عيون الرسائل والأجوبة على المسائل
عبد اللطيف آل الشيخ
مقدمة
المجلد الأول مقدمة ... شكر وتقدير إنه بعد أن أكرمني الله -عز وجل- بإنهاء هذا البحث، لا يسعني إلا أن أشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه الغفيرة، وفضائله، وأحمده حمداً كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه. سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، لا إله إلاأنت نستغفرك ونتوب إليك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا راد لما قضيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وأتوجه بعد ذلك بخالص شكري وتقديري لهذه الجامعة الإسلامية المباركة، التي ربتني طيلة السنوات الثماني عشرة الماضية، تنقلت خلالها في جميع المراحل التابعة لها؛ ابتداءً بشعبة تعليم اللغة العربية، وانتهاءً بالدكتوراة. أسأل الله تعالى أن يحفظها من جميع مكائد أعداء الأمة الإسلامية، ويجعلها دوماً قلعةً للدعاة إلى دينه القويم. ثم أشكر جميع القائمين عليها، الذين يسهرون على خدمة أبناء المسلمين، وعلى رأسهم معالي مديرها؛ فضيلة الدكتور/ صالح بن عبد الله العبود، وفضيلة الدكتور/ عبيد بن عبد الله السحيمي، عميد كلية الدعوة وأصول الدين، وفضيلة الدكتور/ صالح بن سعد السحيمي، رئيس قسم العقيدة في الجامعة. كما أتوجه بخالص شكري إلى أستاذي وشيخي فضيلة الدكتور/ أحمد بن مرعي العَمري، المشرف على هذه الرسالة، والذي رافقني في هذا الدرب الطويل؛ فوجدته خير المعين بعد الله سبحانه وتعالى، والناصح الأمين. أسأل الله تعالى أن يكون جهدي فيه خالصاً لوجهه، ويجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون. وأخيراً أتوجه بشكري وتقديري إلى أستاذي فضيلة الدكتور/ صالح بن فوزان
ابن عبد الله الفوزان، وفضيلة الدكتور/ محمد بن خليفة التميمي، واللذين تقبلا مناقشة هذه الرسالة وتقويمها. فجزا الله الجميع عني خيراً، وأحسن مثوبتهم. وأسأل الله أن يديم نعمة الأمن والإيمان على هذه البلاد، ويوفق ولاتها لما فيه عز الإسلام والمسلمين، ويحفظ لهم مقدساتهم. إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِّينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً} (2) . {يَا أَيُّهَا الَّذِّينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً, يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً} (3) (4) .
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) . وإن من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، أن بعث إليها رسول الهدى، خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً صلوات الله وسلامه عليه، الذي أدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركهم على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. ثم إنه -سبحانه وتعالى- يقيض لهذا الدين -في كل عصر- طائفة من علماء أهل السنة، دعاة مخلصين، هم ورثة الأنبياء يقومون بالدعوة إلى الله، ويناضلون من أجل نشر الإسلام، وإحياء ما اندرس من سنة المصطفى -عليه السلام- ويقفون في وجه أعداء الملة؛ من الملحدين والحاقدين، يردون على شبهاتهم، ويفندون شبههم، ويبطلون زيفهم. ومنهم المجددون لأمر هذا الدين؛ الذين أشار إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) (2) . وكان من بين أولئك الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مجدد القرن الثاني عشر، الذي أحيا في نفوس العباد كلمة التوحيد، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فانتشرت دعوته وامتدت عبر الأجيال. فهو -رحمه الله- كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي الْسَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1) . فمن ينظر إلى شجرة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب في إيجاد البيئة التي كانت قائمة أثناء كتابته لهذه الرسائل؛ لذا نجدها متنوعة في ثلاثة أنواع: الأول: رسائل في عقيدة التوحيد وما يضادها من الشرك: فقد شملت رسائله في هذا الشأن، الدعوة إلى عقيدة التوحيد الصحيحة، وبيان أسسها ونواقضها، وبيان ما دعا إليه جده الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومراسلة أقرانه وتلاميذه في شأن الدعوة والرد على المنحرفين والمبطلين. وأقام الحجج على وجوب معاداة المشركين عامة، ووجوب البراءة منهم ومجاهدتهم والهجرة من ديارهم، وتحريم موالاتهم. كما فرّق بين معاملة المشركين المحاربين للمسلمين، المعادين لهم في الدين، ومعاملة غيرهم؛ وبين البلاد التي يفتن فيها المسلم، ولا يستطيع إقامة دينه فيها، والبلاد التي ليست كذلك؛ وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالعقيدة. والثاني: رسائل في فتاوى: وكان مختصة بالأجوبة على أسئلة المتسائلين حول مسائل الفروع. وهي رسائل معدودة. والثالث: رسائل في الفتن الواقعة في عصره: وهي تتناول الحث على مجاهدة تلك العساكر التي أرسلتها الدولة العثمانية لإبطال دعوة التوحيد، وعلى العمل على إخماد نار الحرب بين الأميرين عبد الله بن فيصل بن تركي، وأخيه سعود بن فيصل بن
تركي. وأخرى تبين ما كان يقوم به من عقد الصلح بينهما، وأخذ الأمان على أهل بلدته، وهكذا. وقد بلغ مجموعها إلى ست وسبعين (76) رسالة، إضافة إلى إحدى وعشرين (21) رسالة من الملحقات في حواشي نسخة (أ) . ولا شك في أن هذه الرسائل، على الرغم من أن الشيخ كان يوجهها لأشخاص معينين، إلا أنها؛ لعظم ما فيها من المسائل العلمية والنصائح، والفوائد الدقيقة، فإن الحاجة إليها قائمة في كل زمان ومكان، ولكل فرد ومجتمع. أسباب اختياري لهذه المخطوط: بعد أن أنعم الله -سبحانه وتعالى- عليّ باجتياز مرحل الماجستير في هذه الجامعة، وجدت في نفسي دافعاً قوياً، وهمة عالية، تدفعني إلى طلب التزود من هذا العلم الشرعي. ثم كانت نعم الله عليّ تترى؛ إذ منحتني الجامعة فرصة أخرى، لألتحق بهذه المرحلة التي أشعر فيها أني وصلت إلى بداية طلب العلم. فبدأت مرحلة البحث والتنقيب عن موضوع يمكن تقديمه للقسم؛ ليكون منطلق عملي في هذه المرحلة العلمية. وبعد البحث المضني، والمحاولات العديدة الجادة، التي قدمت فيها عدة موضوعات، ولم تحظ بالقبول، وقعت عيني على عنوان هذا المخطوط، فوجدت محتواه موافقاً لما أحتاج إليه، وللتخصص الذي أنا فيه. فاستخرت الله -عز وجل- على تقديمه، فوفقني لموافقة القسم عليه. وقد كان من أهم الأسباب التي دعتني إلى اختيار هذا المخطوط: 1- أن هذه الرسائل التي يحتويها هذا المخطوط لها أهمية كبرى، في خدمة العقيدة
الإسلامية، والدفاع عن السنة وأهلها. 2- كون صاحب المخطوط، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، علماً من أعلام أهل السنة والجماعة، عدواً لدوداً لأعداء الدعوة السلفية. 3- أنه قد قادني الرغبة الأكيدة في المشاركة في إخراج شيء من التراث الإسلامي الهائل، الذي لم يزل في دوره، وينتظر من يخرجه للقراء. 4- إبراز هذا الكتاب في صورة أوضح وسليمة قدر الإمكان؛ وذلك نظراً لكثرة تداول طلبة العلم للنسخة المطبوعة، والتي كانت بحاجة إلى التحقيق. 5- أنه لم يسبق -حسب علمي- أن حُقق هذا المخطوط تحقيقاً علمياً؛ فالرسائل التي نجدها مطبوعة في المجلد الثالث ضمن "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" ليست محققة، ولم يعتن طابعها بتصحيح جميع ما فيها من أخطاء. 6- توفر النسخ المخطوطة التي استعنت بها في تقويم النص. تلك بعض الأسباب التي دعتني إلى اختيار هذا المخطوط. أهمية هذا المخطوط تبرز أهمية هذا المخطوط في الآتي: 1. أنه يتضمن رسائل مهمة، تنافح عن العقيدة السلفية, وتدرأ عنها الشبهات التي أثيرت حولها، والتي يستحدثها دعاة الضلالة في وقتنا الحاضر. 2. احتوائه على مسائل عقدية مهمة، جانب الصواب فيها كثيرٌ من المبتدعين. ففيه يبرز الشيخ المعتقد السليم حول تلك المسائل؛ كما يورد العديد من أقوال السلف التي هي بحاجة إلى الدراسة والتحقيق.
الخطة التي سرت عليها في الدراسة والتحقيق اشتملت الخطة على تمهيد وقسمين: قسم الدراسة، وقسم التحقيق. أما التمهيد: فيشتمل على الآتي: - المقدمة. - أسباب اختياري لهذا المخطوط. - أهمية هذا المخطوط. - الخطة التي سرتُ عليها في الدراسة والتحقيق. - منهجي في الدراسة والتحقيق. القسم الأول: الدراسة: وقد تضمنت دراسة عصر المؤلف، وحياته، وكتابه. القسم الثاني: تحقيق النص. أما القسم الأول: فيتكون من بابين: الباب الأول: عصر المؤلف وحياته. وجعلته في فصلين: الفصل الأول: عصر المؤلف: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الحالة السياسية. المبحث الثاني: الحالة الاجتماعية. المبحث الثالث: الحالة الدينية. الفصل الثاني: حياة المؤلف: وفيه مباحث: المبحث الأول: اسمه ونسبه.
المبحث الثاني: ولادته وأسرته. المبحث الثالث: صفاته الذاتية والفكرية. المبحث الرابع: نشأته العلمية ورحلاته. المبحث الخامس: شيوخه. المبحث السادس: تلاميذه. المبحث السابع: ثقافته وإنتاجه العلمي. المبحث الثامن: عقيدته. المبحث التاسع: أعماله ووظائفه. المبحث العاشر: حياته السياسية. المبحث الحادي عشر: وفاته والمرثيات التي قيلت فيه. المبحث الثاني عشر: ثناء العلماء عليه. أما الباب الثاني: فيتناول دراسة الكتاب: وقسمته إلى فصلين: الفصل الأول: التعريف بالكتاب: وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: عنوان المخطوط. المبحث الثاني: تعريف جامع الرسائل. المبحث الثالث: توثيق نسبته إلى المؤلف. المبحث الرابع: موضوع الكتاب.
المبحث الخامس: وصف النسخ الخطية والمطبوعة. الفصل الثاني: دراسة تقويمية للكتاب. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: منهج المؤلف في الكتاب. المبحث الثاني: مصادره. المبحث الثالث: قيمة الكتاب. أما القسم الثاني: فيتناول تحقيق النص. ويشتمل على ذكر النص، والتعليقات التي وضعتها في الهامش. منهجي وعملي في التحقيق: 1- بدأت بجمع النسخ التي اعتمدت عليها في مقابلة النص. فقمت من أجل ذلك برحلة علمية إلى مدينة الرياض، حيث وجدت أغلبها. وكذلك من أجل الاطلاع على بعض الأماكن في منطقة نجد بلد المؤلف، والتي ورد ذكرها في الرسائل. 2- قد أخرجت هذا الكتاب بعد مقابلته على أربع نسخ خطية، ونسخة مطبوعة واحدة، هي الجزء الثالث من كتاب: (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) . 3- اتبعت منهج إثبات النص الصحيح، لسبب أن جميع ما بيدي من النسخ ليس من ضمنها نسخة بخط المؤلف، بل كلها لنساخ مختلفين، فاحتمال وجود الخطأ عند أحدهم أثناء النسخ، وارد. 4- إذا اختلفت النسخ في كلمة أو عبارة، أثبت أصحها في نظري، وأضعها بين شرطتين مائلتين هكذا (//) ، ثم أشير بالهامش إلى الكلمة الواردة في بقية النسخ. 5- التزمت بتحقيق رسائل الشيخ الواردة في المخطوط الذي بين يدي، ولم أتناول رسائله الواردة في الأماكن الأخرى، كالتي وردت في الدرر السنية والرسائل الزائدة
في المطبوع وغيرها، عدا رسالة واحدة هي (الرد على الصحاف) . 6- إن كانت الرسالة مما أحققه منشورة في أي كتاب، كالدرر السنية، أو الهدية السنية، أشير إليها بذكر مكان وجودها. 7- قمت بتصحيح الأخطاء الإملائية، بدون إشارة لذلك. 8- إن كان الخطأ في آية، أكتفي بتصحيحه، دون الإشارة لذلك. 9- إن كان الخطأ في حديث أو أثر، أصححه من أصله وأشير لذلك. 10- نبّهت على نهاية كل صفحة من صفحات نسخة (أ) بوضع رقم جانبي، ومن الملاحظ أن أشرت إلى نهاية كل الصفحة، بدلاً من (لوحة) ؛ ذلك لأن النسخة التي اخترتها أصلاً، مرقمة بصفحتين في كل لوحة. 11- قمت بعزو الآيات القرآنية إلى مواضعها في المصحف الشريف، بذكر اسم السورة ورقم الآية. 12- التزمت في كتابة الآيات داخل النص بالرسم العثماني. 13- قمت بتخريج الأحاديث الواردة في هذا البحث، من مصادرها. واتبعت في ذلك الآتي: - خرجت الأحاديث من الكتب الستة. وقد أزيد عليها أحياناً للفائدة. - أذكر الجزء ورقم الصفحة مع الإشارة إلى اسم الكتاب، والباب، في الهامش. - بعض الأحاديث التي أوردها في الهامش للاستشهاد، أكتفي أحياناً بذكر الجزء والصفحة. - بعض الأحاديث التي لم ترد في الصحيحين، أذكر كلام علماء الحديث في تصحيحها أو عدمه، إن وقعت على شيء منه. - الأحاديث التي اكتفى المؤلف بالإشارة إليها، أو بذكر جزء منها، أذكرها وأكملها
في الهامش مع التخريج. 14- قمت بعزو الآثار الواردة في البحث إلى مصادرها قدر الإمكان. سواء كانت للصحابة أو التابعين، أو من بعدهم من علماء سلف الأمة. 15- قمت بتوثيق النصوص المنقولة الواردة في النص المحقق، بمقابلتها بالأصل، وعزوها إلى مصادرها قدر الإمكان. فما أسقطه المؤلف أو أخطأ في نقله أصححه وفق ما يوجد في الأصل. 16- قمت بترتيب الرسائل ترتيباً فنياً؛ حيث إنها مختلطة في جميع النسخ عموماً. فقدمت الرسائل المتعلقة بالتوحيد والعقائد، ثم المتعلقة بالفتاوى، ثم تلك المتعلقة بالفتن، والواقعة بين أبناء فيصل بن تركي بن عبد الله عند صراعهم على الحكم. 17- قمت بترجمة مختصرة لمعظم الأعلام الذين ورد ذكرهم في البحث. واتبعت في ذلك الآتي: - اكتفيت بذكر ما يميّز العلم عن غيره من: اسم المترجم له وأبيه وجده، وكنيته ولقبه وتاريخ وفاته، وأهم كتبه أحياناً، أو أمر اشتهر به. مع ذكر مصدرين أو أكثر لمن يرغب في الاطلاع عليه. - تركت التعريف بمن تغني شهرتهم عن ترجمتهم، مثل أسماء الأنبياء وكبار الصحابة كالخلفاء الأربعة ونحوهم، وأصحاب الكتب الستة، والفقهاء الأربعة ونحوهم، ممن بلغت شهرتهم الآفاق. وقد أشير أحياناً إلى اسمه؛ (لتعيينه عن غيره) وأذكر له مرجعاً أو مرجعين لمن أراد الاطلاع على ترجمته. - لم أتمكن من الحصول على ترجمة بعض الأعلام، التي كانت بحاجة إلى ذلك؛ للآتي: أ- أن أغلب هؤلاء من المتأخرين، عاشوا في القرن (13 و 14) وهم في منطقة
نجد. وأكثرهم من صغار التلاميذ للشيخ، بحيث لم يُلفتوا أنظار المترجمين المعاصرين لهم ومن بعدهم. كما أنه من الملاحظ قلة كتب التراجم لأهل تلك المنطقة، والموجودة منها اعتنت بمشاهير الأعلام من العلماء والمشايخ والأمراء ونحوهم. ب- أن بعضهم، من المبتدعين أو الفساق الذين كان يراسلهم الشيخ، فلم يلتفت إليهم أصحاب التراجم. 18- علقت على المسائل العقدية وغيرها، التي أشار إليها المؤلف، وكانت بحاجة إلى تعليق أو زيادة إيضاح. وأجعل عند بداية تعليقي في الهامش علامة (*) لتفريقه عن غيره. 19- قمت بوضع عناوين جانبية للرسائل والمسائل الواردة في النص وذلك بخط دقيق في بداية المسألة. ونقلت بعضها مما وضع في النسخة المطبوعة، مما رأيتها موافقة لما أراه مناسباً للموضوع. 20- عزوت الأبيات الشعرية إلى قائليها ومصادرها قدر الإمكان. 21- عرّفت بالفرق والطوائف الواردة في النص. 22- عرّفت ببعض الأماكن والبلدان الواردة في النص، مما قد تخفى على القارئ معرفتها. 23- قمت بشرح الكلمات الغريبة الواردة في النص، وكذلك المصطلحات. 24- لم ألتزم بذكر جميع تعليقات النساخ على حواشي النسخ؛ كشرح بعض الكلمات، أو التعليق الشخصي للناسخ. 25- أذكر جميع المعلومات الخاصة بالمصدر عند أول ذكره، وفي ذلك رمزت للطبعة بـ (ط) وللوفاة بـ (ت) ، وللهجري بـ (هـ) وللميلاد بـ (م) . ودوّنت المعلومات حسب ما هو موجود على عنوان الغلاف.
26- في قسم الدراسة أو في التعليقات على النص، اكتفيت بذكر التاريخ الهجري. 27- فرّقت بين كلام الشيخ، وكلام جامع الرسائل بخط مغاير في الحجم، فأجعل كلام الشيخ في خط أكبر. 28- هناك رسائل أوردها ناسخ (أ) بالحواشي، ولم ترد في غيرها من النسخ، فقد أدرجتها ضمن الرسائل العامة ووزعتها حسب موضوعاتها. 29- وضعت فهارس مختلفة، تكشف أسرار الكتاب، وتبين للقارئ محتواه. وهي تشمل: فهرس الآيات القرآنية فهرس القواعد الأصولية فهرس الأحاديث النبوية فهرس الوقائع والأحداث فهرس الآثار فهرس الأمثال فهرس الأعلام فهرس الأبيات الشعرية فهرس المواقع فهرس الكلمات الغريبة فهرس الفرق والطوائف فهرس المصادر والمراجع فهرس القبائل فهرس الموضوعات وبعد ... فهذا هو جهدي في هذا البحث، على ضوء الخطة التي رسمتها، وإني لأرجو الله -تعالى- أن أكون قد حققت من خلالها بعض مقاصد هذا التحقيق، فما تمَّ لي من ذلك فلله وحده النعمة والفضل. وإن كانت الأخرى، فهو جهد بشر معرض للنقص؛ إذ الكمال لله وحده -سبحانه وتعالى-. وأسأله -جلّت قدرته- أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا، ويزيدنا علماً.
كما أسأله -سبحانه- أن يغفر لي ما سبق إليه القلم أو الفهم الخاطئ في هذا البحث من نسبة قول أو مذهب أو رأي لغير صاحبه، أو استنباط في غير محله وعلى غير وجهه. إنه سميع مجيب.
القسم الأول: الدراسة
القسم الأول: الدراسة الباب الأول: عصر المؤلف وحياته الفصل الأول: عصر المؤلف المبحث الثالث: الحالة الدينية ... المبحث الثالث الحالة الدينية منذ أن تعاهد الأمير محمد بن سعود مع محمد بن عبد الوهاب سنة (1158هـ) وتحالفا (1) على تطهير جزيرة العرب من البدع والخرافات، ونشر كلمة التوحيد وحمايتها، دخلت نجد أو بالأحرى الدرعية مع سائر الإمارات الأخرى في حرب دينية دامية؛ كما فعل حاكم الإحساء ابن عريعر الخالدي، وحاكم نجران السيد حسن ابن هبة الله، اللذان تحالفا عام (1178هـ) ، على الزحف على الدرعية؛ للقضاء على مهد الدعوة الدينية، وكسر شوكة دعاتها (2) . وأمثال أولئك كثيرون. غير أن ذلك لم يثن أبناء سعود المتعاقبين على حكم البلاد السعودية، عن التمسك بمبدأ حماية الدين ونصرة عقيدة التوحيد، وجعلها أساساً للحكم. فبعد وفاة الإمام محمد بن سعود (1179هـ) تولى الأمر بعده أكبر أولاده الأمير عبد العزيز بن محمد (ت1218هـ) فسار على خطة أبيه في التعاون مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ) ، في تجديد الدعوة، وإعلاء كلمة الله (3) . ويمكن تلخيص الحالة الدينية في العصر الذي عاشه الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- في الآتي: أولاً: حال الدرعية:-
فقد كانت الدرعية -مسقط رأس الشيخ- مركزاً لحماية الدين ونشر الدعوة، فهي كما وصفها الشيخ عبد الله البسام بقوله: ( ... والدرعية حينئذٍ كعبة العلم، وموطن الدعوة، ومعهد علماء السلف، وعاصمة الجزيرة العربية، وعرين الليوث السعوديين من حماة الدين وذادة الملة الإسلامية ... ) (1) . ووصفها أيضاً -عند ترجمته للشيخ عبد اللطيف- بقوله: (إن الدرعية الزاخرة بالعلم، والساطعة بالإيمان، والمشرقة بالدين، والآهلة بالعلماء ... ) (2) . فمن ذلك يمكننا معرفة المكانة الدينية، التي كانت تمتاز بها تلك البلدة. أما بعد سقوطها في أيدي الغزاة المصريين والأتراك، فقد انقلب الحال رأساً على عقب؛ حيث انعدم فيها -وفي سائر المناطق النجدية التي وقعت في أيدي الطغاة- كثير من مظاهر الدين، وصار أهلها -كما قال ابن بشر-: "وهجر كثير منهم الصلاة وأفطر في رمضان، وجر الربا والغناء في المجالس، وسفت الذراري على المجامع والمدارس، واندرس السؤال عن أصول الإسلام وأنواع العبادات، وظهرت دعوى الجاهلية في كل البلاد" (3) . ثانياً: حال الإحساء:- أما في منطقة الإحساء، فكانت الأحوال الدينية مختلفة تماماًَ عما كانت عليها في الدعية، فقد كان فيها خليط من العقائد والآراء. وقد وصف الشيخ عبد الله البسام ما كانت عليه هذه المنطقة من أحوال دينية فقال:
( ... ولما استولى الإمام فيصل على الإحساء، وكان فيها خليط من العقائد والآراء، فالرافضة (1) لهم شوكة، وعلماء الشافعية والمالكية أشاعرة (2) ، وعلماء الأحناف ماتريدية (3) ، وتشترك هذه الطوائف كلها في وسائل الشرك؛ من نحو تعظيم القبور، والغلو في الصالحين، والبدع؛ من نحو الموالد، ومراسم الموت، والجنائز.
فكان الشيخ عبد اللطيف هو المختار لمقابلة، مثل هؤلاء، ومحاربة أمثال هذه الأمور، فبعثه الإمام إليهم" (1) . فهنا نجد الأمير فيصل بن تركي قد انتدب الشيخ عبد اللطيف لمهمة مقابلة أولئك القوم، ومناقشتهم وردهم إلى جادة صوابهم، فوفق لذلك -رحمه الله-. ثالثاً: الاستمرار في ظهور معارضين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركتهم في ذلك:- منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية السلفية، برز كثير من المعارضين لها في شتى أنحاء شبه الجزيرة العربية وخارجها، قاموا ببث سموم الفساد والتضليل، وجردوا أنفسهم للدعوة إلى البدع والخرافات، وألفوا في ذلك مؤلفات. كان من ضمن أولئك: 1- داود بن جرجيس العراقي (2) : وقد كان لهذا يد في الإفساد والتضليل حينما استوطن نجداً، فالتف حوله من أخذ عنه، فكان رائد التضليل. وألف كتاب: (صلح الإخوان من أهل الإيمان، وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم) . ويحتوي هذا الكتاب على خبث كامنٍ، وسمٍّ دفين؛ إذ إن من اطلع على عنوان هذا الكتاب، قد يحسبه ضمن الكتب المناصرة لعلماء الدعوة، والواقع أنه دافع فيه عن
الاستغاثة بالأموات، وضلل معارضي ذلك، ونقل فيه خمسين موضعاً من كتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، يزعم أنها تشهد له على استحباب دعاء الموتى والاستغاثة بهم. 2- عثمان بن منصور (1) ، وكان طاغية من أهل البدع، ألف في السبّ وشتم شيخ الإسلام ومجدد الدعوة السلفية محمد بن عبد الوهاب كتاباً سماه (جلاء الغمة من تكفير هذه الأمة) ، والمراد بالأمة عنده، عبدة الأصنام، فانتصر لهم فيه، وضلل أهل التوحيد (2) . 3- يوسف بن إسماعيل النبهاني (3) صاحب كتاب شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، والرائية الصغرى، وغيرهما، أظهر فيها حملة عنيفة على من سماهم وهابيين.
فقام في مقابلة هؤلاء، علماء سلفيون دعاة، وأخذوا يردون على ما يبثه أولئك الطغاة من مفتريات حول دعوة الحق، والعقيدة الصحيحة، ويفندون مزاعمهم؛ فألفوا في ذلك مؤلفات، كان من أهمها: ردود العلماء على كتاب ابن جرجيس (صلح الإخوان) المتقدم، فقد تصدى للرد على هذا الكتاب، جملة من العلماء؛ هم: أ- الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن -والد الشيخ عبد اللطيف- الذي قام بالرد والردع على شبهات هذا المفتري، وذلك في كتاب سماه: (القول الفصل النفيس) . ب- ابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن الذي تبعه في الرد على تلك الشبه، وذلك في كتابه: (منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس) (1) . إلا أن المنية عاجلته فلم يكلمه. ج- العلامة العراقي السيد محمود شكري الآلوسي (ت1342هـ) الذي قام بعد وفاة الشيخ عبد اللطيف، بإكمال ما بدأه الشيخ من الرد، تتمة للفائدة، وذلك في كتاب سماه: (فتح المنان في الرد على صلح الإخوان تتمة منهاج التأسيس) . د- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبو بطين (ت1282هـ) الذي قام بالدور نفسه، في كتابه: (تأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس) ، وكتاب (الانتصار في الرد على ابن جرجيس) أيضاً (2) . هـ- (تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس) ، وهو أيضاً كتاب
للشيخ عبد اللطيف، رد به على ابن جرجيس. و (دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ) ، وهو كتاب رد به الشيخ عبد اللطيف أيضاً، على مفتريات داود بن جرجيس. ومن الكتب التي ظهرت في الرد على دعاة الضلالة أيضاً: كتاب مصباح الظلام (1) ، الذي رد به الشيخ عبد اللطيف على كتاب عثمان بن منصور "كشف الغمة" المتقدم ذكره. وبهذا نختم ملخص ما كان عليه عصر المؤلف، من النواحي السياسية، والاجتماعية، والدينية.
المبحث الأول: الحالة السياسية
المبحث الأول: الحالة السياسية إن حياة المؤلف -رحمه الله- كانت ما بين عام خمسة وعشرين ومائتين وألف، وعام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف الهجري (1225-1293هـ) . وتعتبر هذه الفترة إحدى الأدوار التي مرت بها حكومة آل سعود (1) ، والتي يمكن تقسيم أدوارها منذ نشأتها إلى اليوم كالتالي: الدور الأول: [1137-1233هـ] : يبدأ هذا الدور من نشأة حكومة آل سعود الأولى، على يد الأمير محمد بن سعود (2) بن محمد، إلى نهاية حكم......................................................................................
عبد الله (1) بن سعود الكبير (2) حين سقوط الدرعية.
الدور الثاني: [1235-1293هـ] : ويبدأ من ولاية تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، إلى نهاية ولاية عبد الله ابن فيصل بن تركي حين وفاته عام 1293هـ رحمه الله، وعندئذٍ تمكن محمد بن رشيد (1) من الاستيلاء على البلاد النجدية. الدور الثالث: [1318هـ....] : من قيام الملك عبد العزيز (2) بن عبد الرحمن الفيصل، إلى الوقت الحاضر (3) . وعلى ضوء هذا التقسيم، يمكن تحديد الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف
-رحمه الله- بأنها كانت ما بين (منتصف الدور الأول، إلى نهاية الدور الثاني) . والذي يهمنا هنا، هو تلك الفترة من الزمن التي أثرت تأثيراً مباشراً، في حياة شيخنا، وهو الدور الثاني. فقد ولد الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- عام (1225هـ) ، أي قبل نهاية الدور الأول من حكومة آل سعود بثماني سنوات؛ فلم يكن لهذا الدور أثر يذكر في مسار حياته، كما كان الأمر فيما بعده. وهنا نشير إلى بعض ما حدث من وقائع وأحداث سياسية في الفترة التي عاشها شيخنا عبد اللطيف، رحمه الله. ما وقع من الأحداث بعد ولادته إلى نهاية الدور الثاني أي من [1225-1293هـ] كانت هذه الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، مليئة بالأحداث السياسية والفتن والحروب. وقد كان من أبرزها ما نعرضه هنا على وجه الاختصار:- أولاً: الفتنة العثمانية التركية المصرية [1226هـ] :- كانت الدولة العثمانية قد انهارت فيها جميع المقومات التي تنهض عليها المجتمعات الإسلامية السوية، فالأقاليم التابعة لها كانت في ذلك الوقت مسرحاً للفوضى
والمشادة (1) ، وعدم الاستقرار السياسي والديني. وقد ضاقت هذه الدولة ذرعاً بما رأت من قيام الدعوة السلفية، وما آلت إليه بفضل الله وتوفيقه لآل سعود بنصرتها، وكذلك ما كانوا يرونه من توسع آل سعود، وبسط سيطرتهم على نجد والحجاز وغيرهما، وجعلها تحت شعار الاعتراف بوحدانية الله؛ مما جعلهم يفكرون في غزوهم (2) . فأجمع الترك على المسير إلى الحجاز، وجمعوا لذلك آلات الحرب والأموال والذخائر من طعام وغيره، وأرسلوها -مع العساكر من إسطنبول وما دونها من الشام- إلى محمد بن علي (3) -صاحب مصر- الذي وكِّل إليه مهمة القتال، كل ذلك تحت إمرة السلطان محمود بن عبد الحميد (4) ، وكان ذلك عام (1226هـ) (5) ، وهو الذي
ولي سنة ميلاد الشيخ -رحمه الله-. فكانت الحروب منذ ذلك سجالاً بين العساكر المصرية، وأهل الحجاز ونجد. كما أنها كانت المقدمة لغزو نجد، وإسقاط الدرعية عاصمتها الأولى (1) . وكان نشوب هذه الحروب في أواخر عهد سعود بن عبد العزيز الكبير، المتوفى سنة (1229هـ) واستمرت إلى نهاية إلى ما بعد وفاته -رحمه الله-. وبعد وفاته، تولى ابنه عبد الله الإمارة، ونازعه الحكم عمه عبد الله بن عبد العزيز (2) ، إذ طمع فيه لما كان يرى منه من الهوان واللين والهوادة، ولكن عبد الله بن سعود انتصر عليه (3) . ثم إنه بسبب ما اتصف به من اللين والضعف، تسرب الوهن إلى قلب حكومته، وبدأت عناصر القوة والوحدة تنحل وتضمحل، ولم يستطع القضاء على الفتن والثورات، بل لم يستطع الثبوت لها (4) . وفي سنة (1232هـ) أرسل عبد الله بن سعود، حسن بن مزروع، وعبد الله بن عون إلى محمد علي في مصر بهدايا ومراسلات بتقرير الصلح، فلما قدموا عليه في مصر، وجدوه قد تغير (5) .
وزاد هذا الوهن في طمع محمد بن علي -صاحب مصر- وانتهز الفرصة للهجوم على نجد، فجهز جيشاً قوياً من مصر والترك والمغرب والشام والعراق إلى نجد، عقد رايته لابنه إبراهيم باشا (1) ، وذلك في شوال عام (1231هـ) . رحل إبراهيم من القاهرة إلى قنا عن طريق النيل، ثم سافر إلى القصير (2) على ظهور الإبل، وركب البحر منه إلى ينبع، ثم إلى المدينة، ودخلها من غير مقاومة، عام 1231هـ (3) ، ثم توجه إلى الحناكية (4) وعسكر فيها ستة أشهر، يغري العربان ويستغويهم، حتى انضم إليه بعض القبائل؛ مثل قبيلة حرب (5) بقيادة أحد
رؤسائها، غانم بن مضيان، وقبيلة عتيبة (1) ومطير (2) ، وحدث بها معركة بينه وبين عبد الله، عام (1232هـ، انهزم فيها جيش عبد الله (3) . ثم سار بجيشه وأقبل على الرس (4) ، التي دافع عنها أهلها دفاعاً مجيداً، فقتل من جيشه في الهجمة الأولى ثمانمائة (800) رجل، فطلب النجدة من المدينة المنورة، فسالت عليه، وضيق خناق الحصار على الرس، حتى افتتحها صلحاً بعد ثلاثة شهور ونصف، وفتك بزعمائها؛ ثم أخذت المدن والبلدان والقرى النجدية تتهاوى وتسقط في يد إبراهيم؛ مثل عنيزة (5) .................................................
فبريدة (1) فبقية مدن القصيم (2) فالوشم (3) وشقراء (4) وضرمة (5) وغيرها. ثم أتى الجيش المصري على العامر (6) ، فتركه خراباً، ثم مال إلى وادي حنيفة (7)
ومنها إلى الجبيلة (1) حتى وصل الدرعية (2) عام 1233هـ (3) . وقد التقى-قبل وصوله الدرعية- مع جيش عبد الله عدة مرات؛ كما في وقعة مادية التي انتهت بهزيمة عبد الله، ووقعة نجروش مع الترك، وانتهت بانهزام الترك، وغير ذلك من اللقاءات (4) . ثانياً: سقوط الدرعية (1233هـ) :- كانت الدرعية -حين مولد الشيخ عبد اللطيف- عاصمة الدولة السعودية الأولى، وعندما بلغ الشيخ ثماني سنين من العمر، حدث بها نكبة عظيمة، ودمار شديد على يد المجرم إبراهيم باشا. فبعد وصوله إليها في العام المذكور آنفاً، حاصرها حصاراً شديداً، ولم يجعل لأهلها منفذاً. ومضت خمسة أشهر والدرعية ثابتة، فأخذت المؤن والأرزاق في النقاد، بينما
كانت تسيل على إبراهيم من القصيم والمدينة المنورة والبصرة ومصر (1) . ثم صمم على مهاجمة الدرعية، فوالى الهجوم والتخريب وإطلاق القنابل والرصاص، فهدم المساكن والمساجد؛ فأسرع أهلها إلى أميرهم عبد الله، طالبين منه الخلاص مما هم فيه، فاضطر إلى الخروج إبراهيم باشا، ويسلمه نفسه بلا قيد ولا شرط، وذلك في الثامن من ذي الحجة سنة (1233هـ) . فأظهر له الإكرام، وبعثه مع أربعمائة من رجاله إلى والده بمصره، وبالغ محمد علي في إكرامه -نفاقاً- ثم أرسله إلى الأستانة ومعه بعض رجاله، حيث أمر الباب العالي بقتله، فطوف بالأسواق مقيداً ليرى الترك رئيس الوهابية (2) الذي يعدونه خارجاً على الإسلام، ثم قتل في ميدان أيا (1) صقر الجزيرة، 1/64.
صوفيا (1) قال عبد الرزاق البيطار في حلية البشر (2) : (كان محمد علي باشا، وزيراً على مصر للسلطان محمود، وهو الذي أمره بمقاتلة الوهابيين، فأرسل ولده إبراهيم باشا، ومعه عسكر عظيم من الأكراد والأرناؤوط وعرب مصر، لمحاربة عبد الله بن سعود أمير نجد، فقاتلهم وقتل ونهب وحرّق وخرّب وأسر عبد الله بن سعود وأرسله إلى مصر، فبعثه والي مصر إلى السلطان محمود، فصلبه، أما باقي عائلة أمراء الوهابيين (المعبر عنهم بآل مقرن) وباقي بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه نقلهم إلى مصر، وأسكنهم هناك) . وبعد أن دمر إبراهيم باشا الدرعية، وسوى معالمها بالأرض، ولم يترك فيها ما ينتفع به من منزل أو نخيل أو آبار أو عيون، توجه إلى مصر سنة (1234هـ) ، مصطحباً معه أفراداً من آل سعود وبعض زعماء نجد، وقد كان من بينهم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، الذي اصطحب مع والده وأعمامه، وهو ابن ثماني سنين، وولى على نجد قائداً يدعى (إسماعيل باشا) ، ثم رحل هذا إلى مصر مولياً مكانه (خالد باشا) ، وكان خالد هذا جباراً قاسياً بطاشاً، أذاق النجديين ألوان العذاب والذل، فانتشرت الفوضى، وقطعت الطريق، ونهب السفر، وكثرت الغارات (3) .
ثالثاً: قيام محمد بن مشاري: (1235هـ) :- وفي تلك الأحوال السيئة، نهض محمد بن مشاري من آل معمر، أمراء العيينة (1) ، وقد ساعدته الظروف المتدهورة، فتمكن من الاستيلاء على أجزاء كبيرة من قلب الجزيرة؛ هي: العارض (2) ، وسدير (3) ، والوشم، والقصيم، وكان على اتفاق مع الترك العثمانيين، المرابطين في نجد حينذاك، وبينما هو منهمك في تثبيت قواعد إمارته قدم الجيش التركي بقيادة (عبوش أغا) ، وما كاد يصل عنيزة حتى بادره ابن معمر بخطاب ورسول ينبئه بأنه مطيع للباب العالي، وتحت أمره، فرجع عبوش أغا من حيث جاء (4) . ثم إن مشاري بن سعود الكبير (5) ثار على ابن معمر ونازعه وقاومه، حيث إن ابن معمر كان قد استولى على أجزاء من نجد بما فيها (العارض) مقام مشاري ابن سعود،
فقاومه مشاري؛ لكونه أحق منه بالحكم، غير أن ابن معمر أسره، وسلمه إلى المعسكر التركي، الذين سجنوه إلى أن مات في السجن عام (1235هـ) (1) . رابعاً: قيام الإمام تركي بن عبد الله (2) واستعادته للسلطة في نجد، وطرده للقوات المصرية (1240هـ) (3) :- استمر حكم الأتراك لنجد، من (1233-1240هـ) . وكان الإمام تركي بن عبد الله حينذاك متنقلاً في نجد، هارباً من وجه إبراهيم باشا، لئلا يقتله أو ينفيه كما فعل بآل سعود. وفي السنة (1235هـ) غادر الإمام تركي الرياض هارباً من الأتراك الذين حاصروها، وفي نفس الوقت كان ثائراً عليهم، ومضى يجمع الكلمة، ويوحِّد الصفوف، ويقضي على المنازعات الداخلية (4) .
وبعد أن علم بأن أحد آل معمر قد قبض على ابن عمه مشاري بن سعود، وسلمه إلى الترك، وأنهم قتلوه حبساً في السجن، خرج من مخبئه، ودخل "العارض" فنازع ابن معمر برهة من الزمن وقاتله، غير أن ابن معمر قتله ابن عمه (1) . فصفا الجو لتركي، وتولى الحكم مكانه (2) . وفي سنة (1236هـ) قدم حسين بك وأبوش أغا ومعهما عسكر من الدولة العثمانية، إلى الرياض، وحصروا تركيا في قصره. فتمكن من الهروب ليلاً، وأقام في بلدة الحلوة بنجد (3) . وفي سنة (1237هـ) غزا إبراهيم كاشف، وأغار على قبيلة سبيع في الحاير فكانت الهزيمة عليه، فقتل هو مع ثلاثمائة رجل. ووجهت الدولة العثمانية أبا علي البهلولي، بدلاً منه، ومعه ستمائة رجل، واستقر في الرياض (4) . وفي سنة (1240هـ) قويت شوكة الإمام تركي، فزحف على الرياض وفيها العساكر المصرية والتركية المرابطة في نجد (5) ، وحاصر الحامية التي فيها، حتى
صالحة قائد الحامية (أبو علي البهلولي) ، على خروج العساكر من الرياض، وعودتهم إلى بلادهم، وتأمين جميع المحاربين معهم، فتم ذلك. ثم عين ابن عمه مشاري (1) بن ناصر بن مشاري بن سعود، أميراً على الرياض، ريثما يرتب الإمام تركي شؤونه (2) . فغزا الإحساء والقطيف وفتحهما، وتمكن من بعض البوادي، وأدخل كثيراً من القرى والمدن تحت حكمه، كما انضم إليه زعماء القبائل بعد أن رأوا أن نجداً قد خضعت له. ثم عاد إلى الرياض، وعمرها، وحصنها بالأسوار، واتخذها قاعدة حكمه، عام 1240هـ، ومن يومئذٍ صارت الرياض هي العاصمة إلى اليوم (3) . وبولايته انتقل الحكم في آل سعود من سلالة عبد العزيز بن محمد، إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد، وبقي في هؤلاء إلى اليوم (4) . ويجدر بنا الإشارة إلى أن هذا هو مؤسس الإمارة السعودية في دورها الثاني عام (1235هـ) ، بعد أن سقطت، وقتل عبد الله بن سعود (5) ؛ لأنه منذ هذه السنة اعتبر الزعيم الساعي لاسترداد إمارة آل سعود، واستطاع بخلائقه الكبيرة، أن يجعل اسم آل سعود حياً في نفوس العرب. غير أن الأعداء كانوا قد أحاطوا به من كل جانب؛ فهو دائماً مهاجم أو مدافع (6) . وفي عهده عاد الإمام عبد الرحمن بن حسن (والد الشيخ عبد اللطيف) إلى الرياض، قادماً من مصر، حيث نقله إبراهيم باشا بعد سقوط الدرعية. وكان تركي قد استدعى جميع المنفيين بالرجوع إلى نجد، بعد تطهيرها من
قوات المصريين والأتراك، واستتاب الأمن فيها. مقتل الإمام تركي بن عبد الله (1249هـ) (1) :- وفي العام (1249هـ) قتل الإمام تركي بن عبد الله -رحمه الله-، قتله ابن أخته مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود (2) ، وقد خامرته فكرة اغتيال خاله الإمام تركي، والاستيلاء على إمارته. وكان الإمام فيصل بن تركي (3) ، وهو الساعد القوي والعضد الوحيد والمناصر الأول لأبيه تركي (4) ، فانتهز مشاري فرصة غياب الإمام فيصل -الذي كان قد خرج
غازياً ناحية البحرين في أطراف القطيف -فخطط لتنفيذ فكرته الخبيثة فاغتال الإمام تركي -رحمه الله- بواسطة خادم اسمه "إبراهيم بن حمزة" عقب خروج الإمام تركي من المسجد بعد صلاة الجمعة. وكان مشاري في المسجد فخرج شاهراً سيفه وتوعد الناس. ثم أسرع إلى قصر الحكم، فاستولى على جميع ما كان فيه من عتاد وأموال؛ وأمر نفسه سنة 1249هـ (1) . سعيُ الإمام فيصل للأخذ بالثأر من قاتل أبيه تركي (1249هـ) :- لم تدم إمارة مشاري -بعد قتله للإمام تركي- أكثر من أربعين (40) يوماً؛ إذ إن الإمام فيصل -بعد أن وصله نبأ مقتل أبيه- أسرع راجعاً إلى الرياض وأقبل بجموع كبيرة فقاتلوا مشارياً، فاستسلم ومن معه، وقتل هو وخمسة رجال كانوا قد اشتركوا معه في قتل تركي، -رحمه الله- (2) . خامساً: قيام الإمام فيصل بن تركي: (1250هـ-1282هـ) (3) : بعد مقتل تركي بن عبد الله، ومقتل قاتله مشاري بن عبد الرحمن، قام بالأمر الإمام فيصل -رحمه الله- واجتمعت كلمة أهل نجد عليه، حتى سنة (1252هـ) ، حينما أعادت العساكر المصرية كرتها على نجد، بقيادة إسماعيل أغا، وقد قدم مع خالد بن سعود (4) ، فنزل إسماعيل وخالد قصر الرياض، وبقيا إلى سنة (1254هـ) ،
ثم عززا بحملة يقودها ملا سليمان الكردي، بعثه خورشيد باشا (1) . ثم رجعت الحملة الأولى إلى مصر بعد هزيمتها على أيدي أهل الحوطة (2) والحلوة (3) والحريق (4) ، سنة (1253هـ) . ولما علم الإمام فيصل بهزيمة هؤلاء، أسرع إلى الرياض وحاصرها، سبعين (70) يوماً فجاء فهيد الصيفي رئيس سبيع (5) ، وقاس بن عضيب رئيس آل عاصم (6) ،
ففكا الحصار عن خالد، فرحل عنها فيصل (1) . الإمام فيصل بن تركي ينقل -أسيراً- إلى مصر مرة ثانية (1254هـ) (2) :- ثم قدم خورشيد باشا بحملة معه، واصطحب خالد بن سعود ومن معه؛ لحصار الإمام فيصل في الدلم (3) من الخرج (4) ، وبعد قتال مرير، ثم الصلح بينهما، فسلم الإمام فيصل نفسه إلى خورشيد، على شروط؛ هي: الصفح عن الوطنيين، وتأمين أرواحهم وأموالهم، فإن قبل الشرط سلم، وإلا فالميدان لا يزال رحيباً. فقبل القائد المصري شروط فيصل، فسلم نفسه إليه، في 23 من رمضان سنة 1254هـ. فأرسله إلى مصر مع ابنيه عبد الله ومحمد، وشقيقه وابن عمه جلوي. وظل هناك في مصر من عام 1254هـ، حتى عام 1259هـ؛ وبمغادرته الرياض قامت الثورات الداخلية،
وأصبحت الحرب شبه أهلية طمعاً في الحكم (1) . وبقي خالد أميراً على الرياض، ما عدا الحوطة والحريق، فإنهما لم يذعنا له. ولم تستقم له الأمور؛ لسوء معاملة العساكر المصرية معه، وقد قاومه أهل نجد حتى فرّ وخرج من الرياض، وأمّر حمد بن عياف، وهرب إلى الإحساء، ثم إلى القطيف، ثم إلى الكويت، ثم إلى مكة حيث مات في جدة سنة (1278هـ) (2) . وهنا قام الأمير عبد الله (3) بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان آل سعود بثورته، واستولى على الرياض عام (1257هـ) ، فاستقام له الأمر في نجد بعد فرار خصمه، غير أن صفات الاستبداد كانت تغلب عليه. وظل على الحكم إلى أن قدم الإمام فيصل بن تركي إلى الرياض فاراً من مصر (4) (5) . ولما وصل نجداً، التف حوله الأنصار، فزحف بهم إلى عنيزة -مقر ابن ثنيان- فهزمه، والتف حوله رجالها، الذين كانوا ينتظرون ساعة الخلاص من ربقة الذل. وتوفي ابن ثنيان مسجوناً. وبذلك عاد حكم البلاد إلى فيصل، واسترد سلطته، التي امتدت إلى الإحساء، والقطيف، والعارض، والقصيم، والجبيل، ووادي الدواسر،
وعسير، وأطراف الحجاز، كما أن البحرين، ومسقط، وسواحل عمان، كانت تدفع إليه ضرائب فرضها على أمرائها. وظل الإمام فيصل يحكم البلاد حتى وفاته -رحمه الله- في 21 من رجب سنة (1282هـ) ، فخلفه ابنه عبد الله بن فيصل (1) . ويشار هنا إلى أنه في عهده -وفي عام (1264هـ) - عاد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الرياض فاراً من مصر، حيث كان نقل مع والده بعد سقوط الدرعية. كما أن نشاط الشيخ -رحمه الله- السياسي، كان على أشده في هذه الفترة؛ وذلك لمحله من الإمام فيصل؛ حيث كان مرافقه في أغلب أوقاته ومستشاره. وفي ذلك قال حافظ وهبة: "وقد زار الرياض الرحالة (بلجريف) ، فوصف بلاط فيصل ... كما وصف سلطة الشيخ عبد اللطيف، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنها تأتي بعد فيصل مباشرة" (2) . بداية الدور الثالث من حكومة آل سعود: [1282-1293هـ] :- تقدمت الإشارة إلى أن هذا الدور بدأ من بداية الفتنة الأهلية بين أبناء فيصل بن تركي، رحمه الله. وهنا نورد نبذة يسيرة عما حدث في تلك الفترة: الفتنة الأهلية بين أبناء فيصل بن تركي بعد وفاته: 1282-1293هـ (3) بلغت الدولة السعودية في عهد الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- مبلغاً طيباً، لكنها لم تدم
طويلاً؛ فما كاد يودع الحياة، حتى أخذت في التقلص؛ بسبب الحروب بين أبنائه (1) . وقد كان له أربعة أبناء: عبد الله (2) ، وسعود (3) ، وعبد الرحمن (4) ، ومحمد (5) . وكان قد جعل عبد الله ولياً للعهد؛ لأنه أكبر أولاده، ولما امتاز به من الخلائق الكريمة (6) .
وبعد وفاته، استقل محمد بالمنطقة الشمالية، واستقل سعود بالخرج والأفلاج (1) ، وبقي عبد الله وعبد الرحمن في الرياض. وبانقسامهم ضعفت حكومتهم، وتمرد العربان، وخرجت كل قبيلة عن حدودها، تسطو وتنهب، بعد أن كانت في عهد الإمام فيصل لا تستطيع فعل شيء من ذلك (2) . فكان الصراع على الحكم محتدماً بين أبنائه، الأمر الذي أشعل نار الحرب، فصارت حروب أهلية بينهم، أشغلت كل من كانت له حمية دينية، وغيرة على دماء المسلمين، كان في مقدمة أولئك، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمة الله عليه. وكان الأمير عبد الله الفيصل، قد خلف أباه بعد وفاته، غير أن أخاه سعوداً خرج عليه، وغادر الرياض متجهاً شطر القبائل سنة (1283هـ) ، باحثاً عن الأنصار يحارب بهم أخاه عبد الله، فألفى من قبائل العجمان (3) وبني خالد (4) عوناً ونصراً، وكان فيصل قد قضى على نفوذهم في الإحساء، ونهضوا لمساعدته، ومقصدهم استرداد
سلطتهم المفقودة في الإحساء (1) وقد وقع بين الأخوين معارك عدة، تبادلا فيها الهزائم، كان أول لقاء بينهما في وقعة (الجودة) (2) سنة (1287هـ) ، حيث وقعت معركة حامية الوطيس، غلب فيها عبد الله، وكسرت شوكته، فذهب يستنجد بأمراء القبائل في عنيزة وحائل، فلم يجد لديهما آذان صاغية؛ خوفاً من سعود، ولقي قولاً حسناً لدى رئيس سبيع عساف بن اثنين، ولدى زعيم قبيلة مطير سلطان الدويش. ثم بعث عبد العزيز أبو بطين إلى والي بغداد مدحت باشا (3) ، يستعينه على أخيه (4) . فرأى مدحت أن الوقت قد حان لاسترداد الإحساء من آل سعود، فنهض
من توه، وبعث إلى ناصر السعدون باشا (1) -زعيم قبائل المنتفق (2) - كما بعث إلى عبد الله بن صباح أمير الكويت يستنصرهما، وجعل القيادة العامة بيد نافد باشا (3) . وكان سعود بن فيصل قد دخل الرياض سنة (1288هـ) ، بعد وقعة الجودة، وخرج منها عبد الله (4) . وهنا كان للشيخ عبد اللطيف موقف مشرف، تحدث عنه إبراهيم بن عبيد في تذكرة أولي النهى (5) فقال: (خاف الشيخ عبد اللطيف على البلد وأهلها أن يستبيحها سعود ومن معه من الأشرار وفجار القراء، فخرج إلى سعود قبل دخوله إليها؛ خشية أن يأخذه عنوة، فتسفك الدماء وتستباح النساء، فخاطبه فيما يصلح الحال بينه وبين أخيه الإمام. فاشترط سعود الشروط الثقال على أخيه فلم تتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع الفتنة ويجمع الكلمة، فرأى الشيخ -بثاقب رأيه- النزول إلى هذا المتغلب، والتوثق منه، ودفع صولته، وخرج إليه رؤساء البلد والمعروفون من رجال الرياض بأمر الشيخ، فبايعوا سعوداً، وأعطاهم على دمائهم وأموالهم، محسنهم ومسيئهم، عهد الله وميثاقه) . وبذلك دخل سعود الرياض حاكماً، للمرة الأولى، عام (1288هـ) ، بعد وقعة الجودة (6) . ثم إن القلوب بدأت تنصرف عنه، بسبب الفظائع التي ارتكبها أنصاره
وأصهاره العجمان، فاجتمع أهل الرياض تحت قيادة عمه عبد الله بن تركي، وطردوه من الرياض. فوجد أخوه عبد الله بن فيصل -المقيم في الإحساء حينذاك- الفرصة السانحة، فترك الإحساء ودخل الرياض بدون مقاومة. غير أن سعوداً لم يمهله، بل جمع أنصاره وتوجه إليه في الرياض، ونازل أخاه في مكان يسمى (الجزعة) وهزمه، واقتحم البلدة ونهب سكانها، ودخل الرياض للمرة الثانية عام (1290هـ) . فمضى عبد الله يجمع الرجال، والتقى الأخوان أيضاً في (البرة) ، لكن عبد الله انهزم أيضاً، فرجع إلى الإحساء (1) . واستقر سعود على الحكم في الرياض، غير أنه ضعف شأنه حتى قام عليه رجال عتيبة، تحت إمرة زعيمهم مسلط بن ربيعان، بأعمال النهب والسلب؛ فنهبوا الجانب الغربي من الرياض، وخرج إليهم سعود فانهزم، وقتل كثير من أنصاره، وجرح هو جرحاً بليغاً ألزمه الفراش، إلى أن مات من أثره سنة (1291هـ) (2) . وقد تحدث عبد الله البسام عن هذه الفتنة بين الأخوين فقال: ( ... بعد وفاة الإمام فيصل، واستيلاء الإمام عبد الله على الحكم، حدثت بين عبد الله وأخيه سعود الفيصل منازعة على الحكم، وطال النزاع بينهما، وتطور إلى تكوين جيشين من البادية والحاضرة، كل جيش تحت إمرة وتدبير واحد منهما، والتحم القتال بينهما، وتعددت المعارك، وصارت فتنة كبرى في نجد، وصار الطمع في الحكم وحب السلطة وإيقاد نار العداوة بين الطائفتين، مع الهوى والشيطان، كل ذلك ألهب نار الحرب وأشعلها، والشيخ عبد اللطيف، وحده، هو مطفيها، فغلب كثرة الشر، وضاع صوت الحق في صخب أبواق الباطل ... ) (3) .
وبموت سعود، صفا الجو بعض الصفاء لعبد الله، ورجع إلى الرياض من الإحساء، فوجد أهل الرياض قد بايعوا أخاه عبد الرحمن، غير أن أخاه هذا كان على جانب كبير من الحكمة، فنزل عن الحكم لأخيه الكبير (1) ، -وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل مساع حثيثة قام بها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن؛ قطعاً لأشطان الفتن والثورات، وحقناً لدماء المسلمين. وكان هذا العمل في التوفيق بين الأخوين، من أهم وآخر ما قام به الشيخ عبد اللطيف في آخر حياته؛ إذ أتته المنية بعد ذلك عام (1293هـ) . وما كاد عبد الله يستقر في الحكم، حتى قام عليه خصومه من أبناء أخيه سعود، واستطاعوا -بعد مناوشات- أن يقبضوا عليه، فألقوه في غياهب السجن، غير أن محمد بن رشيد -أمير حائل- أسرع إلى الرياض، وأخرجه من سجنه بقوة، وصحبه معه إلى حائل، وجعل عبد الرحمن والياً عليها من قبله، وذلك سنة (1306هـ) ثم استدعاه أيضاً وجعله مع أخيه، وولي مكانة سالم السبهان. ثم بعد سنوات أذن محمد بن رشيد لعبد الله بالرجوع إلى الرياض، بعد أن وثق منه أنه عاجز عن القيام بأي عمل عدائي؛ إذ كان مريضاً وقد دنا أجله كما أذن لأخيه عبد الرحمن أن يصحبه، فتوفي الأمير عبد الله بعد وصوله إلى الرياض بيوم واحد (2) . وهكذا كان سير الأحداث السياسة، في تلك الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله.
المبحث الثاني: الحالة الإجتماعية
المبحث الثاني الحالة الاجتماعية كانت الجزيرة العربية مقسمة إلى مناطق عدة وأمارات تضم القبائل العربية التي أصبحت مستقرة، ولم تكن الحالة الاجتماعية في إقليم نجد تختلف عما كان سائداً ذلك الوقت في شبه الجزيرة العربية؛ فكانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية، لكل قبيلة بدوية كبيرة أمير أو شيخ، يمتد نفوذه حسب كفاءته الشخصية، وهمته وقوته وهو عادة أوفر أفراد القبيلة ثراء (1) . وكانت أسرة آل سعود في نجد على رأس تلك المناطق، وكان سعود بن عبد العزيز، يمنح مشايخ البدو الكبار، الذين تتبعهم قبائل صغيرة، لقب أمير الأمراء. وكانت الإمارات الرئيسية هي: الإحساء، والعارض، والقصيم، والوشم، والسدير،، ووادي الدواسر، وجبل شمر، والحرمين، والخرج، والقطيف، وجهات عمان. فتلك كانت المناطق التابعة لحكم آل سعود في عهد سعود بن عبد العزيز (ت1229هـ) ، وكان ما بعده امتداداً لذلك، إلى أن حدث التغيرات السياسية، التي سببها الأطماع الخارجية، والنزاعات والنعرات الداخلية، كما تقدم ذكرها. وكان لسعود من القوة والنفوذ، بحيث يستطيع عزل من يريد من زعماء القبائل وأمراء المناطق، ولكنه بصفة عامة كان يثبت من اختاره العرب لأنفسهم (2) . وكان بين أفراد القبيلة البدو الرحل، والحضر المستقرون. أما البدو فإنهم يتنقلون بأغنامهم وإبلهم وراء المرعى حيثما وجد، ويجوبون المناطق؛ بحثاً لسبيل رزقهم وهذه،
الحياة كانت في كثير من الأوقات سبباً في تقاتل القبائل من أجل المرعى ومصادر المياه (1) . أما الحضر فكانوا هم سكان الواحات والقرى، فكانت لهم صفة الاستقرار، غير أن حياتهم كانت متأثرة بحياة البدو؛ لما بينهم من صلات المصاهرة والقربى والتجارة. أما طبائعهم، فكانت تختلف حسب المناطق التي يعيشون فيها وظروف الحياة التي يعيشونها (2) . أما منطقة نجد فكانت مقر أمراء آل سعود، وكانت أهم العشائر النجدية: آل مرة، وبنو خالد، والعجمان في الشرق، وقحطان في الجنوب والجنوب الغربي، وسبيع والسهول في الغرب، ومطير في الشمال الغربي، وشمر في الشمال، وعتيبة في الشمال الغربي، وحرب في الشمال الشرقي، وعَنَزة في الشمال الشرقي أيضاً (3) . وكان من صفات أهل نجد التجارة؛ فإن كثيراً منهم كانوا يسافرون إلى أطراف الروم وبقية جزيرة العرب، كما كان يأتيهم عن طريق القطيف والبحر شيء كثير (4) . وكان أهل عنيزة في القصيم، وأهل الرياض، أكثر السكان حضارة، وأقلهم سكاناً وادي الدواسر والسليّل. ولم يكن النور الكهربائي معروفاً، وكان السكان يستعملون مصابيح تضاء بالبترول، وهي واردة إليهم من الخليج أو الحجاز، وأواني الطبخ من النخاس غالباً، ويصنع البعض أنواع الفخار في نجد. وكانت خدمات الملابس كلها ترد من الخارج، إلا ما يصنع من الصوف وكذلك المصنوعات الجلدية ترد من الخارج إلا ما يلزم
لقراب المياه، والدلاء، والسرج، والنعال؛ فإنها كانت تصنع في نجد (1) (2) . أما الدرعية -العاصمة- على وجه الخصوص، فكانت ذات شأن كبير، ومد وفير، تغص بالأموال، وتزدهر بالأعمال، وتزهو بالمباني الفاخرة، وكان بها أسواق متعددة (3) . وبعد سقوطها في أيدي الغزاة الأتراك والمصريين، وفي عهد خالد باشا بالتحديد، انتشرت الفوضى، وقطعت الطريق، ونهب السفر، وكثرت الغارات؛ لكل من أنس من نفسه القوة، عدا على الضعيف ينهبه، وكل من عضه الجوع هب كالمجنون، يدفعه بالسلب، فلا يتورع في قتل نفس من أجل لقمة يسد بها السغب، وأصبح الناس أوابد ضارية، يفترس القوي منها الضعيف، لا قائد يقودها إلى الخير، ولا سلطان للفضيلة عليهم، ولا رادع من دين أو من خلق (4) . وقد وصف ابن بشر حال نجد الاجتماعية، في فترة ما بعد سقوط الدرعية إلى قيام تركي بن عبد الله، وذكر بأن نظام الجماعة انحل، وتطايرت شرر الفتن، في تلك الأوطان وتعذرت الأسفار بين البلدان، وعاثت فيها العساكر المصرية، فقتلوا صناديد الرجال، وصادروا أهلها فأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وقطعوا الحدائق، وهدموا القصور العاليات، وصار أهل نجد بينهم أذل من العبيد، وتفرقت علماؤهم وخيارهم ما
بين طريد وشريد، وظهر المنكر، وعدم المعروف، وصار الرجل في جوف بيته مخوفاً، وتتابعت هذه المحن في تلك الجزيرة نحو أربع سنين، والشر فيها في زيادة وظهور وتمكين، حتى أنعش الله -تعالى- أهل نجد بشبل من أشبال ملوكها؛ الأمير تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (1) . هذا ملخص الحالة الاجتماعية في عصر الشيخ عبد اللطيف.
الفصل الثاني: حياة المؤلف
الفصل الثاني: حياة المؤلف المبحث الأول: اسمه ونسبه ... المبحث الأول اسمه ونسبه (1) هو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (2) بن الشيخ
حسن (1) بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أبو عبد الله، الإمام العلامة، والقدوة الفهامة، حاوي علوم الفروع والأصول، الفقيه الحنبلي (2) .
المبحث الثاني: ولادته وأسرته
المبحث الثاني ولادته وأسرته أولاً: مولده:- ولد -رحمه الله- في بلدة الدرعية، سنة 1225هـ (1) . ثانياً: أمه:- أما والدته، فهي بنت عم أبيه، الشيخ عبد الله (2) ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فجاء كريم الأبوين عريق الأصلين (3) . ثالثاً: زواجه: أما عن زواجه، فقد أقام الشيخ -رحمه الله- في مصر (4) ، فنشأ وتزوج فيها، وطالت إقامته فيها حتى بلغت واحداً وثلاثين عاماً (5) . وقد تزوج -رحمه الله- بالثانية في الهفوف بالإحساء بعد عودته من مصر، عندما أرسله الإمام فيصل بن تركي إلى هناك لتقرير عقيدة السلف. فتزوج هناك من ابنة عبد الله بن أحمد الوهيبي، التي أنجبت منه ولده عبد الله بن عبد اللطيف (6) .
رابعاً: أولاده (1) :- وقد خلف -رحمة الله عليه- ثمانية أبناء علماء فضلاء، هم: 1- الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (2) . 2- الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف (3) .
3- الشيخ محمد بن عبد اللطيف (1) . 4- عبد العزيز بن عبد اللطيف (2) . 5- عمر بن عبد اللطيف (3) . 6- عبد الرحمن بن عبد اللطيف (4) . 7- صالح بن عبد اللطيف (5) .
8- أحمد بن عبد اللطيف (1) . وجميع هؤلاء عدا أحمد نشأوا في الرياض حيث مولدهم خلا عبد الله الذي كان مولده في الإحساء عاشوا وتعلموا فيها وماتوا فيها (2) . أما أحمد، فهو أكبر أولاده، ولد في مصر، ولما أراد الشيخ الخروج والعودة إلى نجد، عرض عليه الخروج معه، فامتنع، وهو مهندس بناء، ولما سافر عمه إسحاق ابن عبد الرحمن إلى القاهرة لطلب العلم، رأى ابن أخيه هذا، وبعد ذلك انقطعت أخباره (3) .
المبحث الثالث: صفاته الذاتية والفكرية
المبحث الثالث صفاته الذاتية والفكرية كان للشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- صفات ذاتية مميزة تميزه عن غيره من سابقيه وأقرانه من آل الشيخ -رحمهم الله-. أما صفاته الذاتية: فكان من أبرزها، أنه كان ضخم الجثة، قوي البنية، سليم الأعضاء والحواس، أبيضاً مشرباً بحمرة، كث اللحية، مستدير الوجه، جهوري الصوت، حاد البصر. كما اشتهر -رحمه الله- بجمال الخط، ووضوح العبارة، وفصاحة اللسان، وكانت اللهجة المصرية الحفيفة تغلب على لغته، نظراً لطول مكثه في مصر منذ سن الطفولة. وكان مهيب الطلعة، قوي الشخصية، جسوراً في قول الحق، صادق اللهجة، مخلصاً لدينه، غيوراً على حرمات الإسلام، متفانياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ناصحاً متقبلاً للنصائح، وكان ذاكراً لله –تعالى- وتلاوة آيات القرآن ديدنه، كما كان -رحمه الله- مهاباً محترماً عند ولاة الأمور ومن دونهم من الخاصة والعامة (1) . أما صفاته الفكرية:- فقد كان أكثر علماً من سابقيه، باستثناء والده الشيخ عبد الرحمن، وجده الكبير، محمد بن عبد الوهاب، -رحمة الله عليهم-، وقد كان يتصف بحدة الذكاء والفطنة وسرعة الحفظ (2) .
قال عنه الشيخ إبراهيم بن صالح في عقد الدرر (1) : " ... وكان -رحمه الله- في الحفظ آية باهرة، متوقد الذكاء كأن العلوم نصب عينيه، وكان كثير المطالعة، ملازماً للتدريس، مرغباً في العلم، معيناً عليه ... ". وقال عبد الرحمن بن القاسم القحطاني في الدرر السنية (2) : "لم يُر شخص له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة، التي يحصل بها الكمال لسواه؛ فإنه -رحمه الله-كان كاملاً في صورته ومعناه، من الحسن والإحسان، والحكم والسؤدد، والعلوم المتنوعة، والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة التي لم تكمل من غيره. وقد عُلم من كرم أخلاقه وحسن عشرته، وهيبته وجلالته، وفور حلمه، وكثرة علمه، وغزارة فطنته، وكمال مروءته، ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها، والمناصب لأربابها، ما قد عجز عنه كبار الأكياس ... ". كما وصفه المترجمون له بجميع ما يمكن الاتصاف به من أوصاف خيرة كقول إبراهيم بن عبيد وغيره عند ترجمته: "الشيخ الإمام النبيل، العلامة الجليل الألمعي، الماهر الهمام، والحبر السميدع (3) المقدام في العمل، البحر الزاخر، والعلم الظاهر، ذو الأخلاق الزكية والمناقب الجلية، شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام ... وكان على شيء عجيب من البصيرة في الدين، وسعة الحلم، وكمال الأدب ... " (4) . وقال الشيخ عبد الرحمن القحطاني: "الإمام العالم العلامة، العالم العامل، الحبر العلم الكامل، سيد أهل الإسلام في زمانه، وقطب فلك الأنام في أوانه، أوحد البلغاء،
بدر الفصحاء، ... سيف السنة المسلول، حاوي المعقول والمنقول، البليغ المصقع (1) ، واللوذعي البلتع (2) الفصيح، المجاهد، النصيح ... " (3) .
المبحث الرابع: نشأته العلمية ورحلاته
المبحث الرابع نشأته العلمية ورحلاته نشأ -رحمه الله- في بلدته الدرعية مسقط رأسه وعاصمة الدعوة السلفية؛ فقرأ فيها القرآن وحفظه، وتعلم دروسه الأولى، في الكتاتيب المنتشرة في تلك البلدة؛ وربي فيها تربية إسلامية كريمة، في بيت والده وأعمامه، إلى أن بلغ ثمان سنين (1) . وقد كانت الدرعية حينذاك تعج بحركة العلم والعلماء؛ كما وصفها القحطاني: "أنها كانت كعبة العلم، وموطن الدعوة، ومعهد علماء السلف، وعاصمة الجزيرة العربية" (2) . ووصفها الشيخ عبد الله البسام بقوله: " ... إن الدرعية الزاخرة بالعلم، والساطعة بالإيمان، والمشرقة بالدين، والآهلة بالعلماء، ... أصيبت بالنكبة ... " (3) . فهو -رحمه الله- بعد بلوغه سن التمييز، حصل له رحلة إجبارية، لم تكن في حسبانه، إذ إنه وهو في ذلك العمر المبكر –مع ما كانت تمتاز به بلدة الدرعية من نشاطات علمية واسعة- لم يكن قد حان له وقت ليخرج في طلب العلم. وهكذا توالت رحلاته كما نعرضها لها هنا كالآتي: أولاً رحلته إلى مصر، سنة (1233هـ) :- عندما بلغ الشيخ –رحمه الله- الثامنة من عمره، حلّت ببلدته الدرعية كارثة كبرى، ومصيبة عظمى، وهي النكبة العثمانية الهمجية العدائية، حيث دمرت بأيدي
السلطة الغازية، وأسقطت حكم البلاد فيها. وكان ذلك بقيادة المجرم الطاغية إبراهيم باشا (1) ابن محمد علي باشا، ومعه جيش كبير من المرتزقة والخونة وأعداء الدولة السلفية (2) فعند ذلك، نقل -رحمه الله- مع والده وأعمامه وحمولته (3) إلى مصر، وكان نقلهم إلى هناك بأمر وزير الخليفة العثماني على مصر حينذاك محمد علي باشا (4) . بذلك تمت رحلته المصرية التي لم تكن أساساً رحلة علمية، غير أنها تحولت بفضل الله –تعالى- إلى رحلة علمية، أفاد منها الشيخ -رحمه الله- وكانت منطلقاً في مسيرته العلمية. قال الشيخ عبد الله البسام: " ... إلا أنه وإن انتقل من مربع من مرابع العلم، ومعهد من معاهده، فقد دخل في مدينة العلم، واستقر في دار من دوره، فهذا الأزهر الشريف تعقد في جنباته وأورقته حلقات التفسير، والحديث، والأصول، وعلوم التفسير، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله، وعلوم العربية؛ من النحو، والصرف، والبيان، وغير ذلك، وها هم كبار العلماء متوافرون ليلاً ونهاراً لإمداد الطلاب بمزيد من العلم والعرفان. وها هي المكتبات العامرة بنفائس الكتب وذخائر المراجع، فصار العلم سلوته في غربته، والكتب جليسه في وحدته، والعماء أنسه في وحشته، فصار يتردد بين بيته والأزهر الشريف (5) .
وقال أيضاً: "وطالب إقامته فيها حتى بلغت واحداً وثلاثين عاماً، قضاها كلها في العلم، تعلماً، وبحثاً، ومراجعة ومذاكرة، حتى صار من حملة العلم الكبار، وأوعيته الواسعة" (1) . وبهذا يكون الشيخ -رحمه الله- قد عوض على مصيبة التهجير، وما لقي من جرائها من آلام وأوجاع، عوضها بما حصل عليه من علم وفضل، فكانت رحلته رمية من غير رام (2) . ثانياً: عودته إلى نجد سنة 1264هـ: لما طهرت نجد من الجيش العثماني المحتل بفضل الله تعالى، ثم بفضل الله تعالى، ثم بفضل الإمام تركي من بن عبد الله، الذي هزمهم وطردهم وسكنت بعد فتن مشاري وعبد الله ابن ثنيان، ولانت المحافظة عليهم في مصر من المراقبين، خرج من القاهرة متوجهاص إلى نجد، عن طريق مكة المكرمة. وقد حمل معه عند عودته كتباً كثيرة (3) . وكان الإمام تركي بن عبد الله ابن (مؤسس الدولة السعودية الأولى) الإمام محمد ابن سعود -رحمهم الله- قد دعاهم إلى العودة من مصر إلى موطنهم الرياض. فسارع والده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بالعودة إلى نجد عام 1241هـ. أما ابنه الشيخ عبد اللطيف، فقد تأخر مدة من الزمن بمصر، حيث كان مشغولاً بطلب العلم. فكان قدومه إلى نجد عام
1264هـ في عهد الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- الذي تولى السلطة بعد استشهاد والده الإمام تركي بن عبد الله، -رحمه الله- (1) . ثالثاً: رحلته إلى الإحساء سنة 1264هـ:- بعد عودته -رحمه الله- إلى الرياض، وجلس لطلاب العلم بها، عَرَف الإمام فيصل ووالده عبد الرحمن (2) -رحمهما الله- غزارة علمه، وسعة اطلاعه، وصفاء عقيدته، وقوة عارضته، وقدرته على المناظرة. فبعثه الإمام فيصل -رحمه الله- إلى الإحساء العقيدة السلفية، وبث دعوة التوحيد، ومناظرة علمائها في أصول الدين والعقائد؛ إذ الغالب عليهم حينذاك مذهب الأشاعرة، والرفض، وبدع الجنائز والقبور (3) . فقدم الشيخ إلى الإحساء سنة 1264هـ، وأقام بها سنتين، يوضح طريقة السلف، ويناظر علماءها، ويقابل الحجة بأقوى منها، فظهر عليهم بالأدلة، وقهرهم بالحجة، فأذعنوا له وأسلموا، فزال ما في نفوسهم من رواسب الشبه وباطل التأويل، وقرر لهم طريقة أهل السنة والجماعة، وما هم عليه في باب الأسماء والصفات (4) . وبعده بسنتين عاد إلى الرياض، حيث استقر. فكانت رحلته إلى الإحساء آخر رحلة خاصة يقوم بها؛ إذا لم يكن خروجه بعد ذلك إلا مرافقاً للإمام فيصل بن تركي، رحمه الله.
المبحث الخامس: شيوخه
المبحث الخامس شيوخه (1) أخذ الشيخ -رحمه الله- عن عدة من العلماء الأعلام، الأفاضل الكرام، منهم مشائخ بلده النجديين، وغيرهم من المصريين، حيث رحل في صغره، وهم: أولاً: مشايخ بلده (النجديون) :- كان ممن أخذ عنهم من المشايخ النجديين: الشيخ الأول: والده، الشيخ عبد الرحمن (2) بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب. الشيخ الثاني: عمه، الشيخ عبد الله محمد بن عبد الوهاب:- هو الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بدر الأعلام، ومفتي الأنام، التقي النقي الورع، الفارس في العلوم، السيف الصارم المسلول على المبتدعين، عالم نجد ومفتيه بعد والده. ولد في الدرعية، وأخذ العلم عن أبيه، ونقل إلى مصر عام 1233هـ، مع آل بيت الشيخ عند فتنة إبراهيم باشا، حين استولى على الدرعية وخربها، تفقه في المذاهب، وأدرك في الأصول والفنون أعلاها، له اليد الطولى في كل فن من فنون العلم، وله منها: الرد على الزيدية، أسماه: "جواب أهل السنة في كلام الشيعة الزيدية" (3) ، و "مختصر السيرة" مجلدان، "الفصول النافعة في المكفرات الواقعة"، "منسك الحج" وله رسائل وفتاوى.................................................................
في الدرر السنية. توفي بمصر سنة 1242هـ (1) ، رحمه الله تعالى. الشيخ الثالث: عمه، الشيخ إبراهيم ابن الشي محمد بن عبد الوهاب:- هو الشيخ العالم الثقة العابد الورع، الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان متواضعاً، حسن الأخلاق، أدرك حظاً من العلوم وأفاد، له مشاركة كثيرة في رسائل وأجوبة، كان حياً بمصر سنة 1251هـ، وفيها توفي -رحمه الله تعالى- (2) . الشيخ الرابع: عمه، الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب:- هو الإمام العلامة الفقيه، علي بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية ونشأ بها، وهو أكبر أبناء الشيخ محمد سناً، وكان الشيخ يكنى به فيقال: (أبو علي) ، أخذ عن أبيه، وكان عالماً جليلاً ورعاً كثير الخوف من الله زاهداً، كان ممن نقل إلى مصر من آل بيت الشيخ، بعد خراب الدرعية على يد إبراهيم باشا، عام 1233هـ، وأقام في القاهرة حتى توفي فيها عام 1245هـ (3) . الشيخ الخامس: خاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:- ولد في مدينة الدرعية عام 1219هـ، ونشأ بها، وبها قرأ مبادئ العلوم. سقطت الدرعية وعمره (14) عاماً، فنقل مع والده إلى مصر، وفي القاهرة شرع في طلب العلم في الجامع الأزهر، وفي حلقات علماء الأزهر الكبار، حتى بلغ مبلغاً كبيراً من العلم. وكان يقرأ في بيته وعلى والده وابن عمه الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فأخذ عنهما حسن العقيدة وصفاء التوحيد، وتوغل في علوم التفسير والحديث وأصولهما، والفقه، وعلم اللغة في الأزهر، ثم صار أحد المدرسين في الجامع الأزهر،
وفيه أحيا مذهب الحنابلة، وانتفع بعلمه خلق كثير، في مقدمتهم ابن أخته الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. توفي المترجم له في القاهرة سنة 1274هـ (1) . الشيخ السادس: الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد الحنبلي:- هو الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد بن عفالق العفالقي القحطاني نسباً، الإحسائي ثم المدني ثم القاهري، الشهير بالحنبلي، ولد في الإحساء عام 1155هـ، ورباه الشيخ محمد بن فيروز، تربية دينية وعلمية، ولازم دروسه ملازمة تامة، فقرأ عليه أنواع العلوم، ففاق أقرانه حتى صار له تلاميذ بإشارة من شيخه. سافر إلى الشام، ثم إلى المدينة المنورة، وسكن بها، عينه الإمام سعود بن عبد العزيز قاضياً على المدينة، ولما اقتربت جيوش إبراهيم باشا من المدينة المنورة، هرب المترجم له إلى الدرعية عاصمة البلاد السعودية آنذاك فصار مع المحاصرين فيها، حينما وصلت جيوش الباشا إلى أسوارها، واستولى عليها كان الشيخ ممن عذب من علمائها وأعيانها. قال ابن بشر: "أمر عليه الباشا فعزر بالضرب والعذاب، وقلعوا جميع أسنانه. وطلبه محمد علي باشا إلى مصر؛ لما اشتهر به من رجحان العقل وسعة العلم. فلما وصل أكرمه ورتب له رواتب جزيلة، وجمع بينه وبين علماء مصر، ودرس المذهب الحنبلي في قلعة محمد علي". أما تلاميذه فكثيرون؛ إذ درس في الإحساء والمدينة المنورة، والدرعية، والقاهرة، من أبرزهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، ومحمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وغيرهم. كان من المعجبين بإمامه أحمد بن حنبل وبمذهبه، وفيه يقول: أنا حنبلي ما حيت فإن أمت ... فوصيتي للناس أن يتحنبلوا توفي -رحمه الله- بالقاهرة بعد أن جاوز الثمانين، في عام 1257هـ (2) .
ثانياً: من أخذ عنهم من علماء مصر: الشيخ السابع: الشيخ محمد بن محمود بن محمد الجزائري:- هو محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفي، الشهير بابن العنابي، الشيخ الإمام العالم العلامة، فقيه مقرئ مجود للقرآن. تولى إفتاء الإسكندرية في عهد محمد علي، خديوي مصر، من آثاره: "التوفيق والتمهيد في شرح الفريد في التجويد"، وكتاب "السعي المحمود في ترتيب العساكر والجنود" وغيرهما. (ت 1265هـ) ، -رحمه الله تعالى - (1) . الشيخ الثامن: الشيخ إبراهيم الباجوري:- هو الشيخ إبراهيم بن محمد بن أحمد الباجوري، الفرضي الشافعي، شيخ الجامع الأزهر آنذاك، ولد في الباجور سنة (1198هـ) ، وتعلم في الأزهر. من تصانيفه: ":تحفة البشر على مولد ابن حجر"، و "التحفة الخيرية على الفوائد الشنشورية في الفرائض"، وله حاشية على الشمائل للترمذي، وغيرها. (ت 1277هـ) ، -رحمة الله عليه- (2) . الشيخ التاسع: الشيخ مصطفى الأزهري (3) . الشيخ العاشر: الشيخ أحمد الصعيدي (4) .
المبحث الساس: تلاميذه
المبحث الساس: تلاميذه ... المبحث السادس تلاميذه (1) أما تلاميذه -رحمه الله- فنظراً لكونه إمام عصره وشيخ زمانه، فقد قصده العديد من طلبة العلم، من أدنى البلاد وأقصاها، وأخذوا عنه العلم، فتعلم منه فحول من العلماء، وتخرج عليه جهابذة من الأئمة، يعذر حصرهم في هذا المبحث، ويكفي هنا أن نشير إلى بعض النابهين منهم: الأول: ابنه العلامة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (2) . الثاني: ابنه الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف (3) . الثالث: ابنه الشيخ محمد بن عبد اللطيف (4) . الرابع: ابنه الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف (5) . الخامس: أخوه الشيخ إسحاق: هو إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، -رحمهم الله-، ولد في مدينة الرياض عام 1276هـ ونشأ بها. قرأ على أخيه عبد اللطيف، وعلى الشيخ حمد بن عتيق (6) ، وابن أخيه عبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد
ابن محمود، وغيرهم. ولما هاجت الفتن، واستولى آل الرشيد على الرياض، وارتحل آل السعود إلى الكويت، لم تطب له الإقامة في نجد، فرحل إلى الهند عام 1309هـ، وأكمل دراسته هناك، وأخذ هناك عن الشيخ نذر حسين، وحسين بن محسن الأنصاري (1) ، فكان عالماً في الأصول والفروع، ثم عاد إلى الرياض في حكم آل الرشيد، فجلس للتدريس وتصدى للفتوى، له رسائل متفرقة في الدرر السنية في الأجوبة النجدية. (ت1319هـ) (2) ، -رحمه الله-. السادس: الشيخ حسن بن حسين: وهو حسن بن حسين بن علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض عام 1266هـ، ونشأ بها وحفظ القرآن، وأخذ عن علماء الرياض، ومنهم: عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحمد بن عتيق وغيرهم، ولاه الأمير محمد بن عبد الله بن رشيد (3) قضاء الأفلاج، ثم نقله إلى قضاء السدير ثم إلى قضاء الرياض، وكانت له حلقات دروس علمية، توفي في الرياض سنة 1341هـ، -رحمه الله- (4) . السابع: الشيخ سليمان بن سحمان (5) .
الثامن: الشيخ محمد بن محمود: هو الشيخ محمد بن محمد بن عثمان الضالع نسباً، القصيمي أصلاً، البغدادي مولداً ومنشأً، الحلبي مقاماً ومماتاً. ولد عام 1259هـ في بغداد، واستوطن حلب سنة 1280هـ، وحج سنة 1292هـ، أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وكان ينتصر لمذهب السلف الصالح، متعصباً لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن الدعاة إليها، له رسائل وقصيدة دافع فيها عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، توفي سنة 1337هـ، -رحمه الله تعالى- (1) . التاسع: الشيخ حمد بن فارس: هو الشيخ حمد بن فارس بن محمد بن فارس بن عبد العزيز بن محمد. ولد عام 1263هـ كان والده من أهل العلم، فتعلم عل يديه الفرائض والحساب ومبادئ العلوم، ثم على الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب الهاجري القحطاني، ثم سافر إلى الرياض، فقرأ على الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وعن غيره حتى صار أنحى أهل زمانه في نجد، ومرجع العلماء فيه. عينه الإمام عبد الله الفيصل على بيت المال، وكان حينذاك كوزارة المالية في العهد الحاضر، كما عينه مديراً لأوقاف آل سعود، ينفذها في أعمال البر. توفي في الرياض سنة (1345هـ) ، رحمه الله (2) . العاشر: الشيخ صعب بن عبد الله: هو الشيخ صعب بن عبد الله بن صعب بن محمد التويجري، من آل جبارة، ولد سنة (1255هـ) في بلدة بريدة، ونشأ فيها، ثم قرأ على علمائها، ثم سافر إلى الرياض، فقرأ على الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، حتى أدرك وصار من
العلماء الأفاضل، عرض عليه قضاء بريدة في عدة مناسبات فرفض ذلك، وكان سمح النفس دمث الأخلاق، فصار أصحابه يسمونه "سهلاً". توفي في بلدة بريدة سنة (1339هـ) (1) . الحادي عشر: الشيخ عبد الرحمن بن محمد المانع: هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مانع بن إبراهيم الوهيبي، التميمي نسباً، الشقراوي ثم الإحسائي بلداً، ولد في بلدة شقراء عاصمة بلدان الوشم ونشأ فيها. من مشايخه: والده الشيخ محمد، وجده لأمه الشيخ عبد الله أبو بطين، والعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن وغيرهم، ولاه الإمام فيصل قضاء القطيف (2) ، جمع كتباً كثيرة قيمة بخط يده المتقن المضبوط. له قصائد كثيرة، ورسالة في طلاق الثلاثة. توفي في الإحساء سنة (1287هـ) (3) . الثاني عشر: الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد: هو الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد بن محمد بن سليم، استقر أجدادهم في مدينة الدرعية وقت قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتجديد الدعوة السلفية. ولد عام (1240هـ) ، ونشأ وتعلم في الدرعية، ثم قرأ على علماء القصيم، ثم رحل إلى الرياض وقرأ على أشهر علمائها الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم ذهب إلى شقراء بعد أن عاد إليها شيخه
عبد الله أبو بطين من عنيزة، فاستأنف عليه الدراسة، حتى أدرك إدراكاً تاماً في العلوم الشرعية والعربية، وتصدى للتدريس والإفادة، تولى القضاء في بريدة حتى عهد الملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، توفي في مدينة بريدة عام 1323هـ، رحمه الله (1) . الثالث عشر: الشيخ محمد بن عمر بن سليم: هو الشيخ محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن صالح بن حمد بن محمد بن سليم، ولد عام (1245هـ) في بريدة عاصمة القصيم حيث انتقل أبوه عمر بعد خراب الدرعية (موطنه) على أيدي إبراهيم باشا ونشأ فيها وأخذ مبادئ القراءة والكتابة، ثم شرع في القراءة على علماء القصيم، ثم رحل إلى الرياض، وقرأ على أشهر علمائها حينذاك، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف ابن عبد الرحمن، ثم إلى شقراء حيث الشيخ أبو بطين، حتى أدرك في علم التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصولها. أذن له الشيخ عبد الرحمن وعبد اللطيف في القضاء والتدريس. توفي سنة (1308هـ) ، رحمه الله (2) . الرابع عشر: الشيخ علي بن عيسى: هو الشيخ علي بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى. ولد في بلدة شقراء عاصمة الوشم عام (1249هـ) ، أخذ عن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ونجله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. عينه الإمام عبد الله الفيصل قاضياً في شقراء وسائر مقاطعة الوشم. توفي -رحمه الله- عام (1331هـ) (3) . الخامس عشر: الشيخ أحمد بن عيسى: هو الشيخ أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن
عيسى ابن علي بن عطية. ولد في شقراء سنة (1253هـ) ، وفيها تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم حفظ القرآن الكريم، وقرأ على والده التوحيد والفقه والحديث، وعلى الشيخ عبد الله أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن ونجله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وأدرك إدراكاً تاماً، وفاق أقرانه، وكان نشيطاً في الدعوة حتى اتصل بأمير مكة الشريف عون الرفي (1) ، وكلمه بخصوص هدم القباب والمباني التي على القبور والمزارات، ففعل الشريف ذلك. له قصيدة ينهى فيها أبناء فيصل عن التفرق والاختلاف، وله شرح على نونية ابن القيم، و "تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدارسي"، والرد على دحلان (2) في كتابه "خلاصة الكلام"، و "الرد على ابن جرجيس، سماه: "الرد على شبهات المستغيثين بغير الله"، و "تهديم المباني في الرد على النبهاني" وغيرها. توفي رحمه الله سنة (1229هـ) (3) . السادس عشر: الشيخ عثمان بن عيسى: هو عثمان بن علي بن عيسى الثوري الربابي السبيعي، ولد في شقراء ونشأ فيها، وقرأ على علمائها، الشيخ عبد العزيز الحصين والعلامة عبد الله أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عينه الإمام فيصل قاضياً في
بلدة سدير. توفي سنة (1285هـ) ، رحمه الله (1) . السابع عشر: الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف: هو الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن سيف، أصله من بلدة ثادق (2) عاصمة بلدان المحمل (3) ، قرأ على والده الشيخ إبراهيم الحديث والتفسير، ثم على الشيخ عبد الرحمن بن حسن النحو والتجويد ومبادئ العلوم الشرعية، وعلى الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم سافر إلى مصر في حدود سنة (1254هـ) ، وحصل جملة من فنون العلم في المعاني والبيان والحساب عينه الإمام فيصل قاضياً في مدينة حائل (4) وما يتبعها من القرى والبوادي، وفيها توفي عام (1265هـ) ، رحمه الله (5) . الثامن عشر: الشيخ صالح بن قرناس: هو الشيخ صالح بن قرناس بن عبد الرحمن بن قرناس بن حمد بن علي بن
محمد، ولد في بلدة الرس عام (1253هـ) ، ونشأ وشب في بيت علم، قرأ على أخيه محمد بن قرناس، ثم على بعض علماء الرس، ثم سافر إلى الرياض، وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن وابنه الشيخ عبد اللطيف، وغيرهما. تولى قضاء الرس بعد موت أخيه محمد، وكذلك عنيزة وبريدة، من عام (1275هـ) حتى عام (1330هـ) ، وكانت مدة قضائه (55) عاماً. توفي في الرس سنة: (1336هـ) ، رحمه الله (1) . التاسع عشر: الشيخ صالح بن محمد الشثري:- هو الشيخ صالح بن محمد الشثري، من علماء الحوطة، له كتاب: "تأييد الملك المنان في نقض ضلالات دحلان" (2) . أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن وكان بينهما مراسلات (3) (4) . العشرون: الشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار:- هو الشيخ عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار بن أحمد بن شبانة بن محمد. ولد في المجمعة (5) ، قاعدة بلدان سدير، في بيت حافل بالعلم والعلماء فقرأ على أبيه وعمه الشيخ حمد بن عبد الجبار وغيرهما. ثم رحل في طلب العلم إلى الرياض، فقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، حتى أدرك إدراكاً تاماً. عينه الإمام فيصل بن تركي قاضياً في مدينة حائل وتوابعها، ثم بعد وفاة والده قاضي سدير، نقله الإمام إلى قضاء سدير مكان والده، وكان مقر عمله في
المجمعة، حتى توفي -رحمه الله- عام (1274هـ) ، في ولاية الإمام فيصل بن تركي (1) . الحادي والعشرون: الشيخ عبد العزيز الصرامي:- هو الشيخ عبد العزيز بن صالح الصرامي، أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن حسن، تولى قضاء الخرج عام 1317هـ، بعد وفاة شيخه عبد الله بن حسين المخضوب (2) . الثاني والعشرون: الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي:- هو الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض ونشأ فيها، وشرع في القراءة على علمائها، ومن أشهر مشايخه: العلامة عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. تولى القضاء في مقاطعة سدير في عهد الأمير محمد بن رشيد، ثم عين قاضياً في مدينة الرياض. توفي سنة (1319هـ) ، رحمه الله (3) . الثالث والعشرون: الشيخ عبد الله الوهيبي:- هو الشيخ عبد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن إبراهيم بن سليمان الوهيبي، من المشارفة، ثم من الوهبة. كان والده صهر الشيخ عبد اللطيف، حيث تزوج من ابنته التي أنجبت منه ابنه العلامة عبد الله. خلف والده على قضاء الإحساء (4) . الرابع والعشرون: الشيخ عبد الله بن محمد بن عثمان:- هو الشيخ عبد الله بن محمد بن عثمان بن عبد الله بن ناصر بن دخيل، من
آل رحمة الناصري التميمي، فهو من النواصر الذين هم من الحبطات. انتقلت أسرة المترجم له من الفرعة (1) بلدتهم الأصلية إلى المجمعة عاصمة السدير، فولد فيها عام 1261هـ، ونشأ فيها، وأخذ مبادئ القراءة والكتابة، ثم شرع في طلب العلم، فتلقاه عن الشيخ الفرضي عبد الله بن راشد، وأدرك أيام الشيخ عبد الرحمن بن حسن فأخذ عنه وعن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم رحل إلى القصيم فأخذ عن علمائها توفي -رحمه الله- في المذنب أحد بلدان القصيم الشرقية عام (1324هـ) (2) . الخامس والعشرون: الشيخ حمد بن علي بن عتيق:- هو الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق، العلامة الثقة في العقيدة، أخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ علي بن حسين وغيرهم، وبرع في العلوم، وتولى مناصب القضاء في الخرج ثم في الحوطة ثم في الأفلاج. توفي -رحمه الله- سنة (1301هـ) (3) . السادس والعشرون: الشيخ عبد الله بن محمد بن مفدا:- هو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مفدا، وأصل عشيرة آل مفدا أشيقر، إحدى بلدان الوشم، نزح منها والده إلى بريدة في القصيم، فولد المترجم له هناك عام (1271هـ) ، فنشأ فيها وأخذ عن علمائها، ثم سافر إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وعن ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، حتى أدرك لا سيما في التوحيد. وكان زاهداً ورعاً صالحاً. ألف رسالة مختصرة مفيدة عن المداينات المحرمة. توفي في بريدة
عام (1337هـ) ، رحمه الله (1) . السابع والعشرون: الشيخ حمد بن عبد العزيز:- هو الشيخ حمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز العوسجي البدراني الدوسري، ولد في بلدة ثادق عام 1245هـ، رحل إلى الرياض فقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، حتى صار عالماً كبيراً. توفي -رحمه الله- سنة (1330هـ) (2) . الثامن والعشرون: الشيخ عبد العزيز بن حسن:- هو الشيخ عبد العزيز بن حسن بن عبد الله بن محمد، من آل حسن الفضلي، من قبيلة الفضول، الملقب، بـ (حصام) أخذ عن أبيه، ثم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وله معه مراسلات عديدة، ولاه الإمام فيصل بن تركي القضاء في حريملاء والمحمل. توفي سنة (1299هـ) ، رحمه الله (3) . التاسع والعشرون: إبراهيم بن عيسى:- هو إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى بن علي بن عطية، ولد عام (1200هـ) في بلدة شقراء عاصمة الوشم ونشأ فيها وتعلم القراءة والكتابة، وأخذ عن مشائخها، ومنهم الشيخ عبد العزيز الحصين، وعبد الله أبو بطين، ثم رحل إلى الرياض وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وأخذ عنه جماعة من الفضلاء. ولاه الإمام فيصل القضاء على شقراء وعلى جميع بلدان الوشم. توفي عام (1281هـ) ، رحمه الله (4) .
