد هو مشرك ويظن جهلاً أنه ... في نفي أوصاف الإله موحد يدعو من اتبع الحديث مشبهاً ... هيهات ليس مشبهاً من يسند لكنه يروي الحديث كما أتى ... من غير تأويل ولا يتأود وإذا العقائد بالضلال تخالفت ... فقيدة المهدي أحمد أحمد هي حجة الله المنيرة فاعتصم ... بحبالها لا يلهينك مفسد ...

إن ابن حنبل اهتدى لما اقتدى ... ومخالفوه لزيغهم لم يهتدوا ما زال أحمد يقتفي أثر الهدى ... ويروم أسباب النجاة ويجهد حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة ... ما فوقها لأخي التقاء مصعد نصر الهدى إذ لم يقل ما لم يقل ... في فتنة نيرانها تتوقد ما صده ضرب السياط ولا ثنى ... عزماته ماضي الغرار مهند لهواه حباً ليس فيه تعصب ... لكن محبة مخلص يتودد وودادنا للشافعي ومالك ... وأبي حنيفة ليس فيه تردد أقول: سيأتي في الكلام على ما استدل به النبهاني في (باب الاستغاثة) من شعر الصرصري أن مثله لا يجوز أن يكون مستنداً في العقائد الدينية فكيف يورد كلامه للاستدلال به في هذا المقام. فالجواب أن يقال: قد علم أن كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وسائر أنبيائه وأصحابهم والتابعين لهم بإحسان هو الحجة والبرهان، فذكر أقوال أهل العلم وشعر بعض الشعراء لا للاحتجاج بها بل لبيان أن جميع العقلاء على ما ذكرنا، وليعلم الخصم أن أهل الإثبات أولى بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأهل الإسلام وطبقات أهل العلم والدين من الجهمية والمعطلة، وليعرف جنود الإسلام والسنة وأمراؤها وحزب البدع والتجهم ليتحيز المقاتل إلى الطائفتين على بصيرة من أمره، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة، ولهذا قال الحافظ ابن القيم- بعد ما أورد ما ذكرناه-: وهذا باب واسع جداً لا يتسع لذكره مجلد كبير، ويكفي أن شعراء الجاهلية مقرة به على فطرتهم الأولى، كما قال عنترة في قصيدته: يا عبل أين من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها ثم ذكر قول الفلاسفة المتقدمين والحكماء الأولين، فإنهم كانوا مثبتين لمسألة العلو والفوقية مخالفين لأرسطو وشيعته، وأتى بنصهم لأجل ما ذكرنا للاستدلال، ثم إن من المعلوم أنه لا يلزم من مدح شخص وحمده من جهة أن يكون ممدوحاً محموداً من كل جهة، بل لا يلزم من الحكم عليه بالإسلام أو

الإيمان أن لا يحكم عليه بما يوجب نقص إيمانه وخلل إسلامه، ويقتضي تأثيمه ببعض السيئات وعقابه عليها. والمقصود؛ أن ما ذكره النبهاني وأضرابه من الجهلة، وما هذى به الشيخ شهاب الدين الحلبي؛ مخالف للكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، والمجتهدين، وأئمة المسلمين، ومشاهير أتباعهم، والعقلاء، وأتباع من سبق من الأنبياء، والشعراء، وأئمة اللغة، والفلاسفة الأولى، وجاهلية العرب، ويكفي ذلك بطلاناً لقولهم وإفكهم وخزياً لهم بين أهل العقول. ولو أخذنا نتكلم على ما اشتمل عليه كلامهم من المفاسد لطال الكلام جداً، وما ذكرناه كاف لمن أخذت العناية بيديه، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، نسأله تعالى أن يبصرنا في أمورنا أنه ذو الفضل العميم، والمن الجسيم، وهو المعطي قبل السؤال، والعالم بالأحوال.

[عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية] ، قال النبهاني: ولنرجع إلى الكلام على كتب ابن تيمية، قال: فمنها الكتب الأربعة المذكورة سابقاً، وهي (الجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح) ومنها كتاب (منهاج السنة) ومنها كتاب (العقل والنقل) وقد رد به على أهل السنة والجماعة من المسلمين الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من الفرق الأخرى، ومنها كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وقد رد به على خلاصة المسلمين من الأولياء والعارفين. إذا علمت ذلك تعلم أنه مثل ابن حزم لم يسلم من قلمه أحد، وقد رد عليه الإمام السبكي فيما رد به على كتبه بأبيات مدح فيها كتابه (منهاج السنة) واعترض عليه ببعض بدعه، فتصدى للتشنيع على السبكي بذلك والرد عليه بعض الحشوية ممن هو على عقيدة ابن تيمية، أحدهما حنبلي والآخر فيما زعم شافعي، إلى أن قال: نظم كل منهما في ذلك قصيدة طويلة في أكثر من مائة بيت، فيها العجر

والبجر، والتحامل على الإمام السبكي بما لا ينبغي أن يصدر من مسلم فضلاً عن عالم، وقد رأيت أن أنتصف منهما وأقابلهما بعملهما، جاعلاً محط نظري إثبات الحق ودحض الباطل، وبيان المذهب الصحيح من المذهب العاطل، فنظمت هذه القصيدة من البحر والقافية، وقد أثبت فيها استحالة الجهة على الله تعالى بدلائل ظاهرة باهرة، وتعرضت لجواز الاستغاثة والشد للرحل لزيارته صلى الله عليه وسلم بما لا يأباه عقل ولا يمنعه نقل، راداً على من يخالف ذلك، ثم ذكر القصيدة وهي نحو مائة وثلاثة وخمسين بيتاً، قال في أولها: الحمد لله حمداً أستعد به ... لنصرة الحق كي أحظى بمطلبه بك استعنت إلهي عاجزاً فأعن ... أبغي رضاك فاسعفني بأطيبه وإنني عالم ضعفي ولا عمل ... عندي يفيد ولا علم أصول به وكلها على هذا المنوال من الشعر الركيك، ولولا الحرص على نفيس العمر أن يذهب سدى لنقلناها في هذا المقام، ولكنا نزهنا القلم من نقلها وصنا وجه القرطاس عن تلك الأوهام، وقد ذكر هو ما اشتملت عليه قصيدته. يقال للنبهاني أولاً: قد تكلمنا سابقاً على ما يتعلق بكتب الشيخ كلاماً يكتفي به اللبيب والذكي الأديب، وقوله عن كتاب (العقل والنقل) أنه رد به على أهل السنة ... إلخ كلام لا معنى له، فإنه لم يرد على أهل السنة بل رد عنهم كما هو شأنه في كل كتاب من كتبه، إنما رد على من استدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام، وأثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون، والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث، وبنى ذلك على حوادث لا أول لها، ولم يكن في الصحابة والتابعين من استدل بهذا الدليل، بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الآولى من جهة الجعد بن درهم بن صفوان، ثم صار إلى عمرو بن عبيد كأبي الهذيل العلاف وأمثاله. وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء إنما كانا يظهران الكلام في إنفاذ الوعيد،

وأن النار لا يخرج منها من دخلها، وفي التكذيب بالقدر، وهؤلاء ومن وافقهم على اعتقادهم رد عليهم شيخ الإسلام. وأما الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذاً لأبي علي الجبائي، لكنه فارقه ورجع عن جمل مذهبه وإن كان قد بقي عليه شيء من أصول مذهبه لكنه خالفه في نفي الصفات، وسلك فيها طريقه ابن كلاب، وخالفهم في القدر ومسائل الإيمان والأسماء والأحكام، وناقضهم في ذلك أكثر من مناقضة حسين النجار وضرار بن عمرو ونحوهما ممن هو متوسط في هذا الباب، كجمهور الفقهاء، وجمهور أهل الحديث، حتى مال في ذلك إلى قول جهم، وخالفهم في الوعيد، وقال بمذهب الجماعة، وانتسب إلى مذهب أهل الحديث والسنة كأحمد بن حنبل وأمثاله، وبهذا اشتهر عند الناس. فالقدر الذي يحمد من مذهبه هو ما وافق فيه أهل السنة والحديث كالجمل الجامعة، وأما القدر الذي يذم من مذهبه فهو ما وافق فيه بعض المخالفين للسنة والحديث من المعتزلة والمرجئة والجهمية والقدرية ونحو ذلك، وأخذ مذهب أهل الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة، وعن طائفة ببغداد من أصحاب أحمد وغيرهم، وذكر في المقالات ما اعتقد أنه مذهب أهل السنة والحديث، وقال: بكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وهذا المذهب هو من أبعد المذاهب عن مذهب الجبرية والقدرية، وآخر ما صنف من الكتب كتاب (الإبانة) وقد ذكر فيه أنه على مذهب أهل الحديث واعتقادهم، وقد خالفه كثير من الأشعرية في كثير من المسائل. والمقصود؛ أن الشيخ إنما رد في كتاب (العقل والنقل) بل وفي سائر كتبه على من خالف أهل السنة الذين تمسكوا بالكتاب وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وموضوع كتاب (العقل والنقل) أن الشريعة الغراء كاملة مكملة لا حاجة لها إلى ما استحدثوه من القواعد المناقضة للشريعة، وأن نصوص الشريعة تفيد اليقين، وأنها مقدمة على تلك القواعد، وأن النصوص لا تؤول لتلك القواعد إذا خالتفها، استدل على ذلك بنحو تسعة عشر دليلاً. والنبهاني ليس ممن يحسن قراءة عبارتها فضلاً عن فهم معانيها، وإدراك ما

فيها فلذلك اعترض بما اعترض. ويقال ثانياً: إن النبهاني ذكر عن كتاب "الفرقان" أنه قد رد به على خلاصة المسلمين من الأولياء والصالحين، وهو كلام من لم يعرف الولاية ولا درى معنى الإيمان والإسلام، والشيخ قدس الله روحه قد فرق في هذا الكتاب بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فرقاً واضحاً يعرفه من له أدنى إلمام بالعمل، ومداره على الاتباع والابتداع فمن اتبع في أقواله وأفعاله ما جاءت به الشريعة فذاك من أولياء الرحمن، ومن خالف في ذلك فهو من أولياء الشيطان، وإن طار في الهواء أو مشى على وجه الماء. وأما ابن عربي صاحب (فصوص الحكم) و (الفتوحات المكية) فقد سلك مسلك القرامطة والباطنية الذين زاغوا عن الشريعة، ولهذا ادعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الأنبياء، والنبي عنده يأخذ من الملك الذي يوحي به إلى الرسل، لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني العقلية في الصورة الخيالية، وتلك الصورة عنده هي الملائكة، وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالاً، ولهذا يفضل الولاية على النبوة ويقول: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي والولي على أصله الفاسد يأخذ عن الله بلا واسطة، لأنه يأخذ عن عقله وهذا عندهم هو الآخذ عن الله بلا واسطة، إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل الوحي، والرب عندهم ليس هو موجوداً مبايناً للمخلوقات، بل وجود مطلق أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله، أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية، وقد يقولون هو وجود المخلوقات أو حال فيها أو لا هذا ولا هذا، فهذا عندهم غاية كل رسول. ومبنى النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية، ويسمونها القوة القدسية، فلهذا جعلوا الولاية فوق النبوة،

وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة، لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق وأمثال ذلك، وأولئك ظهروا قي قالب التشيع والموالاة، فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء، وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة، وهؤلاء يعظمون أمر لإمامة حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء، والإمام أعظم من النبي كما يقوله الإسماعيلية، وكلاهما يباطنان الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفاً، ويقلون إنه يختص بقوة قدسية، ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف، ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي، ويزعمون أن النبوة مكتسبة، ويقولون: إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات من حصلت له فهو نبي: أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم، وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولى العالم، وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله ومزيناً في نفسه ومسموعاً في نفسه، هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة، وعنه أخذ ذلك الغزالي في كتابه المضنون بها على غير أهلها، وهذا القدر الذي ذكروه يحصل لخلق كثير من آحاد الناس ومن المؤمنين، وليس هو من أفضل عموم المؤمنين فضلاً عن كونه نبياً، وهؤلاء قالوا هذا لما احتاجوا في الكلام في النبوة على أصول سلفهم الدهرية القائلين بأن الأفلاك قديمة أزلية لا مفعولة لفاعل بقدرته واختياره وأنكروا علمه بالجزئيات ونحو ذلك من أصولهم الفاسدة فتكلم هؤلاء في النبوة على أصول أولئك. وأما القدماء أرسطو وأمثاله فليس لهم في النبوة كلام محصل، فالواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبياً كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبياً، وكان قد جمع بين النظر والتأله، وسلك نحواً من مسلك الباطنية، وجمع بين فلسفة الفرس واليونان، وعظم أمر الأنوار، وقرب دين المجوس الأول، وهي نسخة الباطنية الإسماعيلية، وكان له يد في السحر والسيمياء، فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمان صلاح الدين. وكذلك ابن سبعين الذي جاء من المغرب إلى مكة وكان يطلب أن يصير نبياً، وجدد غار حراء الذي نزل فيه الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، وحكى عنه أنه

كان يقول: لقد رددت ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي، وكان بارعاً في الفلسفة وفي تصوف المتفلسفة وما يتعلق بذلك، وهو وابن عربي وأمثالهما كالصدر القونوي وابن الفارض والتلمساني منتهى أمرهم القول بوحدة الوجود، الواجب القديم الخالق هو الوجود الممكن المحدث المخلوق ما ثم لا غير ولا سوى، لكن لما رأوا تعدد المخلوقات صاروا تارة يقولون مظاهر ومجالي، فإذا قيل لهم فإن كانت المظاهر أمراً وجودياً تعدد الوجود وإلا لم يكن لها حينئذ حقيقة وما هو نحو هذا الكلام الذي يبين أن الوجود نوعان خالق ومخلوق: قالوا نحن ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل، ومن أراد أن يكون محققاً مثلنا فلا بد أن يلتزم الجمع بين النقيضين، وأن الجسم الواحد يكون في وقت واحد في موضعين، وهؤلاء الأصناف قد بسط الكلام عليهم شيخ الإسلام في غير موضع، فإن هؤلاء يكثرون في الدول الجاهلة، وعامتهم تميل إلى التشيع- كما عليه ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما- فاحتاج الناس إلى كشف حقائق هؤلاء وبيان أمورهم على الوجه الذي يعرف به الحق من الباطل، فإن هؤلاء يدّعون في أنفسهم أنهم أفضل أهل الأرض، وأن الناس لا يفهمون حقيقة إشاراتهم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فلما يسر الله أني بينت لهم حقائقهم وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم وتبين لهم بطلانه بالعقل الصريح والنقل الصحيح والكشف المطابق: رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع، وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم وبراءتهم من الحق، وكان من أصول ضلالهم ظن أن الوجود المطلق يوجد في الخارج، فإن الذي يوجد في الخارج مقيداً معيناً هو مطلق في الذهن مقيد في الخارج، وأما من زعم أن في الذهن شيئاً مطلقاً وهو مطلق حال تحققه في الخارج فهو غالط غلطاً ضل فيه كثير من أهل المنطق والفلسفة، وأما المطلق بشرط الإطلاق فهو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية والسلبية، كما يوجد الإنسان مجرداً عن كل قيد، فإذا قلت موجود أو معدوم أو واحد أو كثير أو في الذهن أو في الخارج كان ذلك قيداً زائداً على الحقيقة المطلقة بشرط الإطلاق، وهكذا الوجود تأخذه مجرداً عن كل قيد

ثبوتي وسلبي، فلا تصفه لا بالصفات الثبوتية ولا السلبية، وهكذا واجب الوجود عند أئمة الباطنية كأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وغيره، لكن من هؤلاء من لا يعرف برفع النقيضين فيقول لا موجود ولا معدوم، ومنهم من يقول بل أمسك عن إثبات أحد النقيضين فلا أقول موجود ولا معدوم كأبي يعقوب، وهو منتهى تجريد هؤلاء القائلين بوحدة الوجود. وابن سينا وأتباعه يقولون الوجود الواجب هو الوجود المقيد بسلب الأمور الثبوتية دون السلبية، وهذا أبعد عن الوجود في الخارج من المقيد بسلب الوجود والعدم وإن كان ذلك ممتنعاً في الموجود والمعدوم. قال: فقلت لأولئك المدعين للتحقيق أنتم بنيتم أمركم على القوانين المنطقية وهذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق المقيد بسلب النقيضين عنه لا يوجد في الخارج باتفاق العقلاء، وإنما يقدر في الذهن تقديراً، وإلا فإذا قدرنا إنساناً مطلقاً واشترطنا فيه أن لا يكون موجوداً ولا معدوماً ولا واحداً ولا كثيراً لم يوجد في الخارج، بل نفرض في الذهن كما نفرض الجمع بين النقيضين، ففرض رفع النقيضين كفرض الجمع بين النقيضين، ولهذا كان هؤلاء تارة يصفونه بالجمع بين النقيضين أو الإمساك عنهما كما يفعل ابن عربي وغيره كثيراً، وتارة يجمعون بين هذا وهذا كما يوجد أيضاً في كلام أصحاب البطاقة وغيرهم، فإذا قالوا مع ذلك أنه مبدع العالم وشرطوا فيه أن لا يوصف بثبوت ولا انتفاء كان تناقضاً، فإن كونه مبدعاً لا يخرج عن هذا وهذا، وكذلك إذا قالوا موجود واجب وشرطوا فيه التجريد عن النقيضين كان تناقضاً، وحقيقة قولهم موجود لا موجود، وواجب لا واجب، وهذا منتهى أمرهم، وهو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين، ولهذا يصيرون إلى الحيرة ويعظمونها، وهي عندهم منتهى معرفة الأنبياء والأولياء والأئمة والفلاسفة. ومن أصول ضلالهم، ظنهم أن هذا تنزيه عن التشبيه وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك، ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله هو ما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين، أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم، أو يجب له ما يجب لهم، أو

يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقاً، فإن هذا هو التمثيل الممتنع المنفي بالعقل مع الشرع، فيمتنع وصفه بشيء من النقائص، ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال، فهذان جماع لما ينزه الرب تعالى عنه، وعلى هذا وهذا دل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 1. فأما الموافقة في الاسم كحي وحي، وموجود وموجود، وعليم وعليم؛ فهذا لا بد منه، ويلزم من هذا التعطيل المحض، فإن كل موجودين قائمين بأنفسهما، فحينئذ لا بد أن يجمعهما اسم عام، لكن المعنى القائم لا يوجد عاماً إلا في الذهن لا في الخارج، فإذا قيل هذا الموجود وهذا الموجود مشتركان في مسمى الوجود كان ما اشتركاً فيه لا يوجد مشتركاً إلا في الذهن لا في الخارج، وكل موجود فهو يختص بنفسه، وصفات نفسه لا يشركه غيره في شيء من ذلك في الخارج، وإنما الاشتراك هو نوع من التشابه والاتفاق، والمشترك فيه الكلي لا يوجد كذلك إلا في الذهن، فإذا وجد في الخارج لم يوجد إلا متميزاً عن نظيره لا يكون هو إياه ولا هما في الخارج مشتركان في شيء في الخارج، فاسم الخالق إذا وافق اسم المخلوق كالموجود والحي -وقيل إن هذا الاسم عام كلي وهو من الأسماء المتواطئة أو المشككة- لم يلزم من ذلك أن يكون ما يتصف به الرب من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه المخلوق، بل ولا يكون ما يتصف به أحد المخلوقين من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه مخلوق آخر، بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، لكن ما يتصف به المخلوق قد يماثل ما يتصف به المخلوق ويجوز على أحد المثلين ما يجوز على الآخر. وأما الرب سبحانه وتعالى فلا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، بل التباين الذي يينه وبين كل واحد من خلقه في صفاته أعظم من التباين الذي بين أعظم المخلوقات وأحقرها.

_ 1 سورة الإخلاص: 1- 4.

وأما المعنى الكلي العام المشترك فيه فذاك كما ذكرنا لا يوجد كلياً إلا في الذهن. وإذا كان المتصفان به بينهما نوع موافقة ومشاركة ومشابهة من هذا الوجه فذاك لا محذور فيه، فإن ما يلزم ذلك القدر المشترك من وجوب وجواز وامتناع فإن الله متصف به، فالموجود من حيث هو موجود أو العليم أو الحي مهما قيل إنه يلزمه من وجوب وامتناع وجواز فالله موصوف به، بخلاف وجود المخلوق وحياته وعلمه فإن الله لا يوصف بما يختص به المخلوق من وجوب وجواز واستحالة، كما أن المخلوق لا يوصف بما يختص به الرب من وجوب وجواز واستحالة، فمن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة يعثر فيها كثير من الأذكياء الناظرين في العلوم الكلية، والمعارف الإلهية. (ثم ذكر) القول الثاني من أقوالهم في الوجود الواجب وهو قول ابن سينا وأتباعه، وهو أنه الوجود المقيد بأن لا يعرض له شيء من الماهيات، وأطال الكلام في بيانه وما يرد وليس لنا غرض بذكره. والمقصود؛ هو القول الأول الذي ذكرناه، وهو المطلق بشرط الإطلاق عن النفي والإثبات، وهو أكملها في التعطيل والإلحاد، وهو الذي قال به محصي الدين وأضرابه، وذكره في فصوصه مع أقوال أخر غاية في البشاعة، وهل يجوز لمتشرع أن يجعل من قال بقول القرامطة من الأولياء ويعترض على من اعترض عليه ويبدعه؟! وقد نظم العلامة قاضي اليمن شرف الدين الشيخ إسماعيل بن أبي بكر المعروف بابن المقري الشافعي قصيدة غراء في أحوال من قال بوحدة الوجود وكتبهم فقال: ألا يا رسول الله غارة ثائر ... غيور على حرماته والشعائر يحاط بها الإسلام ممن يكيده ... ويرميه من تلبيسه بالبواتر فقد حدثت في المسلمين حوادث ... كبار المعاصي عندها كالصغائر حوتهن كتب حارب الله ربها ... وغربها من غربين الحواضر

تجاسر فيها ابن العرابي واجترأ ... على الله فيما قال كل التجاسر فقال بأن الرب والعبد واحد ... فربى مربوب بغير تغاير إلى أن قال: كما ضل في التهليل جهراً بنفسه ... وإثباته مستجهلاً للمغاير وقال الذي ينفيه عين الذي أتى ... به مثبتاً لا غير عند التحاور فأفسد معنى ما به الناس أسلموا ... وألغاه ألغاً بينات التهاتر فسبحان رب العرش عما يقوله ... أعاذ به من مثل هذي الكبائر فقال عذاب الله عذب وربنا ... ينعم في نيرانه كل فاجر وقال بأن الله لم يعص في الورى ... فما ثم محتاج لعاف وغافر وقال مراد الله وفق لأمره ... فما كافر إلا مطيع الأوامر وكل امرىء عند المهيمن مرتضى ... سعيد فما عاص لديه بخاسر وقال يموت الكافرون جميعهم ... وقد آمنوا غير المفاجي المبادر وما خص بالإيمان فرعون وحده ... لدى موته بل عم كل الكوافر فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن ... وإلا فصدقه تكن شر كافر وأثنى على من لم يجب نوحاً إذ دعا ... إلى ترك ود أو سواع وناسر وسمى جهولاً من يطاوع أمره ... على تركها قول الكفور المجاهر ولم ير بالطوفان أغراق قومه ... ورد علي من قال رد المناكر وقال بلى قد أغرقوا في معارف ... من العلم والباري لهم خير ناصر كما قال فازت عاد بالقرب واللقا ... من الله في الدنيا وفي اليوم الآخر وقد أخبر الباري لعنته لهم ... وإبعادهم فاعجب له من مكابر وصدق فرعون وصحح قوله ... أنا الرب الأعلى وارتضى كل سامري وأثنى على فرعون بالعلم والذكا ... وقال بموسى عجلة المتبادر وقال خليل الله في الذبح واهم ... ورؤيا ابنه يحتاج تعبير عابر يعظم أهل الكفر والأنبياء لا ... يعاملهم إلا بحط المقادر ويثني على الأصنام خيراً ولا يرى ... لها عابداً ممن عصى أمر آمر ...

وكم من جراآت على الله قالها ... وتحريف آيات بسوء تفاسر ولم يبق كفر لم يلابسه عامداً ... ولم يتورط فيه غير محاذر وقال سيأتينا من الصين خاتم ... من الأولياء للأولياء الأكابر له رتبة فوق النبي ورتبة ... له دونه فاعجب لهذا التنافر فرتبته العليا يقول لأخذه ... عن الله وحياً بتوسيط آخر ورتبته الدنيا يقول لأنه ... من التابعين للأمور الظواهر وقال أتباع المصطفى ليس واضعاً ... لمقداره الأعلى وليس بحاقر فإن يدن منه لاتباع فإنه ... يرى منه أعلى من وجوه أفاجر يرى حال نقصان له في اتباعه ... لأحمد حتى جا بهذي المعاذر فلا قدس الرحمن شخصاً يحبه ... على ما يرى من فتح هذي المخابر وقال بأن الأنبياء جميعهم ... بمشكاة هذا تستضي في الدياجر وقال فقال الله لي بعد مدة ... بأنك أنت الختم رب المفاخر أتاني ابتداء بيض أسطر ربنا ... بإنفاذه في العالمين أوامري وقال ولا تشغلك عني ولاية ... وكن كل شهر طول عمرك زائري فرفدك أجزلنا وقصدك لم يخب ... لدينا فهل أبصرت يا ابن الأحافر بأكذب من هذا وأكفر في الورى ... وأجرأ على غشيان هذي الفواطر فلا يدّعي من صدقوه ولاية ... وقد ختمت فليأخذوا بالأقادر فيا لعباد الله ما ثم ذو حجى ... له بعض تمييز بقلب وناظر إذا كان ذو كفر مطيعاً كمؤمن ... فلا فرق فينا بين بر وفاجر كما قال هذا إن كل أوامر ... من الله جاءت فهي وفق المقادر فلم تنبعث رسل وسنت شرائع ... وأنزل قرآن بهذي الزواجر أيخلع منكم ربقة الدين عاقل ... بقول غريق في الضلالة جائر ويترك ما جاءت به رسل الهدى ... لأقوال هذا الفيلسوف المعاذر فيا محسني ظن بما في فصوصه ... وما في فتوحات الشرور الدوائر عليكم بدين الله لا تصحبوا غداً ... مساعر نار قبحت من مساعر

فليس عذاب الله عذباً كمثل ما ... يمنيكم بعض الشيوخ المدابر ولكن أليم مثل ما قال ربنا ... به الجلد إن ينضج يبدل بآخر غداً تعلمون الصادق القول منهما ... إذا لم تتوبوا اليوم علم مباشر ويبدو لكم غير الذين يعدونكم ... بأن عذاب الله ليس بضائر ويحكم رب العرش بين محمد ... ومن سن علم الباطل المتهاتر ومن جا بدين مفتري غير دينه ... فأهلك أغماراً به كالأباقر فلا يخدعن المسلمين عن الهدى ... وما للنبي المصطفى من مآثر ولا يؤثروا غير النبي على النبي ... فليس كنور الصبح ظلم الدياجر دعوا كل ذي قول لقول محمد ... فما آمن في دينه بمخاطر وأما رجالات الفصوص فإنهم ... يقومون في بحر من الكفر ظاهر إذا راح بالربح المتابع أحمدا ... على هذه راحوا بصفقة خاسر سيحكي لهم فرعون في دار خلده ... بإسلامه المقبول عند التحاور ويا أيها الصوفي خف من فصوصه ... خواتم سوء غيرها في الخناصر وخذ نهج سهل والجنيد وصالح ... وقوم مضوا مثل النجوم الزواهر على الشرع كانوا ليس فيهم لوحدة ... ولا لحلول الحق ذكر لذاكر رجال رأوا ما الدار دار إقامة ... لقوم ولكن بلغة للمسافر فأحيوا لياليهم صلاة وبينوا ... بها خوف رب العرش صوم البواكر مخافة يوم مستطير بشره ... عبوس المحيا قمطرير الظواهر فقد نحلت أجسادهم وأذابها ... قيام لياليهم وصوم الهواجر أولئك أهل الله فالزم طريقهم ... وعد عن دواعي الابتداع الكوافر وكثير من أهل العلم ردوا على الشيخ محيي الدين، وبينوا خطأه فيما قال في الفصوص والفتوحات وسائر كتبه من المسائل المناقضة للشريعة، وسيأتي بعض ذلك إن شاء الله عندما يكرر النبهاني كلامه كما هي عادته، والله ينتقم منه، فهو الذي تسبب إلى الخوض في هذه المباحث المفروغ عنها، وأسأله تعالى أن يغفر لنا ولكافة المسلمين.

وتشبيه النبهاني لشيخ الإسلام بابن حزم يفهم منه أنه لم يرتض ابن حزم وهو الشيخ الجليل الشأن، أوحد عصره في العلم والزهد، صاحب التصانيف المفيدة، وما كان ذنبه سوى بيان مفاسد الأشاعرة وأضرابهم، وكلامه على من خالف السنة، وربما صدر منه بعض الخطأ اجتهاداً. ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه ولا ينبغي من مثل النبهاني من الجهلة أن يتجاسر على من يبارى أمامه في العلم والزهد، ولكنه قد اتخذ الوقاحة ديدناً قالته الله ما أجهله وما أحمقه. ويقال للنبهاني ثالثاً: إذ تصدى لمعارضة القصيدتين الفريدتين (إحداهما) : للشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ ذي الفنون البديعة والمصنفات النافعة أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد بن علي بن إبراهيم العبادي ثم العقيلي السرمري نزيل دمشق الحنبلي، وقد عارض بها الأبيات التي كتبها السبكي التي أنشدها لما وقع نظره على كتاب (منهاج السنة) واستعرت في قلبه نيران الحسد. (والأخرى) للشيخ الإمام العلامة أبي عبد الله محمد بن جمال الدين يوسف الشافعي اليمني، رد فيها على السبكي فيما قاله في أبياته تلك من الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية، وكلا القصيدتين قد اشتملتا من الفصاحة والبلاغة على منتهاهما مع ما فيهما من الرد الوافي على السبكي، فلو رآهما لبقي مدة عمره يبكي، والقصيدتان طبعتا مع كتاب (منهاج السنة) فلا حاجة لنا في ذكرهما مع كون كثير من طلبة العلم يحفظونهما. ما دخولك أيها النبهاني بين الفرسان؟ وأنت لا تقاوم لمزيد جهلك الصبيان؟ قد عارضت بزعمك القصيدتين، وأتيت بما لم يتكلم به ابن يومين، أين السمك من السماك؟ وأين الحصى من درر الأسلاك؟ وأين نار الحباحب من بدور الأفلاك؟ قد مثلت ولكن كما مثل النجوم الماء، وكما انعكس في الغدير لون السماء، لقد حكيت ولكن فاتك الشنب، وفي الخمر معنى ليس يدرك من العنب.

واعلم أيها الناظر أن الشعراء على أربع طبقات جمعها بعض أهل الأدب من العلماء في قوله: الشعراء فاعلمن أربعه ... فشاعر لا ترتجى لمنفعه وشاعر ينشد وسط المجمعه ... وشاعر يقال حمر في دعه وشاعر آخر لا يجرى معه وقد قيل: لا يزال المرء مستوراً وفي مندوحة ما لم يصنع شعراً أو يؤلف كتاباً، لأن شعره ترجمان علمه، وتأليفه عنوان عقله. وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقاً وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيساً وإن حمقا وقال محمد بن مناذر وكان إماماً في الفضل والأدب: لا تقل شعراً ولا تهمم به ... فإذا ما قلت شعراً فأجد وقال دعيل الخزاعي: سأقضي ببيت يحمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الرواية حامله يموت رديء الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله وقالوا أيضاً: الشعراء أربعة: فشاعر خنذيذ وهو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره، وشاعر مفلق وهو الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالخنذيذ في شعره، وشاعر فقط وهو فوق الرديء بدرجة، وشعرور وهو لا شيء. وقيل: بل هم شاعر مفلق، وشاعر مطلق، وشويعر، وشعرور. والمفلق هو الذي يأتي في شعره بالفلق وهو العجب، وقيل: الفلق الداهية، قال الأصمعي: فالشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران سماه بذلك امرؤ القيس، وقال بعضهم شاعر وشويعر وشعرور، وقال العبدي في شاعر يدعى الشويعر من بني

هو الذي يمنعني من قوله، وأنشد: وقد يعرض الشعر البكي لسانه ... وتعيى القوافي المرء وهو لبيب والشعر مزلة العقول، وذلك أن أحداً ما صنعه فكتمه ولو كان ردياً، وإنما ذلك لسروره به وإكباره إياه، وهذه زيادة في فضل الشعر وتنبيه على قدره وحسن موقعه من كل نفس، ومن نظر لشعر النبهاني ممن له ذوق وسليقة علم أن الرجل ليس بشعر ولا شويعر ولا ولا، لأنه مفلس من كل فضيلة، وتبين له من نظمه أنه لا يعلمه، وأنه قد زلت به إلى الحضيض قدمه، من ذلك قوله في أول قصيدته وهو أحد المواضع التي يجب التأنق فيها والاعتناء بشأنها: فإن تعن ثعلباً يسطو على أسد ... أو تخذل الليث لا يقوى لثعلبه فانظر إلى قوله: فإن تعن ثعلبا؛ ما أقبح وقعه في هذا المقام، وقد خاطب الملك العلام، وقد رضي أن ينزل هو بمنزلة الثعلب وهو كلب من الكلاب، ويكفيه ذلك سخافة لعقله وفضيحة بين أولي الألباب، ولو أخذنا نناقشه بمثل هذه الكلمات لطال الكلام في هذا المقام وضاع المقصود وفات، وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم والصناعات؛ منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس، ولا طراءة ولا دنس، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها، وستوقها ومفرغها ومنه البصر بأنواع المتاع وضروبه وصنوفه مع تشابه لونه ومسه وذرعه واختلاف بلاده، حتى يرد كل صنف منها إلى بلده الذي خرج منه، وكذلك بصر الرقيق، فتوصف الجارية فيقال ناصعة اللون، جيدة الشطب، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، لطيفة النهدين، ظريفة اللسان، واردة الشعر، فتكون بهذه الصفة بمائة دينار، أو بمائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار، أو بألفي دينار، ولكن لا يجد واصفها مزيداً على هذه الصفة، وتوصف الدابة فيقال: خفيف العنان، لين الظهر، شديد الحافر، فتي السن، نقي من

العيوب، فيكون بخمسين ديناراً أو نحوها، وتكون أخرى بمائتي دينار أو أكثر، وتكون هذه صفتها أيضاً، ويقال للرجل والمرأة في القراءة والغناء أنه لندي الحلق، طويل الصوت، طويل النفس، مصيب اللحن، ويوصف الآخر أو الأخرى بهذه الصفة وبينهما بون بعيد، يعرف ذلك أهل العلم به عند المعاينة والاستماع بلا صفة ينتهي إليها، ولا علم يوقف عليه، وإن كثرة المدارسة لتعين على العلم به، وكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به. وقال بعض الحذاق: ليس للجودة في الشعر صفة، إنما هي شيء يقع في النفس عند المميز، كالفرند في السيف، والملاحة في الوجه. والمقصود أن قصيدة النبهاني التي زعم أنه عارض بها القصيدتين ليست من الشعر في شيء، إنما هي ألفاظ خالية من المعاني، وقد ذكرنا لك بيت قصيده وهو قوله: فإن تعن ثعلباً ... البيت. وهو كلام ليس عليه طلاوة، ولا يدرك له حلاوة، ومعناه معنى مغسول، بل كله حشو وفضول، فقبحه الله وقبح شعره. وما تضمنته قصيدته من إنكار صفة العلو لله تعالى وادعاء جواز الاستغاثة بغير الله تعالى سبق البحث عنه والكلام فيه بما لا مزيد عليه، وسيأتي أيضاً تتمة للكلام عن الاستغاثة إن شاء الله تعالى. قال النبهاني: ومن كتب الإمام ابن تيمية (كتاب العرش) قال في (كشف الظنون) ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالى يجلس على العرش، وقد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك أبو حيان في النهر عند الكلام على قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 1 وقال: قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية ما صورته بخطه، انتهت عبارة "كشف الظنون". ثم نقل عن الزبيدي أنه قال في "شرح الإحياء"- عند قول الإمام الغزالي في عقيدته قواعد العقائد- الأصل الثامن: العلم بأن الله تعالى مستوٍ على العرش، قال: قال تقي

_ 1 سورة البقرة: 255.

الدين السبكي و (كتاب العرش) من أقبح كتب ابن تيمية.. إلخ. ثم نقل نص (جلاء العينين) في تبرئة الحنابلة عن القول بالجسمية، وما نقله العلامة الكوراني في ذلك، ثم اعترض النبهاني على ذلك بما كشف به عن حقيقة جهله، وأنه لم يعرف من العلم شيئاً، ثم هذى هذياناً في هذا الباب كرره عدة مرات. والجواب: أن يقال للنبهاني: هذا المطلب من المطالب العالية، وقد أشبعنا الكلام عليه سابقاً عند الكلام على رسالته التي زعم أنه رد بها على من يقول بصفة العلو، وأن النبهاني ليس من رجال هذا الميدان، وأنه ظالع ولا يدرك الظالع شأو الضليع، وفي (جلاء العينين) كلام أيضاً مفصل في هذا الباب يكتفي بمثله الفطن اللبيب، وفيه نبذة من كلام شيخ الإسلام في (كتاب العرش) وهو الكتاب الذي لم يؤلف مثله في هذا الموضوع وفي ذلك ما يكذب ما نقله النبهاني عن الزبيدي وغيره. والسبكي حاله في النقل معلوم، وهذه كتب شيخ الإسلام في كل فن بين الأيدي والحمد لله، ففي أي كتاب قال: إن الله يجلس على العرش وأنه قد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي أي كتاب رآه أبو حيان من كتب الشيخ. والحاصل: أن مثل هذا النقل يجب على الناقل تصحيحه كما هو مقتضى قوانين المناظرة، وبعد التصحيح نتكلم عليه، وكيف يمكن تصحيحه وكتب الشيخ مصرحة بخلافه كما لا يخفى على من تتبع كتبه وأقواله. قال شيخ الإسلام- قدس الله روحه-: "ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة، متفقاً عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظ أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، قال: كما

تنازع الناس في الجهة، فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً كما أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج إليه ونحو ذلك، وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات، وكذلك يقال لمن قال الله في جهة، أتريد بذلك أن الله فوق العالم أو تريد أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل، وكذلك لفظ المتحيز إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات قالته أعظم وأكبر، قد وسع كرسيه السموات والأرض، وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 1. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض"2. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه: " ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم"3. وفي حدث آخر: "وأنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة". قال: وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها ومنفصل عنها ليس حالاً فيها فهو سبحانه- كما قال أئمة السنة-: فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، كما ذكره في التدمرية وقال شيخ الإسلام في "التدمرية" أيضاً: أما علوه تعالى ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع، وليس في

_ 1 سورة الزمر: 67. 2 أخرجه البخاري (7382) ومسلم (2787) . 3 انظر "الصحيحة": رقم (109) .

الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله، فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} 1 فيتخيل أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فتعالى الله وتقدس، فهذا خطأ في مفهوم استوائه تعالى على العرش حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان، فإنه ليس في اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه تعالى أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى كما ذكر أنه قدر فهدى، فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوق ولا عاماً يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته. وقد علم أنه تعالى الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، فكيف يجوز أن يتوهم أنه تعالى إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك وتوهمه أو ظنه ظاهر اللفظ أو جوزه على رب العالمين الغني عن الخلق المجيد المتعال؟ انتهى. وقد ذكر في تفسير آية الكرسي- وهو مجلد كبير- مثل ذلك، وهكذا في كثير من كتبه، ولم نر في شيء من كتبه ما نقله النبهاني الأفاك أنه قال إن الله يجلس على العرش وأنه قد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ولا ذكره أحد ممن ينتمي إليه من تلامذته وأصحابه، كالحافظ ابن القيم، وكتبه ها هي بين الأيدي، وكالحافظ الذهبي وكتبه في البلاد والأقطار منتشرة، وكالحافظ الإمام ابن قدامة، وكالحافظ ابن كثير، وغيرهم ممن لا يحصون كثرة، والعجب ممن لا يلتفت إلى صريح كلامه ونص عبارته، ويعتبر ما يسمعه من أفواه خصومه وأعدائه، كابن حجر المكي والسبكي والزبيدي ونحوهم من الغلاة، وترى هؤلاء

_ 1 سورة الزخرف: 12- 13.

يدافعون عن بعض المتصوفة وقد تكلموا بكلمات الكفر، فيجهدون كل الجهد في تأويلها، ويتعسفون في تصحيحها، ويحتجون على ذلك بأنهم تكلموا أحياناً بما يوافق الحق، حتى أني تكلمت يوماً مع بعض الغلاة فيما قاله صاحب الفصوص والفتوحات من الكلمات المصرحة بالحلول والاتحاد، وذكرت له ما قاله فيها العلامة السعد التفتازاني، والشيخ علي القاري، والشيخ محمد البخاري وغيرهم. فقال: إن هؤلاء لم ينصفوا، فإن صاحب الفصوص قد صرح بعقيدة الإسلام في كثير من كتبه، فمن الواجب أن نصرف ما نسمع من كلامه المخالف للحق إلى ما يوافقه، ونحمله على محمل حسن، كما أولوا قوله: سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها؛ أي: عين وجودها الماسك لها، ونحو ذلك صيانة لهؤلاء الكمل من الوقيعة فيهم. فقلت: فما قولك في مسلم يصلي ويصوم ويزكي ويحج البيت وقد تكلم بالكفر هل تؤوّل كلامه وتصرف عنه موجب الكفر؟ أم تقول بما قاله الفقهاء في كتاب الردّة؟ ثم إنكم لم تذبوا عن ابن تيمية وتعتذروا عنه بمثل ما اعتذرتم عن شيخكم، وقد ملأ الكتب من الإيمان بالته ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتتشبثون بالقدح فيه بما زوره عليه أئمتكم مما لا وجود له في كتبه ولا كتب أصحابه، فكان من الواجب عليكم أنه إذا ثبت عنه شيء مذكور في كتبه أن تجتهدوا في حمله على محمل حسن، ولم تشتموه كما شتمه أئمتكم وأسلافكم، فلم يجب بشيء وأعرضت عن مكالمته. ثم إن الذي نقلناه عنه مما هو مذكور في كتاب العرش، وتفسير آية الكرسي، والتدمرية، وغير ذلك من كتبه قد قال به السلف، وصرح به كثير من المتأخرين أيضاً. قال الإمام أبو العباس عماد الدين أحمد الواسطي الصوفي المحقق العارف تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله سرهما، وهو الذي قال فيه شيخ الإسلام إنه جنيد زمانه- في رسالته "نصيحة الإخوان" ما حاصله: أن الله عز وجل كان ولا مكان، ولا عرش ولا ماء، ولا فضاء ولا هواء، ولا خلاء ولا ملاء، وأنه كان منفرداً في قدمه وأزليته، متوحداً في فردانيته، لا يوصف بأنه فوق كذا إذ لا شيء

غيره، وهو تعالى سابق التحت والفوق اللذين هما جهتا العالم، وهو لا زمان له تعالى، وهو تعالى في تلك الفردانية منزه عن لوازم الحدث وصفاته، فلما اقتضت الإرادة المقدسة خلق الأكوان المحدثة المخلوقة المحدودة ذات الجهات اقتضت الإرادة أن يكون الكون له جهات من العلو والسفل، واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الكون في جهة التحت لكونه مربوباً مخلوقاً، واقتضت العظمة الربانية أن يكون هو تعالى فوق الكون باعتبار الكون لا باعتبار فردانيته، إذ لا فوق فيها ولا والرب سبحانه وتعالى كما كان في قدمه وأزليته وفردانيته لم يحدث له في ذاته ولا في صفاته ما لم يكن في قدمه وأزليته، فهو الآن كما كان لما أحدث المربوب المخلوق، ذا الجهات والحدود والخلا والملا، ذا الفوقية والتحتية؛ كان مقتضى حكم العظمة والربوبية أن يكون فوق ملكه، وأن تكون المملكة تحته باعتبار الحدوث من الكون لا باعتبار القدم من المكون، فإذا أشير إليه بشيء يستحيل أن يشار إليه من جهة التحتية أو من جهة اليمنة أو من جهة اليسرة، بل لا يليق أن يشار إليه إلا من جهة العلو والفوقية، ثم الإشارة هي بحسب الكون وحدوثه وأسفله، فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة، وتقع على عظمة الله تعالى كما يليق به، لا كما يقع على الحقيقة المحسوسة عندنا في أعلى جزء من الكون فإنها إشارة إلى جسم، وتلك إشارة إلى إثبات، إذا علم ذلك فالاستواء صفة كانت له سبحانه وتعالى في قدمه، لكن لم يظهر حكمها إلا بعد خلق العرش، كما أن الحساب صفة قديمة لا يظهر حكمها إلا في الآخرة، وكذلك التجلي في الآخرة لا يظهر حكمه إلا في محله. قال: فإذا علم ذلك فالأمر الذي تهرب المتأولة منه- حيث أولوا الفوقية بفوقية المرتبة، والاستواء بالاستيلاء- فنحن أشد الناس هرباً من ذلك، وتنزيهاً للباري تعالى عن الحد الذي لا يحصره، فلا يحد بحد يحصره، بل بحد تتميز به عظمة ذاته عن مخلوقاته، والإشارة إلى الجهة إنما هي بحسب الكون وأسفله، إذ لا تمكن الإشارة إليه إلا هكذا، وهو في قدسه سبحانه منزه عن صفات الحدث،

وليس في القدم فوقية ولا تحتية، وإنما من هو محصور في التحت لا يمكنه معرفة باريه إلا من فوقه، فتقع الإشارة إلى العرش حقيقة إشارة معقولة، وتنتهي الجهات عند العرش، ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ولا يكيفه الوهم، فتقع الإشارة عليه كما يليق به مجملاً مثبتاً لا مكيفاً ممثلاً. قال: فإذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصنا من شبهة التأويل، وعماية التعطيل، وحماقة التشبيه والتمثيل، وأثبتنا علو ربنا وفوقيته، واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، والحق واضح في ذلك، والصدر ينشرح له، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة، مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره، والوقوف في ذلك جهل وغي، مع كون الرب وصف نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها، فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا ولا نقف في ذلك. قال: وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة فمن وفقه الله للإثبات بلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف، فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله تعالى، والله أعلم. انتهى. وذكر شيخ الإسلام في كتابه في العرش كلاماً مفيداً أحببنا نقله في هذا المقام إكمالاً للفائدة ما حاصله: "اختلف في العرش هل هو كري كالأفلاك فيكون محيطاً بها، وأما أدق يكون فوقها وليس هو كرياً، فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل أن الجهة العليا هي جهة المحيط وهو المحدد، وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط، وأما الجهات الست فهي للحيوان وليس لها في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب الإضافة فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس، والبهائم، والشجر، والنبات، والجبال، والأنهار الجارية. فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر

محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم، ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت القطب الجنوبي ولا بالعكس. وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي سمى عرض البلد. فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها، وهو فوقها مطلقاً، فلا يتوجه الإنسان إليه وإلى ما فوقه إلا من العلو من جهاته الباقية، ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من غير جهة العلو كان جاهلاً باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه، وغاية ما يقدر أن يكون كري الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". وهذا الأثر وأمثاله معروف في كتب الحديث. قال شيخ الإسلام: ومن المعلوم أن الواحد منا- ولله المثل الأعلى- إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته، فهو في الحالين مباين لها، والعرش- سواء كان هذا الفلك التاسع الذي هو الفلك الأطلس عند الفلاسفة ويسمونه الفلك الأعظم وفلك الأفلاك، أو كان جسماً محيطاً بالفلك التاسع أو كان فوقه من جهة وجه الأرض- غير محيط فيجب على كل حال أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق

في غاية الصغر، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 1. وفي ذلك من الأحاديث ما سيأتي ذكر بعضها، وسواء قدر أن العرش محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها، أو قيل إنه فوقها وليس محيطاً بها كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك، فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات والخالق سبحانه وتعالى فوقه، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت". ثم قال شيخ الإسلام في آخر (كتاب العرش) : "قد تبين أنه سبحانه وتعالى أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك، وأنها أصغر عنده من الحمصة أو الفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة بل الدرهم والدينار والكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك في يد إنسان أو تحته أو نحو ذلك هو يتصور عاقل- إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به- أن يكون الإنسان كالفلك، فالله تعالى- وله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون" انتهى. وقد تبين من هذه النقول أن البحث دقيق، فلهذا لم يفهمه كثير من أهل العلم فضلاً عن النبهاني، فكلامه الذي اقتضى إعادة القول، فاللوم عليه لا علينا، والله الموفق. هذا آخر الجزء الأول من كتاب (غاية الأماني في الرد على النبهاني) ونسأله تعالى التوفيق لإكماله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. (وكان الفراغ منه على يد مؤلفه في رمضان سنة 1325) .

_ 1 سورة الزمر: 67.

عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ... ضبة ثم من بني حميس: ألا تنهى سراة بني حميس ... شويعرها فويلية الأفاعي فسماه شويعراً، وفالية الأفاعي، دويبة فوق الخنفساء، فصغرها أيضاً تحقيراً له. وزعم الحاتمي أن النابغة سئل من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد جيده وأضحك رديه. وهذا كلام يستحيل مثله عن النابغة لأنه إذا أضحك رديه كان من سفلة الشعراء إلا أن يكون في الهجاء خاصة. وقال الحطيئة يصف صعوبة الشعر: الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه وإنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر له غيره، وإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه ولا استطراف لفظ وابتداعه ولا زيادة فيما أجحف به غيره من المعاني أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس هو بفضل مع التقصير. ولقي رجل آخر فقال له الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وماص بظر أُمهِ، فأيهم أنت؟ قال: أما أنا فشويعر، واختصم أنت وامرؤ القيس في الباقي. وقال بعضهم: الشعر شعران؛ جيد محكك وردي مضحك، س ولا شيء أثقل من الشعر الوسط والغناء الوسط. ويقال: إن الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل، أهول ما يكون على العالم، وأتعب أصحابه قلباً من عرفه حق معرفته، وأهل صناعة الشعر أبصر بها من العلماء بالله من نحو وغريب، ومثل وخبر، وما أشبه ذلك، ولو كانوا دونهم بدرجات فكيف أن قاربوهم أو كانوا منهم وقيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي

المجلد الثاني

المجلد الثاني فاتحة الجزء الثاني ... بسم الله الرحمن الرحيم حمداً لك اللهم مكان كل نعمة لك علينا، وعلى جميع عبادك الماضين والباقين، عدد ما أحاط به علمك من جميع الأشياء، ومكان كل واحدة منها عددها أضعافاً مضاعفة أبداً سرمداً إلى يوم القيامة. حمداً لا منتهى لحده، ولا حساب لعده، ولا مبلغ لغايته، لنتوسل به إلى طاعتك وعفوك، ونتسبب به إلى رضوانك، ونتخذه ذريعة إلى مغفرتك، وطريقاً إلى جنتك، وخفيراً من نقمتك، وأمناً من غضبك، وظهيراً على طاعتك، وحاجزاً عن معصيتك، وعوناً على تأدية حقك. اللهم وأوصل صلة صلواتك ونوامي بركاتك إلى من أرسلته رحمة للعالمين، ونقمة على الزائغين، حتى ظهر أمرك، وعلت كلمتك، ولو كره المشركون. اللهم وأوصل مثل ذلك إلى آله الكرام والأصحاب، والجند والأحزاب، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فلما منَّ الله تعالى بفضله وتوفيقه إلى إكمال النصف الأول من كتاب (غاية الأماني) بادرنا- بعد الاستعانة به سبحانه- إلى الشروع في النصف الثاني، وهو الكلام على الباب الخامس فما بعده إلى آخر الأبواب التي ذكرها الخصم في كتابه، ولم يراقب فيها موقفه يوم الحساب، وقد سلكنا في هذا المقام نحو ما سلكناه أولاً من الإنصاف، ولم نخرج- وله سبحانه الحمد- عن سواء السبيل حسبما عودنا عليه من الإلطاف، ومنه سبحانه الهداية. قال النبهاني في الباب الخامس من كتابه، وهو الباب الذي عقده في الكلام

على كتابة (إغاثة اللهفان) لابن القيم، و (الصارم المنكي في الرد على السبكي) و (جلاء العينين في المحاكمة بين الأحمدين) وعقد للكلام على كل من هذه الثلاثة فصلاً، وقدم الكلام على (إغاثة اللهفان) ونقل عبارته التي ذكرها في الزيارة المبتدعة، وما يفعله القبوريون من الأعمال الشركية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبعد ختام عبارته نقل عبارة القسطلاني المتعلقة بالإغراء على الزيارة المبتدعة ليستدل بها على غلوه، وبعد أدت نقلها- قال: "هذا ما أردت نقله هنا من كلام هذا الإمام، قال: وذكر رحمه الله أحاديث وفوائد نفيسة تتعلق بزيارته صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، وفضل المدينة المنورة، فليراجعها من شاءها. ثم قال: فانظر رحمك الله إلى هذا النور، وهذا الهدى، وهذا الحق الظاهر المشرق الجلي؛ تعلم شدة الظلام المستولي على أولئك المبتدعين، وأنت إذا قابلتَ بين كلام القسطلاني وكلام ابن القيم يظهر لك كمال الفرق بين الباطل والحق" إلخ. أقول في جوابه: إن حاصل انتقاده هذا على كتاب (إغاثة اللهفان) أن ما فيه من الكلام على الزيارة المبتدعة والمنع منها مخالف لما نقله عن القسطلاني، وكفى بذلك دليلاً على الفساد، وأنت تعلم مما قدمناه أن مدار الاستدلال إنما هو على الكتاب والسنة لا بأقوال الغلاة، وقد استوفينا الكلام على أقسام الزيارة فيما نقلناه سابقاً عن أئمة أهل العلم والدين، وأن النبهاني- لامتلاء قلبه من ظلمات البدع والأهواء- لم يزل يكرر ما يهواه، كما هو شأن من أحب شيئاً فإنه يلهج بذكره، وعليه قول القائل: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل طريق ولما استولت على قلبه محبة الإشراك بالله تعالى والغلو بالصالحين تراه يسرح في أودية الضلال، وكلما رأى ما يوافق هواه بادر إلى نقله، أو رأى ما يوافق الحق ويقتضيه الدين المبين بادر إلى شتم قائله وتضليله بل وتكفيره، وعلى ذلك بنى بنياته، وأقام برهانه، وألف كتابه، وفصل خطابه، وكلما وجهت إليه لوماً

ازداد بباطله غراماً: وذي سفه يواجهني بجهل ... فأكره أن أكون له مجيباً يزيد سفاهة فأزيد حلماً ... كعود زاده الإحراق طيباً وحاله هذا حال إخوانه وسلفه، إذ حكى الله تعالى عنهم ما حكى في كتابه الكريم، قال عز من قائل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1 ولنضرب عن كلامه هنا صفحاً اكتفاء بما سبق منا.

_ 1 سورة البقرة:120.

الكلام على كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم

[الكلام على كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم] وكتاب "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان " هو كتاب مشهور من كتب السنة، أودعه مؤلفه رحمة الله مهمات المطالب، وأبطل به حبائل الشيطان ومصائده، ودسائسه ومكائده، فلا بد إن نفرت منه جنوده، واضطربت منه أعوانه وأولياؤه، والله لا يصلح عمل المفسدين. قال النبهاني في فصل ذكره بعد كلامه السابق: وليت ابن القيم زاد في كتابه المذكور فصلاً قال فيه: ومن مصائده أنه يسول إلى بعض العلماء الغلو في الدين، ويحسن تضليل المسلمين بالاستغاثة والزيارة لقبور الأنبياء والصالحين، ويدخل عليهم بحيله الشيطانية، أن في ذلك شركاً برب العالمين، والأمر على خلاف ما أوحاه إليهم هذا اللعين، فقد أضر بهم ضرراً فاحشاً في الدين، إلى آخر هذيانه. جوابه أن يقال: من قبل من يوحد الله ولا يشرك بعبادته أحداً- اخسأ يا عدو الله؛ إن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر والبغي، والذي أضر بالمسلمين عبادتهم للقبور، وتلاعبهم بما يعملون في المشاهد والزوايا من المنكرات، وأعراضهم عما استوجبته شريعتهم من اكتساب ما يستوجب السعادتين، فيا أيها الداعي لعبادة

غير الله تعالى كلامك هذا دل عليك أنك من جند إبليس، بل قد ارتقى بك الحال حتى صار إبليس من جندك، كما قيل في أخيك ومن يشابهك ويضاهيك: وكان فتى من جند إبليس فارتقى به الحال حتى صار إبليس من جنده فنحن بحمد الله لم نزل ممتثلين لما ورد من الأوامر في الشريعة الغراء، منتهين عما نهى الله عنه ورسوله وسائر الأنبياء، لا ندعو غير الله، ولا نسأل في المهمات سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. فنحن عند المهمات نقول: اللهم يا من تحل به عقد المكاره، ويا من يسكن به حد الشدائد، ويا من يلتمس منه المخرج إلى روح الفرج، ذلت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك الأسباب، وجرى بقدرتك القضاء، ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة، أنت المدعو للمهمات، وأنت المفزع في الملمات، لا يندفع منها إلا ما دفعت، ولا ينكشف منها إلا ما كشفت، فلا مصدر لما أوردت، ولا صارف لما وجهت، ولا فاتح لما أغلقت، ولا مغلق لما فتحت، ولا ميسر لما عسرت، ولا ناصر لمن خذلت. وحيث أن ما ذكره النبهاني هو وحي شيطاني، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 2 وقال تعالى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 3 وجب أن نستعيذ منه، فإن شياطين الإنس أشد ضرراً من شياطين الجن. فنقول: اللهم إنا نعوذ بك من نزغات الشيطان الرجيم ومكائده، ومن الثقة بأمانيه ومواعيده، وغروره ومصائده، وأن يطمع نفسه في إضلالنا عن طاعتك، وامتهاننا بمعصيتك، وأن يحسن عندنا ما حسن لنا، وأن يثقل علينا ما كره إلينا، اللهم اخسأه عنا بعبادتك، واكبته بجدنا في محبتك، واجعل بيننا وبينه ستراً لا يهتكه، وردماً مصمتاً لا يفتقه، اللهم أشغله عنا ببعض

_ 1 سورة آل عمران: 85. 2 سورة الأنعام: 121. 3 سورة الأنعام:112.

أعدائك، واعصمنا منه بحسن رعايتك، واكفنا خطره، وولنا ظهره، واقطع عنا أثره، اللهم ومتعنا من الهدى بمثل ضلالته، وزودنا من التقوى ضد غوايته، واسلك بنا من التقى خلاف سبيله من الردى، اللهم لا تجعل له في قلوبنا مدخلاً، ولا توطن له فيما لدينا منزلاً، اللهم وما سوَّل لنا من باطل فعرفناه، وإذا عرفتنا فقناه وبصرنا ما نكايده به، وألهمنا ما نعده له، وأيقظنا عن سنة الغفلة بالركون إليه، وأحسن بتوفيقك عوننا عليه، اللهم وأشرب قلوبنا إنكار علمه، وألطف لنا في نقض حيله، وحول سلطانه عنا، واقطع رجاءه منا، واذرأه عن الولوع بنا، واجعلنا. منه في حرز حارز، وحصن حافظ، وكهف مانع، وألبسنا منه جنناً واقية، وأعطنا عليه أسلحة ماضية، اللهم واعمم بذلك من شهد لك بالربوبية، وأخلص لك بالوحدانية، وعاداه لك بحقيقة العبودية، واستظهر بك عليه في معرفة العلوم الربانية، اللهم احلل ما عقد، وافتق ما رتق، وافسخ ما دبر، وثبطه إذا عزم، وانقض ما أبرم، اللهم واهزم جنده، وأبطل كيده، واهدم كهفه، وأرغم أنفه، اللهم اجعلنا في نظم أعدائه، واعزلنا عن عداد أوليائه، لا نطيع له إذا استهوانا، ولا نستجيب له إذا دعانا، نأمر بمناواته من أطاع أمرنا، ونعظ بمتابعته من اتبع زجرنا، اللهم وأعذنا مما استعذنا منه، وأجرنا مما استجرنا بك من خوفه، واسمع لنا ما دعونا به، وأعطنا ما أغفلناه، واحفظ لنا ما نسيناه، وصيرنا بذلك في درجات الصالحين ومراتب المؤمنين، آمين يا رب العالمين. ثم إن ما نُسِبَ إلى الأولياء مما يحبه ويهواه من الباطل والضلال سنتكلم عليه إن شاء الله، ونبطل دعواه فيه، ولاسيما ما نسب للشيخ عبد القادر وسنذكر من كلامه ما يدل على أنه كان أحرص الناس على التوحيد. وتعبيره عن المسلمين- الذين أخلصوا وجوههم لله- بالألقاب المستكرهة هو من خصال أهل الجاهلية من المشركين والكتابيين، فلقَّب أهل الهدى تارة بالوهابية، وأخرى الحشوية، ومرة بالمجسمة، كما كان أسلافه يسمون من خرج عن دينهم بالصابي، وسموا رسول الله صلى الله عليه وسلم صابئياً، كما ورد ذلك في عدة أحاديث صحيحة، تنفيراً للناس عن اتباع غير سبيلهم، وهكذا تجد كثيرا من هذه الأمة

يطلقون على من خالفهم في بدعهم وأهوائهم أسماء يكرهها الناس، ويستبشعها العوام، وجميع ما ذكر النبهاني في هذا المقام مما يتعلق بالسفر إلى الزيارة والاستغاثة بغير الله قد مر الكلام على إبطاله. قال النبهاني في الرد على ما منعه ابن القيم من ضرب المثل بالملك وقضاء حاجات المستشفعين له بوزرائه وخواصه لله تعالى في قضاء حاجات المشتفعين له بأنبيائه وعباده الصالحين، وبعد نقل منعه، قال النبهاني: ومنعه ممنوع، لأن ذلك من قبيل التشبيه، وهو واقع في القرآن بقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} 1. إلى أن قال: وإنما حمل ابن القيم على منعه الإطالة في تهجينه كون ذلك يفيد جواز الاستغاثة بخواص عبيده المقربين، من الأنبياء والصالحين. ثم نقل لابن القيم عبارة ذكرها في "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" في الفائدة التاسعة والثلاثين من فوائده، مما يفيد بزعمه تشبيه الخالق بالمخلوق، ونقل عن القسطلاني والشعراني وعلى الخواص وغيرهم ما يفيد أيضاً جواز قياس الخالق على المخلوق وتشبيهه بخلقه. جوابه: أن النبهاني هذا قد لبس في هذه المسألة وحرّف وأوهم، فلزم نقل عبارة ابن القيم أولاً وما يوافقها، ثم الكلام على باطل النبهاني وجهله. فنقول: قال الحافظ ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان"2 في فصل الفرق بين زيارة الموحدين للقبور وزيارة المشركين: "أما زيارة الموحدين فمقصودها ثلاثة أشياء: أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ، ص وقد أشار النبي عليه السلام إلى ذلك لقوله: "زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة".

_ 1 سورة النور: 35. (1/ 337- وما بعدها) ط. المكتب الإسلامي.

الثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك،. فالميت أولى، لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهله ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة أو إهداء قربة ازداد بذلك سروره وفرحه كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لهم، ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم. الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه بإتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول عليه السلام، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور. وأما الزيارة الشركية؛ فأصلها مأخوذ من عُبّاد الأصنام. قالوا: الميت المعظّم الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به. وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها. وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور، وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها. وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده، وكان صلى الله عليه وسلم في شق، وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء

المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى. قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم". ثم سرد عدة آيات ونصوص من ذلك، وتبين منها أن المشركين إنما عبدوا من عبدوا بسبب اتخاذ من سوى الله وسائط بينهم وبينه، فإذا أشرك بهم المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب وما يجب له وما يمتنع عليه، فإن هذا ممتنع، إذ كيف يقاس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج؟ وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي، والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره، فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقص طاعتهم لهم ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضى، فأما الغنى الذي

غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون بقهره مصرَّفون بمشيئته لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة. ثم ذكر الدلائل القرآنية على ذلك مما يطول ذكره فراجع كتابه وهو بين الأيدي. فتبين مما نقلناه من عبارته ما لبس به النبهاني وحذف ليروج غرضه الفساد، وهو اتخاذ الوسائط بينه وبين الله بناء على ما جوزه من قياس الخالق على المخلوق، وعلى كلامه الفاسد ينبغي أن تجوز كل عبادة لله أن تجعل لغيره، ويقال إنه واسطة كما أن الوزير واسطة بين الناس وبين الملك. هذا الذي ذكره ابن القيم قد سبقه به شيخه، وذكر مثله في مواضع، منها ما قاله في رسالة الواسطة حيث نص فيها: أن من أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار -مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه- فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار، لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها حق، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1. وذكر نصوصاً أخر، إلى أن قال: "ومثل هذا كثير في القران، ومن سوى الأنبياء -من مشايخ العلم والدين- فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم؛ فقد أصاب في ذلك، وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة قاطعة لا يجتمعون على ضلالة، وإن تنازعوا في شيء رُدَّ إلى الله والرسول، إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل واحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظّ وافر"2. وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين

_ 1 سورة السجدة: 4. 2 حديث صحيح بشواهده. أخرجه أحمد (5/ 196) أو رقم (21806، 21807- قرطبة) وأبو = داود (1 364! والترمذي (2682) وابن ماجه (223) وغيرهم. وانظر: تعليقي على الحديث رقم (7، 8) من كتاب "أخلاق العلماء" للآجري.

خلقه كالحُجّاب الذين بين الملك ورعيته -بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسْأَلُونهم هم يَسألون الله، كما أن الوسائط عند الملك يسألون الملك الحوائج للناس لقربهم منه، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب من الطالب للحوائج- فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون لله شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أنداداً قال: وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة: إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يحرفونه، ومن قال إن الله تعالى لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بها بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير، يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين. والوجه الثاني: "أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلا بد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 1 وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ

_ 1 سورة سبأ: 22.

شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 1. وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك، والله تعالى ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. والوجه الثالث:- أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه، أو من يدل عليه، بحيث يكون يرجوه ويخافه؛ تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل له من الرغبة والرهبة من كلام المدل عليه، والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض فجعل هذا يحسن إلى هذا أو يدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع من إرادة الدعاء والإحسان والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلم، أو من يرجوه الرب ويخافه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت؛ ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له " 2. والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه- وذكر الآيات الدالة على ذلك- إلى أن قال: فبيَّنَ أن كل من دُعِيَ من دونه ليس له نصيب ولا شرك في الملك، ولا هو ظهير، وإن شفاعتهم لا تنفع إلا لمن أذن له، وهذا بخلاف الملوك، فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك، وقد يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم معاوناً لهم على ملكهم، وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك وهم وغيرهم، والملك يقبل شفاعتهم تارة

_ 1 سورة الإسراء: 111. 2 أخرجه البخاري (7477) ومسلم (2679) .

لحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافآتهم لإيفائهم عليه، حتى أنه يقبل شفاعة ولده وزوجته، لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد، حتى لو أنه أعرض عنه زوجته وولده لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة ملوكه فإنه إذا لم يقبل شفاعته خاف أن لا يطيعه أو أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبته أو رهبته، فالله تعالى لا يرجو أحدا ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني"1. واستشهد بنصوص كثيرة على ذلك وأطنب في الكلام. فتبين مما نقلناه؛ أن قياس الخالق على المخلوق في غاية الفساد، بل هو قياس مع الفارق من وجوه كثيرة، ومنه يعلم سقوط كلام النبهاني الغبي، وأنه لا يعلم من فن الأصول شيئاً أصلاً، ولا عرف باب القياس ولا دراه. وأما قوله بعد زكره منع ابن القيم: وممنوع. اإلخ. فهي عبارة تدل على أنه لم يمارس شيئاً من العلوم، ولا قرأ ما يقرؤه المبتدئون في طلب العلم، وهو علم آداب البحث والمناظرة، إذ لو شم رائحته لعلم أن المنع لا يمنع، إذ من قواعده أن منع المنع ومنع ما يؤيده لا يفيد، ولولا أن هذه القاعدة من أشهر مسائل هذا الفن لتكلمنا عليها بكلام أكثر من ذلك. فالحمد لله الذي جعل أعداء الحق وخصماء السنة من أجهل الناس بما يوجب السعادة، وأضلهم عن سواء السبيل. وأما ما نقله من الفائدة عن كتاب "جلاء الأفهام" وزعم أنها تناقض ما ذكره ابن القيم في إغاثته من الرد على من قاس الخالق على المخلوق؛ فنقول: ليس الأمر كما زعم، ولا مخالفة بين العبارتين، ومن نقل الفائدة بنصها يتبين ما قلناه من أن النبهاني غالط في كلامه، فقد قال ابن القيم في الكتاب المذكور بعد أن عد تسعاً وثلاثين فائدة ما نصه:

_ 1 "مجموعه الفتاوى" (1/ 96- 98) الطبعة الجديدة.

"الأربعون: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان: أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه. والثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه، ويزيد في تشريفه وتكريمه، وإيثاره ذكره ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله، وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابه هو، بل. كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وأثرها عنده، فقد اثر ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما يحبه هو، فقد آثر الله ومحابه على ما سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن اثر الله على غيره أثره الله على غيره، واعتبر هذا بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب إليهم والمنزلة عندهم، فإنهم يسألون المطاع أن ينعم على من يعلمونه أحب رعيته إليه، وكلما سألوه أن يزيد في حبائه وإكرامه وتشريفه علت منزلتهم عنده وازداد قربهم منه وحظوتهم، لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبه، فأحبهم إليه أشدهم له سؤالاً ورغبة أن يتم عليه إنعامه وإحسانه، هذا أمر مشاهد بالحس ولا يكون منزلة هؤلاء ومنزلة من يسأل المطاع حوائجه هو، وهو فارغ من سؤاله تشريف محبوبه والإنعام عليه واحدة، فكيف بأعظم محب وأجله لأكرم محبوب وأحقه بمحبة ربه له؟ ولو لم يكن من فوائد الصلاة عليه إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمن به شرفاً" 1 إلخ. هذه هي عبارة "جلاء الأفهام" وهي الفائدة الأربعون لا التاسعة والثلاثون كما وهم النبهاني، وأنت تعلم أن ما أسقطه ولم ينقله شيء كثير، والذي حذفه هو الذي يوضح المسألة، وهكذا شأنه يحذف ما عليه وينقل ما لا فائدة له فيه. وابن القيم رحمه الله أجل من أن يتكلم بما يخالف الكتاب والسنة وما كان

_ 1 "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" (ص 624- 625- ط. ابن الجوزي) .

عليه السلف، وكلامه يصدق بعضه بعضاً، ويبين بعضه بعضاً فما ذكره في إغاثته من منع اتخاذ الوسائط في الالتجاء إليه تعالى والعبادة والتوكل والنذر وغير ذلك لم يتكلم بخلافه في كتاب من كتبه، فلا يجوز أن يطلب الرزق من مخلوق ويقصد جعله واسطة في حصول رزقه، ولا أن يطلب كشف الضر أو تحويله من ملك أو بشر بقصد أن يكونوا وسائط عند الله في هذا المرام كما يستشفع بالوسائط عند الملوك والأكابر، لما سبق أن هذا قياس مع الفارق وأن اتخاذ الوسائط إلى الله فيما لا يقدر عليه إلا الله هو شرك المشركين، وهو الذي أرسل الله لمحوه الأنبياء والمرسلين، وما ذكره في "جلاء الأفهام" من أن سؤال الرب سبحانه أن يثني على رسوله ويشرفه ويتعطف عليه هو آثر عنده من أن يطلب السائل شيئاً لنفسه. ثم لتوضيح المسألة قال: "واعتبر ذلك بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم".. إلخ. أي: قِسْ سؤال الله أن يتفضل على خليله وحبيبه وأنه آثر من السؤال أن يتفضل على السائل بسؤال الرعايا للملك، أن يتفضل بإلطافه على من يعلمون أن الملك يحبه من أمير أو وزير أو أحد الرعايا، إذا قسته تجد الأمر كما وصف من أن الملك يؤثر لديه هذا السؤال، وكذلك يقال إذا كان لأب واحدة عدة بنين ومنهم من هو أحب إليه من غيره، فلا شك أن أحد الأبناء إذا سأل أباه أن يخص الابن الذي هو أحب أبنائه بإحسان وعطية كان ذلك آثر لدى الأب من أن يسأله أحد الأبناء شيئاً لنفسه، وهذا من باب ضرب المثل وتوضيح المسألة، ومن أين هنا اتخاذ الوسائط والالتجاء إلى غير الله؟! وههنا القياس صحيح والجامع موجود، فإن الله سبحانه يؤثر لديه سؤال العبد ما هو مرغوب له تعالى على سؤال العبد ما تعود مصلحته إليه كما أن المحسوس كذلك. فانظر إلى غباوة هذا الملحد الزائغ حيث لم يفرق بين ما ذكر في "الإغاثة" وبين ما ذكر في "جلاء الأفهام" مع أن الفرق كما بين النور والظلام. ثم إن ما نقله عن الشيخ محيي الدين من أنه استعمل هذا القياس في "الفتوحات المكية" وهو قوله: "لما كان الحق تعالى هو السلطان الأعظم، ولا بد

للسلطان من مكان يكون فيه حتى يقصد بالحاجات - مع أنه تعالى لا يقبل المكان- اقتضت المرتبة أن يخلق عرشاً، ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج منه كل ذلك رحمة بعباده وتنزلاً لعقولهم". انتهى؛ لا يدل على مقصده بل على نقيضه، فإن النبهاني قصد من صحة القياس اتخاذ الوسائط ليقربوه إلى الله زلفى، وهو عين معتقد أهل الشرك. والشيخ محي الدين بين سبب خلق العرش، وأن الله استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج، والفرق جلي بين المقامين، ولا مناسبة بين الكلامين. وما نقله عن "مسالك الحنفاء" للقسطلانى مما يؤيد اتخاذ الوسائط قياساً على ملوك الدنيا مردود على قائله، والقسطلاني أيضاً كان من الغلاة، وكلامه ليس بحجة على المسلمين، ومدار الاستدلال الكتاب والسنة، ومفاسد سوء الفهم أكثر من أن تحصى. قال النبهاني: ثم بعد كتابتي هذا رأيت عبارة للإمام أحمد هي من أقوى الأدلة المقنعة لابن القيم وغيره في جواز هذا التشبيه، وهي مذكورة في كتاب "منهاج السنة" وهي أن الإمام أحمد قال: قالت الجهمية -لما وصفنا الله تعالى بهذه الصفات- إذ زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته، قلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل الله بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر. فقال: لا تكونون موحدين أبداً حتى تقولوا كان الله ولا شيء. فقلنا: نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟ وضربنا لهم في ذلك مثلاً، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله تعالى- وله المثل الأعلى- بجميع صفاته إله واحد، لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات

لا يقدر حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى خلق لنفسه علماً والذي لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول: لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلاً كافراً اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 1 وقد كان هذا الذي سماه الله وحيداً له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه الله وحيداً بجميع صفاته، فكذلك الله تعالى- وله المثل الأعلى- هو بجميع صفاته إله واحد. قال النبهاني: انتهى كلام الإمام أحمد بحروفه، فأنت تراه لم يجعل التشبيه؛ الذي شبهه- بقوله فكذلك الله تعالى- بملك له وزراء، وإنما جعل ذلك التشبيه بجماد وهو النخلة وكافر وهو الوليد بن المغيرة، فإذا جاز ضرب الجماد والكافر مثلاً لله تعالى وصفاته العلية أفلا يجوز ضرب المثل لله تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين بملوك الدنيا ووزرائهم وخواصهم؟ ولعمري إن جواز ذلك أوضح من أن يتردد فيه مثل ابن القيم مع وفرة فهمه ودقة علمه، ولكن هواه في نصرة تلك البدعة كان حجاباً عن ذلك. إلخ. أقول: جوابه؛ أن هذا النقل عن الإمام صحيح، وهو من كتابه في "الرد على الجهمية" وهم أصحاب جهم بن صفوان الذي كان يقول بنفي الصفات عن الله تبارك وتعالى، والإمام أحمد رد عليه وعلى أصحابه برسالة مختصرة، وهي متداولة بين الأيدي، وقد طبعت في الهند، وليس فيما نقله النبهاني ما يمس مطلبه والاستدلال بمثل ذلك على جواز اتخاذ الوسائل بين العبد وبين الله في الالتجاء إليه والاستعانة به وغير ذلك، ويكفي هذا الفهم دليلاً على جهل النبهاني وغباوته وإفلاسه من كل فضيلة، ومن العجب أني رأيت كل من كان على هذا المسلك المعوج ذا غباوة وجهل وحجاب على بصريته، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ *َختَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ

_ 1 سورة المدثر: 11.

وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وقوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ *) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2 إن الإمام أحمد قدس الله روحه كان من أجلّ مشايخ الموحدين، كيف ويقول بجواز اتخاذ الوسائط والوسائل وهو مذهب المشركين؟ ولكنه تناظر مع الجهمية فيما خالفوا به أهل السنة، ومن جملة ما ناظرهم به مسألة الصفات، وقبل هذه العبارة التي نقلها النبهاني عن الشيخ عبارة أخرى، وبها يتضح المراد. قال الإمام: "وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} 3 أليس الله هو القائل؟ قالوا: يكون الله شيئاً يعبر عن الله كما كوّن شيئاً فعبر لموسى. فقلنا: فمن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} 4 أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون شيئاً يعبر عن الله. فقلنا لهم: قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم ولا تنطق ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان. فلما ظهرت عليهم الحجة؛ قالوا إن الله قد تكلم لكن كلامه مخلوق. قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فشبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً، فجمحتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة علواً كبيراً، بل نقول: إن الله لم يزل

_ 1 سور البقر: 6-7. 2 سورة الملك: 10- 11. 3 سورة المائدة: 116. 4 سورة الأعراف: 6- 7.

متكلما إذا شاء، ولا نقول إنه قد كان لا يتكلم حتى خلق كلاماً، ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول إنه قد كان ولا نور حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة. فقالت الجهمية لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات: "إن زعمتم أن الله ونوره والله وعظمته والله وقدرته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره إلى آخر ما سبق نقله". انتهى. فالمقصود من كلام الإمام أحمد من ضرب النخلة والوحيد مثلاً؛ أن الذات المتصفة بصفات تتصف بالوحدانية، لأن الصفات لا تستقل بنفسها، ولا يمكن انفكاكها عن الذات إلا في الذهن، واعتراض الجهمية والمعتزلة لا يرد على أهل السنة، ومذهب النصارى لا يصلح نقضاً، فإنهم أثبتوا الأقانيم الثلاثة وكل منها مستقل، فالتعدد متحقق، وأما المثبتون للصفات فعندهم أن الذات لا تنفك عنها أصلاً، والتعدد منتف، وتفصيل ذلك في كتب الكلام. والإمام مثّل لصحة إطلاق الواحد على الذات المتصفة بالصفات بما هو أبلغ منه وهو إطلاق اسم النخلة على ما تركب من جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار، وسمى الوليد بن المغيرة المخزومي وحيداً مع ماله من الأعضاء والأجزاء المحسوسة، وهكذا الحائط، والمركب، والسرير، والكتاب، إلى ما لا يحصى من الأشياء التي استحقت إطلاق لفظ الواحد مع تعدد ما تركبت منه، فكيف لا يتحد ولا يطلق الواحد على المتصف بالصفات؟! فالإمام أحمد لم يشبه رب العالمين بالنخلة ولا بالوليد ولا بغيرهما من المخلوقات- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- إنما شبه إطلاق الواحد على الله بإطلاقه على أشياء تركبت من أمور كثيرة كان ينبغي أن لا يطلق عليها ذلك، فإطلاقه على الذات المتصفة بالصفات أولى بالجواز والصحة. فانظر إلى سوء فهم النبهاني كيف فهم من عبارة الإمام ما فهم، وأوقعه جهله

في مهواة من الضلال حتى زعم أن الإمام شبّه إله العالمين بالنخلة ونحوها، كل ذلك غراماً منه باتخاذ الواسطة وعبادة غير الله تعالى، قاتله الله ما أضله وأكفره. ثم إن من زيد جهله جعل النخلة من الجماد، ولا يصلح ذلك لغة ولا عرفاً، ولا حقيقة ولا مجازاً، بل النخلة هي من الشجر، وبذلك ورد الحديث الصحيح حيث شبهها بالمؤمن1، والحمد لله الذي جعل أعداء السنة والحق من الذين لا يفرقوّن بين النبات والجماد، وشبهوا الخالق بالمخلوق، وخبطوا في أعمالهم وعقائدهم خبط عشواء. والكلام على استدلال النبهاني بقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} 2 كالكلام على ما سبق، على أن في المراد بالنور أقوالاً ليس هذا موضع ذكرها. قال النبهاني: وقد قال ابن القيم نفسه في كتابه "طريق الهجرتين" في فصل مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها: "وهم ثماني عشرة طبقة؛ الطبقة الأولى- وهي العليا على الإطلاق-: مرتبة الرسالة، فأكرم الخلق على الله وأخصهم بالزلفى لديه رسله، وهم المصطفون من عباده " إلى أن قال: "ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه اختصهم لوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده وخصهم بأنواع كراماته، فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه مكاناً علياً على سائرهم درجات، ولم يجعل لعباده وصولاً إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى الجنة إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً بكرامة إلا على أيديهم، فهم أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه، وأكرمهم عليه، وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على

_ 1 كما في "المسند" (2/199) و"المستدرك" (1/ 75-76) و"سنن النسائي الكبرى" (6/376/11278) وصحيح ابن حبان (رقم: 247، 5230) و "المعجم الكبير" (7/ رقم: 459، 460) وأمثال الحديث " للرامهرمزي (رقم: 30- بتحقيقي) . وانظر: "الصحيحة" رقم (356) . 2 سورة النور: الآية 35.

أيديهم، وبهم عرف الله، وبهم عبد وأطيع، وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض، وأعلاهم منزلة أولوا العزم منهم المذكورون في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} 1 وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق، وعليهم تدور الشفاعة حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم ". قال النبهاني: "انتهت عبارته رحمه الله، فإذا كان هو بنفسه يصفهم بهذه الأوصاف الجميلة التي هم أهلها ومحلها، وقد صرح فيها بأنهم واسطة بينه تعالى وبين عباده، وأنهم أقرب الخلق إليه تعالى وسيلة، وأن خير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم، فما الذي جرى له بعد ذلك حتى تبع شيخه ابن تيمية في منع الاستغاثة بهم إلى الله تعالى، وجعلهم واسطة بين العباد وبينه عز وجل، ووسيلة إلى قضاء حوائجهم الدنيوية والأخروية، أفلا يعد هذا من ابن القيم تناقضاً؟ " انتهى. أقول في الجواب: إن ابن القيم رحمه الله وكذلك شيخه ومن على منهاجهم من أكثر الناس حباً للأنبياء والرسل عليهم السلام، وكتبهم طافحة ببيان ما يجب لهم من التوقير والاحترام، وفي كتاب "مفتاح دار السعادة" بحث مفصل في بيان حاجة الناس إليهم وما يجب من العمل بهديهم، حتى قال: "إن العالم لو خلا من هديهم فسد وخرج عن نظامه " إلى آخر ما تكلم به. ومن مزيد محبتهم له وتوقيرهم إياه حافظوا على هديهم وسننهم وما جاؤوا به من عند الله، ومن هديهم تخصيص الله تعالى بالعبادة والالتجاء إليه، والنذر له والتوكل عليه، وندائه في المهمات، والاستعانة به في طلب الحاجات، إلى غير ذلك من تخصيصه بخصائص الربوبية والألوهية. وما نقله النبهاني عن ابن القيم هو معتقد كل مسلم حنيف يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فضلاً عن شيخ الإسلام، ومن كان على سننه

_ 1 سورة الشورى: 12.

من الأئمة الأعلام ولا شك أن رسل الله هم الوسائط العظمى بين الله وبين المكلفين من عباده في تبليغ شرائعه وما يريده سبحانه من عباده، وبيان أسباب السعادة الدنيوية والأخروية، لا أنهم وسائط بالمعنى الذي فهمه الغبي النبهاني، حتى زعم أن ذلك مراد ابن القيم، وأخذ يوبخه بقوله فما الذي جرى له بعد ذلك حتى تبع شيخه ابن تيمية في منع الاستغاثة بهم إلى الله ... إلخ، بل المراد بالوسائط في كلامه بالمعنى الذي ذكرناه، وعليه أئمة الدين، وأكابر الموحدين. قال شيخ الإسلام قدس الله روحه- في الجواب عن سؤال فيه أن رجلين تناظرا، فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك-: "الحمد لله رب العالمين، إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة يبلغنا أمر الله فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه، وما أعده لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى عباده، فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة. وأما المخالفون للرسل فإنهم ملعونون، وهم عن ربهم ضالون محجوبون، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} 2

_ 1 سورة الأعراف: 35- 36. 2 سورة طه: 123- 126.

قال ابن عباس: تكفل الله تعالى لمن قرأ القران وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقال تعالى عن أهل النار: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} 1. وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2 وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 3 وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 4 ومثل هذا في القرآن كثير. وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله تعالى أمره وخبره. قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 5 ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل.

_ 1 سورة الملك: 8- 9. 2 سورة الزمر: 71. 3 سورة الأنعام: 48- 49. 4 سورة النساء: 163- 165. 5 سورة الحج: 75.

والسور التي أنزلها الله تعالى بمكة- مثل الأنعام والأعراف وذوات الر. وحم وطس. ونحو ذلك هي متضمنة لأصول الدين، كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وقد قص الله تعالى قصص الكفار الذين كذبوا الرسل، وكيف أهلكهم ونصر رسله والذين اَمنوا، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 1 وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} .2 فهذه الوسائط تطاع وتتبع ويقتدى بها كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ} 3 وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4 وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 6 وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 7. قال: وان أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار -مثل أن يكن واسطة في رزق العبد ونصرهم وهداهم، يسألونه ذالك ويرجعون إليه فيه-؛فهذا من أعظم الشرك الذي كفر اللَّه به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار" إلى آخر ما نقلنا سابقاً من كلام شيخ الإسلام عليه الرحمة8.

_ 1 سورة الصافات: 171- 173. 2 سورة غافر: 51. 3 سورة النساء: 64. 4 سورة النساء: 8. 5 سورة آل عمران: 31. 6 سورة الأعراف: 157. 7 سورة الأحزاب:21. 8 انظر "مجموعة الفتاوى" (1/ 92- 94) .

وبه علم أن النبهاني مخطىء فيما فهم من كلام ابن القيم، ومعناه الصحيح ما ذكره شيخ الإسلام وجمهور أهل الإيمان، وإن كان بعيدا عن فهم النبهاني وسائر الغلاة. قال النبهاني: "ومثل تناقضه هذا تناقضه الواقع في عبارته السابقة الشنيعة المعبرة عن القبر المزار بالوثن وأوصاف الزائرين التي ذكرها هي أوصاف زواره صلى الله عليه وسلم، وقد اتبع الحق بقصيدته النونية، فذكر فيها أن الله تعالى قد استجاب دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم وهو قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" فاسجاب الله دعاءه، وهذه أبيات ابن القيم: ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيدا حذار الشرك بالديان ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثنا من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان وجميع الأوصاف الجميلة التي ذكرها في عبارته السابقة للأنبياء عليهم السلام لا شك أنها تؤهلهم لرتبة الاستغاثة بهم إلى الله لقضاء حوائج المستغيثين" إلى آخر كلامه. أقول: جوابه: أن ما ذكره هذا المعترض من النقل والتصرف فيه مما هو من شأن القبوريين والغلاة كافة، ويزيد عليهم هذا بما في كلامه وتصرفه في كلام غيره من الخطأ والتلبيس، والقصور في الفهم، والتقصير في النظر، كفهمه من كلام العلماء ما لم يريدوه، ومخالفته لهم فيما قصدوه، وإلزامه لهم ما لم يعتقدوه، وحكمه عليهم بالظن الكاذب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" 1. بل دأب هذا الضال- كأسلافه- التمسك بالأمور المتشابهة الخفية، والإعراض عن الأشياء المحكمة الواضحة، كما أن عادته الاعتماد على حديث ضعيف أو مكذوب، أو خبر متشابه لا يدل على المطلوب، وليس هذا طريق

_ 1 أخرجه البخاري (6066) ومسلم (1985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

العلماء القاصدين لإيضاح الدين، وإرشاد المسلمين، نعوذ بالله من اتباع الهوى. زعم هنا النبهاني أن الشيخ ابن القيم تناقض كلامه في كتابين حيث ذكر في إغاثته أن الاستغاثة بغير الله شرك ودعاء غير الله ضلال، وبرهن على ذلك بما هو معلوم لأهل العلم والنظر، ففهم منه أن من استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره فقد عبده من دون الله، فلزم أن يكون قبره وثناً. وفي "النونية" وهي منظومته المسماة "بالكافية الشافية" يقول ما معناه: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، وأن الله تعالى استجاب دعاءه، ولم يجعل قبره وثناً يعبد. ففهم من كلامه أن الله استجاب دعاءه؛ وأن ما يفعله الزائرون من الاستغاثة والتوسل وسائر الأعمال ليس كما يزعمه المانعون من أنها شرك، هذا حاصل ما توهمه النبهاني في كلام ابن القيم من التناقض والمخالفة. وهذا هو اللائق بفهم النبهاني ومن ختم الله على قلبه وجعل على سمعهم وأبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم، وقد مر الجواب عما فهمه هذا الغبي فيما نقلناه من كلام شيخ الإسلام المتعلق بزيارة القبور، ومنه قوله: إن لفظ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده، ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة وبدعة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلا إلى مسجده لا يدخل أحد بيته ولا يصل إلى قبره، بل دفنوه في بيته بخلاف غيره فإنهم دفنوه في الصحراء، كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً فدفن في بيته، لئلا يتخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً. فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح، عن عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ فإن صلاتكم يبلغني حيث كنتم". وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال: "الهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت

بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً؛ دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها فلم يكن في حياتها أحد يدخل لذلك إنما يدخلون إليها هي، ولما توفيت لم يبق بها أحد، ثم لما أدخلت في المسجد سدت وبني الجدار البراني عليها، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره سواء كانت سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده، ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره البتة، ولم يتكلموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم، فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلم يعبروا عن وجوده، وقد نهى عن اتخاذ بيته وقبره عيداً، وسأل الله تعالى أن لا يجعله وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك، وقد باشر التابعين بالمدينة وهم أعلم الناس بمثل ذلك، ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء، ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة الإخبار بلفظ تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فكيف يكره النطق بلفظه، لكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره، وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة، كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض الجهال ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه، إلى آخر ما قدمناه من الكلام النفيس.

وبما نقلناه يتبين أنه لا تناقض ولا مخالفة في كلام الشيخ ابن القيم، وأن ما هذى النبهاني به سقط من أصله، وكان من أوضح الدلائل على ضلاله وجهله. قال النبهاني. في فصله الثاني في الكلام على كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" للحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي، ألفه في الرد على كتاب "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" منتصراً لشيخه ابن تيمية في بدعته ومنعه الاستغاثة والسفر لزيارته صلى الله عليه وسلم، قال: "وكنت حين ابتدأت بمطالعته تعجبت من شدة جرأته على هذا الإمام، بل على سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، إذ رأيته قد بذل أقصى ما في وسعه ليثبت أن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم لا مزية له بعد موته، وأنه مثل أحاد الناس، وكل حديث أو أثر أو قول عالم ورد بعكس عقيدته يجتهد في تأويله، أو إثبات أنه موضوع، وكان السبكي أثبت بتلك الأحاديث والآثار مناقب أحد أعدائه، فهو يبذل جهده في تزييفها، ويتكلف في كثير منها بحيث يظهر لكل من طالع كتابه أنه شديد التكلف والتعصب والتعسف وأنه رجل متهور، مراده المحاماة عن بدعة شيخه بحق أو باطل، ومع ذلك لم يخطر لي أن أكتب شيئاً في هذا الشأن- مع ظهور إساءته في ذلك وإحسان السبكي كل الإحسان لأن التحكك بالبدعة يزيدها اشتهاراً وذكرها ولو للرد عليها يزيدها انتشاراً، وقلت كفى الحسن إحسانه والمسيء إساءته" إلى آخر ما قال. هذا نقد النبهاني على كتاب "الصارم المنكي" وهو لا يستحق الجواب عن كلامه هذا لفساد مبناه ومعناه، وعبارته ركيكة جداً ليست بعبارة تصدر عن طلبة العلم فضلاً عمّن يدّعي دعواه، وهذا الرجل كما بيّنا سابقاً جهله عند بيان سقطاته وغلطاته عار عن كل فضيلة، لا علم ولا أدب، ولا فضل ولا حسب، ولا حياء ولا إيمان، ولا تقوى ولا عرفان، ونحن نبين ذلك إن شاء الله كما بيّناه سابقاً بالبرهان. أما مصنف كتاب "الصارم المنكي" فهو الفقيه الحنبلي المقريء المحدث

الحافظ الناقد النحوي المتفنن الجبل الراسخ عليه الرحمة والرضوان، قال المؤرخون -ومنهم صاحب "الشذرات"1-: ولد في رجب سنة أربع أو خمس أو ست وسبعمائة، وتوفي سنة أربع وأربعين في جمادى الآخرة، وعمره أربعون سنة أو أقل، وسمع من خلق كثير، منهم الحجار، وعني بالحديث وفنونه، وبرع في ذلك وأفتى، ودرس ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية مدة، وأخذ عن الذهبي وغيره، وقد ذكره في "طبقات الحفاظ "2 قال: "وصنف التصانيف الكثيرة، بعضها كمل وبعضها لم يكمل لهجوم المنية عليه، وله توسع في العلوم والفقه والأصلين، وذهن سيال، وعدة محفوظات، وعدّ له ابن رجب في طبقاته ما يزيد على سبعين مصنفاً، ودفن بسفح جبل قاسيون". انتهى ملخصاً. ومن أعدل الشواهد على فضله، وكمال إطلاعه ومزيد انصافه؛ كتاب "الصارم المنكي في الرد على السبكي" فقد أجاد فيه وأفاد، وميز الحق من الإلحاد، ولو لم تكن له حسنة سوى هذا الكتاب لكفاه ثواباً يوم الحساب، وبه ظهر زيف السبكي وما بهرج به من الباطل، وتبين أنه كان من أجهل الناس بعلم الحديث، ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة. ومن طالع كتاب الصارم- وكان من أهل الفضل والإنصاف- علم أن ما قلناه هو غيض من فيض، وقطرة من بحر، فالله تعالى المسؤول أن يجزيه عن كتابه "الصارم المنكي" خير الجزاء، وينفع به المسلمين في كافة الأقطار والأنحار. ولا بدع من النبهاني الضليل، إذ صدر منه ما صدر في حق هذا الفاضل الجليل، وما أحسن ما قيل: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وفي هذا المعنى قول الآخر:

_ 1 "شذرات الذهب" لابن العماد (8/ 245- ط. دار ابن كثير) . 2 "تذكرة الحفاظ" (4/ 1508) .

لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرىء غير طائل وأني شقيّ باللئام ولا أرى ... شَقِيّاً لهم إلا كريم الشمائل وكل امرىء ألفى أباه مقصراً ... عدو لأهل المكرمات الأفاضل وقال آخر: إذا ما نالت السفهاء عرضي ... ولم يخشوا من العلاء لوماً كسوت من السكوت فمي لثاماً ... وقلت نذرت للرحمن صوماً ومما يحسن أن ينشد على لسان الفاضل صاحب الرد على السبكي من تطاول مثل هذا المخذول: لقد صبرت على المكروه أسمعه ... من معشر فيك لولا أنت ما نطقوا وفيك داريت قوماً لا خلاق لهم ... لولاك ما كنت أدري أنهم خلقوا أيها النبهاني قد سمعت ما سمعت من خطابي وبياني: ولقد أقول لمن تحرش بالهوى ... عرضت نفسك للبلا فاستهدف أما سمعت قول الإمام الشافعي رضي الله عنه حيث قال: إذا رمْتَ أن تحيا سليماً من الأذى ... وحظك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرىء ... فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أرتك يوما نقيصة ... لناس فقل يا عين للناس أعين وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ... وفارق ولكن بالتي هي أحسن كان الأليف بحالك أن لا تسلك هذه المسالك، فما أنت وهؤلاء القوم، وهم المشهورون بالفضل من عصرهم إلى اليوم. وللحروب رجال يعرفون بها ... وللدواوين حساب وكتاب أما سمعت قول القائل: أضحى يسد فم الأفعى بأصبعه ... يكفيه ماذا يلاقي منه أصبعه

لقد فات ما فات، وهيهات تدارك ذلك وهيهات. إذا ما أراد الله ذل قبيلة ... رماها بتشتيت الهوى والتخاذل وأول خبث الماء خبث ترابه ... وأول لؤم القوم لؤم الحلائل ثم إن النبهاني ذكر عبارة القسطلاني عن كتاب "شفاء السقام" للسبكي أن مصنفه شفى به صدور المؤمنين، ونقل عن ابن حجر ما قاله في كتابه "الجوهر المنظم" من التلويح بذم "الصارم المنكي". فنقول له: إن هذا ليس بمستغرب، فالكل عن مشرب واحد، ولقد تشابهت قلوبهم، وهذا بعض ما تكن صدورهم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، وقد حكى الله سبحانه عن إخوانهم ما هو من هذا القبيل، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} 1 ثم ذكر حاصل ما اشتمل عليه الكتاب وأن الأحاديث التي ضعفها كلها صحيحة، وإنما فعل ذلك ترويجاً لبدعة شيخه ابن تيمية. فنقول: قد سبق الجواب عن كل ذلك، وذكرنا معنى السنة والبدعة، ومن الأحق أن يسمى مبتدعاً؛ من يوحد الله ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، أم من أعرض عن الله وعبادته، والتجأ إلى أهل القبور، الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟!.. قال النبهاني: وما مثل من رد على الإمام السبكي لاسيما في مثل هذا المقام إلا: كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

_ 1 سورة البقرة: 26.

ومع ذلك فقد رأيت الصواب في مثله. الإهمال، وعدم التعرض له بحال من الأحوال. إلى أن قال: ثم رأيت له عبارة لا يجوز السكوت عليها لانتشار كتابه وطبعه قد رد بها على الإمام السبكي في عبارة بين فيها وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت من اللازم ذكر العبارتين، وبيان ما في عبارته من الخطأ والشين. ثم إنه أورد أولاً عبارة السبكي فقال: عبارة الإمام السبكي قال: والقران كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والمبالغة في ذلك، ومن تأمل القرآن وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه صلى الله عليه وسلم وما كان الصحابة يعاملونه به من ذلك امتلأ قلبه إيماناً. ثم أورد النبهاني العبارة الأخرى فقال: عبارة ابن عبد الهادي: "وقوله- يعني السبكي-: إن المبالغة في تعظيمه واجبة، أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً- حتى الحج إلى قبره، والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء- فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين". انتهت عبارته. ثم قال النبهاني معترضاً عليه: إنه قد كذب في بعض عبارته على أهل السنة وهو في بعضها من أقبح المكابرين، أما ما كذب به فقوله: حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به، فهذا من أشنع الكذب الظاهر، والاختلاق الفاحش، فإنه لم يقل أحد بجواز شيء من ذلك من أهل السنة والجماعة القائلين بأن السفر لزيارته صلى الله عليه وسلم من أجل القربات، وأعظم الطاعات، فكيف جاز له التعبير بتلك العبارات، ومعلوم بأن أجهل المسلمين يفرق بين. حج البيت الحرام وزيارة

خير الأنام، بأن الحج فرض والزيارة سنة. وكذلك لا يعتقد أحد مشروعية الطواف به كالطواف بالبيت الحرام. وكذلك السجود له لم يجوزه أحد، ثم أطال الكلام. وحاصل ما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله على غيوب كثيرة، وذكر بعض أكاذيب: منها أن شيخه أخبره بالغيب، إلى أن قال: وأما كونه صلى الله عليه وسلم يعطي ويمنع ويقضي حوائج السائلين إلخ.. فهو لا شك فيه، ولا يتردد بصحته ووقوعه إلا كل من تراكم على قلبه الجهل والظلام، قال: ومن يشك أنه صلى الله عليه وسلم يعطي بالله، ويمنع بالله، ويقضي حوائج السائلين بالله، ويفرج كربات المكروبين بالله، ويشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء بتشفيع الله له فيهم، ولم يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم أحد من المسلمين أنه يفعل من ذلك شيئاً بنفسه، ثم ذكر وقوع ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. ونقل في ذلك عدة حكايات من كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" لأبي عبد الله محمد بن النعمان المغربي التلمساني المالكي، وكتاب "بغية الأحلام" للشيخ نور الدين علي الحلبي صاحب السيرة، وأورد حديث "حياتي خير لكم". وحديث الشفاعة، إلى آخر كلامه. ونحن نجيب بتوفيق الله تعالى وإعانته فنقول: الجواب عما اعترض به من وجوه: أما أولاً: فإن السبكي جعل السفر لزيارة القبر وإعمال المطي لها والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم من باب تعظيمه وتوقيره. وابن قدامة رحمه الله تعالى رد عليه وقال ما حاصله: إنه ليس كل تعظيم مشروعاً، فالسجود فيه تعظيم مع أنه لغير الله تعالى كفر، والطواف بالقبر تعظيم وهو أيضاً منهي عنه واعتقاد أنه يعلم الغيب فيه تعظيم وهو من خواص الألوهية وهكذا جمع ما هو من خواص الإله سبحانه فيها تعظيم وتوقير ولا يجوز إثباتها لغير الله تعالى، لا لملك مقرب ولا لنبي ولا لرسول، وما ذكره السبكي من هذا القبيل، وليس مراده أن القائلين به يفعلون هذه الأمور المنكرة حتى يرد ما ذكره النبهاني أنه قد كذب على أهل السنة في بعض عبارته وهو في بعضها من أقبح المكابرين..إلخ.

وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم الحاصل؛ أن ما نهى الله عنه وزجر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز فعله وإن كان من الأفعال التعظيمية، وامتثال أمره صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه هو تعظيمه، وفيه توقيره، وهو الموجب لسعادة الدارين، والظفر بما يكون سبباً لقرة العين، وأما الأعمال المضادة لما جاء صلى الله عليه وسلم به- وإن قصد فاعلها التعظيم بها- فهي موجبة لغضب الرب والحرمان من محبة الرسول، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 وأما ثانياً: فإن الحافظ ابن قدامة لم ينسب ما ذكر من الأعمال المنكرة لأهل السنة، بل لو نسبها لنسبها إلى الغلاة الخارجين عن الدين، المارقين عن سبيل المؤمنين، فإن الدعاء مخ العبادة، فمن دعا غير الله والتجأ إليه، وتوكل عليه، واستعاذ به، واستعان به، فيما لا يقدر عليه إلا الله وغير ذلك؛ فقد عبده، ومن عبد غيره تعالى فليس هو من الدين في شيء، وأهل السنة في عرف النبهاني وأضرابه من الغلاة هم الذين على منواله وليس الأمر كما زعم، بل هم الذين يعملون بما ورد في الكتاب والسنة، وكانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يغيروا ولم يبدلوا، وقد ذكرنا ذلك غير مرة. وأما ثالثاً: فقول النبهاني: إما ما كذب به فقوله: لم حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به. فهذا من أشنع الكذب الظاهر؛ هو دعوى ليس عليها برهان بل يكذبها العيان. وليس يصح في الأعيان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل هذه المشاهد المشهودة اليوم قد اتخذها الغلاة أعياداً للصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، وقضاء الديون،

_ 1 سورة آل عمران: 29.

وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، ومن لم يصدق ذلك فليحضر مشهداً من مشاهد العراق، حتى. يرى الغلاة وقد نزلوا عن الأكوار والدواب -إذا رأوها من مكان بعيد- فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسراناً، فلغير الله- بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام، الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام، ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين. قال ابن القيم- بعد أن حكى ما ذكرناه- ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم، ولا استقصينا جميع بدعتهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال. وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله تعالى: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار مثل تعظيم القبور وإلزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى

بالحوائج، وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته الصديق أبو بكر أو محمد وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر" انتهى. والنبهاني ذكر في فصل ما لا ينبغي فعله للزائر ما نقله عن المرزوقي مما هو من قبيل هذه البدع بل أفظع، فكيف يقول: إن ابن عبد الهادي كذب في ذلك؟ وقد صان الله أهل الحديث وحفاظ السنة من الكذب والحمد لله. نعم إن المتصوفة والمتشيخين هم بيت الكذب ومعدنه. ونقل النبهاني عن ابن حجر أنه قال: ويكره أيضاً الانحناء للقبر الشريف، وأقبح منه تقبيل الأرض ذكره ابن جماعة. ولفظه: قال بعض العلماء: إن ذلك من البدع أي القبيحة، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض له صلى الله عليه وسلم لأنه لم يفعله السلف الصالح والخير كله في اتباعهم، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف واستشهد لذلك بالشعر، قال السيد السمهودي: ولقد شاهدت بعض جهال القضاة فعل ذلك بحضرة المنلا وزاد بوضع الجبهة كهيئة الساجد. قال ابن حجر: ووقع من بعض الصالحين نظير ذلك في بعض قبور الأولياء بحضرتي، لكن الظاهر أنه كان في حال أخرجه عن شعوره، ومن تحقق منه الوصول لذلك لا يعترض عليه إلخ. انتهى. فانظر أيها المنصف إلى معاندة النبهاني وأتباعه لهواه فإنه هو الذي نقل ذلك في كتابه عمن يعتقد في إمامته، ثم ينكر وقوع ذلك ويكذب حفاظ الحديث

الصادقين، قاتله الله ما أقسى قلبه وأبعده عن قبول الحق، نسأله تعالى أن يقلل في المسلمين أمثاله، ويطهر منهم الأرض. ويكفي المسلمين شرهم. وأما رابعاً: فما قاله النبهاني في مسألة علم الغيب فليس موافقاً للصواب جميع ما ذكره، وفي المسألة تفصيل وقال وقيل، والحق ما نذكره في هذا المقام مما دل عليه الكتاب والسنة وأفاده الأئمة الأعلام. اعلم أن الغيب قسمان: قسم استأثر الله تعالى به، فلا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي ولا رسول، ولا صفي ولا ولي، ولا منجم ولا كاهن، ولا عرّاف ولا غيرهم، وهو المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1 فكل من هذه الأمور لم يطّلع الله عليه أحداً من أنبيائه وأصفيائه، والكلام على هذه الآية مفصل في كتب التفاسير، ولا مجال لنا لذكره في هذا المقام. وأما القسم الثاني: فهو الذي يجوز أن يعرفه غير الله ويطّلع غليه وهو ما عدا الخمسة السابقة، وله أسباب كثيرة: منها الوحي، والكهانة، والطرق، والزجر، ونحو ذلك، وقد تكلم ابن خلدون في المقدمة على المدارك الغيبية وأتى بما تستلذه الأسماع والأفواه، ومن ذلك قوله: إن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها، ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الأتقياء بما فطروا عليه من ذلك، ولا يحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك، ولا من التصورات، ولا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركة، ولا بأمر من الأمور، ويعطي التقسيم العقلي أن ههنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل، وهو صنف من البشر مفطور على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عند ما يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه، فيتشبث لأعمال الحيلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة، كالأجسام الشفافة،

_ 1 سورة لقمان: 34.