الثلاثون: الشيخ عبد الرحمن بن عدوان:- هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن عدوان اليربوعي، أصله من آله عدوان من بلدة أثيثة، ثم انتقلوا إلى حريملاء، وهناك ولد المترجم له، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة وأخذ عن الشيخ محمد بن مقرن الودغاني الدوسري، لما نزل على بلدتهم قاضياً، أخذ عنه التوحيد والتفسير والحديث والفقه والفرائض، ثم رحل إلى الرياض فأخذ عن علامتها الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعن ابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. عينه. الإمام فيصل -بمشورة الشيخ عبد الرحمن- قاضياً على الرياض، ثم جاء ولاية عبد الله الفيصل، فأبقاه على عمله حتى توفي في الرياض عام (1285هـ) ، رحمه الله (1) . الحادي والثلاثون: الشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي:- هو الشيخ عبد العزيز بن صالح بن موسى بن صالح بن مرشد المرشدي، ولد في الرياض، وأخذ عن أشهر مشايخها، الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وغيرهما حتى أدرك. كان عالماً متبحراً، قوي الذاكرة حاد الذهن، ولاه الإمام فيصل قضاء مقاطعة سدير عام (1273هـ) ، ثم نقله إلى قضاء الرياض، وولاه محمد بن رشيد قضاء مدينة حائل، وفيها توفي سنة (1324هـ) ، رحمه الله (2) . الثاني والثلاثون: الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب:- هو الشيخ عبد الله بن حسين بن أحمد المخضوب، من بني هاجر، وهي قبيلة قحطانية كبيرة، ولد حوالي (1230هـ) ، ونشأ محباً للعلم، فقرأ على علماء نجد، منهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد
الرحمن بن عدوان، حتى أدرك وصار عالماً أديباً، له رسائل متبادلة بينه وبين الشيخ حمد بن عتيق، حول العقيدة، وله ديوان في خطب الجمع والأعياد، ورسائل كثيرة سماها "البرهان في تحريم الدخان" ونظم الأسماء الحسنى، ونظم الأجرومية. توفي في بلدة الدلم سنة (1317هـ) ، رحمه الله (1) . الثالث والثلاثون: عبد الرحمن الوهيبي:- وهو قاضي الإمام فيصل على الإحساء، بعد وفاة الشيخ عبد الله الوهيبي (2) . الرابع والثلاثون: زيد بن محمد من آل سليمان، ولد في الحريق، ونشأ بها، ودرس على الشيخ حمد بن عتيق قاضي الأفلاج، ثم سافر إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف وغيرهما، له مراسلات مع علماء نجد، أشهرها تلك الرسائل التي كتبها إليه الشيخ عبد اللطيف، بخصوص شقاق أبناء الإمام فيصل بن تركي (ت1307هـ) ، رحمهم الله (3) . وهناك تلاميذ آخرون، لم أجد لهم ترجمة، وأكتفي هنا بمجرد سرد أسمائهم كالآتي: الخامس والثلاثون أحمد الرجباني. السادس والثلاثون أحمد بن عبيد. السابع والثلاثون إبراهيم بن راشد. الثامن والثلاثون إبراهيم بن عبد الملك بن حسين آل الشيخ. التاسع والثلاثون إبراهيم بن مرشد.
الأربعون إسماعيل بن عبد الرحمن. الحادي والأربعون حسين بن تميم. الثاني والأربعون حسين بن علي. الثالث والأربعون حمد بن سلمان. الرابع والأربعون سليمان بن حسين. الخامس والأربعون صالح بن عثمان بن عقيل. السادس والأربعون عبد الرحمن بن بشر. السابع والأربعون عبد الرحمن بن نافع. الثامن والأربعون عبد الرزاق. التاسع والأربعون ناصر بن حسين. الخمسون عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين. الحادي والخمسون عبد العزيز بن شلوان. الثاني والخمسون عبد الله بن علي بن جريس. الثالث والخمسون عبد الله بن علي بن حسين. الرابع والخمسون عبد الله بن محمد الخرجي. الخامس والخمسون عبد الله بن معيذر. السادس والخمسون عبد الله بن نصير. السابع والخمسون عثمان بن علي بن عيس السبيعي. الثامن والخمسون عثمان بن مرشد. التاسع والخمسون علي بن سليم.
الستون علي بن نفيسة. الحادي والستون عمر بن يوسف. الثاني والستون محمد بن حسن بن جريبة. الثالث والستون محمد بن خميس. الرابع والستون منيف بن نشاط. وخلائق من أهل نجد والإحساء وغيرهما.
المبحث السابع: ثقافته وإنتاجه العلمي
المبحث السابع ثقافته وإنتاجه العلمي خلف الشيخ -رحمه الله- نتاجاً علمياً كبيراً، ساعده على ذلك اجتهاده الكبير وشدة حرصه في مجال طلب العلم وتحصيله، أضف إلى ذلك ذكاءه المتوهج، وسرعة حفظه (1) التي منحته ثقافة واسعة، في شتى الفنون العلمية، خاصة الدينية منها. وقد سبق أن علمنا مولده، وحسن تربيته، ونشأته في بيت علم، يحيط به جهابذة من العلماء العاملين، من أمثال والده وأعمامه وغيرهم. ولا شك أن نشأة كهذه في شخصية مثل شخصية هذا الشيخ، تُوجد لدى صاحبها أرضية خصبة لإعداد نفسه وفق البيئة التي تربى فيها. مصنفاته (2) : تتناول أغلب مصنفات الشيخ -رحمه الله- الرد على المبطلين، ودحض شبه المنحرفين، وفتن أهل الخرافات والملحدين، فكانت منهلاً عذباً يرده الموحدون، ويأخذ بها أهل المعرفة المتقون. فمصنفاته -رحمه الله- عديدة مفيدة، وهي: أولاً: الكتب المخطوطة: (1) البراهين الإسلامية في الرد على الشبهات الفارسية: مخطوط يوجد في المكتبة السعودية بالرياض، تحت رقم (359/86) .
(2) عيون الرسائل والأجوبة على المسائل: وهو عبارة عن مجموعة رسائل وأجوبة مفيدة، جمعها تلميذه الشيخ سليمان بن سحمان، في كتاب أسماه بهذا الاسم. وهو ما أنا بصدد تحقيقه. وقد خصص جامع كتاب مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث منه، لهذا الكتاب، وهو ليس جامعاً لجميع رسائل الشيخ -رحمه الله- بل له رسائل أخرى عديدة، في بيان عقيدة السلف الصالح، وغير ذلك، موزعة في أجزاء مجموعة الرسائل والمسائل النجدية الأخرى، وفي الهدية السنية، كما يوجد كثير منها في الدرر السنية (1) . (3) الإتحاف في الرد على الصحاف (2) : وهو كتاب رد به على عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف (مخطوط) في مكتبة الرياض السعودية، تحت رقم (359/86) ، ويقع في تسع عشرة صفحة،. وقد طبع هذا الكتاب ضمن مجموع الرسائل والمسائل النجدية، في المجلد الثالث المحتوي على رسائل الشيخ عبد اللطيف، (3/430) قام بنسخها الشيخ سليمان بن سحمان عام 1338هـ هو أيضاً مطبوع ضمن الدرر السنية، لابن قاسم (9/404-417) . وقد حقق الكتاب عام 1416هـ، قام بذلك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد. وطبع في مطبعة دار العاصمة بالرياض. ويقع الكتاب في (54) صفحة. ثانياً: الكتب المطبوعة: (4) مصباح الظلام في الرد على منتقص شيخ الإسلام: وهو كتاب في مجلد، رد به على الطاغية عثمان بن عبد العزيز بن منصور
الناصري، من تلاميذ داود بن جرجيس، وذلك لما أقذع في مسبة علم الأعلام، ومشيد دعائم الإسلام، ومردي عبادة الأوثان والأصنام في وقته الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ فقد ألف هذا الملحد مؤلفاً سماه "جلاء الغمة من تكفير هذه الأمة"، والمراد بالأمة عنده، عبدة الأصنام، فانتصر لهم فيه، وضلل أهل التوحيد (1) ، وعلى هذا الكتاب كان رد الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله. (5) منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس: وهو كتاب يقع في مجلد، في (396) صفحة، ردّ به كتاب: "صلح الإخوان" لداود بن جرجيس البغدادي. فرغ منه في حدود سنة 1280هـ (2) . ولما صنف هذا الكتاب، أثنى عليه جملة من العلماء والأدباء، منهم: العلامة الأفندي عبد القادر البغدادي، قال فيه: عبد اللطيف جزاه الله خالقنا ... يوم الجزاء بأجر غير ممنون هو الهمام الذي شاعت فضائله ... في الشرق والغرب من نجد إلى الصين بحر من العلم يبدي من معارفه ... بديع در عزيز القدر مكنون أحيا طريق رسول الله عن شبه ... منسوبة لجهول غير مأمون وسادس من أقاويل ملفقة ... كأنها بعض أقوال المجانين ظن ابن جرجيس من جهل ومن سفه ... لم يبق في الناس ذو علم وتمكين فقال ما قال من زور ومن كذب ... ظنونه في مجال غير مظنون ولم يكن يغني عنه الظن فانعكست ... ظنونه في مجال غير مظنون إذ رده ناكصاً يدعو النجاء على ... أعقابه خسر الدنيا مع الدين
دلائل أشرقت فالشهب أرسلها ... عبد اللطيف رجوماً للشياطين جزاه مولاه عنه كل صالحة ... من جنة الخلد في يوم الموازين (1) (6) : تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس وهو كتاب مطبوع باسم "تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس"، وهو كتاب صغير يقع في (156) صفحة. وقد اعتنى بنشره وتحقيقه عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم، وطبعت الطبعة الثانية منه بدار العاصمة بالرياض عام 1410هـ، بالمملكة العربية السعودية. (7) : دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ: وهو كتاب رد به على ما لفقه داعية الكفر والضلال، داود بن جرجيس. قال الشيخ محمد بن عبد العزيز مانع في تصديره لهذا الكتاب: "ألفه قبل وفاته بنحو سنتين، وطبع أول مر في (1305هـ) ، ونفدت طبعته، وقل وجوده حتى نسي أو كاد أن ينسى (2) ، حتى وجد منه نسخة في مكتبة محمد بن حسين نصيف، بالحجاز" (3) . وكان -رحمه الله- قد شرع في شرح كتاب الكبائر، وشرح نونية ابن القيم،
فاخترمته المنية قبل إتمامهما (1) ؛ إذ إن الفتن والاضطرابات التي حصلت بين أبناء فيصل بن تركي، أشغلته كثيراً عن تحقيق ذلك، بل وأبعدته عن مجال التصنيف عموماً في أواخر حياته، وعليها المعول في قلة إنتاجه التأليفي. وكما أنه -رحمه الله- ناثر جيد، فهو شاعر مجيد، فله عدة قصائد، وقد سخر شعره لرد الشبه، فكان يقاتل أهلها بمثل سلاحهم، ويدمرهم بمثل عدتهم. فله من ذلك قصيدة طويلة، رد بها قصيدة البولاقي المصري، التي خلط فيها المصري وسوى بين البدع في العبادات والبدع في العادات (2) . وكذلك له قصائد إخوانية بينه وبين بعض محبيه من أهل العلم (3) . وسيقف القارئ على بعض قصائده -رحمه الله- ضمن هذه الرسائل التي نحن بصدد تحقيقها. كما أن له تحقيقات نفيسة وتدقيقات لطيفة (4) ، رحمة الله عليه.
المبحث الثامن: عقيدته
المبحث الثامن عقيدته كان الشيخ عبد للطيف -رحمه الله- سلفي العقيدة، ومن مناصريها ودعاتها. وقد اجتمعت لديه عدة عوامل، كان بمجملها -بعد توفيق الله تعالى- السبب في سلامة عقيدته وصفوتها، التي اشتهر بها، وقضى طيلة حياته في مناصرتها والدفاع ومن تلك العوامل: أولاً: كونه من أصل أسرة الدعوة السلفية: فهو -رحمه الله- من أحفاد الشيخ، محيي العقيدة السلفية، جده الكبير الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كما أن أباه عبد الرحمن بن حسن، كما أن أحد المناضلين لتبديد ظلام الشرك والذب عن عقيدة السلف، والتصدي لدعاة الضلال وعبدة القبور، الذين كانت رؤوسهم مرتفعة على عهده. الثاني: تربيته بين مناصري العقيدة السلفية: لم يكتف الشيخ -رحمه الله- بفضل انتسابه إلى تلك الأسرة الشريفة، بل حاز أيضاً فضل التربية والنشأة بين حماة الدعوة السلفية، وذاذة الملة الإسلامية؛ فقد كانت مدينة الدرعية -موطنه الأصلي- تعج بعلماء الدعوة السلفية ومشهورة، بالحركة العلمية، وكان ذلك عاملاً قوياً في نشأته على العقيدة الصافية التي كان سائدة في تلك البلدة حينذاك. ثالثاً: أخذه للعقيدة من منابعها الصافية: وهذا من أبرز ما يوضح صفاء عقيدته؛ إذ إنه -رحمه الله- أخذ العقيدة من معينها الصافي عن أبيه وعمه وخاله وغيرهم حين وجوده بمصر.
قال البسام في علماء نجد خلال ستة قرون (1) ، عند حديثه عن نشأة الشيخ العلمية، وهو في مصر: " ... فصار يتردد بين بيته والأزهر الشريف، فيجد في البيت أباه وعمه وخاله، فدرس على جملة من علماء نجد منهم: جده لأمه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، وخاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد، ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ أحمد بن حسن بن رشيد المشهور بالحنبلي، كل هؤلاء من النجديين الذين تلقى عنهم في مصر، يلقنونه العقيدة الصحيحة، ويدرسون له علوم السلف الصالح ... ". فتلك هي أبرز العوامل التي ساعدته على النمو على عقيدة السلف الصالح، حتى صار أعظم دعاتها، رحمة الله عليه. ثم إن رسائله التي أنا بصدد تحقيقها، لتجلي عن حقيقة عقيدته السلفية؛ حيث تناولت مسائل عالجها الشيخ وفق عقيدة السلف الصالح، واعتمد في ذلك على أقوالهم وما كانوا عليه من أعمال، التي كانت ترجمة عملية لمراد كتاب الله الكريم وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كما تضمنت رسائله جميع أنواع التوحيد؛ الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، حسب ما وردت في الكتاب والسنة، فكل رسائله وأجوبته وفتاويه تدور حول هذه الأقسام الثلاثة. فنجد مثلاً الرسالة رقم (63) ، قد خصها بتوحيد الأسماء والصفات، وهي كلها صورة طبق أصل عقيدة السلف الصالح في هذا الباب. ومن أجل صفاء عقيدته، وسعة اطلاعه على ما كان عليه السلف، وجلده على المناظرة وإقامة الحجج لنصرة مذهب أهل السنة والجماعة؛ انتدبه الإمام فيصل بن تركي -رحمهم الله- لمهمة إصلاح أهل الإحساء، الذين كانت شبه الجاهلية راسخة في أذهانهم حينذاك. وقد استطاع الشيخ -رحمه الله- إعادة ذلك البلد إلى مذهب
السلف الصالح، وإظهار الحق لهم، وتصفية عقيدتهم من رواسب الشرك، وتوحيد طريقتهم على نهج أهل السنة والجماعة (1) .
المبحث التاسع: أعماله ووظائفه
المبحث التاسع أعماله ووظائفه قام الشيخ رحمه الله بعد وظائف، أملتها عليه مكانته العلمية الرفيعة، ومارسها حسب ما حكمت به ظروف بلده حينذاك، ووفق مكانته من الإمام فيصل ابن تركي، الذي كان هو مع الشيخ عبد الرحمن بن حسن والد الشيخ عبد اللطيف المسيّران لشئون البلد، سياسياً ودينياً؛ ولذا نجد أن أعماله كانت متمثلة في كلتا الناحيتين. وهنا نوجز أهم ما قام به من تلك الأعمال، كما يلي: أولاً: نشره للعلم والدعوة إلى الله تعالى: كان -رحمه الله- قد قدم من مصر، بعد تزوده بعلم وفير، فكان مهيئاً للعطاء والإفادة، وكان قد حمل معه مكتبة حافلة بنفائس الكتب كثيرة. وبعد استقراره في الرياض، بدأ الناس ينتفعون بعلمه (1) ، وكان عنده حلقة تدريس، واتخذ من المسجد الكبير المعروف بـ (مسجد الشيخ عبد الله) مدرسة كبيرة؛ لتدريس مختلف الفنون والعلوم، كالبلاغة والمعاني والبيان، وقواعد الفقه والأصول والتجويد، بالإضافة إلى علوم أخرى (2) . وقد تقدم أن علمنا إرسال الإمام فيصل له إلى الإحساء للدعوة إلى الله، وإصلاح أهلها (3) ، وبعد رجوعه من الإحساء إلى الرياض، قام بمؤازرة والده في نشر الدعوة والعلم وبثه، وإحياء معالم الدعوة، وتجديد ما اندثر منها، فملأ نجداً في زمانهما علماً، وأعادا إلى الدعوة السلفية قوتها ونشاطها ومجدها، بعد ما أصيبت بالوقوف،
ومنيت بالركود أيام الفتن والاضطرابات (1) . ثم إن الشيخ -رحمه الله- كان رفيق الإمام فيصل بن تركي في أسفاره وغزواته، فكان ينتهز الفرصة في تلك الرحلات، فيعظ ويذكر وينشر الدعوة، ويعلم الجاهل، ويرشد الضال (2) . قال الشيخ عبد الله البسام عند كلامه عن أعمال الشيخ: " ... كانت أوقات الشيخ عبد اللطيف مقسمة بين التأليف والرد على المبطلين، وبين الرسائل والنصائح التي تبعث إلى البلدان والمخالفين، وبين الدروس العامة والخاصة التي لا تنقطع، ولا يخل بمواعيدها، وبين مقابلة الوافدين والمراجعين، وبين مجالسه الخاصة مع الإمام فيصل، ثم ابنه عبد الله؛ لبحث شؤون الدولة وأمور الحكم" (3) . ثانياً: مساعدته لوالده: إنه -رحمه الله- بعد عودته من مصر، وقدومه إلى الرياض عام (1264هـ) ، كان الإمام فيصل بن تركي هو صاحب السلطة المطلقة في بلاد نجد، وكان أبوه عبد الرحمن بن حسن هو المرجع في الشؤون الإسلامية والشرعية، وكان الشيخ عبد الرحمن قد دخل في العقد الثامن من عمره، واحتاج إلى مساعد قوي يعينه على مهامه الكبرى والكثيرة، وأعماله الجليلة، فلما قدم عليه ابنه عبد اللطيف، الذي وعى صدره علوم نجد وعلوم مصر، كان خير معين لوالده -بعد الله سبحانه وتعالى- على أداء مهامه، وكبير مسؤلياته؛ لذا عوّل عليه الإمامان، واعتمد عليه الزعيمان في صعاب وعويص المشاكل (4) .
ثالثاً: القضاء والفتوى: من أعماله -رحمه الله- اشتغاله بالقضاء والفتوى؛ فبعد عودته إلى نجد متسلحاً بالعلم الواسع والعقل الراجح، لم يتردد الإمام فيصل بن تركي في تقليده هذا الأمر الحساس في نظام ملكه، والذي لم يكن يصلح إلا لمثله. قال ابن بشر: "استعمله الإمام فيصل قاضياً في الإحساء، ثم كان قاضياً مع أبيه في الرياض" (1) . وكان الإمام يخصه ويسافر معه، فكان الشيخ في معيته إماماً وقاضياً له (2) . وهكذا قام بهذه الأعمال وغيرها خير قيام، وسار فيها أحسن سيرة، ولم يخل بشيء من وظائفه اليومية، فقد أعطى كل ذي حق حقه، وسار بأعماله على الوجه المرضي حتى لقي ربه"، رحمه الله تعالى رحمة واسعة (3) .
المبحث العاشر: حياته السياسية
المبحث العاشر حياته السياسية كانت بداية حياته السياسية، بعد عودته من الإحساء عام (1266هـ) ؛ حيث أرسله الإمام فيصل بن تركي في مهمة دعوية؛ لإصلاح أهلها من البدع والخرافات الشركية، والتشعبات المذهبية. قال الشيخ الشيخ عبد الله البسام: " ... ولما عاد إلى العاصمة الكبيرة، وجد أباه وإمامه قد طعنا في السن وثقلت عليهم المسؤوليات الجسام للدولة، فكان العضد الأيمن لأبيه، كما صار الأمير عبد الله الفيصل الساعد القوي للإمام، فسار الرجلان القويان في أعمال الدولة وشؤونها، تحت توجيه وإرشاد الإمام المحنك والعالم المجرب، فاستقامت الأمور وصلحت الأحوال، حتى استقرت البلاد، وأمن العباد، وفاض الخير، وعم الرخاء. فرحل الإمامان في سني متجاورة، وأيام متقاربة، فقد توفي الإمام فيصل عام (1282هـ) وتوفي الشيخ عبد الرحمن عام (1284هـ) ، فاستقل بالأمر الخليفتان، وانفرد كل منهما بمسؤلياته ومسؤليات والده" (1) . فهكذا كانت بداية حياته السياسية، التي تطورت حسب تطور الأحداث، وما وقع من فتن بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله-. وتبرز أدواره السياسية في الأمور الآتية: أولاً: مواقفه في الفتن: تقدم بيان ما حدث بين أبناء الإمام فيصل، الأمير عبد الله الفيصل، وأخيه سعود الفيصل، من المنازعة على الحكم بعد وفاة أبيهما، وما أتبع ذلك من حروب..
وفتن (1) ، فقد كان الشيخ عبد اللطيف وحده هو مطفيها -بعون الله تعالى له-. فوقف الشيخ -رحمه الله- في تلك الحروب مواقف خالدة ومشرفة، تشهد له بالوطنية الصادقة، والغيرة المتناهية على حرمات الإسلام والدين. وقد تحدث الشيخ نفسه في بعض رسائله (2) عن هذه الفتنة، ودوره في إطفائها، وهي تبرز ما عاش فيه من قلق نفسي واضطراب، وفتن وملاحم، وخوف على المسلمين وبلدانهم من الغارات والنكبات، وشغل بتسكين الأمور، وملاينة الحكام المتعاقبين على مجلس الحكم، في فترة ما بين وفاة الإمام فيصل بن تركي عام (1282هـ) ، إلى وفاته هو عام (1293هـ) (3) . فقد كان يحاول دائماً عقد الصلح بين الأبناء المتنازعين على الحكم، وجرّد نفسه للدفاع عن الأوطان والمحارم، كما كان يجتهد في أخذ الأمان لأهل الرياض، من القوات الغازية التي كانت تتبادل الهجوم على الرياض (4) . وكان -رحمه الله- ينظر إلى تلك الصراعات بنظرة ثاقبة، وتبصر أبعد عمقاً، وأكثر اتساعاً، فكان يرى أن الفتنة لم تكن بين أميرين فحسب، وإنما كانت الشعلة المستهدفة لحرق حصون الدعوة، وسحق الكيان المتماسك الذي أسسه آل سعود. فكان يرقب تحرك أعداء الدعوة التقليديين، والأعداء الدخلاء الجاثمين على الحدود. وبناء على هذا، كان يرى أن أياً من ذينك الأميرين استطاع الغلبة وقيادة الأمة وحمايتها من الأعداء، والمحافظة على الدعوة السلفية، أنه يكون الأحق للأمر والبيعة (5) ، خاصة أنه كان يلمس من كل منهما التحمس للدعوة، والحفاظ عليها على
ما تركها عليه أبوهم الإمام فيصل (1) ،رحمة الله عليهم. وفي إحدى المرات، سعى إلى تنازل الإمام عبد الرحمن بن فيصل عن الحكم، لأخيه عبد الله (2) ؛ لأنه أكبر وأقدم في الولاية، أشار عليه بذلك، وكرر عليه طلبه، حتى أجابه إلى ذلك، فخرج الأمير عبد الرحمن من الرياض، وقدم على أخيه عبد الله، وهو إذ ذاك في بادية عتيبيّة (3) . وبذلك تحقق للشيخ ما أراده من حقن دماء المسلمين، فصار الحكم إلى عبد الله، بطريقة سلمية. ولم تكن هذه المرة الأولى ولا الأخيرة، بل إنه -رحمه الله- تحقق له حقن دماء المسلمين مرات عديدة، بفضل الله، ثم بفضل سعيه الحثيث والمخلص. فهذا باختصار كان موقفه من الفتن، كما سيأتي ذكره في بعض رسائله مما يأتي إن شاء الله (4) . ثانياً: رسائله السياسية: ومن الأمور التي تضمنتها حياته السياسية، وأبرز دوره السياسي، رسائله التي كان يصدرها إلى جهات شتى، إلى الأمراء، والحكام، والإخوان، والعامة. فقد لعبت رسائله دوراً هاماً في تثبيت دعائم الحكم لآل سعود وتوطيدها، إذ كان يعمل من خلالها على استمالة الرعية إليهم (5) . ومن رسائله السياسية، تلك التي أرسلها على لسان الإمام عبد الله الفيصل،
لوالي بغداد، بعد أن بين للإمام عبد الله، حرمة ما فعله من الاستنصار بأعداء الإسلام على المسلمين (1) ، وأقنعه بذلك، وأظهر عبد الله التوبة (2) ، فكتب على لسانه لوالي بغداد، أن الله قد أغنى ويسر، وانقاد للناس من أهل نجد والبوادي، ما يحصل به المقصود إن شاء الله، وأن لا حاجة لنا بعساكر الدولة (3) . قال الشيخ إبراهيم بن عبيد، عند كلامه عن مواقف الشيخ ودوره في الفتنة: " ... فقام -رحمه الله- بأعباء الدفاع عن بيضة الإسلام، وبث رسائله ونصائحه، ولم يأل جهداً في تسكين تلك الثوائر، ونصر دين الله باللسان والحجة، واستعمل ضروباً من الحكمة؛ كل ذلك لتحذير المعتدين، وتذكير المسلمين، وإفادة السامعين" (4) ، نسأل الله أن يشكر سعيه، ويعظم أجره، ويجازيه على إحسانه إحساناً.
المبحث الحادي عشر: وفاته والمرثيات التي قيلت فيه
المبحث الحادي عشر وفاته والمرثيات التي قيلت فيه المطلب الأول: وفاته: توفي -رحمه الله- في 14 من ذي القعدة عام 1293هـ (1) ، وأصيب المسلمون بفقده، كما فقدته الرؤساء والمحافل. وقد كانت وفاته -رحمه الله- في مدينة الرياض (2) ، عن ثمانية وستين عاماً (68) من العمر، ثمانية منها في الدرعية، وإحدى وثلاثين عاماً بمصر، وعامان في
الإحساء وسبعة وعشرون عاماً بنجد (1) قضاها كلها في تحصيل العلم ونشره، والكفاح الدائب، والنضال المتواصل؛ لحماية عقيدة التوحيد، والذود عن حياض الدين وحرمات المسلمين. فنسأل الله تعالى أن يرحمه رحمة واسعة، ويجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يتغمده برحمته وعفوه وغفرانه، ويسكنه فسيح جناته، وفي النعيم المقيم. آمين. المطلب الثاني: مرثياته: وقد رثاه جماعة من العلماء نذكر هنا بعض ما قيل في ذلك: أ- قال ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: "لما رأيت أهل الفهم والذكاء لم يتعرضوا لرثي شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، علامة دهره ووحيد عصره، الوالد الشيخ عبد اللطيف، ثبت الله حجته، أحببت أن أبذل وسعي في ذلك ... وقلت مستعيناً بالله شعراً: لقد أظلمت من كل أرجائها نجد ... وقد كان لي في عهدها بالهدى عهدُ وكنا وأهلوها على خير حالة ... وأنوار هذا الدين من أفقها تبدو وقد ساعد ليلى وطاب وصالها ... ولاح لنا من وجهها القمر الفرد بها قام سوق للشريعة عامراً ... فكل مقال لا تقرره رد وكل إمام لا ينفذ أمرها ... فإن كل ما يبنى من الأمر منهد فصحراؤها روض تفتق زهره ... وحصباؤها ودر وأمواهها شهد فلله عصر قد مضى في حمائها ... به ارتفع الإسلام وانهزم الضد صحبناهم والدهر مرخ رواقه ... وقد مس أهل الزيغ في بأسهم حد لقد حل بالسمحا من الخطب فاضع ... لدن غاب من آفاقها الطالع السعد
إمام التقى بحر الندى علم الهدى ... عبد اللطيف العالم الأوحد الفرد فمذ غاب عن عيني تمثلت منشداً ... لما قاله في السالف العالم المجد أليل غشى الدنيا أم الأفق مسود ... أم الفتنة الظلماء قد أقبلت تعدو أم السرج النجدية الزهر أطفئت ... فأظلمت الآفاق إذ أظلمت نجد نعم كورت شمس الهدى وبدا الردى ... وضعضع ركن للهدى فهو منهد حليف المعالي قد رقي ذروة الهدى ... ومن دونها النسران والنجم والسعد وعلامة ما الشافعي ومالك ... وأحمد والنعمان والليث والمجد يرى في ثياب النسك حبراً كأنه ... مليك جليل القدر تعفو له الأسد فسائل به آيات مجد شواهدا ... طوالعها لا يستطاع لها جحد فكم من ضلال قد تصدى لرده ... وكم من هدى أبداه إذ أشكل الرد فيها أيها الحبر الذي كان حجة ... عليك سلام الله ما سبح الرعد بنيت بناءً للشريعة قد سما ... به من قبلك الأب والجد وأسست هذا الدين حتى سما ... به أناس رعاهم قبلك الذيب والفهد أنبأتهم كيف السياسة والعلى ... وكيف يقاد الجيش والجرد والجند فأورثتهم مجداً وما كان مثله ... يرام له إرث وإن عظم الجد حظوظ بميراث النبي أشادها ... إمام سما في العلم ليس له ند أعاد لنا نهج الشريعة واضحا ... وقد عز من دهر تقادم أن يبدو وجلى لنا أسرار شرعة أحمد ... وأن إله الحق في حكمه فرد فجرّت به نجد ذيول افتخارها ... وكادت إلى فوق السماكين تعتد حديث رسول الله إن جاء درسه ... يفوح به من طيبة المسك والورد محاسن من دنيا ودين سماء بها ... إلى شرف العليا فحق له المجد (1) ب- ورثاه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق، بقصيدة مطلعها: أبا خلق الأيام حيا تسالمه ... وإن عظمت هماته وعزائمه
فما أوحش الدنيا ويا حزن نجدها ... ويا يتمه للعلم إذ مات عالمه فما مر يوم مر يوم أتى به ... بأوحش أنباء بريد يكاتمه وجدنا كأن الأرض حتماً تزلزت ... فأظلم كل الكون وارتج عالمه وهاجت رياح من زفير تنفس ... وجاد بماء الجفن سحا غمائمه فيالك من رزء فظيع على الورى ... وهد بسور العلم أوهاه ثالمه فقد كان للدنيا وللدين عدة ... وكنزاً أبى مضروبها أن يقاومه بقية أهل العلم والعَلَم الذي ... تلقاه فرع أصلته أكارمه إلى أن قال: وعاش سعيداً ثم مات موحداً ... على المبلغ المنجي طريق ملازمه فلا حي إلا والكل هالك ... سواه ولا بد المنون تزاحمه وماذا وإن أعطيت عمراً كآدم ... وللدهر يوماً سوف يدركك صارمه فطوبى لعبد أيقظته عناية ... وجافته عن دار الغرور عزائمه (1) جـ- ورثاه تلميذه (وجامع رسائله) الشيخ سليمان بن سحمان، بقصيدة طويلة، في (42) بيتاً، نقتطف منها الأبيات التالية، ومطلعها: تذكرت والذكرى تهيج البواكيا ... وتظهر مكنوناً من الحزن ثاويا معاهد كانت بالهدى مستنيرة ... وبالعلم يزهو ربع تلك الروابيا فما كان إلا برهة ثم أطبقت ... علينا بأنواع الهموم الروازيا فكنا أحاديث كأخبار من مضى ... وننبأو عنها في القرون الخواليا لعمري لئن كانت أصيبت قلوبنا ... وأوجعها فقدان تلك المعاليا لقد زادت البلوى اضطراماً وحرقة ... فحق لنا اهراق دمع المآقيا فقد أظلمت أرجاء نجد وأطفئت ... مصابيح داجيها لخطب وداهيا لموت إمام الدين والعلم والتقى ... مذيق العدا كاسات سم الأفاعيا
ولما نمى الركبان أخبار موته ... وأصبح ناعي الدين فينا مناديا رثيناه جبراً للقلوب لما بها ... وحل بها من موجعات التآسيا لشمس الهدى بدر الدجى علم الهدى ... وغيظ العدا فليبك من كان باكيا ولا زال إحسان الإله وبره ... على قبره ذا ديمة ثم هاميا وأسكنه الفردوس فضلاً ورحمة ... وألحقه بالصالحين المهاديا عليه تحيات السلام وإن نأى ... وأضحى دفيناً في المقابر ثاويا فيا معشر الإخوان صبراً فإنما ... مضى لسبيل كلنا فيه ماضيا فإن أقل البدر الفريد وأصبحت ... ربوع ذوي الإسلام منه خواليا فقد شاد أعلام الشريعة واقتفى ... بآثار آباء كرام المساعيا همُ جددوا الإسلام بعد اندراسه ... وأحيوا من الأعلام ما كان عافيا فيا رب جد بالفضل منك تكرماً ... وبالعفو عنهم يا مجيب المناديا وابق بينهم سادة يقتدى بهم ... إلى الخير يا من ليس عنا بلاهيا (1)
المبحث الثاني عشر: ثناء علمائه عليه
المبحث الثاني عشر: ثناء علمائه عليه ... المبحث الثاني عشر ثناء العلماء عليه وقد أثنى عليه جماعة من العلماء الأفاضل، ويدور كلامهم في ذلك على ما اشتهر به الشيخ وتبحر فيه من علوم وفنون شتى. فقد وصفه الشيخ إبراهيم بن صالح بقوله: " ... كان -رحمه الله- إماماً عالماً فاضلاً بارعاً محدثاً فقيهاً أصولياً ... " (1) . كما قيل في الثناء عليه، عدد من القصائد، منها: قول الفاضل علي أفندي: لاح نور وزال الضلال ... ودها الشرك والعناد زوال وتجلت شمس الكمال عياناً ... بعد ما كان دونها ضلال ورياض التوحيد جاد رباها ... من سما الحق عارض هطال وبدا الجهبذ المحقق للحق ... الإمام المهذب المفضال والهزبر الهمام والعالم النحرير ... من عنده تنتهي الآمال ذاك عبد اللطيف كنز المعالي ... هو بحر للعلم بحر زلال (2) وقال الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي: وعبد اللطيف الحبر لا تنس فضله ... إمام هدى بالعلم تزهو محافله (3) وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد المانع: سما رتبة في العلم لم يتصل بها ... سواه ولم يبلغ سناها ذوو الصدر فكان أحق الناس في قول من مضى ... إذا ما انتدى للقوم في محفل الذكر
وأقلامه تجري على متن طرسه ... فتشفى أوام الصدر عن مغلق الحصر وإن طالب يأتيه يبغي إفادة ... أزاح له الإشكال بالسبر والخبر وأنهله من بحره الجم نهلة ... فراح بها بدري وقد كان لا يدري (1) وقال فيه تلميذه سليمان بن سحمان: فعبد اللطيف الحبر أوحد عصره ... إمام الهدى قد كان لله داعيا لقد كان فخراً للأنام وحجة ... وثقلاً على الأعداء عضباً يمانيا إماماً سما مجدا إلى المجد وارتقى ... وحل رواق المجد إذ كان عاليا تصدى لرد المنكرات وهدماً ... بنته عداة الدين من كان طاغيا فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... ويحمي حماها من شرور الأعاديا حياة إله العرش في العلم والنهى ... بما فاق أبناء الزمان تساميا وقال: لقد جدّ في نصر الشريعة والهدى ... وسد ينابيع الغواة الأخاسر وإعلاء دين الله جل ثناؤه ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر وقال: عبد اللطيف الذي شاعت مناقبه ... غرباً وشرقاً ومن بصرى إلى عدن ما مصقع بلتع حاذاه أو علم ... في العلم فيما علمنا من بني زمن (2) إلى آخر القصيدة. وغير ذلك من القصائد التي وردت في الثناء على الشيخ عبد اللطيف، رحمة الله عليه (3) .
الباب الثاني: دراسة الكتاب
الباب الثاني: دراسة الكتاب الفصل الأول: التعريف بالكتاب المبحث الأول: عنوان المخطوط ... المبحث الأول عنوان المخطوط اتفقت جميع النسخ على تسمية الكتاب على الورقة الأولى: بأنه: (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل) . وهذا الاسم ليس من وضع المؤلف الشيخ عبد اللطيف صاحب الرسائل، وإنما وضعه تلميذه (جامع الرسائل) الشيخ سليمان بن سحمان، بعد أن جمع رسائل شيخه التي كانت منتشرة في كتاب واحد، فسماه بهذا الاسم، وهو ما وضحه أصحاب التراجم، كما يأتي بيانه قريباً في مبحث توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف. وعليه، يجدر بنا معرفة نبذة يسيرة عن جامع هذه الرسائل التي بين أيدينا وذلك في المبحث التالي:-
المبحث الثاني: ترجمة جامع الرسائل
المبحث الثاني ترجمة جامع الرسائل قام بأعباء جمع هذه الرسائل وتربيتها على ما هي عليه، الأستاذ الفاضل، صاحب المصنفات العديدة المفيدة، واللسان المدافع عن الدعوة السلفية، الشيخ العلامة، سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك ابن عامر، الخشعمي مولاهم، العسيري أصلاً ومولداً، النجدي منشأ ومستقراً. ولد في قرية السقا (1) عام 1226هـ، ونزح والده إلى الرياض في ولاية الإمام فيصل بن تركي، كرمه الإمام فيصل. قرأ على الإمام عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحمد بن عتيق قاضي الأفلاج وغيرهم. له مصنفات عديدة، منها: - الحجج الواضحة الإسلامية (مخطوط) في مكتبة الشيخ عبد الرحمن بن سحمان بالرياض. - الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد. مطبوع بمطابع الرياض، الطبعة الثانية 1376هـ. - إقامة الدليل والمحجة. - البيان المبدي لشناعة لقول المجدي. مطبوع بمطبعة القرآن والسنة، أمر تسر الهند. - تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف ودعى باليماني شرف. مطبوع بمطبعة المصطفوية، 1323هـ بومبي. - تبرئة الشيخين الإمامين، من تزوير أهل الكذب والمين. مطبوع.
- تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى، 1343هـ. - الجواب الفارق بين العمامة والعصائب. - الجواب المستطاب على ما أورد الجاهل المرتاب، المسمى بمبروك. - الجواب المنكي في الرد على الكنكني. - حل الوثاق في أحكام الطلاق. - الصواعق المرسلة الشهابية، على الشبه الداحضة الشامية. مطبوع بمطابع الرياض، 1376هـ. (ضمن مجموعة كتب) . - الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق، جميل أفندي الزهاوي. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى، 1343هـ. - عقود الجواهر المنضدة الحسان من أشعار سليمان بن سحمان. مطبوع بمطبعة المصطفوية، الطبعة الأولى، 1337هـ بومبي. - كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس. - كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام. مطبوع بمطابع الرياض، 1376هـ. - منهاج الحق. - نبذة في الزيارة. - الهدية السنية والتحفة الوهابية. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الثانية، 1343هـ وله رسائل وأجوبة، وغير ذلك من المصنفات المفيدة. وقد كف بصره عام 1331هـ، وتوفي سنة 1349هـ، رحمه الله (1) .
المبحث الثالث: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
المبحث الثالث توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف من بين الأمور المثبتة والمؤيدة لنسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه، والتي جعلني أتأكد من حقيقة هذه النسبة، ما يلي: أولاً: المعاجم والكتب التي نسبت إليه هذه الرسائل: 1- الدرر السنية: فقد قال الشيخ عبد الرحمن القحطاني عند ذكره لمصنفاته: "له رسائل عديدة وأجوبة مفيدة، تبلغ مجلداً، جمع أكثرها الشيخ سليمان بن سحمان وقال: لقد اشتملت على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة ... إلخ" (1) . وهذا الكلام نفسه هو ما ذكره جامع الرسائل، الشيخ سليمان بن سحمان، في مقدمته على الرسائل، كما سيأتي (2) . 2- تذكرة أولى النهى والعرفان، لإبراهيم بن عبيد (3) قال فيه: "أما رسائله ونصائحه، فقد جمعها الشيخ المعاصر سليمان بن سحمان، جعلها منسوقة واعتنى بضبطها والتعريف بها، وجعل لكل رسالة مقدمة فيها تحتوي عليه،
ولم يفته منها إلا النادر. ويا ليته اعتنى بترتيب الرسائل، وذكر وقت التاريخ لوضع المؤلف لها". وها هي منشورة في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، من أحب مراجعتها فليراجعها، ... بيد أنه لم يجمل ترتيبها، ووضع تاريخ لكل رسالة، إن تيسر ذلك وساقها الله إلى خبير بتلك البضاعة، فيا حسنها. وقد وضعها الشيخ المعاصر في نحو من عشرين كراسة وسماها: (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل) فناهيك بها أمارات أعربت عن قدر منشيها ومنزلته، وأجوبة أفصحت عن براعته ودرجته". 3- علماء نجد خلال ستة قرون: لعبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام: فعند ذكره لمؤلفات الشيخ عبد اللطيف، عدّ من ضمنها هذا المخطوط، فقال: " (عيون الرسائل والمسائل) وهي مخطوطة في مكتبة جامعة الرياض". وقد صدق، إذا وجدت هناك بعض النسخ لهذه المخطوطة، كما سيأتي بيانه (1) . 4- مشاهير علماء نجد وغيرهم: للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، فقد قال عنده ذكره لمصنفات الشيخ عبد اللطيف: " ... وله رسائل كثيرة، كتبها في أغراض متعددة، علمية واجتماعية وسياسية، لو جمعت على حدة لبلغت مجلداً ضخماً، ولكنها طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية" (2) . 5- عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث في آخر القرن الثالث عشر وأول الرابع عشر، للشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي: قال عند تعداده لمصنفات الشيخ: "وله رسائل عديدة وأجوبة على أسئلة مفيدة" (3) .
6- الأعلام، لخير الدين الزركلي (1) : قال عند ترجمته: " ... له مصنفات، منها: ... ورسائل وأجوبة وردود". ثانياً: نسبة الجامع للرسائل الرسائل إلى صاحبها: نجد أن جامع هذه الرسائل تلميذه الشيخ سليمان بن سحمان، قد نسبها إلى شيخه عبد اللطيف -رحمه الله- كما جاء ذلك في مقدمته عليها. ولا شك أنه أدرى بما قام به شيخه من أعمال علمية؛ لقربه ومعاشرته له، مع ما قام به من مجهود جبار في إحياء تراث شيخه. ثالثاً: تصدير الرسائل باسم الشيخ صاحبها: إن كل رسالة من جميع هذه الرسائل، كان الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- يصدرها بذكر اسمه، فيقول: "من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى ... "، وهذا مما يؤيد ثبوت كون هذه الرسائل له. رابعاً: اتفاق جميع النسخ المخطوطة: على نسبة الكتاب لصاحبه، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمه الله. خامساً: ما ذكره بعض المحققين المعتمدين من علمائنا المعاصرين: ومن أولئك: شيخنا الفاضل، الدكتور صالح بن عبد الله بن عبد الرحمن العبود -نفعنا الله بعلمه والمسلمين-، فقد قال في كتابه: "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي" عند ذكره للمراجع الأساسية التي اعتمد عليها في كتابه؛ قال: "والثالث: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث، تأليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، المولود عام 1225هـ، والمتوفى عام 1293هـ، والذي رتب هذه المسائل وبوبها هو تلميذه سليمان بن
سحمان، المولود عام 1266هـ، والمتوفى عام 1349هـ" (1) . وقال أيضاً عند ترجمته للشيخ عبد الرحمن بن حسن والد الشيخ عبد اللطيف: "… وقد ساعده على حمل راية العلم والسنة، ابنه الشيخ عبد اللطيف، فقد كتب رسائل كثيرة … خصص جامع الرسائل والمسائل النجدية الجزء الثالث من مجموعة الرسائل والمسائل لبعضها، فبلغت ستاً وسبعين رسالة، في أربعمائة وثلاث وخمسين صفحة (453) " (2) .
المبحث الرابع: موضوع الكتاب
المبحث الرابع موضوع الكتاب يتناول هذا الكتاب ثلاثة موضوعات رئيسية؛ وهي: الأول: رسائل في عقيدة التوحيد، وما يضادها من الشرك. وهي معظمها، يتناول فيها مسائل متعلقة بالعقيدة، بأنواعها؛ في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات. الثاني: رسائل في الفتاوى. وهي عبارة عن أجوبة حول مسائل كانت ترده من بعض السائلين عن مسائل فهقية. وهي قليلة. الثالث: رسائل في الفتن الواقعة في عصره. وهي عدة رسائل. وهذه الرسائل غير مرتبة ترتيباً موضوعياً، فكما قال الشيخ محمد رشيد رضا (1) في مقدمة مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، عند كلامه عن مجهود الشيخ ابن سحمان في جمع هذه الرسائل، قال: " ... ثم إنه لم يعن بترتيبها بحسب موضوعاتها، كجعل الرسائل الخاصة بالتوحيد والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع متناسقة في باب، والرسائل والفتاوى في الفروع متناسبة في باب آخر، والرسائل المتعلقة بالفتنة والشقاق الذي وقع
بين آل سعود بسبب التنازع على الإمارة، متتابعة في باب ثالث (1) لكانت الفائدة أتم" (2) . هذا ما رآه الشيخ رشيد، وهو في الواقع رأي سليم؛ إذ إن تمام الفائدة والتيسير على القارئ يقتضيان ذلك؛ حيث يسهل الوقوف على الرسائل ذات الموضوع الواحد، متناسقة متتالية في مكان واحد. وعليه، فقد رأيت أن أقوم بهذا العمل، وأرتِّب الرسائل ترتيباً موضوعياً. وبذلك سوف تكون الرسائل مرتبة على أبوابها كالتالي، وفقاً لأرقامها في النسخة الأصل: أولاً: الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع، وما ينافيها من الشرك والابتداع: أرقامها: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 10، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 23، 24، 25، 28، 30، 31، 32، 33، 35، 36، 40، 41، 42، 55، 57، 58، 59، 62، 63، 64، 66، 67، 68، 69، 70، 73، 74. [المجموع 45 رسالة] ، يزاد عليها (11) رسالة من الرسائل الملحقة وهي: 77، 78، 79، 80، 86 88، 93، 94، 95، 96، 97. ثانياً: الرسائل الخاصة بالفتاوى في الفروع: أرقامها: 21، 22، 34، 37، 38، 39، 43، 45، 46، 47، 53، 54، 56، 60، 61، 72، 75، 76. [المجموع 18 رسالة] ، يزاد عليها (8) من الرسائل الملحقة هي: 83، 84، 85، 87، 89، 90، 91، 92.
ثالثاً: الرسائل المتعلقة بالفتن: أرقامها: 9، 11، 26، 27، 29، 44، 48، 49، 50، 51، 52، 65، 71 [المجموع13] ، يزاد عليها (2) من الرسائل الملحقة هما: 81، 82. فمجموع هذه الرسائل كلها (97) رسالة. وعلى حسب هذه الأرقام، سيكون الترتيب الفني لهذه الرسائل. ويشار هنا إلى أن جميع الرسائل في كل النسخ المخطوطة، غير مرقمة، وهذه الأرقام من وضعي، حسب تسلسل الرسائل في النسخة الأصل.
المبحث الخامس: وصف النسخة الخطية والمطبوعة
المبحث الخامس وصف النسخة الخطية والمطبوعة أ - النسخ المخطوطة أولاً: عدد النسخ المخطوطة: وجدت للمخطوطة أربع نسخ خطية، وهي التي كان عليها العمل. ثانياً: وصف النسخ الأربعة: النسخة الأولى: ورمزها (أ) . - مكان وجودها: هي موجودة بمكتبة جامعة الملك سعود، بالرياض، المملكة العربية السعودية، قسم المخطوطات، برقم 315/3م (1) ،عقائد. - الناسخ: لا يوجد اسم الناسخ على غلاف هذه النسخة. - تاريخ نسخها: سنة 1319هـ، هذا ما ورد في آخر رسالة (20) صفحة52، قال: "تحريراً في 29 صفر، 1319هـ". ويوجد بالغلاف سنة 1340هـ، وهو من وضع مصور النسخة، ويُوهم هذا التاريخ بكونها منسوخة في هذه السنة، والحق أن هذا التاريخ هو تاريخ المعلِّق على النسخة، ومالكها الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن ربيعة، كما صرح بذلك في ختام بعض تعليقاته في هامش صفحة (107) جاء فيها: " ... وصلى الله على محمد وسلم، غرة/ جا (2) / سنة 1285هـ" ثم قال: "نقلتها من تلك النسخة المؤرخة بهذا التاريخ،
وأنا الفقير إلى الله عبده، عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن ربيعة، وذلك في 28 صفر 1340هـ" ا. هـ. كما أن له عليها تعليقات في هامش بعض الصفحات للفائدة. - السماعات الموجودة عليها: جاء على الورقة الأولى، بعد اسم الكتاب واسم المؤلف، سماعان: 1- سماع عن اسم مالك النسخة، هو: "مما منّ الله بها على عبده، عبد الله بن إبراهيم الربيعي". 2- سماع ثان على الورقة الأولى: "ليعلم الناظر لهذا المجموع، أنه إلى حد هذا، وهي الرسالة التي فيها نسب الشيخ محمد، -رحمه الله-، أنه من جمع الشيخ سليمان بن سحمان، والباقي علّقه في هذا المجموع من وجده بعد، وهو كاتبها (1) عبد الله بن إبراهيم الربيعي، لأجل فائدة للمسلمين، جزى الله فاعل الخير بخير الجزاء". - عدد أوراقها: (69) أي 138 صفحة، ضمن مجموع. - مقياسها ومسطرتها: 34 X 16سم. - عدد الأسطر في كل صفحة: تختلف عدد الأسطر الموجودة على صفحات هذه النسخة، فالصفحات الأولى يتراوح متوسط عدد الأسطر فيها بين 35-37 سطراً، وفي الصفحات الوسطى ما بين 40-45، بينما يصل عدد الأسطر في بعض الصفحات الأخيرة إلى ما فوق الخمسين 50 سطراً في الصفحة. - عدد الكلمات في كل سطر: يبلغ متوسط عدد الكلمات في كل سطر: 16 كلمة. خطها: خط نسخ جيد.
الملاحظات عليها: نسخة جيدة، وإن كان ببعض الكلمات في الصفحات الأولى تلويث بالحبر، ورطوبة وبلل مما أفسد الكتابة، من غير طمس، ويمكن قراءتها. يوجد بها بعض الأخطاء الإملائية. - سبب اختيارها لتكون الأصل: فقد اخترت هذه النسخة (أ) لتكون الأصل للأسباب الآتية: 1. كمالها وسلامتها من النقص عموماً، وما فيها من الزيادات عن غيرها. 2. وضوح خطها وجودته. 3. قلة أخطائها، خاصة اللغوية والإملائية، التي تكثر في غيرها. النسخة الثانية، ورمزها (ب) . - مكان وجودها: هي موجودة بالمكتبة السعودية بالرياض، قسم المخطوطات، برقم 55/86، عقائد. كما توجد أيضاً في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، المملكة العربية السعودية، قسم المخطوطات، برقم (ف 6/15 س) . فهو ضمن مجموع، أي رقم الفلم (6) ، وترتيب الكتاب في الفلم (15) . وهو مصور عن نسخة المكتبة السعودية بالرياض (1) . ويوجد نسخة منه في مكتبة الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة، قسم المخطوطات، برقم 21/214. - الناسخ: إبراهيم بن حسن الضبيب (2) . - تاريخ النسخ: سنة 1335هـ، كما هو واضح في الورقة الأخيرة عند النهاية،
في صفحة 237. وجاء في آخر الورقة الأخيرة: " ... ممليه إبراهيم بن حسن الضبيب، يبلّغ الجميع السلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. تمت هذه الرسائل بعون مولى الفضل والفضائل سبحانه جل عن ند وعن مماثل، فرحم الله مؤلفها وكاتبها والمطالع فيها، آمين ثم آمين. 28 شوال، 1335هـ" ا. هـ. - عدد أوراقها: 116 ورقة. أي 232، من (ص5 – 237) . - مسطرتها: 8، 24 X 16سم. - عدد الأسطر في كل صفحة: 23 سطراً. - عدد الكلمات في كل سطر: 13 – 15 كلمة. - خطها: نسخ معتاد جيد، بعض الكلمات في الأصل بلون أحمر، لون بعض الورق يميل إلى الصفرة قليلاً. - الملاحظات عليها: 1. هذه النسخة غير مكتملة؛ فقد سقطت من بدايتها ورقتان من صفحة (1-4) وهي من الرسالة الأولى. 2. سقطت منها رسائل رقم (6) (59) كما سقطت منها أربعة عشر رسالة في الأخير, س من رقم (62-75) . 3. مخالفتها الشديدة في ترتيب الرسائل فيها، عما في غيرها. فالرسائل المتقدمة في بقية النسخ إلى نصف مجموعها_ هي الأخيرة في هذه النسخة. 4. يوجد بها مسألة زائدة (حول عمل ختمة في ليلة مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-) وهي تأتي بعد نهاية الرسالة الأولى مباشرة، في ص12. 5. يوجد بها أخطاء إملائية، متشابهة، إلى حد كبير، بأخطاء النسخة (أ) .
6. يوجد بياض بالصفحة 34 كاملة. 7. يوجد ببعض الهوامش تصحيحات وتعليقات. النسخة الثالثة: ورمزها (ج) . - مكان وجودها: موجودة بالمكتبة السعودية بالرياض، قسم المخطوطات، تحت رقم (358/86) عقائد. كما توجد أيضاً في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، قسم المخطوطات، برقم (ف 40/13س) ، وهي مصورة عن نسخة المكتبة السعودية (1) . - الناسخ: لم يذكر، ولم أجد ما يشير إليه. - تاريخ النسخ: لم يذكر. وعلى الورقة الأولى: "لعله القرن الثالث عشر الهجري". وهذا هو المؤكد، بدليل وجود تمليك سنة 1297هـ, كما سيأتي في السماعات التالية، فيكون النسخ قبله. -السماعات الموجودة عليها: يوجد على الورقة الأولى سماع واحد، وهو عبارة عن مالك النسخة، يليها عدد من تمليكات: التمليك الأول: وهو تمليك مؤرخ سنة (1310هـ) ومشطوب، ونصه: "تملّكه بفضل ربه المنان، صالح بن محمد بن عجلان، بالشراء الشرعي، بحضرة الإخوان/ (2) / وصالح البنيان (3) ، والله خير شاهد، سنة 1310هـ".
تمليك ثان: ثم جاء تحته مباشرة تمليك مؤرخ سنة (1314هـ) وهو مشطوب أيضاً ونصه: "ثم انتقل إلى ملك الفقير إلى ربه المنان، عبده عطية بن سليمان، بالشراء الشرعي، وذلك سنة 1314هـ" (1) . تمليك ثالث: يوجد تمليك ثالث وهو لمالك النسخة، مؤرخ سنة (1321هـ) : ونصه: "الحمد لله وحده وبعد: فقد منّ الله الملك المعبود، بملك مجموع هذه الرسائل، على عبده الفقير المذنب المقر المعترف بالذنوب والتقصير، الراجي عفو اللطيف الخبير، عبده عيسى بن حمود آل مهوس، بالشراء الشرعي سنة (1321هـ) . تمليك رابع: جاء في هامش صفحة (224) وهي الصفحة الأخيرة من النسخة، ذكر لأقدم تمليك لهذه النسخة ونصه: "في ملك الفقير إلى الله سبحانه وتعالى، عبد الله بن أحمد / (2) / غفر الله له ولوالديه وللمسلمين. وصلى الله على محمد وسلم. سنة (1297هـ) ". - عدد أوارقها: (128) ورقة، أي (256) صفحة. - مقياسها ومسطرتها: 24 X 17.5سم. - عدد الأسطر في كل صفحة: 25. - عدد الكلمات في كل سطر: 13-14. - خطها: نسخ حسن.
- الملاحظات عليها: 1- النسخة ناقصة من آخرها، فهي تنتهي برسالة رقم (58) من مجموع الرسائل البالغ عددها (74) . كما أنها تنتهي مع نهاية صفحة (224) ، أما بقية الصفحات من (225-255) فهي تكرار لبعض رسائل تقدمت في نفس النسخة. * فمن صفحة (225-243) ، تكرار لرسالة تقدمت في صفحة (151-163) . * ومن صفحة (244-255) آخر النسخة، تكرار للرسائل من صفحة (206-223) من النسخة. وذكر في هامش هذه الصفحات المكررة: "وقف لوجه الله تعالى، على يد عيسى آل مهوس (1) ، إن شاء الله تعالى". 2- نسخة حسنة، يوجد ببعض الهوامش تعليقات وتصويبات. 3- رؤوس فقراتها أكبر، وبعضها بالحمرة (في الأصل) دون النسخة المصورة. 4- في صفحتها (224) زيادة مسألة في "بيع النخل بالدين الحال الذي في الذمة قبل قبضه". 5- يوجد طمس لبعض الأسطر في بعض الصفحات مثل صفحة 195، 196، 221. النسخة الرابعة: ورمزها (د) . - مكان وجودها: هي موجودة بمكتبة الجامعة الإسلامية المركزية بالمدينة المنورة، قسم المخطوطات، تحت رقم الفلم (5229) ، العقيدة.
- الناسخ: عبد العزيز بن محمد بن منيع (1) . وهو في السماع أول المخطوطة كما يأتي. - تاريخ النسخ: 1310هـ. - ويوجد في لوحة (96) رسم لسنة 1291هـ، عند نهاية أحد الرسائل (2) . - السماعات الموجودة عليها: جاء على الورقة الأولى بعد اسم الكتاب سماع واحد، وهو عبارة عن مالك النسخة وكاتبها: "في ملك من كتبه لنفسه عبد العزيز بن محمد بن منيع، غفر الله له ولوالديه وإخوانه المسلمين. وصلى الله على محمد، سنة 1310هـ". - عدد أوراقها: 119 ورقة، أي (238) صفحة. - مقياسها ومسطرتها: لا يوجد. - عدد الأسطر في كل صفحة: 29. - عدد الكلمات في كل سطر: 12-13. - خطها: نسخ لا بأس به. - الملاحظات عليها: يوجد على هذه النسخة ملاحظات عدة، منها: 1. اشتمالها على كثرة الأخطاء، اللغوية والإملائية، فلا تدانيها في هذا نسخة من النسخ الموجودة لدي. فمن أخطائها الإملائية على سبيل المثال: - لفظ [ابن] مرسوم مع ألفه بين علمين، هذا في النسخة كلها.
- لفظ [الموالات والمعادات] بتاء مفتوحة. وكذلك التبديل بين التاء المفتوحة والمربوطة في الكلمات المنتهية بها؛ مثل: [جفاة جفات/ جهات جهاة] . - كل لفظ منتهٍ بهمزة مثل (الأهواء) يقلب آخرها ألفاً مقصورة (الأهوى) . - التبديل بين الضاد والظاء في كثير من الكلمات التي ورد فيها هذان الحرفان؛ مثل: [أضهره، ضنّ الضالم/ بدلاً من: أظهره، ظنّ، الظالم] ، ونحو: [الفاظل، حاظر، ظرره/ بدلاً من: الفاضل، حاضر، ضرره] . - القطع بين أجزاء الكلمة؛ فكثير من الكلمات يكتب أولها في آخر السطر، والجزء الأخير منها في أول السطر التالي؛ مثل: [الموالات/ الإقامة/ كان/ قا ل/ ذالك/ يش رع] وهكذا. 2. يوجد بعض التصويبات في هوامش بعض الصفحات.
ب- النسخة المطبوعة أولاً: عدد الطبعات: طبعت رسائل الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- وفتاواه متفرقة في الكتب المشتملة على الرسائل النجدية، فجاءت بعض رسائله في الدرر السنية (1) ، وفي الهدية السنية (2) ، وفي بعض أجزاء مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (3) . ثم طبعت بعض هذه الرسائل مجموعة، بعد أن خصص جامع الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث من المجموعة، لهذه الرسائل الواردة في المخطوطة التي بين أيدينا. وتشتمل الطبعة كلها على خمسة أجزاء، طُبعت طبعة واحدة، وصوِّرت تلك الطبعة مرتين، وإليك فيما يلي وصف النسخة المطبوعة.. ثانياً: وصف النسخة المطبوعة. الطبعة الأولى: - طابعها: طبعت هذه الرسائل للمرة الأولى، بمطبعة المنار، بجمهورية مصر العربية، على نفقة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، رحمه الله، وقد جعل الكتاب وقفاً لله تعالى (4) .
- سنة الطباعة 1349هـ، كما هو على غلاف الطبعة الثالثة. وفي مشاهير علماء نجد وغيرهم ص105، 112، ذكر أن الطبعة الأولى كانت في سنة 1346هـ. - عدد صفحاتها: عدد صفحات الجزء الثالث الخاص برسائل الشيخ عبد اللطيف (455) صفحة. النشرة الثانية: (مصورة من الطبعة الأولى) . - الناشر: وقد أعيد طباعة هذا الكتاب، للمرة الثانية، وقام بنشره مكتبة الإمام الشافعي، بالرياض، المملكة العربية السعودية. وهو تصوير عن الطبعة الأولى، على نفقة المحسن الكبير الشيخ على بن فهد بن هزّاع. قال الشيخ عبد السلام بن برجس في مقدمة الطبعة الثانية: "ليعلم بأن هذه الطبعة مصورة عن الطبعة الأولى، التي علق عليها وأشرف على طباعتها، الشيخ العالم العلامة المحقق محمد رشيد رضا، رحمه الله. وقد صوّبنا الأخطاء المطبعية المرفقة في أول كل مجلد من الطبعة الأولى، ووضعنا فهرساً تحليلياً للمسائل الموجودة في الرسائل الشخصية والاستفتاءات، مرتباً على الكتب والأبواب، قام به بعض طلبة العلم، وفقهم الله تعالى" (1) . - سنة النشر: 1408هـ. - عدد صفحاتها: 455 صفحة. النشرة الثالثة: (مصورة من الطبعة الأولى) . الناشر: دار العاصمة، الرياض، بالمملكة العربية السعودية. وقد صدر الإذن بإعادة طباعة هذا الكتاب، من الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد، بالمملكة السعودية، برقم 621/5، وتاريخ 4/6/1409هـ. سنة النشر: 1412هـ.
- عدد صفحاتها: 455 صفحة. - الملاحظات عليها (1) : تتمثل معظم الملاحظات في النسخة المطبوعة، في (الزيادة والإسقاط والتبديل) في العديد من الكلمات. فلا أدري أكذلك كانت هذه النسخة التي اعتمد عليها الناسخ لهذا المطبوع، أم أن ذلك كان تصرفاً من الناسخ، في محاولته تقريب الألفاظ لفهم القراء؟! وعلى كل حال، يمكن الإشارة إلى ما فيها من ملاحظات، على النحو التالي: أ: زيادة كلمات أو حروف؛ مثل: - في 3/30: (فقال شيخ الإسلام) بزيادة فاء في الأول. - في 3/53: (في تفسيرها وتأويلها) بزيادة كلمة: تفسيرها. ب: إسقاط بعض الكلمات؛ مثل: - في 3/37: (أشرت فيه) بدلاً من (أشرت لك فيه) بإسقاط (لك) . - في 3/40: (الذي أظهر الفتوى) بدلاً من: (الذي أظهر هذه الفتوى) . - في 3/47: (بحقيقة الإسلام وقواعده) بدل: (حقيقة الإسلام وقواعده الكبار) . جـ: التبديل بين الكلمات، مثل: - في 3/26: (فمن عرف غول هذا الكلام) بدلاً من: غور. - في 3/53: (ببلد الشرك) بدلاً من: بدار الشرك. - في 3/48: (ومحو أساسه) بدلاً من (ومحو آثاره) .
يوجد في آخر الكتاب رسالة زائدة، أرسلها في الرد على عبد اللطيف الصحاف. قال جامع الرسائل في الهامش: "جاءتنا هذه الرسالة منفردة، فألحقناها بالمجموع، وجعلناها خاتمة له". وهي من ص430-452، وقد تناولتها وألحقتها بالرسائل المحققة. وقد طبعت هذه الرسائل أيضاً في مطبعة أم القرى، بمكة المكرمة، تحت اسم (الرسائل المفيدة) ، على نفقه الشيخ أحمد بن إبراهيم بن مقيّل -رحمه الله- وجعلها وقفاً لوجه الله (1) .
الفصل الثاني: دراسات تقويمية للكتاب
الفصل الثاني: دراسات تقويمية للكتاب المبحث الأول: منهج المؤلف في الكتاب ... المبحث الأول منهج المؤلف في الكتاب نظراً لعدم كون هذه الرسائل، من جمع المؤلف نفسه في كتاب مستقل، بل من أحد تلاميذه؛ فإن الكتاب لا يوجد فيه ما يصرِّح بمنهج مؤلفه، الذي سار عليه. لكننا بعد قراءة الكتاب، نستطيع استنتاج منهج المؤلف على النحو التالي: أولاً: يعتمد الشيخ في كتاباته على مادة مأخوذة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال سلف الأمة من الصحاب والتابعين ومن تبعهم من أئمة الدين، عليهم رحمة الله. ثانياً: أسلوب الشيخ في الرسائل يمتاز بالاحترام لمن يرسل إليه، والتأدب الشديد معه في الألفاظ، حتى وإن كان من تلاميذه، أو من بعض خصومه الذين يخالفونه الرأي. وهذه شيمه العلماء الأجلاء. ثالثاً: مخاطبة الخواطر، ومراعاة أقدار الناس الذين يراسلهم؛ فنجده في جوابه الذي ردّ به على الجهمي الذي كابر وتعالى، وأظهر معرفته بما تحدى بها الشيخ من الأسئلة (1) ، نجد الشيخ -رحمه الله- قد نقل كلام السائل بحروفه على ما فيه من التحريف واللحن اللغوي؛ ليعتبر الناظر، ويعلم قدر السائل، ثم أخذ يصحح عبارات السائل، مع إبطال أسئلته بالأجوبة الدامغة.
رابعاً: في الاستدلال على المسائل، يسرد أدلة من الكتاب، ومن السنة النبوية المطهرة، ثم يذكر أقوال السلف الصالح، وأئمة الدين. ويذكر أحياناً محل الشاهد من الآية أو الحديث (1) ، وقليل من الأحاديث يستدل بمعانيها. خامساً: الاعتناء بسلامة اللغة، وذلك يعود إلى ما كان عليه من درجة علمية عالية؛ فهو عالم عصره، وشيخ مشايخ زمنه، فنجده في الرسالة الحادية والأربعين (41) ، يعتني بتوضيح مسائل وألفاظ لغوية، وبلاغية. سادساً: اعتنى بيان عقيدة السلف الصالح، فنجده في الرسالة السبعين (70) قد نقل عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وبين ما دعا إليه الشيخ من أركان الإسلام وشعب الإيمان، وترك جميع أنواع الشرك والابتداع. سابعاً: أفرد باب الأسماء والصفات برسالة خاصة، وهي (63) بين فيها ما يجب الإيمان به واعتقاده في هذا الباب. ثامناً: أن فتاواه تسير على طريقة السلف الصالح، من حيث الاعتدال والتوسط في المسائل، بعيداً عن التشدد في الفتوى، من غير مجانبة الحق. ومن اطلع على موقفه في مسألة التكفير، في الرسالة رقم (1) ، علم قدره، ومدى موافقته لمذهب السلف الصالح في ذلك. وهكذا في بقية المسائل. ذلك بعض النقاط المستنبطة، مما كان عليه منهجه في رسائله، رحمه الله.
المبحث الثاني: مصادره
المبحث الثاني مصادره تشمل المصادر التي اعتمد عليها الشيخ في كتابة رسائله، الأمور التالية: 1- القرآن الكريم: فقد كان يستدل بآيات من كتاب الله، في أجوبته على المسائل التي كانت ترده، وكذلك في فتاويه، ونصائحه. 2- الأحاديث النبوية الشريفة: كان -رحمه الله- يستمد أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في استدلالاته على المسائل، من كتب السنة المعتمدة، وبتتبع الأحاديث التي استعملها، نجدها مأخوذة من الصحيحين، ومن كتب السنن؛ كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرها. 3- مؤلفات أئمة السلف الصالح: فقد اعتمد على كثير من كتب علماء السلف، وأئمة الدعوة؛ من ذلك ما يلي: كتب التفسير: وهي ما اعتمد عليها في تفسير الآيات من كتاب الله، التي كان يستدل بها؛ ومن تلك التفاسير: 1- تفسير أبي السعود، [328] . 2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري (ت 310هـ) ، [191] . 3- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (ت 774هـ) . - كتب أخرى: 4- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) .
5- الفتاوى المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) ، [ص 218] . 6- منهاج السنة النبوية، لابن تيمية [271] . 7- كتاب الإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [221] . 8- بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة (وهو السبعينية) ، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [398] . 9- الرسالة السنية، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم، [707-708] . 10- الحوادث والبدع للطرطوشي (ت 205هـ) ، [664] . 11- نونية ابن القيم (الكافية الشافية) ، لابن قيم الجوزية (751هـ) ، [178] . 12- مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية (751هـ) ، [193] . 13- زاد المعاد في هدي خير العباد، [247] . 14- الزواجر عن اقتراف الكبائر، لابن حجر الهيتمي (ت 974هـ) ، [175] . 15- الإعلام بقواطع الإسلام، لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، [175] . 16- سير أعلام النبلاء للذهبي (ت 748هـ) ، [399] . 17- تبيين المحارم المذكورة في القرآن، للشيخ سنان الدين يوسف الأماسي الحنفي، [721] . 18- كشف الكربة في فضل الغربة. 19- نيل الأوطار منتقى الأخبار، للشوكاني، [242] . 20- كتاب الاستغاثة أو الرد على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [605-624] . 21- بدائع الفوائد، لابن القيم، [329] . 22- الإقناع [720] . وغير ذلك من الكتب التي كانت معتمدة في رسائله.
المبحث الثالث: قيمة الكتاب
المبحث الثالث قيمة الكتاب يعد هذا الكتاب المؤلف من مجموعة رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ضمن أفضل كتب في باب العقيدة، ويحتل مكانة متقدمة بين كتب علماء الدعوة؛ وذلك للأمور الآتية: أولاً: أن هذا الكتاب حافل بدرر المسائل وغرر الفوائد؛ فرسائله؛ محتوية على مسائل عقدية، وتعالج قضاياها، بأحسن أسلوب، وأدق استدلال؛ فما تحتويه من مواضيع العقيدة قلما تجده على هذا النسق في غيره من الكتب المصنفة في هذا الباب (1) . ثانياً: هذه الرسائل تزيل كثيراً من الشبهات التي يلفقها أعداء الدعوة السلفية، والملة المحمدية، ويحاولون بها الصد عن سبيل الله. ثالثاً: أنه قد كان لهذه الرسائل دور كبير في عصر المؤلف؛ حيث إنه استخدمها كأسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، كما يظهر ذلك جلياً في مضمونها. ويُعد هذا المنهج الدعوي امتداداً لمنهج أبيه وجده قبله؛ فقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يراسل أهل عصره معلماً وموضحاً لهم ما يحتاجون إليه من مسائل الدين، كما كان لوالد المؤلف رسائل من هذا القبيل، طبعت تحت عنوان "المراسلات" التي قال جامعها في مقدمتها: "ففي تلك الفترة أخذت المراسلات مأخذها لتجديد النصح والمشاورات والإجابة على الاستفتاءات، وهذه المراسلات امتداد لسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي كتب الرسائل يدعو فيها الملوك إلى الدخول في دين الله". كان لهذه الرسائل أيضاً دورها في تثبيت دعائم الحكم لآل سعود، الذين تعاهدوا
على مناصرة هذه الدعوة وتعاقبوا على ذلك. رابعاً: أن مؤلفه -رحمه الله- من قلائل علماء أهل السنة والجماعة، أئمة الدعوة النجدية, الذين حازوا ثقة العلماء قبل التلاميذ، وشهد لهم التاريخ بالجهد والجهاد، من أجل إعادة الدعوة السلفية الصحيحة إلى مجراها الطبيعي، وإقامتها في هذا البلد العزيز، الذي منه انطلقت من جديد، تجاه دول العالم المتفرقة. فمن الطبيعي أن يكون كتابه ذا أهمية كبرى، وقيمة رفيعة، في المجتمعات المسلمة. إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على قيمة هذا الكتاب. وبهذا ينتهي القسم الأول (الدراسي) ، ويليه القسم الثاني المشتمل على تحقيق النص. نسأل الله أن يوفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأن يفعنا بما علمنا ويزيدنا علماً.
القسم الثاني: تحقيق النص
القسم الثاني: تحقيق النص مقدمة جامع الكتاب ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة جامع الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين،/ (1) وعليه نتوكل ونعتمد، ولا حول ولا قوة إلا بالله /. الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فإن هذه الرسائل الساطعة المفيدة، والأجوبة القاطعة السديدة، قد اشتملت على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة، إذا سرح العالم النحرير إنسان نظره، في غوامض معانيها، وأسام (2) ثاقب فكره في مطاوح (3) مروجها ومبانيها، وورد من نمير (4) معينها الصافي البحور الزاخرة، وارتوى من سلسال لطائف تلك المعارف والعلوم الفاخرة، علم أن هذا الإمام قد حاز قصب السبق في الفروع والأصول (5) , واحتوى منها على ما سمق (6) وسبق به الأئمة الفحول، وأنه قد أمّ إلى هام العلى فعلا ذُراها، وسما من العلوم النبوية إلى
علالي معالمها وعلاها، فرحمة الله عليه من إمام بلتع (1) ، وفاضل فصيح مصقع (2) ؛ فقد تبحر في جميع فنون العلوم، وبلغ شأو (3) المتنبي (4) في رصانة المنثور والمنظوم. وهذه رسائله تطلعك على ما هنالك، وثواقب علومه يهتدي بها السائر عن سلوك معاطب المهالك (5) . فيا من هو العالي على كل خلقه ... وسوى السماوات العلى وبناها وكان لها -سبحانه جل- ممسكاً ... بغير عماد في الوجود تراها وزين أدناها بشهب ثواقب ... مصابيح في ديجورها (6) ودجاها (7) وأطدّ بالأطواد (8) أرضاً بسيطة ... وأحكمها -سبحانه- ودحاها بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى ... أذقه من الفردوس طيب جناها وأول الرضا هذا الإمام الذي له ... مآثر يزهو في الأنام سناها وبوئه في الفردوس والخلد منزلاً ... وألبسه من أثوابها وحُلاها فقد قام في نصر الشريعة جاهداً ... ولم يأل جهداً (9) في ارتفاع ذراها ورد على من ندّ من كل ملحد ... عن السنة الغرا ورام خفاها وقد شُيِّدت أركان سنة أحمد ... رسائله اللاتي أضاء ضياها
فأشرف منها الحق للخلق ناصعاً ... وأعشى عيون الملحدين سناها وأجدر وأجوبة/ تسمو (1) / وتسمق بالهدى ... لأسئلة قد أشكلت فجلاها يضئ لأهل الحق منها نواشر ... يفوح عبير المسك طيب شذاها إذا أرسل النحرير ثاقب فكره ... يفيح معانيها وشأو ذُراها أقرّ له بالفضل والعلم والحجا ... وإن قد تسامى للعلى فعلاها (2) وهذا نص الموجود من الرسالة (3) :
الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع
الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع الرسالة الأولى: إلى عبد العزيز الخطيب مدخل ... أولاً: الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع الرسالة الأولى (1) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى عبد العزيز الخطيب (2) ، سلام على عباد الله الصالحين، وبعد: فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت الإنكار على من يكفر المسلمين في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد (3) من تكفيركم أهل الحق (4) واعتقاد إصابتكم، إنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك
...................................................................
...................................................................
...............................................................
..............................................................
.........................................................
من أهل النقيع يجادلونك وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالباً على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير، فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن سبيل الرشاد والعمى.
وقد رأيت سنة أربع وستين ومائتين وألف (1) ، رجلين من أشباهكم المارقين بالإحساء، قد اعتزلوا الجمعة والجماعة، وكفروا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم؛ يقولون: أهل الإحساء يجالسون بن فيروز (2) ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده (3) ، الذي يرد دعوة الشيخ محمد (4) ، ولم يقبلها وعاداها، قالوا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت، ومن جالسه فهو مثله. ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام (5) ، حتى تركوا رد السلام. فرفع إليّ أمرهم، فأحضرتهم وتهددتهم، وأغلظت لهم القول، فزعموا أولاً أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، ودحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر،
والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر (1) كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة (2) يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك. وقد أفرد ابن حجر (3) هذه المسألة بكتاب سماه "الإعلام بقواطع الإسلام" (4) . وقد أظهر الفارسيان المذكوران، التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين. نعوذ بالله من
الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور (1) ، وقد بلغنا عنكم / نحو (2) / من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة (3) ، والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايات، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات. والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزقه الله الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب. والكلام في ذلك يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيرها لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها؛ فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة موانع الخطاب وتفاصيله، يحصل به شيء من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كافيته: فعليك بالتفصيل والتبيين (1) ... فالإطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا (2) هذا الوجود وخبطا (3) ... الأذهان والآراء كل زمان (4) وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفِّرات أهل الإسلام، فهذا مذهب الحرورية (5) المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري (6) وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام (7) ، فأنكرت الخوارج (8) عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا حكّمت
الرجال في دين الله (1) ، وواليت معاوية وعمراً، وتوليتهما، وقد قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} (2) وضربت المدة بينكم وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت (3) (براءة) (4) . وطال بينهم النزاع والخصام حتى غاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب عليّ (5) ، فحينئذٍ شمر لقتالهم، وقتلهم (6) دون النهروان (7) بعد الإعذار والإنذار،...........................
والتمس المخدج (1) المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن (2) .
فوجده علي، فسُرَّ بذلك وسجد شكراً لله على توفيقه، وقال: "لو يعلم الذين يقاتلون ماذا (1) لهم على لسان محمد، لنكلوا عن العمل، هذا، وهم/من/ (2) أكثر الناس عبادة /و/ (3) صلاة وصوماً.
فصل في معنى الظلم والمعصية والفسوق والفجور
فصل في معنى الظلم والمعصية والفسوق والفجور ... فصل ولفظ الظالم والمعصية، والفسوق والفجور، والموالاة والمعاداة، والركون والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق
وحقيقتها المطلقة، وقد يراد مطلق الحقيقة (1) والأول (2) هو الأصل عند الأصوليين والثاني (3) لا يحمل الكلام عليه، إلا بقرينة لفظية أو معنوية؛ وإنما يعرف معنى لفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور. ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية (4) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (5) .
وكذلك اسم المؤمن والبر والتقي، يراد به عند الإطلاق والثناء (1) ، غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي (2) ، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم, يدخلون في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} (3) ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} (4) ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (5) . ولا يدخلون في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (6) ، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (7) وله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (8) . وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق بالإيمان والبر، وفي الحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن)) (9) وقوله: ((لا يؤمن من لا
يأمن جاره بوائقه)) (1) (2) . لكن نفي الإيمان هنا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسوله (3) ، وهذا هو الذي فهمه السلف وقرروه في باب الرد على
الخوارج (1) ، والمرجئة (2) ، ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا، فإنه مضلة الأفهام، ومزلة الأقدام.
أما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين (1) ؛ كحب الله ورسوله (2) ، والجهاد في
سبيله (1) ، ورجحان الحسنات (2) ومغفرة الله ورحمته (3) ، وشفاعة المؤمنين (4) ، والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة (5) . ولذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة، بجنة
ولا نار (1) ، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام والمطلق (2) ، والخاص المقيد (3) ، وكان عبد الله حماراً (4) يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله، فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى إلى رسول الله فقال النبي لا تلعنه؛
فإنه يحب الله ورسول)) (1) ، مع أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه (2) . وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة (3) ، وما فيها من الفوائد؛ فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله؛ لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله، إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله، ومسيره لجهادهم؛ ليتخذ بذلك يداً عندهم تحمي أهله وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره. موالاة الكفار المكفرة وما دونها وكان قد أعطي الكتاب/ ظعينة/ (4) فجعلته في
شعرها، فأرسل رسول الله علياً والزبير في طلب الظعينة (1) ، وأخبرهما أنهما يجدانها في "روضة خاخ" (2) فكان ذلك؛ وتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله، فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: (ما هذا) فقال: يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أنه تكون لي عند القوم يداً، أحمي بها أهلي ومالي. فقال صدقكم، خلوا سبيله) ، واستأذن عمر في قتله فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم) (3) . وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (4) . فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوصية السبب الدالة على إرادته، مع أنه في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل. لكن قوله صلى الله عليه وسلم ((صدقكم, خلوا سبيله)) (5) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل: ((خلوا سبيله)) . ولا يقال: قوله صلى الله عليه وسلم لعمر:
" ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " (1) . هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من إلحاق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (2) ، وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) , والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع، (فلا يظن) (4) هذا. وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (5) وقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (6) وقوله: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (7) ، فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة (8) . وأصل الموالاة هو الحب، والنصرة، والصدقة، ودون ذلك مراتب متعددة. ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من
الصحابة والتابعين، معروف في هذا الباب وفي غيره. وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعاني، وألبست الأحكام، على خلوف من العجم والمولدين (1) الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة بمعاني السنة والقرآن؛ ولهذا قال الحسن (2) -رحمه الله-: "من العجمة أتوا" (3) . وقال أبو عمرو بن العلاء (4) لعمرو بن عبيد (5) لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد أن هنا وعداً، والله لا يخلف وعده (6) ، يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب، بالنار
والخلود (1) ، فقال له ابن العلاء: من العجمة أُتيت، هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول الشاعر: وإني وإن أوعدته (2) أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز (3) موعدي (4) وقال بعض الأئمة، فيما نقل البخاري أو غيره، إن من سعادة الأعجمي والأعرابي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا،...............................................
وييسرا (1) لصاحب هوى وبدعة (2) . ونضرب لك مثلاً وهو: أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله، أحدهما خارجي (3) ، والآخر مرجئ (4) ، قال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (5) ، دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها (6) ؛ إذ لا قائل إنهم من عباد الله المتقين. قال المرجئ: هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك يقبل عمله (7) ، لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (8) . قال الخارجي: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (9) يرد ما ذهبت إليه. قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله، واتخاذ الأنداد معه، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (10) . قال الخارجي: قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} (11) ، دليل على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها.
قال المرجئ: قوله في آخر الآية: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (1) دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان. ومن وقف على المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضي، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله (2) ؛ لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم. وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأذواقهم. وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} (3) على بعض ما يجري من أمراء الوقت، من مكاتبة، ومصالحة، وهدنة لبعض /الرؤساء/ (4) الضالين، والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية، وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} (5) ،.........................
ولم يفقهوا المراد من الأمر /المعرف/ (1) المذكور في هذه الآية. وفي قصة صلح الحديبية (2) ، وما طلبه المشركون واشترطوه (3) ، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يكفي في رد مفهومكم، ودحض أباطيلكم.
الأصل الأول: أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية
الأصل الأول: أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية ... {فصل و /هنا/ (1) أصول: أحدها: أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد بيان السنة لأحكام القرآن من النصوص الواردة في كتاب الله، في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والفاجر والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر
بالصلاة على الوجه المراد في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها (1) . وكذلك الزكاة؛ فإنه لا يظهر المراد من الآيات الموجبة (2) ، ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها، من الأنعام، والثمار، والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته، إلا ببيان السنة، وتفسيرها، وكذلك الصوم، والحج، جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة. وكذلك أبواب الربا، وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواته الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) . فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة التنزيل والقرآن.
الأصل الثاني: أن الإيمان أصل له شعب متعددة
الأصل الثاني: أن الإيمان أصل، له شعب متعددة، كل شعبة فيها تسمى إيماناً، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (1) ، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزواله إجماعاً، كترك إماطة الأذى
عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين، شعب متفاوتة، منها ما يلحق شعب الإيمان بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها، مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف، الأمة وأئمتها. وكذلك الكفر أيضاً, ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان] (1) ، ولا يسوّى بينها في الأسماء والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف؛ وبين من سرق، أو زنى، أو انتهب، أو صدر منه نوع موالاة (2) ، كما جرى لحاطب. فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام, أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء.
الأصل الثالث: حقيقة الإيمان
الأصل الثالث: حقيقة الأيمان إن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو اعتقاده، وقول اللسان, وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو
قصده، حقيقة الإيمان واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه؛ وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة (1) . فإذا زال تصديق، القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية؛ وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والزكاة والحج، والجهاد, مع بقاء تصديق القلب وقبوله، فهذا محل خلاف: هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها، أو لا يفرق؟ فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو محبته، ورضاه، وانقياده، والمرجئة / تقول/ (2) : يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمناً. والخلاف في أعمال الجوارح (3) ، هل يكفر /أو/ (4) لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة، والمعروف عن السلف، تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج (5) .
(والقول الثاني) : أنه لا يكفر إلا من جحدها (1) . (والثالث) :الفرق بين الصلاة وغيرها (2) . وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب، التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها بين ما يصادم /أصل/ (3) الإسلام وينافيه (4) ، وما دون ذلك (5) ، وبين ما سماه الشارع كفراً (6) ، وما لم يسمه. هذا ما عليه أهل, الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها.
الأصل الرابع: أنواع الكفر
الأصل الرابع: أنواع الكفر ... الأصل الرابع: أن الكفر نوعان، كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله، جحوداً وعناداً، من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده، وعبادته، وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل، فمنه ما يضاد الإيمان، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي، وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل، لا كفر اعتقاد، وكذلك قوله /صلى الله عليه وسلم: (1) ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) (2) ، وقوله: ((من أتى كاهناً فصدقه, أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد/ صلى الله عليه وسلم / (3) (4) ، فهذا من الكفر العملي،
وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي، وسبه، وإن كان الكل يطلق عليه الكفر، وقد سمى الله /سبحانه/ (1) من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه, مؤمناً بما عمل به، /وكافراً/ (2) بما ترك العمل به. /قال/ (3) تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (4) . فأخبر -سبحانه- أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي (5) يضاده الكفر العملي (6) ، والإيمان الاعتقادي (7) يضاده الكفر الاعتقادي (8) . وفي الحديث الصحيح: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (9) /و/ (10) فرق بين
سبابه، وقتاله، وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به، والآخر/كفراً/ (1) ، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي، لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني، والسارق، والشارب، من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان (2) . وهذا التفصيل هو قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام، والكفر، ولوازمها، فلا تلقى هذا المسائل إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين: /فريق/ (3) أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار (4) ، و/فريق/ (5) جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان (6) . فأولئك غلوا, وهؤلاء جفوا، فهدى الله أهل السنة، للطريق المثلى، والقول الوسط (7) ، الذي هو في المذهب، كالإسلام في الملل (8) ، فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم. فعن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (9) ...............
قال: "ليس هو بالكفر (1) الذي تذهبون إليه" رواه عنه سفيان (2) ، وعبد الرزاق (3) (4) . وفي رواية عنه أخرى: "كفر لا ينقل عن الملة" (5) . وعن عطاء (6) : "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق" (7) . وهذا بيّن في القرآن لمن تأمله، فإن الله -سبحانه- سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً (8) ، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافراً (9) ، وليس الكافران على حد سواء. وسمى الكافر ظالماً،/كما/ (10) في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} (1) . وسمى من يتعد حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً (2) ، وقال {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3) . وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) ، وقال آدم عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} (5) ، وقال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} (6) . وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم، وسمى الكافر فاسقاً في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} (7) وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} (8) وسمى العاصي فاسقاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (9) ، وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (10) , وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (11) ، وليس
الفسق كالفسوق. وكذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر (1) ، وشرك لا أنواع الشرك والنفاق ينقل عن الملة، وهو الأصغر، كشرك الرياء (2) . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (3) ، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (4) ، وقال في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (5) . وفي الحديث: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (6) . ومعلوم أن حلفه بغير لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم
الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل)) (1) ، فانظر كيف انقسم الشرك والكفر، والفسوق والظلم، إلى ما هو كفر ينقل
عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل (1) . ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار (2) ، ونفاق العمل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم ((أربع من كن فيه كان منافقاً /خالصاً/ (3) ، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان)) (4) ، وقوله صلى الله عليه وسلم ((آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (5) . وقال بعض الأفاضل (6) : "وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا
استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى، وصام، وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً". انتهى (1) .
الأصل الخامس: لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا
الأصل الخامس: لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا ... الأصل الخامس (1) : أنه /لا/ (2) يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان /بالعبد/ (3) ، أن يسمى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً (4) ، وإن كان ما قام به /كفراً/ (5) ، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيهاً. وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في /حديث/ (6) : "اثنتان /بأمتي/ (7) هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت " (8) ، وحديث: ((من حلف بغير الله فقد كفر)) (9) ، لكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق. فمن عرف هذا، عرف فقه السلف، وعمق
علومهم، وقلة تكلفهم. قال ابن مسعود /رضي الله عنه/" (1) من كان متأسياً /فليتأس/ (2) بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، / وأقلها/ (3) تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم؛ فإنهم على الهدى المستقيم" (4) . وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما: الغلو، ومجاوزة, الحد, والإفراط. والثانية هي: الإعراض، والترك، والتفريط. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر شيئاً من مكايد الشيطان: قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر، إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر". وقد اقتطع أكثر الناس، إلا أقل القليل، في هذين الواديين: /واد/ (5) التقصير، /وواد/ (6) المجاوزة والتعدي، والقليل
منهم جداً، الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, -وعدّ رحمه الله- كثيراً من هذا النوع، إلى أن قال:- وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم، كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا (1) من الإسلام بالكبيرة الواحدة (2) . قال جامع الرسائل: هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والأدلة القواطع. وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم [تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. 19 ذي ... 1331هـ] (3) .
مسألة في من يعمل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم هل ذلك مسنون أو لا
مسألة في من يعمل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم هل ذلك مسنون أو لا ... مسألة1: فيمن يعمل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، هل ذلك مسنون أو2 أو لا؟ الجواب: الحمد لله، جمع الناس للطعام في العيدين وأيّام التشريق سنة، وهو من شعائر الإسلام التي سنّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين، وإعانة الفقراء بإطعامهم في شهر رمضان، هو من سنن الإسلام، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من فطّر صائماً فله مثل أجره"3 وإعطاء /قرّاء/4 القرآن ما يستعينون به على القرآن، عمل صالح في كل وقت، ومن أعانهم على ذلك كان شريكهم في الأجر. أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليلي شهر ربيع الأول، التي يقال إنّها ليلة المولد، أو بعض ليلي رجب، أو ثمان عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال، الذي يسمّيه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها5، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فائدة:1 ذكر في اختيارات الشيخ تقي الدين، كميّة التراويح، فقال: "التراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة، والشافعية، وأحمد، عشرين ركعة2، أو كمذهب مالك ستّاً وثلاثين، أو ثلاث عشرة، أو إحدى عشرة، فقد أحسن، كما نص عليه الإمام أحمد، لعدم التوقيف، فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره. ومن صلاّها قبل العشاء، فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة. ويقرأ أول ليلة من رمضان، في العشاء الآخر سورة القلم؛ لأنها أول ما نزل، ونقله إبراهيم بن محمد الحارث، عن الإمام أحمد، وهو أحسن مما نقله غيره، أنه يبتدئ بها التراويح" أ. هـ3.
مسألة في النوم في المسجد
مسألة: في النوم في المسجد، والكلام والمشي في النعال في أماكن الصلاة، هل يجوز ذلك أو4 لا؟ الجواب: أمّا النوم للمحتاج، مثل الغريب، والفقير الذي لا مسكن له، فجائزٌ، أمّا اتخاذه مبيّتاً
ومقيلاً، فينهون عنه. أمّا الكلام -الذي يحبه الله ورسوله- في المسجد فحسن، وأمّا المحرم، فهو في المسجد أشدُّ تحريماً، وكذلك المكروه. ويكره فيه فضول المباح. وأمّا المشي بالنعال فجائز، كما كان الصحابة يمشون في نعالهم في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن ينبغي للرجل إذا أتى المسجد، أن يفعل ما أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فينظر في نعليه، فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب1، فإنّ التراب لهما طهور، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الثانية: إلى إبراهيم بن عبد الملك
الرسالة الثانية: إلى إبراهيم بن عبد الملك تقديم جامع الرسائل ... الرِّسَالَةُ الثَّانِيََةُ1: قال جامع الرسائل وله2 أيضاً -قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة إلى الشيخ إبراهيم بن عبد الملك3، جواباً عن المسائل التي ستقف عليها قريباً- /إن شاء الله تعالى/4 وترى من لطائف التعريف، ورصانة التأليف أمراً عجيباً، وترد من نمير معينها، الصافي القراح5، ما يزيح صدى الإشكال، ويبعث الانشراح، خصوصاً ما ذكره في جواب المسألة الثانية، من البيان والإيضاح، من غائلة كلام هذا الجاهل، الذي لا يعقل ما به /بذر/6 وهذر7، من أنه حصل بهم8 راحة للناس، وعدم ظلم وتعدٍّ على الحضر9، وبيان أن الحكم المقيم للتجارة والتكسب في بلاد المشركين على التحقيق، حكمه وما يقال فيه، حكم المستوطن من غير /ما/10 تفريق، إذا كان
عاجزاً عن إظهار دينه، وكان عليه خطراً بالإقامة في يقينه، ولا تنفعه دعوى البغض والكراهة، مع التلبّس بتلك المنكرات، فإنّ ذلك لا يكفي في النجاة، وهذا نصها:
المسألة الأولى: الإنكار على من كفر أناسا شمتوا بانتصار أعداء المسلمين عليهم
المسألة الأولى: الإنكار على من كفر أناسا شمتوا بانتصار أعداء المسلمين عليهم ... بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن المكرم النجيب إبراهيم بن عبد الملك، سلّمه الله /تعالى/1، ورحم أباه، وزيّنه بزينة خاصته، /وأوليائه/2، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل الإنكار على من كفّر أُناساً شمتوا بانتصار أعداء المسلمين عليهم، شيء قدير. والخط وصل، وقد سَألْتَ فيه عن خمس مسائل: أُوْلاها: قولك: إنه وقع من بعض الإخوان تكفير من أحبّ انتصار آل شامر3 على المسلمين، وفرح بذبحهم، هل له مستند في ذلك أو4 لا؟ فالجواب: إنِّي لا أعلم مستنداً5 لهذا القول، والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام، من
غير مستند شرعي، ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة، وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال. والفرح بمثل هذه القضيّة قد يكون له أسباب متعدّدة، لا سيّما /و/1 قد كثر الهرج2، وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتدّ الكرب والبلاء، وخفي الحق والهدى، وفشى الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقلَّ المتمسك3 بالكتاب والسنة، بل قلَّ من يعرفهما، ويدري حدود ما أنزل الله من الأحكام الشرعية، كالإسلام والإيمان4،...................
والكفر والشرك والنفاق، ونحوها1، وقد جاء في الحديث: " من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما "2، فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه، دليل على جهل المكفِّر، وعدم علمه بمدارك الأحكام. وقد تأوّل أهل العلم ما ورد من إطلاق الكفر على بعض المعاصي، كما في حديث: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "3، وحديث: "لا ترجعوا بعدي كفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض "4، وحديث: " لا ترغبوا عن آبائكم، فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم "5، فهذا ونحوه تأوّلوه على أنّه كفر عملي، ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة، كما جزم به العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- وغيره من المحققين6،هذا مع أنه باشره عمل وفرح، وأطلق عليه الشارع هذا الوصف، فكيف بمجرد الفرح! وذكر عن الإمام أحمد –رحمه الله- /تعالى/7 أنه قال: "أمروا هذه النصوص
كما جاءت، ولا تعرضوا لتفسيرها"1. وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في الفتاوى المصرية أن السلف متفقون على عدم تكفير البغاة2، فكيف بمجرد الفرح. وقد قابل هذا الصنف من الإخوان، قومٌ كفّروا أهل العارض3، أو جمهورهم في هذه الفتنة، واشتهر عن بعضهم أنه تلا عند سماع وقعة آل شامر، قوله تعالى {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} 4، وعلّلوا بأشياء متعدّدة، من فرح، ومكاتبة وموالاة، وغير ذلك. والفريقان ليس لهم لسان صدق، ولا هدى، ولا كتاب منير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى-:" لا بد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها، أن يكون معه مباحث كليّة يردّ إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلاّ فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات"5، وأطال الكلام في الفريقين، بين المتأول والمتعمد، ومن قامت عليه الحجة، وزالت عنه الشبهة، والمخطئ الذي التبس عليه الأمر، وخفي عليه الحكم، وقرر مذهب علي بن أبي طالب، في عدم تكفير الخوارج، المقاتلين له، المكفّرين له، ولعثمان ولمن والاهما، رضي الله عنهما. ونقل قول علي لما سئل عن الخوارج: أكفّر هم؟ قال:"من الكفر فرّوا"6. وقوله:"إنّ لكم علينا أن لا نقاتلكم حتى
تبدؤونا1 بالقتال، ولا نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم حقاً هو لكم في مال الله"2. ومع هذا هم مصرحون بتكفيره، مقاتلون له، ومستحلون لدمه، فكيف بمجرّد الفرح. وقد ذكر في الزواجر: أن الفرح بمثل هذه المعاصي من المحرمات. ولم يقل إنه كفر3. ثم اعلم أنّ الفتنة في هذا الزمان بالبادية والبغاة، وبالعساكر الكفرة الطغاة، فتنة عمياء صماء، عمّ شرُّها، وطار شررها، ووصل لهيبها4 إلى العذارى في خدورهنّ، والعواتق وسط بيوتهنّ، ولم يتخلّص منها إلاّ من سبقت له الحسنى، وكان له نصيب وافر من نور الوحي، والنور الأول، يوم خلق الله الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، وما أعزّ/من يعرف/5 هذا الصنف، بل ما أعز من لا يعاديهم، ويرميهم بالعظائم، وأكثر الناس-كما وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فيما رواه كميل بن زياد6: " لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق"7.
ومجرد الانتساب إلى الإيمان والإخوان، والتزيّي بزيّ أهل العلم والإيمان، مع فقد الحقيقة لا يجدي. والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل1 الأقوام في الإصدار2
المسألة الثانية: في حظر الإقامة حيث يهان الإسلم ويعظم الكفر
المسألة الثانية: في حظر الإقامة حيث يهان الإسلم ويعظم الكفر ... وأما المسألة الثانية: فيمن يجيء من الإحساء -بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة1/على/2 أهل الإحساء- ممن يقيم فيه للتكسب أو التجارة، ولا اتخذه وطناً، وأنّ بعضهم يكره هذه الطائفة ويبغضها، يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك ولكن يعتقد أنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على/الحضر/3 إلى آخر ما ذكرت. في حظر الإقامة حيث يهان الإسلام ويعظم الكفر. فالجواب4: أنّ الإقامة5 ببلد يعلو فيها الشرك والكقر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج، ونحوهم،
من المعطلة للربوبية والإلهية، وترفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام، والتوحيد، ويعطّل التسبيح، والتكبير، والتحميد، وتقلع قواعد الملّة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويُشتم السابقون من أهل بدر، وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم، والحالة هذه، لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام، والإيمان، والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً؛ فإنّ الرضا بهذه الأصول الثلاثة قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة
لدينه، والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة، كلّ البراءة، والتباعد، كلّ التباعد، عمن تلك نحلته، وذاك دينه، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات، كما يعلم من تقرير شيخ الإسلام في كتاب" الإيمان" (1) . وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله (2) أنّه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال صلّى الله عليه وسلّم تعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين (3) " خرَّجه أبو عبد الرحمن النسائي (4) . وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام، ودعائمه/العظام/ (5) . وقد عرف من آية براءة أنّ قصد أحد/الأغراض/ (6) الدنيوية، ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله كما هو نص الآية (7) . والفسوق إذا أطلق ولم يقترن بغيره، فأمره شديد، ووعيده أشدّ وعيد.
وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها، وإظهار الطاعة، والانقياد، لأوامر من هذا دينه، وتلك نحلته! والتقرب إليه بالبشاشة، والزيارة، والهدايا، والتنوق (1) في المآكل، والمشارب، وإن زعم أنّ له غرضاً من الأغراض الدنيوية، فذلك لا يزيده إلا مقتاً، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية. وقد جاء القرآن العظيم بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد على مجرّد ترك الهجرة، كما في سورة النساء (2) ، وقد ذكر المفسرون هناك ما به الكفاية، والشفاء، وتكلم عليها شيخنا محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله /تعالى/ (3) - وأفاد وأوفى (4) . ودعوى التقية لا تجدي مع القدرة على الهجرة. ولذلك لم يستثن (5) الله تعالى إلا المستضعفين
من الأصناف الثلاثة (1) . وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه (2) ، والمقيم للتجارة والتكسب، والمستوطن، حكمهم، وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة، مع التلبس بتلك/الفضائح/ (3) ، فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم، وشرع، وفرائض، وراء ذلك كله. إذا تبين هذا، فالأقسام مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (4) . وأخبث هؤلاء وأجهلهم، من قال إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر (5) ، وهذا الصنف أضل القوم، وأعماهم عن الهدى، وأشدّهم محاداة لله، ورسوله، ولأهل الإيمان والتقلى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاءوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمن بها الإيمان النافع. والمسلم يعلم أن الراحة، كل الراحة، والعدل، كل العدل، واللذة، كل اللذة، في الإيمان بالله، ورسله، والقيام بما أنزل من الكتاب، والحكمة (6) ، وإخلاص الدين له، وجهاد أعدائه، وأعداء رسله، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم،
والفرح، واللّذة في الدور الثلاث، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (1) . ولو علم هذا المتكلم أنّ الشرك أظلم الظلم (2) ، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد، وأفحشه، لكان له مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق، قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ} (3) ، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (4) ، فجعل الخسار كله بحذافيره، في أهل هذه الخصال الثلاثة، كما يفيده الضمير المقحم بين المبتدأ والخبر (5) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (6) ، فهذا الفساد المشار إليه في هذه الآيات الكريمات، هو الفساد الحاصل بالكفر، والشرك، وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين. وبالجملة فمن عرف غور (7) هذا الكلام
أعني قول بعضهم إنّه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد /على الحضر/ (1) ، تبين له ما فيه من المحادة، والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد، والواجب على مثلك أن يجاهدهم بآيات الله، ويخوِّفهم من الله، وانتقامه، ويدعو إلى دينه، وكتابه. والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم (2) ،وهذا يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والله المستعان.
المسألة الثالثة: حكم تصرف الوالد في مال ولده الصغير
المسألة الثالثة: حكم تصرف الوالد في مال ولده الصغير ... وأما المسألة الثالثة: هل للوالد أن يتصرف في مال ولده الصغير بما ليس فيه مصلحة، أم هو أسوة غيره من الأولياء، ليس له النظر إلاّ ما فيه المصلحة؟ /فالجواب/ (1) : أنّ الواجب على كل من كانت له ولاية، أن يتقي الله فيها، ويصلح ولا يتبع
حكم تصرّف الولد في مال ولده الصغير. سبيل المفسدين. وفي الحديث: " كلّكم راعٍ، وكلّكم مسئول عن رعيّته " (1) ، بل يحرم على المكلف إضاعة مال نفسه، وإنفاقه في غير مصلحة (2) ،وهو من الإسراف، إلاّ أنّ الوالد ليس كغيره في العزل، ورفع اليد إذا ثبت رشده.
المسألة الرابعة: حكم تملك الوالد جميع مال ولده
المسألة الرابعة: حكم تملك الوالد جميع مال ولده ... وأما المسألة الرابعة: هل للوالد أن يمتلك جمع مال ولده الصغير، أو بعض ماله الذي يضر به، أم حكم الصغير حكم الكبير، يعتبر للتملّك من ماله، ما يعتبر للتملك من مال الكبير؟ وهل يفرّق بين الغني والفقير، أم الحكم واحد؟ حكم تملك الوالد جميع مال ولده. / فالجواب / (1) : أنّ للأب أن يتملّك من مال ولده ما شاء، صغيراً كان الولد أو كبيراً، غنياً كان الأب أو فقيراً (2) ، بشروط ستة مقررة في محلّها، منها:
أن لا يضرَّ بالولد ضرراً يلحقه في الحاجات الضرورية، كتملّك سريّته، ونحو ذلك. وأن لا يكون في مرض موت أحدهما. وألا يعطيه ولداً آخر. وأن (1) يكون عيناً /موجوداً/ (2) . وله الرجوع في الهبة إذا كانت عيناً باقية في ملك الابن، لم يتعلق بها حق أجنبي، ولا رغبة، كمداينة الأجنبي، وأن لا تزيد زيادة متصلة، وعنه الرجوع فيما زاد زيادة متصلة كالمنفصلة، وليس من جنس النماء –كما توهمه السائل- بل ذلك من التصرفات في الهبة (3) . رجوع الوالد في هبة ولده؛ وقد نص فقهاؤنا على أن كل تصرف للابن لا يمنعه من التصرف في العين، ليس بمانع للأب من الرجوع في هبته، والتصرف فيها، والنقص الحاصل بقلع الغراس وأخذ الحلية، لا يمنع الرجوع.
المسألة الخامسة: إذا كان لرجل على آخر دين مثل الصقيب يكون له الدين الكثير يصطلحان بينهما
المسألة الخامسة: إذا كان لرجل على آخر دين مثل الصقيب يكون له الدين الكثير يصطلحان بينهما ... وأما المسألة الخامسة: وهي إذا كان لرجل على آخر دين، مثل الصّقيب (1) يكون له الدين الكثير، يصطلحان /ينهما/ (2) ، على أن الدين يكون نجوماً (3) ... إلى آخر ما ذكرت. / فالجواب / (4) : إنّ هذا ليس بصلح، ولا يدخل في حدّ الصلح كما نص عليه الحجاوي (5) ، وغيره، بل هو وعدٌ، يستحب الوفاء به على المشهور. وكونه فيه /إرفاق/ (6) فذاك لا يغيّر الحدود الشرعية، ولا يدخل في مسمّى الصلح، كما لا تدخله، الهبة والعطية. والله أعلم. /تمّت ولله/ (7) الحمد والمنّة.
الرسالة الثالثة: إلى إبراهيم بن عبد الملك
الرسالة الثالثة: إلى إبراهيم بن عبد الملك ... الرِّسَالَةُ الثَّالِثََةُ (1) : قال جامع الرسائل وله/أيضاً-رحمه الله تعالى (2) -/ (3) ، رسالة في تحريم السفر إلى بلاد المشركين، والفرق بين البلاد التي هجم عليها الكافر الحربي، فاستولى عليها، واجتهد في هدم قواعد الإسلام، وطمس أصوله العظام كالإحساء، وبين غيرها من بلاد المشركين، ولو مع إظهار دينه، وهذا نصها (4) : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الإبن المكرم إبراهيم بن عبد الملك، سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو على نعمائه. والخط الذي سألت فيه عمّا نفتي به في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، قد وصل إلينا. والذي/كتبناه/ (5) حكم السفر إلى بلاد الأعداء من الكفار. للإخوان، به (6) كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عمّا عليه أهل الفتوى عند جماهير المتأخرين. نعم، فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو الكافر الحربي، المتصدي لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله، وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر
والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة، وهو العدو الذي اشتدّت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعزّ بدولته جانب الرافضة (1) ، والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين، والمنافقين فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة، لوجوه، منها: أنّ إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمّة متعذّر غير حاصل، كما هو مشاهد معلوم عند من خبر القوم، مع من يجالسهم، ويقدم إليهم. وقلّ أن يتمكّن ذو حاجة لديهم إلاّ بإظهار عظيم من الركون، والموالاة، والمداهنة. وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلاّ جاهل، أو مكابر، لا غيرة له على دين الله، وشرعه، ولا توقير لعظمته، ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات- لم يعرف حقيقتها، ولا يدري مراد الفقهاء منها- تُرساً يدفع به في صدور الآيات، والسنة، ويصدف به عن أهدى منهج، وسنن، فهو كحجر في الطريق بين السائرين إلى الله، والدار الآخرة، يحول بينهم وبين مرادههم، ويثبطهم عن سيرهم، وعزماتهم. وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدّين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلّت الأفهام، /واستبيحت/ (2) مساكنة عباد الأوثان، والأصنام، وافتُتِنَ بهم جملة الرِّجال، وقصدهم الركائب، والأحمال، وسار إليهم ربَّات الخدور، والحجال، عملاً بقول رؤوس الفتنة، والضلال، ولا يصل إلى الله، ويحظى بقربه، ويرد نمير التحقيق، وعذبه، مَنْ أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخداناً يرجع إليهم في أمر دينه، ومهمات أمره. وقد قال بعض السلف:" إنّ هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم" (3) .
ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينيّة، من غير ملكة ولا رويّة، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح، وقد قيل:" يفسد الأديانَ نصف متفقّه، ويفسد اللّسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبّب" (1) . فعليك بمعرفة الأصول الدينيّة، والمدارك الحكميّة، ولترفع همّتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبويّة، ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرت به سنن الأكثرين في الديانات؛ فقد قال بعضهم:" من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب" (2) . وما أحسن ما قال في الكافية الشافية: /لكن/ (3) نجا أهل الحديث المحض أت ... باع الرسول/وتابعوا/ (4) القرآنِ عرفوا الذي قد قال مَعْ علم بما ... قال الرسول فهم أولوا العرفانِ وسواهم في الجهل والدعوى مع ال ... كبر العظيم وكثرة الهذيانِ مدّوا يداً نحو العلى بتكلُّفِ ... وتخلُّفِ وتكبُّرٍ /وتوانِ/ (5) أترى ينالوها وهذا شأنهم ... حاشا العلى من ذا الزبون الفانِ (6) قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب /- رحمه الله تعالى-/ (7) ، في المواضع التي نقلها من السيرة:" إنه لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحّد الله، وترك الشرك- إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء" (8) . فانظر إلى تصريح الشيخ بأنّ الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء، فأين
التصريح من هؤلاء المسافرين، والأدلة، من الكتاب والسنة، ظاهرة متواترة على ما ذكره الشيخ؟ (1) وهو موافق لكلام المتأخرين في إباحة السفر لمن أظهر دينه (2) ، ولكن الشأن كل الشأن في إظهار الدين، وهل اشتدّت العداوة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش، إلا لما كافحهم بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم (3) ؟! وأي رجل تراه يعمل المطي جاداً في السفر إليهم، واللحوق بهم، حصل منه، ونُقِل عنه ما هو دون هذا الواجب. والمعروف المشتهر عنهم ترك ذلك كله بالكليّة، والإعراض عنه، واستعمال التقيّة، والمداهنة (4) . وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات، والبديهيات غنيّة عن البرهان. الوجه الثاني: إنّ قتال من هجم على بلاد المسلمين- من أمثال هؤلاء- فرض عين، لا فرض
كفاية، كما هو مقرر، مشهور (1) . فلا يحل، ولا يسوغ- والحالة هذه- تركه، والعدول عنه لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام، ومدارك الأحكام، ترد القول بإباحة ترك الفروض العينيّة، لأغراض دنيويّة. ومن عرف هذا، عرف الفرق بين مسألتنا، وبين عبارة من قال بجواز السفر لمن فدر على إظهار دينه بأدلّته، وبراهينه، لا يباح السفر إليهم (2) ؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلّته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتّى منه إظهار دينه والإعلان به، وكيف يظهره من لا يدريه، ولا إلمام له بأدلّته القاطعة للخصم ومبانيه. شعر:
فقر الجهول بلا علم إلى أدبٍ ... فقر الحمار بلا/عقل/ (1) إلى رسنِ (2) حتى ذكر جمْعٌ تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيه عقائد المبتدعة؛ كالخوارج، والمعتزلة (3) ، والرافضة، إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلّته، وأظهره عند الخصم. وقد عفت -أرشدك الله- أنّ الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقلّ مَنْ يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله تعالى، من موالاة أعدائه المشركين، ومعرفة أقسامها (4) ، وأنّ منها ما يكفر به المسلم،
و/منها/ (1) ما /هو/ (2) دونه، وكذلك المداهنة (3) والركون، وما حرم الله تعالى ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله، أو رِدَّتِه. وأين القلوب التي ملئت من الغيرة
لله، وتعظيمه، وتوقيره، عن كفر هؤلاء الملاحدة وتعطيلهم، وصار على نصيب، وحظ وافر من مصادمة (1) أعداء الله، ومحاربتهم، ونصر دين الله، ورسله، ومقاطعة من صدّ عنه، وأعرض عن نصرته، وإن كان الحبيب المواتيا، فالحكم لله العلي الكبير. وأين من يباديهم بأنّ ما هم عليه كفر، وضلال بعيد، ومسبّة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأنّ ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه وبصيرة في دينه؟ فسل أهل الريب والشبهات، هل يغتفر الجهل كله، والإعراض عنه علماً وعملاً، ويكتفي بمجرد الانتساب إلى الإسلام، عند قوم ينتسبون /إليه/ (2) أيضا، وهم من أشد خلق الله كفراً به، وجحداً له، ورداً لأحكامه، واستهزاء بحقائقه. فإن قالوا: يكتفي بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد على ما نقلوه، وأصّلوه من دليلهم، بالردّ والهدم. ومن حقق النظر، وعرف أحوال القوم، وسبر، علم أنّ معوّلهم على اتباع أهوائهم، والميل مع شهواتهم. نسأل الله لنا ولهم العافية. هواي مع الركب اليمانين مصعدٌ (3) ... أسير (4) وجثماني بمكة موثقُ (5) ومن هان عليه أمره تعالى فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هواه آثرٌ عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه، وقوله، وعمله، وسواه مقدّم في ذلك فما قدره حق قدره، وما عظّمه حق عظمته. وهل قدّره حق قدره من سالم أعداءه، الجاحدين له، المكذّبين لرسله! وأعرض عن جهادهم، وعيبهم، والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه
منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح، ولم يراع (1) ما وجب عليه من إجلال الله، وتعظيمه، وطاعته، جراءة على ربه، وتوثباً على محض حقه، واستهانة بأمره! خلافاً لأصحاب النبي وبدعة ... وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهل الوجه الرابع: أنّه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين من أمن الفتنة. فإن خاف بإظهار دينه الفتنة بقهرهم، وسلطانهم، أو شبهات (2) زخرفهم، وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم، والمخاطرة بدينه. وقد فرّ عن الفتنة من السابقين الأولين إلى بلاد الحبشة (3) مَنْ تَعلَمُ من المهاجرين؛ كجعفر بن أبي طالب (4) وأصحابه. وقد بلغكم ما حصل من الفتنة، على كثير ممن خالطهم، وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبّة من نهاهم عن ذلك، وأمرهم بمجانبة المشركين، ديناً يدينون به، ويفتخرون بذكره في مجالسهم، ومجامعهم. وقد نقل نقل ذلك عن غير واحد: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (5) . وبعض من رحل إليهم من جهتكم، حمل رسائلهم، ومكاتباتهم إلى أهل الإسلام، يدعونهم إلى الدخول تحت طلعتهم، ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك (6) كثيرٌ من الملإ. والله المستعان. وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم، والثناء عليهم، ونسبتهم إلى العدل،
وحسن الرعاية، إلى ما هو أعظم من ذلك وأطم، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين. ومن لم يشاهد هذا منكم، ولم يسمعه من قائله، قد بلغه وتحققه. فأجهل الخلق وأضلهم عن سواء السبيل، من ينازع في تحريم السفر إليهم، والحالة هذه، ويرى حله، وجوازه. الوجه الخامس: أنّ سدّ الذرائع، وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده (1) ،وقد رتّب العلماء على هذه القاعدة من الأحكام الدينيّة-تحليلاً وتحريماً- ما لا يحصى كثرة (2) ، ولا يخفى أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجديّة (3) -قدس الله روحه- لهذه القاعدة في كتاب التوحيد له، فقال: باب ما جاء في حماية المصطفى صلّى الله عليه وسلّم جناب التوحيد، وسدّه كل طريق يوصل إلى الشرك؛ وساق بعض أدلّة هذه القاعدة (4) . وقد قُرِئَت علينا في الرسالة المدنية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أنّ اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك. قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك (5) . ولو أفتينا
بتحريم السفر؛ رعاية لهذا الأصل فقط، وسداً للذرائع المفضية/إليه/ (1) ، لكنّا قد أخذنا بأصل أصيل، ومذهب جليل. الوجه السادس: أنا لا نسلم دخول هذه البلدة-التي الكلام بصددها- (2) في عبارة أهل العلم ورخصتهم؛ لأنّ صورة الأمر وحقيقته، سفر إلى معسكر العدو الحربي، الهاجم على أهل الإسلام، المستولي على بعض ديارهم، والمجتهد في هدم قواعد دينهم، وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل، وإعزاز جيوشه وجموعه. فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر (3) ، ومعسكر قريش يوم الخندق، ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر، لأنّ السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه؟! وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل، أو سفسطة (4) وضلال عن سواء السبيل؟! والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسن تبصرِ (5) وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، الذي قال فيه: قد جعلته (6) للناس إماماً،
من حديث أبي بكرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:" ينزل ناسٌ (1) من أمتي بغائط (2) يسمونه البصرة (3) ، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين - وفي رواية: المسلمين - فإذا كان آخر الزمان، جاء بنو قنطوراء (4) ، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى /ينزلوا/ (5) على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبريّة (6) وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم،
و (1) هم الشهداء " (2) . والحديث وإن كان في سنده سعيد بن جهمان (3) ، فقد وثقه /ابن معين (4) ، وحسبك به، ووثقه/ (5) أبو داود، الذي أُلين له الحديث، كما ألين لداود الحديد (6) . فقسّمهم ثلاث فرق، وأخبر أنّ من أخذ لنفسه، وألقى السلم، وترك الجهاد، فقد كفر؛ ومن أعرض عن جهادهم، وتباعد عنهم مقبلاً على إصلاح دنياه وحرثه، فقد هلك، ولم ينج إلاّ من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله. كما يستفاد من الجملة الإسمية المعرّفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر (7) .
والحصر، وإن كان ادّعائياً، فهو يدلّ على شرف هذا الصنف وفضيلته. والحديث، وإن تأوّله بعضهم في حادثة التتر في القرن السابع (1) ، فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأنّ له ذيولاً وبقيّة. ولا ريب أنّ /هذا/ (2) الذي حصل في هذا الزمان، إن لم يكن منها /ومن ذيولها/ (3) ، فهو شبيه بها من كل وجه. فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه ... أخوها غذته أمه بلبانها (4) وقد قال شيخ الإسلام/-رحمه الله-/ (5) في اختياراته: من جمز (6) إلى معسكر التتر ولحق بهم، ارتدّ، وحلّ مله ودمه (7) . فتأمل هذا، فإنه-إن شاء الله تعالى (8) يزيل عنك إشكالات كثيرة، طالما حالت بين القوم، وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم من نصوصهم، وصريح كلامهم. ثم اعلم أنّ النصوص الواردة في وجوب الهجرة، والمنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها، ووجوب التباعد عن نصوص في منع الإقامة بين أظهر المشركين. عامة مطلقة (9) ، وأدلة قاطعة محققة، ومن قال بالتخصيص
والتقييد لها، إنّما يستدلّ بقضايا عينيّة خاصة، وأدلّة جزئيّة لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة /للتخصيص والتقييد/ (1) ن ومن قال بالرخصة، لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة، المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم، أن يقيس حكماً على حكم، وفرعاً على فرعٍ، وقضيّة على قضيّةٍ. والمنازع له يتوقّف في صحة هذا القياس؛ لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق. وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني (2) جزم فيما كتبه على" المنتقى"، بردّ قول الماوردي (3) ، بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره. قال: وهذا القول معارض لعموم النص، فلا يسلم ولا يلتفت إليه (4) ، مع أن
الذي كتبناه في هذه المسألة، موافق للمشهور عند المتأخرين، لم نخرج عنه كما تقدّم ذكره. والقصد أن المسألة من أصلها فيها بحث قوي، ومجال للنظر، فإن بقي عليك إشكال فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة. وقد رأيت بخط الوالد- قدس الله روحه- ما نصه: شمّر إلى طلب العلوم ذيولا ... وانهض لذلك بكرة وأصيلا وصل السؤال وكن هديت مباحثاً ... فالعيب عندي أن تكون جهولا (5) وأما مسألة المبايعة، فلم يسألني عنها أحد ولم يتقدّم لي فيها كلام، وقد بسط شيخ الإسلام /ابن تيمية/ (6) /- رحمه الله تعالى-/ (7) الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومَنَع من بيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم (8) . وأما الكافر الحربي فلا مسألة بيع الكفار ما يستعينون به على المسلمين. يُمَكَّنُ مما يعينه على حرب أهل الإسلام، ولو بالميرة (9) ، والماء، ونحوه، والدواب، والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في حال الحرب، من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به (10) ، فكيف /ببيعهم/ (11) وإعانتهم على أهل الإسلام؟! فإن انضاف إلى ذلك ما
هو الواقع من المسافرين في هذا الزمان مما تقدم ذكره، فالأمر أغلظ وأفحش (1) ، وذلك /فرد/ (2) من وراء الجمع. وأكثر الناس يخفى علي أن المرتدين من أهل تلك الديار التي استولى عليها الكافر الحربي، أغلظ كفراً، وأعظم جرماً بجميع ما تقدم من الأحكام، ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم من المباسطة، والمؤانسة، والإكرام، ما هو أعظم مما مرّت حكايته، من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي، فافهم ذلك. والله المسئول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه، وكتابه، ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهر /دينه/ (3) على الدين كله، ولو كره المشركون. وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمين وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، آمين.
الرسالة الرابعة: إلى محمد بن علي آل موسى
الرسالة الرابعة: إلى محمد بن علي آل موسى ... (الرسالة الرابعة) (1) : قال جامع الرسائل وله أيضا – قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، وقد ذكر له –أعني محمد بن علي- من جهة فتوى الإمام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فيمن في حكم من يسافر إلى بلاد المشركين. يسافر إلى بلد المشركين، فشرح ووضح ما أفتى به والده، فكشف القناع عن محاسن معانيها، وقطع – بالوجوه الساطعة الأسارير، الراسخة مبانيها- جميع ما يتعلق به كل مبطل، وأزاح بما أبداه، غبار كل مشكل. وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم محمد بن علي آل موسى، سلّمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وسبق إليك خط مع البداة (2) ، أشرت لك فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ –قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام ورد علينا خط من ولد العجيري (3) ، ذكر فيه أنّ لفظ الوالد في جوابه، قوله:" وأما السفر إلى بلدان المشركين للتجارة، فقد عمّت به البلوى، وهو نقص في
دين من فعله (1) ؛ لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، فينبغي هجره وكراهته. وهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سبّ ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً. والمعصية إذا وُجدت أُنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها". انتهى ما نقله. وهذه العبارة -بحمد الله- ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل؛ لوجوه؛ منها: أنّ الذي وقع في هذه الأعصار -وكلامنا بصدده- أمر يجلّ عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة، منها: موالاة المشركين، وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وعرفتم أنّ مسمى الموالاة، يقع على شُعَب متفاوتة، منها ما يوجب الردّة وذهاب الإسلام بالكليّة، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات. وعرفتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (2) أنّها نزلت فيمن كاتب المشركين بسرِّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (3) ، وقد جُعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأنّ قلبه بالإيمان. وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس والحضر، وهذا واقع مشاهد تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربّما نقل بعضهم من
المكاتبات إلى أهل الإسلام ما يستفزّونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم، وصحبتهم، والانحياز إلى ولايتهم، فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدلّ بها على مثل هذه الحال، من أجهل الناس بمدارك الشر، ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم على أن الوطء لا يبطل صيامه. وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة، في رسالة ابن عجلان (1) ، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل الشرك عليها، وأهل التعطيل والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم، وإبطال الشرع بالكليّة، بمسألة خلافية في جواز الاستعانة بمشرك ليس له دولة، ولا صولة، ولا دخل في الرّأي (2) ، مع أنها من المسائل المردودة على قائلها، كما بسط في غير موضع، وبالجملة، فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار، من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أنّ عبارة الشيخ، إذا تأمّلها المنصف، وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة. وقول الشيخ "عمّت به البلوى" يبيّن أنّ الجواب في الجاري في وقته، مع ظهور الإسلام وعزته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس ذلك ما في السفر إليهم في هذه الأوقات؛ إذ هو مسالمة وإعراض عما وجب من فروض العين. وإذا هجم العدوّ، وصار الجهاد فرض عين، يحرم تركه، ولو للسفر المباح، فكيف بهذا السفر؟!
وأيضاً، فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء، في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا (1) على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات، إلاّ بإذنه. وقد عرفتم حال أكثر الولاة في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات علم بالحبس، والضرب، ونحو
ذلك، مفسدة تمنعها الشريعة ولا تقرها، و "درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح" (1) ،فهذا، يوجب للشيخ وأمثاله، مراعاة المصلحة الشرعية، في الفتاوى الجزئية، لا سيّما في مخاطبة العامة. وقول الشيخ –لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين- صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن بدينه، وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، أقل الفتنة أن يستخف بدينه (2) ، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال، أو لسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلاً في كلام الشيخ، رحمه الله. وقوله: "فينبغي هجره وكراهيته"، فيه بيان ما يستطيعه كل أحدٍ، وأمّا ولاة الأمور ومن له سلطان أو قدرة، فعليه تغيير المنكر باليد، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبالقلب، وهذا نص الحديث النبوي (3) ، فلا يجوز العدول عنه، وإساءة الظن بأهل العلم، بل يحمل كلامه على ما وافقه، والمصر المكابر لا ينتهي إلاّ إذا غُيِّر فعله
بالأدب والحبس، وهو داخل في عموم الحديث. وقد شاهدنا من الوالد –رحمه الله- تعنيف هذا الجنس وذمّمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين، مع عدم التمكن من إظهار الدين، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن التعزيزات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حدّ محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة، ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في رابعة، وأنه من هذا الباب، وأشار إلى ذلك في اختياراته (1) وكذلك غيره من المحققين، ذكروا أنّ
....................................................................
التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدّر، بل هو بحسب المصلحة (1) . وهذه قواعد كليّة، تدخل فيها تلك القضيّة الجزئيّة. وقول الشيخ:" والمعصية إذا وجدت أُنكرت على من فعلها أو رضيها" /ليس/ (2) فيه أنّ الانكار بمجرّد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، /وإلا لخالف نص الحديث/ (3) ، بل يتعيّن حمل كلام الشيخ عليه لموافقة الحديث، لا على ما خالفه، وأسقط من النكار ركنه الأعظم، ومن شم رائحة العلم، لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القباثح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة، ومثل هذا الذي أظهر هذه الفتوى، يجعله بعض المنتسبين، منفاخاً ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته. والواجب على مثلك النظر في أصول الشريعة، ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد. وتأمل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} الآية (4) . وانظر ما ذكره المفسّرون، حتّى أدخل بعضهم لياقة الدواة، وبري القلم في الركون (5) ؛ وذلك لأنّ ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به (6) ، على اختلاف /رتبه/ (7) ، فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش منه، من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما خالفه وضاده بالعدالة، والله
يعلم، ورسوله، والمؤمنون، أنّها الكفر، والجهل، والضلالة؟! ومن له أدنى أنفة، وفي قلبه نصيب من الحياة، يغار لله، ورسله، وكتابه، ودينه، ويشتدّ إنكاره، وبراءته في كل محفل وكل مجلس، وهذا من الجهاد، الذي لا يتحصل جهاد العدو إلا به، فاغتنم إظهار دين الله والمذاكرة به، وذمّ ما خالفه، والبراءة منه ومن أهله. وتأمّل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمّل نصوص الشارع في قطع الوسائل والذرائع (1) . وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله فهو جند لمن تولاّهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم، والله المستعان. وهذا الخط اقرأه على من تحب من إخوانك. وبلّغ سلامي والدك، وخواص الإخوان، والسلام.
الرسالة الخامسة: إلى حسن بن عبد الله
الرسالة الخامسة: إلى حسن بن عبد الله ... الرسالة الخامسة (1) : قال جامع الرسائل وله أيضاً –قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة في وجوب الهجرة، وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين. وسبب ذلك، أنّ حسن بن عبد الله بن الشيخ، لما كتب إلى عبد الرحمن الوهيبي (2) يناصحه عن الإقامة بين أظهر المشركين، وبيّن له وجوب الهجرة بالدلائل والبراهين، /كتب/ (3) إليه، واحتجّ بما ستقف عليه (4) ، وهذا /نصها/ (5) . بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى ابن الأخ حسن بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: يُذكر لي مل كَتَبَ إليك عبد الرحمن الوهيبي، من الشبهة، لمّا ذكرتَ له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (6) ، ونصحتَه عن الإقامة بين أظهر العساكر التركية. وأنه احتجّ عليك بأنّ الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: ظلم النفس بالإقامة في دار الشرك وترك الهجرة " تجعلون إخوانكم مثل من قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه؟ " وهذا جهلٌ منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين، وما يحتجّون به
على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الانكار والتغيير (1) ؛ قال ابن كثير:" هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، /مرتكبٌ/ (2) حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي بترك الهجرة،) {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي لمَِِ /كنتم/ (3) هاهنا وتركتم الهجرة: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} أي لا نقدر على الخروج /من البلد/ (4) ولا الذهاب في الأرض: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (5) (6) , وساق –رحمه الله- ما رواه أبو داود، عن سمرة بن جتدب، أما بعد، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:" من جامع المشرك، وسكن معه، فإنه مثله " (7) . قلت (8) : فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، /وتعليق/ (9) ما فيها من الأحكام والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأنّ هذه الآية نص في ذلك، وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر، وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج، وكل ذلك ليس فيه ذكر للقتل (10) .
فتأمل هذا يطلعك على بطلان هذه الشبهة، وجهل مبديها. وتأمل حديث سمرة وما فيه من تعليق هذا الحكم بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله. وكذلك ما روى ابن جرير، عن عكرمة قال:" كان الناس من أهل مكة قد أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} (1) (2) . وروى ابن جريرمن تفسير ابن أبي حاتم، فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا ويئسوا من كل خير، ثمّ نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} (3) ؛ قكتبوا إليهم بذلك أنْ قد جعل الله لكم مخرجاً، فأدركهم المشركون فقتلوهم، حتى نجا من نجا، وقتل من قتل (4) . وروي عن ابن عباس في الآية: هم قوم تخلّفوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ضربت الملائكة وجهه ودبره (5) وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ قوماً من أهل مكّة أسلموا، فاستخفوا بالإسلام، وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (6) الآية (7) . فهذا القول ونحوه مما فيه مِنْ ذكر مَنْ أُخرِج مع
المشركين يوم بدر، لا يدل على أنّ الآية خاصة بهم، بل يدلّ على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (1) . وكذلك من قال من السلف أن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين، تخلفوا من رسول الله صلى الله علي وسلم، وخرجوا مع المشركين (2) ، فمرادهم أنّ هذه الآية تتناولهم بعمومها، ولم يريدوا أنّ هذا –أعني النفاق أو القتال مع المشركين- الذي هو أُنيط به الحكم، ورتِّب عليه الوعيد،؛ فإنّهم أجل وأعلم من أن يفهموا ذلك. والسلف يعبّرون بالنوع ويريدون الجنس العام (3) ، ومن لم يمارس العلوم، ولم يتخرّج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبّط في العلوم برأيه، فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه، وعدم الاهتداء لتلك المسالك، التي لا يعرفها إلاّ من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة. وهذا الرجل (4) من أجهل الناس بالضروريات، فكيف بغيرها من حقائق العلم
ودقائقه! وليتهم -أعني هو وأمثاله- اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر عنهم ما اشتهر وذاع من الموالاة الصريحة، وإيثار الحياة الدنيا على محبة الله ورسوله، (1) وما أمَر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره، وسوّى به سواه. وتأمل كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله- على هذه الآية، فإنّه أفاد وأجاد (2) . وتأمّل ما ذكره الفقهاء في حكم العجزة، واستدلالهم بهذه الآية، على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه (3) ، فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم، وعلى أنّهم مسلمون من أهل القبلة المحمّدية؟! وصاحب هذا القول الذي شبّه عليكم، ينزل درجة درجة، أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية، والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا أهليّة؛ ثمَّ لما جاءت هذه الفتنة، صار يتزيّن عند المسلمين-بحمد الله-على عدم حضوره بتلك البلد، ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله، وأكذب نفسه، ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة، والوليمة، والتحف، والهدايا، والمجالسة
والتردّد، وشغفاً بالجاه والرئاسة، ولو في زمرة من حاد الله ورسوله. وأمّا نقل عنه من التحريض على أهل الإسلام، فهو-إن صحَّ-أقبح من هذا كلّه وأشنع، وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر /فيه/ (1) مخبآت الصدور والضمائر. وروى السدي (2) قال: لما أسر العباس، وعقيل، ونوفل، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للعباس:" أفد نفسك وابن أخيك "، قال يا رسول الله، ألم نصلّ (3) قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال:" يا عباس، إنّكم خاصمتم فخصمتم، ذم تلا عليه هذه الآية: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (4) (5) . فتأمّل هذه القصة، وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأنّ من ادعى الإسلام والتوحيد، وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآياته، فهو مخصوم محجوج، وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون. وتأمّل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (6) ، كيف حكم على أنّ من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرّم الله /أنه مشرك (7) / (8) ،.................................................................................
وأكّد ذلك بإنّ المؤكّدة (1) ، وأنّ ذلك صادر عن وحي الشيطان! فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله /ومظانه/ (2) ، والله تعالى أسأل أن يمنّ علينا وعليكم بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على نبينا محمد، /وعلى آله وصحبه،/ (3) وسلّم تسليماً كثيراً.
الرسالة السادسة: إلى حمد بن عبد العزيز
الرسالة السادسة: إلى حمد بن عبد العزيز ... الرسالة السادسة (1) : قال جامع الرسائل وله أيضاً-قدّس الله روحه ونوّر ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عبد العزيز (2) . وقد كان كتب له-أعني الشيخ حمد- رسالة ذكر له فيها أنّ الغربة اشتدّت، وأنّه قد أنكر عليه الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير (3) مع العسكر والزوار. فأجابه بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز، سلّمه الله تعالى، وهداه، وألهمه رشده وتقواه، آمين. فضل الغربة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، وإن أتى الهر بمرّ القضاء. والخط وصل، وصلك الله بحبله المتين، ونظّمك في سلك أنصار الملّة والدين. وقد عرفت أنّ الله ليس كمثله شيء في أفعاله وقضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته (4) .
وهذه الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام، لله فيها سِرٌ وحكمة بالغة، يطلع من شاء من عباده على عنوان وأنموذج من سرّ القدر والقضاء، وأكثر الناس في خفارة1 جهله، وكثافة طبعه، كالبعير الذي يعقله أهله، ثم يطلقونه، لا يدري فيما عُقل؟ ولا فيما أطلق؟ وتذكر أنّ الغربة (2) اشتدّت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال ما ورد في فضل الغرباء ووصفهم (3) . فاغتنم نصرة الإسلام،
والدعوة إليه، ونشره وتعريفه وتقريره؛ في كل مجلس ومجمع. فإنّ أكثر الناس قد ضلّ عنه، ولا يدري عن حقيقته ومسمّاه. وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلّته، وجاء بما يناقضه، ويقوِّي عضد الشرك، ويقتضي نصرة أعداء الملة والدين. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله، بعد ذهابه إليهم، ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمّها، ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرّح بمسبّة من أنكر عليه، ونسبه إلى موالاتهم؛ فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (1) . وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحلّ ما أخذ في درب العقير، من العسكر والزوار؛ فلا يصدر هذا الإنكار إلاّ عن جهل بحقيقة الإسلام وقواعده الكبار. وسريّة ابن الحضرمي (2) ، في عهده صلّى الله عليه وسلّم، مشهورة معروفة، وهي
أوّل دم أهريق في الإسلام. وقصدت عير قريش، وقريش في ذلك الوقت -مع كفرهم وضلالتهم- أهدى من كثير من العسكر والزوار، من الرافضة بكثير (1) . فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية، والصفات العليّة، وإخلاص العبادات للمعبودات الوثنيّة، ومعرضة الشريعة المحمديّة، بأحكام الطواغيت، والقوانين الإفرنجية؟ فمن جادل عمّن خالط هؤلاء ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من خفافيش البصائر، فالمجادلة فيه، وفي حلّ ما أخذ من العسكر والزوار، لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطّن في النزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم (2) في أي شيء،
وبأي شيء، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (1) . والذي أوصيك به، الثبات والغلظة على هؤلاء الجهلة، الذين يسعون في هدم أركان الإسلام، ومحو آثاره. وبلّغ سلامنا من لديك من الإخوان وسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
الرسالة السابعة: إلى أهل الفرع
الرسالة السابعة: إلى أهل الفرع ... الرسالة السابعة (1) قال جامع الرسائل وله أيضاً /-رحمه الله، وعفا عنه-/ (2) ، رسالة إلى الإخوان من أهل الفُرَع (3) ، وهم عثمان بن مرشد (4) ، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد (5) ، وإبراهيم بن مرشد (6) ، في قطع الوسائل والذرائع المفضية إلى محبّة من حاد الله ورسوله، /واختيار/ (7) ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم (8) . لأنّ اختيار /ديارهم/ (9) ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم والثناء عليهم، وتفضيلهم بالعدل على أهل الإسلام، وإعانتهم على المسلمين، وجرّهم على بلاد أهل الإسلام، ردّة صريحة بالاتفاق. فقطع -رحمه الله- الأسباب والوسائل المفضية إلى
ذلك بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، وهذا نصها: من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: الخط وصل –وصلكم الله بما يرضيه- وما /ذكرتم/ (1) من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم – بحمد الله- مراراً، وقامت الحجّة. ويبلغني تصميم الأكثر على رأيه الأول، وعدم الانتفاع. ومن أكبر أسباب شرح الصدور للنصائح والمواعظ وقبولهما، ما يعلمه من حرص العبد على الخير والهدى (2) ، والتجرّد من ثوب التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس، وإيثار الشهوات الدنيوية. فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة، كدعاء الاستفتاح:" اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل " الحديث (4) . لا سيّما في أوقات الإجابة (5) ، فإنّ هذا لا تكاد تسقط له دعوة،
والتوفيق له أقرب من حبل الوريد (1) ، قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} (2) ، والواجب عند ورود الشبهات هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكير،
لا سيّما عند هذه الفتنة التي عمّت وطمّت، وأعمت وأصمّت، فإنها كما في حديث حذيفة (1) قال: قلت يا رسول الله، إنّا كنّا في شرٍّ فذهب الله بذلك الشر، ِّ وجاء بالخير على يديك، فهل بعد الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: ما هو؟ قال"فتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر، لا تدرون أيّاً من أيّ " (2) . فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان، من جنس ما أشير إليه في هذا الحديث، الذي خرّجه الإمام أحمد في مسنده، فتعيّن الاهتمام بالمخرج منها، والنجاة فيها، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالاعتصام بحبل الله، ومعرفة ما أوجب وندب إليه كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرّمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نصّ على هذا صلّى الله عليه وسلّم، لما سأله حذيفة عن الفتن؛ فعن حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وأسأله عن الشرِّ، وعرفت أن الخير لن يسبقني، قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: " يا حذيفة تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه " ثلاث مرار، قال: قلت يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: " فتنة وشر "، قال قلت يا رسول الله أبعد هذا الشر من خير؟ قال: " يا حذيفة تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه " ثلاث مرار، قال قلت يا رسول الله أبعد هذا الشر من خير؟ قال: " هدنة على دَخَنٍ (3) ، وجماعة على أقذاء (4)
[فيها أو فيهم] " (1) ، قال: قلت يا رسول الله الهدنة على دخن ما هي؟ قال: " لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه " (2) ، قال: قلت يا رسول الله أبعد هذا الخير من شر؟ [قال: " يا حذيفة تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه " ثلاث مرار، قال: قلت يا رسول الله أبعد هذا الخير من شر؟] (3) ، قال: " فتنة عمياء صمّاء، عليها دعاة على أبواب النار، وإن تمت (4) يا حذيفة، وأنت عاض على جذل (5) ، خير لك من أن تتبع أحداً منهم " (6) . قلت: فتأمّل ما أرشد إليه حذيفة، ووصّاه عند حدوث الفتن العظام، التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله، واتباع ما فيه، لأنّ المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، ولكن لا يفهمه ويفقهه إلاّ من تعلّم كتاب الله، ألفاظه ومعانيه، ووُفِّق للعمل بما فيه، فذاك جدير أن يهبه الله نوراً يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر من الشكّ، والريب، والالتباس، وهذا الصنف عزيز الوجود في القرّاء، ومن ينتسب إلى العلم والطلب، فكيف بغيره؟! شعر: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها (7)
فعليكم بلزوم الوصيّة النبويّة لصاحب السرّ، حذيفة بن اليمان، وبتدبر القرآن، والتفقه في معانيه، /لعلّه بذلك/ (1) يعرف العبد -إنْ عقل عن الله- أنّ أوجب واجب /فيه/ (2) وأهمّه وآكده وزبدته، معرفة الله تعالى، بما تعرّف به إلى عباده، من صفات كماله، ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه، وشمول قدرته، وكمال عزته، وعميم رحمته. وبمعرفة ذلك يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه، وإسلام الوجه له، وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات، كالخشية، والرجاء، والاستعانة، والاستغاثة، والتوكل، والتقوى، ويرضى به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، ويذوق من طعم الإيمان ما يوجب له كمال حب الله، وحب رسوله، وكمال الحب بجلاله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر، والمقصود الأعظم، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويطلبها منتهى الطلب، ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه، من تعطيل وكفر وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها، المفضية إلى اقتحامها وارتكابها، فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) . فمن عرف /هذا/ (4) الأصل الأصيل، عرف ضرر الفتنة الواقعة في هذه الأزمان، بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل، بالهدم والهدّ والمحو بالكليّة، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل، ورفع أعلامه الفكريّة، وأنّ مرتبتها من الكفر، وفساد البلاد والعباد، فوق ما يتوهّم المتوهِّمون، ويظنُّه الظانُّون، وبه يعلم أن ما وقع من المسائل إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها، والسكوت عن التغليظ فيها،
من أكبر أسباب وقوع الشر، ومحو أعلام التوحيد، والوسيلة لها حكم الغاية، فإن انضاف إلى تسهيلها إكرام من أقام بديارهم، وتلطَّخ بأوضارهم (1) ، وشهد مهرجانهم (2) ، وتوقيرهم، والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك يَنْعى الإسلامَ ويبكيه، مَنْ كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد (3) ، وفي الحديث: " من وقّر صاحب بدع، فقد أعان على هدم الإسلام " (4) ، فكيف بما هو أعظم وأطمّ من البدع؟! فالله المستعان.
وأعجب من هذا، أن بعض من يتولَّى خدمة من حاد الله ورسوله، ويحسِّن أمرهم، ويرغَّب في ولايتهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربَّما أشار بحربهم، فإذا قدم بعض بلاد أهل الإسلام، تلقَّاه منافقوها وجهَّالُها، بما لا يليق إلاّ مع خواص الموحِّدين؛ فافهم أسباب الشرك ووسائله. ومن كان في قلبه حياة، وله رغبة، وله غيرة وتوقير لرب الأرباب، يأنف ويشمئزّ مما هو دون ذلك، ولكن الأمر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهليّة" (1) . وما جاء في القرآن من النهي والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتولِّيهم، دليل على أنّ أصل الأصول، لا استقامة له ولا ثبات، إلا بمقاطعة أعداء الله، وحربهم وجهادهم، والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم؛ وقد قال تعالى - لما عقد الموالاة بين المؤمنين، وأخبر أنّ الذين كفروا بعضهم أولياء بعض- (2) قال: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (3) ، وهل الفتنة إلا الشرك، والفساد الكبير هو انتثار عقد التوحيد والإسلام، وقطع ما أحكم القرآن من الأحكام والنظام؛ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية (1) . قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر (2) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (3) . قلت: فليتأمل من نصح نفسه، ما يجري من هؤلاء العساكر، عند سماع الأذان، من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، استبدالاً به عمّا اشتمل عليه الأذان، من توحيد الله وتعظيمه، وتكبير الملك القهار، فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) . وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً (5) } (6) .
وقد جزم ابن جرير (1) /في تفسيره/ (2) بكفر من فعل ذلك (3) . قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (4) ، فليتأمّل من نصح نفسه هذه الآيات الكريمات،
وليبحث عمّا /قاله/ (1) المفسِّرون وأهل العلم في /تأويلها/ (2) ، ولينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم، فإنّه يتبين له -إن وُفِّق وسُدِّد- أنّها تتناول من ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم السلم (3) ، فكيف بمن أعانهم، أو جرَّهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم، أو فضَّلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحبَّ ظهورهم، فإنّ هذا رِدَّة صريحة بالاتفاق، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (4) . وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام، وما منَّ الله به عليكم من دعوة شيخنا -رحمه الله- إلى توحيد الله، والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه، وجهادهم، وببركة دعوته وبيانه، حصل للإسلام من الظهور والنصر وإعلاء كلمة الله، ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة، ورعايتها حق الرعاية، والعض عليها بالنواجذ، وأن لا تستبدل بموالاة أعداء الله ورسله، والانحياز إلى دولتهم، والرضا بطاعتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (5) . فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (6) ، ودَعوا اللجاج والمراء، وتمسّكوا بما جاء عن الله ورسوله من البينات والهدى، ولا يسهل لديكم مبارزة ربِّ السموات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم، من الكفر والتعطيل والشرك والجدل والمراء، ولا تفتحوا أبواب الفتن، للمشاقة والتفرُّق والقدح في أهل الإسلام، فإنَّ ذلك من الصدِّ عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه.
وقد جاء الحديث: " إنَّ هذا الحيّ من مضر، لا تدع في الأرض لله عبداً صالحاً إلاّ فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده، فيذلُّها حتى لا تمنع ذنب تلعة (1) " (2) . وبعض من يدّعي الدين، إنّما يتعبد بما يحسن في العادة، ويُثني عليه به، وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجرة في ذات الله، ومراغمة لأعدائه، فذاك ليس منه على شيء، بل ربّما ثَبَّط عنه، وقدح في فاعله. وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة، والمنتسبين إلى العلم والدين، والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم لا يرونه غالباً ديناً وحسن خلق، فلا يتاب منه ولا يستغفر (3) ؛ ولأن غيرهم يقتدي بهم ويسلك سبيلهم، فيكونون فتنة لغيرهم؛ ولهذا حذّر الشارع من فتنة م فسد من العلماء
والعباد، و/خافه/ (1) على أمّته (2) . فالمؤمن إذا حصل له، وظفر بحقائق الإيمان، وصار على نصيب من مرضاة الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفر والسعادة، وإن قيل ما قبل: شعر: أقام الحي أم جدّ الرحيل (3) ... إذا رضي الحبيب فلا أبالي وينبغي لك يا عثمان أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبيّن لهم معانيها، وما في الفرق والاختلاف من فتح أبواب الشر والفساد، فاحرص على ذلك واعتدّ به من صالح أعمالك، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم لعلي: " فوالله، لأن يهدي الله بك /رجلاً واحداً/ (4) خيرٌ لك من حمر النَّعَم " (5) . والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عاض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها وطلب كشفها، ولا يحلُّ السكوت على الشبه التي تُقع في الريب والشك، وتفضي غلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم، فاذكروه لي. وإن جاءني عنكم نصيحة أو تنبيه على شيء من الغلط، فنشهد الله على قبوله ممن كان.
وبلِّغوا سلامنا إخوانكم، والعيال. والإخوان ينهون إليكم السلام، والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم القيامة/ (1) .
الرسالة الثامنة: نصيحة إلى كافة المسلمين
الرسالة الثامنة: نصيحة إلى كافة المسلمين ... (الرِّسَالَةُ الثَّامِنَةُ) (1) قال جامع الرسائل: وله أيضاً -رحمه الله تعالى، وعفا عنه بمنّه وكرمه- نصيحة إلى كافة المسلمين، في التذكير بآيات الله، والحث على لزوم الجمعة، والقيام بأصول الدين وقواعد الإسلام، التي هي أربح تجارة وبضاعة، والحض على جهاد أعداء الله ورسوله، القائمين على هدم قواعده وأصوله، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يراه من المسلمين، وفَّقهم الله لنصر الإسلام والدين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب هذا، هو التذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، وقد ينتفع بالنصائح من أراد الله هدايته، قال تعالى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) . وأهم ما يبدأ به في التعليم، هو معرفة أصول الدين وقواعد الإسلام، التي لا يحصل بدونها، ولا يستقيم بناؤها إلا عليها، لا سيما معرفة ما دلّت عليه كلمة التوحيد شهادة ألا إله إلا الله من الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده؛ بإخلاص العبادة بأنواعها له سبحانه، والبراءة من كل معبود سواه، والقيام بذلك علماً وعملاً، فإنّ هذا هو أصل الدين وقاعدته، والحكمة التي لأجلها خلقت الخليقة (3) ، وشرعت الطريقة، وأرسلت لأجلها الرسل (4) ،وبها أنزلت الكتب، وجميع أحكام الأمر والنهي تدور
عليها وترجع إليها. وقد رأيتم ما حدث في هذا الأصل العظيم من الإضاعة والإهمال، والإعراض عن حقائقه وواجباته، حتى ظهر الشرك، وظهرت وسائله وذرائعه ممن ينتسب إلى الإسلام، ويزعم أنه من أهله، وذلك بأسباب، منها: الجهل بحقيقة ما أمر الله به ورضيه لعباده، من أصول التوحيد والإسلام، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه (1) ، أو يضاد الكمال والتّمام، من موالاة أعداء الله، على اختلاف شعبها، ومراتبها، فمنها المكفِّرات، والموبقات، ومنها ما دون ذلك.
وأكبر ذنب وأضله وأعظمه منافاةً لأصل الإسلام، نصرة أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هو عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام، وكذلك انشراح الصدر لهم وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل أمرهم، وانتظم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم ومسالمتهم، وعقد الأخوة والطاعة لهم، وما هو دون ذلك من تكثير سوادهم ومساكنتهم ومجامعتهم، ويلتحق بالقسم الأول (1) : حضور المجالس المشتملة على رد أحكام الله وأحكام رسوله، والحكم بقانون الإفرنج والنصارى المعطلة، ومشاهدة الاستهزاء بأحكام الإسلام وأهله. ومن في قلبه أدنى حياة أو أدنى غيرة لله، وتعظيم له، يأنف ويشمأز من هذه القبائح، ومجامعة أهلها ومساكنتهم، ولكن "ما لجرح بميت إيلام" (2) . فليتق الله عبدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر، وليجتهد فيما يحفظ إيمانه وتوحيده، قبل أن تزل القدم، فلا ينفع حينئذ الأسف والندم، ومن أهم المقاصد الشرعية، والمطالب العليّة، جهاد أعداء الله، ومن صدف عن دينه الذي ارتضاه؛ وقد أوجب الله الجهاد في سبيله، وأكّده ورّغب فيه، ووعد أهله بما أعدّه لأوليائه وأهل طاعته من مرضاته وكرامته ومجاورته في دار النعيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) إلى آخر السورة، فانظر ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من لطافة الخطاب، والإرشاد إلى منهاج الهداية والصواب، وما رتب على ذلك من غاية الفوز ومنتهى السعادة، وما فيها من البشارة بكل فلاح ونجاح في العاجل والآجل،
وانظر كيف ختم السورة بأم عباده المؤمنين أن يكونوا أنصاراً له، وأن يقتدوا بمن سلف من الصالحين، وانظر إلى ما حكم به من إيمان من نصره وقام بما أمر به، وتأمّل كفر الطائفة المعرضة عن طاعة رسوله، والجهاد في سبيله، وتأمّل ما وعد به عباده من النصر، والظهور على من خالفهم وخذلهم، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2) ،وقد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " إنّ في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض " (3) وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: " من مات و/لم يغز/ (4) ولم يحدث نفسه /بالغزو/ (5) ، مات على شعبة من النفاق " (6) . فاغتنموا رحمكم الله حضور المشاهد، التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه ورسوله، ومراغمة أعدائه، فإنّ هذه المشاهد من الموجبات للرحمة، والمغفرة، والسعادة، الأبديّة: " وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " (7) .
وإذا هجم العدو على بلاد الإسلام، صار الجهاد فرض عين، فأجمعوا أمركم على جهاد عدوكم لابتغاء مرضاة ربِّكم، وأطيعوا إذا أمركم، وأخلصوا النية وأصلحوا الطويَّة، فإنَّما لك امرئ ما نوى، واتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه يراه، فقد رأت ما بلغ من مكايد الشيطان، وتفريق كلمة أهل الإيمان، حتى انسلخ الأكثر من الدين، ولحق فئام من المسلمين بأعداء الملة والدين. نسأل الله لنا ولكم العافية، والثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لعباده (1) ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.
الرسالة التاسعة: إلى محمد بن عجلان
الرسالة التاسعة: إلى محمد بن عجلان ... (الرِّسَالَةُ التَّاسِعَةُ) (1) : قال جامع الرسائل وله أيضاً - قدس الله روحه، /ونوّر ضريحه/ (2) - (3) ، رسالة إلى محمد بن عجلان (3) .وسبب ذلك، أنه كتب رسالة أيام الفتنة، التي حدثت بين عبد الله بن فيصل (5) وأخيه سعود (6) ، ذكر فيها جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام (7) ، وهي التي سمّاها الشيخ "حبالة الشيطان" فكتب عليها الشيخ عبد اللطيف، جواباً، /قطع/ (8) فيه كلّ ما يتعلق به كل مبطل، وأزال بالبراهين والدلائل كلَّ مشكل، وقرّر فيها أن ما كتبه ونقله من آية أو سنة /أو أثر/ (9) ، فهو عليه لا له، لأنه يدل بوضعه أو تضمّنه أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد، والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم حسب الطاقة.
ثم كاتبه الشيخ محمد بن عجلان، وذكر فيما كتبه الوصية بما تضمنه سورة العصر، فكتب له الشيخ -رحمه الله- هذه الرسالة، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد الله إليك، وأُثِني بنعمه عليه، والخط وصل وما ذكرت فيه من تنبيه على ما تضمّنته السورة الكريمة (سورة العصر) ، فقد سرّني، وقد عرفت ما قاله الشافعي رحمه الله: "لو فكر الناس فيها لكفتهم" (1) ، قلت لأنها تتضمن الأصول الدينية، والقواعد الإيمانية، والشرائع الإسلامية، والوصايا المرضية، فتفكَّر فيها (2) . واعلم أنك نبهتني بها على إعلامك ببعض ما تضمّنته رسالتك لابن عبيكان (3) ، وقد كتبتُ حين رأيتها، ما شاء الله أن أكتب، ونهيت عن إشاعتها، خوفاً منك وعليك، ولكن رأيتُ ما الناس فيه من الخوض، ونسيان العلم، وعبادة الأهواء، فخشيت من مفسدة كبيرة بردّ السنة والقرآن، والدَّفع في صدر الحجة والسلطان، وقررت فيها أنّ ما كتَبْتَه ونقلته من آية أو سنّة أو أثر، فهو عليك، لا لك؛ لأنه يدل بوضعه أو تنضمُّنه أو التزامه، على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضه، وجهادهم، والبراءة من كل من اتخذ أولياء من دون المؤمنين، ولم
يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم، وبغضهم ومراغمتهم، وأكثر نصوصك /التي/ (1) ذكرت دالة على ذلك، كقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (2) ، والآية قبلها، والآية بعدها (3) ، وما ذكره لبن كثير هنا، كل هذا نصٌ فيما قلناه (4) ، وقد بسط القول في ذلك. وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة، وأمر بلزوم الجماعة، نص فيما قلناه، عن من فقه عن الله ورسوله، وما ذكرتَ من استعانته بابن أريقط (5) ، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: " إنا لا نستعين بمشرك " (6) ، وابن أُريقط أجيرٌ مستخدم، لا معين مكرم (7) .
وكذلك قولك: إنّ شيخ الإسلام استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار وهلة عظيمة (1) ، وذلّة ذميمة، كيف إذا ذاك والإسلام يعلوا أمره (2) ،ويقدّم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس، وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التتر، وعلى /النصيرية/ (3) ونحوها؟! وكل هذه مستفيض في كلامه وكلام أمثاله0 وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صار الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهليها0 وكذلك ما زعمته من أنّ أكابر العسكر أهل تعبد، أو نحو هذا؛ فهذه دسيسة شيطانية وقاك الله شرها، وحماك حرّها لو سُلِّم تسليماً جدلياً، فابن عربي (4) ، وابن سبعين (5) ، وابن الفارض (6) ، لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض، أو من أكفر أهل الأرض (7) . وأين أنت من قوله تعالى: {وَلَوْ
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) . وأما إجازتك الانتصار بهم، فالنزاع في غير هذه المسألة، بل في توليتهم وجلبهم وتمكينهم من دار إسلامية، هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملّة، وأصول الدين وفروعه، وعند رؤسائهم قانون وطاغوت وضعوه للحكم بين الناس في الدماء ولأموال وغيرها (3) ، مضاد ومخالف للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم (4) . وأما مسألة الاستنصار (5) /بهم/ (6) ، مسألة خلافية، والصحيح الذي عليه
المحققون، منع ذلك مطلقاً، وحجّتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه (1) ، وحديث عبد الرحمن بن حبيب (2) ، وهو حديث صحيح مرفوع (3) ، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص، والقائل بالجواز، احتج بمرسل الزهري (4) ، وقد عرفت ما في المراسيل (5) إذا عارضت كتاباً أو سنةً.
ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم، وشرط فيها ألا يكون /للمشرك/ (1) صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية؛ واشترط مع ذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة (2) ، بخلاف ما هنا، كل هذا ذكره الفقهاء، وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعّف مرسل الزهري جداً (3) ، وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام. وأم استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذّ (4) ، واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفروعه، ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، /المستفاد/ (5) من حديث الحسن (6) وحديث النعمان بن
بشير (1) ، وما أحسن ما قيل: والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسن تبصُّر (2) وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها خشية الإطالة، هذا كله من التواصي بالحق، والصبر عليه، وإن لام لائم، وشنَّأ شانئ، ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، من تفصيل الكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غير الشأن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وبلِّغ سلامنا من لديك من الإخوان، وعيالنا وإخواننا بخير، وينهون السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
الرساة العاشرة: إلى عبد الله بن عبد العزيز الدوسري
الرساة العاشرة: إلى عبد الله بن عبد العزيز الدوسري التوصية بلزوم الكتاب والسنة ... (الرِّسَالَةُ العَاشِرَةُ) (1) قال جامع الرسائل وله أيضاً /-قدس الله روحه، ونوّر ضريحه-/: (2) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله بن عبد العزيز الدوسري (3) ، وفقه الله لما يحبه ويرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فأحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، على نعمه -جعلنا الله وإياك شاكرين. والخط
وصل بما تضمن من الوصية- وفّقنا الله وإياك لقبول الوصاية الشرعية، وأعاذنا من سيئات الأعمال الكسبيّة. وأوصيك بما أوصيتني به، وبلزوم الكتاب والسنة، والرغبة فيهما، فإنّ أكثر الناس نبذوهما ظهرا، وزهدوا فيما تضمناه من العلم والعمل، اللهم إلا أن يوافق الهوى. واذكر قوله صلّى الله عليه وسلّم لحذيفة، لما سأله عن الفتن، قال: " اقرأ كتاب الله، واعمل بما فيه " (1) كررها ثلاثاً، والحكمة والله أعلم شدّة الحاجة وقت الفتن، وخوف الفتنة والتقلب، وأكثر الناس من أ÷ل نجد وغيرهم، ليسوا على شيء في هذه الأزمان (2) . والمؤمن من اشترى نفسه، ورغب فيما أعرض عنه الجهال والمترفون، نسأل الله لنا ولكم الثبات والعفو والعافية. ولا /تدّخر/ (3) المذاكرة فيما ابتلي به الناس من فتنة العساكر ومن والاهم، فإنّ هذا من أعظم ما دهم الإسلام وأهله، ومن أسباب محو الدين والإيمان، وهد قواعده. ومن أفضل الأعمال، القيام لله /عند/ (4) ذلك على بصيرة، والدعوة إلى سبيله، وبلغ سلامنا الإخوان والخواص من أهل الإسلام؛ ومن
لدينا العيال والإخوان بخير، وينهون السلام [وأنت سالم والسلام] (1) . وصلى الله على محمد /وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين/ (2) .
الرسالة الحادية عشرة: إلى أهل عنيزة
الرسالة الحادية عشرة: إلى أهل عنيزة فتنة القبور والتوسل بالموتى ... (الرِّسَالَةُ الحَادِيَةُ عَشَرَةَ) (1) قال جامع الرسائل وله أيضاً -قدس الله روحه ونوّر صريحه- رسالة إلى أهل عنيزة (2) ، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من أهل عنيزة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: يجري عنكم أمور، يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون، ولا بد من النصيحة، معذرة إلى الله تعالى، وطلباً لرضاه، وإلاّ فالحجة قد قامت، وجمهوركم يتجشّم (3) ما يأتي لأسباب لا تخفى، من ذلك: المشاقة والمعاندة، بإكرام داود العراقي (4) ، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين (5) ، والحثُّ عليه، وغير ذلك مما يطول عدّه. ولا بد من تقديم مقدّمة ينتفع بها الواقف على هذا، فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة ما أخبر به نبيُّها صلّى الله عليه وسلّم، من اتباع سنن من كان قبلها من أهل الكتاب، وفارس والروم (6) ، وتزايدت تلك السنن، حتى وقع الغلو في الدين، وعُبِدَت
قبور الأولياء والصالحين، وجُعِلَت أوثاناً تُقصَد من دون الله رب العالمين (1) ، عظَّمها قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من رائحة النبوّة، ولم يفقهوا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم (2) ، ومنتهى نحلتهم، ونهاية طريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه (3) ، وتلطّف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين توسلاً ونداءً، وحُسن اعتقاد في الأولياء، وتشّفُعاً بهم (4) ، واستظهاراً بأرواحهم الشريفة، فاستجاب لهم صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء، ولم يقفوا مع الحقائق، فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوة،
وفي زمان الفترة (1) ، حذو النعل بالنعل، وحذو القذّة بالقذّة، وهذا من أعلام النبوة، كما ذكره غير واحد (2) ، ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد حتى عمَّ ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد، ففي كل إقليم ومدينة وقرية ممن ينتسب إلى الإسلام، ولائج (3) يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، ويفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون به في النوائب والحاجات، وبعضهم لا يرد على خاطره، ولا يلم (4) بباله دعاء الله تعالى في شيء من ذلك، لاستشعاره حصول مقصوده، ونجاح مطلوبه من جهة الأولياء والأنداد. وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يعز حصره واستقصاؤه، ولو كان يخفى لعرجنا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهر من الشمس في نحر الظهيرة. إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله تعالى أطلع شمس الإيمان به وتوحيده، في
آخر هذه الأزمان، على يد من أقامه الله في هذه البلاد النجدية، داعياً إليه على بصيرة (1) ، فذَكر به، آمراً بتوحيده، وإخلاص الدين له، وردِّ العباد إلى فاطرهم وباريهم وإلههم الحق، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، يَنْهى عن الشرك به، وصرفِ شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به، لا سلطان ولا حجة على مشروعيته. واستدلَّ على ذلك، وألّف وقرّر، وصنّف وحرّر (2) ، وناظر المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل دين، فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان قصده، فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين، وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين (3) ، وآخرون قلوا: هو يكفِّر أهل الإسلام، وصِنْف نسبوه إلى
استحلال الدماء والأموال الحرام، ومنهم من عابه بوطنه، وأنه دارمسيلمة الكذاب (1) . وكل هذه الأقاويل لا تروج على من عرف أصل الإسلام، وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قومٌ عزبت عنهم الأصول والحقائق، ووقفوا مع الرسوم والعادات، في تلك المناهج والطرائق، و {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (2) ؛ فهم من شأنه من أمر مريج؛ وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوّة فقصدها، وظهرت له حقائق الوحي والتنزيل، فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لم يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأه واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها ... في السَّعد ما يغنيك عن دبران (3)
وقد صنّف بعض علماء المشركين في الرد عليه (1) ، ودفع ما قرره ودعا إليه، واستهوتهم الشياطين، حتى سعوا في آيات الله معاجزين، وقد بدّد الله شملهم "فتمزّقوا أيدي سبا" (2) ، وذهبت أباطيلهم وأراجيفهم، حتى صارت هباءً، نعم بقيت لتلك الشبهة بقية أيدي قومٍ، ليس لهم في الإسلام قدم، ولا بالإيمان درية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشبه الشركية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم، والكتب السحرية، حتى أتي لهم هذا الرجل من أهل العراق (3) ، فألقيت إليه
تلك الكتب، فاستعان بها على إظهار أباطيله وتسطير إلحاده وأساطيره، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات، بل زعم أن للأولياء تدبيراً وتصريفاًً مع الله، وأجاز أن يكل الله أمور ملكه وعباده إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم، وهذا موجود عندنا بنص رسائله (1) ، وشبّه على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة، كقوله: إنّ دعاء الموتى ونحوه لا يسمى دعاءً، إنّما هو نداء (2) ، وإنّ العبادات التي هي لأهل القبور لا تسمّى عبادة ولا شركاً، إلاّ إذا اعتقد التأثير بأربابها من دون الله (3) . وقوله: من قال لا إله إلا الله، واستقبل القبلة، فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملّة عُبَّد القبور الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة، وغيرهم، ويزعم أنّهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلّى الله عليه وسلّم (4) ويلحد في آيات الله، وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونصوص أهل العلم، ويعتمد الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى العلماء، يَعرِف ذلك من كلامه من له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يروِّج باطله، إلاّ على قومه لا شعور له بشيءٍ من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور، وتقليد أهلها. ومن شبهاته، قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن عبد الأصنام (5) ، هذه نزلت
في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان (1) ، يريد –قاتله الله- تعطيل القرآن عن أن يتناول أمثالهم وأشباههم، ممن يعبد غير الله، ويعدل بريه، ويزعم أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (2) ، دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله (3) ، ويظن إن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يمجُّ سماعه، ويستوحش منه عوام المسلمين بمجرد الفطرة، فسبحان من أضله وأعماه: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (4) . وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم، ويعتاد المجيء إليها، وله مَلَئِها (5) وأكابرها من يعظِّمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشبه أمثالها، ولذلك أسباب؛ منها: البغضاء ومتابعة الهوى، وعد قبول ما منّ الله به من النور والهدى، حيث عرف من جهة العارض. وتأملوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ
تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} (1) . وقد أجمع العلماء أن النعمة المقصودة هنا، هي بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، بالهدى ودين الحق (2) ، اللذين أصلهما وأساسهما عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الآلهة والأنداد، والكفر بهذه النعمة هو ردها وجحدها، واختيار دعاء الصالحين، والتعلق على الأولياء والمقربين، فرحم الله امرءاً تفكَّر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم انه ملاقٍ ربّه الذي عنده الجنة والنار. ثم فيما أجرى الله عليكم من العبر والعظات، ما ينبه من كان له قلب، أو فيه أدنى حياة، قال الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (3) . وجماعتكم أعيا المسلمين داؤهم، وعزَّ عما هم عليه انتقالهم، وما أحسن ما قال أخو بني قريظة (4) لقومه: "أفي كل موطن لا تعقلون" (5) ، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (6) . وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
الرسالة الثانية عشرة: إلى علي بن أحمد بن سلمان
الرسالة الثانية عشرة: إلى علي بن أحمد بن سلمان قول العلماء في الجهمية والرد عليهم ... (الرِّسَالَةُ الثَانِيَةُ عَشَرَةَ) (1) قال جامع الرسائل وله أيضاً –قدس الله روحه، ونوّر ضريحه، /وعفا عنه/ (2) - رسالة تكلم فيها على سبيل الإيجاز والاختصار، جواباً لمسائل سأله عنها علي بن حمد/ (3) بن /سلمان/ (4) ، لما تقدم إلى /بلدة/ (5) فارس وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن علي بن حمد بن سلمان –سلّمه الله تعالى، وزيّنه بزينة الإيمان- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل وما ذكرت صار معلوماً (6) ، فأما رغبتك عن البلدة التي فيها أعلام الكفر والشركيات، وتهدم قواعد الإسلام والتوحيد، ويرجع قول العلماء في الجهمية والرد عليهم، فيها إلى غير أحكام القرآن المجيد، فقد أحسنت فيما فعلت، والهجرة ركن من أركان الدين، نسأل الله أن يكتب لك أجر المخلصين الصادقين. وأما وصولك إلى بلدة فارس، فالذي (7) رأيتهم ينتسبون إلى متابعة الشيخ محمد –رحمة الله عليه- فهم كما ذكرت في خطك، لكن فيهم جهال لا يعرفون ما كان
الشيخ عليه وأمثاله من أئمة الهدى، وفيهم من بدعة المعتزلة (1) والخوارج (2) ، ولا معرفة لهم بالعقائد والنحل واختلاف الناس، والزمام زمان فترة، يشبه زمن الجاهلية، وإن كانت لكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام من عالم ربّاني، كما قيل: الجهل داء قاتل ودواؤه ... أمران في التركيب متفقان نص من الرآن أومن سنة ... وطبيب ذالك العالم الربّاني (3) والكتب السماوية بأيدي أهل الكتاب (4) ، وقد صار منهم ما صار (5) ،وأساب الجهل والهلاك قد توافرت جداً، وقد قال بعض الأفاضل منذ أزمان: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ ولكن العجب ممن نجا كيف نجا؟ " (6) . وهؤلاء الذين ذكرتهم من أهل فارس، وذكرت عنهم تلك العقائد الخبيثة، ليسوا بعرب يفهمون الأوضاع العربية، والحقائق الشرعية، والحدود الدينية، ولا يرجعون إلى نص من كتاب ولا سن، وإنما هو تقليد لم يحسنون به الظن، من غير فهم ولا بصيرة. قال الحسن البصري –في أمثالهم من المعتزلة من العجم-: إنّ عجمتهم قصرت بهم عن إدراك المعاني الشرعية، والحقائق الإيمانية (7) . وكذلك لما ناظر أبو عمرو بن العلاء، عمرَو بن عبيد (8) ، من رؤوس المعتزلة، وجده
لا يفرق بين الوعد والوعيد، فقال له: من العجمة أوتيت. وأما عبد الرحمن البهمن (1) ،فهو على ما نقلت عنه، في غاية الجهالة والضلالة، وله من طريقة غلاة الجهمية نصيب وافر، وله من الاعتزال ومن نحلة الخوارج نصيب، وكلام أهل الإسلام وأئمة العلم في الجهمية والمعتزلة والخوارج (2) . فأما جهم بن صفوان (3) فطريقته في التعطيل، ونفي العلو والاستواء، والكلام،
وسائر الصفات، وقد أخذها عن الجعد بن درهم1،والجعد أخذها بالواسطة عن لبيد بن الأعصم2 اليهودي، الذي صنع السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم3 وكانوا يخفون مقالتهم، ومن أظهر شيئاً من ذلك قتل، كما صنع خالد بن عبد الله القسري4 أمير واسط، بالجعد بن درهم، فإنه ضحى به يوم العيد، وقال على المنبر: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم -فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم الله تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه5. والجهم قتل أيضاً لما ظهرت مقالته6، ثم في زمن الخليفة المأمون العباسي7،
ظهرت في الناس تلك المقالات بواسطة بعض الوزراء والأمراء، وكثر الخوض، فصاح بهم أهل الإسلام من كل ناحية، وبدعوهم وفسقوهم وكفروهم.1 قال ابن المبارك2 الإمام الجليل من أكابر أهل السنة: "من لم يعرف أن الله فوق عرشه، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر أهل الذمة؛ لئلا يتأذى به أهل الذمة من اليهود والنصارى" 3.
وقال الفضيل بن عياض1 ويوسف بن أسباط2: الجهمية ليست من الثلاث والسبعين فرقة، التي افترقت إليها هذه الأمة3. يعني أنهم لا يدخلون في أهل القبلة. وقد صنفت التصانيف، وجمعت النصوص والآثار في الرد عليهم4 وتكفيرهم، وأنهم خالفوا المعقول والمنقول، وأن قولهم يؤول إلى أنهم لا يثبتون رباً يعبد، ولا إلهاً يصلى له ويسجد، إنما هو تعطيل محض، وكذلك كفرهم5.
قال ابن القيم في الكافية الشافية: ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان1 يعني أن خمسمائة عالم أئمة مشاهير، جزموا بكفرهم، ونصوا عليه. وحججهم وشبهاتهم واهية داحضة، ولا تروج على من شم رائحة الإسلام. قال بعض العلماء: أهل البدع لهم نصوص يدلون بها، قد اشتبه عليهم معناها، ولم يهتدوا فيها، إلا الجهمية، فليس معهم شيء مما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. انتهى2. والقرآن والسنة كلها رد عليهم. قال بعض أصحاب الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: في القرآن ألف دليل على علو الله على خلقه، وأنه فوق العرش3. وذكر ابن القيم -رحمه الله- طرفاً صالحاً في نونيته من ذلك4. وأما نصوص السنة وكلام أهل العلم، فلا يحصيها ويحيط بها إلا الله. ويكفي المؤمن أن يعلم أن كل من عرف الله بصفات جلاله، ونعوت كماله، وتبين له شيء من ربوبيته وأفعاله، يعلم ويتيقن أنه هو العلي الأعلى، الذي على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض5. ولا
يشك في ذلك إلا من اجتاله1 الشيطان عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها2.والكلام يستدعي بسطاً طويلاً، فعليك بكتب أهل السنة، واحذر كتب المبتدعة؛ فإنهم قد سودوها بالشبهات والجهالات، التي تلقوها عن أسلافهم وشيعهم. وأما دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، فإن أراد الحياة الدنيوية، فالنصوص والآثار والإجماع والحس يكذبه3. قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4...............................
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية1. وقد قام أبو بكر في الناس يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أما بعد: فمن كان يعبد /محمداً/2 فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت"3، وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 4. أما إن أراد الحياة البرزخية، كحياة الشهداء5، فللأنبياء منها أفضلها وأكملها، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها، الحظ الوافر، والنصيب الأكمل، لكنها لا تنفي الموت، ولا تمنع إطلاقه على النبي والشهيد. وأمر البرزخ لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى، الذي خلقه وقدره. والواجب علينا الإيمان بما جاءت به الرسل، ولا نتكلف ولا نقول بغير علم، والحياة الأخروية بعد البعث والنشور، أكمل مما قبلها وأتم، للسعداء والأشقياء. وأما دعواه أن العبادة6 هي السجود فقط، فهذا الجهل ليس بغريب عن مثل هذا الملحد. والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، قد فصلت أنواع العبادة تفصيلاً،
وقسمتها تقسيماًَ، ونوعتها تنويعاً1، قال تعالى: {الم (البقرة:1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} . إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ} 1، وهل المهتدون والمفلحون إلا خواص عباد الله؛ وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 2، فخصهم بالصدق والتقوى، وحصرها فيهم؛ لأن ما ذكر، رأس العبادة، والإيمان متضمن لما لم يذكر، مستلزم له، فلهذا حسن الحصر. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3. فبدأ بذكر العبادة المجملة، ثم خص بعض الأفراد تنبيهاً على الاهتمام، وأنها من أصول الدين؛ ولئلا يتوهم السامع أن العبادة تختص بنوع دون ما ذكر في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} 4. ومعلوم أن إقامة الصلاة داخل فيما قبله؛ لأنه آكد الأركان الإسلامية بعد الشهادتين، وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، والاستعانة عبادة بالإجماع، وعطفها على ما قبلها، اهتماماً بالوسيلة، وتنبيهاً على التوكل6. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 7. والعدل تدخل فيه الواجبات كلها، والإحسان تدخل فيه نوافل الطاعات وإيتاء ذي القربى /يدخل/8 فيه حق الأرحام، ونحوها من العبادات المتعدية، والنهي عن الفحشاء والمنكر يدخل /فيه/9، ما نهى الله عنه من ظاهر الإثم وباطنه، وتركه من أجل العبادات، والبغي من أكبر السيئات، وتركه من أهم الطاعات، فهذا كله داخل
في العبادة بالإجماع. و /قد/1 قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 2. فابتدأ الآية بالأمر بعبادته وحده لا شريك له، وعطف /بقية/3 العبادات4 المذكورة؛ اهتماماً بها وتنويهاً بشأنها. ولا قائل إن ما ذكر ليس بعبادة، بل أهل اللغة، وأهل الشرع، من المفسرين، وغيرهم، مجمعون على أن ما أمر به في هذه الآيات، من أفضل ما يتقرب /العبد/5 به من القرب والعبادات. وما علمت أحداً من أهل العلم واللغة يتنازع في ذلك، ولكن القوم كما تقدم6 عجم أو مولدون. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} 7، فعطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ما قبله، وإن كان يدخل فيه عند الإطلاق، تنبيهاً على ما تقدم من الاهتمام، /والحض/8 على ما ذكر في حديث جبريل، المشهور في الكتب الستة وغيرها، " أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، وهو جالس في أصحابه فقال له: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت. قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد
الموت، وبالقدر، خيره وشره، قال: صدقت، قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "1، فجعل ذلك كله هو الدين، بمعنى العبادة، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2، فجعل عبادة الله هي دين القيمة3. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه/4 قال: " الإيمان بضع وستون، أو بضع وسبعون، شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلى الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "5، ومن قال: ليست هذه الشعبة عبادة، فهو من شر6 الدواب، وأجهل الحيوان. وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في بعض أفرادها، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: " الدعاء هو العبادة "7،............................................................
وفي حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة "1. وكقوله: " الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين "2. وكل ما ورد من فضائل أعمال وأنواع الذكر، دخل في مسمى العبادة. وقد جمع ابن السني3 والنسائي4، في "عمل اليوم والليلة"، من ذلك طرفاً، يبين أن العبادة في أصل اللغة، بمعنى الذل والخضوع5. كما قال بعضهم6:
تباري عتاقاً ناجيات1 وأتبعت ... وظيفاً وظيفاً2 فوق مور3 معبد4. أي طريق مذلل، قد ذللته الأقدام5. والدين مأخوذ من معنى الذل والخضوع، يقال: أدنته فدان، أي ذللته فذل6. وفي الاصطلاح الشرعي: يدخل فيه كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة7، الخاصة والمتعدية، البدنية والمالية. وكذلك عرفها الفقهاء بأنها: ما أمر به شرعاً من غير اضطراد عرفي ولا إقتضاء عقلي8، إذا عرفت هذا، فالتقوى والعبادة والدين، إذا أفردت ولم تقترن بغيرها، دخل فيها مجموع الدين وسائر العبادات، وإذا اقترنت بغيرها فسر كل واحد بما يخصه؛ كالإيمان، والعمل الصالح9،.................................
والإسلام1، والإيمان، وصدق الحديث2، وكالإيمان، والصبر3، وكالعبادة /والإستعانة4/5، وكالتقوى، وابتغاء الوسيلة6؛ فيفسر كل بما يناسبه ويخصه، كما في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 7 فسر كل اسم بما يخصه مع الاقتران. وإذا أطلق اسم العبادة كما في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} 8، واسم الأبرار واسم الإيمان واسم الإسلام في مقام المدح والثناء دخل فيه الدين كله9. فمن عرف هذا، تبين له اصطلاح القرآن والسنة، وعرف أن هؤلاء المبتدعة، من أجهل الناس بحدود ما أنزل الله على رسوله. والصلاة نفسها تشتمل على أقوال وأفعال غير السجود، وكلها عبادة بإجماع المسلمين10، والقراءة عبادة، والقيام عبادة، والركوع عبادة، والرفع منه عبادة،
والسجود عبادة، والجلوس عبادة، والأذكار المشروعة في تلك المواطن عبادة، والتكبير عبادة، والتسليم عبادة.1
تفضيل القبورين للقبور على الكعبة
تفضيل القبورين للقبور على الكعبة ... أما قوله: إن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود؛ فهذا من جنس ما قبله في الفساد والضلال. فالحجر الأسود يمين الله في أرضه، من صافحه واستلمه فكأنما بايع ربه1. تفضيل القبوريين للقبور على الكعبة. قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} 2. ولم يرد في قبور الأولياء ما يدل على مثل ذلك، فضلاً عن أن تكون أفضل منه، والحج ركن من أركان الإسلام، والطواف بالبيت أحد أركان الحج، /والركن/3 الذي فيه الحجر الأسود، أفضل أركان البيت، والطواف به /من أفضل العبادات/4 وأوجبها.
والطواف بالقبور واستلامها من أوضاع المشركين والجاهلية، وفيها مضاهاة لما يفعله اليهود والنصارى عند قبور أحبارهم ورهبانهم. وأفضل القبور على الإطلاق قبره صلى الله عليه وسلم، ولا يشرع تقبيله واستلامه بالإجماع، بل ولا يشرع الدعاء عنده، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، وبيت العبد ببيت الرب. وبالجملة، فهذا القول شنيع لا مستند له ولا دليل عليه. وتقبيل الحجر الأسود مشروع1، وكذا استلامه باليد، فإن استلمه بالمحجن ونحوه لعذر، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحجر الأسود واستلمه بمحجن كان في يده2. وأما قوله: إنكم تعتقدون العلو، فنعم، نعتقده ونشهد الله عليه، وكل مسلم عرف الله بأسمائه وصفاته، يعتقد أنه العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، على الملك احتوى3. هذا نص القرآن، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 4 وأول من أنكر العلو فرعون، إذ قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} 5. كذب موسى فيما جاء به من أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق عباده، مستو على عرشه. وأما الآية التي احتج بها هذا الضال، فلم يعرف معناها، ولم يدر المراد منها،
وأهل التفسير متفقون على أن المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 1 أنه معبود في السماء ومعبود في الأرض2 لأنه الإله المعبود3، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} 4، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 5. والحلولية من غلاة الجهمية، يرون أنه حال بذاته في كل مكان6، لم ينزهوه عن شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأما حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "7، فهو حديث صحيح جليل، مثل قوله تعالى:8 {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 9 فالقرب في هذا ونحوه أضيف إلى العبد. والقلب إذا أناب
إلى الله، وأخلص في عبادته، وصدق في معاملته، كان له من القرب بحسب صدقه وإخلاصه ورتبته من الإيمان. فترتفع عنه حجب الشهوات والشبهات، وينقشع عنه ليلها وظلامها1؛ وهذا المعنى حق لا شك فيه. ويضاف القرب إلى الله تعالى، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2 فهذا قرب خاص للسائلين والداعين، وقد يقرب من عباده، ومن القلوب الطيبة كيف ما شاء لكنه قرب خاص، ليس كما يظنه الجهمي من أن ذاته تحل في المخلوقات3، فهو -سبحانه- ليس كمثله شيء في صفاته وكمال عظمته وقدرته4، وينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر5، وهو مستو على عرشه6، عال فوق خلقه، لا تحيط به المخلوقات، ولا تحتوي عليه الكائنات، ويدنو7 عشية عرفة فيباهي ملائكته بأهل الموقف8، ومع ذلك فصفة العلو والاستواء ثابتة في تلك الحال، لا يخلو العرش منه9، ولا نعلم قدر
عظمته إلا هو -جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه. وقد يكون المؤمن المخلص القريب من الله في مكان، معه من هو ملعون مطرود عن رحمة الله، وهما في مكان واحد، /كما/1جرى لموس وفرعون. فالقرب الذي وردت به الأحاديث2، وصرحت به النصوص3، حجة على الجهمي المعطل للعلو، القائل بأن الله في كل مكان، تعالى الله وتقدس. فهؤلاء الجهال خاضوا فيما قصرت عقولهم وأفهامهم عن إدراك معناه، وما يراد به، فصاروا في بحر الشبهات
غرقى، لا يعرفون لهم رباً، ولا يستدلون بصفة من صفاته على معرفة كماله وجلاله. وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه /من ربه/1 قراءة على الناس، وأكثره في معرفة الرب وصفاته وربوبيته وتوحيده، سمعه منه قرويهم وبدويهم، وخاصهم وعامهم، وعجمهم، ولم يشكل على أحد منهم ذلك، ولم يشك فيه2؛ بل آمنوا به وعرفوا المراد منه. ومضت القرون الثلاثة3 على إثبات ذلك، والإيمان به، وتلقى معناه عن الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 4. وإن جحد بعض المنافقين، فهو مدحور مقهور. حتى حدث ما حدث في آخر القرن الثالث5 وما بعده. وأما دعواه أن الأولياء يقدرون على خلق ولد من غير أب، فهذه طامة كبرى، وردة صريحة، وتكذيب لجميع الكتب السماوية، ورد على كل رسول، ومخالفة لإجماع الأمم المنتسبين إلى الرسل والكتب السماوية، فإنهم مجمعون على أن الله هو الخالق وحده، وغيره مخلوق6، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ
خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 1، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 2، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3، ولو كان لغير الله شركة في الخلق والتأثير، لكان له شركة في الربوبية والإلهية. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية4. فنفى سبحانه عن غيره أن يكون له ملك في السموات والأرض ولو قل، كمثقال ذرة، ونفى الشركة أيضاً في القليل والكثير، ونفي أن يكون له ظهير وعوين يعاونه في خلق أو تدبير؛ فإنه الغني بذاته /عما/5 سواه. والخلق بأسرهم فقراء إليه6. ثم نفي الشفاعة إلا لمن أذن له. قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من أصلها7.