وعظام الحيوان، وسجع الكلام، وما سنح من طير أو حيوان، ويديم ذلك الإحساس والتخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له، وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الإدراك هي الكهانة، ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها الجزئيات أكثر مر إدراكها الكليات، وتكون مشتغلة بها غافلة عن الكليات، ولذلك كثيراً ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة، وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة، وهي، لها كالمرآة تنظر فيها دائماً، ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس، ويقوى في الجملة على ذلك الانسلاخ الناقص، فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه، وربما صدق ووافق الحق، وربما كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم، فيعرض له الصدق والكذب جميعاً، ويكون غير موثوق به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه، وتمويهاً على شيطاني، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ولا استعانة بأجنبي كان صادقاً في جميع ما يأتي به، وكان الصديق من خواص النبوة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن الصياد- حين سأله كاشفاً عن حاله بقوله: كيف يأتيك هذا الأمر؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب- خلط عليك الأمر يريد، نفي النبوة عنه بالإشارة إلى أنها مما لا يعتبر فيه الكذب بحال. وإنما قيل: أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات، وتدل خفة المعين على قرب ذلك الانسلاخ والاتصال، والبعد فيه عن العجز في الجملة، ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين، بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخاً غير تام، واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لا تحجب عنه الحوادث المستقبلة وغيرها، فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم

إن سلم لا يدل على انقطاع الكهانة، ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته، لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة، ولا يصدهم عن الإيمان ويدعوهم إلى العناد إلا وسواس المطامع بحصول النبوة لهم، كما وقع لأمية بن أبي الصلت، فإنه كان يطمع أن يكون نبياً، وكذا وقع لابن الصياد ومسيلمة وغيرهما، وربما تنقطع تلك الأماني فيؤمنون أحسن إيمان، كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب، وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الإيمان. وذكر في بيان استعداد بعض الأشخاص أعم من أن يكونوا كهاناً أو غيرهم- للإخبار بالأمور الغيبية قبل ظهورها كلاماً طويلاً حاصله: أن النفس الإنسانية ذات روحانية، ولها بذاتها الإدراك من غير واسطة، لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها، لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الإدراك الجسماني، وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة، إما بالخاصة التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم، أو بالخاصة الموجودة في بعض الأشخاص، كالكهنة أهل السجع، وأهل الطرق بالحصى والنوى، والناظرين في الأجسام الشفافة، من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها، وقد يلحق بهم المجانين، أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية، أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية، فتلفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ الأعلى، لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود، وتلك الذوات إدراك محض وعقول بالفعل، وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله، فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علماً، وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة، ثم تراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. انتهى. ولا يخفى أن فيه ذهاباً إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى، وكثيراً ما يسمونه عالم المجردات، وقد يسمونه عالم العقول، وهي مذكورة في المشهور

عنهم في عشرة، ولا دليل لهم على هذا الحصر، ولذا قال بعض متأخريهم بأنها لا تكاد تحصى، وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لا يتسع هذا الموضع لذكره. وبالجملة؛ علم الغيب لله سبحانه فلا يقال لغيره عالم الغيب، ومن اطلع على شيء منه بواسطة وحي أو غيره يقال أطلعه الله، وما من أحد من المسلمين إلا ويعرف غيوباً كثيرة- كالأخبار التي وردت في أحوال البرزخ والحساب والجنة والنار- ولا يقال لأحد منهم عالم الغيب، وكثير من المتصوفة يدعون أن مشائخهم يعلمون الغيب، وهذا تعبير شنيع، وربما قالوا بالكشف، وكل ذلك مما لا أصل له، فإن صح منه شيء فلعله بمثل ما ذكره ابن خلدون أو بواسطة قرينة من القرائن، وإلا فالكشف مما لا أصل له. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 1 وما أخبر به من الغيوب فبوحي من الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2 وهكذا الأنبياء والرسل. هذا نوح لما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك لم يعلم السبب في صنعها، وموسى لم يدر قبل لقي فرعون ماذا يكون من أمره حتى قال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} 3 وإبراهيم أعلمه الله وأوحى إليه أن يذبح إسماعيل فبادر إلى ذلك، فلم يعلم هو ولا إسماعيل أن الله ينسخ هذا الحكم، ويعقوب بقي يبكي على ولده يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن ولم يعلم بحال يوسف، وداود لم يعلم بحقيقة من تسوروا المحراب، وقالوا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} 4 القصة، وما حكم به في مسألة الحرث، وتفهيم سليمان لها دونه، وما كان من ضيف لوط وقومه ولم يعلم بحقيقتهم حتى قال: {هؤلاء ضيفي فلا تخزون} ، وما كان من قصة يونس حين ذهب مغاضباً، فكان من أمره ما كان، ولو كان له إطلاع على

_ 1 سورة الأحقاف: 9. 2 سورة النجم: 3-4. 3 سورة الشعراء: 14. 4 سورة ص: 14.

العاقبة وكشف على الحقيقة لما ذهب حتى ألقي في البحر، وساهم وكان من المدحضين، ولو استوعبنا ذلك لطال الكلام، انظر إلى القرآن الكريم وما أخبر فيه سبحانه عن أنبيائه ورسله تجد الأمر واضحاً، قال تعالي: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 1 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} 2 {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} 3 إلى غير ذلك من الآيات الناصة على عدم علم الأنبياء لما لم يعلمهم الله به. {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} ثم قال: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} 4 يعني الهدهد، فقال سليمان المتوعد له بالذبح عقوبة له، والعقوبة لا تكون إلا على المعصية لبشري ادمي لم تكن عقوبته الذبح، فدل ذلك على أن المعصية إنما كانت له ولا تكون المعصية لله إلا ممن يعرف الله، أو ممن كان يمكنه أن يعرف الله تعالى فترك ما يجب عليه من المعرفة، وفي قوله لسليمان: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} 5 ثم قال بعد أن عرف فضل ما بين الملوك والسوقة، وما بين النساء والرجال، وعرف عظيم عرشها وكثرة ما أوتيت في ملكها، قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} 6 فعرف السجود للشمس وأنكر المعاصي، ثم قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} 7 ويتعجب من سجودهم لغير الله، ثم علم أن الله يعلم غيب السموات

_ 1 سورة التوبة:42. 2 سورة التحريم: 1. 3 سورة الأنفال: 67. 4 سورة النمل: 20- 22. 5 سورة النمل: 22- 23. 6 سورة النمل: 24. 7 سورة النمل: 25.

والأرض, ويعلم السر والعلانية ,ثم قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1 وهذا يدل على أنه أعلم من ناس كثير من المميزين المستدلين الناظرين، قال سليمان: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2 ثم قال: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 3 {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} 4 وذلك أنها: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 5. قال سليمان للهدهد: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِين * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 6. وأطال الجافظ الكلام -على هذه الآيات؛ إلى أن قال: ثم طعن في ملك سليمان ناس من الدهرية، وقال: زعمتم أن سليمان سأل ربه {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 7 وأن الله تعالى أعطاه ذلك، فملكه على الجن فضلاً عن الإنس، وعلمه منطق الطير، وسخر له الريح، فكانت الجن له خيولاً، والرياح له مسخرة، ثم زعمتم - وهو إما بالشام وإما بسواد العراق- أنه لا يعرف باليمن ملكة هذه صفتها، وملوكنا اليوم دون سليمان في القدرة لا يخفى عليهم صاحب

_ 1 سورة النمل: 26. 2 سورة النمل: 27. 3 سورة النمل: 28-31. 4 صورة النمل: 36. 5 سورة النمل: 34- 35. 6 سورة النمل: 37-40. 7 سورة ص: 35.

الخزر, ولا صاحب الروم , ولا صاحب الترك،ولا صاحب النوبة، وكيف يجهل سليمان موضع هذه الملكة مع قرب دارها، واتصال بلادها، وليس دونها بحار ولا أوعار، والطريق نهج الخف والحافر والقدم، فكيف والجن والإنس طوع يمينه؛ ولو كان حين أخبره الهدهد بمكانها أضرب عنها صفحاً لكان لقائل أن يقول: ما أتاه الهدهد إلا بأمر يعرفه، فهذا وما أشبهه دليل على فساد أخباركم؟ فأجاب الجاحظ بقوله: قلنا: إن الدنيا إذا خلاها الله وتدبير أهلها ومجاري أمورها وعاداتها كان لعمري كما تقولون، ونحن نزعم أن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان أنبه أهل زمانه لأنه نبي ابن نبي، وكان يوسف وزير ملك مصر ومن النباهة بالموضع الذي لا يدفع وله البرد وإليه يرجع جواب الأخبار، ثم لم يعرف يعقوب مكان يوسف ولا يوسف مكان يعقوب دهراً من الدهور مع النباهة والقدرة واتصال الدار، وكذلك القول في موسى بن عمران ومن كان معه في التيه، فقد كانوا أمة من الأمم يتسكعون أربعين عاماً في مقدار فراسخ يسيرة، ولا يهتدون إلى المخرج وما كانت بلاد التيه إلا من ملاعبهم ومنتزهاتهم، ولا يعدم مثل العسكر الأدلاء والجمالين والمكارين والفيوح والرسل والتجار، ولكن الله صرف أوهامهم ورفع ذلك القصد من صدورهم. وكذلك القول في الشياطين الذين يسترقون السمع في كل ليلة فنقول: إنهم لو كان كلما أراد مريد منهم أن يصعد ذكر أنه قد رجم أو رجم صاحبه، وأنه كذلك منذ كان لم يصل معه أحد إلى استراق السمع كان محالاً أن يروم ذلك أحد منهم مع الذكر والعيان إلى آخر ما قاله. والكلام في هذه المسائل طويل الذيل، وما ذكرناه كاف في المرام، وما نقله عن مشايخه من الكشف لا أصل له، نعم ورد "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" 1 وما عدا ذلك فوسواس الشياطين ولجاهلية العرب في هذا الباب أخبار

_ 1 أخرجه الترمذي (3127) وغيره، وهو حديث ضعيف؛ انظر تفصيل الكلام عليه في "السلسلة الضعيفة" (1821) .

ممتعة مبسوطة في غير هذا الموضع. وأما خامساً: فما ذكره في بيان كونه صلى الله عليه وسلم يعطي ويمنع ويقضي حوائج السائلين ... إلخ؛ فهو مردود، وذلك لأن الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية قد وردت بخلافه، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً *} 1 وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2. وقال طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله تعالى لهم أن الأنبياء والملائكة لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلاً، وأنهم يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3. فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار- مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات- فهو كافر بإجماع المسلمين. وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} 4 وقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ

_ 1 سورة الإسراء: 56- 57. 2 سورة سبأ: 22- 23. 3 سورة آل عمران: 79- 80. 4 سورة فاطر: 2.

ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 1. وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِه} 3. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه يعطي ويمنع، ويقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه الذي يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء. وكذلك الأحاديث الصحيحة الواردة في هذه المعنى، كحديث ابن عباس الذي فيه: " واعلم أن الأمة لو اجتمعت أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" 4. وكذلك النفع، وحديث البخاري الذي فيه: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً" وغير ذلك. فالآيات ولأحاديث وأقوال السلف تدل على أن الله تعالى هو المتفرد بملك الضر والنفع، والنبهاني يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي ويمنع، ويضر وينفع، وهكذا الأنبياء والرسل، وهكذا صالحوا أممهم، واستدل على ذلك بمنامات وخرافات، وبأقوال أمثاله من الغلاة، فبقي الخلاف بين الله وبين النبهاني، أن الله تعالى يقول لا يملك الضر والنفع غيره سواء كان ملكاً أو نبياً أو رسولاً أو صفِيًّا، والنبهاني قاتله الله يقول لا ليس الأمر كما قاله الله ورسوله، بل إن النبي أو الولي يُسْتَغَاثُ به ويُرْجَى ويُطْلَبُ منه كل ما يطلب من الله، وها نحن نحيل المحاكمة بين النبهاني وبين الله تعالى إلى ذوي الإنصاف والفهم، ولا شك أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم. وأما أقوال النبهاني، وآراء كل مبتدع شيطاني، فمردودة عليه، وملقاة بين

_ 1 سورة الزمر: 38. 2 سورة الأعراف 188. 3سورة يونس: 107. 4 تقدم تخريجه في الجزء الأول من الكتاب.

يديه، والكلام في الاستغاثة مر مفصلاً وسيأتي له تتمة إن شاء الله. قال النبهاني: ذكر في بعض النسخ أن "الصارم المنكي" هو بالميم والنون وهو غير صحيح، لأن أنكى الرباعي غير وارد ولا وجود له في كتب اللغة، والوارد هو نكا الثلاثي بالهمز والتسهيل، يقال: نكا العدو ونكاه نكاية أصاب منه. قال: إذا علمت ذلك تعلم أن اشتهار الكتاب بلفظ "المنكي" هو خطأ لأن المؤلف من أكابر العلماء الذين لا يخفى عليهم مثل هذه اللفظة، فلا يحمل الخطأ عليه بل على النساخ، واسم الكتاب الذي سماه به مؤلفه هو "المبكي" بالباء كما ذكره في "كشف الظنون". ولقائل أن يقول إنه لا مانع من أن يكون ابن عبد الهادي مع تبحره في علم الحديث ضعيفاً في علم العربية فجاز عليه الخطأ بهذا اللفظ، لاسيما والتعبير بالنكاية هو الذي يناسب رده على عدوه، أو أنه يكون ماهراً في علم العربية أيضاً ولكن الله تعالى قد طمس على بصيرته في تسمية هذا الكتاب كما طمس على بصيرته في مسماه ليحصل الخطأ في الاسم والمسمى جميعاً، والدليل على جواز هذا الاحتمال أن خطأه في المسمى وهو نفس الكتاب أفحش وأظهر من خطئه في الاسم، ولكني تبعت بتسميته بالمبكي "كشف الظنون" وهو الصواب، والله أعلم. هذا كله كلام النبهاني؛ وسبحان من أنطقه بكل باطل، وأظهر خاله للعالمين وأنه من كل خير عاطل، وكشف حقيقته لأولي الفضائل، وأبان إفلاسه من كل العلوم فلم يبق في جهله قول لقائل، صغار الطلبة يعلمون ما خفي على هذا الجاهل، والمبتدئون في العربية لم يخف عليهم ما خفي على النبهاني الغافل، ولا بد من الكلام على هذيانه والتنبيه على خطئه فنقول: الجواب عن اعتراضه من وجوه: الوجه الأول: أن العلم كما حققه علماء الوضع من قسم الموضوع بالوضع

الخاص لموضوع له، كذلك والمقصود من الوضع تعيين المسمى بحيث لا يشاركه غيره في هذا الوضع، فلا ترد الأعلام المشتركة لأن كلاً منها لا يشاركه آخر في الوضع له، فإذا كان الغرض تعيين المسمى وتمييزه عما عداه حصل بكل لفظ طابق الأصول أم لا، فإذا سمي شخص باسم ليس له في اللغة العربية نظير ولا معنى جاز، وعليه انقسام العلم إلى قسمين: منقول: ومرتجل، كما في الخلاصة: ومنه منقول كفضل وأسد ... وذو ارتجال كسعاد وادد فما هذى به النبهاني ساقط من أصله، ولا يحتاج بيان خطئه إلى جواب آخر، ولكنا نزيد المقام وضوحاً تتميماً للفائدة. الوجه الثاني: أن العلم. المنقول لا يبقى منه ألمغنى الأصلي بعد "وضعه علماً، ولذلك جعلوا عبد الله عَلََماً مفرداً، وهو ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، ولو بقي على معناه الأصلي لعد مركباً إضافياً، فإن جزء اللفظ يدل على جزء المعنى الإضافي، وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه بعد وضعه اسماً للكتاب خرج عن كونه مركباً تقييداً وصار من قسم المفردات، فلا يلاحظ في الجزء منه دلالة على المعنى حال العلمية، ولم يقصد المعنى الأصلي إلا لأجل الكناية كما ذكروه في أبي جهل وأبي لهب على ما فصل في كتب المعاني، وكذلك الألقاب المشعرة بمدح أو ذم، وهكذا الأسماء المنقولة عن صفات وأفعال لا يراد منها بعد العلمية معانيها الأصلية، نعم قد تدخل اللام على بعض الأعلام المنقولة عن المشتقات للمح الصفة كالفضل والحارث والنعمان ونحو ذلك، فبطل كلام المعترض. الوجه الثالث: وهو من أحسن الأجوبة؛ أني وجدت لذلك فائدة في كتاب "الضرائر وما يسوغ للناظم دون الناثر" وقلت: المسألة العاشرة ما يلحق بالضرائر الشعرية، ثم قلت: اعلم أن الأئمة ألحقوا بالضرائر الشعرية ما في معناها وهو الحاجة إلى تحسين النثر بالازدواج، فلا يقاس على ما ورد منه لذلك في السعة،

كما لا يقاس على الضرائر الشعرية في متسع الكلام. ونقلت ما يناسب المقام عن "درة الغواص" للحريري، فقلت: ويقولون قد حدث أمر، فيضمون الدال من حدث مقايسة على ضمها في قولهم: أخذه ما حدث وما قدم، فيحرفون بنية الكلمة المنقولة ويخطئون في المقايسة المعقولة، لأن أصل بنية هذه الكلمة حدث على وزن فَعَلَ بفتح العين، كما أنشدني بعض أدباء خراسان لأبي الفتح البستي رحمه الله: جزعت من أمر فظيع قد حدث ... أبو تميم هو شيخ لا حدث قد حبس الأصلع في بيت الحدث وإنما ضمت الدال من حدث حين قرن بقدم لأجل المجاورة والمحافظة على الموازنة، فإذا أفردت لفظة حدث زال السبب الذي أوجب ضم دالها في الازدواج، فوجب أن ترد إلى أصل حركتها وأولية صيغتها. ثم قال الحريري: وقد نطقت العرب بعدة ألفاظ غيرت مبانيها لأجل الازدواج وإعادتها إلى أصولها عند الانفراد، فقالوا: الغدايا والعشايا إذا قرنوا بينهما، فإن أفردوا الغدايا ردوها إلى أصلها فقالوا الغدوات، وقالوا: هنأني الشيء ومرأني، فإن أفردوا مرأني قالوا أمرأني، وقالوا: فعلت به ما ساءه وناءه، فإن أفردوا قالوا أناءه، وقالوا أيضاً: هو رجس نجس، فإن أفردوا لفظة نجس ردوها إلى أصلها وقالوا: أنجس، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} 1 وكذلك قالوا للشجاع الذي لا يزايل مكانه: أهيس أليس، والأصل في الأهيس الأهوس لاشتقاقه من هاس يهوس إذا دق، فعدلوا به إلي الياء ليوافق لفظة أليس. وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظ راعى فيها حكم الموازنة، وتعديل المقارنة فروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء المتبرزات في العيد: "ارجعن مأزورات غير مأجورات"2 وقال في عوذته للحسن والحسين عليهما السلام: "أعيذكما

_ 1 سورة التوبة: 28. 2 الحديث في "سنن ابن ماجه" (1578) من، حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس، فقال: "ما يُجلسكُنَّ "؟ قلن: ننتظر الجنازة. قال: "هل تَغْسِلْنَ"؟ قلن: لا. قال: "هل تحملن"؟ قلن: لا. قال: "هل تُدلين فيمن يدلي"؟ قلن: لا. قال: "فارجعن مأزورات غير مأجورات ". وضعفه العلامة الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" "رقم 308- ط. المعارف".

بكلمات الله التامة؛ من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة"1. والأصل فتي مأزورات موزورات لاشتقاقها من الوزر، كما أن الأصل في لامة ملمة لأنها فاعل من أَلَمَّتْ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام قصد أن يعادل بلفظ مأزورات لفظ مأجورات، وأن يوازن بلفظ لامة لفظتي تامة وهامة، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: "من حفنا أو رفنا فليقتصر" أي: من خدمنا أو أطعمنا، وكان الأصل: أتحفنا، فأتبع حفنا رفنا. ويروى في قضايا عليّ أنه قضى في القارصة والقامصة والواقصة بالدية أثلاثاً، وتفسيره: أن ثلاث جوار ركبت إحداهن الأخرى فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة ووقصت، فقضى للتي وقصت أي اندق عنقها بثلثي الدية على صاحبتيها، وأسقط الثلث باشتراك فعلها فيما أفضى إلى وقصها، والواقصة هنا بمعنى الموقوصة، وأنشد الفراء في هذا النوع: هناك أخبية ولاج أبوبة ... يخلط بالجد منه البر واللينا فجمع الباب على أبوبة ليزاوج لفظة أخبية". انتهى ما نقل عن الحريري. وفي الخلاصة: وفي اضطرار وتناسب صرف ... ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف وفي الكافية: ولاضطرار وتناسب صرف ... ما يستحق حكم غير المنصرف ورأى أهل الكوفة الأخفش في ... إجازة العكس اضطراراً يقتفي وبعضهم أجازه اختياراً ... وليس بدعاً فدع الإنكار

_ 1أخرجه البخاري (3371) .

ومثل الشراح للمصروف للتناسب "سلاسلاً وأغلالاً وسعيراً" "قواريراً قواريراً" على قراءة نافع والكسائي، " ولا يغوثا ويعوقا ونسرا" على قراءة الأعمش وابن مهران. وقسموا التناسب إلى قسمين تناسب لكلمات منصرفة انضم إليها غير منصرف تحو سلاسلاً وأغلالاً، وتناسب لرؤوس الآي كقوارير الأول فإنه رأس آية، فنوّن ليناسب بقية رؤوس الآي في التنوين أو بدله وهو الألف في الوقف، وأما قوارير الثاني فنوّن ليشاكل قوارير الأول، والفرق في ذلك بين الضرورة والتناسب أن الصرف واجب في الضرورة وجائز في التناسب، وقد علمت أن التناسب غير التشاكل للازدواج. هذا ما كتبته من مسائل كتاب الضرائر، وبه علم أن اسم "الصارم المنكي في الرد على السبكي" بعد الميم نون كما هو المتواتر عن المصنف وهو الصواب، غير أن النبهاني قد تعود على التحريف والتبديل، فأراد أن يخرف الأسماء كما حرف نصوص القرآن والسنة الغراء، وقد فضحه الله تعالى بالجهل في سائر الأقطار والأنحاء، والحمد لله الذي نصرنا على الأعداء. الوجه الرابع: أن التسمية بالصارم المبكي بباء بعد الميم تسمية لا معنى لها إذا لمحنا إلى الأصل المنقول عنه، فإن الصارم إنما يوصف في كلام العرب بالنكاية لا بأنه يبكي، فإن العصا أيضاً تبكي المضروب بها، بخلاف الصارم فإنه إذا ضرب به أحد هلك وفني وهي النهاية في النكاية، ولكن النبهاني مقصوده تسويد القراطيس، كما سود الله وجهه بإتباعه لوساوس إبليس. وبالجملة فكل ما اعترض به على كتاب "الصارم المنكي" فهو اعتراض مردود عليه وكل ما انتقده فهو مدفوع عنه، وكان ما اعترض به عليه من شواهد جهله وآيات حرمانه. تعيرنا ألبانها ولحومها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها فكتاب "الصارم المنكي" للإمام الذي لا يجاذب رداء فضله ولا تدور العين بين أصحابه على مثله، علامة المعقول والمنقول، وفهامة الفروع والأصول،

البحر الزاخر، وفخر الأوائل والأواخر، قدوة الفضلاء، وخاتمة الأجلاء، شيخ الإسلام، ومن اتفق على جلالته الخاص والعام، الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، طيب الله تعالى ثراه، وجعل في أعلى عليين مقره ومثواه، كتاب تشد إليه الرواحل، وتطوى دون لقياه المنازل، ليس في بابه ما يدانيه، ولا ما يماثله ويضاهيه، جمع فأوعى، وأوجز فأعجز، وما ترك لساع من مسعى، بلغ الغاية في حسن الجمعية وكمال الاختصار، وأدرك النهاية في قلة المؤنة ولياقة الحفظ والتكرار. كلم كان الشهد من ألفاظها ... جار وإن الطيب منها سائر قد أرى السبكي قدره، وأدى إلية الكيل صاعاً بصاع ولم يهمله بالمرة، حتى أرغم الله به أنوف المعتدين، وشفى به صدور قوم مؤمنين، وما كان من ذم بعض الغلاة والانتقاد عليه، فلما أصابهم منه من الويل والثبور، ولم يقدروا أن يقابلوه ولا يقفوا بين يديه، فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء، حيث ذب عن الدين المبين ما كاده به الخصوم والأعداء. قال النبهاني: الفصل الثالث في الكلام على "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" وبيان أن مؤلفه حكم لابن تيمية بالميل، وعلى ابن حجر بالمين، وقد جاوز به الحد في تعصبه الشديد ضد جماعة من أئمة الإسلام، وأفراد العلماء الأعلام، لاسيما ابن حجر الهيتمي، والتقي السبكي وابنه تاج الدين، مؤيداً ما شذ به ابن تيمية في مسائله التي خالف بها الأمة المحمدية، وكانت أصلاً لمذهب الوهابية، ومقته لأجلها جمهور أئمة الدين من أهل المذاهب الأربعة السنية. قال: وهذا الكتاب من أضر الكتب على من اطلع عليه من عوام المسلمين، والطلبة القاصرين، فيجب عليهم أن يعاملوه معاملة الكتب المخالفة لمذاهبهم، المكدرة لمشاربهم، بالإعراض التام عنه، وعدم مطالعة شيء منه، لئلا تضر شكوكه بيقينهم، ويوقع الخلل في أمور دينهم، أما العلماء فلا يخشى عليهم منه

ذلك الضرر، لتمييزهم بين خطأ ابن تيمية وطائفة الوهابية وصواب السبكي وابن حجر وجمهور الأمة المحمدية، وتفريقهم بين ما خلط فيه مؤلفه من الحق والباطل، والمحلى والعاطل، فلا ينخدعون بما جمعه فيه من زخارف الكلام، وبهارج الأوهام، التي زعم بها أن زلاّت ابن تيمية هي ما كان عليه السلف الصالح من أئمة الإسلام، ومع ذلك فالأولى بل الصواب للعلماء أيضاً الإعراض عنه، وعدم مطالعة شيء منه إلا للرد عليه، وبيان ما حواه من الخطأ الفاحش والتعصب الشديد ضد العلماء العاملين، هداة الأمة، ومصابيح الملة، كالأئمة الثلاثة: ابن حجر، والسبكي، وابنه تاج الدين وترجيحه لكثير مما يخالف عقائد بجمهور المسلمين، كمسألة الاستغاثة والزيارة، والقول بالجهة، وغير ذلك مما خلط فيه، ولا يقدر على تمييزه إلا العلماء الأعلام، ويخشى من مطالعته وقوع الخلل في عقائد الطلبة القاصرين والعوام. قال: وأنا والله في حيرة من أمره، إن قلت إن ذلك اعتقاده يعارضني أني أعرفه أنه حنفي المذهب، من عائلة علم وسيادة في بغداد، كلهم من أهل السنة والجماعة، وأن ما اعتمده في هذا الكتاب- مما أيد به زلاّت ابن تيمية- هو مذهب الوهابية لا مذهب الحنفية، ولا مذهب آبائه وأجداده السادات الشافعية، وإن قلت إن ذلك ليس اعتقاده الحقيقي وإنما تظاهر به خدمة لصديق حسن خان الوهابي- الشهير، ملك بهوبال في الهند صاحب التآليف المشهورة- فهذا لا يليق بمثله، وإن كان هو الظاهر من محرراته ومراسلاته، ألا ترى أن كتابه المسمى "بغالية المواعظ" لما ألفه بعد "جلاء العينين" تجده قد زيّنه بالنقل عن كتب العلاّمة ابن حجر "كالزواجر، والصواعق" ونحوهما، ولم ينقل إلا نادراً عن ابن تيمية، والله أعلم بحاله في هذا الكتاب من القصد والنية، ولست أعترض عليه بإجابته عنه أن بعض الأقوال التي نقلها ابن حجر واعترض عليها لم تصح نسبتها إليه، واستشهد على ذلك بعبارات صحيحة أو غير صحيحة، فهذا لا مانع منه وهو حسن، ولكنه لم يقتصر على ذلك بل شنّع على ابن حجر بألفاظ لا يحسن استعمالها في حق بعض طلبة العلم فضلاً عن إمام كبير من أئمة الدين وكذلك عامل بسوء هذا

الصنيع- من قبيح التشنيع والتقريع- الإمام تقي الدين السبكي، حتى أنه لم يعبّر عنه بلفظ الإمام ولا بلفظ شيخ الإسلام، بل إما أن يقول قال السبكي، أو القاضي السبكي، وهو في الحقيقة المستحق للقب شيخ الإسلام، لأنه كان قاضي قضاة الشام- مع كونه من أئمة العلماء الأعلام- ولقب شيخ الإسلام إنما كانوا يلقبون به قاضي القضاة1، فابن تيمية بحسب هذا الاصطلاح لا يستحق لقب شيخ الإسلام وإن كان من أكابر شيوخ المسلمين وأئمة العلماء الأعلام، وهو رجل مطعون في عقيدته باعتقاد الجهة فضلاً عن بدعته المتعلقة بالزيارة والاستغاثة، والسبكي هو بالاتفاق من أئمة أهل السنة والجماعة ومن أفضل أئمة الإسلام، وابنه تاج الدين هو الإمام ابن الإمام باتفاق العلماء الأعلام، فما الذي حمل مصنف "جلاء العينين" على معاملتهما أسوأ المعاملة والميل كل الميل مع ابن تيمية، وذلك دليل على أنه من أهل البدعة لا من أهل السنة، والأرواح جنود مجندة، فروحه هي من أجناد روح ابن تيمية، فلا تأتلف مع أرواح هؤلاء الأئمة الأعلام، ولذلك كان منه في حقهم ما كان مع كونهم في جانب تعظيم جده الأعظم صلى الله عليه وسلم وإمامه ابن تيمية بعكس ذلك، ولكن الشرف والحسب لا يغني عن العلم والأدب. إلى أن قال: ومصنف "جلاء العينين" لم يحكم لابن تيمية فقط بل حكم لجميع الوهابية، وليس، حكمه على ابن حجر فقط والسبكي وابنه بل على جميع أهل السنة والجماعة من الشافعية، والحنفية، والمالكية، وجمهور الحنابلة أيضاً، ومن طالع كتابه هذا بإنصاف يعلم يقيناً أنه أخطأ فيه أفحش الخطأ في حق نفسه وأبيه والمسلمين عموماً وسيد المرسلين خصوصاً، وأنه لوث نفسه بأقذار البدع الوهابية التي لا يغسلها عنه بحار الدنيا إلى يوم القيامة، وكما آذى نفسه بذلك أشد الأذى آذى كل من اطّلع على كتابه من المسلمين من أهل المذاهب الأربعة- حتى المنصفين من الحنابلة- بذمهم إياه وخوضهم في عرضه ما بقيت الدنيا وبقي فيها هذا الكتاب.

_ 1 انظر عن هذا اللقب "معجم المناهي اللفظية" (ص 433) .

ثم إنه هذى بما هذى, ثم قال: ويا ليت شعري كيف اختار لنفسه ولأبيه- بمقتضى ما نقل عن تفسيره "روح المعاني "- منابذة جمهور الأمة المحمدية، وما اتفق عليه أئمتها وعلماؤها- في جميع هذه الأعصار المتطاولة، من أمر الزيارة والاستغاثة، حتى صار من الأمور المعلومة بالضرورة، مع كونه هو الذي يليق بما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم من التعظيم والتوقير، ولا عبرة بما قاله ابن تيمية وطائفته الوهابية، ومن شاكلهم من شذاذ المذاهب من منع ذلك، لما توهموه وتخيلوه من المحاذير التي لا تخطر عند الزيارة والاستغاثة ببال أجهل الجاهلين فضلاً عما فوقه من اعتقاد الألوهية فيمن يزورونه أو يستغيثون به، مع أن بدعة هؤلاء فيها من سوء الأدب في جانبه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى على من في قلبه أدنى نور، هذا لعمري مما لا يختاره عاقل لأخيه فضلاً عن نفسه وأبيه، وقد لعمري آذى أباه وعقه بتلك النقول التي كان الناس عنها في غفلة، لأنها مفرقة في تفسيره فجمعها في هذه المسائل في كتابه هذا مفتخراً بها، ومثبتاً عند السيد صديق حسن خان وطائفته أن أباه كان أيضاً على مذهبهم ومشربهم في ذلك. وقد سمعت بسبب هذا من بعض علماء مكة المشرفة كلاماً فظيعاً في حقه وحق أبيه، ولما كان قد أظهر تحامله في كتابه هذا على أهل السنة ومذهبهم- ولاسيما الإمام السبكي وابنه وابن حجر- وبالغ في التعصب بمدح ابن تيمية ومذهبه وكل من كان على شاكلته؛ رأيت أن أذكر هنا الفرق بين ابن تيمية وابن حجر، ليظهر لكل أحد أنه حكم لابن تيمية بالباطل. انتهى كلام النبهاني فيما قاله في شأن "جلاء العينين" وقد نقلته كله- وإن كان في نقله تضييع للقرطاس والمداد- لأن القصد مناقشته في جميع كلماته، وبيان ما اشتمل عليه من عواره وغلطاته. اعلم أن جميع ما ذكره النبهاني في هذا الفصل قد تكرر غير مرة، غير أنه لما كان خالياً عن الفهم فارغاً عن العلم والفضل؛ أراد أن يتطفل على المؤلفين بتأليف كتاب، وكان مبلغ علمه ومنتهى كمالاته المباحث المتعلقة بزيارة القبور، والشعر

المشتمل على الغلو والالتجاء إلى غير الله مما يحفظه العوام الذين هم كالأنعام، ولا يدرون ما فيه مما يصادم دين الإسلام، وينشده المنشدون في المجامع، وقراءة مولد خير الأنام، وكان عنوان ما يعتقده ويدين الله به أن الاستغاثة بغير الله هي ركن الدين، ومدار توحيد المسلمين، وشتم ابن تيمية وتبديعه وتضليله، وتضليل من قال بقوله ومن انتصر له، ومن تعرض للرد على أقوال السبكي وابن حجر وسائر الغلاة. وقد حشا كتابه من أوله إلى آخره بمثل هذا الهذيان، والزور والبهتان، وأبدى وأعاد في ذلك ليعظم حجم كتابه، وتطول متدرجات فصوله وأبوابه، ليتبجح به على أمثاله من العوام، ويفتخر على الجهلة الطغام، وقد تبين لي حاله من كتابه هذا وأنه رجل ممار عنود معجب بنفسه، منطو على حب البدع، مصر على تقليد الآراء الفاسدة، والأقوال الكاسدة، وأنه لا يفيد فيه كل كلام، ولا تؤثر فيه سهام الملام، وأرقام الأقلام، وأن جهله جهل مركب مع رعونة ونقصان عقل ودين، وقلة إيمان وعدم حياء، فهو لا ينتهي عن غيه، ولا يرتدع عن بغيه، ولا ينتهي عن جهله، ولسان حاله يقول: لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا ومن اليقين عندي أن الكلام معه سدى، والرد عليه يغريه على سلوك جادة الردى، والميل إلى الصد عن الهدى، ورأيته- مع ما هو عليه من العجب ومزيد الجهل والغباوة- مملوء الإهاب من الحسد من مفرقه إلى قدمه، وهكذا كان شأن اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كفروا به حسداً من عند أنفسهم، والضالون قد تشابهت قلوبهم، ولولا حسده وتجهله لم يتطاول على "جلاء العينين" ومصنفه ذلك التطاول الشنيع، ويهذي بما هذى به من الكلام الفظيع، وإلا فما الباعث لكلامه هذا على مصنف "جلاء العينين" ووالده، وعلى الشيخ ابن تيمية وأصحابه، ومن اليقين أنه لم يتهور هذا التهور على من طوى بساط الإسلام، وهد ركن الدين، وهدم بنيان قواعد المسلمين، بل أبدى له العذر وحمل ذلك على المقاصد الحسنة الخيرية

وكل أحد يعلم أن المسائل العلمية لم تزل معترك أنظار العلماء، ومثار فرسان الفضلاء، ولو كان هذا الزائغ من أهل الفطنة والعرفان، ومن فرسان رجال ذلك الميدان: لأورد المسائل التي في "جلاء العينين" واحدة بعد أخرى، وأورد عليها ما يراه وارداً بحسب نظره الفاسد، وفهمه الكاسد، وسلك مسلك والمتناظرين لأجل إظهار الصواب، كما هو شأن الخلافيين الذين انتصروا لمذاهبهم، كما وقع من ذلك بين أصحاب المذاهب الأربعة وأتباعهم أولي الباب. ثم إن ما ذكره في مقالته هذه في شأن جلاء العينين ومصنفه وما أورده فيها قد سبق الكلام عليه مراراً، وأبطلنا أقواله الكاسدة بحمد الله جهاراً، وتكرر معه الكلام في غير هذا المقام، ولكن الأمر كما قال القائل وهو المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام وها أنا مع ذلك أذكر ما يرد عليها من المؤاخذات، وبيان ما فيها من الخطأ والغلطات، ليظهر جهله وفساد أقواله للناظرين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين. فأقول من أقواله- التي هي مواقع للنظر وهدف لرمي سهام الفكر ومحل للإيراد وموقع للفساد- قوله: إن مؤلف جلاء العينين حكم لابن تيمية بالميل، وعلى ابن حجر بالمين إلخ. جوابه: أن الأمر ليس كما قال، بل إن مصنف "جلاء العينين" أورد فيه أولاً تراجم الشيخ وبعض أسلافه الكرام، ثم ذكر بعض من ابتلي وأوذي من العلماء، ثم ذكر ما قاله ابن حجر في "الفتاوى الحديثية" مما زوره على الشيخ وافتراه، ثم ذكر تراجم بعض المنكرين عليه من خصومه وحسدته، ثم أفرد مقصداً في تراجم بعض المثنين عليه من تلامذته وغيرهم، ثم ذكر تراجم من قال ابن حجر عن الشيخ أنه تتبعهم من المتصوفة، ثم أورد فصلاً في الكلام على ما نقله الشيخ ابن حجر من عبارة شيخ الإسلام وأورد عدة تراجم لأصحاب الأقوال، ثم ذكر

اختيارات الشيخ وما لها وما عليها، وفصل الكلام في تحقيق الكلام النفسي وما ذهب إليه الحنابلة والأشاعرة وأطنب في مباحث الصفات وما ذهب إليه السلف، ثم ذكر ما اختاره من التوسط بين القولين، ثم ذكر الاستغاثة والتوسل، وعقد فصلاً لأدلة المجوزين، وفصلاً آخر في المانعين، ثم ذكر الأجوبة عما نقله ابن رجب من اختيارات الشيخ، وبها ختم الكتاب وإليه المرجع والمآب. هذا ما كان في "جلاء العينين"، وأحال الحكم وترجيح الحق من الباطل إلى القارئين من أهل الفضل والإنصاف، لا من أهل الجور والاعتساف، على أنه لو كان الأمر كما زعم وأنه حكم بما حكم فماذا عليه بعد أن راعى في حكمه ما أدى إليه الدليل، أليس الله تعالى قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 1 وفي الحديث الصحيح "من علمه الله علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نار" 2. وقد سبق ما أوردنا من كلام الإمام الشافعي في تفسيره سورة العصر، وأن من جملة مراتب الكمال الأربع التي اشتملت عليها السورة التواصي بالحق، بأن يعلّم بعض الناس بعضاً حقائق الأمور وما هي عليه في نفس الأمر، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما استوجب خيرية الأمة المحمدية على كل أمة أخرجت للناس، وابن حجر ومن كان على منهاجه كلهم ظلموا الشيخ ابن تيمية، ولم يقصدوا في تهورهم عليه وجه الله، بل لم يكن منهم ما كان إلا تشفياً به، وقضاء لحق أهواءهم، وإلا فمن المعلوم ما كان من الروافض والنواصب والخوارج والمعتزلة والزيدية وغيرهم من الفرق الإسلامية، وممن كان قبل الإسلام، ومع ذلك فلم يلتزم ابن حجر ما التزمه في ابن تيمية، وهكذا السبكي قبله، وهكذا الغلاة في كل عصر. ما ذكره ابن حجر المكي في فتاواه عن الشيخ؛ منه ما هو كذب وزور وبهتان

_ 1 سورة آل عمران: 187. 2 ضعيف بهذا اللفظ. واللفظ الصحيح: "من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة". أخرجه أحمد (2/ 363، 305، 495) وأبو داود (3658) والترمذي (2649) وابن ماجه (261) وغيرهم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

منه عليه، كنسبة القول بالجسمية والجهة، وعدم تحريف التوراة والإنجيل ونحو ذلك، وكتب الشيخ المثبوتة في العلم كلها تصرح بضد ذلك، وجميع كتبه مصرحة بنفي الجهة والجسمية، وشطر من كتابه "الجواب الصحيح" في إثبات تحريف الكتابيين لكتبهم، فأي ذي دين وإنصاف لم يكذّب ابن حجر في قوله ويحكم عليه بأنه من الكاذبين، وأن الشيخ كان من المحققين؟!. والمسائل الأخرى التي ادّعى ابن حجر على الشيخ أنه خرق بها الإجماع كلها مما قال به السلف، وقام عليها الدليل الصحيح، وألّف في اختياراته كتب مفصلة، فأي زور أكبر من هذا؟ وأي بهتان فوق هذا البهتان؟ أيليق بمن يدّعي العلم أن يسلك هذا المسلك الذي لو سلكه عامي من العوام لعيب به؟ فكيف يسوغ للمنصف أن لا يحكم للشيخ بالميل وعلى ابن حجر بالمين؟ وهل بقي في مين ابن حجر شك لذي نظر؟ ومنها أنه قال: وقد جاوز به الحد في تعصبه الشديد ضد جماعة من أئمة الإسلام، وأفراد العلماء الأعلام، لاسيما ابن حجر الهيتمي، والتقي السبكي وابنه، مؤيداً ما شذ به ابن تيمية في مسألته المعلومة..إلخ. فيقال له: هذا هو الكلام السابق بعينه، والرد على ذاك رد على هذا، ومن يتبع الدليل ويجري على مقتضى البرهان لا يقال فيه أنه قد تجاوز الحد، بل إن من ينحرف عن الشريعة هو الذي تجاوز الحد، والحق أحق بالقبول، والإذعان له عين الإنصاف، والميل عن الجور والاعتساف، والمخالف في ذلك مكابر، بل ليس من ذوي الألباب والبصائر، وكل منصف ذي فهم يعلم أن ما قاله ابن حجر والسبكي وأضرابهما هو محض إتباع هوى ومكابرة وعناء، وإذا كان ما اختاره الشيخ أيده الدليل والبرهان وأن أقواله هي قول الله ورسوله وسلف الأمة وأكابر الأئمة كما أسلفنا جميع ذلك فكيف يقال إن تلك الأقوال مما شذ به ابن تيمية؟ وهل هذا الكلام إلا من الغباوة والمكابرة، وإنكار للضرورة وتقليد للآراء؟ ثم إن علماء المذاهب الأربعة ممن يعتد بعلمه لم يمقتوا الشيخ، وكتب

المنصفين منهم طافحة بالثناء عليه، إلا ما كان من بعض خصومه وحسدته، كالسبكي وأضرابه، ومن قلدهم في غيهم وضلالتهم من الغلاة، كما سنذكر تفصيل ذلك في الكلام على مناقبه إن شاء الله. ومنها أنه قال: وهذا الكتاب من أضر الكتب على. من ما اطلع عليه من عوام المسلمين والطلبة القاصرين، فيجب أن يعاملوه معاملة الكتب المخالفة لمذاهبهم المكدرة لمشاربهم.. إلخ. فيقال له: هذا كلام فاسد، قد بعثه علية حسده وحبه لهواه وضلاله وغيه, فإن كتاب "جلاء العينين" جلاء عيون الموحدين، وبهجة قلوب المؤمنين، كم من منشد وجد به ضالته، وكم من حيران أنس به هدايته، وكم من مسلم قد انتفع به، وكم من منصف عرف الحق بسببه، فهو الكتاب الذي راق لفظه ومعناه، وفاق ما سواه بمفهومه وفحواه، إذا أمعن ناقد النظر فيه شاهد منه حديقة يانعة تفوح فوائح ثراها كالمسك الأذفر، كأنها جونة عطار، وتخيله روضة رائقة تتأرج بروائح الند والعنبر، كأنها لطائم تجار، فاجتنى من بدائع معانيه زهر المروج وأنوار الربيع، واجتلى من روائع مبانيه زهر البروج وأزهار المرابيع، رائق ألفاظه أرق بل وأروق من مروقات السلاف، ورواشق تعبيراته تروح الأرواح وتهز الأعطاف، كالشهد ريقه، والنسيم رقه، واللطف على الحقيقة. رق لفظاً فقيل خمر حرام ... راق معنى فقيل سحر حلال فجزى الله مؤلفه أحسن الجزاء، مما أعده لأهل طاعته المتّبعين لشريعته من الأصفياء، حيث لم يأل جهداً في تأليف هذا الكتاب، المشتمل على فصل الخطاب لدى ذوي الألباب، ولم يقصر نصحاً في ترصيف أبواب تبهر المتقدم والمتأخر من ذوي الكمالات والآداب، وأودعه نكتاً لطيفة تفوق بسناها على بدر التمام، ورصعه بفرائد تزهو في الاتساف وتروق في الانتظام. في بطن قرطاس رخيص ضمنت ... أحشاؤه درر الكلام الغالي فلله در مؤلفه من عالم أبدع، وفاضل أعلن بالحق وصدع، وهذب فذهب،

وبوب فرتب، أخذه ذهباً فغدا يتوقد لهباً، وتناوله قبساً فتجلى في طر البلاغة شهباً، وزاد في حسن سبكه فهزت أعطاف ناظريه طرباً، إلى آخر ما وصفه به بعض الأفاضل حين قرظه أكابر الأماثل. وقد أثنى محلى كتاب "جلاء العينين" وقرظه جماعة من أعيان المذاهب الأربعة المعاصرين للمصنف رحمهم الله تعالى، ولا بأس أن نذكر من كلام بعضهم نبذاً يتحلى بها وبنفائس دررها جيد هذا الكتاب، فأقول ومن الله أستمد التوفيق والإعانة: ممن أثنى على كتاب "جلاء العينين" علامة المنقول والمعقول، وفهامة الفروع والأصول، خاتمة الأدباء، وتذكرة فحول الشعراء، فريد عصره، ووحيد دهره، الذي طار صيت مجده في الآفاق، وأشرقت شمس فضله في الحجاز والعراق، أحمد باشا الفاروقي الموصلي، طيب الله تعالى ثراه بعطر رضوانه الجلي، وقد قرظ "جلاء العينين" بتقريظ هو لدى الأدباء قرة عين، وهو تقريظ نفيس، يفعل بالألباب ولا فعل الخندريس، وذلك قوله- لا زال في بحبوحة الجنان مسكنه ومحله: بجلاء العينين كحلت عيني ... وأجلت الأفكار في الأحمدين فرأيت الصواب ما قد حكاه ... نص هذا الكتاب من غير مين قد حوى في أصدافه خير در ... فتراءت أوراقه من لجين وكذاك الأشياء يظهر فيها ... رونق الحسن جامع الضدين أوضح الحق لدى كل راء ... وجلا عن عيونه كل غين وخصوصاً قد باعد البحث منه ... بين من يدّعي الضلال وبيني فلنا بالنعمان خير اتباع ... ثابت الأصل محكم الطرفين كم جلا الشك عن جليلين كانا ... في سماء العلوم كالنيرين خدمة ساقها لأجل رضى اللـ ... ـه ونفى الظنون عن هذين نسج الفكر منه حسن ثياب ... لبستها مناكب الشيخين حاكها بالأفكار علماً فليست ... وشى صنعاً يحوكها باليدين

بنقود النصوص وفى حقوقاً ... وسواه قضى الديون بدين ذكرتني وما نسيت قضايا ... سبقت مثل قصة الحكمين عرفت جده الأحابيش لما ... كشف الحرب عن قناع حنين عن أبيه تورث العلم حتى ... صار بالفضل مجمع البحرين فهو للدين ساعد وعماد ... ولصدر الإسلام قرة عين كم له من فضائل كشموس ... أشرقت في مطالع المشرقين وبدور من التآليف غر ... طلعت من منازل القمرين أشعري المقام علماً وحكماً ... سلفي الطراز في الاثنين علوي نجاره من قريش ... هاشمي الآباء والجدين كالأنانيب بعضها فوق بعض ... من علي وجعفر وحسين نسب في الحطيم قد ضاع مسكاً ... فاح منه الشذى لدى المشعرين فهم قدوة الورى وملاذ النـ ... ـاس طرا في حالة النشأتين

ترجمة هذا الفاضل

"ترجمة هذا الفاضل"1 هو من قوم كرام، وأماجد أعلام، ينتهي نسبه إلى سيدنا عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، ونسبه معلوم مشهور، وفي كتب الأنساب مذكور، وهؤلاء القوم كما قال قائلهم فيهم: بنو فاروق تيجان المفارق ... وأعيان المغارب والمشارق فكم من برجهم طلعت بدور ... وكم من أفقهم قد ذر شارق وكم من عيلم في العلم منهم ... يطم إذا طمى شم الشواهق مآثرهم نجوم سما معال ... لها عقدوا ميازرهم مناطق فلو مدوا إلى العيون باعا ... لجاوزه وليس هناك عائق محابرهم بحور زاخرات ... سل الأقلام عنها والمهارق

_ 1 انظر "الأعلام" (1/ 169) و"معجم المؤلفين" (1/ 194) .

فما هم والمعالي منذ كانوا ... وكانت غير معشوق وعاشق وهم فحوى حقيقة كل شيء ... وهم عنوان ديوان الحقائق وهم خلعوا على أم المعالي ... وهم في المهد من مجد قراطق وهم سنوا المعالي بالعوالي ... وبيض الهند والخيل السوابق وهم من تعرف البطحا أباهم ... وتعرف جدهم للحق فارق وهم من مهدوا للدين طرقاً ... يداس بها على قمم الطرائق وهم أسد لهم يعلو زئير ... إذا هدرت بيوم وعي شقاشق وإن خفقت لهم رايات بطش ... فؤاد الخافقين تراه خافق تحدثهم فراستهم بما قد ... طواه بين جنبيه المنافق هل، ومن قائل يوماً سواهم ... ليوم تفاخر في المجد لائق يسوقون الكماة إلى المنايا ... وليس لهم سوى الإقدام سائق قال المترجم رحمه الله في كتابه "العقود الجوهرية" بعد أن ذكر نسبه من الأبوين: "وأما ولادتي فكانت في الموصل أواخر سنة أربع وأربعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل التحية، قال: ولما بلغت من العمر أربع سنين ابتدأت بقراءة القرآن الكريم، وختمته سنة سبع من عمري، وحفظت طرفاً منه، ورويت قراءة حفص على أستاذي في النحو الملا عبد الرزاق الجبوري، وفي سنة أربع وخمسين طلبني عمي الشهير بالفضل، عبد الباقي الفاروقي، وكان إذ ذاك ساكناً بغداد، وبقيتُ عنده نحو ستة أشهر، وقد أكملت "شرح الألفية" للسيوطي على الشيخ أسعد أفندي الموصلي المدرس في مدرسة جامع الآصفية، ثم عدت إلى الموصل فقرأت أصول الفقه وعلم الحساب، وطرفاً من علم الوضع على العالم الفاضل الشيخ عبد الرحمن الكلاك، وجمعت الجمع الصغير والجمع الكبير في القراآت السبع على ولده الشيخ عبد اللطيف، وقرأت بعض المتون المنطقية على العابد الزاهد والعالم الفاضل الشيخ محمد أمين بن الملا عبيده، وقرأت علم البديع وطرفاً من علم المعاني والبيان على رئيس العلماء المشهود له بالعلم والورع الشيخ عبد الله الفاروقي قدس الله روحه، ثم إن غمي رحمه الله

طلبني سنة إحدى وستين ومائتين وألف من والدي مرة ثانية لأجل الإقامة عنده، فتوجهت إلى بغداد وكانت إذ ذاك غاصة بالفضلاء والعلماء والأدباء- فتخرجت عليه في فنون الشعر وعلم الأدب، وطرت بجناح فضله، واستسقيت من هطال وبله، وفي غضون ذلك قرأت- تبركاً- شرح الشمسية للقطب ابن عقيل، على خاتمة المفسرين وعلامة العلماء المحققين أبي الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي، مفتي الزوراء، ومرجع الفضلاء- قدس الله روحه، وتغمده برحمته ورضوانه- وقرأت أيضاً كتاب "تشريح الأفلاك " على الفاضل الشيخ أحمد السندجي نزيل بغداد، وأتقنت اللغة الفارسية على ولده الفاضل الشيخ طه أفندي، ولم أزل عند العم في بغداد إلى السنة التاسعة والستين بعد المائتين والألف، وفيها دخلت مسلك خدمة الدولة العلية العثمانية، ولم أزل متقلباً في البلاد بمناصب مختلفة، حتى أصعدني أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين1- السلطان عبد الحميد خان- إلى رتبة مير ميران، وها أنا اليوم في الآستانة ضيف حظيرته، ونزيل سدته، داعياً له بالدوام، على مدى الأيام ". انتهى كلامه. وقلت في كتاب "بدائع الإنشاء"- فيما كان من مكاتبتي مع مشاهير الأدباء، من كلام في ترجمة هذا الأديب الفاضل-: وفي شهر رمضان سنة عشر بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبوية: نعاه لنا الناعي من إسلامبول دار السلطنة العثمانية، وأن روحه الشريفة انتقلت إلى الجنان، ودار الرحمة والرضوان 2، في أواسط ذلك الشهر مهبط الغفران، وأرخ وفاته بعض الأدباء بقوله من أبيات: أدخلوه الجنان أحمد عزت ... فهناك لوت ساعد عزمي يد نيران اللهف وفلَّ أركان صبري ماقا ... سيته من الأسى والأسف ونفذ من قضاء الله تعالى فيه:، ما أمض قلبي، وأرضّ لبي، وقطع نياط

_ 1 انظر عن هذا اللفظ "معجم المناهي اللفظية" (ص 252) . 2 هذا الكلام من المؤلف غير صحيح؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، ولا يجوز الحكم لمعين بالجنة أو النار إلا لمن شهد الله ورسوله له بذلك.

فؤادي، وطرد لذيذ رقادي، وأحدث لي حزناً ملازماً، وهماً مداوماً، إلى أن قلت: وقد كان المشار إليه لا زالت سحب الرحمة والمغفرة منهلة عليه، رجال الدنيا، وواحدها، وعضدها وساعدها وسيدها وماجدها: وما كان أبهى منه في الناس منظراً ... ولا كان أذكى منه في الناس مخبرا تفقدت منه وابل القطر ممطراً ... وفارقت منه طلعة البدر نيرا لئن غيبوه في التراب وأظلمت ... معالم كانت تفضح الصبح مسفرا فما أغمدوا في الترب إلا مهنداً ... ولا حملوا في النعش الأغضنفرا ثم ذكرت كلاماً طويلاً في الثناء علية وعقبته بقولي: وقد كان رحمه الله تعالى حسنة الزمان، وعين الأعيان، وركن الأدب العالي على الأركان، كمالاته كثيرة، وفضائله شهيرة، له ديوان شعر رائق ومقالات ثن النثر الفائق: له الكلمات الجامعات تخالها ... نجوماً بآفاق البلاغة طلعا وان كتبت أقلامه فحمائم ... تبث إلى السمع الكلام المسجعا وكتب لدين الله أضحت مطالعا ... كما كانت الأفلاك للشمس مطلعا إذا ضلت الأفهام عن فهم مشكل ... هدى وعليه في الحقيقة أطلعا وإن قال قولاً فهو لا شك فاعل ... قؤول من الأمجاد إن قال أبدعا كلام ترى لأقلام في الطرس سجداً ... له وترى أهل الفصاحة ركعا يحير أرباب الرجال كأنما ... أتانا بإعجاز من القول مصقعا وكان عليه الرحمة حنفيّ المذهب، سلفيَّ العقيدة، أفعاله وأعماله كلها سديدة، وبقي كلام طويل، وثناء جميل، أعرضنا عن نقله، وتركناه لأهلة. وممن قرظ الكتاب وأثنى عليه خاتمة بني الآداب، ومن أنقذ- برشاء تقريراته من جب العويصات- هلكى الطلاب، تذكرة الأصمعي وابن دريد، وسيبويه الثاني وأبو عبيد، المفتي في المذهب الحنفي في البصرة، أحمد بك الشاوي الشافعي الحميري تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته، وذلك قوله دام فضله:

قل لقوم بزعمهم خطئوا الشيـ ... ـخ بلا حجة ولا برهان واستدلوا بما رواه فلان ... عنه من غير صحة عن فلان ثم قووا ورجحوا واهن القول ... بلا قوة ولا رجحان غير ما قد تقولوه عليه ... شططاً من وساوس الشيطان من أقاويل لم يكن أنزل الله ... بها ذو الجلال من سلطان إن أردتم أن تعرفوا الحق حقاً ... مثلما ينبغي لذي عرفان وتروا منهج الهدى مستنير الـ ... ـوجه كالشمس في وضوح البيان فعليكم بما روى الثبت نعمان ... ن سمي ابن ثابت النعمان الفقيه النبيه والعالم العا ... مل فيما به رضا الرحمن والمجلي فيصل الحكم بالعدل ... دجى الاختلاف والامتحان لو رأى الأحمدان ما قد رأينا ... منه سرا بما رأى الأحمدان ولو أن الزمان صور شخصاً ... كان إنسان عين هذا الزمان كم له من مؤلفات علوم ... آلفت بين نافرات معاني أوقفتنا على مشاعر علم ... لم يكن حام حولها الشعراني وحري إذا العلوم استخفت ... علمه أن يميل بالميزان قد جلا من غياهب الشك عيناً ... بجلاء العينين للأذهان يا له من مصنف فيه قرت ... عين أهل التوحيد والإيمان دمغ الباطل المزخرف بالحق ... وأودى بالإفك والبهتان وحوى من معنعنات أحاديـ ... ـث على شرط ما روى الشيخان فهو إن عدت التصانيف أضحى ... مفرداً ماله إذا عدَّ ثان فاجهدوا يا هداكم الله في أن ... تقتفوا أثره بدون توان إنه ما علمتم خير هاد ... ودليل إلى بلوغ الأماني

ترجمة هذا الفاضل

"ترجمة هذا الفاضل"1 قد أفردت له ترجمة في كتاب "بدائع الإنشاء فيما جرى من المكاتبة بيني وبين المعاصرين من الأدباء"2 وذكرت له فيها كثيراً من شعره الفصيح، وكلامه البليغ الرجيح، وها أنا أذكر ملخص ذلك في هذا المقام، والله ولي التوفيق والإنعام، فمن ذلك أني قلت: هو أحمد بك بن عبد الحميد بك بن سليمان بك، وينتهي نسبه إلى تُبع الأكبر أحد من كان في اليمن من تبابعة حِمْيَر، وهو من سلالة قوم من الأخيار، وأناس سموا لعلو هممهم إلى أوج الفخار. هم القوم يروون المكارم عن أب ... وجد عريق سيداً بعد سيد تسودهم نفس هناك أبية ... فكانوا إذا ما بين نسر وفرقد وهزتهم يوم الندى أريحية ... كأن شربوا من كأس صهباء صرخد تطربهم سجع الصوارم والقنا ... بيوم الوغى لا ما ترى أم معبد إذا وعدوا الطاغين بالبأس أرهبوا ... وإن أحسنوا الحسنى فعن غير موعد كرام إذا استمطرت وبل أكفهم ... أراقته وبلاً من لجين وعسجد يقال لمن يروي أحاديث فضلهم ... أعد واستعد ذكر الكرام وردد ولد زحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين ومائتين وألف من هجرة من لم تبلغ كعب علاه بردة كل مدح ووصف، وقد ذكر لي ذلك عند سؤالي له عما هنالك، ولم يزل يحتسي در الفضائل، ويشتغل على علماء عصره الأماثل، حتى أزهر به روض الأدب بعد يبسه، وأقمر به فلك الفضل بعد أفول شمسه، وأثمرت به أغصان دوحة حديقة العرفان، وأبهرت أنوار حقائق دقائق النطق والبيان، وشدت به أبكار الأفكار نطاقها، ومدت عليه أسرار أنظار خرائد المعاني رواقها، يروي من الحديث أتقنه، ومن الشعر أرصنه، ومن كل علم أحسنه، ومن كل أدب أزينه،

_ 1 ترجم له المصنف في "المسك الأذفر في نثر مزايا القرن الثاني عشر والثالث عشر" (ص 219-224) 2 ولا يزال هذا الكتاب مخطوطاً فيما أعلم.

كان إذا تكلم يؤد السامع لو أن كله ألسن، ولا يبقى فيه جارحة إلا تمنت أنها أذن، صحبته كريمة، وعشرته جميلة، ودعابته لطيفة، ومحاضرته شريفة، وقريحته سديدة، وعارضته شديدة، ومعانيه رقيقة، و"مبانيه وثيقة، يتناثر الدر من فلق فيه، وكأن هذه الأبيات قد أنشدت فيه: حكم على أهل العقول يبثها ... متقونة الأوضاع والأحكام ويريك في ألفاظه وكلامه ... سحر العقول وحيرة الأفهام كم أعربت ألفاظه عن حاله ... يوماً فأعجب منطق الإعجام أو كأنه هو المقول فيه حيث كان رحمه الله يشبهه ويضاهيه: أحاديثه مثل زهر الرياض ... فهل كان إذ ذاك روضاً جميعا لطيف رقيق حواشي الطباع ... فلو جسمت لاستحالت نسيما مما قلت أيضاً في ترجمته: مع قوة حافظة وفصاحة لهجة، تظنه لولا ما هو عليه من الفضل والأدب أنه قد ربى في البوادي مع خلص العرب، يحفظ من نوادر الجاهليين وما كان لهم من الأيام والأخبار ما لو جمع في سفر لكان من أعظم الأسفار، وأما معرفته باللغة وغريبها وفصيح تراكيبها وأساليبها فذاك الذي اعترف له به المكابر، وأذعن له الأصاغر والأكابر، هذا مع تواضع ولين جانب، للأقارب الأدنين والأجانب، وقد ضم مع ذلك من الأخلاق أكرمها وألطفها، ومن الأوصاف أفضلها وأشرفها. من لي بإنسان إذا أغضبته ... ورضيت كان الحلم رجع جوابه وإذا أصر على الذنوب جليسه ... وسطا يكون العفو مر عقابه وإذا ظمئت إلى الشراب رويت ... من ألفاظه وسكرت من آدابه وتراه يصغي للحديث بقلبه ... وبسمعه ولعله أدرى به وإذا تفاخرت الرجال بماجد ... فاقت شمائله على أترابه ولم يزل يتقلب في المناصب، ويتنقل في منازل المراتب، حتى أدت به خاتمة المطاف، وفاتحة النعم والألطاف، إلى أن تقلد إفتاء البصرة الفيحاء، ونشر

الأحكام الشرعية في هاتيك الأنحاء. إلى أن قلت: وقد عاقته العوائق، ومنعته الشواغل والعلائق، أن يتصدى لتأليف كتاب أو تصنيف فصل أو باب، نعم إن له من الشعر الرائق، والنثر اللطيف الفائق، ما لو جمعا لكان كل منهما أعظم ديوان، وفاق ما نسب لحسان ونابغة بني ذبيان، وكم جرت بيني وبينه مكاتبات هي لعمري أرق من مدامع صب صبها على ما فات، وهي مذكورة في ترجمته من كتاب "بدائع الإنشاء" فليراجعها من شاء. ولم يزل يصدع بالحق ويفتي بأصح الأقوال، حتى انتقل إلى رحمة الله المتعال، وذلك سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة، وقد أسف على فقده من كان عارفاً بقدره، ودفن بجوار الزبير رضي الله عنه، وقد رثاه صاحبه وخلفه في الإفتاء الشيخ طه أفندي الشهير بآل الشواف، منحه الله تعالى بالنعم والإلطاف، فقال: لا تبعدن أبا عبد الحميد وقد ... بعدت عني فروى تربك المطر إذا رثيتك بالشعر البديع فمن ... من بعد شخصك يدري منه ما الخبر فاذهب عليك سلام الله في دعة ... فسوف ترثيك مني أعين غزر وكان رحمه الله تعالى شافعي المذهب، لا يميل إلى غير مذهبه ولا يذهب، غير أنه لا يستحسن رأي الغلاة من الشافعية، وكان يختار كإمامه الآراء السلفية، والله يتولى الصالحين. ومنهم شبل ذلك الأسد والفاضل الذي لم يطاوله في الفضل من أقرانه أحد، تذكرة أهل الأدب، ومجمع فضائل العرب، عبد الحميد بك الشاوي البغدادي تغمده الله بالرحمة والرضوان، وأسكنه فراديس الجنان، وذلك قوله: أبا ثابت يهنيك أنك ثابت ... على الحق إذ زلت عن الحق أرجل جلوت العمى والشك عن كل مؤمن ... بقول يميط الهزل حقاً ويفصل فهذا جلا العينين يعجز آخرا ... مداه ولم يبلغه قبلك أول فيا طالب الأخرى ويا مبتغي الهدى ... ليسعد عند الله في يوم يسأل لعمري لهذا الحق يعلو مناره ... عليك به أن الأباطيل تسفل

ترجمة هذا الأديب الأريب

"ترجمة هذا الأديب الأريب" 1 قد كتبت لهذا الفاضل ترجمة مفصلة في كتاب "بدائع الإنشاء" حيث أنه ممن جرت بيني وبينه مكاتبة من الأدباء، ومجمل ما قلت فيها: إن هذا الأديب كان على جانب عظيم من علو الهمة، وشرف النفس، ولين الجانب، ومعرفة الأدب، ورقة النثر، وجزالة الشعر، وذكاء الطبع، وسخاء الغريزة، وسرعة الفهم، وسرعة الذهن، وبعد النظر، وغور الفكر. متيقظ الأفكار يدرك رأيه ... ما لم يكن بالظن والتخمين من أسرة رغموا الأنوف وأصبحوا ... من أنف هذا المجد كالعرنين قوم يصان من الخطوب نزيلهم ... ونوالهم بالبر غير مصون اللابسون من الفخار ملابسا ... ومن الوقارسكينة بسكون له خلق أرق من النسيم، وأعذب من التسنيم، لطيف المؤانسة، طيب المفاكهة، لا يمله جليسه، ولا يرغب عنه أنيسه. ورأيت من أخلاقه بوجوده ... ما أبدع الخلاق بالتكوين ولكن تجلى بالمسرة فانجلى ... صدأ الهموم بقلبي المحزون حيث السعادة والرياسة والعلى ... تبدو بطلعة وجهه الميمون وكانت له اليد الطولى باللغة العربية، كما كان سباق غايات بين فرسان اللغة التركية. أقلامه افتخرت على سمر القنا ... فرأيت كل الفخر للأقلام خط يسر الناظرين ولم يزل ... في العين أحسن من عذار غلام وكأنما نظم النجوم قلائداً ... في الكتب مشرقة لدى الأيام وله من الشعر نظم كثير، وبحر غزير، ومن شعره الرائق، ونظمه الفائق،

_ 1 ترجم له المصنف في "المسك الأذفر" (ص 224- 229) .

هذه القصيدة الغراء، بل الغادة الحوراء، قالها متحمساً بحسه، وشرف نسبه وأدبه، ذاكراً غدر أعيان وطنه به، وذلك قبيل وفاته بعدة أيام، وهي نفثة مصدور، وأنة مقهور، قد أضر به السقام، ولم يرو من غليله الأوام. أرقت وهل يهجع المقصد ... وليس لليل المغنى غدُ وبتُّ أراقب سير النجوم ... كأني بها ساهراً أرصد بقلب قريح له لوعة ... تشب ضراماً فما تخمد وعين كعين تفيض الدموع ... تسح دراكاً فما تجمد ولي زفرات تذيب الحشا ... وتوهي الأضالع لا تنفد لذكر زمان هوى قد مضى ... وخلف نار جوى توقد وعهد صبا سلبته الخطوب ... وأعقبه زمن أنكد وأظعان حي حدتها النوى ... وأعرق بي البين إذا أنجدوا وقد كان لي فيهم مألف ... وعيش بساحتهم أرغد وكم لي هنالك من مجلس ... جليسي به الرشأ الأغيد غرير يصيد أسود الشرى ... ويعنو له الأشوس الأصيد وأسامره بغرامي به ... وفوق الحسام الجراز اليد وإخوان ضراء فارقتهم ... وكنت بصحبتهم أسعد قضيت بهم والمنى غضة ... ولم يك في الدهر ما ينكد ليالي أفدي لها جانباً ... من العمر لو أنها عود نأوا فظللت كئيباً لهم ... وهيهات مثلهم يوجد لقد كان شملي بهم جامعاً ... وإني من بعدهم مفرد غريب أقاسي العنا والأسى ... ومالي خل ولا مسعد مقيم أعاني ضروب الضنا ... وقد ملني الأهل والعود فسقيا لعيش بهم كان لي ... فما العيش من بعدهم يحمد فلولا عواد عدت جمة ... لقلت وإن كنت لا أقصد سقى الله بغداد صوب الحيا ... وطالعها الطالع الأسعد

وإن لم يكن لي في شطها ... وإن لج بي ظما مورد ولكن تركت بها معشراً ... لهم طارف المجد والأتلد هم الناس إن عد أهل العلى ... وإن ذكر الأصل والمحتد وما منهم غير قرم عليـ ... ـه خناصر أهل النهى تعقد فيا راكباً زعلباً جسرة ... على ما بها من وجى تسئد إذاجئت بغداد فاحبس بها ... ففيها لأهل الهوى معهد وفي الكرخ لي كبد غودرت ... وقلب أضيع فما ينشد لقيت من الدهر ما بعضه ... يذوب له الحجر الجلمد ولست لأحداثه ضارعاً ... ولا أنا مكتئب مكمد ولكنني أنا جار على ... مدى همة شأوها أبعد ولي سيف عزم إذا النائبا ... ت تفاقمن صمصم لا يغمد ولست أبالي إذا الحادثا ... ت عظمن إلى أيها أعمد وقومي الألى الصيد سادوا ... الورى وشادوا من المجد ما يخلد سموا في سماء العلى رتبة ... دنى دونها النجم والفرقد على أن فخري بنفسي إذا ... بنوا الدهر أجدادهم عددوا وحسبي فخراً إذا ما فخر ... ت وكان لأهل العلى مشهد مقالي أني عبد الحميـ ... ـد وإن أبي المجتبى أحمد همام إذا رقد الغافلون ... عن الخير والمجد لا يرقد هو الحلو طعماً لأحبابه ... وللشانىء الأرقم العربد فتعساً لدهر أخوه اللئيم ... وأكبر أعدائه الأمجد أنا العلم الفرد في رتبتي ... إذا شئت قلت فمن يجحد تكنفني من كلا جانبي ... صدق النجابة والسؤدد على رغم كلب عوى حاسداً ... وهل يخفض السؤدد الحسد عجبت لنذل يناوي الكرام ... وهمته عنهم تفقد يسامي رعان جبال سمت ... وموضعه الغائط الأوهد

يرى الفخر والفضل من جهله ... دراهم في كفه تنقد يخال السفاهة رأس العلى ... فليسن إلى غيرها يخلد فلولا الترفع عن مثله ... لكان له عندنا موعد على أنه حسبه خزيه ... بما فيه أفعاله تشهد وقد عرض في هذه الأبيات الأخيرة بنقيب بغداد، فإنه عدو لأهل الكمالات والأمجاد، وكان رحمه الله له مشاركة في كثير من العلوم، واشتغل مدة مديدة في المنطوق منها والمفهوم، وله محبة ومزيد ميل إلى آثار السلف، ولم يزل يسخف رأي الغلاة الذين هم بئس الخلف، ولم يبلغ من العمر إلا نحو خمس وأربعين سنة إلا واخترمته المنية، ووجد عليه والده أعظم وجد حتى لحقه بعد مدة جزئية، وقد كنت كتبت له أعزيه بهذه الفاجعة المؤلمة، وهذه الحادثة الملمة، فأجابني بقوله: بالله المستعان وعليه التكلان، وبه أستعين، وهو في كل شدة نعم المعين، لا ملجأ إلا إليه، ولا معول إلا عليه، وله الحمد على كل حال، وإليه المرجع والمآل، لقد صرت للحوادث غرضاً منصوباً، وللنوائب جملاً ركوباً، تتنصل فيَّ ماضيات نصالها، وتحمل عليَّ مثقلات أحمالها، فلله قلبي ما أصبره وأقساه، وجسمي ما أصلبه وأقواه، فلو كان قلبي حديداً لذاب، أو كان وجودي صخراً لتصدع من عظم المصاب، ولعمري لقد فل المنون شباتي، وأفسد علي حياتي، وثكلني لذاتي، فما هو إلا قمص الصبر أتدرعها، وغصص الموت أتجرعها، وتأبى زفرات الحزن إلا تصعدا، وجمرات الوجد إلا توقداً، ولكن ما الحيلة وقد حل البلاء، وفرض العزاء، وكتب الرضاء والتسليم، عند حلول الأمر الجسيم، فلا تسخط لقدر الله وهو عدل، ولا تكره لقضائه وهو فصل، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، تسليماً لما أمضاه، ورضى بما قضاه، ولقد تشرفت بكتابكم الشريف، فتناولته بكف التكريم، وأنامل التبجيل والتعظيم، وفضضته من خط تسكب منه العبرات، ولفظ تتجاذب من خلاله الحسرات يشهد بمشاركة مولاي أطال الله تعالى بقاءه في هذه المصيبة مشاركة من لا يتميز عنه في محنه ولا منحه وسروره وحزنه،

فأبقاك الله للعلم تعمر مدارسه، وتجدد دارسه، وللأخوان تكون له معوناً في حوادث الزمان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في (5) ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، الداعي مفتي البصرة أحمد بن عبد الحميد الشاوي. وقد توفي أيضاً في البصرة ودفن في مقبرة الزبير رضي الله عنه. وقد بقي أفاضل كثيرون ممن قرظ "جلاء العينين" وأثنى عليه بما هو مطبوع مع الكتاب وبما ورد بعد الطبع، ولو استقصينا جميع ذلك مع تراجم المقرظين لاحتمل أن يكون سفراً كبيراً، وما ذكرناه كاف في المقصود، وهو إبطال قول النبهاني المخذول في شأن كتاب "جلاء العينين" وتبين أنه كذب وافترى فيما ذكره في كتابه. وأما قوله: فيجب أن يعاملوه معاملة الكتب المخالفة لمذهبهم إلخ.. فقد ذكرنا سابقاً أن ما اشتمل عليه "جلاء العينين" هو عين مذهب الأئمة سواء كان في الأصول أم في الفروع، وقد ذكرنا نصوصهم في مسألة العلو وغير ذلك بما لا مزيد عليه. وأما قوله: وترجيحه كثيراً مما يخالف عقائد جمهور المسلمين أهل السنة والجماعة.. إلخ. فهذا دليل على جهله، حيث لم يفرق بين الإيمان والشرك، وأقوال أهل الحق من أهل الباطل، وظن أن أهل السنة والجماعة هم الذين على مسلكه وعلى باطله وضلاله، وقد ذكرنا غير مرة حقيقة حالهم وأن الفرقة الناجية هم التابعون لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام. وأما القول بالجهة فقد قلنا إن كتب الشيخ كلها ناطقة بخلاف ذلك، ومسألة العلو والاستواء قد سبق الكلام عليها، ء وذكرنا أقوال من قال بها من الأئمة وغيرهم.

ومنها أنه قال: وأنا والله في حيرة من أمره، إن قلت إن ذلك اعتقاده يعارضني أني أعرفه حنفي المذهب، من عائلة علم وسيادة، كلهم من أهل السنة والجماعة، وأن ما اعتمده في هذا الكتاب- مما أيد به زلاّت ابن تيمية- هو مذهب الوهّابية لا مذهب الحنفية. .. إلخ. فيقال لهذا المخذول: لِمَ تتحير في أمرك وأنت لست بمسؤول عن غيرك، وكل امرىء بما كسب رهين، وبما عمل مجازى بيقين، هلاّ نظرت إلى نفسك قبل حلول رمسك، قد قضيت عمرك بالضلال وفاسد الأعمال، والحكم بالطاغوت والإعراض عما شرعه ذو الجلال، تارة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل زمان وفي كل مكان، وأخرى تدعي أن كل من لم يدع المخلوق ولا استغاث به فهو من المبتدعين، وأن الإسلام هو دعاء غير الله والغلو في الصالحين، وأخرى تقول بالحلول والاتحاد، وتعتقد ما يعتقده أهل الإلحاد، ومع ذلك لم تتحير في أمرك بل تحيرت في أمر غيرك، وما دخولك بين العلماء وأنت من أضل الجهلاء؟! اقرأ كتابك واعتبره قريباً ... وكفى بنفسك لي عليك حسيبا ومن الفصيح كلام إخوان الصفا ... إن خاطبوا جعلوا الخطاب خطوبا ما كان عذرك لو أتيت بمثله ... أو كنت فيما تشتهيه مجيبا وما أحسن ما يقول القائل: مناضلة الدني مع الأديب ... بلا داع من العجب العجيب أيأمر بالمكارم من بعيد ... ويجنح للدنية من قريب وينهي عن طباع السوء صبحاً ... ويأتي بالإساءة في الغروب يعلّم غيره طرق المعالي ... وتذجبه النقيصة للعيوب وإن يأتي الفتى ما عنه ينهى ... فذاك النهي وعظ من كذوب سكوت الحر حتم عن سفاه ... وصون العرض يقضي بالوجوب وماذا النفع في إتعاب فكر ... يقوم بنصرة الطبع الغضوب

لثلم العرض في كلمات سوء ... تطير بهن عاصفة الهبوب وما أليق ما يقول القائل بحال النبهاني أيضاً: معارضة الغريب إلى القريب ... بلا حق من السفه العجيب وإزراء الغبي على ذكي ... حري أن يعد من النعيب فهلا أيها الناهي برأي ... سخيف ليس بالرأي المصيب أتحسب لا حسبت بأن شتماً ... محاورة الأديب مع الأديب مساجلة الكرام بكل فن ... متى كانت تعد من الذنوب وتنقص كاملاً وتذم شهماً ... رويدك جئت بالأمر الغريب وأنت فما دخولك بين قوم ... من العلماء بالوعظ الكذوب وإن تجادل العلماء يوماً ... بما علموه من حسب حسيب ليعرف كامل الفضلاء منهم ... إذا عرضوا على فطن لبيب وتلك لحالة فيها لأهل الـ ... ـزكا والفضل تبصرة القلوب فأي تطاول فيه افتخار ... إذا لم يبد من شهم نجيب ألا إن التطاول في كمال ... به يمتاز ذو الباع الرحيب متى كانت بنبهان كرام ... يقون العرض من ذم مريب وأي نقيبة لهم استبانت ... قديماً أو حديثاً من نقيب فربع كما لهم قدماً جديب ... ولم نعهده بالربع الخصيب أيجتنب الكريمة طبع حر ... لأمر فيه إغضاب الرقيب فهل غير المسرة للقريب ... وهل غير الإساءة للجنيب فكف اللوم يا ذا اللوم واحذر ... يروعك صولة الأسد المهيب وحاذر أن يصيبك ذو كمال ... بشفرة مقول منه ذريب ثم ما الموجب لهذه الحيرة وقد صرح الصبح لذي عينين، وقد قلنا إن جميع ما اشتمل عليه "جلاء العينين" هو مذهب الأئمة، وأساطين الأمة، لاسيما مذهب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة والرضوان، فكتب مذهبه طافحة برد بدع

الغلاة1، ومثل ذلك كتب الشافعية، والمالكية وغيرهم، ومن مشهور مذهب أهل المدينة سد الذرائع والبدع، وقد ذكر علماء السادة الحنفية في مسألة الإقسام على الله بمخلوق ما تقر به عين الموحد، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك، فقال أبو الحسين القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، قال: وأكره أن يقول بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، وأكره أن يقول أسألك بمعقد العز من عرشك. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم، لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه، وأما قوله بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف، قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك، قال ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش مع عظمته فكأنه سأله بأوصافه. وقال ابن بلدجي في، "شرح المختار": ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو يقول في دعائه أسألك بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه أكره كذا هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب. وفي فتاوى أبي محمد بن عبد السلام؛ أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم، وتوقف في نبينا صلى الله عليه وسلم لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف صحة الحديث. فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه. واحترامه وأنجع في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله، ثم

_ 1 انظر "أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة" للشيخ الفاضل محمد الخميس- حفظه الله- طبع دار الصميعي بالرياض.

ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً يعكف علية، ويوقد علية القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له والطواف به، وتقبيله واستلامه، والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. وأبعد المراتب المبتدعة- عند القبور- عن الشرع أن يسأل الميت حاجة ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، وهم من جنس عبدة الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذا السجود للقبر والتمسح به. وفي كتاب "الطريقة المحمدية" للإمام محمد البركوي- وكان من أكابر علماء الحنفية الأتراك- شيء كثير من هذا القبيل، وكذلك فيما ذكره في رسالته المؤلفة في زيارة القبور، فإنها تشفي العليل وتروي الغليل، وتحق الحق، وتبطل الأباطيل. في كتاب "الفتاوى البزازية"- وهو من أجل كتب الحنفية قدس الله أرواحهم الزكية-: من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر. وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي- في كتاب "الرد على من ادّعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة"-: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدّعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، لمستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقالوا منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، قال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه

الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما أجمعت عليه الأمة، وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 ثم قال: فأما قولهم أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 2 {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 3. ونحو ذلك من الآيات الدالات على أنه المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره، تصرفاً وملكاً وإحياء وإماتة وخلقاً، وقد تمدح الرب تعالى بملكه في آيات من كتابه، كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 4 {َالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 5 وذكر آيات كثيرة في هذا المعنى، ثم قال: فقوله في الآيات كلها "من دونه" أي من غيره. فإنه عام يدخل فيه من اعتقده من ولي وشيطان يستمده، فإن لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره، إلى أن قال: إن هذا القول وخيم وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} 6 وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} 7 وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 8 {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 9.

_ 1 سورة النساء: 115. 2 سورة النمل:60. 3 سورة المائدة: 120. 4 سورة فاطر: 3. 5 سورة فاطر: 13. 6 سورة الزمر:30. 7 سورة الزمر: 42. 8 سورة آل عمران: 185. 9 سورة المدثر: 38.

وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" 1 الحديث، وجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره، فإنه سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 2. قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات من الكرامات فهو من أعظم المغالطة لأن الكرامات شيء من الله تعالى يكرم بها أولياءه وأهل طاعته، لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم ابنة عمران- وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني. قال: وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد؛ فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمة قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 3 {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 4. وذكر الآيات في هذا المعنى، ثم قال: فإنه جل ذكره كرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطر، وأنه المستغاث به لذلك كله، وأنه القادر على رفع الضر القادر على إيصال الخير فهو المتفرد بذلك، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي. قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب االظاهرة العاديه من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة أو التأثير أو في الأمور المعنوية من

_ 1 أخرجه مسلم (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2 سورة البقرة: 140. 3 سورة النمل: 62. 4 سورة الأنعام: 63.

الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله تعالى لا يطلب فيها غيره. قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات، فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا جرف من السعير. وأما كونهم "مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشا للهَّ أن يكون أولياء الله تعالى بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كما أخبر الرحمن: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1 {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شيئاً وَلا يُنْقِذُونِ} 3. فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي أو ولي أو غيره على وجه الإمداد منهم شرك مع الله تعالى، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره. قال: وأما ما قالوه إن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتاداً ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس؛ فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية". انتهى باختصار. ومثل ذلك كثير في كتب الحنفية وغيرهم من المذاهب، فرحم الله علماء السنة فلقد كفونا مؤونة كشف ما أورده الخصوم من شبهات المبطلين، فلله الحمد والمنة على عظيم النعمة. فانظر أيها النبهاني ما نقلناه إليك من أقوال الحنفية وغيرهم فهل خالفت ما

_ 1 سورة يونس: 18. 2 سورة الزمر: 3. 3 سورة يس: 23.

اشتمل عليه "جلاء العينين" وما ذهب إليه المحققون من الفريقين فلم أخذتك الحيرة واعترتك الوساوس الكثيرة؟! وأعجب من ذلك قولك: وإن ما اعتمده في هذا الكتاب- مما أيد به زلاّت ابن تيمية- هو مذهب الوهابية لا مذهب الحنفية، ولا مذهب آبائه وأجداده السادة الشافعية.. حيث لم يعرف النبهاني المسكين النحل ولا المذاهب، فبقي يخبط خبط عشواء، ويبدي ويعيد، ويكرر قوله البعيد، حتى زعم أن ما ذهب إليه ابن تيمية وموافقوه ليس مذهب أهل السنة بل هو مذهب المبتدعين، وبينا خطأه سابقاً أوضح بيان، وأقمنا على ما قلناه الحجة والبرهان، وأن مذهب أهل السنة هو ما عليه أهل الحديث، وذكرنا سابقاً أن ما عليه أهل نجد ليس مخالفاً لما عليه الأئمة الأربعة، بل ما هم عليه هو الذي جاء به الدين المبين، وإطلاق الخصوم عليهم اسم الوهابية مع كونه غلطاً هو من باب التنابز بالألقاب، وبينا أن مثل ذلك من المثركين في شأن المسلمين إذ كانوا يسمونهم صابئة: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} 1. وأهل نجد مذهبهم على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل نَضَّرَ الله وجهه، وقد رأيت رسالة مختصرة يحفظها صبيانهم وشبانهم في العقائد من تصانيف أبي عبد الله العلامة الشيخ محمد رحمه الله، وليس فيها ما يصادم الكتاب والسنة وما عليه أئمة الإسلام، وهي هذه: "بسم الله الرحمن الرحيم اعلم رحمك الله أن طلب العلم فريضة، وأنه شفاء القلوب المريضة، وهو من أهم ما وجب عليك، والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار، وأنه يجب عليك أربع مسائل. الأولى: معرفة الله تعالى، ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه.

_ 1 سورة الفتح: 23.

الرابعة: الصبر على الأذى فية. والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لو لم ينزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم. قال الإمام البخاري: باب العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 1 الآية. وأعلم رحمك الله أن الله أوجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث والعمل بهن: الأولى: أن الله خلقنا لعبادته ولم يتركنا هملاً، وأرسل إلينا رسولاً فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} 2 الثانية": أن اللهَّ لا يرضى أن يشرك في عبادته أحداً لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3. الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله فلا يجوز له موالاة من حاذ الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4 الآية. وعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام أن تعبد الله مخلصاً له الدين، كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5. ومعنى يعبدون يوحدون، وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله تعالى

_ 1 سورة محمد: 19. 2 سورة المزمل: 15. 3 سورة الجن: 18. 4 سورة المجادلة: 22. 5 سورة الذاريات: 54.

بالعبودية،. وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو دعاء غير الله تعالى معه، والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 الآية. فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: الأصل الأول معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه صلى الله عليه وسلم. فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني بنعمته وربى جميع العالمين، وهو معبودي ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكل ما سوى الله عالم، وأنا واحد من ذلك العالم. وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، فمن آياته الليل والنهار، والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السموات السبع ومن فيهن وما بينهما، والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما، والدليل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} 2 الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 الآية، والرب هو المعبود، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآيتين4. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة. وأنواع العبادة التي أمر الله تعالى بها: مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنها الدعاء، والرجاء، والخوف، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5 فمن صرف شيئاً من هذه لغير وجه الله فهو

_ 1 سورة النساء: 36. 2 سورة فصلت: 37. 3 سورة الأعراف: 54. 4 سورة البقرة: 21- 22. 5 سورة الجن: 18.

مشرك كافر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1. ولحديث "الدعاء مخ العبادة" 2. والدليل على الدعاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية 3، ودليل الخوف قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 ودليل الرجاء قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 5. ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} 6. ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} الآية 7، ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفي الحديث: "إذا استعنت فاستعن باللَّه ". ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية8. ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 9. والدليل من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله " 1 0. ودليل النذر قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 11.

_ 1 سورة المؤمنون: 117. 2 تقدم أنه ضعيف بهذا اللفظ، والصحيح: "الدعاء هو العبادة". 3 سورة غافر:60. 4 سورة آل عمران: 175 5 سورة الزمر: 53. 6 سورة البقرة: 150. 7 سورة الزمر: 056 8 سورة الأنفال: 9. 9 سورة الأنعام: 162-163. 10 أخرجه مسلم (1978) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 11 سورة الإنسان: 7.

الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وكل مرتبة لها أركان. أما أركان الإسلام فخمسة، والدليل من السنة حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام"1. فدليل الشهادة قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. ومعناه لا معبود بحق في الوجود إلا الله وحده لا شريك له. "النفي": نافياً جميع من يعبد من دون الله، "إلا الله": مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته،- كما أنه لا شريك له في ملكه، وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} الآية3. ودليل أن محمداً رسول الله قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية4. وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 5. ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 6.

_ 1 أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) . 2 سورة آل عمران: 18. 3 سورة الزخرف: 26- 27. 4 سورة الفتح: 29. 5 سورة الأحزاب:40. 6 سورة البينة: 5.

ودليل الصيام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 2. المرتبة الثانية: الإيمان، "وهو سبع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وأركانه ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله. والدليل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 3. ودليل الركن السادس قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 4. المرتبة الثالثة: الإحسان ركن واحد وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن فإنه يراك، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 5. والدليل من السنة، حديث جبريل عليه السلام المشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد؛ أخبرني عن الإسلام؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله

_ 1 سورة البقرة: 183. 2 سورة آل عمران: 97. 3 سورة البقرة: 285. 4 سورة القمر: 49. 5 سورة النحل: 128.

وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً "،. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر". قال: صدقت قال: أخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". قال: صدقت. قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ". قال: أخبرني عن أماراتها؟ قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ". فمضى، فلبث ملياً، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"1. الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، توفي وله من العمر ثلاث وستون سنة منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً نبىء باقرأ، وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، بعثه الله بالإنذار عن الشرك والدعوة إلى التوحيد. والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} 2. ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} : يعني أنذر عن الشرك وادع إلى التوحيد، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظمه بالتوحيد، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك من الشرك، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز الأصنام، وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها، وفراقها وأهلها، وعداوتها وأهلها، أخذ على هذا عشر سنين، وبعد العشر عرج به إلى السماء، وفرض عليه الصلوات الخمس، وبقي بمكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة، والهجرة الانتقال من بلد الشرك، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله

_ 1 أخرجه مسلم (8) . 2 سورة المدثر: 1-7.

تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ً} إلى {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 1، وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} الآية2. والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"3. فلما استقر في المدينة أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أخذ على ذلك عشر سنين. وتوفي صلوات الله وسلامه عليه ودينه باق، وهذا دينه لا خير إلا دلّ الأمة عليه، ولا شر إلاّ حذرها عنه، والخير الذي دل عليه التوحيد وما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذّر عنه، الشرك وما يكرهه الله ويأباه، بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض طاعته على جميع الخلق؛ الجن والإنس، والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 4 وأكمل الله له الدين، والدليل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 5. والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} 6 والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 7 وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ

_ 1 سورة النساء: 97- 99. 2 سورة العنكبوت: 56. 3 أخرجه أبو داود (2479) وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (2166) . 4 سورة الأعراف: 158. 5 سورة المائدة: 3. 6 سورة الزمر: 30- 31. 7 سورة طه:55.

الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} 1. وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 2. ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3. وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 4. وأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم النبيين، لا نبي بعده. والدّليل على أن نوحاً أول الرسل قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} الآية5. وكل أمة بعث الله إليها رسولاً من نوح إلى محمد عليهما السلام ة، يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6. وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال ابن القيم رحمه الله: معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. والطواغيت كثيرة ورؤؤسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راض،

_ 1 سورة نوح: 17-18. 2 سورة النجم: 31. 3 سورة التغابن: 7. 4 سورة النساء: 165. 5 سورة النساء: 163. 6 سورة النحل: 36.

ومن ادّعى شيئاً من علم الغيب، ومن دعا إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. وهذا معنى لا إله إلا الله، وفي الحديث: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" والله أعلم. هذا آخر رسالة الشيخ أبي عبد الله في العقائد. فانظر أيها النبهاني إليها واقرأها من أولها إلى آخرها؛ فهل الذي يعتقد هذا الاعتقاد يعد من المبتدعين السالكين غير سبيل الرشاد؟ أم المبتدع هو الذي غيّر وبدل، وحرّف وأوّل، واتبع غير سبيل المؤمنين، وليس عليه دليل في دين المسلمين، كما ابتدعت أيها الزائغ من الغلو العظيم في حق النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وكمل التسليم، ثم عملت بغير شريعته، وسلكت غير سنن سنته. فيا أيها النبهاني، والشيخ الشيطاني، من الأحق أن يكون من المبتدعين؟ أأنت ومن على شاكلتك من الغواة الضالين؟ أم حزب الرسول الذين سمعت عقيدتهم في الدين المبين؟!. وأقسم بالله العلي الشأن؛ أن النبهاني ليس له معرفة بدينه كمعرفة أولئك- الصبيان، وليته جدد إيمانه على يد واحد من حزب الرسول، وقرأ عنده تلك العقائد من الأصول، ليخرج عن جادة ضلاله ذلك الزائغ الجهول. وأما قول النبهاني: وإن قلت: إن ذلك ليس اعتقاده الحقيقي ... إلخ. فيقال له: إن هذا من بعض الظن الذي قال الله تعالى فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} 2 على ما بينه المفسرون وأطنبوا فيه.

_ 1 سورة البقرة 256. 2 أخرجه أحمد (5/231) والترمذي (2616) وابن ماجه (3973) والنسائي في "الكبرى" (6/428/11394) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وهو حديث صحيح بشواهده. انظر كلام الحافظ ابن رجب الحنبلي عليه في "جامع العلوم والحكم"- الحديث التاسع والعشرون-، وانظر "إرواء الغليل" (2/138/413) .

فإن مصنف "جلاء العينين" إنما صنّفه قبل أن تكون بينه وبين السيد صديق حسن نواب بهوبال معارفة ومكاتبة، ومصنف "جلاء العينين" لما سافر إلى مكة المكرمة شرفها الله تعالى سنة ثنتين وتسعين ومائتين وألف من الهجرة، اجتمع ببعض أصحاب ذلك الإمام الهمام، بل ملك العلماء الأعلام، فذكر له عن أحواله وبيان منزلته من معرفة الحديث وسائر علوم الدين، فوسطه في أخذ إجازة منه بما صح لديه، وبعد عود الهندي إلى الهند اجتمع بالنواب، وذكر له عن مصنف "جلاء العينين" ما شاهده من فضله، وطلب منه أن يرسل إليه الإجازة، فكتب إليه إجازة مفصلة وأرسلها إليه بعد عوده إلى وطنه، وطلب منه أن يرسل إليه نسخة من "جلاء العينين" فأرسلها إليه، والتمس منه طبع الكتاب إن كان قد وقع لديه موقع القبول، فبهره حسن وضعه، ولطافة ترتيبه، وما استودعه فيه من المطالب العالية، فأرسله إلى مصر وطبعه، والنواب رحمه الله لم يكن له حاجة لمعاونة أحد ولا خدمته، وفضله أشهر من أن ينبه عليه، ولم يكن على مذهب الوهابية فإنه ليس للوهابية مذهب يخصهم بل هم حنابلة كما سبق، والنواب رحمه الله كان من المحدثين، فكان يتبع ما صح لديه من الحديث، كما هو شأن أهل الحديث والأثر وأتباع سيد البشر، ومثله كثيرون في البلاد الهندية قبل عصره وبعده. ومنها أنه قال: ولست أعترض عليه بجوابه عن ابن تيمية أن بعض أقوال ابن تيمية التي نقلها ابن حجر واعترض عليها لم تصح نسبتها إليه إلى قوله منذ مئات من السنين. جوابه: أن مصنف"جلاء العينين" أحسن العبارة في ابن حجر كل الإحسان، ونوه به في ترجمته حيث قال: هو واحد العصر، ثاني القطر، علامة المنقول، فهامة المعقول، شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر- نسبة على ما قيل إلى جد من أجداده كان ملازماً للصمت تشبيهاً له بالحجر- الهيتمي السعدي

الأنصاري الشافعي، وذكر مولده ووفاته وتصانيفه ومن أخذ عنه، فلم يترك من فضائله شيئاً إلا وذكرها، ومن حق المترجم أن يذكر لمترجمه ما له وما عليه، ولم يبين ما ذكره أهل العلم فيه من تعصّبه في مذهبه والحط على المخالفين، وافترائه على أئمة المسلمين، واضطرابه في أقواله، وعدم ثباته على قول، ومن يراجع أقواله في "الزواجر والقواطع" ثم يوازن بينها وبين أقواله في "الجوهر المنظم" و "الفتاوى الحديثية" يجد ما قيل فيه واضحاً صريحاً، ولم يذكر أيضاً جهله بالحديث الصحيح وعدم خبرته بفنه حتى شحن كتاب "الصواعق" وكتاب "تطهير الجنان في الذب عن محاوية بن أبي سفيان" وغيرهما بالأحاديث الموضوعة والخرافات المكذوبة، ولا ذكر أيضاً انتحاله لكتب آخرين فنسبها لنفسه، ولا عجبه بنفسه ورأيه، كل ذلك قد أهمله مصنف "جلاء العينين" عفا الله عنه، ولم نعلم سبب ذلك، فهل تاقى غلاة الشافعية، أم لم يقف على ما ذكرناه مع شهرته، نعم سمعت أنه كتب رداً على كتاب "تطهير الجنان" وبيّن ما اشتمل عليه من مواقع النظر، وسمى ما كتبه "بصادق الفجرين في الجواب عن سؤال أهل البحرين" وبلغني أن هذا الكتاب متداول في الأنحاء العراقية، وأما "الصواعق" فقد رد عليها غير واحد. والمقصود؛ أن كلام النبهاني هذا لا ورود له أصلاّ، بل هو محض عدوان اقتضاه منه عدم الإيمان، وأما ما أورده في تضاعيف كتابه من عدم تصحيح بعض نقوله فهو من مقتضيات قوانين المناظرة، كما لا يخفى على الخبير بها، العالم بأقسامها وضروبها. ومنها قوله: وكذلك عامل بسوء هذا الصنيع- من قبيح التشنيع والتقريع- الإمام تقي الدين السبكي، حتى أنه لم يعبر عنه بلفظ الإمام ولا بلفظ شيخ الإسلام، بل إما أن يقول قال السبكي أو القاضي السبكي، وهو في الحقيقة المستحق للفظ شيخ الإسلام، لأنه كان قاضي قضاة الشام، مع كونه من أئمة العلماء الأعلام، ولقب شيخ الإسلام إنما كانوا يلقبون به قاضي القضاة، فابن تيمية بحسب هذا الاصطلاح لا يستحق لقب شيخ الإسلام، وإن كان من أكابر

شيوخ المسلمين وأئمة العلماء الأعلام. فيقال له أولاً: فهذا الكلام مخالفة للحقيقة، فإن مصنف "خلاء العينين" قال - لما ذكر ترجمته- وهو- على ما في كتاب الشذرات وغيره- الإمام العلاّمة شيخ الإسلام علم الأعلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي الأصولي اللغوي البياني الجدلي الخلافي النظار، ثم نقل عن الإمام السيوطي تاريخ مولده ومن قرأ عليه، وقوله: وتخرج به خلق في أنواع العلوم، وأقر له الفضلاء، وولي قضاء الشام بعد الجلال القزويني، وصنف الكتب المطولة والمختصرة، ونقل بعض الأبيات من شعره، وذكر تاريخ وفاته وسؤاله أن يولى القضاء مكانه ولده تاج الدين وأنه أجيب إلى ذلك وترحم عليهما، فماذا يقول: بعد ذلك القول؟ فلم يبق إلا أن يقول وكان يوحى إليه، أو أن ملائكة السماء كانت تقرأ عليه وتأخذ عنه العلوم، أو أن الخضر كان يتلقى عنه العلم اللدني، كما ادّعى ذلك لغيره، ونخو ذلك من القول الباطل، والهذيان العاطل، والغلو الذي اعتاده من لا خلاق له، حتى يرضى الشيخ النبهاني، والهيكل الصمداني، حيث لم يكتف بهذه المبالغات، واستقل تلك العبارات في السبكي وابن حجر، حتى قال عنها هناك أنه شنع على ابن حجر بألفاظ لا يحسن استعمالها في حق بعض طلبة العلم وكذلك عامل بسوء هذا الصنيع إلخ مع إحسانه العبارة في الاثنين، ومعاملته لهما بما لا يستحقانه عند الفريقين، فأي عبارة استعملها وهي لا تليق بهما، مع أن الله تعالى قال في كتابه الكريم: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} 1. فليراجع تفسير هذه الآية. وأما ثانياً: فيقال له: إنا لو سلّمنا أنه لم يكن مبجلاً لهما كما يحب النبهاني في عباراته ولا أعطاهما حقهما في تعبيراته فهو ليس بملام على ذلك، لأنه بصدد مؤاخذتهما فيما افترياه على الشيخ، ورد ما اعترضا عليه، وأن كلامهما فيه مما لا

_ 1 سورة آل عمران: 188.

يقبل، لأنهما كانا من ألد خصمائه، فليس المقام مقام مدحهما، والإطراء عليهما، كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بفن البلاغة. وأما ثالثاً: فيقال: إن عدم تعبيره مرة أو مرتين بشيخ الإسلام في السبكي لا يستوجب سجود السهو، لا عند الحنفية، ولا عند الشافعية، ولا المالكية، ولا الحنابلة، ولا الظاهرية، ولا، ولا، بل ولا أظن أن عليه شيئاً في قانون الجزاء الذي حكم بمواده- شطراً من عمره في بيت الله المقدس- النبهاني الخبيث، بل ليس ذلك من الواجبات الدينية، ولا المشروعات الإسلامية، بل لو قال قائل: قال أبو بكر، أو قال عمر، أو قال عثمان، أو قال علي، أو روى أبو هريرة، أو حدثنا شعبة، وهكذا جميع الصحابة، أو قال: روي عن أبي حنيفة، أو مالك، أو الأوزاعي، أو غيرهم من المجتهدين، أو ذكر نحو هؤلاء من الأئمة فقط ولم يزد لفظ شيخ الإسلام، فماذا يجب عليه من اللوم؟ نعم قال بعضهم: من المستحسن الترضي عند ذكر أحد من الصحابة، والترحم على العلماء وصلحاء الأمة ونحو ذلك على ما قرره الشهاب في شرحه على الشفاء، ونسأل الشيخ النبهاني هل ورد شيء في الكتاب أو السنة في وجوب التعبير عن السبكي بنحو الإمام أو شيخ الإسلام فإن تركهما أحد وجب تعزيره بل لا بد أن يكون أحدهما جزءاً من هذا العلم؟ أما يستحي النبهاني من التكلم بمثل هذا الكلام، أما يخجل أن يهذي بهذا الهذيان بين الأنام، نعم ورد في الحديث الصحيح: "أن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت"1 فعياذا بك اللهم من عدم الحياء. وأما رابعاً: فليمت شعري بأي فضيلة استحق السبكي أن يعبر عنه بشيخ الإسلام، هل بإغرائه العوام على عبادة غير الله والمغالاة في الدين، أو بنيابته في الشام بعد أن تقلدها بالرشوة حتى حرص عليها وعض عليها بالنواجذ وطلب أن تكون لولده من بعده، أو بشتمه خيار عباد الله، أو بجهله بما ورد في الكتاب

_ 1 تقدم تخريجه في الجزء الأول من الكتاب.

والسنة كما نبه عليه ابن عبد الهادي الحافظ الشهير على ما سبق، وهو في كل ذلك لا يستحق هذا التعبير، فلا أرى اللائق به إلا أن يلقب بشيخ الغلاة، ومصنف "جلاء العينين" عفا الله عنه لم يعط خصوم الشيخ وأعداء الحق حقهم من سوء التعبير اللائق بضلالهم، ففي الحديث: "إذا مدح الفاسق غضب الرب"1. ومن العجيب قول هذا الزائغ العنيد، النبهاني البليد، إن لقب شيخ الإسلام إنما كانوا يلقبون به قاضي القضاة، فابن تيمية بحسب هذا الاصطلاح لا يستحق لقب شيخ الإسلام..إلخ. فإنه قد ذم إمامه من حيث لا يشعر، حيث كان هذا اللفظ فارغاً من المعنى، وادّعى اسماً بلا مسمى، كما هو شأنه اليوم في أمثاله، فإنا نسمع أن لهذا العصر مشايخ للإسلام كثيرين ولا مسمى لهم، ونراهم يقولون: فلان صاحب الفضيلة، وفلان صاحب السماحة، وفلان صاحب السحادة، وفلان صاحب العزة، وهلم جراً، ولا فضيلة ولا سماحة ولا سعادة ولا عزة لمن قيل له ذلك، كما هو معلوم لدى كل ذي فهم، ويتحرجون من إطلاق تلك الألفاظ على من اتصف بتلك المعاني حقيقة، حيث يصدهم عنه اصطلاح العصر، وهذا كما اصطلح أهل اللغة في عرفهم على تسمية الفلاة مفازة، والأعمى بصيراً، واللديغ سليماً. ونحو ذلك مما هو مذكور في موضعه. وذكر العلامة ابن خلدون في الفصل الثاني والثلاثين من مقدمته2- في بيان التلقيب بأمير المؤمنين وأنه من سمات الخلافة وأنه محدث من عهد الخلفاء- قال: "فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب تشريفية، حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم، مثل شرف الدولة، وعضد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة، ونصير الدولة، ونظام الملك، وبهاء

_ 1 حديث منكر؛ انظر: "الضعيفة" (595) . 2 مقدمة تاريخ ابن خلدون (1/228- 229- ط. إحياء التراث) .

الدولة، وذخيرة الملك، وأمثال هذه، وكان العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة، فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب، وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها، وعدولاً عن سماتها المختصة بها، شأن المتغلبين المستبدين، ونزع المتأخرون أعاجم المشرق- حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدولة والسلطان وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة- إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك، مثل الناصر، والمنصور وزيادة على ألقاب يخصون بها قبل هذا الانتحاب مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط، فيقولون: صلاح الدين، أسد الدين، تور الدين، قال: وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها فتلقبوا بالناصر، والمنصور، والمعتمد، والمظفر، وأمثالها، كما قال ابن أبي شرف ينعي عليهم: مما يُزَهِّدُني في أرض أندلس ... أسماءُ معتمدٍ فيها ومعتضدِ ألقابُ مملكة في غير موضعها ... كالهِرِّ يحكي انتفاخاً صَوْرَةََ الأسد1 ثم أطال في الكلام ابن خلدون. فالشيخ النبهاني قصد هذا المعنى وجعل إمامه- بإطلاق هذا اللقب عليه اصطلاحاً- كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد، فلله دره ما أدق فكره، وأبعد نظره؟! ونقول له: إذا كان الأمر كما ذكر فنحن لا نلقب ابن تيمية بشيخ الإسلام اصطلاحاً فارغاً عن معناه، بل نطلقه عليه لغة وشرعاً لا اصطلاحاً، وهو بحمد الله في غنى عن التعبيرات الاصطلاحية الفارغة عن المعاني، على أن آثار ابن تيمية وفضائله التي أقر بها المخالف والموافق تغنيه عن إطلاق مثل هذه الألفاظ، وفي كتاب "الرد الوافر" الذي ألفه العلامة الحافظ الإمام ناصر الدين الشافعي في بيان من أثنى على الشيخ ابن تيمية من أكابر الأئمة وأطلق عليه شيخ الإسلام ما يرغم أنف هذا المخذول.

_ 1 انظر ديوان القيرواني الحسن بن رشيق (ص 59- 60) و"نفح الطيب" (1/ 214) .

ومنها ما قاله في شأن الشيخ ابن تيمية وهو رجل مطعون في عقيدته.. إلخ. وقد مرَّ الكلام على مثل هذا الكلام مراراً فلا نتعب الأسماع بإعادة الجواب عنه. ولله در من قال -وهو الشيخ أبو العلاء المعري في قصيدته المشهورة-: وقال السهى للشمس ضوءك حائل وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وعير قساً بالفهاهة باقل1 ويقول ابن سند: وما على العنبر الفواح من حرج ... إن مات من شمه الزبال والجعل أو هل على الأسد الكرار من ضرر ... أن ينهق العير مربوطاً أو البغل أو هل على الأنجم الخضراء منقصة ... إن عابها من حصى الخضراء منجدل ومنها أنه قال: فما الذي حمل صاحب "جلاء العينين" على معاملتهما أسوأ المعاملة، والميل كل الميل مع ابن تيمية، وهو يدعي أنه من أهل السنة والجماعة، لا والله بل هو من أهل البدعة، والأرواح جنود مجندة، فروحه هي من أجناد روح ابن تيمية، فلا تأتلف مع هؤلاء الأئمة الأعلام، ولذلك كان منه في حقهم ما كان.. إلى قوله: بل حكم لجميع الوهابية. جوابه من وجو: الوجه الأول: يقال للنبهاني الزائغ: "نسألك ما حمل ابن حجر والسبكي وكل

_ 1 تمام الأبيات: ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً ... تجاهلتُ حتى قيل إني جاهلُ فواعجباً كم يدّعي العلم ناقص ... ووا أسفاكم يُظهر النقص فاضِلُ إذا وصف الطائيَّ بالبخل مادرٌ ... وعيّر قساً بالفهاهة باقلُ وقال السهى للشمس أنت خفية ... وقال الدجى للصبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصاء والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جُدّي إن دهرك هازلُ

منهما كان منه ما كان في حق الشيخ ابن تيمية وأصحابه وجماعة من حفاظ الحديث، من شتمهم أقبح شتم، وسبهم ولعنهم بما هو مشهور في كتبهم، حتى أن ابن حجر لم يكتف بذلك في كتاب واحد من كتبه، بل ذكر ذلك في تحفته، وفي فتاواه الفقهية، وفي فتاواه الحديثية، وفي غيرها، حتى قال في كتابه "الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم" من جملة كلام: إن ابن تيمية عبد أضله الله وأغواه، وألبسه رداء الخزي وأرداه، وبوأه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان، ثم قال: ولقد تصدى شيخ الإسلام، وعالم الأنام، المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته: التقي السبكي- قدس الله روحه ونور ضريحه- للرد في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد وأصاب، وأوضح بباهر حججه طريق الصواب، فشكر الله مسعاه، وأدام عليه شآبيب رحمته ورضاه، قال: ومن عجائب الوجود ما تجاسر عليه بعض السدجى من الحنابلة فغبر في وجوه مخدراته الحسان، التي لم يطمثهن إنس من قبله ولا جان، وأتى بما دل على جهله، وأظهر عوار غباوته وعدم فضله، فليته إذ جهل استحيا من ربه، وعساه إذا فرط رجع إلى لبه، ولكن إذا غلبت الشقاوة استحكمت الغباوة، فعياذاً بك اللهم من ذلك، وضراعة إليك أن تديم لنا سلوك أوضح المسالك، هذا ما وقع من ابن تيمية مما ذكر- وإن كان عثرة لا تقال أبداً، ومصيبة يستمر عليه شؤمها دواماً وسرمداً- ليس بعجب، فإنه سولت له نفسه وهواه وشيطانه أنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعائب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، وتدارك على أئمتهم- سيما الخلفاء الراشدين- باعتراضات سخيفة شهيرة، وأتى من نحو هذه الخرافات بما تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس، المنزه عن كل نقص والمستحق لكل كمال أنفس، فنسب إليه العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته بما أظهر للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين، حتى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله، أو بحبسه وقهره، فحبسه إلى أن مات، فخمدت تلك البدع،

وزالت تلك الظلمات، ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأساً، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً، بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". انتهى كلام ابن حجر. ومثل ذلك كثير في كتبه, وقد أدينا له حقه فيما كتبناه عليه صاعاً بصاع، وبينا ما زوره وافتراه، وأقمنا عليه الحجج والبراهين في هدم ما بناه. والمقصود أن يقال للنبهاني: ما حمل ابن حجر أن يتهور ذلك التهور والغل الذي أبداه للذين آمنوا ومن سبقه بالإيمان؟ فبأي جواب يجيب عن ابن حجر أجبناه عن مصنف "جلاء العينين" بمثله، مع علمه أنه لم يلعن ابن حجر ولم يشتمه، ولم يقل فيه وفي أضرابه من الغلاة ما قاله الله في اليهود {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} مع أن ابن تيمية وأصحابه دعوا إلى الله وعملوا صالحاً، وذبوا عن دينه، وجاهدوا في الله، وعظموا رسوله صلى الله عليه وسلم كمال التعظيم، وهدموا أركان البدع والضلال والكفر، وهذه كتبهم التي تتداولها الأيدي تشهد بذلك، وتكذب ابن حجر، وتسود وجهه بسواد لا يبيض، أهكذا جزاء الإحسان؟ أهكذا يقال في حفظة السنة والقران؟ والنبهاني إن كان يحسن قراءة العبارة يعلم أن مصنف "جلاء العينين" لم يقصر في حسن التعبير والتبجيل الذي ذكره في ابن حجر، مع أن كل منصف يعلم أنه ليس أهلاً لذلك الوجه الثاني: يقال للنبهاني: إن صَدَرَ من مصنف "جلاء العينين" شيء من ذلك فالذي حمله عليه إنصافه ومزيد إطلاعه على أقوال الأئمة، وما ورد في الكتاب والسنة، والامتثال لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1 وما ورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من علمه الله علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نار". وهو لم يَمِلْ إلا إلى

_ 1 سورة آل عمران: 110.

الحق كما هو شأن أهل السنة، فإنهم يتبعون ما ورد ولا يصرفون النصوص إلى ما تهواه أنفسهم، بل يَرُدُّونَ المتشابهَ إلى المُحْكَمِ منها، وهذا من علائم أهل الحق الناجين يوم القيامة. وقد سبق بيان معنى السنة والبدعة، وذكرنا هناك من الأحق بالاتباع ومن المستحق أن. يكون من أهل الابتداع، ومصنف "جلاء العينين" كان ممن يعتقد أن الله واحد أحد، فرد صمد، لا يغيره الأبد، ليس له والد ولا ولد، وأنه سميع بصير، بديع قدير، حكيم خبير، علي كبير، ولي نصير، قوي مجير، ليس له شبه ولا نظير، ولا عون ولا ظهير، ولا شريك ولا وزير، ولا ند ولا مشير، سبق الأشياء فهو قديم بقدمها، وعلم كون وجودها في نهاية عدمها، لم تملكه الخواطر فتكيفه، ولم تدركه الأبصار فتصفه، ولم يخل من علمه مكان فيقع به التايين، ولم يعدمه زمان فينطلق عليه التاوين، ولم يتقدمه دهر ولا حين، ولا كان قبله كون ولا تكوين، ولا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال، ولا يدخل في الأمثال والأشكال، صفاته كذاته، ليس بجسم في صفاته، جل أن يشبه بمبتدعاته، أو يضاف إلى مصنوعاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلائق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا سمي له في أرضه وسماواته، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وعلمه محيط بالأشياء، والقرآن كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته غير محدث ولا مخلوق، كلام رب العالمين، في صدور الحافظين، وعلى ألسن الناطقين، وفي أسماع السامعين، وبأكف الكاتبين، وبملاحظة الناظرين، برهانه ظاهر، وحكمه قاهر ومعجزه باهر. وأن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وتجلى للجبل فجعله دكاً هشيماً، وأنه خلق النفوس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، والإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وأن مع كل عبد رقيباً وعتيداً، وحفيظاً وشهيداً، يكتبان حسناته، ويحصيان سيئاته، وأن كل

_ 1 سورة الشورى: 11.

مؤمن وكافر، وبر وفاجر، يعاين عمله عند حضور منيته، ويعلم مصيره قبل ميتته وأن منكراً ونكيراً إلى كل أحد ينزلان سوى النبيين، فيسألان ويمتحنان، عما يعتقده العبد من الإيمان، وأن المؤمن يخبر في قبره بالنعيم، والكافر يعذب بالعذاب الأليم، وأنه لا محيص لمخلوق من القدر المقدور، ولن يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله جل اسمه يعيد خلقه كما بداهم، ويحشرهم كما ابتداهم، من صفايح القبور وبطون الحيتان في تخوم البحور، وأجواف السباع وحواصل الطيور، وأن الله تعالى يتجلى في القيامة لعباده الأبرار، فيرونه بالعيون والأبصار، وأنه يخرج أقواماً من النار فيسكنهم دار القرار، وأنه يقبل شفاعة محمد المختار، في أهل الكبائر والأوزار، وأن الصراط حق تجوزه الأبرار، وأن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم حق يرده المؤمنون ويذاد عنه الكفار، وأن الإيمان هو قول باللسان، وإخلاص بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالأوزار، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأفضل المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين، وأفضلهم القرن الذين شاهدوه، وآمنوا به وصدقوه، وأفضل القرن الذين صحبوه أربع عشرة مائة بيعة الرضوان بايعوه، وأفضلهم أهل بدر نصروه، وأفضلهم أربعون في الدار كنفوه، وأفضلهم عشرة عزروه ووقروه، شهد لهم بالجنة، وقبض وهو عنهم راض، وأفضل هؤلاء العشرة الأبرار، الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة الأخيار، وأفضل الأربعة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليهم الرضوان، وأفضل القرون بعدهم القرن الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يتبعونهم، وأن نوالي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأسرهم، ولا نبحث عن اختلافهم في أمرهم، ونمسك عن الخوض في فكرهم إلا بأحسن الذكر لهم، ولا ندخل فيما شجر بينهم، اتباعاً لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1 ثبتنا الله تعالى على ذلك، وأدامنا على السلوك في أقوم المسالك.

_ 1 سورة الحشر:10.

هذا مما كان يعتقده مصنف "جلاء العينين" منذ ميز بين اليمين والشمال، وعرف الحرام من الحلال، إلى أن وضع في لحده، وهي بعض من عقيدة صنفها والده صاحب التفسير الشهير رحمه الله تعالى، فما الذي سوغ للنبهاني وأحل له أن يجعل من يعتقد هذه العقيدة من المبتدعة، ثم ما كفاه ذلك حتى حلف يميناً، وقال: إن صاحب "جلاء العينين" ليس من أهل السنة بل هو والله من أهل البدعة بسبب انتصاره لابن تيمية وعدم تجويزه الاستغاثة بغير الله ودعاء المخلوقين؟! وقد حنث في يمينه ووجب عليه الكفارة إن كان من أهل الإيمان والأيمان، مع أن ما هو عليه من الضلال البعيد، والغيّ الذي ليس عليه من مزيد، وما دل عليه شعره من غلوه وإلحاده،. ومسلكه الذي هو سالك فيه مدة حياته وعليه يموت، ينادي كل ذلك بأفصح لسان، على أنه قد خرج عن ربقة الإيمان، ومع ما هو عليه قد فتح فاه في ثلب أهل التوحيد، كالكلب عند التثاؤب وشتم خيار عباد الله، فسبحان إله الخلق ما أحلمه، وما أجل شأنه وأعظمه. الوجه الثالث أن من سلف من إخوانه كانوايقولون مثل مقالته، ويعتقدون أن ما هم عليه هو الحق، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} 1الآية، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 2. أخبر سبحانه في الآية الأولى أن كلاًّ من اليهود والنصارى يزعمون أنهم على الحق دون غيرهم من غير دليل ولا تحكيم للعقل تقليداً لأسلافهم، وهم يتلون الكتاب، وفيه أن الحق ما قام عليه الدليل واقتضاه البرهان، لا أنه بالدعاوي الكاذبة، وهكذا النبهاني وأضرابه من الغلاة يعتقدون أن الحق ما تلقوه عن أسلافهم، وما ورثوه عن مشايخهم وإن قام الدليل على خلافه.

_ 1 سورة البقرة 113. 2 سورة البقرة: 120.

والآية الأخرى دلت على أن اليهود والنصارى لا يرضون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن به، حتى يتبعون ضلالهم وغيهم الذي قامت الحجة على فساده، ودل البرهان على بطلانه، وهم لا ينظرون إلى ما يدل عليه الدليل، بل قلّدوا فيما هم عليه آباءهم، فأخبر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم أنه إن اتبع أهواءهم بعد ما حصل له من العلم واليقين- بأن ما هو عليه هو الحق وما عليه المخالفون هو الباطل- لم يكن له معين ولا ناصر، ولا ملجأ ولا وزير يدفع عنه ما يستحقه المعرضون عن الحق والزائغون عن الصراط المستقيم. وهكذا النبهاني لا يرضى عن كل من خالف باطله وضلاله، واتبع الحق الصريح الذي دل عليه كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، حتى يتّبع إلحاده وزيغه الذي دل على فساده ما يزيد على ألف دليل، مع أن الحق أحق بالاتباع، ورضى الله ورسوله مقدم على رضى أعدائه وخصوم دينه، فلا بدع إذا شتم النبهاني أهل الحق وعبر عنهم بالعبارات الفظيعة، فإن له سلفاً بذلك، ولله در من قال: إذا رضيت ص عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليّ لئامها الوجه الرابع: أنه قال: والأرواح جنود مجندة، فروحه هي من أجناد روح ابن تيمية فلا تأتلف مع أرواح هؤلاء الأئمة الأعلام، ولذلك كان منه في حقهم ما كان مع كونهم في جانب تعظيم جده الأعظم صلى الله عليه وسلم، وإمامه ابن تيمية بعكس ذلك، ولكن الشرف والحسب لا يغني عن العلم والأدب ... إلى آخر عبارته التي لا يتكلم بمثلها صغار الطلبة. فنقول: إن ما ذكره في هذا المقام كلمة حق أريد بها باطل، وذلك أن الله تعالى قال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} 1. ومعنى الآية على ما في التفسير: ومن يطع الله بالانقياد لأمره ونهيه،

_ 1 سورة النساء: 69-. 7.

والرسول المبلّغ ما أُوحِيَ إليه منه باتباع شريعته والرضا بحكمه "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه "من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين". وفي الحديث: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل بهذه الآية1. ومعنى الصدّيق والشهيد والصالح مفصل في التفسير. وفي الآية فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما تنتهي إليه همم الأمم، وأرفع ما تمتد إليه أعناق أمانيهم، وتشرئب إليه أعين عزائمهم، من مجاورة أعظم الخلائق مقداراً، وأرفعهم مناراً، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة، ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة، بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما، ومنهم من قال لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا

_ 1 أخرجه الطبراني في " الأوسط" (6/ 16/ 3308- مجمع البحرين) وفي "الصغير" (1/ 26) أو رقم (52- بتحقيقي) والواحدي في "أسباب النزول" (ص 166- ط. الحميدان) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 240) . من طريق: أحمد بن عمرو الخلال المكي، ثنا عبد الله بن عمران العابدي، ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/7) : "رجاله رجال الصحيح؛ غير عبد الله بن عمران العابدي، وهو ثقة". وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "العجاب في بيان الأسباب " (2/ 914- ط. ابن الجوزي) :" رجاله موثقون". وصححه العلامة أحمد شاكر- رحمه الله- في "عمدة التفسير" (3/ 217) . وأورده العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي- رحمه الله- في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص80) .

يرى أنه أرغد منه عيشاً، ولا أكمل لذة، لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصاً في ملكه أو حطاً من قدره. وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون. والشيخ ابن تيمية- قدس الله روحه من أكثر الناس طاعة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه كتبه، ككتاب "الصارم المسلول" وغيره، حتى أنه كابد ما كابد من خصومه في الله سبحانه، هذا مع ما كان عليه من التقوى والزهد والورع الذي شهد له به خصومه، وهكذا أصحابه وتلامذته رضي الله تعالى عنهم، وقد شهد له كبراء الأمة أنه كان من أكابر المجتهدين، ومن أئمة الدين، ومن أخيار المسلمين، وخواص المؤمنين على ما سنذكر ذلك في مناقبه، وفي الحديث "أنتم شهداء الله في أرضه"1. فمن المرجو من لطف الله تعالى وفضله أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم، وكذلك حديث الجنازة التي مرت فأثنوا عليها خيراً فقال صلى الله عليه وسلم: "وجبت " يؤكد هذا الرجاء. فمصنف "جلاء العينين" يرجى له أن تكون روحه مع روح هذا الرجل الذي أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه أيضاً كان ممن أطاع الله وذب عن دينه، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأوذي حياً وميتاً من أعداء الدين وخصوم الموحدين، ومنهم هذا النبهاني عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه القويم. والحديث الذي ذكره رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"2. قال الخطابي في بيان معنى هذا الحديث- على ما ذكر في "فتح الباري"-3 يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر، والصلاح والفساد، وإن الخير من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير

_ 1 تقدم الحديث في الجزء الأول. 2 أخرجه البخاري في "صحيحه" (3336) - معلقاً- ووصله في الأدب المفرد (900) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه مسلم (3638) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 3 الفتح (6/426) .

ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت. قال: ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خُلِقَتْ قبل الأجسام، وكانت تلتقي فتتشام، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم ". قلت: القول بتقدم خلف الأرواح على الأجساد غير مرضي عند العهد المتقدم ". قلت: القول بتقدم خلق الأرواح على الأجساد غير مرضي عند السلفيين فلا التفات لهذا الاحتمال. وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين، ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت حسبما خلقت عليه الأرواح في الدنيا. قال الحافظ العسقلاني: "ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا لأنه محمول على مبدأ التلاقي فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسباً لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء، وقوله: "جنود مجندة" أي: أجناس مجنسة، أو جموع مجمعة. قال ابن الجوزي: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضى لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه. وقال القرطبي: الأرواح هان اتفقت في كونها أرواحاً لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة، ولذلك تشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر، وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها" انتهى. فتبين مما ذكر في معنى الحديث: أن روح النبهاني الخبيث، لم تتعارف مع

أرواح أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وحفاظ الحديث، المتبعين للسنن المعادين للبدع والأهواء، المعرضين عن الدنيا وزخرفها، الطالبين وجه الله ورضاه، وهم أهل الأرواح الطيبة الطاهرة، فكانت مما تناكر، فلذلك خالفهم وعاداهم وشحن كتابه بثلبهم وسبهم، وكيف تتعارف روحه الخبيثة مع تلك الأرواح الطيبة وقد صرف عمره في الأحكام الطاغوتية، وترويج الأمور الشيطانية، والميل إلى الظلمة والمجرمين، ومعاداة المسلمين، والله تعالى يقول حكاية عن بعض أصفيائه. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} 1. وقد قال بعض أهل الفضل والتقوى: على العالم أن يتصف بالحلم والزهد والقناعة بالقليل وترك الدنيا، لأن، ذلك سيرة الأنبياء، وهو اللائق بحال العلماء، فإن كثيراً من النصوص مشتملة على ذم الدنيا وطلبها، فطلبها للعالم زيادة على الكفاية جمع بين المتنافيين، وإغراء للعامة على الانهماك فيها، وأن يقتصر في حاجته على قاضي الحوائج، المعطي على التحقيق، الذي بيده مقاليد السموات والأرض، كيف وقد تكفل بالرزق قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 2. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3. وأن يكون بعيداً من ولاة الأمور داعياً لهم بالنصر والتأييد والعدل والتوفيق، وبعيداً من الظلمة لأن قرب العالم منهم والتردد إليهم لأجل السحت وتحسينه لهم ما هم عليه فتنة له ولهم ولغيره. ولما خالط الزهري ولاة الأمور كتب إليه صديق له من العلماء يقول:"عافانا الله وإياك من الفتن، ونجّانا وإياك من المحن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت، أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً،

_ 1 سورة القصص: 17. 2 سورة هود: 6. 3 سورة الطلاق: 2-3.

ولم يترك باطلاً، حتى قربك وأدناك، وأكرمك وواساك، اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلماً يتوصلون بك إلى ضلالتهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويصطادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا منك في جنب ما خربوا عليك، وما أدنى ما أصلحوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يشك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} 1 فإنك تعامل من لا يهمل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم شديد، وهي زادك فقد حضر السفر البعيد، ولا يخفى على الله من شيء وهو الحفيظ المجيد" انتهى. والنبهاني الضليل ليس من أولئك والقبيل، بل خسته مشهورة، ودناءته مذكورة، مع ما ضم إلى ذلك الضلال من العقائد الفاسدة في الإله عز اسمه، حيث أنه ممن قلد القائلين بالحلول والاتحاد، والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم حتى اعتقد فيه أنه موجود في كل زمان ومكان، والإغراء على دعاء غير الله والالتجاء إلى ما سواه، وكل ذلك من متفرعات القول بوحدة الوجود، فإن القائلين بها لم يخطئوا عبدة الأصنام في عبادتها، وكل كلام الله تعالى ينطبق على كلام غيره، فعندهم أن ما تكلم به الإنسان نظماً أو نثراً فهو كلامه، وعليه قول الشيخ محيي الدين: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه فلا شك أن روح النبهاني الخبيثة من جنود هذه الأرواح، وقد تعارفت مع أرواح الغلاة فأتلفت وتناكرت مع أرواح الأصفياء الطاهرة المقدسة فاختلفت، فالحديث كما يصدق على خصمه فهو صادق عليه. أفلا يستحي من هذا حاله، ووصفه واعتقاده، وجهله وضلاله، أن يخاصم أهل الحق، وفرسان العلم، وأئمة الإسلام، وبحور الفضل، وورثة الأنبياء، وهو ليس من قبيل هؤلاء الرجال، بل ولا ممن يعد في صف النعال، وقد حمله شيطانه

_ 1 سورة مريم: 59

على إلقاء نفسه في هذه المهالك، وقاده إلى هذه المعارك، وما أحسن ما قال القائل: ولقد أقول لمن تحرش بالهوى ... عرضت نفسك للبلا فاستهدف وقال آخر: أقول لمحرز لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام ثم إن قوله: مع كونهم في جانب تعظيم جده.. إلخ. جوابه: أن تعظيم جده إنما يكون بالذب عن شريعته، والمحافظة على سنته لا بمخالفته فيما أمر به ونهى عنه، فهذا هو العصيان وعدم المحبة، قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1. وتعظيمه وتوقيره إنما يكون بالإتباع لا بالابتداع، ولا بمخالفة ما جاء به هو وغيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام من المحافظة على التوحيد وعدم إثبات خصائص الألوهية لغير الله، ألا ترى أن الفاطميين من العبيديين كانوا يزعمون أنهم من العترة فلما أحدثوا ما أحدثوا وابتدعوا ما ابتدعوا خرجوا عن دينه وصاروا من أعدائه بسبب الإعراض عن شريعته، على أن الحق يقبل من أي شخص كان، فالنظر إلى ما قاله القائل لا إلى القائل، ومما ينسب إلى الإمام علي كرم الله وجهه: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال. والله عز اسمه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. فالبيت الذي أورده هو صادق عليه لا على مصنف "جلاء العينين" فقد كان رحمه الله هاشمياً علماً وعملاً وقولاً وفعلاً. وباهلة من قيس عيلان، وهو في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها، وقولهم باهلة بن أعصر،

_ 1 سورة آل عمران: ا 3. 2 سورة الحجرات: 13.

إنما هو كقولهم: تميم بنت مر. فالتذكير للحي، والتأنيث للقبيلة سواء كان الاسم في الأصل لرجل أو لامرأة. وفي كتب الحنفية: وقريش بعضهم أكفاء بعض، ولا تفاضل فيما بينهم من الهاشمي والنوفلي والتيمي والعدوي وغيرهم وبقية العرب بعضهم أكفاء بعض، فالباهلي كفو للتميمية والطائية والقيسية وغير ذلك. فالنبهاني المخذول إن كان منتسباً لنبهان بن جرم بن عمر بن الغوث، وبنو نبهان بطن من طي، فليس لقبيلته فضل على بني باهلة، بل هم سواء في نظر الشرع والعقل، هذا إن سلم له دعوى هذا النسب. وإن قلنا إنه نبطي من أنباط الشام، أو من الجرامقة- كما هو الظاهر- وأن النسبة إلى نبهان جبل مشرف على حق عبد الله بن عامر بن كريز ويتصل به جبل رنقاء إلى حائط عوف، فلا خفاء في كونه حينئذ أخس بني آدم، فضلاً عن أن يكون أخس العرب. والمقصود أن النبهاني على كلا النسبتين لا رجحان لقومه على بني باهلة، ومن جعل بني باهلة أخس العرب، وأنهم ليسوا كفواً للعرب، فهو غالط فإن النص الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تفصيل فيه، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم، وقد أطلق وما رموا به إن صح عنهم، فليس بعيب شرعي، كما أن التعبير بشرب ألبان الإبل وأكل لحومها كذلك كما قال شاعرهم: تعيرنا ألبانها ولحومها ... وذلك عار يا ابن ريطة زائل وكما كانت تعير قريش بالسخينة، وهو طعام كانوا يتخذونه أيام الجدب، وكل ذلك بسبب ما كانوا عليه من الجاهلية، وإلا فالعيب هو الذي يجعله الشرع عيباً، كالعيوب التي كانت في بني نبهان منها عبادتهم للفلس، وهو صنم لهم كان بنجد قريباً من فيد، وكان سدنته بني بولان، وهم وبنو نبهان أبناء عم، وكانوا يعبدونه ويهدون إليه ويعترون عنده عتائرهم، ولا يأتيه خائف إلا أمن، ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها إليه إلا تركت ولم تخفر حويته، وبولان ابن عم نبهان هو الذي بدا بعبادته، فلم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليه

علي بن أبي طالب فهدمه، وأخذ سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان قلده إياهما، يقال لهما مخذم ورسوب، وهما اللذان ذكرهما علقمة بن عبدة، فقدم بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلقد أحدهما ثم دفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فهو سيفه الذي ط ن يتقلده. ولهم أصنام أخرى ليس هذا المقام موضع ذكرها. والمقصود أن بني نبهان وبني باهلة كانوا على منهج واحد، فما يذم به أحدهما يذم به الآخر، بل ربما كان في بني باهلة رجال أكابر، تعقد عند ذكرهم الخناصر، في العلم والدين والشجاعة والفروسية وغير ذلك من الشيم والسخاء والكرم، ولم يكونوا في الجاهلية جميعاً معروفون بالخساسة، بل فيهم الأجواد رفيعوا العماد، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ذلك لا يسري في حق الكل، فتعبير القبيلة بعيب صدر عن واحد منهم من خصال الجاهلية، كما عيروا بني فزارة بما فعل واحد منهم فعلاً منكراً فقال قائلهم: لا تأمنن فزارياً خلوت به ... على قلوصك واربطها بأسيار هذا كله إن قلنا بصحة النسب إلى نبهان الطائي، وصدقنا دعواه الكاذبة، وإن قلنا إنه نبطي منسوب إلى ذلك فبنو باهلة أفضل منه وأشرف في الحسب والنسب، بل في الدين والأدب. ومنها ما قاله في صاحب "جلاء العينين" أيضاً: وليس حكمه على ابن حجر فقط والسبكي وابنه بل على جميع أهل السنة والجماعة، من الشافعية، والحنفية، والمالكية، وجمهور الحنابلة أيضاً، ومن طالع كتابه هذا بإنصاف يعلم يقيناً أنه أخطأ فيه حق نفسه وحق أبيه وحق المسلمين عموماً وسيد المرسلين خصوصاً، وأنه لوث نفسه بأقذار البدع الوهابية التي لا يغسلها عنه بحار الدنيا إلى يوم القيامة، وكما آذى نفسه بذلك أشد الأذى آذى كل من اطلع على كتابه من المسلمين أهل المذاهب الأربعة- حتى المنصفين من الحنابلة- بذمهم إياه، وخوضهم في عرضه ما بقيت الدنيا وبقي فيها هذا الكتاب، نعم قد استعاض عن

ذلك برضا صديق حسن عنه وطائفته الوهابية فهذا هو ربحه من تلبيسه على المسلمين بهذا الكتاب، وتوهيمهم أن ما عليه ابن تيمية وطائفته من البدعة الشنيعة في مسألة الزيارة والاستغاثة وغيرهما مما خالفوا به أهل السنة هو الحق، وتطاوله على أئمة المسلمين مثل السبكي وابنه وابن حجر، إلى قوله: هذا لعمري مما لا يختاره عاقل لأخيه فضلاً عن نفسه وأبيه. فيقال للنبهاني: هذا مبلغ علمك، دأبك تكرير هذيانك، وقد أجبنا عن ذلك كله في غير موضع من هذا الكتاب، مع كونه صرير باب، أو طنين ذباب، بل إنه أشبه شيء بنبح الكلاب، وقلنا: إنه لم بحكم على من ذكرهم بحكم، بل نقل ما كان بين الفريقين وما ذكره أهل العلم الأكابر وأئمة المسلمين في المسائل التي تنازعوا فيها، ولو لم يصنف صاحب "جلاء العينين" كتابه هل كانت تبقى تلك المسائل مجهولة لأهل العلم والأفاضل المدققين، ألم تكن هذه المسائل مفصلة في الكتب ومذكورة فيها على أتم وجه؟ هذا كتاب "القول الجلي" الذي صنفه السيد صفي الدين قبل أن يخلق صاحب "جلاء العينين" بمدة من السنين قد اشتمل على جميع ما اشتمل عليه "جلاء العينين" إجمالاً. وكذلك "الدرة المضية" وكذلك "الرد الوافر" للحافظ ابن ناصر الدين الشافعي، وكذلك "إفاضة العلام" من مصنفات الشيخ إبراهيم الكوراني "ومسلك السداد" له، إلى غير ذلك من الكتب المصنفة في هذا الباب قديماً وحديثاً، فلم لم يذكر النبهاني تلك الكتب ومصنفيها، وما الذي حمله أن يتخذ "جلاء العينين" ومصنفه سبابة المتندم وأكثر عليه الهياط والمياط، حتى يتخيل للناظر في كلامه هذا أن السماء انفطرت، وأن الكواكب قد انتثرت، وأن القبور بعثرت، وأن الوحوش حشرت، فما هذه المسائل التي ذكرها مصنف "جلاء العينين" وقد قامت على النبهاني منها قيامته الكبرى؟ وما أهمية زيارة القبور والاستغاثة بالموتى حتى يقام لها ويقعد، ويهاج ويعربد؟ وما أرى ذلك إلا من مزيد الحسد، ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله، ومن الحري أن ينشد على لسان صاحب "جلاء العينين": إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد ثم إن قوله ومن طالع كتابه هذا بإنصاف يعلم يقيناً أنه أخطأ فيه.. إلخ. مردود؛ فقد طالعه كثير من أهل الفضل المنصفين فاستصوبوه، وأثنوا عليه، وعرفوا الحق الذي فيه، وحسنوا ظنهم بأئمة المسلمين وخيار المؤمنين، ودعوا له ولوالديه ولمن نشر كتابه، واستفادوا الفوائد التي لم يكونوا عارفين بها ولا واقفين عليها، وعدوا ذلك خدمة للمسلمين عموماً ولسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم خصوصاً، حيث ذب عن دينه وشريعته الغراء ما كدر صفوها، وأماط الأذى عنها، وقالوا كما قال الإمام أحمد نصر الله وجهه1: " الحمد لله الذي جعل في كل زمان قترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدّعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله عز وجل الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين" انتهى. فانظر أيها المنصف إلى وصف الجاهلين الذي في هذه الخطبة، وطبقه على ما يقوله النبهاني تجد الإمام نضر الله وجهه كأنه قد عناه وقصده بلفظه ومعناه، وفي الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"2. وإني قد طالعت كثيراً من كتب هؤلاء الغلاة الجهلة ولم أر فيها كالهذيان الذي هذى به هذا الزائغ، ومع ذلك رددتها بتوفيق الله، وشفيت منها صدور المؤمنين، وكلام هذا الزائغ ظلمات بعضها فوق بعض، فكل ما كتبته عليه من الرد

_ 1 في مقدمة كتاب "الرد على الزنادقة والجهمية". 2 تقدم تخريجه.

أراني قد أتيت بقليل من كثير ما استوجب، فالله المستعان عليه. وقد تذكرت عند وصولي إلى هذا المقام ما كان يقوله سلف النبهاني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت ذكره هنا، وإدراجه في الكتاب، ليعلم الناظر البصير أن أعداء الحق في كل عصر على وتيرة واحدة، وقلوبهم متشابهة فيما يرد عليها من الخواطر والشؤون. ألا إنما الأيام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلها أخوات فلا تطلبن من عند يوم ولا غد ... خلاف الذي مرت به السنوات روى الإمام أحمد من حديث- محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحي بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال قالت له:"ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته، قال: حَضَرْتُهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحِجْرِ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، قد سَفَّهَ أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّقَ جماعاتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم- أو كما قالوا- فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه تتعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: تسمعون يا معشر قريش؛ أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف انصرف يا أبا القاسم؛ انصرف راشداً فوالله ما كنت جهولاً. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به، يقولون له: أنت الذي يقول كذا وكذا، لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم؟ قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك. قال:

فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه وقام أبو بكر الصديق دونه يقول- وهو يبكي- أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه1. وعن الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: "أراد صاحب اليمن أن يؤوي النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه الوليد فزعم أن محمداً ساحر، وأتاه العاص بن وائل فأخبره أن محمداً تعلم أساطير الأولين، وأتاه آخر فزعم أنه كاهن، وآخر أنه شاعر، وآخر زعم أنه مجنون، فأهلكهم الله، كل منهم أصابه عذاب سوى عذاب صاحبه" وذكر تفصيل عذابهم. والكلام على ما كابد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم من مشركي العرب مذكور في غير هذا الموضع، وقد نصره الله عليهم، وانتقم منهم كما ينتقم من أعداء ورثته والعاملين بسنته ويهلك خصومهم، كالنبهاني وغيره من الغلاة الذين هم على طريقة أسلافهم عبدة الأصنام، وعلى مسلكهم المذموم، وفي كتب السير قد بين ما أصاب أعداء الرسول من البلاء المبين، قال الشيخ قد كتابه (الجواب الصحيح2: "ويدخل في هذا الباب ما لم يزل الناس يرونه ويسمعونه من انتقام الله ممن يسبه ويذمه ويذم دينه بأنواع من العقوبات، وفي ذلك من القصص الكثيرة ما يضيق هذا الموضع عن بسطه، وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه؛ من انتقام الله ممن يؤذيه بأنواع من العقوبات العجيبة، التي تبين كلاءة الله لعرضه، وقيامه بنصره، وتعظيمه لقدره، ورفعه لذكره، وما من طائفة من الناس إلا وعندهم من هذا الباب ما فيه عبرة لأولى الألباب. قال: ومن المعروف المشهور المجرّب عند عساكر المسلمين بالشام إذا حاصروا بعض حصون أهل الكتاب أنه يتعسر عليهم فتح الحصن ويطول الحصار إلى أن يسب العدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يستبشر المسلمون بفتح الحصن وانتقام الله من العدو، فإنه يكون ذلك قريباً، كما قد جربه المسلمون غير مرة، تحقيقاً لقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} . ولما مزق كسرى كتابه مزق الله ملك الأكاسرة كل ممزق،

_ 1 أخرجه البخاري (2856) وأحمد (1/104) . (1/195-196) .

ولما أكرم هرقل والمقوقس كتابه بفي لهم ملكهم" انتهى. فها نحن ننتظر انتقام الله تعالى من النبهاني وأضرابه الغلاة، فقد عادوا أهل الحق ورثة نبيهم صلى الله عليه وسلم وحفاظ دينه، وأن يعاملهم بعدله، فقد أساؤوا القول فيهم، وافتروا عليهم، ورموهم بالعظائم، ولا باعث لذلك سوى الدعوة إلى الله وتوحيده وإفراده بالعبادة، والنبهاني منهم يقول إن كل ذلك ليس من خصائص الإله مع كونه من أعداء الله ورسوله، حيث خالف الشريعة الغراء، وصرف شطراً من عمره في حكمه بالقوانين المخالفة لما شرعه الله تعالى، مع ما اتصف به من المساوي والمنكرات. ومنها أنه قال:، وقد لعقري آذى أباه وعقه بتلك النقول التي كان الناس عنها في غفلة، لأنها مفرقة في تفسيره فجمعها في كتابه مفتخراً بها، ومثبتاً عند صديق حسن وطائفته أن أباه هل! أيضاً على مذهبهم ومشربهم في ذلك، وقد سمعت بسبب هذا- من بعض علماء مكة- كلاماً فظيعاً في حقه وحق أبيه" إلى آخر ما قاله في هذا الباب. فيقال له: إن ما ذُكِرَ في "روح المعاني" من المسائل التي خالف فيها الغلاة أهل الحق- كمسألة دعاء غير الله، والالتجاء إلى ما سواه، والحلف بغيره، والنذر لغيره، ونحو ذلك مما هو من خصائص الإله المعبود- هي مذكورة صريحاً في القرآن العظيم، وكتب الحديث الصحيحة، ومصنفات الأئمة طافحة بها، وكذلك مسألة الكلام والعلو وسائر ما ورد من الصفات فيها كتب كثيرة، ومصنفات شهيرة- على ما سبق بيانه، ومضى دليله وبرهانه- فصاحب "جلاء العين" ذكر منها نبذة يسيرة، والمسائل التي فاتته منها كثيرة، و "روح المعاني" ليس منفرداً بذكر ما قام على صحته الحجج القطعية، والبراهين العقلية والنقلية، ومن طالع البيضاوي، والكشاف، وتفسير ابن جرير، وغير ذلك؛ يجد الأمر واضحاً كفلق الصباح، ولولا أن يطول الكتاب لنقلنا كل ذلك، غير أن هذه التفاسير تتداولها الأيدي، والمنصفون من أهل البصائر يحلمون ذلك، فمصنف "جلاء العينين" لم يعق والده، بل نشر فضله وسعى في انتفاع الناس به، وأنه سلك مسلكه في حب

انتفاع إخوانه المسلمين ونصيحتهم. بابه اقتدى عدي في الكرم ... ومن يشابه أبه فما ظلم وقد كان صاحب "روح المعاني" رحمه الله تعالى سلفي الاعتقاد مشاراً إليه بالبنان في العلم والعمل من بين علماء الأقطار والبلاد، وقد رأيت له رسالة بخطه ألفها في بيان عقيدته ومذهبه، وكيفية اشتغاله وإجازاته في العلوم العقلية والنقلية، وتراجم من أخذ عنهم العلم، وترجمة أئمة مذهبه الإمام الشافعي والإمام الأشعري رحمهما الله تعالى، وبين فيها- بعد أن ذكر عقيدته التي تلقاها من الكتاب والسنة وادعى أنها عين اعتقاد الإمام الأشعري- أن اعتقاد الإمام الأشعري لا يخالف ما عليه الإمام أحمد رحمه الله، ونص عبارته: "فإن قلتَ: ليس جميع ما ذكرته مذهب الإمام الأشعري كفا يفصح بذلك تتبع الكتب، بل هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ قلت: مذهب الإمام الأشعري عند المحققين والعلماء المنصفين هو مذهب الإمام، كما يبين ذلك كتابه "الإبانة في أمور الديانة" وهو آخر كتاب صنفه وعليه تعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه. قال فيه: "فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة" فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرّفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها؛ التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل- نضّر الله وجهه ورفع درجته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله تعالى به الحق، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله تعالى عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفخم.

وجملة قولنا: أنا نقر بالله تعالى، وملائكته، وكتبة، ورسله وبما جاء من عند الله تعالى، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئاً، وأنه واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 2 وأن له يدين بلا كيف كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 وأن له يدين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 4 وأن من زعم أن أسماء الله تعالى غيره كان ضالاً، وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب، وأن القلب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه يضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل، ونصدق بجميع الروايات التي رواها وأثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: "هل من سائل؟ هل من مستغفر"؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لأهل الزيغ والتضليل، ونقول إن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 5 وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6 وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 7. انتهى ملخصاً. قال صاحب "تفسير روح المعاني" رحمه الله: "وقد ذكر ابن عساكر في كتابة

_ 1 سورة طه: هـ. 2 سورة الرحمن: 27. 3 سورة المائدة:64. 4 سورة القمر: 14. 5 سورة الفجر: 22. 6 سورة ق: 16. 7 سورة النجم: 8- 9.

"تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام الأشعري" ما يقرب من ذلك وإن لم يكن بلفظه، ثم قال عقبه: هذا ما عليه إمامنا الأشعري ومتقدموا أصحابه، لكن كثرت المقالة بين متأخري الأشاعرة والحنابلة حتى أدى ذلك إلى تضليل كل من الفريقين صاحبه، وذلك في مسائل تمسكت فيها الحنابلة بظواهر الكتاب والسنة كالاستواء والنزول والقدم والوجه والعينين وغير ذلك من أحاديث الصفات، قال: ولقد أجاد ولي الله بلا نزاع، وحامل لواء الشريعة والحقيقة بلا دفاع؛ الملا إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكوراني الشهراني الشهرزوري الكردي نزيل المدينة الشافعي بالفحص عن كل ما ينسب إلى الحنابلة، فجمع رسائل عديدة وكتباً مفيدة وطالعها ودقق النظر فيها، ثم ألف رسالة في ذلك، وقال فيها: لما أمعنت النظر في رسائل القوم ومصنفاتهم وجدتهم برآء من كثير مما رمتهم أصحابنا الشافعية من التجسيم والتشبيه، وإنما القوم متمسكون بمذهب كبراء المحدثين، كما هو المعروف من حال إمامهم رضي الله تعالى عنه من إبقاء الآيات والأحاديث على ظواهرها، والإيمان بها كذلك، مفوضون فيما أشكل معناه، وهذا لا يذمه أحد من الأشعرية، بيد أن الحنابلة مشددون في رد التأويل في كل ذلك، مجهلون من يذهب إليه، فيقولون: الله تعالى ورسوله وسلف الأمة أدرى بمعاني الآيات والأحاديث من هؤلاء المؤولين، وما ورد عنهم أنهم أولوا شيئاً من ذلك، فإما أن يكون ذلك لأن معناه خفي عليهم فكيف ظهر لهؤلاء ما خفي على أولئك؟ وإما لأنها على ما يظهر من معناها لأن الشرع جاء بلغة العرب فمراد الله تعالى بهذه الألفاظ هو المعاني التي تريدها منها العرب في لغتهم، وتطلق بحسب ما يليق به، فالمراد بالاستواء والفوق والنزول معانيها المقصودة في كلام العرب، فإذا قلت: زيد فوق السرير" فمعناه مستقر عليه متمكن منه مستعل، ولما علمنا أن زيداً جرم من الأجرام والسرير كذلك تحقق لنا أن الفوقية في حقه واستقراره فوق السرير يوجب مماسته له، وتحيزه في جهة من جهاته، وغير ذلك من الأوصاف التي توجب استقرار جرم على جرم، وأما المولى جل جلاله فماهية ذاته غير مدركة لأحد من الخلق فكيف يقال بأن استقراره فوق العرش يوجب مماسته له وتحيزه في

جهة لأن ذلك استقرار الجسم؟ وأما استقرار من ليس بجسم فلا نحكم بأنه يوجب كذا وكذا حتى نعلم ماهيته، والماهية غير معلومة، فنثبت له استقراراً حقيقياً فوق كل عرشه، لأنه أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على وجه يليق بذاته، ويقتضيه كمال صفاته، وكذلك يقولون في النزول ونظائره ". قال: وقد بالغ ابن القيم عفا الله تعالى عنه ورحمه في الرد على أئمتنا الأشعرية في مثل هذا وأتى بعبارة سوء، حتى قال: "لام الأشعرية كنون اليهودية" ولقد أساء سامحه الله تعالى في الخطاب، وتنكب بمحض العصبية عن الصواب، لأن الأشعرية لم يجحدوا استوى، بل به يقرؤون وإلى الله عز وجل يتقربون، ولكن بعضهم أوَّلَ المعنى لما رأى الظاهر منه محالاً على الله تعالى، فقال: معنى استوى استولى لورود اللفظين معاً في لغة العرب، وأمثال هذه التعصبات الفاسدة هي التي أوقعت الفريقين فيما وقعوا فيه، وإلا فالكل على هدى إن شاء الله تعالى، لأن المفوض مسلّم لمراد الله تعالى تارك لما لم يكلف بعلمه1، والمتأول متّبع لما علم صحته وثبوته من الكتاب والسنة، حامل عليه ما لم يتضح معناه حتى تكون العقيدة كلها على نسق واحد، ولا يسوغ إلى فهم القاصر معنى لا يليق بالرب فيثبته له، فالتأويل لأجل هذا حسن2 حراسة عن اعتقاد ما لا يجوز اعتقاده، فإذا سمع قاصر الفهم استوى لم يتبادر إلى فهمه إلا المعنى المستحيل، فإذا سمع قول العالم معناه استولى عليه بالقهر والغلبة زالت تلك الشبهة من قلبه، وهذا الذي أولنا به الاستواء وإن لم يكن هو مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو لا شك معنى ثابت لله متصف به لا ينافي ما هو معناه عند الله تعالى، فلا كبير ضرر في ذلك ولا تحكم، إذ لم نقل ليس له معنى إلا هذا، بل نقول يحتمل أن يكون معناه هذا وهذا صدق، لأنه محتمل كما لا يخفى. وقال أيضاً: ولقد اطلعت على رسالة للشيخ ابن تيمية وهي معتبرة عند

_ 1 في هذا الكلام نظر؛ فتنبه. 2 بل هو سيىء؛ لأنه ليس من عمل الصحابة ولا هديهم، ولا هو من فعل الأئمة التابعين وأصحاب المذاهب والحديث من بعدهم، فكيف يكون حسناً؟!

الحنابلة، وطالعتها كلها فلم أر فيها شيئاً مما ينبذ ويرمى به في العقائد سوى ما ذكرنا من تشديده في رد التأويل، وتمسكه بالظواهر مع التفويض والمبالغة في التنزيه، مبالغة يقطع معها بأنه لا يعتقد تجسيماً ولا تشبيهاً، بل يصرح بذلك تصريحاً لا خفاء فيه، والعجب ممن يترك صريح لفظه بنفي التشبيه والتجسيم ويأخذ بلازم قوله الذي لا يقول به ولا يسلم لزومه، وعلى كل حال فهو كما قال كثير من المشائخ في الشيخ محيي الدين، قال سيدنا العلامة الشيخ عبد الله بن محمد العياشي وكثيراً ما كنت أسمع من شيخنا العلامة سيدي عبد القادر رضي الله تعالى عنه يقول: محكم كلامه يقضي على متشابهه، ومطلقه يرد إلى مقيده، ومجمله إلى مبينه، ومبهمه إلى صريحه، كما هو شأن كل كلام ظهرت عدالة صاحبه. فالحنابلة مبرؤون مما نسب إليهم، وكذا الأشعرية أيضاً منزهون مما يرمون به من التعطيل والتحريف لكلام الله تعالى عن مواضعه، والكل على هدى يدينون دين الحق، والمخالفون شرذمة قليلة لا يعبأ بهم، كما قال الشيخ تاج الدين السبكي في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم". ثم نقل كلامه إلى آخره، انتهى كلام الكوراني. وقال بعد أن فرغ عق نقلة: وأقول من أراد أن يشرح صدره، ويتبين له تبيناً لا مراء فيه صحة مذهب الأشعرية، وأنه مذهب أهل السنة والجماعة؛ فليطالع كتاب الإمام أبي القاسم ابن عساكر المسمى "بتبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري" فقد أتى فيه من أدلة الكتاب والسنة وأقاويل السلف والخلف مالا يمتري معه عاقل خال من التعصب أنه إمام السنة ورئيس الجماعة المضمون لها العصمة من الله تعالى. ثم نقل صاحب "روح المعاني" في رسالته كلام الكوراني في الثناء على عقائد الأشعري وأنه على ما عليه السلف، وأطال الكلام في ذلك إلى أن قال: ولولا خوف السآمة وحذر الملامة لأتيت في هذا المقام بما يبرىء الكلام، ويروي الأوام، ولكن ما كل ما يعلم يقال، ولكل زمان دولة ورجال، بل لعمري فيما

ذكرنا كفاية للمسترشدين، وهداية للمستهدين، وأما الذين هووا في مهاوي الجهل، وعقلوا بعقال الحسد والتعصب عن التمسك بزمام العقل، واشتغلوا بالأغراض واغتروا بالأعراض، فلا ينفعهم اختصار ولا إطناب، ولا كتاب ولا خطاب، فليس لدائهم من دواء إلا السيف والدعاء. الحمد لله هذي العين لا الأثر ... فما الذي باتباع الحق ينتطر وقت يفوت وأشغال معوقة ... وضعف عزم ودار شأنها الغير والناس ركضى إلى مهوى مصارعهم ... وليس عندهم من ركضهم خبر تسعى بها خادعان من سلامتهم ... فيبلغون إلى المهوى وما شعروا والجهل أصل فساد الناس كلهم ... والجهل أصل عليه يخلق البشر وإنما العلم عن ذي الرشد يطرحه ... كما عن الطفل يوماً تطرح السرر وأصعب الداء داء لا يحس به ... كالدق يضعف حساً وهو يستعر وإنما لم تحس النفس موبقها ... لأن أجزاءه قد عمه الضرر هذا ما نقلناه من رسالة صاحب تفسير "روح المعاني". وبه يرغم أنف الزائغ النبهاني، حيث تبين به أن الإمام الأشعري على ما عليه السلف، وأن من خالفه من المنتسبين إليه قد غير وحرف، فمصنف "جلاء العينين" إن وافق والده في تلك العقيدة السالمة من وصمة البدع فقد وافق الحق الحقيق بالقبول واتبع، غير أن النبهاني لجهله وإفلاسه من كل فضل يرى أن الحق لم يعده وأن ما هو عليه هو الفصل والعدل. وأما قوله: وقد سمعت بسبب هذا من بعض علماء مكة كلاماً فظيعاً في حقه- إلخ. فيقال له: عنه وعن والده هذا الكلام مردود من وجوه: الوجه الأول: أنا نستفسر من النبهاني هذا ونسأله على فرض صدق كلامه وصحة نقله ونقول له من سلم من لسان الورى، ومن أمن معرة كلام الناس، ومن

الذي اتفق على محبته وموالاته جميع الأنام؟ هذا إله العالمين وخالق السموات والأرضين قد حكى في كتابه الكريم عن أعدائه وما تقوّلوا به في شأنه مالا يخفى على من له بصيرة؛ من ذلك ما كان من اليهود مما هو مذكور في توراتهم، وما هو مذكور في القرآن من افترائهم على الله تعالى، وعلى رسله صلوات الله وسلامه عليهم، فقد جعلوا داود النبي ولد زنا، كما جعلوا المسيح ولد زنا، ولم يكفهم ذلك حتى نسبوا ذلك إلى التوراة، كما جعلوا ولدي لوط ولدي زنا، ثم نسبوا داود وغيره من أنبيائهم إلى ذينك الولدين، وقالوا إن الله استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض، فأنزل الله تعالى على رسوله تكذيبهم بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 1. أي: تعب. وقالوا: إن الله فقير وقد حكاه سبحانه عنهم في كتابه الكريم بقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 2 أنزل الله تعالى هذه الآية لما قالوا ما بنا إلى الله تعالى من فقر، وأنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا، ولما كان هذا القول منهم في غاية العظم والهول قال "سنكتب قالوا" إلخ. أي: لن يفوتنا أبداً تدوينه وإثباته. وقالوا: إن الله بخيل ليس بجواد ولا كريم، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فرد عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 3. وقالوا: إن العُزَيْر كان ابن الله، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 4 وقال تعالى:

_ 1 سورة ق: 38. 2 سورة آل عمران: ا 18- 182. 3 سورة المائدة: 64. 4 سورة التوبة:.3.

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} 1 وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} ، فرد عليهم بقوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. و {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. وقالوا: إن الله تعالى بكى على الطوفان حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة. وقالوا: إن الله ندم على خلق بني آدم، وأدخلوا هذه الفرية في التوراة. وقالوا عن لوط: إنه وطىء ابنتيه، وأولدهما ولدين نسبوا إليهما جماعة من الأنبياء. وقالوا في بعض دعاء صلاتهم: انتبه كم تنام يا رب! استيقظ من رقدتك! فتجرؤوا على رب العالمين بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحتمي كأنهم يخبرونه أنه قد اختار الخمول لنفسه وأحبائه، فيهزونه بهذا الخطاب للنباهة واشتهار الصيت، وما كان منهم مع موسى عليه السلام فأمر مشهور. وبالجملة؛ فافتراؤهم على الله ورسله وأنبيائه ورميهم لرب العالمين ورسله بالعظائم كثير جداً، وقد ذكر نبذة منه العلامة ابن حزم في كتابه "الملل والنحل" والحافظ ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى". وأما ما كان من النصارى، فهو أنهم اعتقدوا أن رب السموات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسي عظمته وعرشه، ودخل في فرج امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوط، فالتحم ببطنها، وأقام هناك تسعة أشهر يتلبط بين نجو وبول ودم وطمث، ثم خرج إلى القماط والسرير، كلما بكى ألقمته أمه ثديها، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه، وصفعهم قفاه، وبصقهم في وجهه، ووضعهم تاجاً من الشوك على رأسه، والقصبة في يده، استخفافاً به وانتهاكاً لحرمته، ثم قربوه من مركب خص بالبلاء راكبه فشدوه عليه وربطوه

_ 1 سورة المائدة: 8. 2 سورة آل عمران: 183. 3 سورة البقرة: 80.

بالجبال وسمروا يديه ورجليه، وهو يصيح ويبكي ويستغيث من حر الحديد وألم الصلب، هذا وهو بزعمهم الذي خلق السموات والأرض، وقسم الأرزاق والاّجال، ولكن اقتضت حكمته ورحمته أن مكّن أعداءه من نفسه، لينالوا منه ما نالوا فيستحقوا بذلك العذاب والسجن في الجحيم، ويفدي أنبياءه ورسله وأولياءه بنفسه فيخرجهم من سجن إبليس، فإن روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم كانت في سجن إبليس في النار حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه. فهذا بعض كفرهم وشركهم برب العالمين ومسبتهم له، ولهذا قيل إنهم سبوا االله ورسوله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال: "شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وكذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس ذلك بأهون عليَّ من إعادته"1. وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2 وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 3 إلى غير ذلك فن الآيات المشتملة على سوء اعتقادهم في الله. وأما ما كان من مشركي العرب فقد قال تعالى عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4 وقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 5

_ 1 أخرجه البخاري (3193، 4974، 4975) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2 سورة الصفات: 151- 152. 3 سورة المائدة: 72. 4 سورة الأنعام: 100-101. 5 سورة الإسراء: 111.

وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 1 {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2 وقال: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ* وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3 وقال: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً * أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 4وقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 5 وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} 6. وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ

_ 1 سورة الفرقان: 1- 2. 2 سورة الأنبياء: 26- 29. 3 سوره النحل: 51- 57. 4 سورة الإسراء: 39- 42. 5 سورة الصافات: 149- 163. 6 سورة النجم:19-27.

عِبَادِهِ جُزْءاً} 1. أي: نصيباً وبعضاً، أو جعلوا لله نصيباً من الولد، تعالى الله عن ذلك، فإن الولد جزء من الوالد، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمة بضعة مني"2. وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال الكلبي: نزلت في الزنادقة، قالوا: إن الله وإبليس شريكان، فالله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب. وأما قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} فقيل: هو قولهم: الملائكة بنات الله، وسمى الملائكة جناً لاجتنانهم عن الأبصار، ومن الناس من قال: حيُّ من الملائكة يقال لهم الجن- ومنهم إبليس- وهم بنات الله، وقال الكلبي: قالوا- لعنهم الله- بل بذور تخرج منها الملائكة، وقوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال الثعلبي: هم كفار العرب قالوا: الملائكة والأصنام بنات الله، واليهود قالوا عزير ابن الله، إلى غير ذلك من المقالات التي سبوا بها فاطر السموات، ولنا كتاب سميناه "آراء بني آدم في إله العالم" لم يكمل بعد، وفيه ترى ما تكلم به الناس في إلههم ومعبودهم عز اسمه. وأما ما كان من الأمم مع أنبيائهم وما صدر منهم في شأنهم من الأذى والشتم والسخرية وغير ذلك مما حكاه الله في كتابه فذلك لا يستوعبه المقام، وما كان من العرب الجاهليين- ولاسيما قريش- في حق خاتمهم صلى الله عليه وسلم مما تشيب منه لمم المداد، قد فصل في كتب السير والتواريخ. وقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه "الصارم المسلول" فصولاً مهمة في ذلك فذكر قصة الأعمى الذي قتل أم ولد له كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة كعب بن الأشرف اليهودي، وقصة قتل العصماء بنت مروان من بني خطمة التي هجت النبي صلى الله عليه وسلم وقصة قتل أبي عفك اليهودي لهجائه أيضاً، وقصة ابن أبي سرح وقصة ابن زنيم الديلمي لهجائه أيضاً، وحديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه،

_ 1 سورة الزخرف: 15. 2 أخرجه البخاري (926، 3110، 3714، 3767، 5230، 5278) ومسلم (2449) .

وحكاية قتل ابن خطل، والأمر بقتل من كان يهجوه ويؤذيه من شعراء قريش، وقصة قتل أبي رافع اليهودي لأجل أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصة هلاك المستهزئين، وحديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم عند تقسيمه المغانم ما أحسنت ولا أجملت، وغير ذلك مما آذوه به صلى الله عليه وسلم مما حكى في القرآن، كرميه تارة بأنه شاعر، وأخرى بأنه كاهن، ومرة بأنه مجنون، ونحوها مما مر بيانه، فانتقم الله تعالى منهم، وشفى الله بهم صدور المؤمنين. وفي كتاب "أعلام النبوة" للماوردي: "فإن قيل: مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم وهم مأمورون بالرأفة والرحمة ومحمد جاء بالسيف وسفك الدماء وقتل النفوس فصار منافياً لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام فزال عن حكمهما في النبوة لمخالفتهما في السيرة. قال: فالجواب: أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيراً، واللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شراً، لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية، والحقوق الدينية، ولذلك جاء الشرع بالقتل والحدود ليستقر به الخير، وينتفي به الشر، لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة، فكان القهر لها أبلغ في انقيادها من الرغبة، وكانت العرب أكثر الناس شراً وعتواً لكثرة عددهم وقوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أعظم من اللطف وأنفع منه. ويجاب أيضاً: أنه لم يكن في جهاده بدعاً من الرسل، فقبله إبراهيم عليه السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها، وحاربهم حتى هزمهم بأحزابه وأتباعه. وهذا يوشع بن نون قتل نيفاً وثلأثين ملكاً من ملوك الشام، وأباد من مدنها ما لم يبق له آثر، ولا من أهله صافر، من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم إتاوة، وساق الغنائم، وغزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلاً ولا امرأة إلا قتلهم وهو موجود في كتبهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم بدأ بالاستدعاء وحارب بعد الإباء. ثم تكلم بكلام يتعلق بهذا المعنى إلى أن قال: وإنما تطلبت الملحدة بمثل

هذا الاعتراض القدح في النبوات، فإنهم لم يعفوا نبياً من القدح في معجزته والطعن على سيرته، حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم بشعر نظفه فقال: وفالق البحر لم يفلق جوانبه ... إذ ضاع فيه ضياع الحر في السفل ومدع يدعي الأشياء خلقته ... ما باله زال والأشياء لم تزل وآخر يدعي بالسيف حجته ... هل حجة السيف إلا لحجة البطل قال فحضرت حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها بقوله: قل للذي جاء بالتكذيب للرسل ... ورد معجزهم بالزيغ والدغل وقال في ذاك أبياتاً مزخرفة ... ليوقع الناس في شك من الملل ضياع موسى دليل من أدلته ... من بعد ما صار فرق البحر كالجبل ليعلم الناس أن الله فالقه ... وأن موسى ضعيف تاه في السبل ومعجز الخلق في فلق المياه له ... وجعله البر ما يحتاط بالحيل وابن البتول فإن الله نزهه ... عما ذكرت من الدعوى على الجمل ما كان منه سوى طير يقدره ... طيناً وربي أحياه ولم يزل وقال إني بإذن الله فاعله ... وأذن ربي يحيي الخلق لا عملي وصاحب السيف كان السيف حجته ... بعد البيان عن الإعجاز والمثل وجاء مبتدئاً بالنصح مجتهداً ... بمعجزات لما حارت أولو النحل منها كتاب مبين نظمه عجب ... فيه من الغيب ما أوحى إلى الرسل فأفحم الشعراء المفلقين به ... لما تحداهم بالرفق في مهل وأنبع الماء عذباً من أنامله ... من غير ما صخرة كانت ولا وشل وشارف القوم وافاه وكلمه ... وقال إني من قتلي على وجل والذئب قد أخبر الراعي بمبعثه ... فجاء يشهد بالإسلام في عجل والجذع حن إليه حين فارقه ... حنين ذات جؤار ساعة الهبل وأخبر الناس عما في ضمائرهم ... مفصلاً بجواب غير محتمل

ونبأ الروم عن نصر يكون لها ... من بعد سبعة أعوام على جدل والفرس أخبرها عن قتل صاحبها ... برويز إذ جاءه فيروز في شغل وإن تقصيت ما جاء النبي به ... طال النشيد ولم آمن من الملل انتهى ما ذكره الإمام الماوردي. وقصص الأنبياء عليهم السلام فيما كابدوه من أممهم مذكورة في كتب التواريخ والتفاسير والسير بما لا مزيد عليه. فنقول للنبهاني: ألم يكن لصاحب. "جلاء العينين" ووالده في ذلك أسوة حسنة وهل ينقصهم بغض الخصوم شيئاً مما هم عليه من الشرف؟ كلا. من كان فوق محل الشمس رتبته ... فليس يرفعه شيء ولا يضعه وقد علمت أيها النبهاني ما كان من عاقبة أعداء الله وخصوم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف فرق جمعهم، وشتت شملهم، ومحا ذكرهم، وأذل قدرهم، فإذا كان الله ورسله عليهم السلام كما ذكرنا فليس من الغريب أن يصادف ورثة رسله ما صادفوا، وما أحسن قول القائل: قيل إن الإله ذو ولد ... قيل إن الرسول قد كهنا ما نجا الله والرسول معاً ... من لسان الورى فكيف أنا ويقال للنبهاني أيضاً: أما سمعتَ ما قال الروافض في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طعنوا به فيهم؛ هل لحق الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين مما قالوه وافتروه نقص؟ كلا؛ بل رفع الله تعالى درجتهم بسبب بغض الروافض لهم وطعنهم عليهم، وزاد الروافض بذلك بعداً عن الله ومقتاً، وباؤوا بغضب منه، وهكذا أعداء أهل الحق في كل عصر 1. وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود

_ 1 للمصنف رحمه الله كتاب ماتع في هذا الباب، وهو: "صب العذاب على من سب الأصحاب" طبع حديثاً بدار أضواء السلف بالرياض.

واعلم أن ما ينقله الروافض عن الصحابة من المثالب نوعان: أحدهما: ما هو كذب، إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما أخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب، مثل أبي مخنف لوط بن يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب لكلبي، وأمثالهما من الكذّابين. النوع الثاني: ما هو صدق، وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر، وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قدر من هذه الأمور ذنباً محققاً فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة، ذكر ذلك الشيخ "في المنهاج" وبيّن الأسباب المزيلة للذنوب، وذكر أصولاً جامعة نافعة في هذا الباب، وما ذكره صادق على أعداء علماء الدين وحفاظ الموحدين. فإن النبهاني وأضرابه الغلاة لم يزالوا يتكلمون بكلام موافق لكلام الروافض، وهكذا الكلام في النواصب والخوارج وما كان منهم من التجاوز على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، ولم ينتقص به من قدر الأمير شيء، ولا لحقه وهن من ذلك، وما تكلم به النبهاني وأضرابه في شأن خصومهم بالنسبة إلى ما تكلم به أعداء الصحابة وخصومهم كنغبة من داماء، وجرعة من بحر ماء، فهو لا يورث طعناً إلا لجاهل منقوص، ولا يؤثر في البنيان المرصوص. الوجه الثاني: أن يقال للنبهاني: إن ما كان من الطعن والبغض لمصنف "جلاء العينين" ووالده فهو لا شك من القبوريين الغلاة، بسبب ما لحقهم من هدم بنيانهم وإبطال برهانهم، لا لذنب صدر ولا لجناية لا تغفر، بل إذا كان الذنب متعلقاً بالله ورسوله فهو حق محض لله، فيجب على الإنسان أن يكون في هذا الباب قاصراً لوجه الله متبعاً لرسوله، ليكون عمله خالصاً صواباً، قال تعالى:

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1 وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 2. قال المفسرون وأهل اللغة معنى الآية: أخلص دينه وعمله لله، وهو محسن في عمله، وقال الفراء في قوله تعالى:"فقل أسلمت وجهي لله" أخلصت عملي، وهذا المعنى يدور عليه القرآن، فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر. "والأول" هو إخلاص الدين والعمل لله "والثاني" هو الإحسان؛ وهو العمل الصالح، ولهذا كان عمر يقول في دعائه: "اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً" وهذا هو الخالص الصواب، كما قال الفضيل بن عياض في قوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3 قال: "أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي؛ ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً". والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هما أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله، وأن يكون مطابقاً للأمر، وفي الحديث: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه " فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم مع الأمر، فإن لم يكن عالماً لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان عالماً ولم يكن رفيقاً كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ

_ 1 سورة البقرة: 111- 112. 2 سورة النساء: 125. 3 سورة الملك: 2.

الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال تعالى لموسى وهرون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 1 ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم، كما قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 2. وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك خطيئة لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً، ثم إذا رد عليه ذلك أو أوذي أو نسب إلى أنه مخطىء، وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم وإن كان جاهلاً سيّىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 3 فإذا لم يكن

_ 1 سورة طه: 44. 2 سورة لقمان:17. 3 سورة الأنفال: 39.

الدين كله لله كانت فتنة، إذا عرفت ذلك كله عرفت منشأ الذم والبغضاء من الغلاة لخصوصهم في كل عصر، فحينئذ يسقط كل ما ذكره النبهاني في هذا الباب. الوجه الثالث: وهو موضح للوجه الذي قبله وتتمة له- أن أصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة لله، والعبادة لله، والمعاداة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله، والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله، وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، ومعاداته معاداة الله، وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون- مع ذلك- معه شبهة دين أن الذين يرضى له ويغضب له هو السنة وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً أو لغرض من الدنيا؛ لم يكن لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل، وسنة وبدعة؟ ومع خصمه حق وباطل، وسنة وبدعة، وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وكفر بعضهم بعضاً، وفسق بعضهم بعضاً، ولهذا قال الله تعالى فيهم {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 1 وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} 2 يعني فاختلفوا كما في سورة يونس، وكذلك في قراءة بعض الصحابة، وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على دين الإسلام، وفي تفسير عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على الكفر، وهذا ليس بشيء، وتفسير عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس، بل قد ثبت

_ 1 سورة البينة: 4- 5. 2 سورة البقرة: 213.

عنه أنه قال: كان بين آدم ونو5 عشرة قرون كلهم على الإسلام وقد قال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} 1 فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقاً. والاختلاف في كتاب الله على وجهين: أحدهما: أن يكون كله مذموماً كقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} 2. والثاني: أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، كقوله {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 3 لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم، كقوله {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} 4. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم"5. ولهذا فسّروا الاختلاف في هذا الموضح بأنه كله مذموم، قال الفراء: في اختلافهم وجهان: "أحدهما" كفر بعضهم بكتاب بعض. "والثاني" تبديل ما بدلوا، وهو كما قال، فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه، وهو تبديل ما بدل، فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين.

_ 1 سورة يونس: 19. 2 سورة البقرة:176. 3 سورة البقرة: 253. 4 سورة هود: 118- 119. 5 أخرجه مسلم (1337) .

ولهذا ذكر كل من السلف أنواعاً من هذا: أحدها: الاختلاف في اليوم الذي يكون فيه الاجتماع، فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة فعدلت عنه الطائفتان، فهذه أخذت السبت، وهذه أخذت الأحد، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له: الناس لنا فيه تبع، اليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى"1. وهذا الحديث يطابق قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} 2. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" 3. والحديث الأول يبين أن الله تعالى هدى المؤمنين لغير ما كان فيه المختلفون، فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وهو مما يبين أن الاختلاف كله مذموم. والنوع الثاني: القِبلة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، وكلاهما مذموم لم يشرعه الله تعالى. والثالث: إبراهيم، قالت اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى. كان نصرانياً، وكلاهما كان من الاختلاف المذموم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4.

_ 1 أخرجه البخاري (238، 876، 896، 2956، 3486، 6624) ومسلم (855) . 2 سورة البقرة: 213. 3 أخرجه مسلم (770) . 4 سورة آل عمران: 67.

والرابع: عيسى؛ جعلته اليهود لعبة، وجعلته النصارى إلهاً، تعالى الله عن إفكهم علواً كبيراً. والخامس: الكتب المنزلة؛ آمن هؤلاء ببعض، وهؤلاء ببعض. والسادس: الدين، أخذ هؤلاء بدين وهؤلاء بدين. ومن هذا الباب، قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} 1. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: "اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى. فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي قبلها" 2. واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط، فالخارجي يقول: ليس الشيعي على شيء، والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء، والقدري النافي يقول: ليس المثبت على شيء، والقدري الجبري المثبت يقول: ليس النافي على شيء، والوعيدية تقول: ليست المرجئة على شيء، والمرجئة تقول: ليست الوعيدية على شيء. بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السنة، فالكلابي يقول ليس الكرامي على شيء، والكرامي يقول ليس الكلابي على شيء، والأشعري يقول ليس السالمي على شيء، والسالمي يقول ليس الأشعري على شيء، وصنف السالمي كأبي علي الأهوازي كتاباً في مثالب الأشعري، وصنف الأشعري كابن عساكر كتاباً يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه

_ 1 سورة البقرة: 113. 2 أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام " (1/ 549) وابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 513/ 1811) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/208/ 1103) .

مثالب السالمية، وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، لاسيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب الشافعي ومالك وأحمد شيئاً من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئاً من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة، وهذا من جنس الرفض والتشيع، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة. والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، يدور معه على ذلك ويتبعه أين وجده، ذكر ذلك كله الشيخ، ثم إنه أطال الكلام وأتى بما تلتذ به المسامح والأفهام. فما ذكره النبهاني ونقله عن دعواه من بعض المكيين هو من هذا القبيل، فإن كل أحد يتعصب لما تمذهب به ويتشيع لأقوال أئمته ومتبوعيه فلا شك أن الغلاة القبوريين هم أعدى الناس لمن تصدى لإبطال أقوالهم ورد مذهبهم، ومن المعلوم أن مصنف "جلاء العينين" وسلفه داروا على الحق وتبعوه، حيث قصدهم توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتفتوا إلى ما خاض به الخصوم، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 1. ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... أن لا يصاب فقد ظن عجرا ومن كان قصده رضى الله عنه والفوز بثوابه والخلود بنعيمه لم يلتفت إلى أقوال الناس، فقد سبق لك ما كان من الفرق الإسلامية وغير الإسلامية، بل وأتباع المذاهب بعضهم مع بعض، ولولا ضيق المقام لذكرنا بعض أقاويلهم في مخالفيهم، وما أحسن قول القائل: فيا ليت ما بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب

_ 1 سورة الأنعام: ا 9.

إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب الوجه الرابع: أن النبهاني لم يصرح بما سمعه من الطعن والقدح حتى نتكلم عليه، والظاهر أن ذلك ما يقوله بعض غلاة العراقيين كابن جرجيس وأتباعه من أنه كان على طريقة الوهابيين، وسبب ذلك أن ابن جرجيس هذا كان من غلاة الشافعية فاعترض على عبارة في كتاب "الطراز المذهب" لوالد مصنف جلاء العنين وأفرد للاعتراض رسالة هذى فيها بما تمجه الأسماع مما يتعلق بالاستغاثة والاستعانة ودعاء غير الله، فرآها صاحب جلاء العينين بعد وفاة والده- وهو إذ ذاك شاب - فكتب على تلك الرسالة رداً ألقمه به حجر السكوت، وسماه "شقائق النعمان على شقاشق ابن سليمان" يعني به داود بن جرجيس بن سليمان العاني، وكان من الجهل على جانب عظيم، ومن التجاسر على التحريف والتدليس، ما يعجز عن مثله إبليس، وقد فضحه الله تعالى بهذا الرد، وقد قرظ عليه العلماء، منهم الفاروقي شاعر عصره بقوله: شقاشق ابن سليمان أصغت لها ... صضمعا فأسمعني تعبيرها القججا ومن شقائق نعمان عليه بها ... ما منه أظهر عن إفصاحه البججا وقال أيضاً: مزامير داود النبي لنا بها ... غنى عن سماع في شقاشق داود فدع عنك يا نعمان رد اعتراضه ... ولا ترمه إذ جاء يعوي بجلمود وقال أيضاً: شقاشق لابن سليمان قد ... حكت غداة الطعن يوم الكفاح كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح وداود هذا هو الذي قال في كتابه صلح الإخوان أو غيره- بعد أن ذكر عدة شبه من شبهه على جواز التوسل بسائر الحيوانات، وإثبات الجاه الكثير لجملة من الجمادات- وأعظم من ذلك وأوضح دلالة ما ذكره الفقهاء في باب الاستسقاء للتوسل بها إلى الله تعالى، وقال أيضاً: لا يخفى عليك مما قدمنا أن التوسل

بالجمادات والحيوانات قد وقع في الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة عن الصحابة والتابعين، والسلف الصالحين، مما يضيق عنه نطاق الحصر. انتهى. وكان لم يزل يهذي بمثل هذا الهذيان إلى أن أهلكه الله، ومصنف "جلاء العينين" كان سيفاً في عنقه، كم قد بحث معه فألقمه حجر السكوت، فكان هذا الزائغ وشيعته لم يزالوا يذكرونه بالألقاب المنكرة، فيقولون: إنه وهابي ومنكر، ونحو ذلك. وكان من المنقمين علية الحاسدين له من أهل بلده آل جميل، وهم كلهم جهلة لا يميزون بين يمينهم وشمالهم، لا دين لهم، ولا يصلون، ولا يصومون، ولا يزكون، ولا يؤدون فرضاً من فرائض الله، وكان دأبهم السعي على المسلمين، والتزوير والافتراء والدعاوى الكاذبة، ومع ذلك كانوا يتزيون بزي العلماء، وهم أجهل الناس، وكانوا من أعظم الخصوم لمصنف جلاء العينين، وأشد الناس عداوة للذين آمنوا، ولم يزالوا يسعون به إلى الحكومة، ويفترون عليه أموراً لم تخطر ببال أحد، حتى أبادهم الله وأهلكهم، ولم يبق منهم اليوم على ما أعلم إلا بعض أطفال وسفهاء أحلام، ولا شك أن الله تعالى ينتقم من أعداء رسله وورثة أنبيائه، ولولا ضيق المقام لبسطنا الكلام في أحوال هذه العائلة الخبيثة، فإني قد بلغني مفصل أحوالهم وما قال فيهم شعراء بلدهم، وهم أيضاً من أهل عانات، ثم سكنوا بغداد، وقبل سنين ادعوا النسب القادري فكذبهم أهل بغداد في مجلس انعقد في حضور والي البلد، ورأوا يومئذ من الخزي. ما هم أهل له،- ومن جملة من شهد عليهم بذلك مصنف "جلاء العينين" وغيره من أكابر البلد وعلمائها، فعادوا كل من شهد عليهم. والحاصل: أن أعداء أهل الحق كثيرون، وأزهد الناس بالعالم جيرانه وأهل بيته، كما ورد في ذلك الخبر الصحيح، ولعل المكي الذي تكلم بما تكلم في شأن مصنف "جلاء العينين" ووالده كان ابن دحلان أو بعض شيعته، فقد كان أيضاً من أعظم الناس غلواً في دعاء المخلوقين، وقد تكلم في كتابه على والد مصنف جلاء العينين في نقله عن القدوري في مسألة سؤال الله بأحد من خلقه وكذب نقله حسداً

من عنده أو جهلاً منه، وإلا فمن له أدنى إلمام بالعلم يعرف صحة ذلك النقل، وهو مذكور في كتابه بعبارة صحيحة على ما سبق، والعالم الجليل لا يخلو من حاسد وخليل، بل ترى كثيراً من الناس أخلاء، وهم في الحقيقة خلاء، وأجلاء وهم عند التأمل لا خلاء ولا ملاء، يظهرون الصلاح والوداد ويخفون- أخفاهم الله تعالى- العداوة والفساد، فلا فرج الله عنهم هماً، ولا حمد لهم بين الأنام اسماً، ولا حسن لهم حالاً ولا أصلح لهم مآلاً. كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحة كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة حسدوا فذموا، ومن يغب عن أبصارهم غابوا ونموا، ولا بدع فالكريم إذا غاب غيب، وإذا هاب هيب، على أن في ذمهم شهادة بالكمال، وإثباتاً لمزيد الفضل والإفضال، فزادهم الله تعالى حسداً، وأماتهم كدراً ونكداً، وما أحسن ما قال القائل: أيها الحاسد المعد لذمي ... ذم ما شئتَ رُبَّ ذمٍّ كحَمْدِ لا فقدت الحسود مدة عمري ... إن فقد الحسود أخبث فقد كيف لا أوثر الحسود بشكري ... وهو عنوان نعمة الله عندي هذا وشرح الكلام لا يسعه أمثال هذا المقام. وبالجملة: إن من ذمه الله ورسوله فهو المذموم، ومن رضيا عنه فهو المرضي، ومن حكما بعدالته فهو العدل. قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى في أثناء كلام له: "إن الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل، فالكافر من جعله الله ورسوله كافراً، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقاً، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً، والعدل من جعله الله ورسوله عدلاً، والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها،

والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله، والمستحقون لميراث الميت من جعلهم الله ورسوله وارثين، والذي يقتل حداً أو قصاصاً من جعله الله ورسوله مباح الدم بذلك، والمستحق للفيء والخمس من جعله الله ورسوله مستحقاً لذلك، والمستحق للموالاة والمعاداة من جعله الله ورسوله مستحقاً للموالاة والمعادة، والحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، فهذه الأمور كلها ثابتة بالشرع" انتهى. فما قاله النبهاني إن صدق فيه فهو مما لا يلتفت إليه، وقد ذكرنا ما كان عليه مصنف "جلاء العينين" ووالده من صحة العقيدة، وصدق النية، واتباع السنن، والعمل بما شرعه الله من الأحكام والسيرة السلفية، والذب عن الدين ومخاصمة أعدائه، والرد على خصومه، وكل ذلك مما جعله الله ورسوله من أدلة النجاة وقبول العمل، والتزكية لديه، والعدالة المرضية عنده، وأقوى برهان على الرضوان والفوز بالجنان والنجاة من النيران، ثم بعد هذا يقال وقد راعى القائل مقتضى الحال: قل للذي يذكرني ... بين الملا من البشر من قال خيراً يلقه ... ومن يقل سراً فسر نعم إن النبهاني أبهم جرحه وأخفى قدحه ليهول به على السامعين ويعظمه على المطالعين، ومن شدة الظهور الخفاء كما هو شأن الشمس في وسط السماء، وقد قيل: لا بد للود والبغضاء من سبب كما هو المعلوم لذوي الأدب،. وذلك هو الذي لم يزل يكرره في كلامه ألا وهو الانتصار لابن تيمية في اختياراته وفي مسألة منعه من أعمال المطي لزيارة القبور الذي دل عليه الحديث الصحيح، وهذا هو الذنب الذي لا يغفر، والعيب الذي لا يستر عند النبهاني وأضرابه، والقائل به مجروح، والمنتصر له مقدوح، ومن المعلوم لدى المنصفين الواقفين على مقاصد الشرع المبين؛ أن ذلك لا يستوجب الكلام الفظيع، والقدح الشنيع، بعد أن تبين أن هذه المسائل هي أعلى مقاصد الدين، وأنها ثابتة بالنصوص القرآنية وسنة سيد

المرسلين، وقد علمت أن مدار المدح والقدح على الشريعة الغراء، فنسأله سبحانه الرضوان والعفو يوم الجزاء. الوجه الخامس: قد صح في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنتم شهداء الله في الأرض ". وقال: "يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار" قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن، والثناء السيىء" 1. فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار، وكان أبو ثور يقول: أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة ويحتج بهذا. وهذا على قول من يقول يشهد بالجنة لمن شهد له المؤمنون، ولكل مؤمن جاء فيه نص، ومنهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء، وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي، ومنهم من يقول يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص، وهذا قول كثير من أهل الحديث، فهذه ثلاثة أقوال لهم في الشهادة بالجنة، والكلام عليها مفصل في غير هذا الموضع، والقول الأول هو المشهور، وعليه جماعة من الجمهور، فإذا كان الثناء الحسن والحمد والمدح مما يعلم به عدالة من أثني عليه وحمد ومدح وأن ذلك دليل على القبول عند الله والفوز برضوان الله تعالى والفوز بجنانه علمنا بذلك أن مصنف "جلاء العينين" ووالده كانا ولله الحمد من خيار عباد الله الصالحين، والعلماء العاملين، فقد رأيت كتاباً بمجلدين ضخمين ألّفه بعض فقهاء شافعية بغداد في مناقب العلامة المفسر الشهير صاحب تفسير "روح المعاني" قدس الله روحه، سماه مؤلفه "حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين السيد محمود" ذكر فيه مؤلفه نسب المترجم وما حصله من الفنون والعلوم، وما جرى له من المباحث والمناظرات مع علماء عصره، وما وردته من دقائق المسائل، وما أجاب به عنها، وما ورد له من الكتب والرسائل من الأقطار والبلاد، وما قالته الشعراء فيه من المدائح، وما صادفه مدة عمره من التبجيل والاحترام من أهل السنة ومشاهير أتباع المذاهب، وما رثاه به العلماء والأدباء والشعراء المفلقون نظماً ونثراً مما لم يصادف مثله في هذه العصور، وذكر مشائخه ومن أخذ عنهم من المشائخ ومن أخذ عنه، وما له من المصنفات وبدائع المحررات، وما

_ 1 أخرجه ابن ماجه (4221) وحسّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" (3400) .

كان عليه من التقوى والورع والجد في العبادة والمجاهدة قي الدين والذب عنة، وغير ذلك مما يدل دلالة صريحة على أنه كان من أكابر العلماء العاملين، وعباد الله الصالحين، رحمه الله تعالى ورضي عنه وعن كافة علماء المسلمين.- وقد قرظ هذا الكتاب- أعني "حديقة الورود"- جمع من أدباء العصر، ومشاهير الشعراء، منهم الشاعر الشهير، ومن عزله النظير، الأديب الفاروقي عليه الرحمة بقوله: وغادة قد أكسبت عادة ... مهما تقل فإنها صادقة وإنها مثل حذام بما ... تقوله أولو النهى واثقة فصيحة مستعذب لفظها ... أشعارها جزيلة رائقة أبو الثنا مفتي الورى كفوها ... ليست لحبر غيره لائقة وكم له من شيمة أصبحت ... شمس السنا لحسنها عاشقة وفيك يا محمود قد أرخوا ... ترجمة أحبب بها فائقة وقد أرَّخَهَا أيضاً الأديب الأريب الشيخ عبد الحميد الأطرقجي أحد شعراء العراق بقوله: حديقة قد صدحت أطيارها ... باسم الشريف السيد محمود ومن يداه سفحت أنهارها ... إذ هي قاموس الندى والجود ومن نداه لقحت أشجارها ... وأثمرت باللؤلؤ المنضود ومن شذاه نفحت أزهارها ... طيباً كأنفاس أريج العود ومن سناه لمحت أقمارها ... نوراً سرى في سائر الوجود أنبتها مفتي الورى حتى غدت ... بالحسن تحكي جنة الخلود واقتبست من طبعه فأرخوا ... طبعاً زهت حديقة الورود وأرخها أيضاً واحد الشعراء الأديب الفاضل السيد شهاب الموصلي عليه الرحمة بقوله: طلعت في أوج مجد طلعة ... فأرتني الشمس منها مغرمة

فتنتني والذي صورها ... من جمال منه روحي هائمة عللتني بكلام لين ... ينعش ويحيي رممه وأشارت وسناها ساطع ... في شهاب الدين أسنى ترجمه هي أم للاغاني صيرت ... نزهة الدنيا لديها كالأمة روضة غناء يزهو زهرها ... من معان في علاه عائمة لربيع الفضل فيها بهجة ... تشرح الصدر وتبري سقمه أنبتت من كل مدح رائق ... قد سقاه بالعطايا الدائمة حاتمي الجود وكفا كفه ... راح يروي عن عطاه عكرمة حيدر والده أن ينتمي ... أمه الزهراء حقاً فاطمة خصه الله بمعنى جاذب ... لقلوب الناس حباً ألزمه خف روحاً ورجيح فضله ... لا يوازي الشعر قدراً قيمه وافق الغيب سداداً رأيه ... يحسم الخطب ويمحو ظلمه والفتاوى وجدت أحكامها ... منذ شدت في عراه المحكمة قد أعز الدين علماً وتقى ... وأذل الجهل حتى أعدمة عالم الدنيا إليه يلتجي ... كل علم حيث أضحى علمه والصدور العلما قد أرخوا ... أصدر المحمود نعم الترجمة إلى غير ذلك من تقاريظ أكابر العلماء وأفاضل العصر مما لو جمع لكان سفراً كبيراً. ولما كان كتاب "حديقة الورود" مطنباً مفصلاً جداً؛ لخصه أجلّ تلامذة المترجم، وأحد العلماء الأعلام، شيخ الكل في الكل، الشيخ عبد السلام، أحد أكابر الشافعية في بغداد، درس نحو خمسين سنة في المدرسة القادرية، وكان جنيد زمانه صلاحاً وعفة وديانة، وعقر ما يزيد على ثمانين سنة، وله التصانيف المفيدة، وسمى رحمه الله تعالى ما لخصه "أريج الند والعود في ترجمة شيخنا العلامة أبي عبد الله شهاب الدين السيد محمود"، وهذه خطبة كتابه: "بسم الله الرحمن الرحيم؛ الحمد لله المحمود بكل لسان، الموصوف جل

شأنه بفنون المحامد "وصنوف الإحسان، والصلاة والسلام على أكمل الخليقة، ومن غدا شريف مدحه مجازاً للوصول إلى عين الحقيقة، وعلى آله وأصحابه المترجمين بألسنة سيوفهم عن الحق المبين والمتأدبين بآدابه. أما بعد؛ فيقول العبد المفتقر إلى خفي الألطاف، مدرس الحضرة القادرية عبد السلام المنتمي إلى الشواف، إن كتاب "حديقة الورود في ترجمة حضرة شيخنا العلامة أبي الثناء شهاب الدين محمود" وإن تضمن من أزهار مدائحه قدست روحه كل منقبة عالية، وتكفل من نشر أريج فضائله بكل فضيلة غالية، قد انتظمت في سلكه الدراري والدرر، وأزهرت في رياضه ورود البلاغة ولا زهر الخمائل غب المطر، من نظم رق وراق، ونثر سما وفاق، قد اعتصر من عناقيد الإبداع، فلم يتفق مثله في عصر ومصر من حقائق الاختراع، فانتشى به عقل الدهر، غير أنه لطوله لا يقف الناظر فيه على مجمل خصال الممدوح، ولا يتضح للواقف أنموذج شمائل المترجم كمال الوضوح، فأحببت أن أحرر شريف ترجمته على سياق التراجم المعتادة في كتب التواريخ على سبيل الإجمال، وأكتب في هذه الأوراق ملخص فضائله على طرز بيان فضائل الفضلاء بموجز من المقال، ولعمري إني لا أقدر أن أؤدي ما يليق بشأنه، والحري بعلو قدره وعرفانه. ولو أن ثوباً حيك من نسج تسعة ... وعشرين حرفاً في علاه قصير فنظمت هذه العقود، وقلت غير مكترث بحسود، متوكلاً على ذي الكرم والجود: إن شيخنا- طيب الله ثراه. وجعل الفردوس الأعلى مستقره ومثواه- هو المولى الحبر، ذو الفضل الممدود، أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود، نجل الفاضل النقي، والزاهد التقي، الحليم الأواه، مولانا السيد الحاج عبد الله، نجل الطيبين الطاهرين بلا اشتباه، حتى تنتهي سلسلة نسبه الشريف إلى حضرة جده الأعلى سيد العالمين، صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين، وقد كان عليه الرحمة آية من آيات الله في جميع العلوم، وأعجوبة من عجائب الدهر في المنطوق منها والمفهوم، علامة دهره في المعقول والمنقول، وفهامة عصره في الفروع والأصول.. إلى آخر ما قال من العبارات المزرية بعقود

اللالىء، وهي رسالة مفيدة، حوت على اختصارها المسائل الفريدة، وقد ترجمه كثير من الفضلاء، وأثنوا عليه بأحسن الثناء. وأما ولده مصنف "جلاء العينين" رحمه الله تعالى ففضله مشهور، وعلم علمه على كاهل الأعلام منشور وفي الأقطار والبلاد مذكور، ومن المعلوم لدى كل أحد أن ماء الورد من الورد، والشبل في المخبر مثل الأسد، وقد ترجمه كثير من الأفاضل والأدباء وأثنوا عليه خيراً، وبلغني أنه قد جمع ما ورده من المدائح الشعرية والمقالات النثرية وما كان من ثناء أفاضل عصره من أهل مصره وغير مصره في مجموع مفرد، ليس له ثان في العدد، ولو كنت ظفرت به لنقلت منه ما تتحلى به المسامع والأفواه، وتلتذ بذكره الألسنة والشفاه، وذلك ما عدا ما قرظوا به كتبه، كتقاريظ "الشقائق" و"جلاء العينين" و"غالية المواعظ"، و"القول الفسيح في الرد على عبد المسيح مجلدين ضخمين في الرد على النصارى، وغير ذلك من المآثر الحميدة، والمناقب السديدة، مما يضيق عنه نطاق البيان، وتكل من نقله البنان. وبالجملة؛ فما كان من ثناء العدول الثقات على مصنف جلاء العينين ووالده أوضح دليل على أنهما كانا من المقبولين عند الله تعالى، وأنهما من العدول الأخيار وقد نفع الله بكتبهم الأمة وانتشرت في جميع بلاد المسلمين، كما هو مشاهد ومحسوس لدى كل منصف، مع أنا في عصر ركدت فيه ريح الفضل، وانصرفت أفكار كثير من الناس عن الفضائل الدينية، والكمالات الإيمانية، بل إن من أنصف اعترف أن ليس في العراق من بيوتات العلم غير بيتهم، فأبناء هذا البيت اليوم قد قام على مآثرهم فسطاط الدين في العراق، كما يدلك على ذلك ما انتشر من مصنفاتهم وآثارهم الجيدة، نعم نرى في العراق كثيراً من أهل العمائم غير أنهم أعظم بلاء على الدين المبين، وأما أحسن ما قال القائل من أفاضل الأماثل: لا تغرنك اللحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقر في شجر السرو منهم شبه ... له رواءه وما له ثمر

وليس في بلدهم من يطاولهم في فن من الفنون، وكلهم مكبون على تحصيل العلم ونشره، معرضون عن الدنيا وزخارفها، ليسوا بمنهمكين عليها كغيرهم من المنتسبين إلى العلم. والحاصل أنهم وأسلافهم ممن يفتخر بمثلهم أهل انصاف من فضلاء المسلمين. قال الفاروقي رحمه الله تعالى في كتابه "العقود الجوهرية" بعد أن ذكر ترجمة بعض أفاضلهم: اعلم أن هذا البيت لا تجري فيه سفن لو أن وعسى وليت. بيت من المجد شادوه على كرم ... وبالمجرة مدوه على طنب أما والده- يعني المفسر الشهير صاحب روح المعاني رحمه الله- فكان في الزوراء واسطة عقد الفضلاء والبلغاء، وناديه مجتمع العلماء والأدباء، حيث كانت له صلابة في الدين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في علم، وعمل في حلم، وقصد في غنى، وخشوع في عبادة، وتجمل في فهم، وصبر في شدة، وطلب في حلال ونشاط في هدى، وتحرج عن طمع، قرأت عليه بعضاً من المنطق والنحو وغير ذلك ومدحته بعدة قصائد، هي لجيد الزمان قلائد، وكاتبني وكاتبته لما كان في بلدة فروق مكاتبة الشائق إلى المشوق، وذكر جملة ذلك في رحلته "نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول" وكتاب "تزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب" وذكرها الغير في كتاب "حديقة الورود في مناقب أبي الثناء شهاب الدين محمود" فكم قطفت من شقائق نعمانها، ما يفوق من الرياض على ريحانها، وأما أبناؤه فرحم الله الماضي منهم ووفق الباقين إلى ما فيه صلاح الدنيا والدين، فإنهم بحمد الله كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، وكعز إلى السماء لا تميز منها فاها. أيا لقيت تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري وإني كنت معهم في حياة والدهم رحمه الله وبعد وفاته خلاً وفياً، وحبيباً

صفياً، آنس بهم كما يأنسون بي، وأستر بقربهم مثل ما يسترون بقربي، أستنشق من محادثتهم ريح الكمال، وأقرط آذاني بما تنشر أقلامهم من الدراري وشفاههم من الأقوال، ولا زلت أجتمع بهم في بغداد، وأفرج برؤيتهم غمتي في ذلك الناد، كما أن المترجم اليوم في القسطنطينية تهزه لعلو المقام هاتيك الأريحية ولا برحت هنا أيضاً أنزه ناظري بتلك الطلعة الزكية، والغرة الهاشمية، لا زال قطباً تدور عليه رحى أفاضل العصر وأكابر كل مصر" انتهى. فهل سمعت أيها الشيخ النبهاني ما تلوناه عليك، وقدمناه بين يديك، فأين بقي قولك الباطل، وكلامك العاطل، فما أنت والعلماء الأخيار، وما أنت والسادة الأبرار، أما بلغك ما قيل. رحم الله امرأً عرف قدره، ولم يتعد طوره؟ أما سمعت من حملة العلوم أن لحم العلماء مسموم؟ فما جوابك إذا قال قائلهم: إلى حكم أشكو ظلامة معتد ... هو العدل كم أردى ظلوماً وجندلا ثم إن الذي أوجب تطاول النبهاني انحطاط العالم الإسلامي- والأمر لله تعالى- إلى ما تراه العيون، مما كنا نظن أن لا يكون، فتنة بعد فتنة بعد أخرى وبلاء بمثله مقرون، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} 1. أن المراد "بفوقكم" أي الأمراء السوء، وبقوله: "أو من تحت أرجلكم" أي من قبل سفلتكم. فتطاول السفلة والسفهاء على أخيار العلماء هو من علامات غضب الله على عباده، فلهذا كان من النبهاني ما كان، مع ما هو عليه من الغرور والجهل، وظنه أنه قد خلا له الجو. وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا وقد جرت عادة الله تعالى بمثل معاداة النبهاني وأضرابه لأهل الحق، ولذلك

_ 1 سورة الأنعام.65.

أنزل الله تعالى في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم قوله عز اسمه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 1. وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عداوة قريش وما بنوا عليه من الأقاويل والأفاعيل ما هو مذكور في غير هذا الموضع، وزخرف القول هو المزوق من الكلام الباطل، والعدو بمعنى أعداء كما في قوله: إذا أنا لم أنفع صديقي بوده ... فإن عدوي لم يضرهم بغضي وتمام الكلام على الآية في موضعه. وقد فرغنا من الكلام على ما قاله النبهاني قي كتب الشيخ ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الهادي، وجلاء العينين، وما انتقد به عليها، وبقي كلام طويل أعرضنا عن ذكره في هذا المقام طلباً لاختصار الكلام. ولو كان هذا موضع القول لاشتفى ... غليلي ولكن للمقال مواضع

_ 1 سورة الأنعام: 112.

ذكر من ألف في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية

"ذكر من ألّف في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية" اعلم أن ما كان من النبهاني وغيره- ممن هو على شاكلته- من القدح والاعتراض على أولئك العلماء الأجلة- بسبب انتصارهم لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، وتوجيههم لكلامه، ورد اعتراضات الخصوم والذب عنه- ظنا منهم أن المنتصرين للحق وأهله هم الذين عرفوهم من أناس معدودين، وليس الأمر كما زعموا، بل إن في كل عصر أناسا يعرفون الحق وبه يعدلون، تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم". وهؤلاء هم حفظة الدين، وخصوم المبتدعين، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا

عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين. ثم إن المنصفين من أهل العلم في كل عصر لا يحيط بهم نطاق الحصر، ونحن نذكر منهم بحض من وقفنا على قوله في شيخ الإسلام، وما رآه فيه من الأحكام، ليعلم المنصف أن مصنف "جلاء العينين" ليس بدعاً فيما صنفه حتى صار غرضاً لسهام ملام النبهاني وأمثاله من الغلاة، وفتحوا عليه أفواهاً كأفواه الكلاب عند التثاؤب، بل كم قد سبقه من إمام همام، وعلماء أعلام، وها نحن ذاكرون بحوله تعالى منهم بعض الأكابر، الذين تعقد عند ذكرهم الخناصر، ليتحلى عاطل جيد هذا الكتاب بدرر ما لهم من المناقب والمآثر، وغرر ما كانوا عليه من المفاخر، فنقول:

ثناء القاضي نور الدين محمود بن أحمد العيني على شيخ الإسلام

[ثناء القاضي نور الدين محمود بن أحمد العيني على شيخ الإسلام] منهم قاضي القضاة نور الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي رحمه الله؛. وهو الإمام العالم العلامة الحافظ المتقن شيخ العصر، أستاذ الدهر، محدث زمانه، المتفرد بالرواية والدراية، حجة الله على المعاندين، وآيته الكبرى على المبتدعين، شرح صحيح الإمام البخاري بشرح لم يسبق له نظير في شروحه، مع ما كان له من المصنفات المفيدة، والآثار السديدة، تولى القضاء في مصر، وبنى مدرسة عظيمة بالقرب من جامع الأزهر، وأنشأ فيها خزانة كتب وضع فيها كتباً نفيسة في فنون مختلفة، وكان مشغولاً بالتأليف والتدريس، وكانت وفاته سنة اثنتين وستين وسبعمائة للهجرة، وله غير شرح البخاري شروح على بعض المتون المشهورة، وله كتاب الطبقات في علماء الحنفية، وهو كتاب جامع لأحوالهم وتراجمهم، واختصر تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر، وله أيضاً تاريخ مفيد.

وبالجملة؛ كان رحمه الله من مشاهير عصره علماً وزهداً وورعاً، وممن له اليد الطولى في الفقه والحديث، وقد أسف المسلمون على فقده، وهو الحري بقول القائل: وإني لمعذور إذا ما بكيته ... بأكثر من قطر الغمام وأغزر ولي عبرة لم ترق عند ادكاره ... كما لي فيه عبرة المتفكر وقد كان لم يحجب سناه بحاجب ... ولم تستتر أضواؤه بمستر فوا أسفي إن كان يغني تأسفي ... وواحذري إن كان يغني تحذري وكنت أراني في النوائب صابراً ... فأعدمني صبري فأين تصبري وإني لمقبول المعاذير في الأسى ... ومن يعتذر مثلي إلى الصبر يعذر وكان رحمه الله تعالى محباً لعلماء الحديث وحفّاظ السنة النبوية، لاسيما شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، فقد أثنى عليه الثناء الجميل، وذكر له مناقب جليلة، وذب عنه، وخاصم من بغى عليه واعتدى، وله تقريظ بديع على كتاب "الرد الوافر" أثنى فيه على الشيخ بما يليق بجلالة قدره، ويكفي دليلاً على جلالة قدر الشيخ، وأنه من أكابر أئمة أهل السنة: شهادة مثل هذا الإمام ونظرائه من حفّاظ الأنام رحمة الله عليهم أجمعين، وقد أثنى على الشيخ ابن تيمية ثناء لا مزيد عليه ونوه بشأنه وأطنب في بيان مناقبه، ومن ذلك ما كتبه على كتاب "الرد الوافر"1 في مناقب الشيخ أيضاً، وهذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم " إن أضوع زهر تفتق عنه أكمام ألسن الأنام، وأبدع ذكر يعبق منه طيب الأفهام حمد من أجرى ماء التبيان في عود اللسان لحمل ثمار المعاني والبيان، وكشف ضياء الأوهام بشمس الحقائق، وأبان ما في القلوب بأقمار الدقائق، وأشرع أسنة الخواطر والأفكار، بأيدي أنوار البصائر والأبصار، إلى ثغر العلوم والأخبار، وأقلع عنا بنسائم ألطافه عجاجة الظنون والشكوك ووقع

_ 1 انظر ترجمته في "شذرات الذهب" (9/418- 420- ط. دار ابن كثير) و"الضوء اللامع " (10/131) و " النجوم الزاهرة" (16/8)

لنا مناشير الصدق في السلوك وأراحنا في ركوب أعناق الكلام من العثرات والملام، وأزاحنا عن الوقوع في تيار العبرات إنه ولي الإنعام، وعصمنا من سلوك مسالك لا يؤمن فيها العثار، ومحالات تستحيل فيها الأعذار، والصلاة والسلام على من ختمت به النبوة والرسالة، المخلوق من طينة الفصاحة والبسالة، الذي أصعدته ذروة الملكوت وأعطته الكتاب، وقرنت بطاعته ومعصيته الثواب والعقاب، محمد المصطفى المستأثر بالشفاعة يوم الحساب، وعلى اله الذين استأسدوا في رياض نبوته وأصحابه الذين تقلدوا بسيوف النصرة في دعوته، وعلى علماء الأمة الذين استظهروا على صدمات الدهر وصولته، بنزع ألسنتهم من تفويق سهام الطعن إلى أغراض العصبية، وإقلاع أسنة خوضهم في أعراض الأنفس الأبية، فلذلك صاروا أنجماً للاهتداء، وبدوراً للإقتداء، فأجدر بهم أن يفوه لهم بمشايخ الإسلام، وأنصار شرائع خير الأنام. وبعد، فإن مؤلف كتاب "الرد الوافر" قد جد في هذا التصنيف البديع الزاهر، وجلا بمنطقه السحار الرد على من تفوه بالإكفار على علماء الإسلام، والأئمة الأساطين الأعلام، الذين تبّوؤا الدار في رياض النعيم، واستنشقوا رياح الرحمة من رب كريم، فمن طعن في واحد منهم أو نقل نقلاً غير صحيح قيل عنهم فكأنما نفخ في الرماد، أو اجتنى من خرط القتاد، وكيف يحل لمن يتسم بالإسلام أو ينتسم نسمة من علم أو فهم أو إفهام؛ أن يكفر من قلبه عن ذلك سليم بهيج، واعتقاده لا يكاد إلى ذلك يهيج؟! ولكن من لم يوازنه طبعه في القريض لم يزل يجد العذب مراً كالمريض، والعائب لجهله شيئاً يبدي صفحة معاداته، ويتخبط خبط العشواء في محاوراته، وليس هو إلا كالجعل باشتمام الورد يموت حتف أنفه، وكالخفاش يتأذى ببهور سنى الضوء لسوء بصره وضعفه، وليس لهم سجية نقادة، ولا روية وقادة، وما هم إلا صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم صلمعة بن قلمعة، وهيان بن بيان، وهي بن بي، وضل بن ضل، وضلال بن التلال. ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية من شم عرانين الأفاضل، ومن جم براهين الأماثل، الذي كان له من الأدب مآدب

تغذي الأرواح ومن نخب الكلام له سلافة تفز الأعطاف المراح، ومن يانع ثمار أفكار ذوي اليراعة طبعه المعلق في الصناعة الخالية عن وصمة الفجاجة والبشاعة، وهو الكاشف عن وجوه مخدرات المعاني حجاب نقابها، والمفترع عرائس المباني بكشف جلبابها، وهو الذاب عن الدين ظن الزنادقة والملحدين، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين، وللمأثورات عن الصحابة والتابعين، فمن قال هو كافر فهو كافر حقيق، ومن نسبه إلى الزندقة فهو زنديق، وكيف يكون ذلك وقد سارت تصانيفه إلى الآفاق، وليس فيها شيء مما يدل على الزيغ والشقاق، ولم يكن بحثه فيما صدر عنه في مسألة الزيارة والطلاق إلا عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالين مأجور مثاب، وليس فيه شيء مما يلام أو يعاب، ولكن حملهم على ذلك حسدهم الظاهر، وكيدهم الباهر، وكفى للحاسد ذماً آخر سورة الفلق، في احتراقاته بالقلق، ومن طعن في واحد ممن قضى نحبه منهم أو نقل غير ما صدر عنهم فكأنما أتى بالمحال، واستحق به سوء النكال، وهو الإمام الفاضل البارع التقي النقي الورع الفارس في علمي الحديث والتفسير والفقه والأصولين بالتقرير والتحرير، والسيف الصارم على المبتدعين، والحبر القائم بأمور الدين، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ذو همة وشجاعة وإقدام فيما يروع ويزجر، كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة، خشن العيش ذو القناعة من دون طلب الزيادة، وكانت له المواعيد الحسنة السنية، والأوقات الطيبة البهية، مع كفه عن حطام الدنيا الدنية، وله المصنفات المشهورة المقبولة، والفتاوى القاطعة غير المعلولة، وقد كتب على بعض مصنفاته قاضي القضاة كمال الدين ابن الزملكاني رحمه الله تعالى: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر ثم ذكر ترجمة ابن الزملكاني، ثم قال: أفلا تكفي شهادة هذا الحبر لهذا الإمام، حيث أطلق عليه حجة الله في الإسلام، ودعواه أن صفاته الحميدة لا يمكن حصرها ويعجز الواصفون عن عدها وزبرها؟.