ومعلوم أن من يخلق، له ملك ما خلقه، فلو كان ثم خالق غير الله، تعددت الأرباب والآلهة، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3، فعيسى داخل في عموم هذه الآيات، لم يخالف في ذلك إلى من ضل من النصارى4؛ قال تعالى في خصوص عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 5، فكان عيسى بكن كما كان آدم. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} إلى قوله: {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 6 فاعترف أن الله ربه وخالقه ومعبوده. فكفى بهذه النصوص /رداً/7 على من أشرك بالله، وجعل معه خالقاً آخر. وما احتج به الملحد من قوله تعالى حاكياً عن جبريل أنه قال لمريم: {قَالَ إِنَّمَا8
أَنَا1 رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} 2. فيقال: قراءة البصريين: "ليهب لك"، بالياء3، وهي تفسير للقراءة الأخرى. وعلى القراءة الأخرى نسب الهبة إليه لأنه سبب نفخ الروح في درعها، والسبب يضاف إليه الفعل، كما جزم به البيضاوي4 وغيرها في هذه الآية5. والله -سبحانه وتعالى- ينفذ أمره الكوني على يد من يشاء من ملائكته. وربما نسب الفعل إليهم، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} 6، وقال في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} 7، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 8، فأضافه إليهم لأنهم موكلون بقبض
الأرواح1. ولما كانوا لا يستقلون بشيء من دونه، ولا يفعلون إلا بمشيئته وحوله وقوته، صرح بهذا المعنى في الآية الأولى. فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 2 وأبلغ من هذا، أنه نسب إليهم التدبير في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 3؛ لأنهم رسل بأمره الكوني، وأخبر بأنه المدبر الفاعل المختار، في غير آية من كتاب الله، كقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 4، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5، إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 6؛ إلى غير ذلك من الآيات الدالات على اختصاصه تعالى بالتدبير والإيجاد. وفي الحديث القدسي: " ومن أظلم ممن يذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو يخلقوا شعيرة " 7،
.....................................................................
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية1، وأكابر الخلق؛ كالملائكة والأنبياء، لم يدع أحد منهم أنه إله، وأنه يخلق. قال تعالى في حق الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 2. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية3، فأخبر أن اتخاذهم أرباباً كفر بعد الإسلام. وأيضاً، فآخر الآية، وهو قوله: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} 4، فكونه هيناً عليه تعالى، وهو الذي جعله آية/5، وهو الذي قدره وقضاه، كل هذا يرد على المبطل. فتفطن-هداك الله- للأدلة على تفرده بالخلق والإيجاد والتدبير، لا يحيط بها إلا الله سبحانه. /وفي كل شيء له/6 آية ... تدل على أنه واحد7. أما كونهم لا يشهدون الجمعة والجماعة، ولا يسلمون ولا يردون السلام، فهم بذلك مخالفون لأهل السنة والجماعة، من سلف الأمة وأئمتها. ولو وجد في الإمام من الفجور ما لا يخرجه عن الإسلام، فأهل السنة يصلون خلف أهل الأهواء، إذا تعذرت الجمعة والجماعة خلف غيرهم8؛ وإن كانوا يرون كفر من لا يوافقهم
على /أهوائهم/1، فهم من جنس الخوارج الذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة، بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية2، وأنهم كلاب أهل النار3. وصلى الله وسلم4 على سيد ولد آدم، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده آمين. والحمد لله على /التمام وحسن الختام/5.
الرسالة الثالثة عشرة: إلى زيد بن محمد
الرسالة الثالثة عشرة: إلى زيد بن محمد المسألة الأولى: عن قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ... (الرسالة الثالثة عشرة) قال جامع الرسائل وله أيضاً -رحمه الله تعالى- رسالة إلى زيد بن محمد 2 وهذا نصها. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد -زاده الله علماً، ووهب لنا وله حكماً3- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالخط الذي فيه المسائل وصل، وحصل من الاشتغال والموانع، ما اقتضى تأخر الجواب، ونسأل الله لنا الإعانة على ما يقرب إليه من العلم والعمل. فأما المسألة الأولى4: عن قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 5. وقول السائل: إن الرب تبارك وتعالى لا يخفى عليه شيء وقد قال تعالى في سورة العنكبوت: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 6
فالجواب وبالله التوفيق: إن كلا الآيتين الكريمتين على عمومهما وإطلاقها، يصدق بعضها بعضاً. فأما آية يونس، ففيها الإخبار بنفي ما ادعاه المشركون، وزعموه من وجود شفيع، يشفع وينفع بدون إذنه تبارك وتعالى1؛ وأن هذا لا يعلم الله وجوده، لا في السموات ولا في الأرض، بل هو مجرد زعم وافتراء2، وما لا يعلم وجوده، مستحيل الوجود، منفي غاية النفي. فالآية رد على المشركين الذين تعلقوا على الشركاء والأنداد، بقصد الشفاعة عند الله والتقرب إليه. وأما آية العنكبوت، ففيها إثبات علمه سبحانه وتعالى بكل مدعو أو معبود من أي شيء كان، لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة3. ففي الآية الأولى نفي العلم بوجود ما لا وجود له بحال؛ والآية الثانية فيها إثبات العلم بوجود ما عبدوه
ودعوه مع الله، من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع. قال ابن جرير-رحمه الله تعالى- في الكلام على آية يونس: يقول تعالى [ذكره] 1: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك صفتهم، الذين لا يضرهم شيء ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها، رجاء/شفاعتها/2عند الله. قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَه وتعالى عما يشركون} 3. يقول: (أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض، وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته، بل يعلم أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تضر ولا تنفع) انتهى4. وحاصلة أن النفي واقع على ما اعتقدوه وظنوه من وجود شفيع يشفع وينفع ويقرب إلى الله، وذلك الظن والاعتقاد وهم وخيال باطل لا وجود له. وبنحو ذلك قال ابن كثير5، حيث يقول: (ينكر تعالى على المشركون الذين عبدوا مع الله غيره، ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، وأخبر أنها لا تنفع ولا تضرو لا تملك شيئاً ولا يقع شيء 6 مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبداً، ولهذا
قال تعالى: {قلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 1انتهى2. وقال /أبو السعود/3 الرومي في قوله /تعالى/ 4: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 5 أي وتخبرونه بما لا وجود له أصلاً، وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله، إذ لو كان ذلك لعلمه علام الغيوب. وفيه تقريع لهم وتهكم بهم وبما يدعون من المحال، الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان، وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} حال من العائد6 المحذوف في "يعلم" مؤكدة للنفي، لأن ما لا يوجد فيها فهو منتف عادة) 7 انتهى. وقال العلامة ابن القيم8 في الكلام على هذه الآية: هذا نفي لما ادعاه المشركون من
الشفعاء، كنفي علم الرب تعالى بهم، المستلزم لنفي المعلوم، ولا يمكن أعداء الله المكابرة، وأن يقولوا قد علم الله جود ذلك، لأنه تعالى، إنما يعلم وجود ما أوجده وكونه، ويعلم أنه سيوجد ما يريد إيجاده، فهو يعلم نفسه وصفاته ومخلوقاته التي لم توجد بعد. وأما وجود شيء آخر غير /مخلوق/1 له ولا مربوب، فالرب تعالى لا يعلمه، لأنه يستحيل2 في نفسه، فهو سبحانه يعلمه مستحيلاً، /فكذلك/3 حجج الرب تبارك وتعالى، على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه المفترون4 التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من رجوع. فإذا وازنت بينهما ظهرت لك المفاضلة، إن كنت بصيراً. {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} 5، انتهى6.
المسألة الثانية: عن قوله تعالى: {وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء}
وأما المسألة الثانية1: عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} الآية2؛
فقد أشكل معناها على كثير من المفسرين، فزعموا أن المعنى: نفي أتباعهم شركاء، فجعلوا "ما" نافية، و"شركاء" مفعول يتبع، أي لم يتبعوا في الحقيقة شركاء، بل هم عباد مخلوقون مربوبون، والله هو الإله الحق لا شريك له1. وأما ابن جرير -رحمه الله- فقرر أن "ما" في هذا المحل استفهامية، لا نافيه. قال -رحمه الله-: (ومعنى الكلام: أي شيء يتبع من يقول: لله شركاء في سلطانه وملكه كاذباً والله المتفرد بملك كل شيء في سماء كان أو في أرض، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} 2 يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك [ودعواهم] 3 (إلا الظن) يقول: إلا الشك، لا اليقين. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون} 4 انتهى5. وقال شيخ الإسلام6 -رحمه الله- ظن طائفة أن "ما" هاهنا نافية، وقالوا: ما يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة، بل هم غير شركاء، وهذا خطأ، ولكن "ما" هاهنا حرف استفهام، والمعنى: وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، فشركاء مفعول يدعون، لا مفعول يتبع؛ فإن المشركين يدعون من دون الله شركاء، كما أخبر عنهم بذلك في غير موضع7
فالشركاء موصوفون في القرآن بأنّهم يُدعَون من دون الله، ولم يوصوفوا بأنّهم يُتَّعون، فإنَّما يُتَّبع الأئمة الذين كانوا يدعون هذه الآلهة1، ولهذا قال بعد هذا: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 2. ولو أراد أنهم ما يتبعون في الحقيقة شركاء، لقال: إن يتبعون إلاّ من ليسوا بشركاء، بل هو استفهام، يبيّن أنّ المشركين الذين دَعَوا من دون الله شركاء، ما اتبعوا إلاّ الظنّ، ما اتبعوا علماً، فإنّ المشرك لا يكون معه علم مطابق، وهو فيه ما يتبع إلاّ الظنّ، وهو الخرص والحرز، وهو كذب وافتراء، كقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 3.4
المسألة الثالثة: عن قولك: أسألك بمعاقد العز من عرشك
وأما المسألة الثالثة: عن قولك: أسألك/بمعاقد/1 العز من عرشك2. فكره أبو حنيفة3
-رحمه الله- المسألة بعقد العز1، وأجازها2 صاحبه أبو يوسف3 لأنه قد يراد بهذه الكلمة المحل، أي محل العقد وزمانه، كمذهب، يطلق على محل الذهاب وزمانه. وربّما أريد به المفعول، كمركب بمعنى المركوب، ويكون هنا اسم مصدر من عقد يعقد عقداً؛ والاسم معقد، ويكون صفة ذات، ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله4. وأما أبو حنيفة فنظر إلى أن اللفظ محتمل لمعاني متعدّدة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبيّن المعنى5.
المسألة الرابعة: عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور إلى من تكلني إليه إلى بعيد يتجهمني
وأما المسألة الرابعة: عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " إلى من تكلني إليه، إلى بعيد يتجهمني " 6.
فاعلم أن التجهم الغلظة والعبوس والاستقبال بالوجه الكريه، والجهم الغليظ المجتمع. وجَهُمَ ككَرُمَ جِهَامَةً وجَهُوْمَةً: استقبله بوجه كريه كتجهُّمِه1. والجهمة آخر الليل أو بقية السواد من آخره2، وأجهم: دخل فيه انتهى. وبه يظهر أن التجهم /يقع/3 على الاستقبال بوجه مظلم عبوس؛ ومن صفات الجهم4.
وأما المسألة الخامسة: عن قوله صلى الله عليه وسلم أعوذ بنور وجهك
وأما المسألة الخامسة1: عن قوله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بنور وجهك " 2 وقوله في حديث أبي موسى3: " حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه4 /ما انتهى إليه بصره من خلقه /5 6،
وقول السائل: هل يفسر بهذا النور /أو/1 لا"؟ فالجواب: إنّ النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم –رحمه الله- في نونيته2. وما في دعائه صلى الله عليه وسلم مخرجه من الطائف، من الأول بلا ريب3، فهو صفة ذات، ولذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنفس. وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السبحات المضافة إلى وجه الله، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، على ما يأتي تفسيره. وأما قوله: (حجابه النور) ، فقد ذكر السيوطي4 وغيره في الحجب آثاراً عن السلف، تدل على أن الله سبحانه احتجب بحجب من نور، مخلوقة له.5 وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إلى إليه، لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم من
أوصاف الذات1. والأصل في العطف أن يكون في المغايرة2. وقال3 في الجيوش الإسلامية: والله سبحانه وتعالى سمى نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله صلى الله عليه وسلم نوراً، ودينه نوراً، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نوراً، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية4، وقد فسِّر بكونه مُنَوِّرُ السموات والأرض5. وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه، قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. فالنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصفها، وإضافة فعل6 إلى فاعله. فالأول كقوله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 7، إذا جاء لفصل القضاء. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " أعوذ بنور وجهك الكريم أن /تضلَّني/8 لا إله إلا أنت" 9.
وفي الأثر الآخر: " أعوذ بوجهك أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات "1 فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجه الله؛ كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره2. وفي معجم الطبراني3 والسنة له، وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي4 /وغيرها/5 عن ابن مسعود6 رضي الله عنه: ليس عند ربكم ليلٌ ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه) 7. وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية، من قول من
فسرها أنه هادي أهل السموات والأرض1. وأما من فسّرها بأنه منوِّر السموات والأرض، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود. والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلِّها. وفي صحيح مسلم2 وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" 3 فذكرها. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر4 رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال: " /نورٌ/5 أنّى أراه" 6. قال شيخ الإسلام: معناه: كان ثَمَّ /نورٌ/7، وحال دون رؤيته نورٌ، /و/8 أنّى أراه. قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك عزّ وجلّ قال: (رأيت نوراً) 9. وذكر الكلام في الرؤية ثم قال: ويدل على صحة10 ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:
" حجابه نور" 1. فهذا النور هو -والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه2 رأيت نوراً" 3.4 أمّا السبحات: فهو نور الذات المقدسة العليّة، وهو النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم وكلامه فيه إيماء إلى أنه تعالى احتجب بهذا النور المذكور، وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية الباري تعالى وتقدس، وهو النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر " رأيت نوراً "5. وقد احتجب سبحانه
وتعالى بحجب عن خلقه من نور ومن غيره، كما ذَكَرَ في آثار مرويّة عن السلف جمعٌ كثيرٌ، منهم السيوطي في كتاب الهيئة السنيّة1. وإذا فُسِّرَت السبحات بأنوار وجهه الكريم، جازت الاستعاذة بها لأنها وصف ذات2. ويؤيد ما أومأ إليه ابن القيم –رحمه الله- قول ابن الأثير3
/سُبُحات1 الله: جلاله وعظمته/2، وهي في الأصل جمع سُبحة؛ وقيل: /أضواء/3 وجهه. وقيل سُبحات الوجه: محاسنه، وقيل معناه: تنزيه له، أي /سبحان/4 وجهه، وقيل إنَّ سبحات /وجهه/5 كلام معترض بين الفعل والمفعول، أي لو كشفها لأحرقت كل شيء /أبصرت6/.7 قلت: يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به، ولذلك قال: لو كشفها. قال: وأقرب من هذا، أنّ المعنى: لو انكشف من أنوار الله تعالى التي تحجب العباد شيءٌ، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خرّ موسى عليه السلام صعقاً، وتقطّع الجبل دكاً8 لمّا تجلّى الله تعالى9. ففي كلام ابن الأثير ما يدل على أنّ الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمّله10، وذكر ابن الأثير وغيره أن جبريل عليه السلام قال: لله دون العرش سبعون حجاباً، لو دنونا من /أحدها/11 لأحرقت سبحات وجهه12. انتهى.
ومقتضى ما قال القرطبي في حديث أبي موسى (حجابه النور أو النار) 1: وأن هذا حجاب منفصل عن نور الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريقة المتكلمين فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال ونعوت الجلال2.
المسألة السادسة: عن قوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا
المسألة السادسة: عن قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا ... وأما المسألة السادسة 3: عن قوله تعالى في قصة شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 4، وقال السائل. "وهم لم يدخلوا فيها فاعلم أنّ المسألة شاعت وذاعت واشتهرت وانتشرت، والخلاف فيها قديم بين أهل السنة والمعتزلة5، وبين أهل السنة بعضهم لبعض، والذي
روى ابن أبي حاتم1 عن عطية2 عن ابن عباس3 كانت الرسل والمؤمنون
تستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويدعونهم إلى العودة إلى ملّتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملّتهم وفي ملّة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا عليه"1. وقد رواه السدي2 عن أشياخه، وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت3 كما كان الرسل قبل الرسالة؛ وأنهم كانوا أغفالاً قبلُ، أي لا علم بما جاءهم من عند اله، قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم.4 وهذا الذي رأيته منصوصاً عن أئمة السلف، وأما من بعدهم كابن الأنباري5 والزجاج6 وابن الجوزي7 والثعلبي8 والبغوي9، فهؤلاء يُؤَّوِّلون
ذلك على معنى: لتصيرنّ ولتدخلنّ، وجعلوه بمعنى الابتداء1 لا بمعنى الرجوع إلى شيءٍ قد كان؛ وأنشدوا على ذلك ما اشتهر عنهم في تفاسيرهم كقول الشاعر: فإن تكن الأيام أحسنَّ مرَّة ... إليَّ لقد عادت لهنّ ذنوب2 وكقوله: وما المرء إلاّ كالشهاب وضوئه ... يحور رماداً بعد ما كان ساطعاً3 وقول أُميَّة4: تلك المكارم لا قعبان5 ... .......................................................
...........من لبن /شيبت/1 ... بماء /فعادت/2 بعد أبوالا3 وأمثال ذلك مما يدل على الابتداء4. وبعضهم أبقاه على معناه، وقال: هو التغليب، لأنّ قومهم كانوا في ملّة الكفر فغلب الجمع على الواحد.5 لكن تعب ذلك شيخ الإسلام /ابن تيمية/6 -رحمه الله تعالى- فقال: وأما التغليب فلا يأتي في سورة إبراهيم.7 وأما جعلها بمعنى الابتداء والصيرورة، فالذي في الآيات الكريمة، عود مقيد بالعود في ملّتهم؛ فهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم " العائد في هبته كالعائد في قيئه" 8........
وقوله: " ... ومن /يكره/1 أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه".2 وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3 فالعود في مثل هذا الموضوع عود مقيد، صريح بالعود إلى أمر كان عليه الرسل وأتباعهم، لا يحتمل غير ذلك، ولا يقال إنّ العود في مثل هذا يكون عوداّ مبتدأ، وما ذكر من الشواهد أفعال مطلقة ليس فيها: /إن عاد لكذا/4 ولا عاد فيه. قال: ولهذا سُمِّي المرتدُّ عن الإسلام مرتداًَ /وإن كان عاد على الإسلام/5 ولم يكن كافراً عند عامة العلماء. قال: وأما قولهم إن شعيباً والرسل ما كانوا في ملتهم قط، وهي ملة الكفر؛ فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال فهو خبر يحتاج إلى دليل عقلي، وليسس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك. وأما العقل ففيه نزاع والذي تظاهر عليه أهل السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي6: (وقال كثير منهم ومن أصحابنا وأهل الحق
إنه لا يمتنع بعثة من كان كافراً، أو مصيباً للكبائر قبل البعثة1. قال: ولا شيء عندنا يمنع ذلك على ما تبين القول فيه. ثم ذكر الخطيب الخلاف في إصابته الذنوب بعد البعثة، وأطال الكلام ثم قال: (فصل في جواز بعثة من كان مصيباً للكفر والكبائر قبل الرسالة) قال: والذي يدل على ذلك أمور: أحدها: أن إرسال الرسول وظهور الأعلام عليه، اقتضى ودل -لا محال- على إيمانه وصدقه وطهارة سريرته، وكمال علمه ومعرفته بالله؛ وأنه مُؤَدٍ عنه دون غيره، لأنه إنما يظهر الأعلام ليستدل به على صدقه فيما يدعيه من الرسالة. فإذا كان بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال من الطهارة والنزاهة، والإقلاع عما كان عليه، لا يمنع بعثته2، وإلزام توقيره وتعظيمه، وإن وجد منه ضد ذلك قبل الرسالة، وأطال الكلام.3 ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك (أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه) 4، كما قال /الله تعالى/5: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 6 وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 7 وقال: من نشأ بين قوم مشركين جهال، لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم، إذا كان عندهم معروفاً8 بالصدق والأمانة، وفِعْلِ ما يعرفون وجوبه،
واجتناب ما يعرفون قبحه؛ وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1 ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة2. وإذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما يعلم قبحه، وبين من يفعل ما لا يعرف، فإن هذا الثاني لا يذمُّونه ولا يعيبونه عليه، ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفراً عنه بخلاف الأول، ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفاً بشرك، فإنهم نشئوا على شريعة التوراة، وإنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم. وأما ما ذكره سبحانه وتعالى في قصة شعيب والأنبياء، فليس في هذا ما ينفر أحد عن القبول منهم وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليته، وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام، كأبي بكر الصديق، فإنه لم يزل معروفا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، لم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه فيه، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم. وقد تبيّن أنّ ما أخبر به عنهم قبل النبوّة في القرآن من أمر الأنبياء، ليس فيه ما ينفر /أحداً/3 عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم، ولهذا لم يذكر أحد من المشركين هذا، قادحاً في نبوته، ولو كانوا يرونه عيباً لعابوه، ولقالوا: كنتم أنتم أيضاً على الحالة المذمومة، ولو ذكروا للرسل هذا لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف ما أوحي إلينا؛ ولكنهم قالوا: إن أنتم إلاّ بشر مثلنا، فقالت الرسلُ: إن نحن إلاّ بشرٌ مثلكم، ولكن الله يمنُّ على من يشاء من عباده. قال: وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسولٍ، لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله من أمور النبوة والشرائع، ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر، والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم هذا، فضلاً عن أن تقرَّ به4. فعلم أن عدم العلم والإيمان لا
يقدح في نبوته، بل الله إذا نبّأهم علَّمهم ما لم يكونوا يعلمون. قلت: وقوله: وقد اتفقوا كلّهم، يعني أهل السنة والمعتزلة. ثم قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ 1} 2، [وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ3 أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 4. فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق، وكلاهما عرفوه بالوحي5. واستدل على هذا بآيات، إلى أن قال: وقد تنازع الناس في نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة6، وفي معاني بعض هذه الآيات، في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 7وفي قوله:
{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} 1، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 2وما تنازعوا في معنى آية الأعراف، وآية إبراهيم. فقال قوم3 لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه4، ولا كان يأكل ذبائحهم. وهذا هو المنقول عن أحمد، قال: من زعم أنه على دين قومه فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب. ثم قال الشيخ: ولعلّ أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام فغلط الناقل عنه. فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام5. وأما كونه لا يأكل من ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر6، وأحمد من أعلم الناس بالآثار. قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسول، وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما
ذكر في سورة المائدة1 وقد ذكر في السور المكيّة، كالأنعام تحريم ما أُهِلَّ به لغير الله2، وتحريم هذا إنما يعرف في القرآن، وتحريم هذا إنما يعرف في القرآن، وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا، بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما /ذَبَحوا/3 لِلَّحم وبين ما ذبحوه للنصب /على/4 جهة القربة والأوثان؛ قال فهذا من جنس الشرك، لا يقال قطّ في شريعة بحلها. كما كانوا يتزوّجون المشركات أوّلاً. قال: والقول الثاني: إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه وفسِّر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم، لا بالموافقة لهم على شركهم5. وذكر أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات. قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء، لا يحج يهودي ولا نصراني، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فهو من لوازم الحنيفية، كما أنه لم يكن مسلماً إلاّ من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما قبل محمد /فكان بنو/6 إسرائيل على ملّة إبراهيم، /و/7 كان الحج مستحباً قبل محمد صلى الله
عليه وسلم1 لم يكن مفروضاً؛ ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء. ثم قال: ولكن تحريم المحرمات ما يشاركهم فيه أهل الكتاب، والختان يشاركهم فيه اليهود. وأطال الرد والنقل عن ابن قتيبة2 /رحمه الله/3، وذكر كلام ابن عطية4 في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 5 أنه أعانه وأقامه على غير الطريق التي كان عليها، هذا قول الحسن والضحاك6. قال: والضلال يختلف، فمنه القريب ومنه البعيد. وكونه الإنسان /واقفاً/7 لا يميّز بين المهيع8 /9/، ضلال قريب، لأنه لم يتمسك بطريقة10 ضالة، بل كان يرتاد وينظر11.
قال: والمنقول أنه عليه السلام كان قبل النبوّة يبغض عبادة الأصنام1، ولكن لم يكن ينهى عنها نهياً عاماً، وإنما كان ينهى خواصه. وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي2 وفيه: " فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وين الصفا والمروة، وكان3 عند الصفا والمروة صنمان من نحاس، أحدهما إساف /وألآخر/4 نائلة، وكان المشركون إذا طافوا تمسحون بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد /5: لا تمسحهما فإنهما رجس ". فقلت في نفسي: لأمسهما حتى أنظر ما يقول، فمسستهما، فقال: (يا زيد ألم /تُنْهَ /6) 7.
وقال أبو عبد الله المقدسي1: (هذا حديث حسن له شاهد في الصحيح) . والحديث معروف، وقد اختصره البيهقي2، وزاد فيه: قال زيد بن حارثة3:والذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنماً قط، حتى أكرمه الله بالذي أكرمه4. وفي قصة بحيرى5 الراهب، حين حلف باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تسالنّ باللات والعزى، فهو الله ما أبغضت بغضهما شيئاً قطّ" 6. وكان الله قد نزّهه عن أعمال الجاهلية، فلم يكن يشهد مجامع لَهْوِهِم، وكان إذا همُّوا بشيءٍ من ذلك ضرب الله على أذنه فأنامه، وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثاراً 7 وكانت قريش يكشفون عوراتهم لشيل حجر ونحوه، فنزّهه الله عن ذلك،
كما في الصحيين من قول جابر.1 وفي مسند أحمد زيادة: (فنودي: لا تكشف عورتك، فألقى الحجر ولبس ثوبه) 2. وكانوا يسمونه: الصادق الأمين3. وكان الله عز وجل قد صانه عن قبائحهم، ولم يعرف منه قط كذبة ولا خيانة ولا فاحشة ولا ظلم قبل النبوة4، بل شهد مع عمومته حِلفَ المطيبين5 على نصر المظلومين.
وأما الإقرار بالصانع وعبادته، والإقرار بأن السماوات والأرض مخلوقة له، محدثة بعد أن لم تكن، وأنه لا خالق غيره، فهذا كان عامتهم يعرفونه ويقرون به1، فكيف لا يعرفه هو ولا يقر به وذكر الشيخ بعض علامات النبوّة، وتغيّر العالم بمولده، ثم قال: لكن هذا لا يجب /أنه/2 يكون مثله لكل نبي، فإنه أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم3، والله سبحانه إذا أهّلَ /عبداً/4 لأعلى المنازل والمراتب، ربّاه على قدر تلك
المرتبة، فلا يلزم إذا عصم نبياً، أن يكون معصوماً قبل النبوة من كبائر الإثم والفواحش، صغيرها وكبيرها، ولا يكون كل نبي كذلك. ولا يلزم إذا كان الله بغّض إليه شرك قومه قبل النبوة، أن يكون كل نبي كذلك، كما عُرف من حال نبينا صلى الله عليه وسلم، وفضائله لا تناقض ما روي من أخبار غيره، إذا كان كذلك، ولا يمتنع كونه نبياً، لأن الله تعالى فضّل بعض النبيين على بعض1 كما فضّلهم بالشرائع والكتب والأمم، وهذا أصل يجب اعتباره. وقد أخبر الله أن لوطاً كان من أمة إبراهيم، وممن آمن له2 وأن الله أرسله. والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم يكون أكمل وأعظم ممن كان من قوم لا يعرفونه، فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى، ومن جهة تأييده بالنصر والقهر3. قلت: وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل، وعدم الاحتياج إلى التكليف في الجواب عن مثل آية إبراهيم4 ونحوها، وإن قصارى ما يقال في مثل قوله /تعالى/5 لنبينا: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 6 وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} 7..............................................
/هو/1 عدم العلم بما جاء /به/2 من النبوة والرسالة، وتفاصيل ما تضمن ذلك من الأحكام الشرعية والأصولية الإيمانية، وهذا غاية ما تيسّر لنا في هذا المقام الضنك، الذي أحجم عنه فحول الرجال، وأهل الفضائل والكمال، ونستغفر الله من التجاسر والوثوب على الكلام في مثل هذا المبحث3 الذي زلّت فيه أقدام وضلّت فيه أفهام، واضطربت فيه أقوال الأئمة الأعلام. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرسالة الرابعة عشرة: محمد بن عون
الرسالة الرابعة عشرة: محمد بن عون ... (الرِّسَالَةُ الرابعَةُ عَشَرَةِ) قال جامع الرسائل وله أيضاً -قدّس الله روحه ونوّر ضريحه- رسالة إلى محمد بن عون، نزيل عمان، وسبب ذلك: أوراق ألقيت إلى حضرة الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- حاصلها التلبيس والتشويش على عوام المسلمين. فأجابه -رحمه الله تعالى- بما كشف عن قناع هذه الشبهة الباطلة، /والتمويهات التي هي عن الصراط السوي مائلة/2 مع أنَّ صاحبها من الجهلة الطغام، ومن جملة سائمة الأنعام.3 وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه على ذكره وشكره، ووفقه للجهاد في سبيله، ومراغمة من تجهَّم، أو نافق، أو ارتدَّ، من أهل دهره، وعصره؛ سلام عليكم ورحمة الله، وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو على ما منّ به من سوابغ إنعامه، وجزيل فضله وإكرامه. والخط وصل، وصلك الله ما يرضيه، وسرّنا سلامتكم وعاقيتكم. وما ذكرت صار معلوماً، والواجب على المكلفين، في كل زمان ومكان، الأخذ بما صح وثبت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره.
ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه، فعليه بما كان عليه السلف الصالح، والصدر الأول، فإن لم يدر شيئاً من ذلك، وصح عنده عن أحد من الأئمة الأربعة المقلَّدين، الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغٌ حينئذٍ. فإن كان المكلَّف أنزل قدراً، وأقل علماً، وأنقص فهماً، من أن يعرف شيئاً من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه، أو من قبلهم، خصوصاً من عُرِف بمتابعة السًنَّة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع؛ فهؤلاء أحرى الناس، وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم؛ فاعرف هذا، فإنه مهم جداً. ثم لا يخفاك أنه قد ألقي إلينا أوراق وردت من جهة عمان، كتبها بعض الضالين، ليُلبِّس ويُشَوِّش بها على عوام المسلمين، ويتشبع بما لم /يعط/1، من معرفة الإيمان والدين. وبالوقوف على أوراقهم، يَعرف المؤمن حقيقة حالهم، وبعيد ضلالهم، وكثافة أفهامهم؛ وأنّهم ملبوس عليهم، لم يعرفوا ما جاءت به الرسل، ولم يتصوّروه، فضلاً عن أن يدينوا به ويلتزموه. وأسئلتهم وقعت لا لطلب الفائدة والفهم، بل للتشكيك، والتمويه، والتحلي بالرسم، والوهم. ومن السنن المأثورة، عن سلف الأمة وأئمتها، وعن إمام السنة أبي عبد الله، أحمد ابن محمد بن حنبل -قدس الله روحه- التشديد في هجرهم، وإهمالهم، وترك جدالهم، وإطراح كلامهم، والتباعد عنهم /حسب/2 الإمكان، والتقرب إلى الله بمقتهم، وذمهم، وعيبهم. وقد ذكر الأئمة من ذلك، جملة في كتب السنة، مثل: كتاب السنة لعبد الله3 بن الإمام أحمد والسنة للخلاّل4،.......................
والسنة لأبي بكر الأثرم1، والسنة لأبي القاسم اللالكائي2، وأمثالهم. فالواجب: نهي أهل الإسلام، عن سماع كلامهم، ومجادلتهم؛ لاسيما وقد اقفرَّ ربعُ العلم في تلك البلاد، وانطمست أعلامه. قال في الكافية الشافية -/رحمه الله تعالى/3 -: فانظر ترى لكن نرى لك تركها ... حذراً عليك مصائد الشيطان فشباكها والله لم يعلق بها ... من ذي جناح قاصر الطيران إلا رأيت الطير في /شبك/4 الردى ... يبكي له نوحٌ على الأغصان5 وإذا عُرِف هذا، فأحد الورقتين، المشار إليهما، ابتدأها الملحد الجاهل، بسؤال يدل على إفلاسه من العلم، ويشهد بجهالته وضلالته. وهو قوله: الرؤية الثابتة، عند أهل السنة والجماعة في الجنة6، هل هي بصفات
الجلال، أو الجمال، أو الكمال؟! ولم يشعر هذا الجاهل الضال، أنّ الرُّؤية تقع على الذات المتصفة بكل وصف، يليق بعظمته، وإلهيّته، وربوبيّته، من جلال، وجمال، وكمال؛ وأن صفات الجلال ترجع إلى الملك، والمجد، والسلطان، والعزة. والجمال وصف ذاتي، كما أن الجلال كذلك، والكمال /حاصل بكل/1 صفة من صفاته العُلى، فله الجلال الكامل، والجمال الكامل، والمجد، والعزة والسلطان التي لا تُضاهى ولا تماثل؛ فهذه أوصاف ذاتية، لا تنفك عنه في حال من الأحوال، وإنما يقال: تجلّى بالجلال، والمجد، والعزة، والسلطان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات؛ كما يقال: تجلّى بالرحمة، والكرم، والعفو، والإحسان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات في العالم؛ ويستحيل أن يرى تعالى، وقد تخلف عن صفة جلال وجمال وكمال. ولو وقف هذا الغبي، على ما جاء في الكتاب والسنة، من إثبات الرؤية، وتقريرها، ولم يتجاوز ذلك، إلى تخليط، صَدَرَ عن من لا يدري السبيل، ولم يقم بقلبه شيءٌ من عظمة الربّ الكبير الجليل، لكان أقرب إلى إيمانه، وإسلامه. وأما قوله: وما الفرق ين صفات المعاني، والمعنوية2؟ فهذه الكلمة، لو فرضت صحتها، فالجهل بها لا يضر، ولم تأت الرسل بما يدلّ أن
من صفات الله ما هو من المعاني، وما هو من الصفات المعنوية؛ وهذا التقسيم: يطالب به الأشعرية1، والكرامية2، ونحوهم؛ فلسنا منهم في شيء. والعلم: آية محكمة؛ أو فريضة عادلة؛ أو /سنة متبعة/3؛ هكذا سبيله، /وما سوى ذلك/4 فالواجب: إطراحه وتركه؛ والعلم كل العلم، في الوقوف /مع ألفاظ الرسول/5، وترك ما أحدثه الناس، من /العبارات/6 المبتدعة. ومن الأصول المعتبرة، والقواعد المقررة، عند أهل السنة والجماعة، أن الله تعالى، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز ذلك أهل العلم والإيمان، ولا يتكلَّفون علمَ ما لم يصف الربّ تبارك وتعالى /به نفسه/7، وما لم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله أكبر، وأجل، وأعظم، في صدور أوليائه وعباده المؤمنين، من أن يتكلّموا في صفاته، بمجرّد /آرائهم/8، واصطلاحاتهم، وعبارات متكلّميهم.
وأما قول السائل: وهل صفات المعاني ثابتة في ذات الله؟ فهذه عبارة نبطيّة1 أعجمية، لأنه /إنْ/2 أريد بالإضافة، إضافة الدال /على المدلول/3، فكل صفاته تعالى، لها معان ثابتة لذاته المقدسة، وأي وصف ينفكّ /عن هذا/4، لو كانوا يعلمون. وإن أريد بالإضافة، إضافة الصفة للموصوف، أي المعاني الموصوفة، فالمعاني الموصوفة، منها صفات أفعال، وصفات ذات. وأما قوله: وما الاعتبارات الأربع؟ فهذه كلمة ملحونة، أعجمية؛ والعرب تقول: الاعتبارات الأربعة، لا الأربع؛ والحكم معروف في باب العدد5؛ وأما معناها، فهو إلى الألغاز، والأحاجي، أقرب منه إلى الكشف، والإيضاح في السؤال؛ فالحساب تجري فيه اعتبارات أربعة، من جهة لفظه، وإفراده، وجمعه، وتصحيحه؛ وكسر، وضربه، وطرحه؛ وتجري الاعتبارات الأربعة، فما فوق في أبواب الفقه، من كتب الفروع، من كتاب الطهارة، إلى أبواب العتق، والإِقرار. وكثير من عباراته تختلف مفهوماتها، باختلاف عباراتها، وكذلك المقدّمات العقلية، والأدلة النظرية، والبديهيات الذهنيّة، والضروريات الحسيّة، لها اعتبارات، ولها حالات، ولها مراتب، ودرجات، يطلق عليها لفظ الاعتبارات. وكذلك قوله: وما الوجود الأربع؟ عبارة ملحونة أعجمية، فقد يراد بها ما يوجد في الأعيان، والأذهان، واللسان،
والبنان1. وقد يراد بها غير ذلك، من مراتب وجود العلم2، أو وجود الوحي، فإنه قسم هذا التقسيم، باعتبار إدخال الإِلهام في مسمى الوحي3. وكذلك الجهل، له مراتب أربع، فمنه الجهل المركب، ومنه البسيط، وكلاً منهما، إما في السمعيات، أو العقليات؛ وكذلك الأخبار قطعية وظنية. وبالجملة: فالاِعتبارات الأربعة، والوجود، ونحو ذلك، تقع على كل ما تناله العبارة، ويصدق عليه اللفظ في أي فن، وأي حكم، فإن قال: المراد بالاعتبارات، والوجود، باعتبار صفاته تعالى، قلنا: تقسيم الاعتبارات والوجود، يختلف باختلاف المقاصد، والإِصطلاح؛ وليس في كلام السلف، ما يجيز الخوض، في اصطلاحات المتكلمين، والأشاعرة. وأما الفرق: بين الدليل، والبرهان: فالدليل: في اصطلاح الأصوليين، والفقهاء، ما يستدل به على إثبات الحكم وصحته؛ والبرهان: ذكر الحجة بدليلها.
وأما الفرق بين العهد والميثاق: فهو اعتباري، والمفهوم واحد1، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} 2 وقال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} 3 وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 4 وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ} 5 وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} 6 وطالع عبارات المفسرين7. وأما العهود التي أخذها الله من عباده، فلا يسأل عن كميتها، إذ لا يعلمها إلا الله، قال تعالى: {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} 8، وكل رسولٍ يؤخذ عليه، وعلى قومه العهد؛ فكيف يسأل عن كميتها؟ ومن ادعى علمها فهو كاذب؛ نعم: ما ذكر في القرآن، من أخذ العهد على الأنبياء، وعلى الأمم، كبني إسرائيل، وعلى بني آدم كافة، كما في آية يَس، وأخذ العهد على الذرية، فهذا معروف محصور. وأما قوله: وما العهود التي عاهدها معهم؟ فهذه عبارة: أعجمية، جاهلية؛ فالله عهد إليهم، ولم /يعاهدهم/9 هو، بل هم
عاهدوه، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه} 1، ولم يقل عاهدهم الله أبداً، فالمعاهدون هم العباد، والله عهد إليهم، وعاهدوه هم، ولم /يعاهدهم/2 هو؛ فاعرف جهل السائل، وعجميّته. وأما قوله: وكم من تعلقات للقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام؟ فاللفظ: أعوج، ملحون، لا تأتي: (من) بعد (كم) الاستفهامية أبداً؛ والرجل غلبت عليه العجمة في الفهم، والتعبير. فإن أريد بالتعليق، كون الأشياء، بالقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام؛ فأي فرد من أفراد الكائنات، يخرج عن هذا؟ ولا يتعلق به؟!. وأما قوله: وما علة نفي الحروف السبعة، من فاتحة الكتاب3؟ فهذا: عدم، لا نفي، والعدم لا يعلل؛ فلا يقال: لم عدمت بقية حروف الهجاء، من سورة الإخلاص مثلاً، أو من بسم الله الرحمن الرحيم؟ لأن المعنى المراد، حاصل بالحروف المذكورة، والتراكيب المسطورة، والعدم لا يعلّل، وإن عُلّل، فعلَّته عدمية. والسائل رأى كلمات مسطورة، فظنّها داخلة في مسمَّى العلّة، وإنما هي: جهالات، /وضلالات/4، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.5 آخر ما /وجد/6 من هذه الرسالة، /والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين/7.
الرسالة الخامسة عشرة: إلى صالح محمد الشثري
الرسالة الخامسة عشرة: إلى صالح محمد الشثري ... (الرِّسَالَةُ الخَامِسَةُ عَشَرَةِ) قال جامع الرسائل: وله أيضاً -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن محمد الشثري2 جواباً على سؤاله عن تفسير السبحات بالنور، هل هو من التأويل المردود أو لا؟ فأجابه رحمه الله تعالى بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم صالح بن محمد الشثري،-سدده الله فيما يعيد ويبدي- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله، الذي لا إلَه إلا هو، على سوابغ نعمه، والخط وصل –وصلك الله ما يرضيه، وتقبل دعوتك، وتجاوز عن سيئاتي وسيئاتك،- وسرنا بالإخبار عن عافيتك وسلامتك، ونهنئك بما هنأتنا به، جعلنا الله وإياك، من الفائزين برضاه، والمسارعين إلى العمل بما يحبه ويرضاه، ومنّ علينا باغتنام الصحة والفراغ، وأعاذنا من الغبن في هاتين النعمتين3، اللتين هما سفينة النجاة، ومركب أهل الصدق في المعاملات. وتسأل –رحمك الله- عن تفسير السبحات بالنور4، هل هو من التأويل المردود، أو لا؟ فلا يخفاك أنّ التأويل بالمعنى الأعم، يدخل فيه مثل هذه، وقد حكاه جمعٌ من أهل الإِثبات؛ وأما التأويل بالمعنى الأخص، عند الجهمية ومن نحا نحوهم، فليس؛ لأنهم أولوا النور الذي هو اسمه وصفته، بما يرجع إلى فعله وخلقه5؛ وليس
هذا1 منه؛ وقد فسرت السّبحات بالعظم، لأن أصل السبحة، من التنزيه والتقديس؛ وفسّرت: بضوء الوجه المقدّس؛ وفسرت بمحاسينه، لأن من رأى الشيء الحسن، والوجه الحسن، سبَّح باريه وخالقه؛ وقيل هي باقية على أصلها، لأن التسبيح التزيه. وقيل سبحات وجهه في الحديث2، جملة معترضة. يريد قائل هذا إسناد الفعل إلى الوجه المنزه، حكاه ابن الأثير؛ وقال: الأقرب أن المعنى، لو انكشف من أنواره التي تحجب العباد شيءٌ، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خرَّ موسى صعقا، وتقطَّع الجبل، لمّا تجلَّى سبحانه وتعالى3؛ وهذا لا يبعد، إن أريد نور الذات، هذا ما ظهر لي. وبلّغ سلامنا الشيخ عبد الملك4، والأخ حمد وعيالكم، ولا تنسانا من صالح الدعاء في هذه الليال المباركات. والعيال بخير وينهون السلام. /وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين/.5
الرسالة السادسة عشر: إلى محمد بن راشد الجابري
الرسالة السادسة عشر: إلى محمد بن راشد الجابري ... (الرِّسَالَةُ السَادِِسَةُ عَشَرَةِ) قال جامع الرسائل: وله أيضاً /-قدس الله روحه ونوّر ضريحه-/2 رسالة، جواباً لمسائل وردت عليه من محمد بن راشد الجابري. الأولى: فيمن آمن بلفظ الاستواء ولكن نازع في المعنى، وزعم أنه /هو/3 الاستيلاء. الثانية: عن رفع اليدين بالدعاء في الصلاة. الثالثة: عن الفطرة عن صوم رمضان. الرابعة: عن الابتداء بفاتحة الكتاب كلَّما أراد تلاوة القرآن. الخامسة: عن الرجل الذي يخالط أهل بلدته ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوا إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش. السادسة: البداءة بالسلام على الكافر. فأجاب /-رحمه الله-/4 بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم محمد بن راشد الجابري –سلّمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد:
فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلاّ هو، وهو للحمد أهلٌ، وهو على كل شيء قدير. والسؤالات وصلت. فأما السؤال الأول: فيمن آمن بلفظ الاستواء الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه الاستيلاء: فهذا جهميّ1 معطّلٌ، ضالٌ، مخالفٌ لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؛ وهذا القول هو المعروف عند السلف، عن جهم وشيعته الجهمية؛ فإنهم لم يصرحوا بردّ ألفاظ القرآن، كالاستواء، وغيره، من الصفات؛ وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد. وقولهم هذا، لا يعرف في المسلمين، إلاّ عن الجهم بن صفوان، تلميذ الجعد بن درهم؛ وكان الجعد قد سكن حرّان، مخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفِّرة، ما أنكره عليه كافة أهل الإِسلام، وكفَّروه بذلك، حتى إنّ خالد
ابن عبد الله القسري -أمير واسط في خلافة بني أمية- قتل الجعد، وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: (أيُّها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإنِّي مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلّم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً) ثم نزل فذبحه1، وشكره على هذا الفعل، وصوّبه أهل السنة. وإنما قال الجعد هذه المقالة، لاعتقاده أن الخلّة، والتكليم، والاستواء، ونحو ذلك، من الصفات، لا تكون إلاّ من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات، وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم، وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله تعالى، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته، ثم أخذوا في نفيها، وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإِلحاد في أسمائه، ولو عرفوا أنّ ما يثبت لله من الصفات، لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب عظمة الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات، لا تشبه صفات المخلوقات2؛ لو عرفوا هذا، لسلموا من التعطيل. وعلى قولهم، ومذهبهم الخبيث: لا يعبدون رباً موصوفاً بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال؛ وإنما يعبدون ذاتاً موصوفاً مجرّدة عن الصفات، فهم -كما قال بعض العلماء: لا يعبدون واحداً، أحداً، فرداً صمداً، وإنما يعبدون خيالاً عدمًا3. وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم، عن تلميذه جهم بن صفوان؛ ولذلك يسمى أهل هذا المذهب، عند السلف، وأئمة الأمة: جهميّة، نسبة إلى جهم.
ثمّ أعلن به وأظهره بشر المريسي1، وأصحابه، في أوائل المائة الثالثة، لأنهم تمكّنوا من بعض ملوك بني العباس2، وصار لهم عنده جاه ومنزله، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرُّهم، وعظم على الإِسلام وأهله كيدهم، وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم وضلالتهم، فشرّدوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب3. وجرى على إمام السنة، الإِمام المبجّل أحمد بن حنبل من ذلك أشدّ امتحان وأعظم بليّة، وضُرب حتى أغشي عليه من الضرب، فإذا جادله منهم مجادل، قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله، حتى أجيبكم إليه4، فيأبون ويرجعون إلى شبه الفلاسفة، واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبّين بطلانها، بأدلّة الكتاب،
والسنة، وإجماع الأمة، والأدلة العقلية الصريحة1. وصنّف في ذلك كتابه المعروف، في الرد على الزناقة، والجهمية2، وهو كتاب جليل، لا يستغنى عنه طالب العلم. والمقصود أن علماء الأمة، أنكروا مذهب الجهمية، أشدّ الإِنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضلاّل والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، وقد جمع الإِمام اللالكائي3، جملة من كلام السلف في تكفيرهم، وتضليلهم؛ في كتابه الذي سماه: "كاشف الغمة، عن معتقد أهل السنة"4 ومختصر كتابه، موجود عندكم في الساحل، قدم به: عبد الله بن معيذر5، عام اثنين وسبعين، وهو وقف على طلبة العلم الشريف. إذا عرف هذا، فأهل السنّة متفقون، في كل مصر، وعصر، على أن الله موصوف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، التي جاء بها الكتاب، والسنة؛ يثبتون لله، ما أثبته
لنفسه المقدّسة، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تشبيه؛ لا يبتدعون لله وصفاً، لم يرد به كتاب ولا سنة1، فإن الله تعالى: أعظم، وأجل، وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين، من أن يتجاسروا على وصفه، ونعته، بمجرد عقولهم، وآرائهم، وخيالات أوهامهم؛ بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة، على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطلون ما ورد /في/2 الكتاب والسنة، من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وينكرون تعطيل معنى الإِستواء، وتفسيره بالاستيلاء؛ ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطّل الصفات، من الجهمية وأتباعهم؛ وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري3؛ وظنّه بعض الناس من مذهب أهل السنة والجماعة؛ وسبب ذلك: هو الجهل بالمقالات، والمذاهب، وما كان عليه السلف.
قال حذيفة رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، /وكنت/1 أسأله عن الشر، مخافة الوقوع فيه) 2. فالواجب على من له نهمة في الخير، وطلب العلم أن يبحث عن مذاهب السلف، وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإِنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك؛ وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة قال الله تعالى: {آلمص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} 3 وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 4.فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن تفاسير السلف، وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلّماً، من أهل السنة، فقد احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة. وإن كان نظر العبد وميله، إلى كلام اليونان، وأهل المنطق، والكلام، ومشائخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت/به/5 وحلت قريباً من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه. ومن عدم العلم، فليبتهل إلى معلّم إبراهيم، في أن يهديه إلى صراطه المستقيم، وليتفطّن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته. وأما من جحد لفظ الاستواء، ولم يؤمن به، فهو أيضاً كافر؛ وكفره أغلظ وأفحش
من كفر من قبله،1 وهو كمن كفر بالقرآن كله؛ ولا نعلم أحداً قال هذا القول، ممن يدعي الإِسلام، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ والجهمي يوافق على كفر هذا، ولا يُشكِلُ كفر هذا على من عرف شيئاً من الإِسلام. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 2 أي: بالقرآن3. وأما قول الرجل: استوى، من غير مماسة للعرش4؛ فقد قدّمنا أن مذهب السلف، وأئمة الإِسلام، عدم الزيادة، والمجاوزة، لما في الكتاب والسنة، وأنهم يقفون وينتهون، حيث وقف الكتاب، والسنة، وحيث انتهيا. قال الإِمام أحمد -رحمة الله عليه-: (لا يوصف الله تعالى، إلاّ بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله) 5 انتهى. وذلك لعلمهم بالله وعظمته في صدورهم، وشدّة هيبتهم له، وعظيم إجلاله. ولفظ المماسة لفظ مخترع، مبتدع، لم يقله أحدٌ ممن يقتدى به، ويتّبع، وإن أريد به نفي ما دلّت عليه النصوص من الاستواء، والعلوّ، أو الارتفاع، والفوقيّة، فهو قول باطل، ضالٌ، قائله مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع سلف الأمة، مكابر للعقول الصحيحة، والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب، من جنس من قبله؛ وإن لم يرد هذا المعنى، بل أثبت العلو والفوقية، والارتفاع الذي دلَّ عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه هو مبتدع ضالٌ، قال في الصفات قولاً مشتبهاً موهماً، فهذا اللفظ لا يجوز نفيه، ولا إثباته6.
والواجب في هذا الباب: متابعة الكتاب والسنة، والتعبير بالعبارات السلفية السنيَّة الإيمانية، وترك المتشابه. وأما من يقول: إذا قلتم إنّ الله على العرش استوى، فأخبروني قبل أن يخلق العرش، كيف كان، وأين كان، وفي أي مكان؟! وجوابه: أن يقال، أما كيف كان فقد أجاب عنه إمام دار الهجرة، الذي تضرب إليه أكباد الإِبل، في طلب العلم النبوي، والميراث المحمدي، قال له السائل، يا أبا عبد الله1: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة؛ وأمر بالسائل فأخرج عنه3، فأخبر -رحمه الله- أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلاّ بعلم كيفية الذات، وقد حجب العباد عن معرفة ذلك، لكمال عظمته، وعظيم جلاله، وعقول العباد، لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر، والتفكُّر، فيما خلق وقدر؛ وإنما يقال: "كيف /هو/"4 لمن لم يكن ثم كان؛ فأمَّا الذي لا يحول ولا يزول، ولم يزل، وليس له /نظير ولا/5 مثل، فإنه لا يعلم كيف هو، وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولم يمت، ولا يبلى. "وكيف" يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى، يعرفه عارف، أو يحدّ قدره
واصف لأنّه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه؛ والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه، كالبعوضة، وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به، ويحتال من عقله أخفى وأعضل مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وقال بعضهم2 مخاطباً للزمخشري3، منكراً عليه نفي الصفات: شعر: قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر القول فذا شرح يطول أنت لا تفهم إياك لا ... من أنت ولا كيف الوصول لا ولا تدري خفايا رُكَّبت ... بك حارت في خباياها العقول أنت آكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري منك أم كيف تبول تبولتبول أين منك الروح في جوهرها ... كيف تسري فيك أم كيف تحول فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك /كذا فيها ضلول/4 كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول5 وبالجملة: فهذا السؤال، سؤال مبتدع، جاهل بربه؛ وكيف يقول: إذا قلتم، إنّ الله على العرش استوى، وهو يسمع: إثبات الاِستواء، في سبعة مواضع من القرآن6.
وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟ فهذه المسألة ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها، مرفوعاً، من حديث: أبي رزين العقيلي1، أنه قال: يا رسول الله، أين كان ربنا، قيل أن يخلق الخلق؟ قال: (/كان/2 في عماءٍ، ما فوقه هواء، وما تحته هواء) 3 انتهى الحديث4. فهذا جواب، مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصحّحوه. والعماء: هو السحاب الكثيف5.
قال يزيد بن هارون1، إمام أهل اليمن، من أكابر الطبقة الثالثة، من طبقات التابعين، ومن ساداتهم، معناه: ليس معه شيء2. وأما قول السائل: [وفي أي مكان؟] 3، وفي زعم هذا القائل: إنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش. فيقال: ليس في إثبات الاِستواء على العرش، ما يوجب الحاجة إليه، أو فقر الرب تعالى وتقدس، إلى شيء من خلقه؛ فإنه سبحانه هو الغني بذاته عما سواه4، وغناه من لوازم ذاته، والمخلوقات بأسرها – العرش فما دونه – فقيرة محتاجة إليه تعالى، في إيجادها، وفي قيامها، لأنه لا قيام لها إلاّ بأمره، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} 5 والسماء: اسم لما علا وارتفع؛ فهو اسم جنس، يقع على العرش، قال تعالى: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 6 الآية؛ وبحوله وقوّته حمل العرش، و/حمل/7 حملة العرش؛ وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ} 8 الآية؛ وجميع المخلوقات: مشتركون في الفقر، والحاجة، إلى بارئهم، وفاطرهم. وقد قرّر
سبحانه كمال غناه، وفقر عباده إليه، في مواضع من كتابه1، واستدّل بكمال غناه، المستلزم لأحديّته، في الردّ على النصارى، وإبطال ما قالوه من الإِفك العظيم، والشرك الوخيم، قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} 2 الآية؛ وكمال غناه يستلزم نفي الصحبة، والولد3، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات، ولا يظنّ أحدٌ يعرف ربّه، أو شيئاً من عظمته وغناه ومجده، أنه محتاج إلى العرش، أو غيره؛ وإنّما يتوّهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، ومن لم يعرف شيئاً من آثار النبوة والرسالة؛ ومن فسدت فطرته، ومسخ عقله، بنظره في كلام الجهمية، وأشباههم، حتى اجتالته الشياطين، فلم يبق معه أثارة من علم، ولا نصيب من فهم. بل استواؤه على عرشه، صفة كمال، وعز، وسلطان4؛ وهو من معنى اسمه (الظاهر) ومعناه: الذي ليس فوقه شيء؛ والعلو، علو الذات، وعلوّ القهر، وعلوّ السلطان، كلّها ثابتة لله، وهي صفات كمال، تدلّ على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه. والذي ينبغي لأمثالنا: ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم. قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 5، وأكثر المعطلة، يزعمون أن تعطيلهم، تنزيه للربّ عما لا يليق به، فساء ظنّهم، وغلظ حجابهم، حتى توهّموا: أنّ إثبات ما في الكتاب والسنّة، على ما فهمه سلف الأمة مما ينزّه الرّب، تبارك وتعالى عنه.
المسألة الثانية: وأما مسألة رفع اليدين /بالدعاء/1 في الصلاة، فالذي /يثبت/2 عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقع يديه إذا اجتهد في الدعاء3 وليس ذلك من السنن المتعلّقة
بالصلاة كما يظنّه بعض من لم يعرف السنّة، فإنّه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم
ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة. المسألة الثالثة: وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزي /إلا صاع كاملٌ/1 من أي صنف من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد2 وابن عمر وغيرهما3، وهي الطعام والشعير والتمر والأقط والزبيب.4 وذهب جمع إلى جواز الإخراج من غالب قوت البلد5، أي قوتٍ كان، كالذرة والأرز ونحوها. وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام (وهو البر) يجزي عن صاع من غيره. وهذا القول قاله معاوية ورآه رأياً له، وليس بمرفوع6، وقد خالفه أبو
سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه1، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك وقليل ما هم2. المسألة الرابعة: وأما الابتداء بفاتحة الكتاب /كلّما/3 أراد تلاوة القرآن؛ فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح، من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 4، في كل ركعة، يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "سلوه لم فعل ذلك" فقال: إنِّي أحبها، لأن فيها صفة الرحمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه" 5.
فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا ويشابهه، فلا حرج عليه، وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقداً أن الله أمر بذلك، أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنَّه، فهذا يعرّف بالسنة ويُخْبر بها، وأنها إنما يبتدأ بها القراءة في الصلاة1 لا في سائر أحوال التلاوة. (المسألة الخامسة) : وأما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا2 ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش. فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة، على مصلحة الهجر والاعتزال. ورؤية المنكر إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يكن تحصيل المصالح الدينية إلاّ بذلك، فلا حرج عليه، بل ربما تأكد واستحب3. وبلغني أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدّس الله روحه- كان يخرج إلى عسكر التتار لما نزلوا الشام المرة الأولى حول دمشق، ويجتمع بأميرهم ويأمره وينهاه4. ويرى في
خروجه عندهم شيئاً من المنكرات. وقد أراد بعض الأفاضل ممن صحبه في /إحدى/1 تلك المرات أن ينكر على جماعة منهم، ما رآه يدور بينهم من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل، إنهم لو تركوا هذا زاد شرهم على أموال المسلمين وحرمهم2. (المسألة السادسة) : وأما البداءة بالسلام، فلا ينبغي أن يُبدأ الكافر بالسلام3، بل هو تحية أهل البداءة بالسلام على الكافر الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة أو فوات مصلحة
...........................................................................
كذلك، فلا بأس بالبداءة1 لا سيما من ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيءٌ من أصوله وحقوه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم2، ويدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا لا إله إلا الله، ويتلوا عليهم القرآن، ويبلِّغهم ما أُمر بتبليغه؛ مع ما هم عليه من الشرك والكفر والردّ القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد، والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع. ومن تأمّل السيرة النبوية والآثار السلفيّة يعرف ذلك ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية3، وقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 4. والجهاد بالحجة والبيان يقدم على الجهاد بالسيف والسنان. وقد مرَّ صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود، وفيه عبد الله ابن أُبيّ5 رأس المنافقين، فسلّم صلى الله عليه وسلم ونزل
عن دابته ودعاهم إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة1 يعوده في منزله2، والقصّة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس، لكنَّه يكون مباركاً أينما كان، داعياً إلى الله، مذكراً به، هادياً إليه، كما قال /تعالى/3 عن المسيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 4، أي داعياً إلى الله مذكراً به معلماً بحقوقه، فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عدمها محقت بركة عمره، وساعاته وخلطته ومجالسته. نسأل الله العظيم لنا ولكم علماً نافعاً، يكون لنا يوم القيامة شافعاً. وبلِّغ سلامنا من لديك من الإخوان في الدين من أهل السنة، وإن أشكل عليكم شيء مما كتبته فراجعوني فيه، ولا تنسوني من صالح الدعاء5. أسأل الله العظيم أن يغفر زلّتي، ويقبل توبتي، ويقيل عثرتي. /والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته/6. /وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً كثيراً/7.
الرسالة السابعة عشرة: إلى عبد الله بن معيذر
الرسالة السابعة عشرة: إلى عبد الله بن معيذر حول كتاب الإحياء للغزالي ... (الرِّسَالَةُ السَابِعَةُ عَشَرَةِ) قال جامع الرسائل: وله أيضاً قدس الله روحه، ونوّر ضريحه، رسالة إلى عبد الله بن معيذر2،وقد كان بلغ الشيخ أنه كان يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي3، ويقرأ فيه عند العامة، وكان كتاب الإحياء مشتملاً على ما يمجُّ سماعه من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، وإن كان فيه بعض المباحث المستحسنة، لكن فيه من الداء الدفين والفلسفة في أصل الدين، ما تنفر عنه طباع الموحدين، ويخاف منه على ضعفاء البصائر من العامة والجاهلين، /فأجابه رحمه الله تعالى/4 بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، المَلِك الحق المبين؛ وأشهد أنّ /محمداً/5 عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، صلاة دائمةً مستمرةً، إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنِّي رأيت بعض أهل وقتنا، يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهليّة، في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذاك البارق، من ريح عاتية، أو صيب. فكتبت إليه نصيحة، وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية، المشتملة على الأحاديث النبوية، والسير السلفية، والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمرّ على رأيه، واعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له. فكتبت إليه كتاباً، فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة؛ وأبدى من هـ، جهله الأعاجيب الكثيرة؛ فأحببت أن أذكر للطلبة، والمستفيدين، بعض ما قاله أئمة الإسلام /والدين/1، في هذا الكتاب، المسمى بالإحياء ليكون الطالب، على بصيرة من أمره؛ ولئلاّ يلتبس عليه ما تحت عباراته، من زخرف القول. وصورة ما كتبت أولاً: من2 عبد اللطيف، بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله3؛ سلام عليكم ورحمة الله، وبركاته؛ وبعد: فقد بلغني عنك، ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينيّة، على الملّة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي؛ وجمعت عليه من لديك من الضعفاء، والعامة، الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة؛ وأسمعتهم ما في الإحياء، من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقائق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين. وقد أمر الله تعالى، وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين؛
وحرم اتخاذ الولائج، من دون الله ورسوله، ومن دون المؤمنين1؛ وهذا الأصل المحكم، لا قِوَام للإسلام إلا به؛ وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة، والمتكلمين، في كثير من مباحث الإلهيات، وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنّها الأغمار، والجهال، بالحقائق، من دين الله، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام؛ وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولوا الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كآفة، في القرى والأمصار. وقد حذر أهل العلم، والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها، وباديها؛ بل أفتى بتحريقها علماء المغرب2، ممن عُرِف بالسنة، وسمّاها كثيرٌ منهم إماتة علوم الدين3 وقام ابن عقيل4 أعظم قيام في الذم والتشنيع؛ وزيَّف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأنّ كثيراً من مباحثه زندقة خالصة، لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل5.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولكن أبو حامد، دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة؛ وقد ردّ عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة) . وردّ عليه شيخ الإسلام في السبعينيّة 1، وذكر قوله، في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد؛ وردّ عليه غيره من علماء الدين2، وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي3: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج فلم يحسن.4 وكلام أهل العلم معروف في هذا، لا يشكل إلاّ على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة. ومشائخنا تغمدهم الله برحمته مضوا على هذا السبيل والسنن، وقطعوا الوسائل إلى الزندقة والفلسفة والفتن، وأدَّبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك، وشكرهم على ذلك كل صاحب سُنَّة، وممارسة للعلم النبوي.
وأنت قد خالفت سبيلهم، وخرجت عن منهاجهم، وضللت المحجّة؛ وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم، المنتسبين إلى السنة؛ ما أقبح الحور بعد الكور، وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم! إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة، قلت: كيف ينهانا عن هذا فلانٌ، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشأن؟ كأنك سقطت على الدرّة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك، وهزّ أعطافك، وحرّكك فلسفة منتنة، وزندقة مبهمة، أُخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفيّة، فرحم الله عبداً عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه. وينبغي للإمام -أيده الله- أن ينزع هذا الكتاب، من أيديكم؛ ويلزمكم بكتب السنة، من الأمهات الست، وغيرها، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1 انتهى2. ثم جمعت أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب، والمسترشد. فمن ذلك: قول الذهبي3 في ترجمته للغزالي: (وأخذ في تأليف الأصول، والفقه، والكلام، والحكمة، وأدخل سيلان ذهنه، في مضايق الكلام، ومزال الأقدام؛ ولله سرٌّ في خلقه. وساق الكلام إلى أن قال: ذكر هذا عبد الغافر4، إلى أن قال: ثمّ حكي أنّه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدّة، وفتح عليه بابٌ من الخوف، بحيث شغله
عن كل شيء. إلى أن قال: ومما كان يعترض به عليه، وقوع خلل من جهة النحو، في أثناء كلامه، ورُوجِع فيه، فأنصف واعترف بأنه ما مارسه. ومما نقم عليه، ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في "كيمياء السعادة والعلوم"، وشرح بعض الصور والمسائل، بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة؛ وكان الأولى به والحق أحق ما يقال ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له؛ فإنّ العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئاً من ذلك، تخيّلوا منه ما هو أضرّ بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل) 1. قال الذهبي: (ما /نقمه/2 عبد الغافر، على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي شيخنا أبو حامد، بلع /الفلاسفة/3، وأراد أن يتقيّأهم فما استطاع) انتهى4. ومن معجم أبي علي الصدفي5، /في/6 /تأليف/7 القاضي عياض8 له، قال:
الشيخ أبو حامد، ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريق التصوّف، وتجرّد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألّف فيه تواليفه المشهورة1، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسرِّه، ونُفِّذَ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها، فامتثل ذلك.2 انتهى. ونقل أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي3، المتهم بالتشيّع، في كتابه: "رياض الأفهام" قال: "ذكر أبو حامد في كتابه: "سرُّ العالمين، وكشف ما في الدارين"، وقال في حديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه" 4 أن عمر قال لعلي: "بخ بخ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة"5؛ قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضا. ثم بعد هذا غلب عليه الهوى، حبّاً للرئاسة، /وعقداً لبنود، أمر الخلافة/6، ونهيها فحملهم على الخلاف {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} 7،8 وسرد
كثيراً من هذا الكلام /الفسل/1 الذي تزعُمُه الإمامية"2. قال الذهبي: (وما أدري ما عذره في هذا؟ /والظاهر/3 /أنه/4 رجع عنه، وتبع الحق) 5. قلت6: هذا إن لم يكن هذا [من] 7 وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلاياً، لا /تستطاب/8. قلت9: ما ذكره الذهبي ممكن10، والغرض أنّ ما ينسب إلى هذا الرجل، لا يُغترُّ به، ويجب هجره، واطرحاه، لما في كتبه من الدَّاء العضال، والعثرات التي لا تُقَال. قال الذهبي: (قد ألّف الرجل، في ذمّ الفلاسفة كتاب "التهافت" وكشف عوراتهم، ووافقهم في مواضع، ظناً منه أن ذلك حقّ، أو موافق للملّة، ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية، القاضية على العقل، وحُبِّب إليه إدمان النظر في
كتاب "رسائل إخوان الصفا"1 وهو داء عضالٌ، وجربٌ /مردٍ/2، وسمٌّ /قتَّال/3، ولولا أنّ أبا حامد من [كبار] 4 الأذكياء، وخيار المخلصين، لتلف.
/فالحذر، الحذر/1، من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شُبَه الأوائل، وإلاّ وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، /فليلتزم/2 العبودية، /وليكثر/3 الاستغاثة /بالله/4، وليبتهل إلى مولاه، في الثبات على الإسلام، وأن يتوفَّ على إيمان الصحابة، /وسادة/5 التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم، يغفر له، وينجو إن شاء الله تعالى) 6. وقال أبو عمر بن الصلاح7:
فصل: في بيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد
[فصل] في بيان أشياء مهمة، أنكرت على أبي حامد: ففي تأليفه أشياء /لم يرتضها/8 أهل مذهبه، من الشذوذ؛ منها قوله في المنطق: (هو مقدّمة العلوم كلِّها، ومن لا يحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلاً) 9. قال10: فهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن، منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأساً.
فأما كتاب (المضنون به على غير أهله) 1 فمعاذ الله أن يكون له، شاهدت على نسخة منه، بخط القاضي كمال الدين، محمد بن عبد الله الشهرزوري2، أنه موضوعٌ على الغزالي، وأنه مخترعٌ من كتاب (مقاصد الفلاسفة) 3 وقد نقضه الرجل، بكتاب (التهافت) 4. وقال أحمد بن صالح الجيلي5 في "تاريخه": (وقد رأيت كتاب "الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء" للمازَرِي6، /أوّله/7: الحمد لله الذي أنار الحق، وأداله، وأباد الباطل وأزاله؛ ثم أورد المازري أشياء مما /نقده/8 على أبي حامد، يقول: ولقد أَعْجَبُ من قول مالكية، يرون /مالكاً/9 الإمام، يهرب من التحديد، و/يجانب/10 أن يَرْسُم رسماً، وإن كان /فيه/11 أثرٌ مَّا، أو قياسٌ مَّا، تورُّعاً،
و/تحفظاً/1 من الفتوى، فيما يحمِل الناسَ عليه، ثم يستحسنون من الرجل2 فتاوى، مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثيرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم لفّق /فيه/3 الثابت، بغير الثابت4. وكذا ما /أورد/5 عن السلف، لا يمكن ثبوتُه كلُّه، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجلُّ موقعه، ولكن مزج فيه النافع بالضار؛ كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أُخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز لقدح6 الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق، إلاّ بتعسُّفٍ، على أن اللفظ مما لا يتكلّف العلماء مثله، إلاّ في كلام صاحب الشرع، الذي اضطرّت المعجزاتُ -الدالة على صدقه، المانعة من جهله وكذبه- إلى طلب التأويل7، كقوله:
(إن القلوب بين أُصْبُعَيْنِ من أصابع الرَّحمن) 1 و (إنّ السَّموات على إِصَبع) 2، وكقوله: (لأحرقت سبحات وجهه) 3 وكقوله: (يضحك الله ... ) 4 إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة، ظاهرها بما أحاله العقل5، إلى أن قال: فإذا كانت العصمة
غير مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه، إلاّ أن يَثبُت، وتدعو ضرورةٌ إلى نقله، فيتأول؛ إلى أن قال: ألا ترى لو أنّ منصفاً، أخذ يحكي عن بعض الحشويّة1، مذهبه في قدم الصوت والحرف2، وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين، إنّ القارىء، إذا قرأ كتاب الله، عاد القارىء في نفسه قديماً، بعد أن كان محدثاً؛ /أو قال/3 بعض الحذاق: إنّ الله محلّ للحوادث، إذا أَخَذَ في حكاية مذاهب الكرَّامية 4.
وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله بن /أحمد/1 القرطبي2: إنّ بعض من يَعِظُ، ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثمّ تبرّأ منه شغفاً بالشريعة الغزاليَّة، والنِّحلة الصُّوفَّية، أنشأ كُراسة تشتمل على معنى التعصب، لكتاب أبي حامد، إمام بدعتهم؛ فأين هو من تشنيع مناكيره، وتضليل أساطيره المباينة للدين؟ وزعم أنّ هذا من علم المعاملة، المفضي إلى علم المكاشفة3، الواقع بهم على سرِّ الرُّبوبيّة، الذي لا يُسفر عن قناعه، ولا يفوز بإطلاعه، إلاّ من تمطَّى /إلى/4 شيخ ضلالته، التي رفع لهم أعلامَها، وشَرَعَ أحكامَها 5. قال أبو حامد: وأدنى [النصيب] 6 من هذا العلم التصديق به، وأقلّ عقوبته أن لا يرزق المنكرُ منه شيئاً، فأعرض /من/7 قوله، على قوله، ولا تشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأنّ ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كمِّ جيبه، والتدثُّر بكسائه، فيسمع نداء الحق؛ فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما آمركم به8، ثم إنّ القاضي أقذع9، وسبَّ، وكفَّر10.
قال أبو حامد: (وصدور الأحرار، قبور الأسرار، ومن أفشى سرَّ الربوبية كفر) 1. ورأى مثل قتل الحلاج2 /خيراً/3 من إحياء عشرة، لإطلاقه ألفاظاً. ونقل عن بعضهم،4 قال: (للرُّبوبيّة سرٌّ5 لو ظهر، لبطلت النبوَّة؛ وللنبُّوّة سرّ لو كُشِفَ، لبطل العلم؛ وللعلم سرٌّ لو كُشِفَ لبطلت الأحكام) 6. قلت7: سرُّ العلم قد كُشف /لصوفة/8 أشقياء، فانحلَّ النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام. قال ابن أحمد9: ثم قال الغزالي، القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوّة في حقّ الضعفاء، فما قال ليس بحقٍّ؛ فإنَّ الصحيح لا يتناقض؛ وإنَّ الكامل لا يطفىء نورُ معرفته نورَ ورعه10. وقال الغزالي: (العارف يتجلّى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة، المحجوبة
عن الخلق؛ فيعرف معنى النبوَّة، وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة، التي نحن منها على ظاهرها) 1. قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت: صديقاً؛ فإذا رأيته في النهاية قلت: زنديقاً. ثم فسَّر الغزالي، فقال: إذا اسم الزنديق لا يُلصق إلاّ بمعطِّل الفرائض، لا بمعطِّل النوافل. وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية، دون التعليمية؛ فيجلس فارغَ القلب، مجموع الهم، فيقول: الله، الله، الله،2 على الدوام؛ فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث؛ فإذا بلغ هذا الحد، التزم الخلوة ببيت مظلم، ويتدثَّر بكسائه، فحينئذٍ: يسمع نداء الحق: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} 3، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} 4.5 قلتُ6: إنما سمع شيطاناً، أو سمع شيئاً لا حقيقة له، من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالكتاب، والسنة، والإجماع. قال أبو بكر الطرطوشي7: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسط الأرض أكثر كذباً منه، شبكه بمذاهب
الفلاسفة؛ ومعاني رسائل إخوان الصفا1؛ وهم قوم يرون النبوّة مكتسبة؛ وزعموا أنَّ المعجزات، حيل ومخاريق2؛ قال ابن عساكر3: (حجَّ أبو حامد، وأقام بالشام نحواً من عشرين سنة، وصنّف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق، في المنارة الغربية من الجامع، سمع (صحيح البخاري) ، من أبي سهل /الحمصي/4، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين) 5. وقال ابن /خَلِّكَان/6: (بعثه النِّظَام7 على مدرسته ببغداد، في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحجَّ، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية، ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبّد، ثم قصد مصر، وأقام مدّة بالإسكندرية، فقيل: عزم على المضيّ إلى يوسف بن تاشفين8، سلطان مراكش، فبلغه نعيه ثم عاد إلى
الطوس، وصنَّف (البسيط) ، و (الوسيط) ، و (الوجيز) ، و (الخلاصة) ، و (الإحياء) ، وألف (المستصفى) ، في أصول الفقه، و (المنخول) ، و (اللباب) ، و (المنتحل في الجدل) ، و (تهافت الفلاسفة) ، و (محك النظر) ، و (معيار العلم) ، و (شرح الأسماء الحسنى) ، و (مشكاة الأنوار) ، و (المنقذ1 من الضلال) ، و (حقيقة القولين) ، وأشياء2، انتهى. قال عبد الله بن علي الأشيري3: سمعت عبد المؤمن4 بن علي /القيسي/5، سمعت /أبا/6 عبد الله بن تومرت7، يقول: أبو حامد الغزالي، قرع الباب، وفتح لنا.8
قال: أبو محمد العثماني1، وغيره، سمعنا محمد بن يحيي العذري2، المؤدِّب يقول: رأيت بالإسكندرية، سنة خمسمائة، كأنّ الشمس طلعت من مغربها، فعبّرها لي عابرٌ، ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام3 وصل الخبر، بإحراق كتب الغزالي من المّرِيَّة4.5 قال أبو بكر بن العربي، (في شرح الأسماء الحسنى) : قال شيخنا أبو حامد قولاً عظيماً، انتقده6 عليه العلماء، /قال/7: وليس في قدرة الله تعالى، أبدع من هذا العالم، في الإِتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع، أو أحكم منه، ولم يفعله، لكان ذلك منه قضاءً للجور، وذلك محال8. ثم قال9: والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة، ونفي النهاية، عن تقدير المقدورات المتعلقة بها، ولكن /في تفصيل هذا العلم/10 المخلوق، لا في سواه؛ وهذا رأي فلسفي، قَصَدَت به الفلاسفة قلبَ الحقائق، ونسبة الإِتقان إلى الحياة مثلاً؛ والوجود إلى السمع والبصر، حتى لا يبقى في القلوب سبيلٌ إلى الصواب. وأجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إنّ المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة.
ثم قال: هذه وهلةٌ لا لعاً بها1، و/مزلةٌ/2 لا /تماسك/3 فيها، ونحن وإن كنَّا نقطةً من بحره، فإنا لا نردُّ عليه إلا بقوله4. ومما أُخذ عليه: قوله: إنَّ للقدر سراً /نُهينا/5 عن إفشائه6. فأي سرًّ للقدر؟ فإن كان مدركاً بالخبر، فما ثبت فيه شيءٌ، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان، فهذه دعوى محضة، فلعله عنى بإفشائه: أن تعمَّق في القدر، وبحث فيه7. قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم8، أنبأنا أبو الحسن السخاوي9، أنبأنا حطاب بن قمريّة الصوفي10، أنبأنا سعد بن أحمد الاسفرائيني11 بقراءتي، أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي12، قال: اعلم أنّ الدين شطران، أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات، وترك المناهي هو الأشد، والطاعات يقدر عليها
كل أحد، وترك الشَّهوات لا يقدر عليه إلاّ الصدِّيقون1. وكذلك قال أبو عامر العبدري2: سمعت أبا نصر، أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي3، يحلف بالله أنه أبصر في نومه، كأنّه ينظر في كتب الغزالي، فإذا هي كلِّها تصاوير4. وقال /محمد بن الوليد/5 الطرطوشي6، في رسالته إلى ابن المظفر7، فأما ما ذكرت من أبي حامد، فقد رأيته وكلمته، فرأيته8 جليلاً من أهل العلم، واجتمع فيه العقل والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غُمار العُمَّال، ثم تصوَّف، وهجر العلوم، وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاِّج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل "الإحياء" عمد أن يتكلّم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات9.
قال الذهبي بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي: قلت: (أما "الإِحياء" فقيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خيرٌ كثيرٌ، لولا ما فيه من الآداب ورسوم، وزهد من طريق الحكماء، ومنحرفي الصوفيّة؛ نسأل الله علماً نافعاً؛ تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القران، وفسّره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً، وفعلاً، ولم يأت نهي عنه؛ قال عليه السلام: (من رغب عن سنتي فليس منِّي) 1 فعليك يا أخي بتدبُّر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي2، ورياض النووي3، وأذكاره، تفلح وتنجح، وإيَّاك وآراء عبَّاد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات4، وجوعَ الرهبان، وطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات؛ فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فوا غوثاه بالله؛ /اللَّهُمَّ اهدنا إلى صراطك المستقيم/5) 6، انتهى.
ولمحمد بن علي /المازَرِي/1 /الصّقيلِّي/2، كلامٌ على (الإِحياء) ، قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا، في الكتاب المترجم بـ (إحياء علوم الدين) ، وذكرتم أنّ آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت، وتعصّبت لإِشهاره، وطائفة حذّرت منه، ونفّرت، وطائفة لكُتُبِه أحرقت. و/كاتَبَني/3 أهل المشرق أيضاً /يسألونني/4، ولم يتقدّم لي قراءةُ هذا الكتاب، سوى نبذة منه، فإن نفَّس الله في العمر، مددتُ /فيه/5 الأنفاس، وأزلتُ عن القلوب الالتباس. اعلموا أنّ هذا6 [الرَّجل، وإن لم أكن قد قرأت كتابه، فقد] 7 رأيت تلامذته، فكل منهم حكى لي نوعاً من حاله، ما قام مَقام العِيَانِ، فأنا أقتصر على ذكرِ حاله، وحال كتابه، و/ذكرِ جُمَلٍ/8 من مذاهب الموحِّدين، والمتصوِّفة، وأصحاب الإِشارات، والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين /هذه/9 الطرائق. ثم قال10: وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين11، فإنه صنّف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فَطِنْتُ لعدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة، قبل
استبحاره في فنّ الأصول، فأكسبته الفلسفة جراءةً على المعاني، وتسهيلاً للهجوم على الحقائق، لأنّ الفلاسفة تمرُّ مع خواطرها، لا يزعها شرعٌ. وعرَّفني صاحب له، أنه كان له عكوف على (رسائل إخوان الصفا) ؛ وهي إحدى وخمسون رسالة؛ ألَّفها من قد خاض في علم الشرع، والنقل، وفي الحكمة؛ فمزج بين العلمين، وقد كان رجلٌ يُعَرفُ بابن سينا1، ملأ الدنيا تصانيفَ، أدَّته قوَّته في الفلسفة، إلى أن حاول ردّ أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطَّف جُهْدَه، حتى تمَّ له ما لم يتم لغيره2. ورأيت هذا آخر /الموجود/3 من هذه الرسالة، /وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/4.
..................................................................................
......................................................................................
.......................................................................................
الرسالة الثامنة عشرة: إلى صالح بن عثمان بن عقيل
الرسالة الثامنة عشرة: إلى صالح بن عثمان بن عقيل ... (الرِّسَالَةُ الثَامِنَةُ عَشَرَةِ) قال جامع الرسائل: وله أيضاً –قدس الله روحه ونوّر ضريحه- رسالة إلى صالح بن عثمان ابن عقيل1، [سأله2 عن السّمْتِ والهدي والاقتصاد، وعن التؤدة، وعن الرؤيا التي ذُكرت في الأحاديث ما معناها، وهل هذه الخصال جزء من أربع وعشرين جزء من النبوّة فأجابه –رحمه الله وعفا عنه-] 3 /بما نصه/4:5 بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم صالح بن عثمان بن عقيل –سلّمه الله تعالى- وتولاّنا وإيّاه في الدنيا والآخرة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أنعم به من سوابغ نعمه، وألبس من ملابس فضله وكرمه، جعلنا الله وإيّاكم ممن عرف نعمة الله عليه، فاستعان بها فيما يقرِّبه إليه. والوصية الجامعة العظمى، ما أوصى الله به سبحانه من التقوى، وتفاصيلها على القلوب والجوارح بحسب الأحوال والأوقات، لا يخفى على من له /به/6 اهتمام، وله إليه التفات، والأحاديث التي سألت عن معناها7، قد تكلم عليها
بعض العلماء بما حاصله: أنَّ السَّمْت1 والهدي، في حالة الرجل ومذهبه وخلقه، وأصل السمت في اللغة: الطريق المنقاد2، ثم نقل لحالة الرجل وطريقته في المذهب والخلق. والاقتصاد: سلوك القصد في الأمر، والدخول فيه برفق، وعلى سبيل يمكن الدوام عليه3، وأمّا التؤدة: فهي التأنِّي والتمهُّل، وترك العجلة وسبق الفكر والرؤية للتلبس في الأمور. وأما كون هذه الخصال /جزءاً/4 من أربع وعشرين /جزءاً/5 من النبوة، فقد قيل: إنّ هذه الخلال من شمائل الأنبياء عليهم السَّلام، ومن الخصال المعدودة من
خصالهم، /وأنها/1 جزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها قالوا: وليس معنى الحديث أن النبوّة تتجزّأ، ولا أنَّ من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوّة؛ فإنَّ النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب2، وإنما هي كرامة من الله تعالى، وخصوصيّة لمن أراد الله إكرامه من عباده، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 3، فقد انقطعت النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلم.4 وفيه وجه آخر وهو: أن يكون معنى النبوة ها هنا، ما جاءت به النبوّة، ودعت إليه
الأنبياء عليهم السلام؛ يعني أن هذه الخلال من خمسة وعشرين جزءاً مما جاءت به النبوّات، ودعت إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد أُمرنا بإتباعهم في قوله عز وجل: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. قالوا: وقد يحتمل وجهاً آخر وهو: أن من اجتمعت له هذه الخصال، لقيه الناس بالتعظيم والتوقير، وألبسه الله لباس التقوى، الذي يلبسه أنبياءه، فكأنّها جزءٌ من النبوّة2. قلت: وما قبل هذا أليق بمعنى الحديث. وأما حديث الرُّؤيا3، فقيل4، معناه: تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده، وهو جزء من أجزاء النبوّة في الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم، لأنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ. قال عمرو بن دينار5 عن عبيد بن عمير6: (رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحيٌ، وقرأ قوله عز وجل: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 7) .8
وأما تحديد الأجزاء بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال فيه بعض أهل العلم: إنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظةً إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم وكانت مدة الوحي ثلاثاً وعشرين سنة، منها نصف سنة في أول الأمر، يوحى إليه في منامه، ونسبة الستة الأشهر لبقيّة مدة الوحي، جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث قال: معناه أنّ الرؤيا تجيء على موافقة النبوّة لأنها جزء من باق النبوّة. وقال بعضهم: إنها جزء من أجزاء علم النبوّة، /وعلم النبوّة/1 باقٍ، والنبوّة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. "ذهبت النبوّة وبقيت المبشِّرات، الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له "2،.3 وعندي أن النبوة التي هي الوحي بشرائع الأنبياء، عبارة عن نبأ أو شأن عظيم في القوة، وإفادة اليقين، والرؤيا الصالحة التي هي من أقسام الوحي جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم من ستة وأربعين جزءاً، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل المستجمع لجميع الأجزاء فلا
محذور. ويمكن أن يقال هذا فيما تقدم من قوله: "الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءاً1 من النبوة" 2. هذا ما ظهر لي، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم /تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. تحريراً في 29 صفر 1319هـ/3.