فإذا كان كذلك فكيف لا يجوز إطلاق شيخ الإسلام عليه، أو التوجه بذكره إليه وكيف يسوغ إنكار المعاند الماكر الحاسد، وليت شعري ما متمسك هذا المكابر المجازف الجاهل المجاهر وقد علم أن لفظة الشيخ لها معنيان لغوي واصطلاحي؛ فمعناه اللغوي: أن الشيخ من استبان فيه الكبر، ومعناه الاصطلاحي: من يصلح أن يتلمذ له، وكلا المعنيين موجود في الإمام المذكور في ولا رئب أنه كان شيخاً لجماعة من علماء الإسلام، ولتلامذة من فقهاء الأنام فإذا كان كذلك كيف لا يطلق عليه شيخ الإسلام، لأن من كان شيخ المسلمين يكون شيخاً للإسلام، وقد صرح بإطلاق ذلك قضاة القضاة الأعلام، والعلماء الأفاضل أركان الإسلام، وهم الذين ذكرهم مؤلف هذا الكتاب الرد الوافر في رسالته التي أبدع فيها بالوجه الظاهر، وقد استغنينا بذكره عن إعادته، فالواقف عليه يتأمله، والناظر فيه يتقبله، وأما مناظرات هذا الإمام فكثيرة في مجالس عديدة، فلم يظهر في ذلك لمعانديه فيما ادعوا به عليه برهان غير تنكيدات رسخت في القلوب من ثمرات الشنآن، وقصارى ذلك أنه حبس وقيد، وقد حبس الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ومات في الحبس، فهل قال أحد من العلماء أنه حبس حقاً، وحبس الإمام أحمد رضي الله عنه وقيد لما قال قولاً صدقاً، والإمام مالك رضي الله عنه ضرب ضرباً شديداً مؤلماً بالسياط، والإمام الشافعي رضي الله عنه حمل من اليمن إلى بغداد بالقيد والاحتياط، وليس ببدع أن يجري على هذا الإمام ما جرى على هؤلاء الأئمة الأعلام، وكان آخر حبسه بقلعة دمشق، وتوفي فيها في الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسفر صباحها عن عشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وكان مرضه سبعة عشر يوماً، وصلى عليه بباب القلعة الشيخ محمد بن تمام، ثم صلوا عليه في الجامع الأموي، ثم دفن في مقابر الصوفية إلى جنب أخيه الشيخ شرف الدين، ومولده في عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران، وقدم مع والده إلى دمشق، وقد امتلأ الجامع وقت الصلاة عليه أكثر من يوم الجمعة، وحضر الأمراء والحجاب، وحملوه على رؤوسهم، وخرجوا به من باب الفرج، وامتد الخلق إلى مقابر الصوفية وختموا

غلى قبره ختمات، وبات أصحابه على قبره ليالي عديدة. ثم ذكر شعر بعضَ من رثاه، ونبذة من شعر بعض من مدحه وأثنى عليه، كالإمام زين الدين عمر بن الوردي، وأثير الدين أبي حيان، وذكر ترجمة ابن الوردي، ولعد أن أورد شعر أبي حيان -قال: ومثل الإمام أبي حيان إذا شهد له بأنه ناصر الشريعة، ومظهر الحق، ومخمد الشر، وأنه الإمام الذي كانوا ينتظرون مجيئه؛ فكفاه مدحاً وتزكية، فإذا كان هذا الإمام بهذا الوصف بشهادة هذا الإمام وبشهادة غيره من العلماء الكبار فماذا يترتب على من يطلق عليه الكفر، أو ينبزه بالزندقة، ولا يصدر هذا إلا عن جاهل، أو مجنون كامل، فالأول يعزر بغاية التعزير، ويشهر في المجالس بغاية التشهير، بل يؤبد فى الحبس إلى أن يحدث التوبة، أو يرجع عن ذلك بأن يحسن الأوبة، والثاني يداوى بالسلاسل والأصفاد، والضرب الشديد بلا أعداد، وهذا كله من فساد هذا الزمان، وتوانى ولاة الأمور عن إظهار العدل والإحسان، وقطع دابر المفسدين. واستئصال شأفة المدبرين، حيث يتعدى جاهل- يزعم أنه عالم- يثلب أعراض المسلمين. ولاسيما الذين مضوا إلى الحق بالحق وبه كانوا عاملين، وهذا الإمام مع جلالة قدره في العلوم نقلت عنه على لسان جم غفير من الناس كرامات ظهرت منه بلا التباس، وأجوبة قاطعة عند السؤال منه من المعضلات، من غير توقف منه بحالة من الحالات. ومن جملة ما سئل عنه -وهو على كرسيه يعظ الناس، والمجلس غاص بأهله: ما رأيكم في رجل يقول ليس إلا الله، ويقول الله في كل مكان، هل هو كفر أم إيمان؟ فأجاب على الفور: من قال إن الله بذاته في كل مكان فهو"مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل هو مخالف للملل الثلاث، بل الخالق سبحانه وتعالى بائن من المخلوقات، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل هو الغني عنها البائن بنفسه بها، وقد اتفق الأئمة من الصحابة

والتابعين والأئمة الأربعة وسائر أئمة الدين أن قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 ليس معناه أنه مختلط بالمخلوقات وحال فيها، ولا أنه بذاته في كل مكان، بل هو سبحانه وتعالى مع العبد أينما كان، يسمع كلامه ويرى أفعاله، ويعلم سره وخفاه، رقيب عليهم، مهيمن عليهم، بل السموات والأرض وما بينهما كل ذلك مخلوق لله ليس الله بحال في شيء منه سبحانه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل، فلا تمثل صفاته بصفات خلقه، ومذهب السلف إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وقد سئل الإمام مالك رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فهذا الإمام كما رأيت عقيدته وكاشفت سريرته، فمن كان على هذه العقيدة كيف ينسب إلى الحلول والاتحاد والتجسيم، أو ما يذهب إليه أهل الإلحاد، أعاذنا الله وإياكم من الزيغ والضلال والفساد، وهدانا إلى سبيل الخير والرشاد، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. حرره منمقاً فقير رحمة ربه العلي الغني، أبو محمد محمود بن أحمد العيني عامله الله بلطفه الخفي والجلي، بتاريخ الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وثمانمائة بالقاهرة المحروسة".

_ 1 سورة الحديد: 4. 2 سورة الشورى: 11. 3 سورة طه: 5.

ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام

[ثناء الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي على شيخ الإسلام] ومنهم الإمام الحافظ محمد بن أبي بكر بن ناصر الدين الدمشقي الشافعي رحمه الله، وكان رحمه الله تعالى من أعلم العلماء العاملين، والحفاظ المتقنين، قد بلغ بشامخ فضله عنان السماء، وأفاد المستفيدين فوائد جلت عن الإحصاء،

وكان ذا رسوخ وتمكين، واعتقاد رصين، ذا أخلاق سنية، وصفات مرضية، وكان له ذهن وقاد، وفطنة أدرك بها مرتبة الاجتهاد، وعلم ما خفي على غيره من العباد، إليه تنتهي الحقائق، وعنه تروى الدقائق، له التصانيف المفيدة، والكتب الفريدة، وكان ذا تواضع وإنصاف، وديانة وعفاف، يحب الانتصار للحق وأهله، ويذعن لما يدل عليه البرهان من غير قدحه ولا تعليله، وقد أثنوا عليه بما يليق بمقامه االرفيع، وترجمه جماعة من الأفاضل واتفق على فضله الجميع، وممن ترجمه العلامة الحافظ قطب الدين الخضيري الدمشقي عليه الرحمة في كتابه الذي ألفه في طبقات الشافعية، وذكر نبذة من أوصافه الحميدة، ومزاياه المرضية، وكان من الموالين لشيخ الإسلام، والعارفين بقدر ذلك الإمام، لم يزل يجادل عنه خصومه، ويذب عنه اعتراضاتهم الموهومة، وقد ألف بعض الزائغين السالكين مسلك السبكي من غلاة الشافعية الناكبين عن المحجة البيضاء والسنة النبوية كتابة ذكر فيه تكفير من يطلق على ابن تيمية شيخ الإسلام بسبب منعه الاستغاثة بغير الله، وقوله بما اختاره من الأحكام، فرد عليه الحافظ الدمشقي هذا رداً شفى به صدور المؤمنين، وذكر في رده من مناقب الشيخ وعلومه ومن أثنى من أكابر الأئمة ما تقر به عيون المسلمين، وسمّى كتابه هذا (الرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية شيخ الإسلام كافر) والكتاب مفصل، وفيه مسائل مهمة، قرظه مشاهير علماء عصر مصنفه، وأكابر أئمة المذاهب الأربعة، كالحافظ ابن حجر العسقلاني، وقاضي القضاة الإمام نور الدين العيني، وقد سبق ذكر ما قالاه، والإمام البلقيني الشافعي، والإمام قاضي القضاة عبد الرحمن التفهني الحنفي، والإمام شمس الدين محمد بن أحمد البساطي المالكي وغيرهم، وسنذكر تقاريظهم إن شاء الله، والكتاب نادر الوجود، ومنه نسخة جيدة في خزانة كتب ولي الدين في جامع السلطان بايزيد في دار السلطنة العثمانية المحروسة موسومة بعدد تسع وأربعين وأربعمائة وألف، نسأله تعالى أن يوفق نشر هذا الكتاب وينعم على المسلمين بمعرفة فوائده. ما قاله الإمام العلامة قاضي القضاة شيخ الإسلام صالح بن عمر البلقيني

الشافعي عليه الرحمة1: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم صل على سيدنا محمد سيد السادات، من أهل الأرضين والسموات، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ويسر والطف واختم بخير، آمين. وبعد؛ فقد وقفت على هذا التصنيف الجامع، والمنتقى البديع المطرب للمسامع، وعملت بشروط الواقفين من استيفاء النظر، فوجدته عقداً منظماً بالدرر، يفوق عقود الجمان، ويزري بقلائد العقيان، ويضوع مسك الثناء على جامعه مدى الزمان، وقال لسان الحال في حقه ليس الخبر كالعيان، وكيف لا وهو مشتمل على مناقب عالم زمانه، والفائق على أقرانه، والذاب عن شريعة المصطفى باللسان والقلم، والمناضل عن الدين الحنيفي وكم أبدى الحكم، صاحب المصنفات المشهورة، والمؤلفات المأثورة الناطقة بالرد على أهل البدع والإلحاد، القائلين بالحلول والاتحاد، ومن هذا شأنه كيف لا يلقب بشيخ الإسلام، وينوه بذكره بين العلماء الأعلام، ولا عبرة بمن يرميه بما ليس فيه، أو ينسبه بمجرد الأهواء لقول غير وجيه، فلم يضره قول الحاسد، والباغي والطاعن والجاحد. وما ضر نور الشمس إن كان ناظراً ... إليها عيون لم تزل دهرها غمضا2 غير أن الحسد يحمل صاحبه على اتباع فواه، وأن يتكلم فيمن يحسده بما يلقاه. لله در الحسد ما أعدله ... بدأ بصاحبه فقتله وما أحق هذا الغالم بقول القائل: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا علمه ... فالقوم أعداء له وخصوم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار

_ 1 "الرد الوافر" (ص 249- وما بعدها) . 2 في "الرد الوافر": "عمياً".

الحطب، أو قال: العشب"1. أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف، وكيف يجوز أن يكفر من لقب هذا العالم بشيخ الإسلام ومذهبنا أن من كفر أخاه المسلم بغير تأويل فقد كفر، لأنه سمى الإسلام كفراً. ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين ابن السبكي في ترجمة أبيه الشيخ تقي الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب بخطه لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه وللشيخ تقي الدين أبن تيمية وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر، فلولا أن ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه المنقبة التي نقلها ولو كان ابن تيمية مبتدعا أو زنديقاً ما رضي أن يكون أباه قريناً له. نعم نسب الشيخ تقي الدين إليه أشياء أنكرها عليه معاصروه، وانتصب للرد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق، وأفرد كلاً منهما بتصنيف، وليس في ذلك ما يقتضي كفره ولا زندقته أصلاً، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر- يعني النبي صلى الله عليه وسلم - والسعيد من عدت غلطاته، وانحصرت سقطاته، ثم إن الظن بالشيخ تقي الدين أنه لم يصدر منه ذلك تهوراً وعدواناً- حاش لله- بل نعله لرأي رآه وأقام عليه برهاناً، ولم نقف إلى الآن بعد الفحص والتتبع على شيء من كلامه يقتضي كفره ولا زندقته، وإنما نقف على رده على أهل البدع والأهواء وغير ذلك مما يظن به براءة الرجل وعلو مرتبته في العلم والدين، وتوقير العلماء والكبار وأهل الفضل متعين، قال الله تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2. وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا" 3 وفي رواية "حق كبيرنا

_ 1 حديث ضعيف. أخرجه أبو داود (4903) . وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 272- 273/ 876) بعد ذكره: "لا يصح". وضعفه الألباني في "الضعيفة" (1902) . 2 سورة الزمر: 9. 3 أخرجه أحمد (2/ 185) والبخاري في "الأدب المفرد" (354،358،363) وأبو داود (3943) والترمذي (1920) وغيرهم، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.

وكيف يجوز أن يقدم على رمي عالم بالفسق أو الكفر ولم يكن فيه ذلك وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك" 1، ثم كيف يجوز الإقدام على سب الأموات بغير حق وهو محرم، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"2. وكيف يجوز أذى المؤمن بغير حق والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 3 وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"4. فالواجب على من أقدم على رمي هذا العالم بما ليس فيه الرجوع إلى الله تعالى، والإقلاع عما صدر منه، ليحوز الأجر الجزيل بالقصد الجميل، وإن اطلع على أمر يحتمل التأويل فلا يقطع بما يخالف ذلك التأويل بغير دليل، وإن صح عنده أمر جازم عنه يقتضي إنكاره فينكره قاصداً للنصيحة، ولا يهضم مقام الرجل مع شهرته بالعلم والفضل والتصانيف والفتاوى التي سارت بها الركبان، والله تعالى يحفظنا من الخطأ والخطل، ويحمينا من الزيغ والزلل، والحمد لله رب العالمين، وكتب في اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة 835". ومنهم الإمام العلامة قاضي القضاة عبد الرحمن التفهني الحنفي عليه الرحمة، كان علامة عصره، وفهامة مصره، أتقن علوم الدين، وعلم حقائق

_ 1 أخرجه أحمد (5/ 181) أو (21654) بهذا اللفظ. ونحوه عند البخاري (3508، 6045) ومسلم (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. 2 أخرجه البخاري (1393) . 3 سورة الأحزاب: 58. 4 أخرجه البخاري (10) ومسلم (41) .

اليقين، حتى كان تذكرة الإمام، وعليه مدار أصحاب مذهبه في الأحكام، له التصانيف التي لم يسبقه إليها غيره من الأفاضل، والفوائد التي هي واسطة عقد الفضائل، وكان على منهج السلف الصالح، ويعد مخالفتهم من أفضح الفضائح، ولم يزل يثني على المحدثين، ويصوب آراءهم في عقائد الدين، وأفرد المصنفون له تراجم مفصلة، وأثنوا عليه بعباراتهم المطولة، وذكروا أنه كتب في مناقب شيخ الإسلام ما يليق بشأنه من الكلام، وقد قرظ كتاب "الرد الوافر" وذكر من مناقبه نحو ما ذكره الأكابر، وهذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم؛ الحمد لله الذي جعل قلوب العلماء كنوز لطائف الحكم، وألسنتهم مكفوفة عما فيه نقص أو جرح أو ألم، وأسماعهم عن سماع قول الفحش في صمم، وخصهم بين الأنام بجلائل النعم، وجعلهم محفوظين عن الخوض في الأعراض، متجانبين عما يؤدي إلى ظهور الأغراض، وصلى الله على سيدنا محمد المبعوث للعرب والعجم، وعلى آله وأصحابه ذوي الكرم والهمم. وبعد، فإن صاحب هذا التأليف قد أمعن النظر وأجاد وبين وأتقن وأفاد فيما هو المقصود والمراد، من الرد على من أكفر علماء الإسلام، وهم الأئمة الأعلام، بنسبتهم الشيخ العالم الناسك تقي الدين ابن تيمية إلى كونه شيخ إسلام. فنقول بالله التوفيق: إن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان على ما نقل إلينا من الذين عاشروه وما اطلعنا عليه من كلام تلميذة الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق؛ كان عالماً متقناً متفنناً، متقللاً من الدنيا معرضاً عنها، متمكناً من إقامة الدليل على الخصوم، حافظاً للسنة عارفاً بطريقها، عالماً بالأصلين أصول الدين وأصول الفقه، قادراً على الاستنباط لاستخراج المعاني، لا يلويه في الحق لومة لائم، قائم على أهل البدع المجسمة، والحلولية والمعتزلة، والروافض وغيرهم، والإنسان إذا لم يخالط ولم يعاشر يستدل على أحواله وأوصافه بآثاره، إلا أن ما اتصف به تلميذه ابن القيم من العلم يكفي ذلك دليلاً على ما قلناه، وما نقل إلينا مما اجتمع في جنازته من الخلائق التي لا تحصى حتى

شبهت جنازته بجنازة الإمام أحمد رضي الله عنه عبرة لمن اعتبر، وما نقل إلينا من تسلطه على الجان المردة عبرة أيضاً. قال تلميذه ابن قيم الجوزية- عند كلامه على الصرع في "الطب النبوي" 1: "واختياره أن الصرع على قسمين: صرع يتعلق بالأخلاط، وصرع يتعلق بالأرواح الخبيثة- كان شيخنا ابن تيمية يأتي إلى المصروع ويتكلم في أذنه بكلمات فيخرج ولا يعود إليه بعد ذلك " وحكايته مع الذي اختطفت زوجته معروفة، ومع الذي كان يرتفع إلى السقف معروفة أيضاً؛ فمن كان متصفاً بهذه الأوصافت كيف لا يلقب بشيخ الإسلام بأي معنى أريد منه، وكيف يحل أن ينسب مثل هذا الشيخ أو واحد من المشايخ المذكورين في هذا التأليف أو واحد من المتصفين بالإسلام- ولو في الظاهر- إلى الكفر، مع ما عليه أهل السنة والجماعة من أن مقترف الكبيرة عمداً لا يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، وأنه إن مات ولم يتب كان في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بقدر ذنبه وإن شاء غفر له وعفا عنه، وأنه لا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة، وذلك أعم من أن يكون سنياً أو بدعياً أو معتزلياً أو شيعياً أو من الخوارج، وهو المروي عن أبي حنيفة، فإنه سئل عن طائفة من الخوارج معينين، فقال: هم أخبث الخوارج، فقيل هل تكفرهم؟ فقال لا. وهكذا المروي عن الشافعي والأشعري وأبي بكر الرازي رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذه المسألة مشهورة في موضعها. ومما يدل على هذا ما قاله الفقهاء حيث قالوا وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، وإنما تقبل شهادتهم لإسلامهم، واستثنوا الخطابية لأنهم يعتقدون جواز الكذب في الشهادة، فإذا كان الحكم فيما ذكرناه هكذا فكيف بمسلم متصف بالأوصاف الحسنة المتقدمة. وقد أخبرني من حضر مجلس هذا الكفر فقال إن ابن تيمية كافر مجوسي،

_ 1 الطب النبوي جزء من كتاب ابن القيم الماتع "زاد المعد في هدي خير العباد". وانظر: (4/66-69) ط. الرسالة.

النصارى واليهود خير منه، فإن النصارى واليهود لهم كتاب وابن تيمية لا كتاب له. فنعوذ بالله من هذه النزغة الشيطانية المفظعة القبيحة، مع أنه لم ينقل عن ابن تيمية كلام يقتضي كفراً ولا فسقاً ولا ما يشينه في دينه، وقد كتبت في زمنه محاضر لجماعة من العلماء العدول اطلعنا عليها بأنه لم يقع منه شيء مما يشينه في دينه، ووصفوه في تلك المحاضر بأعظم مما قلناه من أوصافه المتقدمة، وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي الزيارة والطلاق، وقضية من قام عليه مشهورة، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان، وإنما هما من أصول الشريعة التي أجمع العلماء على أن المخطىء فيها مجتهد مثاب لا يكفر ولا يفسق، والشيخ كان يتكلم في المسألتين بطريق الاجتهاد، وقد ناظر من أنكر عليه فيهما مناظرة مشهورة بأدلة يحتاج من عارضه فيها إلى التأويل، وهذا ليس بعيب، فإن المجتهد تارة يخطىء وتارة يصيب، وهو مثاب على اجتهاد وإن كان مخطئاً، ولو اشتغل هذا المكفر بالله، وبما يجب عليه من طاعته، وصان لسانه ومنع نفسه من الاشتغال بما لا يعنيه، وحمل أحوال المسلمين على الصلاح، واقتدى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألستتهم" 1. وبقول عيسى عليه السلام حين عارضه خنزير في بعض الطرق، فقال: "اذهب يا مبارك، فقيل له في ذلك! فقال: إني أعوّد لساني الخير". وبقول عمر رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها من الخير محملاً. واعلم أنه إذا نقل إلينا كلام أخد وثبت أنه كلامه بالطريق الصحيح الشرعي ونظرنا في ذلك الكلام فلم نجد له وجه صحة وإنما وجدناه مصادماً للشريعة من كل وجه؛ فإن كان المنقول عنه ذلك الكلام ميتاً ولم يثبت عندنا رجوعه نسبناه إلى ما يقتضي كلامه، وإن كان حياً قمنا عليه، فإن تاب وإلا رتبنا عليه ما تقتضي

_ 1 حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 236، 248) . وانظر "جامع العلوم والحكم" للحافظ ابن رجب (ص 506- ط. ابن الجوزي) الحديث التاسع والعشرون. و"الإرواء" (رقم: 413) و"الصحيحة" رقم (1122) و"الصمت لابن أبي الدنيا" (رقم: 6- تحقيق الشيخ الحويني) .

الشريعة المحمدية- لما أكفر واحداً من أهل القبلة كما في هذه القضية، وكما وقع له مثل ذلك في حق شخص ممن اجتمع الناس على علمه وخيره ودينه وتبحره في العلوم، وهو الشيخ شمس الدين البساطي قاضي قضاة المالكية، في الديار المصرية، فنسأل الله تعالى أن يتوب عليه، وأن يصون لسانه عن الزلل، وأن يجعل ما نحن فيه خالصاً لله تعالى، وأن يدخلنا الجنة بمنه وكرمه، قال ذلك عبد الرحمن التفهني عامله الله بلطفه الخفي في رابع عشر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وثمانمائة"1. ومنهم الإمام العلامة قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد البساطي المالكي عليه الرحمة، وكان من أكابر رجال المالكية وفقائهم، وأجلّ مشايخهم وعلمائهم، أخذ العلم عن أئمة لهم لسان صدق في الأمة، وأخذ عنه جماعة من علماء عصره وأجلاه مصره، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو في جميع شؤونه بصير حازم، مع تواضع ولين جانب، وفكاهة هي من أعجب العجائب، وله مصنفات في فنون مختلفة، هي فريدة في بابها من بين الكتب المصنفة، وقد حسده أيضاً جماعة من أهل عصره، ورموه بالعظائم كما فعلوه مع أهل الفضل غيره، وكان ممن عرف قدر شيخ الإسلام، وكتب في مناقبه ما تلتذ به المسامع والإفهام، وقد عثرنا على تقريظ له على كتاب" الرد الوافر" 2 ومنه يعلم ما كان عليه من الفضائل والمآثر، وهو قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد؛ فقد نظرت في هذا الكتاب الدال على أن مصنفه من الحفاظ المطلعين، وأنه قد وفى بما قصد إليه إما صراحة وإما إشارة، مع أن الإمامة للشيخ تقي الدين ابن تيمية في العلم مما لا يحتاج إلى الاستدلال عليه لحصول العلم الضروري عن الأخبار المتواترة بذلك، وأما قول من قال إنه كافر وأنه من قال في

_ 1 " الرد الوافر" (ص 225- 257) . (ص 258-259) .

حقه أنه شيخ الإسلام فهو كافر، فهذه مقالة تقشعر منها الجلود، وتذوب لسماعها القلوب، ويضحك إبليس اللعين عجباً بها ويشمت، وتنشرح أفئدة المخالفين وتتثبت، ثم يقال له: لو فرضنا أنك اطلعت على ما يقتضي هذا في حقه فما مستندك في الكلام الثاني، وكيف تصح لك هذه الكلية المتناولة لمن سبقك ولمن هو آت بعدك إلى يوم القيامة، وهل يمكنك أن تدّعي أن الكل اطلعوا على ما اطلعت عليه، وهل هذا إلا استخفاف بالأحكام، وعدم مبالاة ببني الأيام، والواجب أن يطلب هذا القائل ويقال له لم قلت وما وجه ذلك؟ فإن أتى بوجه يخرج به شرعاً من العهدة فبها، وإلا برح تبريحاً يردع أمثاله عن الإقدام على أعراض المسلمين، وكتبه محمد بن أحمد البساطي المالكي عفا الله عنه، والحمد لنه وحده، وذلك سنة خمس وثلاثين وثمانمائة من الهجرة". ومنهم الإمام الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي البزار عليه الرحمة، وهو أحد الأئمة الذين تبوؤا قمة الجوزاء، وبلغت شهرتهم في علو الدرجة إلى السماء، فضله السلسبيل، والبحر الطويل، والأصيل ابن الأصيل، الذي ترك عبد الحميد في أبيجاد، والحريري في حومة الأولاد، وابن العميد ساقط العماد، الجامع بين الرقة واللطافة، والنزاهة والظرافة، وبدائع الأفكار، ودقائق الأنظار، والمعاني الرائقة، والنكات الفائقة، مع فصاحة تخرس لها الألسان طوع القلم، وسبح طويل ببحر القرطاس تقف بساحله الأمم، وبلاغة يتحلى بها جيد الدهر، ويتمنطق بها خصر العصر، وكان له من المصنفات ما تجاوز العد، وقد جمعت حسن السبك، وسهولة العبارة، والفوائد العجيبة، وهي في فنون مختلفة، ومنها كتاب أفرده في مناقب شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أبي العباس تقي الدين ابن تيمية، أودع فيه من مناقب ذلك الإمام ومزاياه ومآثره ما لم يجتمع في كتاب، وأتى فيه بالعجب العجاب بل بفصل الخطاب، وذلك من آيات إنصافه وإذعانه للحق، وقلما يتفق ذلك لأهل العلم وغالبهم من تحمله عصبية رجال مذهبه على الميل عن الحق والإضراب عنه، كما كان من السبكي وابنه وابن حجر، غير أن الله سبحانه وتعالى خص هذه الأمة بخصائص، منها أنها لا تجتمع

على ضلالة، وذلك مما استوجبت به أن تكون خير أمة أخرجت للناس وقد لخص بعض أبواب هذا الكتاب الشيخ مرعي الحنبلي في كتاب مناقب شيخ الإسلام، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ومنهم أوحد الأدباء وشيخ الفضلاء شهاب الدين أحمد العمري الشافعي عليه الرحمة، كان فائقاً في عصره على الأقران، بما حواه من الأدب والعرفان، بل هو ملك أنس تكونت ذاته من نور، وفلك فضل على قطب الكمال يدور، تألقت في سماء المعالي كواكبه وزاحمت العيوق من غير عائق مناكبه في وتناولت عنقود الثريا سواعده، وتأسست فوق المجرة قواعده، فرفع من العلوم منارها، وقدح زند فكره بصوانة البلاغة فأورى نارها، وبزغ قمر كماله من فلك الفصاحة، ونبع غصن نجابته من دوحة الكرم والسماحة، ودأب في طلب العلوم فأحرز منها ما أحرز، ووشى حواشي مطول فضله بمعاني بديع بيانه وطرز، وغاص فكره بقاموس العلوم فاستخرج من عباب المنطوق والمفهوم أصداف فوائد ملئت بصحاح الجواهر، وقلدها في نحور الطالبين فأفحم بمعجز البراهين كل مباحث ومناظر، هو تحفة للناظرين، وروضة للطالبين وغنية للمبتدئين، وهو الفقيه الذي ليس له أشباه ولا نظائر، والبليغ الذي يشهد المسامر أنه الزاخر، تقر له بالإعجاز الصدور والإعجاز، فتحريره الروض الرائق، وفكره كنز الدقائق، وتقريره الدر المختار، وتعبيره تنوير الأبصار، وحكاياته ربيع الأبرار، والمحدث الذي ألحق الأحفاد بالأجداد، وأتى من فنون الإسناد ما سلسل به الرواية فملأ بروايته الورّاد، قام على أقدام التحقيق، وأبرز عرائس المخدرات من خدور التدقيق. بدا والعلم ليس له عيون ... فأجراها ونورها أناسي وأبدع في مباحثه فنوناً ... رأيناهن واضحة القياس فهو الذي رفأ خرقه وأشع في سحابه برقه، وأصدح على أفنانه ورقه، فمنار الإيمان بهدايته في إيضاح، ومشكاة الرواية في رأيه ذات مصباح، وليالي المحابر مشرقة من شمس، ومعارفه بصباح، وأعناق المشكلات بصوارم ذهنه مجزومة، وكتائب المعضلات بسمر أقلام كتبه مهزومة، ورياض العلوم به زاهرة،

وأفلاك الفهوم على تقريره دائرة، ونجب التوجيه بأمثال نوادره سائرة، وخدود الطروس عن غرر إبداعه سافرة، ووجوه البيان كاشفة النقاب عن محاسن تحبير جده الحالي بها هذا الكتاب، وهو من بيت فضل ومجد ودراية، وسلفنا أهل علم وعمل ورواية، نسبه بابن الخطاب متصل، وحسبه من كل جرثومة مجد منفصل. قوم لهم بين الأنام مناقب ... كالشمس في العليا على التحقيق ما فيهم إلا نجيب كامل ... ذاعت فضائله بكل طريق ناهيك من شرف ترى أنسابهم ... موصولة في حضرة الفاروق وكان هذا الفاضل مقتفياً أثر سننهم، وآخذاً بفروضهم وسننهم، يلوح من فرقه سيما جده الإمام الفاروقي، ويرشح من قلبه السليم بعقارب الأقارب رشحات الترياق الفاروقي، وهو منذ أميطت عنه التمائم ولاحت له من أثر أسلافه العلائم اشتغل بقراءة الفقه والحديث والتفسير والأصول، وشرع في طلب العلوم من المعقول والمنقول، إلى أن صار العلم المفرد، ولم يسبقه من أهل عصره أحد. وفي تاريخ أبي الفدا ما نصه: "في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبعمائة بلغنا وفاة القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري بدمشق بالطاعون، ومنزلته في الإنشاء معروفة، وفضيلته في النظم والنثر موصوفة، كتب السر للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة بعد أبيه محي الدين، ثم عزل بأخيه القاضي علاء الدين وكتب السر بدمشق، ثم عزل وتفرغ للتأليف والتصنيف، حتى مات عن نعمة وافرة. قال أبو الفدا: دخل رحمه الله قبل وفاته بحدة معرة النعمان فنزل في المدرسة التي أنشأتها ففرح لي بها، وأنشد فيها بيتين أرسلهما لي بخطه، وهما: وفي بلد المعرة دار علم ... بنى الوردي منها كل مجد هي الوردية لحلواء حسناً ... حمدت الله إذا بك تم مجدي فأجبته بقولي

أمولانا شهاب الدين إني ... حمدت الله إذ بك تم مجدي جميع الناس عندكم نزول ... وأنت جبرتني ونزلت عندي انتهى ما قاله. وله مصنفات كثيرة ليس هذا موضع استيفائها، ومن أجلّها قدراً كتابه المسمى بـ "مسالك الأبصار في الممالك والأمصار" وهو كتاب مفصل لم يؤلف نظيره في بابه في بضع وعشرين مجلداً، أودعه أحوال البلاد والدول بتحقيق وتدقيق وتفاصيل لم يشتمل عليها غيره، ومن ذلك تراجم أفاضل عصره، وأفرد فصلاً طويلاً في مناقب شيخ الإسلام، وأثنى عليه بما يليق به من الثناء الجميل، وذكر ما كان له من المزايا والفضائل ومنزلته في العلم والاجتهاد، ولو اطلع عليها الزائغ النبهاني وأضرابه الغلاة عبدة غير الله لغصوا بريقهم، وقد ذكر منها نبذاً مفيدة العلامة الشيخ مرعي الحنبلي فيما ألّفه من مناقب الشيخ على ما سنذكره. ومنهم الحافظ الإمام شمس الدين صاحب "الصارم المنكي" عليه الرحمة، وقد سبق بيان نبذة من أحواله وفضائله عند الرد على كلامه على كتاب "الصارم المنكي" وقد ترجمه جميع من صنف من المترجمين المنصفين، وله ذكر جميل في طبقات ابن رجب والشذرات، وهو من أجلّ تلامذة شيخ الإسلام، وصنف كتاباً كبيراً في مناقب شيخه سماه "الدرة المضية في مناقب الإمام ابن تيمية" وقد نقل عنه الشيخ مرعي أيضاً في مناقبه على ما سيجيء إن شاء الله تعالى. ومنهم الحافظ الإمام الأجل الشهير بابن قيم الجوزية عليه الرحمة والرضوان وهو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلي رضي الله عنه، كان واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف، وله من التصانيف ما لا يعد كثرة، منها: "أعلام الموقعين" و"بدائع الفوائد" و"جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" و"رفع اليدين" و "تحفة الودود في أحكام المولود" و"الفتح المكي" و"الفتح القدسي"، وغير ذلك.

وهو طويل النفس في مؤلفاته، وجرت له محن مع القضاة، منها سبب فتواه بجواز الرجوع بغير محلل، فأنكروا عليه وآل الأمر إلى أن رجع عنه، كذا في الدرر الكامنة من المائة الثامنة اقتصاراً، وفضله أشهر من أن ينبه عليه، وأظهر من أن يشار إليه، وكتبه المنتشرة اليوم أعدل شاهد على علو شأنه وطول باعه في كل علم. وقد ألّف في مناقب الشيخ ما تقر به عين المؤمن، وينشرح له صدر كل مسلم، وذكر أيضاً نبذة مفيدة من أحواله في كثير من كتبه، لاسيما في كتابه "مدارج السالكين شرح منازل السائرين" ووفق بين أحواله وأحوال أكابر عباد الله الصالحين، وعرف منزلته ومقامه، وقد كان من أجلّ تلامذة الشيخ وأصحابه، وأدرى من غيره بشؤونه وأحواله، ودرجته من علم اليقين وبلوغه مقام المجتهدين الأعلام. وبالجملة: إن ابن القيم نفسه كان حسنة من حسنات ابن تيمية وهو ذلك العالم الذي سارت بذكر فضائله الركبان، وهو كما قال القائل: برغم الأعادي نال ما هو نائل ... فأجدع آناف العداة وأرغما ولو رام أن يرقى إلى النجم لارتقى ... ويوشك رب الفضل أن يبلغ السما ولا غرو أن يعلو وها هو قد علا ... ولا بدع أن يسمو وها هو قد سما عزائمه كالمشرفية والظبا ... وآراؤه ما زلن في الخطب أنجما يصيب بها الأغراض مما يرومه ... ولا يخطىء المرمي البعيد إذا رمى ومنهم العلامة المحدث السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس عليه الرحمة، وكان آية في علم الحديث والتفسير والأصلين والتصوف وأحوال الرجال، كما كان مشهوراً بالإنصاف من بين علماء مصره، ومن أوضح الدلائل على إنصافه هذا، وقد رد المنكرين عليه وذب عنه ما هو بريء منه، وذكر دلائل ما اختاره من الأقوال، وسمّى ذلك الكتاب "القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي".

وقد تلقى كتابه هذا علماء عصره بالقبول، وقرظوه وأثنوا عليه بالثناء الجميل، وذكروا أن ما فيه هو الحق الذي قام عليه البرهان والدليل، وممن قرظه الإمام العلامة الشيخ عبد الرحمن الشافعي الدمشقي الشهير بالكزبري عليه الرحمة فقال بعد الخطبة: "أما بعد؛ فقد اطلعت على هذا الجزء الشريف، وسرحت طرفي في رياض روضه المنيف، فرأيته بديعاً جامعاً لفصل القول وخطابه، معرفاً بسناء مقام الشيخ شيخ الإسلام، أحد سلاطين المحدثين الأعلام، من أذعن لغزارة علمه الموافق والمخالف، واعترف بتحقيقه وسعة إطلاعه من هو على مؤلفاته واقف، الإمام ابن تيمية أحمد تقي الدين، وأنه ممن دان بسيرة السلف الصالحين، منزه عن سوء الاعتقاد وزيغ العقيدة، سالكاً لطريقة السلف الحميدة، وأن ما يعزى إليه من بعض المخالفات في الأصول والابتداع هو منه بريء، كما يصرح به النقل من كلامه في مشهور مؤلفاته الدال على أنه بموافقة أهل السنة حري، وما يعزى إليه من المخالفات في بعض الفروع والطعن في السادة الصوفية أولي الشأن العلي فذلك مما لا نوافقه عليه، ولا نسلم شيئاً من ذلك إليه، كما حقق جميع ذلك وحرره سيدنا مؤلف القول الجلي والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وكتبه تراب أقدام أهل الحديث الشريف النبوي عبد الرحمن الشافعي الدمشقي الشهير بالكزبري عفا الله عنه وختم له بالحسنى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف من الهجرة". وممن قرظه أيضاً الإمام العلامة الشيخ محمد التافلاني مفتي الحنفية بالقدس الشريف رحمه الله قال بعد خطبته البليغة: "وبعد؛ فقد وقفت على هذا القول الجلي في ترجمة تقي الدين ابن تيمية الحنبلي فودجته قولاً جلياً، وصراطاً سوياً، قد نبذ مؤلفه التعصب ظهرياً، فمن يهز نخلاته تساقط عليه رطباً جنياً، ومن ضرب عنه كشحاً يقول لمؤلفه لقد جئت شيئاً فرياً. كلا لقد سلك مولانا صفي الدين ما يستعذبه العارفون، ومحجته بيضاء نقية لا يعقلها إلا العالمون، والخطأ في ابن تيمية معلوم، ولا ينجو منه إلا معصوم،

وقد اعترف له بطول الباع في العلوم الشرعية وغيرها الموافق والمخالف، ولا ينكر ذلك إلا غبي أو جاهل أو حسود أو متعصب على حجر جمود واقف، وقد أثنى عليه جمهور معاصريه، وجمهور من تأخر عنه، وكانوا خير مناصريه، وهم ثقات صيارفة حفّاظ، عريفهم في النقد دونه عريف عكاظ، وطعن فيه بعض معاصريه بسبب أمور أشاعها مشيع لحظ نفسه، أو لأجل المعاصرة التي لا ينجو من سمها إلا من قد كمل في قدسه، فخلف من بعدهم مقلدهم في الطعن فتجاوز فيه الحد، ورماه بعظائم موجبة للتعزير أو الحد، ولو قال هذا المقلد كقول بعض السلف حين سئل عما جرى بين الإمام علي ومعاوية فقالوا: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا أفلا نطهر منها ألسنتنا لنجا من هذا العناء، وقول الآخر لما سئل عن ذلك فأجاب {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وهذا الإمام تصانيفه قد ملأت طباق الثرى، واطلع عليها القاصي والداني من علماء الورى، فما وجدوا فيها عقيدة زائغة، ولا عن الحق زائغة، وكم سل السيوف الصوارم على فرق الضلال، وكم رماهم بصواعق محرقة كالجبال، تنادي صحائفه البيضاء بعقيدة السلف، ولا ينكر صحتها وأفضليتها من خلف منا ومن سلف، شهد له الأقران بالاجتهاد، ومن منعه له فقد خرط بكفه شوك القتاد، وما سوى العقائد نسبت إليه مسائل جزئية رأى فيها باجتهاده رأي بعض السلف، لدليل واضح قام عنده، فكيف يحل الطعن فيه بسهام الهدف، وهذا محمد بن إسحاق قال فيه إمام دار الهجرة: ذاك دجال من الدجاجلة، ومع ذلك وثقه تلميذه الإمام المجتهد محمد بن إدريس، وروى عنه حديث القلتين، ووصفه بالدجاجلة لم يبق من الذم شيئاً، ولم يرمه أحد بكفر ولا زندقة ولا فسق، وأمثال هذه القضية جرت في الأعصر الأول وبعدها مراراً، وأشنع ما نسب إليه منع الزيارة لقبور الأنبياء، فهذه إن صحت عنه فلعله إنما منع شد الرحال إليها قصداً، وأما الزيارة لتلك القبور المقدسة تبعاً فلا يصح نسبة المنع إليه، كيف وهو مصرح باستحباب زيارة

_ 1 سورة البقرة: 141.

قبور آحاد المؤمنين، ولله در الإمام حافظ الشام ابن ناصر حيث ألّف في الذب عنه رسالة هي أمضى من السيف الباتر، ولله در أمير المؤمنين الحافظ ابن حجر والحافظ الأسيوطي وأضرابهم من الأسود الكواسر، فقد شنوا الغارة على من طعن فيه فباؤوا بالأجر الوافر، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده، وثمة أشياء أخر أشيعت عنه وهي أكاذيب وفرية وما فيها مرية، وهي سنة الله في أحبابه، وأما طعنه على بعض المشهورين من الصوفية فهو ليس بفريد في ذلك، بل سلفه مثله وأعلى منه في تلك المسالك، وما قصده مع أمثاله إلا الذب عن ظاهر الشريعة، خوفاً على ضعفاء الأمة من اعتقاد أمور شنيعة، ومن كان هذا قصده يمدح ويثاب ولا يلازم، فكيف يزعم زاعم خروجه بذلك عن الإسلام. هذا وفصل الخطاب- عند أولي الألباب- أن معتقد طريق السلف على غاية الصواب، ومن أداه اجتهاده لدليل قام عنده في فرع فقهي بعد تبحره في العلم لإيلام عرضه ولا يعاب، وإن خالف المذاهب الأربعة أو المذاهب المنقرضة الغير المتبعة، والمقلد إذا التزم مذهباً لا يجوز له الطعن في رجل برع ونال رتبة الاجتهاد {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} 1 وليس الرافل في حلل المجد في غرف القصور كخادم الباب، ورسالة مولانا صفي الدين هذه صاحبة القدح المعلى، وهي قبلة أرباب التحقيق والمصلى، هي من الضنائن الأعلى جواهرها ثمينة لا يخطبها إلا رجل كقولها ولمثلها. ولقد كشفت نقاب حسنها في زمان لا تخطب الخطاب مثلها، ولا يرشفون نهلها وعلها، إذا تليت عليهم آياتها حاصوا كحيص الحمر، وشنوا الغارة على عرج الحمير، وقالوا ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين واتخذوها هجراً وصمموا على النكير، وما ذاك إلا أصحاب الهمم إلا النادر، وقليل ما هم في هذا الزمان الداثر، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد الذي لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه أرباب النجدة". وممن صنف في مناقبه أيضاً الشيخ مرعي الحنبلي العلامة الشهير رحمه الله،

_ 1 سورة الطلاق: 7.

وهو على ما في كتاب "خلاصة الأثر" العلامة المحبي مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي- نسبة لطور كرم قرية بقرب نابلس- ثم المقري، أحد أكابر العلماء من حنابلة مصر، كان إماماً محدثاً فقيهاً، ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائق الحديث، ومعرفة تامة بالعلوم المتداولة، أخذ عن الشيخ محمد المرداوي، وعن القاضي يحيى الحجاوي، ودخل مصر وتوطنها، وأخذ بها عن الشيخ الإمام محمد الحجاوي الواعظ، والمحقق أحمد الغنيمي، وكثير من المشائخ المصريين، وأجازه شيخه فتصدر للإفتاء والتدريس في جامع الأزهر، ثم تولى المشيخة في جامع السلطان حسن، ثم أخذها منه عصريه العلامة إبراهيم الميموني، ووقع بينهما من المعارضات ما يقع بين الأقران، وألّف كل منهما في الآخر رسائل، وكان منهمكاً على العلوم انهماكاً كلياً، فقطع زمانه بالإفتاء والتدريس والتحقيق والتصنيف، فسارت بتآليفه الركبان، ومع كثرة أضداده وأعدائه ما أمكن أن يطعن فيها أحد، ولا نظر بعين الأزراء إليها، ثم إن المترجم عد له من المصنفات نحم سبعين كتاباً في فنون شتى، قال: وله غير ذلك من فتاوى ومسائل نافعة يتداولها الناس، وكان في فن النظم والنثر آية، وكتابه بديع الإنشاء والصفات في المكاتبات والمراسلات، يشهد له بطول باعه في ذلك، وله ديوان شعر منه قوله: يا ساحر الطرف يا من مهجتي سحراً ... كم ذا تنام وكم أسهرتني سحرا لو كنت تعلم ما ألقاه منك لما ... أتعبت يا منيتي قلباً إليك سرى هذا المحب لقد ساءت صبابته ... بالروح والنفس قوماً بالوصال سراً يا ناظري ناظري بالدمع جاد وما ... أبقيت في مقلتي يا مقلتي نظرا يا مالكي قصتي جاءت ... ملطخة بالدمع يا شافعي كذبتها نظرا عساك بالحنفي تسعى على عجل ... بالوصل للحنبلي يا من بدا قمرا يا من جفا للغير موعده ... يا من ويا من عقلنا قمرا الله منصفنا بالوصل منك على ... غيظ الرقيب بمن قد حج واعتمرا وكانت وفاته بمصر في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وألف رحمة الله

عليه، ومن جملة ما عد له من الكتب "الكواكب الدرية في مناقب الإمام المجتهد ابن تيمية" وقد اطلعت على هذا الكتاب فرأيته من أحسن الكتب المؤلفة في هذا الباب، لاسيما وقد اشتملت على غرر مناقب ذلك الإمام، ودرر مزاياه التي هي للدهر ابتسام، فما هي إلا روضة فوحاء فيحاء، وحديقة مزهرة غناء، مكللة بغرر المعاني والأقوال، مرصعة بدرر الشواهد والأمثال، تجذب السرور إلى الصدور بأمراس السطور، مشتملة على الرقة والانسجام في النثر والنظام، فما هي إلا لآلىء ويواقيت ما بين نضيد وشتيت، من رآها من الأفاضل وأهل الكمال قال هكذا هكذا فليكن المقال. أكرم بترجمة يضوع عبيرها ... تعزى إلى المشهور في الآفاق اللوذعي اللسن الذي أضحت أفا ... ضل عصره بأنامل الأحداق تجني ثمار فنونه الغرر التي ... ببراعة حرثت على الأوراق فلله در ذلك المؤلف الأديب، والمصنف الأريب، لقد أتى بتأليف هو أبهى من إنسان العين في عين الإنسان، وأشهى من زلال العين إلى عين الظمآن، ولمثل مصنفه يقال إذ لكل مقام مقال: مصنف لو رآه منصف فطن ... لقال ما الروض إلا بعض نزهته تظن كل أديب حين يسمعه ... صبا وذا وعد من يهوى بزورته فأين لطف الصبا مما حواه ولم ... ألمم إذا قلت في تشبيه رقته ولعمري ليست نغمات الطيور في الأسحار على شرفات القصور والأشجار بأرق منها في الأسماع الكريمة، وأوفق إلى الطباع السليمة. إذا طرقت مسامعنا ابتهجنا ... وفزنا في سرور وانبساط وخلنا أن تاليها علينا ... ينادينا إلى نادي النشاط فيا لها من مناقب لا يمل سامعها، ولا يكل مطالعها، ولا بدع في هذا ولا عجب، فقد قال بعض أهل الأدب: إن أحاديث نجد لا تمل بتكرار فكيف وهي أحاديث مجد، ومدائح ناحية القصد، ولولا مخافة الإسهاب لما عدلنا عن

الإطناب، وهيهات أن يستوفي هذا التقريظ ثناء على ذلك النثر والقريض، ولكونها على اختصارها اشتملت على أحوال ذلك الإمام سنذكرها إن شاء الله تعالى بالتمام. وقد صنف في مناقب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه غير من ذكرنا من الأفاضل، والعلماء الأكابر، وذب عنه وأخذ بأقواله واختارها في عصره وبعده، وكان ذلك من علائم بصائرهم وفطنهم، فلا تجد في عصر من الأعصار من يذب عنه ويختار قوله ويسلك مسلكه إلا وهو الفائق على غيره ذكاء وفطنة وإنصافاً، ولا تجد من يخالفه ويعاديه إلا وهو من أهل الغلو والغباوة وحب الدنيا والمخالف للسنة والمعادي للحق، وهذه منقبة لم تكن إلا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينلها أحد من أكابر المجتهدين، فمن الذي منهم ألّف في مناقبه من الكتب ما ألّف فيه!؟ فسبحان من خص بعض عباده بخصائص لم ينلها غيره بجد ولا اجتهاد {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. والثناء عليه في كل عصر من أفاضله ومشاهير علمائه لا يمكننا استقصاؤه ولا الإحاطة به، ولا سميا في هذا العصر بعد أن انتشرت كتبه ورسائله وفتاواه، ففي الهند عدد كثير من المحققين كتبوا في مناقبه، وذبوا عنه، وأخذوا بأقواله واختياراته، وفي نجد كذلك، فإن قوله لديهم متبع، ومرجح على أقوال كثير من المجتهدين، وفي مصر جمع غفير على هذا المنوال، كتبوا في مناقبه مقالات مطولة ومختصرة، وأثنوا عليه وذبوا عنه، وخطَّؤوا المنكرين عليه، والمبغضين له حسداً من عند أنفسهم، ومنهم شيخ الإسلام الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية، وهو الفاضل الذي عقم الزمان أن يأتي بمثله فضلاً وإنصافاً وذكاء وبلاغة، ونثراً وشعراً، وغيرة على الدين، قدس الله روحه ونور ضريحه. حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفر

_ 1 سورة آل عمران: 26.

وقد أثنى عليه تقريراً وتحريراً، ومن طالع كتبه عرف ذلك، ومنه ما كتبة في كتابه "الإسلام والنصرانية" وهكذا أصحابه وتلامذته الأفاضل الأعلام، بل كل منهم في عصره إمام. وفي العراق أيضاً جماعة من أهل الفضل والإنصاف يعترفون بما كان عليه الشيخ من المنزلة القعساء1، والعلم الذي لا تجد أحداً يطاوله به، وأما المبغضون له في العراق فهم المنافقون الدجالون الذين اشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم، وكلهم أهل بلادة وغباوة لا يعبأ بهم، ولا يلتفت إليهم، أولئك حزب الشيطان، وقوم البهتان، وأعداء الرحمن، والسواد الأعظم من سكنة العراق على ما وصفنا، ولا بدع فبلاد العراق معدن كل محنة وبلية، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية، فأهل حروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري وتواتر النقل به واشتهر من أصولهم الخمسة التي خالفوا بها أهل السنة، ومبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية غاية يسقط بها الأمر والنهي إنما نبغوا وظهروا بالبصرة، ثم الرافضة والشيعة وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في: الإمام علي وسائر الأئمة، ومسبة أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كل هذا معروف مستفيض. والمقصود؛ أن أهل الفضل منهم- وقليل ما هم- محبون للسنة ناصرون لأهلها معارضون لمن يخاصمهم. وفي دمشق وسائر بلاد الشام أيضاً جماعة من أكابر علماء هذا العصر وفضلائه قد نصروا الشيخ واختاروا أقواله، وردوا على المخالفين له من الجهلة والغلاة، وأثنوا عليه ووثقوه، ورجحوه على كثير من الأئمة في كثير من الفنون، وصبروا على ما رأوه من كيد الخصوم وتحاملهم ومخاصمتهم للباطل، وهم أحق

_ 1 المنزلة القعساء: المنزلة الرفيعة الثابتة.

الناس بذلك لأن الشيخ قدس الله روحه الزكية منهم، وكان جيرانهم ومن بلادهم ظهرت أنوار السنة النبوية. وفي الحديث الصحيح ما يشعر بأنهم هم المؤيدون للسنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم في الغرب ". قال بعض شراح الحديث: المراد بهم أهل الشام، فإنهم أكثر الناس اشتغالاً بالحديث، وأعناهم بحفظ السنة. قال العلامة الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" في الحديث الصحيح "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ". وفي "صحيح البخاري ": "وهم بالشام ". وقد قال كثير من علماء السلف إنهم علماء الحديث، وهذا أيضاً من دلائل النبوة، فإن أهل الحديث بالشام اليوم أكثر من سائر أقاليم الإسلام ولله الحمد، ولاسيما بمدينة دمشق حماها الله وصانها، كما ورد في الحديث أنها تكون معقل المسلمين عند وقوع الفتن ". انتهى. وابن تيمية وأصحابه من أهل الشام، وقيامه بالانتصار للسنة ورد البدع أمر لا ينكر، ولا بعد أن يكون الحديث الشريف إشارة إليه وإلى أضرابه، فهو من أعلام النبوة، فتأمله فإنه دقيق. وممن أثنى على الشيخ ابن تيمية كثير من أصحاب المجلات العلمية التي تنشر في مصر وغيرها، كالفاضل الكامل صاحب "المؤيد الأغر" الذي فاق البلغاء الأولين في تحريره وبيانه، ووقوفه ومزيد عرفانه، وهو الذي إذا حرر حبر، وإذا تكلم حير، فسح الله تعالى في مدته، وهو لم يزل يثني على الشيخ ويحث على نشر كتبه واقتنائها، ويكبح المنكرين عليه، جزاه الله عن المسلمين خيراً، وكثر أمثاله فيهم. ومنهم صاحب "مجلة المنار" وهو الفاضل الذي ظهر فضله ظهور الشمس في رابعة النهار، ومجلته كأنها روضة نقطها الغمام قطراً، ونسيم أسحار هببن على قلب متيم قد توقد جمراً، أودع فيها دواء الأسفام الروحانية، وترياق العلل الجسمانية، قد شيد، فيها أركان الإسلام، ورفع فيها قواعد الأحكام، وكم جلا فيها عن وجه الحق ما انسدل عليه من الحجب، وأوضح دقائق الحقائق التي أجنتها

بطون الكتب، وأثنى على شيخ الإسلام وأشاع فضله بين الأنام، نسأله تعالى أن يحفظه من طوارق الأيام ويصونه من كيد اللئام. ومنهم الفاضل العلامة الذي حلى جيد الفضل بما أملى، حتى غدا بكل منقبة أحرى وأولى بما أولى، الذي أسرج خيول المجد، وألجم أفواه الحساد، وأقام ما تهدم من أركان الفخر، وأقعد على الأعجاز أرباب العناد، ألا وهو رفيق بك العظم نزيل القاهرة، حرسه الله تعالى وأيد به المعالي، وحفظه من مزعجات الأيام والليالي، فإنه قال في كتابه (تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام) من جملة كلام طويل ما نصه: "لم يقف الجمود بعلماء المتأخرين عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم نكالاً وأشد، فإنهم لما اسنترسلوا بالتقليد، وحرموا على أنفسهم العمل بنصوص الكتاب والسنة- إلا ما جاء منها بالعرض عن طريق الشيوخ- وأصبحوا حيارى في مدافعة البدع والأضاليل التي خالطت أوهام المسلمين، وأدنتهم من الوثنية بمقدار ما أقصاهم عنها الإسلام؛ ألف بعضهم من هذه البدع ما ألفته نفوس العامة، ونزلته منزلة العقائد الدينية، وفيها ما يصادم أصول الدين، فجعلوا يبدعون كل منكر لهذه البدع قائل بالرجوع إلى سذاجة الدين والعمل بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالحين، ويستعملون في تبديع من هذا شأنه من أساليب التعسف ما يشعر بتناهي ضعف العلم وفساد ملكة الحق عند المتأخرين، يدلك على هذا أن أحدهم لما يريد تبديع منكري هذه البدع أو تكفير مجتهد بمسألة من المسائل مثلاً ويرى أن أدلتهم- من الكتاب والسنة الثابتة الصحيحة وأنه لا سبيل له للإتيان بدليل منهما يضاد أدلتهم لأن نص الصحيح- لا يضاد نص الصحيح يعمد إلى حديث موضوع أو قول من أقوال الشيوخ فيجعله حجة له على أولئك بإزاء حجتهم من الكتاب والسنة الصحيحة، أو يجمع نصوصاً متفرقة يقصد كل منها بمعناه وجهاً مخصوصاً فيستنتج منه حكماً يطابق هواه مخالفاً في هذا طريقة السلف، ولم هذا؟ لأنه لم يلتمس في مناظرته بيان الحق وتمحيص الحقائق، وإنما هو يلتمس رضا العامة بمجاراة أفكارهم ابتغاء الزلفى عندهم، وتعظيمهم له، أو هو يحاول التماس المعذرة أمام النفس التي يتجلى لها الحق

فيصدها عنه مرغماً بحكم العادة والتقليد، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} 1. ومن أراد شاهداً على هذا فليراجع كتاب (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) ليرى كيف أن بعض العلماء المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية كفر- تعسفاً وافتراء- هذا الشيخ الجليل المعدود من نوابغ علماء الإسلام وأئمة الهدى المصلحين، لتفرده في عصره بالإنكار الشديد على أهل البدع التي انتشرت يومئذ بين المسلمين، وبيان ما أصبحت عليه الأمة من الزيغ في العقائد عن طريق الصحابة والتابعين، حاثاً على الرجوع إلى سذاجة الدين، وتطهير العقيدة من شوائب المبتدعين، مستنداً في كل ما قاله وأملاه على الكتاب العزيز والسنة الصحيحة. فهل بعد تكفير من يقول بمثل هذا القول من حجة على فساد ملكات العلماء وانحطاط درجة التعليم بين المسلمين؟ وهل يعجب من تدني عامة الأمة إلى الدرجة التي هم فيها اليوم من فساد العقيدة والأخلاق بعد وصول علمائهم إلى هذا الحد من سوء التعلم والتعليم؟ ". انتهى كلام هذا الفاضل. فانظر إلى قوة هذا الكلام وإنصاف قائله، لا هتك الله له حريماً، ولا مزق له أديما. ومنهم العلامة المفضال، المتميز بين أقرانه بالأدب والكمال، الذي أوقد للمشكلات سراجاً من فكره غدت ذبالته لمداراة فراش أذهان الطلاب قطباً، وأجرى من صخور العويصات سلسبيلاً فراتاً وماء عذباً، خلف الأوائل، وشرف الأواخر والأماثل، السيد محمد بدر الدين الحلبي، لا زالت بحار علومه تقذف بالدرر، ولا برحت غرر طروسه مزينة بالطرر، فقد أجرى من ياقوتة فكره السيالة بحاراً، وأعلى للفضل بنير ذهنه مناراً، حيث ألف كتابه الفريد في بابه، وأبدع كل

_ 1 سورة البقرة: 170.

الإبدع في فصوله وأبوابه، وأتى فيه بما لم يسبق إليه، ولم يقدم أحد من السابقين عليه، وهذا الفاضل لم يزل يعطر محافل العلماء بنشر مناقب شيخ الإسلام وأصحابه، ويجادل عنه تقريراً وتحريراً انتصاراً للحق وشغفاً به، وكم ألقم الخصم الألد حجر السكوت، وتركه من غيظه وخجله يكاد يموت، متع الله تعالى بحياته أرباب الاستفادة، وأسبغ نعمه عليه حتى ينال من كل خير مراده. ومنهم الذكي الذي أذكى بوقاد ذهنه ذبالة نبراس الفضل بعد انطفائها، والألمعي الذي لمعت أشعة فكره على دارس الفواضل فأحياها بعد فنائها، العالم الأفضل والكامل الأكمل، أبو الهمم محمد كرد علي صاحب "مجلة المقتبس" لا زالت بدور فلك العرفان مقتبسة من أنوار شمس كماله أعظم قبس، فإنه حفظه الله تعالى منذ جرى جواد قلمه في مضمار ميادين القراطيس، وشرع لسان بيانه يجول في عرصات الدرس والتدريس، لم يزل مشغوفاً بذلك الإمام، ذاكراً لمحامده ومناقبه بين الخاص والعام، قد ملأ المجلات المصرية الشهيرة بيان فضائله ومعارفه، وما كان عليه من الدرجة الرفيعة، وما بث من الدقائق في صحائفه، وكم ترك خصومه ومن ناواه حيارى، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، لا زال بالخير محفوفاً، ولا برح حائزاً من الفضائل صنوفاً. إلى غير أولئك من الأكابر، ممن لا تستوعبهم الدفاتر، ولعل الله تعالى ييسر لنا إفراد كتاب نجمعهم فيه، ونستوعب من تكلم في مناقب الشيخ من أكابر أفاضل هذا العصر، ونذكر مالهم في هذا الباب من النصوص والعبارات، ومالهم من النظم والنثر في مديحه ليكون ذلك سفراً من أجل الأسفار، والله الموفق. فيا أيها النبهاني قد سمعت ما سمعت من تقريري وبياني فهل بقي لك لوم، على مصنف "جلاء العينين" ووالده بسبب ما كان منهما من الانتصار للحق والذب عن السنة وإبطال البدع التي هي غذاء روحك الخبيثة؟ وقد سبقهما في ذلك علماء أعلام، ومشايخ عظام، ومن كان له إنصاف من ذوي الفضل الكرام، وأظن أنه لجهله لم ير في عمره مما ألف في هذا الباب سوى كتاب "جلاء العينين" ولم يعرف معناه، بل لم يحسن أن يقرأ عبارة لفظه ومبناه، فلذلك جعله سبابة المتندم،

وخصه ومؤلفه بشتمه وسبه كما شتم شيخ الإسلام وأكابر أصحابه إقتداء بمشايخه السبكي وولده وابن حجر، وقلدهم تقليد أعمى، ولم يلتفت إلى الدليل، وقد كفيناه وأعطيناه حقه بل زدناه كما قد قيل: إن السؤال والجوا مثلما ... قد قيل في التمثيل أنثى وذكر ونحن قد تطفلنا على هذا المبحث فمن الواجب أن يرد على ذلك الزائغ بعض أبناء مصنف "جلاء العينين" فقد بلغني أن فيهم أفاضل فكان من حقهم أن يذبوا عن والدهم، ويلقموا هذا الخصم الذي خطا خطوات العدوان بحجر سكوت، ولكن إعراضهم عن ذلك إما لعدم وصول الكتاب إليهم، وإما عدم مبالاة بما كان من الجاهل النبهاني، كما قال القائل: عذرت البزل إن هي خاطرتئي ... فما بالي وبال ابن اللبون فإن نبح الكلاب لا يضر السحاب، وطنين الذباب لا يخاف منه أولو الألباب، وما أحسن ما قال ابن سند أحد سكنة العراق من علماء نجد: يا معهد الزيغ لأحياك مبتكر ... من السحاب ضحوك البرق منهمل ولا أنني فيك فسطاط السعود ولا ... أقيم فيك لأبكار الرضا كلل ولا عداك البلى في كل آونة ... حتى تزول الجبال الشم والقلل إذ أنت دمنة خبثت طالما رتعت ... فيها من الحمر الأهلية الهمل من كل من بخثت منه ضمائره ... إذا انقضى دخل منها أتى دخل رأى خيار الورى طراً فجانبهم ... كذا يجانب أرباب العلى السفل وصار يرميهم منه بكل هجا ... وما على البدر لو أزرى به طفل وما على العنبر الفواح من حرج ... إن مات من شمه الزبال والجعل أو هل على الأسد الكرار من ضرر ... أن ينهق العير مربوطاً أو البغل أو هل على أنجم الخضراء منقصة ... إن عابها من حصى الغبراء منجدل فلا وربك لا يزري بشمس ضحى ... أعابها الجدي أم قد عابها الحمل وقد يعيب الفتى من ليس يدركه ... إذ كل ضد بذم الضد مشتغل

كما يعيب فتاة راق منظرها ... قبيحة ويعيت الصائب الخطل والزج يحسد لؤماً خرص سمهره ... كذاك يهجو الشجاع الباسل الفشل فلا يضر أولي الفضل الألى سبقوا ... من صحب خير الورى إن ذمهم سفل مثل الأسنة والأسياف ما برحت ... بطعن أعدائهم والضرب تنصقل وقد آن أن نشرع بما وعدنا به من نقل كتاب "الكواكب الدرية" للشيخ مرعي الحنبلي، فإنها على اختصارها حوت ملخص أحوال الشيخ وما كان عليه، فإنه بعد خطبة الكتاب ذكر الكتب التي لخص منها مباحث كتابه، ثم ذكر ترجمة الشيخ ونسبه، ثم ذكر ثناء الأئمة عليه، ثم أفرد فصلاً عد فيه بعض مصنفاته وذكر سعة حفظه وقوة ملكته، ثم أورد فصلاً في ذكر بعض مآثره الحميدة وصفاته السديدة، وفصلاً آخر في تمسكه بالكتاب والسنة، وآخر في محنته وتمسكه بالطريقة السلفية، وما كان من الشيخ نصر المنبجي من العداوة، ثم أفرد فصلاً في سفر الشيخ إلى مصر وما صادفه من المحنة، ثم ذكر ما وقع له بعد عوده إلى دمشق، وما كان له من الاختيارات، ثم ذكر قصة حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى وفاته، ثم ذكر قوله في مسألة السفر إلى زيارة القبور وصورة السؤال وجواب الشيخ فيها، ثم ذكر ما كان من انتصار علماء بغداد له يومئذ، وجواب الشيخ جمال الدين الحنبلي رحمه الله، وأجوبة أخرى موافقة لقول الشيخ، وما كتبه علماء بغداد للملك الناصر من الثناء على الشيخ، ثم ذكر وفاته وما كان من الاحتفال بجنازته، ثم ذكر الشعر الذي رثوه به، ثم ختم الكتاب بالموعظة والتحذير من التعرض للعلماء. هذا مجمل ما في الكتاب، وهي مطالب عالية، كلها شجى في أفواه الغلاة، وكلها ترد على هذيان النبهاني وأضرابه، وتبين الحق لطالبه، وتوضح الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وها نحن ننقل ما ذكره من تفصيل ذلك الإجمال، ومنه سبحانه الهداية وهو المستعان. قال رحمه الله بعد البسملة: " الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن العلماء العاملين، والأئمة

المجتهدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد؛ فهذه فوائد لطيفة، وفرائد شريفة، في مناقب شيخ الإسلام، وبحر العلوم، ومفتي الفرق، المجتهد أحمد تقي الدين بن تيمية، لخصتها من مناقبه للشيخ الحافظ الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي بن عبد الحليم بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي، ومن مناقبه للشيخ الإمام العالم الأوحدي الحافظ سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن موسى البزار، ومن مناقبه للشيخ الإمام العالم أوحد الأدباء وشيخ الفضلاء شهاب الدين أحمد بن القاضي محيي الدين يحي بن العمري الشافعي. فأقول وبالله التوفيق: ابن تيمية هو الشيخ الإمام العالم العامل الرباني، إمام الأئمة، وعلامة الأمة، ومفتي الفرق، وبحر العلوم، وسيد الحفّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، ووحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، عالم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضز بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها، كذا ترجمه بهذه الترجمة ابن قدامة المتقدم. واختلف لم قيل ابن تيمية؟ فقيل: إن جده فحمد بن الخضر حج على درب تيماء فرأى هناك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتاً فقال يا تيمية يا تيمية فلقب بذلك. وقيل إن جده محمداً كانت أمه تسمى تيمية وكانت واعظة فنسب إليها وعرف بها. ولد رحمه الله تعالى بحران يوم الإثنين عاشر- وقيل ثاني عشر- ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وبقي بحران إلى أن بلغ سبع سنين، ثم بعد ذلك هاجر والده به وبإخوته إلى الشام عند جور التتر، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب، فكاد العدو يلحقهم ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله

سبحانه واستغاثوا به فنجوا وسلموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين،.. فنشأ بدمشق أتم إنشاء وأزكاه، وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه، وكانت مخائل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل العناية فيه واضحة، فلم يزل منذ إبان صغره مستغرق الأوقات في الجد والاجتهاد، وختم القرآن صغيراً، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك مع ملازمته مجالس الذكر، وسماع الأحاديث والآثار، ولقد سمع غير كتاب على غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة العالية، أما دواوين الإسلام الكبار كمسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، ومسلم، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود السجستاني، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، فإنه سمع كلاً منها مرات عديدة، وأول كتاب حفظه في الحديث "الجمع بين الصحيحين" للإمام الحيمدي، كذا قال الشيخ الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر- وسمع من مشايخ كابن عبد الدائم المقدسي وطبقته، وطلب بنفسه قراءة وسماعاً من خلق كثير، وقرأ الكتب الكبار، وكتب الطباق والإثبات، ولازم السماع واشتغل بالعلوم. قال ابن عبد الهادي بن قدامة: وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، وسمع مسند الإمام أحمد مرات، وسمع الكتب الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير، وعني بالحديث، وقرأ ونسخ وانتقى وتعلم الخط والحساب في الكتاب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه وقرأ في العربية، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه وأتم فهمه وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً، حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه" انتهى.

فصل في ثناء الأئمة على ابن تيمية

(فصل في ثناء الأئمة على ابن تيمية) قد أكثر أئمة الإسلام من الثناء على هذا الإمام، كالحافظ المزي، وابن دقيق العيد، وأبي حيان النحوي، والحافظ ابن سيد الناس، والعلامة كمال الدين ابن الزملكاني، والحافظ الذهبي، وغيرهم من أئمة العلماء. قال جمال الدين أبو الحجاج المزي ممن ابن تيمية: ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه. وقال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وقلت له: ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك. وقال الشيخ إبراهيم الرقي: الشيخ تقي الدين يؤخذ عنه ويقلد في العلوم، فإن طال عمره ملأ الأرض علماً وهو على الحق، ولا بد ما يعاديه الناس فإنه وارث علم النبوة. وقال قاضي القضاة: أبو عبد الله بن الحريري: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟ وقال أبو حيان شيخ النحاة لما اجتمع بابن تيمية: ما رأت عيناي مثله، ثم مدحه أبو حيان على البديهة في المجلس وقال. لما أتينا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرداً ماله وزر على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر حبر تسربل منه دهرنا حبراً ... بحر تقاذف من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر وأظهر الحق إذ آثاره درست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر

وقال العلامة ابن الوردي ناظم البهجة في رحلته- لما ذكر علماء دمشق وترك التعصب والحمية-: وحضرت مجالس ابن تيمية فإذا هو بيت القصيدة، وأول الخريدة، علماء زمانه فلك هو قطبه، وجسم هو قلبه، يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر، حضرت بين يديه يوماً فأصبت المعنى، وكناني وقبل بين عيني اليمنى، وقلت: إن ابن تيمية في ... كل العلوم أو حد أحييت دين أحمد ... وشرعه يا أحمد وقال الحافظ فتح الدين أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري المصري- بعد أن ذكر ترجمة الحافظ المزي-: وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، تبرز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دبّ إليه من أهل بلده داء الحسد، وألب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاماً أوسعوه بسببه ملاماً، وفوقوا لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، يسومونه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، ولم يزل بمجلسه إلى حين ذهابه إلى رحمة الله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ثم قال: قرأت على الشيخ الإمام حامل راية العلوم ومدرك غاية الفهوم تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله، بالقاهرة

قدم علينا، ثم ذكر حديثاً من جزء ابن عرفة. وقال الشيخ علم الدين البرزالي في "معجم شيوخه ": أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الشيخ تقي الدين أبو العباس الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه، قرأ القرآن وبرع فيه والعربية والأصول، ومهر في علم التفسير والحديث، وكان إماماً لا يلحق غباره في كل شيء وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين، وكان إذا ذكر التفسير بهت الناس من كثرة محفوظه وحسن إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل علم كان الحاضرون يقضون منه الحجب، هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرد من أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كل جمعة يفسر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه وطهارة أنفاسه وصدق نيته وصفاء ظاهره وباطنه وموافقة قوله لعمله وأناب إلى الله تعالى خلق كثير، وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر والتقلل من الدنيا رحمه الله تعالى. وقال العلامة الزملكاني أحد أئمة الأعلام: لقد أعطى ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب، والتقسيم والتبيين، وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداوود الحديد، كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، ووقعت مسألة فرعية في قسمة جرى فيها اختلاف بين المفتين في العصر فكتب فيها مجلدة كبيرة، وكذلك وقعت مسألة في حد من الحدود كتب فيها مجلدة كبيرة أيضاً، ولم يخرج في كل واحدة عن المسألة، ولا طول بتخليط الكلام والدخول في شيء والخروج من شيء وأتى في كل واحدة بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.

وقال عن كتاب "بيان الدليل على بطلان التحليل": من مصنفات سيدنا وشيخنا وقدوتنا الشيخ السيد الإمام العالم العلامة الأوحد البارع الحافظ الزاهد الورع القدوة الكامل العارف تقي الدين شيخ الإسلام، مفتي الأنام، سيد العلماء، قدوة الفضلاء، ناصر السنة، قامع البدعة، حجة الله على العباد، راد أهل الزيغ والعناد، أوحد العلماء العاملين، آخر الأئمة المجتهدين، أبي العباس أحمد بن تيمية، حفظ الله على المسلمين طول حياته، وأعاد عليهم من بركاته، أنه على كل شيء قدير. وقال عن كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد، العابد القدوة، إمام الأئمة، وقدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السنة ومن عظمت به لله علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة: تقي الدين أحمد ابن تيمية، أعلى الله مناره، وشيد به من الدين أركانه، ثم قال: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر هو آية في الخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر وقال الشيخ الإمام القدوة الزاهد، عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي: شيخنا السيد الإمام، العلامة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفاتق عن الحقائق، ومؤصلها بالأصول الشرعية للطالب الفائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلى قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم، ونسيت الأمة حذوهم وسبيلهم، فكان في دارس نهجهم سالكاً، ولأعنة قواعده مالكاً: الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن

عبد السلام بن تيمية، فوالله ثم والله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثله علماً وحالاً، وخلقاً واتباعاً، وكرماً وحلماً في حق نفسه، وقياماً في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدق الناس عقداً، وأصحهم علماً وعزماً، وأعلاهم- في انتصار الحق وقيامه- همة وأسخاهم كفاً، وأكملهم اتباعاً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأطال في ترجمة الشيخ. وقال الحافظ الناقد أبو عبد الله شمس الدين الذهبي: نشأ- يعني الشيخ تقي الدين رحمه الله- في تصون تام، وعفاف وتأله، وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال، ومات والده وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم، فدرس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكان يورد الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح، وكان آية في الذكاء وسرعة الإدراك، رأساً في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحراً في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً وشجاعة وسخاء وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وكثرة تصانيف، وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى، وهو ابن سبع عشرة سنة، وتقدم في علم التفسير والأصول، وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها، ودقها وجلها، فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمى المتكلمون فهو فردهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلسهم وتيسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي، أو ينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن توضع في مجلدين، فالله تعالى يغفر له ويسكنه أعلى جنته، فإنه كان رباني الأمة، وفريد الزمان، وحامل

لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين، رأساً في العلم، يبالغ في إطراء قيامه في الحق والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد، ولا لاحظتها من فقيه. قال: وكان له باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها أقوال المذاهب الأربعة وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج له بالكتاب والسنة. ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له مروياته وينص على أسماء جملة منها، فكتب في عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه، بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدث يكون، وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر منه من الورع وكمال الفكر وسرعة الإدراك والخوف من الله العظيم والتعظيم لحرمات الله، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم. وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، ولقد أقامه في نوبة غازان وقام بأعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وبخطلو شاه، وببولاي، وكان فنجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب، وهو كبر من

أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والقمام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه. وقال في مكان آخر في ترجمة طويلة: وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم، وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظ لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهر عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله، غير أنه يغترف فيه من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة، وإذا رآه القمري تحير فيه، ولفرط طول باعه في التفسير وعظمة إطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالاً عديدة، وينصر قولاً واحداً موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحواً من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد، وله في غير مسألة مصنف مفرد في مجلد، ثم ذكر بعض تصانيفه رحمه الله. وكتب الذهبي طبقة بخطه يقول فيها: سمع جميع هذا الكتاب على مؤلفه شيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد شيخ الإسلام مفتي الفرق قدوة الأمة أعجوبة الزمان بحر العلوم حبر القرآن تقي الدين سيد العباد أبي العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه. وقال الشيخ علم الدين: رأيت إجازة بخط الشيخ تقي الدين وقد كتب تحتها الشيخ شمس الدين الذهبي: هذا خط شيخنا الإمام شيخ الإسلام، فرد الزمان، بحر العلوم تقي الدين، مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقرأ

القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وله نحو العشرين سنة، وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وأما حفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه. وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيراً، وعربيته قوية جداً، وأما معرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير من المأكل والملبس. انتهى كلام الذهبي ولقد أنصف رحمه الله تعالى. وقال يعض قدماء أصحاب الشيخ ابن تيمية وقد ذكر نبذة من سيرته: أما مبدأ أمر، ونشأته فإنه نشأ من حين نشأ في حجور العلماء، راشفاً كؤوس الفهوم، راتعاً في رياض التفقه ودوحات الكتب الجامعة لكل فن من الفنون، لا يلوي إلى غير المطالعة والاشتغال والأخذ بمعالي الأمور وخصوصاً علم الكتاب العزيز والسنة النبوية ولوازمهما، ولم يزل على ذلك خلفاً صالحاً سلفياً، متألهاً عن الدنيا صيناً تقياً، براً بأمه ورعاً عفيفاً، عابداً ناسكاً صواماً قواماً ذاكراً لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، راجعاً إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم ولا ترتوي من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال ولا تكل عن البحث، وقل أن يدخل في علم من العلوم من باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك مستدركات في ذلك العلم على حذاق أهله مقصودة بالكتاب والسنة، ولقد سمعته في مبادىء أمره يقول: إنه ليقف خاطري في المسألة

أو الشيء أو الحالة التي تشكل علي فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينجلي إشكال ما أشكل، قال: وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي، قال: ولقد كنت في تلك المدة وأول النشأة إذا اجتمعت بالشيخ ابن تيمية في ختمة أو مجلس ذكر خاص مع المشائخ وتذاكروا وتكلم مع حداثة سنة أجد لكلامه صولة على القلوب، وتأثيراً في النفوس، وهيمنة مقبولة، ونفعاً يظهر أثره وتنفعل له النفوس التي سمعته أياماً كثيرة 4 حتى كأن مقاله بلسان حاله، وحاله ظاهر في مقاله. وقال الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي في كتابه المناقب: لم يبرح شيخنا- يعني ابن تيمية- في ازدياد من العلوم، وملازمة للاشتغال وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبيل الخير، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم، والإنابة والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والأمانة، والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق ونفع الخلق والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير. وكان رحمه الله سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين، وكان بحراً لا تكدره الدلاء، وحبراً يقتدي به الأخيار الألباء، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأمصار، واشتغل بالعلوم، وكان ذكياً كثير المحفوظ، إماماً في التفسير وما يتعلق به، عارفاً بالفقه واختلاف العلماء والأصلين والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفاً به متقناً له، وأما الحديث فكان حافظاً له، مميزاً بين صحيحه وسقيمه، عارفاً برجاله

مضطلعاً من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، وأثنى عليه وعلى فضائله جماعة من علماء عصره. وقال الشيخ الإمام الفاضل الأديب أحمد شهاب الدين بن فضل الله العمري الشافعي في تاريخه المسمى "بمسالك الأبصار في مسالك الأمصار" في ترجمة الشيخ ابن تيمية- وهي طويلة تبلغ كراسة فأكثر-: ومنهم أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني، العلامة الحافظ الحجة المجتهد المفسر، شيخ الإسلام، نادرة العصر، علم الزهاد، تقي الدين، أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، هو البحر من أي النواحي جئته، والبدر من أي الضواحي أتيته، رضع ثدي العلم منذ فطم، وطلع وجه الصباح ليحاكيه فلطم، وقطع الليل والنهار دائبين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أنسى السلف بهداه، وأنأى الخلف عن بلوغ مداه، على أنه من بيت نشأت منه علماء في سالف الدهور، وتسنأت منه عظماء على مشاهير الشهور، فأحيا معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فننه الرطيب ما غرس، وأصبح في فضله آية إلا أنه آية الحرس، عرضت له الكدى فزحزحها، وعارضته البحار فضحضحها، ثم كان أمة وحده، وفرداً حتى نزل لحده، جاء في عصر مهول بالعلماء، مشحون بنجوم السماء، تموج في جانبيه بحور خضارم، وتطير بين خافقيه نسور قشاعم، وتشرق في أنديته بدور دجنة، وصدور أسنة، إلا أن صباحه طمس تلك النجوم، وبحره طم على تلك الغيوم، ففاءت سمرته على تلك التلاع، وأطلت قسورته على تلك السباع، ثم عبيت له الكتائب فحطم صفوفها، وخطم أنوفها، وابتلع غديره المطمئن جداولها، واقتلع طوده المرجحن جنادلها، وأخمدت- أنفاسهم ريحه، وأكمدت شرارهم مصابيحه. تقدم راكباً فيهم إماماً ... ولولاه لما ركبوا وراه فجمع أشتات المذاهب وشتات الذاهب، ونقل عن أئمة الإجماع فمن سواهم مذاهبهم المختلفة واستحضرها، ومثل صورهم الذاهبة وأحضرها، فلو شعر أبو حنيفة بزمانه وملك أمره لأدنى عصره إليه مقترباً، أو مالك لأجرى وراءه

أشهبه ولو كبا، أو الشافعي لقال ليت هذا كان للأم ولداً وليتني كنت له أباً، أو الشيباني ابن حنبل لما لام عذاره إذ غدا منه لفرط العجب أشيبا، لا بل داود الظاهري وسنان الباطني لظنا تحقيقه من منتخله، وابن حزم والشهرستاني لحشر كل منهما ذكره في نحله، أو الحاكم النيسابوري والحافظ السِّلفي لأضافه هذا إلى مستدركه وهذا إلى رحله، ترد إليه الفتاوى ولا يردها، وتفد عليه فيجيب عنها بأجوبة كأنه كان قاعداً لها يعدها. أبداً على طرف اللسان جوابه ... فكأنما هي دفعة من صيب وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ قليل النسيان، قلما حفظ شيئاً فنسيه، وكان إماماً في التفسير وعلوم القرآن، عارفاً بالفقه واختلاف الفقهاء والأصوليين، والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق وعلم الهيئة، والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، وكان حفظه للحديث مميزاً بين صحيحه وسقيمه1، عارفاً برجاله، فتضلعاً من ذلك، وله تصانيف كثيرة، وتعاليق مفيدة، وفتاوى مشبعة في الفروع والأصول والحديث، ورد البدع بالكتاب والسنة. وأطال في ترجمة الشيخ رحمه الله تعالى فاقتصرنا على ذلك خوف التطويل. وقال الشيخ الإمام الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزار في كتابه "الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية": أما غزارة علومه فمعرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه ونقله لأقوال العلماء في تفسيره واشتهاره بدلائله وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه وفنون حكمه وغرائب نوادره وباهر فصاحته وظاهر ملاحته فإن فيه من الغاية التي ينتهي إليها والنهاية التي يعول عليها، ولقد كان إذا قرىء في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها

_ 1 وأعمل الآن على كتاب أجمع فيه كلام شيخ الإسلام على بعض الأحاديث التي تكلم عليها ووسمته بـ"الأحاديث والآثار التي تكلم عليها شيخ الإسلام تصحيحاً وتضعيفاً"- يسّر الله إتمامه على خير.

فينقضي المجلس بجملته والدرس برمته وهو في تفسير بعض آية منها، وأما معرفته وبصره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته وسراياه وبعوثه وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه والمنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم وأحوالهم وأحوال مجاهداتهم في دين الله وما خصوا به من بين الأمة فإنه كان رضي الله عنه من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضاراً لما يريده منه، فإنه قل أن ذكر حديثاً في مصنف أو فتوى أو استشهد به أو استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرهما، وذكر اسم راويه من الصحابة، وقل أن سئل عن أثر إلا وبيّن في الحال حاله وحال أكثره وذاكره، ولا والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى كان إذا أورد شيئاً من حديثه في مسألة ويرى أنه لم يجد غيره من حديثه يعمل ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائناً من كان، ومنحه الله تعالى بمحرفة اختلاف العلماء ونصوصهم وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل وما روي عن كل منهم من راجح ومرجوح ومقبول ومردوده في كل زمان ومكان، ونظره الصحيح الثاقب الصلب للحق مما قالوه ونقلوه وعزوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه، حتى كان إذا اشتغل عن شيء من ذلك كان كأن جميع المنقول فيه عن الرسول وأصحابه والعلماء من الأولين والآخرين متصور ومسطور بإزائه يقول منه ما يشاء ويذر ما يشاء، وهذا قد اتفق عليه كل من رآه، وقل كتاب من فنون العلوم إلا وقد وقف عليه، فكأن الله تعالى قد خصه بسرعة الحفظ وبطء النسيان، لم يكن يقف على شيء ويسمع بشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه ع وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره، فإنه لم يكن له مستعاراً بل كان له شعاراً ودثاراً، جمع الله له ما خرق له العادة، ووفقه في جميع عمره لإعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته من أكبر شهادة، حتى اتفق كل ذي عقل سليم أنه ممن عني نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر

دينها"1. فلقد أحيا الله تعالى به ما كان قد درس من شرائع الدين، وجعله حجة على أهل عصره أجمعين، والحمد لله رب العالمين ". وبالجملة؛ فكلام الأئمة بالثناء عليه مما يطول، وفيما ذكرناه كفاية تدل على علو رتبته ورفيع شأنه ومرتبته رضي الله تعالى عنه آمين. وأثنى عليه كثير من الفضلاء بالقصائد في حال حياته فمن ذلك قصيدة نجم الدين إسحاق بن أبي بكر التركي وهي: ذراني من ذكرى سعاد وزينب ... ومن ندب أطلال اللوى والمحصب ومن مدح آرام سنحن برامة ... ومن غزل في وصف سرب وربرب ولا تنشداني غير شعر إلى العلى ... يظل ارتياحاً يزدهيني ويطبي وإن أنتما طارحتماني فليكن ... حديثكما في ذكر مجد ومنصب بحب المعالي لا بحب أم جندب ... أقضي لبانات الفؤاد المعذب خلقت امرءاً جلداً على حملي الهوى ... فلست أبالي بالقلى والتجنب سواء أرى بالصول تقريض جؤذر ... أو إعراض ظبي ألعس الثغر أشنب ولم أصب في عصر الشبيبة والصبا ... فهل أصبون كهلاً بلمة أشيب يعنفني في بغيتي رتب العلى ... جهول أراه راكباً غير مركبي له همة دون الحضيض محلها ... ولي همة تسمو على كل كوكب فلو كان ذا جهل بسيط عذرته ... ولكنه يدلي بجهل مركب يقول علام اخترت مذهب أحمد ... فقلت له إذ كان أحمد مذهب وهل في ابن شيبان مقال لقائل ... وهل فيه من طعن لصاحب مضرب أليس الذي قد طار في الأرض ذكره ... وطبقها ما بين شرق ومغرب إلى أن قال: إمام الهدى الداعي إلى سنن الهدى ... وقد فاضت الأهواء من كل مشعب وأصحابه أهل الهدى لا يضرهم ... على دينهم طعن امرىء جاهل غبي

_ 1 تقدم تخريجه.

هم الظاهرون القائمون بدينهم ... إلى الحشر لم يغلبهم ذو تغلب لنا منهم في كل عصر أئمة ... هداة إلى العليا مصابيح مرقب فأيدهم رب العلى من عصابة ... لإظهار دين الله أهل تعصب وقد علم الرحمن أن زماننا ... تشعب فيه الرأي أي تشعب فجاء بحبر عالم من سراتهم ... لسبع مئين بعد هجرة يثرب يقيم قناة الدين بعد اعوجاجها ... وينقذها من قبضة المتغصب فذاك فتى تيمية خير سيد ... نجيب أتانا من سلالة منجب عليم بأدواء النفوس يسوسها ... بحكمته فعل الطبيب المجرب بعيد عن الفحشاء والبغي والأذى ... قريب إلى أهل التقى ذو تحبب يغيب ولكن عن مساو وغيبة ... وعن مشهد الإحسان لم يتغيب حليم كريم مشفق بيد أنه ... إذا لم يطع في الله لله يغضب يرى نصرة الإسلام أكرم مغنم ... وإظهار دين الله أربح مكسب وكم قد غدا بالقول والفعل مبطلا ... ضلالة كذاب ورأي مكذب ولم يلف من عاداه غير منافق ... وآخر عن نهج السبيل منكب لقد حاولوا منه الذي كان رامه ... من المصطفى قدما حي بن أخطب ولكن رأوا من بأسه مثل ما رأى ... من المرتضى في حربه رأس مرحب تمسك أبا العباس بالدين واعتصم ... بحبل الهدى تقهر عداك وتغلب ولا تخش من كيد الأعادي فما هم ... سوى حائر في أمره ومذبذب جنودهم من طامع ومضلل ... مسيلمة منهم يلوذ بأشعب وجندك من أهل السماء ملائك ... يمدك منهم موكب بعد موكب لئن جحدت علياء فضلك حسد ... لعمر أبي قد زاد منهم تعجبي وهل ممكن في العقل أن يجحد السنا ... ضحى وضياء الشمس لم يتحجب أيا مطلباً حزناه من غير مهلك ... وكم مهلك صد الورى دون مطلب ربيب المعالي يافع الجود والندى ... فتى العلم كهل الحلم شيخ التأدب بسيط معان في وجيز عبارة ... بتهذيبه تعجيز كل مهذب

وليس له في الزهد والعلم مشبه ... سوى الحسن البصري وابن المسيب ومن رام حبرا دونه اليوم في الورى ... فذاك الذي قد رام عنقاء مغرب أليس هو الحبر الذي بانتصاره ... حي الدين حتى بالأمانة قد حي وجاهد في ذات الإله بنفسه ... وبالمال والأهلين والأم والأب وما جئت في مدحي له متطلبا ... به عرضاً يفنى ولا نيل منصب ولكنني أبغي رضى الله خالقي ... وأرجو به غفران زلة مذنب وقال القاسم بن محمود بن عساكر: تقي الدين أضحى بحر علم ... يجيب السائلين بلا قنوط أحاط بكل علم فيه نفع ... فقل ما شئت في البحر المحيط وقصائد مدحه في حياته كثيرة، وكذلك بعد وفاته كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

فصل في تصانيف ابن تيمية وسعة حفظه وقوة ملكته رحمة الله عليه

(فصل في تصانيف ابن تيمية وسعة حفظه وقوة ملكته رحمة الله عليه) قد مرت الإشارة إلى ذلك في كلام الأئمة وقول العلامة ابن الزملكاني: "لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد". وتقدم قول الحافظ الذهبي: "وما أبعد أن تصانيفه الآن تبلغ خمسمائة مجلد". وقال الشيخ ابن عبد الهادي بن قدامة: "للشيخ رحمه الله تعالى من التصانيف والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط ". قال: ولا أعلم أحداً من متقدمي الأئمة ولا متأخريهم جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريباً من ذلك مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثيراً منها صنفه في الحبس، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب.

فمن ذلك ما جمعه في التفسير وما جمعه من أقوال مفسري السلف الذين يذكرون الأسانيد في كتبهم، وذلك أكثر من ثلاثين مجلداً، وقد بيّض أصحابه بعض ذلك وكثير منه لم يكتبوه ولو كتب كله لبلغ خمسين مجلداً، وكان رحمه الله تعالى يقول: "ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله تعالى الفهم وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم فهّمني". وقال أبو حفص عمر البزار في "المناقب ": "وأما مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، بل هذا لا يقدر عليه أحد، لأنها كثيرة جداً كباراً وصغاراً وهي منتشرة في البلدان، فقلَّ بلد نزلته إلا ورأيت من تصانيفه، فمنها ما يبلغ عشرين مجلداً كتخليس التلبيس من تأسيس التقديس، وما يبلغ سبع مجلدات كالجمع بين الحقل والنقل، وما يبلغ ست مجلدات ككتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، وما يبلغ خمس مجلدات كمنهاج الاستقامة والاعتدال، وما يبلغ أريع مجلدات ككتاب الرد على طوائف الشيعة والقدرية، رد على ابن المطهر الرافضي، وبين جهل الرافضة وضلالتهم وكذبهم، وما يبلغ ثلاث مجلدات كالرد على النصارى، ومجلدين كنكاح المحلل، وإبطال الحيل، وشرح عقيدة الأصبهانية، وما يبلغ مجلداً فكثير جداً، ككتاب تفسير سورة الإخلاص مجلد، وكتاب الكلام على قوله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} مجلد نحو خمس وثلاثين كراسة، والصارم المسلول على شاتم الرسول مجلد، وكتاب المسائل الإسكندرية في الرد على الملاحدة الاتحادية، وتنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل مجلد، وله في الرد على الفلاسفة مجلدات، وقال: الفروع أمرها قريب فمن قلّد أحداً من الأئمة جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه، وأما الأصول فقد رأيت أهل البدع والضلال تجاذبوا فيها وأوقعوا الناس في التشكيك في أصول دينهم فلذلك أكثرت من التصنيف في الرد عليهم. وبالجملة فذكر أسماء كتبه مما يطول، وله من الرسائل والقواعد والتعاليق

ما لا يمكن حصره، وقد ذكر كثيراً منها الحافظ ابن عبد الهادي بن قدامة، وقال منَّ الله تعالى على الشيخ بسرعة الكتابة ويكتب من حفظه من غير نقل. قال: وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلداً لطيفاً في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر وأحصي ما كتبه في يوم وبيضه فكان ثماني كراريس في مسألة من أشكل المسائل، وكان يكتب على السؤال الواحد مجلداً، وأما جواب يكتب فيه خمسين ورقة وستين فكثير جداً، وأما فتاويه ونصوصه وأجوبته على المسائل فهي أكثر من أن تحصى، لكن دون منها بمصر على أبواب الفقه سبعة عشر مجلداً، وهذا ظاهر مشهور، وقلّ أن وقعت واقعة وسئل عنها إلا وأجاب فيها بديهة بما بهر واشتهر، وصار ذلك الجواب كالمصنف الذي يحتاج فيه غيره إلى زمن طويل ومطالعة كتب، وقد لا يقدر مع ذلك على إيراد مثله. وقال الشيخ صالح تاج الدين محمد: حضرت مجلس الشيخ رضي الله عنه وقد سأله يهودي عن مسألة في القدر وقد نظمها شعراً في ثمانية أبيات، فلما وقف عليها فكر لحظة يسيرة وأنشأ يكتب جوابها، وجعل يكتب ونحن نظن أنه يكتب نثراً، فلما فرخ تأمله من حضر عن أصحابه فإذا هو نظم من بحر أبيات السؤال وقافيتها تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتاً، وقد أبدى فيها عن العلوم ما لو شرح لبلغ مجلدين كبيرين، وهذا من جملة بواهره، وكم له من جواب فتوى لم يسبق إلى مثله. وأما سعة حفظه وقوة ملكته؛ فقد تقدم التنبيه عليه كثيراً في كلام الأئمة، وقد أذعن له بذلك المخالف والموافق. وقال ابن عبد الهادي بن قدامة: بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق وقال: سمعت أن في هذه البلاد صبياً يقال له أحمد بن تيمية سريع الحفظ وقد جئت قاصداً لَعَلّي أراه، فقال له خياط هذه طريق كتابه وهو إلى الآن ما جاء فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهباً إلى الكتاب، فلما مر قيل ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ وأخذ منه اللوح وكتب له من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأ هذا فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه ثم قال:

أسمعه علي فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتخيها فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله، فكان كما قال. وقال الحافظ أبو حفص: كان ابن تيمية إذا شرع في الدرس يفتح الله عليه أسرار العلوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء، ونص بعضها وتبيين صحتها، وتزييف بعضها، وإيضاح حجته، واستشهاد بأشعار العرب، وهو مع ذلك يجري كما يجري التيار، ويفيض كما يفيض البحر، ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ كالغائب عن الحاضرين مغمضاً عينيه، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب ويحير الأبصار والعقول. ومن أعجب الأشياء في حقه أنه لما سجن صنف كتباً كثيرة، وذكر فيها الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وأسماء المحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم، وعزا كل شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه، وذكر أسماء الكتب التي ذكر ذلك فيها، وفي أي موضع هو منها، كل ذلك بديهة من حفظه، لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه، ونقبت واعتبرت فلم يوجد بحمد الله فيها خلل ولا تغيير. وأما معرفته بصحيح المنقول وسقيمه فإنه في ذلك من الجبال التي لا ترتقي ذروتها ولا ينال سنامها، فقلَّ إن ذكر له قول إلا وقد أحاط علمه بمنكره وذاكره وناقله، أو راو إلا وقد عرف حاله من جرح وتعديل بإجمال وتفصيل. وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه به من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية وإبراز الدلائل منها على المسائل وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه وإيضاح المخصص للعام والمقيد للمطلق والناسخ للمنسوخ وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها وما يترتب عليها وما يحتاج فيه إليها فمما لا يوصف، حتى كان إذا ذكر آية أو حديثاً وبيّن معانيه وما أريد به يعجب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه، ولقد سئل يوماً عن حديث: " لعن

الله المحلل والمحلل له" 1فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلداً كبيراً، وقل أن يذكر له حديث أو حكم إلا وتكلم عليه يومه أجمع، أو تقرأ بحضرته آية من كتاب الله تعالى ويشرع في تفسيرها إلا وقضى المجلس كله فيه. وأما ما خصه الله تعالى من معارضة أهل البدع في بدعهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، ومبالغته في ذلك من دحض أقوالهم، وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم وانتحالهم، وتبديد شملهم وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شبههم الشيطانية، ومعارضاتهم النفسانية، بما منحه الله تعالى به من البصائر الرحمانية، والدلائل النقلية، والتوضيحات العقلية؛ فمن العجب العجيب. ذكر هذا كله الحافظ أبو حفص عمر البزار، وقال: الحمد لله الذي مَنَّ علينا برؤيته وصحبته، ولقد جعله الله حجة على أهل عصره. وأنا أقول: الحمد لله الذي مَنَّ علينا بمحبته، واعتقاد أنه ممن تمسك بالكتاب والسنة، والقيام بنصرهما والذب عنهما، فالله تعالى يرحمه رحمة واسعة وينفعنا به آمين.

_ 1 حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 48، 462) والنسائي (6/ 149) والترمذي (1120) وغيرهم من حديث عبد الله بن مسعود. وفي الباب عن غيره من الصحابة؛ انظر: "إرواء الغليل" (6/ 307/1897) .

فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولا

(فصل في بعض مآثره الحميدة على سبيل التلخيص وإلا فبسطها يستدعي طولاً) أما تعبده؛ فإنه رضي الله عنه كما قال الأئمة الناقلون عنه قل أن سمع بمثله أنه كان قد قطع جل وقته وزمانه في العبادة، حتى أنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله وما يزاوله، لا من أهل ولا من مال، وكان في ليله منفرداً عن الناس كلهم خالياً بربه عز وجل ضارعاً إليه مواظباً على تلاوة القران العظيم مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية، وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى

يميل يمنة ويسرة، وكان إذا رأى في طريقه منكراً أزاله، أو سمع بجنازة سارع للصلاة عليها، أو تأسف على فواتها، ولا يزال تارة في إفتاء الناس وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر مع الجماعة، ثم كذلك بقية يومه، وكان مجلسه عامّاً للكبير والصغير والجليل والحقير، ويرى كل منهم في نفسه أنه لم يكرم أحداً بقدره، ثم يصلي المغرب وتقرأ عليه الدروس، ثم يصلي العشاء، ثم يقبل على العلوم إلى أن يذهب طويل من الليل، وهو في خلال ذلك كله الليل والنهار لا يزال يذكر الله تعالى ويوحده ويستغفره. وأما ورعه؛ فكان من الغاية التي ينتهى إليها في الورع أن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها على الورع، فإنه ما خالط الناس في بيع ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة، ولا مزارعة، ولا عمارة، ولا كان ناظراً أو مباشراً لمال وقف، ولم يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان، ولا أمير، ولا تاجر، ولا كان مدّخراً ديناراً ولا درهماً، ولا متاعاً ولا طعاماً، وإنما كانت بضاعته مدة حياته وميراثه بعد وفاته رضي الله تعالى عنه العلم اقتداء بسيد المرسلين، فإنه قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر"1. وأما زهده؛ فقد جعله الله شعاراً عن صغره، ولقد اتفق كل من رآه خصوصاً من مال إلى ملازمته أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا، واشتهر عنه ذلك حتى لو سئل عامي من أهل بلد بعيد: من أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدنيا وأحرصهم على طلب الآخرة؛ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية، وما اشتهر بذلك إلا لمبالغته في الزهد مع تصحيح النية، لم يسمع أنه رغب في زوجة حسناء، ولا سرية حوراء، ولا حرص على دينار ولا درهم، ولا رغب في دواب ولا نعم، ولا ثياب فاخرة ولا حشم، ولا زاحم في طلب الرياسات، ولا رؤي ساعياً في تحصيل المباحات، مع أن الملوك والأمراء والتجار والكبراء كانوا طوع

_ 1 تقدم تخريجه.

أمره خاضعين لقوله، وادين أن يتقربوا إلى قلبه مهما أمكنهم مظهرين لإجلاله، فأين حاله هذا من حال من أغراهم الشيطان بالوقيعة فيه، أما نظروا ببصائرهم إلى صفاتهم وصفاته، وسماتهم وسماته، وتحاسدهم في طلب الدنيا وفراغه عنها، ومبالغته في الهرب منها، وخدمتهم للأمراء واختلافهم إلى أبوابهم وذل الأمراء بين يديه وعدم اكتراثه بهم، وقوة جأشه في محاوراتهم؟ بلى والله ولكن قتلتهم الحالقة حالقة الدين لا حالقة النعم. وأما إيثاره مع فقره؛ فكان رضي الله عنه مع رفضه للدنيا وتقلله منها مؤثراً بما عساه يجده منها قليلاً كان أو كثيراً، لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به، فقد كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه فيصل به الفقراء، وكان يستفضل من قوته الرغيف والرغيفين فيؤثر بذلك على نفسه. وذكر الشيخ صالح زين الدين علي الواسطي أنه أقام بحضرة الشيخ مدة طويلة، قال: فكان قوتنا أنه يأتيني بكرة النهار ومعه قرص قدره نصف رطل بالعراقي فيكسره بيده لقماً ويأكل، ثم يرفع يده قبلي، ولا يفرغ باقي القرص من بين يدي حتى أشبع إلى الليل، وكنت أرى ذلك من بركة الشيخ، ثم بعد عشاء الأخيرة يؤتى بعشائنا فيأكل هو معي لقيمات ثم يؤثرني بالباقي، وكنت أسأله أن يزيد على أكله فلا يفعل، حتى أني كنت في نفسي أتوجع له من قلة أكله، وكان هذا أكلنا في غالب مدة إقامتي عنده، وما رأيت نفسي أعز منها في تلك المدة، ولا رأيتني أجمع هماً مني فيها. وحكى غير واحد ما اشتهر عنه من كثرة الإيثار وتفقد المحتاجين والغرباء واجتهاده في مصالحهم وصلاتهم ومساعدته لهم بل ولكل أحد من العامة والخاصة ممن يمكنه فعل الخير معه وإسداء المعروف إليه بقوله أو فعله ووجهه وجاهه. وأما كرمه، فكان رضي الله تعالى عنه مجبولاً على الكرم ولا يتنطعه ولا

يتصنعه بل هو له سجية، وكان لا يرد من يسأل شيئاً يقدر عليه من دراهم ودنانير وثياب وكتب. وقال الحافظ ابن فضل الله العمري: كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث فيهب ذلك بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئاً إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه. وقال في موضع آخر: كان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يحصى، فينفقه جميعه آلافاً ومئين، لا يلمس منه درهماً بيده، ولا ينفقه في حاجته، بل كان إذا لم يقدر يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إلى السائل، وذلك مشهور عند الناس من حاله. حكى من يوثق به قال: كنت يوماً جالساً بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه فجاء إنسان فسلم عليه فرآه الشيخ محتاجاً إلى ما يعتم به فنزع الشيخ عمامته من غير أن يسأله الرجل فقطعها نصفين واعتم بنصفها ودفع النصف الآخر لذلك الرجل ولم يحتشم للحاضرين عنده. وحديث من يوثق به أن الشيخ رضي الله تعالى عنه كان ماراً في بعض الأزقة فدعا له بعض الفقراء وعرف الشيخ حاجته ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه فنزع ثوباً على جلده ودفعه إليه، وقال: بعه بما تيسر وأنفقه، واعتذر إليه من كونه لم يحضر عنده شيء من النفقة. وسأله إنسان كتاباً ينتفع به فقال خذ ما تختار، فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفاً قد اشتري بدراهم كثيرة فأخذه ومضى، فلام بعض الجماعة الشيخ في ذلك، فقال: أكان يحسن بي أن أمنعه بعد ما سأله؟ دعه فلينتفع به. وكان رضي الله تعالى عنه ينكر إنكاراً شديداً على من ينال شيئاً من كتب العلم التي يملكها ويمنعها من السائل، ويقول ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه. وأما لباسه؛ فكان رضي الله تعالى عنه متوسطاً في لباسه لا يلبس فاخر الثياب بحيث يرمق ويمد النظر إليه، ولا أطماراً ولا غليظة تشهر لابسها من عالم

أو عابد، بل كان لباسه وهيئته كغالب الناس ومتوسطيهم، ولم يكن يلبس نوعاً واحداً من اللباس، بل يلبس ما اتفق وحصل، ويأكل ما حضر، وكانت بذاذة الإيمان عليه ظاهرة، لا يرى متصنعاً في عمامة ولا لباس، ولا مشية ولا قيام، ولا جلوس، ولم يسمع أنه أمر أن يتخذ له ثوب بعينه، بل كان أهله يأتون بلباسه وقت حاجته لبدل ثيابه التي عليه، وربما اتسخت ولا يأمر بغسلها حتى يسأله أهله ذلك، وكذا كان في المأكل، فما سمع أنه طلب طعاماً قط ولا عشاء ولا غذاء ولو بقي مهما بقي لشدة اشتغاله بما هو فيه من العلم والعمل، بل كان ربما يؤتى بالطعام وربما يترك عنده فيبقى زماناً حتى يلتفت إليه، وإذا أكل يأكل شيئاً يسيراً، وما ذكر من ملاذ الدنيا ونعيمها، ولا كان يخوض في شيء من حديثها ولا يسأل عن شيء من معيشتها، بل جل همه وحديثه في طلب الآخرة وما يقرب إلى الله تعالى. وأما تواضعه؛ فما سمع بأحد من أهل عصره مثله رحمه الله في ذلك، فكان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والفقير، ويدنيه ويكرمه ويباسطه بحديث زيادة عن الغنى، حتى أنه ربما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبراً قلبه، وكان لا يسأم ممن يستعبه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه ولين عريكة، ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه، ولا يجبهه ولا يتفوه بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط، وكان يلزم التواضع في حضوره مع الناس ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده ومشيه ومجلسه وغيره. وأما كرماته وفراسته، فقال الشيخ الحافظ أبو حفص عمر: جرى بيني وبين بعض الفضلاء منازعة في عدة مسائل وطال كلامنا فيها، وجعلنا الشيخ المرجع، فلما حضر هممنا بسؤاله عنها فسبقنا هو وشرع يذكر لنا مسألة عما كنا فيه، ويذكر أقواد العلماء فيها ثم يرجح منها ما رجحه الدليل، حتى أتى على آخر ما أردنا، فبقينا ومن حضرنا مبهوتين متعجبين، وكنت في صحبتي له إذا خطر لي بحث يشرع يورده ويذكر الجواب عنه من عدّة وجوه.

قال: وحدثني الشيخ الصالح المقري أحمد، قال: لما قدمت دمشق لم يكن معي شيء من النفقة، البتة، وأنا لا أعرف أحداً من أهلها، فجعلت أمشي في زقاق كالحاير وإذا الشيخ أقبل نحوي مسرعاً فسلم وهش في وجهي ووضع في يدي صرة فيها دراهم وقال: أنفق هذه الآن واخل خاطرك مما أنت فيه فإن الله لا يضيعك، ثم انصرف فسألت من هذا فقيل ابن تيمية، وله مدة ما اجتاز بهذا الدرب، وكان جل قصدي من سفري إلى دمشق لقاءه، فتحققت أن الله أظهره عليّ وعلى حالي، فما احتجت بعدها إلى أحد مدة إقامتي بدمشق، بل فتح الله عليّ من حيث لا أحتسب. وقال: وحدثني الشيخ العالم المقري تقي الدين عبد الله قال: لما سافرت إلى مصر- حين كان الشيخ مقيماً بها- فقدمتها ليلاً وأنا مريض مثقل، فأنزلت في بعض الأمكنة فلم ألبث أن سمحت من يناديني باسمي وكنيتي فأجبته وأنا ضعيف، فدخل إليَّ جماعة من أصحاب الشيخ فقلت: كيف عرفتم بقدومي هذه الساعة، قالوا: أخبرنا الشيخ أنك قدمت وأنت مريض فأمرنا أن نسرع بنقلك، وما رأينا أحداً جاءه ولا أخبره بشيء، قال: ومرضت بدمشق فلم أشعر إلا والشيخ عند رأسي وأنا مثقل بالحمى والمرض، فدعا لي وقال جاءت العافية، ومشيت من وقتي. وقال الشيخ عماد الدين المقري المطرز: قدمت على الشيخ ومعي حينئذ نفقة فسلمت عليه فرد علي ورحب بي وأدناني ولم يسألني هل معك نفقة أم لا، فلما كان بعد أيام وقد نفدت نفقتي أردت أن أخرج من مجلسه بعد أن صليت مع الناس وراءه، فمنعني وأجلسني دونهم، فلما خلا دفع إليَّ جملة دراهم، وقال أنت الآن بغير نفقة فعجبت من ذلك. ولما نزل المغول بالشام لأخذ دمشق رجف أهلها، وجاء إليه جماعة منهم وسألوه الدعاء للمسلمين، فتوجه إلى الله، ثم قال: أبشروا فإن الله يأتيكم بالنصر في اليوم الفلاني بعد ثالثة ترون الرؤوس معبأة بعضها فوق بعض، قال الذي

حدث: فوالذي نفسي بيده ما مضى إلا ثلاث منذ قوله حتى رأينا رؤوسهم كما قال الشيخ على ظاهر دمشق معبأة بعضها فوق بعض. وكان الشيخ يعود المريض، فمرض شاب بدمشق فكان يعوده في كل يوم فجاء يوماً الشاب فدعا له فشفي سريعاً، وقال له عاهد الله أن تعجل الرجوع إلى بلدك أيجوز أن تترك زوجتك وبناتك ضيعة وتقيم ههنا؟ قال الشاب: فقبلت يده وقلت: يا سيدي إني تائب إلى الله، وعجبت مما كاشفني به وكنت قد تركتهن بلا نفقة، ولم يكن عرف بحالي أحد من أهل دمشق. ومضى بعض الفضلاء متوجهاً إلى مصر لِيَلِيَ القضاء وعزم على قتل رجل صالح بها إذا وصل، فلما بلغ الشيخ ذلك قال إن الله لا يمكنه ما قصد ولا يصل إلى مصر حياً، فبقي بين القاضي وبين مصر قدر يسير وأدركه الموت. وذكر الحافظ ابن عبد الهادي بن قدامة أن الشيخ لما أفتى بمسألة شد الرحال للقبور اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ، فقال أحدهم ينفى فنفي القائل، وقال آخر يقطع لسانه فقطع لسان القائل، وقال اخر يعزر فعزر القائل، وقال آخر يحبس فحبس القائل، قال: وأخبرني بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها. وبالجملة؛ فكرامات الشيخ رحمه الله تعالى كثيرة جداً، قالوا: ومن أظهر كراماته أنه ما سمع بأحد عاداه أو تنقصه إلا وابتلي بلايا غالبها في دينه، قالوا: وهذا ظاهر مشهور لا يحتاج فيه إلى شرح صفته، قالوا ومن أمعن النظر ببصيرته لم ير عالماً من أهل أي بلد شاء موافقاً له مثنياً عليه إلا ورآه من اتبع علماء بلده للكتاب والسنة، وأشغلهم بطلب الآخرة والرغبة فيها، وأبلغهم في الإعراض عن الدنيا والإهمال لها، ولا يرى عالماً مخالفاً له منحرفاً عنه إلا وهو من أكبرهم نهمة في جمع الدنيا، وأكثرهم رياء وسمعة، والله أعلم. وأما شجاعته وجهاده؛ فأمر متجاوز للوصف، فكان رضي الله تعالى عنه كما قال الحافظ سراج الدين أبو حفص في مناقبه: هو من أشجع الناس وأقواهم قلباً،

ما رأيت أحداً أثبت جأشاً منه، ولا أعظم في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم، وأخبر غير واحد أن الشيخ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم، إن رأى من بعضهم هلعاً أو جبناً شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيّن له فضل الجهاد والمجاهدين، وكان إذا ركب الخيل يجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، وينكي العدو من كثرة الفتك بهم، ويخوض بهم خوض رجل لا يخاف الموت، وحدثوا أنهم رؤوا منه في فتح عكة أموراً من الشجاعة يعجز الوصف عن وصفها، قالوا ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره. ولما ظهر السلطان ابن غازان على دمشق المحروسة جاءه ملك الكرج وبذل له أموالاً كثيرة جزيلة على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق فوصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره وشجع المسلمين، ورغبهم في الشجاعة، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن، وزوال الخوف، فانتدب منهم رجلاً من وجوههم وكبرائهم وذوي أحلامهم، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غزان، فلما رأى الشيخ أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة، حتى أدناه منه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه في عكس رأيه من تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين، وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكره ووعظه، فأجابه إلى ذلك طائعاً، وحقنت بسببه دماء المسلمين، وحميت ذراريهم وصين حريمهم. وقال الشيخ كمال الدين ابن الأنجا قدس الله روحه: كنت حاضراً مع الشيخ فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ويرفع صوته على السلطان ويقرب منه في أثناء حديثه، حتى لقد قرب أن يلاصق بركبته ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه، وإن السلطان من شدة ما أوقع الله له في قلبه من المحبة والهيبة سأل من هذا الشيخ؟ فإني لم أر مثله ولا أثبت قلباً منه ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه، فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل، فقال

الشيخ للترجمان قل للغازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت، ثم خرج من بين يديه مكرماً معززاً بحسن نيته الصالحة من بذل نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه الله تعالى ما أراده، وكان أيضاً سبباً لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهليهم وحفظ حريمهم، وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة التجاسر، وكان يقول: لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه، فإن رجلاً شكى إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال له: لو صححت لم تخف أحداً أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك. وأخبر قاضي القضاة أبو العباس أنهم لما حضروا مجلس غازان قدم لهم طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية، فقيل لم لم تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس، طبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟ ثم إن غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفعل به وتصنع، فكان يدعو عليه وغازان يؤمن على دعائه، ونحن نجمع ثيابنا خوفاً أن يقتل فيطرطس بدمه، ثم لما خرجنا قلنا له: كدت تهلكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: وأنا لا أصحبكم، فانطلقنا عصبة وتأخر، فتسامعت به الخوانين والأمراء فأتوه من كل فج عميق، وصاروا يتلاحقون به ليتبركوا برؤيته، فما وصل إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة فشلحونا، فانظر- كما قال الحافظ ابن فضل الله العمري- إلى قيامه في دفع حجة القتال واقتحامه، وسيوفهم تدفق لجة البحار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان حيث لجم الأسد في آجامها، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، خوفاً من ذلك السبع المغتال، والنمرود المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيلة محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرأ في نحره، وطلب منه الدعاء فرفع يديه ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على

دعائه وهو مقبل إليه، ثم كان على هذه المواجهة القبيحة والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان والمغل من كل من طلع معه من سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر، هذا مع ماله من جهاد في الله، لم يفترعه فيه طلل الوشيج، ولم يجرعه فيه ارتفاع النسيج، مواقع حروب باشرها، وطوائف ضروب عاشرها، وبوارق صفاح كاشرها، ومضايق رماح حاشرها، وأصناف خصوم لد قطع جدالها قوي لسانه، وجلاها بسنا سنانه، وجرت له مع غازان وقطلو شاه وبولاي أمور ونوب قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله. ولما قدم بعد ذلك عام سبعمائة التتار مع غازان لفتح الشام والاستيلاء على من بها من المؤمنين ركب الشيخ البريد إلى الجيش المصري فدخل القاهرة في ناس يوم حادي عشر جمادى الأولى، فاجتمع بأركان الدولة وحثهم على الجهاد، وتلا عليهم الآيات والأحاديث، وأخبرهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب، فاستقاموا وقويت هممهم 4 وأبدوا له عذر المطر والبرد، ونودي بالغزاة، وقوي العزم، وعظموه وأكرموه، وتردد الأعيان إلى زيارته، واجتمع به في هذه السنة ابن دقيق العيد، ثم في اليوم السابع والعشرين من جمادى الأولى المذكور وصلى الشيخ إلى دمشق على البريد، وأرسل الله على العدو من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم، فأصاب غازان وجنوده وأهلكهم، وكان سبب رحيلهم، وفرق الله بين قلوب العدو المغول والكرج والفرس والمستعربة، وألقى بينهم تعادياً وتباغضاً، كما ألقى عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود، فأرسل الشيخ كتاباً مطولاً لمصر يقول فيه: لما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو جزاء منه لبيان أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها وإن لم يصنع الفعل وإن تباعدت الديار. وحكي من شجاعة الشيخ في مواقف الحروب نوبة شقحب سنة اثنتين وسبعمائة ونوبة كسروان ما لم يسمع إلا عن صناديد الرجال، وشجعان الأبطال، فكان تارة يباشر القتال، وتارة يحرض عليه قائماً شاكياً سلاحه ولأمة حربه يوصي

الناس بالثبات، ويعدهم بالنصر، ويبشرهم بالغنيمة، وركب البريد إلى مهنى بن عيسى واستحضره إلى الجهاد، وركب بعدها إلى السلطان واستنفره وواجهه بالكلام الغليظ وواجه أمراءه وعساكره، ولما جاء السلطان الملك الناصر بجيوش الإسلام للقاء القتال جعل الشيخ يشجع السلطان ويثبته، فلما رأى السلطان كثرة التتار قال يا لخالد بن الوليد! فقال له: لا تقل هذا، بل قل: يا الله؛ واستغث بالله ربك ووحده تنصر، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. ثم صار تارة يقبل على الخليفة وتارة على السلطان ويهديهما ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح. وحكي أنه قال للسلطان: اثبت فإنك منصور، فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله. فقال إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فكان كما قال. وحكى بحض حجاب الأمراء قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان: يا فلان؛ أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو- وهم منحدرون كالبدر تلوح أسلحتهم من تحت الغبار- وقلت له: هذا موقف الموت فدونك وما تريد، قال: فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره وحرك شفتيه طويلاً ثم انبعث وأقدم على القتال، وقد قيل إنه دعا عليهم وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة، قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، ودخل جيش الإسلام إلى دمشق المحروسة والشيخ في أصحابه شاكياً في سلاحه، عالية كلمته، قائمة حجته، ظاهرة ولايته، مقبولة شفاعته، مجابة دعوته، ملتمسة بركته، مكرماً معظماً، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمادحين له: أنا رجل ملة لا رجل دولة، قال بعض أصحابه- وقد ذكر هذه الواقعة وكثرة من حضرها من جيوش المسلمين-: وقد اتفق كلهم وأجمعوا على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه، ولم يبق من يكون بالشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه، ونصحه لله ولرسوله والمؤمنين. ثم لم يزل الشيخ رحمه الله تعالى قائماً أتم قيام على قتال أهل جبل كسروان وكتب إلى أطراف الشام في الحث على قتالهم، وأنها غزاة في سبيل

الله، ثم توجه هو بمن معه لغزوهم بالجبل صحبة ولي الأمر نائب المملكة، وما زال مع ولي الأمر في حصارهم حتى فتح الله الجبل وأجلى أهله، وكان توجه الشيخ إلى الكسروانيين أول ذي الحجة سنة أربع وسبعمائة، ورد على شيوخ روافضهم في دعواهم عصمة عليّ، وقال إن علياً وعبد الله بن مسعود اختلفا في مسائل وقعت وفتاوى أفتيا بها وعرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فصوب فيها قول ابن مسعود، ثم كتب الشيخ للسلطان يخبره بأمر الفتح وعن عقائدهم، وهي أنهم يعتقدون كفر الصحابة وكفر من ترضى عنهم، أو حرم المتعة، أو مسح على الخفين، ولا يقرون بصلاة ولا صيام ولا جنة ولا نار، ولا يحرمون الدم والميتة ولحم الخنزير، ويشتملون على إسماعيلية ونصيرية وحاكمية وباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى. ثم قال: وتمام هذا الفتح أمر السلطان بحرمان أهل الفساد من مشايخ الدين يصلونهم ويتقدم إلى قراهم بأعمال دمشق وصعد وطرابلس وحمص وحماه وحلب بأن تقام فيهم شرائع الإسلام الجمعة والجماعة وقراءة القرآن، وتكون لهم خطباء ومؤذنون، ويقرأ فيهم الأحاديث النبوية، وتكثر فيهم المعالم الإسلامية، وأطال الكلام في كتابه، وحث السلطان على ذلك، وقال: إن غزوهم اقتداء بسيرة علي بن أبي طالب في قتاله للحرورية المارقين الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ونعت حالهم، وقال صلى الله عليه وسلم فيهم: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامه، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز جناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا له معلى لسان محمد، يقتلون أهل الإسلام ويدّعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه"1. وكان رضي الله عنه قائماً في نصر الدين وإظهار الحق بأدلة أقطع من

_ 1 انظر "خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" للنسائي رقم (173- وما بعده) .

السيوف، وأجمع من السجوف، وأجلى من فلق الصباح، وأجلب من فلق الرماح، إذا وثب في وجه خطب تمزقت على كتفيه الدرع وانتشر السرد، ولقد نافسنا ملوك جند كشخان عليه ووجهت دسائس رسلها إليه، ولما وشوا به إلى السلطان الأعظم الملك الناصر لدين الله وأحضره بين يديه قال من جملة كلامه: إنني أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك، فلم يكترث به بل قال له بنفس مطمئنة وقلب ثابت وصوت عال سمعه كثير ممن حضر: أنا أفعل ذلك والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلساً، فتبسم السلطان لذلك وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك إلي لكاذب، واستقر له في قلبه من المحبة الدينية ما لولاه لكان قد فتك به منذ دهر طويل من كثرة ما يلقى إليه في حقه من الأقاويل الزور والبهتان ممن ظاهر حاله العدالة، وباطنه مشحون بالفسق والجهالة.

فصل في تمسك ابن تيمية بالكتاب والسنة

(فصل في تمسك ابن تيمية بالكتاب والسنة) قال الشيخ الإمام العالم العامل الأوحد الفاضل الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزار رحمه الله تعالى: كان الشيخ تقي الدين بن تيمية رضي الله تعالى عنه من أعظم أهل عصره قوة ومقاماً وثبوتاً على الحق وتقريراً لتحقيق توحيد الحق، لا يصده عن ذلك لومة لائم ولا قول قائل، ولا يرجع عنه بحجة محتج، بل كان إذا وضح له الحق يعض عليه بالنواجذ، ولا والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى كان إذا أورد شيئاً من حديثه في مسألة- ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديث- يعمل ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائناً من كان. قال: وإذا نظر المنصف إليه بعين العدل يراه واقفاً مع الكتاب والسنة، لا يميله عنهما قول أحد كائنا من كان، ولا يراقب في الأخذ بمعلومهما أحداً، ولا. يخاف في ذلك أميراً ولا سلطاناً ولا سوطاً ولا سيفاً، ولا يرجع عنها لقول أحد،

وهو متمسك بالعروة الوثقى وإليه الطول، وعامل بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1 الآية، وبقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2. وما سمعنا أنه اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما اشتهر عنه من كثرة المتابعة للكتاب والسنة، والإمعان في تتبع معانيهما والعمل بمقتضاهما، ولهذا لا يرى في مسألة أقوال العلماء إلا وقد أفتى بأبلغها موافقة للكتاب والسنة، وتحرى الأخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول. قال: وهذا أمر قد اشتهر وظهر، فإنه رضي الله عنه ليس له مؤلف مصنف ولا نمى في مسألة ولا أفتى إلا وقد اختار فيه ما رجحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرى قول الحق المحض، وبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة ينثلج قلبه عليها، ويجزم بأنها الحق المبين، وتراه في جميع مؤلفاته إذا صح الحديث عنده يأخذ به ويعمل بمقتضاه ويقدمه على قول كل قائل من عالم ومجتهد، وقد سبقه الإمام الشافعي رحمه الله إلى ذلك حيث قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ولما منَّ الله عليه بذلك جعل حجة في عصره لأهله، حتى أن أهل البلاد البعيدة كانوا يرسلون إليه بالاستفتاء عن وقائعهم، ويقبلون عليه في كشف ما التبس عليهم حكمه، فيشفي عليلهم بأجوبته المسددة، ويبرهن على الحق من أقوال العلماء المتعددة، حتى إذا وقف عليها كل محق ذي بصيرة أذعن بقبولها، وبان له حق مدلولها.

_ 1 سوره النساء: 59. 2 سورة الشورى: 10.

فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف

(فصل في محنة ابن تيمية رحمه الله تعالى وتمسكه بطريق السلف) قلَّ من يسلم من أهل الفضل والدين في هذه الدنيا بلا محنة وابتلاء وخوض فيه حيث لم يداهن الناس ويصانعهم، ولذا قل صديقه على حد قوله: "ما ترك الحق من صديق لعمر". وقال سفيان الثوري رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يثني عليه جيرانه فاعلم أنه مداهن ". وما وقع من المحنة للأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والبخاري مشهور كما بينته في كتابنا "تنوير بصائر المقلدين في مناقب الأئمة المجتهدين، وأكثروا من الخوض في أبي حنيفة رحمه الله، حتى أنه رُئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي بكلام الناس فيّ ما ليس فيه. هذا وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله امتحن بمحن وخاض فيه أقوام ونسبوه للبدع والتجسيم وهو من ذلك بريء. فأول محنة- كما نقله الثقات- في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة بسبب عقيدته الحموية الكبرى، وهي جواب سؤال ورد من حماه فوضعها ما بين الظهر والعصر في ست كراريس بقطع نصف البلدي، فجرى له بسبب تأليفها أمور ومحن رجح مذهب السلف على مذهب المتكلمين وشنع عليهم. فمن يعض قوله في مقدمتها: "ما قاله الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وفي غيره. ومن المحال أن لكون خير الأمة وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه، ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث

فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع. أما الأول؛ فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟ هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضاً عن الله وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع في أولئك. وأما كونهم كانوا معتقدين غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم. ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم بالله من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء- ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها- من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، فإن هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجبه اعتقاد أنهم كانوا أميين بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله، كيف يكون هؤلاء المتأخرون- لاسيما

والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم، حيث يقول الإمام فخر الدين الرازي: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم مثل قول بعض رؤسائهم: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ويقول آخر منهم: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 1 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3 {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 4 ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتدراكني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحابُ الكلام. ثم إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص

_ 1 سورة فاطر: 10. 2 سورة طه: 50. 3 سورة الشورى: 21. 4 سورة طه: 110.

المعرفة به خير ولا وقعوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المنقوصون المحجوبون المفضولون المسبوقون الحيارى المتهوكون، أعلم بالله وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة؟؟! ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لاسيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟؟! وإنما قدمت هذه المقدمة لأن من استقرت عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره ". وأطال رحمه الله الكلام ثم قال: "إن كان الحق فيما يقول هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة بالكتاب والسنة دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً؛ فكيف يجوز على الله تعالى ثم على رسوله ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً حتى يجيء أبناء الفرس والروم وفروخ الهنود والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة؟ فإن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب- وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة ظاهراً- لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة، أهدى

لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر- على ما يقوله هؤلاء- إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله ولا ما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات في عقولكم فصفوه به سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به، وقد صرح طائفة منهم بما مضمونه أن كتاب الله لا يُهْتَدَى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله ". وأطال الكلام، ثم قال: "يا سبحان الله كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر ولا أحد من سلف الأمة هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم. ثم الرسول أخبر أن أمته ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: "إني تارك فيكم ما تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله " 1. وقال في صفة الفرقة الناجية: "هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 2 فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة، وإن كان قد نبغ أصل هذه المقالة في أواخر عصر التابعين، ثم أصل مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والنصارى، فإن أول من قالها في الإسلام الجعد بن درهم، وأخذها عنه جهم بن صفوان، والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأبان عن طالوت، وطالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون، لا نتجاوز به القرآن

_ 1 أخرجه مسلم (2408) من حديث زيد بن أرقم. وفي الباب عن غيره من الصحابة. انظر تخريج أحاديثهم في "الصحيحة" (1761) . 2 تقدم تخريجه.

والحديث، ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل " ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى جملاً نافعة وأصولاً جامعة في إثبات الصفات والرد على الجهمية، وذكر من النقول عن سلف الأمة ما يطول ذكره. ثم قال في آخر كلامه: "وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولون تجري على ظواهرها، وقسمان يقولون هي على خلاف ظاهرها، وقسمان يسكتون. أما الأولون " فقسمان: أحدهما: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليه توجه الرد بالحق. والثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى كما يجري اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق، إما جوهر وإما عرض، فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضى والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض والوجه واليد والعين في حقه أجسام. فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة وكلاماً ومشيئة وإن لم تكن أعراضاً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين جاز أن يكون وجه الله ويداه ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه وهو أمر واضح- فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ثابتة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين، ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس

كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه، وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا أو كيف يداه ونحو ذلك؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال لك: لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري غير معلوم للبشر. فقل له: والعلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن نعلم كيفية صفة لموصوف لم نعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك، بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" 1 فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما الظن بالخالق سبحانه، وهذه الروح قد علم العاقل اضطراب الناس فيها وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونون قد أخطؤوا في اللفظ، وأنى لهم بذلك؟ وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها ويقولون هي على خلاف ظاهرها؛ فقسم يتأولونها ويعيّنون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو

_ 1 أخرجه البخا ري (4779) ومسلم (2824) .

المكانة والقدرة، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين. وقسم يقولون: الله أعلم ما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه. وأما القسمان الواقفان؛ فقسم يقولون يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله تعالى ويجوز أن لا يكون صفة لله، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقسم يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقريرات. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها، والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة. ثم قال: فأما المتوسط من المتكلمين فيخاف عليه ما لا يخاف على من لم يدخل فيه وعلى من قد أنهاه نهايته، فإن من لم يدخل فيه هو في عافية، ومن أنهاه فقد عرف الغاية فما بقي يخاف من شيء آخر، فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله، وأما المتوسط فمتوهم بما تلقاه من المقالات المأخوذة تقليداً، وقد قال الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا لمسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان، ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، يعلم الذكي منهم العاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست بينة وإنما هي كما قيل فيها: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً وكل كاسر مكسور ويعلم العالم البصير أنهم من وجه يستحقون ما قال الشافعي رضي الله عنه حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.

ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر- والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم ورققت عليهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوماً، وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ومن كان عليماً بهذه الأمور تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد إلا بعداً. فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين ". هذا آخر الحموية الكبرى، ألفها الشيخ رحمه الله وعمره دون الأربعين سنة، ثم انفتح له بعد ذلك من الرد على الفلاسفة والجهمية وسائر أهل الأهواء والبدع ما لا يوصف ولا يعبر عنه، وجرى له من المناظرات العجيبة والمباحثات الدقيقة مع أقرانه وغيرهم في سائر أنواع العلوم ما تضيق عنه العبارة ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه. قال الحافظ الذهبي في أثناء كلامه في ترجمة الشيخ ابن تيمية: "ولما صنف المسألة الحموية في الصفات سنة ثمان وتسعين وستمائة تحزبوا له، وآل بهم الأمر إلى أن طافوا بها على قصبة من جهة القاضي الحنفي ونودي عليه بأن لا يستفتى، ثم قام بنصرته طائفة آخرون وسلمه الله تعالى، فلما كان سنة خمس وسبعمائة جاء الأمر من مصر بأن يسأل عن معتقده، فجمع له القضاة والعلماء بمجلس نائب دمشق الأفرم ثم وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد" انتهى. وقال الشيخ علم الدين: وفي شهر ربيع الأول من سنة ثمان وتسعين وستمائة وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقي الدين بن تيمية، وكان الشروع فيها من أول الشهر واستمرت إلى آخر الشهر. وملخصها: أنه كتب جواباً لسؤال سئل عنه من حماه في الصفات، فذكر فيه

مذهب السلف ورجحه على مذهب المتكلمين، وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين، واجتمع به سيف الدين جاغان في حال نيابته بدمشق وقيامه مقام نائب السلطنة، وامتثل أمره وقبل قوله، والتمس منه كثرة الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيق لجماعته مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية الشيخ، وما ألمهم بظهوره وذكره الحسن، فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغاً إلى الكلام فيه لزهده، وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه وجودة أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من غزارة العلم وجودة الفهم، فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحداً واحداً، وأوغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم وحاشاه من ذلك، ووافقهم على ذلك جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية يومئذ ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية، وطلب حضوره وأرسل إليه فلم يحضر، وأرسل إليه في الجواب أن العقائد ليس أمرها إليك وأن السلطان إنما ولاّك لتحكم بين الناس، وأن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي فوصلت إليه هذه الرسالة فأوغروا خاطره، وشوشوا قلبه، وقالوا لم يحضر ورد عليك، فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة، فنودي في بعض البلد، ثم بادر سيف الدين جاغان وأرسل طائفة فضرب المنادي وجماعة ممن حوله وأخرق بهم، فرجعوا مضروبين في غاية الإهانة، ثم طلب سيف الدين من قام في ذلك وسعى فيه، فدارت الرسل والأعوان عليهم في البلد فاختفوا. ثم اجتمع الشيخ ابن تيمية بالقاضي إمام الدين الشافعي وواعده لقراءة العقيدة الحموية، فاجتمعوا يوم السبت رابع عشر الشهر من بكرة النهار إلى نحو الثلث من ليلة الأحد- ميعاداً طويلاً- وقرأ فيه جميع العقيدة، وبين مراده من مواضع أشكلت ولم يحصل إنكار عليه من الحاكم ولا ممن حضر المجلس، بحيث انفصلوا والقاضي يقول: كل من تكلم في الشيخ فأنا خصمه.

وقال أخوه جلال الدين بعد هذا الميعاد: كل من تكلم في الشيخ نعزره، وخرج الناس ينتظرون ما يسمعون من طيب أخباره، فوصل إلى داره في ملأ كثير من الناس، وعندهم استبشار وسرور به، وكان سعيهم في حقه أتم السعي، وتكلموا في حقه بأنواع الأذى وبأمور يستحي الإنسان من الله تعالى أن يحكيها فضلاً عن أن يختلقها ويلفقها، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ورأى جماعة من الصالحين في هذه الواقعة وعقيبها مرائي حسنة جليلة لو ضبطت لكانت مجلداً تاماً. انتهى. ثم سكنت هذه الفتنة، ثم بعد ذلك بمدة طويلة ظهر الشيخ نصر المنبجي بمصر، واستولى على أرباب الدولة القاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية إنه اتحادي هانه ينصر ابن عربي وابن سبعين، فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال هذا مبتدع، وأخاف على الناس من شره، وقام معه في ذلك القاضي ابن مخلوف المالكي، واستعانوا بركن الدين الجاشنكير، فحسن القضاة للأمراء طلبه إلى القاهرة وأن يعقد له مجلس بدمشق فلم يرضَ نصر المنبجي، وقال ابن مخلوف: قل للأمراء إن هذا يخشى على الدولة منه كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب. فورد مكتوب السلطان إلى دمشق بسؤال الشيخ عن عقيدته، فلما كان ثماني رجب من سنة خمس وسبعمائة طلب القضاة والفقهاء، وطلب الشيخ تقي الدين إلى القصر إلى مجلس نائب السلطنة الأفرم، فلما اجتمعوا عنده سأل الشيخ تقي الدين وحده عن عقيدته وقال هذا المجلس عقد لك وقد ورد مرسوم السلطان أن أسألك عن اعتقادك، فأحضر الشيخ عقيدته الواسطية، وقال هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام، فقرئت في المجلس وبحث فيها، وبقيت مواضع أخرت إلى مجلس آخر. ثم اجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر رجب المذكور، وحضر المخالفون ومعهم الشيخ صفي الدين الهندي، واتفقوا على أن يتولى المناظرة مع

الشيخ تقي الدين فتكلم معه، ثم إنهم رجعوا عنه واتفقوا على الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، فناظر الشيخ وبحث معه وطال الكلام وخرجوا من هناك والأمر قد انفصل، وقد أظهر الله من قيام الحجة ما أعز به الشيخ ابن تيمية، واختلفت نقول المخالفين للمجلس وحرفوه ووضعوا مقالة الشيخ على غير موضعها، وشنع ابن الوكيل وأصحابه بأن الشيخ قد رجع عن قيدته فالله المستعان. ثم بعد ذلك عزر بعض القضاة بدمشق شخصاً يلوذ بالشيخ، وطلب جماعة ثم أطلقوا، ووقع هرج في البلد، وكان الأمير نائب السلطنة قد خرج للصيد وغاب نحو جمعة ثم رجع، فحضر عنده الشيخ وذكر له ما وقع في غيبته في حق بعض أصحابه من الأذى فرسم بحبس جماعة من أصحاب ابن الوكيل، وأمر فنودي في البلد أنه من تكلم في العقائد حل ماله ودمه ونهبت داره وحانوته، وقصد بذلك تسكين الفتنة. وفي يوم الثلاثاء سابع شعبان عقد للشيخ مجلس ثالث بالقصر ورضي الجماعة بالعقيدة، وفي هذا اليوم عزل قاضي القضاة نجم الدين ابن صصري نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. وفي اليوم السادس والعشرين من شعبان ورد كتاب السلطان إلى القاضي بإعادته إلى الحكم، وفيه أنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين. وقد بلغنا ما عقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وما قصدت بذلك إلا براءة ساحته. ثم إن الشيخ مرعي مؤلف هذا الكتاب- أعني كتاب مناقب الشيخ ابن تيمية- ذكر بعض ألفاظ ما وقع في المناظرة ناقلاً لها عما حكاه الشيخ عن نفسه، وقد أخل بنقله واختصاره، والعبد الفقير مؤلف كتاب الرد على الزائغ النبهاني قد ذكرت سابقاً ما كان في المجالس التي انعقدت لمناظرة الشيخ بنص عبارته وعين كلامه، فأغنانا ذلك عما ذكره الشيخ مرعي في هذا الباب. ثم قال الشيخ مرعي: "فصل" في توجه الشيخ إلى مصر ومحنته بها، وسبب

محنته وابتلائه قيامه في الله والرد على أهل البدع والعقائد الفاسدة، فقد حث على غزو الكسروانيين الروافض وغيرهم من الدروز والنصيرية، وغزاهم بمن معه من المسلمين وفتح بلادهم، وكاتب السلطان فيهم بحسم مادة شيوخهم الذين يضلونهم، والأمر بإقامة شعائر الإسلام وقراءة الأحاديث ونشر السنة ببلادهم كما مر ذكره، وكان استئصالهم في المحرم سنة خمس وسبعمائة. ولما كان تاسع جمادى الأولى من سنة خمس بالغ الشيخ في الرد على الفقراء الأحمدية والرفاعية بسبب خروجهم عن الشريعة بعد أن حضروا نائب السلطنة وشكوا من الشيخ، وطلبوا أن يسلم لهم حالهم وأن لا يعارضهم ولا ينكر عليهم، وطلبوا حضور الشيخ فلما حضر وقع بينهم كلام كثير، فقال الشيخ- في كلام طويل- إنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك ويوجد في بعضهم من التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاضرة؛ فيوجد أيضاً في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الكاذبة مثل ملابسة النار والحيات وإظهار الدم واللأذن والزعفران وماء الورد والعسل وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، كطلي أجسامهم لدخول النار بدهن الضفاح وباطن قشر النارنج وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل، وقال لهم بحضرة نائب السلطنة أدخل أنا وهم النار ومن احترق فعليه لعنة الله ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار بالحمام، فلما زيفهم الشيخ وأظهر تلبيسهم قال حتى لو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين وطرتم في الهتواء ومشيتم على الماء لا عبرة بذلك مع مخالفة الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، وليس لأحد الخروج عن الشريعة ولا عن كتاب الله وسنة رسوله. وذكر لهم قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء فلا

تغتروا به. وأطال الكلام في ذلك بحيث انفصل الأمر من عند نائب السلطنة أن كل من خرج منهم عن الكتاب والسنة ضربت عنقه. ثم ظهر الشيخ المنبجي بمصر وشاع أمره، فقيل للشيخ ابن تيمية إنه اتحادي، فكتب إليه الشيخ نحو ثلاثمائة سطر بالإنكار عليه، فاعتز الشيخ نصر قضاة مصر وعلماءها على ابن تيمية، وقال إنه سيء العقيدة مبتدع معارض للفقراء وغيرهم، وطعنوا فيه عند السلطان، فورد مرسوم السلطان لدمشق بسؤال الشيخ عن عقيدته، فعقد المجلس للمناظرة ثامن رجب سنة خمس وسبعمائة بحضرة العلماء والقضاة كما مر، ولا يبعد أن يكون الروافض وغيرهم قد برطلوا عليه، ثم لم يقنع ذلك الشيخ نصر المنبجي بل اجتمع مع طائفة من علماء مصر للجاشنكير الذي تسلطن بمصر، فأوهمه الشيخ نصر أن ابن تيمية يخرجهم من الملك ويقيم غيرهم وأنه مبتدع، فورد مرسوم السلطان إلى دمشق بإحضار ابن تيمية إلى مصر خامس شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة، فلما طلب إلى الديار المصرية مانع نائب الشام وقال عقد له مجلسان بحضرتي وحضرة القضاة والفقهاء وما ظهر عليه سوء، فقال الرسول لنائب دمشق أنا ناصح لك، وقد قيل: إنه يجمع الناس عليك وعقد لهم بيعة فجزع من ذلك وأرسله إلى القاهرة على البريد.

ذكر خروجه لمصر

(ذكر خروجه لمصر) قالوا: ولما توجه الشيخ من دمشق المحروسة لمصر في يوم الإثنين ثاني عشر رمضان سنة خمس وسبعمائة وكان يوماً مشهوداً غريب المثل في كثرة ازدحام الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قريب الحبودة فيما بين دمشق والكسوة التي هي أول منزل، وهم ما بين باك وحزين ومتعجب ومتنزه ومزاحم متغال فيه، ودخل الشيخ مدينة مصر غرة يوم السبت وعمل في جامعها مجلساً عظيماً. وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من رمضان وصل الشيخ والقاضي إلى

القاهرة، وفي ثاني يوم بعد صلاة الجمعة جمع القضاة وأكابر الدولة بالقلعة لمحفل الشيخ وأراد الشيخ أن يتكلم فلم يمكن من البحث والكلام على عادته، وانتدب له الشمس ابن عدلان خصماً احتساباً، وادعى عليه عند القاضي ابن مخلوف المالكي أنه يقول إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت،- زاد الحافظ الذهبي- وأن الله يشار إليه الإشارة الحسية، وقال اطلب عقوبته على ذلك، فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه، فقال له القاضي: أجب، ما جئنا بك لتخطب، فقال: ومن الحاكم في، قيل له: القاضي المالكي، قال: كيف يحكم في وهو خصمي، وغضب غضباً شديداً وانزعج، فأقيم من ساعته وحبس في برج أياماً، ثم نقل منه ليلة عيد الفطر إلى الحبس المعروف بالجب هو وأخواه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحيم، ثم إن نائب السلطنة سيف الدين سلار بعد أكثر من سنة وذلك ليلة عيد الفطر من سنة ست وسبعمائة أحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي، ومن الفقهاء الباجي والجزري والنمراوي، وتكلم في إخراج الشيخ من الحبس، فاتفقوا على أنه يشترط عليه أمور ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك ست مرات وصمم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس وانصرفوا من غير شيء. وفي شهر ذي الحجة سنة ست وسبعمائة طلب أخوة الشيخ تقي الدين شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطنة سلار، وحضر القاضي زين الدين ابن مخلوف المالكي وجرى بينهم كلام كثير، وأعيدا إلى مواضعهما بعد أن بحث الشيخ شرف الدين مع القاضي المالكي وظهر عليه في النقل وخطأه في مواضع، وفي ثاني يوم أحضر الشيخ شرف الدين وحده إلى مجلس نائب السلطنة وحضر ابن عدلان وتكلم معه الشيخ شرف الدين وناظره وبحث معه وظهر عليه. وفي مصر سنة سبع وسبعمائة اجتمع القاضي بدر الدين ابن جماعة بالشيخ

تقي الدين في دار الأحدى بالقلعة بكرة الجمعة وتفرقا قبل الصلاة وطال بينهما الكلام. وفي ربيع الأول من سنة سبع دخل الأمير حسام الدين مهني بن عيسى ملك العرب إلى مصر وحضر بنفسه إلى الجب، فأخرج الشيخ تقي الدين يوم الجمعة إلى دار نائب السلطنة بالقعلة وحضر بعض الفقهاء وحصل بينهم بحث كثير وفرقت بينهم صلاة الجمعة، ثم اجتمعوا إلى المغرب ولم ينفصل الأمر، ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان، وحضر جماعة من الفقهاء كثيرة، كنجم الدين ابن الرفعة، وعلاء الدين الباجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين ابن عدلان، ولم يحضر القضاة وطلبوا واعتذر بعضهم بالمرض وبعضهم بغيره، وانفصل المجلس على خير، وبات الشيخ عند نائب السلطنة، وكتب كتاباً إلى دمشق بكرة الاثنين يتضمن خروجه، وأنه أقام بدار سفير بالقاهرة، وأن الأمير سيف الدين سلار رسم بتأخيره عن الأمير مهنى أياماً ليرى الناس فضله، ويحصل لهم الاجتماع به، وكان مدة مقام الشيخ في الجب ثمانية عشر شهراً، وفرح خلق كثير بخروجه وسروا سروراً عظيماً، وحزن آخرون، وامتدحه الشيخ الإمام نجم الدين سليمان بن عبد القوي بقصيدة منها: فاصبر ففي الغيب ما يغنيك عن حيل ... وكل صعب إذا صابرته هانا ولست تعدم من خطب رميت به ... إحدى اثنتين فأيقن ذاك إيقانا تمحيص ذنب لتلقى الله خالصة ... أو امتحاناً به تزداد قربانا يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا ... سعداً ومرعاك للزوار سعدانا وإن يضر بك الرحمن طائفة ... ولت وينفع من بالود والانا يا أهل تيمية العالين مرتبة ... ومنصباً فرع الأفلاك تبيانا جواهر الكون أنتم غير أنكم ... في معشر أشربوا في العقل نقصانا لا يعرفون لكم فضلاً ولو عقلوا ... لصيروا لكم الأجفان أوطانا يا من حوى من علوم الخلق ما قصرت ... عنه الأوائل مذ كانوا إلى الآنا إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم ... عليك دهر لأهل الفضل قد خانا

إني لأقسم والإسلام معتقدي ... وأنني من ذوي الإيمان إيمانا لم ألق قبلك إنساناً أسر به ... فلا برحت لعين المجد إنسانا في أبيات كثيرة غير هذه يمدح فيها الشيخ ويذم أعداءه. وفي يوم الجمعة صلى الشيخ في جامع الحاكم وجلس، فاجتمع عليه خلق عظيم، فسئل منه الوعظ، فاستعاذ وقرأ الفاتحة وتكلم في تفسير {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1وفي معنى العبادة والاستعانة، إلى العصر. ثم لم يزل الشيخ رحمه الله بمصر يعلم الناس ويفتيهم ويذكر بالله ويدعو إليه ويتكلم في الجوامع على المنابر بتفسير القرآن وغيره من بعد صلاة الجمعة إلى العصر إلى أن ضاق منه خلق كثير. وقال الحافظ الذهبي: أقام بمصر يقرىء العلم، واجتمع خلق عنده إلى أن تكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود وهم ابن سبعين وابن عربي والقونوي وأشباههم، فتحزب عليه صوفية وفقراء وسعوا فيه، واجتمع خلائق من أهل الخوانق والربط والزوايا واتفقوا على أن يشكوا الشيخ للسلطان، فطلع منهم خلق إلى القلعة وخلق تحت القلعة وكانت لهم ضجة شديدة حتى قال السلطان: ما لهؤلاء؟ فقيل له: جاؤوا من أجل الشيخ ابن تيمية يشكون منه ويقولون إنه يسب مشائخهم ويضع من قدرهم عند الناس، واستغاثوا منه وأجلبوا عليه، ودخلوا على الأمراء في أمره ولم يبقوا ممكنا، وأمر أن يعقد له مجلس بدار العدل، فعقد له يوم الثلاثاء في عشر شوال الأول سنة سبع وسبعمائة، وظهر في ذلك المجلس من علم الشيخ وشجاعته وقوة قلبه وصدق توكله وبيان حجته ما يتجاوز الوصف وكان وقتاً مشهوداً. وذكر الشيخ علم الدين البرزالي وغيره أن في شوال من سنة سبع وسبعمائة شكى شيخ الصوفية بالقاهرة كريم الدين الآملي وابن عطاء وجماعة نحو الخمسمائة من الشيخ تقي الدين وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة فخيروه

_ 1 سورة الفاتحة: الآية 5.

بين الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزماً ما شرط فأجابهم، فأركبوه خيل البريد ليلة ثامن عشر شوال، ثم أرسل خلفه من الغد بريد آخر فركب على مرحلة من مصر ورأوا مصلحتهم في اعتقاله، وحضر عند قاضي القضاة بحضور جماعة من الفقهاء، فقال بعضهم له ما ترضى الدولة إلا بالحبس، فقال قاضي القضاة وفيه مصلحة له، واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس فامتنع، وقال ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القضاة بحارة الديلم، وأجلس في الموضع الذي جلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس، وأذن في أن يكون عنده من يخدمه، وكان جميع ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي ووجاهته في الدولة. ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشغولين بأنواع من اللعب يلتهون بها عما هم فيه، كالشَّطرنج والنرد مع تضييع الصلوات، فأنكر الشيخ ذلك عليهم وأمرهم بملازمة الصلاة والتوجه إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه ورغبهم في أعمال الخير وحضهم على ذلك، حتى صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيراً من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدارس، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إليه حتى كان السجن يمتلىء منهم، واستمر الشيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس، فلما كثر اجتماع الناس به وترددهم إليه ساء ذلك أعداءه وحصرت صدورهم، فسألوا نقله إلى الإسكندرية فنقل إليها مع أمير مقدم على البريد، ولم يمكن أحد من جماعته من السفر معه وحبس ببرج منها، وأشيع بأنه قتل وأنه غرق غير مرة ووصل الخبر إلى دمشق بعد عشرة أيام فحصل التألم وضاقت الصدور وتضاعف الدعاء، واستمر الشيخ بثغر الإسكندرية ثمانية

أشهر مقيماً ببرج مليح مطبق له شباكان، أحدهما إلى جهة البحر يدخل إليه من شاء ويتردد الأكابر والأعيان والفقهاء يقرؤون عليه ويبحثون معه ويستفيدون منه وأرسل صاحب سبتة إلى الشيخ يطلب منه الإجازة. فلما دخل السلطان الملك الناصر إلى مصر بعد خروجه من الكرك وقدومه إلى دمشق وتوجه منها إلى مصر سنة تسع وسبعمائة بادر لإحضار الشيخ من الإسكندرية في اليوم الثامن من شوال، فخرج الشيخ منها متوجهاً إلى مصر ومعه خلق من أهلها يودعونه ويسألون الله أن يرده إليهم، وكان وقتاً مشهوداً، ووصل إلى القاهرة ثامن عشر الشهر، واجتمع بالسلطان في يوم الجمعة الرابع والعشرين منه، وأكرمه وتلقاه في مجلس حفل حضر فيه قضاة مصر والشام والفقهاء وأصلح بينه وبينهم. قال الحافظ ابن عبد الهادي بن قدامة: أخبرني بعض أصحابنا، قال: أخبرني القاضي جمال الدين ابن القلانسي قاضي العساكر المنصورة ذات ليلة- وقد أشاع الجهلة والمبغضون بأخبار مختلفة- فقلت له: إن الناس يقولون كيت وكيت، وإن الشيخ ربما يخرج من القلعة ويدعى عليه ويعزر ويطاف به، فقال الشيخ: يا فلان هذا لا يقع، ولا يسمح السلطان بشيء من ذلك، وهو أعلم بالشيخ وبعلمه ودينه، ثم قال: أخبرك بشيء عجيب وقع من السلطان في حق الشيخ؛ وهو أنه حين توجه السلطان إلى الديار المصرية ومعه القضاة والأعيان ونائب الشام الأفرم، فلما دخل الديار المصرية وعاد إلى مملكته وهرب سلار والجاشنكير واستقر أمر السلطان، جلس يوماً في دست السلطنة وأبهة الملك وأعيان الأمراء من الشاميين والمصريين حضور عنده، وقضاة مصر عن يمينه وقضاة الشام عن يساره، وذكر لي كيفية جلوسهم منه بحسب منازلهم، قال: ومن جملة من هناك ابن صصري عن يسار السلطان، وتحته الصدر علي قاضي الحنفية، ثم بعده الخطيب جمال الدين، ثم بعده ابن الزملكاني، قال وأنا إلى جانب ابن الزملكاني، والناس جلوس خلفه، والسلطان على مقعد مرتفع، فبينما الناس كذلك جلوس انتهض السلطان قائما، فقام الناس، ثم مشى السلطان فنزل عن تلك المقعدة ولا

يدرى ما به، وإذا بالشيخ تقي الدين مقبل من الباب والسلطان قاصد إليه، فنزل السلطان عن الإيوان والناس قيام والقضاة والأمراء والدولة، فتسالم هو والسلطان إلى ضفة في ذلك المكان فيها شباك إلى بستان فجلسا فيها حيناً ثم أقبلا ويد الشيخ في يد السلطان، فقام الناس وكان قد جاء في غيبة السلطان الوزير فخر الدين بن الخليس فجلس عن يسار السلطان فوق ابن صصري، وقعد السلطان على مقعده متربعاً، وشرع يثني على الشيخ عند الأمراء ثناء ما سمعته من غيره قط، وقال كلاماً كثيراً والناس يقولون معه ومثله الأمراء والقضاة، وكان وقتاً عجيباً وذلك مما يسوء كثيراً من الحاضرين من أبناء جنسه، وقال في الشيخ من الثناء والمبالغة ما لا يقدر أحد من أخص أصحابه يقوله، ثم إن الوزير أنهى إلى السلطان أن أهل الذمة قد بذلوا للدولة في كل سنة سبعمائة ألف درهم زيادة على الجالية إلى أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض، وأن يعفوا من هذه العمائم المصبوغة التي ألزمهم بها ركن الدين الجاشنكير، فقال السلطان للقضاة ومن هناك ما تقولون؟ فسكت الناس، فلما رآهم الشيخ تقي الدين سكتوا جثا على ركبتيه وشرع يتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ، ويرد ما عرضه الوزير رداً عنيفاً، والسلطان يسكته برفق وتوقير، وبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقول مثله ولا بقريب منه حتى رجع السلطان عن ذلك وألزمهم بما هم عليه واستمروا على هذه الصفة، فهذا من حسنات الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله. قال: وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر أن السلطان- لما جلسنا بالشباك- أخرج فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاني في قتل بعضهم، قال ففهمت مقصوده وأن عنده حنقاً شديداً عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد في دولتك مثلهم، وأما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي وسكنت ما عنده عليهم، قال: فكان القاضي زين الدين بن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأينا أعفى من ابن تيمية، لم نبق ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا.

ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، قال الذهبي: ولم يكن الشيخ من رجال الدول، ولا يسلك معهم تلك النواميس، فلم يعد السلطان يجتمع به، وعاد إلى بث العلم ونشره، والخلق يشتغلون عليه، ويقرؤون ويستفتونه ويجيبهم بالكلام والكتابة والأمراء والأكابر والناس يترددون إليه، وفيهم من يعتذر إليه مما وقع، فقال: قد جعلت الكل في حل مما جرى، ولم يزل الشيخ مستمرا على عادته من نفع الناس وموعظتهم والاجتهاد في سبيل الخير. فلما كان في شهر رجب سنة إحدى عشرة وسبعمائة اتفق أن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه، قال الشيخ علم الدين: ظفر به بعض المبغضين له في مكان خال وأساؤوا عليه الأدب، وحضر جماعة كثيرة مت الجند وغيرهم إلى الشيخ بعد ذلك لأجل الانتصار له فلم يجب إلى ذلك، قال بعض أصحابنا جئت إلى مصر فوجدت خلقاً كثيراً من الحسنية وغيرهم رجالاً وفرساناً يسألوه عن الشيخ فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب الممالك على البحر، واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس، وقال له بعضهم: يا سيدي قد جاء خلق من الحسنية لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا، فقال لهم الشيخ لأي شيء؟ قالوا لأجلك، فقال الشيخ: هذا لا يجوز. قالوا: فنحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم: هذا ما يحل، قالوا: فهذا الذي فعلوه معك يحل؟ هذا شيء لا نصبر عليه، ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا. والشيخ ينهاهم ويزجرهم، فلما أكثروا في القول قال لهم: إما أن يكون الحق لي فهم في حل، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كما يشاء إن شاء. وأقام الشيخ بعد هذا مدة في الديار المصرية، ثم إنه توجه إلى الشام صحبة الجيش المصري قاصداً الغزاة، فلما وصل معهم إلى عسقلان توجه إلى بيت المقدس، وتوجه منه إلى دمشق، وجعل طريقه على عجلون، ووصل دمشق أول

يوم من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا سروراً عظيماً بمقدمه وسلامته، وكان مجموع غيبته عن دمشق سبع سنين وسبع جمع.

ذكر ما وقع للشيخ ابن تيمية بعد عوده لدمشق المحروسة

(ذكر ما وقع للشيخ ابن تيمية بعد عوده لدمشق المحروسة) قال الحافظ ابن عبد الهادي بن قادمة: ثم إن الشيخ رحمه الله بعد وصوله من مصر إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازماً للاشتغال ونشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة ونفع الخلق والإحسان إليهم والاجتهاد في الأحكام الشرعية، ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها قد يفتي بخلافهم أو بخلاف المشهور بما قام الدليل عليه عنده. ومن اختياراته التي خالفهم فيها أو خالف المشهور من أقوالهم؟ القول بقصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً طويلاً كان أو قصيراً كما هو مذهب الظاهرية، وقول بعض الصحابة. والقول بأن البكر لا تستبرأ وإن كانت كبيرة كما هو قول ابن عمر واختاره البخاري صاحب الصحيح. والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء كما هو مذهب ابن عمر واختاره البخاري أيضاً. والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدا الليل فبان نهاراً لا قضاء عليه كما هو في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء بعدهم. والقول بأن من أفطر في رمضان عمداً أو ترك الصلاة بلا عذر لا قضاء عليه، وقال به بعض الظاهرية، وحكي عن ابن بنت الشافعي، وفي البخاري عن أبي هريرة "من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن

صامه " 1. وبه قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وقال سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد. يقضي يوماً مكانه. والقول بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة كما في حق القارن والمفرد، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رواها عنه ابنه عبد الله، وكثير من أصحاب الإمام أحمد رضي الله عنه لا يعرفونها. والقول بجواز المسابقة بلا محلل وإن خرج المتسابقان. والقول باستبراء المختلعة بحيضة وكذلك الموطوءة بشبهة والمطلقة آخر ثلاث تطليقات. والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين. والقول بجواز عقد الرداء في الإحرام ولا فدية في ذلك، وجواز طواف الحائض ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهراً. والقول بجواز بيع الأصل بفرعه، كالزيتون بالزيت، والسمسم بالشيرج. والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره بالفضة متفاضلاً وجعل الزائد من الثمن في مقابلة الصنعة. والقول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير قليلاً كان أو كثيراً. والقول بجواز التيمم في مواضع معروفة والجمع بين الصلاتين في أماكن مشهورة وغير ذلك من الأحكام المعروفة من أقواله.

_ 1 علقه البخاري في "صحيحه" (4/ 194- فتح) بقوله: "ويُذكر عن أبي هريرة رفعه.. ". ووصله: أحمد (2/ 376، 458، 470) وأبو داود (2396) والترمذي (723) وابن ماجه (1672) وغيرهم. وضعفه الألباني في "تمام المنة" (ص 396) .

وكان يميل آخراً لتوريث المسلم من الكافر الذمي وله في ذلك مصنف وبحث طويل. ومن أقواله المشهورة التي جرى بسبب الافتاء بها محن وقلاقل قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق، وأن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة، وله في ذلك مصنفات ومؤلفات كثيرة، منها قاعدة كبيرة سماها "تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان "، نحو أربعين كراسة، وقاعدة سماها "الفرق المبين بين الطلاق واليمين " بقدر النصف من ذلك، وقاعدة في أن جميع أيمان المسلمين مكفرة مجلد لطيف، وقاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة، وقواعد وأجوبة غير ذلك لا تنضبط ولا تنحصر، وله جواب اعتراض ورد عليه من الديار المصرية، وهو جواب طويل في ثلاث مجلدات بقطع نصف البلدي. ثم اجتماع بالشيخ يوم الخميس نصف ربيع الآخر سنة ثماني عشرة وسبعمائة القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأشار عليه بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق فقبل إشارته وعرف نصيحته وأجاب إلى ذلك. فلما كان يوم السبت أول جمادى الأولى من هذه السنة ورد البريد إلى دمشق ومعه كتاب السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق التي رآها الشيخ تقي الدين، والأمر بعقد مجلس في ذلك، فعقد يوم الاثنين ثالث الشهر المذكور بدار السعادة، وانفصل الأمر على ما أمر به السلطان، ونودي بذلك في البلد بعد الثلاثاء رابع الشهر المذكور، ثم إن الشيخ عاد إلى الإفتاء بذلك وقال: لا يسعني كتمان الحلم. فلما كان يوم الثلاثاء تاسع عشر رمضان من سنة تسع عشرة جمع القضاة والفقهاء عند نائب السلطنة بدار السعادة وقرىء عليهم كتاب السلطان، وفيه فصل يتعلق بالشيخ بسبب الفتوى في هذه المسألة، وأحضر وعوتب على فتياه بعد المنع، وأكد عليه في المنع من ذلك. فلما كان بعد ذلك بمدة ثاني عشري رجب سنة عشرين عقد مجلس بدار

السعادة وحضره النائب والقضاة وجماعة من المفتين، وحضر الشيخ، وعاودوه في الإفتاء في مسألة الطلاق، وعاتبوه على ذلك، وحبس في القلعة، فبقي فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، ثم ورد مرسوم السلطان بإخراجه، فأخرج يوم الاثنين يوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين، وتوجه إلى داره، ثم لم يزل بعد ذلك يعلم الناس ويلقي الدروس في أنواع العلم.

ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها

(ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها) قالوا لما كان سنة ست وعشرين وسبعمائة وقع الكلام في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين، وكثر القيل والقال بسبب العثور على جواب الشيخ الآتي، وعظم التشنيع على الشيخ، وحرف عليه ونقل عنه ما لم يقله، وحصلت فتنة طار شررها في الآفاق، واشتد الأمر وخيف على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية، بالديار الشامية والمصرية، وضعف من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة، وجبن منهم من كانت له همة. وأما الشيخ رحمه الله فكان ثابت الجأش، قوي القلب، وظهر صدق توكله واعتماده على ربه، ولقد اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ، فقال أحدهم ينفى فنفي القائل، وقال آخر يقطع لسانه فقطع لسان القائل، وقال آخر يعزر فعزر القائل، وقال آخر يحبس فحبس القائل، أخبر بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها. واجتمع جماعة آخرون بمصر وقاموا في هذه القضية قياماً عظيماً، واجتمعوا بالسلطان وأجمعوا أمرهم على قتل الشيخ، فلم يوافقهم السلطان على ذلك وأرضى خاطرهم بالأمر بحبسه. فلما كان يوم الاثنين سادس شعبان من السنة المذكورة ورد مرسوم السلطان بأن يكون في القلعة، وأحضر للشيخ مركوب فأظهر السرور بذلك وقال: إني كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم. فركب إلى القلعة وأخليت له قاعة حسنة،

وأجري إليها الماء، ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له بما يقوم بكفايته، وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرىء بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد بذلك وبمنعه من الفتيا. وليس بعجب فقد وقع لأبي حنيفة مثله من المنع والحبس، ووقع للإمام أحمد كذلك فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر القاضي الشافعي بحبس جماعة من أصحاب الشيخ بسجن الحكم، وأوذي جماعة من أصحابه، واختفى آخرون، وعزر جماعة ونودي عليهم، ثم أطلقوا سوى الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزية فإنه حبس بالقلعة وسكنت الفتنة.

وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه

(وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه) ما تقول السادة أئمة الدين- نفع الله بهم المسلمين- في رجل نوى زيارة قبور الأنبياء والصالحين- مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره- فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حج ولم يزرني فقد جفاني "، "ومن زارني بعد موتي كان كمن زارني في حياتي " وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " أفتونا مأجورين؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين: أحدهما: وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية كأبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر في مثل هذا لسفر، لأنه سفر منهي عنه في الشريعة فلا يقصر فيه. والقول الثاني: أنه يقصر وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم،

كأبي حنيفة رحمه الله، ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، كأبي حامد الغزالي، وأبي الحسن بن عبدوس الحراني، وأبي محمد بن قدامة المقدسي، وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور"1 وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي " رواه الدارقطني. وأما ما يذكره بعض الناس من قوله: "من حج ولم يزرني فقد جفاني " فهذا لم يروه أحد من العلماء، وهو مثل قوله: "من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" فإن هذا أيضاً باطل باتفاق العلماء، لم يروه أحد ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني. وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء. وأجاب عن حديث "لا تشد الرحال " بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب. وأما الأولون فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وهذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به، فلو نذر بشده الرحال أن يصلي بمسجد أو بمشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة، ولو نذر أن يسافر ويأتي المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء، ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان جنسه واجباً بالشرع.

_ 1 هذا الحديث والذي بعده تقدم تخريجها في الجزء الأول من الكتاب.

وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به. وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره، حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء، لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان في المدينة، لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الحديث الصحيح: "من تطهر في بيته ثم أتى إلى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة". قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يعملها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنة وإجماع الأمة، وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في "الإبانة الصغرى" من البدع المخالفة للسنة والإجماع، وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد لأن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد رحل، وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر. وقوله:" لا تشد الرحال ... إلخ" محمول على نفي الاستحباب، عنه جوابان: أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات فإذا من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرماً بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز، وليس من هذا الباب. الوجه الثاني: أن الحديث يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم، وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل

هي موضوعة، لم يروها أحد من أهل السنن المعتمدة ولا شيئاً منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك إمام أهل المدينة الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا اللفظ معروفاً عندهم أو مشروعاً أو مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم أهل المدينة، والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه، وكذلك مالك في الموطأ، وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. وفي سنن أبي داوود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ". وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء. في الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً. وهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء، لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجداً فيتخذ قبره وثناً. وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك لا يدخل أحد إليه لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هنالك، بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد، وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء دعوة مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر.

وأما الوقوف للسلام عليه فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضاً ولا يستقبل القبر، وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء، وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها. واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله تعالى اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 قالوا: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر هذا المعنى البخاري في صحيحه عن ابن عباس، وذكره محمد بن جرير الطبري في التفسير عن غير واحد من السلف، وقد بسطت الكلام على أصول هذه المسائل في غير هذا الموضع. وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور هم أهل البدع من الرافضة ونحوهم، الذين يعطلون المساجد، ويعظمون المشاهد، التي يشرك فيها، ويكذب فيها، ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانا، فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد، كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ} 3. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 5.

_ 1 سورة نوح: 23. 2 سورة الأعراف: 29. 3 سورة التوبة: 18. 4 سورة الجن: 18. 5 سورة البقرة: 114.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه كان يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ". هذا آخر ما أجاب به شيخ الإسلام ابن تيمية، والله سبحانه وتعالى أعلم. وكان للشيخ في هذه المسألة كلام متقدم أقدم من هذا الجواب المذكور، وفيه ما هو أبلغ من هذا الجواب، كما أشار إليه في الجواب، ولما ظفروا في دمشق بجوابه هذا كتبوه وبعثوا به إلى الديار المصرية، وكتب عليه قاضي الشافعية: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية فصح، إلى أن قال: وإنما المحرم جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية مقطوعاً بها، هذا كلامه. فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام، والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحل للسفر إلى مجرد زيارة القبور، والزيارة من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لا يمنع الزيارة الخالية عن شد الرحل بل يستحبها ويندب إليها وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا لأن السائل لم يسأل عنها، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، لأن العامة فضلاً عن العلماء يعرفون أن زيارة القبور سنة، كيف يظن الجهل بذلك ممن سلم له الاجتهاد المطلق، والله سبحانه لا تخفى عليه خافية. ولما وصل خط القاضي المذكور إلى الديار المصرية كثر الكلام وعظمت الفتنة وطلب القضاة بها فاجتمعوا وتكلموا، وأشار بعضهم بحبس الشيخ، فرسم السلطان به وجرى ما تقدم ذكره، ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع.

ذكر انتصار علماء بغداد للشيخ

(ذكر انتصار علماء بغداد للشيخ) قالوا لما وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد قاموا في الانتصار له وكتبوا بموافقته، قال الحافظ ابن عبد الهادي بن قدامة: ورأيت خطوطهم بذلك، وينبغي ذكر شيء منها هنا. هذه صورة جواب الشيخ الإمام العلامة جمال الدين يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام بن البتي الحنبلي ومن خطه نقل قال: "بسم الله الرحمن الرحيم، بعد حمد الله الذي هو فاتحة كل كلام، والصلاة والسلام على رسوله محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، أعلام الهدى ومصابيح الظلام، يقول أفقر عباد الله وأحوجهم إلى عفوه: ما حكاه الشيخ الإمام، البارع الهمام، افتخار الأنام، جمال الإسلام، ركن الشريعة، ناصر السنة، قامع البدعة، جامع أشتات الفضائل، قدوة العلماء الأماثل، في هذا الجواب من أقوال العلماء والأئمة النبلاء، بين لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، بل أوضح من النيرين، وأظهر من فرق الصبح لذي عينين، والعمدة في هذه المسألة الحديث المتفق على صحته، ومنشأ الخلاف بين العلماء من احتمالي صيغته، وذلك أن صيغة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال" ذات وجهين: نفي، ونهي، لاحتمالها لهما، فإن لحظ معنى النفي فمعناه نفي فضيلة واستحباب شد الرحل وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة، ويتعين توجه النفي إلى فضيلتهما واستحبابهما دون ذاتهما، وإلا لزم تخلف الخبر، ولا يلزم من نفي الفضيلة والاستحباب نفي الإباحة، فهذا وجه متمسك من قال بإباحة هذا السفر بالنظر إلى أن هذه الصيغة نفي، وبنى على ذلك جواز القصر، وإن كان النهي ملحوظاً، فالمعنى حينئذ نهيه عن إعمال المطي وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، إذ المقرر عند عامة الأصوليين أن النهي عن الشيء قاض بتحريمه أو كراهته على حسب الأدلة، فهذا وجه متمسك من قال بعدم جواز القصر في هذا السفر لكونه منهياً عنه، وممن قال بحرمته الشيخ الإمام أبو محمد الجويني من

الشافعية، والشيخ الإمام أبو الوفاء بن عقيل من الحنابلة، وهو الذي أشار القاضي عياض من المالكية إلى اختياره، وما جاء من الأحاديث في استحباب زيارة القبور فمحمولة على ما لم يكن فيه شد رحل وإعمال مطي جمعاً بينها، ويحتمل أن يقال لا يصلح أن يكون غير حديث شد الرحال معارضاً له لعدم مساواته إياه في الدرجة لكونه من أعلى أقسام الصحيح، والله تعالى أعلم. وقد بلغني أنه رزىء وضيق على المجيب، وهذا أمر يحار فيه اللبيب، ويتعجب منه الأريب، ويقع منه في شك مريب، فإن جوابه في هذه المسألة قاض بذكر خلاف العلماء وليس حاكما بالغض من الصالحين والأنبياء، فإن الأخذ بمقتضى كلامه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث المتفق على رفعه إليه هو الغاية القصوى في تتبع أوامره ونواهيه، والعدول عن ذلك محذور، وذلك مما لا مرية فيه، وإذا كان كذلك فأي حرج على من سئل عن مسألة فذكر فيها خلاف الفقهاء، ومال فيها إلى بعض أقوال العلماء، فإن الأمر لم يزل كذلك على ممر العصور وتعاقب الدهور، وهل ذلك محمول من القادح إلا على امتطاء نضو الهوى، المفضي بصاحبه إلى التوى، فإن من يقتبس من فوائده ويلتقط من فرائده لحقيق بالتعظيم، وخليق بالتكريم، ممن له الفهم السليم، والذهن المستقيم، وهل حكم المظاهر عليه في الظاهر، إلا كما قيل في المثل السائر "الشعير يؤكل ويذم" ولولا خشية الملالة لما سئمت من الإطالة. وكتب تحته الإمام صفي الدين بن عبد الحق الحنبلي: الحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين، ما ذكره مولانا الإمام العالم العامل، جامع الفضائل، بحر العلم، ومنشأ الفضل، جمال الدين الكاتب خطه أمام خطي هذا جمل الله به الإسلام، وأسبغ عليه سوابغ الإنعام، أتى فيه بالحق الجلي الواضح، وأعرض فيه عن إغضاء المشايخ، إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه لا يخفى على ذي فطنة وعقل أنه أتى في الجواب بالمطابق للسؤال، بحكاية أقوال العلماء الذين تقدموه، ولم يبق عليه في ذلك إلا أن يعترض معترض في نقله فيبرزه له من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم، والمتعرض له بالتشنيع إما

جاهل لا يعلم ما يقول، أو متجاهل يحمله حسده وحميته الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول، أعاذنا الله تعالى من غوائل الحسد، وعصمنا من مخائل النكد، بمحمد وآله الظاهرين.

جواب آخر لعلماء الشافعية

(جواب آخر لعلماء الشافعية) قال: ما أجاب به الشيخ الأوحد الأجل بقية السلف، وقدوة الخلف، رئيس المحققين، وخلاصة المدققين، تقي الملة والحق والدين، من الخلاف في هذه المسألة صحيح منقول في غير ما كتاب من كتب أهل العلم، فلا مجال للاعتراض عليه في ذلك، إذ ليس بعيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غض من قدره، وقد نص الشيخ أبو محمد الجويني في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور، وهو اختيار الإمام القاضي عياض من المالكية، وهو أفضل المتأخرين من أصحابنا، وفي المدونة: ومن قال عليَّ المشي إلى المدينة أو بيت المقدس فلا يأتيهما أصلاً إلاّ أن يريد الصلاة في مسجديهما فليأتهما. فلم يجعل نذر زيارة قبره طاعة يجب الوفاء بها، ومن أصلنا أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها أكان من جنسها ما هو واجب بالشرع كما هو مذهب أبي حنيفة أو لم يكن؟ قال القاضي أبو إسحق إسماعيل بن إسحق عقب هذه المسألة: ولولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما، ولو كان نذر زيارته طاعة لزمه ذلك، وقد ذكر ذلك القيرواني في تقريبه، والشيخ ابن بشير في تنبيهه. وفي المبسوط: قال مالك: ومن نذر المشي إلى مسجد من المساجد ليصلني فيه قال: فإني أكره ذلك له، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس، ومسجدي هذا" وروى محمد بن المواز في الموازية عنه: إلا أن يكون قريباً فيلزمه الوفاء، لأنه ليس بشد رحل. وقد قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر في "كتاب التمهيد": يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وحيث تقرر هذا فلا يجوز أن ينسب من أجاب في هذه المسألة بأنه سفر منهي عنه إلى الكفر، فمن كفره بذلك من غير موجب فإن كان مستبيحاً ذلك فهو كافر، وإلا فهو فاسق.

قال الإمام أبو عبد لله محمد بن علي المازري في "كتاب المعلم": من كفر أحداً من أهل القبلة فإن كان مستبيحاً لذلك فقد كفر، وإلا فهو فاسق يجب على الحاكم إذا رفع أمره إليه أن يؤدبه أو يعزره بما يكون رادعاً لأمثاله، فإن ترك ذلك مع القدرة عليه فهو آثم، والله تعالى أعلم، كتب ذلك محمد بن عبد الرحمن البغدادي الخادم للطائفة المالكية في المدرسة الشريفة المستنصرية.

جواب آخر لبعض علماء الشام المالكية

(جواب آخر لبعض علماء الشام المالكية) قال: السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمشروع، وأما من سافر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما فمشروع باتفاق العلماء، وأما لو قصد إعمال المطي لزيارته صلى الله عليه وسلم ولم يقصد الصلاة فهذا السفر إذا ذكر رجل فيه خلافاً للعلماء- وأن منهم من قال إنه منهي عنه، ومنهم من قال إنه مباح، وإنه على القولين ليس بطاعة ولا قربة، فمن جعله طاعة وقربة على مقتضى هذين القولين كان حراماً بالإجماع وذكر حجة كل منهما، أو رجح أحد القولين- لم يلزمه ما يلزم من تنقص، إذ لا تنقص في ذلك ولا إزراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال مالك لسائل سأله إذا نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد" والله أعلم، كتبه أبو عمرو بن أبي الوليد المالكي. (وورد مع أجوبة أهل بغداد كتاب وفيه) : بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ناصر الملة الإسلامية، ومعز الشريعة المحمدية، بدوام أيام الدولة المباركة السلطانية، المليكة المالكية الناصرية، ألبسها الله تعالى لباس العز المقرون بالدوام، وحلاها بحلية النصر المستمر بمرور الليالي والأيام، والصلاة والسلام على النبي المبعوث إلى جميع الأنام، وعلى آله البررة الكرام.

اللهم إن بابك لم يزل مفتوحاً للسائلين، ورفدك ما برح مبذولاً للوافدين، من عودته مسألتك وحدك لم يسأل أحداً سواك، ومن منحته منائح رفدك لم يفد على غيرك ولم يحتم إلا بحماك، أنت الرب العظيم الكريم الأكرم، قصد باب غيرك على عبادك محرم، أنت الذي لا إله غيرك ولا معبود سواك، عز جارك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، لم تزل سنتك في خلقك جارية بامتحان أوليائك وأحبابك، فضلاً منك عليهم، وإحساناً من لدنك إليهم، ليزدادوا لك في جميع الحالات ذكراً، ولأنعمك في جميع التقلبات شكراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} 1 اللهم أنت العالم الذي لا يعلم، وأنت الكريم الذي لا يبخل، قد علمت يا عالم السر والعلانية أن قلوبنا لم تزل برفع إخلاص الدعاء صادقة، وألسننا في حالتي السر والعلانية ناطقة، أن تمتعنا بإمداد هذه الدولة المباركة الميمونة السلطانية الناصرية بمزيد العلا والرفعة والتمكين، وأن تحقق آمالنا فيها بإعلاء الكلمة، ففي ذلك رفع قواعد دعائم الدين، وقمع مكائد الملحدين، لأنها الدولة التي برئت من غشيان الجنف والحيف، وسلمت من طغيان القلم والسيف، والذي عهده المسلمون وتعوده المؤمنون، من المراحم الكريمة والعواطف الرحيمة، إكرام أهل الدين، وإعظام علماء المسلمين، والذي حمل على رفع هذه الأدعية الصريحة إلى الحضرة الشريفة- وإن كانت لم تزل مرفوعة إلى الله سبحانه وتعالى بالنية الصحيحة- قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وقوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات". وهذان الحديثان مشهوران بالصحة مستفيضان في الأمة. ثم إن هذا الشيخ المعظم الجليل والإمام المكرم النبيل، أوحد الدهر، وفريد العصر، طراز المملكة الملكية، وعلم الدولة السلطانية، لو أقسم مقسم بالعظيم القدير أن هذا الإمام الكبير ليس له في عصره مماثل ولا نظير؛ لكانت

_ 1 سورة العنكبوت: 43.

يمينه برة غنية عن التكفير، وقد خلت من وجود مثله السبع الأقاليم إلا هذا الإقليم، يوافق على ذلك كل منصف جبل على الطبع السليم، ولسنا بالثناء عليه نطريه، بل لو أطنب مطنب في مدحه والثناء عليه لما أتى على بعض الفضائل التي فيه، أحمد بن تيمية، درة يتيمة يتنافس فيها، تشترى ولا تباع، ليس في خزائن الملوك ما يماثلها ويؤاخيها، انقطعت عن وجود مثله الأطماع. لقد أصم الأسماع، وأوهى قوى المتبوعين والأتباع " سماع رفع أبي العباس أحمد بن تيمية إلى القلاع، وليس يقع من مثله أمر ينقم منه عليه إلا أن يكون أمرا قد لبس عليه، ونسب إلى ما لا ينسب مثله إليه، والتطويل على الحضرة العالية لا يليق، إن يكن في الدنيا قطب فهو القطب على التحقيق، وقد نصب الله السلطان أعلى الله شأنه في هذا الزمان منصب يوسف الصديق لما صرف الله وجوه أهل البلاد إليه، حيث أمحلت البلاد واحتاج أهلها إلى القوت المدخر لديه، والحاجة بالناس الآن إلى قوت الأرواح الروحانية أعظم من حاجتهم في ذلك الزمان إلى طعام الجثث الجسمانية، وأقوات الأرواح المشار إليها لإخفاء أنها العلوم الشريفة، والمعاني اللطيفة، وقد كانت بلاد المملكة السلطانية- حرسها الله تعالى- تكال الثناء جزافاً بغير أثمان، منحة عظيمة من الله ذي السلطان، ونعمة جسيمة إذ خص بلاد مملكته وإقليم دولته بما لا يوجد في غيرها من الأقاليم والبلدان، وقد كان وفد الوافدون من سائر الأمصار فوجدوا صاحب صواع الملك قد رفع إلى القلاع، ومثل هذه الميرة لا توجد في غير تلك البلاد لتشترى أو تباع، وصادف ذلك جدب الأرض ونواحيها جدبا أعطب أهاليها، حتى صاروا من شدة حاجتهم إلى الأقوات كالأموات، والذي عرض للمليك بالتضييق على صاحب صواعه مع شدة الحاجة إلى غذاء الأرواح لعله لم يتحقق عنده أن هذا الإمام من أكابر الأولياء وأعيان أهل الصلاح، وهذه نزغة من نزغات الشيطان، قال الله سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} 1.

_ 1 سورة الإسراء: 53.

وأما إزراء بعض العلماء عليه في فتواه وجوابه عن مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور؛ فقد حمل جواب علماء هذه البلاد إلى نظرائهم من العلماء وقرنائهم من الفضلاء، وكلهم أفتى أن الصواب في الذي به أجاب، والظاهر بين الأنام أن إكرام هذا الإمام ومعاملته بالتبجيل والاحترام فيه من قوام الملك، ونظام الدولة، وإعزاز الملة واستجلاب الدعاء، وكبت الأعداء، وإذلال أهل البدع والأهواء، وإحياء الأمة، وكشف الغمة، ووفور الأجر، وعلو الذكر، ودفع البأس، ونفع الناس، ولسان حال المسلمين تالٍ قول الكبير المتعال: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} 1 والبضاعة المزجاة هي هذه الأوراق المرقومة بالأقلام، والميرة المطلوبة بالإفراج عن شيخ الإسلام، والذي حمل على هذا الإقدام قوله عليه السلام: "الدين النصيحة" والسلام.

_ 1 سورة يوسف: 88.

كتاب آخر لعلماء بغداد

(كتاب آخر لعلماء بغداد) وفيه بعد البسملة والحمدلة: اللهم فكما أيدت ملوك الإسلام وولاة الأمر بالقوة والقهر، وشيدت لهم ذكراً وجعلتهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذخراً وللمكسور العائذ بأكناف بابهم جبراً فاشدد اللهم منهم بحسن معونتك لهم أسراً، وأعل لهم مجداً، وارفع لهم قدراً، وزدهم عزاً وعلى أعدائهم نصراً، وامنحهم توفيقاً مسدداً وتمكيناً مستمراً. وبعد؛ فإنه لما قرع أسماع أهل البلاد المشرقية والنواحي العراقية التضييق على شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية سلمه الله تعالى عظم ذلك على المسلمين، وشق على ذوي الدين، وارتفعت رؤوس الملحدين، وطابت نفوس أهل الأهواء والمبتدعين، ولما رأى علماء أهل هذه الناحية عظم هذه النازلة من شماتة أصحاب البدع، وأهل الأهواء بأكابر الأفاضل وأئمة العلماء أنهوا حال

هذا الأمر الفظيع والحال الشنيع إلى الحضرة الشريفة السلطانية- زادها الله شرفاً- وكتبوا أجوبتهم في تصويب ما أجاب به الشيخ سلمه الله تعالى في فتاواه، وذكروا من علمه وفضائله بعض ما هو فيه، وحملوا ذلك بين يدي مولانا ملك الأمراء أعز الله أنصاره، وضاعف اقتداره، غيرة منه على هذا الدين، ونصيحة للإسلام وأمراء المسلمين، والآراء المولوية العالية أولى بالتقديم، لأنها ممنوحة بالهداية إلى الصراط المستقيم. قلت: والظاهر أن هذه الكتب لم تصل للسلطان الملك الناصر، إما لعدم من يوصلها له أو لموت الشيخ قبل وصولها، وإلا لظهر لها نتيجة، ولم أقف على ذلك، وهذه الأجوبة والكتب وصلت كلها إلى دمشق. ثم إن الشيخ رحمه الله استمر مقيماً بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياماً إلى أن توفي، وما زال في تلك المدة معظماً مكرماً، يكرمه نقيب القلعة ونائبها إكراماً كثيراً، ويقضيان حوائجه ويبالغان في قضائها، وما برح في هذه المدة مكباً على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب والرد على المخالفين، وكتب على تفسير القرآن جملة كثيرة تشتمل على نفائس جليلة، ونكت دقيقة، ومعاني لطيفة، وبين في ذلك مواضع كثيرة أشكلت على خلق من علماء أهل التفسير، وكتب في المسألة التي حبس بسببها عدة مجلدات، منها كتاب في الرد على الأخنائي قاضي المالكية، ومنها كتاب كبير حافل في الرد على بعض قضاة الشافعية، وأشياء كثيرة في هذا المعنى، وكان ما صنفه في هذه المدة قد خرج بعضه من عنده وكتبه بعض أصحابه وظهر واشتهر، فلما كان قبل وفاته بشهر ورد مرسوم بإخراج ما عنده كله، ولم يبق عنده كتاب ولا ورق ولا دواة ولا قلم، وكان بعد ذلك إذا كتب ورقة إلى بعض أصحابه كتبها بفحم، ولما أخرج ما عنده من الكتب والأوراق حمل إلى القاضي علاء الدين القونوي وجعل تحت يده في المدرسة العادلية.

فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى

(فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى) قال أهل التاريخ: كان مولد الشيخ ابن تيمية يوم الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وكانت وفاته ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ولما أخرجت كتبه من عنده أقبل بعد إخراجها على العبادة والتلاوة والذكر والتهجد حتى أتاه اليقين، وكان يختم القرآن في كل عشرة أيام، وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة إحدى وثمانين ختمة، انتهى في آخر ختمة إلى آخر اقتربت {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 1 ثم كملت عليه بعد وفاته وهو مسجى، وكانت مدة مرضه بضعة وعشرين يوماً، وكان إذ ذاك الملك شمس الدين الوزير بدمشق المحروسة، فلما علم بمرضه استأذن في الدخول عليه لعيادته فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ يعتذر له عن نفسه ويلتمس منه أن يحلله مما عساه أن يكون قد وقع منه في حقه من تقصير أو غيره، فأجابه الشيخ رضي الله تعالى عنه أني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق، وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً ولم يفعله لحظ نفسه، بل لما بلغه مما ظنه حقا من مبلغه، والله يعلم أنه بخلافه، وقد أحللت كل أحد مما بيني وبينه إلا من كان عدوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأكثر الناس ما علموا بمرضه فلم يفجأ الخلق إلا نعيه، قال الشيخ علم الدين: وفي ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة توفي الشيخ الإمام العلامة الفقيه الحافظ الزاهد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن شيخنا الإمام المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ثم الدمشقي بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً فيها، فاشتد التأسف عليه وكثر البكاء والحزن، ودخل عليه أقاربه

_ 1 سورة القمر: 54- 55.

وأصحابه، وازدحم الخلق على باب القلعة والطرقات، وامتلأ جامع دمشق، وحضر جمع كثير إلى القلعة، فأذن لهم في الدخول، وجلس جماعة ضده قبل الغسل وقرؤوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله ثم انصرفوا، وحضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك، ثم انصرفن، واقتصر على من يغسله ويعين في غسله، وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، وازدحم من حضر غسله من الخاصة والعامة على الماء المنفصل من غسله حتى حصل لكل واحد منهم شيء قليل، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهم، والخيط الذي فيه الزئبق وكان في عنقه بسبب القمل دفع فيه مائة وخمسون درهماً، فلما فرغوا من ذلك أخرج، وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامع وصحنه والكلاسين وباب البريد وباب الساعات إلى اللبادين والفوارة، ولم يبق في دمشق من يستطيع المجيء للصلاة عليه إلا حضر لذلك حتى غلقت الأسواق بدمشق وعطلت معائشها حينئذ، وحصل للناس بمصابه أمر شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم، وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء والأتراك والأجناد والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام، قال بعض من حضر ولم يتخلف أحد فيما أعلم إلا ثلاثة أنفس كانوا قد اشتهروا بمعاندته فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس. ولما أخرجت جنازته فما هي إلا أن رآها الناس فأكبوا عليها وحصل البكاء والضجيج والتضرع، واشتد الزحام من كل جانب، كل منهم يقصد التبرك1، حتى خشي على النعش أن يحطم قبل وصوله، فأحدق الأمراء والأجناد، واجتمع الأتراك فمنعوا الناس من الزحام عليها خشية سقوطها، وجعلوا يردونهم عن الجنازة بكل ما يمكنهم وهم لا يزدادون إلا زحاماً وكثرة، حتى دخلت جامع بني أمية المحروس ظناً منهم أنه يسع الناس، فبقي كثير من الناس خارج الجامع، فصلي عليه رضي الله تعالى عنه بجامع دمشق عقب صلاة الظهر، وكان صلي عليه

_ 1 وهذا تبرك غير مشروع، فاعلم ذلك.

أولاً في القلعة، تقدم في الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام، ثم حمل إلى باب البريد على أيدي الكبراء والأشراف إلى ظاهر دمشق واشتد الزحام وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك1، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها من شدة الزحام وكل باب أعظم زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام، لكن المعظم من الأبواب الأربعة: باب الفرج الذي خرجت منه الجنازة، ومن باب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، فلما خرجوا به لظاهر دمشق وضع بأرض فسيحة متسعة الأطراف، فصلى عليه الناس أيضاً، وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن، قال بعض من حضر من الثقات: كنت ممن صلى عليه في الجامع وكان لي متشرف على المكان الذي صلي عليه فيه بظاهر دمشق فأحببت أن أنظر إلى الناس وكثرتهم فأشرفت عليهم حال الصلاة وجعلت أنظر يميناً وشمالاً ولا أرى أواخرهم بل رأيت الناس قد طبقوا تلك الأرض كلها. واتفق جماعة ممن حضر وشاهد الناس والمصلين عليه على أنهم يزيدون على نحو من خمسمائة ألف، وحضرها نساء كثير بحيث حزرن بخمسة عشر ألفا، قال أهل التاريخ: لم يسمع بجنازة تمثل هذا الجمع إلا جنازة الإمام أحمد بن حنبل. قال الدارقطني: سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز، قال أبو عبد الرحمن السلمي: إنه حزر الحزارون المصلين على جنازة أحمد فبلغ العدد بحزرهم ألف ألف وسبعمائة ألف سوى الذين كانوا في السفن. ثم حملت جنازة الشيخ إلى قبره في مقبرة الصوفية فوضع، وقد جاء الملك شمس الدين الوزير ولم يكن حاضراً قبل ذلك فصلى عليه أيضاً ومن معه من

_ 1 وهذا كسابقه.

الأمراء والكبراء ومن شاء الله من الناس، ثم دفن وقت العصر إلى جانب أخيه الشيخ الإمام العلامة البارع الحافظ الزاهد العابد الورع جمال الإسلام شرف الدين، وكان قد توفي سنة سبع وعشرين في أيام حبس أخيه تقي الدين، وصلي عليه في جامع دمشق، ثم حمل إلى باب القلعة فصلي عليه مرة أخرى، وصلى عليه أخواه تقي الدين وزين الدين وخلق من داخل القلعة، كان الصوت بالتكبير يبلغهم وكثر البكاء في تلك الساعة، وكان وقتاً مشهوداً، ثم صلي عليه مرة ثالثة ورابعة، وحضر جنازته جمع كثير وعالم عظيم، وكثر الثناء والتأسف عليه، وأثنى عليه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، فقال: شرف الدين بارع في فنون عديدة من الفقه، والنحو، والأصول، ملازم لأنواع الخير، وتعليم العلم، حسن العبادة، قوي في دينه، جيد التفقه، مستحضر لمذهبه استحضاراً جيداً، مليح البحث صحيح الذهن، قوي الفهم رحمه الله تعالى. فلما دفن الشيخ تقي الدين إلى جانب أخيه؛ جعل الناس يأتون قبره للصلاة عليه من القرى والأطراف والأماكن والبلاد مشاة وركباناً، وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً، ورُئيت له منامات كثيرة صالحة. قال الحافظ الشيخ سراج الدين البزار: وما وصل خبر موته إلى بلد فيما نعلم إلا وصلي عليه في جميع جوامعه ومجامعه، خصوصاً أرض مصر ودمشق والعراق وتبريز والبصرة وقراها وغيرها، وختمت له الختمات الكثيرة في الليالي والأيام في أماكن كثيرة لم يضبط عددها، خصوصاً بدمشق ومصر والعراق، حتى جعل كثير من الناس القراءة له وأدار الربعة الشريفة على الناس للقراءة وإهدائها له وظيفة معتادة 1، قال: ولم ير في جنازة ما رُئي في جنازته من الوقار والهيبة، والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها، وتوقيرهم إياها، وتفخيمهم أمر صاحبها، وثنائهم عليه بما كان عليه من العلم والعمل، والزهادة والعبادة، والإعراض عن الدنيا، والاشتغال بالآخرة، والفقر، وإيثار الكرم، والمروءة، والصبر، والثبات،

_ 1 وهذا أمر مخالف للسنة المطهرة، فاعلم ذلك.

والشجاعة، والفراسة، والإقدام في الصدع بالحق، والإغلاظ على أعداء الله ورسوله والمنحرفين عن دينه، والتواضع لأولياء الله، والتذلل لهم والإكرام، والاعتذار والاحترام لجنابهم، وعدم الاكتراث بالدنيا وزخرفها ونعيمها ولذاتها، وشدة الرغبة في الآخرة والمواظبة على طلبها، حتى سمع ذلك ونحوه من الرجال والنساء والصبيان، وكل منهم يثني عليه بما يعلمه من ذلك رضي الله عنه وأرضاه، ونفعنا به في الدنيا والآخرة، آمين. هذا وقد قال الحافظ ابن عبد الهادي بن قدامة في مناقبه- بعد أن أطال الكلام عليها-: وللشيخ فضائل كثيرة، وأسماء مصنفاته وسيرته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة والمتصوفة وحبسه مرات وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الكتاب" انتهى.

فصل فيما رثي به الشيخ من القصائد بعد موته وذلك كثير لا ينحصر

(فصل فيما رثي به الشيخ من القصائد بعد موته وذلك كثير لا ينحصر) ولما مات الشيخ ابن تيمية رحمه الله رثاه كثير من الفضلاء والأئمة العلماء بقصائد جمة لا يسع هذا المختصر ذكرها. قال الشيخ الإمام ابن فضل الله العمري: رثاه جماعات من الناس بالشام، ومصر، والعراق، والحجاز، والغرب- نسأل فضل رحمة الله عليه- وها أنا أذكر شيئاً من ذلك في هذا المختصر: فمنها: ما قاله الشيخ القاضي الإمام العالم شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فضل الله العمري الشافعي نثراً ونظماً في حق الشيخ، قال في كلام طويل: ورفع إلى السلطان غير ما مرة، ورمي بالكبائر، وتربصت به الدوائر، وسعي به ليؤخذ بالجرائر، وحسده من لم ينل سعيه، وكثر فارتاب، وما تم وما زاد على أنه اغتاب، وأزعج من وطنه تارة إلى مصر ثم إلى الإسكندرية، وتارة إلى مجلس القلعة في دمشق، وفي جميعها يودع أخبية السجون، ويلدغ بزباني

المنون، وهو علي لينظر صحفه، ويدخر تحفه، حتى تستهدي أطراف البلاد طرفه، وتستطلع بقايا الأقاليم شرفه، إلى أن خطفه آخر مرة من سجنه عقاب المنايا، وجذبته إلى مهواتها قرارة الرزايا، وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، وطبع على قلبه منه طابع الألم، فكان مبدأ مرضه ومنشأ برضه، حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار المنابر، وحل بساحل ربه وما يحاذر، واختار راحة قلبه من اللائم والعاذر، فمات وما مات لا بل حيّ، وعرف قدره لأن مثله ما رُئي، ما بري على المآثر إلى أن ضريحه أحله، وأتاه بشير الجنة يستعجله، فانتقل إلى الله والظن به أنه لا يخجله، وكان يوم دفنه يوماً مشهوداً، ووقتاً معدوداً، ضاقت به البلد وظواهرها، وتذكرت به أوائل الرزايا وأواخرها، ولم يكن أعظم منها منذ مئين من السنين جنازة رفعت على الرقاب، ووطئت في زحامها الأعقاب، وصار مرفوعاً على الرؤوس متبوعاً بالنفوس، تحدوه العبرات، وتتبعه الزفرات، وتقول له الأمم لا فقدت من غائب، ولأقلامه النافعة لا أبعدكن الله من شجرات، كان أمة وحده، وفرداً حتى نزل لحده، ثم قال: أهكذا في الدياجي يحجب القمر ... ويحبس النوء حتى يحبس المطر أهكذا تمنع الشمس المنيرة عن ... منافع الأرض أحيانا فتستتر أهكذا السيف لا تمضي مضاربه ... والسيف في الفتك ما في عزمه خور أهكذا القوس ترمى بالعراء وما ... تصمى الرمايا وما في باعها قصر أهكذا يترك البحر الخضم ولا ... يلوى عليه وفي أصدافه الدر أهكذا بتقي الدين قد عبثت ... أيدي العدى وتعدي نحوه الضرر إلى ابن تيمية ترمى سهام أذى ... من الأنام ويدمى الناب والظفر بر السوابق ممتد العبادة لا ... يناله ملل فيها ولا ضجر ولم يكن مثله بعد الصحابة في ... علم عظيم وزهد ماله خطر طريقة كان يمشي قبل مشيته ... بها أبو بكر الصديق أو عمر فرد المذاهب في أقوال أربعة ... جاؤوا على أثر السباق وابتدروا لما بنوا قبله علياً مذاهبهم ... بنى وعمر منها مثل ما عمروا

مثل الأئمة قد أحيا زمانهم ... كأنه كان فيهم وهو منتظر أن يرفعوهم جميعاً رفع مبتدأ ... فحقه الرفع أيضاً إنه خبر أمثله بينكم يلقى بمضيعة ... حتى يطيح له عمداً دم هدر يكون وهو أماني لغيركم ... تنوبه منكم الأحداث والغير والله لو أنه في غير أرضكم ... لكان منكم على أبوابه زمر مثل ابن تيمية ينسى بمحبسه ... حتى يموت ولم يكحل به بصر مثل ابن تيمية ترضى حواسده ... بحبسه ولكم في حبسه غدروا مثل ابن تيمية في السجن معتقل ... والسجن كالغمد وهو الصارم الذكر مثل ابن تيمية يرمى بكل أذى ... وليس يجلى قذى منه ولا نظر مثل ابن تيمية تذوى خمائله ... وليس يلقط من أفنانه الزهر مثل ابن تيمية شمس تغيب سدى ... وما تروق بها الآصال والبكر مثل ابن تيمية يمضي وما عبقت ... بمسكه العاطر الأردان والطرر مثل ابن تيمية يمضي وما نهلت ... له سيوف ولا خطية سمر ولا تجاري له خيل مسومة ... وجوه فرسانها الأوضاح والغرر ولا تحف به الأبطال دائرة ... كأنهم أنجم في وسطها قمر ولا تعبس حرب في مواقفه ... يوماً ويضحك في أرجائها الظفر حتى يقوم هذا الدين من ميل ... ويستقيم على منهاجه البشر بل هكذا السلف الأبرار ما برحوا ... يبلى اصطبارهم جهداً وهم صبر تأس بالأنبياء الطهر كم بلغت ... فيهم مضرة أقوام وكم هجروا في يوسف في دخول السجن منقبة ... لمن يكابد ما يلقى ويصطبر ما أهملوا أبداً بل أمهلوا لمدى ... والله يعقب تأييداً وينتصر أيذهب المنهل الصافي وما نقعت ... به الظماة ويبقى الحمأة الكدر مضى حميداً ولم يعلق به وضر ... وكلهم وضر في الناس أو ضرر طود من الحلم لا يرقى له فنن ... كأنما الطود من أحجاره حجر بحر من العلم قد فاضت بقيته ... فغاضت الأبحر العظمى وما شعروا

يا ليت شعري هل في الحاسدين له ... نظيره في جميع القوم إن ذكروا هل فيهم لحديث المصطفى أحد ... يميز النقد أو يروي له خبر هل فيهم من يضم البحث في نظر ... أو مثله من يضم البحث والنظر هلا جمعتم له من قومكم ملأ ... كفعل فرعون مع موسى ليعتذروا قولوا لهم قال هذا فابحثوا معه ... قدامنا وانظروا الجهّال إن قدروا يلقى الأباطيل أسحاراً لها دهش ... فليلقف الحق ما قالوا وما سحروا فليتهم مثل ذاك الرهط من ملأ ... حتى يكون لكم في شأنهم عبر وليتهم أذعنوا للحق مثلهم ... فآمنوا كلهم من بعدما كفروا يا طالما نفروا عنه مجانبة ... وليتهم نفعوا في الضيم أو نفروا هل فيهم صاح للحق مقوله ... أو خائض للوغى والحرب تستعر رمى إلى نحو غازان مواجهة ... سهامه من دعاء عونه القدر بتلّ راهط والأعداء قد غلبوا ... على الشآم وطار الشر والشرر وشق في المرج والأسياف مصلتة ... طوائف كلها أو بعضها تتر هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم ... مثل النساء بظل الباب مستتر وبعدها كسروان والجبال وقد ... أقام أطوادها والطود منفطر واستحصد القوم بالأسياف جهدهم ... وطالما بطروا طغوى وما نظروا قالوا قبرناه قلنا إن ذا عجب ... حقاً وللكواكب الدري قد قبروا وليس يذهب معنى منه متقد ... وإنما تذهب الأجسام والصور لم يبكه ندماً من لم يصب دماً ... يجري به ديماً تهمي وتنهمر لهفي عليك أبا العباس كم كرم ... لما قضيت قضى من عمره العمر سقى ثراك من الوسمي صيبه ... وزار مغناك قطر كله قطر ولا يزال له برق يغازله ... حلو المراشف في أجفانه حور لفقد مثلك يا من ما له مثل ... تأسى المحاريب والآيات والسور يا وارثاً من علوم الأنبياء نهى ... أورثت قلبي ناراً وقدها الفكر يا واحداً لست أستثني به أحداً ... من الأنام ولا أبقي ولا أذر

يا عالماً بنقولى الفقه أجمعها ... أعنك تحفظ زلآت كما ذكروا يا قامع البدع اللاتي تحببها ... أهل الزمان وهذا البدو والحضر ومرشد الفرقة الضلال نهجهم ... من الطريق فلا حاروا ولا سهروا ألم تكن للنصارى واليهود معاً ... مجادلاً إذ هم في البحث قد حضروا وكم فتى جاهل غر أبنت له ... رشد المقال فزال الجهل والغرر ما أنكروا منك إلا أنهم جهلوا ... عظيم قدرك لكن ساعد القدر قالوا بأنك قد أخطأت مسألة ... وقد يكون فهلا منك تغتفر غلطت في الدهر أو أخطأت واحدة ... أما أجدت إصابات فتعتذر ومن يكون على التحقيق مجتهداً ... له الثواب على الحالين لا الوزر أم تكن بأحاديث النبي إذا ... سئلت تعرف ما تأتي وما تذر حاشاك من شبهة فيها ومن شبه ... كلاهما منك لا يبقى له أثر عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا هل كان مثلك من يخفى عليه هدى ... ومن سمائك تبدو الأنجم الزهر وكيف تحذر من شيء تزل به ... أنت التقي فماذا الخوف والحذر ومنها: للعلامة أبي حفص عمر بن الوردي الشافعي ناظم البهجة عليه الرحمة: قلوب الناس قاسية سلاط ... وليس لها إلى العليا نشاط أينشط قط بعد وفاة حبر ... لنا من نثر جوهره التقاط تقي الدين ذو ورع وعلم ... خروق المعضلات به تخاط توفي وهو مسجون فريد ... وليس له إلى الدنيا انبساط ولو حضروه حين قضى لألفوا ... ملائكة النعيم به أحاطوا قضى نحباً وليس له قرين ... ولا لنظيره لف القماط فتى في علمه أضحى فريداً ... وحل المشكلات به يناط وكان إلى التقى يدعو البرايا ... وينهى فرقة فسقوا ولاطوا

وكان الجن تفرق من سطاه ... بوعظ للقلوب هو السياط فيا لله ما قد ضم لحد ... ويالله ما غطى البلاط هم حسدوه لما لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طريقته كسالى ... ولكن في أذاه لهم نشاط وحبس الدر في الأصداف فخر ... وعند الشيخ بالسجن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداء ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطو بنوا تيمية كانوا فبانوا ... نجوم العلم أدركها انهباط ولكن يا ندامة حاسديه ... فشك الشرك كان به يماط ويا فرح اليهود بما فعلتم ... فإن الضد يعجبه الخباط ألم يك فيكم رجل رشيد ... يرى سجن الإمام فيستشاط إمام لا ولاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رباط ولا جاراكم في كسب مال ... ولم يعهد له بكم اختلاط ففيم سجنتموه وغظتموه ... أما لجزا أذيته اشتراط وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي ... ففيه لقدر مثلكم انحطاط أما والله لولا كتم سري ... وخوف الشر لانحل الرباط وكنت أقول ما عندي ولكن ... لأهل العلم ما حسن اشتطاط فما أحد إلى الإنصاف يدعو ... وكل في هواه له انخراط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... ويهنيكم إذا نصب الصراط فها هو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أردتم أن تعاطوا وحلوا واعقدوا من غير رد ... عليكم وانطوى ذاك البساط ومما ينسب إليه أيضا: كان والله فقيهاً عالماً ... ذا عفاف وتقي ما يتهم غير لم يدر مداراة الورى ... ومداراة الورى أمر مهم ومنها: للشيخ الإمام محمد العراقي الجزري رضي الله تعالى عنه آمين:

عز عندي يوم الرحيل العزاء ... لنعي فيها الدموع دماء طرق الخافقين خطب جسيم ... أطرقت منه في الورى العلماء خفت أن ترهق السماء وكادت ... ترجف الأرض أو تمور السماء فقد المسلمون قطب المعالي ... فبكته الأغواث والأولياء كسف النيرين فقدك يا أحمـ ... ـد حقاً وغابت الجوزاء أظلمت جلق التي كنت فيها ... وأضاءت بغيرك البيداء يا طليق اللسان في كل فن ... فلقد شرفت بك العلياء إن تكن مت فللعلوم التي أحييـ ... ـت من بعد موتها أحياء مدحت فهمك الحروف جلالاً ... وكذاك الأفعال والأسماء يا مزيل الأشكال عن كل فهم ... وله عن كل زلة إغضاء لا الصباح صباح بعدك عندي ... في ضياء ولا المساء مساء ما حضرت الجدال بين أناس ... يقرؤون الحديث إلا وفاءوا أنت صخر الوجود في كل أرض ... والبرايا جميعها الخنساء من لعلم التفسير فيما رواه ... جابر أو مجاهد أو عطاء عطلت بعدك الدروس فما فيهـ ... ـا لرب الفهم السقيم شفاء من لعلم الفتيا إذا اشتبه الأ ... مر وحارت في ردها الأذكياء من لعلم الحديث بعدك فيما ... قاله الواصفون والأتقياء طاهر الأصل كم حويت خصالاً ... قصرت عن فروعها الفصحاء من تكن هذه السجايا سجاياه ... فلا تشتفي به الأعداء كل ميت يكون مثل تقي الدين ... فالموت عنده أحياء أيها القبر إن فيك لبحراً ... جللته مهابة وضياء وجلال وعفة ووقار ... وجمال وبهجة وسناء تعست ليلة الفراق وغابت ... أنجم أشرقت لها لألآء نعت الناعيات نعيك في الأ ... فق وناحت في دوحها الورقاء أيها الحبر أوحش الآن ربع ... كنت فيه ومنزل وفناء

هان قدر الحمراء عندك من ز ... هدك واستحقرت لك البيضاء ونبذت الدنيا فعشت فقيراً ... بصفات تودها الأغنياء يا ابن تيمية الذي حزن الدهر ... عليه وغاضت الأنواء كنت إنسان عين دهرك لا تعرف ... حقاً إلا لك الأشياء خضت بحراً ما فيه إلا إمام ... ذواجتها ولكن عداك العداء كنت في ذروة السنام من العلم ... وما قلت للأنام سواء ضاق ذرع الزمان منك فناء ... ليت شعري هل ضاق منك الفضاء وإذا حلت المنية يوماً ... بنفيس فليس يغنى الأساء نضر الله وجهك يا حسن المنـ ... ـظر يا من له السنى والسناء وسقى الله روضة أنت فيها ... ساريات تجري بها النكباء وعلا قبرك النجار فقيصوم ... ورند وفاح منه الكباء رضي الله عنك حياً وميتاً ... وسقى ربعك المصون الحياء قسماً بالإله لوأنصف الد ... هر لأضحى في كل بيت عزاء (ومنها للشيخ علاء الدين بن غانم رحمه الله تعالى) : أي حبر مضى وأيّ إمام ... فجعت فيه ملة الإسلام ابن تيمية التقي إمام الـ ... ـعصر من كان شامة في الشآم بحر علم قد غاض من بعد ما فا ... ض نداه وعم بالإنعام زاهد عابد تنزه في دنـ ... جاه عن كل ما بها من حطام كان كنزاً لكل طالب علم ... ولمن خاف أن يرى في حرام ولعاف قد جاء يشكو من الفقر ... لديه ينال كل مرام حاز علماً فما له من مساو ... فيه من عالم ولا من مسام لم يكن في الدنيا له من نظير ... في جميع العلوم والأحكام كم له في حنادس الخطب والناس ... نيام حتى الضحى من قيام وجميع الأنام من شدة الخوف ... نيام من الردى في منام وبنوا فارس قد افترسوا الناس ... افتراس الأسود سرح الحوامي