الرسالة التاسعة عشرة: إلى الإمام فيصل
الرسالة التاسعة عشرة: إلى الإمام فيصل ... (الرِّسَالَةُ التَّاسِعَةُ عَشَرَةِ) قال جامع الرسائل: وله أيضاً -قدس الله روحه ونوَّر ضريحه- رسالة إلى الإمام فيصل2 -رحمه الله-، نصحه فيها، وذكّره نعمة الله على خلقه ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أكمل الله به الدين، وبلَّغ البلاغ المبين، وترك الناس على المحجة، حتّى /لم يبق/3 لأحد على الله حجَّة4. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما أيّده الله به من الآيات، والأدلّة القاطعة، والبراهين الساطعة الدالة على صدقه، وثبوت رسالته؛ كابر مَن كابر وعاند مَن عاند، حتى ظهر الإسلام ظهوراً ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك؛ ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع في فعل المحرَّمات، فضعُفت القوَّةُ الإسلامية، وغَلِظَتْ الحجب الشهوانيّة، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن؛ فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيِّئات. وذكر له -رحمه الله- أنّ الله يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ولكن لا بد له من معارض معاند. ثمّ ذكّره -رحمه الله- ما منَّ الله به عليهم واختصّهم به من بين الأمم بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب- وما حصل /بها/5 من ظهور الإسلام، وتبين الدين والأحكام،
إلى أن حصل ممن بعده من فتنة الشهوات، والسلوك إلى مفاوز المهالك، نظير ما وقع بعد الصدر الأول من ذلك، ثم ردَّ الله لهم الكرّة بعد تلك العساكر الطاغية، وأشرار الحاضرة والبادية، فظهر الإسلام وانتشر في البلاد، وسمت أحكام الشريعة، وانتشرت في العباد. ولكن حصل في /خلال/1 ذلك، من أظهر الطعن في العقائد، /وتكلَّم كلُّ كاره للحق و2 معاند/3، وصار أمر العلم والعقائد لعباً لكل منافق وحاسدٍ. فكتب –رحمه الله- /له/4هذه النصيحة، وحذّره من الوقوع في أسباب النقم والفضيحة، ولم أجد تصديرها باسمه، وإنما وجدت: كتب بعضهم إلى الإمام صورته وهي بقلم كاتبه، وهذا نصُّها: بسم الله الرحمن الرحيم إلى الإمام المكرم فيصل -وفّقه الله لقبول النصائح، وجنّبه أسباب الندم والفضائح- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فلا يخفى عليك أن الله تعالى ما أنعم على خلقه نعمةً أجلُّ وأعظم من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فإنّ الله بعثه وأهل الأرض عربهم وعجمهم، كتابيّهم وأميّهم، قرويّهم، وبدويّهم، جهَّال ضلاّل، على غير هدى ولا دين يُرتضى5، إلاّ من شاء الله من غبرَ أهل الكتاب6، فصدع بما أُحِيَ إليه، وأُمِر
بتبليغه1. وبلّغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الدِّيانات المتفرِّقة، والملل المتباينة المتنوِّعة، ودعاهم إلى صراط مستقيم2، ومنهج واضح كريم، يصل سالكه إلى جنات النعيم، ويتطّهر من كلِّ خلق ذميم، وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة [الدالة] 3 على صدقه وثبوت رسالته، ما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجّة، ومع ذلك كابر من كابر وعاند من عاند، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} 4، ورأوا أنّ الانقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النحل وملل، يجرُّ عليهم من مسبَّة لآبائهم وتسفيه أحلامهم، أو نقص رئاستهم، أو ذهاب مآكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم، فكذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الردّ والمكابرة والتعصُّب على باطلهم والمثابرة؛ وأكثرهم يعلمون أنه محقٌ، وأنه جاءهم بالهدى ودعا إليه، لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ومؤاخات ورئاسات، لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها إلاّ بمخالفته، وترك الاستجابة له وموافقته. وهذا هو المانع في كل زمان ومكان، من متابعة الرسل وتقديم ما جاءوا به؛ ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خصمان. وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك حتى أيّد الله دينه، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم بصفوة أهل الأرض وخيرهم ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره لمراتب الفضل والسيادة، فأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة معاون ومساعد، حتّى منّ الله على ذلك الحيِّ من الأنصار بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادةِ الأقدارُ، فاستجاب لله ورسله منهم عصابة، حصل بهم من العزِّ والمنعة، ما هو عنوان التوفيق والإصابة، وصارت
بلدتهم بلدة الهجرة الكبرى، والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون، حتى إذا عزّ جانبهم، وقويت شوكتهم، أُذن لهم في الجهاد بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1. ثمّ لما اشتدّ ساعدهم، وكثر عددهم، أُنزلت آية السيف2، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك، وجرّدوا في حب الله ونصرة دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 3. فلمّا علم الله منهم الصِّدق في معاملته وإيثار مرضاته ومحبّته، أيّدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه، فأذلَّ بهم أنوفاً شامخة عاتية، وردَّ بهم إليه قلوباًً شاردة لاهية، فجاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومحو آثار ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة، وظهر الإسلام في الأرض ظهوراً ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك، واستبان لذوي الألباب والعلوم من أعلام نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مقرَّر معلوم، ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، وعَلَمُ الإسلام في كلِّ جهة من الجهات مرفوعٌ منصور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات والاتساع والتمادي في فعل المحرمات، ملا لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، فضعفت القوى الإسلامية، وغلِظَت الحجب الشهوانية، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيِّئات، وظهرت أسرار قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لتتّبعنّ سنن من كان
قبلكم" 1. ولكن لله في خلقه عناية وأسرار، لا يعلم كنهها إلاّ العليم الغفار؛ من ذلك: أنَّ الله تعالى يبعث لهذه الأمة في كل قرن، من يجدّد أمر دينها2 /ويدعو/3 إلى واضح السبيل ومستبينها، كي لا تبطل حجج الله وبيناته، ويضمحلّ وجود ذلك وتعدم آياته؛ فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك، يدعو إلى تلك المناهج والمسالك، وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوماً في كل ما يقول، فإنّ هذا لم يثبت لأحد دون الرَّسول4 /صلى الله عليه وسلم/5. ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوَّسِّمون، وينكرها المبطلون؛ أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها: محبَّة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل وأسُّها الأكبر الجليل؛ معرفة الله تعالى بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تكييف؛ وأن يعبدوه وحده لا شريك
له، /ويكفروا/1 بما سواه من الأنداد والآلهة. هذا أصل أديان الرسل كافة، وأوّل دعوتهم وآخرها، ولبُّ شرائعهم وحقيقة ملّتهم وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه، وصرف الوجوه إليه مالا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرّع عنه2. ومن طاف البلاد، وخبر أحوال الناس منذ أزمان متطاولة، عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل، وبُعْدِهم عمّا جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل؛ فكل بلد وكل قطر وكل جهة –فيما نعلم- فيها من الآلهة التي عُبدت مع الله بخاص العبادات، وقُصِدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور، لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل بعضهم إلى أن ادّعى لمعبوده مشاركةً في الربوبية، بالعطاء والمنع والتدبيرات، ومن أنكر ذلك عندهم، فهو خارجيٌّ ينكر الكرامات3، وكذلك هم في باب الأسماء
والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم معطلة كذلك، يدينون بالإلحاد والتحريفات وهم يظنون أنّهم من أهل التنزيه1، والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وسيرتهم في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوّات. هذا وصف من يدّعي الإسلام منهم في سائر الجهات. وأما من كذب بأصل الرسالة أو أعرض عنها، ولم يرفع بذلك رأساً، فهؤلاء نوع آخر وجنس ثانٍ، ليسوا مما جاءت به الرُّسل في شيء، بل هم –كما قال تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ /2} 3، فمن عرف هذا حق المعرفة وتبيّن له الأمر على وجهه، عرف حينئذٍ قدر نعمة الله عليه، وما اختصه به، إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن. وقد اختصَّكم الله تعالى من نعمة الإيمان والتوحيد بخالصه، ومنَّ عليكم بمنَّةٍ عظيمة صالحة من بين سائر الأمم، وأصناف الناس في هذه الأزمان. فأتاح لكم من أحبار الأمة وعلمائها حبراً جليلاً4، وعلَماً نبيلا" فقيها"، عارفا" بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا" بما انحل من عرى الإسلام، وتحول فتجرد إلى الدعوة إلى الله، /وردّ الناس/5 إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار والعيون والمغار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار. فجادل في الله وقرر حججه وبياناته، وبذل نفسه لله، وأنكر على أصناف بني آدم الخارجين عما جاءت به الرسل، المعرضين عنه التاركين له. وصنّف في الرد على من عاند أو جادل، وما حلَّ وجرى بينهم من الخصومات والمحاربات ما يطول عدّه1، وكثير منكم يعرف بعضه. ووازره على ذلك من سبقت له من الله سابقة السعادة، وأقبل على معرفة ما عنده من العلم. وأراده من أسلافك الماضين وآبائك المتقدمين-رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام خيرا"- فما زالوا من ذلك على آثارٍ حميدة، ونعم عديدة، يصنع لهم /تعالى/2 من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الّذي ارتضاه لنفسه، واختص به من شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم من الدولة والصولة ما ظهروا به على كافة العرب، فلم يزل الأمر في مزيدٍ حتّى توفّى الله شيخ هذه الدعوة، ووزيره العبد الصالح /رحمهما/3 الله /تعالى/4. ثم حدث فيهم من فتنة الشهوات، ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من العقوبة والتطهير ما يعرفه الفطن الخبير. ثم أدرككم من رحمته تعالى وألطافه، ما ردّ لكم به الكرّة، ونصركم ببركته المرة بعد المرّة5، ولله تعالى عليك خاصةً نعم لا يستقصيها العدّ والإحصاء، ولا يحيط بها إلا عالم السرّ والنجوى؛ فكم أنقذك من هول وشدّة، وكم أظهرك على من ناوأك مع كثرة العدد منهم والعدة! ولم تزل نعمته تترى، وحوله وقوّته يرفعك إلى ما ترى، حتى آلت إليك سياسة هذه الشريعة المطهرة،
وآل إليك ما كان إلى أسلافك ومن قبلهم، ممن قام بنصرة الدين وأظهره. وقد عرفت ما حدث من الخلوف في الأصول والفروع، وما آل إليه الحال في عدم1 الأخذ بأحكام المنهج المشروع، حتى ظهر الطعن في العقائد، وتكلَّم كل كاره للحق معاند، وصار أمر العلم والعقائد لعبا" لكل منافق حاسد. وكُتِبَت في الطعن على أهل هذه الملّة الرسائل والأوراق2. وتكلم في /عيبهم وذمِّهم/3 أهل البغي والشقاق، وصار أمر العلم والدين ممتهنا" عند الأكثر من العامة والمتقدّمين؛ وإقبالهم إنما هو على نيل /الحظوظ/4 الدنيويّة، والشهوات النفسانيّة، وعدم الالتفات والنظر للمصالح الدينيَّة، والواجبات الإسلامية. وتفصيل ذلك يعرفه من حاسب نفسه قبل أن يحاسب، والمؤمن يعلم أنّ لهذه الأمور غائلةٌ، وعاقبة ذميمة وخيمة، آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور. فالسعيد من بادر إلى الإقلاع والمتاب، وخاف سوء الحساب، وعمل بطاعة الله قبل أن يغلق الباب، ويسبل الحجاب. وفقنا الله وإياكم لقبول أوامره، وترك مناهيه، وخوف زواجره. وصلى الله على /نبينا/5 محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما" كثيرا" إلى يوم الدين.
الرسالة العشرون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
الرسالة العشرون: إلى زيد بن محمد آل سليمان ... (الرسالة العشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان1. وسببها التحذير عما انهمك الناس فيه، وشاع عنهم من الخوض والمراء والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، وميل الأكثرين إلى موالاة عباد الأصنام، والفرح بظهور الكفرة الطغام، والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم. وكذلك الانتصار للشيخ حمد بن عتيق2-رحمه الله- لما اعترض عليه من اعترض، فيما كتبه إلى بعض الإخوان بأن ما كتبه ابن عجلان3ردة صريحة؛ فصرح المعترض بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد. فبين الشيخ -رحمه الله- ما في كلام ابن عتيق من الخطأ في التعبير، وأن ذلك من الغيرة لله وشدة النكير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه، وذب عن دينه وأغلظ في أمر الشرك والمشركين ولا يلتفت إلى زلاته، والاعتراض على عباراته. فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مرتبة علية، يغتفر فيها العظيم من الذنوب. وقد أبلج4الشيخ في هذه الرسالة الحق، وأوضحه، وأثلج5به الصدور، فانكشف عنها الغطاء، فما أنصحه، واستبان الصواب لذي
الألباب، فما أصرحه. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب المكرم زيد بن محمد آل سليمان، حفظه الله من طوائف الشيطان، وحماه من طوارق المحن والافتتان، جعله من عسكر السنة والقرآن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمائه، ولطفه عند قدره وقضائه. والخط وصل -وصلك الله ما يرضيه، ووفقك لجهاد من يناويه ويعاديه- وما ذكرت من حال الأخ صالح1، فهو عند الإمام مكين، يحسن الدخول في الأمر والخروج. وما ذكرت من جهة ما يلقى إليك من الخطوط، فلا بأس بإرسالها إلي. وأما ما كتب في هذه المحنة من الشبه، فقد عرفت أن الفتنة بالمشركين فتنة عظيمة2، وداهية عمياء ذميمة، لا تبقى من الإسلام ولا تذر، لاسيما في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، وقبض فيه العلم، وتوفرت أسباب الفتن، وغلب الهوى، وانطمست أعلام السنن، وابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً3، وعند ذلك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 4. وقد شاع ما الناس فيه من الخوض والمراء والاضطراب والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ومال الأكثرون إلى موالاة عباد الأصنام، والفرح بظهورهم والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم5،..................
و (حبك الشيء يعمي ويصم) 1. وقد صدر من الشيخ محمد بن عجلان2، رسالة ما ظننتها تصدر عن ذي عقل وفهم، فضلاً عن /ذي فقه وعلم/3 وقد نبهت على ما فيها من الخطأ الواضح، والجهل الفاضح، وكتمت عن الناس أول نسخة وردت علينا، حذراً من إفشائها وإشاعتها بين العامة والغوغاء، ولكنها فشت في الخرج والفرع، وجاءت منها نسخت إلى بلدتنا؛ وافتتن بها من غلب عليه الهوى، وضل عن سبيل الرشاد والهدى، والله غلاب على أمره. وأخبرت من يجالسني أن جميع ما فيها من النقول صحيحة والآثار، حجة على منشيها، تهدم ما بناه مبديها، وأنه وضع النصوص في غير مواضعها، ولم يعط القوس باريها. وبلغني عن الشيخ حمد4 أنه أنكر واشتد نكيره، ورأيت له خطاً أرسله إلى بعض الإخوان، بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة؛ وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب واعترض على ابن عتيق، وصرح بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد، فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعباد الهوى. والرجل وإن صدر منه بعض الخطأ في التعبير في أمر الشرك والمشركين، على من تهاون أو رخص وأباح بعض شعبه، وفتح باب وسائله وذرائعه القريبة، المفضية إلى ظهوره وعلوه، ورفض التوحيد، ونكس أعلامه، ومحو آثاره، وقلع أصوله وفروعه، ومسبة من جاء به
لقولة رآها، وعبارة نقلها وما درآها، من إباحة الاستغاثة بالمشركين1، مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر والحقيقة2، وأنه أعظم وأطم من مسألة الاستعانة والانتصار، بل هو تولية وتخلية بينهم وبين أهل الإسلام والتوحيد، وقلع قواعده وأصوله، وسفك دماء أهله، واستباحة حرماتهم وأموالهم. هذا هو حقيقة الجاري والواقع، وبذلك ظهر في تلك البلاد من الشرك الصريح والكفر البواح مالا يبقى من الإسلام رسماً يرجع إليه، ويعول في النجاة إليه. كيف وقد هدمت قواعد التوحيد والإيمان، وعطلت أحكام السنة والقرآن، وصرح بمسبة السابقين الأولين من أهل بدر وبيعة الرضوان3 وظهر الشرك والكفر والرفض جهراً
في تلك الأماكن والبلدان. ومن قصر الواقع على الاستعانة بهم، فما فهم القضية، وما عرف المصيبة والرزية. فيجب حماية عرض من قام لله، وسعى في نصرة دينه الذي شرعه وارتضاه، وترك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته، فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله، مرتبة علية محبوبة، لله مرضية، يغتفر فيها العظيم من الذنوب، ولا ينظر معها إلى تلك الاعتراضات الواهية، والمناقشات التي تفت في عضد الداعي إلى الله، والمتلمس لرضاه. وهبة كما قيل، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات، "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "1. شعر: فليضع الركب ما شاءوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج2 ولما قال المتوكل3 لابن الزيات4، يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد: أرجو أن يغفر له، نظراً إلى حسن قصده في نصرة السنة وقمع البدعة.5 ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق6لم يعنفه النبي صلى الله عليه
وسلم، وإنما أخبره /أن/1 هناك مانعاً. والتساهل في رد الحق، وقمع الداعي إليه، يترتب عليه قلع أصول الدين، وتمكين أعداء الله المشركين من الملة والدين. ثم أن القول قد يكون ردة وكفراً ويطلق عليه ذلك، وإن كان ثم مانع من إطلاقه على القائل2. وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا، ليست في الاستعانة خاصة، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين، وظهور عبادة الأصنام والأوثان3. ومن المعلوم أن من تصور هذا الواقع ورضي به، وصوب فاعله، وذب عنه، وقال بحله، فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان، إذا قام الدليل عليه. وأما من أخطأ، في عدم الفرق، ولم يدر الحقيقة، واغتر بمسألة خلافية، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطأ، إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يغلب جانب الهوى. والمقصود أن الاعتراض والمراء من الأسباب في منع الحق والهدى. ومن عرف القواعد الشرعية والمقاصد الدينية، والوسائل الكفرية، عرف ما قلناه. والمعترضون على الشيخ، ليس لهم في الحقيقة أهلية لإقامة الحجج الشرعية، والبراهين المرضية على ما يدعونه من غلطه وخطئه، إنما هي اعتراضات مشوبة بأغراض فاسدة؛ وما أحسن ماقيل: أقلوا عليه لا أباً لأبيكمو ... من اللوم أوسدوا المكان الذي سداً4
وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة، التي اغتر بها الجاهلون، وضل فيها الأكثرون. وطريقة الكتاب والسنة وعلماء الأمة تخالف ما استحله هذا الصنف من السكوت والإعراض في هذه الفتنة العظيمة1، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه. فليكن لك يا أخي طريقة شرعية وسيرة مرضية في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، من فتنة العساكر، والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم2. وهذا لا يحصل مع السكوت وتسليك الحال على أي حال، فاغتنم الفرصة، وأكثر من القول في ذلك،
واغتنم أيام حياتك، فعس الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عسكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين من أهل الصدق والإيمان. والشبهة التي تمسك بها من قال بجواز الاستعانة، هي ما ذكرها بعض الفقهاء، من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة. وهو قول ضعيف مردود، مبني على آثار مرسلة1، تردها النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. ثم القول بها- على ضعفه- مشروط بشروط نبه عليها شراح الحديث2، ونقل الشوكاني منها طرفاً في شرح المنتقى، منها: أمن الضرر والمفسدة، وأن لا يكون لهم شوكة وصولة، وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة3. وأيضاً ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك. وأما الانتصار بالمشرك على الباغي عند الضرورة، فهو قول فاسد، لا أثر فيه ولا دليل عليه، إلا أن يكون محض القياس4، وبطلانه أظهر شيء في الفرق بين الأصل والفرع، وعدم الاجتماع في مناط الحكم. شعر: وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظر5 والمقصود المذاكرة في دين الله، والتواصي بما شرعه من دينه وهداه. بلغ سلامنا العيال، والشيخ حسين6ومن عز عليك. ومن لدينا العيال والإخوان
بخير وينهون السلام. وصلى الله على محمد و /على/1 آله وصحبه وسلم/ تسليماً كثيراً2. تتمة: غلط صاحب الرسالة3 في معرفة الضرورة فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر في رئاسته وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه، بل هي ضرورة الدين، وحاجته إلى من يعين عليه وتصلح به مصلحته، كما صرح به من قال بالجواز، وقد تقدم ما فيه. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
الرسالة الحادية والعشرون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
الرسالة الحادية والعشرون: إلى زيد بن محمد آل سليمان ... (الرسالة الحادية والعشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة أرسلها إلى زيد بن محمد آل سليمان2؛ يعاتبه /فيها/3 على ترك المساعدة، وعدم المعاضدة له على إظهار دين الله والمجاهدة، بعد مراسلات بذلك عديدة، ومناصحات ومذاكرات مفيدة، وتحريض وتغليظ في سد وسائل الشرك وذرائعه، والمساعدة على قطع أسبابه وتوابعه. وكأنه –رحمه الله- وجد منه عند تلك الحوادث والكوارث فتوراً، ورأى منه في حق من تجانف أو تساهل في ذلك تقصيراً أو قصوراً. وقد وضح له في ذلك الحق واستبان، وكان من ذوي المعرفة والإتقان، وخاصة خلاصة الإخوان. فعاتبه بهذه المعتابة الرصينة المباني، وأفصح له بهذه المخاطبة البليغة المعاني، التي يحار في يهماء4 مطاوح معانيها، البليغ المصقع، ويتلكأ عن درك غويص عويصها اللوذعي5 البليغ، فلله دره من إمام فاضل فصيح، مجاهد جاهد محب نصيح، فلقد أبلغ في هذه الرسالة، مع الإيجاز وعدم الإطالة، وقد جاهد في الله حق جهاده، وما رده ولا صده عن النصح لعباده قلة المعاون والمساعد، ولا كثرة المكابر والمعاند. فتدبر –رحمك الله- ما تضمنته هذه الرسالة من الرصانة، لتعرف قدر منشيها من
العلم وكانه. معاني مبانيها الطوامح في العلى ... لآلئ أصداف البحور الزواجر ويحتار في يهما مطاوح ما انطوى ... عليه من الترصين قس /المحاضر/1 وأبدى بديعاً غويص عويصه ... تسام المعاني المحكمات لسابر لقد جد في نصر الشريعة والهدى ... وسد ينابيع الغواة الأخاسر وإعلاء دين الله جل ثناؤه ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر وإحيائه بعد الدروس ونشره ... وقمع لمن نوأه من كل غادر وإبعاد أعداء الهدى وجهادهم ... وتحذيره عنهم بكل الزواجر وقد رد بل قد سد كل ذريعة ... تؤول إلى رفض الهدى من مقامر قفا إثر آباء كرام أئمة ... أولى العلم والحلم الهداة الأكابر ببذلهمو للجد والجهد في الدعا ... إلى الله من قد ند من كل نافر همو أظهروا الإسلام من بعد ما عفا ... من الأرض فاستعلى به كل ناصر فكم فتحوا بالعلم والدين والهدى ... قلوباً لعمري مقفلات البصائر وكم شيدوا ركناً من الدين قد وهى ... وأقوى ففازوا بالهنا والبشائر وكم هدموا بنيان شرك قد اعتلى ... وشادوا من الإسلام كل شعائر وكم كشفوا من شبهة وتصدروا ... لحل عويص المشكلات البوادر وكم سنن أحيوا وكم بدع نفوا ... وكم أرشدوا نحو الهدى كل حائر لقد أطدوا الإسلام بالعلم والهدى ... بالسمر2 والبيض المواضي البواتر تغمدهم رب العباد بفضله ... ورحمته والله أقدار قادر
وهذا نص الموجود منها، ولم أجدها تامة، وكأنها مسودة، وقد ضاع أولها: بسم الله الرحمن الرحيم إلى الأخ زيد بن محمد، وبعد: فقد بلغني عنك من نوادر الكوارث، كوارث الحوادث /1/. (لم أجد إلا تلكؤاً2 وشماساً، وتهمهماً ونفاساً3) [إذ لا فكرة ثاقبة، ولا روية كاسبة، ولا طرقة صائبة،] 4 وكرهت أن يتمادى بك الأمر، وتبدو العورة، فتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دربة5 لجاهل مغرور، أو عاقل ذي دهاء وفجور، أو صاحب سلامة ضعيف العنان، خوار الجنان. [وكنت فيما مضى ظهيراً
لي على رفع ركضة الشيطان، وتفنيد رسالة ابن عجلان] 1 "وكنت أتيا من ناصيتك، واستبين الخير بين عارضيك، وقد كنت من العوم والمذاكرة بالمكان المحوط، والمحل المغبوط"2، "ولم تزل –بحمد الله- للمؤمنين أخاً، ولإخوانك ردءاً"3 [وهذا الحدثان العظيم] 4، له ما بعده، من خطر مخوف أو صلاح معروف، ولا أظن جرحه يندمل /بسبرك/5 ولا أخال /حيته/6 تموت برقيتك7، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج إلى النظر فيما يصلح نفسك وخاصتك، وتفوز بإرشاد جنانك، والأخذ بناصيتك، والله أسأل تمام ذلك لي ولك، /ويطلعه/8 على يدي ويديك، والله كالئٍ9 وناصر وهاد ومبصر لكل من لاذ بجنابه، ووقف سائلاً ببابه،
وبه الحول والتوفيق. اعلم1 أن البحر مفرقة، والبر مفرقة، والجو أكلف2، والليل أغلف3، والسماء جلواء4، والأرض صلعاء5، والصعود متعذر والهبوط متعسر والحق عطوف6، والباطل شنوف عنوف7، والعجب قادحة الشر8، والضغن9 رائد البوار10، والتعريض سجار11 الفتنة "والفرقة تعرف العداوة"12، وهذا الشيطان متكئ على شماله، متحيل بيمينه، "فاتح حصنه لأهله"13 ينتظر بهم الشتات والفرقة، ويدب14 بين الأمة بالشحناء والعداوة، عناد لله ولرسوله ولدينه، تأليباً وتأنيباً،
يوسوس بالفجور ويدلي بالغرور، [ويزين بالزور] 1 ويمني أهل الشرور، /و/2 يوحي إلى أوليائه بالباطل، دأباً له منذ كان3، وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سابق الأزمان، لا ينجو منه إلا من آثر الآجل، وغض الطرف عن العاجل، وقط4 هامة عدو الله وعدو الدين، بالأشد فالأشد، والأجد فالأجد، وقد أرشدك والله من آوى5 ضالتك، وصافك من أحيا مودتك بعتابك، وأراد الخير /بك/6 من آثر البقيا معك. ما هذا الذي تسول لك نفسك، /ويلتوي عليه/7 رأيك، /ويتخاوص/8 له طرفك، ويتردد9 معه نفسك، [ويكثر عنده حلك وترحالك، ويتلون به رأيك ومقالك، ولم تبح به لإخوانك ونصحائك وخاصتك وأعوانك، ولم تنبذ إليهم على سواء، ولم تملك ما تجده من الغيظ والجوى] 10؛ أعجمة بعد إفصاح، أدين غير دين الله، أخلق غير خلق الله11، أهدى غير هدى /محمد/12/ أمثلك يمشي لإخوته الضراء/13،/................................
وتدب إليهم منه الحمراء /1، /أمثلك يضيق به الفضاء/2، /وتنكشف/3 في عينيه القمراء ما هذه القعقعة بالشنان، وما هذه الوعوعة باللسان /أما أنك عارف/4 بأن الرأي الذي امتطينا صهوته، وركبنا غاربه، هو الرأي الأرشد، والمنج الأسعد بكل دليل ورد، ممن لا يحيط به الحزر والعدد، مع أننا في زمن ووقت أنت منه في ركن العافية وظلها، غافلاً عما نحن فيه، /لا تدري/5 ما يراد بنا ويشاد، ولا تحصل على /علم/6، ما يساق منا ويقاد، نعاني أحوالاً تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالاً تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع من صابها7، ونكرع في عبابها، ونحكم /مراسها/8 ونبرم أمراسها9، /و/10 العيون تحدج11 إلينا بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر12 بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار13 تشخذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، فلا تنتظر عند الصباح مساءً، ولا
عند المساء صباحاً1. وأنت2 لا تدري سوى ما أنت عليه من غايتك التي إلأيها غدي بك، وعندها حط رحلك، بل ونحن في كل يوم وكل ساعة /تغدو/3 علينا الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق فيما بيننا وتلوح، وعندنا من يقود المشركين ويأزهم أزاً، إلأى عباد الله الموحدين، من لا تدرري خبره، ولم تعرف نبأه، وسوء طويته بالإسلام وأهله، /ونحن ندافعهم عن الإسلام/4 بالمال والآل، والعم والخال، والنشب5 والسبد واللبد6، بطيب نفس، وقرة عين، ورحب أعطان7، وثبات عزائم، وطلاقة أوجه، وذلاقة لسان، هذا إلى أسرار /ومكنونات/8 أنت غافل عنها، [وعن الخوض في غمارها، والدفع في صدرها معرض متجاهل؛] 9. والآن10 قد بلغ فيك الأمر، ونهض لك الخير، وجعل مرادك بين يديك، وعقلك بين عينيك، عن علم أقول ما تسمع، فاستقبل زمانك، وقلص أردانك، ودع
التحبس1 والتعبس مع من لا يهرع2 لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا أعطى، وأنت3 -ولله الحمد- من مفاتي هذه الأمة في عصرك، يشار إليك ويقتدى بك بين ألأهل دهرك؛ وقد عرفت4 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في هذا الأمر: (هو لمن يقول هو لك، لا لمن يقول هو لي، ومن رغب عنه، لا لمن تجاشع5 عليه) 6 والآثار7 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه مضبوطة مسطورة محررة، في دواوين الإسلام مشهورة. فهلم، فالحكم والحق مطاع. فيا سادتنا8 هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أفانين مقول أهل الكتاب نحن فيه وأنتمو ... على ملة نقضي بها ثم نعدل أم الوحي منبوذ وراء ظهورنا ... ويحكم فينا المرزبان المزفل أتظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الأمر سدى بدداً، مباهل مباهل9
طلاحي1، مفتونة الباطل، مغبونة الحق، لا رائد2 ولا قائد، ولا ضابط ولا حافظ، ولا شافي ولا وافي، ولا هادي ولا حادي، كلا والله، ما توفي3 رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سأل ربه المصير إليه، إلأا وهو قد ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك4، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر منه للأمة علماً5 /هذا أخر ما وجد من هذه الرسالة/6. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/7.
الرسالة الثانية والعشرون: إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد
الرسالة الثانية والعشرون: إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد ... (الرسالة الثانية والعشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً –رحمه الله تعالى، وصب عليه من شآبيب2 بره ووالى- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد؛ وقد ذكروا له ما وقع الناس فيه من مداهنة المشركين والإعراض عن دين المرسلين. وقد تقدم نظير هذه الرسالة في المغني3، ولكن لمسيس الحاجة والسبب الباعث ما اكتفى بما سبق ولا استغنى، بل نصح ووضح، وكشف قناع الإشكال، وما /أبقى/4 /لمشتبه/5 حجة ولا مقال، وكذلك بسبب ما حدث من تسهيل /أمر/6 السفر إلى بلاد المشركين، وأن غاية ما يفعل مع المسافر، الهجر وترك السلام، من غير تعنيف ولا تخشين. /والمشتبه/7 يزعم أن الشيخ عبد الرحمن8 أفتى بذلك إن صح الخبر. فإن ثبت فيحمل على قضية خاصة، يحصل بها المقصود والقصد، أو بما ستقف عليه من /المحمول/9 التي لا يعرفها كل /مشتبه/10 جاهل، والوجوه /التي/11 ذكرها
الشيخ. فتأملها أيها المنصف، وتعقلها بشراشر1 قلبك، لعلك عن الشبهات2 أن تعرف، وللحق الواضح والباطل الفاضح تفرق وتعرف. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، سلمهم الله تعالى وتولاهم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل –وصلكم الله ما يرضيه. وسرنا سلامة من نحب ونشفق عليه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس من مداهنة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، أو فوق ما إليه أشرتم. وقد سبق مني لكم جواب، وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك، ونسيان التوحيد. وأن من أعظم ذلك وأفحشه ما يصدر من بعض من يظنه العامة من أهل اعلم، وحملة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه، والعبارات التي لم يتصل سندها، ولم يعصم قائلها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق. وفي حديث ثوبان: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" 3. وهو يتناول من له إمامة، ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء.
وأبيات عبد الله بن المبارك1 معلومة لديكم في هذين الصنفين، أعني قوله: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها2 وفي مثل هؤلاء قال قتادة: فوالله ما آسي عليهم، ولكن آسي على من هلكوا. أو كما نقلتم عن بعضهم، أنه زعم أن الشيخ الوالد –قدس الله روحه ونور ضريحه أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين، بأن غاية ما يفعل معه، هو الهجر وترك السلام بلا تعنيف ولا ضرب. وهذه غلطة من ناقلها، لم يفهم مراد الشيخ إن صح نقله، ولم /يدر/3 مايراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولاً، فإن ثبت بنقل عدل ضابط، فيحمل على قضية خاصة، يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية، ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيزه الهجر مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل. ويتعين هذا إن صحت، لأن هذا /ذنب/4 قد تقرر أنه من الكبائر المتوعد صاحبها بالوعيد الشديد، بنص القرآن وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال عليه، وعلى إظهاره، فإنه مستثنى من العموم. وأما غيره، فالآية تتناوله بنصها، لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير. فالكبائر التي ليس فيها حد، يرجع فيه إلأى ما تقتضيه المصلحة، من التعزير كالهجر والضرب، وقد يقع التعزير
بالقتل، كما في حديث شارب الخمر، ( ... فإن شربها في الرابعة فاقتلوه) 1. وقد أفتى شيخ الإسلام بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان2، /إذا/3 لم يندفع شره إلا بذلك4. وأفتى بحل دم من جمز5 إلى بلاد التتار، وكثر سوادهم، وأخذ ماله6. وكل هذا من التعازير التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة، وحصول المصلحة، وأفتى في التعزير في أخذ المال إذا كان فيه مصلحة7. وقد عرفتم أن أكبر المصالح، منع هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حال وإسلام لمن ينتسب إلى الإسلام، مع المخالطة والمقارفة الشركية، لوجوه، (منها) : عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. (ومنها) : العجز عن إظهاره لو عرفوه (ومنها) : أن العدو محارب، قد سار إلى بلاد المسلمين، واستولى على بعضها، فليس حكمه كحكم غيره، بل هذا، جهاده يجب على كل أحد فيض عين، لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه8. (ومنها) أن تلك البلاد ملئت بالمشبهين والصادين عن سبيل الله ممن ينتسب إلى العلم، ويسمون أهل التوحيد الغلاة، كما سماهم إخوانهم خوارج. والهجرة لها /مقصودان/9: الفرار من الفتنة وخوف المفسدة الشركية. والثاني: مجتهدة أعداء الله، والتحيز إلى أهل الإسلام.
وقد كانت شرطاً في أول الإسلام مع ضعف المسلمين، وخوف المشركين، وشدة بأسهم، وكثرة الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يهدر ولا يطرح في كل مقام، لا سيما والمقارف لهذا الفعل /وغيره/1 من الأفعال الموجبة للردة كثير جداً. فالنجا النجا2 والوحى الوحى3 قبل أن يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً4، ولعل الله أن يمن بخط مبسوط يأتيكم بعد هذا، فيه التعريج على كل شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كذب هذا المفتري على الشيخ. وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم الإقامة، يمنع منه من عجز عن إظهار دينه. /و/5 في الحديث: "ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه، إلا أعطوا الجدل"6، [ومنعوا العمل] 7
وما وقع فيه الناس، وابتلي به أكثر من ثلب1 بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يؤثر عن السلف، أن علامة أهل البدع، الوقوع في أهل الأثر؛ وهؤلاء إذا قيل لهم هاتوا، حققوا، واكتبوا لنا ما تنقمون، وقروا الحجة بما تدعون، أحجموا عند ذلك، وعجزوا عم مقاومة الخصوم، ومتى يدرك الظالع2 شأو3 الضليع4 شعر: أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر وحسابنا وحسابهم على الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبئات الصدور والضمائر. /وبلغوا سلامنا إخوانكم/5 الذين جردوا متابعة الرسول، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} 6، ولم ينتسبوا إلى قيس ويمن، كما وقع عندكم فيمن فرقوا دينهم وكانوا شيعاً. حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً /كثيراً/7.
الرسالة الثالثة والعشرون: إلى الإخوان محمد بن علي وإبراهيم بن راشد
الرسالة الثالثة والعشرون: إلى الإخوان محمد بن علي وإبراهيم بن راشد ... (الرسالة الثالثة والعشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الإخوان محمد بن علي2 وإبراهيم بن راشد3 وإخوانهم. يحرضهم فيها ويذكرهم ما سبق إليهم من المكاتبات4 في شأن هذه الحوادث العمي العظام، التي قلعت أصول الإسلام، والتبس الأمر بسببها على من ينتسب إلى العلم، وخفي عليه المخرج والحكم، واتبعهم في ذلك جمهور أهل الأهواء، ولم يلتفتوا إلا /إلى منهجه/5 الإهلاك والإغواء، وتركوا طريق من يدعوهم إلى الحق والهدى، ويبصرهم بنور الله أسباب النجاة والتقى، حتى أعضل فادح تلك الحوادث، وطغى على القلوب ما طغى من تلك الكوارث، فما ارعوى إلى الحق أكثرهم وما استرشد، فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد. وقد سأله الإخوان عن حكم من يسافر إلى بلاد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب من التوحيد والدين6، ويعلل بأنه لا يسلم عليهم ولا يجالسهم، ولا /يبحثون/7 عن سره. إلى غير ذلك من تعليل الجاهلية. فأجاب -رحمه الله-8 يما ستقف عليه من التحقيق والسلوك إلى أٌقوم منهج وطريق، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأولاد المكرمين محمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، كثير الخير دائم المعروف. والخط وصل بما اشتمل عليه من الوصية، جعلنا وإياكم ممن يقبل النصائح، ويدرأ المقت والفضائح وجاءكم /مني/1 مكتبات في /هذه/2 الحوادث العمي، ولم يبلغني /عنكم ما يسر/3 من القبول والقيام لله. والحق على طالب العلم، والمنتسب إلى الدين والفهم، أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد. والعاقل لا يرضى على نفسه سبيل أهل المداهنة والبطالة. وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبال الراسيات، وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات،4 فما مضت فتنة إلا ما هو أكبر من الشرك والكفريات. ومع ذلك، فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرج والحكم، وكثر الخوض والاعتراض من بعض من ينتسب إلى القراء، ويدعي الفهم والطلب، واتبع جمهور أولئك ما يهواه، من غير بينة ولا سلطان. ولم يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المحاقة5 والفكر، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عباد الأوثان والأصنام.
وما أحسن ما قال سهل بن حنيف1 -فيما رواه البخاري- قال: حدثنا الحسن بن إسحاق2 ثنا محمد بن سابق3 حدثنا مالك بن مغول4 قال: سمعت أبا حصين5 قال: قال /أبو وائل/6: لما قدم سهل بن حنيف من صفين، أتيناه نستخبره، فقال اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل7، ولو استطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم /أمراً أمره/8 لرددت، والله ورسوله أعلم. وما وضعنا أسيافنا /على/9 عواتقنا /لأمر يفظعنا/10.........................................
إلا /أسهلن/1 بنا إلى /أمر نعرفه/2 قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصماً إلا /تفجر علينا خصم/3 ما ندري كيف نأتي له) 4. وأما السؤال عمن سافر إلى بلد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب الله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يسلم عليهم، ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، أو أنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، نحو ذلك من /تعاليل/5 الجاهلين. /فاعلموا/6 أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأمة، وافتى به جماهيرهم، وما ورد من الرخصة، محمول على من يقدر على إظهار دينه، أو على ما كان قبل الهجرة. ثم إن المنع قد أنيط بالمجامعة والمساكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة: "من جامع المشرك /و/7 سكن معه فإنه مثله" 8. /فانظروا/9 ما علق به الحكم من المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة؛ فإن وقع من ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر واشتد البلاء. وهذه محرمات مستقلة، يسضاعف بها الإثم والعذاب، فكيف تروج عليكم هذه الشبهات، ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتف مع هذه التعاليل.
ومن مقاصد الهجرة، الانحياز إلأى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه؛ وإلى رسوله بطاعته وتعزيره ونصره ولزوم جماعة المسلمين، ولذلك يقرن الهجرة والإيمان في غير موضع من كتاب الله1، وكل هذا غير حاصل؛ وإن فرض صدق القائل فيما علل به –والغالب كذب هذا الجنس- فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص أو عدمها. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم، تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل في منحدره، ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النفرة، فرحل إليهم من رحل، وقبلوا رسائلهم وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم، وجالسوهم وأرسلوهم. /وبعضهم/2 يقول: الدين في القلوب3 ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية والشرائع الإيمانية، ولو صدق ما زعموه في قلوبهم، لأطاعوا الله ورسوله واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من معضلات الفتن. وحماية جناب التوحيد، وسد الذرائع الشركية من أكبر المقاصد الإسلامية، وقد ترجم شيخنا4 في كتاب التوحيد لهذه القاعدة5. فرحمه الله من إمام ما أفقهه في دين الله، وما أعظم غيرته لربه، وتعظيمه لحرماته، وما أحسن أثره على الناس.
وبلغوا سلامنا إبراهيم بن الشيخ وصالح بن محمد وخاص الأخوان، ومن لدينا العيال ينهون إليكم السلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الرابعة والعشرون: إلى حمد بن على وإبراهيم بن مرشد
الرسالة الرابعة والعشرون: إلى حمد بن على وإبراهيم بن مرشد ... (الرسالة الرابعة والعشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى من تقدم ذكرهم من الإخوان، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، على الإخوان المكرمين محمد بن على وإبراهيم بن مرشد، وإبراهيم بن راشد وعثمان بن مرشد، سلمهم الله وعافاهم وأصلح بالهم وتولاهم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه. والخط وصل، وصلكم الله ما يرضيه. وما /ذكرتم/2صار معلوماً، والله المسئول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره، والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان. والذي أوصيكم به تقوى الله، ومعرفة تفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية، عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج وقد ورد: "أن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات) 3. وذكر أبو داود من أهل السنن ما ينبغي مراجعته
واستحضاره عند ذكر الفتن والملاحم1. وذكر ابن رجب2في رسالته: (كشف الكربة في فضل الغربة) 3ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم 4في المدارج، جملة صالحة. وفي الأثر: "العبادة في الهرج كهجرة إلي) 5. وفي حديث الغرباء: للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم1والذي أرى لكم في هذه الخلطة، الصبر على مقام الدعوة، والتلطف بالإبلاغ عن نبيكم. وهذا -مع القدرة وأمن الفتنة- أفضل من العزلة؛ والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه- أسلم. وإني /لأود/2 أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكنني ابتليت بالناس، وحيل بيتي وبين ذلك. والله المستعان وإليه المشتكى وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. /وبلغوا سلامنا خواص الإخوان، ولدينا العيال والإخوان يسلمون عليكم وأنتم سالمين، والسلام./3 وصلى الله على /عبده ورسوله/4 محمد وآله وصحبه /البررة الكرام/5 وسلم /تسليماً/6.
الرسالة الخامسة والعشرون: إلى أبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد
الرسالة الخامسة والعشرون: إلى أبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد ... (الرسالة الخامسة والعشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى من تقدم ذكرهم إلا محمد ابن علي، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين إبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى، وتولاهم في الدنيا والآخرة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليكم الله على سوابغ إنعامه، ومزيد إحسانه وإكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقربه إليه. والخط وصل، وصلكم الله بالرضا، العذر مقبول، نسأل الله لنا ولكم العفو والقبول ونوصيكم بما أوصيتمونا به، ونزيدكم الوصية بميراث نبيكم والرغبة فيه، والمذاكرة في كل أوقاتكم، فإنكم في زمان قبض فيه العلم وفشي الجهل، وعدمت الحقائق الدينية، وإنما هي عادات ورسوم ينتحلها أكثر الخلق أما الخيام فإنها كخيامهم ورأى نساء الحي غير نسائها2وبلغوا سلامنا إخوانكم، /ولا تغفلوا /3 بصالح
الدعوات في هذه الليالي المباركات، جعلنا الله وإياكم من الفائزين بالقبول والرضا. والعيال يسلمون عليكم والسلام وصلى الله وسلم على/عبده ورسوله/1 محمد وعلى آله وصحبه /أجمعين/2
الرسالة السادسة والعشرون: إلى الشيخ حمد بن عتيق
الرسالة السادسة والعشرون: إلى الشيخ حمد بن عتيق ... (الرسالة السادسة والعشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق2رحمه الله، وقد راسله –أعني الشيخ حمد- برسالة، كأنه أساء فيها الأدب،/ولم يراع/3حق من يتزاحم العلماء عنده بالركب، بل جرى على عادته في المراسلات والمكاتبة، ولم يمعن النظر فيما /أوعر/4 به من المخاطبة، وكأنه في رسالته يحرص على التغليظ في الدعوة إلى الله، من غير نظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد. فبين له الشيخ -رحمه الله- الخلق العظيم، والرأي/الرشيد/5الحليم الذي كان لسيد المرسلين، وإمام المتقين، أنه /بدأ/6 أولاً بالتلطف واللين، ثم آخراً بالغلظة. وذلك مع قوة الإسلام والمسلمين، وأن الغلظة ليست ديدانا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأتباعه في الدعوة إلى الله. ويا لله! كم في هذه الرسالة من الأصول، والمباحث المفيدة الجليلة، التي تطلع منها على بلاغة مبديها، وجلالة منشيها؛ وأن له في الميراث النبوي الحظ الوافر، وأن ينابيع علومه تنفجر من ذلك البحر الزاخر. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم حمد بن عتيق، سلك الله بي وبه أهدى /منهج/1وطريق، ومنحنا بمنه حسن الدعوة إليه بالتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأني أحمد إليك الله /الذي لا إله إلا هو/2سبحانه على نعمه. والخط وصل- وصلك الله بما يقربك إليه. وما أشرت إليه صار لدينا معلوماً، لا سيما الإشارة الخفية والنكت الأدبية التي منها تشبيه أخيك بالطير المبرقع3؛ وإيراد /الوعظ/4وأنت بمكان علو أرفع. وكنت حال وصوله قد قرأته بمرأى من أهل الأدب ومسمع؛ فمن قائل عند سماعه: هل الرجل طبعه الغلظة والجمود؟ وآخر يقول: كأنه لا يحسن الدعوة على ربنا المعبود! فقلت: كلا، غنه ابن جلا5، وله السبق في مضمار الديانة والعلا، ولكن من عادته أنه يتجاسر على أحبابه، ويزدري رتب أخدانه وأتربه، والمحب له الدلال، والمرء يشرق بالزلال. فاعلم -هديت الطريق، وفزت بحظ من النظر والتحقيق-، أن الله لما ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي، /لم/ 6يكن /أحد/7 من أهل الأرض
عربيهم وعجميهم، قرويهم وبدويهم، يعرف الحق ويعمل به، إلا بقايا من أهل الكتاب. وأما الأكثرون، فقد اجتالتهم الضلالات والعادات عن فطرة الله التي فطر الناس عليها1.فأيد الله نبيه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر من أسلم /سبباً/2ووقاية. وتلك هي الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم. فمكث على ذلك يدعو ويذكر ويعظ وينذر مع غاية في اللطف واللين، فتارة يكنى المخاطبين 3، وطوراً يأتي نادي المتقدمين والمترأسين، وحيناً يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وناهيك بخلق مدحه القرآن4، وأثنى عليه حلمه في الدعوة والبيان، ولا يرد على هذا المعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية5. كما ظنه بعض المتطوعة، ديداناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يصار إليه إذا تعينت الغلظة، /ولم يجد6، اللين كما هو ظاهر مستبين، كما قيل: آخر الطب الكي7. وهو أيضاً مع القدرة.
ويشترط أن لا يكون عليه مفسدة، كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1. وقد أخذ بعض الناس من هذا أن "درء المفاسد يقدم على جلب المصالح"2كما هو مقرر في علم الأصول. ثم إن الآية -آية الغلظة- مدنية3، بعد تمكن الرسول وأصحابه من الجهاد باليد، وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم. فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين، وأسعد الناس بوراثة الرسول /صلى الله عليه وسلم/4 في دعوة الخلق، أكملهم متابعة له في هذا. وكان الصديق /رضي الله عنه/5 أكمل الناس، ولذلك أسلم على يديه وانتفع به أمم كثيرة، بخلاف غيره؛ فقد قيل لبعضهم "إن منكم منفرين" 6. والقصد من التشريع والأمر، تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد
لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين1، أو تفويت أدنى المصلحتين. واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه، على الشرع وعلى الناس، أعظم جناية، وقد قرر العلماء هذه الكليات والجزئيات، وفصلوا الآداب الشرعيات. فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة، فليتعلم أولاً وليزاحم ركب العلماء قبل أن يرأس، فيدعو بحجة ودليل، ويدري كيف السير في ذلك السبيل، فإن الصناعة لا يعرفها إلى من يعاينها، والعلوم لا يدريها إلا من أخذها عن أهلها، وصحب راويها. ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولاً2 هذا وقد كنت أظن أنكم تحبون من هاجر إليكم، وتراعون حق أسلافه في المشيخة عليكم، وكأن العلم وتعليمه، وحق الشيخ وتكريمه، غير معتبر لدى الجمهور. بل قصدهم المناصب والظهور. /و/3 قال الشيخ، وحدثنا، وجلس الأستاذ وأنبأنا، هو غاية قصد الأكثرين، إلا عباد الله المخلصين. والسلام عليكم وعلى من حضر من المسلمين، وما بسطت لك الكلام إلى محبة /وإعلاماً/4. وصلى الله على محمد وآله وصحبه /وسلم/5.
الرسالة السابعة والعشرون: إلى من وصل من المسلمين
الرسالة السابعة والعشرون: إلى من وصل من المسلمين ... (الرسالة السابعة والعشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً -تغمده الله بإحسانه، وصب عليه من شآبيب بره وامتنانه، ونفعنا بعلومه الداعية إلى الرشاد، ورسائله المرشدة إلى هدي خير العباد، ونصائحه المؤذنة بحسن الدعوة إلى الله، ورد العباد إلى عبادة من لا نعبد إلا إياه، ولا رب لنا سواه- رسالة إلى من وصلت إليه من المسلمين، يحرضهم فيها إلى الجهاد في سبيل الله، والتزام أصول الدين، والاعتصام بحبل الله المتين. ويذكرهم نعمة الله التي امتن بها عليهم، على يد شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ إذ كانوا قبله على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا يعرفون من الإسلام إلى اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، لا شعور لهم بدين الله الذي بعث به رسوله، ولا يعرفون منه التحقيق، لا فروعه ولا أصوله، فأنقذهم الله بدعوته من الغواية، وسلك بهم طريق أهل السعادة والهداية، وكثرهم الله بها بعد القلة، وأعزهم الله بها بعد الذلة2، وصار بهذا الدين للعباد قادة، وانتهت إليهم به الرئاسة والسيادة.
ثم سار أبناؤه بعده على مناهجه، الدعوة إلى الله، و/الحض/1 على الجهاد في سبيل الله، ورد العباد إلى ما يحبه الله ويرضاه؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وبوءهم -بفضله ورحمته- الدرجات العلى. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من وصل إليه من المسلمين وفقهم الله للبر والتقوى، وسلك بهم سبيل الرشاد والهدى. سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد سبق إليكم من النصائح والتذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، ما فيه كفاية وهداية، لمن أحيا الله قلبه، وأراد الله هدايته، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدين النصيحة، قالها ثلاثاً، قالوا: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) 2. فجعل الدين محصوراً في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه وقواعده المهمة، فيدخل فيها الإيمان بالله ومحبته وخشيته والخضوع له وتعظيمه وتعظيم أمره ونهيه، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، من تعطيل وإلحاد، وشرك وتكذيب؛ لأن النصيحة خلوص الباطن والسر، من الغش والريب والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان ويعارضه.
وكذلك النصيحة لكتابه: تتضمن العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه وعانيه. والنصح لرسوله: يقتضي الإيمان به وتصديقه ومحبته وتوقيره وتعزيره ومتابعته والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه من هوى أو بدعة أو قول. والنصح لأئمة المسلمين: أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله وبترك مشاقتهم ومنازعتهم1. والنصح لعامة المسلمين: هو تعليمهم وإرشادهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفهم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم، وذهاب دينهم ودنياهم، /من/2 معصية الله ورسوله، ومخالفة أمره، ومشابهة الجاهلين، فيما كانوا عليه من التفرق
والاختلاف، وترك الحقوق الإسلامية.1 وفي الحديث: " ثلاث لا يغل2 عليهن قلب رجل مسلم، إخلاص الدين لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "3 فأفاد أن هذه الثلاثة لا يدعها المسلم، إلا لغل في قلبه، بل المسلم الصادق في إسلامه، لا يكون إلأى مخلصاً دينه لله، مناصحاً لإمامه، ملازماً لجماعة المسلمين وقد دل القرآن على هذا في غير موضع، كقوله /تعالى/4: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 5. فابتدأ الآية بأن يتقى حق التقاة، وأمر بالتزام الإسلام، والعض عليه بالنواجذ
حتى الممات، لأن قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1، تحضيض وحث على التزامه في جميع أوقات العمر والساعات، ومن عاش على شيء، مات عليه. وقد أمر باعتصام بحبله، وهو دينه وكتابه2، أمراً عاماً لجميع المكلفين، وسائر المخاطبين، لأن التقوى والتزام الإسلام، يتوقف على ذلك، ولا يحصل المقصود منه إلى باعتصام بحبل الله، وترك التفرق والاختلاف، لما /فيهما/3 من فساد الدين، وهدم أصوله وقواعده. ثم ذكرهم بنعمته عليهم بتأليف قلوبهم واجتماعها بعد العداوة والبغضاء، فإن التفرق والاختلاف عذاب وهلاك وشقوة في العاجل والآجل؛ والجماعة والائتلاف رحمة وسعادة، ونعيم في العاجل والآجل، وأخبرهم أنهم كانوا على شفا حفرة من النار، بما كانوا عليه من الضلالة والجاهلية، فامتن عليهم وأنقذهم واجتباهم وهداهم وجمع قلوبهم، وشملهم بعد الفرقة الشتات، وأعزهم وأغناهم بعد الفقر والحاجات، فيا لها من نعم، ما أجلها، ومواهب ما أعظمها وأبرها، لمن عقلها وشكرها. ولذلك ختم الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 4. فيه بيان الحكمة /المقتضية/5 لبيان الآيات، والتذكر بالنعم، وأن المراد بها حصول الاهتداء، وترك
أسباب /الشقاء/1 والردى. وقد عرفتم ما كنتم عليه قبل هذه الدعوة الإسلامية، التي امتن الله بها على يد شيخنا رحمه الله. كنتم على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا شعور لكم بدينه الذي ارتضاه لنفسه، ولا دراية لكم بما يجب له من صفات كماله، وجلال قدسه، ولا معرفة لديكم بما شرعه من أمره ونهيه، كما كنتم على غاية من التفرق والاختلاف /فبصركم/2 الله بهذه الدعوة المباركة من العمى، وسلك بكم سبيل السعادة والهدى، وعلمكم من دينه وشرعه ما اصطفاكم به، واختاركم على من ضل وغوى، وجمعكم بعد الفرقة، وألف بين قلوبكم بعد العداوة والمشقة، وأعزكم على من عاداكم بعد المسكنة والذلة. فاشكروه على هذه النعم العظيمة، بالتزام طاعته، والمسارعة إلى مرضاته وغفرته، ولا تكونوا كالذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار3، واشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا السعادة بالشقاء، وتركوا البصيرة واختاروا العمى. وقد عرفتم أن الله افترض عليكم الجهاد في سبيله، وابتلاكم /بأعداء دينه/4 ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين5، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} 6 7.
وما أجرى الله وابتلى به من الزعازع1 والمحن، من أكبر وأعظم موجباته، مخالفة الأمر الشرعي، وترك طاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ولهذا يسلط /العدو/2، وتنزع المهابة من صدور أعدائكم، وتضربون بسوط الذل والمهانة، كما جاءت به الآثار3، وصحت به الأخبار، وشهد له النظر والاعتبار4. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (الصف:10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ5 ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الصف:11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ6 وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (الصف:12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (الصف:13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ
اللَّهِ1 فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} 2. وفي الحديث: "من /مات و/3 لم /يغز/4 ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق "5. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" 6. فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 7. جعلنا الله وإياكم ممن يقبل المواعظ والنصائح، ويدرأ أسباب المقت والفضائح. وأنتم في أمان الله وحفظه، والسلام. /وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/8.
الرسالة الثامنة والعشرون: إلى عبد الله بن نصير
الرسالة الثامنة والعشرون: إلى عبد الله بن نصير ... (الرسالة الثامنة والعشرون) قال جامع الرسائل وله أيضاً -قدس روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الله بن نصير2 وقد ذكر له الشيخ عبد الله في رسالته، كلام أبي بكر بن العربي المالكي3 في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 4. فأجابه -رحمه الله- بهذا الجواب الباهر الفائق، وأرخى عنان قلمه بميدان المعارف والحقائق، وكشف له القناع عن مدارك أحكام أهل التحقيق، ورفع له الأعلام إلى ذلك المهيع والطريق، وبين له –رحمه الله- غلط أبي بكر بن العربي، فيما زعمه وقرره من أن معناه لبعض أهل السنة، وليس كما زعمه وحرره، بل إن ما اعتمده وعول عليه في معنى هذه الآية، هو كلام القدرية المجبرة5. فأما أن يكون جهلاً منه، بأنه
مخالف لقول أهل السنة، أو تقليداً منه لمن كان يحسن فيه ظنه، هذا إن لم يكن موافقاً لهم في أصل الجبر، والقول به؛ فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، فلا ينكره، بل يقرره ويأخذ به. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن نصير، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط الذي ذكرت /فيه/1 كلام أبي بكر بن العربي المالكي، في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2 قد وصل. وتأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية، على القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة. وابن العربي إن لم يكن موافقاً لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره؛ إما جهلاً منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليداً لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخرى، وليس هذا خاصاً به، بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة المنتسبين إلى أهل السنة. فإن قوله في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3 أي إلا لتجري أفعالهم على
مقتضى قضائي، فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوباً، والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده1 انتهى. وهذا الكلام بعينه هو كلام القدرية المجبرة فيما حكاه عنهم غير واحد2؛ وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه. وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، وليفجر ليفجر والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جار بذلك كله، والقدرية المجبرة، دعاهم لهذا -فيما يزعمون- إبطال قول القدرية النفاة3، ومصادمتهم في قولهم: أن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين، [فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء /عصوه/4 بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم] 5. .......................
وحاصل قولهم إنكار القدر، وأن الأمر أنف1 فقابلهم أولئك بالقول بالجبر، وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه، نظراً منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره [وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى خالق كل شيء وريه ومليكه، ولا يكون في مليكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته] 2. كما قلا تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 3، و {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 4، و {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 5، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 6؛ ونحو ذلك من الآيات. ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان. وبإنكاره ضلت القدرية النفاة، وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لابد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية7 التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلت عليها النصوص النبوية.
وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما1، وآمنوا بكل الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة؛ والقرآن قد جاء ببيان اللامين، فالأولى في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 3 {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 4 والثانية: في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 5
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 1 {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 2، على أحد القولين. فمن نفى الإرادة الشرعية الأمرية، فهو جبري ضال مبتدع. ومن نفى الإرادة الكونية القدرية، فهو قدري ضال مبتدع؛ ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3 بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية4 فقد أدخل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، في هذه العبادة، وجعل /عابد/5 الأصنام والشيطان والأوثان /عابداً/6 للرحمن قائماً بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول7.......
الذي قاله صاحب الفصوص1وطائفة الاتحاد الكفار2. وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق معبدون بجريان الأقدار عليهم. يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، كما سيأتي حكاية هذا من غيرهم. والعبادة- /وإن كانت/3 أقصى غاية الذل والخضوع مطلقاً4كما في كقوله:
تبارى عتاقاً ناجيات وأتبعت ... وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد1 فهي في الشرع، أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية، التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية. كما فسر ابن عباس رضي الله عنه- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 2بتوحيده وإخلاص العبادة له3نظراً منه إلى الحقيقة الشرعية، لا إلى أصل الأوضاع اللغوية. وقد اعترض ابن جرير هنا بأصل الوضع واللغة4. والحق ما قاله ابن عباس، خلافاً لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 5وتعليلهم ما قالوه بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى مغلوباً، والله تعالى هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه؛ لأن الله تعالى لا يعصى عنوة، بل علمه وقدرته وعزته وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر6، مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة. فإن الصحابة قاطبة وسائر أهل السنة والجماعة، متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يكن،
ويؤمنون بأن الله تبارك وتعالى عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون، كيف تكون1. وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم2فكفرهم بذلك الأئمة، أحمد وغيره3وأما من قال بإثبات القدر خيره وشره، /حلوه/4 ومره، فلا يلزمه، ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة، من لزوم خروج العبد على فعل المولى. وإن قال: أن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية، إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفاً للأوامر الشرعية، وإن كان داخلاً تحت المشيئة الكونية القدرية؛ فالخروج عن القدر والمشيئة نوع آخر. فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات، لجريان الأقدار عليهم طوعاً وكرهاً. وأما الثاني فيقع من الأكثر، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 5. ولله سبحانه وتعالى في خروج الأكثر عن أمره حكمة يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته، وعدله وربوبيته، يستحق أن يحمد عليها. وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- كلاماً حسناً في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 6ذكر فيه ستة أقوال7: أحدها: قول نفاة الحكم، كالأشاعرة8.............................................................
ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى1، وابن الزاغوني2 والجويني3 والباجي4 وهو وقول جهم بن صفوان5 ومن اتبعه من المجبرة، /القائلين/6 بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة. فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة، وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة7. الثاني: قول المعتزلة8 ومن وافقهم: وهو أنه تعالى يخلق ويأمر، لحكمة تعود إلى العبادة وهي نفعهم، والإحسان إليهم، فلم بخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين:
منهم من أنكر القدر، ووضع لربه شرعاً بالتجوير والتعديل، وهذا هو قول القدرية. ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته خفيت علينا. وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر. فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر1. الثالث: قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه، فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق له، وهم المؤمنون. ومن لم يوجد منه ذلك، فليس بمخلوق له، قالوا: وهذه /حكمة/2 مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي: نفع العباد. ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا كما تقدم؛ ونحن أثبتنا حكمة /علم/3 أنها تقع فوقعت4. وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد، وإن تضررالبعض. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهادهم ومصالحهم. وهذا اختيار القاضي أبي خازم5 ابن القاضي أبي يعلى6، قالوا: فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 7 وهو مخصوص بمن وقعت منه العبادة. وهذا قول طائفة من السلف والخلف8. وهو قول الكرامية.
وعن سعيد بن المسيب1 في معنى الآية قال: (ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك2 والفراء3 وابن قتيبة4 هذا خاص بأهل طاعته5. قال الضحاك: هي للمؤمنين، وهذا اختيار أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى –هذا بمعنى الخصوص لا العموم، لأن البله والأطفال والمجانين، لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار6....................................
بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 1 الآية، فمن خلق للشقاء ولجهنم، لم يخلق للعبادة) 2. قلت: قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف، يعني /القول/3 بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث. ثم قال شيخ الإسلام: قلت: (قول الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول المعتزلة -لما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف- فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور4. والقول الرابع: أنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم وقهرهم ونفوذ قدرته
ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة1. وفسروا العبادة بالتعبيد القدري. وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى2 فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم: أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني ففعلى كله طاعات3 وأما هؤلاء فجعلوا عباد الله، كون العباد تحت المشيئة. وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر، فقد أطاع القدر والمشيئة4. وما رواه ابن حاتم5 عن زيد بن أسلم6 في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 7 قال: جبلهم على الشقاوة والسعادة8. وقال وهب9: جبلهم على الطاعة، وجبلهم على معصية10، وقد روي أيضاً
عن طائفة نحوه1. وهؤلاء وإن وافقوه من قبلهم في معنى الآية، فهم –أعني زيد بن أسلم ووهب بن منبه- من أعظم الناس تعظيماً للأمر والنهي والوعد والوعيد2. وأما من قبلهم، فهم إباحية، يسقطون الأمر والنهي. والقول الخامس: قول من يقول: إلا ليخضعوا لي، ويذلوا لي. قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق له3. وقد ذكر أبو الفرج4 عن ابن عباس: إلا لتقروا بالعبادة طوعاً وكرهاً. قال5: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 6، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني، كما سيأتي. وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرهاً، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرهاً، وأما نفس الإقرار، فهو فطري فطروا عليه، وبذلوه طوعاً7.
وقال السدي1: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 قال: خلقهم للعبادة، ولكن من العبادة عبادة لا تنفع؛ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع شركهم4. وهذا المعنى صحيح، ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية، فإن مجرد الإقرار بالصانع، لا يسمى عبادة لله مع الشرك به، ولكن يقال: كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 5 6. هذا آخر ما وجت من هذه الرسالة7. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
(تابع) تحقيق النص
المجلد الثاني (تابع) تحقيق النص (تابع) الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والإتباع وما ينافيها من الشرك والإبتداع الرسالة التاسعة والعشرون: إلى عبد الله بن عمير جامع الرسائل ... الرسالة التاسعة والعشرون1 قال جامع الرسائل وله أيضا-قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن عمير، صاحب الإحساء، لما بلغه مسبة مشايخ المسلمين، والوقوع في أعراضهم، ليتوصل هو وإخوانه بذلك إلى أغراضهم، ومن القدح فيما عليه المشايخ من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، مع ما هو قائم به وأخدانه من أهل الإحساء من سوء العقيدة، وسلوك طريق أهل البدع والأهواء، ممن ينتسب في العقيدة إلى الأشعرية2 من تلامذة الجهمية 3 الجاحدين لعلوه /سبحانه/4 على خلقه، واستوائه على عرشه، خلاف العقيدة المرضية، والطريقة السلفية. /وقد اتهم بإلقاء ورقة فيها الطعن/في/5 عقيدة من دعا الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه/6 وكذلك/الطعن/7على الشيخ العلامة، والإمام الفاضل الفهامة، الشيخ عبد الرحمن بن حسن8 بأنه قبل جوائز ابن ثنيان9 وأنه بنى بيته من أموال محرمة، وحاشا لله، فقد برءا الله الشيخ من ذلك وكرمه، فإنه لو فرض وجود ذلك في بيت مال المسلمين فلا يقتضي تحريمه على من خفي عليه عين ذلك، ولا تمييز
لديه بما اغتصبه أولئك، والمسئول عن التخليط ولي الأمر من الأئمة، لا من أخذه ولم يعلم عينه، /بل/1 من قصد ذلك وأمّه، كما ستقف عليه من كلام الأئمة الفحول، الذين لهم دراية بالفروع والأصول. وهذا نص الرسالة. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن/بن حسن/2، إلى عبد الله بن عمير. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد: فقد بلغنا ما أنت عليه، -أنت ومن غرك وأغواك- من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هو عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين. وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين/ ومائتين وألف 1264هـ/3، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية، الذين جحدوا علوه تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم الذي نزل به جبريل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري 4 لا أنه تكلم به حقيقة، وسمع كلامه الروح/ الأمين/5، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. ونُقِل عنك ما كنت تنتحله من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات 6؛
وشافهتك في البحث عن بعض ذلك فاعتذرت وتنصلت، وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك. فجربت معك بالسيرة الشرعية، في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وتركنا السرائر إلى الله، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور1. وقد بلغنا عنك بعد ذلك أنك أبديت لإخوانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك ويعتقد فيك، من أسافل الناس وسقطهم، الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله ومعرفة دينه وحقه، ما شرع من حقوق عباده المؤمنين. وقد عرفت يا عبد الله، أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام، وأصول الإيمان؛ فدمه هدر، وقتله حتم. وقد حكى ابن القيم2 -رحمه الله تعالى- عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام ومفاتيه العظام، أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء3؛ ومن جملتهم، إمامك الشافعي –رحمه الله- وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي4 والسفيانين5؛
ومن أصحابه: أبو يعقوب البوطي1 والمزني2 وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة3 الشافعي، وابن سريج4 وخلق كثير 5. وقولنا إمامك الشافعي –رحمه الله- مجاراة للنسبة ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة التامة. وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله، في قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم؛ فكلامهم فيه وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به أو يحصر6. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد، ممن يقتدى به ويرجع إليه، من مشايخ الإسلام/ والأئمة/7 الكرام،
ونحن قد جرينا على سننهم في ذلك، وسلكنا /منهجهم/1 فيما هنالك؛ لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره /كمن/2 أشرك بالله وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله3 تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد رأيت ورقة فيها الطعن على من دعا الناس إلى توحيد الله، وما دلت عليه كلمة الإخلاص، من الإيمان به، والكفر/بالطواغيت/4 وبعبادة سواه تعالى، وفيها ذم من قرر للناس أن دعاء مثل علي والحسين5 والعباس6 وعبد القادر7 وغيرهم، ممن يدعي مع الله، هو الشرك الأكبر البواح الجلي، الذي لا يغفر إلا بالتوبة والتزام الإسلام، وقرر أن هذا ونحوه هو ما كانت عليه العرب في عبادتها الملائكة والأوثان والأصنام، قبل ظهور الإيمان والإسلام. وفي ورقة المشبه المبطل، أنكم كَفَّرتم خير أمة أخرجت للناس، وقصده هؤلاء
المشركون وزعم أنهم هم الأمة الوسط1 وأنهم صفوف أهل الجنة2، وأنهم عتقاء الله في شهر الصيام، وأن من كفرهم فقد كفر أمة محمد لأنهم يتكلمون بالشهادتين وهذا الكلام من أوضح الأدلة وأبينها على ضلال مبدية، وسفاهة ملقية، وأنه أضل من إطلاق لفظ الأمة الأنعام، ويكفي في رده مجرد حكايته، فإن الفطر السليمة تقضي برده وبطلانه، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن قائله عدو للنصوص والفطر والعقل والنظر؛ ولا يبعد أنه تلقاه عن مثلك ووصل إليه من أبناء جنسك. /وما أظن/3 اجتماعك بهذا الضرب من الناس، إلا على هذا، وجنسه من الشهادات والجهالات التي حاصلها القدح في أصول الإيمان وعيب أهله وذمهم. {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 4 وهذه الشبه يعرف فسادها كل من كانت له ممارسة من العلم، وإن قلت؛ فإن لفظ الأمة مفردا ومضافا، يقع على المستجيب المهتدي، ويقع أيضا على المكذب المعاند، فالأول كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 5، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} 6، وقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 7 وفي الحديث: "أنتم توفون سبعين أمة وأنتم خيرها وأكرمها على الله" 8 وفيه: "إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، هذه
الأمة منها ثمانون" 1. فهذا ونحوه يطلق ويراد به المؤمنون والمسلمون. وقد يطلق هذا اللفظ يتناول المكذبين الضالين، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ} 2، فأطلق الأمة على الفريقين، وتناول لفظها الحزبين، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 3 وقع الاسم على من أجاب النذير ومن عصاه. وقوله في خصوص هذه الأمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} 4 فالإشارة في الآية إلى هذه الأمة. وقد نص على أن منهم من كفر وعصى /الرسول/5. وكذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} 6 وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} 7 وقوله /تعالى/8 {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ
تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيتين1. فانظر إلى ما دلت عليه الآيات من التقسيم، إن كنت ذا عقل سليم. وفي الحديث: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.." 2، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة. يهودي ولا نصراني. ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار"3، وفيه: " القدرية مجوس هذه الأمة" 4.
وخرج ابن ماجه عن ابن عباس وجابر: "صنفان من أمتي ليس /لهما/1 في الإسلام نصيب، المرجئة والقدرية"2. إذا عرفت هذا، فاعلم أن نفس الآية التي يوردها المبطل، وهي قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 3 /فيها/4 الدليل الكافي، والبرهان الشافي، على إبطال قول المشبه المرتاب، ورد شبهته؛ فإن5 الخطاب في هذه الآية مخصوص بأهل الإيمان6، الذي اصله ورأسه معرفة الله وتوحيده وإخلاص العبادة له، وهو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، ومن عدا هؤلاء ليس بداخل في أصل الخطاب، بل هو ساقط من أول رتب الأعداء، كما لا يخفى إلا على من طبع الله على قلبه. الثاني: أنه ذكر العلة والمقتضي بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 7 وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلية 8. وأحق الناس بهذا الوصف وأولاهم به من دعا إلى توحيد الله، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، وقرر أن دعاء عبد القادر 9 وأمثاله، هو الشرك الكبر، الذي يحول
بين العبد وبين الإسلام والإيمان، وأن أهله ممن عدل بالله، وسوى برب العالمين؛ بل قد وصلوا في عبادتهم المشايخ والأولياء إلى غاية ما وصل إليه مشركوا العرب، كما يعرف ذلك من عرف الإسلام، وما كانت /عليه/1 / الجاهلية/2 قبل ظهوره. فمقت هؤلاء المشركين وعيبهم وذمهم وتكفيرهم والبراءة منهم، هو حقيقة الدين، والوسيلة العظمى إلى رب العالمين؛ ولا طيب لحياة المسلم وعيشه، إلا بجهاد هؤلاء ومراغمتهم وتكفيرهم والتقرب إلى الله بذلك، واحتسابه لديه {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 3 فهذا المقام الشريف، والوصف المنيف 4 هو الذي أنكرتموه، واستحللتم به أعراض المسلمين، ورميتموهم لأجله بالعظائم، وإلى الله نمضي جميعا، وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبئات /الضمائر/5 /والصدور/6، ويعلم من عادى حزبه وأولياءه، ووالى حربه 7 /وأعداءه/8. ماذا جنى على نفسه، وأي الفريقين أولى به، وأي الدارين أليق به؛ فالمرء مع من أحب 9 ونصر ووالى، شاء أم أبى. وهل حدث الشرك في الأرض إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين، الذين يظهرون للناس في زي العلماء، وملابس الصلحاء، وهم من أبعد خلق الله عما جاءت به
الرسل من توحيده ومعرفته، والدعاء إلى سبيله، بل هم جند محضرون للقباب وعابديها، /فقد/1 عقدوا الهدنة والمؤاخاة بينهم وبين من عبد الأنبياء والمشائخ، وأوهموهم أنهم إذا أتوا بلفظ الشهادتين واستقبلوا القبلة، لا يضرهم مع ذلك شرك ولا تعطيل 2 وأنهم هم المسلمون، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم صفوف أهل الجنة، فاغتروا بهذا القول منهم، وغلوا في شركهم وضلالهم حتى جعلوا لمعبوديهم التصرف والتدبير، من دون الله رب العالمين. فهل ترى يا ذا العقل السليم. أصل وأجهل ممن هذا شأنه، وطريقته وعقيدته وإن كان في /هذه/3 المظاهر الظاهرة، والرسوم الشائعة /معدودا/4 من أهل العلم بالشرع والإسلام. فهذا والله أضل من سائمة الأنعام. وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان من يقر بالشهادتين، ويأتي ببعض الأركان 5، وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما ومناقضتهما. وهذا لا يخفى /على/6 صغار الطلبة، وقد ذكروه في المختصرات من كل مذهب، وهو في مواضع من كتاب الروض7، الذي تزعم /أنك/8 تقرأه/9 وتدري ما فيه. ولكن الأمر كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} الآية1. بل وقد ذكروا أن من أنكر فرعا مجمعا عليه، كتوريث البنت والجد2 أنه يكفر بذلك، ولا يكون من خير أمة أخرجت للناس، وهذا منصوص في كتب الشافعية وغيرهم. فكيف ترى يا هذا فيمن أنكر التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ودان بمحض الشرك والتنديد فقاتل الله الجهل، ماذا يفعل بأهله. الثالث3: قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 4 وأصل الإيمان بالله، هو عبادته لا شريك له، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث وفد عبد القيس5. هذا هو الإيمان الذي اختص به المؤمنون وجحده المشركون، وفيه وقع
النزاع، وله شرع الجهاد، وانقسم العباد 1. وقد ابتليت أنت بأمور أوجبت لك الجهل بأصل الإسلام، وعدم الرغبة في البحث عن قواعده ومبانيه العظام، ومن ذلك: أنك /اتبعت/2 مشائخ الطوائف الذين جعلتموهم من خير أمة أخرجت للناس، في طلب العلم والأخذ به، وهم قد خفي عليهم معنى كلمة الإخلاص التي هي أصل الدين، وما دلت عليه من وجوب عبادة الله رب العالمين، والبراءة من دين الجهلة المشركين؛ وأكثرهم يقرر أن معناها: إثبات قدرته/ تعلى/ 3 على الاختراع، ونفي ذلك عما سوى الله. والإله عندهم هو القادر على الاختراع 4. وبعضهم يرى أن الفناء في توحيد الربوبية، هو الغاية التي شمر إليها السالكون 5؛ وبعضهم قرر أن معناها/ أنه تعالى هو/6 / القادر/7 الغني عما سواه المفتقر إليه
كل ما عداه1، كما يذكر عن السنوسي2 صاحب الكبرى عن العقائد المبتدعة. وهذه المعالي ليست هي المقصودة بالوضع والأصالة من هذه الكلمة الشريفة التي هي الفارق بين المسلم والكافر. وأكثر الكفار لا ينازعون في قدرة الرب وغناه، وإنما المقصود بالوضع: نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن غيره، وإثباتها له تعالى على أكمل الوجوه وأتمها3؛ كما يعلم من كتب اللغة والتفسير وكلام أئمة العلم، الذين إليهم المرجع في هذا الشأن. والمعنى الأول لازم للمعنى المراد لا ينفك عنه؛ لا أنه المقصود بالوضع والأصالة. فإن المستحق لأن يعبد ويعظم ويقصد دون غيره، لا بد أن يكون قادرا غنيا، ومن عداه/ فقيراً محتاجاً/4 لا قدرة له. فبهذا السبب خفي عليك ما هو واضح في نفسه، ولولا حجاب التقليد، وحسن الظن بهؤلاء الطوائف، لاتضح الحكم لديك، ولم يخف أمره عليك. ومنها5: أنك رغبت عن الطريقة الشرعية، والمحجة الواضحة السوية، وأخذت عن حسين النقشبندي طريقة مبتدعة 6 وعبادة مخترعة لا أصل لها في شريعة محمد
صلى الله عليه وسلم. وأنت /ظننتها/1 الغاية المقصودة، والدرة المفقودة، وهي من البدع المضلة الخارجة عن المنهاج والملة. وقد نص العلماء الأعلام على دخولها فيما حذر عنه نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، في غير ما حديث، كحديث العرباض بن سارية 2، وحديث ابن مسعود 3 وحديث حذيفة 4 وغيرهم. وقد اشتملت هذه الطريقة، على خلوات ورياضات مخالفة لواضح الأخبار والآيات، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} 1 وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2. ومن المعروف عند أهل العلم والتجربة، أن المعتني بهذه الخلوات والرياضات المبتدعة، يحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطان 3، وبعضهم تطير به الشياطين من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد4. ومن طلب التنزل الرحماني الإلهي الرباني من غير طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتلى بالتنزل الشيطاني. وبعض هؤلاء يقول: ذكر العامة "لا إله إلا الله" وذكر الخاصة "الله الله" وذكر خاصة الخاصة "هو هو"5. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر"6. والاسم المفرد مظهرا أو مضمرا، ليس بذكر ولا كلام، ولم يرد ما يدل على مشروعيته. وعمدتهم في ذلك طلب/ تفريغ/7 الخاطر من الواردات، وجمع القلب حتى تستعد النفس لما ينزل عليها 8. وقد خفي على هؤلاء المبتدعة، أن الوارد الشرعي
الديني ممنوع ومحظور على من /لم/1 يأت من الباب النبوي والطريق المحمدي، وأن السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وقد دل الكتاب والسنة على أن التحصن من الشيطان لا يحصل إلا بذكر الله، وعدم فراغ الذهن والقلب من ذلك، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية2 وفي حديث يحيى بن زكريا: ".. وأمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل جد العدو في طلبه، فآوى إلى حصن حصين"3. وبعضهم آل الأمر به إلى القول بأن النبوة مكتسبة4، وأنه قد حصل له مثل ما حصل للأنبياء وأعظم5. وهذه الكفريات، سببها الخروج عما شرعه الله. ومن ابتلي بشيء منها، فاته من العلم والهدى بحسب ما فيه. ولولا الامتحان /والابتلاء/6 لما سارعت
وهرولت إلى /هذا/1 النقشبندي مع خلعه لربقة الإسلام، وتركه لما عليه العلماء الأعلام. ثم ابتليت بسميه2 مع ما هو عليه من الريب في هذه الدعوة الإسلامية، التي من الله بها في هذه الأزمان، التي هي أشبه بأيام الفترات، لبعد العهد وغربة الدين. والذباب يأبى إلا السقوط على العذرة. وقد ابتليت وابتلي صاحبك بعيب أهلها وذمهم، وموالاة أعدائهم الذين هم ما بين جهمي أو رافضي أو من عباد القبور، وغرك ما يعده ويمنيه من نيل رتبة القضاء. ودون عليان القتادة3 والخرط 4"5. المسلمون في خرج من كون مثلك يؤم في المساجد، وينتصب في المدارس؛ فكيف بالقضاء ونحوه؛ يأبى الله ذلك والمؤمنون، وإن منَّاك به الجهلة المبطلون. واعلم أن إمامنا. وفقه الله تعالى. على طريق أسلافه وأعمامه في الدعوة الإسلامية وحماية هذا الدين، وأخشى. إن كثر فيك القول وظهر له منك ما أشرنا إليه، من الجنف والعول –أن يسلك بك مسلك من سلف من أشرار الأحساء الذين لم يقبلوا ما من الله به من نور الهدى، فأوقع بهم الإمام سعود من بأسه6 ما خمدت به نار الفتنة والجحود.
كأني بكم واللَّيت آخر قولهم ألا ليتنا إذ الليت لا يغني 1.
فصل: أموال السلطان وجوائز الأمراء
فصل: أموال السلطان وجوائز الأمراء ... " فصل " وأما طعنكم على الشيخ المكرم بأنه قبل جوائز ابن ثنيان، وأنه /بنى بيته –رحمه الله./2 من أموال محرمة؛ فهذا القول منكم مبني على ما في أول هذه الورقة، من الطعن في العقيدة، وأنهم كفروا خير أمة أخرجت للناس، واستباحوا أموال السلطان وجوائز الأمراء دماءهم وأموالهم، وجعلوها 3 بيت مال، بغير حق شرعي، كما فعل الخوارج المعتدون. هذه عقيدتكم التي أنتم عليها في أمر هذه الدعوة الإسلامية. وقد أظهرها الله، وأبدى ضغينتكم، وكشف لعباده سريرتكم. قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} 4. وهذا تصريح منكم يعرفه كل عاقل، والإمام وغيره من ذوي الألباب، يعرفون هذا من نفس خطابكم، وأن تخصيص ابن ثنيان تستر /وخوف/5 من السيف، وإلا فهم عندكم على طريقة واحدة. فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة ... فبح /لان/6 منها بالذي أنت بائح7 ولو حقق الأمر، لم يوجد عندكم فارق بين ابن ثنيان وغيره، وإذا عرف هذا، فلو
سلم/ تسليما/1 صناعيا، أن قدكم الأموال المغصوبة؛ فوجدوها في بيت المال، لا يقتضي التحريم على من /لم/2 يعلم عين ذلك، ولم يتميز لديه، والمسئول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه، إذا لم يعلم عين المغصوب. وقد ذكر ذلك أئمتكم من الشافعية وغيرهم من أهل العلم؛ بل ذكر ابن عبد البر3 إمام المالكية في وقته، أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين، عن أحد ممن يعتد به من أهل العلم. وقال في رسالته/لمن/4 أنكر عليه ذلك: قل لمن ينكر أكلي/ لطعام/5 الأمراء ... أنت من جهلك/ عندي/6 بمحل السفهاء7 فإن الإقتداء بالسلف الماضيين، هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكي عنه أنه تركها كأحمد وابن المبارك8 وسفيان9 وأمثالهم؛ فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات/إلا/10 /الاعتقاد/11 التحريم. إلى أن قال: وقد قال عثمان –رضي الله عنه-: جوائز السلطان لحم ضبي/ شَرَكي/12؛ وقال ابن مسعود
لما سئل عن طعام من لا يجتنب الربا في مكسبه/ قال: 1 لك المهنأ وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما. وحُكي عن/ الإمام/2 أحمد –رحمه الله/تعالى/3-: جوائز السلطان أحب إلينا من/صلة/4 الإخوان، لأن الإخوان يمنون، والسلطان لا يمن. قال 5: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار6 وكان مختار غير مختار7، حكى/ هذا/8 عنه شيخ الإسلام ابن تيمية/ -رحمه الله-/9 وناهيك به حفظا وأمانة، عند الكلام على حديث: "إذا دخل أحدكم بيت أخيه فأطعمه من طعامه، وأسقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه" 10 والحديث معروف في السنن. قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خثيم 11: ما كان معاش
عطاء1 قال: صلة الإخوان، ونيل السلطان 2. وهذا مشهور بين أهل العلم. وقد قال صالح بن/الإمام/3 أحمد4 لأبيه، لما ترك الأكل مما/ بيد/5 ولده من أموال الخلفاء: أحرام هي يا/أبت/6 قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟. وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم لغصب أو غيره، فلا يحل له الكل بالاتفاق. والمشتبه الذي ندب إلى تركه هو: ما لم يعلم حله ولا تحريمه. وأما إذا امتاز/ بحال/7 وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين/لا/8 الاشتباه. وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت في السلف الصالح سريرته، وحسنت في المسلمين عقيدته. والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه. وقد قبل صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس9، وصاحب دومة الجندل10
وغيرهما1، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا 2ولا يأكل إلا طيبا. وأموال الكفار لا يبيحها الغصب/ لمثل/3 المقوقس؛ وإنما تباح وتملك بالقهر والغلبة والاستيلاء للمسلمين. وهذا كله منا على سبيل التنزل والمجارة، وإلا فنحن نعلم أنكم لا تذكرون هذا، إلا على سبيل العيب والمذمة والغيبة، لا عن ورع فيكم ولا/تحر/4 للصواب/لا/5 طلب للفقه/ لدينكم/6؛ بل أنتم كما قال تعالى في أهل الكتاب: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 7. وقد اشتهر أنكم في الزاحمة على الأموال المحرمة، أحمق من نعجة على
/حوض/1، وغالب ما في أيديكم من الأوقاف والريع والمآكل، إنما وصل إليكم من جهة من لا يعرف الدعوة الإسلامية، وليست لهم ولاية شرعية، كرؤساء الإحساء قبل المسلمين من آل حميد2 والأتراك وتجار البحر، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فكيف تلمزون بأموال المسلمين وهذا حالكم، وهذه مأكلكم وما فرض/ من ذلك على/3 الوجه الشرعي، فهو لا يباح إلا لمن قام في وظيفة التدريس والإمامة بما شرع الله ورسوله، من دعاء الخلق إلى توحيده، وتهيبهم عن الشرك، واتخاذ الأنداد معه،/ وقرر/4 ما تعرف الرب به إلى عباده، من صفات كماله، ونعوت جلاله، وأظهر مسبة من جحدها وأحد5 فيها، ونفى عن كتاب الله تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، وجرد المتابعة لرسول الله/ صلى الله
عليه وسلم/1، ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة، ومن لم يكن هكذا فهو غاش للمسلمين، غير ناصح لهم، متشبع بما لم/ يعط/2 كلابس ثوبي زور 3، في/ انتصابه/4 في المدارس والمساجد. والعلم معرفة الندى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر ليس إلا. وأما التزيي بالملابس، والتحلي بالمظاهر، والانتصاب في المدارس، من غير غيرة لدين الله، ولا نصرة لأوليائه، ولا مراغمة لأعدائه، ولا دعوة إلى سبيله، فما/ ذاك/5 إلا حرفة الفارغين البطالين، الذين صحبوا الأماني، وقنعوا من الخلاق بالخسيس الفاني، وهذا لا يفيد إيمان الرجل، فضلا
عن كونه عالما، فلا يباح والحالة هذه لمن كان/ هكذا،1 أن يجوز أوقافا فصد بها التقرب إلى الله، والإعانة على إظهار دينه، والتماس مرضاته، والدعوة إلى سبيله، ومن أكل منها وهو مجانب لهذه الأوصاف، فقد أكل ما لا يحل له وما لا يستحقه. وهذا يستفاد من قول الفقهاء: "يشترط أن يكون الوقف على جهة الر، ولا يستحقه إلا من كان من أهل تلك الجهة". وفي الحديث: "إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه، بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق، ليس له يوم القيامة إلا النار" 2. والأوقاف من مال الله/ عز وجل/3؛ ولهذا عزل الخليفة المتوكل4 كل من بيتهم بشيء من بدعة الجهمية، عن المساجد والقضاء، وغيره من الوظائف الدينية، وذلك بأمر من الإمام أحمد –رحمه الله/ تعالى/5. فإنه –رحمه الله- توجه إليه الفتح بن خاقان 6 -وزير المتوكل- بورقة فيها أسماء القضاة والأئمة، ققرأها الفتح على الإمام، فأمر بعزل من يعرف منه شيء من ذلك، أو يتهم به/ فعزل خلق كثير/7 وهو عند المسلمين في ذلك بار راشد متبع لأمر الله ورسوله.
فصل: فيما جاء في رؤيا طفيل
فصل: فيما جاء في رؤيا طفيل ... "فصل" فيما جاء في رؤيا الطفيل1، أنه مر على نفر من اليهود فقال هلم: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله؛ فقالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ومر على ملأ من النصارى فقال: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله؛ فقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون /والله/2 والكعبة. فأخبر الطفيل برؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم3. فنهى الناس عن هذه الأقوال 4، وقرر حكم هذه الرؤيا5. والغرض منها هنا، ذكر المشابهة بينكم وبينهم في /إدراك/6 الخفي مما زعمتموه
عيبا، مع العمى والجهل بما أنتم عليه، فأعجب لها من نادرة. قال حسان1: تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم من ذا لو يرى الرشد راشد صدودكمو عن مسجد الله أهله ... وإخراجكم من كان لله ساجد 2 تنبيه: طول المعاشرة، وكثرة المخالطة، لها تأثير ظاهر، وفعل بين في الأخلاق والطباع، والشيم والعقائد والديانات، كما هو مشاهد محسوس، حتى عن الإنسان قد يسري إليه/من/3 ما جُبل بعض الحيوانات عليه. كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الغلظة في الفدّادين4 أهل الوبر والشعر، والسكينة في أهل الغنم" 5.
ولا يخفى ما أنتم عليه من كثرة المعاشرة، وطول المزاولة لجيرانكم، الذين ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار هذه الأمة، حتى رموهم بما يستحى. من ذكره، وكثرت ثنائهم وموالاتهم للزنادقة والكفار من أعداء هذه الملة ولعل ما/جاء عنكم/1 من الذم والقيل هو من ذلك القبيل. شعر: لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الحرب2 /وما أعمى/3 بصائركم عما من الله به على هذا الشيخ4 من النعم الباطنة والظاهرة، وكونه نصب نفسه. بحمد الله ومنته. لحماية/ دين الله/5 والذب عنه، ومراغمة أعدائه فقام في وجوه من أجاز دعاء غير الله، والاعتماد عليه والتوكل على غيره؛ وذم من حسن حالهم، وذب عنهم، وتصدى للرد عليه، وتجهيله وتضليله؛ وقام في وجوه أهل البدع المنكرة كالجهمية6 والأشاعرة7 والسالمية8
والكرامية1؛ وقمعهم الله/تعالى/2 به، وصاروا في/ بلدكم/3 يستترون، وكذلك أهل الموالد والأعياد الجاهلية، كبتهم الله بما أبداه وقرره من عيبهم وتضليلهم. وقد من الله عليه بنشر العلم، وانتفع الناس به، بعد ما كاد أن يعدم في البلاد النجدية4، بعد المحنة المصرية5، فجدد الله به آثار سلفه الصالح. وجمهور من له معرفة بالعلم، وما جاءت به الرسل، من أهل هذه البلاد النجدية، إنما تخرج عليه، وسمع منه، وتربى بين يديه6. ومن لم يحظ بهذا، فهو دون غيره، كما لا يخفى على عارف. والمنصف من الأعداء يعترف بهذا. وقد عرف العامة والخاصة مناصحته، لولاة الأمور، وحثهم على ما ينتفعون به في الدنيا والآخرة، من تحكيم
كتاب الله، والجهاد/ لإعلاء/1 كلمته، ونصحهم عن الإصغاء إلى أهل الريب والشك، في الدعوة الإسلامية، والحقائق التوحيدية، الذين يبغونها عوجا، ولا يحبون ظهور هذا الدين وعلوه فهو قد نصح ولاة /الأمور/2 عنهم، وكبت الله بسببه وأخزى منهم عددا كثيرا، وهو قائم على قضاء تلك البلاد في النظر في أحكامهم، يرد كثيرا مما أجمع على بطلانه منها، وينقضها بالقانون الشرعي/والمنهاج/3 المرعي، وهذا مشهور لا ينكره إلا مكابر. شعر: وما ضره عين الشمس إن كان ناظرا ... إليها عيون لم تزل دهرها عميا 4 وقد عرف من كان له فضلوعلم، أن كلام أمثالكم، وبهت أشباهكم، مما يدل على فضله وجلالته وهيبته/وفطانته/5، وأن ذلك مما يزيده الله به/إن شاء الله/6 رفعة وشرفا في الدنيا والآخرة، ويوجب –إن شاء الله- حسن العاقبة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا
اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 2. ومما يستحسن لشيخ الإسلام/قدس الله روحه/3 ونور ضريحه/4 قوله: شعر: لو لم تكن لي في القلوب مهابة ... لم تكثر الأعداء في وتقدح كالليث لما هيب خط له الزبى5 ... وعوت لهيبته الكلاب النبح يرمونني شرر العيون لأنني ... غلست في طلب العلى وتصبحو6 وقال أبو الطيب: وإذا أتتك مذمتي من ناقصي ... فهي الشهادة لي بأني/كامل 7/8 وقد أنطق الله ألسن المسلمين بالثناء والدعاء لهذا الشيخ، ونرجو أن الله يقبل شهادتهم،/ ويجيب له دعوتهم/9 ويقيل عثرته وعثرتهم. الله اغفر لنا ما لا يعلمون، واجلعنا خيرا مما يظنون. والمغرور من اغتر بثناء الناس عليه، ولم يعرف
حقيقة مأمنه وما لديه، لكن الغرض تعريفك أن كلامكم زاده الله به/ شرفا ورفعة 1. شعر: كم كان في نكث أسباب العهود2 بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب3 وأما من/بهته/4، فقد أصبح بين أهل الإسلام والكمال، كقبر أبي رغال 5 مرجوما بشهب المذمة والمقال، معدودا/ زمرة/6 أهل الغي والضلال. ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه7 عجيبة عبتم على الشيخ حرثه وطلبه الرزق، باتخاذه النخيل/والزروع/8، مع أن هذا/هو/9 حرفة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، جمهورهم أهل نخيل وحروث. ولما/فتح الله/10/خيبرا/11 اقتسموها، وعاملوا عليها، وصار، وذم الكل بالدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه المعروف، ولما أجلى/ عمر
رضي الله عنه اليهود 1/2 تولى المسلمون العمل فيها بأنفسهم، وهذا معدود من مناقبهم. ولم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه اليهود والنصارى ومن شابههم، من هذه الأمة من الأكل بدينهم، وجعله ألة يكتسب/بها/3 الدنيا، ويحتال بها على أكل الحبوس والأوقاف وكثير من علمائكم جزم بأن الحرث أفضل المكاسب، ونصوصهم موجودة عندكم، ولكن الهوى والعداوة أدَّياكم إلى أن جعلتم المناقب/مثالياً/4؛ ولا ذنب للشيخ عندكم يقتضي هذا ويوجبه، لم يحل بينكم وبين مآكلكم، و/لا/5 رئاستكم، ولكن يدعوكم إلى الرغبة عن تقليد الأشياخ الماضيين. شعر: أصبحت بين معشار هجروا الهدى وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم قوم أحاول رشدهم وكأنما حاولت نتف الشعر من آنافهم6
فصل: الإقتداء بإهل الخير والبر في العمل الصالح
فصل: الإقتداء بإهل الخير والبر في العمل الصالح ... "فصل" بلغنا عن خدنك ومن يلوذ بك، أنهم أنكروا على الإمام بناء المسجد الجامع، فقيل لهم: إنه قد بناه سعود –رحمه الله- أولا؛ فقالوا: هذا من باب قوله تعالى:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 1؛ وقالوا: ومن يصلي في هذا، وقد بُني من مال كيت وكيت. وهذا يدل على ما قلناه، أن اعتقادكم في الإمام 2 مثل اعتقادكم في ابن ثنيان سواء بسواء. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم3 وهذا ثابت بنقل العدد الكثير من أهل نجد، وأهل الأحساء، وإنكاره مكابرة/وردّ/4 للواضحات. وقد علم أن الإقتداء بأهل الدين في البر والخير والعمل الصالح، كبناء المساجد رفع شأنها، من آكد ما شرع. ومن أفضل ما سُعي فيه، وصنع. والاستدلال عليه بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 5، أقرب للصواب. والله أسأل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحسن العاقبة لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين. إنه ولي ذلك كله،/وهو/6/ على كل شيء قدير/7. وصل اللهم على نبينا محمد، سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا/ إلى يوم الدين/8.