ودمشق الشام بعد انبساط ... من ضواحي رستاقها في انضمام إذ غزانا على العلوج غزاة ... وغزانا من فارس بالطغام فأعاد العزيز منا ذليلاً ... ذا صغار ينقاد كالأنعام فنضاه الجبار جل ثناه ... في وجوه العدا كحد الحسام فحمانا بالله من كل طاغ ... لا برمح وصارم وحسام يا له حين فر كل كمي ... من حماة الإسلام عنا يحامي يا ابن تيمية عليك خصوصاً ... وعموماً تحيتي وسلامي يا سليل العلى عليك القوافي ... قد بكت في الطروس والأقلام يا فقيد المثال علماً وحلماً ... وقريب المرمى بعيد المرام يا بطيء الإحجام إن عز خطب ... وكثير القيام جنح الظلام كف طرفي إن لذ من بعد إلا ... ترك أجفانه لذيذ المنام وبودي لفقد شخصك لو حا ... م على أيكة حمام حمامي ولعمري يا من له في فؤادي ... لحد ذكر دوامه في دوامي إن حللت الثرى فروحك حلت ... يا ابن عبد السلام دار السلام فسقى تربة حواك ثراها ... كل مزن بوابل ورهام وإذا سحت السواري بسح ... والغوادي جدناك بالدمع دام (ومنها لمحمود بن الأثير الحلبي عليه الرحمة) : يا دموعي سحي كسح الغمام ... هاطلات على الخدود سجام لفراق الشيخ الإمام المفدى ... ابن تيمية ونجل الكرام زاهد عابد تقي نقي ... فهمه لا يقاس بالأفهام ابن تيمية يتيمة دهر ... ماله من مساوم ومسامي فجعت فيه أهل كل البرايا ... جمعها للعلوم والأحكام أوحد في العلوم والفضل والز ... هد لا يرائي في ملة الإسلام بحر علم يغوص كل لبيب ... في معانيه حار كل الأنام فاق بالعلم والفضائل للخلق ... فأضحى إمام كل إمام

إن يكن غاب شخصه وتوارى ... ومضت روحه لدار السلام فمناقبه والفضائل تبقى ... في ممر الدهور والأعوام سيد قد علا بعلم وحلم ... فعداه لديه كالأنعام كم رماه الحساد بالكيد والبغي ... وهو لا ينثني عن الإقدام طالب الحق لا يخاف لحيف ... وهو يحمي عن ذروة الإسلام لا يخاف الملوك أيضاً ولا الخلـ ... ـق ولا العداة مع اللوم صدره للعلوم والقلب للرب ... ويداه للبذل والإنعام لا تلمني على المديح ودعني ... فهو شيخي وبغيتي ومرام كل من مات في هواه بوجد ... ما عليه في حتفه من ملام (ومنها للشيخ الإمام زين الدين عمر بن الحسام الشبلي رحمه الله تعالى) : لو كانت يقنعني عليك بكائي ... لجرت سوابق عبرتي بدماء أو كنت في يوم انتقالك للبلى ... صخراً لزدت على بكا الخنساء لكن أصبر عنك نفسي كاتماً ... للحزن خوف شماتة الأعداء أترى علمت وأنت أفضل عالم ... ما عندنا من لوعة وبلاء أسفي على تلك الديانة والتقى ... والجود آذن قربه بتناء أسفي عليك وما التأسف نافع ... صبا عليك مقلقل الأحشاء أسفي عليك نفى الكرى عن ناظري ... من فرط أحزاني وفرط عنائي غاضت بحار العلم بعد والو ... رى في غفلة يا سيد العلماء بأبي وحيداً مات منفرداً عن الـ ... ـأحباب كان بقية الصلحاء بحر العلوم حوى الفضائل كلها ... وسما سمو كواكب الجوزاء متفرد في كل علم دونه ... لعلو رتبته ذرى العلياء بالفضل قد شهدت له أعداؤه ... وبه سما فضلاً على النظراء شيخ العلوم وتابع السلف الألي ... تبعوا الرسول بشدة ورخاء وإمام أهل الأرض والمبدي لهم ... سنن الهدى عن صحة الأنباء ذو الصالحات وذو الشجاعة والتقى ... والجود والبركات والآلاء

من كان لا يني لطالب جوده ... حتى يبلغه لكل رجاء يجفو المضاجع راكعاً أو ساجداً ... أو ذاكراً لله في الظلماء كالصبر في حنك العدو مذاقه ... وألذ من شهد إلى الجلساء المانح البحر الهمام العالم الـ ... ـحبر الإمام وحجة الفقهاء الواهب المال الجزيل وغامر الـ ... ـضيف النزيل بوافر النعماء المحسن لكافي السؤال وحاسم الـ ... ـداء العضال وكاشف الغماء صدر المدارس والمجالس أحمد ... المحمود في عود وفي إبداء وإذا المسائل في الفتاوى أفحمت ... أهل العلوم وحجبت بخفاء وأتت تقي الدين أظهر ما اختفى ... منها وأبداه لعين الرائي قيرى سهاها في الخفاء بكشفه ... كالشمس مشرقة بصحو سماء ويرى البصير الحق فيما قاله ... والحق لا يخفى على البصراء سجنوه خشية أن يرى متبذلاً ... صوناً فنال منازل الشهداء للمؤمنين له وعند عدوهم ... ذل الكثير وعزة الخلفاء في المحدثين أتى بفضل باهر ... ومناقب أربت على القدماء أي خاشع أي شاكر أي ذاكر ... لله في الإصباح والإمساء أي زاهد أي حامد أي باذل ... للمسلمين نصائح النصحاء خير الصفات صفاته وثناؤه ... بالجود بين الناس خير ثناء ويظل يسأل جوده عن سائل ... ذي فاقة ليبره بعطاء وتراه يشرق وجهه متهللاً ... للسائلين له شروق ذكاء بادي التبسم عند بذل نواله ... لطفاً إلى الفقراء والضعفاء أزرى على فض البرامكة الألي ... وطوت مكارمه حديث الطائي من جاء يسأله يشاهد عنده ... بذل الملوك وعيشة الفقراء يربى على سح السحائب جوده ... وكذا تكون مواهب الكرماء والجود يرفع أهله بين الورى ... أبداً ويهوي البخل بالبخلاء وله إذا اصطدم القتال شجاعة ... قامت بنصر الدين في الهيجاء

سل عنه غازانا وسل أمراءه ... لما أتوا بطلائع الأسراء والمغل قد ملكوا البلاد وأهلها ... كم فك من عان بغير عناء وكذا بشقحب التتار قد أقبلوا ... كالطم في أمم بغير مراء والمسلمون على النزول قد أجمعوا ... والمغل عنهم نظرة للرائي من حرض السلطان والأمرا على ... ترك النزول سواه عند مساء قال أثبتوا فلكم دليل النصر قد ... وافى فكان النصر عند لقاء وأتى جبال الكسروان فآذنت ... بدمارها من بعد طول بقاء وله بكل مدينة ذكر أتى ... كالمسك فهو معطر الأرجاء سير إذا نظمتها سارت بها الـ ... ـركبان دون قصائد الشعراء وإذا إمام المسلمين وشيخهم ... ولي وعز على عزاه عزائي أدعو إله العرش يجمع بيننا ... في جنة الفردوس فهو رجائي وعليه من رب السماء تحية ... تبقى له أبدا بغير فناء (ومنها للشيخ جمال الدين عبد الصمد بن إبراهيم البغدادي الحنبلي المعروف بابن الحصري) : عش ما تشاء فإن آخره الفنا ... الموت ما لا بد منه ولا غنى والدهر إن يوماً أعان فطالما ... بالسوء عان فعونه عين العنا لا بد من يوم يسوءك حتفه ... حتما نأى الأجل المقدر أودنا للنفس سهم من سهام نوائب ... يرمي فيصمي من هناك ومن هنا من غره الأمل المديد فإنه ... غر لأن طعامه لن يهتنا شمس الحياة تضيفت ومشيبه ... ضيف يجرمن المنية ضيفنا من حين أوجد كان نفس وجوده ... في الكون بالعدم المحقق مؤذنا يا من يعد الدهر صاحب دهره ... ويعد فيه للإقامة موطنا أو ما رأيت الموت كيف سطا بمن ... في الخلق عن محض العلوم تكونا ندب مباح الصدر حظر بعده ... فلم استحال وكان شيئاً ممكنا بذ الأنام مع البذاذة فضله ... إذ لم يكن بسوى التقى متزينا

ترك الجميع على الجموع فلم يهب ... تلك الجموع ولا استراب ولا ونى ولكم مقامات له في الحق لا ... بيض الظبا يخشى ولا سمر القنا بالعرف يأمر ناهياً عن منكر ... متقرباً وهو البعيد عن الخنا ما حال عن نهج الصواب ولا اعتدى ... وبغير تحصيل الفضائل ما اعتنى أما تبارزه تجده مبرزاً ... في أي علم شئت حبراً متقنا وإذا تجاريه فماء السيل إن ... لما جرى في بحثه متفننا متزهداً متعبداً متهجداً ... متخشعاً متورعاً متديناً في كل عصرسيد هوحجة الـ ... ـباري على كل الخلائق في الدنا وترى أحق من استحق محامداً ... من للإمامة لم يزل متعينا شيخ الأنام وحجة الإسلام من ... أغناه نشر الذكر عن ذكر الكنى أعني أبا العباس أحمد بل ... تقي الدين حقاً والعليم الممعنا في الله ليس يخاف لومة لائم ... ويرى النوى فيه نهايات المنى لما تحقق أن كل مخلف ... يفنى وإن كان النفيس المثمنا لم يدخر قوتاً لأجل غد ولا ... أبقى له إرثاً لسوى حسن الثنا صدر حوى في صدره لكماله ... من كل علم معنوي معدنا ظهرت أمارات الولاية بعده ... واسأل لتصبح بالحقائق موقنا واسمع مقالة أحمد متوعداً ... أعداءه يوم الجنائز بيننا فأحق ما يبكى عليه فقده ... ما موت هذا الحبر رزءاً هينا فيض النفوس يقل فيه تأسفاً ... وأعن عيوناً فضن فيه أعينا يا من أعاد أولي التشدق علمه ... خرساً وأنطق بالثناء الألسنا يا دوحة الفضل التي في أصلها ... طيب وزاكي فرعها حلو الجنا يا حبربل يا بحركم حيرت من ... حبر تصير ذا الفصاحة ألكنا يا خاتم الفضلاء علمك معجز ... بهر الورى فصدرت عنه مؤمنا إن كان ذا حفظاً فوقتك ضيق ... عنه ولو كان الزمان له أنا لكنه من فضل من هو قاذف ... بالحق من نور الولاية والسنا

أسست بنيانا على تقوى ورضـ ... وان فللأسمى قد ارتفع السنا غبرت يا من لا يشق غباره ... في أوجه الفضلاء قدماً قبلنا جاهدت في ذات المهيمن صابراً ... عند الأذى فأتت بشارات الهنا إن الذين يجاهدون عدونا ... فينا لنهديهم إلينا سبلنا والله قد أثنى على العلماء في ... نص الكتاب وأنت أولى من عنى لا غرو إن كنت ابتليت بحاسد ... فالحر ممتحن بأولاد الزنا أشكو إليك وأنت أصل شكايتي ... من فرط ضر في افتقادك مسنا قد عبرت عبراتنا عن حزننا ... وبما نجن من الجوى نطق الضنا سقياً لتلك الروح من سحب الرضا ... وتبوأت جنات عدن مسكنا لو كان فيها الموت يقبل فدية ... كان الأنام فدى وأولهم أنا (ومنها للشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عبد الكريم بن أنوشروان التبريزي الحنفي عليه الرحمة) : صبراً جميلاً فالمصاب كبير ... كادت جبال الأرض منه تمور وجسيم خطب قد علا كل الورى ... فقد الضياء وأظلم الديجور وانهد ركن فضائل وفواضل ... فعليهما ركن الأسى معمور وعلى تقي الدين أحزان الورى ... لسحائب الدمع الغزير تثير لولا ابتغاء الأجر لم يحمد على ... صبر على هذا المصاب صبور أفلت شموس المكرمات وأظلم الـ ... ـشام المنير وزال عنه النور نور الفتى التيمي والقطب الذي ... فلك العلوم عليه كان يدور حبر به كان الزمان ومن به ... يزهو ويشرق في الدجى وينير علم التعبد والتزهد والتقى ... في سائر الدنيا له منشور ورسوخه في كل علم نافع ... فحديثه بين الورى مشهور قد كان صدراً في الصدور فمذ نأى ... ضاقت على صدر الصدور صدور لا غرو إن فاضت عليه مدامع ... حروان قصمت عليه ظهور تبكي السماء عليه والأرض التي ... بصفائها لفراقه تكدير

وبكى مصلاه ومنبره ومو ... ضع درسه والجامع المعمور وبكى الغمام لفقده وتفطرت ... عن أعين تجري عليه صخور وكذاك ربات الخدور بكينه ... وتهتكت منها عليه ستور نشرت له العذبات بانات اللوى ... عوض الشعور وما لهن شعور وعليه حن على الأراك حمائم ... يندبنه أسفاً وهن طيور فالصب إن صب المدامع بعد من ... يهوى ومات فإنه معذور والناس في حزن عليه وإنه ... عبد بلقيا ربه مسرور غار الإله عليه من أغياره ... فزواه عنهم والمحب غيور فخلا به يتلو عليه كلامه ... وله الحبيب مؤانس وسمير حتى إذا اشتد التشوق زفه ... زف العروس وذيلها مجرور وشعار كل مشيع لسريره الـ ... ـتسبيح والتهليل والتكبير ولقد سرت فوق الرقاب سريره ... فعجبت كيف الراسيات تسير ما كنت أعلم قبل يوم وفاته ... أن البحار الزاخرات تغور ولقد سرت لسريره لما سرى ... سير لها حتى النشور نشور تفنى الليالي والزمان وذكره ... متجدد بين الورى مذكور قد كان في الدنيا هلالاً لائحاً ... كل إليه بالبنان يشير وكذا جنازته تعالى الله لم ... ينظر لها في العالمين نظير ومن العجائب أنها نطقت على ... صمت بما هو كامن مستور إن المشيع للجنازة لم يعد ... إلا وسائر ذنبه مغفور هذا هو الفضل المبين وهذه ... نعم عليها ربنا مشكور لا أوحش الله الوجود من الذي ... أنست به في الموحشات قبور وإلى جنان الله راحت روحه ... يلقاه منها بهجة وسرور طوبى لميت جاور القبر الذي ... فيه فتى تيمية مقبور بل فاز نزال ثووا بجنابه ... إن الكريم نزيله مغفور فينال حتى الحشر من بركاته ... وعليه تنزل رحمة وحبور

يا رب فاجمع بيننا في جنة ... المأوى فأنت لما تشاء قدير وله رحمه الله تعالى: عم المصاب فلا تبكوا بغير دم ... على ابن تيمية ذي العلم والحكم حبر البرية ولى وهو في دعة ... وكل جفن فلا يبكي عليه عمي لو أن كل تقي في الأنام فدى ... نفس الإمام تقي الدين لم يلم إذا تذكره من كان يألفه ... يهزه الشوق من فرق إلى قدم يا ثلمة ثلمت في الدين واتسعت ... فلست حتى اللقا والحشر تلتئمي هيهات هل تسمح الدنيا بمثل فتى ... تيمية أو يرى في عالم الحلم كانت به تفخر الدنيا وقد بقيت ... به تفاخر أجداث وذو رمم فالعلم والحلم والتقوى بهن غدا ... في الناس أشهر من نار على علم والزهد في زخرف الدنيا وزينتها ... من وصفه كان مضموماً إلى الكرم مولى على حبه الأرواح قد جبلت ... ولست في القول والدعوى بمتهم ما ذاك إلا لما قد كان خصصه ... به الإله من الأخلاق والشيم من للمسائل قد أعيت فيوضحها ... وضوح برق لموع لاح في الظلم كالبحر يزخر إن بث العلوم وكالـ ... ـسيل الذي مده صوب من الديم ما إن رأى الناس أبهى من جنازته ... لما استقلت على الأعناق والقمم وحوله وهو يجلى كالعروس على ... سريره أمم ناهيك من أمم أظمى الأنام إليه حجبه فبدا ... على السرير فرواهم بدمعهم بكى عليه مصلاه ومنبره ... وفي الخدور بكته أعين الحرم والأرض تبكي عليه والسماء كذا ... قد جاء عن سيد الأعراب والعجم لأنه العالم الحبر الذي أبداً ... تتلى مناقبه جهراً بكل فم هذا هو المجد حق الافتخار به ... لا بالتكاثر والأموال والحشم يا جنة الخلد وافيه مزخرفة ... وأنت يا نار أشواق الورى اضطرمي ويا شموس العلى غيبي لغيبته ... ويا مباني المعالي بعده انهدمي فأعظم الله أجر الفاقدين له ... الواجدين ذوي الإخلاص كلهم

وأكرم الله مثواه ومضجعه ... بوابل من سحاب الجور والكرم وهي طويلة أربعة وثلاثون بيتاً، وله في الشيخ مرائي أخر. وللفاضل برهان الدين ولد شهاب الدين التبريزي الحنفي المتقدم ذكره عليهما الرحمة: جودي بانسجام الدمع يا مقلة العاني ... إلى أن تروي الأرض من فيض أجفاني وذق يا فؤادي كل يوم وليلة ... مرارة أشواق ولوعة أشجان إلى أن أرى وجه ابن تيمية الذي ... به الله من أهل الضلالة نجاني ومن لي بأن ألقاه والموت قد أتى ... فغيبه في الترب عن كل إنسان فيا وحشة الدنيا لأنوار وجهه ... ويا لهف إخوان عليه وجيران يحق لعين لاترجي لقاءه ... إلى الحشر أن ينهل مدمعها القاني لقد عم أهل الأرض رزء مصابه ... ولم ينج فيهم منه قاص ولا دان لقد كانت الدنيا به ذات بهجة ... ونور وإشراق وروح وريحان وما كان إلا آية في زمانه ... وفي كل فضل حاز ليس له ثان إمام هدى يدعو إلى سبل ربه ... دعاء نصوح مشفق غير خوان فمذهبه ما جاء عن خير مرسل ... وأصحابه والتابعين بإحسان أتى بعلوم حيرت كل واصف ... على أنه يهدى بثا كل حيران فكم مبطل وافاه يبغي جداً له ... فأنصقه في البحث من غير عدوان ويكشف عنه شبهة بعد شبهة ... إلى أن يبين الحق أحسن تبيان فيصبح عن تلك المقالة معرضاً ... ولو كان من أحبار سوء ورهبان يغار على الإسلام من كل بدعة ... وما زال منها هادماً كل بنيان وفي الله لم تأخذه لومة لائم ... ولم يخش مخلوقاً من الإنس والجان ولم ينتقم في الدهر يوماً لنفسه ... ولكنه يؤذى فيعفو عن الجاني وأما سماح الكف فالبحر دونه ... ولم يك في بذل العطاء بمنان ولو وزنوا أهل الشجاعة كلهم ... به رجح الشجعان في كل ميزان فمن جاهد الأعداء في الدين مثله ... ومن سل سيف العزم في وجه غازان

ومن قال للناس اثبتوا يوم شقحب ... فإن الأعادي في انهزام وخذلان فمن خشي الرحمن بالغيب واتقى ... إله البرايا خافه كل سلطان وما ضره إن طال في السجن مكثه ... إذا كان في نسك وطاعة رحمن منيباً إلى مولاه يقطع وقته ... بنقل حديث أو بتفسير قرآن ولم يك مشغوفاً بحب رياسة ... ولا شد بغلات ولا حسن غلمان ولا كان مشغولاً بجاه ومنصب ... ولا رفع بنيان ولا غرس بستان ولكن بعلم نافع وعبادة ... وزهد وإخلاص وصبر وإيمان وفي موته قد كان للناس عبرة ... لما شاهدوا من غير زور وبهتان إذ انتشروا مثل الجراد وكاد أن ... تزيغ عقول من رجال ونسوان وسار على أعناقهم نحو قبره ... يجاور مولى ذا امتنان وغفران إلى الذهب الغالي دعاه إلهه ... وذاك له خير من الخزف الفاني دعاه إلى جنات عدن وطيبها ... ومتعه فيها بحور وولدان فنسأل رب العرش يجمع شملنا ... به في جنان الخلد من قبل حرمان ويجبرنا بعد انكسار قلوبنا ... ويروي برؤيا وجهه كل ظمآن (ومنها لبعض الفضلاء من جند مصر أرسلها بعد عرضها على الإمام أبي حيان النحوي) : خطب دهى فبكى له الإسلام ... وبكت لعظم بكائه الأيام وبكت لعبرتها السماء فأمطرت ... في غير فصل تسمح الأعوام وبكت له الأرض الجليدة بعدما ... أضحى عليها وحشة وقتام وتزلزلت كل القلوب لفقده ... وتواترت من بعده الآلام وتفجع الدين القويم لفقده ... وبقي غريباً يبتلى ويضام مذمات ناصره الذي أوصافه ... أبداً تكون على سواه حرام لتقي دين الله وصف باهر ... وخصائص خضعت له الأفهام ومواهب من ذي الجلال تمده ... ليتم فخر شامخ ومقام وعزا تقي الدين أحمد ماله ... حد فتحمل فقده الأجسام

العالم الحبر الإمام ومن غدا ... في راحتيه من العلوم زمام ذو المنصب الأعلى الذي نصبت له ... في الأرض في أقطارها الأعلام بحر العلوم وكنز كل فضيلة ... في الدهر فرد في الزمان إمام حبر تخيره الإله لدينه ... ختم لأعلام الهدى وختام فوفى بأحكام الكتاب وكم له ... في نصر توحيد الإله قيام والسنة البيضاء أحيا ميتها ... فغدا عليها حرمة وذمام وأمات من بدع الضلال عوائداً ... لا يستطيع لدفعها الصمصام أس الفضائل والمعارف والذي ... لا تهتدي لفنونه الأوهام وأناله رب السموات العلى ... في العلم سبقاً ما إليه مرام ونعوته في العلم قول محمد ... صلى عليه الخالق العلام إن المنزه ربنا سبحانه ... يقضي بما تأتي به الأحكام يبدي لكم في كل قرن قادم ... للدين من يهدي به الأقوام فلئن تأخر في القرن لثامن ... فلقد تقدم في العلوم إمام فاق القرون سوى الثلاث فإنها ... خير القرون يزينهن تمام وسوى ابن حنبل إنه علم الهدى ... حبر إمام صابر قوام لكن أحمد مثل أحمد قد حوى ... علماً وزهداً في العلوم تؤام حدث بلا حرج وقل عن زهده ... ما شئت لا رد ولا آثام هجر المطاعم والملابس والدنا ... ولعزمه في تركها أحزام ترك المآكل والمنام ولا يرى ... لبني الدنا في قلبه إعظام وتراه يصمت لا لعي دائماً ... إلا لعلم يقتنى ويرام وإذا تكلم لا يراجع هيبة ... وسكينة وكلامه إبرام ألقي عليه مهابة من ربه ... فخطابه الإجلال والإكرام وإذا رُئي فترى الرجال ذليلة ... فكأنها في نفسها إحجام بشر يعظم بالقلوب وقدره ... أبداً يعظم بعد وهو غلام منن يخص بها المهيمن من يشا ... من خلقه والجاهلون نيام

وجفا العباد لشغله بحبيبه ... فوداده للأقربين سلام وله مقام في الوصول لربه ... ومكانة نطقت بها الأغتام وله فتوح من غيوب إلهه ... وتحزن وتمسكن وكلام وتصوف وتقشف وتعفف ... وقراءة وعبادة وصيام وعناية وحماية ووقاية ... وصيانة وأمانة ومقام وله كرامات سمت وتعددت ... ولها على مر الدهور دوام من رد من أرض الشآم بعزمه ... من صد وجه الكفر وهو حسام من رد غازان الهمام بحسرة ... من خلص الأسرى وهم أيتام من قام بالفتح المبين مؤيداً ... في كسروان وهم طغاة عظام من جد في بدع الضلالة حربه ... فإذا لهم بعد الرضاع فطام من سار في سنن الرسول ونصرها ... حتى استقر لأمرهن نظام من قام في خذل الصليب ودينه ... لما تداعوا للأنأم وقاموا فوهوا وردوا خائبين بذلة ... وعليهم فوق الوجوه ظلام فالأمر بالمعروف يفقد بعده ... والفاعلون النكر ليس يلاموا فكأن أشراط القيامة قد دنت ... وانحل من سرج الزمان حزام فالعلم فينا ليس يقبض دفعة ... كلا ولا يأتي حماه حمام لكن بقبض الراسخين ذهابه ... وزواله وبقي رعاع طغام لله ما لاقى تقي الدين من ... محن تتابعه وهن ضخام ومكاره حفت بكل شديدة ... ومواقف زلت بها الأقدام ومكايد نصبت له وحبائل ... قصدا إليه فردها الإقدام فحكى ابن حنبل في فنون بلائه ... بجنان ثبت ليس فيه مذام وبسجنه وبحصره ونكاله ... حتى رثى العذال واللوام فأراد رب العرش جل جلاله ... للقائه مذ حانه الإعدام وأتاه آتِ الموت يخطب نفسه ... فأجابه طوعاً له القمقام فخلت منابره وأوحش ربعه ... وتهدمت عند الرحيل خيام

وتفجعت كل القلوب لفقده ... وعداً عليها حسرة وسقام ومضت جنازته الشريفة بعدما ... سد المسالك صارخ وزحام وأتت روايات الشام بجمعها ... خبراً صحيحاً ليس فيه أثام إن الألى شهدوا الصلاة وشيعوا ... والله لا تحصيهم الأقلام فعليه أفضل رحمة تهدى له ... ومن الإله تحية وسلام ما دامت الأفلاك في دورانها ... أو ناح من فوق الغصون حمام ومنها للشيخ تقي الدين محمود بن علي الدقوقي البغدادي المحدث- ولم ير الشيخ: مضى عالم الدنيا الذي جل فقده ... وأضرم نار في الجوانح بعده فدمعي طليق فوق خدي مسلسل ... أكفكفه حيناً وجفني يرده ويرجو التلاقي والفراق يصده ... وما حيلة الراجي إذا خاب قصده مضى الطاهر الأثواب ذو العلم والحـ ... ـجى ولم يتدنس قط بالإثم برده مضى الزاهد الندب ابن تيمية الذي ... أقر له بالعلم والفضل ضده بكته بلاد الشام طراً وأهلها ... وجامعها وانماع للحزن صلده يحن إليه في النهار صيامه ... ويشتاقه في ظلمة الليل ورده ويبكي له نوع الكلام وجنسه ... ويندبه فصل الخطاب وجده حمى نفسه الدنيا وعف تكرماً ... ولما يصعر للدنيات خده ولم يجتمع زوجان من شهواتها ... لديه وبين الناس قد صح زهده ويؤثر عن فقر وفيه قناعة ... ويعجبه من كل شيء أشده عليم بمنسوخ الحديث وحكمه ... وناسخه فخر الزمان ومجده قؤول فعول طيب الجسم طاهر ... إمام له في كل حكم أشده فما قال في دنياه هجراً ولا هوى ... ولا زاغ عن حق تبين رشده علوم كنشر المسك من كل سيرة ... يسدد دين المصطفى ويجده فلله ما ضم التراب وما حوى ... من الفضل فليفخر على الأرض لحده فيا نعشه ماذا حملت من امرىء ... جميع الورى فيه وفوقك فرده

وكان لنا بحراً من العلم زاخراً ... فما باله لم يصف مذ غاب ورده وما مات من تبقى التصانيف بعده ... مخلدة والعلم والفضل ولده وخلف آثاراً حساناً حميدة ... إذا عددت زادت على ما تعده ولست مطيقاً شرح ذاك مفصلاً ... ولكن على الإجمال يعكس طرده لقد فارق الأصحاب منه مصاحباً ... يراعي وداد الخل إن خان وده قضى نحبه والله راض بفعله ... ولله فيما قد قضى فيه حمده يدل تراب القبر من جاء زائراً ... إليه بطيب فيه يعبق نده ولا تحسبوا ما فاح عطر حنوطه ... ولكنه حسن الثناء ومجده وكان لأهل العلم تاجاً مكللاً ... يحوطهم من مبطل خيف حقده وما كان إلا التبر عند امتحانه ... يبين لعين الحاذق النقد نقده وكان يقول الحق والحق حلوه ... مرير لهذا كان يكره رده وفي الحق لم تأخذه لومة لائم ... ولا خاف من غمر تشدد حرده وما كان إلا السيف غارت يد العلا ... عليه فردته كما غار غمده ولم تلهه الدنيا وزخرفها الذي ... يروق لمن لم يونس الدهر رشده لقد فقدت منه المحافل زينها ... ولما يفارق علمه الجم وجده وخضبت الأقلام بعد مدادها ... عليه دماً قد فاض في الطرس مده فلله ما ضم الثرى من محقق ... ويا لك من عضب تدقق حده وكان إماماً يستضاء بنوره ... وبحراً من الأفضال قد غيض عده وكنت أرجي أن أراه ونلتقي ... ولكن قضاء الله من ذا يرده ترى الموت مألوف الطباع وربما ... يعلل بالمألوف من لا يوده فآه على تفريق شمل مجمع ... وحر فؤاد لا يؤمل برده ألا إنها نفس وللنفس حسرة ... وقلب وقد يشجى ويضنيه وجده ولست بناس عهد خل تغيبت ... محاسنه والخل يحفظ عهده وما عذر جفن لا يجيش بدمعه ... غداة نأى عنه الصدّيق ورفده يروم الأماني والمنايا تصده ... وما حيلة الراجي إذا خاب قصده

عليك أبا العباس فاضت مدامعي ... وقلبي ببعدي عنك أجج وقده على مثلك الآن المراثي مباحة ... وإن غاض دمعي فالدماء تمده شددت عرى الإسلام شدة عارف ... قوي على الأعداء لم يأل جهده تركت لهم دنياهم ترك عالم ... علا قدره عند الإله ومجده وكنت لمجموع الطوائف مقتدى ... وعقداً لهذا الدين أبرم عقده وكنت ربيعاً للمريد وعصمة ... فمذ صرت تحت اورض صوح ورده جمعت علوم الأولين مع التقى ... إلى الورع الشافي الذي شاع جهده وكنت تقي الدين معنى وصورة ... وقولاً وخير القول عندك جده رحلت وخلفت القلوب جريحة ... تذوب وجيش الصبر قد فل جنده عليك سلام الله حياً وميتاً ... مدى ما بدى نجم وأشرق سعده (وله أيضاً رحمه الله تعالى) : قف بالربوع الهامدات وعدد ... واذر الدموع الجامدات وبدد واحبس مطيك في المنازل ساعة ... واسأل ولاتك في سؤالك معتدي واقطع علائقك التي هي فتنة ... واتبع سبيل أولي الهداية تهتدي ودّع صباك ودّع أباطيل المنى ... واهجر دنيات الأمور وسدد واقنع من الدنيا القليل ولازم الـ ... ـفعل الجميل وسر بسير مجرد وتوخ فعل الخير واصحب أهله ... متحبباً متجنباً فعل الردي لا تعتبن مفارقاً يبكي على ... أحبابه وارحمه إن لم تسعد ودع المروع بالبعاد وعذله ... فالعذل أمضى من فعال مهند ماذا الوقوف عن السرى وصحابنا ... ساروا وصاروا بالعراء الغرقد لا أخضر بعدهم العقيق ولا شدت ... ورق الحمام فويق برقة ثهمد أما أنا فلأبكين فإن وني ... دمعي سفكت حشاشة القلب الصدي أين المعين على الخطوب إذا عرت ... أين المساعد عند فقد المسعد أوما درى من كنت تعرف إذ مضى ... لسبيله في ضنك لحد موصد أين المحامي عن شريعة أحمد ... أين المحقق نهج مذهب أحمد

مات الإمام العالم الحبر الذي ... بهداه عالم كل قوم يهتدي من لليهود وللنصارى بعده ... يرميهم بمقالة المتشدد سل عنه ديّان اليهود أما غدا ... متلفعاً بصغاره المتهود نشأت على فعل التقى أطواره ... فعنت له التقوى وأعطت عن يد ورث الزهادة كابراً عن كابر ... والعلم إرثاً سيداً عن سيد قف إن مررت بقاسيون على ثرى ... فيه ضريح العالم المتفرد واعجب لقبر ضم بحراً زاخراً ... بالفضل يقذف بالعلا والسؤدد بشر يبشر بالغنى من جاءه ... يسر يسرّ فؤاد عان مزهدى كانت به أرض الشآم أمينة ... من مبطل متهوك صل ردي لو تستطيع بنات نعش أن ترى ... يوماً تسير بنعش ميت ملحد كانت تسير بنعشه وتحطه ... فوق السماك وفوق فرق الفرقد مات الذي جمع العلوم إلى التقى ... والفضل والورع الصحيح الجيد شيخ الأنام تقي دين محمد ... وجمال مذهب ذي الفضائل أحمد ودّعت قلبي يوم جاء بنعيه ... فتقاعدي يا عين بي أو أنجدي سقت العهاد عراص قبر حله ... جسد حوى خلقاً وحسن تودد من مبلغ العذال فرط صبابتي ... وتعلقي يوم النوى وتسهدى ما بعد رزئك في الزمان رزية ... تصمى المقاتل بالفراق ولا تدي بددت شمل الملحدين جميعهم ... وجمعت شمل ذوي التقى المتبدد يا من ترى أقواله مبيضة ... في كل ذي قول ووجه أسود يا كاليء الإسلام من أعدائه ... وسمام كل أخي نفاق ملحد يا واحد الدنيا ويا فرد الورى ... أنت الذي جددت دين محمد إلى أن قال: لله درك من إمام كامل ... تقفوا الأئمة أثره بل تقتدي صنفت كتباً قد حوت كل الهدى ... وبهديها قد ضل من لا يهتدي فيها رددت على الفلاسفة الألى ... زاغوا عن الحق الصريح الأيدي

وكذا على أهل الكلام وحزبهم ... من كل مبتدع خؤون معتدي فعليك مني ألف ألف تحية ... تغشى ضريحك يا قرين الفرقد (وللحافظ الذهبي رحمه الله يرثي الشيخ) : يا موت خذ من أردت أو فدع ... محوت رسم العلوم والورع أخذت شيخ الإسلام وانفصمت ... عرى التقى واشتفى أولوا البدع غيبت بحراً مفسراً جبلاً ... حبراً تقياً مجانب الشبع فإن يحدث فمسلم ثقة ... وإن يناظر فصاحب اللمع وإن يخض نحو سيبويه يفه ... بكل معنى في الفن مخترع وصار عالي الإسناد حافظه ... كشعبة أو سعيد الضبعي والفقه فيه فكان مجتهداً ... وذا جهاد عار من الجزع وجوده الحاتمي مشتهر ... وزهده القادري في الطبع أسكنه الله في الجنان ولا ... زال علياً في أجمل الخلع مع مالك والإمام أحمد والـ ... ـنعمان والشافعي والنخعي مضى ابن تيمية وموعده ... مع خصمه يوم نفخة الفزع وقال أحد أدباء عصره: أشكو إلى الله إلمام الملمات ... وما أقاسيه من حزن ولوعات خف الخليط ودار القاطنين ... وأقفرت منهم أرضي وساحاتي خلت وأقبلت يوم جد البيت في حلل ... سود سليمى على تلك اللييلات يا أيها الصب لا تجزع على وطن ... فإن للدهر أطواراً وحالات وجمل النفس بالصبر الجميل ولا ... تذر الدموع على تلك الأويقات ما كنت أعلم قربي في محبتهم ... حتى رمتني إلى الأبعاد راياتي فاندب على ما مضى من عيشة وصفي ... وابك على ما جرى يا قلبي العاتي واذكر مصارع قوم كيف قد شربوا ... بعد الزلال بكاسات المنيات وأنت من بعدهم تسري كسيرهم ... إما لدار هوان أو بجنات

أقول ما قاله العبد1 المنيب وقد ... أودى به السجن في بر وطاعات أنا الذليل أنا المسكين ذو شجن ... أنا الفقير إلى رب السموات ما زال يتبع آثار الرسول على الـ ... ـنهج القويم بأعلام الدلالات يهدي لسنته يفتي بشرعته ... يرعى لحرمته في كل ساعات قطب الزمان وتاج الناس كلهمو ... روح المعاني حوى كل العبادات حبر الوجود فريد في معارفه ... أفنى بسيف الهدى أهل الضلالات حوى من المصطفى علماً ومعرفة ... وجاءه منه إمداد النوالات ما جاءه سائل إلا ويمنحه ... إما بجود وإما بالمداراة ماذا أقول وقولي فيه منحصر ... في وصف أخلاقه كلّت عباراتي في علمه ما علمنا من يناسبه ... إلا أئمتنا أهل العنايات في جوده ما وجدنا من يماثله ... غير البرامك كانوا في سعادات في زهده ما سمعنا من يشاكله ... إلا رجال مضوا أهل الكرامات يجود وهو فقير إن ذا عجب ... هذا الذي ما سمعنا في الحكايات تلوح شمس المعالي في شمائله ... وفي صفا وجهه نور الهدايات بحر المعارف تاهوا في بدايته ... أهل المعاني وأرباب النهايات قطب الحقائق حاروا في فضائله ... أهل التصوف أصحاب الرياضات أعجوبة الدهر فرد في مظاهره ... علامة الوقت في الماضي وفي الآتي وألهف قلبي على من كان يجمعنا ... على فنون المعاني والإشارات

_ 1 يشير بذلك إلى قصيدة الشيخ التي قالها في السجن ومطلعها: أنا الفقير إلى رب السموات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن جاءنا من عنده يأتي لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس في دفع المضرات وليس لي دونه مولى يدبرني ... ولا شفيع إلى رب البريات والفقر لي وصف ذات لازم أبداً ... كما الغنى أبداً وصف له ذاتي هذا التعليق موجود في الأصل المطبوع عليه. أهـ

فارقت من كان يرويني برؤيته ... إذا تبدّى بداسر العبارات يروي الأحاديث عن سكان كاظمة ... فيطرب الكون من طيب الروايات ويطنب الذكر في إحسان حسنهم ... فيرقص القلب شوقا نحو ساداتي أفضى إلى الله والجنات مسكنه ... عليه من ربه أزكى تحيات ثم السلام على المختار ما همعت ... سحب الغمام وجادت بالزيادات والحمد لله حمداً لا انقطاع له ... أرجو به من إلهي محو زلاّتي قال العلامة الشيخ مرعي الحنبلي: وهذا آخر ما أردنا جمعه من بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض مراثيه على سبيل التلخيص والاختصار رضي الله عنه وأرضاه، ونفعنا به وأعاد علينا من بركته وبركات علومه آمين، ثم قال:

خاتمة نصيحة وموعظة

(خاتمة نصيحة وموعظة) قد علمت أيدك الله مما مر من سيرة الشيخ ومناقبه وغزارة علمه وقوة جهاده واتصافه بكل فعل جميل، كشهادة الأئمة له وثنائهم عليه نثراً ونظماً حياً وميتاً أنه من كبار الأئمة المحققين، وعلماء الأمة العاملين الراسخين، وأكابر الأولياء العارفين، بشهادة الإمامين الجليلين أبي حنيفة والشافعي، حيث قالا إذا لم تكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي، لاسيما وقد شهد له غير واحد من الأئمة، مع ما أعطاه الله من العلم والعمل، والزهادة والعبادة، ووقوفه مع الكتاب والسنة، لا يميله عنهما قول أحد كائنا من كان كما مر في مناقبه، هذا وقد تكلم فيه وبغى عليه من لا يخاف الله، واستحل الوقوع في عرضه ونسبه لقبائح هو منها بريء، وترى كثيرا ًمن الجهلة المتهوكين ينسبونه بغير علم لما لا يحل لهم أن ينسبوا إليه أعظم الجاهلين، فكيف بمن هو من العلماء الراسخين وأئمة الدين، والذاب عن شريعة سيد المرسلين، أترى هذا المفتري لم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم

هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت " 1 رواه البخاري ومسلم. وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كل المسلم على المسلم حرائم، دمه وعرضه وماله " 2. أو ما درى هذا المتهوّك بلسانه قول الحافظ ابن عساكر: "لحوم العلماء مسمومة، وهتك أستار منقصتهم معلومة". وقوله أيضاً: "لحوم العلماء سم، من شمها مرض، ومن ذاقها مات ". أو ما بلغ هذا المتجري أنه قد جاء النهي عن ذكر مساوىء الأموات والأمر بذكر محاسنهم؟ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم" 3 رواه أبو داود والترمذي وابن أبي الدنيا. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" 4 رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي. وفي رواية أخرى: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير، إن يكونوا من أهل الجنة تأثموا، وإن يكونوا من أهل النار فحسبهم ما هم فيه" 5. فلا يجوز لمن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر أن يثلم عرض أحد من المسلمين بما لا يليق، فكيف بأئمة المسلمين وورثة النبيين، فكيف بالأموات منهم.

_ 1 أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، في حجة الوداع. وأخرجه البخاري (1739، 7079) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. 2 أخرجه مسلم (2564) . 3 أخرجه أبو داود (4950) والترمذي (1019) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وضعفه العلامة الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" (1047) . 4 تقدم. 5 أخرجه ابن أبي الدنيا في "الموت" كما في "المغني عن حمل الأسفار" (2/ 1230/ 4440) وضعّف إسناده الحافظ العراقي. وأخرجه النسائي (4/ 51) بلفظ: "لا تذكروا هلكاكم إلا بخير". وجوّد إسناده الحافظ العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (2/ 790/0 290) وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7271) .

قال الشيخ تاج الدين السبكي: "ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع جميع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام الناس فيهم إلا ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن بحسب قدرتك فافعل وإلا فاضرب صفحا عما جرى بينهم، فإنك يا أخي لم تخلق لمثل هذا وإنما خلقت للاشتغال بما يعنيك من أمر دينك. قال: ولا يزال الطالب نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين الأمة فتلحقه الكآبة وظلمة الوجه " انتهى. فإن طعن على الشيخ ابن تيمية رحمه الله من حيث العقيدة فعقيدته عقيدة السلف كما وقع الاتفاق على ذلك وقت المناظرة، فليطعن على السلف من طعن فيه. وإن طعن عليه من حيث إفتائه بمسألة الطلاق الثلاث- في كونه أوقع من ثلاث طلقات مجموعة أو متفرقة طلقة واحدة- فهو مجتهد، ولا يجوز الطعن على المجتهد فيما ذهب إليه مما قام عليه الدليل عنده، بل يجب عليه العمل به، على أن مسألة الطلاق قال بها غيره من أكابر الصحابة والتابعين، كما هو مروي عن علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وقال: قوله ثلاث لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وقال به عطاء، وطاووس، وعمرو بن دينار، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، ومحمد بن إسحق، والحجاج بن أرطأة، وقال به من شيوخ قرطبة جماعة منهم محمد بن عبد الحسين فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وغيرهم. وإن كان الطعن فيه من حيث تحريمه زيارة قبور الصالحين وغيرهم فهو كذب وافتراء عليه، فإنه لا يمنع ذلك، وإنما حكى قولين فيمن شد الرحال لزيارتها ورجح النهي تبعاً لطائفة من الأئمة المجتهدين، والحجة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد" الحديث، فكيف يسوخ الاعتراض عليه بذلك؟ لاسيما وقد وافقه على ذلك علماء بغداد من رواة المذاهب كلها. وقال الشيخ الإمام الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر البزار في مناقبه:

أكثر في حقه الأقاويل- الزور والبهتان- من ظاهر حاله العدالة وباطنه مشحون بالفسق والجهالة، ولم يزل المبتدعون أهل الأهواء وآكلوا الدنيا بالدين متعاضدين متناصرين في عداوته، باذلين وسعهم في السعي بالفتك به، متخرصين عليه الكذب الصريح، مختلقين عليه وناسبين إليه ما لم يقله، ولم ينقل عنه ولم يوجد بخطه ولا وجد له في تصنيف ولا فتوى ولا سمع منه في مجلس. قال: وسبب عداوتهم له أن مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرياسة وإقبال الخلق، ورأوه قد رقاه الله إلى ذروة السنام من ذلك بما أوقع الله له في قلوب الخاصة والعامة من المواهب التي منحه بها وهم عنها بمعزل، فنصبوا أنفسهم لعدواته، وحسدوه، وسعوا به بما سعوا، ولم يرقبوا الله واليوم الآخر فكان ما كان، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون. هذا آخر ما وجدناه في كتاب "الكواكب الدرية في مناقب الإمام المجتهد ابن تيمية" للعلامة شيخ الفضلاء المتقنين، وعمدة الفقهاء والمحدثين، الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، المتوفي سنة ثلاث وثلاثين وألف، وقال على طرف كتابه مادحاً شيخ الإسلام: إمام المعالي والمعاني يعيبه ... على فضله من كان في الرتبة الدنيا ومن ذا يعيب البدر والبحر والهدى ... ومن كان فرداً بالفضائل في الدنيا وما ضر نور الشمس إن كان ناظراً ... إليه عيون لم تزل دهرها عميا وهل جاء في الدنيا كأحمد بعده ... وهل حل بدر في منازله العليا وبما ذكر في هذه المناقب يتبين أن مصنف "جلاء العينين" قد سبقه كثير من أفاضل العلماء وأساطين الأمة في الذب عن الإمام الشيخ تقي الدين بن تيمية، وتخطئة من نسب إليه الابتداع واعترض عليه بما ليس له أصل. ومنه يعلم أيضاً أن الزائغ النبهاني قد خاض طينة الخبال في الاعتراض عليه وعلى من أخذ بيده وذب عنه، وفي دعواه أنه على الهدى وأن مثل الشيخ تقي الدين ومن كان على منهجه وصراطه المستقيم من أهل البدعة والضلالة، والنبهاني

ومن هو على شاكلته من أهل الدنيا مغمورون بالجهل والإعراض عن الآخرة، ومع ذلك تكلموا بما تكلموا، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، ومثل هؤلاء ليسوا من فرسان هذا الميدان، وكلامهم في هذا الباب فضول من القول لا ينبغي أن يصغى إليه، والله ولي التوفيق، ومنه العصمة من الزلل. وربما اعترض معترض وعارض الكلام السابق بأن الشيخ تقي الدين رضي الله عنه وغيره من الأئمة اعترضوا على أقوال غيرهم من الأكابر وضللوا قائليها، وقد حوا فيهم بما هو معلوم لمن طالع كتب الخف والجدل، فهلا يقال لهم مثل تلك الموعظة التي ذكرها الشيخ مرعي في آخر مناقبه وإلا فما الفرق؟ فالجواب عن هذا الاعتراض: أن ما قاله خصماء الشيخ تقي الدين منبعث عن محض هوى لم تقتضه مناظرة ولم يبعث عليه دليل، ولاسيما ما ذكره السبكي وولده، وابن حجر المكي، وأتباعهم ومقلدوهم، فكل أحد يعلم أن ما نسبوه إليه افتراء، وما قدحوه به مجرد شتم للشيخ تقي الدين استوجبه إبطال الشيخ لما تهواه نفوس هؤلاء من البدع والأهواء، والشيخ تقي الدين رضي الله تعالى عنه كان بحثه واعتراضه بما يقتضيه الدليل، ومقصوده إظهار الحقائق الدينية، لم يكن من مقاصده المكابرة والمجازفة، كما هو شأن أئمة أهل العلم الربانيين مثل الأئمة الأربعة وأصحابهم وما جرى بينهم من المناظرات والمخالفات. وقد رأيت نحو هذا الاعتراض والجواب في كتاب "بيان الدليل على بطلان التحليل" من مصنفات الشيخ قدس الله روحه، حيث تكلم على إبطال الحيل بكلام مفصل، ثم ذكر سؤالاً وجواباً يتعلق بذلك ونصه: "فإن قيل: هذه الحيل مما اختلف فيها العلماء، فإذا قلد الإنسان من يفتي بها فله ذلك، والإنكار في مسائل الخلاف غير سائغ، لاسيما على من كان متقيداً بمذهب من يرخص فيها، أو قد تفقه فيها ورأى الدليل يقتضي جوازها، وقد شاع العمل بها عن جماعات من الفقهاء، والقول بها معزو إلى مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وما قاله مثل هؤلاء الأئمة لا ينبغي الإنكار البليغ فيه، لاسيما على من

يعتقد أن الأئمة المجوزين لها أفضل من غيرهم، وقد ترجح عنده متابعة مذهبهم إما على سبيل الألف والاعتياد أو على طريق النظر والاجتهاد، وهب هذا الاعتقاد باطلا ألستم تعرفون فضل هؤلاء الأئمة ومكانهم من العلم والفقه والتقوى وكون بعضهم أرجح من غيره أو مساوياً له أو قريباً منه؟ فإذا قلد العامي أو المتفقه واحدا منهم- أما على القول بأن العامي لا يجب عليه الاجتهاد في أعين المفتين، أو على القول بوجوبه إذا ترجح عنده أن من يقلده فيها هو الأفضل، لاسيما إن كان فيها هو المذهب الذي التزمه- فلا وجه للإنكار عليه، إلا أن يقال إن المسألة قطعية لا يسوغ فيها الاجتهاد، وهذا إن قيل كان فيه طعن على الأئمة بمخالفة القواطع، وهذا قدح في إمامتهم، وحاش لله أن يقولوا ما يتضمن مثل هذا، ثم قد يفضي ذلك إلى المقابلة بمثله أو بأكثر منه، لاسيما ممن يحمله هوى دينه أو دنياه على ما هو أبلغ من ذلك، وفي ذلك خروج عن الاعتصام بحبل الله سبحانه، وركوب التفرق المنهي عنه وإفساد ذات البين، وحينئذ فتصير مسائل الفقه من باب الأهواء وهذا غير سائغ، وقد علمتم أن السلف كانوا يختلفون في المسائل الفرعية مع بقاء الإلفة والعصمة وصلاح ذات البين. فأجاب الشيخ رضي الله عنه عن ذلك بقوله: قلنا: نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادّتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال: لكن دين الإسلام إنما يتم بأمرين: أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم وترك كل ما يجر إلى ثلبهم. والثاني: النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم،

وإبانة ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى، ولا منافاة أن الله سبحانه بين القسمين لمن شرح الله صدره، وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين: رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم، أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام. قال: وهذا المقصود يتلخص بوجوه: أحدها: أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة- وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا- قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين. واعتبر ذلك بمناظرة الإمام عبد الله بن المبارك، قال: كنا في الكوفة فناظروني في ذلك- يعني النبيذ المختلف فيه- فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فإن لم يبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه. فاحتجوا، فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم عنه بشدة، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس الاحتجاج عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه، إنما يصح عنه أنه لم ينبذ له في الجر الأخضر. قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق! عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالساً لقال هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تجبن أو تخشى. فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن؛ فالنخعي والشعبي- وسمى عدة معهما-كانوا يشربون الحرام. فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها، فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً. قلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين؟ فقالوا: حرام.

فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالاً فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبهتوا وانقطعت حجتهم. قال ابن المبارك: ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان، قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بني؛ لا تنشد الشعر، فقلت له؛ يا أبه كان الحسن ينشد، وكان ابن سيرين ينشد، فقال لي أبي: إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله. وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء، فإنه ما من أحد من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة، وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم، ولا يسوغ اتباعهم فيها، كما قال الله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1. قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. قال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله 2. قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً 3. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله، فروى كثير بن عبد الله بن عمرو عن عوف المزني عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة"، قالوا: مما هي يا رسول الله؟ قال: "أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم الجائر، ومن هوى متّبع" 4.

_ 1 سورة النساء: الآية 59. 2 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم " (2/927/ 1766، 1767) . 3 المصدر السابق. 4 أخرجه الطبراني في "الكبير" (17/ رقم: 17) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم) ، (2/ 978/1865) بإسناد ضعيف. انظر: "مجمع الزوائد" (1/ 787 و5/ 239) .

وقال ابن زياد بن جدير، قال عمر: ثلاث تهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن والقرآن حق، وعلى القرآن منار كأعلام الطريق 1. وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم- قلما يخطئه أن يقول ذلك- الله حكم قسط، هلك المرتابون، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق، والمرأة والصبي، والأسود والأحمر، فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره، فإياك وما ابتدع، فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، هان المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نوراً. قالوا: كيف زيغة الحكيم؟ قال: كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه، فاحذروا زيغته، ولا يصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة، فمن ابتغاهما وجدهما 2. وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم إن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان، وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن مناراً كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوا، وما لم تعرفوه فكلوه إلى الله سبحانه، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم. وعن ابن عباس قال: ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذاك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه فيترك قوله ذلك ثم يمضي الأتباع.

_ 1 "جامع بيان العلم " (2/ 979-980/1867-1870) . 2 المصدر السابق (2/ 981، 982/ 1871، 1872) .

وهذه آثار مشهورة رواه ابن عبد البر غيره. فإذا كنا قد حذرنا زلة العالم، وقيل لنا إنها من أخوف ما يخاف علينا، وأمرنا مع ذلك أن لا نرجع عنه؛ فالواجب على من شرح الله صدره إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلدها بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها، وإلا توقف في قبولها، فما أكثر ما يحكى عن الأئمة مما لا حقيقة له؟ وكثير من المسائل خرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة، مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تفضي إلى ذلك لما التزمها، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، ومن علم فقه الأئمة وورعهم علم أنهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطع بتحريمها من لم يقطع به أولا" انتهى 1. ثم ذكر رحمه الله تعالى جواباً ثانياً، وثالثاً، ورابعاً، وخامساً، عن ذلك السؤال وأطنب في كلامه. والمقصود منه؛ أن يعلم من تكلم الشيخ فيه وكلامه ليس من جنس كلام الغلاة- عاملهم الله بعدله- فيه، وهم إنما تكلموا زورا وبهتانا واتباعاً لهواهم، وشأن أتباع الرسل والعلماء العاملين أن يرضوا الله ويغضبوا لله، وأن يتبعوا الكتاب والسنة، وأن يقبلوا ما وافقهما ويتركوا ما خالفهما، وبذلك تتحقق محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبخلاف ما هنالك تكون العدواة. وما أحسن ما قال شيخ الإسلام رحمه الله في "تفسير سورة الكوثر" وهو تفسير جليل:- "سورة الكوثر ما أجلها من سورة، وأغزر فوائدها على اختصارها وحقيقة معناها تعلمها من آخرها، فإنه سبحانه يبتر شانىء رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحاً لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته والإيمان

_ 1 "بيان بطلان التحليل " (ص 138- 144، ط. المكتب الإسلامي)

برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعته، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً ولا عوناً، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعماً ولا يجد لها حلاوة، وإن باشره بظاهره فقلبه شارد عنها، وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورده لأجل هواه أو متبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيرة، كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير ما أراد الله ورسوله سفها وظلما على ما يوافق مذهبه ومذهب طائفته، أو تمنى أن لا تكون آيات الصفات أنزلت، ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوى علامات شنآنه لها وكراهته لها أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك وحاد عن ذلك، لما في قلبه من البغض لها، فأي شنآن للرسول أعظم من هذا؟ وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والقصائد، والدفوف والشبابات، وإذا سمعوا القرآن يتلى ويقرأ عليهم في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه، فأي شنآن أعظم من هذا؟ وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب، وكذا من اثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانىء لما جاء به الرسول ما فعل ذلك، حتى أن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه، ويشتغل بقول فلان وفلان، ولكن من أعظم شنآنه ورده؛ من كفر به وجحده، وجعله أساطير الأولين وسحراً يؤثر، فهذا أعظم وأطم انبتاراً، وكل من شنأه له نصيب من الانبتار على قدر شنئه له، فهؤلاء شنؤوه وعادوه جازاهم الله بأن جعل الخير كله معادياً لهم فبترهم منه، وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بضد ذلك، وهو أن أعطاه الكوثر وهو الخير الكثير الذي آتاه الله في الدنيا والآخرة، وأعطاه في الدنيا الهدى والنصر والتأييد، وقرة العين والنفس، وانشراح الصدر، ونعم قلبه بذكره وحبه، بحيث لا يشبه نعيمه نعيم في الدنيا البتة، وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخرة لواء الحمد والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك، وجعل المؤمنين كلهم أولاده وهو أب لهم، وهذا ضد حال الأبتر الذي يشنأه

ويشنأ ما جاء به، وقوله: (إن شانئك) أي مبغضك (هو الأبتر) أي المقطوع النسل الذي لا يولد له خير ولا عمل صالح، فلا يتولد عنه خير ولا عمل صالح. قيل لأبي بكر بن عياش: إن في المسجد قوماً يجلسون ويجلس إليهم، فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم. لأن أهل السنة أحيوا بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل البدعة أماتوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصيب من قوله (إن شانئك هو الأبتر) . فالحذر الحذر أيها الرجل من أن تكره شيئاً مما جاء به الرسول، أو ترده لأجل هواك، أو انتصاراً لمذهبك أو شيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو بالدنيا، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله تعالى عن مخالفة أحد، فإن كل من أطيع أو يطاع إنما يطاع تبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع، فاعلم ذلك واسمع وأطع، واتبع ولا تبتدع تكن أبتر مردوداً عملك، بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع، ولا خير في عامله" انتهى. فهذه أقوال أهل العلم فيمن انتقص أئمة الهدى وخيار الأمة كما فعل النبهاني وابن حجر المكي وسائر الغلاة، وقد كشف الله تعالى عن سوأتهم، وأراهم سوء منقلبهم، هذا بعض ما يستحقونه من عذاب الله وبطشه، ولعذاب الآخرة أشد. والنبهاني الغافل ظن أن أهل الحق ليس لهم أعوان ولا أنصار سوى مصنف (جلاء العينين) فأخذ يشنع عليه بأقواله الكاسدة، وما درى المسكين أن أنصار الله لا يحيط بهم نطاق الإحصاء، وما يعلم جنود ربك إلا هو، نسأله تعالى الهداية إلى صراطه المستقيم. قال النبهاني، وقد عقد فصلاً في الفرق بين الإمامين ابن حجر وابن تيمية:

من المعلوم أن كل مذهب من المذاهب الأربعة أهله أعلم وأدرى بأحوال علماء مذهبهم، لكثرة تدقيقهم في أقوالهم، وتنقيبهم عن أحوالهم، وتتبعهم لمحاسنهم ومساويهم، ويروي ذلك خلفهم عن سلفهم، ليأخذوا بأقوالهم في المذهب أو يردوها، أو يعتمدوها أو يضعفوها، وقد نظرنا إلى هذين الإمامين ابن حجر وابن تيمية، فوجدنا ابن حجر إماماً في مذهب الشافعي لا يعادله فيه أحد من الأئمة المتأخرين سوى الشمس الرملي على خلاف بين العلماء في الترجيح بينهما، أما إذا اتفقا على حكم وجب المصير إليه عند كافة علماء مذهب الشافعي على الإطلاق، فهذه منزلة ابن حجر في مذهبه، وهي معلومة لا ينكرها أحد، ولا يدّعي خلافها جاهل فضلاً عن عالم، ومؤلفاته في الفقه هي عمدة مذهب الشافعي من عصره إلى الآن، وكلها محررة مقبولة بإجماع أهل مذهبهم وغيرهم، وهي كثيرة، وأكثرها مطولات في عدة مجلدات: منها شرح العباب، وتحفة المحتاج شرح المنهاج، والإمداد شرح الإرشاد ثم اختصره في مجلدين، وسماه (فتح الجواد) وألّف عليه حاشيته، والفتاوى الكبرى، وشرح الحضرمية، وحاشية مناسك النووي، ومختصر المناسك المذكورة ومختصر الروض، هذا ما استحضرته الآن من كتبه الفقهية. وله مؤلفات كثيرة في الحديث وغيره، وكلها نالت منتهى القبول، والناس عليها في غاية الإقبال، وأكثرها مطولات، منها شرح مشكاة المصابيح، والزواجر عن اقتراف الكبائر، والصواعق المحرقة لأهل الرفض والزندقة، وأسنى المطالب في صلة الأقارب، وشرح الشمائل، وشرح الهمزية، وشرح الأربعين النووية، والإعلام بقواطع الإسلام، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع، والإيضاح والبيان بما في ليلة الرغائب والنصف من شعبان، وغير ذلك مما لم يحضرني الآن ذكره. وكلها يتنافس باقتنائها المتنافسون، ويعتمد عليها من جميع المذاهب العلماء المحققون، ولا يخلو منها في الغالب مكتبة من المكاتب، فيا لها من مؤلفات جليلة خدم بها الدين، ونفع بها المسلمين، وانتشرت في العالمين،

وتلقاها الناس بالقبول التام في جميع بلاد الإسلام، للاتفاق على أنه أحد الأئمة الأعلام، الذين لم يطعن فيهم أحد من علماء مذهب الإسلام من عصره إلى الآن، ولم ينسبه واحد منهم إلى بدعة أو مخالفة سنة، وقد كان يعتقد في ساداتنا الصوفية أحسن الاعتقاد، ويثني عليهم أحسن الثناء، ويجيب عنهم بأحسن الأجوبة، فشملته بركاتهم وعمته نفحاتهم، وبالجملة فقد كان من أكابر أئمة العلماء العاملين، الهداة المهديين، الذين جددوا وأيدوا بعلمهم هذا الدين المبين، وعم نفعهم جميع المسلمين، فوقع على قبوله والإقبال على كتبه الاتفاق في جميع الآفاق. قال: وأما ابن تيمية فهو أيضاً إمام من أئمة الإسلام، وقد كان من الممتازين في عصره في العلم والعمل، والتصلب في الدين، بحيث لا تأخذه في الحق لومة لائم، حتى أنه جرى عليه بسبب مخالفته لما عليه جمهور الأمة من بدعه المعلومة التي شذ بها إهانات كثيرة، وحبس بها مراراً، إلى أن توفي في الحبس، ولم يرجع عما ظهر له أنه الحق من تلك البدع، وكان من أكابر حفاظ الحديث، وله في علوم الدين مؤلفات كثيرة مطولات ومختصرات قل من وفقه الله لمثلها، ولكن الله تعالى لم يقدر الانتفاع بعلمه وكتبه كالانتفاع بعلم الإمام ابن حجر وكتبه، فإن كتبه رحمه الله على كثرتها ونفاستها بقيت في زوايا الإهمال، ولم يقبل عليها جمهور العلماء وغيرهم، ولا تلقوها بالقبول، فذهب أكثرها ضياعاً، ولا يوجد منها الآن بين الناس إلا القليل، ومعلوم أن ذلك من الله وحده لا شريك له، فهو الذي نشر علم ابن حجر وكتبه في الأمة نشراً تاماً، بحيث انتفع بها الخاص والعام في سائر بلاد الإسلام، وهو سبحانه الذي صرف القلوب عن كتب ابن تيمية حتى لم يبق منها إلا القليل النادر، وقلما يوجد منها شيء في مكتبة من المكاتب الموقوفة والمملوكة، وإذا وجد لا ينتفع بها، مع أن كتبه كلها تدل على أنه من أكابر أئمة الإسلام، إلا أنه قلما يخلو كتاب منها من شذوذ يخالف به مذاهب المسلمين، ويشنع على علماء الدين، ولاسيما الأولياء العارفين. إلى أن قال: وأظن بل أتيقن أن السبب الوحيد لعدم انتفاع الناس بكتب ابن تيمية وعلمه مع جلالة قدره شذوذه في تلك

المسائل، واعتراضه على هؤلاء الأكابر، وما شبهت كتبه إلا بكنوز مملوءة من الجواهر النفيسة، ولكنها مرصودة من بدعه ومخالفته للأمة بحيات قاتلات، فهي تمنع الناس من الإقبال عليها والانتفاع بها ... إلى آخر ما هذى به. هذه جملة من كلام النبهاني فيما قاله في المحاكمة بين ابن حجر وابن تيمية، وكأنه تعلمها من قوانين الجزاء أو الحقوق، فإنها بعيدة عن العلم الذي أنزل الله به كتبه، وسقت هذا المقدار منه ليعلم أهل العلم المنصفون درجته في الجهل والحسد، وقد كتب هذا كله في مقابلة ما ذكره "مصنف جلاء العينين" من الحق الظاهر، وانحياد ابن حجر عنه وتقوّله على علماء الدين. وقال هذا الزائغ- قبل شروعه في مقالته هذه- ما نصه: ولما ظهر تحامل مصنف (جلاء العينين) في كتابه هذا على أهل السنة ومذهبهم، ولاسيما الإمام السبكي وابنه وابن حجر، وبالغ في التعصب بمدح ابن تيمية ومذهبه، وكل من كان على شاكلته- رأيت أن أذكر هنا الفرق بين ابن تيمية وابن حجر، ليظهر لكل أحد أنه حكم لابن تيمية على ابن حجر بالباطل، فأقول: إلى آخر مقالته التي نقلناها. وكلامه هنا متناقض، كما أنه كذلك في كل مقام، فتارة يقول عن ابن تيمية أنه إمام من أئمة المسلمين، وأخرى يبدعه ويجعله من المبتدعين، وهكذا كله كلام يوحيه الشيطان إلى أوليائه، والنبهاني الزائغ- كما لا يخفى على من وقع على جهله وضلاله- ليس من أهل الترجيح لأقوال أهل العلم بعضها على بعض، بل لا يحسن قراءة عبارتها، ولا يصلح أن يكون حكماً بين صبيين فضلاً عن أن يكون حكماً بين العلماء. ما أنت بالحكم لترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل فإن من شرط الحكم أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، ومذاهب المجتهدين، فمن أين لهذا الزائغ من هذه العلوم؟! قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: "من المعلوم أنّا إذا تكلمنا في العلماء

والمشائخ المختلفين في العلم والدين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقاً لا يباح قط بحال، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 1 وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من يبغضه فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس؟ فهو أحق أن لا يظلم بل يعدل عليه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من عدل عليهم في القول والعمل، وهكذا أتباعهم، والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مما اتفق على ذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم، وليس المقصود الكلام في التحسين والتقبيح العقلي، فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع في مصنف مفرد، ولكن المقصود أن العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو محبوب في النفوس، مركوز حبه في القلوب، تحبه القلوب وتحمده، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه، والله تعالى أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 2. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} 3 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 4 وقال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 5 وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ} 6. فأمره أن يحكم بالقسط، وأن يحكم بما أنزل

_ 1 سورة المائدة: 8. 2 سورة الحديد: 25. 3 سورة الشورى: 17. 4 سورة النساء: 58. 5 سورة المائدة: 42. 6 سورة المائدة: 48.

الله، فدل ذلك على أن القسط هو ما أنزل الله، فما أنزل الله هو القسط، والقسط هو ما أنزل الله، ولهذا وجب على كل من حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل، لقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} فليس لحاكم أن يحكم بظلم أبداً. والشرع الذي يجب على حكام المسلمين الحكم به عدل كله، ليس في الشرع ظلم أصلاً، بل حكم الله أحسن الأحكام، والشرع هو ما أنزل الله، فكل من حكم بما أنزل الله فقد حكم بالعدل، لكن العدل قد يتنوع بتنوع الشرائع والمناهج، فيكون العدل في كل شرعة بحسبها، ولهذا قال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} إلى قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1. ذكر سبحانه حكم التوراة والإنجيل، ثم ذكر أنه أنزل القرآن، وأمر نبيه أن يحكم بينهم بالقرآن ولا يتبع أهواءهم عما جاءه من الكتاب، وأخبر أنه جعل لك واحد من الأنبياء شرعة ومنهاجاً، فجعل لموسى وعيسى ما في التوراة والإنجيل

_ 1 سورة المائدة: 42- 50.

من الشرعة والمنهاج، وجعل للنبي صلى الله عليه وسلم ما في القرآن من الشرعة والمنهاج، وأمره أن يحكم بما أنزل الله، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله، وأخبره أن ذلك هو حكم الله، ومن ابتغى غيره فقد ابتغى حكم الجاهلية، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . ولا ريب أن من لم يعتقد1 وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيراً من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهّالاً كمن تقدم أمره2.

_ 1 انظر كيف اشترط شيخ الإسلام هنا الاعتقاد، ثم اشترط الاستحلال بعد ذلك في هذه المسألة؛ مسألة الحكم بغير ما أنزل الله. فهل سيقول أذناب الخوارج: إن شيخ الإسلام مرجىء أو إنه وقع في الإرجاء؟! واعلم أيها السُّنّي بأن كلام شيخ الإسلام هذا هو الحق الذي عليه كبار العلماء اليوم؛ وعلى رأسهم المحدث الألباني والعلامة ابن باز والعلامة ابن عثيمين- رحمهم الله أجمعين- وبه يقولون. فلا تغترَّ بعد ذلك بكلام المارقين أذناب الخوارج؛ الطاعنين بعلماء أهل السنة، كأبي قتادة الفلسطيني أو أبي بصير! أو عصام المقدسي! أو الفزّازي المغربي! وغيرهم من الصعاليك المتهوّرين الذين أمطروا الشباب بوابل من فتاويهم الشاذّة، والذين كفّروا المسلمين بجهلهم، وضلّلوا عقول كثير، والله نسأل أن يريح الأمة من شرورهم، وأن يردّهم على أعقابهم خاسرين. 2 وهكذا يكون كلام العلماء الربانيين، فالتزم به أيها الموحّد هُديت إلى الحق، وميّز بينه وبين شنشنة التكفيريين.

وقد أمر الله المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1 وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة، وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله، وقد تكلم الناس بما يطول ذكره ههنا، وما ذكرته يدل عليه سياق الآية. والمقصود؛ أن الحكم بالعدل واجب مطلقاً في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3 وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 4 وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 5. فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ليس لأحد أن

_ 1 سورة النساء: 59. 2 سورة النساء: 65. 3 سورة البقرة: 213. 4 سورة الشورى: 10. 5 سورة النساء: 59.

يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك، ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر، وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ومن علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ومن قضى للناس على جهل فهو في النار". وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين. والمقصود هنا؛ أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل ويرد ذلك إلى الله والرسول فذاك في أمر الصحابة أظهر، فلو طعن طاعن في بعض ولاة الأمور من ملك وحاكم وأمير وشيخ ونحو ذلك وجعله كافراً متعدياً على غيره في ولاية غيرها، وجعل غيره هو العالم العادل المبرأ من كل خطأ وذنب، وجعل كل من أحب الأول وتولاّه كافراً أو ظالماً مستحقاً للسب وأخذ يسبه- فإنه يجب الكلام في ذلك بعلم وعدل. والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق، فوالوا بعضهم وغلوا فيه، وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته. وقد يسلك كثير من الناس ما يشبه هذا في أمرائهم وملوكهم، وعلمائهم وشيوخهم، فيحصل بينهم رفض في غير الصحابة، تجد أحد الحزبين يتولى فلاناً ومحبيه ويبغض فلاناً ومحبيه، وقد يسب ذلك بغير حق، وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 1 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ

_ 1 سورة الأنعام: 159.

اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} 1 وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة. ولهذا كان أبو أمامة الباهلي وغيره يتأولها في الخوارج. فالله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بكتابه،. وبدينه، وبالإسلام وبالإخلاص، وبأمره، وبعهده، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكلها صحيحة، فإن القرآن يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده وأمره وطاعته، والاعتصام به جميعاً إنما يكون في الجماعة، ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم". والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين أحيائهم وأمواتهم، وحرم دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت إلاّ ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" انتهى، ما هو المقصود من كلامه رحمه الله. وبه علم أن النبهاني قد حكم بغير ما أنزل الله، فإنه لم يستند في كتابه كله فضلاً عن هذا المقام بكتاب ولا بسنة، ولا بدع أن يصدر ذلك منه فإنه قد تعود

_ 1 سورة آل عمران: 101- 102. 2 سورة آل عمران: 105- 107.

الحكم بغير ما أنزل الله كسائر أحكامه في محكمته، فهو في هذا الحكم وغيره أحد القاضيين. وأما مصنف (جلاء العينين) فإنه أسند جميع ما جاء به إلى الكتاب والسنة، فهو متبع في أحكامه كلها ما أنزل الله، وهذا هو الوجه الأول مما ورد على كلام النبهاني في هذا المقام. والوجه الثاني: أن التصدي لبيان الفرق بين ابن حجر وكتبه وبين الشيخ تقي الدين ابن تيمية وكتبه كالتصدي لبيان الفرق بين الحصى والدر، والخزف والذهب، والظل والحرور، والماء العذب والمالح، وأين السماء من الأرض، وأين السمك من السمّاك، وأين الليل من النهار، وأين السواد من الظلام، وأين الأموات من الأحياء، وأين النائم من اليقظان، وأين الفقير من الغني، وأين الجاهل من العالم؟ إلى غير ذلك من النسب بين الأضداد، والموازنة بين العاقل والجماد. عدمتك قد بان التباين في الورى ... وفيما برى الباري فسبحان من برى ضللت الهدى إذ بالحصى قست جوهراً ... عداك الحجى أين الثريا من الثرى وأين حصى الحصباء من درر البحر فما مادر فيهم سواء وحاتم ... ولا كهجان الخيل خيل كرائم فهل يستوي سيف كهام وصارم ... وهل يستوي لا در درك عالم وفهّ جهول ناقص الدين والحجر قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1. فابن حجر بالنسبة إلى الشيخ طفل راقد في مهد طفوليته، بل إن من رجح الشيخ على ابن حجر لم ينصف ولم يحكم بالحق:

_ 1 سورة الزمر: 9.

ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف خير من العصا إن ابن تيمية قد تسابق مع أكابر المجتهدين على ما سمعت ممن صنف في مناقبه، وما كان ثناء أكابر أهل العلم عليه، فلو أن النبهاني أجرى الموازنة بينه وبين إمام ابن حجر الكبير؛ لكان ذلك أيضاً محل إشكال ونظر. إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار الوجه الثالث: أن النبهاني لم يعرف طريق الموازنة ووجهها، وليته طالع كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، ولو أنه طالعه لعرف طريقها، وإن كانت تلك في شعر وما نحن فيه فن آخر، فإن أصول الموازنة لا تختلف، وحينئذ كان اللازم عليه أن يوازن بين كتاب وكتاب اتفقا في الموضوع، كأن يوازن بين "الصواعق المحرقة" لابن حجر وكتاب " منهاج السنة" للشيخ تقي الدين ابن تيمية، فإن كلا الكتابين في الرد على الروافض، وبعد الموازنة بين هذين الكتابين يظهر للمنصف معنى قول القائل وفي الحيوان يشترك اضطراراً ... أرسطا طاليس والكلب العقور أو أن يوازن بين تحفة ابن حجر أو غيره من كتبه الفقهية وبين شرح العمدة في الفقه لشيخ الإسلام، وهكذا يأتي بكل كتاب وما يناسبه في موضوعه، ويوازن بين ما اشتملا عليه من المسائل والدلائل، وسلاسة العبارة ووفائها بالمقصود، فحينئذ ينجلي الغبار، ويتميز الليل من النهار،ولكن يبقى عليه نحو ثلاثمائة مصنف للشيخ بل أكثر ليس لابن حجر في مقابلتها شيء، بل لم تخطر على بال ابن حجر، فماذا يصنع حينئذ وبأي شيء يوازن تلك الكتب؟ والجهل وعدم الحياء يوقعان من اتصف بهما بأعظم من ذلك، نسأله تعالى العفو والعافية، والمنصف يعلم يقيناً أن الموازنة وبيان الفرق بين كتب ابن حجر أو غيره من غلاة الشافعية وبين كتب الشيخ كالموازنة بين قرآن مسيلمة الكذاب وبين كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فأين ما قاله ذلك الكذاب من الكتاب الذي أنزل بالحكمة وفصل الخطاب؟ وعندي أن هذا الشبيه

حق، فإن غالب كتب ابن حجر مشحونة بالكذب، والافتراء، وقول الزور، والآراء التي لم تستند إلى كتاب ولا سنة صحيحة، والدعوة إلى غير الله، ونحو ذلك من البدع والضلالات. وكتب الشيخ تقي الدين تملأ قلوب مطالعيها نوراً وإيماناً وحكمة ويقيناً، وهي كما قال الإمام الحافظ الشيخ عبد الله العراقي في كتابه الذي أرسله إلى بعض تلامذة شيخ الإسلام بعد وفاته وقد ذكرناه سابقاً: فما أشبه كلام هذا الرجل بالتبر الخالص المصفى، وقد يقع في كلام غيره من الغش والشبه المدلس بالتبر ما لا يخفى على طالب الحق بحرص وعدم هوى. إلى آخر ما قال. الوجه الرابع: إن كتب ابن حجر كلها منتقدة في نظر أهل البصائر بأن البعض منها منتحل على ما سبق بيانه، فإن كتاب الزواجر انتحله من كتاب الكبائر لابن القيم أحد تلامذة شيخ الإسلام، كما لا يخفى على من طالع الكتابين، ولا يمكن أن يقال إن ذلك من باب توارد الخواطر، فإن التوافق لم يقع من الأول إلى الآخر، وابن القيم رحمه الله متقدم عليه بزمن طويل. وكذلك الإعلام بقواطع الإسلام، انتحله أيضاً من كتاب شيخ الإسلام إما بواسطة أو بغير واسطة، ولسان الكتابين يخالف لسان ابن حجر في كثير من كتبه، لاسيما الجوهر المنظم، والصواعق، ونحوهما من كتبه، التي يصون أهل العلم ألسنتهم عن التكلم بمثلها، فقد اشتملت على أحاديث موضوعة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل لا يتكلم بها ابن يوم كما لا يخفى على من وقف على ما صنف من الردود عليها. وأما التحفة، وسائر كتبه الفقهية فهي مما لا يجوز لمسلم أن يطالعها لما اشتملت عليه من الغموض والخفاء، والدقة في التعبير، وأهل العلم نهوا عن أقل من ذلك، بل قد صرح بعضهم بمنع المفتين أن يفتوا بكتب ابن حجر، لما أنهم لا يأمنون من الخطأ لما اشتملت عليه من ضيق العبارة والألغاز والتعقيد المنافي كل ذلك للإفادة والاستفادة، على أن المسلمين في غنى عنها، فإن كتب السادة

الشافعية وغيرهم قد ملأت العالم، وكلها شافية كافية، فما الحاجة إلى كتب ابن حجر المنتحلة من كتب من سبقه، ألا ترى أن الشافعية لما اشتغلوا بها قل العلم والعلماء فيهم، بخلافهم لما كانوا يشتغلون بغيرها من الكتب الواضحة المبسوطة. وأما كتب شيخ الإسلام فلا يقوم غيرها مقامها من الكتب السابقة واللاحقة على ما لا يخفى على المنصف. الوجه الخامس: أن مذهب الشافعي ليس مدار الأحكام في كثير من بلاد الإسلام، إنما مدارها في مشارق الأرض ومغاربها على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وفقهاء السادة الحنفية قد أغنوا العالم عن مثل ابن حجر، هؤلاء مسلموا البلاد الهندية كلهم حنفيون، وهكذا بلاد الصين، والأتراك في آسيا الوسطى، وهكذا بلاد الدولة العثمانية حرسها الله، والحنفيون غالبهم حنفيون. وأما مذهب الشافعي فيكاد ينقرض من الأرض ويرتفع من الدنيا، فلا تكاد ترى حكماً يدور على مذهبه، كما انقرض مذهب أهل الظاهر وغيره، نعم للشافعي اليوم مقلدون في العبادات فقط، وغالبهم ممن لا يفرق بين اليمين والشمال، هذا حال أصل المذهب، فأين بقيت كتب ابن حجر؟ وبطل قول النبهاني: وكلها يتنافس باقتنائها الححتنافسون، ويعتمد عليها من جميع المذاهب المحققون. وليت شعري من اعتمد عليها من علماء السادة الحنفية؟ وأين بقيت كتبهم التي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها؟ والذي أعلمه أن كتب ابن حجر وغيره من غلاة الشافعية لا تساوي عندهم قلامة ظفر، وكذلك السادة المالكية والحنابلة. فقول النبهاني: وتلقاها الناس بالقبول التام في جميع بلاد الإسلام. كذب ظاهر، وكيف يتلقاها أحد من أهل البصائر بالقبول وهي آراء محضة لم يستند فيها

إلى كتاب ولا سنة؟ نعم كان بعض جهلة الشافعية مغترين ببعضها قبل أن تنتشر كتب المتقدمين وتظهر كنوز العلم بواسطة الطبع. الوجه السادس: قوله في بيان سبب انتشار كتبه وتعليله للاتفاق على أنه أحد الأئمة الأعلام، الذين لم يطعن فيهم أحد من علماء مذاهب الإسلام، من عصره إلى الآن، ولم ينسبه واحد منهم إلى بدعة إلخ؛ كذب ظاهر، بل قد طعنوا به وبكتبه، كما مر غير مرة، على أنه لو سلم ذلك فليس فيه ما يستوجب المدح، بل ما يستوجب خلافه، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} 1 والسواد الأعظم لا يرضون عن أحد حتى يوافقهم على أهوائهم وعقائدهم الزائغة، أو أن أهل العلم لم يعبؤوا بمثله، ولا التفتوا إليه، فإن ابن حجر مما لا أهمية به. إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر ألا ترى أنك لا تجد عالماً مشهوراً، وفاضلاً مذكوراً إلا ووجه الناس إليه سهام الملام، وعاداه جمع كثير من الأنام، وذلك فخر لأهل العلم ودليل على علو شأنهم. قال الإمام الرافعي في كتابه (إحياء القلوب) : واعلم أن كثرة الإنكار والأعداء مما يثبت لك أسوة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} 2 فعلم أن عداوة المؤمنين للعبد من شقاوته، لأن قلوب المؤمنين لا تمقت إلا بحق، لأنهم لا يجتمعون على ضلالة، وأعظم نصابهم أربع. واعلم أن الدنيا ليست موضع ظهور الجزاء للتكليف، فكل إنسان فيها مشغول بنفسه، مطلوب بأداء ما كلف به من العمل، فمن علم هذا لم يبالِ كيف أصبح ولا أمسى عند الخلق، ولم يلتفت لمدحهم ولا ذمهم، لأنهم في محل

_ 1 سورة البقرة: 120. 2 سورة الفرقان: 31.

الحجاب، وانظر إلى أحواله صلى الله عليه وسلم في الدنيا لم يظهر لنا منها إلا ما أخبرنا الحق تعالى من علو مرتبته، ولولا ذلك جهلنا قدره في الآخرة، يظهر مقامه للخاص والعام فلا يظهر كماله إلا في الآخرة، وكذلك كمل الرجال لأنها دار ظهور النتائج، وأما الدنيا فإنما هي دار أعمال، فمن طلب ظهور النتائج فيها فقد قلب الموضوع، وباع آخرته بعرض من الدنيا فافهم. قال: وقال أبو الحسن الشاذلي: لما علم الله سبحانه وتعالى أنه لا بد أن يتكلم في أنبيائه وأصفيائه قضى على قوم بالشقاوة فنسبوه إلى اتخاذ الصاحبة والولد، حتى إذا ضاق الولي ذرعاً من كلام قيل فيه؛ نادته هواتف الحق: هذا وصفك لولا لطفي بك. فافهم وطب نفساً وقر عيناً بجميع ما يقال فيك، فإن جميع المنكرين رحمة من الله عليك، وإلا لو عكس الأمر وجعلك منكراً عليه كالكافر أو العاصي ماذا كنت تفعل، فاحمد الله سبحانه وتعالى، واسلك سبيل الأصفياء. وكثرة المدح من جميع الخلق لا يغني عنك من الله شيئاً وأنت عنده بخلاف ذلك، وكثرة الذم والأذى من الخلق لا يضرك شيئاً وأنت عنده بخلاف ذلك، بل جميع المنكرين يفارقونك بالموت، فهل ينزلون معك في القبر فيتعصبون عليك ويتولون سؤالك أو حسابك في الآخرة؟ واحذر حين مدح الخلق لك أن تظهر التواضع فتحقر نفسك لما يعظمونك، فإن ذلك يزيدك تعظيماً عندهم، بل اسكت إيهاماً لهم بأنك تحب المدح بما ليس فيك، هذا هو الأصلح لك دائماً فافهم. فإن قال لك الشيطان: هذا مما ينفر القلوب منك وأنت تنفع الناس وتعلمهم الخير وإنما يليق هذا الحال بالسواح الذين خربوا حالهم، فقل له: إنما أنظر إلى المحرك لهم وهو الله تعالى، فإن أقام في باطنهم تعظيماً لي عظموني ولا يمكنهم أن يحقروني، وأشهد ذلك فضلاً منه، وإن أقام في باطنهم تحقيراً لي لا يمكنهم التعظيم لي ولو أظهرت لهم كل كرامة فافهم.

وبالجملة؛ فمن كان قصده التعظيم عند الخلق لم يزل في تكدير، لأنه لا بد في الوجود من منكر عليه، وطلبه من جميع الخلق أن يقبلوا عليه بالثناء والحمد والاعتقاد جهل منه، فلا بد له من ذام ومادح ولو كان في فضل نحو الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان شخص يذم الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وينكر عليه فاجتمع به المنكر فأثنى عليه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم على خلاف عادته، فقال الإمام علي رضي الله عنه: أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك. فافهم فهمنا الله وإياك، فإن من رضي بعلم الله فيه لا يتغير، ولو توجه إليه الثقلان بالذم والتنقيص، ولا يغيره على الله شيء، بل شأن العبد الغفلة عما الناس فيه مطلقاً شغلاً بسيده، وقد رأيت هاتفاً يقول على لسان الحق تعالى: من شهد الأمور كلها مني لم يتغير لوجدان ولا فقد، ومن خرج من مضرتي سلطت عليه أعدائي، فلا يلومن إلا نفسه، والسلام، فافهم فهمنا الله وإياك. انتهى. ثم نقل الإمام الرافعي عن ابن عطاء الله الإسكندري أنه قال في حكمه: إنما أجرى عليك الأذى على يديهم، كيلا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء. قال شارحها ابن عباد: وجود أذية الناس للعبد نعمة عظيمة عليه، لاسيما ممن اعتاد منه الملاطفة والإكرام، والمبرة والاحترام، لأن ذلك يفيده عدم السكون إليهم، وترك الاعتماد عليهم، وفقد الأنس بهم، فيتحقق بذلك عبوديته لربه عز وجل. قال الأستاذ أبو الحسن الشاذلي: آذاني إنسان مرة، فضقت به ذرعاً، فنمت فرأيت قائلاً يقول لي: من علامة الصديقية كثرة أعدائها ثم لا يبالي بهم. وقال بعض العارفين: الصحبة مع العدو سوط الله يضرب به القلوب إذا

ساكنت غيره، لولا ذلك لرقد القلب في ظل العز والجاه، وهو حجاب عن الله عظيم. وقال الأستاذ عبد السلام أستاذ أبي الحسن الشاذلي في دعائه: اللهم إن قوماً سألوك أن تسخّر لهم خلقك فسخرت لهم خلقك فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق عليّ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك. وقال أبو الحسن الوراق النيسابوري: الأنس بالخلق وحشة، والطمأنينة إليهم حمق، والسكون إليهم عجز، والاعتماد عليهم وهن، والثقة بهم ضياع، وإذا أراد الله بعبد خيراً جعل أنسه به وبذكره، وتوكله عليه، وصان سره عن النظر إليهم، وظاهره عن الاعتماد عليهم، وقد كان الزهاد يخرجون المال من الكيس، تقرباً إلى الله تعالى، وأهل الصفا والوفا يخرجون الخلق والمعارف من القلب، تحققاً بالله عز وجل. قال الإمام الشعراني في "لطائف المنن": اعلم أن أولياء الله تعالى حكمهم في بداياتهم أن يسلط عليهم الخلق ليطهروا من البقايا، وتتكمل فيهم المزايا، وكيلا يساكنوا هذا الخلق باعتماد، أو يميلوا إليهم باستناد، ومن آذاك فقد أعتقك من رق إحسانه، ومن أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له"1. كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق، وليتعلق بالواحد الحق. قال: وقال الشيخ أبو الحسن: اهرب من خير الناس أكثر مما تهرب من شرهم، فإن خيرهم يصيبك في قلبك، وشرهم يصيبك في بدنك. إلى آخر ما قال. والحاصل: أن تسليط الخلق على أولياء الله تعالى في مبدأ ظهورهم سنة الله

_ 1 أخرجه أحمد (2/68، 99، 127) والبخاري في "الأدب المفرد" (216) وأبو داود (1672، 5109) وغيرهم. وصححه الألباني في "الصحيحة" (254) و"الإرواء" (6/60/1617) .

في أحبابه وأصفيائه، وللصوفية من هذا البلاء الحظ الأوفر، فإن العارف بالله ابن أبي جمرة لما اختصر البخاري وشرحه وعرض فيه بأنه يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم يقظة؛ قاموا عليه وعقدوا له مجلساً، وألزم بالجلوس في بيته، فلزمه، فلم يخرج إلا للجمعة حتى مات، ولما ألف الحكيم الترمذي "نوادر الأصول" و"ختم الأولياء" و"علل الشريعة"؛ ثاروا عليه ورموه بالعظائم، وبطشوا به، فجمع كتبه كلها وألقاها في البحر، قيل فاستمرت فيه ثم لفظها على حالها فانتفع الناس بها. وثاروا على البوشنجي ونفوه من بلده فسكن نيسابور إلى أن مات. وأفتوا بتكفير أبي الحسن الخراز بمواضع التقطوها من كتبه، ونفوه من بلده، وشهدوا على الشبلي بالكفر مراراً مع كمال علمه، وكثرة مجاهداته وزهده واتباعه للسنة، وشهد عليه آخرون بالجنون، وأدخل (البيمارستان) ثم نفوه إلى أن مات. وقام أهل المغرب على الإمام أبي بكر النابلسي- مع علمه وزهده وورعه وتمسكه بالسنة وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر- فأخرجوه من بلاد المغرب بالقيد والزند إلى مصر، وشهدوا عليه عند السلطان بكلمات من كلمات القوم، فأقر بها وأصر عليها، فأمر بسلخه حياً منكوساً، ففعل به ذلك، فصار- وهو كذلك- يقرأ القرآن. وأنكروا على أبي القاسم النصرآبادي مع علمه وصلاحه، وزهده واستقامة طريقه، واتباعه للسنة، ونفوه إلى مكة، فلم يزل فيها حتى مات. وقاموا على أبي عبد الله السجزي صاحب الفوائد الحديثية وأخرجوه ونفوه. وقاموا على ابن سمعون الواعظ وآذوه وضربوه ومنعوه من الجلوس للوعظ في الجامع، فانقطع في بيته حتى مات، فمنعوا الناس من حضور جنازته مع كماله وجلالته.

وطعنوا علي أبي القاسم بن جميل ورموه بالعظائم، فلم يتزلزل عما هو فيه من الاشتغال بالفقه والحديث وصيام الدهر والتزهد والتعبد حتى مات. وآذوا الإمام أبا الحسن الشاذلي وأخرجوه من بلاد المغرب بأتباعه، ثم كاتبوا نائب الإسكندرية بأنه زنديق فاحذروا منه على أنفسكم وأهل بلدتكم، ووشوا به إلى السلطان، فحج في جماعته وكان الحج قد انقطع لكثرة قطاع الطريق، فما رأوا إلا خيراً، فاعتقده الناس وعظموه وأجمعوا عليه حينئذ. وقتلوا الحلاج، والإمام أبا القاسم ابن قسي صاحب كتاب خلع النعلين، وابن برجان صاحب التفسير المشهور، والجرجاني، مع كونهم أئمة يقتدى بهم، ولما قام عليهم الحاسدون عجزوا عن أن يثبتوا عليهم ما يوجب القتل، فحملوا عليهم الحيلة، وقالوا للسلطان إنه خطب لابن برجان من نحو مائة وثلاثين بلداً فأمر بقتلهم. وقاموا على العفيف التلمساني صاحب التآليف المشهورة وقالوا هو لحم خنزير في صحن صيني وضربوه ونفوه. وعقدوا للشيخ عز الدين ابن عبد السلام عدة مجالس بسبب كلمة قالها في العقائد ولطف الله به وظفره. وغيروا السلطان بيبرس على قاضي القضاة ابن بنت الأعز بعدما كان بينهما من كمال المودة حتى أمر بشنقه ثم أمده الله بلطفه في حكاية طويلة. وكان الشيخ عمارة اليمني متضلعاً من الفقه والحديث وغيرهما فأغروا به السلطان صلاح الدين وقالوا إنه هجاك بقصيدة، فلم يتغير السلطان لما كان عليه من مزيد الحلم، حتى قالوا إنه ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم في شعره، ولم يثبت عليه ذلك، بل أنكر أن تلك القصيدة التي ذكر ذلك فيها من نظمه، فحسن له القاضي الفاضل قتله فقتله.

وحسدوا شيخ الإسلام ابن أبي شريف، وانتهزوا الفرصة بإغراء السلطان عليه حتى تشوش منه بسبب إفتائه بعدم جواز قتل امرأة ورجل أجنبيين وجدا في خلوة فهم بالبطش به، ثم شنق المرأة والرجل على باب داره، وأمره بالخروج من البلد إلى بلده بيت المقدس، فوافق ذلك قدوم الخبر بأن السلطان سليم قدم إلى حلب يريد غزوه فاشتغل بنفسه. إلى غير ذلك من الوقائع التي لا يمكن حصرها، ولا يضيع الله حقاً لأحد، والله عند قول كل قائل، فليتق الله عبد ولينظر ما يقول. هذا كله من كتاب (إحياء القلوب) للرافعي، وبه يعلم ما في كلام النبهاني من الخلل، حيث جعل سكوت العامة عن ابن حجر دليلاً على علو قدره وجلالة شأنه، ويفهم منه أن عدم رضاهم دليل الجهل وعدم العدالة. ومقصوده من ذلك كله الحط على ابن تيمية بسبب ما كان من الجهلة في شأنه، ومعاداة الغلاة له. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1. الوجه السابع: أن قول النبهاني: وقد كان رحمه الله مع كونه إماماً فقيهاً يعتقد في ساداتنا الصوفية أحسن الاعتقاد، ويثني عليهم أحسن الثناء، ويجيب عنهم بأحسن الأجوبة، فشملته بركاتهم وعمته نفحاتهم؛ لا يستوجب ترجيح صاحبه على مجتهدي الأمة وأكابر العلماء، والمسلمون كلهم يعتقدون الخير في الصوفية المتبعين لما جاء الرسول به، لا المتبعين لأهوائهم المبتدعين، ولاسيما شيخ الإسلام فقد كان رضي الله عنه من أكابر الصوفية والزهاد، وقد بين في كتابه (الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن) ما ينشرح به صدر كل موحد. وليس كل من ادعى أنه صوفي يسلم له الزهد والورع، لاسيما صوفية هذا

_ 1 سورة التوبة: 32.

العصر فإنهم ذئاب، عليهم من جلود الشياه ثياب، كما نسمع عن شيخ مبتدعة الرفاعية في دار السلطنة، فإنه قد فاق على إبليس في مكره وحيله، وخبثه وزندقته، وكما نسمع عن شيخ القادرية في بغداد ممن ينتسب إلى الكيلاني، ويرشدون الناس، وعندهم خاتم كبير يختمون به ما يعطونه لمن يسلك عليهم، مكتوب لا إله إلا الله (عبد القادر شي لله) وقد كفروا بذلك كما ذكره فقهاء السادة الحنفية، ففي منظومة ابن وهبان: بدرويش درويشان كفر بعضهم ... كذا قول شي لله بعض يكفر والنقيب وأولاده وسائر أفراد عائلتهم هم أعظم الناس بلاء على الأمة، ليست معصية في الدنيا إلا وقد استباحوها، وكبيرهم النقيب بل الذيب، هو بريد الشر على العراق، وهم أرفاض زنادقة، يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علناً، ويشربون الخمور، ويتعاطون كل منكر، وعسى الله يعين على إفراد كتاب نبسط فيه أحوال هؤلاء الزنادقة وتحذير المسلمين منهم، هؤلاء شيوخ صوفية عصرنا والأمر لله. وابن حجر إن عظّم أمثال هؤلاء الفجرة فهو لا شك من أعداء الله، وإن أحسن الاعتقاد فيمن تبع منهم الشريعة الغراء فكل المسلمين والعلماء العاملين كذلك، فلا مزية له على غيره، وقد ذكر في كتابه (التعرف في الأصلين والتصوف) ما يوافق ما ذكرناه، حيث قال: وطريق أبي القاسم الجنيد سيد الطائفة طريق مقوم، لأنه خال من البدع، دائر على التسليم والتفويض، والتبري من النفس والتوحيد بالحق، وما وقع في كتب جمع من متأخري الصوفية- كابن عربي وأتباعه بحق وهم الأقلون- يجب تجنب ظواهره الموهمة لما لا يحل اعتقاده، بل لما هو كفر في كثير منها، كما وقع ذلك في "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية" وغيرهما، لكنهم جارون على اصطلاحهم ستراً له عن دعاة الباطل، وإلا فهم على الحق المبرأ عن وصمة الحلول والاتحاد وغيرهما من الوصمات التي نسبها إليهم من لم يحط بحقيقة أحوالهم، أو التي يعتقدها عن حقيقة طريقهم فنسبها إليهم زعماً أنه متأس بهم، حاشاهم الله من ذلك.

ثم قال: وما أحسن ما حققه بعض المحققين نصرة للأولين حيث قال ما حاصله- مع ما فيه من عبارات غير مراد بها ظاهرها-: من انتهى في سلوكه إلى الله تعالى وفيه استغرق في بحر التوحيد والعرفان، فحينئذ تضمحل ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته ويغيب عنه كل ما سواه، فلا يرى في الوجود إلا الله تعالى، وهذا هو الذي يسمونه الفناء في التوحيد، وإليه يشير الحديث الإلهي: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فلئن سألني لأجيبنه، ولئن استعاذني لأعيذنه". وفي الحديث القدسي أيضاً عتاباً يوم القيامة لبعضهم: "مرضت فلم تعدني، جعت فلم تطعمني، عطشت فلم تسقني، فيقول: كيف ذلك وأنت رب العالمين؟ فيقول تعالى: مرض عبدي فلان فلم تعده، جاع عبدي فلان فلم تطعمه، عطش عبدي فلان فلم تسقه" الحديث1، وحينئذ فربما يصدر عن الولي عبارات تشعر بالحلول والاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال، وتعذر الكشف عنها بالمثال، ونحن على ساحل التمني نحترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان، ونغترف بأن طريق الفناء فيه العيان دون البرهان. انتهى. فقد صرح أن ما في كتب ابن عربي كفر يجب تجنب ظواهره، فالفقيه إذا سمع من أحد كلمة كفر لا شك فيها يجب عليه الإفتاء على مقتضى ما يعلمه من الشريعة الغراء، وقد أطنب العلامة محمد أمين السويدي رحمه الله الكلام في شرحه على التعرف، الذي سماه (قلائد الدرر في شرح رسالة ابن حجر) وأتى في هذا المقام بما يشفي السقام، وكذا العلامة صاحب التعطف على التعرف فعليك بهما. والمقصود؛ أن من اتبع الشريعة الغراء ولم يبتدع في أقواله ولا أعماله يجب على كل مسلم حبه والذب عنه والترحم عليه، ومن خالف الشريعة وتكلم بالكفر

_ 1 سورة تقدم.

المصادم للشريعة والمخالف لنصوصها وبدل وحرف وغير وابتدع وترك ما كلف به -كغالب المدعين أنهم شيوخ العصر- فهجرهم وتضليلهم وتفسيقهم وتبديعهم واجب على كل مسلم، ولا يمدح من يكون ظهيراً لمثل هؤلاء {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} 1. الوجه الثامن: أن النبهاني شدد النكير أيضاً في هذا المقام على شيخ الإسلام من غير جرم جناه، سوى إخلاصه في التوحيد، وذم كتبه، وقال: إنها عديمة البركة. ومن جملة قدحه فيه: أنه حبس مراراً إلى أن توفي في الحبس ولم يرجع عما ظهر له أنه الحق من تلك البدع. فنقول: إنا قد تكلمنا على مثل هذا الكلام مراراً، وبينا زيغ النبهاني فيه، وأن هذا رفض منه بسبب غلوه في محبة أصحابه ومشائخه، حتى أصمه عن سماع الحق وأعماه عن رؤية الحق، على مقتضى المثل السائر: "حبك الشيء يعمي ويصم"2 وسبق منا قريباً ما نقلناه عن "إحياء القلوب" في بيان ما أصاب الأولياء والأصفياء

_ 1 سورة القصص: 17. 2 قد أحسن المصنف رحمه الله في عدم اعتبار القول حديثاً واعتباره مثلاً. فإنه يُروى مرفوعاً، ولا يصح. فقد أخرجه أحمد (5/ 194 و 6/ 450) وأبو داود (5130) والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/107) وغيرهم. من طريق: أبي بكر بن أبي مريم، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء مرفوعاً. وإسناده ضعيف؛ لأجل أبي بكر بن أبي مريم، فإنه ضعيف. وقد اختُلِفَ فيه عليه، فرواه عنه جماعة مرفوعاً، ورواه بعضهم موقوفاً. قال الإمام أحمد في "المسند": "وثناه أبو اليمان؛ لم يرفعه". وأخرجه البخاري في "تاريخه" موقوفاً، قال: قال لي محمد بن عبيد الله؛ حدثنا ابن وهب، سمع سعيد بن أبي أيوب، عن حميد بن مسلم، سمع بلال بن أبي الدرداء، قال: قال أبو الدرداء:.. فذكره موقوفاً. وإسناده حسن. فهو ثابت موقوفاً، لا يصح مرفوعاً. وانظر: "الضعيفة " (1868) .

من أذى الناس، وأن ذلك كان دليلاً على علو شأن من ابتلاه الله بمثل ذلك. وللشيخ تقي الدين ابن تيمية رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه لما أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق مع خصومه ليتخلص من السجن. ولنذكر شيئاً منها توضيحاً للمقام، فأقول: قال رحمه الله بعد البسملة: الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً صلى الله عليه وسلم تسليماً. أما بعد: فقد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين، أيدهما الله تعالى وسائر الإخوان بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعل لهم من لدنه ما يتم به السلطان؛ سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان، وسلطان القدرة والنصرة بالسنان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهم من الأقران، ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والإعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن، لكن اقتضت حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان، الذي يميز الله به بين أهل الصدق والإيمان، من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أن لا بد من الفتنة لكل من ادّعى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان، فقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1 فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب، وأن مدّعي الإيمان يترك بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب، وأخبر في كتابه أن الصدق بالإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى: {قَالَتِ

_ 1 سورة العنكبوت: 1- 4.

الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1 وأخبر سبحانه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة، الذي يعبد الله فيها على حرف، وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر ما هو عليه، بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} 2 وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 3 وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 4 وأخبر سبحانه أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 5 وهؤلاء الشاكرون لنعمة الإيمان الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 6. فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيراً له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له؛ إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له" 7. والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشرَّ حال، وكل واحد من السراء والضراء في

_ 1 سورة الحجرات: 14- 15. 2 سورة الحج: 11. 3 سورة آل عمران: 142. 4 سورة محمد: 31. 5 سورة المائدة: 54. 6 سورة آل عمران: 144. 7 أخرجه مسلم (2999) بلفظ: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير..".

حقه تفضي به إلى قبح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظه الإيمان والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان، فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعز سلطانه وجلاله، والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم نعمته عليكم الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين، الذين أمرنا بجهادهم والإغلاظ عليهم في كتابه المبين، انتهى كلامه. وبه يعلم أن ما صادفه الشيخ من الأذى والمصائب في ذات الله مما يستوجب رفعة شأنه لا القدح فيه كما زعمه الزائغ. الوجه التاسع: مما يرد على ما قاله النبهاني في هذا المقام أن قوله إن الله لم يقدر الانتفاع بعلم ابن تيمية وكتبه كالانتفاع بعلم ابن حجر وكتبه، وإن كتب ابن تيمية بقيت في زوايا الإهمال إلخ -ممنوع، بل هو يشبه كلام الصبيان والأطفال، وقد تكرر منه مثل هذا الكلام مراراً وأجبنا عنه بما يشفي صدور المؤمنين، ونقول هنا أيضاً: بلى إن الله تعالى قدر- وله الحمد- الانتفاع بعلمه وبكتبه في كل عصر، وأودع فيها البركة، حيث أنها تشرح صدور مطالعيها وتنور قلوبهم، بسبب ما اشتملت عليه من العلوم النبوية والوحي المنزل، وهي شفاء لصدور المؤمنين، وهي لأعين المبتدعين عمي، ولا زال أهل مذهبه يستفيدون منها، وكذلك المنصفون من سائر المذاهب، والشيخ- قدس الله روحه- لم يضمن في مصنفاته أن يفقه كلامه ميت القلب، جامد الذهن، فاسد القريحة، ولسان حاله يقول: عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر بل ولا ضمن الله تعالى لهذا النوع أن يفقهوا عنه وعن رسله ما جاؤوا به من الهدى، وينتفعوا بما جاؤوا به من البينات ودين الحق والحجة والشفاء، قال

تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 1 وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 2 وما أحسن ما قيل: فيا لك من آيات حق لو اهتدى ... بهن مريد الحق كن هواديا سورة ولكن على تلك القلوب أكنة ... فليست وإن أصغت تجيب المناديا وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 3. وأما كتب ابن حجر التي فرح بها هذا الزائغ فإنها لا تصلح عند من له بصيرة ونظر لغير العطار والإسكاف، فهي إما مزاود للعقاقير، وإما بطائن للخفاف، حيث أنها قشور لا لب فيها، وهكذا كتب السبكي وابنه، وفي المثل: "رمتني بدائها وانسلَّت". ونقول ثانياً: إنا لو سلمنا ما زعمه الزائغ أنها بقيت في زوايا الإهمال إلى آخر ما قال؛ فأي ضرر وعيب يلحقها؟ ولا يخل مثل ذلك بشأنها: ليس الخمول بعار ... على امرىء ذي كمال فليلة القدر تخفى ... وتلك خير الليالي وفضل العلم أشهر من أن ينبه عليه، وأظهر من أن يشار إليه، ولا ينقص من أمره فقدان العارفين بقدره، فلا يسلب الدرة النفيسة ثوب النفاسة جهل الفحام بها وإلقاؤه إياها على الكناسة، وقد كان الله تعالى وهو القديم جل علاه كنزاً مخفياً أي لا عارف به سواه، فهل نقص ذلك من جلاله شيئاً؟ لا والله، فالله قبل العالم، والعالم وبعدهما لم يتفاوت جلاله وعلاه، وهذا مجمل ما قال بعض ذوي

_ 1 سورة الكهف: 57. 2 سورة يس: 8- 9. 3 سورة الأنفال: 23.