الرسالة الثلاثون: إلى محمد بن عون
الرسالة الثلاثون: إلى محمد بن عون تقديم جامع الرسائل ... "الرسالة الثلاثون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى محمد بن عون –رجل من أهل عمان- قد ألقيت إليه شبهات وضلالات من أضاليل الجهمية النفاة. فبعث بها إلى الشيخ الإمام، وقدوة العلماء الأعلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. فأجابه عليها بأدل دليل، وأوضح برهان. وقد سأل هذا الجهمي2 الكافر/محمدا/3 عن هذه الأسئلة. فمنها: هل لكلمة التوحيد لا إله إلا الله شروط وأركان وآداب؟. ومنها: قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 ما معناه استواؤه مختص بالعرش، أو به/و/5 بغيره لأنه تعالى ما نفى استواءه من غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك وهل أتى سبحانه بحرف الحصر وحروف الاختصاص وهل تعرف حروف الاختصاص وحروف الحصر أم لا وما هي؟ فإذا قلت مثلا: زيد استوى على الماء، فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل. ومنها قوله: وإذا أقررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 6
وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 1 وقد قال إنه قريب2. وقال صلى الله عليه وسلم: "حيثما كنتم فإنه معكم"3؛ فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، وتعارض الآيات والأحاديث. أما/ الآيات/4 الأخيرة. فقد قيل في الأول5 أنها ليست من المتشابهات، لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وما نفى الاستواء عن غير العرش. هذا كلامه بحروفه، نقله الشيخ على ما فيه من التحريف واللحن ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت، حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى. وقد أجاب –رحمه الله- إفادة لمحمد بن عون، إذ كان من أهل التوحيد والإثبات، وممن جاهد الجهمية في تلك الجهات؛ وإلا فليس هذا الجهمي الكافر كفا للجواب، لأنه من العجم الطغام، بل هو أضل من سائمة الأنعام، إذ لا فكرة ثاقبة، ولا روية كاسبة، ولا طريقة صائبة يتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيّى بزي أهل الذكاء والفهم، وليس له في ذلك ملكة ولا روية، ولا معرفة للعلوم ولا دراية، ولا يعرف من الإسلام أصلا ولا فرعا، بل هو ممن ضل سعيه في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وقد موه هذا الجهمي الكافر بهذه السفسطة1 والجعجعة2، وهرقع بهذه المحرقة والقعقعة3، وظن أن ليس في حمى التوحيد من أهله ضيارم، ولا لتلك الشبه المتهافتة من عالم مصارم4؛ كلا والله، إن الليث مفترش على براثنه، لحماية حمى التوحيد وقاطنه؛ فلا يأتي صاحب بدعة ليقلع من التوحيد الأواسي5، ويهد الرعان6 الشامخات الرواسي، إلا ودفع في صدره بالدلائل القاطعة، والبراهين المنيرة الساطعة، فرحمه الله من إمام جهبذ ألمعي، ومقول بارع لوذعي7، أحكم وأبرم من الشريعة المطهرة أمراسها 8 فضاء –بحمد الله- للورى نبراسها، وسقى عللا بعد نهل غراسها، فأورقت وبسقت أشجارها؛ وأينعت –بحمد الله- ثمارها، فجنى من ثمارها كل طالب مسترشد، وورد من معينها الصافي كل موحد. إمام هدى فاضت ينابيع علمه ... فأم الأوام الواردون معينها فبلوا الصدى من صفوها وتضلعوا ... وصعصع9 تيار لهن معينها10 كهذا الذي أبدى معرة جهله ... وكان يرى أن قد أجاد رصينها
فضعضعها بالرد والهد جهبذ ... وأبدى عوارا قد رأى أن يزينها وما هو إلا كالسراب بقيعة ... يلوح لظمآن فلاقى متونها فإن كنت مشتاقا إلى كشف زهوها ... فإن الإمام الشيخ أبدى كمينها وجلى ظلام الجهل بالعلم مدحضا ... ضلالات كفر غثها وسمينها وأطلع شمس الحق للخلق جهرة ... وشاد لعمر للبرية دينها وقد سمقت أنوار برهان علمه ... وقد بلغت غرب البلاد رصينها ورد على من رد سنة أحمد ... ورام سقاها بالهوى أن يشينها زمن ند من أتباع جهم ونحوهم ... وقد رام جهلا أن يهد مكينها بنفي استواء الرب جل جلاله ... على عرشه إذ رام أن يستهينها وقد أوضحت بل صرحت بعلوه ... وقرر أعلام الهدى مستبينها وفي سبع آيات ثبوت استوائه ... على العرش فاقرأ يا مهين رصينها1 وهذا جواب إحدى الورقتين/ اللتين أرسلهما/2 محمد بن عون، وقد تقدم جواب الورقة الثانية فيما سبق3، ولم أجدها تامة، ولكن لمسيس الحاجة إليها أثبتناها.
جهادك أهل البدع، والإغلاظ في الإنكار على الجهمية والمعطلة ومن والاهم، وهذا من أجل النعم وأشرف العطايا، وهو من أوجب الواجبات الدينية؛ فإن الجهاد بالعلم والحجة، مقدم على الجهاد باليد والقتال، وهو من أظهر شعار السنة وآكدها. وإنما هو تختص به في كل عصر ومصير، أهل السنة وعسكر القرآن، وأكابر أهل الدين والإيمان. فعليك بالجد والاجتهاد به، من أفضل الزاد للمعاد، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 1. هذا وقد ألقي إلي ورقة جاءت من نحوكم، سوَّدها بعض الجهمية المعطلة، مشتملة على إنكار علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، كما هو رأي جهم وأشياعه، محتجا صاحبها بشبهات كسراب بقيعة، من نظر إليها من أهل العلم والمعرفة؛ تيقن أنه من الأدلة على أن قائله قد عدم العلم والإيمان، والمعرفة والحقيقة، وأنه ممن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعا 2. وقد أبداه قائله ليتشبع بما لم يعط من العلم 3 ويتزيى/ بغير زي العلماء/4؛ فكشف الله سوءته، وأبدى خزيه، وصار كلامه دليلا على جهله وعماه، وضلاله عن سبيل رشده وهداه. فأول ما رسم في هذه الورقة المشار إليها، قوله –وفقك الله إلى أقوم الطريق: هل لكلمة التوحيد- وهي لا إله إلا الله- شروط وأركان وآداب فإن قلت نعم، فما هي
هذا لفظه. وقد عرفت أن الرجل لبس من أهل هذا الفن، ولا يدري ما هنالك. والتوحيد عند هذه الفرقة الجهمية، حقيقة1 تعطيل الأسماء والصفات؛ لأن عندهم تعدد الصفات يقتضي تعدد الموصوف، والوحدة عندهم والتوحيد ينافي ذلك، فيثبتون ذاتا مجردة، وحقيقة مطلقة غير موصوفة ثبوتية2 ويفسرون الواحد بأنه الذي لا يقبل الانقسام. وهذا كلام شيوخه وأسلافه من الجهمية الضالين، الذين ينكرون العلو والاستواء، ويزعمون أنه بذاته مستوٍ في كل مكان، فما نزهوه عن شيء من الأماكن القذرة التي يتنزه عنها آحاد خلقه. فما أجرأهم وما أكفرهم وما أضلهم عن سواء السبيل. ومنكر الاستواء هذا توحيده، وهذا رأيه. وأما التوحيد الذي اشتملت عليه كلمة الإخلاص، فهذا أجنبي عنه، لا يدريه، وكيف يدري ذلك كمن أنكر أظهر الصفات التي بنيت عليها كلمة التوحيد، واستحق بها الرب ما له من صفات الإلهية والربوبية والكمال المطلق، فما للجهمية وهذا، وهم إنما يعيدون عدما وإنما يبحث عن هذا ويدريه من يعيد إلها واحدا فردا صمدا. وشرط كلمة الإخلاص، يعرفها –بحمد الله- صغار الطلبة من المسلمين أهل الإثبات. ويتبين ذلك بتعريف الشرط: وهو أنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود لذاته3. وإذا عرف هذا، فالعقل يلزم من عدمه العدم، والتمييز يلزم من عدمه العدم، والعلم يلزم من عدمه العدم؛ هذه شروط الصحة4. وأما شروط القبول: فالالتزام والإيثار والرضا. وإذا اجتمعت هذه الشروط، حصل
القول المنجي، والشهادة النافعة1. ومصدر هذه الشروط عن علم وعمله، وهناك يصدر التلفظ بها عن يقين وصدق. والجهمية لم يتصفوا بشروط من هذه الشروط، وقد صرح أهل السنة بذلك. وحاجة معطلة الصفات إلى معرفة التوحيد في العبادات، كحاجة من عدم الرأس من الحيوانات إلى الرسن. قال أبو الطيب: فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا/ عقل/2 إلى رسن3 وله أيضا شروط: منها: معرفة الإله الحق بصفات كماله، ونعوت جلاله، التي علوه وارتفاعه واستواؤه على عرشه من أظهرها وأوحيها. /وكذلك/4 معرفة أمره ونهيه ودينه الذي شرعه، والوقوف مع أمر رسوله وحدوده. ومنها: كون الطبيعة لينة منقادة/ سلسة/5 قابلة.
وهذه الشروط معدومة في الرسائل، قد اتصف بضدها ومعبوده مسلوب الصفات، لا وجود له في الحقيقة، وأمره ونهيه منبوذ عند هذه الطائفة، لا يهتدون بكتابه ولا يأتمرون بأمره؛ والمعول عندهم على شبهات منطقية، وخيالات كلامية يسمونها: قواطع عقلية، ومقدمات يقينية. ونصوص الكتاب والسنة عندهم، ظواهر لفظية، وأدلة ظنية. وأما طبائعهم فأقسى الخلق وأعتاهم وأعظمهم ردا على الرسل، واعتمادا على أقوال الصابئة والفلاسفة وأمثالهم من شيوخ القوم، الذين لم يلتفتوا إلى ما جاءت به الرسل، ولم يرفعوا به رأسا، فضلا عن معرفته وقبوله، فما لهذا السائل وآداب كلمة الإخلاص. وأما الأركان: فركناها: النفي والإثبات. نفي استحقاق الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده على وجه الكمال. وأما الآداب: فالدين كله يدخل في مدلولها وآدابها. وأرفع مراتب الآداب وأعلاها، مرتبة الإحسان، وهي أعلى مقامات الدين، وبَسْطُها يعلم من معرفة شعب الإيمان وواجباته ومستحباته. وعندهم أن الإيمان مجرد التصديق، فلا يشترط عمل القلب وعمل الأركان، في حصول الحقيقة المميزة بين المسلم والكافر. هذا رأي الجهمية الجبرية، فالأعمال ليست من مسماه، والتصديق والإخلاص/ليسا/1 من أركانه2. وهذا يعرفه صغار الطلبة؛ فكيف يترشح هذا الجهمي لما ليس من فنه ولا من علمه وفي المثل: ليس هذا بعشك فادرجي 3. والمقصود إفادة مثلك. وأما
السائل فليس كفا للرشاد والهدى. ثم قال الجهمي في ورقته قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 ما معناه2؟ استواؤه مختص بالعرش أو به/و/3 بغيره لأنه تعالى ما نفى استواءه/عن/4 غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك وهل أتى سبحانه بحروف الحصر وحروف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص وحروف الحصر أم/لا/5 وما هي فإذا قلت مثلا: زيد استوى على الدار، فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل. وجوابه أن يقال: قد ثبت من غير طريق عن مالك بن أنس/ رحمه الله/6 وعن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن7 بل ويروى عن أم المؤمنين أم سلمة –رضي الله عنها- أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول8. وفي بعض طرقه: والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة 9. وزاد مالك: فقال للسائل: وما أدراك إلا رجل سوء. وأمر به فأخرج10. وعلى هذا درج أهل السنة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الطائفة الضالة الملعونة، الجهمية وأشياخهم من غلاة
الاتحادية والحلولية. وأما أهل السنة، فعرفوا المراد وعقلوه، ومنعتهم الخشية والهيبة والإجلال والتعظيم، من الحوض والمراء والجدل والكلام الذي لم يؤثر ولم ينقل. وقد عرفوا المراد من الاستواء وصرح به أكابر المفسرين وأهل اللغة، فثبت عنهم تفسيره بالعلو والارتفاع1 وبعض أكابرهم صرح بأنه صعد2. ولكنهم أحجموا عن مجادلة السفهاء الجهمية، تعظيما لله، وتنزيها لرب البرية. وإذا أخبر جل ذكره أنه استوى على العرش، وعلا وارتفع، وكل المخلوقات وسائر الكائنات تحت عرشه، وهو بذاته فوق/ذلك/3. وفي الحديث: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء" 4. وإذا عرف هذا عرف معنى اختصاص العرش بالاستواء، وأن هذه الصفة مختصة بالعرش. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي قال له: إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله
عليك قال: "الله أكبر، إن شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله، إنه على عرشه. وأشار بيده كالقبة، وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه"1. وهذا الحديث لا يستطيع سماعه الجهمي، ولا يؤمن به إلا أهل السنة والجماعة الذين عرفوا الله بصفات كماله، وعرفوا عظمته، وأنه لا يليق به غير ما وصف به نفسه من استوائه على عرشه، ونزهوه أن يستوي على ما لا يليق بكماله وقدسه من سائر مخلوقاته. ومن أصول أهل السنة والجماعة، أنه سبحانه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه2. ولم يصف نفسه بأنه استوى على شيء غير العرش. وكذلك رسله وأنبياؤه وورثتهم، لم يصفوه إلا بما وصف به نسفه. فإنكار هذا الجهمي اختصاص الاستواء بالعرش، تكذيب لما جاءت به الرسل، ورد لما فطر الله عليه بن آدم، من التوجه إلى جهة العلو وطلب معبودهم وإلههم فوق سائر الكائنات3. {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 4. وتخصيص العرش بالاستواء نص، لأنه/لا يستوي/5 على غيره. والسائل أعجمي، لا خبرة له بموضوع الكلام ودلالته. قال الحسن في مثل هؤلاء: "دهتهم العجمة"6. ونفي الاستواء عن غير العرش معلوم من السياق، مع دلالة النص
والإجماع والفطرة كذلك، ودلالة الأسماء الحسنى كالعلي والأعلى، والظاهر ونحو ذلك. ولفظ العلو والارتفاع والصعود يشعر بذلك، ويستحيل أن يستوي على شيء مما دون العرش، لوجوب العلو المطلق، والفوقية المطلقة. وأما قوله: وهل أتى سبحانه بحرف الحصر والاختصاص: فدلالة الكلام على الحصر والاختصاص تارة تكون بالحروف1 وتارة تكون بالتقديم والتأخير2، وتارة تكون من السباق وتارة تكون بالاقتصار على المذكور في الحكم، ولا يختص الاختصاص بالحروف. قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3 وهذا الضمير الظاهر ليس من حروف الحصر، وإنما عرف واستفيد من التقديم/ والتأخير/4. وتارة يستفاد من الحروف كقوله: "إنما الأعمال بالنيات" 5، وكقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 6، وتارة من الاستثناء بإلا بعد النفي، كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 7 {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} 8. ونحو ذلك. والسائل حصرها يظنها مختصرة في الحروف، وهذا من جهله. ثم يسأل عنا عن أقسام الحصر، كم هي وما الفرق بين حصر الأفراد وحصر القلب
والحصر الإدعائي ومقابله، ويسأل هل دلالة الحصر نصية أو ظاهرية وهل هي لفظية لغوية أو عقلية وما أظنه يحسن شيئا من ذلك، وإذا أخبر تعالى أنه استوى على العرش، فلا يجوز أن يقال: أنه استوى على غيره، لوجوه:- منها: أنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه؛ والتجاسر على مقام الربوبية بوصفه بما لم يصف به نفسه، وزيادة/نعت/1 لم تعرف عنه ولا عن رسله، قول على الله بغير علم، وهو فوق الشرك في/عظم/2 الذنب والإثم، وأكذب الخلق من كذب على الله. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 3 الآية. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يستحق من الصفات أعلاها وأشرفها وأجلها. والعرش أعظم المخلوقات، هو سقفها الأعلى، وقد وصفه الله تعالى بالعظم، فقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 4. وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} 5؛ ووصفه بالسعة فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 6 فكيف يوصف بالاستواء على ما دونه، وقد تمدح وأثنى على نفسه بالاستواء عليه ووصفه بما لم يصف به غيره من مخلوقاته. الوجه الثالث: أن تمثيله بقول القائل: زيد استوى على الدار، وأن ذلك لا يعلم منه أنه لا يستوي على غيرها: فهذا جهل عظيم، والكلام يختلف باختلاف حال الموصوف، وما يليق له من
الصفات. وأصل ضلال هذه الطائفة، أنهم فهموا من صفات الله الواردة في الكتاب والسنة، ما يليق بالمخلوق ويختص به، فلذلك أخذوا في الإلحاد والتعطيل، شبهوا أولا وعطوا ثانياً. الوجه الرابع: أن هذا التمثيل الذي أبداه السائل، قد نص القرآن على إبطاله، قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 وأصل الشرك تشبيه الخالق بالمخلوق.
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن الى محمد بن عون
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن الى محمد بن عون ... بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم محمد بن عون –سلمه الله وأعانه، وبالعلم كمله وزانه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين. وسبق إليكم مكاتبات قبل هذا، وقد بغلني ما منَّ الله به عليك من
فصل: قال الجهمي: وإذا قررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله}
فصل: قال الجهمي: وإذا قررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه اللَّه} ... "فصل" قال الجهمي في ورقته: وإذا قررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2 وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 3 وقال: إنه قريب 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "حيثما كنتم فأنه معكم"5 فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع وتعارض الآيات والأحاديث. أما الآيات الأخيرة، فقد قيل في الأولى 6 إنها من المتشابهات، لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول؛ وما نفي الاستواء/عن/7 غير العرش. هذا كلامه بحروفه، نقلناه على ما فيه من التحريف واللحن ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى.
فأما قوله: فإذا قررت لله مكانا معينا: فاعلم أن أهل السنة والجماعة، ورثة الرسل وأعلام الهدى لا يصفون الله إلا بما وصف به نسفه، وأو وصفه به رسوله، من غير زيادة ولا نقص، ينتهون حيث انتهى بهم، تعظيما للموصوف وخشية وهيبة وإجلالا. وأما أهل البدع، فيخوضون في ذلك، ويصفونه بما لم يصف به نفسه، ويلحدون فيما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يتحاشون من الكلام في ذلك بالبدع التي لا تعرف. وقد ذم الله هذا الصنف في كتابه، ووصفهم بما لم يأتهم عنه ولا عن رسوله. وذكر الله عن أصحاب النار أنهم لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} 1؛ فوصفهم بالعتو عن طاعته، وعدم الانقياد لعبادته، بقوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} 2، ووصفهم بعدم الإحسان والمعروف بقوله: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 3، ووصفهم بالخوض في شأن دينهم وما جاءت به رسلهم، وعدم وقوفهم مع ما أمروا به، وتعديهم إلى ما يرونه ويهوونه بقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} 4. وهذا حال أهل البدع والضلالات الذين لم يؤسسوا دينهم على ما جاءت به الرسل. وإذا عرفت ذلك فلفظ المكان لم يرد لا نفيا ولا إثباتا، وقد يراد به معنى/ صحيح/5 كالعلو والاستواء والظهور، وقد يراد به غير ذلك من الأماكن المحصورة. فالواجب ترك المشتبه، والوقوف مع نصوص الكتاب والسنة، فيقال لهذا الجهمي: نحن لا نقر لله من الصفات إلا ما نطق به الكتاب العزيز، وصحت به السنة النبوية، ولا يلزم من أثبت ذلك شيء من البدعيات والأوضاع المختلفة.
وأما قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 فسياق الآية الكريمة يدل على أنها في شأن القبلة. قال ابن عباس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة وصلوا وتحروا القبلة، فلما ذهب الضباب، استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية2. وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يصلي التطوع حيثما توجهت به راحلته3. وقال عكرمة4: نزلت في تحويل القبلة5. وقال أبو العالية 6: عيرت اليهود المؤمنين لما صُرفت القبلة، فنزلت هذه الآية 7، وقال
مجاهد 1 والحسن 2: نزلت في الداعي يستقبل أي جهة كان، لأنهم قالوا لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3 أين ندعوه 4. قال الكلبي 5: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 6، فثمن الله يعلم ويرى، والوجه صلة، كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} 7، أي إلا هو 8. وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان 9: فثم قبلة الله. والوجه والوجهة والجهة القبلة 10.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 1 ختم هذه الآية بهذين الاسمين الشريفين، يشعر بما قاله الكلبي، من أنه يعلم ويرى. ومن كان له أدنى شعور بعظمة الله وجلاله، عرف صغر المخلوقات بأجمعها في جنب ما له تعالى من الصفات المقدسة، ولم يخلتج في قلبه ريب ولا شك في الإيمان بهذه النصوص كلها، وعرف الجمع بينها وبين ما تقدم. فسبحان من جلت صفاته، وعظمت أن يحاط بشيمنها. وأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 2 فهذا القرب لا ينافي علوه على خلقه واستواءه على عرشه 3. وفي الحديث: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"4، ولا يعرف هذا من ضاق نطاقه عن الإيمان بما جاءت به الرسل وإنما يعرفه رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين. ومن أسمائه العلى الأعلى؛ ومن أسمائه القريب المجيب؛ ومن أسمائه الظاهر الباطن. وكذلك قوله/تعالى/5: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} 6 وقد حرف السائل هذه الآية، وقال: إنه قريب، وهذا قرب خاص/بداعيه/7. وفي الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" 8 حال السجود غاية في العبودية والخضوع، ولذلك صار له قرب خاص لا يشبهه سواه. وهذا مما يبن لك
بطلان قول الجهمي: إنه بذاته في كل مكان1 ولو كان المر كما قال الظالم، لم يكن للمصلي والداعي خصوصية بالقرب،/ولكان/2 المصلي وعابد الصنم سواء في القرب إليه؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا قال العلامة ابن القيم –رحمه الله-: المعية نوعان3: عامة وهي معية العلم والإحاطة 4، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 5 وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 6. وخاصة: وهي معية القرب كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 7، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 8، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 9. فهذه
معية قرب تتضمن الموالاة والنصر والحفظ. وكلا المعيتين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة إطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة 1. ف"مع" في لغة العرب للصحبة اللائقة، لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ولا مجاورة ولا محايثة، فمن ظن شيئا من هذا، فمن سوء فهمه أتي. وأما القرب: فلم يقع في القرآن إلا خاصا2 وهو نوعان: قربه من داعيه بالإجابة، وقربه من عابديه بالإثابة3. فالأول كقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 4 ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:/أ/5 قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية6. والثاني: كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" 7، "أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل" 8، فهذا قربه من أهل طاعته9.
وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: "يا أيها الناس، اربعوا1 أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" 2. فهذا قرب خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد. وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه واستوائه على عرشه3، بل يجامعه ويلازمه، فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض4؛ تعالى الله علوا كبيرا. ولكنه نوع آخر، والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب وبينه وبينه مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ويجده أقرب إليه من جليسه، كما قيل: ألا رب من يدنو ويزعم أنه ... يحبك والنائي أحب وأقرب5 وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه، الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم، وأحب إليهم منها، يجدون نفوسهم أقرب إليه، وهم في الأقطار النائية عنه، من جيران حجرته في المدينة6 والمحبون المشتاقون للكعبة البيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها، وهذا مع عدم تأتي القرب منها، فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء هو مستو على عرشه. وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك إلى شبهة المبطل بعيد من الله، خلي من محبته
ومعرفته1. والقصد أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة، وكلما ازداد حبا ازداد قربا، فالمحبة بين قربين: قرب قبلها وقرب بعدها. وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها، ودعت إليها، ودلت عليها؛ ومعرفة بعدها من نتائجها وآثارها. وأما مسألة الاشتقاق: فينبغي أولا أن يسأل هذا: ما معنى الاشتقاق، وما يراد به عند المحققين فإن زعم أنه أخذ الأسماء من مصادرها، وأن المصادر متقدمة، فهذا يلزم عليه سبق مادة أخذ منها الاسم، ومجرد القول بهذا، ولا يرتضي عند المحققين من أئمة الهدى. فإن عرف ذلك وأجابك عن معنى الاشتقاق على الوجه الذي أشرنا إليه، فأخبره أن البصريين والكوفيين اختلفوا في الاسم من حيث هو، هل هو مشتق من السمو أو من السّمة ذهب البصريون إلى الأول2؛ والكوفيون إلى الثاني3. وأصله عند البصريين: "سمو" على وزن فعل، فحذفت لام الكلمة وهي الواو، ثم سكن أوله تخفيفا، ثم أتى بهمزة الوصل توصيلا بالنطق بالساكن، فصار "اسم"، وعليه فوزنه "افع" /ففيه/4 إعلالات ثلاثة، وهي الحذف ثم الإسكان والإتيان بهمزة الوصل. وأما على مذهب الكوفيين، فأصله: "وسم" على وزن "فُعَل"، حذفت فاء الكلمة وهي الواو اعتباطا5 ثم عوض عنها بهمزة الوصل، وعلى هذا فوزنه
"إعل"1. ويسأل عن معنى الإعلال وما يقابله، وعن الاشتقاق الأكبر والأصغر والكبير 2، وعن معنى الاشتقاق في الأكبر مع المباينة في أكثر الحروف، ما معناه. فإن أجابك عن هذا، فأجبه عن سؤاله؛ وإلا فكيف يسأل عن التفاصيل من أضاع القواعد والجمل. وأما سؤاله عن الفرق بين القدر والقضاء. فإن القدر في الأصل مصدر قدر، ثم استعمل في التقدير الذي هو التفصيل والتبيين 3، واستعمل أيضا بعد الغلبة، في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها 4. وأما القضاء، فقد يستعمل في الحكم الكوني، بجريان الأقدار، وما كتب في الكتب الأولى 5؛ وقد يطلق هذا على القدر الذي هو التفصيل والتمييز. ويطلق
القدر أيضا على القضاء الذي هو الحكم1 الكوني بوقوع المقدرات، ويطلق القضاء على الحكم الديني الشرعي، قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} 2. ويطلق القضاء على الفراغ والتمام3 قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 4، ويطلق على نفس الفعل5 كقوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 6؛ ويطلق على الإعلام7 والتقدم بالخبر كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 8، ويطلق على الموت، ومنه قولهم: قضى فلان، أي مات9، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} 10. ويطق على وجود العذاب، كقوله تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} 11. ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه، كقوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} 12، ويطلق على الفصل والحكم، كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} 13، ويطلق
على الخلق، قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 1، ويطلق على الحتم كقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} 2، ويطلق على الأمر الديني، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 3، ويطلق على بلوغ الحاجة، ومنه: قضيت وطري. ويطلق على إلزام الخصمين بالحكم، ويطلق بمعنى الأداء، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} 4 والقضاء في الكل مصدر5. واقتضى الأمر الوجوب، دل عليه. والاقتضاء هو العلم بكيفية نظم الصيغة. وقولهم/لا أقضي/6 منه العجب، قال الأصمعي7: يبقى ولا ينقضي. وقال السائل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 8، وأي شيء حقيقة البدعة، وهل/ يؤول/9 الكلام أم لا فإذا قلت لا، فأكثر ما تستعملونه في شرب القهوة، وليس المحارم وغيرها بدعة، لا تثبت من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ممن يعتبر بهم.
فجوابها1 أن يقال: هذا السؤال/دليل/2 على جهل السائل بالرواية والدراية، وباللسان العربي، فكلام هذا الضرب من الناس، يكفي من هداه الله في بيان جهلهم وضلالهم. أما جهله بالدراية فمن وجوه: أحدها: قوله: "هل يؤول الكلام أم لا؟. والتأويل في عرف هؤلاء صرف الكلام عن ظاهره وعن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح3، ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ونصوص القرآن، فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح غير مراد4، لن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف، وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما يظنه الأغبياء الجهال مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله. وكذلك قوله: "أكثر ما تستعملونه من شرب القهوة وليس المحارم بدعة" وهذا من أدلة جهله، وعدم معرفته للأحكام الشرعية، والمقاصد النبوية، فإن الكلام في العبادات لا في العادات؛ والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر. فما اقتضته العادة من أكل وشرب ولبس ومركب ونحو ذلك، ليس الكلام فيه. والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه5. أما ما له أصل، كإرث ذوي الأرحام، وجمع المصحف، والزيادة في حد الشارب،
وقتل الزنديق، ونحو ذلك، فهذا وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم فقد دل عليه دليل شرعي1. وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام. وأما ما فيه من جهة اللسان العربي: فإن "هل" لا تقابل ب"أم" لأن ما يقابل بأم همزة الاستفهام، كما يعلم من محله. ومنها قوله: "لا تثبت من الرسول": فإن الإثبات يتعدى ب"عن" لا ب"من". وكذلك قوله: "لا ممن يعتبر بهم"، فإن الاعتبار نوع والاعتداد نوع آخر، فيعتد بالصالحين وأهل العلم؛ والاعتبار لا يختص بهم، بل لما ذكر تعالى فعل. بني نضير2 بأنفسهم وديارهم قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 3. وذكر السائل سؤالا عن الترشيح4.
والإطلاق1، أيها أبلغ وكذلك الإطلاق والتجريد2. فينبغي أن يسأل عن الترشيح والإطلاق والتجريد، ما يراد بهن عند أهل الفن فإن عبارته تفيد عدم معرفته؛ إذ لا مقابلة بين الترشيح والإطلاق. والتجريد في الأبلغية3، فسؤاله نص ظاهر في جهله. فإن الترشيح: يراد به تقوية الشبه بين المشبه والمشبه به، بأن يذكر ما هو من خواص المشبه به، كقولك: أنشبت المنية أظفارها، فإن هذا فيه ذكر التقوية، بما هو من خواص
المشبه به، وهي الأظفار، فالترشيح قوى المعنى المراد. وأما الإطلاق في الاستعارة، فيقابله/ التقييد/1. والتجريد معناه: أن يجرد المتكلم من نفسه مخاطبا2 كقول الشاعر: / ... 3 ... /. وأيضا فالبلاغة تختلف باختلاف الأحوال، فتوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم 4. وحقيقتها: مطابقة الكلام مقتضى الحال5؛ فإن كان الحال يقتضي الترشيح، فهو أبلغ، وإلا فلكل مقام مقال. وأما الإخبار عن الاسم بـ"الذي" فهو كثير في القرآن وغيره، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 6، فأخبر بالذي عن اسمه الشريف، الذي هو أعرف
المعارف. و"الذي" اسم أيضا بخلاف ما يفيه السؤال. وأما الإخبار عن اسم بـ"أل" فكقول الشاعر: ما أنت بالحكم الترضى حكومته 1. وكذا كل فعل مضارع دخل عليه "أل". وأما الإخبار عن اسم من الأسماء بـ"الذي" فكقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} 2. وأما الإخبار بـ"اللذين" فكقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 3، وقال تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 4. وأما الكل والكليِّ، فالكل يراد به الجميع، كقوله: كل المؤمنين يدخلون الجنة. والكليِّ: ما يقع على الأكثر والغالب، كقولك:
كل بني تميم يحملون الصخرة العظيمة 1.
الرسالة الحادية والثلاثون: منظومة فيما جرى من مفاسد الساكر
الرسالة الحادية والثلاثون: منظومة فيما جرى من مفاسد الساكر منظومة فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي ... "الرسالة الحادية والثلاثون" قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه- منظومة فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي، وما حصل قبل ذلك من ظهور الإسلام، وسوابغ الأيادي، بدعوة شيخ محمد بن عبد الوهاب –أجزل الله له الأجر والثواب، الإسلام ونشرت أعلام الجهاد، وانمحت آثار الضلالة والفساد. ولما كانت هذه المنظومة من جملة الرسائل والأجوبة على المسائل، وكانت من غرر القصائد وبدائع الفوائد، وأشد ما يكون على الأعداء وثباتها. وقد أنشأها –رحمه الله- وهو إذ ذاك في شدة مقاسات أهوال تلك الفتن، ومعانات أثقال تلك الحوادث والمحن، وقلة من المساعد، وكثرة من المعاند والمكابد، تغدو عليه الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق إذا ذاك وتلوح، وثم من يقود المشركين ويؤزهم إلى عباد الله الموحدين. وقد ابتلى الناس مع ذلك بجور الأئمة والولاة، واستباح الأموال والدماء، طغاة الحضر والبوادي العتاة، وأصبح أهل الحق ما بين معاقب مكبل في الحديد، وما بين شريد في القبائل طريد، فاشتد البلاء، وأعضل البأس، وكثر الجهل وعظم الالتباس، وقلة الديانة في كثير من الناس، وساروا إلى البلاد التي هجمت عليها العساكر، وظهرت بها أنواع الفسوق والمناكر، وصار لأهل الرفض والشرك بها الصولة، وكان لهم في تلك الجهات الغلبة والدولة، وضيعت بها أحكام الشريعة المطهرة، وظهرت بها أحكام الكفرة الفجرة. فبذل الجد والاجتهاد بإرسال الرسائل والنصائح، وحذرهم أسباب الندم والفضائح كما قد مر عليك. ويأتي إن شاء الله من الرسائل/في/1
التغليظ/في السفر/1 والركون إليه/ بأوضح البراهين والدلائل. والمنظومة جواب أبيات وردت عليه نحوا من عشرين بيتا. فقال رحمه الله تعالى وعفا عنه: ورد من بعض الأدباء2 ما صورته: رسائل شوق دائم متواتر ... إلى فرع شمس الدين بد ر المنابر3 سلالة مجد من كرام عشائر ... يعيد بديعا من كنوز المحابر ويبدي لك التوحيد شمسا منيرة ... ولكن أهل الزيغ عمي البصائر سقيا لعهدكمو عهد الشريعة والتقى ... وتعظيم دين الله أزكى الشعائر مدارس وحي شرفت بأكابر ... على ملة بيضاء تبدو لسائر فيا راكبا سلامي وتحفة ... تعزية فيما قدم مضى والعشائر وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ريع الهدى كل عامر ويبدو بها التعطيل والكفر ... والزنا ويعلو من التأذين صوت المزامر فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... وأصل من الإسلام سوم المقامر أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجر وقابلهم بالسهل والرحب عصبة ... على ملة التوحيد أخبث ثائر يقولون لكنا رضينا تقية ... تعود على أموالنا والذخائر فضحك ولهو واهتزاز وفرحة ... وألوان مأكول/ ونشوة/4 ساكر مجالس كفر لا يعاد مريضها ... يراح إليها في المسا والبواكر ويرمون أهل الحق بالزيغ ويحهم ... أما رهبوا سيفا لسطوة قاهر
وأما رباع1 العلم فهي دوارس ... تحن إلى أربابها والمذاكر مصاب يكاد المستجن2 بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت هل من مثابر فجد لي بِرَدّ منك تبرد لوعتي ... ويحدي به في كل ركب وسامر وتنصر خلا في هواك مباعدا ... ولولاك لم تبعث له أم عامر فأكثر وأقل ما لها الدهر صاحب ... سواك فقابل بالمعنى والبشائر فأجاب –رحمه الله- بما يثلج الصدور، ويبعث الانشراح والسرور، ويبلي القلوب الصوادي، ويحدى به في كل ركب ونادي، وهذا نصه: رسائل إخوان الصفا والعشائر ... أتتك فقابل بالثنا والبشائر 3 تذكرني أيام وصل تقادمت ... وعهدا مضى للطيبين الأكابر ليالي كانت للسعود مطالعا ... وطائرها في الدهر أيمن طائر وكان بها ربع المسرة آهلا ... نُمتَّع في روض من العلم زاهر وفيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر محابرهم تعلو بها كل سنَّة ... مطهرة أنعم بها من محابر مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر /وفيها/4 من الطلاب للعمل عصبة ... إذا قيل من للمشكلات البوادر وفيها الحماة الناصرون لربهم ... معاقلهم شهب القنا والخناجر وهندية قد أحسن القين 5 صقلها ... جَُرَّبة يوم الوغى والتشاجر
ورمية خضراء قد ضم جوفها ... من الجمر ما يفري صميم الضمائر وكانت بهم تلك الديار منيعة ... محصنة من كل خصم مقامر عدت بهمو تلك الفتون وشُتتوا ... فلست ترى إلا رسوما لزائر وحل بهم ما حل بالناس قبلهم ... أكابر عرب أو ملوك الأكاسر وبدَّلت منهم أوجها لا تسرني ... قبائل يام1 أو شعوب الدواسر يذكرنيهم كل وقت وساعة ... عصائب هلكى من وليد وكابر وأرملة تبكي بشجو /حنينها/2 ... لها رنة بين الربى والمحاجر وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... تفوز بها يوم اختلاف المصادر " فصل " فيا جرى من مفاسد العساكر والبوادي: ودارت على الإسلام أكبر فتنة ... وسُلت سيوف البغي من كل غادر وذلت رقاب من رجال أعزة ... وكانوا على الإسلام أهل تناصر وأضحى بنوا الإسلام في كل مأزق ... تزورهمو غرث3 السباع الضوامر وهُتك ستر للحرائر جهرة ... بأيدي غواة من بواد وحاضر وجاءوا من الفحشاء ما لا يعده ... لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر وبات الأيامى في الشتاء سواغبا ... يُبكين أزواجا وخير العشائر وجاءت غواش بشهد النص إنها ... بما كسبت أيدي الغواة الغوادر وجر زعيم القوم للشرك دولة ... على ملة الإسلام فعل المكابر
ووازره في رأيه كل جاهل ... يروح ويغدو آثما غير شاكر وآخر يبتاع الضلالة بالهدى ... ويختال في ثوب من الكبر وافر وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي ... تبيد من الإسلام عزم المذاكر ولكنه يهوى ويعمل للهوى ... ويصبح في بحر من الريب غامر وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح ... إمام هدى يبني رفيع المفاخر وينقذهم من قعر ظلما مضلة ... لسالكها حر اللظى والمساعر 1 ويخبرهم أن السلامة في التي ... عليها خيار الصحب من كل شاكر فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى ... أكابرهم كنز اللهى والذخائر سعوا جهدهم في هدم ما قد بنى لهم ... مشائخهم واستنصحوا كل/دامر/2 وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم ... وجاءوا بهم مع كل إفك وساحر ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة ... تهدم من ربع الهدى كل عامر وباءوا من الخسران/بالصفقة/3 التي ... يبوء بها من دهره كل خاسر وصار لأهل الرفض والشرك صولة ... وقام بهم سوق الردى والمناكر وعاد لديهم للواط وللخنا ... معاهد يغدوا نحوها كل فاجر وشُتَّت شمل الدين وانْبِتَّ حيلة ... وصار مضاعا بين شر العساكر وأذن بالناقوس والطبل أهلها ... ولم/يرض/4 بالتوحيد حزب المزامر وأصبح أهل الحق بين معاقب ... وبين طريد في القبائل صائر فقل للغوي المستجير بضلهم ... ستحشر يوم الدين بين الأصاغر ويكشف للمرتاب أي بضاعة ... أضاع، وهل ينجو مجير أم عامر
ويعلم يوم الجمع أي جناية ... جناها وما يلقاه من مكر ماكر فيا أمة ضلت سبيل نبيها ... وآثاره يوم اقتحام الكبائر يعز بكم دين الصليب وآله ... وأنتم بهم ما بين راض وآمر وتهجر آيات الهدى ومصاحف ... ويحكم بالقانون وسط الدساكر هوت بكمو نحو الجحيم هوادة ... ولذات عيش ناعم غير شاكر سيبدو لكم من مالك الملك غير ما ... تظنون أن لاقي مزير 1 المقابر يقول لكم ماذا فعلتم بأمة ... على ناهج مثل النجوم والزواهر سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت ... مساجدهم من كل داع وذاكر وواليتموا أهل الجحيم سفاهة ... وكنتم بدين الله أول كافر نستيم لنا عهدا أتاكم رسولنا ... به صارخا فوق الذرى والمنابر فسل ساكن الأحساء هل أنت مؤمن ... بهذا وما يحوى صحيح الدفاتر وهل نافع للمجرمين اعتذارهم ... إذا دار يوم الجمع سوء الدوائر وقال الشقي المفتري كنت كارها ... ضعيفا مضاعا بين تلك العساكر أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر تعود سرابا بعد ما كان لامعا ... لكل جهول في المهامه حائر فإن شئت أن تحظى بكل فضيلة ... وتظهر في ثوب من المجد باهر وتدنو من الجبار جل جلاله ... إلى غاية فوق العلى والمظاهر فهاجر إلى رب البرية طالبا ... رضاه وراغم بالهدى كل جائر وجانب سبيل العادلين بربهم ... ذوي الشرك والتعطيل مع كل غادر
وبادر إلى رفع الشكاية ضارعا ... إلى كاشف البلوى عليم السرائر وكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها ... وترفل في ثوب من العفو ساتر ولا تيأسن من صنع ربك إنه ... مجيب وأن الله أقرب ناصر ألم تر أن الله يبدي بلطفه ... ويعقب بعد العسر يسرا لصابر وأن الديار الهامدات يمدها ... بوبل من الوسمي1 هام2 وماطر فتصبح في رغد من العيش ناعم ... وتهتز في ثوب من الحسن فاخر
الرسالة الثانية والثلاثون: إلى عبد الرحمن بن محمد بن جربوع
الرسالة الثانية والثلاثون: إلى عبد الرحمن بن محمد بن جربوع ... "الرسالة الثانية والثلاثون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، وقد راسله عبد الرحمن وسأله عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وعن كيفية طلب العلم للمبتدئ، وما يكون سببا لتحصيله. فأجابه – رحمه الله - على سؤاله على طريق الإيجاز والإجمال، إذ التفصيل يستدعي طولا. فبين له –رحمه الله تعالى- الأصول والقواعد، وأرشده إلى تلك المعارف والمقاصد التي تندرج فيها كل عبادة، وينال بها من رام أسباب نجاته ما أمله وأراده. وبين له حقيقة الموالاة والمعاداة، التي هي على العباد من أوجب الواجبات، مع أنها قد سفت2 عليها السوافي، فانمحت آثارها، وهجم/ عليها/3 ليل الأهواء بكلاكله4، لما أفلت أقمارها. فيا له من جواب، ما أجزله على إيجازه واختصاره، وما أعظم فائدته لمن ألقى السمع وأصغى بقلبه وأفكاره. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن
جربوع – سلمه الله تعالى، وسلك بن السبيل المشروع- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته/وبعد/1: فالخط وصل، وصلك الله ما يرضيه. وتغتبط في خطك بنعمة الإسلام ومعرفة التوحيد في هذا الزمان، زادك الله اغتباطا، وأوزعك شكر هذه النعم التي أنعم بها علينا وعليكم، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضاه. وتسأل عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وكيفية طلب العلم للمبتدئ، وما يكون سببا لتحصيله. فمعرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة، وأن تعبده مخلصا له الدين. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة 2؛ فيدخل في ذلك قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح. وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة. ولذلك فسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3 بالتوحيد في العبادة؛ لأن الخصومة فيه. وهو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما 4. إذا عرفت هذا، عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله، وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره، فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه والعدل/به/5 وتضمن مسبَّة، الله 6 فإن الشرك الأصغر يتضمنها؛ ولهذا ينزه الرب وتقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع
من كتابه، كقوله/تعالى/1 {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2 {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} 3، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4. ومحل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية وواجباتها ومستحباتها، سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، وعملها وسيرها. فالأول/علم/5 العقائد وهو التوحيد العلمي. وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات؛ من أحسنها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما الثاني: وهو علم أعمال القلوب وسيرها، المسمى علم السلوك./فقد/6 بسط القول فيه ابن القيم –رحمه الله تعالى- في شرح المنازل7، وفي سفر الهجرتين8. وأما أعمال الجوارح الظاهرة: فالمصنفات فيها أكثر من أن تحصر. وبالجملة فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر، إذ ما من/عالم/9 إلا وفوقه من هو أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله. وأما الموالاة والمعاداة: فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" 10. وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة
البغض1،/ وينشأ/2 عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال. والولي ضد العدو. وأما كيفية طلب العلم: ففي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا3 إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ... " الحديث4.
ففيه بيان: كيفية/1 والبداءة/ بأصول الدين، وما تضمنته الشهادتان من الأصول الدينية، وبعد ذلك يبدأ/2 بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم بعد/ ذلك/3 يتعلم ما يجب/لله/4 من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول. وفي كلام شيخ الإسلام –قدس الله روحه-5: من ضيع الأصول حرم الوصول ومن ترك الدليل ضل السبيل 6. وأما السبب في تحصيله: فلا أعلم سببا أعظم وأنفع وأقرب في تحصيل المقصود من التقوى. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} 7 وفي الأثر: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم8.
قال الشافعي –رحمه الله تعالى-: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي /وأخبرني/1 بأن العلم نور ... ونور الله/ لا يهدى/2 لعاصي3 ومن الأسباب الموجبة لتحصيله: الحرص والاجتهاد، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} 4. ومنها: إصلاح النية وإرادة وجه الله والدار الآخرة فإن النية عليها مدار الأعمال ولا يتم أمر ولا/ تحصل بركته/5 إلا بصلاح القصد والنية6. وهناك أسباب أخرى تذكر في الكتب المؤلفة في آداب العلم والتعلم 7 ليس هذا محل بسطها. /وبلغ سلامنا الأخوين المحمدين وسائر الطلبة. ولدينا الشيخ الوالد المكرم، والأخوان والولاد ومحمد آل عثمان بخيير، وينهون السلام، والسلام/8./وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/9.
الرسالة الثالثة والثلاثون: إلى علما الحرمين
الرسالة الثالثة والثلاثون: إلى علما الحرمين ... "الرسالة الثالثة والثلاثون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى علماء الحرمين الشريفين، زادهما الله تشريفا وتعظيما إلى يوم الدين. وسبب ذلك/أنه/2 لما ورد أمر السلطان بأن يعطل الآذان في الحرمين الشريفين، وأن يكشف النساء عن وجوههن/للفجرة والفاسقين/3؛ فحملته الحمية الإسلامية، والغيرة الحنيفية، والأنفة العربية، إلى مكاتبتهم في شأن هذا الفادح العظيم، والحدثان المفضع الذميم، ودفع مفاسد ما أراده أعداء الملة والدين/ من إظهار/4 شعار عباد الصليب وإخوانهم من الكفرة المشركين/5 وتغيير شعائر الإسلام، وهدم معالمه العظام. واعلم أن الشيخ/ قدس الله روحه، ونور ضريحه/ من أعظم الناس في الغلظة في شأن الشرك والمشركين، ومجاهدة من والاهم أو ركن إليهم، ممن ينتسب إلى الإسلام والمسلمين؛ لكنه تلطف بهذه الرسالة، لعل الله أن يبطل ما قصدوه من الضلالة، وأن/يمحو/6 بذلك ما راموا أهل الغواية والجهالة. وانظر إلى ما أعطاه الله تعالى من حسن التخلص برسم التحية، لمن نكب عن الطريقة المرضية حيث قال بعد إهداء التحية لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشريعة المحمدية، ولم يعين إنسانا بعينه، من العلماء المترئسين والمتصدرين للتدريس في حرم
الرسول والبلد الأمين. وبهذا يندفع توهم إرادة السهولة واللين مع أولئك المغرضين عن ملة سيد المرسلين، وأن هذه مخالفة لما تقدم من الرسائل، من الغلظة والتخشين. فرحمه الله/وعفا عنه/1 ما أعظم غيرته، وما أحرصه على/إعلاء/2 كلمة الله ولزوم كتابه وسنة رسوله. وهذا نص الرسالة. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وجعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يجددون من اندرس من أعلام الملة والدين تجديدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأكبره تكبيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذير، وداعيا إلى الله فإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله/وأصحابه/3 والذين آمنوا به وعزروه ونصروه، وسلم تسليما كثيرا. إلى جناب المفضل والشيخ المبجل شيخ المدرسين والمتصدرين بحرم الرسول ومن لديه من العلماء الأفاضل/الفحول/4. بعد إهداء السلام والتحية لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشريعة المحمدية، صدرت هذه الرسالة، وسودت هذه العجالة، لما شاع في البلاد العربية اليمنية منها والعراقية/و/5 التهامية والنجدية، ما دهم الإسلام وعراه، وأناخ بحرمه وحماه، من الخطب العظيم، والهول الجسيم والكفر الواضح
المستبين، والأمر بهدم/أظهر/1 شعار/2 الملة والدين، وأن لا ينادى بالصلوات الخمس في أوقاتها بالتأذين، والأمر بهتك ستر حرم المسلمين وكشف وجوههن للفجرة والفاسقين، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} 3 وتطير قلوب أهل الإسلام إعظاماً لشناعته وكفره وردا؛ كيف تهدم قواعد الملة والإسلام، وتظهر شعار الكفر وعبادة الأصنام، وترفع راياتها بين الأنام بالحرم والبلدة الحرام؛ {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 4. أما في الزوايا خبايا، أما للعلم والرجال بقايا، وقد صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم 5 لما وفد عليه بعد أن فر على الشام هاربا: " ما يُفرُّك؟ / أتفرُّ من أن يقال لا إله إلا الله هل تعلم من إله غير الله؟ ما يفرك؟ /6 أتفر من أن يقال: الله أكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ " 7,. فتعسا لها من حادثة وقضية، جاءت بهدم الإيمان، والأركان الإسلامية وقلع القواعد النبوية. يكاد لهذا المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم وقد بلغنا عنكم ما تسر به نفوس المسلمين من رد ذلك الإفك المبين، والواجب
علينا وعليكم أعظم من ذلك، من الجد والاجتهاد في رفع أ‘لام أوضح الشرائع والمسالك. وقد تواترت عندنا –بحمد الله- الأخبار عن كافة العرب من جميع الأقطار بإنكار ذلك ورده، والحكم بأنه من أظهر شعار الكفار، ومن فعله وجب معاجلته/بالحرب/1 والدمار. والكل منهم يعاهد على أنه السابق في ذلك الحلبة والمضمار، فاستعينوا بالله واصبروا، واعلموا أن أنصاركم ومددكم جميع أهل الإسلام، وذوو البصائر من أهل النخوة والإقدام، فإياكم إياكم والمداهنة والتساهل في الجهاد والإنكار، فتزل قدم بعد ثبوتها، وتهوى إلى الدرك الأٍسفل من النار. كفى حزنا بالدين أن حماته ... إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر2 قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} 3 فتدبروا هذه الآية الكريمة، وتفطنوا لما دلت عليه أداة الشرط، من نفي الإيمان عن من ترك التقوى ولم يأتمر بما أمر به، ولم ينته عما نهي عنه من موالاة أهل الكفر والردى والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب 4، كما هو مقرر عند أهل العلم والهدى. ونحن نعلم أن الله سينصر دينه، ويُعلي كلمته وأنه لا يصلح عمل المفسدين، ولكن نحب لكم الاعتصام بحبل الله، والدخول في جملة أنصاره، {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 5. /والمعهود/6 عن الدولة العثمانية، من عهد السلطان سليم بن السلطان با يزيد،
من وقت ولايتهم على الحرمين الشريفين، من أوائل القرن العاشر إلى وقتنا، وأوائل عصرنا، هو المبالغة في تعظيم الحرمين الشريفين –زادهما الله تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما- فلعل هذه الحوادث عن بعض النواب والوزراء، الذين لا خبرة لهم بسبيل الرشد والهدى، ولا علم لهم أسباب السعادة والشقاء. وصلى الله على إمام المتقين، وعلى آله وأصحابه والتابعين آمين.
الرسالة الرابعة والثلاثون:: إلى الشيخ أبي بكر بن محمد آل الملا
الرسالة الرابعة والثلاثون:: إلى الشيخ أبي بكر بن محمد آل الملا ... "الرسالة الرابعة والثلاثون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا /-رحمه الله-/2 رسالة إلى الشيخ أبي بكر بن محمد3 آل الملا، المعروفين ببلد الإحساء، وكان أبو بكر هذا وأشياعه متهمين بطريقة الأشاعرة4 وكانوا في حال ظهور أهل الإسلام يخفون ذلك. فكتب هذا الشيخ 5 رسالة إلى بعض إخوانه/ بخطه/6. وكانت مشتملة على ما يمج سماعه من الزور والبهتان، والدفع لصريح السنة والقرآن، كقوله فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه7، وأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه. فكتب عليها الشيخ المبجل والإمام الجليل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، جوابا بين فيه ما فيها من الزيغ والتعطيل، وأقام على ذلك البرهان والدليل؛ فزعم أنها ليست له، بل لبعض علماء الإحساء. وكان أشعري الاعتقاد، فحكم الشيخ بخط أبي بكر عليه، وأشار برد أباطيله إليه، لأن من اعتنى واشتغل بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم، وأقره ما فيها من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل، وصمم بل زعم أنه لم يظهر له ما فهمه أهل الإثبات للصفات، على ما يليق بعظمة الله
وجلاله، ونعوت صفاته وكماله، ويدعي مع ذلك أنه لا يعتقد ما فيها، لكنه ما رد ولا أنكر ما اشتملت عليه من البدع والأهواء، ولم يسلك مناه أهل الحق والهدى؛ فدعواه دعوى باطلة جدلية، وسفسطة ظاهرة جلية. ثم إنه كتب يتظلم من تلك الرسالة، وأنها مخالفة لمعتقده 1 ومقاله. فكتب إليه الشيخ عبد اللطيف –قدس الله روحه- هذا الجواب، وأبان ما في كلامه من الزيغ والارتياب، وأن الأدلة والقرائن القوية تدل على استحسانه لتلك الاعتقادات الوبية. فنعوذ بالله من الخذلان ومخالفة السنة والقرآن. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي افترض تغيير المنكر باليد واللسان الجنان2وأخذ الميثاق على ورثة الرسل بالبلاغ والبيان، وأن لا يداهنوا في دين الله مغرورا بحبائل الشيطان3 وأن لا يركنوا إلى مفتون بزخارف الهذيان، وإن ظن أنه من أهل البصيرة والإيمان. من الفقير إلى الله سبحانه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الشيخ أبي بكر بن محمد، جمعنا الله وإياه على الطاعة، وجنبنا سبل الفتنة والشناعة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد وصلت إليَّ رسالتك إلى شيخنا الوالد –حفظه الله- ومتعنا والمسلمين بحياته. وقد أحسنت فيها بذكر المعتقد وبيانه، وأنك اقتديت/ فيها/4، بكلام أئمة
الدين، كالإمام أبي حنيفة وغيره من السلف الماضين. وهذا القصد منكم. وقد أشرت به إليك وقت اجتماعنا، إذ/ بذكرك/1 معتقدك وتقريره، والتبري من أهل البدع كالجهمية2 والمعتزلة3 والأشعرية4 والكرامية5 والماتريدية6 يحصل لنا نحن وإياك اتفاق الكلمة، وصلاح الطوية. نسأل الله أن يمن بذلك. لكنك أسأت بذكر أمور، يحصل منها تفور واشمئزاز، وهذه معاكسة ظاهرة لما أشرت به إليك شفاها، ومتابعة لغرض نفسي شيطاني، لا لقصد شرعي إيماني. من ذلك: أنك لما ذكرت أن الرسالة ليست لك، بل لبعض أسلافك من علماء الإحساء، وأنه كان أشعري الاعتقاد؛ اعترفت وصرحت بأنك نقلتها لبعض الإخوان بخطك، وهذا فيه ما لا يخفى من التهمة القوية، حيث أثبتها بخطك، وأشعتها في قومك ورهطك، غير ملتفت لرد ما فيها من الزور والبهتان، /والدفع لصريح السنة والقرآن، كقولك فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه/7 وأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، وغير ذلك مما ساق من خرافاته، وما نمق من غلطاته ووهلاته. وأنت مع ذلك لم تتحاش من نقلها وإهدائها إلى الإخوان. وكذلك سميت هذا الرجل وعددته –مع ما ارتكبه- من علماء المسلمين. وما هكذا المعروف من هدي أهل العلم والإيمان، فإنهم لا يكتبون الضلال والباطل والزور، إلا لرده ودفعه في نفس ذلك المزبور، وأنت قد خالفت هديهم، وخرجت عن طريقتهم، ومن سلك مسالك التهم فلا يلومنَّ من أساء به الظن.
ثم إن خط الرجل حجة عليه، ودعواه أنه ناقل، دعوى تفتقر إلى إثبات ودليل؛ فلا غرو أن حكم شيخنا الوالد بخطك عليك، وأشار برد أباطيله إليك. وقد ذكرت أنك كنت متأسيا حال النقل بما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، في العقيدة السليمة الحميدة، وعسى الله أن يحقق ذلك. وعلى تسليمه، كيف ساغ لك أن تكتب ضدها ولا تبين ما فيه ولو أخذت بواجب أمر الفرقان، وتخلقت بخلق أهل الإيمان المذكور في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 1 لما وجه الوالد ولا غيره إليك ردا ولا ملاما، ولكن: عرضت نفسك للبلاء فاستهدف. ومن ذلك قولك: قد تمادى بنا الكلام حتى خرجنا عن المقام، تنبيها لأولي الأفهام ودفعا لكثير من الأوهام. وهذا تصريح منك بأن أخذك بخطك من باب الوهم، ومن المعلوم أنه لم يكن مما يفيد اليقين والثبوت، فأقل أحواله تنزيلا، أن يكون من باب الفراسة، والحكم بالقرائن القوية. ومن زعم أن الحكم بها من باب الأوهام،/فسفسطته وجدله/2 مما لا يحتاج برهانه وتقريره لبسط كلام. ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل، أن من اعتنى بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم، مع دعواه أنه لا يعتقدها، فهو مخبول العقل، ليس عنده من وازع الدين ما يقتضي تركها. هذا لو سلمنا له هذه الدعوى، وتركنا الأدلة والقرائن على استحسانها واعتقادها, وأدهى من هذا وأمر وأوضح/ عند/3 من نظر في خطك واعتبر أنك تقول أنه لم يظهر لك في حال نقلك لتلك الرسالة، من نفي إثبات الصفات، المؤدي إلى التعطيل، ما فهمه شيخنا الوالد حفظه الله، فإن كنت لا تفهم من قول هذا الرجل في ربه: أنه
لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه، وأن ما دل عليه حقائق صفات الله سبحانه، ونعوت جلاله، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، معدود عند السلف من المتشابه، ونحو هذا من كلامه؛ فإن كنت لا تفهم من هذا نفيا ولا تعطيلا، فلتبك عقلك النوائح. أين أولو البصائر والأفهام أين المناضلون عن ملة الإسلام ما هذه إلا مكابرة جلية، وسفسطة جدلية، فإن صبيان المكاتب –فضلا عن أولي العلوم والمراتب يعلمون أن هذه العبارة صريحة في التعطيل، غير محتملة للتصحيح والتأويل. وقد كنت أظن بك دوهن هذه المكابرة، وأحسب أنك ترعوي عند المحاقة والمخابرة، لا سيما بعد إطلاعك على هذا الرد النفيس، وما تضمنه من براهين الإثبات والتقديس، فخلت أن همتك ترتفع به إلى فوق، وإنك لا ترضى سبل الميل والعوق، وأن أفراخ اليونان لا تعوقك عن الوصول، وأن أسلاف القوم لا يصدفنك عن سنن الرسول، لكن كما قيل: خفافيش أعشاها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم جوابه: إن الاتفاق والاختلاف، إنما يقع عند ذوي البصائر والعقول والإفهام السليمة في غير صرائح العبارات ومنطوقها، وفي غير الدلالة المطابقية. ولا يمتري عاقل –فضلا عن العالم- الذي خالف فهمك فهم شيخنا فيه، صريحه ومنطوقه، يرد زعمك وينافيه. ثم إنك ادعيت أولا أنك سليم العقيدة موافق لما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ولما عليه الأئمة الذين حكيت أقوالهم. وهذا حسن جيد، لكن يعكر عليه ويناقضه قولك بعد: لكني وقفت بعد ذلك على كلام لبعض العلماء، ينافي بعض ما فيها، فملت إليه، وعولَّتُ لكونه أقرب للسلامة، وأشبه بهدي أهل الاستقامة. وهذا تصريح منك بالميل إلى خلافها، والتعويل على سواها بعد اعتقادها، وهو مخالف ومناقض لكلامك الأول، حيث زعمت أنك كنت في حال نقلك متأسيا بما
في الفقه الأكبر، ثم يا هذا، قد استدللت على رجوعك بقضية عمر في/ المشرَّكة/1 وبما صح من رجوع كثير من أئمة الاجتهاد عن أقوال ظهر لهم الحق في خلافها، والرجوع إلى الحق أولى وأحق، ولكن لا يخفي أن رجوعهم من اجتهاد إلى اجتهاد، بخلاف من رجع/عن/2 ذنب يأثم به ولا يؤجر، بل غايته بعد التوبة أن يغفر، ولذلك قالوا بصحة الاجتهاد الأول، /إذا قضى به أو حكم به، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد 3. كما ذهب إليه عمر ومن تبعه من النقاد؛ بخلاف قضيتك
فإن الأخير مبطل للأول/1. فإن قلت: الشبه ليس من كل الوجوه، بل من حيث الرجوع إلى الحق؛ قلت: لأي شيء عدلت عن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 2 والعدول عن الدليل الصريح المطابق من كل الوجوه، يقدح في فهم الرجل وتأليفه. ثم إنك تقول: اعلم أني –بحمد الله- غير مستنكف عن قبول الحق، ولا متسكبر ولا مستحقر. وأقول: أي كبر أعظم وأدهى من أنفة الرجل أن يدعي إلى الله ظاهرا، ويرد قوله الذي/قد/3 شاع، ونسخ جهارا، ويعد هو خطاياه وذنوبه، من باب الاجتهاد، وقد اعرضنا عن غير ذلك من علامات بطر الحق. وأما كون شيخنا الوالد صرح باسمك في الرياض، فهو منه/اهتمام/4 بالواجب الشرعي، فإن الرجل إذا خيف أن يفتتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرجال، فحينئذ يتعين الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السر والجهار، ليعرف الباطل فيحتنب، وتهجر مواقع التهم والريب. ولو طالعت كتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن التهم بشيء يقدح فيه، أو يحط من رتبة ما يحدث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبا، ولعرفت أن سعي الشيخ/محمود/5 قولا وسببا. ثم إنك تذكر أن الرد صار للعوام والطغام سلما للوقيعة في أعراض علماء الإسلام. وفي هذا من تزكية نفسك والتنويه بذكرها ما لا يخفى، وما أظن عالما يقول أنا عالم. وقد قال عمر رضي الله عنه: من قال: أنا عالم، فهو جاهل؛ ومن قال: أنا مؤمن،
فهو كافر؛ ومن قال: أنا في الجنة، فهو في النار، انتهى1. والعالم من يخشى اله، وهذا مأخوذ من قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2 فإن الآية تقتضي حصر العلماء في أهل الخشية، كما تقتضي حصر الخشية في العلماء؛ وحقيقة العلم هو ما جاءت به الرسل من معرفة الله سبحانه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وإثباتا لا تعطيلا، وتنزيها لا تمثيلا، وذلك يقتضي من إسلام الوجه له، والتبتل إليه وحده لا شريك له، حبا وإجلالا وتعظيما وذلا وإخلاصا وانقيادا؛ وهو محسن في ذلك بعدم الانحراف عما جاءت به الرسل، طاعة لهم وتكريما، وهذا أيضا يقتضي العلم بالأوامر الشرعية، لأن الجاهل لا يحسن السير. ولا بد في العلم بهذا من النفوذ إلى ما جاءت به الرسل، فيعرف الحكم3 من دليله. وأما غير ذلك من أنواع العلوم التي أحدثت بعد خير القرون، في العقائد والعبادة بما لم يشرعن كما عليه كثير ممن يدعي العلم في باب معرفة الله سبحانه/وتعالى/4 فإنهم أخذوا العقيدة في هذا الباب عن أهل القوانين الكلامية كالجهمية وغيرهم ممن خرج عن العقائد السلفية. وكما عليه كثير من أهل الطريق والتصوف، فإنهم أحدثوا من التعبد بالذوق والعقول، ما لم ترد به هذه الشريعة، وكذلك من اقتصر على تقليد المتأخرين في الأحكام، ولم يلتفت إلى أخذ الحكم من هدي سيد الأنام؛ فهذا ونحوه-وإن جاز لهم التقليد- فليسوا من أهل العلم بالإجماع، كما حكاه الحافظ ابن عبد البر5 رحمه الله. وبالجملة، لو عرفت حقيقة العلم، لأحجمت عن عد نفسك من أهله، ولأيقنت أن
من ابتغى معرفة الله سبحانه/ وتعالى/1 مما نصبه مشايخ اليونان والفلاسفة، من الأدلة العقلية، والموازين الكلامية وأخذ عن تلامذتهم الذين نشأوا على ملتهم، ودانوا ببدعتهم، ولم يلتفت إلى ما/ جاء به الوحي/2 من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، زاعما/منه/3 بأنها ظواهر لفظية، ومجازات لغوية، وأن قانون المنطق هو القواطع العقلية والبراهين الجلية، وأن ما جاءت به الكتب، وأخبرت به الرسل من صفات الله، معدود من متشابه الكلام، مصروف عن حقيقة عند ذوي البصائر والأفهام، فنفى لذلك صفات الكمال، وأغرب في سلب نعوت الجلال، وأصاف إلى ذلك تقليد مشايخه في الأحكام والفروع، فلم يأخذ من هدي الرسل العلم المتبوع. فهذا ونحوه من أضل الناس وأبعدهم عن هدي المرسلين، فضلا عن أن يكون من علماء المسلمين، وإن انضم إلى ذلك الضلال عن معرفة توحيد العباد، الذي هو فعل العبد وعمله وكسبه، فاتخذ الآلهة من دون الله/أربابا/4 فأحبهم كحب الله، وذل وخضع واستغاث واستعان، وذبح لغير الله القربان، وحلف تعظيما وتفخيما، وجراء أن يكون الند له شفيعا وعونا. فهناك تشتد الرزية وتعظم البلية، ويعلم أن هؤلاء الضرب من الناس بينهم وبين الإسلام أبعد بون، وأن الأمر كما قيل: نزلوا بمكة من قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل5 والمقام يستدعي أكثر من هذا، ولكن العاقل يسير فينظر. والسلف قد أنكروا على من سماهم علماء، فما بالك بمن سمى نفسه عالما، وتشبع بما لمي يعط! نعوذ بالله من الخذلان.
هذا، وفي رسالتك شيء من الهمز والتصنع والمداهنة، والغش والحقد وعدم التثبت. وأن الأولى الإسرار إليك وترك ما كتبته. وكذلك في تسمية من خاض في هذا –أعوام 1 أهل لغو- بالفضول ما لا يخفى على أرباب العقول، ولو شئت أن أبين لك من الأولى بذلك كله، فأقيم لك البراهين على انك متصف به لفعلت، وسجلت وقررت وحققت، ولكن سأترك ذلك ليوم تبدو فيه السرائر، ويظهر الله مكنون الضمائر. ولو صرحت بما في نفسك من الرد، وسجلت وناضلت، لكان أليق بك، فإن من أظهر ما في نفسه، حري بالرجوع إلى الحق، بخلاف من كتم وداهن، كما قيل: فلست أرى إلا عدوا محاربا ... /و/2 آخر خيرا منه عندي المحارب3 وكان قصدي منك أيها الشيخ أن تكتب ما تعتقده، وتدع التزكية والعتاب، وتطرح كل شك وارتياب، فغن ذلك أجمع للقلوب وأقرب للاتفاق، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 4. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الخامسة والثلاثون: إلى بعض الولاة توسم فيه محبة الخير
الرسالة الخامسة والثلاثون: إلى بعض الولاة توسم فيه محبة الخير ... "الرسالة الخامسة والثلاثون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا/ -قدس الله روحه، ونور ضريحه-/2 رسالة؛ وهذا صورة ما وجدته مرسوما، ووضع ما ألفيته مرقوما،/كتبه/3 شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن –أدام الله إفادته –إلى بعض الولاة بسبب أنه توسم فيه محبة الخير. وقبولا للنصيحة: ما صورته4 حفظه الله من طوائف الشيطان، ووفقه للعلم والإيمان: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على ما أسبغ علينا من جزيل نعمائه./واعلم أنه ما حملني على مكاتبتك وابتدائك بالخطاب إلا/5 ما بلغني عنك من الميل إلى الإسلام والسنة، ومحبة أهله ونصرتهم، وهذا من أجل النعم وأفضل العطايا الإلهية، والمنح الربانية، وأنت في مكان وزمان قل خيره، وكثر شره وقبض فيه العلم وفشا الجهل، وكثر الجدال والمراء وتطاولت أهل البدع والأهواء، فإن منَّ الله عليك بقبول الإسلام والسنة ونصرتهما، ومحبة أهلها والقيام بما أمر الله به من أداء الواجبات، وترك الفواحش والمنكرات؛ رجوت لك الظهور والنصر، والإقبال في الدنيا
والآخرة. وربما كثر لديك/محبوا/1 الدين، والقائم به، واستأنس بك أهل الخير، وصرت حصنا ومعقلا يرجع إليه في نصرة الدين. ولعمر الله إن هذا من أفضل شعب الإيمان الواجبة، وأعلاها وأحبها إلى الله وأسناها، بل هو أفضل من نوافل العبادة القاصرة. وأين تقع النوافل، ومتى ينتفع بها من أهل نصرة الإسلام والسنة، مع القدرة على ذلك؟ وهل يرجى الخير من رجل يرى حرمات الله تنتهك، ودينه يمتهن، وسنة نبيه تترك وتطرح، ولا يجد من نفسه حمية ولا غيرة، ولا أُنفة من ترك دين الله، ومن معصيته، وهجر ما جاء به رسوله من توحيد الله تعالى والإيمان به؟! هذا الصنف لا يرجى خيره، وإن زعم أنه من عباده المؤمنين الأفراد، فتأمل هذا وليكن منك على بال، قول الشاعر: قد/رشحوك/2 لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل 3 /هذا، وشيخنا الوالد المكرم، والإمام ينهيان السلام والسلام/4 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة السادسة والثلاثون: إلى عبد الله بن جريس
الرسالة السادسة والثلاثون: إلى عبد الله بن جريس ... "الرسالة السادسة والثلاثون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس2، وقد راسله عبد الله يسأله عما يورده بعض الملحدين، أن شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه ونور ضريحه- ذكر أن الإمام أحمد –رحمه الله- كان يصلي خلف الجهمية 3. فأجاب –رحمه الله- بما يكفي ويشفي، وأن الصلاة خلفهم –لا سيما صلاة الجمعة- لا تنافي القول بتكفيرهم، حيث لا يمكن الصلاة خلف غيرهم. وأما مع إمكان الصلاة خلف غيرهم، فلا لكن إن صلى خلفهم فعليه الإعادة. وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله بن علي بن جريس، ألهمه الله الرشد في أمره والكيس. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
/والخط/1 وصل، وسرنا عافيتكم. وحال أهل عمان ما تخفاكم، قل/ العلم/2 وفشا الجهل، وتجاسر المبتدعة. والواجب التجرد للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله حسب الطاقة، ولا سيما بالحجة والبيان. وأحق خلق الله بالجهاد، من يليكم من الجهمية الضلال، ونشر العلم وبيان السنة من أوجب الواجبات. ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين. وهو أنه: /نُسب إلى/3 شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنه ذكر عن الإمام أحمد –رحمه الله- أنه كان يصلي خلف الجهمية. وجواب هذا لم سُلم، من /أوضح/4 الواضحات عند طلبة العلم/ وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم/5 والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة6. وقد ذكر من صنف في السنة، تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر 7 وعدَّ اللالكائي –رحمه الله تعالى- منهم عددا يتعذر ذكرهم في هذه الرسالة 8 وكذا ابن الإمام أحمد عبد الله في كتاب السنة9 والخلال /في كتاب السنة/10 /وابن أبي مليكة 11
في كتاب السنة/1 وإمام الأئمة ابن خزيمة2 قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم3. والصلاة خلفهم لا سيما صلاة الجمعة4 لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة5 حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم6. والرواية المشهورة عن الإمام
أحمد هي: المنع من الصلاة خلفهم1. وقد يُفرق2 بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس3. وعلى هذا القول، فالجهمية في هذه الأزمنة قد بغلتهم الحجة، وظهر الدليل وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد؛ وهذا حقيقة الكفر والإلحاد كيف لا وقولهم يقتضي/من/4 تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما لا حقيقة لوجوده5؛ ويعتمدون من الخيالات
والشبه ما لا يعلم فساده بضرورة العقل، /وبالضرورة/1 من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات، ولبشر المريسي2 /وأمثاله/3 من الشبه والكلام في نفي الصفات، ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين؛ بل/كلامه/4 أخف إلحاداً من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره؛ وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره. وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره، أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها5. وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم إلى أماكنها ومظانها6. وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم. ورسالتك وصلت، وسرنا
حسن جوابكم وما فيها من النقول عن أهل العلم،/ونرجو/1 أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. /بلغ سلامنا الإخوان والأعيان من أهل السنة، وشيخنا الوالد –حفظه الله –والإمام عبد الله بخير وينهيان السلام./2 / وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/3.
الرسالة السابعة والثلاثون: إلى منيف بن نشاط وقج أشتكى غربة الإسلام
الرسالة السابعة والثلاثون: إلى منيف بن نشاط وقج أشتكى غربة الإسلام ... {الرسالة السابعة والثلاثون} 1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى منيف بن نشاط، وقد اشتكى إليه منيف، غربة الإسلام- وذكر في رسالته ونظمه معتقده، وما هو عليه من الدعوة إلى دين الله، ومكابدة أعداء الله. فأجابه الشيخ –رحمه الله/تعالى/2 يحرضه ويحضه على الاستقامة على هذا المعتقد السليم، ومجانبة أصحاب الجحيم، وعلى الاجتهاد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، وأن ما ذكره في شأن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل، هو الذي عليه العمل، وإليه المرجع عند أهل العلم، يعني أن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هم عليه من السوالف 3 والعادات هو الحق، فمن اعتقد هذا فهو كافر. وأما من لا يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر، ولا يخرج من الإسلام. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 4. وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم منيف بن نشاط سلمه الله تعالى وشد حبله بالعروة الوثقى، وأناط ومنّ عليه بالتزام التوحيد والفرح به والاغتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، واسأله اللطيف بي وبكم، في تيسير كل عسير مما جرت به الأقضية الربانية والمقادير. وأحوالنا على ما تعهد من الصحة والسلامة وترادف النعم، لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم والتقصير، نشكو إلى الله قلوبنا القاسية، ونفوسنا الظالمة، فنعم المشتكى ونعم المولى ونعم النصير. وكتابك وصل إلينا مع النظم اللطيف، الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه إعلامه بصحتكم وسلامتكم وحسن معتقدكم وطويتكم، فالحمد لله على اللطف والتسديد ومعرفة حقه سبحانه، وما يجب عله على العبيد. فاجتهد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، فإنك في زمان قبض فيه العلم وفشا الجهل، وبُدل الدين وغُيرت السنن، لا سيما أصول الدين وعمدة أهل الإسلام واليقين في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقد ألحد في هذا من ألحد وأعرض عن الحق فيه من أعرض وجحد، حتى عطلوا صفات الله تعالى، والتي وصف بها نفسه، وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه وتكليمه، ومحبته وخلقه ورضاه وغضبه ومجيئه ونزوله، فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه، حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضوعها، وصرفوها عن دلالتها، وكذلك الحال في /باب/1 عبادته/ وتوحيده/2 ومعرفة حقه على عبيده، فأكثر الناس
والمنتسبين إلى الإسلام ضلوا في هذا الباب، فصرفوا للأولياء والصالحين والقبور والأنصاب والشياطين، خالص العبادة، ومحض حق رب العالمين،/ كالحب/1 والدعاء والاستغاثة والتوكل، والإجلال والتعظيم، والذل والخضوع، بل غلاتهم صرحوا بإثبات التدبير والتصريف لمعبوداتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية. وهذا أمر لا يتحاشون عنه بل يصرحون به ويفتخرون، ويدّعون أنهم من أهل الإسلام {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 2 وهذا الشرك لم يصل إليه شرك جاهلية العرب، وقد حرى كما ترى من أناس يقرؤون في القرآن، ويدعون أنهم من أتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد. وكذلك باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع، قد ترك وشد /عند/3 أكثر من يدعي العلم والدين. والعمدة والمرجع إلى أقوال من/يعتقدون/4 علمه، من المنتسبين والمدعين. ولو تكلم أحد بإنكار ذلك، لعد عندهم من البُله والمجانين. هذه أحوال جمهور المتشرعين والمتدينين، فهل ترى فوق هذا/غاية/5 في غربة الحق والدين فعليك بالجد والاجتهاد في معرفة الإيمان، وقبوله وإيثاره، والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك والتعطيل، الذي طبق الأرض وهلك به أكثر الخلق، جيلا بعد جيل. وأما ما ذكرته عن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل، فهذا هو الذي عليه العمل، وإليه المرجع عند أهل العلم، ولعل الكلام يقع شفاهة إذا وصلت إلينا. /بلغ سلامنا من لديك من الإيمان في دين الله وأنت بحفظ الله. والسلام/6
وصلى الله على محمد/ وآله وصحبه وسلم /1.
الرسالة الثامنة والثلاثون: إلى منيف بن نشاط
الرسالة الثامنة والثلاثون: إلى منيف بن نشاط ... "الرسالة الثامنة والثلاثون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –رحمه الله تعالى وعفا عنه-/2 رسالة إلى منيف بن نشاط، وقد سأله عن قول من يستدل على حل ذبيحة الوثني والمرتد بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 3؛ وعن من كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم 4. فأجاب –رحمه الله-، وصب عليه من شآيب بره ووالى، وبين له في جواب المسألة الثانية، الفرق بين من عجز عن إظهار عداوة المشركين لأجل الخوف، وأنه يعذر بذلك، وبين وجود العداوة، لأنها لا بد منها، فإن من لم تود العداوة من قلبه، لم يعاد المشركين، بخلاف الأول، فإنها موجودة في قلبه لكن عجز عن إظهارها. فالواجب عليه مفارقة أوطانهم، والبعد عنهم، فإن من لم يهاجر فإنه عاص لله بإقامته بين أظهر المشركين. وكذلك سأله عمن كان في دار الإسلام ولم يتعلم أصل الدين، ولأجل الجهل بالإسلام يعزر ويوقر أعداء الدين. فبين له في الجواب أن الناس بتفاوتون تفاوتا عظيما بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات. فتدبر كلامه –رحمه الله- فإنه قد يتكلم في هذه المسألة من لا علم عنده، ولا
معرفة بمدارك الأحكام، ويظن أن من لم يعرف الواجبات والمستحبات والمسنونات من الأقوال والأفعال على التفصيل، أنه ممن أعرض عن تعلم هذا الدين. وخلع ربقة الإسلام من عنقه، وفارق المسلمين. وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ/ المكرم/1 منيف بن نشاط، لا زال بين اسمه واسم أبيه ارتباط. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل وصلك والله/ما/2 يرضيه. وتذكر حديث أبي سعيد 3، فقول الرسول مقبول، وعلى العين والرأس محمول. وما دل عليه يحصل إن شاء الله، ولكن أنتم أبيتم إلا/ الخروج/4 والتعلم عند ابن عتيق، وهذا إن شاء الله به كفاية. فأما مسألة الذبائح ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 5: فهو من أجهل الناس بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وهو كمن يستدل على لبس الحرير بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} 6 والجهل بالتأويل وأسباب النزول، ضرورة وصل كبار العمائم، فكيف الحال بالجفاة والعوام!. واعلم أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 7 فُسِّر بحل
الذبائح1، وأنها هي الطعام. ومفهوم الآية تحريم ذبائح غير أهل الكتاب، من الكفار والمشركين 2، واحتج بهذا أهل العلم. ومفاهيم كلام الله وكلام رسوله/حجج/3 شرعية. وفسروا قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 4 بأن المراد به، ذبيحة المسلم والكتابي، إذا ذكر اسم الله عليه 5، أخذا من مفهوم آية المائدة6، وهذا هو المشهور المقرر، وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، ولكن من أهمها، أن بعض المحققين ذكر أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب، بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبائح للأكل واللحم7. وأما ما ذبحوه تقربا إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه8. والمقصود ما ذبح للحم. وذكروا أن تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي، لأنه لا يأتي بالتسمية، ويستحل الميتة9. وهذا نظر منهم لأصل من غلق الحكم بالمظنة، كما علق الحدث بوجود النوم، لأنه مظنة، فقول القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله، جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين.
وقول السائل: هل التسمية كلا إله غلا الله فليست مثلها من كل الوجوه. ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث1. أما المسألة الثانية: وهي قولك: من كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم. فالجواب: إن هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد، والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم، لا يقال له عرف التوحيد وعمل به، والسؤال متناقض. وحسن السؤال مفتاح العلم. وأظن مقصودك: من لم يُظهر العداوة ولم يفارق. ومسألة إظهار العداوة، غير مسألة وجود/ العداوة/2. فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3. والثاني 4: لا بد منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن. فمن عصى الله بترك إظهار العداوة، فهو عاص لله فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة؛ فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية5، لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها وعيد لا تكفير. وأما الثاني الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة، فيصدق عليه قول السائل: لم
يعاد المشركين، فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين، والخوف على النخل والمساكن، ليس بعذر يوجب ترك الهجرة. قال تعالى:1 {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 2. وأما المسألة الثالثة: وهو من كان في دار الإسلام، ولا تعلم أصل الدين، ولا قاعدته، ولأجل الجهل بها صار يعزر ويوقر أعداء الدين: فالجواب: أن يقال: إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتا عظيما، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} الآية3 وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} الآية4 ولكن /عليك/5 أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل، وحقيقة القاعدة،/وإن اختلف التعبير واللفظ، فإن كثيرا يعرف القصد والقاعدة/6 ويعبر بغير التعبير المشهور. وتعزيرهم وتوقيرهم كذلك، تحته أنواع أيضا، أعظمها: رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه، فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من التوقير بالأمور الجزئية، كلياقة الدواة ونحوه. وأما قوله لأبي شريح7 فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل والحكم به، بل
ذكر وجوها متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم/ لمثل/1 فعل البوادي. ومن أحسن ما قيل: إن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية2 قيل ظهور الشرائع الإسلامية فلما جاء الشرع أبطل ذلك، وإذا جاء نهر الله3 يطل نهر معقل4 "5
/ بلغ سلامي سعود وإخوانك والسلام/1./ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم2.
الرسالة التاسعة والثلاثون: في توحيد الأسماء والصفات
الرسالة التاسعة والثلاثون: في توحيد الأسماء والصفات ... "الرسالة التاسعة والثلاثون"1 قال مجمع الرسائل: وله أيضا -/قدس الله روحه ونور ضريحه/-2 في توحيد الأسماء والصفات وتوحيد العبادة كلام، أبلغ فيه غاية البلاغة، وأفصح في ترصينه وترصيعه بأوضح عبارة. فحقيق لمن نصح نفسه، ولها عنده قدر، وأحب سعادتها، وسعى في نجاتها تخليصها، وأراد إفادتها؛ أن يتحقق بما اشتملت عليه من الحقائق والمعارف، ويسيم ثاقب فكره في مروج معانيه، وما احتوى عليه من العلوم النافعة واللطائف، لأن ما اشتمل عليه هو أهم الأشياء وأجل العلوم، وعليه المدار، وعنه السؤال يوم القيامة. وأمر هذا شأنه، حقيق بأن تنثي عليه/ الخناصر/3 ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض/فيه/4 على الجمر. فتدبره تجده قد أودعه من الكنوز ما لا تجده في المطولات. بأتم عبارة، وأوضح بيان، لأهل العقول المستنيرات،/ وأجلى/5 عن محاسن معانيها غياهب الشكوك والضلالات، وأوهام أرباب الشبه والجهالات، فصارت قرة عيون الموحدين، وقذى في عيون المشركين. فيا حي يا قيوم يا من له الثنا ... ويا من على العرش استوى فهو بائن أنله الرضا والعفو فضلا ورحمة ... فإن الفتى يجزى بما هو دائن وقد بذل المجهود في نصرة الهدى ... وإعلائه حتى علا لا يداهن وأبدى كنوزاً للعبادة للورى ... لكي يستبين الرشد من هو مائن
/أماط/1 القذى عنها وصفى/ معينها/2 ... /لواردها/3 الصادي وماهو شائن فرد مبتهلا عذبا زلالا فإنه ... يزيل الصدى والحق كالشمس بائن 4 وهذه نصه: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم/ أرشدك الله/5 أن الله/ تعالى/6 خلق الخلق لعبادته 7 الجامعة لمعرفته ومحبته والخضوع له وتعظيمه، والإنابة إليه والتوكل عليه، وإسلام الوجه له. وهذا هو الإيمان المطلق، المأمور به في جميع الكتب السماوية، وسائر الرسالات النبوية. ويدخل في باب معرفة الله/ تعالى/8 توحيد الأسماء والصفات. فيوصف سبحانه بما وصف به نفسه، من صفات الكمال ونعوت الجلال، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز ذلك. ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة. وجميع ما في الكتاب والسنة، يجب الإيمان به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل9، قال/ الله/10 تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 11؛ فأسماؤه كلها حسنى، لأنها تدل على الكمال المطل، والجلال
المطلق، والصفات الجميلة 1؛ فثبت ما /أثبته/2 الرب لنفسه و/ما/3 أثبته رسوله، لا نعطله ولا نلحد4 فيه، ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق؛ فإن تعطيل الصفات عما دلت عليه، كفر، والتشبيه فيها كذلك كفر. وقد قال مالك بن أنس –رحمه الله- لما سأله رجل فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 [كيف استوى] 6، فاشتد ذلك على مالك، حتى علته الرحضاء7، إجلالا لله وهيبة له من الخوض في ذلك، ثم قال –رحمه الله-: الاستواء معلومن، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة 8 -يريد –رحمه الله- السؤال عن الكيفية. وهذا الجواب يقال في جميع الصفات، لأنه يجمع الإثبات والتنزيه. ويدخل في الإيمان بالله ومعرفته، الإيمان بربوبيته العامة، الشاملة لجميع الخلق والتكوين؛ وقيوميتة العامة الشاملة/ لجميع/9 التدبير والتيسير والتمكين. فالمخلوقات بأسرها مفتقرة/ إلى الله في قيامها وبقائها، وحركاتها وسكناتها، وأرزاقها وأفعالها؛ كما هي مفتقرة/10 إليه في خلقها وإنشائها وأيداعها،
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} 1. ويدخل في الإيمان، إيمان العبد بتوحيد الإلهية، الذي تضمنته شهادة الإخلاص، لا إله إلا الله؛ فقد تضمنت نفي استحقاق العبادة بجميع أنواعها، عما سواه تعالى، من مخلوق ومربوب؛ وأثبتت ذلك على وجه الكمال الواجب، والمستحب لله تعالى. فلا شريك له في فرد من أفراد العبادة، إذ هو الإله الحق، المستقل بالربوبية والملك والعز والغنى والبقاء، وما سواه فقير مربوب، معبد خاضع، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضر. فعبادة سواه تعالى، أظلم الظلم2 وأسفه السفه. والقرآن كله/راد/3 على من أشرك بالله في هذا التوحيد، مبطل لمذهب جميع أهل الشرك والتنديد، آمرا ومرغبا في إسلام الوجه لله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتبتل في عبادته. والعبادة في أصل اللغة مطلق الذل والخضوع4. ومنه طريق معبد إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام، كما قال الشاعر: تبارى عناقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد5 واستعملها/ الشارع/6 في العبادة الجامعة لكمال المحبة، وكمال الذل والخضوع7. وأوجب الإخلاص له فيها، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ
اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1. وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. والعبادة إذا خالطها الشرك، أفسدها وأبطلها، ولا تسمى عبادة إلا مع التوحيد. قال ابن عباس: ما جاء في القرآن من الأمر بعبادة الله، إنما يراد به التوحيد2. انتهى. ويدخل في العبادة الشرعية كل ما شرعه الله ورضيه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كمحبة الله وتعظيمه وإجلاله وطاعته والتوكل والإنابة إليه ودعائه خوفا وطمعا، وسؤاله رغبا ورهبا، وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهود، وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار واليتيم والمملوك والمسكين وابن السبيل. وكذا النحر والنذر، فإنهما من أجل العبادات، وأفضل الطاعات3. وكذا الطواف ببيته تعالى، وحلق الرأس تعظيما وعبودية؛ وكذا سائر الواجبات والمتسحبات. فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا 4. والشرك في العبادة ينافي
هذا التوحيد ويبطله، كما قال تعالى -لما ذكر خواص أوليائه ومقربي رسله-: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم يتعريف جامع، كما في حديث ابن مسعود/ رضي الله عنه/2 أنه قال: يا رسول الله، أي الذنب أعظم قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" 3. والند المثل والشبيه، فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله، فقد أشرك به شركا يبطل التوحيد وينافيه؛ لأنه شيه المخلوق بالخالق، وجعله في مرتبته، ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به تعالى. كما قال الخيل عليه السلام: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 4. قال الإمام ابن القيم –رحمه الله- "فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره5 وما ظنكم، بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره، فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قديرب، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه
/المفرد/1 بتدبير خلقه،/لا يشرك/2 فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته على من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم،/والذي/3 يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط، ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم، وقصور علمهم، فأما القادر على كل شيء،/ الغني بذاته عن كل شيء، العالم4 بكل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء/5 فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه، تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء. وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح، انتهى6. وإذا عرفت هذا، فصلاح العبد وفلاحه، وسعادته ونجاته، وسروره ونعيمه، في إفراد الله بهذه العبادات والإنابة إليه بما شرعه لعباده منها. وأصلها كمال المحبة، وكمال الذل والخضوع كما تقدم. هذا سر العبادات وروحها، ولا بد في عبادة الله من كمال الحب، وكمال الخضوع؛ فأحب خلق الله إليه، وأقربهم منزلة عنده، من قام بهذه المحبة 7 والعبودية، وأثنى عليه سبحانه بذكر أوصافه العلى. فمن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء
إليه، لأنه ينقص هذه المحبة1 والخضوع والإنابة والتعظيم، ويجعل ذلك بينه وبين من أشرك به، والله لا يغفر أن يشرك به، لأنه يتضمن التسوية بينه تعالى وبين غيره في المحبة والتعظيم. وغير ذلك من أنواع العبادة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2 أخبر سبحانه وتعالى أن من أحب شيئا دون الله، كما يحب الله، فقد اتخذه ندا، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 بهذه تسوية في المحبة والتأله4 لا في الذات والأفعال والصفات، فمن صرف ذلك لغير إلهه الحق، فقد أعرض عنه وأَبِقَ عن مالكه وسيده، فاستحق مقته وبغضه، وطرده عن دار كرامته ومنزل أحبابه. والمحبة ثلاثة أنواع: النوع الأول: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء وغير ذلك؛ وهذا لا يستلزم التعظيم.
والنوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها. وهذا أيضا لا يستلزم التعظيم. والنوع الثالث: محبة أنس و/ألفة/1 وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة، أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضا. /و/2 كمحبة الإخوة بعضهم بعضهم بعضا3. فهذه المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، /و/4 وجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله سبحانه. ولهذا "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل"5. وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد6، وكان أحب اللحم إليه الذراع 7، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب نساءه، وكانت عائشة
/رضي الله عنها/1 أحبهن إليه2 وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق. وأما المحبة الخاصة -/التي/3، لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله- فهي محبة العبودية، وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلا، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، وهي أول دعوة الرسل. وآخر كلام العبد المؤمن، الذي إذا مات عليه دخل الجنة 4؛ واعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها، فهي أول ما يدخل في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله، وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل فهي قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام. ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هاديا ودالا عليها، ومفصلا لها، والحديد لمن خرج عنها، وأشرك مع الله غيره فيها؛ ولأجلها خلقت الجنة والنار5،
فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده، وأخلصهم لها، والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها، فالقيام بها علما وعملا وحالا، وتصحيحها هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله. فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها، أن يتيقن لهذه المسألة، وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله؛ فإن الشأن كله فيها، والمدار عليها، والسؤال عنها يوم القيامة، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.
قال غير واحد من السلف عن قول لا إله إلا الله: وهذا حق، فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها. قال أبو العالية 1: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين 2 فالسؤال/عمَّاذا/3 كانوا يعبدون، /سؤال/4، عنها نفسها؛ والسؤال عماذا أجابوا المرسلين، سؤال عن الوسيلة، والطريق المؤدية؛ هل سلكوها وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها فعاد الأمر كله إليها"5. وأمر هذا شأنه، حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجد، ويقبض فيه على الجمر، ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضله 6 بل يجعل هو المطلب الأعظم، وما سواه إنما/ يطلب على الفضلة/7. والله المسئول أن يمن علينا بتحقيق ذلك علما وعملا وحالا – ونعوذ/به/8 أن يكون حظنا من ذلك مجرد حكايته. وصلى الله على محمد عبده ورسوله النبي الأمي وعلى آله وصحبه تسليما كثيراً.