العرفان، وهو سبحانه الآن على ما عليه كان. ثم إن هذا الزائغ لو سئل عن كتب إمامه أين بقيت فماذا يجيب وهو يعلم علماً يقيناً أن كتاب (هز القحوف شرح قصيدة أبي شادوف) قد انتشرت نسخة في البلاد والأقطار انتشاراً لم يتفق مثله لكتب إمامه، ولو استقريت خزائن الكتب ما وجدت من كتاب (الأم) إلا نسختين أو ثلاث نسخ، ربما لم تكن سالمة من الخروم، وأكل الأرضة، ولو لم تسمح المطابع المصرية بطبعها لم يرها هذا الزائغ حتى يلج الجمل في سم الخياط، أفيقال إن الله لم يقدر الانتفاع بها وقدر الانتفاع بكتاب (هز القحوف) ونحوه. ونسأله أين بقيت كتب الشافعي وأصحابه المتقدمين؟ وأين كتب المجتهدين كالمذاهب الأربعة وغيرهم، وكتب أصحابهم؟ وأين كتب الأندلسيين وقد كان منها في خزانة كتب الناصر لدين الله ما بلغ أسماؤها أربعين مجلداً؟ وأين الكتب التي كانت في خزائن العباسيين وخزائن مدارس بغداد؟ وأين كتب المدرسة النظامية؟ وأين كتب المدرسة المستنصرية؟ وأين الكتب المذكورة في تراجم مصنفيها مما لا يستوعبها البيان ولا يستقصيها اللسان؟ أفيقال إن مصنفي هذه الكتب كانوا أهل بدعة فلم يقدر الله الانتفاع بها بل بقيت في زوايا الإهمال أو أنها تلفت، وإن كتب ابن حجر هي كنوز السعادة فلذلك ترى الناس يتداولونها؟ لا أرى من يقول بذلك إلا من أصيب بعقله، وتاه في بيداء جهله، بل لا أرى حرمان المسلمين من كتب المتقدمين إلا من جملة مصائبهم ونوائبهم، ولذلك كثر الجهل في بلاد المسلمين لسوء عملهم، ونقصان تربيتهم وتعلمهم، وقصور كتبهم المتداولة، وأن غالبها كتب الأعاجم. ونقول ثالثاً: إن كتب الشيخ بحمد الله محفوظة عند أهلها من أهل الحديث وناصري السنة، وأتباع الإمام أحمد نضر الله وجهه في الهند وبلاد نجد ومصر والشام والعراق، وهذه هي الكتب التي لا نظير لها، وأنها مما يتنافس بها المتنافسون فليت شعري أي كتاب فقد منها ولم يوجد منه نسخ كثيرة، وليت هذا

الزائغ راجع دفاتر خزائن دار السلطنة المحروسة، ودفاتر خزائن كتب مصر الخديوية وغيرها، وخزائن كتب الشام والعراق والهند وغير ذلك، حتى لا يهذي ذلك الهذيان، وأظنه رأى بياضاً في مواضع من كتاب (المنهاج) وكتاب (العقل والنقل) فقال ما قال، مع أن عدداً كثيراً من كتاب (المنهاج) في خزائن كتب دار السعادة وكلها بأحسن خط وأتقن ضبط، وفي الهند ونجد مثل ذلك، وكتاب (العقل والنقل) أيضاً كذلك، وفي خزانة راغب باشا في قسطنطينية المحروسة نسخة منه، يظن أنها بخط مؤلفها، وهي نسخة تامة كاملة لا نقص فيها. والذي طبع كتاب (المنهاج) وما في الحاشية لم يتيسر له سوى ما طبع عليها، وإني أبشّر جناب الشيخ النبهاني أن كتب الشيخ تقي الدين وأصحابه ستستوعبها المطابع المصرية والهندية ولا يبقى منها شيء في زوايا الإهمال كما زعم، وحينئذ يرغم أنفه1. ونقول رابعاً: إن انتشار الكتب وتداولها بين الأيدي لا تعلق له ببدعة ولا سنة فكم قد رأينا كتاباً، مشحوناً بالبدع ومصنفه من شيوخ المبتدعة ومع ذلك قد انتشر أكثر من انتشار كثير من كتب السنة، هذا (الكشاف) الذي صنفه الزمخشري وحاله معلوم في الاعتزال وتفسيره مشحون ببدع المعتزلة وآرائهم ومع ذلك قد انتشر انتشاراً لم يعهد مثله لتفسير آخر، والناس يستفيدون منه وينقلون عنه من عصر مصنفه إلى يومنا هذا، والمفسرون الذين بعده كلهم عيال عليه، فأي تأثير للبدعة في انتشار الكتب وعدم انتشارها. وهذا كتاب (المفتاح) للسكاكي المعتزلي لم يزل أهل العلم يستفيدون من فوائده ويقرؤونه من عصر مصنفه إلى الآن، وقد عمت بركته القاصي والداني، وفيه من نزغات المعتزلة وبدعهم ما فيه ولم يصادم ذلك انتشاره.

_ 1 وقد طبعت الآن في هذا العصر جل كتبه، عدة طبعات، وحققها الكثير من العلماء وطلبة العلم والأساتذة المختصين، بل إن الكتاب الواحد يطبع عشرات- إن لم نقل مئات الطبعات في عدة مطابع.

وهذه كتب الماوردي، وهو إمام من أئمة الشافعية، وكان على طريقة أهل الاعتزال، وكتبه عم النفع بها وكثرت بركتها، فهلا اقتضت بدعة مصنفها بقاءها في زوايا الخمول؟ وهكذا كتب الروافض، والزيدية، والقدرية، والظاهرية، وكتب الجاحظ المعتزلي الشهير، وغيرها مما ليس هذا المقام مقام استقصائه. والمقصود؛ أن كلام النبهاني في حق كتب الشيخ تقي الدين لا وجه له، بل هو دليل على جهله، وتعصبه للباطل، واتباعه لهواه، وإن قوله هذا لا يصدر عن طفل مبتدىء في العلم، ولكن الله تعالى سبحانه فضحه بسبب تطاوله على خير عالم في الزمان الأخير، ولم يلتفت إلى ما هو فيه من المسلك والحال الذي ينبغي أن يرثي له من يشفق عليه، وباقي كلامه من هذا القبيل، فلا نتعب البنان بالتطويل. وأعقب كلامه هذا بكلام ذكر فيه التحذير من موافقة ابن تيمية، ثم أعقبه بكلام ذكر فيه أنه ينبغي حمل أقوال هؤلاء من الجانبين على حسن النية، وبقي يخبط خبط عشواء فهو (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً) ، وكل ذلك باد عواره لأقل من له بصيرة ونظر، على أنه قد تكرر منا إبطاله، والله ولي الهداية والتوفيق. قال النبهاني عامله الله بعدله: الباب السادس: في نقل حكايات وآثار وردت عن العلماء والصالحين في الفوائد التي حصلت لهم من الاستغاثة بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، قال: أخذت ذلك مما نقله الثقات، وذكره الأئمة الثلاثة الأثبات، أبو عبد الله بن النعمان الفاسي في كتابه "مصباح الظلام"، والقسطلاني في كتابه "المواهب اللدنية"، ونور الدين الحلبي في كتابه "بغية الأحلام"، وغيرهم، وذكر في الفصل الأول من هذا الباب من استغاث به صلى الله عليه وسلم للمغفرة وغيرها، وذكر فيه قصة الأعرابي الذي قال: يا خير من دفنت في القاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وذكر قصصاً أخرى من هذا القبيل. وذكر في الفصل الثاني من استغاث به صلى الله عليه وسلم من الأسرى ونحوهم ممن انقطع في البراري والبحار، أو وقع في غير ذلك من الشدائد والأسقام، وما أشبه ذلك من خوارق عاداته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وذكر في هذا الفصل حكايات كثيرة عن أناس استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حاجات كثيرة، فقضيت لهم، وكذلك استغاثوا ببعض الصالحين فحصل مقصودهم، ونقل عن الشيخ أحمد الرفاعي أنه قال: من كان له حاجة فليستقبل عبادان نحو قبري ويمشي سبع خطوات ويستغيث بي فإن حاجته تقضى. إلى غير ذلك من الخرافات التي يستقل لديها ما كان المشركون يفعلونه مع أصنامهم. والجواب عن ذلك كله ما ذكره شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أهل الجحيم) بعد أن ذكر نحو تلك الشبه والحكايات عمن استدل بها من الغلاة، قال رحمه الله: "إنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه، وأما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك بها حتى تثبت، فكيف بالمنقول عن غيره؟ ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطىء أو يصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه فحرف النقل عنه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في زيارة القبور بعد النهي فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة التي يفعلونها، من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها، ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل يجوز إثبات الشرع به أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها، وتركه مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله، وإنما يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس- من غير نقل عن الأنبياء- النصارى وأمثالهم، وإنما المتبع في إثبات أحكام الله عز وجل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصاً أو استنباطاً بحال. قال: والجواب عنها من وجهين مجمل ومفصل:

أما المجمل؛ فالنقض، فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير، بل المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحياناً كما يستجاب لهؤلاء أحياناً، وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة، فإن كان هذا وحده دليلاً على أن الله تعالى يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل، وذلك كفر متناقض، ثم إنك تجد كثيراً من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر أو غيره كل منهم قد اتخذ وثناً أحسن به الظن وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعاً، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعاً جمع بين الأضداد، فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم وانصرافهم عن غيره، وموافقتهم جميعاً فيما يثبتونه دون ما ينفونه يضعف التأثير على زعمهم، فإن الواحد إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا لم يكن تأثيره مثل تأثير الحسن الظن بواحد دون آخر، وهذه كلها من خصائص الأوثان". ثم ذكر رحمه الله الجواب المفصل وأطنب فيه كما هي عادته، ومما قال فيه: "وأما التحريم من جهة الطلب فيكون تارة لأنه دعاء لغير الله، مثل ما يفعله السحرة في مخاطبة الكواكب وعبادتها ونحو ذلك، فإنه قد يقضي عقب ذلك أنواع من القضاء إذا لم يعارضه معارض من دعاء أهل الإيمان وعبادتهم أو غير ذلك، ولهذا تنفذ هذه الأمور في زمان فترة الرسل وفي بلاد الكفر مالا تنفذ في دار الإيمان وزمانه، ومن هذا أني أعرف رجالاً يستغيثون ببعض الأحياء في شدائد تنزل بهم فتفرج عنهم، وربما يعاينون أموراً وذلك المستغاث به لم يشعر بذلك ولا علم به البتة، وفيهم من يدعو على أقوام ويتوجه في إيذائهم فيرى بعض الأحياء أو بعض الأموات يحول بينه وبين إيذاء أولئك، وربما رآه ضارباً له بالسيف، وإن كان الحائل لا شعور له بذلك، وإنما ذلك من فعل الله بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع من اتباع له وطاعة فيما يأمره من طاعة الله ونحو ذلك، فهذا قريب، وقد يجري لعباد الأصنام أحياناً من هذا الجنس المحرم ما يظنونه محبة من الله بما

تفعله الشياطين لأعوانهم؛ فإذا كان الأثر قد يحصل عقب دعاء من قد تيقنا أنه لم يسمع الدعاء فكيف يتوهم أنه هو الذي تسبب في ذلك أو أن له فيه فعلاً؟ وإذا قيل: إن الله يفعله بذلك السبب فإذا كان السبب محرماً لم يجز كالأمراض التي يحدثها الله عقب أكل السموم، وقد يكون الدعاء المحرم في نفسه دعاء لغير الله أن يدعو الله، كما قال النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله، وقد يكون دعاء لله لكنه توسل إليه بما لا يحب أن يتوسل به، كالمشركين الذين يتوسلون إلى الله بأوثانهم، وقد يكون دعاء لله بكلمات لا يصلح أن يناجي بها الله ويدعي بها لما في ذلك من الاعتداء، فهذه الأدعية ونحوها وإن كان قد يحصل لصاحبها أحياناً غرضه ولكنها محرمة لما فيها من الفساد الذي يربي على منفعتها، ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده الله وينور قلبه، ويفرق بين أمر التكوين وأمر التشريع، ويفرق بين القدر والشرع، ويعلم أن الأقسام ثلاثة: أمور قدرها الله وهو لا يحبها ويرضاها، فإن الأسباب المحصلة لهذه تكون محرمة موجبة لعقابه. وأمور شرعها، فهو يحبها من العبد ويرضاها، لكن لم يعنه على حصولها، فهذه محمودة عنده مرضية وإن لم توجد. والقسم الثالث: أن يعين الله العبد على ما يحبه منه. فالأول إعانة الله، والثاني عبادة الله، والثالث جمع له بين العبادة والإعانة كما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فما كان من الدعاء عين المباح إذا أثر فهو من باب الإعانة لا العبادة، كسائر الكفار والمنافقين والفساق، ولهذا قال تعالى في مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} 1 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر. ومن رحمة الله تعالى أن الدعاء المتضمن شركاً كدعاء غيره أن يفعل ودعائه

_ 1 سورة التحريم: 12.

أن يدعو أو نحو ذلك لا يحصل غرض صاحبه، ولا يورث حصول الغرض من شبهة إلا في الأمور الحقيرة، فأما الأمور العظيمة؛ كإنزال الغيث عند القحوط، أو كشف العذاب النازل، فلا ينفع فيه هذا الشرك، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 1. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} 2 وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} 3. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 4. وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 5. فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا الله سبحانه دل على توحيده وقطع شبهة من أشرك به، وعلم بذلك أن ما دون هذا من الإجابات أيضاً إنما فعله هو وحده لا شريك له وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة، كما أن خلقه السموات والأرض والرياح والسحاب وغير ذلك من الأجسام العظيمة دل على وحدانيته وأنه خالق لكل شيء، وأن ما دون هذا بأن يكون خالقاً له أولى، إذ هو منفعل عن مخلوقاته العظيمة، فخالق السبب التام خالق للمسبب لا محالة. وجماع الأمر؛ أن الشرك نوعان: شرك في ربوبيته بأن يجعل معه لغيره تدبير ما، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي

_ 1 سورة الأنعام: 40- 41. 2 سورة الإسراء: 67. 3 سورة النمل: 62. 4 سورة الإسراء: 56- 57. 5 سورة الزمر: 43- 44.

السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 1 فبين أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالاً، ولا يشركونه في شيء من ذلك، ولا يعينونه على ملكه، ومن لم يكن مالكاً ولا شريكاً ولا عوناً فقد انقطعت علاقته. وشرك في الألوهية، بأن يدعى غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فكما أن إثبات المخلوقات أسباباً لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعى المخلوق دعاء عبادة أو دعاء استعانة، كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره أسباباً لا يقدح في توحيد الإلهية، ولا يمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، وهو يوجب أن لا تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك إذا كان الله يسخط من ذلك ويعاقب العبد عليه، وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته، إذ قد جعل الخير كله في أنا لا نعبد إلا إياه، ولا نستعين إلا إياه، وعامة آيات القرآن لتثبيت هذا الأصل، حتى أنه تعالى قطع أثر الشفاعة بدون إذنه، كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2 وكقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3 وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيع} 4 وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} الآية 5. وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 6. وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان. وكذلك قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا

_ 1 سورة سبأ: 22. 2 سورة البقرة: 255. 3 سورة الأنعام: 51. 4 سورة الأنعام: 70. 5 سورة الأنعام: 71. 6 سورة الأنعام: 94.

شَفِيعٍ} 1 وقوله تعالى: {َالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 3 وسورة الزمر أصل عظيم في هذا. ومن هذا قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 4. وكذلك قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} 5. والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول" انتهى ما هو المقصود. وقال أيضاً في أثناء جوابه المفصل بعد أن تكلم بكلام يتعلق بحكم الدعاء عند القبر ما نصه: "ولم يذكر عن أحد من الأئمة أنه استحب أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت، لا استغفاراً ولا غيره، وكلامه المنصوص عنه- أي الإمام مالك- وعن غيره ينافي هذا، وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 6 وأنشد بيتين: يا خير من دفن في القاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم

_ 1 سورة السجدة: 4. 2 سورة الزمر: 3. 3 سورة الزمر: 43- 44. 4 سورة الحج: 11- 13. 5 سورة العنكبوت: 41. 6 سورة النساء: 64

ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي، لاسيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم، بل قضاء الله حاجة مثل هذا الإعرابي وأمثاله لها أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع، وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً مأموراً به، فقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلاً، وتكون المسألة محرمة في حق السائل، حتى قال: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً". قالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: "يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل"1. وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالماً أنه منهي عنه فيثاب على قصده ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع. وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة، بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهى عنها" انتهى ما قصدنا نقله2. والحاصل؛ أن ما ذكره النبهاني في هذا الباب من استغاثة بعض الناس بالموتى وأن مقاصد المستغيثين حصلت وأورد حكايات كثيرة شاهدة له بذلك كلام ساقط، فإن تلك الحكايات لو سلمت من الكذب والافتراء فلا تدل على المقصود من جواز الاستعانة والاستغاثة بغير الله تعالى، فإن الاستغاثة كما ذكرنا سابقاً دعاء والدعاء مخ العبادة، وهي لا تصلح إلا لله، ومن عبد غيره فقد أشرك. ثم إن أصحاب تلك الحكايات ليسوا ممن يحتج بقولهم، فهم ليسوا بأنبياء ولا صحابة ولا من الأئمة المجتهدين المشهورين، والدين لا يثبت بفعل أمثال من ذكرهم من العوام والجهلة وبعض المتصوفة الغلاة، وقد ذكرنا سابقاً أن الدليل

_ 1 أخرجه أحمد (3/4،16) وقد تقدم في الجزء الأول من الكتاب. 2 "اقتصاد الصراط المستقيم" (2/ 766- 768) .

ينبغي أن يكون من الكتاب والسنة وإجماع المجتهدين والفقهاء. وأما أن المستغيثين قد نالوا مقصدهم ممن استغاثوا به من الأموات -كالأنبياء والأصفياء والأولياء- فمثل ذلك لا يدل أيضاً على مشروعية الاستغاثة كما ذكره الشيخ، فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء لا يحصيها على الحقيقة إلا هو، أما أعيانها فبلا ريب، وكذلك أنواعها أيضاً لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى، ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم، وينهون عما فيه فسادهم، ولا يشغلونهم في الكلام بأسباب الكائنات كما يفعل المتفلسفة، فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر. ومثال النبي مثال طبيب دخل على مريض فرأى مرضه فعلمه، فقال له اشرب كذا واجتنب كذا، ففعل ذلك فحصل غرضه من الشفاء، والمتفلسف قد يطول معه الكلام في سبب ذلك المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه، ولو قال له المريض فما الذي يشفيني منه لم يكن له بذلك علم تام، والكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف عقله ودينه، بحيث يختطف عقله فيتألهه إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين، ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال فلا منفعة فيه، أو أنه وإن أثر فضرره أكثر من نفعه. ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطراً ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب، لصدق توجهه إلى الله تعالى، وإن كان تحرى الدعاء عند الوثن شركاً، ولو كان قد استجيب له على يد المتوسل به صاحب القبر أو غيره لاستغاثته فإنه يعاقب على ذلك ويهوى به في النار إذا لم يعف الله عنه، كما لو طلب من الله عز وجل ما يكون فتنة له، كما أن ثعلبة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بكثرة المال ونهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مرة بعد مرة فلم ينته حتى دعا له كان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة، فكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان سبب هلاكه في

الدنيا والآخرة، تارة بأن يسأله ما لا يصلح له مسألته كما فعل بلعام بن باعورا وثعلبة وخلق كثير دعوا بأشياء فحصلت لهم وكان فيها هلاكهم، وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله كما قال سبحانه وتعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1 فهو سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين في صفة الدعاء ولا في السؤال، ولكن حاجتهم قد تقضى، كأقوام ناجوا الله تعالى في دعواتهم بمناجاة بها جراءة على الله واعتداء لحدوده، وأعطوا طلبتهم فتنة، ولما يشاء الله سبحانه وتعالى بل أشد من ذلك، ألست ترى السحر والطلسمات والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضى بها كثير من أغراض النفوس، ومع هذا فقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2 فإنهم معترفون بأنه لا ينفع في الآخرة، وأن صاحبه خاسر في الآخرة، وإنما يتشبثون بمنفعته في الدنيا لا غير، وقد قال تبارك وتعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} . وكذلك أنواع من الداعين السائلين قد يدعون دعاء محرماً يحصل معه ذلك الغرض ويورثهم ضرراً أعظم منه، وقد يكون الدعاء مكروهاً ويستجاب له أيضاً. ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه، بأن يكون فيه مجتهداً أو مقلداً، كالمجتهد والمقلد اللذين يعذران في سائر الأعمال المعذور فيها، وغيره قد يتجاوز عنه في ذلك الدعاء لكثرة حسناته وصدق قصده، أو لمحض رحمة الله عز وجل به أو نحو ذلك من الأسباب، لكن الذي يستغيث بغير الله تعالى ويدعوه فهو مشرك، وإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن كان جاهلاً بهذا الحكم فيرجى له من الله العفو.

_ 1 سورة الأعراف: 55. 2 سورة البقرة: 102- 103.

وما نقله النبهاني عن شيخه الرفاعي فإن صح نقله، وأن أحمد الرفاعي قال: من كانت له حاجة فليستقبل عبادان نحو قبري، ويمشي سبع خطوات ويستغيث بي فإن حاجته تقضى- فليس فيه دليل، لأن الرفاعي لم يكن نبياً ولا رسولاً يوحى إليه، بل كان فرداً من أفراد الأمة وواحداً منهم، وكان من ضعفاء المقلدين للإمام الشافعي رحمه الله، ولو قال صاحب مذهبه قولاً ليس عليه دليل لرد عليه فكيف بهذا المسكين، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهذا الكلام الذي أسنده النبهاني لأحمد الرفاعي؛ إن كان قاله جهلاً فالمرجو من الله أن يغفر له خطيئته ويعفو عن زلله، وإن كان قاله بعد قيام الحجة عليه وظهور البرهان على فساده وبطلانه فقد ذكرنا حكمه فيما سبق، وحسن الظن بأحمد الرفاعي أن ينزه عن قول الهذيان، ومثل هذا البهتان، كيف يدّعي الربوبية وقد كان رضي الله عنه أعور العين وكل أحد يعلم أن الله ليس بأعور، وكل هذه الدعاوي الباطلة من النبهاني الشيطاني تقرباً إلى شيخه دجال العصر، فإنه أحد مردته، على أنه إن صح نسبة كتاب البرهان المؤيد للرفاعي فهو يبطل ما نسبه إليه النبهاني، فإن فيه ما هو خلاف هذا وهو حصر أنواع العبادة كلها لله، ولكن الذي نسب هذا الكتاب إليه دجال العصر شيخ الضلال منبع الكذب والافتراء، وكم له من مثل هذه المكايد والدسائس، وما أحسن ما قال الموصلي في مثله: وفظ غليظ القلب أيقنت أنه ... على النفس ما شيء أشد من الفض تعرفني في حاله الناس كلها ... وإني لأدرى الناس في لؤمة المحض وقالوا لقد دس الخبيث بلفظه ... غداة عرضت الشعر من عرض العرض دسائس لا تدري اليهود بعشرها ... دعته طباع السوء للنهش والعض يهون لدغ العقربان بلدغه ... ولا شك بعض الشر أهون من بعض إذا ما رأته العين أيقنت له ... تخلق من حقد وصور من بغض وكم قد انتحل له كتاباً وافترى له دعاوى باطلة، وتسمية ذلك بالبرهان المؤيد لصاحب مداليد أوضح دليل على الانتحال، فإن أحمد الرفاعي لم يدع

مداليد تلك الدعوى الكاذبة حتى يجعلها جزءاً من علم كتابه، ودجال العصر نسب إليه وإلى أصحابه كثيراً من الكتب المشحونة بالكذب وقول الزور، ولم نر أحداً ممن ترجمه ذكر أن له كتاباً سماه البرهان المؤيد لصاحب مداليد، ولا ذكروا له غيره من الكتب التي انتحلها له ذلك الزائغ، وما أحسن ما قال القائل: لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيله من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليله وهذا الخبيث له من المكائد والحيل ما يعجز الشيطان عن مثلها، كما فصل بعض ذلك في كتاب المسامير الذي ألف في بيان فضائحه ومساويه وخبائثه، وقد سرى شره إلى جميع مردته والمنتسبين إليه، ومنهم النبهاني الزائغ. لقد جربتم فرأيت منهم ... خبائث بالمهيمن نستجير وهذا اللعين يدعي النسبة لابن الصياد ولعله اليهودي الشهير وأفعاله تصدقه في ذلك. إن فاتكم أصل امرىء ففعاله ... تنبيكم عن أصله المتناهي وهو اليوم أعظم بلاء على المسلمين، قد أضر الدولة والملة، وبواسطته توسد الأمور غير أهلها، وأضر بيت مال المسلمين. ولو كان هذا موضع القول لاشتفى ... به القلب لكن للمقال مواضع ادعى الشرف وهو ليس بشريف، وادعى أنه شيخ الطريقة وذكره تصفيق ورقص وضرب دف وإباحة المحرمات والمنكرات، وما أحسن ما يقول الموصلي: ألا بلغ جناب الشيخ عني ... رسالة متقن بالأمر خبرا وسل منه غداة يهز رأساً ... بحلقة ذكره ويدير دبراً أقال الله صفق لي وغن ... وقل كفراً وسم الكفر ذكراً وأي ولاية حصلت بجهل ... ومن ذا نال بالكفران أجراً

فإن قلت اجتهدت بكل علم ... فأعرب لي إذا لاقيت عمراً وما يكفيك هذا الفعل حتى ... كذبت على النبي وجئت نكراً متى كانت هيازع من قريش ... فعددها لنا بطناً وظهراً فلو تكن السيادة باخضرار ... لكان السلق أشرف منك قدراً وأنت شققت للباري شريكاً ... فيملك دونه نفعاً وضرا فويلك قد كفرت ولست تدري ... ولم تبرح على هذا مصرا وويحك ما العبادة ضرب دف ... ولا في طول هذا الذقن فخرا برؤيتك الأنام تظن خيراً ... ولو عقلت لظنت فيك شرا والمقصود؛ أن ما ذكره النبهاني الشيخ الشيطاني مما يتعلق بباب الاستغاثة كله لا دليل له فيه، بل الدليل قام على خلاف قوله، وأن أقوال الرفاعي وأمثاله لا تصلح للاستدلال، فإن هؤلاء ليسوا ممن يقتدي بأقوالهم وأفعالهم، وأن اتباعهم كذبوا لهم وعليهم كذباً كثيراً لم يبق معه الوثوق بما ينقل عنهم فضلاً عن أن يجعل برهاناً لمثل هذه المطالب العالية. وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع قال النبهاني: (الباب السابع) في جملة من الأدعية الواردة عن بعض أكابر الأولياء في أحزابهم وكتبهم قد استغاثوا فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى لقضاء حاجاتهم، ومنها ما هو مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الباب هو حزب عظيم. وذكر كلاماً طويلاً وأقوالاً كثيرة، منها صلوات على النبي صلى الله عليه وسلم ولا كلام لنا فيها وليست من مجال النزاع، ومنها توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب من الله والكلام ليس فيه أيضاً، ومنها ما هو استغاثة بمخلوق وطلب منه ودعاء من غير الله وهو المقصود بالبحث، نقله عن مثل الشيخ ناصر الدين بن سويدان، وأبي الحسن البكري، والشعراني، وأضرابهم ممن لا يحتج بمثله. فالجواب عن ذلك كله: أنا لم ندع أن جميع العالم موحدون، وهيهات

ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1 وقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2. وما ذكره النبهاني إنما يصلح في الرد على من يدّعي أن الناس كلهم موحدون، وليس فيهم من يلتجىء إلى غير الله أو يستغيث بمن سواه، وحينئذ فكلامه الذي أورده يصلح جواباً عن تلك الدعوى، ثم إن المانعين من الاستغاثة بغير الله ونحوها لهم تفصيل يجب معرفته والوقوف عليه، ليكون الواقف على بصيرة من أمره، حتى لا يخبط في كلامه خبط عشواء كما خبط النبهاني. وقد ورد لشيخ الإسلام تقي الدين سؤال في هذا الباب، فأجاب بأحسن جواب، وهذا نص السؤال وجوابه3: "سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وفقهم الله لطاعته فيمن يقول لا يستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم هل يحرم عليه هذا القول؟ وهل هو كفر أم لا؟ وإن استدل بآيات من كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هل ينفعه دليله أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من يخالف ذلك؟ أفتونا مأجورين. الجواب: الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم، وأنه يشفع لهم. ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد. وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين وهؤلاء مبتدعة ضلال، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل، وأما من أنكر ما

_ 1 سورة الأنعام: 116. 2 سورة يوسف: 106. 3 "مجموعة الفتاوى" (1/ 83- وما بعدها) الطبعة الجديدة.

ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة، وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه، وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس: "أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون". وفي سنن أبي داود وغيره: "أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك"1. وذكر تمام الحديث، فأنكر قوله نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله بل أقره عليه، فعلم جوازه، فمن أنكر هذا فهو ضال مخطىء مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل. وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك ولكن قال لا يدعى إلا الله وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه- مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك- فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} 2 وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3 وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 4 وكما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 5. وقال: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ

_ 1 هذا الحديث والذي قبله تقدم تخريجهما. 2 سورة آل عمران: 135. 3 سورة القصص: 56. 4 سورة فاطر: 3. 5 سورة آل عمران: 126.

نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1. فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، والعبارة الدالة على المعاني نفياً وإثباتاً إن وجدت في كلام الله ورسوله وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه وإلا رجع فيه إليه، وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله، فهذا يرد عليه فهمه، كما روى الطبراني في "معجمه الكبير" أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا لنستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله"2. فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به، كما في "صحيح البخاري"3 عن ابن عمر، قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب. ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء الله تعالى يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان جعل على يدي غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى، ولغيره مجاز، قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة، قالوا: واجتمعت الأمة على ذلك.

_ 1 سورة التوبة: 40. 2 أخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (10/ 159) . وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح؛ غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث". 3 تقدم في الجزء الأول.

وقال أبو عبد الله الحليمي: الغيّاث هو المغيث، وأكثر ما يقال غيّاث المستغيثين ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم. وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا". يقال: أغائه إغاثة وغياثاً وغوثاً، وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 1 إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر. قالوا: الفرق بين المستغيث والدّاعي؛ أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو والمغيث، وهذا فيه نظر، فإن من صيغة الاستغاثة بالله للمسلمين، وقد روى عن معروف الكرخي أنه كان يكثر أن يقول: واغوثاه، ويقول: إني سمعت الله يقول: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} . وفي الدعاء المأثور: "يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك"2. والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة ففي الحديث: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"3. وفيه: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"4. ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله: (أعوذ بكلمات الله التّامات) قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق. وكذلك القسم قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان حالفاً

_ 1 سورة الأنفال: 9. 2 أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (570) وابن السني (48) والحاكم (1/545) وغيرهم، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (رقم: 654) . 3 أخرجه مسلم (2708) . 4 أخرجه مسلم (486) .

فليحلف بالله أو ليصمت"1. وفي لفظ: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 2، رواه الترمذي وصححه. ثم قد ثبت في الصحيح الحلف بعزة الله3، ولعمر الله4، ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذي نهي عنه، والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم. ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطىء ضال. وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضاً مما يجب نفيه، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر، إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي المشهور بالديار المصرية: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وفي دعاء موسى عليه السلام: "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك". ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق وكان مختصاً بالله صح إطلاق نفيه عما سواه، ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله. وكذلك الاستعانة أيضاً فيها ما لا يصلح إلا لله، وهي المشار إليها بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله، وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال الله تعالى:

_ 1 أخرجه البخاري (6646) ومسلم (1646) من حديث عبد الله بن عمر. 2 أخرجه الترمذي (1535) وأبو داود (3251) . 3 "صحيح البخاري" (11/545- فتح) تعليقاً. وانظر رقم (7384) . 4 "صحيح البخاري" (6662) .

{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 1 والنصر المطلق هو خلق ما به يغلب العدو، ولا يقدر عليه إلا الله، ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة فإنه يكون إما كافراً وإما فاسقاً وإما عاصياً، إلا أن يكون مؤمناً مجتهداً مخطئاً فيثاب على اجتهاده ويغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة، فإن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 2 وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها فإنه يعاقب بحسب ذلك إما بالقتل وإما بدونه، والله أعلم".

سؤال آخر وجواب الشيخ أيضا عنه متعلق بهذا الباب

(سؤال آخر وجواب الشيخ أيضاً عنه متعلق بهذا الباب) سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه عمن قال يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث بالله فيه، وأن من نفى الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم يكفر، لأنه نقص من قدره وما يستحقه، إلى آخر ما قال. فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "الحمد لله رب العالمين، لم يقل أحد من المسلمين أنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى لا بنبي ولا بملك ولا صالح ولا غير ذلك، بل هذا ما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه، ولم يقل أحد أن التوسل بشيء هو الاستغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم نتوسل إليك بحق الشيخ فلان أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم أو بالكعبة أو غير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب

به، وكل أحد يفرق بين المدعو به والمدعو، والاستغاثة طلب الغوث وهو إزالة الشدة، والاستنصار طلب النصرة، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه، كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّين} 1 وقال: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2 وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 3 وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله. ولهذا كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستسقون به ويتوسلون به، كما في صحيح البخاري "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"4. وفي سنن أبي داود: "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فقال: شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"5. فأقره على قوله ونستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله نستشفع بالله عليك، وقد اتفق المسلمون على أن نبينا صلى الله عليه وسلم شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وعند الوعيدية إنما يشفع في زيادة الثواب. وقول القائل: إن من قال أتوسل إليك برسولك فقد استغاث برسوله حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، ويفرقون بين المسؤول والمسؤول به، سواء استغيث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على التصرف به، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في

_ 1 سورة الأنفال: 72. 2 سورة القصص: 15. 3 سورة المائدة: 2. 4 تقدم تخريجه. 5 تقدم.

مثل ذلك، ولو قال قائل لمن يستغيث به أسألك بفلان أو بحق فلان لم يقل أحد أنه استغاث بمن توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله. ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال، والتوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم سواء سمي استغاثة أو لم يسم لا يعلم أحد من السلف فعله، ولا يروي فيه أثر، ولا يعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ عز الدين من المنع. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن، رواه النسائي والترمذي وغيرهما؛ "أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري فادع الله لي، قال له النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصل ركعتين وقل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: أتوسل إليك بنبيك، يا محمد إني أتشفع إليك في رد بصري اللهم شفعه فيّ". فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له فسأل الله أن يشفعه فيه، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان لك حاجة فمثل ذلك" فرد الله بصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ عز الدين بن عبد السلام التوسل به. وللناس في معنى ذلك قولان: أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: "كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فأسقنا فيسقون". فقد ذكر أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به بحيث يدعو ويدعون معه ويكون وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة به بعد موته ولا في مغيبه، والنبي كان في مثل ذلك شافعاً داعياً. القول الثاني: أن التوسل به يكون في حياته وبعد موته ومغيبه وحضرته، ولم يقل أحد من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية وليست أدلتها جلية، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المجمع عليها، واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا

يشرع كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح، وليس ذلك من مسائل السبب. وأما من قال: إن من نفى التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله- فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين، لاسيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". وأما من قال مالا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون- لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". وإذا نفى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه أمراً كان هو الصادق المصدوق في ذلك كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيماً له أشبه النصارى الذين كذبوا المسيح بإخباره عن نفسه بالعبودية تعظيماً له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك البتة، والله أعلم". ففي كلام الشيخ ما يرد على النبهاني من وجوه كثيرة، فإن النبهاني لم يفرق في شبهه التي أوردها بين التوسل والاستغاثة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جعل كلا من التوسل والصلاة التي ذكرها العلماء في أحزابهم استغاثة، وقال إن العلماء استغاثوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرق أيضاً بين قسمي الاستغاثة اللذين ذكرهما الشيخ. والحاصل: أن في كلام الشيخ ما يرد على القبوريين من وجوه:

الوجه الأول: أن قول الشيخ: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن يريد بالتوسل ما ذكره هو في كلامه، لا يريد التوسل في عرف النبهاني وعباد القبور، وهو دعاء المخلوق والاستغاثة به، وإنما يريد به سؤال الله تعالى أن يشفع عبده فيه بإجابة دعائه لهذا السائل، وأرشده في هذا التوسل إلى الله بالصلاة التي هي أفضل العبادات البدنية، وأن يوحده بالدعاء والمسألة في أن يقبل شفاعة نبيه أي دعاءه له، وهذا ليس الكلام فيه، وليس من توسل عباد القبور، وتقدم قول الشيخ أن هذا لا يسمى استغاثة، وفرق بين التوسل والاستغاثة. الوجه الثاني: أن الذي رجح الشيخ ومن وافقه من المحققين أن هذا خاص في حياته، لأن المقصود به شفاعته بالدعاء، كما كان يستغفر لأصحابه ويدعو لهم، وهذا هو الذي فهمه الفاروق، وناهيك به، فإنه قال: "كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا" وهو صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهم فتجاب دعوته، وبعد موته لا يشرع طلب الدعاء منه، لأن عمر عدل إلى العباس ولم ينكره منكر، ولم يذهب إلى القبر الشريف أحد من أفاضل الأمة وأكابرها، مع أن قبره صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وهذا اتفاق على تصويب عمر ومتابعته، وهذا من باب التنزل، وإلا فعدم مشروعية هذا في سائر الكتب السماوية معلومة من الدين بالضرورة. الوجه الثالث: أن الحديث إن صح فهو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم عند من قال بالجواز كابن عبد السلام، فسؤال الله بغيره لم يقل به أحد ممن حكى الشيخ قولهم بالجواز، قال الشيخ: ولا يعلم أحد من السلف فعله، ولا روي فيه أثر، ولا يعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ عز الدين من المنع، وعباد القبور يسألون الله بجاه من اعتقدوا فيه، بل آل الأمر إلى أن يسأل الله تعالى بجاه كل من رفع قبره وجعلت عليه قبة، بل وبالبله والمجانين الذين يعتقدهم عباد القبور.

ما يعارض به ما أورده النبهاني مما فيه استغاثة والتجاء بغير الله تعالى

(ما يعارض به ما أورده النبهاني مما فيه استغاثة والتجاء بغير الله تعالى) اعلم أن ما ذكره النبهاني من الأحزاب ليس في جميعها ما يدل على ما زعمه، فقد ذكرنا أن بعضها مشتمل على توسل والتوسل غير الاستغاثة على ما حققه الشيخ، ومنها ما فيه صلوات وهي أيضاً من هذا القبيل، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لها فوائد عظيمة ذكرها الحافظ ابن القيم في كتابه (جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام) ومنها ما فيه مقصده ولكن لا يحتج بقول أصحابها، وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم، وقد فصلنا الكلام في ذلك بعض التفصيل بحمد الله. ونحن نورد في هذا المقام ما نعارض به كلام هؤلاء الذي أورده النبهاني بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام المتبعين له:- (أما القرآن الكريم) وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فأعظم مقاصده إفراد الإله سبحانه وتوحيده بخصائصه، فلا تجد سورة من السور إلا وهي منادية على وجوب توحيده وإفراده بالعبادة، وترى الأدعية والأذكار التي اشتمل عليها القرآن كلها خالصة لله كقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 1 وكقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 2. وهكذا أدعية نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وموسى وعيسى، وغيرهم من الأنبياء والرسل كلهم، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، وليس فيها التجاء إلى غيره، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، بل

_ 1 سورة البقرة: 286. 2 سورة آل عمران: 193- 194.

كلهم أخلصوا الدعاء له، وخصوه بالالتجاء والاستغاثة والاستعانة دون من سواه، فلو استوعبنا ذكر ذلك كله طال الكلام وضاق عنه المقام. ونحن نذكر بعض السور والآيات الناطقة بوجوب الالتجاء إلى الله وعدم الميل إلى ما سواه مع بيان ما قاله المفسرون وأهل العلم في تفاسيرهم، والقرآن كله يدل على وجوب عبادة الله والبراءة من عبادة ما سواه، وإسلام الوجوه له على اختلاف أنواع الدلالات مطابقة وتضمناً والتزاماً وقياساً صحيحاً. ومن أمثلة ذلك ما قاله أهل العلم في معنى البسملة وتفسيرها، قالوا في الباء من (بسم الله) إن معناها الاستعانة، ورجحوا هذا القول لوجوه مقررة في محلها، وقالوا: قد جاءت السنة بأن "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه (ببسم الله الرحمن الرحيم) فهو أبتر أو أجذم أو أقطع"1 وذكروا فيه روايات، والمعنى أنه لا يكمل أمر ولا يحصل تمامه إلا بذكر الله، ولا يكون أصله ولا يوجد منه شيء إلا بمعونته. قالوا: وقد قالت طائفة من أهل العلم أن البسملة من الفاتحة، وقالت طائفة أخرى هي آية من القرآن فاصلة بين السور. وعلى القول الأول: فالإتيان بها من العبادات الواجبة، والاستعانة هي مضمونها، فتكون واجبة به تعالى. وعلى القول الآخر: يكون الإتيان بها مستحباً والاستعانة بالله واجبة لا بخصوص هذا اللفظ. ثم قالوا: إن المتعلق يتعين أن يقدر مؤخراً لإفادة الحصر والاختصاص، وهذا يدل على القول بوجوب الاستعانة، لأن ما اختص به تعالى واستحقه دون ما سواه لا يصرف لغيره، والقاعدة العربية تفيد أن تقديم المتأخر وتأخير المتقدم يقتضي الحصر، فهذان موضعان يدلان على وجوب الاستعانة به وحده في أول حرف من كتاب الله مع متعلقة.

_ 1 وهو حديث ضعيف؛ انظر: "الإرواء" (1، 2) .

الموضع الثالث من الأبحاث: في الباء وتأخير متعلقها، قولهم: إن الحصر هنا حصر إفراد وقصره لا قصر قلب، ورجحه أساطينهم بأن المشركين إنما اعتقدوا الشركة لآلهتهم لا الاستقلال، فالحصر باعتبار معتقدهم حصر إفراد، قالوا وأكثر الكفار اعتقدوا الشركة لآلهتهم لا الاستقلال، فمعنى التسمية عند الموحد إفراده بالاستعانة عما عبد معه من الآلهة، وعلى القول بأن الاختصاص والحصر للقلب إنما يتجه باعتبار معتقد من يدعي الاستقلال لمعبوده كمعطلة الصانع. البحث الرابع في اسم الله " قولهم: إنه من أَلِهَ إلهة وألوهية، فهو إله فعّال، بمعنى مفعول بمعنى عبد يعبد عبادة، والمستعين بغير الله متأله عابد، لاسيما فيما لا يقدر عليه إلا الله، وإذا ثبت أن الاستعانة تأله وأن التأله عبادة فالبرهان قائم على أن العبادة لا يستحقها غير الله تعالى. الخامس: قول ابن عباس وتفسيره للاسم الشريف الأقدس بأنه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. وقد أخذه المفسرون وقرروه واستحسنوه، فإذا كان تعالى هو صاحب ذلك ومستحقه فصرفه إلى غيره شرك، وصرف للحق في غير موضعه وهذا يدخل فيه جميع العبادات التي يصدق عليها التأله والألوهية والعبادة والعبودية لاسيما الدعاء فإنه من أجل أنواعه. قال الإمام البخاري في (كتاب الإيمان) من صحيحه: باب دعاؤكم إيمانكم، وساق حديث ابن عمر. وكثيراً ما يترجم بما صح عنده ولم يكن على شرطه. السادس: قولهم في اسمه الرحمن أنه الموصوف بغاية الرحمة ومنتهاها، وأنه وصف ذات لا ينفك عنه كسائر أوصافه المقدسة الذاتية، ودعاء غير الموصوف بهذا الوصف وقصده من دونه والتعرض للوسائط والشفعاء سوء ظن بصفات كماله ونعوت جلاله، وإنما دعا إلى عبادته ودعائه والاستعانة به بما اتصف به من الصفات المقدسة، والنعوت الكاملة الجميلة، واستدلوا على ذلك بقول الخليل عليه السلام لقومه: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 قالوا: أي فما

_ 1 سورة الصافات: 87.

ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره، وما الذي ظننتم به حتى جعلتم له شركاء، أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء يعرفونه بها كالملوك؟ أم لا يقدر وحده على الاستقلال بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاس فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من القلة ويتعزز به من الذلة؟ أم محتاج إلى ولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منه ومنها؟ تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً، ولو قدره المشركون حق قدره لما أشركوا به. وكذلك اسمه تعالى الرحيم، فإنه يدل على أنه بالغ في الرحمة غايتها، وإن رحمته عمت عباده ووسعت خلقه، فما بهم من النعم والإحسان والعطايا الباطنة والظاهرة فآثار رأفته ورحمته، ومن هذا فعله وهذا وصفه كيف يعدل المضطر إلى غيره في ضروراته وحاجاته وملماته؟ وفي الحديث القدسي: "كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم" الحديث بطوله. ومن رحمته وتودده إلى عباده أنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ الحديث معرف مشهور. وفي بعض الإسرائيليات أن الله تعالى يقول: ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء. وهذا قرروه بهذا المعنى في التفسير وفي الكلام على شرح الأسماء الحسنى، وفي الكلام على أحوال القلوب وسيرها وتوجهاتها إلى الملك العلي الأعلى. وعبارة البيضاوي في الكلام على أول فاتحة الكتاب: وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها، عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجه

بشراشره إلى جانب القدس، ويتمسك بحبل التوفيق ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن يغره. قال البيضاوي: "وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى- من كونه موجداً للعالمين رباً لهم منعماً عليهم بالنعم كلها باطنها وظاهرها، عاجلها وآجلها، مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب- للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه، بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يتأهل لأن يحمد فضلاً عن أن يعبد ليكون دليلاً على ما بعده. فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد وهو الإيجاد والتربية، والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه ليس يصدر منه الإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضيت لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد، والرابع لتحقيق الاختصاص، فإنه لا يقبل الشركة فيه، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين" انتهى. وإن شئت المزيد على هذا ولم تكتف بما ذكرناه من التمثيل بالبسملة وما فيها من الأبحاث فنتكلم على فاتحة الكتاب بما قاله أهل العلم والتأويل لينتفع بذلك من وقف على كتابنا هذا. فاعلم أن (الحمد) على ما أفاده بعض المحققين: ذكر محاسن المحمود على وجه الثناء عليه بها مع محبته والرضا عنه والخضوع له، فلا يحمده من أعرض عن محبته والخضوع له، أو جعل له شريكاً في ذلك، ولا يرضى عنه من أعد غيره لحاجته وفاقته، واستغاث به في شدته وضرورته، وهذا الحد أتم وأكمل من تعريف بعضهم له بأنه اصطلاحاً فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لوجوه لا تخفى على الذكي، فلا نطيل بذكرها، وإذا كانت أل فيه للاستغراق وعموم الأفراد كما هو الراجح، فجميع أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال التي يحمد من قامت به ثابت لله أكملها لكمال صفاته وكثرتها، ولهذا لا يحصي أحد من خلقه ثناء

عليه، وبها استدل على إلهيته، وأنه الإله الحق، ولذلك يستدل تعالى على بطلان إلهية ما سواه بفقد صفات الكمال التي يستحق بها أن يعبد ويعظم ويقصد، كما قال عن خليله في مخاطبته لأبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 1 وقال في عباد العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} 2 فجعل نفي صفات الكمال موجباً لبطلان إلهيته وعبادته، وهذا يعرف بالفطر والعقول فهذه ثلاثة مواضع في أول كلمة من كتاب الله دلت على بطلان دعاء غيره وعبادته والاستعانة بسواه، والعبد وإن علت درجته وارتفعت رتبته فهو فقير إلى باريه وفاطره، لا نسبة لقدرته وعلمه وحكمته وفضله وكرمه وحياته إلى ما اتصف به خالقه وإلهه الحق من صفات الكمال، ونعوت الجلال. قال شيخ الإسلام: والفقر لي وصف ذات لازم أبداً ... كما الغنى أبداً وصف له ذاتي (وأما اسمه الله) فهو دال على الإلهية المتضمنة لسائر صفات الإلهية والكمال، مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال بالوضع والمطابقة على كونه مألوهاً معبوداً، تألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً، ومفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، بخلاف من آله سواه ممن لا يستحق الإلهية ولم يخرج عن رتبة العبودية، وصار مفزعه في الحوائج والنوائب إليه، واعتماده في المهمات والملمات عليه. فمن كان هكذا كعباد الملائكة والأنبياء والصالحين لم يعط هذا الاسم الشريف حقه من العبودية وإفراد الله بالإلهية. (وأما الرب) فهو دال على ربوبيته لجميع مخلوقاته، وكمال الربوبية هو بما اتصف به من صفات كمال كقدرته وعلمه ورحمته وقيوميته، وهو يرب عباده

_ 1 سورة مريم: 42. 2 سورة الأعراف: 148.

بالخلق والتدبير والملك، وهو من أكبر الأدلة وأوضحها وأجلاها على وجوب عبادته تعالى، وأن إلهية ما سواه وعبادة غيره من أبطل الباطل وأضل الضلال، ولهذا يستدل على إلهيته تعالى ووجوب توحيد بأفعاله الصادرة عن ربوبيته كخلقه وقيوميته، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 1 وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} 2 وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} 3. وهذا كثير في القرآن، ولكن يحول بين عباد القبور والصالحين وفهمه ما على قلوبهم من رين الشرك وطابعه. (وأما اسمه الرحمن) فهو كما تقدم دال على أن الرحمة وصفه وصف ذات لا ينفك عنه، ولهذا لا يطلق على غيره. (والرحيم) هو الراحم لعباده البالغ في إيصال الرحمة، لأن فعيل من صيغ المبالغة، لكن فعلان أبلغ، فسعة الرحمة وكثرتها وإحاطتها من أدلة عظمة الموصوف وكمال صفاته ووجوب عبادته وإلهيته وإنابة القلوب إليه، فالمستغيث بغيره الراغب إلى سواه فيما لا يقدر عليه غيره من الأمور المهمة العظام، وما ليس من جنس الأسباب العادية -كمن يستغيث بالأنبياء والصالحين والملائكة ويرجع إليهم في حاجاته وملماته- ما أعطى هذا الاسم حقه، ولا آمن به حق الإيمان الواجب، ولو استشعر شيئاً من كمال مدلوله وسعته وإحاطته لما عدل بربه سواه، ولا التفت إلى غير رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. ومشهد الأسماء الحسنى والصفات العليا مشهد عظيم لا يعرفه ولا يسير به إلا الصديقون العارفون بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وأما من تعلق على غيره والتفت إلى سواه وصار مبلغ علمه وغاية حذقه وفهمه تعلقه على الأولياء والصالحين ورجاء رحمتهم وإحسانهم وعطفهم فهو محجوب عن هذا غير عارف

_ 1 سورة النحل: 17. 2 سورة الرعد: 33. 3 سورة الأحقاف: 4.

بربه جاهل بصفات كماله ونعوت جلاله، قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 1 فسجل على من أمر بدعاء الصالحين والاستغاثة بهم بالجهالة، سواء سمى ذلك توسلاً وتشفعاً واستنصاراً وكرامة أو لم يسمه. (وأما مالك يوم الدين) فهو وصف كمال ومجد يقتضي وجوب معاملته وحده لا شريك له، وإسلام الوجه له، لأن الاختصاص والانفراد بالملك يوجب خوفه ورجاءه وطاعته، والتعلق على المملوك المقهور الذي لا شركة له ولا ملك بوجه من الوجوه، وقصده في طلب الإعطاء والمنع، والخفض والرفع، والنجاة من النار، والفوز بدار الأبرار سفه وضلال مبين. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} 2 وقد تمدح سبحانه باختصاصه بملك هذا اليوم في مواضع من كتابه مع أنه الملك المالك في الدنيا والآخرة لسر اقتضى ذلك وحكمة أوجبته، وهي انقطاع العلق والأسباب والمؤاخاة والوصل التي يتعامل بها أهل الدنيا في دنياهم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 3 فاعرف ما في هذا الخطاب من العموم، وما دل عليه التنكير من الشمول المتناول لكل معبود مع الله ولو نبياً أو ملكاً، وما يجري على يد الشفعاء ذلك اليوم لا يرد على الآية، ولا ينفي العموم، لأنه لا يقع إلا بإذنه فيمن يرضى قوله وعمله، فعاد الأمر له جل ذكره بدءاً وعوداً، أولاً وآخراً. (والدين) هو الجزاء والمكافأة على الأعمال حسنها وقبيحها، وما لم ينزل به سلطان ولم ترد به حجة من الأعمال والديانات يجازى فاعله ويعاقب إن لم يمنع مانع كتوحيد الله والإيمان به وبرسله، وأي توحيد يبقى وينفع مع عبادة الأولياء والصالحين، والاتغاثة بهم وصرف الوجوه إليهم، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ

_ 1 سورة الزمر: 64. 2 سورة البقرة: 130. 3 سورة البقرة: 123.

لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. قال جمع: عن شهادة أن لا إله إلا الله. وأما قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففيها اختصاصه وانفراده بالعبادة والاستعانة، وأن ذلك حق له لا يشركه فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب، والعبادة هي الغاية المقصودة من العباد المكلفين، والمؤمنون بالرسل أخلصوا له العبادة وأفردوه بالاستعانة، فهو معبودهم ومستعانهم، وجميع الأعمال داخلة في هاتين الكلمتين الشريفتين، وقد دلت صيغة الحصر والاختصاص فيهما على التوحيد، والعبد همام حارث لا بد له من ذلك، وهمه وحرثه غاية ووسيلة، فيجب أن يكون غاية قصده ومراده وجه الله والتماس طاعته ومرضاته، ويجب أن تكون الوسيلة إلى ذلك استعانة الله وحده والاستغاثة به، وهذا حال أهل الكمال، جمعوا بين عبادة الله واستعانته، بخلاف من عبد غيره واستعان بسواه، أو من عبده لكن قصر وأضاع ما يحصل به مقصوده من الاستعانة، أو من استعان به ولكن على ما لا يحبه وما لم يشرعه من الأعمال الصالحة أو وسائلها. ويدخل في النوع الثاني من تعلق على الأنبياء والصالحين عبادة واستغاثة واستعانة، كعباد القبور، فإنهم لم يعرفوا ما دلت عليه هاتان الكلمتان من وجوب العبادة والاستعانة. وفي حديث ابن عباس: "ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" الحديث. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: إياك أن تستعين بغير الله فيكلك الله إليه. وقال أبو عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. والكلام هنا يطول، وغرضنا التنبيه على أن القرآن كله دال على التوحيد، آمر به، مشير إليه، مستلزم له، مقرر لوصف أهله وما لهم من الكرامة في المعاد،

_ 1 سورة الحجر: 92- 93.

ومبين لأحوال من تركه ولم يرفع به رأساً وأشرك في عبادته، وما لهذا الصنف من الجزاء والعقاب والإهانة في الدار الآخرة. وأما قوله: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعصت عليهم) فهذا فيه توحيد الطريق، وإن من سلك سواه وأراد الوصول من غيره فالسبل والطرق عليه مسدودة قاطعة غير موصلة، وفي حديث ابن مسعود: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} "1. إذا عرف هذا فالصراط المستقيم ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان من أئمة الهدى، ودعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم والتوجه إليهم كل هذا ليس مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، بل وليس عليه أحد من رسل الله وأوليائه وقد توافرت النصوص وتظاهرت على المنع منه، وقد مر منه جملة صالحة، فإذا كان خارجاً عن الصراط المستقيم ناهياً عنه سالكيه ومؤتميه فهو سبيل يفضي بسالكه إلى النيران والدخول في طاعة الشيطان، وأهل هذا الصراط المستقيم دأبهم وشأنهم إفراد الله بالعبادة والاستعانة والاستغاثة والإنابة والخوف والرجاء والتوكل والاعتماد، ومباينتهم في الأوصاف خروج عن صراطهم وطريقهم، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كافيته الشافية: فلواحد كن واحدا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان فسبيل الله واحد لا متعدد، ولا يمكن أن يأتي أحد بحجة ولا سلطان على أن

_ 1 حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/435، 465) أو رقم (4142، 4437- شاكر) والنسائي في "الكبرى" (6/ 343/ 11174) والطيالسي (244) والحاكم (2/218) وابن حبان (1/05 1/6، 7) وغيرهم. وصححه العلامة أحمد شاكر، والعلامة الألباني.

دعاء الأولياء والصالحين من أهل القبور أو غيرهم مشروع مسنون أو مباح، ولا يمكن أن تأتي شريعة بهذا، وما يقوله الجاهلون من الشبه الواهية لا يعتد به ولا يلتفت إليه، بل هي قاطعة في الطريق حائلة بين أربابها وبين الصراط المستقيم، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله، وإن زعموا أنها أدلة وبينات فهي جهالات وخيالات وضلالات، كما تقدم الكلام على ما أورده النبهاني الزائغ منها ناقلاً لها عن أشياخه وأئمته الغلاة. وقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فغير صفة ونعت لما قبلها من الاسم الموصول على ما وجهه بعض المفسيرن، والمعنى: أن الذين أنعم الله عليهم خالفوا وباينوا المغضوب عليهم والضالين في صفاتهم الشنيعة وأفعالهم القبيحة، فالأولون عرفوا الحق ولم يتبعوه ولم يريدوه، بل آثروا أغراضهم الفاسدة، وشهواتهم القاطعة، واستمتعوا بخلاقهم، ولم يعبؤوا بما عداه مما فيه صلاح العبد وهداه، والآخرون غلبت عليهم الشبهات وتاهوا في أودية الجهالات والضلالات، ولم يهتدوا إلى ما نصبه تعالى من الآيات الواضحات، والأدلة الظاهرات على وجوب توحيده وآلهيته وصمديته، وتنزهه عن الصاحبة والولد، وأحق الناس بالوصف الأول اليهود وبالوصف الثاني النصاري، لغلبة الوصف الأول على اليهود وغلبة الثاني على النصارى، ولذلك جاء في حديث عدي بن حاتم: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون"1. لكن هذا الوصف لا يختص بهم، بل كل منحرف عن الصراط المستقيم إيثاراً لهواه ورأيه فله نصيب من الوصف الأول، ومن انحرف لجهله وعدم فقهه فله نصيب من الوصف الثاني، وهذا الانحراف إن بقي معه أصل الدين الذي لا يقوم الإيمان والتوحيد إلا به فهو من أهل الذنوب من المسلمين وأمره إلى الله، وإن كان الانحراف يخل بأصل الدين والإيمان ويمنع التوحيد- كحال من يدعو الملائكة والأنبياء والصالحين مع الله في مهماته وملماته ويعتمد عليهم ويستغيث بهم في شدائده- فهذا له حظ وافر ونصيب كامل من الضلال، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ

_ 1 أخرجه أحمد (4/378، 379) والترمذي (2953، 2954) وغيرهما.

وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1. انظر هذا الاستفهام وحسن موقعه بعدما تقدم من الاستفهامات التي هي حجج وآيات على ما بعدها تعرف به فحش ما جاء به عباد القبور من دعاء الهتهم والاستغاثة بهم في الملمات والشدائد المذهلات، وأن أهل الجاهلية كانوا يخلصون في الشدائد ويعترفون بأنه المختص بإجابة المضطر وكشف السوء، وهؤلاء يشتد شركهم عند الضر ونزول الشدائد. ثم من المعلوم أن أخص أوصاف النصارى الضالين عبادة الأنبياء والصالحين وجعلهم شركاء لله فيما يختص به ويستحقه، وطاعة علمائهم وأحبارهم في التحليل والتحريم المخالف لما عهد إليهم في الكتب السماوية على ألسنة أنبيائهم، وعباد القبور ضربوا في هذا بسهم وافر، وحصلوا على نصيب من عبادة الأنبياء والصالحين ودعائهم مع الله استحقوا به إطلاق وصف الضلال عليهم فيما أتوا به وابتدعوه من طاعة الدعاة إلى عبادة القبور من المنتسبين إلى العبادة أو العلم. قال صاحب "منهاج التأسيس" عليه الرحمة- بعد أن ساق ما ذكرناه- وهذه إشارة تطلعك على ما وراءها: وفي فاتحة الكتاب والسبع المثاني من العلوم والتوحيد والرد على أصناف الضالين وشيع المبطلين ما لا يمكن حصره واستقصاؤه. انتهى. قلت: من أراد الوقوف على تفاصيل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة فعليه بكتاب شرح "منازل السائرين" للشيخ الحافظ ابن القيم، ففيه من إظهار كنوز أسرارها ما ينشرح به الخاطر.

_ 1 سورة النمل: 62.

ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به

(ذكر بعض آيات تدل على المقصود وما فسرت به) قد ذكرنا سابقاً أن القرآن الكريم من أوله إلى آخره ينادي بإخلاص التوحيد لله تعالى وإفراده سبحانه بخصائصه، وقد ذكرنا مثالاً لذلك وشاهداً عليه، وحباً لزيادة الإيضاح نذكر ما هو أصرح دلالة على مقصودنا من آيات الكتاب الكريم، فلعل النبهاني وأضرابه من عبدة القبور يهتدي ببعضها، ويكشف عن قلبه حجاب الضلال. من ذلك قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وهذه السورة العظيمة قد اشتملت على كنوز العلم، وهي تعدل ثلث القرآن، وقد بسط الكلام عليها الإمام تقي الدين بن تيمية وأفرد لتفسيرها سفراً كبيراً، وهو بحمد الله متداول. ومما قال: " (الصمد) فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك، بل كلها صواب، والمشهور منها قولان: (أحدهما) أن الصمد هو الذي لا جوف له. (والثاني) أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة، والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين، والآثار المنقولة عن السلف بأسانيدها في كتب التفسير المسندة وفي كتب السنة وغير ذلك. قال: وقد كتبنا من الآثار في ذلك شيئاً كثيراً بإسناده فيما تقدم. ثم سرد أقوالاً كثيرة في معنى الصمد إلى أن ذكر فصلاً في سبب تنكير (أحد) وتعريف (الصمد) في السورة، وحاصله: أن لفظ (أحد) لم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده، وإنما يستعمل في غير الله في النفي، قال أهل اللغة: تقول لا أحد في الدار ولا تقل فيها أحد، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا في غير الموجب، كقوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1 وكقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ

_ 1 سورة الحاقة: 47.

لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} 1 وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} 2 وفي الإضافة كقوله: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} 3 {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} 4. وأما اسم الصمد فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين كما تقدم، فلم يقل الله صمد بل قال: الله الصمد، فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال. والمخلوق هان كان صمدا من بعض الوجوه فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التفرق والتجزية، وهو أيضاً محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوها الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله، وليمس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه، فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء، كما قال في آخر السورة: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} استعملها هنا في النفي، أي ليس شيء من الأشياء كفوا له في شيء من الأشياء، لأنه أحد، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنت سيدنا، فقال: السيد الله) . ودل قوله الأحد الصمد على أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فإن الصمد هو الذي لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء، فلا يأكل ولا يشرب سبحانه وتعالى، كما قال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} 5. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} 6.

_ 1 سورة الأحزاب: 32. 2 سورة التوبة: 6. 3 سورة الكهف: 19. 4 سورة الكهف: 32. 5 سورة الأنعام: 14. 6 سورة الذاريات: 56- 58.

ثم تكلم في مسائل مختلفة انتقل من بعضها إلى بعض وأتى بما يبهر العقول. والحاصل، أن كل كلمة من كلمات هذه السورة تقتضي أن يعبد الله وحده وأن لا يشرك به أحد ولا يلتجأ إلى ما سواه، فإذا كان معنى أحد أنه ليس كمثله شيء فينبغي أن يستغاث به وحده، لأنه الكامل في صفات الكمال والمنزه عن صفات النقص، وغيره ليس كذلك فكيف يسوغ الالتجاء إلى الناقص والإعراض عن الكامل؟ وإذا كان الله أحد كان هو الصمد بأي معنى فسر، فالأحدية دليل على الصمدية، فهو الملجأ لا غير، والصمدية تستلزم اتصاف الله تعالى بأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحداً، وكل جملة فهي دليل لما بعدها، فمن يلد ليس بأحد ولا صمد فلا يلجأ إليه ولا يطلب منه ما يطلب من الله الأحد الصمد الذي لم يلد، ومن يولد كذلك، ومن كان له كفو أو نظير في ذاته وصفاته فهو لا يصلح أن يسند إليه خصائص الإلهية، فهذه السورة على اختصارها جمعت من دلائل الوحدانية، ما لم تشتمل سورة أخرى عليه، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، ومن أراد تفصيل ما تضمنته من العلوم فعليه بتفسيرها لشيخ الإسلام. ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى آخر السورة، تكلم أيضاً على هذه السورة شيخ الإسلام وتلميذه أحسن كلام، قال ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد": المقصود الكلام على هاتين السورتين- يعني المعوذتين- وبيان عظم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيراً خاصاً في رفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى التنفس والطعام والشراب واللباس، فنقول والله المستعان: قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول وهي: أصول الاستعاذة: أحدها: نفس الاستعاذة. والثاني: المستعاذ به. والثالث: المستعاذ منه.

فبمعرفة ذلك يعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين. وقد عقد لكل أصل من هذه الأصول الثلاثة فصلاً وأطنب الكلام فيه، فمما قال في الفصل الأول: "اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منه يدل على التحرز والتحصن والالتجاء، وحقيقة معنى هذه الكلمة: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه. ولهذا يسمى المستعاذ به معاذاً كما يسمى ملجأ ووزراً، وفي الحديث: أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها قالت: أعوذ بالله منك، قال: "لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك"1. فمعنى أعوذ: ألتجىء وأعتصم وأتحرز. ثم ذكر في أصله قولين، وقال- بعد أن ذكرهما- والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معاً، فإن المستعيذ مستتر بمعاذ مستمسك به معتصم به، قد استمسك قلبه به ولزمه كما يلزم الولد أباه إذا شهر عدوه سيفاً وقصده به فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه وفر إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه، وبعد فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من اللجاء والاعتصام والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة. ونظير هذا؛ التعبير عن محبته وخشيته وإجلاله ومهابته، فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، فلا يدرك إلا بالاتصاف بذلك لا بمجرد الصفة والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنين لم تخلق له شهوته أصلاً فلو قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه، فإذا وصفتها لمن خلقت فيه

_ 1 أخرجه البخاري (5256، 5257) .

وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق. ثم ذكر كلاماً طويلاً في الفرق بين الإعاذة والاستعاذة في غاية الدقة واللطف، وذكر سبب الإتيان (بقل) في السورتين وهو من أبدع الوجوه، ولا غرض لنا يتعلق به فإن أردته فارجع إليه. (ثم قال في الفصل الثاني) : والمستعاذ به الله وحده رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس، الذي لا تنبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره، وقد أخبر تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغياناً ورهقاً، فقال حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1. جاء في التفسير: أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح. أي: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقاً أي طغياناً وغياً وإثماً وشراً، يقولون سدنا الإنس والجن، والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم، فزادوهم بهذه الاستعاذة غشياناً لما كان محظوراً من الكبر والتعاظم وظنوا أنهم سادوا الإنس والجن. واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بها بقوله: "أعوذ بكلمات الله التامات" وهو صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق، ونظير ذلك قوله: "أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك" فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق، فكذلك قوله: "أعوذ بعزة الله وقدرته". وقوله: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات"2. وما استعاذ به النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة الجن: 6. 2 جزء من حديث: "اللهم إني أشكو إليك ضعفي.. ". ذكره ابن هشام في "السيرة" (1/34) والطبري في "تاريخه" (2/ 344- 345) وأخرجه الطبراني في "الكبير"- جزء فيه ذكر أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني- لابن منده، المطبوع بآخر الجزء (25/ص 346) من طريق: ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال:.. فذكره. وأخرجه أيضاً في "الدعاء" (2/1280/ 1036) والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/275/ 1839- الرسالة) . قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/35) : "فيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات". وضعفه الشيخ الألباني في تخريجه لـ "فقه السيرة" للغزالي (ص126) وفي كتابه "دفاع عن الحديث النبوي" (ص 26) و"ضعيف الجامع" (1182) .

فإنه غير مخلوق، لا يستعيذ إلا بالله أو بصفة من صفاته. وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب والملك والإله، وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس، ولا بد من أن يكون بين ما وصف به نفسه في هاتين السورتين مناسبة، وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى، فنسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين أنه ما تعوذ المتعوذون بمثلهما، ولا بد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضياً للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه، وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث، وهو الشر المستعاذ منه، فبه تتبين المناسبة المذكور ة. وذكر في الفصل الثالث أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين، وأطنب في بيان ذلك، وأتى بالعجب العجاب. والمقصود؛ أن كلتا السورتين تدلان على أن الملجأ والمعاذ هو الله تعالى، فمن استغاث بمخلوق ملكاً كان أو نبياً أو ولياً فقد التجأ إليه، ومن التجأ إليه في طلب ما لا يقدر عليه أحد إلا الله فقد عبده، لأن الدعاء مخ العبادة، ومن عبد غير الله فقد أشرك، والآيات القرآنية في هذا الباب كثيرة، وقد ذكرنا فيما سبق بعضاً منها، ومن قرأ القرآن وتدبر معناه تحقق ذلك. وأما ما ورد من السنة النبوية فهو البحر الذي لا ساحل له، فقد كان صلى الله عليه وسلم خصماً للمشركين، وعدوا للكافرين، وقد بعثه الله تعالى لمحق ما كان عليه أهل

الجاهلية وإبطال ضلالاتهم الشركية، وقد كان خلقه القرآن، وما أنزله الله عليه من البيان، وقد نظرنا إلى الكتب المؤلفة في أذكاره وأدعيته فلم نر فيها دعاء التجأ فيه إلى غير الله، هذا كتاب (الأذكار) للنووي فيه من الأدعية السنية ما هو معلوم الصحة، وهذا كتاب (نزل الأبرار في الأدعية والأذكار) 1 وهذا كتاب (الكلم الطيب والعمل الصالح) لشيخ الإسلام، وهذا كتاب (الحصن الحصين) للشيخ محمد الجزري، جميع ما في هذه الكتب من الأدعية كلها من الله تعالى، ليس فيها كلمة دالة على الطلب من غيره تعالى، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 2 فينبغي أن يتأسى كل مسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتدي به في أقواله وأفعاله، ويسلك في ذلك مسلك الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة والمجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين. ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم في طلب النصر: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم"3 وكان إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول وبك أقاتل"4 وعن أنس قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فلقي العدو، فسمعته يقول: " يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين". فلقد رأيت الرجال تصرعها تضربها الملائكة من بين أيديها ومن خلفها) 5. وكان يقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اعتصمنا بالله، استعنا بالله، توكلنا على الله" ويقول: (حصنتنا كلنا أجمعين بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً، ودفعت عنا السوء بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ويقول: (يا قديم الإحسان، يا من إحسانه فوق كل إحسان، يا مالك الدنيا والآخرة، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال

_ 1 للعلامة صديق حسن خان القنوجي- رحمه الله-. 2 سورة الأحزاب: 21. 3 أخرجه البخاري (4115) ومسلم (1742) . 4 أخرجه البخاري (597) ومسلم (684) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. 5 أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (336) بإسناد ضعيف.

والإكرام، يا من لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه، انصرنا على أعدائنا هؤلاء وغيرهم، وأظهرنا عليهم في عافية وسلامة عامة عاجلا) 1. وفي كتاب (الحصن الحصين) من ذلك شيء كثير، وهو للإمام الكبير محمد الجزري رحمه الله تعالى، وقد قال في خطبة الكتاب المذكور: "هذا الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين، وسلاح المؤمنين، من خزانة النبي الأمين، والهيكل العظيم من قول الرسول الكريم، والحرز المكنون، من لفظ المعصوم المأمون، بذلت فيه النصيحة، وأخرجته من الأحاديث الصحيحة، أبرزته عدة عند كل شدة، وجردته جنة تقي من شر الناس والجنة، تحصنت به فيما دهم من المصيبة، واعتصمت من كل ظالم بما حوى من السهام المصيبة، وقلت: ألا قولوا لشخص قد تقوى ... على ضعفي ولا يخشى رقيبه خبأت له سهاماً في الليالي ... وأرجو أن تكون له مصيبة قال: ولما أكملت ترتيبه وتهذيبه طلبني عدو لا يمكن أن يدفعه إلا الله تعالى فهربت منه مختفياً وتحصنت بهذا الحصن، فرأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وأنا جالس على يساره، وكأنه يقول: ما تريد؟ فقلت: يا رسول الله ادع الله لي وللمسلمين، فرفع يديه الكريمتين وأنا أنظر إليهما فدعا ثم مسح بهما وجهه الكريم، وكان ذلك ليلة الخميس، فهرب العدو ليلة الأحد، وفرج الله عني وعن المسلمين ببركة هذا الكتاب عنه صلى الله عليه وسلم" انتهى. وما كان يقوله في دعاء الوتر وهو: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونتوكل عليك" إلى آخره2، وفي رواية: "اللهم اهدني فيمن هديت،

_ 1 انظر "الأذكار" للنووي (1/535/580- الغرباء الأثرية) . 2 أخرجه أبو داود في "المراسيل" (89) والبيهقي في "الكبرى" (2/210) من طريق: ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن عبد القاهر، عن خالد بن أبي عمران، قال: بينا الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ... فذكره. وإسناده ضعيف؛ عبد القاهر هو: ابن عبد الله، لم يوثقه غير ابن حبان، وهو مجهول. لكن صحّ الخبر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً كما قال البيهقي. فأخرجه (2/211) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/314) وعبد الرزاق في "مصنفه" (4968، 4969) .

وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت " إلى آخره1. وما كان يقوله إذا أتى فراشه، وما يقوله إذا استيقظ من منامه، وما يقوله في. الليل، وما يقوله حال خروجه من بيته وإذا دخله، وما كان يقوله في غير ذلك من الأحوال، كالاستسقاء ونحوه مما هو خارج الصلاة أو داخلها؛ فشيء لا يسعه هذا المقام. والمقصود، أن جميع أدعيته ليس فيها استغاثة بمخلوق، ولا إقسام به، ولا توسط أحد ولا توسل به، ومن شرط كل مؤمن الإقتداء به صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2. وفي الأحاديث الصحيحة التي رواها الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما ممن جمع الصحيح شيء كثير مما يتعلق بهذا الباب، كحديث ابن عباس، وفيه "إذا استعنت فاستعن بالله" وقد سبق ذكره. والرسول صلى الله عليه وسلم أبطل دين المشركين، ومداره على الاستغاثة والالتجاء إلى غيره، وهي كانت عبادة الوثنيين، وكالذبح والنذر، غير أنهم كانوا عند النوائب يستغيثون بالله سبحانه، بخلاف عباد القبور في عصرنا. وأما ما ورد عن عباد الله الصالحين مما أخلصوا فيه الدعاء إلى الله والتجؤوا إليه سبحانه ولم يستعينوا فيه إلى مخلوق فهو كثير، وقد صنف الإمام أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال المتوفى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة كتابه الذي سماه (المستغيثين بالله عند الحاجات والمهمات والمتضرعين إلى الله سبحانه وتعالى بالرغبات) وهو كتاب جليل يسوء النبهاني إذا رآه.

_ 1 أخرجه أحمد (1/199) وأبو داود (1425) والترمذي (463) وابن ماجه (1178) وغيرهم، من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام. وهو حديث صحيح. 2 سورة آل عمران: 31.

ومنه يعلم أن الصالحين والأولياء الكاملين كلهم كانوا في جميع حالاتهم مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن بشكوال في كتابه هذا عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كنت في غزوة فوقع فرسي ميتاً فرأيت رجلاً حسن الوجه طيب الرائحة، قال: أتحب أن تركب فرسك؟ قلت: نعم، فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره. وقال: أقسمت عليك أيتها البغلة بعزة عزة الله، وبعظمة عظمة الله، وبجلال جلال الله، وبقدرة قدرة الله، وبسلطان سلطان الله، وبلا إله إلا الله، وبما جرى به القلم من عند الله، وبلا حول ولا قوة إلا بالله، إلا انصرفت. فوثب الفرس قائماً بإذن الله تعالى، وأخذ الرجل بركابي، وقال: اركب. فركبت، ولحقت بأصحابي ... إلى آخر القصة. ومن أدعية الإمام زين العابدين السجاد رضي الله تعالى عنه: "اللهم إن تشأ تعف عنا فبفضلك، وإن تشأ تعذبنا فبعدلك، فسهل لنا عفوك بمنك، وأجرنا من عذابك بتجاوزك، فإنه لا طاقة لنا بعدلك، ولا نجاة لأحد منا دون عفوك، يا غني الأغنياء، ها نحن عبادك بين يديك، وأنا أفقر الفقراء بين يديك، فاجبر فاقتنا بوسعك ولا تقطع رجاءنا بمنعك، فتكون قد أشقيت من استسعد بك، وحرمت من استرفد فضلك، فإلى من حينئذ منقلبنا عنك، وإلى أين مذهبنا عن بابك، سبحانك نحن المضطرون الذين أوجبت إجابتهم، وأهل السوء الذين وعدت الكشف عنهم، وأشبه الأشياء بمشيئتك وأولى الأمور في عظمتك رحمة من استرحمك، وغوث من استغاث بك، فارحم تضرعنا إليك، وأغثنا إذ طرحنا أنفسنا بين يديك، اللهم إن الشيطان قد شمت بنا إذ شايعناه على معصيتك، فصل على محمد وآله، ولا تشمته بنا بعد تركنا إياه لك، ورغبتنا عنه إليك". وكم له من مثل هذا الدعاء والالتجاء ما تنير منه أنوار التوحيد، ونشرق منه شموس الإيمان والتجريد، وأين هو من أدعية غلاة القبوريين، طهر الله تعالى الأرض منهم أجمعين. ومن وصايا الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه ما قال لولده حين

استوصاه وهو في مرض الموت: عليك بتقوى الله وطاعته، ولا تخف أحداً ولا ترجه، وكل الحوائج كلها إلى الله عز وجل، واطلبها منه، ولا تثق بأحد سوى الله عز وجل، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد، التوحيد، التوحيد، وجماع الكل التوحيد. وقال في مرض موته: إذا صح القول مع الله عز وجل لا يخلو منه شيء ولا يخرج منه شيء. وقال لأولاده: ابعدوا من حولي فأنا معكم بالظاهر ومع غيركم بالباطن. ثم قال: قد حضر عندي غيركم فوسعوا لهم وتأدبوا معهم، ههنا زحمة عظيمة ولا تضيقوا عليهم المكان، وأخبر بعض ولده أنه كان يقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، غفر الله لي ولكم، وتاب الله علي وعليكم، باسم الله غير مودعين. وله أحزاب كثيرة، ووصايا كلها على ما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصاياه على التوحيد وإفراد الله تعالى بخصائصه، كل ذلك مشهور متداول بين الناس، وأحزابه التي يقرأ كل حزب منها في يوم من أيام الأسبوع يقرأها الناس ويعرفونها، ومقامه في باب التوحيد واتباع السنن ليس يخفى على أحد، ولكنه خلف من بعده خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً. وقال رضي الله عنه في كتابه "فتوح الغيب والغنية": "ينبغي لكل مسلم موحد أن لا يتكل إلا على الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يعتقد التصرف إلا لله، وأن يجعل مرآة عمله حديث ابن عباس، قال: كنت راكباً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف". ويكفيك أيها المسترشد قوله تعالى في الفاتحة التي تقرأها في صلاتك

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلا تعبد غيره، ولا تستعن إلا به، ولا تطلب إلا منه، فهذا هو التوحيد". اهـ. ومن كلام الشيخ محي الدين بن عربي شيخ الصوفية عند الكلام على قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 1 قال: ومن أعظم المواثيق أن لا يسأل العبد سوى مولاه جل شأنه، وفي قصة أبي حمزة الخراساني ما يشهد بعظم شأنه، فقد عاهد ربه أن لا يسأل أحداً سواه، فاتفق أن وقع في بئر فلم يسأل أحداً من الناس المارين عليه إخراجه منها حتى جاء من أخرجه بغير سؤال، ولم ير من أخرجه، فهتف به هاتف كيف رأيت ثمرة التوكل؟! فينبغي الإقتداء به في الوفاء بالعهد على ما قال أيضاً، وقد أنكر ابن الجوزي فعل هذا الرجل وبين خطأه وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال، وذكر أن سفيان الثوري وغيره قالوا لو أن إنساناً جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار، ولا ينكر أن يكون الله تعالى قد لطف بأبي حمزة الجاهل، نعم لا ينبغي الاستغاثة بغير الله تعالى على النحو الذي يفعله الناس اليوم مع أهل القبور الذين يتخيلون فيهم ما يتخيلون، فآه ثم آه مما يفعلون. وقال الشيخ محي الدين أيضاً في (الفتوحات المكية) : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى لا تجعل غيري موضع حاجتك وسلني حتى الملح تلقيه في عجينتك، هذا تعلي ممن الله تعالى لنبيه عليه السلام. وقد رأيته سبحانه في النوم!! فقال: وكلني في أمورك فوكلته فما رإيت إلا عصمة محضة ولله الحمد على ذلك، ويكفي في التعليم قوله سبحانه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي لا نعبد سواك ولا نستعين بمخلوق، وحديث ابن عباس: "وإذا استعنت فاستعن بالله"، وقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 2 وقوله

_ 1 سورة الرعد: 20. 2 سورة الزمر: 45.

تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 1 اهـ. وقال الإمام زين العابدين السجاد: كيف يسأل محتاج محتاجاً؟! وقال الإمام الغزالي: المؤمن لا يجعل بينه وبين الله تعالى وسائط في الطلب، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 2. وفي تفسير "روح المعاني" عند الكلام على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 3 ما نصه: "ما أعظمها آية في النعي على من يستغيث بغير الله تعالى من الجمادات والأموات، ويطلب منه ما لا يستطيع خلقه لنفسه أو دفعه عنها". وقال بعض أكابر السادة الصوفية: إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم، يستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه، فإن ذلك غير محظور، لأنه استغاثة بالحق حينئذ. وأنا أقول: إذا كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ وأيضاً إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضاً، ولعل القائل بذلك قائل بهذا، بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيحاً، ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره، فالطريق المأمون عند كل رشيد، قصر الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل، فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده، فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى. وفي هذا التفسير أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} 4. إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن

_ 1 سورة الإسراء: 110. 2 سورة ق: 16. 3 سورة النحل: 20- 21. 4 سورة الحج: 73.

الله تعالى، وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ينذر له عز وجل، ويجعل ثوابه للولي، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام، القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو رد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا. ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر القبور للأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم، لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة، أو خمسة، وإذا طولبوا بالدليل قالوا ثبت ذلك بالكشف! قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افتراءهم. ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه، وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، فنسأل الله تعالى العفو والعافية. وفيه أيضاً عند الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} الآية2. فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور وهم في زماننا كثيرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

_ 1 سورة الزمر: 3. 2 سورة الحج: 72.

وقال لما تكلم على قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 1 من سورة والنازعات: أنه إقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت، وقيل غير ذلك، إلى أن قال: وفي حمل المدبرات على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين، وهو باطل عقلاً ونقلاً، كما أوضحنا ذلك فيما تقدم، وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء، وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد، على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء، والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا، إلى آخر ما قال. وفيه أيضاً على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} 2. ذكر بعض الغلاة أنه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالاستئناس، فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره ذلك، وطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء، فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب ويجمع حواسه ويعتمد بقلبه طالباً الإذن، ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المزور في ذلك، فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل دالا فليرجع، وهذا هو المعنى بأدب الزيارة عندهم. قال المفسر رحمه الله في رده: ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح، والشيعة عند الزيارة للأئمة ينادي أحدهم أأدخل يا أمير المؤمنين؟ أو يا ابن بنت رسول الله؟ أو نحو ذلك، ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع

_ 1 سورة النازعات: 5. 2 سورة النور: 27.

العين، وهو أيضاً مما لم نعرفه عن أحد من السلف، ولا ذكره فقهاؤنا، وما هو إلا بدعة، ولا يعد فاعلها إلا ضحكة للعقلاء، وكون المزور حياً في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور كما يتأدب معه حيا كما لا يخفى. قال: وقد رأيت بعد كتابتي هذا في (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم) صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه: قال بعضهم: وينبغي أن يقف يعني الزائر بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء، انتهى. وفيه: أنه لا أصل لذلك، ولا حال ولا أدب يقتضيه، انتهى. ومنه يعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى، فاحفظ ذاك، والله تعالى يعصمنا من البدع وإياك. وفيه أيضاً على قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. وقد رأينا كثيراً من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم، ويطلبه ن منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيه، ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره. وقلت يوماً لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني- فقلت له: قل يا الله، فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ

_ 1 سورة الزمر: 45.

دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1 فغضب وبلغني أنه قال: إن فلاناً منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل!! وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. وفيه أيضاً عند الكلام على قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} 2. لما كان يوم الفتح فرّ عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة اخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، قال: فجاء فأسلم. وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضاً لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين، وأياً ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال. وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشائخ الأمة، ولا ترى فيهم أحداً يخص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً، وأي الداعيين أقوم قيلاً، وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة،

_ 1 سورة البقرة: 186. 2 سورة يونس: 22- 23.

وتلاطمت أمواج الضلالة، وخرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، ومالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف. وفيه أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وقد أورد كلاماً حاصله: أن يلتجىء الإنسان في المهمات إليه تعالى، ثم قال: وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجل، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا ربي لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما وكم في هذا التفسير الجليل الشأن من مسائل تتعلق بوجوب تحقيق توحيد الملك الديان، وإفراده سبحانه بأن يستغاث ويستعان. وفي كتاب ابن أبي الدنيا- الذي ألفه في كلام المحتضرين- شيء كثير من كلام الصالحين، والأولياء والعارفين، الذي تكلموا في آخر عمرهم، وقدس حصروا الاستعانة والالتجاء به تعالى، وأنه لا ينبغي أن يستغاث بغيره، نظماً ونثراً، وقد أفرد له الغزالي باباً في "الإحياء"، وأتى الزبيدي في شرحه بملخص كتاب المحتضرين لابن أبي الدنيا، تركنا ذكره لطوله ولكونه متداولاً هذا الكتاب بين الناس.

_ 1 سورة الأعراف: 153.

ومن المنظوم في هذا الباب ما قاله الشاعر الشهير الشيخ صالح تجاوز الله عنه: يا سائلاً غير إله السما ... بشراك بالخيبة والرد إن الذي سواك من نطفة ... يغنيك عن مسألة العبد ولآخر: لا تسألن من ابن آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب وللعلامة الجليل، والفاضل النبيل، محدث عصره، وحافظ مصره، الشيخ علي السويدي، صاحب كتاب "العقد الثمين" عليه الرحمة: يا نفس كم لا تعبئين بحالي ... هل اتعظت بفرقة الأمثال ذهب الزمان بأهله وتخلفت ... أخلاف سوء عادموا أفضال بئس الخلائق هم ولا ذكرى لهم ... أشباح أهواء ومحض خيال أخلاقهم نقض العهود ودأبهم ... خلف الوعود وزخرف الأقوال لا يعرفون وداد من صافاهم ... ويرون ذلك شعبة لضلال لا يسألون عن الصديق كأنهم ... جلوا عن الأشباه والأمثال ألفوا الجفاء فمن أتى منهم بما ... فيه الوفاء فقد أتى بمحال أديانهم دنيا بدت تبدي لنا ... ما فيهم من أسوء الأفعال يتفاخرون بجمع أموال غدت ... نسباً شريفاً وابتهاج جمال أفلا يرون بني اليهود وعابدي الـ ... ـأنداد أجمع منهم للمال إني بلوتهم فلم أر فيهم ... إلا البلاء وأعظم البلبال لا خير فيهم غير أن وفاقهم ... نكد وهم مؤذن بوبال يا نفس عدي عنهم وتصبري ... فهم الغثاء ودمنة الأطلال وتخيلي لمثالهم من طينة ... غبراء وانظرمقتضى التمثال وثقي بمن خلق السموات العلى ... الواحد المتكبر المتعالي

والله ما أسفي غدا إلا على ... ما ضاع مني سابق الأحوال مع أنني من فضل ربي ليس لي ... طمع بجاه عندهم وبمال يا صاحب النفس الملومة إنني ... أنهاك دهشتها بيوم كلال صاح استمع نصحاً أتاك مفصلاً ... كتفصل العقيان فوق لئال بادر بقايا عمرك الفاني فلا ... تصرفه إلا في الرضى المتوالي واشغل فؤادك دائباً متفكراً ... فيما يليق بمنصب الإجلال وأخلص عبادتك التي باشرتها ... في القول والأحوال والأفعال واشغل بذكر الله قلبك لاهجاً ... بصفاته العليا بلا إملال واجعل مماتك نصب عينك إنه ... أولى الأمور وأنصح الأحوال واعلم بأنك بعد ذاك محاسب ... فاضبطه لا تك فيه ذا إهمال واعلم بأنك بعد ذلك صائر ... إما إلى بؤس أو الأفضال وادأب على حفظ الشريعة سالكاً ... سبل الهدى لا قالياً أو غالي وابدأ بحفظ القلب عن شبهاته ... واعرف مساويها على الإجمال وكذاك فاحفظه عن الشهوات إذ ... بالحفظ من هذين كل كمال ثم اسقه ماء الحياة بواعظ ... من محكم التنزيل في إجلال واحرس فراغك بالتذكر إنه ... عمر إذا ما ضاع منك لغالي واحفظ جوارحك التي أوتيتها ... عن كل ما يقضى بكل نكال واعلم بأنك ما خلقت سبهللاً ... فاعبد إله العرش بالإقبال واجعل سلاحك دعوة بإنابة ... والجأ إلى مولاك غير مبال واسأله لا تسأم فإنك عبده ... فهو الكريم ورب كل نوال يا رب فاقطع عن فؤادي كل ما ... أرجوه إلا منك من آمال واغسله من درن الظنون فإنه ... مرض القلوب وموجب الإعلال وأرحه من نظر العباد فإنه ... أصل الفساد وأفسد الأشغال وارزقه خشيتك التي تستوجب الـ ... حسنى لدى المقبول من أعمال يا رب وفقني لما فيه الرضى ... فلقد وعدت إجابة التسآل

واختم لنا بالخير عاجله الذي ... تبدو حلاوة ذوقه بمآل يا رب إني عبدك الجاني على ... نفسي تجاوز عن قبيح فعالي واجعل صلاتك دائماً تترى على ... كنز المعالي السيد المفضال وكذا على آل له وصحابة ... أهل العلى والعز والإجلال فانظر إلى قوله: واسأله لا تسأم إلخ، وفي نسخة: واسأله لا تسأل سواه فإنه الـ ... ـولى الكريم ورب كل نوال وقوله: يا رب فاقطع إلخ، وإلى قوله: وأرحه من نظر العباد إلخ، وإلى سائر أقواله تجد أنوار التوحيد تشرق منها، وهكذا المؤمن المتبع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستمد ولا يستغيث ولا يلتجىء ولا يستعين إلا بالله، ومن كان على قلبه حجاب الغفلة وصدأ الضلال وداء الزيغ أعرض عن الله، ونادى غيره، وأقبل على ما سواه وشرع يتشبث بالشبهات الواهية، والدلائل الفاسدة، والحكايات الكاذبة، ولم يلتفت إلى نصوص الشريعة الغراء، وما ورد من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وعليك بما ألفه هذا الناظم الفاضل في العقائد السلفية، وهو كتاب (العقد الثمين) وقد بلغني أن بعض أفاضل الحنفية كتب في وصيته لبنيه أن يقرؤوا هذا الكتاب، ويعقدوا خناصر قلوبهم على حفظه، فإن النجاة فيه وفي أمثاله من كتب حفاظ الحديث وعلماء السنة النبوية، وهذا الكتاب جمع جميع ما يجب على المكلف معرفته، ولذلك قال فيه العالم العلامة الشيخ محمد خليل الدمشقي الشهير بابن الخشة مقرظاً ومادحاً لهذا الكتاب وذاكراً فيه بدع الغلاة وهو قوله: لله در إمام ساد كل على ... فحق بالحق أن يدعى بملا علي أهدى إلينا كتاباً من براعته ... هو الشفاء لمرضى الغي والخطل أبدي به من رقيق الفكر فانفجرت ... منه عيون الهدى أحلى من العسل لا غرو فهو إمام العصر جهبذه ... بل قد غلا وعلا فيه على الأول لا ضير إن أشرقت فينا طوالعه ... فالشمس راد الضحى كالشمس في الطفل

عقائد هي عين الحق هادية ... إلى صراط سوي جل عن دغل من سنة المصطفى والآي قد نسجت ... تلك البرود فكانت أشرف الحلل وطرزت بدراري العقل ساطعة ... منها البراهين تمحو غيهب الزلل قد أظهرت بدعاً صارت ترى سنناً ... لدى الألي سكروا عن شرعة الرسل قوم هم نهجوا سبل الغواية إذ ... زاغوا فعندهم إبليس خير ولي والقطب والغوث والأبدال من تركوا ... شرائع الدين أو سبوه بالجمل قلنا لهم لم يصلوا قيل عندكم ... وبعضهم قال هم عنها لفي شغل جهال قلنا فقالوا اللب عندهم ... والقشر عندكم للرد والجدل فساق قلنا فقالوا يسترون على ... أحوالهم كي تظنوهم من السفل قلنا زناة فقالوا ذاك عن حكم ... أقلها سد ثقب الفلك عن خلل قلنا لهم يأكلون السحت قيل هم ... بحر ولا تقذر الأمواج بالبصل برهانهم من حكايات مزخرفة ... هي الغرور من الشيطان للختل عمي عن الحق صم حيث عالمهم ... لا يدرك الفرق بين الجذب والخبل تباً وتباً لسياراتهم فلقد ... غشت على عين شرع الله بالقذل تكونت من مناكير منغصة ... ومن جنون ومن حمق ومن ثمل ولو ترى لرأيت النكر غشولهم ... وثور أعلامهم من أسمج الحيل وطالما مر من للدين منتسب ... مخشوشع ضارع يبكي بكا العيل وهزهم للتوابيت التي ارتفعت ... ونكس أرؤسهم باللثم والقبل وقولهم يا بني يحيى عليك به ... فخذه واقتله وانصرني على عجل وغائبي يوم تأتيني به عجلا ... نذري إليك كذا يأتي بلا مهل كم غصة قتلت كم رجفة قصمت ... ظهر الأريب وكم نبل من الأسل حتى أقامت به الأعداء حجتهم ... من كل منتقص للدين أو لولي واضيعة الدين إذ أهل الكتاب غدت ... تظن ذا دين خير الرسل واخجلي ويا خسارتهم يا قبح ما فعلوا ... كأنهم لم يميزوا الرب من هبل ويا شقاوة قوم بين أظهرهم ... لو نافقوا وتلوا متناً من الخبل

أدواء لا يرتجى برء لعلتها ... إلا بشرب حبوب الموت بالعلل ألم يروا نقم الله التي اشتعلت ... ترمي جمالات صفر من لظى الجلل سكرى ثملت بدن من معتقة ... ما شيب فيها سوى الدردي بالأصل ماست رويداً وكان النشر يقعدها ... حتى ارتوت بغبوق النهل والعلل واستحكم السكر منها فانثنت طرباً ... تهتز في خبب رقصاً وفي رمل هاجت بها ريح نجد بالصبا سحراً ... وناح صدح رخيم الناي بالزجل غنت عراقاً وغنت بالحجاز على ... برج النوى بأفانين من الغزل وقودها الناس بل من غيضها شهقت ... بالطفل والحمل والأنعام للنزل فتكاً وذبحاً وبقراً للبطون على ... عقر البهائم بعد القطع للسبل ولات حين مناص حيث داهية ... دهماء قد سطرت في سابق الأزل كأنما صيحة الله التي عقلت ... أودت بعقل أولي الألباب ذي الدول وهكذا يصنع الله متى انتهكت ... شرائع الدين صوناً منه عن بدل هلا رجعنا لمحو الذنب حين ربا ... مستمطرين الدما من صيب المقل مستمسكين بعروى دين أحمدنا ... مستوثقين بمولى خير متكل تذب عن بيضة الإسلام من كثب ... بصارم الشرع نرجو منة النفل يا سيد الدهر ما هذا الأنين على ... آثار سعدى وسعد الدين في زحل ويا بديع المعاني راح يلمزها ... قوماً غدوا يعدلون الذر بالجمل ناديت صماً ولكن لا حياة لهم ... هيهات هيهات عن ذا الكل في شغل رشيت نبلاً ولكن لا حراك لها ... هل يخرق السهم صم الصخر والجبل وهل منار السهى وازى الحضيض علا ... وهل يطابق معوج بمعتدل حركت مني هوى قد لج في كبدي ... نضيحة خلط الأخلاق بالعضل وأنت كشاف غم المعضلات إذا ... غبطاً يقولون جار الله معتزلي خفرت ذمة أهل الله فأتمنوا ... وجزت فيهم صراط الناسك النكل شكراً لسعيك قد وفيت عهدك لا ... تخشى السوى حبذا من عالم بطل قفوت آثار آل كلهم منن ... على البرية إذ جلوا عن المثل

غر فضائلهم عز فواضلهم ... نور شمائلهم بالعلم والعمل أدنى الخطا لمعالي نيل سؤددهم ... لو رامها البدر في عامين لم يصل لو لم يكونوا أسوداً ما جرى مثلاً ... ما في السويدا رجال يوم مرتحل باتوا فكانت سويدا القلب مسكنهم على ... الحقيقة خوفاً من عتا المقل كفى كفى الناس عزا منكم وبكم ... كما كفى الشعر عزا أنه بعلي وكان هذا الفاضل رحمه الله تعالى من أعيان علماء دمشق الشام، وكان سلفي العقيدة، وكم له من قصائد غراء منع فيها الاستغاثة والالتجاء بغير الله تعالى، وكان سيفاً في أعناق الغلاة المبتدعة عبدة القبور، ولا بدع ففي دمشق أنصار الدين، وأئمة الحديث، وحفظة السنة، لا هتك الله لهم حريماً، ولا مزق لهم أديماً، ولا أخلى الله تعالى الزمان من مثلهم. ومن ذلك الأبيات المشهورة، وقد قالوا إنها استغاثة مباركة ما دعا بها أحد في حاجة إلا قضيت ولا توسل بها مريض إلا شفي بإذن الله تعالى- وهي: يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن ملكه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع مالي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع مالي سوى قرعي لبابك حيلة ... ولئن طردت فأي باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لجودك أن تقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع بالذل قد وافيت بابك عالماً ... إن التذلل عند بابك ينفع وجعلت معتمدي عليك توكلاً ... وبسطت كفي سائلا أتضرع فاجعل لنا من كل ضيق مخرجاً ... والطف بنا يا من إليه المرجع ثم الصلاة على النبي وآله ... خير الخلائق شافع ومشفع ومن ذلك قول بعض العارفين- وهي استغاثة مباركة أيضاً لم يزل الصالحون

يناجون مولاهم بها ويستمطرون سحائب لطفه تعالى: لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا ... وبت أشكو إلى مولاي ما أجد وقلت يا أملي في كل نائبة ... ومن عليه لكشف الضر أعتمد أشكو إليك أمورا أنت تعلمها ... مالي على حملها صبر ولا جلد وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً ... إليك يا خير من مدت إليه يد فلا تردنها يا رب خائبة ... فبحر جودك يروي كل من يرد ومن ذلك ما قاله البستي في قصيدته الشهيرة: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران من يتق الله يحمد في عواقبه ... ويكفه شر من عزوا ومن هانوا من استعان بغير الله في طلب ... فإن ناصره عجز وخذلان ولبعض الصالحين، وهي قصيدة مشهورة- وقد خمسها بعض أهل الزهد وهذا الأصل والتخميس: رفعت مقامي منة وتفضلاً ... وكملتني بالعلم والحلم والولا ومنك ملأت الكف لي لا من الملا ... لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلا تباركت تعطي من تشاء وتمنع عروس التجلي في فؤادي تنجلي ... وإن وعائي بالمعارف ممتلي وأرجوك يا مولاي يا ذا التفضل ... إلهي وخلاقي وسؤلي وموئلي إليك لدى الأعسار واليسر أفزع إذا كنت لي في جملة الأمر معتنى ... وقد نلت هذا الحظ من فضلك السني فلست أبالي مع عيوبي ... إلهي لئن خيبتني وطردتني فمن ذا الذي أرجو ومن ذا أشفع أنا العبد عبد الرق في كل حالة ... ولست بعبد في الرخا أو بشدة

لك الأمر في الحرمان أو في العطية ... إلهي لئن جلت وجمت خطيئتي فعفوك عن ذنبي أجل وأوسع إذا سلكت دنياي بالحال سبلها ... وأظهرت الأيام في العبد جهلها فلست يئوساً بل أقول لعلها ... إلهي لئن أعطيت نفسى سؤلها فها أنا في روض الندامة أرتع إليك رجائي ينتمي وإضافتي ... ومنك أرى سكري بدا وإفاقتي وهب أنني أخرت عن سير ناقتي ... إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي وأنت مناجاتي الخفية تسمع بحبك ثوبي في البرية منصبغ ... ولا زال بالأشواق جلدي يندبغ وقلبي على الحالين من أمره لدغ ... إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ فؤادي فلي في سيب جودك مطمع جداري على تأسيس جدواك قد بنى ... ولا زال قلبي بالتذكر يعتني وإني أنادي كلما الوجد حثني ... إلهي أجرني من عذابك إنني أسير ذليل خائف لك أخضع رفعت إلى علياء جاهك قصتي ... عسى تكشف الآن بقربك غصتي إذا أنت بالتوحيد طبق محجتي ... إلهي فأنسني بتلقين حجتي إذا كان لي في القبر مثوى ومضجع أنا العبد ملق بالرجا وسط لجة ... ورجت غراماً أرض نفسي بسرجة ولست أرى عذراً ولا بعض حجة ... إلهي لئن عذبتني ألف حجة فحبل رجائي منك لا يتقطع سألتك تعفو عن ذنوبي تفضلاً ... فإني لقد أكثرت فيك التوكلا بأسمائك الحسنى دعوت توسلاً ... إلهي أذقني طعم عفوك يوم لا بنون ولا مال هنالك ينفع

حديث غرامي فيك لا زال شايعاً ... وأنت اشتريت النفس مذ كنت بايعا فجد لي بأمن منك لا أك رايعاً ... إلهي لئن لم ترعني كنت ضايعا وإن كنت ترعاني فلست أضيع عليك ثنائي من جميعي بألسن ... على كل فعل من فعالك بي سني أتيت بذنب لي عن الغير مرسن ... إلهي إذا لم تعف عن غير محسن فمن لمسيء الهوى يتمتع هو العبد من مولاه بالمنة ارتقى ... غداة له كأس المحبة قد سقى عليك اتكالي قد عدمت لك البقا ... إلهي لئن قصرت في طلب التقى فلست سوى أبواب فضلك أقرع دفعت عذول الحب عني بالتي ... وفيك فتى أصبحت نحوك ما فتي فإن عثرت رجلي وجلت خطيئتي ... إلهي أقلني عثرتي وامح زلتي فإني مقر خائف متضرع محبك لما أنت جدت له فنب ... فهيهات أن تلقاه بالخير معتنب وها أنا راجي الفضل ما عنك أنثني ... إلهي لئن خيبتني وطردتني فما حيلتي يا رب أم كيف أصنع جمالك باه في الملاحة باهر ... ومنك يواقيت بدت وجواهر أأبقى ومنه قد تجلت مظاهر ... إلهي حليف الحب بالليل ساهر يناجي ويبكي والقفول يهجع مقامك أضحى بانتسابي عالياً ... فأخرجت من أصداف علمي لئاليا وحزني أولوا التحقيق راموا مرامياً ... وكلهم يرجو نوالك راجيا وإلا فبالذنب المدمر أصرع لوجهك قوم أولعوا بجماله ... وكل تفاني طامعا ًبوصاله

فبدل لنا نقص الهوى بكماله ... إلهي بعلم الهاشمي وآله وتوحيد أبرارهم لك أخشع ظهورك بي عندي أراه علامة ... على أنك المسدي إلي كرامة وإن رامت الأغيار مني انتقامة ... إلهي أنلني من رجائي سلامة وقبح خطيئاتي علي يشنع مقام الترجي للنوال هو الذي ... أقام فؤادي بالتردد يغتذي وإن لساني في ثنا مدحه بذي ... إلهي لئن تعفو فعفوك منقذي وإني يا رب الورى لك أخضع إمام الهدى إني وراءك مقتدي ... ولي فيك قلب من تشوقه صدى وقد بت أستجدي بأحشاء مكمد ... إلهي فانشرني على دين أحمد منيباً تقياً قانتاً لك أضرع سماء العطايا قد رفعت لها يدي ... وأصبحت أرجو زهر روضتها الندي وأشهدت هذا الباب في كل مشهد ... فلا تحرمني يا إلهي وسيدي شفاعته الكبرى فذاك المشفع هو المصطفى المختار طه محمد ... نبي الهدى رؤياه للعين أثمد سلامك من عبد الغني له يد ... وصل عليه ما دعاك موحد وناجاك أحياء ببابك ركع وللزمخشري المفسر الشهير- مع أنه كان يرمى بالاعتزال- مناجياً مولاه ومستغيثاً بالله- وهكذا فليكن من يدعي التوحيد، ويعتقد أنه على الرأي السديد-: يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل ويرى مكان المشي من أقدامها ... وخطيطها في مشيها المستعجل

ويرى مكان الدم من أعضائها ... متنقلاً من مفصل في مفصل ويرى ويسمع حس ما هو صوتها ... في قعر بحر غامض متجدول أصواتها مرفوعة عند الندا ... أرزاقها مقسومة للسؤل اغفر لعبد تاب عن فرطاته ... ما فات منه في الزمان الأول وقد استشهد ببعض هذه الأبيات في تفسير سورة البقرة من الكشاف، وهذه الأبيات تشرق بأنوار التوحيد. وكان الشيخ شهاب الدين السهروردي يواظب على قراءة حذه الاستغاثة، وذكروا لها خواص كثيرة وفوائد عظيمة لمن يداوم على قراءتها، وهي: سبحانك لا إله إلا أنت، يا رب كل شيء ووارثه، يا إله الآلهة الرفيع جلاله، يا الله المحمود في كل حال فعاله، كل يوم هو في شأن، يا حي لا حي في ديمومية ملكه وبقائه، يا قيوم فلا يفوت شيء من علمه ولا يؤوده، يا واحد الباقي أول كل شيء وآخره، يا صمد من غير شبهة ولا شيء كمثله، يا بادىء النفوس فلا شيء كفؤه يدانيه ولا إمكان لوصفه، يا كبير أنت الذي لا تهتدي العقول لوصف عظمته، يا بارىء النفوس بلا مثال خلا من غيره، يا زاكي الطاهر من كل آفة تقدس جلاله، يا كافي الموسع لما خلق من عطايا فضله، يا نقيا من كل جور لم يرضه ولم يخالطه فعاله، يا حنان أنت الذي وسعت كل شيء رحمة وعلماً، يا منان ذو الإحسان قد عمّ كل الخلائق منه، يا ديان للعباد كل يقوم خاضعاً لرهبته ورغبته، يا خالق من في السموات والأرض كل إليه معاده، يا تام فلا تصف الألسن كنه جلالة ملكه وعزه، يا رحيم كل صريخ ومكروب وعياذه وغياثه وملاذه، يا مبدع البدائع لم يبغ في إنشائها عوناً، يا علام الغيوب فلا يؤوده شيء من حفظه، يا حليم ذا الإنابة فلا يعادله شيء من خلقه، يا معيد لما أفناه إذا برز الخلائق لدعوته، يا حميد الفعال ذا المن على جميع خلقه بلطفه، يا عزيز المنع الغالب على أمره فلا يعادله، يا قاهر ذا البطش الشديد أنت الذي لا يطاق انتقامه، يا قريب، يا متعال فوق كل شيء علو ارتفاعه، يا مذل كل جبار بقهر عزيز سلطانه، يا نور كل شيء وهداه أنت الذي فلق الظلمات بنوره، يا علي الشامخ فوق كل شيء علو ارتفاعه،

يا قدوس الطاهر من كل سوء فلا شيء يعادله، يا مبدىء البرايا ومعيدها بعد فناء خلقه، يا جليل المتكبر عن كل شيء فالعدل أمره والصدق وعده، يا محمود فلا تبلغ الأوهام كل كنه ثنائه وعزه ومجده، يا كريم ذو العفو والعدل أنت الذي ملأ كل شيء عدله، يا عظيم ذو الثناء الفاخر والعز والمجد والكبرياء، فلا يذل عزه، يا مجيب، يا عزيز فلا تنطق الألسن بكل آلائه وثنائه ومجده وعزه، يا غياثي عند كل كربة، ومجيبي عند كل شدة- أسألك أماناً من عقوبات الدين والدنيا والآخرة، وأن تصرف عني كل سوء ومحذور، برحمتك يا أرحم الراحمين اهـ. وله حزب مشهور وهو استغاثة والتجاء بالله سبحانه، أوله: إلهي وإله جميع الموجودات. فيه من المناجاة والتضرع إلى الله وطلب الغوث منه والاستعانة به ما يليق بحال العارفين والصفوة والمتبعين. وللشيخ الدمياطي قصيدة طويلة دعا الله تعالى بأسمائه الحسنى فيها واستغاثه بها، ومنها قوله في آخرها: بأسمائك الحسنى دعوتك سيدي ... وجئت بها يا خالقي متوسلا ومبتهلاً ربي إليك بفضلها ... وأرجو بها كل الأمور مسهلا فقابل إلهي بالرضا منك واكفني ... صروف زماني مكثراً ومقللا وجد واعف وارحم وانصر على العدى ... وتب واهد وأصلح كل حال تخلخلا وفي كتاب (شفاء العليل) : كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح، فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث، فكما يحب أن يلوذ به اللائذون يحب أن يعوذ به العائذون، وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ويعوذوا بهم، كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه: يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله. والمقصود: أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به ممالكيه وأن يعوذوا به كما أمر

رسوله أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه اهـ. وقد رأيت أحزاباً كثيرة لجماعة من الصالحين، وليس فيها طلب شيء من مخلوق، بل كلها مناجاة لله واستغاثة به سبحانه، نعم رأيت في بعضها توسلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم نحو قول قائلهم: أسألك إلهي بجاه المصطفى صلى الله عليه وسلم أو حقه أو نحو ذلك، وهذا ليس استغاثة، فاستشهد بكل كلام رأى فيه توسلاً وصلاة ونحو ذلك يظن أنه استغاثة وذلك من الجهل بمكان. وقد أبطلنا بحمد الله كلامه وأظهرنا من جهله ما أصبح به بين الأنام مثلة وفضيحة. فقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع وقد أورد أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال في كتاب (المستغيثين بالله عند الحاجات والمهمات والمتضرعين إلى الله سبحانه وتعالى بالرغبات) ما يضيق هذا المقام عن ذكره فعلى طالب الحق أن يراجعه ويجعله مرآة عمله، وبه يعلم أن النبهاني كذب على عباد الله الصالحين. قال النبهاني: (الباب الثامن) فيما ورد من النظم في استغاثة العلماء والفضلاء به صلى الله عليه وسلم، ومن قرأها أو بعضها بنية قضاء حاجاته يرجى له حصول المقصود ببركة الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم، قال: ومعظم هذه الاستغاثات أخذتها من بعض قصائد المجموعة النبهانية، وما لم يكن منها نبهت عليه. ثم أورد الشعر مرتبا على حروف الهجاء وأورد في كل حرف كثيراً من الأبيات لشعراء متفرقين، ولا حاجة بنا إلى نقله في هذا المقام لكون كتابه منتشراً. والجواب عن جميع ما أورده في هذا الباب من وجوه كثيرة يستوجب ذكرها طولاً، بل نقتصر على بعضها طلباً للاختصار، على أنه قد سبق غير مرة ما يعلم منه الجواب أيضاً فنقول:

الوجه الأول: أن ما يستدل به على مثل هذه المطالب إنما هو الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد سبق أن كل ذلك يدل دلالة صريحة أن ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يطلب من سواه سبحانه، بل إن من طلب ذلك من غيره فقد ابتغى غير سبيل المؤمنين، وذكرنا حكم من كان كذلك، وأن كل أحد ما سوى الرسول يؤخذ منه ما يوافق الكتاب والسنة، وغير الموافق ينبذ به بوجه قائله كائناً من كان، خصوصاً إذا كان جاهلاً ككثير ممن أورد شعره النبهاني، فإنهم لا يعدون من العير ولا من النفير، ومنهم هو، فإن النبهاني أورد في كثير من الأحرف أبياتاً من شعره الركيك، وجعله حجة على أهل الحق ودليلاً على مقصده، وهكذا أورد كثيراً من شعر أمثاله من الجهلة الغلاة، فذلك بحمد الله لا يدفع الحق ولا يعارضه. الوجه الثاني: أنه قد ذكرنا سابقاً كثيراً من كلام العارفين من النظم والنثر ما يقتضي أن يوحد الله بالسؤال، وأن يفرد سبحانه بالاستعانة والالتجاء إليه، وهو الموافق لما ورد من ذلك في الكتاب والسنة، وما كان عليه الصحابة والأئمة الهداة، وذكرنا أن في كتاب المستغيثين بالله عند الملمات والمهمات البحر الذي ليس له ساحل، فمن يلتفت بعد هذا لمثل ما ذكره هذا الزائغ؟ {وإن جندنا لهم الغالبون} ، والحق يعلو على الباطل، وليس بعد الحق إلا الضلال البعيد. الوجه الثالث: أن قول النبهاني في شأن ما استشهد به من الشعر والأبيات من قرأها أو بعضها بنية قضاء حاجاته يرجى له حصول المقصود ببركة الاستغاثة ... إلخ، دعوى كاذبة، ليس عليها دليل سوها حكايات يرويها الغلاة وهم بيت الكذب، وإن سلم صحتها فليس فيها دليل على ما ادعاه النبهاني، فإن إجابة الدعاء عند القبور للسائلين لا دليل فيه على أنه دين الله، وأنه يحبه ويرضاه، وأكثر ما يدعو هؤلاء الغلاة إلى دعاء القبور والصالحين ما يحكونه من أن فلاناً دعا فاستجيب له واستغاث فأغيث، وفلان رد عليه بصره، وعند السدنة وعباد القبور

من هذا شيء كثير، قد أورد منه النبهاني شيئاً كثيراً جعله من قواعد مذهبه، وأدلة شركه، وقد ذكرنا سابقاً أن أسباب المقاصد قد تكون محرمة كالسحر ونحوه، وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها ديناً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السابقون الأولون، وما سوى هذه من الأمور المحدثة فلا يستحب وإن اشتملت أحياناً على فوائد، لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها. الوجه الرابع: أن الشرك وقع كثيراً من دعاء غير الله كالشرك بأهل القبور، من دعائهم والتضرع إليهم والرغبة إليهم ونحو ذلك، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة التي تتضمن الدعاء لله وحده خالصاً عند القبور لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم، فكيف إذا وجد ما هو نوع الشرك من الرغبة إليهم؟ سواء طلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله، بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهي عن ذلك وإن لم يكن عند القبر، كما لا يقسم بمخلوق مطلقاً، وهذا القسم منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة، وهل هو نهي تحريم أو تنزيه؟ على قولين؛ أصحهما أنه نهي تحريم، ولم يتنازع العلماء إلا في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فإن فيه قولين في مذهب الإمام أحمد، وبعض أصحابه- كابن عقيل- طرد الخلاف في الحلف بسائر الأنبياء، لكن القول الذي عليه جمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق البتة، ولا يقسم بمخلوق البتة، وهذا هو الصواب، والإقسام على الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي اشتمل عليه كثير من الشعر الذي أورده النبهاني في هذا الباب ينبني على هذا الأصل، ففيه هذا النزاع، وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في منسك المروذي ما يناسب قوله بانعقاد اليمين به، لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به فكذلك هذا، وأما غيره فما علمت بين الأمة فيه نزاعاً، بل قد صرح العلماء بالنهي عن ذلك، واتفقوا على أن الله يسأل ويقسم عليه بأسمائه وصفاته كما يقسم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في السنن: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال

والإكرام"1. وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"2. فهذه الأدعية ونحوها مشروعة باتفاق العلماء، وأما إذا قال: أسألك بمعاقد العز من عرشك؛ فهذا فيه نزاع، رخص فيه غير واحد لمجيء الأثر به، ونقل عن أبي حنيفة كراهته، قال أبو الحسين القدوري في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك، وهو قول لأبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا، وأكره بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، بهذا الحق يكره، قالوا جميعاً فالمسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقاً، ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق أو بالخالق؟ فيه نزاع بينهم، فلذلك تنازعوا فيه، وأبو يوسف بلغه الأثر فيه (أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة) فجوزه لذلك. وقد نازع في هذا بعض الناس، وقالوا: في حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا رياءً، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي"3 وقد قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 4 على قراءة الجر كما يقال سألتك بالله وبالرحم.

_ 1 أخرجه النسائي (3/ 52) وابن ماجه (3858) وصححه الألباني. 2 تقدم تخريجه. 3 حديث ضعيف، تقدم تخريجه. 4 سورة النساء: 1.

ومن زعم من النحاة أنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فإنما قاله لما رأى غالب الكلام بإعادة الجار، وإلا فقد سمع من الكلام العربي نثره ونظمه العطف بدون ذلك، كما حكى سيبويه: ما فيها عيره وفرسه، ولا ضرورة هنا كما يدعى مثل ذلك في الشعر، ولأنه قد ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون". وفي النسائي والترمذي وغيرهما حديث الأعمى الذي صححه الترمذي "أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره عليه، فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين، ويقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد يا نبي الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه فيّ ودعا الله فرد الله تعالى عليه بصره". والجواب عن هذا؛ أن يقال أولاً: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 1 وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية2. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل- وهو رديفه-: "يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم"3 فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق. وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه على قولين، ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه:

_ 1 سورة الروم: 47. 2 سورة الأنعام: 54. 3 تقدم تخريجه.

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وبقوله في الحديث الصحيح: "إني حرمت الظلم على نفسي" إلخ.. والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر. وأما الإيجاب عليه تعالى والتحريم بالقياس على خلقه؛ فهذا قول مبتدع، مخالف لصحيح المنقول، وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئاً، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح، ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحق الأجير على المستأجر فهو جاهل في ذلك، وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما من به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه ليس من باب المعاوضة ولا من باب ما أوجبه غيره عليه، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك. وإذا سئل بما جعله هو سبباً للمطلوب من الأعمال الصالحة التي وعد أصحابها بكرامته وأنه يجعل لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون فيستجيب دعاءهم، ومن أدعية عباده الصالحين ومن شفاعة ذوي الوجاهة عنده- فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سبباً. وأما إذا سئل بشيء ليس هو سبباً للمطلوب؛ فإما أن يكون إقساماً عليه به فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالاً بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة. فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة ورحمته لهم أن ينعمهم ولا يعذبهم، وهم وجهاء عنده يقبل من شفاعتهم ودعائهم ما لا يقبله من دعاء غيرهم، فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان وفلان لم يدع ربه،

وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته بل بنفس ذاته وما جعله له ربه من الكرامة لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب. وحينئذ فيقال: أما التوسل والتوجه إلى الله وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم؛ فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1 وقوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 2. فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه وتعالى سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر أو كان على وجه السؤال له والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار. ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، الدعاء بمعنى العبادة، والدعاء بمعنى المسألة، وإن كان كل منهما يستلزم الآخر، لكن العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجاته وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة، ثم يكون من أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب من الرزق والنصر والعافية مطلقاً، ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته ومحبته والتنعم بذكره ودعائه ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي أهمته، وهذا من رحمة الله بعباده يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية، وقد يفعل العبد ابتداء ما أمر به لأجل العبادة لله والطاعة له ولما عنده من محبته والإنابة إليه وخشيته وامتثال أمره، وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق والنصر والعافية، وقد قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3 وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ قوله تعالى:

_ 1 سورة المائدة: 35. 2 سورة الإسراء: 57. 3 سورة غافر: 60.

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا النوعين، قيل ادعوني أي اعبدوني وأطيعوا أمري أستجب دعاءكم، وقيل سلوني أعطكم، وكلا النوعين حق. وفي الصحيحين في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النزول: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر". فذكر أولاً إجابة الدعاء، ثم ذكر إعطاء السائل، ثم ذكر إعطاء المغفرة للمستغفر، فهذا جلب المنفعة، وهذا دفع المضرة، وكلاهما مقصود الداعي المجاب، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1. وقد روي أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. فأخبر سبحانه وتعالى أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ثم أمرهم بالاستجابة له والإيمان به، كما قال بعضهم فليستجيبوا لي إذا دعوتهم، وليؤمنوا بي أني أجيب دعوتهم. قالوا: وبهذين الشيئين تحصل إجابة الدعوة بكمال الطاعة لأولهيته، وبصحة الإيمان بربوبيته، فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه حصل مقصوده من الدعاء وأجيب دعاؤه، كما قال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 2 أي يستجيب لهم، يقال استجابه واستجاب له، فمن دعاه موقناً أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه، وقد يكون مشركاً وفاسقاً، فإنه سبحانه هو القائل: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ

_ 1 سورة البقرة: 186. 2 سورة الشورى: 26.

كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} 1 وهو سبحانه القائل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} إلى قوله: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} 2 وهو سبحانه القائل: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 3 لكن هؤلاء الذين يستجاب لهم- لإقرارهم بربوبيته وأنه يجيب دعاء المضطر- إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته ولا مطيعين له ولرسله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعاً في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} إلى قوله {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} 4 وقد دعا الخليل عليه الصلاة والسلام بالرزق لأهل الإيمان، فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 5. فليس كل من متعه الله برزق ونصر- إما إجابة دعائه وإما بدون ذلك- يكون ممن يحبه الله ويواليه، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر والبر والفاجر، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤالهم في الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق، وقد ذكر أن بعض الكفار من النصارى حاصروا مدينة للمسلمين فنفد ماؤهم العذب فطلبوا من المسلمين أن يزودوهم بماء عذب ليرجعوا عنهم، فاشتور ولاة أمر المسلمين وقالوا بل ندعهم حتى يضعفهم العطش فنأخذهم، فقام أولئك فاستسقوا ودعوا الله فسقاهم، فاضطرب بعض العامة، فقال الملك لبعض العارفين: أدرك الناس، فأمر بنصب منبر له، وقال: اللهم إنا نعلم أن هؤلاء من الذين تكفلت بأرزاقهم كما قلت في كتابك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 6 وقد دعوك مضطرين وأنت

_ 1 سورة يونس: 12. 2 سورة الإسراء: 67 3 سورة الأنعام: 40- 41. 4 سورة الإسراء: 18- 20. 5 سورة البقرة: 126. 6 سورة هود: 6.

تجيب المضطر إذا دعاك فأسقيتهم لما تكفلت به من رزقهم، ولما دعوك مضطرين، لا لأنك تحبهم ولا تحب دينهم، والآن فنريد أن ترينا فيهم آية تثبت بها الإيمان في قلوب عبادك المؤمنين، فأرسل الله عليهم ريحاً أهلكتهم، أو نحو هذا. ومن هذا الباب من قد يدعو دعاء اعتدى فيه؛ إما بطلب ما لا يصلح، أو بالدعاء الذي فيه معصية لله بشرك أو غيره، فإذا حصل بعض غرضه ظن أن ذلك دليل على أن عمله صالح بمنزلة من أملي له وأمد بالمال والبنين فظن أن ذلك مسارعة له في الخيرات، قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} 1 وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 2 وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3 والإملاء إطالة العمر وما في ضمنه من رزق ونصر، وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} إلى قوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} 4 وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع، وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 5. والمقصود هنا؛ أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادة لله يثاب العبد عليه في الآخرة مع ما يحصل له في الدنيا، وقد يكون دعاء مسألة تقضى به حاجته، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، وقد يكون سبباً لضرر دينه فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله تعالى وتعداه من حدوده، فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه

_ 1 سورة المؤمنون: 55- 56. 2 سورة الأنعام: 44. 3 سورة آل عمران: 178. 4 سورة القلم: 44- 45. 5 سورة الأعراف: 55.

بالأعمال الصالحة التي أمر بها وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته. ومن هذا الباب، استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره. وقول عمر رضي الله عنه: "إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا". معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به أنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعض الناس أسألك بجاه فلان عندك، ويقولون: نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثاً موضوعاً: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض"1. فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه كما ذكر عمر رضي الله عنه لفعلوا ذلك بعد موته ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم بأن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره. وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: "كنا نتوسل إليك بنبينا" فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال: "يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه فيّ". فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه، وقوله: "يا محمد يا نبي الله ". هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما يقول

_ 1 انظر "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (رقم: 22) .

المصلي: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، يراد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له مطيعاً لأمره مقتدياً به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته فلا يكون التوسل لا بشيء منه ولا بشيء من السائل بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. وكذلك لفظ السؤال بشيء قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب وقد يراد به الإقسام. ومن الأول: حديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما "فإن الصخرة انطبقت عليهم، فقالوا: "ليدع كل رجل منكم بأفضل عمله، فقال أحدهم: اللهم إنه كانت لي بنت عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وأنها طلبت مني مائة دينار، فلما أتيتها بها قالت: يا عبد الله" اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فتركت الذهب وانصرفت، فإن كنت إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا" فانفرجت لهم فرجة رأوا منها السماء. وقال الآخر: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنآ بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقاً فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فافنرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم، غير رجل

واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجرته حتى كثرت منه أموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله؟ أد إلي أجري. فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله؛ لا تستهزىء بي. فقلت: إني لا أستهزىء بك. فأخذه كله، فاستاقه فلم يترك منه شيئاً؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه؛ فافنرجت الصخرة، فخرجوا يمشون" 1. فهؤلاء دعوا الله سبحانه بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى ويتوجه به إليه ويسأله به، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله قال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 2 وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3 وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح وسؤاله والتضرع إليه. ومن هذا ما يذكر عن الفضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال: بحبي إياك إلا فرجت عني ففرج عنه. وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ولدها لما قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك، وهاجرت في سبيلك. وسألت الله أن يحيي ولدها، وأمثال ذلك. وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} إلى قوله: {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 4.

_ 1 أخرجه البخاري (2215، 2272، 2333، 3465، 5974) ومسلم (2743) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. 2 سورة الشورى: 26. 3 سورة غافر: 60. 4 سورة آل عمران: 193- 194.

فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه وفعل ما يحبه من العبودية والطاعة هو من جنس فعل ذلك رجاء لرحمة الله وخوفاً من عذابه، وسؤال الله بأسمائه وصفاته- كقوله: "أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان بديع السموات والأرض، وأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" ونحو ذلك- يكون من باب التسبب، فإن كونه المحمود المنان يقتضي منته على عباده وإحسانه الذي يحمد عليه، وكونه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد يقتضي توحده في صمديته، فيكون هو السيد المقصود الذي يصمد الناس إليه في حوائجهم المستغني عما سواه، وكل ما سواه مفتقرون إليه لا غنى بهم عنه، وهذا سبب لقضاء الحاجات والمطلوبات، وقد يتضمن معنى ذلك الإقسام عليه بأسمائه وصفاته. وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب؛ فإن حق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به والتوجه به والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله عير مخلوق، ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق". قالوا: والاستعاذة لا تكون بمخلوق فأورد بعض الناس لفظ المعافاة، فقال جمهور أهل السنة المعافاة من الأفعال. وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم يقولون: إن أفعال الله قائمة به، وإن الخلق ليس هو المخلوق، وهذا قول جمهور أصحاب الشافعي وأحمد ومالك، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وقول عامة أهل الحديث والصوفية

وطوائف من أهل الكلام والفلسفة، وبهذا يحصل الجواب عما أوردته المعتزلة ونحوهم من الجهمية نقضاً، فإن أهل الإثبات من أهل الحديث وعامة المتكلمة الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق، بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره، واتصف به ذلك المحل لا غيره، فإذا خلق الله لمحل علماً أو قدرة أو حركة أو نحو ذلك كان هو العالم به القادر به المتحرك به، ولم يجز أن يقال إن الرب المتحرك بتلك الحركة، ولا هو العالم القادر بالعلم والقدرة المخلوقين بل بما قام به من العلم والقدرة، قالوا فلو كان قد خلق كلاماً في غيره كالشجرة التي نادى منها موسى لكانت الشجرة هي المتصفة بذلك الكلام، فتكون الشجرة هي القائلة لموسى {إنني أنا الله} ولكان ما يخلقه الله من إنطاق الجلود والأيدي وتسبيح الحصى وتأويب الجبال وغير ذلك كلاماً له كالقرآن والتوراة والإنجيل، بل كان كلام في الوجود كلامه لأنه خالق كل شيء، وهذا قد التزمه مثل صاحب الفصوص وأمثاله من هؤلاء الجهمية الحلولية والاتحادية، فأوردت المعتزلة صفات الأفعال كالعدل والإحسان، كأنه يقال إنه عادل محسن بعدل خلقه في غيره وإحسان خلقه في غيره، فأشكل ذلك على من يقول ليس لله فعل قائم به، بل فعله هو المفعول المنفصل عنه وليس خلقه إلا مخلوقه. وأما من طرد القاعدة وقال أيضاً إن الأفعال قائمة به ولكن المفعولات المخلوقة هي المنفصلة عنه وفرق بين الخلق والمخلوق فاطرد دليله واستقام. والمقصود هنا؛ أن استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بعفوه ومعافاته من عقوبته- مع أنه لا يستعاذ بمخلوق- كسؤال الله بإجابته وإثابته وإن كان لا يسأل بمخلوق، ومن قال من العلماء لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا به، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وفي لفظ للترمذي: "من حلف بغير الله فقد أشرك" قال الترمذي حديث حسن. ومع هذا فالحلف بعزة الله ولعمر الله ونحو ذلك مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

الحلف به، لم يدخل في الحلف بغير الله، لأن لفظ الغير قد يراد به المباين المنفصل، ولهذا لم يطلق السلف وسائر الأئمة على القرآن وسائر صفات الله أنها غيره ولا أنها ليست غيره، لأن لفظ الغير فيه إجمال قد يراد به المباين المنفصل فلا يكون صفة الموصوف أو بعضه داخلاً في لفظ الغير، وقد يراد به ما يمكن تصوره دون تصور ما هو غير له فيكون غيراً بهذا الاصطلاح، ولهذا تنازع أهل النظر في مسمى الغير، والنزاع في ذلك لفظي، ولكن بسبب ذلك حصل في مسائل الصفات من الشبهات ما لا ينجلي إلا بمعرفة ما وقع في الألفاظ من الاشتراك والإبهامات، كما قد بسط في غير هذا الموضع، ولهذا يفرق بين قول القائل: (الصفات غير الذات) وبين قوله: (صفات الله غير الله) . فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى اسم الله يدخل فيه صفاته، بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات، ولهذا لا يقال: صفات الله زائدة عليه؛ وإن قيل الصفات زائدة على الذات، لأن المراد هي زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات، والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، فليس اسم الله متناولاً لذات مجردة عن الصفات أصلاً، ولا يمكن وجود ذلك، ولهذا قال أحمد في مناظرته للجهمية: لا نقول الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. وأما قول الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ: {تَسَّاءَلونَ بهِ والأرحَامِ} 1 فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره توسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم والصلاة عليهم. ومن هذا الباب ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كنت إذا سألت علياً

_ 1 وهي قراءة نافع وشعبة وأبي جعفر وابن عامر ويعقوب وابن كثير. وقرأها عاصم وحمزة والكسائي وخلف بالتخفيف (تسَاءلون) .

شيئاً فلم يعطنيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه؛ فيعطينه، أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من قولهم: أسألك بحق أنبيائك ونحو ذلك، وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي" 1. وقوله: "إن من برهما بعد موتهما الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما". ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر، ولكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره، لكن بين المعنيين فرق، فإن السائل بالنبي طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه أو كان مما لا يقسم به كان باطلا، وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم للمقسم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار المقسم، وفي مثل هذا قيل: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" 2، وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به. فالأول؛ يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحظر والمنع. والثاني؛ سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ودعائه وحقه، فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حسن السؤال كسؤوال الإنسان بالرحم. ومن هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم. وأما بمجرد الأنبياء والصالحين ومحبة الله لهم وتعظيمه لهم ورعايته لحقوقهم التي أنعم بها عليهم فليس فيها ما يوجب حصول مقصود السائل إلا

_ 1 أخرجه مسلم (2552) . 2 أخرجه البخاري (2703، 2806، 499، 4500، 4611، 6894) ومسلم (1675) .

بسبب بين السائل وبينهم، أما محبتهم وطاعتهم فيثاب على ذلك، وأما دعاؤهم له فيستجيب الله شفاعتهم فيه. والتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم، وإما بدعائهم وشفاعتهم، فمجرد دعائه بهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له لا ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى، وقد بسطت هذه المسائل في غير هذا الموضع. والمقصود هنا؛ أنه إذا كان السلف والأئمة قالوا في سؤاله بالمخلوق ما ذكر فكيف بسؤال المخلوق الميت، سواء سئل أن يسأل الله أو سئل قضاء الحاجة ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس إما عند قبر الميت، وإما مع غيبته. وصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حسم المادة، وسد الذريعة، بلعنه من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأن لا يصلي عندها لله، ولا يسأل إلا الله، وحذر أمته ذلك، فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك وأسباب الشرك؟ كل هذا نقلناه من كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" ومنه علم ما اشتمل عليه الشعر الذي أورده النبهاني، فإن جميعه قد اشتمل على القسم الذي فيه محذور، بل بما فيه شرك ظاهر، كقول عبد الرحيم البرعي مخاطباً للرسول صلى الله عليه وسلم: مولاي مولاي فرج كل معضلة ... عني فقد أثقلت ظهري الخطيئات عد علي بما عودتني كرماً ... فكم جرت لي بخير منك عادات وامنع حماي وهب لي منك تكرمة ... يا من مواهبه خلد وخيرات واعطف علي وخذ يا سيدي بيدي ... إذا دهتني الملمات المهمات وكقول الشاب الظريف: فيا خاتم الرسل الكرام ومن به ... لنا من مهولات الذنوب تخلص أغثنا أجرنا من ذنوب تعاظمت ... فأنت شفيع للورى ومخلص وقول القلقشندي:

أنت الذي لم يخف في الناس قاصده ... وليس عندك تسويف وتسويل قصدت جاهك لا أرجو سواك ولي ... في باب عزك ترديد وتطفيل وقال محمد البكري الكبير من أبيات: يا أكرم الخلق على ربه ... وخير من فيهم به يسأل قد مسني الكرب وكم مرة ... فرجت كرباً بعضه يذهل وقال الشيخ عبد الرحمن الدمشقي من أبيات: أقلني مما فيه أمسيت واهناً ... ونفسي بقيد الكرب أمست مكبله وعجل بكشف الضر عمن لك التجا ... لأن الضنا قد هاض ظهري وأثقله انظر إلى قوله: وعجل بكشف الضر إلخ ... والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُو} 1. وهكذا كثير من الأبيات التي أوردها النبهاني كما لا يخفى على من راجع كتابه، ولا بدع فهو المبتدع الذي ختم الله على قلبه. الوجه الخامس: إن أجل من تمسك بشعره النبهاني؛ الصرصري، والبوصيري، وأما غيرهما- كالبرعي، والوتري، والشهاب، وأمثالهم- فليسوا من المعروفين بعلم ولا دين، ولا زهد ولا فضيلة، ولا شيء يذكر. والصرصري والبوصيري اعترض أهل العلم ومن له بصيرة في الدين على ما كان في شعرهما من الغلو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقول الصرصري في قصيدته اللامية التي استشهد بأبيات منها النبهاني: يا رسول الله يا من مدحه ... في القوافي أقوم الألفاظ قيلا مسني ضر عناه ثابت ... من ذنوب غادرت قلبي كليلا أنا منها تائب مستغفر ... فاسأل الرحمن لي صبراً جميلا

_ 1 سورة يونس: 107.

وقوله: لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة ... إليه بها في الحادثات تنصل وقوله: وتسأل رب العالمين بميتة ... على السنة البيضاء غير مبدل إلى غير ذلك مما قاله في قصائده المشهورة كقوله: وأنت على كل الحوادث لي ولي. وقوله: على تربها خديك عفر. وقد استشهد بكثير من شعره النبهاني في كتابه. وكذلك البوصيري حيث يقول في همزيته: يا أبا القاسم الذي ضمن أقسا ... مي عليه مدح له وثناء الأمان الأمان إن فؤادي ... من ذنوب أتيتهن هواء إلى آخر ما أورده النبهاني منها، وقال أيضاً: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقد ذكر الشيخ تقي الدين أن شعر يحيى الصرصري وقع فيه من الغلو والإطراء ما لا ينبغي أن يصدر مثله في حق مخلوق، وأنكر على من استغاث بغير الله أو دعاه. قال رحمه الله في رده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة: "وإنه حرف الكلم عن مواضعه، وتمسك بمتشابهه وترك المحكم، كما يفعله النصارى، وكما فعل هذا الضال- يعني ابن البكري- أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت، والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحداً، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه فالمستغيث به مستغيث

بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، فدخل عليه الخطأ من وجوه. منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغاثاً به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازاً مع دعواه الإجماع على ذلك. فإن المستغاث هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به. الثاني: ظنه أن توسل الصحابة في حياته كان توسلاً بذاته صلى الله عليه وسلم لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك وهذا غلط. الثالث: أنه أدرج السؤال أيضاً في الاستغاثة به، وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهذا أصاب في لفظ الاستغاثة لكن أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيي الصرصري، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان له كتاب المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وهؤلاء ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم- ولهم فضل وعلم وزهد- إذا نزل به أمر خطا إلى الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس، ولهذا لما نبه من نبه من فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام بل مشابهة لعباد الأصنام"انتهى. وقال رحمه الله في أثناء كلام له: "ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم

يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن بها، وقال هذا أصل دين الإسلام، وإن بعض أكابر الشيوخ من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينت لنا، لعلمه أن هذا أصل دين الإسلام، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعون دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عباداتهم لله فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى أن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف الضر، وقال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر أو قال: عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضرر فقلت لهم: إن هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك الرمة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين والاستغاثة بالله، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك، لما صح من تحقيق التوحيد لله وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" انتهى ما هو المقصود من كلامه رحمه الله. ولم يقتصر فيه على مجرد الإنكار بل جعله شركاً وكفراً بعد قيام الحجة والعلم بكفر فاعله، وجعله من ضرورات الدين، بل جعله أصل الدين، وجعل

وجود هذا الشرك مانعاً من القتال الشرعي وسبباً للهزيمة وعدم النصر، فأي إنكار أبلغ من هذا؟ وقد أنكر الشيخ شعر الصرصري، ونص على أنه يقع منه ما لا يسوغ ولا يجوز، على أن بعضهم أول بعض أقواله فقال: لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة. ليس فيه استغاثة كما زعم من استشهد به على ذلك، بل المقصود أنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بين العباد وبين الله تعالى في إبلاع شرعه ودينه، وبيان ما يحب ويرضى، وما يكرهه وعنه ينهى، فهو وسيلة لمن سار على سبيله وتمسك بهديه وقبله، وقوله: سل الله رب العالمين يميتني ... على السنة البيضاء غير مبدل ليس صريحاً في أن السائل لله هو النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يحتمل أنه أراد سل أيها المذنب وأيها العبد ولكنه التفت عن التكلم إلى الخطاب وإحسان الظن بمثله أولى. وأما قوله: وأنت على كل الحوادث لي ولي. فالمراد أنه يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولاه على كل الحوادث في اليسر والعسر، والرخاء والشدة، والضيق والسعة، لا يوالي غير أولياء الله، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} 1 فليس المراد بالولي المستغاث المعبود، فإن هذا فهم جاهلي شركي، وأهل الإسلام يفهمون من موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبته، وتعزيره، وتوقيره، وطاعته، والتسليم لأمره، والوقوف عند نهيه، وتقديم قوله على قول كل أحد، هذه موالاة أهل الإسلام. لكن يبقى باقي الأبيات التي استشهد بها النبهاني من شعر الصرصري فإن تأويلها مشكل.

_ 1 سورة المائدة: 55- 56.

وصنف الشيخ رحمه الله أيضاً مجلداً في حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين، وقرر أدلة المنع من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، وأكثر الكلام في المنع من هذا. قال رحمه الله تعالى: "ومما يبين حكمة الشريعة وأنها كسفينة نوح أن الذين خرجوا عن المشروع خرجوا إلى الشرك، وطائفة منهم يصلون ويدعو أحدهم الميت فيقول اغفر لي وارحمني، ومنهم من يستقبل القبر ويصلي إليه مستدير الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً، وهو شيخ متبوع، فلعله أمثل أصحاب شيخه يقوله عن شيخه، وأخرج من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، وأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد، وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنفوا كتباً وسموها مناسك حج المشاهد، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموها منسكاً وحجاً، فالمعنى واحد. وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والصلاح صنف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة وجعل هذا من مناقبه. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض الشيوخ- ممن يقصده بعض العلماء والقضاة قيل عنه أنه كان- يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبله الذي بالهند، الذي للمشركين، لأنه يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق. قال: وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته فقال: أريد أن أسلك على يديك، فقال له: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له:

واليهود والنصارى ليسوا كفاراً، قال: لا تشدد عليهم ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات، يسافرون إليها وقت الموسم فيعرفون بها كما يفعل بالمغرب والمشرق. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله، فليسوا على ملة إبراهيم. والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح ولكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم- وله فضل وعلم وزهد- إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس، وهؤلاء مستندهم مع العادة قول طائفة: قبر معروف أو غيره ترياق مجرس، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان، فإن الشياطين تتمثل لهم، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال المقام". ثم قال "حاكياً عن البكري الذي صنف في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم: "وقد طاف هذا بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقون، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه، مع أن قوماً كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياماً عظيماً، واستعانوا بمن له غرض من ذوي السلطان مع فرط عصبيتهم وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم" انتهى. فتأمل هذا الكلام فإنه يستبين منه ضلال النبهاني وأضرابه من الغلاة، وقد صرح شيخ الإسلام أن السنة كسفينة نوح، ومعلوم أن دعاء الأنبياء ليس من السنة، بل هو من البدع الشركية. ومنها: أن بعضهم أفضى به ذلك إلى أن يصلي للميت ويقول اغفر لي وارحمني وهذا جائز عند النبهاني وإخوانه من عباد القبور سائغ لا ينكر.

ومنها: أن بعض المستغيثين يعكف على القبر عكوف أهل التماثيل وهذا واقع منهم أيضاً وهذا من لوازم قولهم بجواز الاستغاثة. ومنها: أن جمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادتها من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد. ومنها: أن بعضهم يحج إلى القبور، وهذا عند النبهاني ومن على شاكلته من الفضائل التي لا تنكر. ومنها: إنكار الشيخ على من صنف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وأن هذا المصنف حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وفاعل ذلك عند الغلاة أفضل من الحاج. ومنها: أن ذلك أفضى ببعضهم إلى أن قال: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والصنم الذي في الهند، وبعضهم لا يرى ذلك للصنم الذي في الهند ويراه لمن يعتقده وما يتأله به من المشايخ. ومنها: أن بعضهم يعرف عند مقابر الشيوخ كما يفعل بعرفة، وإن هذا وقع في المغرب والمشرق. ومنها: أن الشيخ نفى العلم عمن يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم، كالصرصري وابن النعمان، وأنهم جروا على عادة العامة الذين يستغيثون بالمشايخ في الشدائد ويدعونهم. ومنها: أن من له فضل وعلم وزهد قد يقع منه الشرك والاستغاثة بغير الله، وأن مستندهم مع العادة قول طائفة قبر معروف أو غيره ترياق مجرب. ومن المعلوم أن هذا القول صدر عن غير معصوم، وجمهور أهل العلم والإيمان قد ردوه وأنكروا على فاعله، وقد مضى فيما مر من عبارات شيخ الإسلام أن هذا لا يعرف في عهد القرون المفضلة، وكفى بهذا ذماً. ومنها: قوله إن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى

بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة، أو الأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان، فجزم بأن قضاء الحوائج قد يحصل لعباد الملائكة، أو الأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان، ولو حكى الوقائع الموجودة في زمانه لطال المقام. ومنها قول الشيخ وهو ثقة فيما يحكيه بالإجماع أن علماء مصر لم يوافقوا من صنف في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأبوا أن يخالفوا ما كتبه شيخ الإسلام من المنع، فالحمد لله لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده الصالحون. وأما ما انتقده أهل العلم والدين على كلام البوصيري فكثير جداً، من ذلك قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم قال العلامة الشيخ عبد اللطيف في كتابه (منهاج التأسيس) : إن قول البوصيري هذا أشنع وأبشع من قول الصرصري، لما تضمنه من الحصر، ولما فيه من اللياذ بغير الله في الخطب الجلل، والحادث العمم، وهو قيام الساعة، وقد قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. فدعاء غير الله في الأمور العامة الكلية أبشع من دعاء غيره في الأمور الجزئية، ولذلك أخبر أن عباد الأصنام لا يدعون غيره عند إتيان العذاب أو إتيان الساعة التي هي الحادث العمم. وأما من قال من الغلاة في الاعتذار عنه أن مقصوده الشفاعة والجاه فهذا لا يفيده شيئاً، لأن عامة المشركين إنما يقصدون هدا ولم يقصد الاستقلال إلا معطلة الصانع، وعامة المشركين إنما قصدوا الجاه والشفاعة كما حكاه القرآن في غير

_ 1 سورة الأنعام: 40.

موضع. وأما قول الغلاة وتلبيسهم بأنه صلى الله عليه وسلم أعطى الشفاعة يوم القيامة، وأنزل عليه {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1 فهذا تلبيس منهم وتشبيه على من لا يدري الحقائق ولم يتفطن لمسألة النزاع، فإن الخصومة والنزاع في طلب الشفاعة أو غيرها من الشفعاء في حال مماتهم وقصدهم لذلك ونحوه من المطالب المهمة. وأما حصول الشفاعة وسؤاله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهذا لا ينكر، وهو من جنس ما كان يطلب منه في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته فلم يعرف عن أحد من أصحابه ولا عن أئمة الإسلام بعدهم أنه دعاه وطلب منه شفاعة أو غيرها، وإنما فعله بعض الخلوف الذين لا يرجع إليهم في مسائل الأحكام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ومن ذلك قول البوصيري أيضاً في قصيدته البردة في شأن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: لو ناسبت قدره آياته عظماً ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم يقول: لو ناسبت آياته ومعجزاته عظم قدره عند الله تعالى وكمال قربه وزلفاه عنده؛ لكان من جملة تلك الآيات أن يحيي الله العظام الرفات ببركة اسمه وحرمة ذكره، حيث يتيمن به في الدعوات، ويتوصل به في المهمات، وذلك لأن الملوك المجازية إذا توسل عندهم باسم من له قرب ومكانة لديهم وتوصل بذكره لقضاء المآرب وإنهاء المطالب يقضون الأوطار الرفيعة تنويهاً بذكره وتنبيهاً على قدره، فمالك الملوك وإن كان أحق بذلك وأولى لكن حكمته ما اقتضته صونا للضعفة عن المداحض، وعوناً على العوام في مزالق الأقدام، وخص إحياء الموتى لكونه أرفع المطالب وأنفعها، ولأنه كما أحيى ببركة المسمى موتى القلوب والأرواح، فالمناسب أن يحيي ببركة الاسم تلك العظام والأشباح، انتهى ما قاله بعض شراح هذه القصيدة.

_ 1 سورة الإسراء: 79

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو، فإن من جملة آياته صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم الشأن، وهو الكتاب الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1. وهو الكتاب الذي أنزله نوراً وجعله مهيمناً على كل كتاب، وهو الكتاب الذي أنزله وفضله على كل حديث قصه، وجعله فرقاناً فرق به بين الحلال والحرام، وقرآناً أعرب به عن شرائع الأحكام، وكتاباً فصله لعباده تفصيلاً، ووحياً أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تنزيلاً، وجعله نوراً يهتدى به من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه، وشفاء لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه، وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته، وكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن لا يناسب قدر النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو منحط عن قدره! وهو كلام الله وكلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود. ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها الذاكر لم تحيي دارس الرمم فههنا أمران عظيمان: انحطاط قدر القرآن الذي هو صفة من صفات الله عن قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المناسب لقدره أن يحصي اسمه حين يدعى دارس الرمم، وليس هذا بجائز عند أحد من فرق المسلمين فضلاً عن أهل السنة، فإنه ليس وراء هذا الغلو غلو أعظم منه، ولهذا ذهب المتعصبون للناظم في كل واد من أودية التأويل. ففي كتاب "غرائب الاغتراب": أن مما جرى البحث عنه بيت البوصيري هذا وهو مشكل، وأمر معضل، فإن مقتضى لو وكون القرآن داخلاً في آياته صلى الله عليه وسلم أن لا يكون القرآن العظيم مناسباً قدره عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم، وذلك مما لا يكاد يقال، لما أن القرآن كلام الملك المتعال. ثم أجاب بأجوبة غير مرضية، إلى أن قال: الجواب يتوقف على تحقيق

_ 1 سورة فصلت: 42.

المراد بالقرآن الذي لا يسوغ أن يفضل عليه النبي أو أي إنسان أهو الكلام النفسي الذي هو من صفاته تعالى الذاتية؟ أم الكلام اللفظي الذي ذهب إلى أنه مخلوق- كالمعتزلة- معظم الأشاعرة والماتريدية، فإن كان الأول فالقول به غير مناسب قطعاً، بل هو باطل بلا شبهة عقلاً وسمعاً وإن كان الثاني فالقول بعدم مناسبة عدم المناسبة مما تتردد فيه الأذهان، لقول معظم أهل السنة أنه عليه الصلاه والسلام أفضل المخلوقات ما يكون أو كان. وحيث أن البوصيري عبر بالآيات أي المعجزات أراد بالقرآن المعنى الثاني من المعنيين، إذ الكلام النفسي ليس بمعجزة، ولم يتحد به سيد الكونين، والظاهر أنه أشعري يقول: إن الكلام اللفظي مخلوق، ضرورة اشتماله على بداية ونهاية وسابق ومسبوق، وأنه ممن يفضل النبي عليه الصلاة والسلام على جميع المخلوقات، ممن مضى منهم ومن هو آت، فقد قال وأحسن في المقال: فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم إلى أن قال: وأنا أقول الآن مستعيناً بالملك المنان، قد ظفرت بنحو ما ذكرته في مختصر شرح المرزوقي للقصيدة، ونصه- بعد كلام في هذا البيت-: قال الشارح: لم يزل الناس يعترضون هذا البيت لاقتضائه أن ليس فيما أعطيه صلى الله عليه وسلم من الآيات ما يناسب قدره، لأن (لو) حرف امتناع لامتناع، أي امتنعت الخاصة المذكورة لامتناع أن يناسب قدره العظيم شيء من آياته صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل فإن من آياته القرآن العظيم، وهو كلام الله تعالى، والكلام صفة، وشرف الصفة بشرف الموصوف. ثم قال: وعنه أجوبة. وأقول: السؤال مغاطة، فإن القرآن يراد به كلام الله الذي هو صفة الذات وهو لمعنى القائم به، وهذا لم يعطه صلى الله عليه وسلم، لأن الذي أعطيه معجزة والمعجزة فعل لله تعالى خارق للعادة وهو غير صفة الذات، ويراد به أيضاً الحروف الملفوظة والأصوات المسموعة، وهذا هو الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم، وهو المعجزة، وإطلاق القرآن عليه بمعنى القراءة، ومدلولها المعنى القائم بالذات، وإطلاق القرآن على الحروف والأصوات شائع، وحينئذ لا نسلم أن تكون الحروف

والأصوات مناسبة لقدره عليه الصلاة والسلام، انتهى. فانظر إلى هذا الجواب الركيك، والقول بالكلام النفسي قد بين بطلانه في غير هذا الموضع. والمقصود؛ أن من أشهر من استشهد النبهاني الزائغ بشعره الصرصري والبوصيري وقد سمعت ما قال أهل العلم فيهما، فالباقون على هذا القياس فلا حاجة إلى أن نتعب القلم. أحسن ما في خالد وجهه ... ووجهه الغاية في القبح الوجه السادس: أن من الغلاة من اعتذر عن هؤلاء الشعراء وغيرهم ممن دعا غير الله وطلب منه حوائجه ومقاصده، قال: إن أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية لا يقولون بتأثير الأسباب ولا بالتعليل، فلا مؤثر في الوجود إلا الله، والتأثير إنما هو عند الأسباب لا بها، فإذا طلب أحدهم شيئاً من نبي أو ولي فالله هو المعطي لمن سأل عند الطلب، ومن أسند التأثير لغير الله فقد أشرك، فمن استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم كالبوصيري والصرصري وسائر من استشهد بشعره النبهاني لا لوم عليهم، فإن ما ذكر مقصودهم. وسمعت من بعض أغباء الغلاة وجهلتهم من أهل الثياب المعلمة والأقفاء المورمة والألقاب المفخمة قال: مررت أثناء سفري إلى الحجاز على جبل حائل وأهله من عرب نجد على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأميرهم يومئذ محمد آل رشيد، قال الأمير: إن أهل بلادكم يغالون في الصالحين بما لا يرضى الله به، ويبنون على قبورهم المساجد والمشاهد، ويوقدون السرج، إلى غير ذلك من البدع، ثم إنهم يندبونهم في المهمات ويستغيثون بهم عند طلب الحاجات، وكل ذلك وأمثاله مما لا يرضى به الله ولا رسوله ولا أهل العلم والدين، فإنه من أفعال مشركى العرب في الجاهلية، بل هو أدهى وأمر، قال: فقلت للأمير- والله يعلم أنه من الكاذبين- إن أهل بلادنا يقولون عنكم وعمن يسلك مسلككم من عرب نجد وغيرهم إنكم مشركون، قال فبهت الأمير من هذا الكلام واستعظمه، ثم قال: ولم

يقولون عنا أنا مشركون ونحن من أخلص الناس توحيداً له سبحانه؟! قال: فقلت له: إن أهل بلادنا لا يثبتون للأسباب تأثيراً، وأنتم تثبتون التأثير والعلل والحكم والمصالح، فإذا كان الأمر كذلك فقد أشركتم مع الله مؤثراً في الوجود، وهذا هو الشرك الأكبر، قال: وأما أصحابنا فعندهم أن السكين عند إمرارها على شيء لا تقطع بل يخلق الله القطع عند ذلك، وليس في الماء قوة الري مودعة فيه بل الري يخلق عند شربه لا به، والنار ليست بمحرقة بل الإحراق عندها لا بها، والعين ليست بمبصرة والأذن ليست بسامعة بل الإبصار والسماع عندهما لا بهما، وهكذا في جميع ما يعتقد أنه سبب في الظاهر. فإذا قال القائل مستغيثاً بأحد من الأموات: يا فلان افعل كذا وكذا فالمقصود الطلب من الله أن يقضي حاجته. وبعد أن فرغ من هذا الهذيان وسكت، قلت له: فما أجابك الأمير؟ قال: لم يجبني بشيء، فقلت: كان ينبغي أن يجيبك ويسألك من قال هذا الكلام الذي ذكرته؟ وعمن نقلته؟ وأي دليل لك عليه من الكتاب والسنة وسلف الأمة، وينبغي على قولك هذا أن يطلب من المخلوق كل شيء يطلب من الخالق، وينبغي أن لا يعترض على عبدة الأصنام وطلبهم من أصنامهم ما يطلب من الله، فإنهم أيضاً كانوا يعتقدون أن أصنامهم وسائط ووسائل وشفعاء، وكانوا يقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ونحو ذلك من الكلام، وإذا سئلوا من يرزقكم ومن خلق السموات والأرض ليقولن الله. وقد سبق في هذا الكتاب في عدة مواضع بيان ذلك، وأن كلام الغلاة هذا وكلام عبدة الأصنام من واد واحد، وقد تشابهت قلوبهم، وأوردت له عدة آيات ونصوص في إثبات الحكمة والتعليل، وأن الله هو خالق السبب والمسبب، وأن هذا هو ما اقتضاه الكتاب والسنة وكلام السلف، فلم يزده ذلك إلا نفوراً واستكباراً عن قبول الحق، فإنه كان من قوم ظروفهم من الظرف خالية، وغرفهم من العقل خاوية، وصحنهم من العلوم بيضاء صافية، وجيفهم فوق الماء طافية، في الأنعام، لا في الأنام، ومثله بلاء على الإسلام.

وقد بسط الكلام على مسألة الأسباب العلامة الحافظ الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية في كتابه (شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل) قال في أثناء كلامه: "إنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعاً وقدراً، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي، وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل سبحانه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطاً بالأسباب قائماً بها، بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، بل الموجودات كلها أسباب ومسببات، والشرع كله أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات، والقدر جار عليها متصرف فيها، فالأسباب محل الشرع والقدر، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، كقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1 {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} 2 {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} 3 {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 4 وسرد آيات كثيرة، إلى أن قال: وهذا أكثر من أن يستوعب. وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء، وهو أكثر من أن يستوعب كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} 5 وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} 6. وكل موضع رتب فيه الحكم على ما قبله بحرف أفاد التسبب وقد تقدم،

_ 1 سورة السجدة: 14. 2 سورة يونس: 52. 3 سورة الحج: 10. 4 سورة الشورى: 35. 5 سورة الأنفال: 29. 6 سورة إبراهيم: 7.

وكل موضع ذكرت فيه الباء تعليلاً لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب، وكل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا، أفاد التسبب، فإن العلة الغائية علة للعلة الفاعلية، ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة، ويكفي شهادة الحس والعقل والفطر، ولهذا قال من قال من أهل العلم تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت كماله، وعلوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لملائكته وعباده، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد، فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسوله وتنزيهه عن كل كمال، ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل، ونظير من نزه الله في أفعاله وأن يقوم به فعل البتة، وظن أنه ينصر بذلك حدوث العالم وكونه مخلوقاً بعد إن لم يكن، وقد أنكر أصل الفعل والخلق جملة، ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب، فإذا رأي العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه إلا بإبطال الأسباب ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به، وأنت لا تجد كتاباً من الكتب أعظم إثباتاً للأسباب من القرآن. ويالله العجب! إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة لحكمه إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم وإغراق الماء على كليمه وقومه، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها، وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لآثارها، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد؟ وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه؟ ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق والماء لا يغرق والخبز لا يشبع والسيف لا يقطع ولا تأثير لشيء من ذلك البتة ولا هو سبب لهذا الأثر وليس فيه قوة وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا

لكذا- قالوا هذا هو التوحيد، وإفراد الرب بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به، كما تراه عياناً في كتبهم ينفرون به الناس عن الإيمان، ولا ريب أن الصديق الجاهل قد يضر مالا يضره العدو العاقل، قال تعالى عن ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} 1 ثم ذكر تفسير الآية وذكر آيات أخر، وشفى بذلك صدور المؤمنين، ومن أراد الوقوف على تفصيل ذلك فليراجع هذا الكتاب. والمقصود؛ أن قول ذلك الزائغ الذي أجراه مع أمير الجبل هو كذب لا أصل له، وإني أعلم أنه من أكذب الناس وأكثرهم رياء، وأنه لو كان صادقاً فيما نقله فالكلام مع العوام لا يترتب عليه شيء، وأن مسألة الأسباب سواء قلنا فيها بقول السلف أم لا، لا تعلق لها مع الدعاء والعبادة، فإن ذلك من خصائص الله تعالى باتفاق العقلاء وأهل المعرفة، وأن الأشاعرة القائلين بعدم تأثير الأسباب لا يقولون بجواز عبادة غير الله، فلا يسجد لغير الله، ولا يذبح لغير الله، ولا ينذر لغير الله، ولا يحلف بغير الله، ولا يستغاث ولا يستعان بغير الله. وكل هذا يفعله قوم ذلك الزائغ فما حجتهم في هذا العمل الباطل؟ فليجب عن هذا ثم ليفتخر بما كان منه مع أمير حائل العامي، وأنه يتبجح بإلزامه وإفحامه، ألا لعنة الله على الكاذبين. الوجه السابع: أن الشعراء الذين أورد النبهاني من شعرهم في الاستدلال على جواز الاستغاثة بغير الله والاحتجاج على مشروعية دعاء سواه سبحانه- بل كل من كان على هذا المنهج من الغلاة- فهو إما من القائلين بالحلول والاتحاد وهو الذي سوغ له ذلك الدعاء والالتجاء إذ الكل واحد، وعلى ذلك قول قائلهم: وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواه

_ 1 سورة الكهف: 84.

وقال آخر: الرب عبد والعبد رب ... يا ليت شعري من المكلف وعندهم الوجود واحد، ولذلك قال من قال سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها، فإذا كان الله عين كل شيء فله أن يعبد كل شيء إذ هي عين الحق، وفي كتاب فصوص الحكم ما تقشعر منه جلود المؤمنين. قال شرف الدين إسماعيل المعروف بابن المرقىء من قصيدة: فقال بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوب بغير تغاير وأنكر تكليفاً إذ العبد عنده ... إله وعبد فهو إنكار حاير وخطأ إلا من يرى الخلق صورة ... وهوية لله عند التناظر وقال يحل الحق في كل صورة ... تجلى عليها وهو إحدى المظاهر وأنكر أن الله يغني عن الورى ... ويغنون عنه لاستواء المقادر إلى آخر ما قال. والقصيدة طويلة في ديوانه، وهو الذي قال ما قال الشيخ محيي الدين الذي يقول: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه والمقصود؛ أن من يذهب مذهب الغلاة في أهل القبور فريقان: (الفريق الأول) من يقول بالاتحاد والحلول، إذ لا فرق حينئذ بين الخالق والمخلوق، ولا بين التراب ورب الأرباب، ومنهم النبهاني الزائغ على ما أشعر كلامه واعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم مع ما هو عليه من المسلك، وقد ذكرنا ذلك أول الكتاب، ومثله كثير ممن أورد شعره. (الفريق الثاني) الجهال بحقائق الدين ودقائقه، وهم أكثر من نقل النبهاني شعره، فهم لا يعلمون ما في كلامهم من المحاذير، ولو نبهوا عليها لانتبهوا، وهم في شعرهم وما قالوه في النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد رأينا من يعمل في قبور الأصفياء ما يعمل من المنكرات والأعمال التي لم تشرع

كلهم من العوام وإن كان في زي العلماء الأعلام، فبطل جميع ما استشهد به من الشعر والحمد لله. قال النبهاني: إن الشيخ محمد الأمير الكبير صاحب الثبت المشهور قد أجازني بثبته، وما اشتمل عليه من علوم الشريعة والطريقة، ومن كل معقول ومنقول شيخي الإمام العلامة الشيخ إبراهيم السقا المصري، عن الشيخ محمد الأمير الصغير، عن والده الأمير الكبير المذكور، ثم ذكر سنده بالطريقة الشاذلية إلى أن أوصلها إلى جبريل، عن إسرافيل، عن عزارئيل، عن اللوح، عن القلم، عن الجليل جل جلاله، ثم ذكر له إجازة أخرى من هذا القبيل. ثم أردفها بتنبيه نزه فيه شيخه عما قيل فيه، ثم ذكر سنده في الطريقة البكرية الخلوتية، وأعقبها بهذيان وترهات تود الأذن المحمدية لو كانت عنها صماء. الجواب عن جميع ما هذى به في هذا المقام أن يقال: أن ما عليه النبهاني من الجهل والضلال يكذب جميع ما ادعاه، أين علمه بالمعقول والمنقول الذي أجازه به شيوخه؟ بل أين آثار علم من العلوم فضلاً عن جميعها من العلوم العقلية والنقلية؟ ودعوة المرء تطفي نور بهجته ... هذا بحق فكيف المدعي زللا ثم أين زهده وورعه وتقواه وقد صرف عمره في الأحكام القانونية في المحاكم الجزائية والبداية والحكم بغير ما أنزل الله؟ أما يستحي من هذا حاله أن يدخل نفسه في عداد المسلمين فضلاً عن عباد الله الصالحين والعلماء العاملين؟ وهو صفر اليدين من كل فضيلة، عار عن أردية المناقب الجميلة، ولكن شأن من لم يستح من الله ومن عباده أن يصنع ما يشاء، وليته ذكر أيضاً سنده بالطريقة الرفاعية، التي تلقاها عن شيخه وشيطانه، شيخ السوء ومقتدى الدجالين، خبيث النفس والأفعال، أبي البدع وعنوان الضلال، وهكذا غالب متصوفة زماننا، فمن

باب الإشارة في تفسير قوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} 1 وهي الشهوات الدانية واللذات الفانية، ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} 2 ولا بد، لأنا واصلون كاملون، وهذا حال كثير من متصوفة زماننا، فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار، ويقولون إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون، وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف، ويقول: إن النفي والإثبات يدفع ضرره، وهو خطأ فاحش وضلال بين، أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك، وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم، ويقول كل منا بحر والبحر لا ينجس، ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير، ومنهم من يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه، وهو كذب لا أصل له، وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه. انتهى. وقال الزمخشري عند الكلام على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} 3. ما نصه: "محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم، ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوؤهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً وهم الفرقة المفتعلة المنفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى، وفي مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه السلام، ثم دك الطور فتعالى الله عنه علواً كبيراً، ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم، كذلك

_ 1 سورة الأعراف: 168- 169. 2 سورة الأعراف: 169. 3 سورة المائدة: 54.

يحبون ذاته، فإن الهاء راجعة إلى الذات، دون النعوت والصفات، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، ولو لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة" انتهى كلامه. وهؤلاء الطائفة الذين تسموا بالصوفية غاصبين له عن أهله، وقد ارتكبوا ما نقل الإمام عنهم، بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا، وذلك لا ينافي حال المتسمين به حقيقة، ولا يؤاخذ الصالح بالطالح، ولا يضرب رأس البعض بالبعض، ولا تزر وازرة وزر أخرى. ثم إنه من المعلوم أن ما يقرأه الناس اليوم من العلوم العقلية أخذت من كتب اليونان بعد أن ترجمت بأمر المأمون الخليفة العباسي، فمن أين ساغ لمن أسندها في الإجازات الكاذبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن إسرافيل عن عزرائيل عن اللوح عن القلم كما ذكره النبهاني الكاذب في إسناده؟ وعلوم اليونان كلها خطأ وضلال وبهتان كما ظهر ذلك للعيان عند من مارس فنون الفلاسفة المتأخرين، فكيف تسند إلى من لا ينطق عن الهوى؟ وهكذا حكم الطرائق المبتدعة، فهي من وسوسة الشيطان لا من وحي الرحمن. وأما علم الكلام الذي هو من جملة علم المعقول المختلط مع المنقول إن كان المراد به المخالف للكتاب والسنة فهو باطل، وقد نزه الله تعالى عنه من ذكره النبهاني في سند إجازته التي أجازه فيها شيوخه بالعلوم والطريقة، ولم يكن في الصحابة والتابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام، ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون، والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث، ويبني ذلك على حوادث لا أول لها، بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى من جهة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد، كأبي الهذيل العلاف وأمثاله. وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء إنما كانا يظهران الكلام في إنفاذ الوعيد، وأن النار لا يخرج منها من دخلها، وفي التكذيب بالقدر، وهذا كله مما

نزه الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وتمام الكلام في كتاب المنهاج لشيخ الإسلام رحمه الله، فإن فيه ما يشفي صدور المؤمنين. ثم إن ما ذكره النبهاني من أن سند الطرايق المبتدعة يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن إسرافيل عن عزرائيل إلى آخر ما ذكره فهو كذب لا أصل له. وتحقيق ذلك: أن أهل المعرفة وحقائق الإيمان المشهورين في الأمة بلسان الصدق إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه بالعمل بما في الكتاب والسنة لا بلباس الخرقة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 1. فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان. ويقال ثانياً: الخرق متعددة أشهرها خرقتان: خرقة إلى عمر، وخرقة إلى عليّ، كما حققه شيخ الإسلام، فخرقة عمر لها إسنادان: إسناد إلى أويس القرني، وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني. وأما الخرقة المنسوبة إلى عليّ؛ فإسنادها إلى الحسن البصري، والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي، فإن الجنيد صحب السري والسري صحب معروفاً الكرخي بلا ريب، وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع، فتارة يقولون: إن معروفاً صحب علياً وهو ابن موسى الرضا، وهذا باطل قطعاً، لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل، كأبي نعيم وأبي الفرج ابن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف، ومعروف كان منقطعاً في الكرخ، وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهد بعده، وجعل شعاره لباس الخضرة، ثم

_ 1 أخرجه مسلم (2564) وأحمد (2/285، 539) وابن ماجه (4143) من حديث أبي هريرة. ولفظ. "وأعمالكم" عند أحمد وابن ماجه دون مسلم. وقد وهم المصنف رحمه الله يعزو إلى الصحيحين؛ وإنما هو في "صحيح مسلم" دون البخاري.

رجع عن ذلك وأعاد شعار السواد، ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به أو أخذ عنه شيئاً، بل ولا يعرف أنه رآه، ولا كان معروف بوابه، ولا أسلم على يديه، وهذا كله كذب. وأما الإسناد الآخر فيقولون: إن معروفاً صحب داود الطائي، وهذا أيضاً لا أصل له، وليس في أخباره المعلومة ما يذكر فيها. وفي إسناد الخرقة أيضاً أن داود الطائي صحب حبيباً العجمي، وهذا أيضاً لم يعرف له حقيقة. وفيها أن حبيباً العجمي صحب الحسن البصري، وهذا صحيح، فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون، مثل أيوب السختياني، ويونس بن عبيد، وعبد الله بن عوف، ومثل محمد بن واسع، ومالك بن دينار، وحبيب العجمي، وفرقد السبخي وغيرهم من عباد البصرة. وفيها أن الحسن صحب علياً، وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة، فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي، وإنما أخذ عن أصحاب علي، أخذ عن الأحنف بن قيس، وقيس بن عباد وغيرهما عن علي، وهكذا رواه أهل الصحيح، والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وقتل عثمان وهو بالمدينة، كانت أمه أمة لأم سلمة، فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة، وكان علي بالكوفة، والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ولا له ذكر، والأثر الذي يروى عن علي أنه دخل إلى جامع البصرة وأخرج القصاص إلا الحسن كذب باتفاق أهل المعرفة، ولكن المعروف أن علياً دخل المسجد فوجد قاصاً يقص، فقال: ما اسمك؟ قال أبو يحيي، قال تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال لا، قال: هلكت وأهلكت، إنما أنت أبو اعرفوني، ثم أخذ بأذنه فأخرجه من المسجد. فروى أبو حاتم في كتاب "الناسخ والمنسوخ": حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: انتهى عليّ

إلى قاص وهو يقص، فقال: أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال لا، قال: هلكت وأهلكت. قال وحدثنا زهير بن عباد الرواسي، حدثنا أسد بن حمران عن جويبر عن الضحاك، أن علي بن أبي طالب دخل مسجد الكوفة فإذا قاص يقص فقام على رأسه فقال: يا هذا! تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: أفتعرف مدني القرآن من مكيه؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت. قال: أتدرون من هذا؟ هذا يقول: اعرفوني اعرفوني1. وقد صنف ابن الجوزي مجلداً في مناقب الحسن البصري، وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحي المقدسي جزءاً فيمن لقيه من أصحابه، وأخبار الحسن مشهورة في مثل "تاريخ البخاري". قال شيخ الإسلام: "وقد كتبت أسانيد الخرقة، لأنه كان فيها أسانيد فبينتها ليعرف الحق من الباطل، ولهم أسانيد أخر بالخرقة المنسوبة إلى جابر، وهو منقطع جداً، وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة، ولا يقصون شعورهم، ولا التابعون، ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين وأخبار الحسن مذكورة بالأسانيد الثابتة في كتب كثيرة يعلم منها ما ذكرنا. وقد أفرد أبو الفرج ابن الجوزي له كتاباً في مناقبه وأخباره. وأضعف من هذا نسبة الفتوة إلى علي، وفي إسنادها من الرجال المجهولين الذين لا يعرف لهم ذكر ما يبين كذبها. وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل، ولا يسقي ملحاً، ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة، لكن كانوا

_ 1 انظر "نواسخ القرآن" لابن الجوزي (رقم: 1- وما بعده) . ط. المكتبة العصرية- بتحقيقي.

قد اجتمع بهم التابعون وتعلموا منهم، وتأدبوا بهم، واستفادوا منهم، وتخرجوا على أيديهم، وصحبوا من صحبوه منهم، وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة، وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون عن عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم، وكذلك أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره، وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما، وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره، وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله، وكل منهم متفقون على دين واحد وطريق واحدة وسبيل واحدة، يعبدون الله تعالى ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن بلغهم من الصادقين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قبلوه، ومن فهم من السنة والقرآن ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه، ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه، ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه رباً يستغيث به كالإله الذي يسأله ويرغب إليه، ويعبده ويتوكل عليه، ويستغيث به حياً وميتاً، ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، فإن هذا ونحوه دين النصارى، الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وكانوا متعاونين على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، متواصين بالحق متواصين بالصبر، والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة وبمنزلة دليل الحاج، فالإمام يقتدي به المأمون فيصلون بصلاته لا يصلي عنهم، وهو يصلي بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها، فإن عدل عن ذلك سهواً أو عمداً لم يتبعوه، ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم، فالدليل لا يحج عنهم، وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه، وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه فاتبع، فالفاصل بينهم الكتاب والسنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ

_ 1 سورة التوبة: 31.

كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1. وكل من الصحابة الذين سكنوا الأمصار أخذ عنه الناس الإيمان والدين، وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب لم يأخذوا عن علي شيئاً، فإنه رضي الله عنه كان ساكناً بالمدينة، وأهل المدينة لم يكونوا يحتاجون إليه إلا كما يحتاجون إلى نظرائه كعثمان في مثل قضية يشاورهم فيها عمر ونحو ذلك، ولما ذهب إلى الكوفة كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وحذيفة وعمار وأبي موسى وغيرهم ممن أرسله عمر إلى الكوفة، وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران بن حصين وأبي بكرة وعبد الرحمن بن سمرة وأنس وغيرهم من الصحابة وأهل الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وبلال وغيرهم من الصحابة، والعباد والزهاد من أهل هذه البلاد أخذوا الدين عمن شاهدوه من الصحابة، فكيف يجوز أن يقال: إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره، وهذه كتب الزهد- مثل الزهد للإمام أحمد، والزهد لابن المبارك، ولوكيع بن الجراح، ولهناد بن السري، ومثل كتب أخبار الزهاد، كحلية الأولياء، وصفوة الصفوة، وغير ذلك- فيها من أخبار الصحابة والتابعين أمور كثيرة، وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ومعاذ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي الدرداء وأبي إمامة وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين " انتهى كلامه. والمقصود من نقله، أن يعلم أن ما ذكره النبهاني من الثبت باطل من وجوه: أما أولاً: فلأن ما يعرفه من العلم الشيطاني ليس مأخوذاً بالسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن العلم الذي جاء به الرسول لا يعرفه ولا يوفق له، فإنه نور ونور الله لا يوفق له العصاة الطغاة. وأما ثانياً: فلأن الطرايق التي انتحلها لا أصل لها، وكلها بدع وضلالات،

_ 1 سورة النساء: 59.

ولذلك لم تؤثر في قلبه شيئاً إن صدق أنه سلكها، بل هو من أضل الناس وأجهل الناس. وأما ثالثاً: فلأن سنده مختل باطل، كما يعلمه من يطبقه على ما سبق من كلام شيخ الإسلام. وبالجملة؛ فكلامه في كتابه هذا من أوله إلى آخره ظلمات بعضها فوق بعض، فسبحان من طبع على قلبه وعلى سمعه وبصره، ومع ما هو عليه من الحال الذي ينبغي أن يرثى له بسببه يتطاول على علماء المسلمين الربانيين ويفحش القول فيهم، قبحه الله تعالى ولعنه كما لعن أصحاب السبت، وما أحقه بقول أبي العلاء المعري: إذا وصف الطائي بالبخل ما در ... وعير قسا بالفهاهة باقل وقال السهى للشمس أنت خفية ... وقال الدجى للصبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدّي إن دهرك هازل والكلام على بدع الطرائق وأهلها مفصل في غير هذا الموضع، وفي كتاب (كشف أحوال المشايخ الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية) ما يشفي صدور المؤمنين، وتقر به عين الموحدين. والنبهاني لم يزل يكرر قوله في التبجح والافتخار بالإجازات الكاذبة التي لا أصل لها، ويقول: وعندي بحمد الله إجازات بكثير من الطرق العلية غير الخلوتية والشاذلية، كالقادرية والرفاعية والنقشبندية، ولكن كل ذلك لأجل البركة باتصال سندي بالنبي صلى الله عليه وسلم كما اتصل من طرق الفقهاء والمحدثين وسائر علماء الدين.. إلى آخر هذيانه. ولا بدع إذا ما كان مجمع البدع والضلالات، وليت شعري ماذا نفعته تلك الإجازات، وأي بركة حصلت له ما هاتيك الخزعبلات، وهل هي إلا أن قضى شطراً من عمره في محاكم القوانين والنظامات، وصرف أيامه بالجهالات

والضلالات: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 1 {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 2.

_ 1 سورة الشعراء: 228. 2 سورة الكهف: 103- 104.

الكلام على سوء خاتمته

(الكلام على سوء خاتمته) قال النبهاني: الخاتمة في الجواب عما اعترض به ابن تيمية وأمثاله على بعض أولياء الله تعالى من الألفاظ الموهمة، ونقل عن كتاب (البحر المورود) للإمام الشعراني أنه قال أخذ علينا العهود أن نجيب عن أئمة الإسلام- من العلماء والصوفية- جهدنا، ولا نصغي قط لقول من طعن فيهم، لعلمنا أنه ما طعن فيهم إلا وهو قاصر عن معرفة مداركهم، ونقل كلامه في تبرئة الجنيد والغزالي، والشيخ محيي الدين بن عربي، ونقل أيضاً كلامه على ما اعترض عليه من كلمات القوم، كقول الشيخ: أبي يزيد طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك. وقول الجنيد: العارفون لا يموتون، وإنما ينقلون من دار إلى دار. وقول الشبلي: إن ذلي عطل ذل اليهود. وقول الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان. وقول الشيخ محيي الدين بن عربي: حدثني قلبي عن ربي، أو حدثني ربي عن قلبي، أو حدثني ربي عن نفسه!! ثم إن الشعراني وجه هذه الأقوال بتوجيهات رآها، ثم نقل عن القوم أقوالاً ثبتت عنهم- ولم يعين قائلاً- كقولهم: اللوح المحفوظ هو قلب العارف، وقولهم: دخلنا حضرة الله، وخرجنا من حضرة الله! وأبدى لمثل هذه الأقوال معاني صحيحة، ثم إن بعض أقوال نسبت إلى بعض أولئك القوم، قال لم تصح نسبتها إليهم وكذبها، ونقل النبهاني أيضاً عن الفتاوى الحديثية بعض المسائل المتعلقة بمثل تلك الأقوال سئل عنها فأجاب بما أجاب وختم به كتابه. والجواب عن ذلك كله أن يقال: إنه لم يسلم أحد من الاعتراض عليه،

وإلقاء التهمة بين يديه، وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الذين ذكر من أقوالهم ما ذكر إن لم يكن لها وجه، فهي لا تزري بعلو شأنهم، ومزيد عرفانهم، فهم لم يكونوا معصومين، ولا أنبياء ولا مرسلين، وقد قيل إن الصارم قد ينبو، والجواد قد يكبو، والسعيد من عدت سقطاته، وقلت غلطاته، وما أحسن ما قيل: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معائبه هذا إذا لم يكن لما قالوه وجه وجيه، فكيف وغالب أقوالهم قد صححها بعض أهل العلم. والنبهاني قد افترى على شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في قوله: إن ابن تيمية اعترض على تلك الأقوال التي ذكرها، فعلى أي قول منها اعترض؟ وفي أي كتاب ذكر ذلك؟ والبهتان قد صار ديدناً وديناً للنبهاني، كما قد قررنا ذلك مراراً، وابن تيمية لم يزل يذب عن العلماء الربانيين، والعلماء العاملين، وألف كتاباً سماه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وآخر في الذب عن الأئمة الأربعة، وآخر في الانتصار للإمام أحمد، وآخر وآخر، مما سبق بيانه. وقد كان رحمه الله على جانب من الإنصاف عظيم، يعرف قدر أهل العلم، ويعطي كل ذي حق حقه، نعم اعترض على بعض مسائل لأبي حامد مخالفة للكتاب والسنة ذكرها في "الإحياء" وغيره من كتبه، كما هو شأن أئمة الأمة المحمدية، فإنهم كما وصفهم نبيهم لا يجتمعون على ضلالة، وقال فيه: إنه مات والبخاري على صدره، نعم إنه تكلم في الشيخ محيي الدين وأضرابه ممن قال بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، كما سبق بيانه، وله فيهم رد كبير، وذكر منه في كتابه (الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن) ما نقلنا بعضه فيما سبق، وهو ليس أول من قرع هذا الباب من أولي الألباب، فكم وكم له من سلف، وذلك من الواجب على مثله أن يقوم على ساق المناضلة والذب عن الشريعة الغراء،

ومن أعطاه الله علماً فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 1. والشيخ محيي الدين قد ألف فيه كتب كثيرة، وردوا على أقواله التي في الفصوص والفتوحات وغيرهما. وممن ألف في الرد عليه العلامة الثاني سعد الدين التفتازاني، والحافظ العسقلاني، والشيخ أبو عبد الله البخاري، والملا علي القاري، والعلامة العضد، وغيرهم ممن لا يحصون كثرة، وإنهم أصابوا في الرد عليه، ولولا أن يطول الكلام لذكرنا كلامهم فيهم، ولعلنا إن شاء الله نفرد له كتاباً يكون قسيماً لهذا الكتاب. ثم إن ما نقله النبهاني عن الشعراني في توجيه قول الشيخ محيي الدين فهو غير مقبول، لأنه لا يدل اللفظ عليه لا حقيقة ولا مجازاً، ولقد تجرأ على القول به بعض من لا خلاق له ممن ينتسب إلى العلم والصلاح من الغلاة، فحصل منه من المفاسد ما حصل. قال العلامة الشيخ عبد اللطيف في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) عند الكلام على بدع القبوريين ما نصه: "ومن المحن أن مشايخ المذاهب الأربعة وفقهاءهم جزموا بوجوب هدم القباب، ونهوا عن الطواف بالقبور ودعاء أربابها، بل ودعاء الله عندها، ومنعوا من الذبح لها والغلو فيها، بل وعن عبادة الله بالصلاة عندها، فإذا عُمل بمقتضى أقوالهم عامل وألزم بها الناس نسبة هؤلاء الجهال إلى الاستخفاف بالأنبياء والصالحين وإلى مخالفة العلماء، لأن العلم في عرفهم ما هم عليه من أقوال أسلافهم ومشايخهم من المتأخرين، قال وقد حدثني من يقبل حديثه أنه سمع هذا العراقي بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يوم قدوم الحاج يقول

_ 1 سورة آل عمران: 187.

في مجمع من الناس: إنما الرجل من يقول حدثني سري عن ربي، لا من يقول: حدثنا فلان وفلان. فانظر هذا الاستخفاف العظيم برسل الله، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن من يأخذ عن الأنبياء المعصومين وعن رسل الله المبلغين أفضل وأكمل ممن يأخذ عن سره ووارده، بل هذه الواردات كلها موقوفة ومردودة إلا بشاهد عدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد لها بالصحة وأنها حق يؤخذ به. وقد قال شيخ الطريق الجنيد بن محمد رحمه الله: إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة. وغالب هذه الواردات التي تخالف الشرعيات، ويشير إليها أهل التصوف والتعبدات- إنما هي من وحي الشيطان لا عن الله رب العالمين، وبهذا تعلم أن هذا العراقي وأمثاله هم أهل التنقص للرسل التاركون لما جاؤوا به، وحاصل أمرهم عزل الكتاب والسنة في باب الاعتقادات والعمليات، واتباع ما تهوى الأنفس من الغلو والإطراء والجهل والضلالات، وهذا الاعتراض محشو من ذلك لا تكاد تعد فيه كلمة واحدة سيقت على القانون الشرعي والمنهاج المرضي، وما أحسن ما قال شيخ الإسلام فيما كتب على المحصل للرازي: محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله جهل بلا دين بحر الضلالات والإفك المبين وما ... فيه فأكثره وحي الشياطين انتهى كلام صاحب المنهاج، ومنه يعلم أن قول محيي الدين إن صح عنه فهو قول باطل لا يفيد فيه ما ذكره الشعراني من التأويل العليل. والإمام أبو حامد الغزالي اعترض على كتبه كثير من العلماء الربانيين، منهم الإمام أبو عبد الله المازري، قال تاج الدين ابن السبكي في "طبقاته" عند ذكره كلام الطاعنين على هذا الإمام ورده: قال الإمام أبو عبد الله المازري المالكي- مجيباً لمن سأله عن حال كتاب إحياء العلوم ومصنفه- هذا الرجل- يعني الغزالي-: وإن لم أكن قرأت كتابه فقد رأيت تلامذته وأصحابه، فكل منهم يحكي لي نوعاً من

حاله وطريقته، فأتلوح بها من مذهبه وسيرته ما قام لي مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حال الرجل وحال كتابه، وذكر جمل من مذاهب الموحدين والفلاسفة والمتصوفة وأصحاب الإشارات، فإن كتابه متردد بين هذه الطرائق لا يعدوها، ثم أتبع ذلك بذكر حيل أهل مذهب على أهل مذهب آخر، ثم أبين عن طرق الغرور، وأكشف عما دفن من حبال الباطل ليحذر من الوقوع في حباله صائده. ثم إنه أثنى على الغزالي في الكشف، وقال: هو أعرف بالفقه منه بأصوله، وأما علم الكلام الذي هو أصول الدين فإنه صنف فيه أيضاً وليس بالمستبحر فيها، ولقد فطنت لسبب عدم استبحاره وذلك أنه قرأ علم الفلسفة قبل استبحاره في فن أصول الدين، فأكسبته قراءة الفلسفة جراءة على المعاني، وتسهيلاً للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها، وليس لها حكم شرعي ترعاه، ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها، وعرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ومصنفها فيلسوف قد خاض في علم الشرع والعقل، فمزج ما بين العلمين، وذكر الفلسفة وحسنها في قلوب أهل الشرع بأبيات يتلوها عندها وأحاديث يذكرها، ثم كان في هذا الزمان المتأخر رجل من الفلاسفة يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تآليف في علم الفلسفة، وهو فيها إمام كبير، وقد أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره، وقد رأيت جملاً من دواوينه ورأيت هذا الغزالي يعول عليه في أكثر ما يشير إليه من الفلسفة. ثم قال: وأما مذاهب الصوفية فلست أدري على من عول فيها، ثم أشار إلى أنه عول على أبي حيان التوحيدي. ثم ذكر توهية أكثر ما في الإحياء من الأحاديث وقال: عادة المتورعين أن لا يقولوا قال مالك قال الشافعي فيما لم يثبت عندهم، ثم أشار إلى أنه يستحسن أشياء مبناها على ما لا حقيقة له، مثل قوله في قص الأظفار أن تبدأ بالسبابة لأن لها الفضل على بقية الأصابع لكونها المسبحة إلى آخر ما ذكر من الكيفية، وذكر فيه أثراً، وقال: من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الباري قديم مات مسلماً إجماعاً،

قال: ومن تساهل في حكاية هذا الإجماع الذي الأقرب أن يكون فيه الإجماع بعكس ما قال فحقيق أن لا يوثق بما نقل. وقد رأيت له أنه ذكر أن في علومه هذه ما لا يسوغ أن يودع في كتاب، فليت شعري أحق هو أو باطل، فإن كان باطلاً فصدق، وإن كان حقاً وهو مراده بلا شك فلم لا يودع في الكتب؟ ألغموضة ودقته؟ قال: فإن كان هو فما المانع؟ (هذا ملخص كلام المازري على ما قاله ابن السبكي) . (ومنهم أبو الوليد الطرطوشي) قال تاج الدين: وسبق المازري إلى قريب منه من المالكية أبو الوليد الطرطوشي، فذكر في رسالته إلى ابن مظفر: فأما ما ذكرت من أمر الغزالي فرأيت الرجل وكلمته فرأيته رجلاً من أهل العلم قد نهضت به فضائله واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طول زمانه، ثم بدا له الانصراف عن طريق العلماء ودخل في غمار العمال، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كان ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها ولا خبير بمعرفتها فسقط على أم رأسه وشحن كتابه بالموضوعات. (ومنهم الشيخ تقي الدين ابن الصلاح) فقد تكلم أيضاً في الغزالي بكلام قادح فيه، وطعن على كتبه بأنها مشتملة على خرافات وأكاذيب وموضوعات، قال ابن السبكي: وللشيخ تقي الدين في حق الغزالي كلام لا نرتضيه، ذكره علماء المنطق، تكلمنا عليه في أوائل شرحنا للمختصر لابن الحاجب، ونقل عن عفيف الدين ما كتبه إليه من جملة رسالة: وأما ما ذكره الشيخ تقي الدين ابن الصلاح من عند نفسه ومن كلام يوسف الدمشقي والمازري فما أشبه هؤلاء الجماعة رحمهم الله تعالى إلا بقوم متعبدين سليمة قلوبهم، قد ركنوا إلى الهوينا، فرأوا فارساً عظيماً من المسلمين قد رأى عدداً عظيماً لأهل الإسلام، فحمل عليهم وانغمس في صفوفهم، وما زال في غمرتهم حتى فل شوكتهم وكسرهم، وفرق جموعهم شذر مذر، وفلق هام كثير منهم، فأصابه يسير من دمائهم وعاد سالماً، فرأوه وهو يغسل

الدم عنه، ثم دخل معهم في صلاتهم وعبادتهم، فتوهموا أيضاً أثر الدم عليه فأنكروا عليه، هذا حال الغزالي وحالهم، انتهى ما هو المقصود. ثم إن ابن السبكي أجاب عن بعض ما اعترض به المازري والطرطوشي بأجوبة ارتكب التعسف فيها كما هي عادته من التعصب لأهل مذهبه، ومع ذلك لم يمكنه إنكار جهل الغزالي بالحديث، فإنه قال: وأما ما عاب به الإحياء من توهية بعض الأحاديث فالغزالي معروف بأنه لم تكن له في الحديث يد باسطة، وعامة ما في الإحياء من الأخبار والآثار مبدد في كتب من سبقه من الصوفية والفقهاء، ولم يسند الرجل لحديث واحد، وقد اعتنى بتخريج أحاديث الإحياء بعض أصحابنا، فلم يشذ عنه إلا اليسير، قال وسأذكر جملة من أحاديثه الشاذة استفادة، ثم إنه بعد كلام استشهد بقوله: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها ثم قال بعد كلام طويل: ولقد وقعت في بلاد المغرب بسبب الإحياء فتن كثيرة وتعصب أدى إلى أنهم كادوا يحرقونه، وربما وقع إحراق يسير، قال والشيخ أبو الحسن لما وقف على الإحياء وتأمله قال هذا بدعة مخالفة للسنة، وكان شيخاً مطاعاً في بلاد المغرب، فأمر بإحضار كل ما فيها من نسخ الإحياء وطلب من السلطان أن يلزم الناس بذلك، فكتب إلى النواحي وشدد في ذلك وتوعد من أخفى شيئاً منه، فأحضر الناس ما عندهم واجتمع الفقهاء ونظروا فيه، ثم أجمعوا على إحراقه يوم الجمعة، وكان ذلك يوم الخميس، ثم ذكر ابن السبكي قصة رؤيا أبي الحسن المكذوبة وزعم أنه ترك إحراقه لتلك الرؤيا، وأنه بعد ذلك رغب فيه. انتهى كلامه ملخصاً. (ومنهم العلامة الشيخ عبد اللطيف الحنبلي) قال رحمه الله تعالى في رسالة له كتبها لبعض أصحابه يحذره عن كتب أبي حامد الغزالي ويذكر له أنها مخالفة للكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وهي هذه بنص عبارته ولفظه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ في الله

عبد الله بن معيذر سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قوام للإسلام إلا به، وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة يعرفها أولوا الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها، بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين، وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيراً من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل. قال شيخ الإسلام: "ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة".. ورد عليه شيخ الإسلام في "السبعينية" وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد، ورد عليه غيره من علماء الدين. وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي: "شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة ثم أراد الخروج فلم يحسن، وكلام أهل العلم معروف في هذا لا يشكل إلا على من هو مزجي البضاعة، أجنبي عن تلك الصناعة- إلى أن قال: "سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت كيف ينهانا عن هذا فلان؟ أو يأمر بالإعراض عن هذا

الشان؟ كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة وقد يكون ما أطربك وهز أعطافك وحركك فلسفة منتنة، وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية- إلى أن قال-: ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد". ثم ذكر كلاماً طويلاً للذهبي في ترجمته للغزالي، قال: ومن معجم أبي علي الصدفي في تأليف القاضي عياض له، قال: الشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف الفظيعة، غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تأليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون الأمة والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها فامتثل ذلك. وقال الذهبي أيضاً: "قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب "التهافت" وكشف عوارهم، ووافقهم في مواضع ظناً منه أن ذلك حق أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء وخيار المخلصين لتلف. فالحذر الحذر من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادات التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم يغفر له، وينجو إن شاء الله " انتهى. والكلام على أبي حامد1 وبيان ما اعترض به عليه لا يسع المقام تفصيله، وما ذكرناه كاف في المقصود، ومن العجب أن بعض الجهلة ممن يدعي العلم والصلاح وهو عار عنهما وقد تزيا بزي أهلهما، وقد كور عمامته وسرح لحيته:

_ 1 انظر "أبو حامد الغزالي والتصوف " للشيخ عبد الرحمن دمشقية.

يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخاً على كرسيه معمما قد راج سوقه على العوام، بما يقصه عليهم في الوعظ من الأكاذيب والأوهام، ورأي أنه لا معارض له من أولئك الأنعام، كما يتكلم المتكلم بين المقابر بما شاء من الكلام، حتى تخيل لذلك أنه من العلماء الأعلام، وما درى أنه أجهل من ابن ثلاثة أيام، قد ذكر "إحياء العلوم" وشرع يمدحه بأعظم المدائح ويقرظه بكل ما خطر له من الثناء، فقلت له: إنه اشتمل على أحاديث موضوعة ومسائل فلسفية خارجة عن الشريعة، وآراء محضة مخالفة للسنة النبوية، وبناء على ذلك أن أهل العلم الموثوق بعلمهم لا يقيمون لهذا الكتاب وزناً، حتى أن بعضهم ألف كتاباً في بيان حال ما فيه من الأحاديث. فنظر إليَّ شزراً، وكادت تزهق روحه الخبيثة، فقال: كيف تقول هذا الكلام وقد شرحه العلامة الزبيدي، وخرّج أحاديثه، وبيّن أسراره؟ فقلت له: إن الزبيدي ليس من أهل هذا الفن، ولا هو من رجال هذا الميدان، إنما هو رجل له بعض الإطلاع على اللغة وبعض العلوم العربية، وكلام مثله في باب الجرح والتعديل غير ملتفت إليه، وكان من غلاة القبوريين والدعاة لمبتدعاتهم. فلما سمع ما سمع أعرض ونأى بجانبه، ولم يلتفت إلى ما قلته ولا أصغى إلى ما ذكرته، فقلت: علي نحت القوافي من معادنها ... وما علي إذا لم تفهم البقر والكلام الحق اليوم ثقيل على الأسماع، لاسيما على أهل الزيغ والابتداع، وعلى المنصف موافقة الحق والاتباع. والمقصود من هذا الكلام كله أن الشيخ تقي الدين قدس الله روحه لم يتكلم في شأن أبي حامد كما تكلم غيره فيه، والنبهاني افترى عليه وكذب، بل إنه شهد له بحسن العاقبة والخاتمة، وقال في غير موضع من كتبه أنه في آخر عمره استقر أمره على الحيرة والوقوف بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهادة، وفي آخر عمره

اشتغل بالحديث كصحيحي البخاري ومسلم، انتهى. فانظر إلى هذه التزكية الحسنة، فإن الأعمال بخواتيمها، ولم يتكلم بمثل هذا الكلام في شأنه حتى من ينتصر له كتاج الدين وأضرابه، وقد سلكوا كل مسلك في تعديله والحث على كتبه، وارتكبوا التعسفات في تأويل ما زل به قلمه. وأما قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن محمد القرطبي فقد قال: إن بعض من يعظ- ممن كان ينتحل رسم الفقه ثم تبرأ منه شغفاً بالشرعة الغزالية والنحلة الصوفية- قد أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من تشنيع مناكيره وتضليل أساطيره المبانية للدين، وشريعة سيد المرسلين، وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعة ولا يفوز بإطلاعه إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته، التي رفع لهم أعلامها وشرع أحكامها، قال أبو حامد: وأدنى من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئاً، فاعرض من قوله على قوله، ولا تشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، فإن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه والتدثر بكسائه فيسمع نداء الحق، فهو يقول ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما آمركم به. قال القاضي: وقال أبو حامد. وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيراً من إحياء عشرة لإطلاقة ألفاظاً، ونقل عن بعضهم أنه قال للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام، ثم قال الغزالي: إن لم يرد إبطال النبوة بهذا في حق الضعفاء فما قال ليس بحق، فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفىء نور معرفته نور ورعه. وقال أيضاً: العارف يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرمورة والمحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة

التي نحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم إذا رأيته في البدايه قلت صديقاً، فإذا رأيته في النهاية قلت زنديقاً، ثم فسره الغزالي فقال: إن اسم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل. وقال: ذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية، فيجلس فارغ القلب مجموع الهم يقول الله الله الله على الدوام فيفرغ قلبه ولا يشتغل بتلاوة ولا كتب حديث، فإذا بلغ هذا الحد التزم الخلوة ببيت مظلم ويدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قلت إنما سمع شيطاناً أو ما لا حقيقة له. وقال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذباً منه، شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. انتهى. هذا ما أورده صاحب كتاب البيان والله المستعان، وقد رأيت ما اشتمل عليه هذا الكلام من الهذيان، ونسأله تعالى أن يغفر له ويرحمه بسبب ما فاز به من حسن الخاتمة، واشتغاله آخر عمره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مسكي الختام. وقد ذكر العلامة السيد صفي الدين في كتابه "القول الجلي" في الجواب عمن قال أن ابن تيمية تكلم في الأولياء كالغزالي وابن عربي وعمر بن الفارض وأضرابهم: أما سبب تكلمه في حجة الإسلام الغزالي فالله أعلم أنه ذكر في كتابه (المضنون) أشياء توافق عقايد الفلاسفة وتخالف الشرع، حتى أن بعض العلماء أنكر نسبة ذلك إليه، كذا ذكر بعضهم، وقد تكلم فيه القاضي عياض وابن الجوزي وغيرهما فله أسوة بهم، وإن كنا لا نسمع في الغزالي كلاماً بعد، كيف وهو حجة الإسلام وملك العلماء الأعلام. وأما سبب تكلمه في ابن عربي فإنه ذكر أشياء في فصوصه وفتوحاته تقتضي

الكفر، وقد كفره بذلك جماعة من العلماء، منهم الحافظ ابن حجر، وقد صنف بعض العلماء جزءاً حافلاً وجمع فيه كلام من ذم الشيخ ابن عربي، فمما قال في الجزء المذكور وذكره الذهبي في العبر وقال في ترجمته: صاحب التصانيف، وقدوة القائلين بوحدة الوجود، ثم قال الذهببي: وقد اتهم بأمر عظيم. وقال في "تاريخ الإسلام ": هذا الرجل قد تصوف وانعزل، وجاع وسهر، وفتح عليه بأشياء امتزجت بعالم الخيال والفكرة، واستحكم ذلك حتى شاهد بقوة الخيال أشياء ظنها موجودة في الخارج، وسمع من طيش دماغه خطاباً واعتقده من الله تعالى ولا وجود له في الخارج إلى آخر ما قال. قال في الجزء المذكور وذكره الذهبي في الميزان فقال: تصوف تصوف الفلاسفة، واحل الوحوة، وقال أشياء منكرة عدها طائفة من العلماء مروقاً وزندقة إلى آخر كلامه. ومما قال في الجزء المذكور: أنبأني الحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي، ونور الدين علي بن أبي بكر الهيتمي الشافعيان إذناً مشافهة، عن شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي إجازة إن لم يكن سماعاً، قال في كتابه شرح منهاج النووي في باب الوصية بعد ذكره حكم المتكلمين: وهكذا الصوفية منقسمون كانقسام المتكلمين فإنهما من واد واحد، فمن كان مقصوده معرفة الرب سبحانه وتعالى والتخلق بما يجوز المخلق به هنا والتحلي بأحوالها وإشراق المعارف الإلهية والأحوال السنية، فذلك من أعلم العلماء، ويصرف إليه من الوصية للعلماء والوقف عليهم، ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وأوتباعه فهم ضلال جهال خارجون عن طريقة الإسلام فضلاً عن العلماء. ثم قال: وجاء في وسط الأمة قوم تكلموا -كالحارث المحاسبي ونظرائه- كلاماً حسناً وهو مقصودنا بالتصوف، ثم انتهى بالآخرة إلى قوم فيهم بقايا إن شاء الله تعالى، وآخرين تسموا باسم الصوفية استمروا من البدع المضلة والعقائد

الفاسدة فيهم هم باسم الزندقة أحق منهم باسم الصوفية، نحن برآء إلى الله تعالى منهم، انتهى. قال صاحب الجزء: والظاهر أنه أشار بقوله وآخرين تسموا إلى آخره إلى ابن عربي وأتباعه، قال: وقد سمعت صاحبنا الحافظ الحجة القاضي شهاب الدين أبا الفضل أحمد بن علي بن حجر الشافعي يقول: إنه ذكر لمولانا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني أشياء من كلام ابن عربي المشكل، وسأله عن ابن عربي فقال له شيخنا البلقيني هو كافر. قال: وسمعت الحافظ شهاب الدين بن حجر يقول: جرى بيني وبين بعض المحبين لابن عربي منازعة كثيرة في أمر ابن عربي حتى تبرأت من ابن عربي بسوء مقالته، فلم يسهل ذلك بالرجل المنازع لي في أمره وهددني بالشكوى إلى السلطان بمصر بأمر غير الذي تنازعنا فيه يتعب خاطري، فقلت له. ما للسلطان في هذا مدخل، ألا تعال نتباهل وقلت ما تباهل اثنان فكان أحدهما كاذباً إلا وأصيب، فقال لي باسم الله، قال فقلت له: قل اللهم إن كان ابن عربي على ضلال فالعني بلعنتك، فقال ذلك، فقلت أنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعني بلعنتك، وافترقنا، قال: وكان سكن الروضة فاستضافه شخص من أبناء الهند جميل الصورة ثم بدا له أن يتركهم وخرج في أول الليل مصمماً على عدم المبيت، فخرجوا يشيعونه إلى الشختور، فلما رجع أحس بشيء مر على رجله، فقال لأصحابه: مر على رجلي شيء ناعم فانظروه، فنظروا فلم يروا شيئًا، وما رجع إلى منزله إلا وقد عمي، وما أصبح إلا ميتاً، وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وسبعين، وكانت هذه المباهلة في رمضان منها، وعند وقوع المباهلة عرقت أن السنة ما تمضي عليه، وكانت بمحضر من جماعته، انتهى " فإذا عرفت ذلك كله علمت أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية لم ينفرد بذم ابن عربي، انتهى كلام السيد صفي الدين رحمه الله تعالى. والنبهاني عامله الله بعدله يتتبع من الكلام ما كان موافقاً لهواه، ولهذا لم يلتفت في هذا المقام إلى كلام إمامه السبكي، ولا لكلام الحافظ شهاب الدين بن

حجر العسقلاني المحدث الشهير، بل أخذ بكلام ابن حجر المكي لموافقته إياه في الغلو والميل إلى البدع، فلذلك تراه يترنم بأقواله ويكرره مرة بعد أخرى، والكل من الشافعية. وبعد ختم النبهاني كتابه بخاتمة السوء ذكر رسالة مختصرة للبكري في الرد على من منع الزيارة، وعبارة من كلام الشيخ زروق تعرض فيها لشيخ الإسلام، وكلاماً للنابلسي مختصراً مما يتعلق بالزيارة، ولما كان ذلك كله خارجاً عن كتابه وأن ما ذكرناه من الكلام على الزيارة يرد كل باطل يخالفه أعرضنا عن المناقشة فيها، ومن وقف على ما فيها من الجهل والضلال تحقق أن موحدي العرب في الجاهلية كزيد وقس بن ساعدة وأمية أسعد من هؤلاء حالاً، كما يدلك على ذلك شعرهم المذكور في كتب السير والتاريخ. فعليك أيها الأخ المسترشد باتباع الكتاب والسنة فإنهما الإمامان اللذان أمرنا بالإقتداء بهما، والداعيان إلى سبيل الله فاشدد بيديك عليهما، ولا تنظر إلى ما ابتدعه أهل الأهواء، فإنه من أضر الأدواء، وقد سبق تفاصيل البدع بأنواعها وما ورد من النهي عنها، فمن تأملها وأمعن نظره فيما شرعه الله تعالى لنا مما تضمنه الكتاب وبينته السنة علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد عنها إلا من مرض قلبه وطاش في مهاوي الضلال لبه، وأصل الاتباع المخرج عن الابتداع يحصل بمتابعة العبادات، ولا يحصل كمال الاتباع إلا في الإقتداء به في جميع حالاته سكونه وحركاته، عباداته وعاداته، وللسلف الصالح من هذا الكمال المشرب الأصفى، والحظ الوافر الأوفى. روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات

الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1. فقد أوصانا صلى الله عليه وسلم بلزوم سنته وسنة خلفائه الراشدين الذين هم على طريقته، وحرض على ذلك بقوله: "عضوا عليها بالنواجذ" المراد به المسك بجميع الفم، إشارة إلى غاية التمسك، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم اجتهدوا على السنة والزموها واحرصوا عليها كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفاً من ذهابه وتفلته. أذاقنا الله حلاوة الاتباع، ووقانا بفضله شر الفضول والابتداع، وما أحسن ما قال بعفر الأدباء الأفاضل وقد أخلص النصح فيما هو قائل: يا باغي الإحسان يطلب ربه ... ليفوز منه بغاية الآمال انظر إلى هدي الصحابة والذي ... كانوا عليه في الزمان الخالي واسلك طريق القوم أين تيمموا ... خذ يمنة ما الدرب ذات شمال تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى ... سبل الهدى في القول والأفعال درجوا على نهج الرسول وهديه ... وبه اقتدوا في سائر الأحوال نعم الرفيق لطالب يبغي الهدى ... فماله في الحشر خير مآل القانتين المخبتين لربهم ... الناطقين بأصدق الأقوال التاركين لكل فعل سيء ... والعاملين بأحسن الأعمال أهواؤهم تبع لدين نبيهم ... وسواهم بالضد في ذي الحال ما شابهم في دينهم نقص ولا ... في قولهم شطح الجهول الغالي عملوا بما علموا ولم يتكلفوا ... فلذاك ما شابوا الهدى بضلال وسواهم بالضد في أحوالهم ... تركوا الهدى ودعوا إلى الإضلال فهم الأدلة للحيارى من يسر ... بهداهم لم يخش من إضلال وهم النجوم هداية وإضاءة ... وعلو منزلة وبعد منال يمشون بين الناس هوناً نطقهم ... بالحق لا بجهالة الجهال حلماً وعلماً مع تقى وتواضع ... ونصيحة مع رتبة الإفضال

_ 1 تقدم تخريجه.

يحيون ليلهم بطاعة ربهم ... بتلاوة وتضرع وسؤال وعيونهم تجري بفيض دموعهم ... مثل انهمال الوابل الهطال في الليل رهبان وعند جهادهم ... لعدوهم من أشجع الأبطال وإذا بدا علم الرهان رأيتهم ... يتسابقون بصالح الأعمال بوجوههم أثر السجود لربهم ... وبها أشعة نوره المتلالي ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم ... في سورة الفتح المبين العالي وبرابع السبع الطوال صفاتهم ... قوم يحبهم ذووا إذلال وبراءة والحشر فيها وصفهم ... وبهل أتى وبسورة الأنفال هذا آخر ما أردنا تحريره من الرد على كتاب النبهاني المشتمل على ما يخالف الكتاب والسنة من الهذيان والوحي الشيطاني، وقد عرفناه يومه من أمسه. وكلت للخل كما كال لي ... على وفاء الكيل أو بخسه وكأني به إذا وقف على كتابي هذا ضاق صدره وازداد همه وكدره، وعضَّ بنان النادم الحصر حيث لا ينفعه ندمه، وهو الذي نكأ الجرح فكيف يتأوه ويتألم ويتظلم من مؤلم الجواب والبادي أظلم، ومن آثر أن يكون مقدماً معظماً وجب أن يكون مهذباً مقوماً، ومن أحب أن يكون مبجلاً مصدراً لزم أن يكون من الأفعال الدنية مطهراً، ومن رشح نفسه للأمور الجليلة صبر على الأعباء الثقيلة، ومن طمع في الأسباب العظيمة طالب نفسه باستعمال الأخلاق الكريمة، ودون المكارم مكاره لا يتلقاها إلا العود الباذل، وقبل المعالي عوال لا يغشاها إلا البطل الباسل، ومع المغانم مغارم لا يتحملها إلا الأكارم الأفاضل، وأمام العز الشامخ مذاهب لا تسلك إلا على جسر من التعب ممدود، وقدام الشرف الباذخ مراتب لا تنال إلا بمساورة أساود وأسود، وباني المجد يهون عليه أن يتجرع كؤوس الردى علاً ونهلاً، وجاني الشهد لا يبالي بأن يلقى دون اشتياره نحلاً، فأما الذي يشتهي الرياسة وهو خال من أبرارها ويتمنى الجلالة وهو سكيت في مضمارها، ويحب السيادة وهو عار عن أستارها، فبعيد عليه طريق منالها، ومستصعب له جد الارتقاء في ذرى جبالها.

وقد كان ابتدائي به أول يوم من شهر رمضان من شهور سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف من هجرة سيد ولد عدنان، وختمته بحمد الله تعالى ليلة السبت نصف الليل لأربع وعشرين ليلة خلت من شوال تلك السنة المباركة أواخر فصل الخريف، وقد كل مني البصر، ووهن العظم طلباً لمرضاة الله تعالى، وصيانة لشرعه الشريف، ممن تصدى له- خذله الله- بالتبديل والتحريف، فأسألك اللهم أن تختم بعفوك أجلي، وأن تحقق في رجاء رحمتك أملي، وأن تسهل إلى بلوغ رضاك سبلي، وأن تحسن في جميع أحوالي عملي. اللهم ونبهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني لطاعتك في أيام المهلة، وانهج بي إلى محبتك سبيلاً سهلة، واجمع لي بها خير الدنيا والآخرة. اللهم لا تكلني إلى خلقك، بل تفرد بحاجتي وتول كفايتي، وانظر إليَّ في جميع أموري، فإنك إن وكلتني إلى نفسي عجزت عنها ولم أقم ما فيه مصلحتها، وإن وكلتني إلى خلقك تجهموني، وإن ألجأتني إلى قرابتي حرموني، فبفضلك اللهم فأغثني وبعظمتك فانعشني وبسعتك فابسط يدي وبما عندك فاكفني. اللهم لا تجعل لغيرك عليّ منة، ولا له عندي يداً، ولا لي إليهم حاجة، بل اجعل سكون قلبي وأنس نفسي واستغنائي وكفايتي بك. اللهم أنطقني بالهدى، وألهمني التقوى، ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى. اللهم اسلك بي الطريقة المثلى، واجعلني على ملتك أموت وأحي، اللهم ومتعني بالاقتصاد، واجعلني من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالح العباد، وارزقني فوز المعاد، وسلامة المرصاد. اللهم أنت عدتي إن حزنت، وأنت منتجعي إن حرمت، وبك استغاثتي إن كربت، وعندك مما فات خلف، ولما فسد صلاح، ومما أنكرت تغيير، واكفني مؤنة معرة العباد، وهب لي أمن يوم المعاد، وامنحني حسن الإرشاد، اللهم أظلني

في ذراك، وجللني رضاك، ووفقني إذا أشكلت علي الأمور لأهداها، وإذا تشابهت الأعمال لأزكاها، وإذا تناقضت الملل لأرضاها. اللهم توجني بالكفاية، وسمني حسن الولاية، وهب لي صدق الهداية، ولا تجعل عيشي كداً، ولا ترد دعائي رداً، فإني لا أجعل لك ضداً، ولا أدعو معك نداً، والحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والحمد له سبحانه كما يليق بجنابه، وكما حمد نفسه في كتابه، حمداً يكون وصلة إلى طاعته وعفوه، وسبباً إلى رضوانه، وذريعة إلى مغفرته، وطريقاً إلى جنته، وخفيراً من نقمته، وأمناً من غضبه، وظهيراً على طاعته، وحاجزاً عن معصيته، وعوناً على تأدية حقه ووظائفه. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي نشر رايات الوحدانية، وبشر من أذعن للأحكام القرآنية، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحزابه الذين أقاموا على الخصوم دلائلهم البرهانية، صلاة وسلاماً نسعد بهما في السعداء من أوليائه، ونصير بهما في نظم الشهداء بسيوف أعدائه، إنه ولي حميد. في 24 شوال سنة 1325هـ.

§1/1