الرسالة الأربعون: إلى أهل الحوطة
الرسالة الأربعون: إلى أهل الحوطة ... "الرسالة الأربعون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا - /قدس الله روحه/ وعفا عنه/2 - رسالة إلى أهل الحوطة، يذكرهم ما من الله عليهم به من دعوة شيخ الإسلام، وعلم هداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى ما دعت إليه الرسل من معرفة الله، وخشيته وعبادته، والقيام بأركان الإسلام وأصول الإيمان فقال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان من أهل الحوطة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: اعلموا أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق3. فالهدى هو العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح، ولا يكفى أحدهما عن الآخر في النجاة والسلامة من الوعيد الدنيوي والأخروي. وقد من الله/تعالى/4 عليكم بدين الإسلام، واختصكم به دون كثير من الأنام، لما أتاح الله لكم شيخ الإسلام/ وعلم الهداة الأعلام، الشيخ/5 محمد بن عبد الوهاب رحمه الله – فدعا إلى ما دعت إليه الرسل من معرفة الله، وخشيته وعبادته وحده لا شريك له، والقيام بالأركان الإسلامية والأصول الإيمانية، فأعز الله بذلك من
قبله ونصره، ورفع قدرهم وشأنهم، وجعلهم ملوكا تهابهم الأمم، وينقاد لأمرهم جمهور العرب، باديتهم وحاضرتهم. ولم يزالوا كذلك قاهرين/ ظاهرين/1 حتى حدث ما حدث، ووقع ما وقع من الإعراض والقسوة والتمادي على معاصي الله، فسلط عليهم العدو، وافترقت الكلمة وانخرم النظام، وعثا الفجرة اللئام في دماء أهل الإسلام، وأموالهم، وكثر الخوض، ونُسي العلم، والتبس أمر التوحيد والإيمان على كثير من الخلق، وصارت فتنة عمياء صماء، لا يبصر صاحبها ولا يسمع، وما زال غمامها لم ينقشع، ودليلها يحلو لك ولا يدبر، وأبناؤها بساحتكم/ يحاولون/2 إطفاء نور الله. فسارعوا وبادروا إلى التوبة والإقلاع والندم والاستغفار، وتعاونوا على البر والتقوي، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} 3. فراجعوا دينكم قبل أن يحل من أمر الله ما لا تدفعون، وينزل من بأسه ما لا تردون؛ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4. ويجب على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يعينهم بحسب طاقته، بيده أو بلسانه، وهذا من أسباب بقاء التوحيد فيكم والإسلام، وحمايتكم دياركم من/ عبادة/5 الأوثان والأصنام، وحفظ ما خولكم الله من سوابغ الفضل والإنعام. وكثير من الناس يحصل منهم أسباب /و/6.
وسائل وذرائع/تدعو/1 إلى زوال النعم، وحلول السخط والنقم، منها: التهاون بنعمة الإسلام والتوحيد، واختلاف القلوب، والعداوة الظاهرة، وترك نصرة الإسلام والتوجع لمصابه، والإقبال على الدنيا ونسيان الآخرة، والاستخفاف بالأركان الإسلامية، كإضاعة الصلاة ومنع الزكاة، وأخذها بغير حقها، وترك السمع والطاعة لولي الأمر من الأمراء والعلماء. فهذه أسباب وعلامات على نزول العقوبة، وحلول النقمة، وانتقال النعمة، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 2. /وديرتكم/3 ليست على الحال الأولى في مبدأ الإسلام وبعده. والعاقل يعرف ذلك في نفسه وأهل بلده. وقد ذم تعالى من قست قلوبهم، ولم يتضرعوا عند حلول بأسه وانتقامه،/فقال/4: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5. وذم تعالى من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، ويأخذون على يد السفهاء، فقال/تعالى/6: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 7 يخبر تعالى أنهم اتبعوا الشهوات، وآثروا اللذات، فكانوا من جملة المجرمين8. وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ
يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 1. /فدلت/2 هذه الآية على أن الإيمان والعمل الصالح يكشف العذاب عند نزوله، ويمنع به المؤمن حينا من الدهر، وقد أمدكم الله بنعمه، وعمر بلدكم ومساكنكم بالإسلام والسمع والطاعة؛ فاحذروا الرجوع على أعقابكم، وتبديل النعمة. قال تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} 4 فتدبروا ما في هذه الآيات الكريمات، التي هي من أوضح الواضحات، وأبين الحجج والبينات، وتفطنوا فيما ذكر من الإعراض عن الشكر، وما اقتضاه من العقوبة والعذاب. وفقنا الله وإياكم لتدبر القول، وحسن العمل والختام. وصلى الله على رسوله ونبيه محمد/وآله/5 وصحبه وسلم.
الرسالة الحادية والأربعون: إلى حمد بن عتيق
الرسالة الحادية والأربعون: إلى حمد بن عتيق ... {الرسالة الحادية والأربعون} 1 قال جامع الرسائل: وله أيضا -/رحمه الله تعالى/2 وعفا عنه- رسالة إلى حمد بن عتيق3، لما سأله عن كلام الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله على قول الله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4، فقال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ الشيخ حمد بن عتيق –سلمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو –وخطك وصل وصلك الله ما يرضيه- وما /ذكرته/5 صار معلوما، والله أسأل أن يصلح السريرة والعلانية، ويصلح ما بيننا وبينه من المعاملة، وما بيننا وبين خلقه، وما توفيقنا إلا بالله. وما ذكرت من جهة كلام الشارح على آية الأنعام، وأن قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 6 نصب على الحال، فهذا عليه غير واحد من المفسرين 7. قال الجلال 8:
وجملة النفي حال من ضمير/يحشروا/1، وهي محل الخوف 2. وقال البضاوي3: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4 في موضع الحال من/يحشروا/5، فإن المخوف هو الحشر6 على هذه الحالة"7. وقد سبقهم إلى هذا الزجاج8؛ وابن كثير9 حل المعنى ولم يتعرض لإعرابه. ويظهر مراده من تقريره كلامه، قال: وقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} الآية 10، أي: وأنذر بهذا القرآن يا محمد {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 11 12 {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} 13 {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} 14، أي يوم القيامة، {لَيْسَ لَهُمْ} أي يومئذ {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 1 أي/لا قريب لهم/2، ولا شفيع فيهم من عذابه،/إن أراده بهم/3، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} /أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز وجل {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} /4 فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف/ الجزيل/5 من ثوابه" انتهى"6. وهو يشير إلى جواز/جعله/7 صفة لمحذوف، دل عليه السياق، والعائد في الجملة الوصفية يكفي تقديره، كقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} 8. والبغوي9 لم يتعرض لتقدير شيء. وبهذا يظهر الجواب عن قولك: ما يقال في تقريره فإن الله أمر رسوله أن ينذر بالقرآن عباده المؤمنين، الذين يؤمنون بلقائه، ويخافون فيه سوء الحساب، في يوم لا ولي لهم فيه ولا شفيع من دونه، لعلهم يتقون ذلك بفعل ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه. وعلى الأول يخافون الحشر وسوء الحساب في حال تخليهم وانفرادهم عن الأولياء والشفعاء، وخُصوا بذلك لأنهم هم المتقون بالإنذار، المتقون عذاب ذلك اليوم وعقابه، بخلاف من تعلق على الأولياء والشفعاء واعتمد عليهم في نجاته، فإنه غير خائف ولا متق لسكون جأشه، واطمئنان قلبه بوليه وشفيعه. والله الهادي الموفق. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الثانية والأربعون: إلى عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف
الرسالة الثانية والأربعون: إلى عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف ... "الرسالة الثانية والأربعون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا -/رحمه الله تعالى/2- رسالة إلى عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف3 صاحب الفرعة4 من بلد الوشم5، لما سأله عما يذكر بعض الناس من إنكاره/ ما ينسب إلى/6، عثمان بن منصور،7 من عداوة الدين، وموالاة المشركين ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين. فكشف له عن حاله بما ستقف عليه، مما ظهر واشتهر من حاله ومقاله، وما صرح به في مصنفاته من مسبة أهل الإسلام، ونسبتهم إلى مذهب الخوارج المارقين. ونسبة الشيخ إلى أنه أجهل من أبي جهل، وأنه ضال مضل. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى جناب الأخ المكرم عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف –سلمه الله- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. والخط وصل وسرنا سلامتك وعافيتك. جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة. وتذكر أن بعض الناس عندكم ينكر ما نسب إلى ابن منصور من عداوة الدين
وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين. وهذا أظهر شيء وأبينه عند من عرف حال هذا الرجل، وجالسه ونظر في كلامه، فإنه يبديه كثيرا لجلسائه، ويذكره في رسائله ومصنفاته وهوامشه التي/ يعلقها/1 والرجل فيه رعونة تمنعه من المداراة والتقية، حتى كتابه الذي زعم أنه شرخ على التوحيد، رأيت فيه من الدواهي والمنكرات ما لا يحصيه إلا الله. من ذلك قوله في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 2. أن ابن العربي المالكي قال: العبادة هي موافقة القضاء والقدر3. وابن عباس يقول: كفر الكافر تسبيح 4 وهذا رأيته بخط ابن نصر الله من أهل ديرته في كلامه على كتاب التوحيد ولهذا نظائر وأخوات لا يعرفها إلا من وقف على كلامه من طلبة العلم، ونبرأ إلى الله أن نبهت مسلما، وأن نفتري عليه ونؤذيه بغير ما اكتسب. وإنما يظن بنا هذا حزب الشيطان، وجنده من الجاهلية، الذين لم يستضيئوا بنور العلم. وكتابه الذي وقفنا عليه في هذه الأيام بخط يده، نظر فيه من يعرفه يقينا من أهل سدير عبد العزيز بن عيبان 5 وغيره 6 وعلي بن عيسى7 من أهل الوشم، وكثير من طلبة العلم والعامة شهدوا بأن هذا خطه بيده، ومسبته فيه للتوحيد، ومن جاء به حشو بالزنبيل، وتصريحه بتزكية أهل الأمصار، ممن عبد القباب والصالحين
وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، والشيخ وأتباعه على إفراد الله بالعبادة، عنده خوارج من أهل النهروان، ويصرح/ بأن الشيخ ضال/1 مضل، وأنه أجهل من أبي جهل بمعنى لا إله إلا الله، وأنه ضل في نخطئه صاحب البردة، وأن دعاء الرسول وطلب الشفاعة منه بعد موته جائز، وأن الله ابتلى أهل نجد بهذا الرجل، بل ابتلى به جزيرة العرب، وأنه لم يتخرج على العلماء، وأن أهل الأمصار يبنون المساجد والمنار، وأنه أخذ بلدان المسلمين بيت مال له ولعياله، وأنه أتى الأمة من الباب الضيق، وهو تكفييرها، ولم/ يأتها/2 من الباب الواسع، ورد مسائل في كشف/ الشبهات/3 ومسائل في كتاب التوحيد، ومن الستة المواضع التي تكلم الشيخ عليها من السيرة، وأتى بجهالات وضلالات ووقاحة، ومسبة لا تصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن كذب بهذا النقل، فهو مكابر معاند، جاحد للحسيات والمتواترات، والغالب أن هذه المكابرة لا تقع من محب لما جاء به الشيخ، من توحيد الله ودينه، وإنما يذهب من في قلبه مرض، يتوصل بهذه المكابرة والمباهتة، إلى رد التوحيد وبغضه، وبغض أهله. وأكثر هذا الصنف ليس لهم التفات إلى ما جاءت به الرسل، والغالب عليهم هو الغفلة عن ذلك والإعراض عنه، وقد قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 4. واقرأ هذه الرسالة على من ارتاب في أمره وما حل، وجادل في دين الله، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 5. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ثم قال –رحمه الله-: وأما المسألة التي سألت عنها في الخلع1، فجوابها: أن الخلع يقع بائنا2 لا تحل الزوجة بعده لزوجها إلا بعقد جديد، وليس له استرجاعها، كما نص عليه أهل العلم.
الرسالة الثالثة والأربعون: إلى عثمان بن منصور
الرسالة الثالثة والأربعون: إلى عثمان بن منصور ... {الرسالة الثالثة والأربعون} 1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى عثمان بن منصور،2 قبل أن يتبين من أمره ما تبين، وقبل أن يتضح أمره، وتظهر مصنفاته ورسائله، لكنه قد يظهر من حاله وبعض مقاله، ويلوح من صفحات وجهه وفلتات لسانه، ما يغمض به وتنسب إليه هفوات وشيء من الكوارث الفوادح والمعضلات، وكان مع ذلك يظهر الموافقة، وهو يبطن –والعياذ بالله المخالفة والمشاقة، حتى وضح أمره واشتهر، فلم /يخف/3 ذلك على من له بصر، وله معرفة ونظر. والله أعلم بما آل إليه أمره وختم به. وتعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ الشيخ عثمان بن منصور –أنقذه الله من طوارق الفتن والشرور، ورفع/ همته/4- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على ما ألبسنا من ملابس فضله التي لا تخلعها الأنداد، وأستزيده من خزائن بره التي ليس لها انقضاء ولا نفاذ.
أما بعد، فقد وصل إلينا منك/ خطان/1: فأولهما: صادف حين الاشتغال بلقاء الأحبة والآل. وأما الثاني: فبعد أن ألقيت عصا الترحال، وارتاح من ألم شوقه القلب والبال، فبمجرد الوقوف على خطك، ومطالعة نقشك ووشيك، بحثت عن الوجه الذي تدلي به علينا، وعن حقيقة المعنى الذي تشير إلينا، وما هو اللائق في إجابة أمثالك، وهل يحسن بنا/ النسخ/2 على منوالك، أو تقتصر على موجب {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} 3، إذ ليس وراءها مزية دينية شرعية، لأكون على بصيرة من أمري، ومعرفة للحقائق قبل اقتداح4 زندي. فأخبرني الثقة بالجرح والتعديل، الخبير بما قد شاع عنك من القيل، أن صاحب الخط ينتمي إلى ممارسة العلوم المنقول منها والمفهوم، غير أنه قد نسب عنه هفوات –إن صحت- فهي من /عظائم/5 المعضلات، ولم نقف لها على تصحيح يعتمد، ولم نلتفت إلى البحث في متنها والسند، اكتفاء بإعراضه عن الابتهاج بالدعوة لهذا الأصل والمذاكرة، واستغناء بعدم التفاته إلى المؤاخاة في الله والموازنة، بل كل الناس لديه إخوان، والضدان عنده يجتمعان، يصاحب أولياء الأوثان، كما يصاحب عابدي الرحمن، ويأنس بالمنقلب على/عقبه/6، كما يأنس بالثابت على الإيمان، مع أنه قد شرح التوحيد 7، وادعى الإتيان بكل معنى موجز سديد.
يوما/بحزوى/1 ويوما بالعقيق2 وبالـ ... عذيب/3 يوما ويوما بالخلصاء4 وتارة تنتحي نجداً، وآونة ... شعب الغوير وطورا قصر تيماء5 فهو/ وإن/6 انتسب إلى الحق، فقد والى من خرج /عنه/7 وعق. فقلت إيه له من رجل لو استقام وصارم، لولا ما عراه من الانثلام 8؛ لكني أعلم أن للعلم بركات، وللملك لماَّت، فأرجو أن يقوده العلم إلى ثمراته، وأن يحول بينه وبين الشيطان وخطواته. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 9، "والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن"10، كما رواه المحدثون
من الأعيان، فلعل ميت رجائنا يحيه من يحي/ عظام/1 الميت/ وهي/2 رميم. ولهذا أشرت إلى الشيخ الوالد –أعز الله قدره، ورفع بوراثة النبيين مجده وفخره- بأن يرد لك الجواب ويعلمك /الخطب/3 أتى من أي باب، طمعا لك في الأوبة والفلاح، وحرصا على سلوك سبل الهداية والصلاح، لئلا تتوهم غير ذلك من الأسباب التي تنقل عنك، من الاستطالة في الأعراض والاغتياب، إذ هي لا يلتفت إليها المؤمن العاقل، ولا يأخذ بها الأغر مما حل، وهي باقية ليوم ترجعون فيه إلى الله، ويجزي كل قائل مما زوره وافتراه. ولعل الله أن يمن برجوعك إلى الحق بعد الشرود، وأن يقضي بصحبتك على توحيد ربنا المعبود. فإني/أسر بذلك و/4 أتأسف على تنكب أمثالك {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 5 وصلى الله على محمد/وآله وصحبه/6 وسلم.
الرسالة الرابعة والأربعون: جواب سؤال ورد عليه من عمان
الرسالة الرابعة والأربعون: جواب سؤال ورد عليه من عمان ... "الرسالة الرابعة والأربعون"1 "في بيان ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكونه حقيقة الإسلام، وتضليل من زعم أنه مذهب خامس" قال جامع الرسائل: وله أيضا –وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه- جواب لسؤال ورد عليه من عمان. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فقد وصلت إلينا الأسئلة التي صدرت من جهة الساحل الشرقي، على يد الأخ سعد البواردي. السؤال الأول: قول الملحد الضال في دين الله: إن الأمر الذي جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله/تعالى/2 مذهب خامس 3 وغش للأمة. فهل يكون هذا القائل سنيا أو مبتدعا. فالجواب وبالله التوفيق:/هذا القائل/4 إنما تدل مقالته هذه على أنه من أجهل خلق الله في دين الله، وأبعدهم عن الإسلام، وأبينهم ضلالة. فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا يشركوا به شيئا، وهذا لا يرتاب فيه مسلم أنه دين الله
الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وقوله: مذهب خامس؛ يبين جهله، وأنه لا يعرف العلم، ولا العلماء، فإن الذي قام به شيخ الإسلام، لا يقال له مذهب، وإنما يقال له دين وملة، فإن التوحيد هو دين الله، وملة خليله إبراهيم، ودين جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الإسلام الذي بعث/الله/1 به محمدا صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا، ولا يخالف في هذا إلا من هو مشرك كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 2 وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 3، فسماه الله تعالى في هاتين الآيتين وغيرهما من آي القرآن دينا ولم يسمه مذهبا. وأما ما جرى على ألسنة العلماء من قولهم: مذهب فلان، أو ذهب إليه فلان، فإنما يقع في الأحكام لاختلافهم بحسب بلوغ الأدلة وفهمها، وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة –رحمه الله- بل مذاهب العلماء قبلهم وبعدهم في الأحكام كثيرة. فقد جرى الخلاف بين الصحابة –رضي الله عنه- فللصديق رضي الله عنه مذهب تفرد به، ولابن مسعود كذلك، وكذا ابن عباس، وغيرهم من الصحابة، وكذا الفقهاء السبعة4 من التابعين، خالف بعضهم بعضا في مسائل، وغيرهم من التابعين كذلك، وبعدهم أئمة الأمصار كالأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر،
وسفيان بن عيينة1 والثوري2 إمام أهل العراق. فلكل مذهب معروف في الكتب المصنفة في اختلاف العلماء، ومثلهم الأئمة الأربعة. وجاء بعدهم أئمة مجتهدون، وخالفوا الأئمة الأربعة في مسائل معروفة عند العلماء، كأهل الظاهر؛ ولذلك تجد من صنف في مسائل الخلاف إذا عنى الأربعة قال: اتفقوا. وفي مسائل الإجماع التي أجمع عليها العلماء سلفا وخلفا يقول: أجمعوا. وذكر المذهب لا يختص بأهل السنة من الصحابة فمن بعدهم، فإن بعض أهل البدع صنفوا لهم مذهبا في الأحكام يذكرونهم عن أئمتهم، كالزيدية، له كتب معروفة يفتي بها أهل اليمن. والإمامية الرافضة لهم مذهب مدون، خالفوا في كثير منه أهل السنة والجماعة. والمقصود أن قول هذا الجاهل: مذهب خامس. قول فاسد لا معنى له، كحال أمثاله من أهل الجدل والزيغ في زماننا. يقول أقوالا ولا يعرفونها ... وإن قيل هاتو حققوا لم يحققوا وأما قوله: "وغش الأمة" فهذا الجاهل الضال بنى هذا القيل الكاذب؛ على سوء فهمه، وانصرافه عن دين الإسلام، لأنه عدو لمن قام به، ودعا إليه وعمل به. ومن المعلوم عند العقلاء وأهل البصائر، أن من دعا الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، أنه ناصح لهم حقا3. وأما من حسن الشرك والبدع ودعا إليها، وجادل بالباطل، وألحد في أسماء الله
وصفاته؛ فهو الظالم الغاش لعباد الله، لأنه يدعوهم إلى ضلالة. نعوذ بالله من جهد البلاء1، ودرك الشقاء وسوء القضاء2، وشماتة الأعداء3. ونذكر ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. فإنه/قد/4 نشأ في أناس قد اندرس فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك والبدع ما عمَّ وطم في كثير من البلاد، إلا بقايا متمسكين بالدين، يعلمهم الله تعالى. وأما الأكثرون، فعاد المعروف بينهم منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة. نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام، بتوحيد الله الذي بعث به رسله وأنبيائه. فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرمه/الله/5 عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه6؛ فقال لهم ما قاله المرسلون لأممهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} 7.
فحجب كثيرا منهم عن قبول هذه الدعوة، ما اعتادوه، وما نشئوا عليه من الشرك والبدع، فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته، وهو شيخنا –رحمه الله- ومن استجاب له، وقبل دعوته، وأصغى إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 1، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 2. وأدلة ما دعا إليه هذا الشيخ –رحمه الله- من التوحيد في الكتاب والسنة، أظهر شيء وأبينه. اقرأ كتاب الله من أوله إلى آخره تجد بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، مقررا في كل سورة. وفي كثير من سور القرآن يقرره في مواضع منها، يعلم ذلك من له بصيرة وتدبر. ففي فاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، فيها نوعا التوحيد، توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية4. وفي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5 النوعان6. وقصر العبادة والاستعانة على الله عز وجل، أي: لا نعبد غيرك ولا
نستعين إلا بك. وأول أمر في القرآن يقرع سمع السامع والمستمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. فأمرهم بتوحيد الإلهية، واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بخلع الأنداد التي يعبدها المشركون من دون الله. وافتتح سبحانه كثيرا من سور القرآن بهذا التوحيد. {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 2، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} إلى قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 3، أي المألوه المعبود في السموات والأرض4. وفي هذه السورة من أدلة التوحيد ما لا يكاد أن يحصر5. وفيها من بيان الشرك والنهي عنه كذلك. وافتتح سورة هود بهذا التوحيد فقال: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 6، فأحكم تعالى آيات القرآن، ثم فصلها ببيان توحيده، والنهي عن الإشراك به. وفي أول سورة طه قال
تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 1. وافتتح سورة الصافات بهذا التوحيد، وأقسم عليه فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 2. وافتتح سورة الزمر بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3. وفي هذه السورة 4 من بيان التوحيد والأمر به وبيان الشرك والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن، وفي السورة وبعدها 5 كذلك،/وفي سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 6 /7 نفي الشرك في العبادة إلى آخرها؛ وفي سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 8 توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه بفهم القرآن. وفي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} 9، يبين/أنه ربهم/10 وخالقهم ورازقهم والمتصرف فيهم بمشيئته وإرادته؛ وهو ملكهم، الذي نواصي الملوك بيده، وجميع الخلق في قبضته، يعز هذا ويذل هذا،
ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1، وهو معبودهم الذي لا يستحق/ أن/2 يعبد سواه. فهذه إشارة إلى ما في القرآن. وأما السنة، ففيها من أدلة التوحيد ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ الذي في الصحيحين: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 3، وفي حديث ابن مسعود الصحيح: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار" 4، والحديث الذي في المعجم للطبراني 5: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل" 6. ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت" قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 7. وأمثال هذا لا يحصى كما تقدم ذكره.
وأدلة التوحيد في الكتاب أبين من الشمس في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد؛ وأما الأعمى فلا يبصر للشمس ضياء، ولا للقمر نورا. ثم إن شيخنا –رحمه الله- كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى لها. وهذا من سنن الهدى، ومعالم الدين، كما دل على ذلك الكتاب والسنة1. ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه ويأمروا به، وينهي عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه. وقد تتبع العلماء مصنفاته 2 –رحمه الله- من أهل زمانه وغيرهم، فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب –وأقواله في أصول الدين مما اجمع عليه أهل السنة والجماعة
وأما في الفروع والأحكام، فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة، بل ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه. على أن الحق لم يكن محصورا في المذاهب الأربعة كما تقدم، ولو كان محصورا فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة. والحاصل أن هذا المعترض المجادل، مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكرا، ورد ما كان معروفا، فأعداء الحق وأهله من زمن قوم نوح إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم وطريقتهم، فمن حكمة الرب أنه ابتلى عباده المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع. الصنف الأول: من عرف الحق فعاداه حسدا وبغيا، كاليهود، فإنهم أعداء الرسل والمؤمنين، كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1 {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأموال، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لأنهم يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغني، فلم يعبئوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه. الصنف الثالث: الذين نشئوا في باطل، وجدوا عليه أسلافهم، يظنون أنهم على حق، وهم على باطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشئوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وكل هذه الأصناف الثلاثة وأبتاعهم، هم أعداء الحق من لدن زمان نوح إلى أن تقوم الساعة. فأما الصنف الأول: فقد عرفت ما قال الله فيهم 1. وأما الصنف الثاني: فقد قال/الله/2 فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3. وقال عن الصنف الثالث: 4 {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 5 {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 6 وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 7. وهؤلاء هم الأكثرون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} 8. وقال تعالى في سورة الشعراء عقب كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 9 وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 10، وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام: وَمَا آمَنَ مَعَهُ
إِلا قَلِيلٌ} 1، وقال:/تعالى/2: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} 3. فيا من نصح نفسه، ما ذكر الله في كتابه من ضلال الأكثرين لئلا تغتر بالكثرة من المنحرفين عن صراط المستقيم، الذي هو سبيل المؤمنين؛ وتدبر ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} الآية4، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} 5. والآيات في هذا المعنى كثيرة تبين أن أهل الحق أتباع الرسل هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، وأن أعداء الحق هم الأكثرون في كل مكان وزمان،/حكمة بالغة/6. وفي الأحاديث الصحيحة ما يرشد إلى ذلك، كما في الصحيح: أن ورقة بن نوف قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ليتني كنت فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال: "أو مخرجي هم" قال: نعم، لم يأت/رجل/7 قط بمثل ما جئت به إلا عودي"8.
فإذا كان هذا حال أكثر الخلق مع المرسلين، مع قوة عقولهم وفهومهم وعلومهم، فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات، ممن هو مثلهم في عداوة الحق وأهله، والصد عن سبيل الله مع ما في أهل هذه الأزمان من الرعونات والجهل وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى عن أسلافهم وأشباههم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 1. فاحتج سبحانه على بطلان دعوتهم غيره بأمور: منها: {أنهم لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 2. فالمخلوق لا يصلح أن يقصد بشيء من خصائص الإلهية، لا دعاء ولا غيره، "والدعاء مخ العبادة" 3. الثاني: كون الذين يدعونهم من دون الله أمواتا، غير أحياء، والمبيت لا يقدر على شيء فلا يسمع الداعي، ولا يستجيب له، ففيها معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 4، وفي هذه الآية أربعة أمور تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلالة من دعا غير الله فتدبرها. والأمر الثالث وفي هذه الآية قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 5 ومن لا يدري متى يبعث، لا يصلح أن يُدعى من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة. ثم بين تعالى ما أوجبه على عباده من إخلاص العبادة لله، وأنه هو المألوه والمعبود
دون كل من سواه، فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1، وهذا هو/ الدين/2 الذي بعث الله به رسله، وأنزله به كتبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. ثم بين تعالى حال أكثر الناس مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك بالله، وبيان ما افترض عليهم من توحيده فقال: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 4. فذكر سببين حائلين بينهم وبين قبول الحق الذي دعوا إليه، فالأول: عدم الإيمان باليوم الآخر. والثاني: التكبر، وهو حال الأكثرين، كما/قد/5 عرف من حال الأمم. الذين بعث/ الله/6 إليهم رسوله، كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم، وكيف جرى منهم وما حل بهم. وكحال كفار قريش والعرب وغيرهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما بعثه الله بالتوحيد والنهي عن الشرك والتنديد. فقد روى مسلم وغيره من حديث عمرو ابن عبسة 7، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: " أنا نبي"، قال: وما نبي قال: "أرسلني الله"؛ قال: بأي شيء أرسلك قال: "بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء" قال: فمن معك على هذا قال: "حر وعبد" ومعه يومئذ أبو بكر وبلال8.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا أفسد الناس" 1. وفسر الغرباء بأنهم النزاع من القبائل 2 فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعة الواحد والاثنان، ولهذا قال بعض السلف: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وعن بعضهم: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا 3. فإذا كان الأمر كذلك فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار} 4. فأعظم منة على من رزقه الله معرفة الحق، الاعتصام بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف والمجادل بالباطل و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 5. وصلى الله على /محمد/6 سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الرسالة الخامسة والأربعون: في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعى إليه
الرسالة الخامسة والأربعون: في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعى إليه مدخل ... {الرسالة الخامسة والأربعون} 1 {في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعا إليه} قال جامع الرسائل: وله 2 أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه رحمة الأبرار، وأدخله جنات تجري تحتها الأنهار- رسالة جواب سؤال عن حقيقة حال الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- ودعوته الناس إلى توحيد الله تعالى، وترك عبادة ما سواه، وبيان معتقده وما كان عليه. فأجاب –رحمه الله- بهذا الجواب المفيد، والكلام الفائق الرائق السديد، الكاشف عن حال الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام، ناهج منهج الصواب، المتمسك بالسنة والكتاب، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كان عليه من حسن الاعتقاد، والقيام بتجديد هذه الدعوة بالجد والاجتهاد، ومصادمة من خرج عنها، بالبراهين والحجة والجهاد. وقد أجاد وأفاد –رحمه الله- بهذه النبذة المفيدة اليسيرة، في بيان حال الشيخ في معتقده، والفضل والعلم والسيرة. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه/ ونتوب إليه/3، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي
الساعة بشيرا ونذيرا. أما بعد: فقد سألت –أرشدك الله- أن أُرسل إليه نبذة مفيدة كاشفة عن حال الشيخ الإمام العالم القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، القائم بنصرة شريعة سيد الأنام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآب وضاعف له الثواب، ويسر له الحساب. وذكرت –أرشدك الله- أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك، وأن عندكم من الطلبة من يتشوق إلى تلك المناهج والمسالك، فكتبت إليه هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة، ليعلم الطالب ويتحقق الراغب حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويستبين للناظر فيها ما يبهت به الأعداء، من الأكاذيب والافتراء التي يرومون بها تنفير الناس عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل، وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت بينهم فيما قالواه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية؛ عرف أن لكل نعمة حاسدا، ولكل حق جاحدا، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام إلا العدول الثقاة الضابطين من الأنام. ومن استصحب هذا، استراح عن البحث فيما ينقل إليه، ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يختلق ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع.
فصل: نسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونشأته
فصل: نسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونشأته ... "فصل" فأما نسب هذا الشيخ1: فهو الإمام العالم، القدوة البارع، محمد بن عبد الوهاب
ابن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف/ بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاحر محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن إدريس بن مسعود بن طارئة بن عمرو بن ربية بن ساعدة بن ثعلبة بن عقبة بن ملكان بن عدي بن عبد بن مناف بن تميم1/2. ولد –رحمه الله- سنة خمس عشر بعد المائة والألف من الهجرة النبوية، في بلد /العيينة/3 من أرض نجد، ونشأ بها، وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم، سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته وذكائه. وبعد حفظ القرآن اشتغل بالعلم، وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب قبل رحلته لطلب العلم، وكان سريع الكتابة، ربما كتب الكراسة في المجلس. قال أخوه سليمان4 كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه. ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، لآثاره وتصنيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصرا للشيخ
منصور البهوتي1 الحنبلي، خادم المذهب، اجتمع به بمكة. وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة ورآه أهلا للائتمام. ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة الإسلام، وأداء المناسك على التمام. ثم قصد المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين. واشتغل بالقراءة في "الفقه" على مذهب الإمام أحمد رحمه الله. ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء والمشائخ الأخيار، وأتى الإحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشائخ والعلماء؛ فسمع وناظر وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد. وروى عن جماعة، منهم: الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي 2 ثم المدني، وأجازه من الطريقين. وأول ما سمع منه: الحديث المسلسل بالأولية في كتب السماع، بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" 1. وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله/بعبد/2 خيرا استعمله، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" 3. وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله. وطالت إقامة الشيخ ورحلته/في/4 البصرة. وقرأ بها كثيرا من الحديث والفقه والعربية، وكتب الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات. وكان يدعو إلى التوحيد ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه، ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم وما لديه؛ كان يقول: إن الدعوة كلها لله، ولا يجوز صرف شيء منها إلى سواه. وربما ذكروا /بمجلسه/5 إشارات الطواغيت، أو شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم ويلجئون إليهم في المهمات؛ فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر6، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين، إنما هي متابعتهم في ما كانوا عليه من الهدى والدين، وتكثير
أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين1. وأما دعوى المحبة والمودة مع المخالفة في السنة والطريقة، فهي دعوى مردودة غير مسلمة عند النظر والحقيقة2، ولم يزل على ذلك رحمه الله. ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلدة حريملا3، فاستقر معه فيها يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها، ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه، ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه، من أهل العقول والمنقول. وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى صراط العزيز الحميد، وقرأ عليه هذا الكتاب المفيد، يسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد، وشاعت نسخة في البلاد، وطار ذكره في الغور الأنجاد؛ وفاز بصحبته واستفاد من جرد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد، وكثر –بحمد الله- محبوه وجنده؛ وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الطريق، ويجاهدون كل فاسق وزنديق.
فصل: حال البلاد في عصره
فصل: حال البلاد في عصره ... "فصل" كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد
والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة؛ ونصوص التنزيل وأصولا لسنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت/معبورة/1 غير مردودة ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين؛ وجدوا واجتهدوا في الاستعانة التعلق على غير الله، من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين، وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون؛ وإليه/مدى/2 الزمان داعون قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات والآيات البينات، بحتجون بما رووه من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغير الفترات، وكثير منهم يعتقد النفع والشر في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 4، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 5. فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجدَّ، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب6
ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب1، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج ويرونه أكبر الوسائل والولائج2، وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار ابن الأزور3، وذلك كذب ظاهر، وبهتان مزور. وكذلك عندهم نخل فحال ينتابه النساء والرجال، ويفعلون عند أقبح الفعال؛ والمرأة إذا تأخر عنها الزواج، ولم يرغب فيها الأزواج، تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى/الطريقة/4 أغراهم الشيطان بها، وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى/منها/5 والبركة، ويعقلون/ عليها/6 الخرق لعل الولد يسلم من السوء. وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل يزعمون أنها/ انفقلت/7 من الجبل، لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق/لها/8 الغار، ولم يكن له عليها اقتدار. كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان.
وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية يسمى تاجا، يتبركون به، ويرجون منه العون والإفراج، وكانوا يأتون إليه ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه1، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم/ يحكمون/2 عنه الحكايات القبيحة الشنيعة، التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة، وهكذا سائر بلاد نجد على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد 3. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة،/والطرائق/4 الخاسرة، قد فشت وظهرت، وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين. فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب، وقبة أبي طالب 5، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاثة عند نزول المصائب، وحلول النواكب. وكانوا/له/6 في غاية التعظيم ولا ما يجب عند البيت الكريم؛ فلو دخل سارق أو غاصب أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم. ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين –رضي الله عنها- في سَرِف7؛
وكذلك عند قبر خديجة1 -رضي الله عنها-، يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عليه2 من مسلم يرجو الله/واليوم/3 الآخر، فضلا عن كونه من المكاسب الدنية/الفاجرة/4. وفيه من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره/أهل الأديان/5 والكمال. وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة. وفي الطائف قبر ابن عباس –رضي الله-، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية، وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين؛ منها: وقوف السائل عند القبر متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية، والنذر والذبح لمن تحت ذلك المشهد والبنية، وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون: بالأسواق اليوم على الله وعليك بابن عباس فيستمدون منه الرزق والغوث وكشف الضر والبأس.
وذكر/محمد بن حسين النعمي الزبيدي/1 -رحمه الله-: أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف من الشعب الشركية والوظائف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس. فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله. فانظر إلى هذا الشرك الوخيم والغلو الذميم المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله/تعالى/2: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية3، وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبد الله فيها 5، فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله؟! والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم. كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة –على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبل. وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وصفه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه من الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد –عليه أفضل الصلاة والسلام-، من النهي
عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام. وكذلك المشهد العلوي1، بالغوا في تعظيمه وتوقيره وخوفه ورجائه. وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم وذلك في سنة عشر ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا، ولائذا به مستغيثا، فتركه أرباب الأموال، ولم يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك/ذاك/2 المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة الشياطين. وأما بلاد مصر وصعيدها3 وفيومها4 وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي5، وأمثالهم من المعتقدين المعبودين. فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى/له/6 من تدبير الربوبية، والتصرف في الكون، بالمشيئة والقدرة العامة، ما لم ينقل مثله عن أحد بعد الفراعنة والنماردة، وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة؛ وبعضهم يقول: أربعة، وبعضهم
يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى أن الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه. فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} 1. وقد استباحوا عند تلك المشاهد، من المنكرات والفواحش والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطيع وصفه. واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات ما لا يصدر عن من له أدنى مسكة وحظ من المعقولات فضلا عن النصوص والشرعيات. كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن، ففي صنعاء2 وبُرع3 والمخا وغيرها من تلك البلاد، ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه،/ناهيك/4 بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين5. فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم. وفي حضرموت6 والشحر7، وعدن8
ويافع 1/ما تصتكُّ/2 عن ذكره المسامع. يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس3، شيء لله يا محيي النفوس4. وفي أرض /نجران/5 من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، بذلك/6 رئيسهم المسمى/ السيد/7 لقد أتوا من طاعته وتعظيمه وتقديمه وتصديره والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا
إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وكذلك حلب2 ودمشق وسائر بلاد الشام، فيه من تلك المشاهد والنصب والأعلام3 ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا من الكفريات المصرية، /والتلطخ/4 /بتلك/5 /الأوحال/6 الوثنية الشركية. وكذلك الموصل7 وبلاد الأكراد8، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان. وعند المشهد الحسيني قد اتخذه الرافضة9 وثنا؛ بل ربا مدبرا وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به
معابد اللات والعزى وما كان عليه أهل الجاهلية. وكذلك مشهد العباس1 ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة2 ومعروف الكرخي3 والشيخ. عبد القادر4؛ فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله، الفرد الصمد الواحد. وبالجملة فهم شر تلك الأمصار وأعظمهم نفورا عن الحق واستكبارا. والرافضة يُصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور لسكان تلك الأحداث والقبور، ما لا يحصل عشر معشاره للملك العلي الغفور، ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين حجة5،
/تعالى الله/1 وتقدس في مجده وجلاله. ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله، وتوقيره وخشيته، وخوفه للإله الحق، والملك العلام؛ ولم/ يبق/2 مما عليه النصارى، سوى دعوة الولد به 3 / أن بعضهم/4 يرى الحلول لأشخاص 5 بعض البرية، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} 6. وكذلك جميع قرى الشط 7 والمجرة 8 على غاية من الجهل /والمغرة/9. وفي القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام، وما فيهما من التفريع والتأصيل؛ تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا من مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل؛ فازداد بصيرة من دينه، وقوي بمشاهدة إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه، وشكره واجتهد في الإنابة إليه، وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه، من طغيان الشيطان وكفره، فليس من العجيب
ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا 1. ولقد أحسن العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، فيما أبداه من أهل وقته من التبديل والتغيير. ونص المنظومة 2: أما آن عما أنت فيه متاب ... وهل لك من بعد/البعاد/3 إياب تقضت بك الأعمار في غير طاعة ... سوى عمل ترضاه وهو سراب إذا لم يكن لله فعلك خالصا ... فكل بناء قد بنيت خراب فللعمل الإخلاص/شرط/4 إذا أتى ... وقد وافقته سنة وكتاب وقد صين عن كل ابتداع وكيف ذا ... وقد طبق الآفاق منه عباب 5 طغى الماء من كل ابتداع على الورى ... فلم ينج منه مركب وركاب وطوفان نوح كان في الفلك أهله ... فنجا همو، والغارقون تباب فأنى لنا فلك ينجي وليته ... يطير بنا عما نراه غراب وأين إلى أين المطار وكلما ... على ظهرها يأتيك منه عجاب نسائل من دار الأراضي سياحة ... عسى بلدة فيها هدى وصواب فيخبر كل عن قبائح ما رأى ... وليس لأهليها يكون متاب لأنهموا عدوا قبائح فعلهم ... محاسن يرجى عندهن ثواب كقوم عراة في ذى مصر ما على ... عورة منهم هناك ثياب يدورون فيها كاشفين لعورة ... تواتر هذا لا يقال كذاب
يعدونهم في مصر من فضلائهم ... دعاؤهم فيما يرون مجاب وفيها وفيها كل ما لا يعده ... لسان ولا يدنو إليه خطاب وفي كل مصر مثل مصر وإنما ... لكل مسمى والجميع ذئاب ترى الدين مثل الشاة قد وثبت له ... ذئاب وما عنه لهن ذهاب لقد مزقته بعد كل ممزق ... فلم/يبق/1 منه جثة وإهاب وليس اغتراب الدين إلا كما ترى ... فهل بعد هذا الاغتراب إياب فيا غربة عل ترتجى منك أوبه ... فيجبر من هذا العود مصاب إلى آخرها2.
فصل: إنكار العلماء لبدعة تقديس المشاهد
فصل: إنكار العلماء لبدعة تقديس المشاهد ... "فصل" وهذه الحوادث المذكورة، والكوارث المشهورة، والبدع المزيورة، قد أنكرها أهل
العلم والإيمان، واشتد نكيرهم، حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان، ولكن لما كانت الغلبة للجهال الطغام، انتقضت عرى الدين، وانثلمت أركانه، وانطمست منه الأعلام، وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه، من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال والحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا ما هم عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم، والإعراض عن النظر في آيات الله والفهم، لا مندوحة للعامة من تقليد الرؤساء والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا كرر –سبحانه وتعالى- التنبيه على هذه الحجة الداحضة، والعادة المطردة الفاضحة، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1 وقوله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} الآية2، قد كرر هذا المعنى في القرآن لحاجة العباد وضرورتهم إلى معرفته والحذر منه وعدم الاغترار وأهله. وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها 3 إذا عرفت هذا، فليس إنكار هذه الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالنكير والرد على من ضل وغوى، وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى. /وسنورد/4 ذلك من كلامهم ما تقر به العين، وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال من البدع والإشراك والزور. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي5 في كتابه المشهور الذي سماه/ "كتاب الحوادث
والبدع/1:" روى البخاري2 عن أبي واقد الليثي3 قال/ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين 4ونحن /حديثو/5 عهد بكفر، وللمشركين /سدرة/6 يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال له ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 7 لتركبن سنن من قبلكم" 8. فانظروا –رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات
أنواط، فاقطعوها 1 انتهى كلامه رحمه الله. فانظر –رحمك الله- إلى تصريح هذا الإمام بأن كل شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي ذات أنواط التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه –لما طلبوا منه أ، يجعل لهم شجرة كذات أنواط، فقال: الله أكبر هذا كقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها، مع أ، هم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك. فتبين لك بهذا أن من جعل قبرا أو شجرة أو شيئا حيا أو ميتا مقصودا له، ودعاه واستغاث به وتبرك به وعكف على قبره؛ فقد اتخذه إلها مع الله. فإن كان رسول الله –صلوات الله وسلامه عليه- أنكر عليهم مجرد طلبهم منه مشابهة المشركين في العكوف، وتعليق الأسلحة للتبرك؛ لما ظنك بما هو أعظم من ذلك وأطم! الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أن أصل الخلق لو يفعله لحبط عمله، وصار من الظالمين. فصلوات الله وسلامه عليه، كما بلغ البلاغ المبين، وعرفنا بالله، وأوضح لنا الصراط المستقيم. فحقيق بمن نصح نفسه وآمن بالله واليوم الآخر، أن لا يغتر بما عليه أهل الشرك، من عبادة القبور من هذه الأمة. /ومن/2 ذلك، ما ذكره الإمام محدث الشام عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة 3، من فقهاء الشافعية، وقدمائهم في كتابه الذي سماه:
"الباعث على إنكار البدع والحوادث" في فصل البدع المستقبحة، قال: "البدع المستقبحة تنقسم على قسمين، قسم تعرفه العامة والخاصة أنه بدعة محرمة، وإما مكروهة، وقسم يظنه معظمهم –إلا من عصم- عبادات وقربات وطاعات وسنن. فأما القسم الأول فلا نطول بذكره إذ كفينا مؤنة الكلام فيه، لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين. لكن/يتبين/1 من هذا القسم مما قد وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين للاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء، وهو ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر، الذي حقيقته الافتقار عن الإيمان، من مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن واعتقادهم في مشائخ لهم ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان من غير عذر، ويتركون الصلوات ويخامرون النجاسات غير مكترثين لذلك، فهم داخلون تحت قوله تعالى: {لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2؛ ولهذه الآية وأمثالها، كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام /وغيرها/3. ومن هذا القسم أيضا، ما قد عم الابتلاء به من تزين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان والعمد والسرج مواضع مخصوصة في كل بلد. يحكي حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فراض الله تعالى وسننه، ويظنون أنه متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي /ما/4 بين عيون وشجر وحائط وحجر.
وفي مدينة دمشق –صانها الله من ذلك- مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق خارج الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق –سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها- فما أشبهها بذات الأنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق1 وسفيان بن عيينة2 عن الزهري3 عن سنان بن أبي سنان4 عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه5 قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها ويذبحون لها. وفي رواية: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فتنادينا من /جانبتي/6 الطريق ونحن نسير إلى حنين، يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما له ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى:
{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم" 2. أخرجه الترمذي بلفظ آخر والمعنى واحد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"3. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي/الأندلسي/4 في كتابه المتقدم ذكره 5. "فانظروا –رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها"6. قلت 7: ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق/الجنياني/8 -رحمه الله- أحد
الصالحين ببلاد إفريقية، حكى عنه صاحب الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب1 أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتون من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد، قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن/المصبح/2 عليها. ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا؛ قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. قلت3: وأدهى من ذلك وأمرّ، إقدامهم على قطع الطريق السابلة4، يجيزون5 في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن في زمن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام،/أو من/6 بناء ذي القرنين7 وقيل فيها غير ذلك، مما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب "تاريخ مدينة دمشق" –حرسها الله تعالى- وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به في شهور، سنة ست وثلاثين وستمائة "636هـ" /أنه/8 رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت، وقد
أخبرني عنه يقة، أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوب 1. وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف /الضيق/2 والحرج على من دخل ومن خرج، ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار 3 المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشرع إلى كونه مسجدا؛ وهدمه لما قصد به السوء والردى. قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 4 نسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله واتخذ إلهه هواه"5. وهذا الشيخ/أبو شامة/6، من كبار أئمة الشافعين في أوائل القرن السابع/ وقال الإمام/7 أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي 8 -رحمه الله-: لما صعبت
التكاليف على/ الجهلة/1 والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، وإلزامها/بما/2 نى عنه الشرع3 من إيقاد السرج4 وتقبيلها5 وتخليقها6 وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب/الرقاع، فيها/7
يا مولاي، افعل بي كذا وكذا، وأخذ/ تربتها/1 تبركا بها،/وإفاضة/2 الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد/ الكفار/3 ولم يتمسح بآجر4 المدينة يوم الأربعاء، ولم /يقل الحمالون/5 على جنازته: الصديق أبو بكر/ أو محمد/6 وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه/ أزجا/7 بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر 8. انتهى. فتأمل –رحمك الله- ما ذكر هذا الإمام، الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء، والنقاد/9 لذلك يشهدون، وحطهم من النهي مرتبته الثانية، فهم بها قائمون؛ يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموه به المتعصبون والملحدون. قال الشيخ تقي الدين10 -رحمه الله تعالى- وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة
المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول –إذا نزلت به/شدة/1 أو عرضت له حاجة –لميت: يا سيدي/ يا فلان/2 أنا في حسبك أو اقض حاجتي؛ كما يقوله بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم /من الموتى/3 والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لاعند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليه/ بنبينا/4 إذا أجدبنا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" كما ثبت ذلك في صحيح البخاري 5. وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام/توسل/6 بيزيد بن الأسود الجرشي7.
فهذا الذي ذكره عمر رضي الله الله، توسل/منهم/1 بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد بن الأسود. وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء فقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين. وإذا كانوا من أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم فأفضل2. وقد كره العلماء كمالك وغيره، أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. قال أصحاب مالك 3: إنه/4 إذا دخل المسجد يدنو من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم /ويدعوا/ مستقبل القبلة يوليه ظهره5، وقيل: لا يوليه ظهره6. وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره. /فأما/7 إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خلاف. ولعل هذا الذي ذكره الأئمة، أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر8، /فإذا كان
قد ثبت/1 النهي/ فيه/2 عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة 3 أمروا بأن لا /يُتحرى/4 الدعاء إليه، كما لا يصلى إليه. وقال مالك في المبسوط5: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم/ ويصلي/6"7. ولهذا –والله أعلم- صُرفت الحجرة وثُلثت، لما بُنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على/سمت/8 القبلة، ولا جعل/ سطحا/9. وذكر الإمام وغيره أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه10. وذكروا أنه إذا حياه وصلى يستقبل وجهه –بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة ودعا. وهذا مراعاة منهم أن [لا] 11 يفعل الداعي أو الزائر ما نهى عنه، من تحري الدعاء عند القبر. وقد كره مالك –رحمه الله تعالى- وغيره لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد
أن يجيء فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه. قال وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من السفر أو أراد سفرا1 ونحو ذلك. ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل للصلاة ونحوها2. وأما قصده دائما للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحدا رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا 3، وأيضا فإن ذلك بدعة. فقد كان المهاجرون والأنصار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي –رضي الله عنهم-/4/بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك، وما نهاهم عنه، ولأنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي آخر الصلاة في التشهد، كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته. والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك. قال أبو سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد 5، حدثني أبي عن ابن عمر، إنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وسلم عليه وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. وعبد الرحمن بن يزيد وإن كان يضعف -لكن الحديث الصحيح عن نافع6 يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائما ولا غالبا- وما أحسن ما قال مالك –رحمه الله- لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما
أصلح أولها1. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقضوا إيمانهم/عوضوا/2 عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك وغيره3. ولهذا كرهت /الأئمة/4 استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه 5 ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها –كما قيل- سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق؛ أن/الذين/6 خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون للميت، ويستدبر أحدهم القبلة ويسجد للقبر، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة7، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع، ولعله أمثل أتباع شيخه يقول في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين، أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ ويعكف عليه، عكوف أهل التماثيل عليها 8. وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والذل وحضور القلب ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي أذن الله أن ترفع
ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون القبور، وطائفة صنفوا كتبا وسموها "مناسك حج المشاهد"، كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان1 الملقب بالمفيد، آحد شيوخ الإمامية كتابا في ذلك وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموا ذلك نُسكا وحجا فالمعنى واحد. وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت، وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح، صنف كتابا سماه: "الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام"، 2 وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة/3. وجُعل ذلك من مناقبه. فإن كان هذا مستحبا فينبغي لمن يجب عليه حج البيت –إن حج- أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة، فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل وهذا لا يقوله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة، صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس ممن يقصده الملوك والقضاة، والعلماء والعامة، على طريقة أبي سبعين 4؛ قيل عنه إنه كان يقول:
البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين في الهند. وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق، ودين النصارى حق. وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلك/1 على يديك، فقال: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين فقال له: واليهود والنصارى أليسوا كفارا فقال: لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم فيعرفون بها، كما يعرف المسلمون بعرفات، كما يفعل هذا في المشرق والمغرب ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم القيامة لا أبيع 2/ بحجة/3 فأنكر عليه بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ، /وزجره/4 عن إنكار ذلك. وهؤلاء وأمثالهم وصلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء، وليسوا من عمار مساجد الله التي قال الله فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} 5. وعمار مشاهد المقابر يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر، الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، /إذا/6 رأى قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة/ يتحاشى/7 من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك، هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السموات والأرض، وجعل أهلَّة السماء مواقيت
للناس والحج 1، وهؤلاء إذا نوظروا خوفوا مناظرهم، كما صنع المشركون مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي؛ فمن الميت/ تُطلب/3 قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما أحله/4 والحرام ما حرمه، وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا. وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام، والتابع لهم، المحسن الظن بهم أو غيره، يطلب من الشيخ الميت إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان. فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى؟ وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك أو نصراني، ولا يروج عليه، ويأكلون من النذور مما يؤتى به إلى قبورهم، ما يدخلون به في معنى قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 5، [فإنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون
عن سبيل الله] 1 ويعوضون بأنفسهم، ويمنعون غيرهم/ إذ/2 التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك من الدخول في دين الحق الذي بعث الله به/ رسله/3، وأنزل به كتبه. والله سبحانه/ وتعالى/4 لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة لوجهه، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 5 وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 6، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 7 وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 8. ولم يذكر بيوت الشرك؛ كبيوت النيران والأصنام والمشاهد، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب، فالممدوح من ذلك ما كان/ مبنيا/9 قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات. فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيوت الكواكب وبيوت المقابر، لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 10. فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" /11 وفي
رواية: "وصالحيهم"1، ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك"2. "وقد قدم بعض شيوخ المشرق فتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" فقلت هذا كذب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث3. وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه؛ قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى قال: فمن؟ " 4"5. "وهؤلاء المشركون، إذا حصل لأحدهم مطلبه ولو من كافر، لم يُقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث تُقضى، فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه/كافر/6 أو
منافق؛ وتارة يعلم أنه كافر أو منافق، فيذهب إليه، كما يذهب قوم إلى الكنيسة أو إلى مواضع يقال لهم إنها تقبل النذور1. فهذا يقع فيه عامتهم. وأما الأول2 فيقع فيه خاصتهم "3. "والمقصود هنا أن كثيرا من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا ومنافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلا صالحا؛ وكلا هذين/عنده/4 من جنس واحد يستغيث به. وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال/ إنه/5 قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة كانوا يقولون إنه قبر بعض العمالقة. وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنها كذب، ومنهم من قال إنهما/ قبرا/6 نصرانيين. وكثير من المشاهد تنازع/الناس/7 فيها، وعدنها شياطين تُضل/بسببها/8 من تضل، ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا، متصورا بصورته، كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين 9، وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل
التي بالبراري بديار مصر/بإخميم/1 وغيرها، /يرصدون/2 التمثال مدة لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرءون، حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة، فيراها تتحرك، فيطمع فيها أو غيرها، فيرى/ شيطانا/3 قد خرج له فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي/ بعض/4 حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك/ الكفار/5، يسمونه/البودي/6 وهو المخنث عندهم، إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور، أرسلوا إليه من ينكحه،/ونصبوا/7 له حركات عالية في ليلة مظلمة، وقربوا له خبزا وميتة، وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عنده من يذكر الله 8، ولا هنالك شيء فيه من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهواء، وتضرب من مد يديه إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون،/ويغني/9 لهم الأغاني التي
كانت يغنيها آباؤهم الكفار. ثم قد يغيب. وكذلك الطعام، وقد/نقل/1 إلى بيت /البودي/2 وقد لا يغيب؛ /ويقربون/3 له ميتة، يحرقونها بالنار، /فيقضي/4 بعض حوائجهم"5. ومثل هذا كثير للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام، وقد تيقنت بطرق متعددة أن ما يشرك به من دون الله، من صنم وقبر وغير ذلك، يكون عنده شياطين، تُشل من أشرك به؛ وأن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم إذا حصل لهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان. /فمنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، ومنهم من يأمره بالفواحش، وقد يفعلها الشيطان/6 وقد ينهاه عما أمر به من التوحيد والإخلاص والصلوات الخمس وقراءة القرآن ونحو ذلك7. والشياطين تُغوي الإنسان بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق أو معصية، وإن كان قليل العلم أمرته بما لا يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة؛ وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من /أصحابنا/8
المشائخ، يستغيث بأحدهم بعض أصحابه فيرى الشيخ في اليقظة، حتى قضى ذلك المطلوب1. وإنما هي /شياطين/2 تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله. والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل. وأما أهل العلم والإيمان فاتباع الجن لهم كاتباع الإنس، يتبعونه فيما أمر الله به /و/3 رسوله. "وكان رجل يباشر التدريس وينتسب إلى الفتيا، كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما لا يعلمه الله4، ويقدر على ما لا يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسين 5، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي6، 7. وقالوا هذا مقام القطب الغوث8
/الفرد/1 الجامع. وكان شيخ آخر معظم عند أتباعه، يدَّعي هذه المنزلة، ويقول إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يزوج عيسى ابنته، وأن تواصي الملوك بيده، والأولياء بيده، يولي من يشاء ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر؛ وقد عزَّرته تعزيرا بليغا في يوم مشهود، في حضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ومن هؤلاء من يقول: قول الله سبحانه/ وتعالى/2 {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 3 أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا. ومنهم من يقول: إن الرسول يعلم مفاتيح الغيب الخمس، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: "خمس لا يعلمهن إلا الله، إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت/إن الله عليم خبير/4"5. وقال إنه علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله.
ومنهم من يقول: أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله. ومنهم من يأتي إلى قبر الميت فيقول: اغفر لي وارحمني ولا توقفني على زلة. إلى أمثال هذه الأمور التي يتخذ فيها المخلوق إلها1. /أقول/2: وهذه سنة مأثورة وطريقة مسلوكة والله غير مهجورة، وضلالة واضحة مشهورة، وبدعة مشهورة غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة، ودلائلها في كثير من المصنفات والمناظيم مذكورة، كما قال ذلك في البردة، وبين في ذلك قصده: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم3 فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم4 ولو نطيل بنقل هذه الأخبار، لحررنا مها أسفارا، /فلنكف عنان القلم/5 اليراع6 في هذا؟ الميدان. فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان، بل أجلى من ضياء الشمس
في البيان. فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم، ما يقول هذا؟ فيقول: فلان ما ثم عنده إلا الله، لما استقر في نفوسهم أن يجعلوا مع الله إلها آخر، وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وهؤلاء الصالحون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات، فإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا الله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين بقوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} 1. فاستهزؤا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك. وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2. وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3. وما زال المشركون يُسَفِّهون الأنبياء ويصفونهم بالجنون والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهو عليهما السلام، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4. فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه هو التوحيد. وهكذا تجد من فيه شبه من هؤلاء من بعض الوجوه، إذا رأى من/يدعو/5 إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك لما عنده من الشرك.
"1 وكثير من هؤلاء يخربون المساجد ويعمرون المشاهد، فتجد المسجد الذي /بُني للصلوات/2 الخمس معطلا مخربا ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي/ بُني/3 على الميت /عليه/4 الستور وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدو إليه وتروح، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله، وتعظيمهم للشرك، فإنهم يعتقدون أن دعاءهم للميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به، أنفع لهم من دعاء الله والاستغاثة به، في البيت الذي بُني لله عز وجل، ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق، على البيت الذي بني لدعاء الخالق. وإذا كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب/ الذين/5 ذكر الله حالهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} الآية6 /كانوا/7 يجعلون له زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية. فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله، فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقيرة 8 فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله، وهكذا/ حال الوقوف/9 والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد، أعظم مما يبذل عندهم للمساجد /ولعمارة/10 المساجد والجهاد في سبيل الله.
وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، بكى عنده وخضع، ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمع، وقيام الليل، وقراءة القرآن؛ فهل هذا الأمر إلا من حال المشركين المبتدعين لا الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا إذا سمع الآيات، يحصل له من الحضور والخشوع والبكاء، ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين، بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها وكرهوها واستهزؤا بها، فيجعل لهم أعظم/ نصيب/1 من قوله: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 2. وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسنة لاغية، كأنهم صم عمي، وإذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكنت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان/منهم ماء/3. "ومن هؤلاء/من/4 إذا كانوا في سماعهم، فأذن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة، فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال، فقلت/صَدَقَ، كان في حضرة/5 الشيطان، فصار على باب الله، فإن البدع والضلال، فيها من حضور الشيطان، ما قد فُصِّل في غير هذا الموضع"6. والذين جعلوا دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ، أفضل من دعاء الله أنواع متعددة منهم: من تقدم؛ ومنهم من يحي أنواعا من الحكايات [مثل حكاية أن بعض
المريدين استغاث بالله فلم بغتة، فاستغاث بشيخه فأغاثه. وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله 1] /فلم يخرجه/2 فدعا بعض المشايخ الموتى /فجاءه/3 فأخرجه إلى بلاد الإسلام. وحكاية أن بعض المشايخ قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب. فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية، على أدعية المخلصين لله، مضاهاة للمشركين. وهؤلاء يتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه، فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا/نزلت/4 به شدة، لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه،/فيتعسر/5 أحدهم فيقول: يا فلان6. وقد قال الله للمؤمنين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 7. ومن هؤلاء من يحلف بالله فيكذب8 ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق، فيكون شيخه عنده في 9 صدره أعظم10
/من الله/1. 2 فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين يتضمن هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم، مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له، كما أمرت رسله ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به، وأيضا فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس لجانب الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بما بعث به. ولتمييز ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه، عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 3. وأما/أولئك/4 الضلال أشباه المشركين النصارى، فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو منقولات ممن لا يحتج/بقوله/5،/وإما/6 أن تكون كذبا عليه، وإما أن يكون/غلطا/7 منه، إذ هي نقل غير مصدق من قائل غير معصوم؛ وإن
اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول، حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه، وتركوا محكمه، كما فعله النصارى. وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعد الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري1، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان2 وكتاب "المستغيثين بالنبي/ صلى الله عليه وسلم/3 في اليقظة والمنام"4. وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكن ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الأحكام، الذي يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة/ جروا/5 عليها كما جرت عادة كثير من الناس، بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، ولهم صلاح وعلم وزهد، إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغاث به. وهذا يفعله كثير من الناس 6 7. ولهذا
لما نُبه/من نبه/1 من فضلائهم، تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام/ في شيء/2، بل هو مشابهة لعباد الأصنام، ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما لم يشرع السجود لميت، ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه3، ولهذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لهذا، وقال:/هذا هو أصل دين الإسلام/4. وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا، يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى، يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان/ الذي/5 يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم،/ فيدعون/6 دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم/لله ودعائهم/7 إياه؛ فإنه يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة.
والتكلف، حتى أن العدو1 الخارج عن شريعة الإسلام، لما قدم دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم. قال بعضهم: يا خائفين من التتر ... لوذوا2 بقبر أبي عمر ينجيكمو من الضرر فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم: لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله في ذلك. ولهذا كان أهل المعرفة في الدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه ولا يستغيثون /لا/3 بملك مقرب ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا بالاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا لم يتقدم نظيره، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة أصلا، لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله، ما لم يكن قبل ذلك، فالله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد 4، كما قال تعالى في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 5. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كل يوم: "يا حي يا يقوم برحمتك أستغيث" 6.
/و/1 في لفظ: "أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" 2 وهؤلاء يدعون الميت والغائب، فيقول أحدهم: بك أستغيث، بل أستجير، أغثنا أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي وارحمني وتب عليّ ونحو ذلك3. ومن لم يقل هذا ن عقلائهم فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، أو جدب الزمان، وغير ذلك، فيشكو إليه ما حصل من ضرر الدين والدنيا. ومقصوده في الشكوى أن يُشكيه4 فيزيل ذلك الضرر. وقد يقول –مع ذلك- للميت: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت والحي والغائب عالما بذنوب العباد،/ ومجرياتهم/5 التي يمتنع
أن/يعلمها/1 بشر حي أو ميت. وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، /ويشفع لنا/2 ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أن يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع كما كان3 يسأل ويشفع لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة، ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم، لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته. انتهى كلام الشيخ –رحمه الله- تعالى مخلصا4. فانظر –رحمك الله- إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، ممن يدعي العلم والمعرفة،/وينتصب/5 للفتيا والقضاء،، لكن لما نبههم الشيخ –رحمه الله تعالى- على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاذ للحق. وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت عدد كثير من الأنام، وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" الحديث6 وقوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 7.
وبهذا ينكشف لك ويتضح عندك بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان من أنواع الشرك والبدع الحدثان، فلا تغتر بما هم عليه. وهذه هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي/ انتحلها/1 أهل الشرك والكفر والعناد، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في محكم التنزيل، من غير شك ولا تأويل، حيث قال/ الله تعالى:2 وهو أصدق القائلين حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسى وأخيه هارون الكريمين: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} 3 فأجابه عليه السلام بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4. فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، سلم من التعصب والعناد والجفاء، وتوسط في/ لاحب/5 المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، وكان ذلك طريقه/و/6، وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة والوصول، وكان من ضوء التوحيد على حصول.
فصل: الغلو في تعظيم الصالحين ذريعة إلى الشرك
فصل: الغلو في تعظيم الصالحين ذريعة إلى الشرك ... "فصل"7 قال ابن القيم8 -رحمه الله- في الإغاثة 9: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا
قبري عيدا" 1 وقال: "اللهم لا تجعل قبري يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2. وفي اتخاذها عيدا من المفاسد ما يغضب من أجله من كان في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد –ولكن "ما لجرح بميت إيلام"3 منها- الصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم، يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه،/وما/4 يؤول إليه. وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها وعبادتها؟!. ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما عليه أصحابه؛ وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر. فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد؛ ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون عليه الوقوف على إيقاد القناديل عليها/ 5؛ ونهى أن تتخذ عيدا،
وهؤلاء يتخذونها أعيادا؛ ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها، كما في صحيح مسلم، عن علي رضي الله عنه1، وهؤلاء يرفعونها ويجعلون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه 2. ونهى عن الكتابة عليها، كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر3. ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما رواه أبو داود عن جابر4؛ وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتابا سماه "مناسك حج المشاهد" 5./ولا يخفى/6 أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام. فانظروا إلى التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة1 وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه عن أن يقول هجرا2. فهذه الزيارة/التي/3 أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه وما أحسن ما / قال الإمام مالك/4 -رحمه الله- لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها5. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك. ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا 6.
وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة، أنه يستقبل القبلة للدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة1. وبالجملة فإن الميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع/ مثله/2 للحي. ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار والدعاء له3؛ وكذلك الزيارة مقصودها الدعاء للميت والإحسان إليه، وتذكير الآخرة؛ فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم، فبدلوا الدعاء له4 بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به؛ والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت وإلى الزائر، بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو محض العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد. ثم ذكر حديث أنواط، ثم قال: فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف /حولها/5 اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها، و/لا/6 يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه، والدعاء به وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو
كان أهل الشرك والبدع يعلمون!. ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن/ما/1 بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب. والأمر –والله- أعظم مما ذكرنا. وعمَّى2 الصحابة قبر دانيال3 بأمر عمر رضي الله عنه؛ ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع الرسول صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل إليها وقطعها4. قال عيسى بن يونس5: وهو عندنا من حديث/ ابن عون/6 عن نافع 7 8.
فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي/ ذكرها/1 الله في القرآن2، وبايع تحتها الصحابة –رضي الله عنهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم،/ فماذا/3 حكمه فيما عداها؟. وأبلغ من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار4، ففيه دليل على هدم المساجد التي/هي/5 أعظم فسادا منه، كالمبنية على القبور؛ وكذلك قبابها. فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه. وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله –سبحانه- كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين؛/ وكان العامة يقولون للشيء/6 /منها/7 إنه يقبل النذر، أي يقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى الله المنذور /له/8.
ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى؛ قال قتادة في الآية:1 "إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى/ أثره وأصابعه/2، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق3" 4. وأعظم/من/5 الفتنة بهذه الأنصاب، فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عبادة الأصنام، كما ذكر الله في سورة نوح في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} الآية6؛ ذكر السل في تفسيرها: أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم7.
وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع ما دعوا غليه، دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلامه وتفهمه أغناه عن البدع والآراء، ومن يَعُدَ عنه، فلا بد أن يتعرض بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته، والتوكل عليه، أغناه عن محبة غيره، وخشيته والتوكل عليه. فالمعرض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، /والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عبد الصور شاء أم أبى/1. أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام. ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به. /"والنوع الثاني"/2: أن يسأل الله به. وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. "النوع الثالث" أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب. وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك. فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما عملت/في ذلك/3 نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان/ كثير/4 من المتأخرين يفعله5. وبالجملة6
فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص/ منها/1 إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2؛ وكفى في معرفتهم أنهم/ أكثر/3 أهل الأرض، بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين4. وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً} 5، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 6. ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها7. انتهى كلام الشيخ رحمه الله ملخصا.
/وقال الشيخ/1 تقي الدين في الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم2 قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام والسنة، / قد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام/3،/في/4 هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية 5. وعلي بن أبي طالب/ رضي الله عنه/ /6، حرق الغالية من الرافضة، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنه مذهبه أنه يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء. / وقصتهم/7 معروفة عن العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في الشيخ/ عدي/8 ونحوه. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني، وأنا في حسبك ونحو هذه الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب، ليعبدوه وحده لا يجعل معه إلها آخر، والذين [كانوا] 9
يدعون من الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، وتنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم، يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى1 {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. فبعث الله رسوله، ينى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء الاستغاثة 3، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية4. وقال طائفة من السلف: كانوا أقواما يدعون المسيح وعزيرا 5؛ إلى أن قال 6: وعبادة الله هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 7 وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 8. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلم أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا، قل ما شاء الله وحده" 9. ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 10 وقال في مرض موته:
"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، يحذر ما فعلوه وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 2. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، فلا يشبه ببيت المخلوق ببيت الخالق كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به. ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 4. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام، وأعظم آية في القرآن، آية الكرسي: 5 {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 6 وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة"7. والإله هو الذي تأله القلوب عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية وإجلالا 8. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فتأمل أو لكلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا مثل أن يقول: يا سيدي أغثني ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ تجده صريحا في تكفير أهل الشرك وقتلهم بعد الاستتابة، وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه، الذي يألهه القلب، أي يصدقه بالعبادة والدعوة، والخشية والإجلال والتعظيم؛ وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لنه بين أن هذا هو/ مطلوب/1 المشركين الأولين. فاستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات والله أعلم. وقال –رحمه الله- في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 2: ظاهره أن/ما ذبح/3 لغير الله سواء، لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: بسم المسيح ونحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى، كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له، أعظم من/الاستعانة/4 باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم/كفرا/5 /من الاستعانة/6 بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله؛ كما/قد/7 يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة. وإن كان هؤلاء لا تباح/ذبائحهم/8 بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان.
ومن هذا ما يفعل بمكة 1 وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ –رحمه الله- تعالى. فتأمل –رحمك الله تعالى- هذا الكلام، وتصريحه فيه بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيه مانعان: الأول 2: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع3. الثاني 4: أنها مما أهل/ به/5 لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 6. وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم.
فصل: تقسيم ابن القيم الشرك إلى نوعين
فصل: تقسيم ابن القيم الشرك إلى نوعين ... "فصل"7 قال ابن القيم في شرح المنازل في باب التوبة 8. وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو أن يتخذ
من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله. 1 بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لها ولا يغضبون إذا/ انتقص/2 أحد رب العالمين. وقد شاهدنا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده على لسانه إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن استوحش، وهو لا يذكر/إلا/3 ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده؛ وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب آلهتهم، فأولئك كانوا ألهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر. قال تعالى حايكا عن أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 4. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله. وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله عليهم في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5. والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية. ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا. وهذا الذي يحول بين المرء وبين
فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"1. وهذا لأن من لا يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي عليه أهل الجاهلية، فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويُكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريده التوحيد، ويُبَدَّع بتجريده متابعة الرسول، ومفارقته الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به وسأله ان يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله –سبحانه- لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والله –سبحانه- لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد. فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة2، فعكس هذا
المشركون، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به. وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستحبين لهم، ولله در خليله إبراهيم/عليه السلام/1 حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله3. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل –رحمك الله- كلام هذا الإمام وتصريحه بأن من دعا الموتى، وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله؛ فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكاره، وتكفير من لم يتب منه وقتاله ومعاداته. وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد، والذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وتأمل قوله أيضا: وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى. ولكن تأمل –أرشدك الله- قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين ... إلى آخره يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم، فهو منهم، وإن لم يفعله. والله أعلم.
وقال –رحمه الله- في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد1، في الكلام على غزوة الطائف2 وما فيها من الفقه قال فيها: "إنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا. فإنها/من/3 شعائر الكفر والشرك. وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم وللشرك والتقبيل4، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته. /وكثير/5 منها بمنزلة اللآت والعزى ومناة الثالثة الأخرى6، أو أعظم شركا عندها وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من إياب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وتحيي وتميت؛ وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم7 حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم؛ وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء/وغلب/8 السفهاء، وتفاهم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس9،
ولكن لا تزال طائفة من/ الأمة/1 المحمدية/ بالحق/2 قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين"3. وقال الشيخ تقي الدين –لما سئل عن قتال التتار 4 مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام-: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام، الظاهرة المتواترة، من مقاتلي/5 هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتلهم حتى يلتزموا شرائعه؛ كما قاتل أبو بكر والصحابة –رضي الله عنهم- مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء6 بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر، رضي الله عنهما. واتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه7 الحديث عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليفة، مع قوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم"8. فعلم أن مرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال،
فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة 1. فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن الصلاة، أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، الذي يكفر/ الجاحد لوجوبها/2، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر أو الأذان والإقامة –عند من لا يقول بوجوبهما-3 ونحو ذلك من الشعائر. فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها. وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام. والخارجين عن طاعته؛ كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام، بمنزلة مانعي الزكاة، أو بمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي
الله عنه ولهذا اقترفت/سيرته/1 رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، وإن كانت سيرته مع البصريون والشامي سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك. وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة، من قتال الصديق لمانعي الزكاة2، وقتال علي للخوارج3" انتهى كلامه رحمه الله تعالى4. فتأمل –رحمك الله- تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى، بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس أو الزكاة أو الحج، أو ترك المحرمات كالزنا، أو تحريم الدماء، والأموال، أو شرب الخمر أو المسكرات أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام. وإن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف، من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك
/عمل/1 بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء/بمنزلة/2 مانعي الزكاة. انتهى والله أعلم. وقال في الإقناع من كتب الحنابلة التي تعتمد عندهم في الفتوى: "وأجمعوا على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله –تعالى-./فقد/3 كفر بعد إسلامه، /لقوله/ 4 تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته/ كفر، لأن جاحد ذلك مشرك بالله –تعالى- إلى أن قال: قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله/6 أو ما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم كفر إجماعا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 7 8.
فصل: تعريف الحنفية للكفر
فصل: تعريف الحنفية للكفر ... "فصل" وأما كلام الحنفية، فقال في كتاب: تبيين المحارم المذكورة في القرآن 9: باب الكفر:
"وهو/1 / وجحود الحق وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} الآية 2 وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر. إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: نوع يتعلق بالله –سبحانه-، نوع يتعلق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق به –سبحانه-، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات، أو نفي صفاته، أو قال بالحلول أو الاتحاد معه قديم غيره، أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه –سبحانه- حسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو سخر باسم من أسمائه أو أمره أو وعده، أو أنكرمها أو سجد لغير الله تعالى، أن سب الله سبحانه، أو ادعى له ولدا وصاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئا من خلقه، أو افترى على الله –سبحانه وتعالى- الكذب بادعائه الإلهية والرسالة. إلى أن قال: وما أشبه ذلك مما لا يليق به –سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا –يكفر بهذه الوجوه لأجل/ سوء فعله عمدا/ 3 أو هزلا؛ يقتل إن أصر على ذلك. فإن تاب تاب الله عليه وسلم من القتل". انتهى كلامه –رحمه الله- بحروفه 4. وقال الشيخ قاسم في شرح الدر: النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر
بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا، /باطل/1 إجماعا لوجوه، منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها: أن ذلك كفر. إلى أن قال: قد ابتلي الناس بذلك ولا سيما في مولد أحمد البدوي2. انتهى3. فصرح بأن هذا النذر كفر يكفر به المسلم. والله أعلم./وصلى الله على محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا/4.
الرسالة السادس والأربعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
الرسالة السادس والأربعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان ... "الرسالة السادس والأربعون"1 قال جامع الرسائل: وله قدس الله روحه ونور ضريحه رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان، قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد –سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك من الشاكرين الصابرين. ومن مدة ما جاءنا منكم خط. وعادة الإخوان يتفقد بعضهم بعضا، لا سيما أوقات الفتن التي تموج، وعند الحوادث التي هي على الأكثر تروج. وأوصيك بتقوى الله –تعالى- والقوة في دينك ونشر العلم، خصوصا في كشف الشبهة التي راجت على من لا بصير له، ولم يفرق بين البغاة والمشركين، ولم يدر أن نصر من استنصر من الملة على أهل الشرك، واجب على أهل الإيمان والدين، قال –تعالى- فيمن ترك الهجرة واستنصر بالمسلمين: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 2. ومن عقيدة أهل السنة: الجهاد في سبيل الله، وأنه ماض مع كل إمام بر أو فاجر إلى يوم القيامة. واكتب لي جوابا يكون عونا على البر والتقوى، وردعا لأهل الجهل والهوى، وبلغ سلامنا الشيخ حسين، وحسن، ورشيد، وخواص الإخوان، ومن لدينا العيال بخير وينهون السلام، والسلام.
الرسالة السابعة والأربعون: إلى زيد بن محمد
الرسالة السابعة والأربعون: إلى زيد بن محمد ... "الرسالة السابعة والأربعون"1 قال جامع الرسائل: وله رحمه الله رسالة إلى زيد بن محمد أيضا، وهي خطه بيده: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ زيد بن محمد سلمه الله –تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل، وسرنا سلامتك وعافيتك. وتعرف أن زمانك أشبه بزمن/الفترة/2، وقل من يعرف حقيقة الإسلام فضلا عمن يعمل به، ولله على مثلك عبودية، هي من أفرض الفرائض وأوجب الواجبات، فلا تغفل عن نفسك ومعرفة ما أنت مطالب به {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. وبلغ عمك وأولادك وأولاده السلام. كذلك إخواننا في الله. والولد والعيال بخير وينهون السلام، والسلام.
الرسالة الثامنة والأربعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
الرسالة الثامنة والأربعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان ... "الرسالة الثامنة والأربعون"1 قال جامع الرسائل: وله قدس الله روحه ونور ضريحه رسالة أيضا إلى زيد بن محمد آل سليمان، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد زاده الله علما وإيمانا وبصيرة وإيقانا سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، /وبعد/2: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل وصلك الله ما يرضيه، والله المسئول أن يمن علينا وعليكم بالثبات واليقين، والصبر على التزام ما يرضيه سبحانه، واختار لنا من الدين والقوة على جهاد المفتونين والمنقلبين. ونخبرك أن الإمام عبد الله ومحمدا وتركيا وصلوا الرياض/ في الثامن والعشرين من شعبان/3، نسأل الله أن يجعلها هجرة إليه وإلى رسوله، بالتزام الإيمان والمتابعة والبراءة من عابدي الأصنام والصلبان. وبلغ السلام العيال، والشيخ حسين، وحسين، ورشيد، ومن لديك من الإخوان، ومن لدينا العيال يسلمون عليك. والسلام.
الرسالة التاسعة والأربعون: إلىإلى زيد بن محمد آل سليمان
الرسالة التاسعة والأربعون: إلىإلى زيد بن محمد آل سليمان ... "الرسالة التاسعة والأربعون"1 قال جامع الرسائل: وله قدس الله روحه ونور ضريحه رسالة أيضا إلى زيد بن محمد آل سليمان، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب زيد بن محمد –زاده الله علما، ووهب له حكما- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه. والخط وصل، وبه الأنس حصل، حيث أفاد سلامة من نحب ونشفق عليه. وما ذكرت من عدم المكاتبة، فليس ذلك عن إهمال، وإنما كثرة الاشتغال، وتشتت البال، وعدم الشعور بأكثر القادمين إليكم. والسؤال عنكم كثير، والدعاء لكم غير قليل، أرجو أنه في ذات الله ولجلاله. وما ذكرت من حال أكثر الناس، وأنهم دخلوا الفتنة ولا أحسنوا الخروج منها؛ فالأمر كما وصفت، ولكن ذكر الحافظ الذهبي أن "حسبنا"2 الصائغ قال للإمام أحمد: سألت أبا ثور عن اللفظية فقال: مبتدعة. فغضب أحمد وقال: اللفظية جهمية من أهل الكلام، ولا يفلح أهل الكلام. أو كما قال. فأنكر على أبي ثور التساهل في الإنكار، ورأى أن تعظيم الأمر والنهي يقتضي غير ذلك، من ذكر أوصافهم الخاصة الشنيعة، والغلظة في كل مقام بحسبه، وفتنة البغي فتحت باب الفتنة بالشرك والمكفرات، ووصل دخنها وشررها جمهور من خاض فيها من منتسب إلى العلم وغيره، والخلاص منها عزيز، إلا من تداركه الله ورده إلى الإسلام ومن عليه بالتوبة النصوح وعرف ذنبه.
النصوح وعرف ذنبه. وبلغ سلامنا الأولاد والإخوان، ومن لدينا عبد العزيز، وإخوانه، وإسماعيل وإخوانه، ينهون السلام، وأنت سالم والسلام.
الرسالة الخمسون: إلى محمد بن عمير
الرسالة الخمسون: إلى محمد بن عمير ... "الرسالة الخمسون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن عمير –وفقه الله تعالى لفعل الإيمان والخير-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: وصلتنا خطوطك ومنظومتك، والله –سبحانه وتعالى- المسئول أن يمن علينا وعليك لمعرفة الحق بدليله، والدعوة إلى الله وإلى سبيله. وتعرف أنا رأينا من أجناس المعاندين وأعيان المشركين خلقا كثيرا. ولم نر مثل هذا المفتون2 في جهله وضلالته وشناعة معتقده ومقالته. وقد رأيت كتابه الذي سماه "جلاء الغمة" ورأيت حشوه من مسبة دين الله والصد عن سبيله، والكذب على الله وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه، وأئمة الهدى ما لم نر مثله للمويس وابن فيروز والقباني وأمثالهم ممن تجرد لعداوة الدين ومسبة مشايخ المسلمين. فابتدأ مصنفه بمسبة الشيخ، وأن الله ابتلى به أهل نجد وجزيرة العرب؛ وأنه كفر الأمة عامها وخاصها، وجعل من يبني المساجد ويرفع المنار مشركين أصليين، وأن قوله يتناقض، وأنه أخذ أموال المسلمين وجعلها فيا له ولعياله، وأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب الموتى بطلب الشفاعة وغيرها من المطالب، ليس بشرك، ويستدل على ذلك بأحاديث موضوعة، وحكايات مكذوبة، ويزعم أن من له الشفاعة يوم القيامة، يجوز دعاؤه وطلبه في هذه الحياة الدنيا، ويسوغ التوجه إليه، وأن صاحب البردة قد أحسن
وأصاب ويستدل من جهله على ذلك بأنه رواها علن فلان وفلتان وهيان بن بيان وابن حج وأبي حيان، ونحو ذلك من طرائق الشيطان. ويرد بمثل هذه النصوص السنة والقرآن. نعوذ بالله من الجهل والحمق والخذلان. وكان الرجل من رجال الجاهلية الأولى، لم يأنس بشيء مما جاءت به الأنبياء، ولم يدر ما كان عليه السلف الصالحون والأولياء المتقون، ويحتج على بطلان دعوة شيخنا، وبأن بلاده بلاد مسيلمة، ولم يدر أنه عاب بذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين وسائر البلدان التي سكنها من نازع الله في الربوبية والإلهية. فيا ويحه إن لم تداركه توبة ... لسوف يرى للمجرمين مرافقا وله من ركة القول وفهامة1 الخطاب، وعدم المعرفة بقواعد الإعراب ما يوصل تشبيهه بسائمة الأنعام، وثور الدولاب معدا. حررت إليك بهذه البطاقة لتقرأها على الخاصة والجماعة، وتنذر من سمع شيئا من مقالته أن يغتر بجهالته وضلالته. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وسلام على إخواننا الصادقين، ورحمة الله وبركاته إلى يوم الدين آمين.
الرسالة الحادية والخمسون: إلى خالد آل قطنان ومحمد بن عيسى
الرسالة الحادية والخمسون: إلى خالد آل قطنان ومحمد بن عيسى ... "الرسالة الحادية والخمسون"1 قال جامع الرسائل: وله –قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى خالد آل قطنان ومحمد بن عيسى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم خالد بن إبراهيم آل قطنان ومحمد بن عيسى –سلمهما الله- تولاهما- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين. والخطوط وصلت وصلكم الله ما يرضيه، وأنا حريص على جوابها، لكن ما تيسر لي طارش2 قبل حامل هذا الخط. ومن جهة الفائدة، فأجل الفوائد وأشرفها ما دل عليه الكتاب العزيز، من معرفة الله بصفات كماله ونعت جلاله، وآياته ومخلوقاته، ومعرفة ما يترتب على ذلك من عبادته وطاعته، وتعظيم أمره ونهيه، وأدلة ذلك مبسوطة في كتاب الله. وأكثر الناس ضل عن هذين الأصلين مع أنهما زبدة الرسالة ومقصود النبوة، ومدار الأحكام عليها. والعجب كل العجب، أن حفظة القرآن وجملة الأحاديث والآثار ضلوا عما هو محفوظ في صدورهم، متلو بألسنتهم وطلبوا العلم من غيره، فضلوا وأضلوا. فعليكم بطلب العلم النافع لا سيما ما يسأل عنه العبد في قبره: من ربك وما
دينك ومن نبيك اعرفوا تفاصيل هذا، ومعنى الرب في هذا المحل، وتفقهوا في هذه الأصول قبل أن تزل قدم وتزول. وأما الفرق بين المداراة والمداهنة: فالمداهنة: ترك ما يجب لله، من الغيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك لغرض دنيوي وهوى نفساني؛ كما في حديث: "إن من كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة أنكروها ظاهرا، ثم أصبحوا من الغد يجالسون أهلها، ويواكلونهم ويشاربونهم، كأن لم يفعلوا شيئا بالأمس"1، فالسكوت والمعاشرة مع القدرة على الإنكار، هي عين المداهنة. وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تدم ناقتهم بسيف قدار 2 وأما المداراة: فهي درأ الشيء المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة والإعراض عنه إذا خيف شره أو حصل منه أكبر مما هو ملابس. وفي الحديث: "شركم من اتقاه الناس خشية فحشه"3 وعن عائشة –رضي الله عنها-: "أنه استأذن على النبي صلى الله
عليه وسلم رجل فقال: بئس أخ العشيرة هو، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألان له الكلام؛ فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما قلت. فقال: "إن الله يبغض الفحش والتف حش" 1. والمسالة تحتاج لبسط إذا جاء منيف نملي عليه إن شاء الله ما تيسر. وبلغوا سلامنا إخوانكم، وعيالكم، ومنيف، وابن عجيم. ولدينا الإمام وعيالنا طيبين ويبلغون السلام وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الرسالة الثانية والخمسون: في الكلام على فضل طلب العلم
الرسالة الثانية والخمسون: في الكلام على فضل طلب العلم ... "الرسالة الثانية والخمسون"1 قال جامع الرسائل: بسم الله الرحمن الرحيم كتب أخ لأخيه وهو في الرياض يطلب العلم: يكفيك يا أخي لطلب العلم سورة العصر، فإنها كما قال الشافعي: لو فكر الناس فيها لكفتهم 2. فوقع الخط في يد الشيخ الفاضل العلم الكامل عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله تعالى وعفا/عنهم/3 آمين. فكتب على ظهر الخط: اعلم أن قول الشافعي رحمه الله تعالى فيه دلالة ظاهرة على وجوب طلب العلم مع القدرة، في أي مكان. ومن استدل به على ترك الرحلة، والاكتفاء بمجرد التفكر في هذه السورة، فهو خلي الذهن من الفهم والعلم والفكرة إن كان في قلبه أدنى حياة ونهمة للخير، لأن الله افتتحها بالإقسام بالعصر الذي هو زمن تحصيل الأرباح للمؤمنين، وزمن الشقاء والخسران للمعرضين الضالين. وطل بالعلم ومعرفة ما قصد به العبد من الخطاب الشرعي، أفضل الأرباح وعنوان الفلاح، والإعراض عن ذلك علامة الإفلاس والإبلاس4. فلا ينبغي للعاقل العارف أن يضيع أوقات عمره، وساعات دهره إلا في طلب العلم النافع، والميراث المحمدي، كما قيل في المعنى: شعرا: أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وفي قوله: {إِنَّ الإنسَانَ} 1 تنبيه على أن الجنس كله كذلك، إلا من استثنى الله، وهذا يوجب الهرب والفرار إلى الله بمعرفته وتوحيده والإنابة إليه. ومتى يحصل هذا للجاهل؟!. وفي قوله تعالى: {لَفِي خُسْرٍ} 2 تنبيه على اختصاص خسره بنوع دون نوع، بل هو قد توجه إليه الخسران بحذافيره من جميع جهاته إلا من استثنى، وهذا لا يدخل في المستثنى من زهد في طلب العلم وآثر طنه وأهله على الميراث النبوي، وتجرع كأس الجهل طول حياته، حتى آل من أمره أن يستدل على ترك الطلب بالدليل على وجوب الطلب. وفي قوله تعالى: {إلا الَّذِينَءَامَنُوا} 3 ما يوجب الجد والاجتهاد في معرفة الإيمان والتزامه لينجو من الخسارة، ويلتحق بالأبرار والأخيار. وقد اختلف الناس في الإيمان ومسماه، ولا سبيل إلى معرفة مراد الله به وما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلا بطلب العلم، ومعرفة ما عليه سلف الأمة وأئمتها. ثم له شعب وحقائق وأصول وفروع لا تعرف إلا بطلب العلم، وبذلك الجد والتشمير عن ساق الاجتهاد، ومن آثر الوطن والرفاهية، فإنه كثير من ذلك أو أكثر، بل ربما فاته كله. ولذلك تجد من يرغب عن طلب العلم، عمدته في هذه المباحث تقليد المشائخ والآباء وما كان عليه أهل محلته. وهذا لا يكفي في باب الإيمان ومعرفته. ولو كنت تدري قدر ما قلت لم تبد 4. وفي قوله – تعالى-: {وَعَمٍلُوا الَصَّالحََاتِ} 5، حث وحظ على العلم وطلبه؛
لأن العامل بغير علم وبصيرة، ليس من عمله على طائل، بل ربما جاءه هلاك، والآفة من جهة عمله، كالحاطب في ظلماء، والسالك في عمياء، ولا سبيل إلى العمل إلا بالعلم. ومعرفة صلاح العمل وفساده لا بد منه. ولا يدرك إلا بنور العلم وبصيرته. وقوله –تعالى-: {وَتَوَاصَوْا بِالحَقِ} 1، /يحتاج/2 مريده وفاعله إلى العلم، حاجة وضرورة ظاهرة، لأن الحكم على الشيء بكونه حقا، يتوقف على الدليل والبرهان، وإن كانت "أل" في الحق للاستغراق، فالأمر اعمّ وأجل وأشمل. وأما الصبر، فمعرفة حده وتعريفه، ومعرفة حكمه وجوبا واستحبابا، ومعرة أنواعه وأقسامه ومحله من الإيمان، من أهم ما يجب على العبد ويلزمه. وما أحسن ما قيل: إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل 3 فظهر أ، معنى قول الشافعي رحمه الله تعالى كفتهم في طلبه لا في تركه. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه. وروينا عن الشافعي رحمه الله أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. ونص على ذلك أبو حنيفة رحمه الله. ومن فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة. وكل دليل لم يصحبه دليل القرآن والسنة فهو من طريق الجحيم والشيطان. فالعلم ما قام عليه الدليل النافع، منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم". وقال أبو الفضل البامجي من مشايخ القوم الكبار رحمه الله تعالى: "ذهاب الإسلام من أربعة أصناف: صنف لا يعلمون بما يعملون، وصنف يمنعون الناس من
التعلم والتعليم". وقال عمرو بن عثمان المكي1: "العلم قائد والخوف سائق، والنفس حرون2 بين ذلك جموح خدعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد"3. وقال أبو الوزير رحمه الله تعالى: "عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئا عليّ أشدد من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت". وقال الجنيد 4: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث، لا يتقدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة"5. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. قاله وكتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى، آمين.
الرسالة الثالثة والخمسون: إلى راشد بن عيسى
الرسالة الثالثة والخمسون: إلى راشد بن عيسى ... "الرسالة الثالثة والخمسون"1 قال جامع الرسائل: وله أيضا قدس الله روحه رسالة إلى راشد بن عيسى صاحب البحرين على لسان فيصل: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي، إلى الأخ الشيخ راشد بن عيسى سلمه الله وهداه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالموجب لتحريره ما بلغنا من ظهور البدع في البحرين؛ بدعة الرافضة وبدعة الجهمية، وذلك بسبب تقديم حسن دعبوش الرافضي ونصبه قاضيا في البحرين. ومثلك ما كان يذخر النصح والتبيين لعيال خليفة وغيرهم. وتعرف الحديث الصحيح: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه" رواه ابن عباس 2. وقد علمت أنه –تعالى- أكرم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وخصه بصحبة خير خلقه وخلاصة بريته. وقد أثنى الله على أصحاب نبيه في كتابه. ومدحهم بما حجة ظاهرة على إبطال مذهب من عابهم أو نال منهم وسبهم، كما هو مذهب الرافضة. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية3، وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} الآية 4، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ
اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية1، وكانوا ألفا وأربعمائة، أولهم وأسبقهم إلى هذه البيعة أبو بكر وعمر، وعثمان بايع النبي صلى الله عليه وسلم مع غيبته، وهذا يدل على فضله وثبات إيمانه ويقينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك واستقر عنده، ولذلك بايع له فضرب بيمينه على شماله وقال: "هذه عن عثمان" 2 وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} الآية3، وهذا نص على أن الله رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبلال، من أسبق الناس إلى الإيمان بالله ورسوله. وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 4، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية 5. وقد استدل بهذه الآية بعض أهل العلم على كفر من اغتاض وحنق على أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالرافضة. وقد نص الله تعالى على إيمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} الآية6، وقوله –تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية7، وقال –تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} 8،وإنما عني به أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم 1 ففيه مدحهم وتزكيتهم وفضلهم، لأن اسم الإيمان وإطلاقه في كتاب الله يدل على ذلك. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2 في خطابهم، وذلك في مواضع من كتابه والأحاديث الدالة على فضلهم وسابقتهم أكثر من أن تحصى عموما وخصوصا، كقوله صح عنه صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركوا لي أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه" 3. وقوله: "افترقت بني إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة. قالوا: من هم يا رسول الله. قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" 4 وقال: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" 5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم" 6. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا أصحابي فإنهم خياركم" 7. وقوله: "يأتي على الناس زمان، فغزو فئام من الناس فيقال لهم أفيكم من صاحب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس فيقال لهم أفيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون نعم، فيفتح لهم: كاد بعضهم: حتى يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " 1 2.
الرسالة الرابعة والخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز
الرسالة الرابعة والخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز ... "الرسالة الرابعة والخمسون"1 بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز2 -سلمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل، وما ذكرت من غربة الدين فالأمر أجل وأكبر من الغربة، أكثر أصوله وشعبه معدومة في الخواص، فكيف بالسوقة ومن لا نهمة لهم في معرفة ما جاءت به الرسل؛ كالغيرة لله ولحرماته، وتعظيم أوامره، ومجاهدة أعداء دينه، والبراءة من موالاة المشركين وأعداء رب العالمين، والتحيز إلى أهل الإيمان وموالاتهم ونصرهم ولزوم جماعة المسلمين وغير ذلك من حقائق الدين, وشعب الإيمان؟ وهذه معدومة نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه والتمسك به عند فساد الزمان. وما ذكرت من مسألة الولي، فالمشهور الذي عليه الأكثر، تقديم المكلف الرشيد في تزويج وليته، على من هو أقرب منه ممن لم يبلغ التكليف، ولم يعرف مصالح النكاح. وأما مسألة الله بحق نبيه أو وليه؛ فلا تصدر إلا من جاهل لأحكام الشريعة وما يستحب وما يكره. والأولى تنبيه هذا الخطيب على أن هذا قد منعه أئمة الإسلام، وأهل الحل والعقد في الأحكام. تمت.
الرسالة الخامسة والخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز
الرسالة الخامسة والخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز ... "الرسالة الخامسة والخمسون"1 قال جامع الرسائل: وله قدس الله روحه رسالة إلى حمد بن عبد العزيز أيضا، راعي ثادق. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم المحب حمد بن عبد العزيز –سلمه الله تعالى- وتولاه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: موجب الخط إبلاغ السلام والتحية، والسؤال عن أخلاقك المرضية سلك الله بها منهج الطريقة المحمدية. ولا يخفاك أيها الأخ حال أهل الزمان وغربة الإسلام، وندرة الإيمان بينهم، وقد ابتلوا بما رأيت من الفتن والمحن والتقاطع والتدابر والبغضاء، وصاروا أشتاتا بعد أن كانوا مجتمعين، وشيعا بعد أن كانوا عليه من الإسلام متعصبين، ونسي العلم والتوحيد، واقفرت الديار من الناصح الرشيد، وهدم الإسلام، وخلت الديار من ذوي العلم والأفهام، ولا شيء أقرب إلى الله وسيلة وأرجى من الخيرات فضيلة من الدعوة إلى سبيله وإرشاد عبيده، وردهم إلى الله، وتعليم دينه. وقد أهَّلك الله وله الحمد والمنة لذلك، ووضع لك القبول فيما هنالك، وقد اجتمع الرأي والمشورة على إلزامك بالدعوة إلى الله، والتذكير بدينه، وتنبيه عبيده على أصل دينهم وما يجب فيه، وعلى ما يضاده وينافيه، من المكفرات والشركيات، وتعطيل الشرائع والنبوات. فاغتنم أخي ذلك المشهد، وسارع إليه؛ فإن الجزاء خطير والثواب كبير شهير. وهذا خط الإمام عبد الرحمن، وأوصلك، فلا تجاوب بلا ولن، فإنهما داعية الهم والحزن، ولولا أني أخشى على نفسي من كثير من أهل نجد لتحشمت القيام بذلك ولوجدتني حول المياه وبين المسالك، وإلى الله المشتكى من عدم المعين والنصير، وغلبت الجهل والكثير.
ونسأل الله المعونة على مرضاته وذكره وشكره، وأن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله. قال بعضهم على تفسير قوله تعالى عن المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1 أي مذكرا بالله داعيا إلى سبيله 2. وبلغ سلامنا من يجالسك ويرغب في الخير من جماعتكم، ومن لدينا الإمام عبد/3 /والعيال ينهون السلام. وكاتبه أحمد بن عبيد يبلغ السلام. حرر في 11ج. ونسخَهُ من كتب أحمد حرفا بحرف، سعد بن حمد بن عبد العزيز. وكتبه من خط من سمى نفسه، حرفا بحرف، عبد الله بن إبراهيم الربيعي، وذلك في 3 من جمادى الأول سنة 1346هـ.
الرسالة السادسة الخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز
الرسالة السادسة الخمسون: إلى حمد بن عبد العزيز ... "الرسالة السادسة الخمسون"1 قال جامع الرسائل: وله رحمه الله تعالى رسالة أيضا إلى حمد المذكور: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب حمد بن عبد العزيز سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه سحائب فضله ووالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل وصلك الله ما يرضيه. وسرنا ما ذكرت من سلامتكم وعافيتكم جعلنا الله وإياكم من أهل العافية في الدين والآخرة. والذي أوصيك به القيام لله في هذه الفتنة الشركية، التي أشربتها قلوب أكثر الناس. واذكر قول ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثته: لا ينجو من شرك هذا الشرك إلا من عادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله ... إلى آخره 2. والمرء قد يكره الشرك ويحب التوحيد، ولكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم، فيكون متبعا لهواه داخلا من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركا من التوحيد أصولا وشعبا، لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه مولاه، ولا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسواه. وكل هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله. فلا تذخر المذاكرة بهذا في كل مجلس وكل مجمع. وإن اجتمعت بعبد العزيز بن حسن، فدارجه بالنصيحة عسى أن ينتفع ويقوم لله، ويبلغ عن رسول الله، فيكون لك عونا في ناحيتك.
وأخبار سعود ووروده الخرج، بلغتكم، ولا حصل شيء، والظاهر أنه أجنب. وتفصيل الأخبار من رؤوس القادمين إليكم أبلغ. وبلغ سلامنا العيال والخواص والجماعة، ومن لدينا تركي والعيال ينهون إليك السلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونسخه من أصلها حرفا بحرف سعد بن حمد بن عبد العزيز سلم على من نظر فيها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه ونقله من قلم من سمى نفسه حرفا بحرف عبد الله بن إبراهيم الربيعي، يسلم على من نظر فيها. ونقله من أصله بغير تاريخ. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 1
ثانيا: الرسائل الخاصة بالفتاوى في الفروع
ثانيا: الرسائل الخاصة بالفتاوى في الفروع الرسالة السابعة والخمسون: سؤال من الشيخ لوالده ... الرسالة السابعة والخمسون قال جامع الرسائل: وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه سؤال سأل/عنه/1 والده الشيخ الإمام المبجل الفاضل النبيل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ثم ذيل عليه الشيخ عبد اللطيف ذيلا. وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فإني قد سألت والدي قدس الله روحه، ونور ضريحه عما يفعله بعض الأمراء بنجد، من أخذ ابن العم بجريرة ابن عمه أو غير ابن العم من الأصول والفروع؛ هل له مستند شرعي أو لا مستند له؟. فأجاب –رحمه الله تعالى - بقوله: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: فقد سألني من لا تسعني مخالفته، أن أكتب فيما يفعله الأئمة من أخذ ابن العم وحبسه فيما يأخذه ابن عمه من مال وغيره بغير حق؛ هل له مسوغ في الشرع أم لا؟ فالجواب: اعلم وفقك الله أن أهل نجد قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم، بأسوأ حال. أما الأعراب فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام، لا في العبادات ولا في غيرها من الأحكام، في الدماء ولا في الأموال ولا في النكاح والطلاق والمواريث وغير ذلك. وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى، وتستحل دماءها وأموالها. والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها. فلما منَّ الله بهذه الدعوة، وأقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى
الإسلام، والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم، والتزام ما شرعه؛ فبقوا على جهاد الأعراب، كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا ويُصَلُّوا ويزكُّوا، وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان على من قدروا عليه واستضعفوه، ممن قد دخل فيما قد دخلوا فيه من الإسلام 1. فكل من نهب أو قطع طريقا أو قتل، استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق منهم والحالة هذه؛ فلو تركوا رأسا ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين من حديث: "لا يجني جان إلا على نفسه"2، لضاعت حقوق الناس ودماؤهم وأموالهم، وعطلت القاعدة الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله ويدل عليه عند إمعان النظر. فعلى قدر ما أحدثوا من البغي والظلم والعدوان، والتعاون على ذلك؛ ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن عمه، ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق، والطاعة في المعروف، من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والبراءة من المحاربين وقطع السبيل. ومثل هذه القبائل لما تركوا ما وجب من أمر الشارع، مع القدرة على القيام، ورضوا بمحاربة الله ورسوله، ساغ للأئمة ما ذكر؛ و"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" 3. وأيضا فلو خلوا بين أهل الإسلام، وبين هذا الجاني من أبناء عمهم، لتمكن المظلوم من أخذ حقه، ورد مظلمته؛ فهم قد آووا محدثا، وفي الحديث: "لعن الله من آوى محدثا"4.
وفي الحقيقة هذا إحسان إلى القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم الله؛ وهذا الذي أخذ في ابن عمه، لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه، الذي هو ابن عمه. وبالجملة فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم. وهذا الذي ذكرنا، هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقلت مفسدته. والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء، قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ قال: "أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف: "أو كما قال صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا 1. وعلى أله وأصحابه والتابعين. قلت 2: فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا رحمه الله أن الحكم خاص بأهل القوة والنصرة، بخلاف المستضعف الذي لا /قدرة/3 له ولا جناية، ولا مصلحة في حبسه، ولا يُؤْبَه له عند قبيلته؛ فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المصالح ودفع المفاسد. قال جامع الرسائل: أملاه شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه ونور ضريحه. ثم ذيل على ذلك ذيلا، فقال رحمه الله: ما قاله شيخنا ووالدنا حفظه الله في أسر ابن العم للمصلحة، فهو الحكم العدل،
وهو الذي عليه أكثر السلف. فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه، وامتنع بنفسه، وتُرك من يؤويه وينصره، صار قوة له، وإعانة له على ظلمه. فإن أُخِذَ بجريرته وأسر فيه، حصل له ردع وامتناع. وهذا يعلم بالاضطرار. قال الخطابي1 في شرح سنن أبي داود، في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم: حدثنا سليمان بن حرب2 ومحمد بن عيسى3، قالا: حدثنا حماد4، عن أيوب5، عن أبي قلابة6، عن أبي المهلب7، عن عمران بن حصين8 قال:
كانت العضباء لرجل من عقيل، وكانت من سوابق الحاج 1، قال: فأسر، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: "نأخذك/2 بجريرة حلفائك/ ثقيف/3 " وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ... "4. قال الشيخ 5: "قوله: "آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف" اختلفوا في تأويله: فقال بعضهم: هذا يدل على/ أنهم كانوا عاقدوا بني عقيل /6 أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل؛ /فأُخِذَ/7 بجريرتهم. وقال آخرون: هذا الرجل كافر لا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله؛ فإن جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره، ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره. ويحكى معنى هذا عن الشافعي. وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون في الكلام إضمار؛ يريد: إنك إنما أُخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين الذين أسرتهما ثقيف. ألا تراه يقول: فقدي
الرَّجُل بعد بالرجلين، انتهى1. فتأمل هذا، فإنه يُدلك على صواب الحكم. والآية، وهي قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، ليس فيها ما يدفع هذا، ولا يرده، والله الموفق للصواب والله أعلم بمواقع الخطاب. وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. قال الناسخ: أملاه شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله – تعالى - وعفا عنهم.
الرسالة الثامنة والخمسون: إلى زيد بن محمد
الرسالة الثامنة والخمسون: إلى زيد بن محمد ... الرسالة الثامنة والخمسون قال جامع الرسائل: وله أيضا –رحمه الله وعفا عنه بمنه وكرمه - رسالة إلى زيد بن محمد 1، وقد سأله عن حديث زينب 2 - رضي الله عنها - وما وجه اختصاص النساء المهاجرات بدور المهاجرين؟ فأجاب –رحمه الله تعالى/وعفا عنه بمنه-/3: بسم الله الرحمن الرحيم /وبه نستعين/4 من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ زيد بن محمد زاده الله من العلم والإيمان، وألبسه ملابس التقوى والإحسان. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله هو، وهو للحمد أهل. والخط وصل وصلكم الله ما يرضيه وسرنا ما ذكرته، والحمد لله على التيسير
والتسديد. ومن جهة كتاب الطرق، فالوالد أعاره محمد بن فيصل 1 قبل وصول خطكم، وحين فراغه نبعث به إليك إن شاء الله. وأما السؤال عن حديث زينب –رضي الله عنها-؛ فاعلم أن الحديث قد دل بمنطوقه على أن امرأة عثمان بن/عفان/2 ونساء من المهاجرات اشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيق المنازل وإخراجهن منها، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تورث دور المهاجرين النساء المهاجرات و "تورث" بضم التاء وفتح الواو وتشديد الراء معناه: أن تجعل الدور لهن ميراثا. فمات عبد الله بن مسعود، فورثت امرأته داره في المدينة، أخذا بهذا الحديث. هذا معناه. والناس مختلفون في وجه اختصاص النساء بذلك؛ فقال بعضهم 3: يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن فحاز لهن الدور، لما رأى من المصلحة 4. وهذا مختص/ بالمهاجرات/5 لاختصاصهن بعلة الحكم 6، هذا على وجه. وقد ألغز في ذلك بعض الأفاضل فقال: سَلم على مفتي الأنام وقل له ... هذا سؤال في الفرائض مبهم قوم إذا ماتوا يحوز ديارهم ... زوجاتهم ولغيرهم لا تقسم وبقية المال الذي قد خلفوا ... يجري على أهل التوارث منهم وقيل هو أمر منه صلى الله عليه وسلم باختصاص الزوجات المهاجرات سكنى دور
أزواجهم، مدة حياتهن على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحجره في أيدي نسائه بعده، لا على سبيل الميراث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن لا نورث؛ ما تركناه صدقة"1. لكن يحكى عن سفيان بن عيينة2 أنه قال: نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات، لأنهن لاينكحن بعده، وللمعتدات السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن، لا تملكا3. ويشبه أن يكون أمره بذلك قبل نزول آية الفرائض4. فقد كانت الوصية للوالدين والأقربين مفروضة5. وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة بينهم، فنسخ بآية الفريضة، وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} 6 وعمل الناس يدل على هذا ويرجحه. وأما استدلال أبي داود في باب إحياء الموات 7 فتأوله على وجهين:
أحدهما: أنه إنما أقطعهم العرصة ليبنوا فيها الدور، وعليه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة. وهذا الذي يظهر من /صنيع/1 أبي داود. والوجه الثاني: إنهم إنما أقطعوا الدور عارية 2. ولهذا ذهب أبو إسحاق المروزي 3؛ /ويرشح/4 ذلك أن أقطاع الإرفاق وقع في المقاعد في الأسواق، والمنازل في الأسفار، وهي يُرتَفق بها ولا تُمَلك. ومن هنا يحصل احتمال رابع في معنى اختصاص النساء بالدور دون سائر الورثة، وتقريره على هذا الوجه أن يقال: الدور لم تملك بالإقطاع، بل هي عارية في يد أربابها، وبعد هلاكهم يكون أمرها إلى الإمام، يُسكنها من شاء بحسب المصلحة؛ فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم باختصاص المهاجرات بها دون سائر الورثة. وقول بعضهم إن الميراث لا يجري إلا فيما كان/ المورث/5 مالكا /له/6، فيه نظر ظاهر، والله أعلم.
الرسالة التاسعة والخمسون: إلى عيسى بن إبراهيم
الرسالة التاسعة والخمسون: إلى عيسى بن إبراهيم ... الرسالة التاسعة والخمسون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه رسالة إلى عيسى بن إبراهيم، جواب لأربع مسائل: الأولى: عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية 2. الثانية: الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل، وأيهما أصح. الثالثة: عن قول شارح الزاد 3: "غير تراب ونحوه"4. الرابعة: عن قول شارح الزاد أيضا –نقلا عن النظم: "وتحرم القراءة في الحش 5 وسطحه 6، وهو متوجه على حاجته". ثم إن الشيخ استشعر منه أنه يشير إلى رسم فائدة زائدة. فأجاب بما يشفي العليل، ويروي الغليل، ويهدي إلى أقوم منهج وسبيل، بأوضح عبارة، وأبين دليل، فرحمه الله من إمام؛ بالسنة ما أعلمه، ويعلم التفسير ما أفهمه، وبالفقه وغيره من العلوم ما أحكمه، فلقد فاق بذلك على أقرانه، وكان وحيد عصره وفريد زمانه، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب عيسى بن إبراهيم –سلك الله بي وبه صراطه المستقيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل، فسرني إنباؤه عن سلامة تلك الأحوال، والذوات لا زالت سالمة من الآفات، وما أشرت إليه قد علم. وجواب/ مسائلك/1 هذا هو قد رُسم، نسأل الله التوفيق والإصابة، وحسن القصد والإنابة. المسألة الأولى فأما قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية 2 فالذي يظهر: مشروعية بر الكافر أن هذا إخبار من الله جل ذكره لعباده المؤمنين بأنه لم ينههم عن البر والعدل والإنصاف في معاملة أي كافر كان من أهل الملل، إذا كان لم يقاتلهم في الدين، ولم يخرجهم من ديارهم 3. إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوب محبوب شرعا، ولهذا علل هذا الحكم بقوله: {إنَّ اللَّه يُحِبُ المُقسِطينَ} 4. وأما قوله: {أَن تَبَرُوهُم} ، فقد قال بعض المعربين: إنه بدل من الموصول /بدل/5 اشتمال، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر، والتقدير: لا ينهاكم الله عن بر من لم يقاتل في الدين 6. ولو قال هذا البعض أنه بدل بداءٍ، لكان أظهر؛ إذ لا يظهر
الاشتمال بأنواعه السبعة هنا. والأظهر عندي، أن لا بدل مطلقا، وأن الموصول معمول للمصدر المتأخر المأخوذ من "أن" وما دخلت عليه 1. فالموصول إذاً في محل نصب بالمصدر المسبوك، وتأخر العامل لا يضر. وأما على البداية فهو في محل جر. وقوله: {إنَّ اللَّه يُحبُ المُقسِطيِنَ} 2. أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال؛ إذ المقام مظنة لغلط الأكثر، ولتوهم خلاف المراد، فاقتضى التأكيد والتوفية بالأداة، كما يعلم من فن المعاني. وقوله: {فيِ الدَيِنِ} 3 الفاء سببية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت النار امرأة في هرة ... " الحديث 4. وسبب النزول: ما رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية 5، حدثنا هشام بن عروة 6
عن فاطمة بنت المنذر1. عن أسماء2 بنت أبي بكر –رضي الله عنهما - قالت: قدمت/ عليَّ/3 أمي وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها، قال: "نعم صلي أمك" 4. وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم5. وفي بعض الطرق أنها جاءت لابنتها بهدية، ضباب6 وأقط7 وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها، وتدخل البيت حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية8. وأما قول ابن زيد9
وقتادة1 أنها منسوخة، فلا يظهر؛ لوجوه: منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال2، ممكن غير متعذر، ودعوى النسخ يصار إليها عند التعذر وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل. ومنها: أن السنة متظاهرة بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ؛ لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في/كلاميهما/3 بمعنى التخصيص، وهو متجه على اصطلاح بعض السلف. ولا شك أن القتال بالسيف، وتوابعه من العقوبات والغلظة في محلها، مخصوص من هذا العموم4. ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي5: أنه لما ذكر –تعالى - نهيه عبادة المؤمنين عن اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء، يلقون إليهم بالمودة؛ ثم ذكر حال خليله من آمن معه،
في قولهم وبراءتهم من قومهم المشركين حتى يؤمنوا، وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة، خيف أن يتوهم أحد أو يظن أن البر والعدل داخلان ضمن ما نهى عنه من الموالاة، وأمر به/ من البراءة، فناسب/1 أن يدفع هذا بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} الآية 2. وأما المسألة الثانية: في الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل: فاعلم أن المرفوع ما أضيف 3 إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو حكما 4. واشترط الخطيب البغدادي 5 كون المضيف صحابيا 6، والجمهور على خلافه. بيان الفرق بين الحديث المرفوع والمسند والمتصل والمسند: هو المرفوع 7، فهو مرادف له. وقد يكون متصلا، كمالك عن نافع 8 عن ابن عمر عن النبي صلى الله
عليه وسلم. وقد يكون منقطعا، كمالك عن الزهري 1 عن ابن عباس 2 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الزهري لم يسمع من ابن عباس، فهو مسند منقطع. وقد صرح ابن عبد البر 3 - رحمه الله - بترادفهما 4، والانقطاع يدخل عليهما جميعا. وقيل إن المسند: ما وصل إسناده ولو موقوفا عليه 5. فالمسند والمتصل سواء؛ إذ هو بعينه هو تعريف المتصل 6. فعلى هذا، يفارق المرفوع بقولنا: ولو موقوفا؛ فبينه 7 وبين المرفوع على هذا القول عموم وخصوص وجهي، ويجتمعان فيما اتصل سنده ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وينفرد المرفوع في المنقطع المرفوع، وينفرد المسند في الموقوف، والأكثر على التعريف الأول 8. والعموم والخصوص الوجهي، كذلك يجري أيضا بين المتصل والمرفوع،
كما يُعلم مما تقدم 1. وأما قولك: أيهما أصح؟ فاعلم أن الصحة غير راجعة لهذه الأوصاف باعتبار حقيقتها، وإنما الصحة والحسن والضعف، أوصاف تدخل على كل من المرفوع والمسند والمتصل؛ فمتى وُجدت حُكم بمقتضاها لموصوفها، لكن المرفوع أولى من المتصل إذا لم يرفع، ومن المسند على القول الثاني 2، إذا لم يرفع أيضا، لا من حيث الصحة 3، بل من حيث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الصحة، فقد ينفرد بها بعض هذه الأقسام، لا من حيث ذاته. والمرفوع إذا لم يبلغ درجته الصحة، احتُج به في الشواهد والمتابعات كما عليه جمع. المسألة الثالثة: وأما الجواب عن قول شارح الزاد 4: "غير تراب ونحوه" 5: في اصطلاحات فقهية فاعلم أن نحو التراب هنا: كل ما كان من الأجزاء الأرضية؛ كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كل ما لا يدفع النجاسة عن نفسه، فإنه لو أضيف أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس، لم يطهر بإضافته إليه، /لكون/6 المضاف لا
يدفع عن نفسه، فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين 1. وأما نحو التراب في باب التيمم، فهو كل ما كان له غبار يعلق باليد 2. وفي باب إزالة النجاسة، هو كل جامد منق كالأشنان والصابون والسدر؛ فيفسر النحو في كل مقام بما يناسبه. أما المسألة الرابعة: في قول شارح الزاد نقلا عن النظم 3: "وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته" 4. فاعلم أن قوله: "وهو متجه": من كلام صاحب الفروع، ومعناه: أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالسا على حاجته، بهذا القيد 5. فافهم ذلك وتفطن. والكلام في التحريم والكراهة وبيان المختار يستدعي طولا، لا يليق باختصار هذه الأسطار. ثم إنك تشير إلى رسم فائدة زائدة وقد وقع نظري عند إملائي هذا، على عبارة ابن الجوزي، في السر المصون 6، ونصها: نصيحة في إثار الآخرة والعلم والعمل" من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبة في علم وعمل، زادت المرتبة في دار الجزاء. انتهب الزمان ولم يضيع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها. ومن وُفق لهذا فليبتكر زمانه بالعلم، وليصابر كل محنة وفقر، إلى أن يحصل
له ما يريد، وليكن مخلصا في طلب العلم، عاملا به حافظا له. فأما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان، وخسران الجزاء، / وأما أن يفوته/1 العمل به، فذاك يقوي الحجة عليه، والعقاب له. وأما جمعه من غير حفظن، فإن العلم ما كان في الصدور لا في القمطر 2. ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل، فليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن، خصوصا العوام، وليصن نفسه عن المشي في الأسواق، فربما وقع البصر على فتنة، وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس. ومن علم أنه مار إلى الله عز وجل، وإلى العيش معه وعنده، وأن الدنيا أيام سفر؛ صبر على تفث السفر ووسخه، وأن الراحة لا تنال بالراحة 3، فمن زرع حصد ومن جد وجد. خاضوا في أمر الهوى في فنون ... فزادهم في اسم هواهم حرف نون أحسن الله لي ولك العواقب، ونفعنا لنيل أرفع الدرجات والمراتب. هذا ومن لدينا الوالد حفظه الله./والشيخ علي، وبقية الحمولة، والطلبة والإخوان بخير، وينهون السلام. وبلغ سلامنا الشيخ عبد الملك، وحسين وصالح والأخ سليمان ورشيد وفرحان، وبقية الإخوان لا سيما عبد العزيز بن /حسن/4 والشيخ حمد بن علي بن عتيق، ومن عز عليك من الإخوان. وكاتبه من في ممليه إبراهيم بن حسن
الضبيب يبلغ الجميع السلام/1./ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/2.
الرسالة الستون: جواب عن مسائل فقهية سئل عنها
الرسالة الستون: جواب عن مسائل فقهية سئل عنها ... الرسالة الستون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا/ قدس الله روحه ونور ضريحه./2 جواب مسائل سئل عنها، وهذا نصها: المسألة الأولى: رجل أعطى رجلا دراهم مضاربة، يسلمها في الثمرة، فأسلمها في طعام إلى الحصاد، وبعد ذلك احتاج صاحب الدراهم، وقال لصاحبه: رد علي الدراهم، ويصير لك الطعام المؤجل. الحمد لله، إن هذا بيع لدين السلم قبل قبضه. وفي الحديث الذي رواه الجماعة: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" 3. المسألة الثانية: في الجنب إذا أصابه المطر، حتى غسل بدنه وأنقاه، هل يرفع حدثه؟ الجواب: الحمد لله، نعم يرتفع إذا نوى رفع الحدث عند إصابة المطر، لحديث: " إنما الأعمال بالنيات" 4.
المسألة الثالثة فيما ذبح إلى غير القبلة عمدا وسهوا؟ فالجواب: إن استقبال القبلة عند الذبح ليس بشرط ولا واجب، وإنما استحبه بعضهم، ومن تركه فلا حرج عليه. المسألة الرابعة فيمن يقول: إذا أأكَلَته يد، أو شهق، أنه يأكل كذا وكذا، وإذا أكله عقب قدمه قال: إنه يُحكى فيها؛ هل هذا مشرك /أم/1 لا؟ الجواب: الاستدلال يأكل اليد والشهيق، أو أكله العقب على ما ذكر، جهل وضلال من أوضاع الجهلة الضالين. وبعض الرافضة 2 يزعم أن اختلاج الأعضاء يدل على بعض الحوادث، وينسبونه إلى أبي جعفر الباقر 3. وقد ذكر أهل اعلم أنه كذب على جعفر، وأنه من أوضاع الرافضة
المشركين الغالين في أهل البيت. سلام على أهل بيت/ رسول/1 الله أجمعين/2. المسألة الخامسة رجل أبقى عند صاحبه سلعة، فقال: بعها بعشرة، /فباعها/ 3 بزيادة على العشرة، هل يحل للبائع أخذ الزيادة؟ فالجواب: لا يحل له ذلك، والزيادة لصاحب السلعة، والمودع أمين ليست من ضمانه، /و/4 لا يستحق شيئا من الزيادة. المسألة السادسة رجل له مائة صاع دين سلم، وارتهن نخلا وأرضا وغير ذلك، فلما مضى/أكثر/5 الأجل اتفق الطالب والمطلوب على تقويم ذلك الرهن بثمن حاضر، وحسبوا الطعام المؤجل بسعر وقته بدراهم على صاحب الرهن؟ الجواب: هذا لا يجوز، لأنه اعتاض6 دراهم زائدة على رأس ماله، فهذا عين الربا، وليس له إلا ما/أسلم/7 فيه؛ أو رأس ماله، إن اتفقا على فسخ العقد. وأما الربح والتقويم بسعر الوقت، فهذا لا يصح. المسألة السابعة: قول: يا سيدي ومولاي؟ فالجواب: هذه الألفاظ تستعملها العرب على معاني: كسادة الرئاسة والشرف،
والمولى يطلق على السيد 1 /والحليف/2 والمعتق 3 والموالي بالنصرة 4 والمحبة والعشق؛ وأطلق على الزوج؛ كما قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} 5. فإطلاق هذه الألفاظ على هذا الوجه معروف لا ينكر. وفي السنة من ذلك كثير 6. وأما إطلاق ذلك في المعاني المحدثة، كمن يدعي أن السيد هو الذي يُدعى ويعُظم، والولي هو الذي يُبغى منه النصر والشفاعة 7، ونحو ذلك من المقاصد الخبيثة. فهذا لا يجوز، بل هو من أقسام الشرك. المسألة الثامنة قول الرجل لولده أو غيره: طعامك أو شرابك أو مالك عليّ حرام؟ فالجواب: أن تحريم ما أحل الله لا يُحرم بنص القرآن، كما في سورة التحريم 8. واختلفوا هل عليه كفارة يمين، أو لا؟ وكثير من أهل العلم يرى أن عليه كفارة
يمين 1. المسألة التاسعة: قبلة اليد الرجل، هل هي جائزة أولا؟ فالجواب: أن بعض أهل العلم منعها وشدد فيها 2. وبعضهم أجازها لمثل الوالد، وإمام العدل على سبيل التكرمة 3، ولا يتخذ ذلك
/ديدناً/1 دائما، بل في بعض الأحوال على ما ورد. المسألة العاشرة الرقية بالقرآن، إذا كان الراقي يبصق بريقه. الجواب: هذا جائز لا بأس به، وريق الراقي على هذه الصفة، لا بأس به، بل يستحب الاستشفاء به، كما في حديث الرقية بالفاتحة 2.
وأما ما يفعله بعض الناس مع من يقدم من المدينة من الاستشفاء بريقهم على الجراح، فهذا لا أصل له، ولم يجيء فيمن أتى من المدينة خصوصية توجب هذا؛ والحاج أفضل منه 1. ولا يعرف أن أحدا من أهل العلم فعل هذا مع الحاج 2، وإنما الوارد الاستشفاء بريق المسلم مع تربة الأرض، إذا سمى الله في ذلك، كما في حديث: "بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا" 3. فهذه الرقية من المسلم الموحد على هذا الوجه، قد جاءت بها الأحاديث 4.
وأما مسألة: المرأة التي حملت، وصار الحمل سقطا يرتفع وينزل، وأخذ /ثلاث/1 عشرة سنة ... إلى آخر السؤال: فاعلم أنه لا حمل بعد أربع سنين على المشهور عند العلماء 2 وهذه الحركة عرضت بعد الموت. وإذا مات الحمل في بطنها فم يثبت لها أحكام الحمل. فتعتد عدة المتوفى عنها 3، ولا يُلتفت لهذا الحمل؛ فإنه لا حكم له 4. وأما/مسألة/5 الكاهن: إذا سأله عن دواء مباح، والسائل والمريض مسلمان؟
فالجواب: إن كان خبر الكاهن بالدواء ومنافعه، من طريق الكهانة، فلا يحل تصديقه، وهو داخل في الوعيد 1، وإن كان من جهة الطب، ومعرفة منافع الأدوية، فلا يدخل في مسألة الكاهن. وأما من قال لصاحب السلعة: إن خليت عني من قيمة ما/يشتري/2 به رفاقتي، أو حصل منك ثمن قهوة، جبرتهم على الشراء منك. فهذا لا يحل، وجبرهم لا يجوز؛ ولا يستحق هذا شيئا، إلا أن يكون سمسارا يمشي بينهما على العادة المعروفة فيستحق ما جرت به العادة للدلال. وأما مسألة من يقول في الرياح: /هذه/3 هبوب الثريا 4/وهذه/5 هبوب التُّوَيبع 6 وهذه هبوب الجوزاء 7: فهذا لا يجوز؛ شدد في المنع منه مالك وغيره 8. ولا يجوز إضافة هذه الأشياء إلى النجوم.
قال قتادة 1: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف بما لا علم له به" 2. وأما من صلى وعلى رأسه عمامة حرير: فالمشهور من مذهب الحنابلة، صحة الصلاة 3، بخلاف ما إذا ستر عورته بحرير، فإنها لا تصح 4؛ وقال بعض أهل العلم بعدم الصحة. وأما أهل البدع: فمنهم الخوارج 5 الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذكر أنواع من أهل البدع وقاتلوه، واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم، متأولين ذلك ذلك. أشهر أقوالهم: تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب، فهم يكفرون أهل الكبائر
والمذنبين من هذه الأمة 1. وقد قاتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وصحت/ فيهم/2 الأحاديث، روى مسلم منها عشرة أحاديث 3. وفيها الأمر بقتالهم، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وخير القتلى من قتلوه، وأنهم يقاتلون. أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. وفي الأحاديث: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم/ أجرا/4 لمن قتلهم عند الله" 5. ومن أهل البدع: الرافضة 6 الذين يتبرءون من أبي بكر وعمر 7!! ويدعون موالاة أهل البيت، وهم من أكذب الخلق وأضلهم وأبعدهم عن موالاة أهل البيت وعباد الله الصالحين، وزادوا
في رفضهم حتى سبوا أم المؤمنين /عائشة/1 - رضي الله عنها وأكرمها - واستباحوا شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا نفرا يسيرا 2. وأضافوا إلى هذا المذهب، مذهب الغالية، الذين عبدوا المشايخ والأئمة وعظموهم بعبادتهم، وصرفوا لهم ما يستحقه سبحانه، ويختص به، من التأله والتعظيم والإنابة، والخوف والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات 3. وغلاتهم يرون أن عليا ينزل في آخر الزمان 4. ومنهم من يقول: غلط الأمين وكانت النبوة لعلي رضي الله عنه 5. وهم جهمية في باب صفات الله 6
زنادقة منافقون في باب أمره وشرعه 1. ومن أهل البدع: القدرية؛ الذين يكذبون بالقدر وبما سبق في أم الكتاب، وجرى به القلم. ومنهم القدرية المجبرة 2، الذين يقولون: إن العبد مجبور، لا فعل له ولا اختيار 3. ومن أهل البدع: المرجئة 4؛ الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق 5، وإنه شيء واحد لا يتفاضل 6.
ومن أهل البدع وأكفرهم: الجهمية 1 الذين ينكرون صفات الله التي جاء بها القرآن والسنة، ويؤولون ذلك؛ كالاستواء 2، والكلام 3، والمجيء والنزول 4، والغضب 5، والرضى 6، والحب 7، والكراهة وغير ذلك من الصفات الذاتية 8
والفعلية. ومن أهل البدع الضالين: أصحاب الطرائق المحدثة؛ كالرفاعية 1، والقادرية 2، والبيومية 3، وأمثالهم كالنقشبندية 4، وكل من أحدث بدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة. ومن فاتته الجمعة: وقد صلاها الإمام قبل الزوال 5، فيصليها ظهرا بعد
الزوال 1. وأما صلاة الفذ ركعة خلف الصف: فمقتضى كلام الفقهاء، أنه يستأنف الصلاة ولا يبني 2. ويدخل في ذلك تكبيرة الإحرام. والله –سبحانه وتعالى - أعلم.
الرسالة الحادية والستون: في مسألة الرهن
الرسالة الحادية والستون: في مسألة الرهن ... الرسالة الحادية والستون1 قال جامع الرسائل: وله –قدس الله روحه، ونور ضريحه - في مسألة الرهن 2 ما نصه: حاصل ما ذكره العلماء في صحة الرهن وفساده ولزومه وعدمه. اتفقوا على أن من شرطه: أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن 3. وذهب مالك إلى أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع /البيعات/4 إلا الصرف 5 ورأس مال السَّلم 6 المتعلق
بالذمة 1، وعنده يجوز الرهن في السلم وفي القرض 2 وفي الغصب وفي قيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال وفي الجراح التي لا قود فيها. ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة 3. /واشترط/4 الشافعية في/المرهون فيه/5 ثلاثة شروط: أحدها: /أن يكون دينا/6، [فإنه لا يرهن في عين] 7
الثاني: أن يكون واجبا، فلا يرهن قبل الوجوب 1؛ مثل أن يسترهنه فيما استقرضه 2. ويجوز عند مالك 3. الثالث: أن لا يكون لزومه متوقعا 4. وأما/ شروط/5 الرهن: فالمنطوق بها في الشرع ضربان: شروط الصحة، وشروط الفساد: وأما شروط الصحة: فشرطان: أحدهما متفق عليه في الجملة، [ومختلف في الجهة التي هو شرط وهو القبض] 6، والثاني مختلف في اشتراطه 7. أما القبض 8: فاتفقوا في الجملة على أنه شرط في الرهن 9؛ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ
مَقْبُوضةٌ} 1. واختلفوا، هل هو شرط للتمام أو شرط للصحة؟ وفائدة/ الفرق/2: أن من قال: شرط للصحة، قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن 3. وقال مالك: القبض شرط لتمام الرهن، قال: يلزم بالعقد 4، ويجبر الراهن الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر، إلى أنه من شروط الصحة 5. وعمدتهم: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضةٌ} 6. وعند مالك أن/من شروط/7 صحة الرهن استدامة القبض 8، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن، بعارية أو وديعة أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم 9.
وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة 1. فمالك عمّ الشرط على/ ظاهر/2 ما لزم من قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبوُضةٌ} 3، وشرط وجود القبض والاستدامة 4. والشافعي يقول: إذا وُجد القبض، فقد صح الرهن والعقد، فلا يحل ذلك بإعارته ولا غير ذلك من التصرف 5. وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد، أن يشترط الاستدامة، ومن لم /يشترطه/6 في الصحة، أن لا يشترط الاستدامة 7. وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو: أن يرهن الرجل رهنا، على أنه إن جاءه بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له. فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ 8، وأنه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" 9.
ومن مسائل هذا الباب المشهورة: اختلافهم في المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، هل يدخل في الرهن أو لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل، لا يدخل شيء منه في الرهن –أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن - وهذا قول الشافعي 1. وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل، وبه قال أبو حنيفة والثوري 2. وأما مالك، ففرق فقال: ما كان –من نماء الرهن المنفصل - على خلقه المرهون وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية. وأما ما لم يكن على خلقته، فإنه لا يدخل في الرهن، متولدا عنه كثمرة النخل، أو غير متولد ككراء الدار، وخراج الغلام 3، انتهى ما لخصته 4. فتبين من هذا، أن ما اعتمده القاضي حسين 5 لنفسه من دعواه أنه 6 أحق بالثمرة
من سائر الغرماء، لكونها أو أصلها رهنا له، فلا يتمشى على قول أحد من العلماء. فإن الشافعي يشترط لصحة الرهن ولزومه، القبض حال العقد، وفي واقعة القاضي المذكور لا قبض 1 فلا يصح الرهن ولا يلزم. وأما مالك فيصح الرهن بالعقد، لكن لا يتم ولا يلزم إلا بالقبض والاستدامة عنده2. وهذا هو الصحيح المعتمد في مذهب الإمام أحمد 3. ومذهب مالك أن الثمرة الحادثة في يد المرتهن، لا تتبع 4، وفي هذه القضية التي وقعت من قاضي الحريق، إنما حدثت الثمرة فيما لم يقبض، فتكون الثمرة لا يصح رهنها على قول مالك، وعلى قوله وقول الجمهور، ليس صحيحا في الأصل ولا في الثمرة. وعلى كل حال، فهذا الرهن، إما صحيح غير لازم، فيكون أسوة الغرماء، أو يكون/ فاسدا/5، وعلى كلا الحالتين، فلا يختص بشيء من ثمرة/ المدين/6، أعاذه الله من التدحمل 7 والتدعثر 8. آخرها. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على/ عبده ورسوله/9 محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الثانية والستون: أجوبة على مسائل متعددة
الرسالة الثانية والستون: أجوبة على مسائل متعددة ... الرسالة الثانية والستون1 قال جامع الرسائل: وله –رحمه الله وعفا عنه - رسالة إلى إبراهيم بن عبد الله بن عمار، جوابا لسبع مسائل: الأولى: عن رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول. الثانية: عن صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون منظره غيم أو قتر. الثالثة: هل القبض والاستدامة شرط لزومه وصحته أو لا؟ الرابعة: عن الحكم في قطع يد السارق. الخامسة: عن الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه. السادسة: عن الرفق على الضعيف. السابعة: عن عاق والديه، هل عليه حد مقدر؟ فأجابه –رحمه الله - عن مسائله، بأصح عبارة وأوجزها، وقرر في مسألة صيام /يوم/2 الشك، ما عليه المحققون، وما تضمنته الأحاديث الصحيحة، بخلاف ما اعتمده المقلدون، وأن من صامه من السلف، لم يوجبه، ولم يأمر به الناس، ولم يوقع بمن تركه العقوبات، كما فعله أهل الجهل والإفلاس، فإنهم في هذه الأزمان يوجبونه، ويأمرون الناس بالتزامه، ومنهم من ضرب وأجلى من نهى عن صيامه. فيا ليت شعري أين وجدوا ذلك؟ وأي الكتب اعتمده أولئك؟ نعم، قد وجدوا في بعض الروايات الوجوب/ أو الاستحباب/3، فأين وجدوا الضرب والجلاء
والسباب؟ وإذا قيل لأحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال المذهب كذا وكذا، /وبه/1 قال الإمام المعظم 2. فيا ليت شعري، كيف ساغ لهم تقليده في هذه وغيرها من المسائل؟ ولم يسغ لهم تقليده –رحمه الله - في قوله: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان 3، والله –تعالى - يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك 5.
وإذا عرفت هذا، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، كما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" 1. والمقصود من هذا الكلام، إيقاع بعضهم بمن نهى عن صيامه أنواع العقوبات، وردهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبعض هذه الروايات، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم إبراهيم بن عبد الله بن عمار، سلمه الله تعالى، وصرف عنا وعنه عذاب النار. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فوصل خط المسائل. المسألة الأولى /و/2 الجواب عن مسألة رفع اليدين إذا قام في التشهد الأول، فهو في هذا الموضع ثابت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر 3، وثابت أيضا من حديث علي
ابن أبي طالب –رضي الله عنه - 1. عند الإمام أحمد، خرجه في المسند، وكذلك هو في سنن أبي داود والنسائي 2 وابن ماجه 3، وهو أصح الروايتين عند أصحاب الإمام أحمد. "المسألة الثانية" وأما مسألة السنة لمن يصوم الثلاثين من شعبان، إذا حال ليلة الثلاثين دون الهلال غيم أو قتر، فالقائلون يصومه وجوبا أو استحبابا، يجزيه عندهم إذا نواه من 4. والصحيح الذي عليه المحققون، أنه لا يجب صومه، ولا يؤمر به 5، ومن صامه من السلف لم يوجبه؛ والحجة لمن منع صومه مطلقا، /لما/6 في صحيح البخاري، أنه قال صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة
شعبان ثلاثين يوما" 1، انتهى. وليس لأحد بلغَته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح عنده الحديث، أن يعدل إلى غيره، لرأي أحد من الناس كائنا من كان. أقول 2: وله في هذه المسألة كلام مبسوط، رد على عثمان بن منصور 3، أوضح فيه كلام الأئمة، وجلي غياهب 4 الشبه/ فيه/5 عن الأمة، فأبصروا بنور الله حقائق التحقيق، ومدارك الأحكام، وانجلى عن بصائرهم ذلك القتر والقتام، وذكر فيه عن الإمام أحمد سبع روايات، أوردها بعض الأصحاب، والصحيح منها الاستحباب من غير شك ولا ارتياب. فراجعه إن كنت مشتاقا إلى ذلك التحقيق، واسم يهمَّتك إلى معالم ذلك المهيع والطريق. "المسألة الثالثة" هل القبض والاستدامة شرط للزوم وصحته أولا؟ /ثمّ/6 قال –رحمه الله-: وأما مسألة الرهن، فاعلم أن القبض والاستدامة، شرط للزومه، لا لصحته، فيصح ولو لم يحصل قبض ولا استدامة 7. لكن لو تصرف الراهن أو ببيع أو هبة، صح ذلك، بخلاف المقبوض المستدام، فلا يتصرف فيه إلا بإذن المرتهن، ولمصلحة وفائه 8.
"المسألة الرابعة: عن الحكم في قطع يد السارق" وأما السارق فلا تقطع يده إلا بإذن الإمام أو نائبه في الحكم. "المسالة الخامسة: عن الطلاق في الحيض والطهر الذي جامعها فيه". وأما مسألة الطلاق في الحيض، وفي الطهر الذي جامعها فيه، فمسألة معروفة مشهورة، وجمهور أهل العلم يوقعون الطلاق فيها 1، ويرون أنه طلاق بدعة، محرم فاعله مستهزئ بآيات الله. "المسألة السادسة: الوقف على الضعيف" وأما الوقف على الضعيف، فكثير من الناس يستعمل الضعيف بمعنى الفقير، والفقير عندهم من لا يجد كفاية سنة، ولا قدرة له على اكتساب ما يكفيه، والغني من يجد كفايته، ولو بالقدرة على الكسب 2. والفقراء متفاوتون، بعضهم أحوج من بعض، فيلزم الناظر أن يعطي كلا بحسبه. "المسألة السابعة: عاق والديه هل عليه حد مقدر" وأما عاق والديه فليس عليه حد مقدر لكن يعزر بقدر ما يردعه، ويردع أمثاله. [وبلغ سلامنا الجماعة، والسلام/ عليكم ورحمة الله وبركاته] 3. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/4.
الرسالة الثالثة والستون: إلى عبد الله بن محمد بن عتيق في السؤال عن نهائب الأعراب
الرسالة الثالثة والستون: إلى عبد الله بن محمد بن عتيق في السؤال عن نهائب الأعراب ... الرسالة الثالثة والستون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى عبد الله بن محمد بن عتيق، وقد سأله عن نهائب الأعراب. فأجابه –رحمه الله - بما ستقف عليه. وذكر –رحمه الله - أن من التزم الأحكام في التحليل والتحريم، وتحاشى من الاعتداء - إلا على من اعتدى عليه - أنه لا يعجبه أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه؛ فإذا عدمت هذه الأمور في بادية من البوادي، قحطان أو غيرهم/ أو وجدت/2، فالحكم بحاله في جواز شرائه أو عدمه على استحباب. وهذا نص الرسالة. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله بن محمد بن عتيق، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله على نعمه. والخط وصل، وما ذكرت من السؤال، فالذي جاءكم مع الخشل 3 هو مما نهبوا من مال قحطان، ولا يخفاكم أن كثيرا من قحطان يلتزم الأحكام في التحليل والتحريم، ويتحاشى من الاعتداء/إلا على من اعتدى عليه/4. ولا يعجبني أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه. وأما نهائب الأعراب التي لا يعرف حل أهلها، فلبعض أهل العلم كلام في جواز شرائها وتملكها؛ وأما استحباب اجتناب ذلك كله، فهو طريقة جمهور أهل العلم. وأنت سالم والسلام.
الرسالة الرابعة والستون: إلى عبد الرحمن بن عدوان
الرسالة الرابعة والستون: إلى عبد الرحمن بن عدوان ... الرسالة الرابعة والستون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه، /وعفا عنه/2 - رسالة إلى الشيخ عبد الرحمن بن عدوان 3، وقد سأله عن قول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، إلا أن يشاء الله. فأجاب –رحمه الله - بما عليه أهل التحقيق في هذه المسألة، وبين له أن/الواجب/ 4 على المفتي والقاضي، أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ /والتراكيب/5 قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الرحمن بن عدوان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فاعلم أن قول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي إلا أن يشاء الله، إن فعلت كذا وكذا، ظهار، لا يمنع وجوب الكفارة ما ذكر من الاستثناء، بغير خلاف 6. وقول بعضهم: إنما فيه كفارة كاليمين بالله والظهار، لا يحنث إن استثنى فيه وقال: إن شاء الله، محله إذا رجع الاستثناء إلى الفعل أو الترك، لا على نفس اليمين 7.
قال ابن مفلح 1 - رحمه الله - في هذا المبحث: وكلامهم يقتضي أن رده –أي الاستثناء - إلى يمينه لم ينفعه لوقوعها، ولتبين مشيئة الله - وبه احتج الموقع في: أنتِ طالق إن شاء الله 2. وقال أبو يعلى الصغير 3 في اليمين بالله ومشيئة الله: تحقيق مذهبنا: أنها تقف على إيجاد فعل أو ترك، فالمشيئة معلقة على الفعل، فإذا وجد تبينا أن الله شاءه، وإلا فلا؛ وفي الطلاق:/المشيئة/4 انطبقت على اللفظ بحكمة الموضوع وهو الوقوع. انتهى 5. وقال شيخ الإسلام: الاستثناء إذا رجع إلى فعل أو ترك محلوف عليه، إنما يفيد أن الفعل المعلق أو الترك، لا يتعين فعله لتعليقه؛ لأن الجزاء إذا وقع لا كفارة فيه. وقال رحمه الله: الاستثناء/ لما عُلق/6 إنما يقع على ما علق به الفعل؛ فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوها، لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها؛ فإنها واجبة بوجوب أسبابها، فإذا انعقدت أسبابها، فقد شاء الله تعالى، وإنما يُعلق على المشيئة، الحوادث التي قد/ يشاؤها/7 الله، وقد لا يشاؤها. وقال في هذا المبحث أيضا: المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه. والمعنى: إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله، فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه، فلا يكون ملتزما له، وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد: إني حالف إن شاء الله
أن أكون حالفا، كان معنى هذا، معنى الاستثناء في الاستثناءات؛ كالطلاق والعتاق، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه 1. وأيضا فإنها بفعل المحلوف عليه يتبين إن شاء الله، فوقع ما علق عليه. ومن فقه هذا، عرف معنى كلام الفقهاء، وما المراد بالاستثناء المانع من الحنث. والواجب على المفتي والقاضي أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وما أحسن ما قيل: والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظرا وحسن تبصر 2 وأيضا فإن المظاهر في مثل هذه الصورة لا يقبل منه دعوى الاستثناء، ولو كان راجعا إلى الفعل، إلا ببينة عادلة؛ لأن الظهار/ثبت/3، بشهادة الغير، فلا بد من شاهد على الاستثناء. ثم لو سلمنا أنه ثبت بإقراره، أو من جهته، فدعواه الاستثناء لا تقبل أيضا؛ لأنها له، وإقراره بالظهار عليه. وفي الحديث: "لو يعطى الناس بدعواهم ... " الحديث 4، وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه /لغيره/5، فهو مقر، وإن أخبر بما لنفسه على غيره، فهو مدَّعٍ 6.
قال جامع الرسائل: هذا آخر ما/وجدت/1 من هذه الرسالة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الرسالة الخامسة والستون: سؤال عن بيع عقار الميت لوفاء دينه
الرسالة الخامسة والستون1 سؤال عن بيع عقار الميت لوفاء دينه قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه/ونور ضريحه/2 - جواب سؤال عن بيع عقار الميت لوفاء دينه. قال السائل: ما قولكم في بيع عقار الميت لوفاء دينه، إذا خيف عليه التلف؟ وهل للمسغبة 3 تأثير في البيع وتركه؟ وهي يجوز للحاكم مع الغرماء عن استيفاء الدين حتى تزول المسبغة وتعود الرغبة أم لا؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله الجنة. فأجاب –رحمه الله تعالى - فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. بيع العقار إذا خيف عليه التلف، خير وأولى من تلف. والمسغبة لا تأثير لها في البيع وتركه، وعبارة بعضهم: إذا كسد العقار كسادا ينقصه عن مقاربة ثمن المثل، ويضر/بالمالك/4، فلا يباع حتى تعود الرغبة، وعلى القول به محله/ إذا أمن التلف/5 / ولم يرج/6 زوال الرغبة مع حياة المدين. وأما مع موته فلا حق للورثة، إلا فيما أبقته الديون 7 والوصايا؛ وليس للحاكم منعهم من استيفاء الدين.
والحالة هذه، والله أعلم. قاله كاتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن. وصل الله وسلم/ على عبده ورسوله/1 محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرسالة السادسة والستون: سؤال عن تركة الميت قسم ماله بين أولاده وأوصى لصغارهم
الرسالة السادسة والستون: سؤال عن تركة الميت قسم ماله بين أولاده وأوصى لصغارهم ... الرسالة السادسة والستون1 سؤال عن تركه الميت، فسّم ماله بين أولاده وأوصى لصغارهم قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - جواب سؤال عن قسمة الوالد بين ورثته قبل موته، هل هي قسمة شرعية أم لا؟ وكذلك ما أوصى به لأولاده الصغار القاصرين، على سبيل التعديل بينهم وبين المرشدين؛ قال السائل: بسم الله الرحمن الرحيم. ما قول علماء الإسلام –أدام الله نفعهم للأنام - في رجل مات، وقبل/ مماته/2 حُرر له وصية، وعين له وصيا على ما خلف، وعلى القاصرين من أولاده؛ وأوصى أن الذي يخص القاصرين من أولاده، يبقى بيد فلان –رحل معين - على نظر الوصي؛ وسلم قبل مموته بعضا من إريل 3 بيد هذا الرجل المعين المذكور أعلاه؛ هذا الوكيل الذي هو الوصي، ليس بحاضر، فلما حضر أخذ في جمع المال، وقبض ما هنالك من المال، ودفع بيد الرجل المذكور أعلاه شطرا من المقبوض، وكتب الوصي عليه ورقة قبض ما استلمه من يده بنظره. وبعد ذلك اختلف الحال، ووقع على الوصي جبر من الحاكم، وأخذ المال من يده، ومن عند غيره، ولم/يبق/4 من المال –يعني من بعد المدفوع لذلك الرجل المذكور أعلاه - إلا شيء يسير لم يعلمه الحاكم، والمال الذي بيد الإنسان المعين؛ حيث إنه بعيد عنه، ولم يتمكن من /أخذ/ 5 المال منه؛ لكونه بعيدا عنه، وليس من أهل حكومته. ثم بعد مضي بضع من السنين مات الحاكم المجبر، ورجع الوصي على وكالته الأصلية، ومراد/ الموصى/6 الآن
يعمل العمل الذي تخلص به ذمته، ولم يكن على أحد من الورثة حيف ولا ضرر، ويخرج الثلث الموصى به. فهل يجمع ما تحصل من المال الموروث - قليلاً كان أو كثيراً - ويضيفه على المال الغائب عند الرجل المذكور أعلاه؟ وتقع المقاسمة حينئذ على الوجه المشروع، من إخراج الثلث، وما بعده على جملة الورثة/للمكلف/1 منهم والقاصر، قسمة مبتدأة، كأن الميت مات الآن بناء على أن التركة ما قُسمت /أبدا/2، ولأن الجبر الصادر من الحاكم قبل القسم؟ أ, أن التالف من نصيب المرشدين والثلث، وإن كان عليهم/أضرار ظاهر/3 وحيف من القسمة، والسالم هناك من نصيب القاصرين، كما أراد الموصي أولا، ظانا سلامة ماله كله، وأنه لا يقع/حيف/4 ولا جور، فهل له إفراز سهم القاصرين خاصة في حياته قبل مماته، ويعتبر ذلك بحيث لا مشاركة للورثة لهم، وإن تلف المال قبل المقاسمة كما وقع أولا؟ فأي الوجهين الموافق للحق ليعمل به الوصي وتبرأ ذمته؟ أفتونا مأجورين، فإن الحاجة داعية إليه، والوصي متحير، وكل ذي حق من الورثة يطالب/ بحقه/5، لا زلتم أهلا لكل فضيلة. فأجاب –رحمه الله تعالى - بما نصه: الحمد لله وحده. قسمة الوالد/ماله قبل موته/6 بين ورثته، قسمة غير لازمة؛ لوقوعها قبل انتقال المال واستحقاقهم له إرثا، وقسمة الولي الشرعي، وتعيينه ما بيد الرجل المودع للصغار القاصرين قبل تلف ما بيده، قسمة شرعية، تثبت بالإفراز ولتعيين، فما تلف بعدها فهو مختص بمستحقه من القسمة الصادرة من الولي، وتعيين حصة الصغار فقط قسمة شرعية، وإن تلف الباقي
قبل قسمته بين الثلث، والكبار المرشدين. والحيف والأضرار يعتبر حال القسمة، ويرجع إلى العدل والتسوية. وأما النظر للتلف أو الكساد الحادث بعد القسمة، فلا حيف ولا ضرر في الإفراز والقسمة والحالة هذه. أملاه الفقير إلى رحمة ربه، عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن.
الرسالة السابعة والستون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى عبد العزيز بن حسن 2 قاضي المحمل، وقد سأله عن حديث جابر بن عبد الله 3 لما توفي أبوه، وعليه ثلاثون وسقا لرجل من اليهود، وفي الحديث: "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى" 4. قال السائل: وظاهر هذا: إباحة المجهول بالمعلوم في الجنس، وهو ممنوع شرعا. فأجاب –رحمه الله - وذكر تراجم الأئمة 5، وتعددها بحسب ما تضمن من الفقه، وأن قول السائل: "وهو ممنوع شرعا" عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهو خطأ منه في التعبير وغفلة. وقد بين الشيخ/ - رحمه الله-/6 أيضا فسادها في نفسها، وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن، سلمه الله /تعالى/7 وهداه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه. والخط وصل،/وصل/8
الله حبلك، وأعلى مجدك، وما ذكرته قد علم، وحديث جابر/ حديث صحيح/1 مشهور، خرجه الجماعة، وتُرجم له تراجم متعددة، بحسب ما تضمن من الفقه. فقال البخاري: باب إذا قاصه وجازفه في الدين تمرا بتمر وغيره؛ وغيره 2. وقال: باب إذا قضى دون حقه فهو جائز 3. وكذلك أهل السنن، وسياقهم متقارب 4. وقال البخاري في باب المقاصة والمجازفة: قال وهب بن كيسان 5 إن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم /فكلم/6 اليهودي ليأخذ تمر نخلة/ بالتي/7 له، فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم /النخل/8 فمشى/فيها/9، ثم قال لجابر: "جُدّ له فأوفِ له الذي له" فجده بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوفاه
وفي حديث كعب 1: "ضع الشطر"2، وأن تمنع هذه المسألة لما فيه ضرر أو غرر من البياعات 3 والمعاملات. هذا ما ظهر لي وهو المعروف من القواعد الشرعية فانتبه، لا زالت قريحتك وقادة ذكية 4. /وبلغ سلامنا الأولاد والأخ، وعبد العزيز بن تركي 5. ولدينا الوالد المكرم والعيال بخير وينهون السلام، وأنت سالم. والسلام/6. 7/وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/8.
الرسالة السابعة والستون: إلى عبد العزيز بن حسن قاضي محمل
الرسالة السابعة والستون: إلى عبد العزيز بن حسن قاضي محمل ... ثلاثين وسقا، وفضلت له سبعة عشر،/فجاء جابر رسول/1 الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: "أخبر بذلك ابن الخطاب". /فذهب/2 جابر إلى عمر/ فأخبره/3، فقال /له/4 عمر: فقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليباركن فيها"5. وقبل هذا قال –رحمه الله-: باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز. وساق الحديث مختصرا من طريق آخر، لكن ذكر فيه شاهدا للترجمة، وهو قوله: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ويحللوا أبي"6. إذا عرف هذا بطل قول السائل: "وظاهر هذا إباحة المجهول بالمعلوم في الجنس"، فلا جهالة والحالة هذه؛ لأن الحديث صريح في أن تمر الحديقة دون الثلاثين، وإنما بورك فيه لما مشى فيه صلى الله عليه وسلم. وقول السائل: "وهو ممنوع شرعا"، عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهل الشرع إلا ما جاء عن الله وعن رسوله؟ وأيضا فهي فاسدة في نفسها؛ فإن الاعتياض بالمجهول عن المعلوم في الجنس جائز في غير ربا الفضل، إذا حصل التراضي؛ لأن للمدين أن يزيد، و"خيركم أحسنكم قضاء"7؛ ولرب الدين أن يضع من دينه ما شاء.
الرسالة الثامنة والستون: إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن
الرسالة الثامنة والستون: إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن ... الرسالة الثامنة والستون1 قال جامع الرسائل: /وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن 2 وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن بن يحيى، سلمه الله تعالى، ورزقه الفقه في الدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمه. والخط وصل يوم ركوبنا، ولا كتبت جوابه إلا بعد تثويرتنا 3. وأما الأول، فلم ألتفت إلى جوابه، لما كنت بصدده من الاشتغال بالحج. إذا عرفت هذا، فاعلم أن المسألة الأولى التي هي: استعمال الماضي موضع المضارع، /لهم فيها وجهان/4:
أحدهما: أن في استعمال الصيغة الماضية بدل المضارعية، تنبيه وإشارة إلى تحقيق النفي في الحال والاستقبال، كتحقق مُضي الماضي من الأفعال والأحوال، وذلك باستعارة وضع للماضي، لما قصد به الحال والاستقبال، تقوية وتأكيدا لمضمون الجملة المنفية، وذلك شائع في لسانهم. وفي التنزيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} 1،2 {وَإذْ قَالَ اللَّه} 3، والمعنى: يأتي، ويقول 4. ومنه استعمال المضارع بدل الماضي إشارة إلى التجدد والاستمرار شيئا فشيئا، كقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 5، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} 6 {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} 7؛ والمعنى: قد علمنا 8. ومنه قول الأعشى 9. /فأرى/10 من عصاك أصبح/مخذو ... لا/11، وكعب الذي يطيعك عالٍٍ 12
وقد أسبي الفتاة فتعصى ... كل واشٍ يريد صرم حبال 1 يريد: رأيت وأسبيت. /والوجه الثاني /2: أن الكلمة إن دلت على معنى في نفسها واقترنت بزمان، ففعل، فإن كان الزمان الذي دلت عليه ماضيا، فالفعل ماض، وإن كان للحال والاستقبال، فالفعل مضارع، وإن كان مستقبلا فقط، فالفعل أمر، كما هو مقرر في موضعه 3. فلو عبَّر بالمضارع وقال: لا ألبس ممتثلا، لاحتمل 4 أنه قصد النفي في الحال فقط، أو فيما يستقبل فقط؛ لن ذلك جرى في لسانهم، ومنه: {لا أَجِدُ مَا آَحْمِلُكُمْ عَلَيهِ} 5 {وَنَضَع اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ} 6، ولاحتمل وقوع استثناء يعقبه، فلما عبر بالماضي/اندفع/7 الاحتمال، وانقطع التوقع، وقصد المعنى الأصلي، وهو المعنى في الماضي، لا يتوهم؛ لأن "لا" للنفي في الحال والاستقبال، تقول: لا لبست لا ضربت لا ظلمت؛ قاصدا الحال والاستقبال، بخلاف: ما ضربت ما لبست، فإنها للنفي في الماضي. أما المسألة الثانية: وهي قولك: ما معنى النفي في قولهم: /لا قتلت/8 الميت؟ فالذي في الحلف بالطلاق، وتعليقه بالمستحيل "لأقتلنّ" بلام التوكيد الموطئة
للقسم، والفعل بعدها مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، ولا نفي فيها فتنبه./وبلغ سلامي من لديك من الإخوان. ومن لدينا يسلمون والسلام/1./وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/2.
الرسالة التاسعة والستون: إلى عبد العزيز بن حسن بن مزروع
الرسالة التاسعة والستون: إلى عبد العزيز بن حسن بن مزروع ... الرسالة التاسعة والستون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - جواب سؤال ورد عليه من عبد العزيز بن حسن بن مزروع، وذلك في شأن القهوة 2، طلب فيه من الشيخ الجواب عما أورده من السؤال، ومقصوده أن يوافقه على الحكم والجزم بالتحريم، وعدم الإحلال، لما أورده بزعمه في سؤاله من استيفاء التعليل والاستدلال. وكان الأليق بالسائل طلب بيان ما هو الأرجح في شأنها من الأقوال. إذ كان للعلماء فيها كلام، وحل للنظر ومجال، لكنه في سؤاله أصل وفضل، واستدل وعلل، وانتضى 3 لتحريمها صارما عضبا، وارتقى لذلك من الشريعة مرتقا صعبا. فلأجل ذلك عدل الشيخ عن ذكر أقوال العلماء هنالك، وعما هو الأعدل والأرجح في ذلك، وأخذ في إبطال ما علله،/وهد/4 ما فعله وأصله. ثم بعد ذلك أرشده إلى ما هو اللائق بصرف الهمة إليه، من الحض على رفع ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة، وقبض العلم وارتفاع /الجهال/5 وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم. وهذا نص السؤال، قال السائل:
تفهم أن مدار الشريعة على رفع المفاسد وجلب المنافع، ومنها ما صرح به الكتاب والسنة، /ومنها/1 ما هو في ضمنه ويشهد له./وبنو/2 آدم لهم مألوفات، إذا درجوا /عليها/3 أحبوها وألفوها ولو فيها ضرر. ومن البلاوي على أهل القوت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم، القهوة، مع/ضعف/4 معايشهم. وفي الماضي ما يستعملها إلا القليل، للبلد مجمع، وبعض القرى ما تعرفها. واليوم هذا الذي ترون، الغني والفقير، والمرأة والصغير، ولا يحصى ما يصرف فيها من /الأموال/5؛ ولو كان ما فيها إلا /ضررا مفردا/6، كيف وأول مضارها في الأبدان؟ وإذا كان الخمر يزيل العقل شربه، فهي شاهدناها تُخامر العقل عند فقدها، كذلك إضاعة المال، وفي مجالسها القليل والقال، وتُحوج/7 الفقراء إلى السؤال، وتُلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليهم الأوقات، هذا، ولا تُروي ولا تغني من جوع، ومزرعها ومخرجها من بلد/الكفار/8. وأما من/مضارها/9 على أهل/ الجهاد/10 فظاهر معلوم إذا لاقوا العدو، /وأمرار/11 تكون على شُرابها ويصرف فيها من بيت المال ما لو يصرف
في آلة الجهاد والفقراء والمساكين، كان هو الواجب. وتفهم أن عند خروجها حصل من أهل العلم فيها خوض، ومقتها بعض، وحرمها بعض، وهي ما بلغت/هذا/1 المبلغ. ومصرف أهل نجد فيه اليوم، وما يتعلق بها، ألوف، لو يضعها عليهم واضع ما حملتها عقولهم. والمطلوب تجيبون عن هذا، وتوضحون ما يجب فيها من حكم، ولا هو أول محظور/مُنع/2 منه أهل نجد وامتنعوا، وهم –ولله الحمد - لهم قابلية، وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم، شهد بها وعابها. وبعضهم يقول: نصرف فيها أكثر مما نصرف بالزاد. والإمام 3 - أطال الله بقاءه، ووفقه لما يرضاه - قد حصل عنده فيها مجال، ويود سببا برفعها به عن رعيته. هذا، وإن وزنتها العقول السليمة، لا شك أنها لهو ولعب. وفقك الله للصواب. انتهى سؤاله. فأجاب –رحمه الله - على سؤاله فقال: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن، سلك الله به أهدى السنن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل، والسؤال عن القهوة وصل، مع اشتماله على الجزم بالحكم، واستيفاء الدليل بالتعليل/والتدليل/4، وهذا
غاية ما يطلب من الجواب. ومن كانت له ملكة وعنده معرفة توجب الجزم بالحكم واليقين، والاستدلال على الأحكام والدين، فليس به حاجة إلى سؤال المستضعفين والقاصرين. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والعصمة من القول عليه بلا علم. والكلام على القهوة قد سُبقنا إليه. وأفاضل أهل العلم كل منهم أبدى ما عنده وما لديه، وحسبنا السير على منهاجهم، واقتفاء آثارهم. وذكر المنقور 1 في مجموعة 2 طرفا من ذلك 3، والمجموع عند ابن مانع4. وما ذكرت من أن مدار الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المنافع، فنعم، هو ذاك، ولكن ينبغي أن يعلم أن المفاسد ما عارضت الأمر والنهي/الشرعيين/5 بالفعل أو بالوسيلة، والمنافع المطلوبة مايحصل بها مقصود الشارع من الأمر والنهي بالفعل أو بالوسيلة، وبهذا تعلم فساد التعبير بقولك: رفع المفاسد؛ فإن هذا لا يرتفع، فالصواب
دفع المفاسد، لا رفع المفاسد. وقولك: منها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما /هو/1 في ضمنه؛ تقسيم فاسد، بل الكتاب والسنة صرحا بذلك وأوضحاه. قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 2، ولم يخرج فرد من ذلك. ولو قلت: فقد /صرح/3 بذلك الكتاب والسنة أو /تضمناه/4 لصلح التعبير. وقولك: ومن البلاوي على أهل الوقت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم، القهوة، مع ضعف معائشهم: فلا أدري ما يراد بالبلوى هنا، أهي الابتلاء في الدين، /أم/5 هي الابتلاء بالنفقة فقط؟ فإن كان الأول، فلا يسلم بمجرد الدعوى، وإن كان الثاني، فالناس درجات وطبقات في اليسر والعسر والمعيشة، وتوسع الأغنياء إنما يذم لوجوه لا تختص بالقهوة أيضا، بل يجري في غير ذلك من سائر المباحات. وأما التعليل بأن فيها مضار للأبدان، فلا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، فإن الأبدان الدموية والبلغمية تنتفع بها بلا نزاع، والسوداوي والصفراوي يمكنه التعديل بالتمر الذي هو غالب /غذاء/6 أهل نجد. وقد قال داود في تذكرته: بعد لها كل حلو. وأما قولك: وإذا كان الخمر يزيل العقل عند شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، فهذا الكلام لا ينبغي أن يقال؛ لأن الخمر يزيل العقل بمخامرته أي تغطيته، وهي لا تزيل العقل ولا تخامره، بل ربما كان شاربها أقوى الذهن، حاد الإدراك، جيد الحافظة. والموجود عند فقدها لا يسمى مخامرة، وإنما هو كسل.
وفتور لها، لا بها، فافهم أيها الأخ، "واعط القوس باريها" 1. وأما قولك: وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم شهد بها وعابها: فيقال: أي عاقل يراد هنا؟ أما العامة ومن لا عناية له بمعرفة الأحكام الشرعية والأصول الدينية، فعقولهم لا تصلح أن تكون ميزانا 2 أو أن تستقل بحكم. وأما أهل العلم والدين وأهل البصائر من ورثة سيد المرسلين، فعقولهم يُرجع إليها مع اتفاقهم 3. وإن اختلفوا فالميزان هو الكتاب والسنة. وقولك: وإذا وزنتها العقول السليمة، لا شك أنها لهو ولعب: فاللهو واللعب ما لا يعود بمنفعة أصلا، أو يعود بمضرة رجحت على مصلحته، وإدخال القهوة في هذا التعريف يحتاج إلى أصول ومقدمات؛ "لو يعطى الناس بدعواهم ... " الحديث 4. وما ذكرت من التعاليل قد يجري في كل مباح؛ كإضاعة المال، والاجتماع على القيل والقال، والحاجة إلى السؤال. وليس ذلك الوصف لازما للقهوة. وكذلك تُلهي كثيرا من الناس عن الصلاة، وتضيع عليهم الأوقات، فهذا قد يجري لأهل الشهوات والمبايعات والمزاورات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية 5.
وأما كونها لا تغني من جوع ولا تروي، فهذا الوصف يأتي على كثير مما تتعاطونه من المباحات ولم تأت الشريعة بتحريم ما لا يغني من جوع ولا يروي {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} 1. وأما كون مزرعها من بلاد الكفار، فمتى كان عندكم امتناع عما زرعه الكفار، ونسجه الكفار، وخرج من بلاد الكفار، وجمهور أموالكم ومأكلكم من هذا الضرب، " ثكلتك أمك يا معاذ" 2 أو "ويح عمار" 3، قد كانت. /المدينة/4 في عهد النبوة، يجلب إليها من بلاد الكفار أنواع المآكل والأدهان والملابس التي نُسجت وصبغت ببلاد الكفار، كما لا يخفى على من له أدنى نظر في الأخبار. وأما ما زعمت من ضررها على أهل الجهاد، فمن الظرائف التي لا يستظرفها
إلا فقيه النفس، ذكي الطبع، وربما قبل بعكس القضية 1 لما فيه من تنشيف البلغم وتجفيف المواد المكسلة الرديَّة. وأما قولك: ويصرف فيها من بيت المال كيت وكيت، فمتى صار النظر –أصلحك الله - منصرفا إلى توفير/هذه/2 الجهة، ووضعها في مواضعها الشرعية، والصرف في المباح أولى من الصرف في المحرم الصرف. وأما اختلاف أهل العلم عند خروجها، لو قيل: عند حدوثها، لكان أليق باللغة الشرعية، فنعم هو ذاك، ولكن لا دليل فيه على المنع. وقد قيل: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب 3 وأما صرف الأموال العظيمة من أهل نجد، فهذا القول من جنس ما قبله، فإن مجاوزة الحد في كل مباح، داخلة في حقيقة السرف، والمحرم/نفس/4 السرف، ولو في المآكل الضرورية. ولو صرف الأخ النجيب فكرته ونظر إلى ما تعطل من أصول الدين، ودعائم الملة، وما تلاعب به الجهال من الأحكام الشرعية الدينية، وما دهم أهل نجد في هذه السنين من قبض العلم، وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة، بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتفطن لذلك، والاهتمام به، وصرف الهمة إلى تحصيله، وأن لا يطلب على الفضلة إن طُلب؛ لكان هذا أولى وأجدر أن تقع المذاكرة فيه، والسؤال عنه. وأما أمر القهوة، فقد كفانا شأنه من سلف من أهل العلم والدين 5.
/وبلغ سلامنا حسن والعيال، وعيالنا يسلمون، وأنت سالم/1، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته./وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/2 /تسليما كثيرا إلى يوم الدين/3.
الرسالة السبعون: إلى عبد الله بن علي بن جريس
الرسالة السبعون: إلى عبد الله بن علي بن جريس ... الرسالة السبعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس 2، /وقد راسله يسأله/3 عن صلاة التراويح في السفر جماعة، وعن اتفاق الغزى 4 على الصوم فيه/5. فأجابه –رحمه الله تعالى - فقال: بسم الله الرحمن الرحيم 6 من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم عبد الله بن علي بن جريس، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل. وسرنا ما ذكرت من الأخبار/عنكم/7 وعن الإمام 8 وعن عمان. فالحمد لله على سوابغ الفضل والإحسان، وأوصيك بتقوى الله، والرغبة فيما عنده، والتماس مرضاته والحذر من الاغترار بهذه الحياة الدنيا؛ فإن الله حذر عن الاغترار بها في مواضع من كتابه 9
واذكر قول العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى-: وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك الـ ... معنى رهين في يديها مُسلَّم 1 والبيتين بعده، واعرف ما المراد بسعدى. وتسأل في خطك عن صلاة التراويح في السفر جماعة. فاعلم أن العبادات توقيفية، وترك الشارع للفعل مع قيام مقتضيه، دليل للترك، كما أن فعله دليل لطلب الفعل. وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عدة أسفار في رمضان، ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه –فيما بلغنا - فعلها جماعة. وهذا دليل كاف سالم من معارض. والثاني: أن المشروع في السفر قصر الرباعية 2 وترك نوافل الرواتب 3، وهي آكد النوافل على الصحيح، بل لم يشرع الجمعة والعيدين 4 وهما فرضان، وهذا بين بحمد الله. وأيضا فقول شيخ الإسلام ومن وافقه: يفعل النوافل المطلقة في السفر، لا
المقيدة 1، يدخل هذه القضية، ويستفيدها طالب العلم منه. وقولك في الورقة: "وهو مما تسن له الجماعة"؛ عبارة فيها تساهل، والجماعة تشرع له تعبا، لا استقلالا، كما هو مقرر في محله 2. وأما اتفاق الغزى على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفاضل 3، وموافقة السنة في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله 4. هذا، واعلم أن هذا هو الموجب 5 لترك فعلها جماعة. وأما النهي عن ذلك، فلم/أنه/6 أحدا عنه. /وبلغ سلامنا الإمام ومحمد
وراشد/1 /وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/2. مسألة ملحقة في آخر"ج"، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم كتب شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –أحسن لهم المآب وأجزل لهم الثواب - في مسألة بيع النخل. بالدين الحال في الذمة قبل قبضه ما لفظه: وبعد: عرض علينا أحمد العجيري خطا فيه حكم سعيد بن عيد، بصحة العقد والبيع الذي صدر من سهل بن باتل/3 /كمال الثمر دين سلم قبل قبضه. كتبت على هذا الحكم بأنه لا ينقض، وأنه لازم، كما عليه أهل العلم في أن هذا الحكم لا ينقض إذا حكم به من يراه، وقد حكم به شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وقال بصحته شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله.
ثم رأيت رشيد بن عوين تعرض لهذا، ولم يشرح له صدره، لأنه رأى خلافا لبعض الفقهاء نسبه لكل العلماء، ولم ينظر ما قالوه في أن حكم القاضي لا ينقض بمثل هذا الخلاف. وهو في كتابه الذي نقله منه. إذا عرفت هذا، فالعمل على ما حكم به سعيد، لا ينقض. انتهى المقصود. وصلى الله على محمد وسلم. فائدة: وقد ذكر الإمام أحمد –رحمه الله - حديثا في مسنده، عن ابن عمر –"-فقال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لله –تعالى - أقواما /يختصهم/1 بالنعم لمنافع العباد، /ويقرهم فيها/2 ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم"3. ذكره الحافظ ابن الأخضر فيمن روى عن أحمد.
الرسالة الحادية والسبعون: إلى جماعة من أهل الزلفي
الرسالة الحادية والسبعون: إلى جماعة من أهل الزلفي ... الرسالة الحادية والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى جماعة أهل الزلفي 2، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأمير المكرم ناصر آل عبد الله الراشد، والإخوان عبد المحسن السلمان، وأحمد آل عبيد، وجار الله آل حمد، ورشيد آل علي، وموسى الشايع، وحمود آل عبد الله آل جار الله 3، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: خطر تعدد الجمعة لغير عذر وصلت خطوطكم، وتذكرون أن بعض جماعتكم انفردوا بأنفسهم، وفارقوا جماعتهم،/وجعلوا لهم جمعة في/ المحلة/4 الأولة، وأنهم قبل ذلك/ كانوا/5 مجتمعين مع جماعتهم/6 يصلون جمعة واحدة، وأن بعض
من ينتسب إلى العلم. أفتاهم بانفرادهم وصلاتهم جمعة ثانية في البلد، لغير حاجة تدعو إلى ذلك. فاعلم أن الذي عليه جمهور أهل العلم، تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفا، أو سمع النداء فلا يجوز تعدد الجمعة 1، وتفريق جماعة المسلمين، إلا لحاجة كضيف المسجد، وبعدهم عن القرية 2. وقد كان الناس/ على/3 عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي 4 وما حاذاها؛ وهي على ثلاثة أميال من المدينة. وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم. وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام 5, وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهرا 6. وقواعد الشرع تدل على هذا؛ فإن الجمعة إنما شُرعت للائتلاف والمودة والمعاونة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاضة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشريعة أيضا/ على تحريم/7 ما أوجب الفرقة واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
وَلا تَفَرَّقُوا} 1. وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة 2 أخرى، لا يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى، ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله. فالواجب عليكم نصحهم وإرشادهم ودعوتهم إلى الله برفق. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 3. /والسلام/4 /وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/5.
الرسالة الثانية والسبعون: جواب رسالة لمحمد بن زومان
الرسالة الثانية والسبعون: جواب رسالة لمحمد بن زومان ... الرسالة الثانية والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - جواب رسالة لمحمد بن زومان، وقد راسله محمد برسالة يسأله عن حط العصا في المسجد يوم الجمعة 2. وذكر له أن الشيخ حمد بن عبد العزيز 3 نهاهم عنها وانتهوا. فلما أن الناس/أسملوا/4 عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عادوا إلى تحجيز المسجد بالعصا. فأجابه بما ستقف عليه، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته: وبعد: ما يجوز تحجيز المسجد بالعصا ومن سبق واستمر في المسجد فهو أحق بمكانه 5. فمن خرج لبيع أو شراء أو نحو ذلك؛ فترمى عصاه وينصحه الإمام؛ فإن انتهى وإلا يرفع أمره إلى الأمير والسلام.
الرسالة الثالثة والسبعون: إلى عبد المحسن بن سلمان
الرسالة الثالثة والسبعون: إلى عبد المحسن بن سلمان ... الرسالة الثالثة والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى عبد المحسن بن سلمان 2 راع الزلفي، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد المحسن بن سلمان –سلمه الله تعالى - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه. والخط وصل، وصلك الله ما يرضيه. وما ذكرت صار/معلوما/3، وامام /ألزم/4 سلمان الذي كتب له، تشرف عليه إن شاء الله، والأمر ممكن ولو بعد حين؛ ولا تدخروا التعاون على التقوى. نرجو أن الله يوفقنا وإياكم ويرزقنا السداد. ومن جهة أصحية بنت ابن خريف، فالنظر في الأضحية لوليها، وعليه تقديم القريب إن كان أحق بما يستحقه من اللحم. وأما الولاية فمتعينة لمن أوصى إليه بالنظر. هذا كلام الفقهاء. وبلغ سلامنا العيال، ونشكو إليك عجلة سلمان. وإن أراد سلمان الرجع فتشير على عبد العزيز يُقبل معه لطلب العلم. ومن لدينا الشيخ الوالد يسلم، والسلام.
الرسالة الرابعة والسبعون: إلى أهل عرقة
الرسالة الرابعة والسبعون: إلى أهل عرقة ... الرسالة الرابعة والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله/أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى أهل عرقة 2 هذا نصها/3: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يراه من أهل عرقة، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أشرفت على خط الوالد الشيخ –رحمه الله - 4 نقل في خطه فتوى شيخنا الشيخ محمد/بن عبد الوهاب/5 - /رحمه الله تعالى، وعفا عنه/6 - قال الوالد فيه: لا يخفاكم أن شيخنا محمد/ بن عبد الوهاب/7 - رحمه الله وعفا عنه - أفتى أهل سدير بأن نائبة الجهاد تصير على الثمرة./و/8 كتبناها لإخوانكم من أهل البلدان، أنها ما تخص راعي الحلال في نصيبه. هكذا رأيت وكتبت. انتهى. وقد نقلت هذه العبارة لحاجة الناس إليها، خصوصا هذه الأيام. والعدل من أوجب الواجبات، حتى في النوائب. كما أفتى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية –رحمه الله - في
النوائب السلطانية. فنظراء الديرة يجب عليهم النظر في هذا، والتسوية بحس الثمرة، /وبحسب/1 الجدة 2 والتجارة، وقد ذكر –سبحانه - الجهاد بالمال في كتابه، وقدمه على الجهاد بالنفس في مواضع من القرآن3. وإذ ترك الناس هذا مع الحاجة إليه، فقد هدموا وأضاعوا ركنا/ عظيما/4 من أركان الإسلام، وأنتم سالمون والسلام 5.
الرسالة الخامسة والسبعون: جواب سؤال ورد عليه من أهل المجمعة
الرسالة الخامسة والسبعون: جواب سؤال ورد عليه من أهل المجمعة ... الرسالة الخامسة والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله –رحمه الله - رسالة جواب سؤال ورد عليه من أهل المجمعة، أحببت أن أنقل السؤال بحروفه لأجل الاطلاع على صورته، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، وجه تسطيره والباعث على رقمه وتحريره هو أن الشيخ أحمد بن عثمان بن شبانة لما ترشح للولاية حين كان يومئذ آهلا لذلكن نصب نفسه للاستنابه للمسلمين، عدلا منه فأجر الشيخ أحمد بن محمد قطعة الأرض الذي في القبلية الرميحية، وهي وقف إبراهيم بن سيف، تصرف غلتها على قوام "دلو مسقات" مسجد إبراهيم بن سيف، في الجيوش، في بلدة المجمعة. فكانت حينا تزرع، وأكثر الأعوام ما تزرع، فاجتهد أناس عدول في النظر في المصلحة في دلو المسقات، وفيما هو أنفع للمسلمين، وأن المصلحة أن تؤجر الأرض المذكورة عدة سنين، فتجعل أجرة مقسطة على الأعوام. فأجر أحمد المذكور الأرض المفروزة المحصورة، كل عام بعشرين محمدية بصرية، من ضرب البصرة الرائحة يومئذ بين الناس. فاستأجر أحمد المذكور من أحمد المذكور مع توفر أركان الإجارة الخمسة المعروفة عند أهل المعرفة، فصحت الإجارة للإتيان بشروطها الثلاثة المعتبرة، فصارت إجارة شرعية صحيحة لازمة، مرضية جارية على قانون الشرع وجادته النقية وأحكامه الواضحة الجلية، لا يتطرق إليها بطلان ولا فساد بالكلية، فبموجب ذلك وصحته ونفوذه ولزومه حكما، لم يبق لمن أجر ولا لمن يأتي من جهتهم في ذلك المؤجر حق ولا تبعة، ولا طلبته بوجه من الوجوه الشرعية، بل صار ذلك ملكا ثابتا وحقا لازما ومالا محوزا لأحمد بن محمد التويجري، يتصرف فيه ما شاء بما شاء، من غير مانع ولا منازع. شهد على ذلك من أوله إلى آخره الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وشهد على
ذلك من أوله إلى آخره وحرره وثبت عنده، وصح شرعا وأمضاه وألزمه حكما، خادم الشرع الشريف الفقير إلى عفو ربه –سبحانه - محمد بن عثمان بن عبد الله بن شبانة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم - جرى ذلك سنة 1186هـ. فأجاب الشيخ –رحمه الله-: بسم الله الرحم الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان حمد بن ركبان، وسليمان بن الحقيل، ومحمد الحمضي، وعبد الله السناني، وحمد بن عثمان بن صالح، وعبد الله بن محمد، وعثمان بن عبد الله بن عولة، وجماعة أهل مسجد إبراهيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: والخط وصل، وصورة الحفيظة وصلت، وما/ذكرتم/1 صار معلوما خصوصا من جهة الصبرة التي في وقف ابن سيف وما أصابه من التعطيل. ولا يخفاكم أن مدَّة الإجارة إذا انقضت وفي الأرض شجر أو غرس، فيبقى الشجر والغرس والبناء بأجرة المثل إن شاء رب الأرض. وإن كانت وقفا، فأمرها إلى الناظر الخاص إن كان، وإلا فإلى الحاكم الشرعي؛ لأن له النظر العام، ولا عبرة بأجرة الأرض مدة الإجارة المذكورة بعد انقضائها. فالذي أرى أن الأرض المغروسة تبقى على عادة المغارسة في تلك البلد حتى يفنى الغراس ولا يحتاج لذكر مدة. هذا إن كان فيه مصلحة للوقف، وإلا فالأمر إلى الناظر المتقدم ذكره. والحجة التي نقلت من وثيقة ابن شبانة، وصلت إلينا ولها مائة سنة وسنتان "102". وعلى القول بصحتها، قد انقضت مدة الإجارة التي يصححها بعض الفقهاء، مع أن الوثيقة لم تذكر فيها مدة الإجارة، وترك ذكر المدة يبطل العقد، فيحتمل أن المدة ذكرت في مجلس العقد ولم تذكر في الوثيقة، والله أعلم أي ذلك كان.
وفي الحجة أن ابن شبانة نصب نفسه وتولَّى الأحكام من غير ولاية شرعية، والإجارة لم تصدر عمَّن يعتبر تصرفه في الوقف. وفي الحجة أنه قال: لم يبق لمن أجر ولا لمن يأتي من جهته في ذلك المؤجر حق، ولا تبعه ولا طلبه بوجه من الوجوه الشرعية، بل صار ذلك ملكا ثابتا وحقا لازما، ومالا محوزا لأحمد بن محمد التويجري. وليس الأمر كذلك في الإجارة، لأن الملك للمؤجر؛ لا للمستأجر، والمستأجر له الانتفاع فقط. وإنما يقال ذلك في البيع الشرعي. وهذا الجهل قادح في حكمه، وليس للمستأجر إلا ما أحدث من شجر أو بناء، وبعد انقضاء مدة الإجارة، يبقى في الأرض بأجرة المثل إن شاء الناظر، وكانت المصلحة في ذلك كما تقدم. وبلغوا سلامنا الجماعة. والعيال يسلمون عليكم والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. جرا ذلك في 1289هـ.
الرسالة السادسة والسبعون: إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن
الرسالة السادسة والسبعون: إلى الشيخ عبد العزيز بن حسن ... الرسالة السادسة والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا رسالة إلى الشيخ عبد العزيز. وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم الشيخ عبد العزيز بن حسن –سلمه الله تعالى - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وخطك وصل، وتأخر جوابه لكثرة الاشتغال، والله المستعان. وتسأل عن وجوب صلاة الجمعة على أهل القرى الذين لم يبلغ العدد منهم أربعين من أهل الوجوب. اعلم أنهم اتفقوا على أن من شرط وجبها وصحتها، الجماعة 2. واختلفوا في مقدار الجماعة. فمنهم من قال: واحد والإمام، هذا مذكور عن ابن جرير الطبري 3. ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام، لأن أقل الجمع عنده اثنان 4. ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام وقائل هذا يرى أن أقل الجمع ثلاثة، لا اثنان 5.
والكلام مبسوط في أقل الجمع في شرح التحرير وغيره، والقول الأخير هو قول أبي حنيفة. ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد 1. وقال قوم: ثلاثين ومنهم من قال: يجوز بما دون الأربعين، إلا الثلاثة والأربعة، ولم يشترط عددا، وإنما ذكر جوابا أوردوه، وهو أنه لا تجب إلا على عدد تتقرَّى بهم قرية 2. وأصحاب القولين الأولين أخرجوا الإمام عن مسمى الجمع؛ للاختلاف في دخوله في مسمى الجماعة. وأصحاب القول الأخير يقولون: الجمع في غالب الأحوال له حكم غير ما يطلق عليه/3 /في جميعها، بل هم الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس. وهذا يروى عن مالك. ويروى عنه أيضا اشتراط اثني عشر من أهل القرية 4. وكلا القولين معروف. ومن اشترط الأربعين كالشافعي وأحمد وجماعة من السلف، فإنما صاروا إلى ما صح من أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس 5. فهذا هو حد شرطها. أعني شرط الوجوب.
واشتراط الصحة من أن من الشروط ما هو شرط للوجوب فقط لا للصحة، وهذا من أحسن الأقوال، وبه يتفق أغلب كلام المختلفين. إذا عرفت هذا، فإنهم اختلفوا أيضا في الأحوال المرتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم، هل هي شرط في الصحة والوجوب، أم ليس بشرط؟ وتلك الجماعة والمصر والاستيطان. ومن رآه دليلا اشترطه، ومنهم من رجح بعضها دون بعض، واشترطه في المرجح لا غير. وبعضهم لم يرها دليلا، ورجح في الاشتراط والوجوب/أدلة/1 أخرى لعموم الجماعة في سائر الصلوات. ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الأحوال شرطا في صحة الصلاة، لما جاز أن يسكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يترك بيانها، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 هذا ما يحضرني. فإن رأيت خللا فلا جناح عليكم في إصلاحه. والسلام.
الرسالة السابعة والسبعون: جواب على سؤال
الرسالة السابعة والسبعون: جواب على سؤال ... الرسالة السابعة والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله –قدس الله روحه ونور ضريحه - جواب سؤال، قال السائل فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. ما قولكم –سدد الله أقوالكم - فيمن يدعو المسلم لأمه، مع معرفته أبيه، هل يسوغ ذلك أو لا؟ وما قولكم في الاستئذان؛ هل يسوغ تركه إذا كان بالمجلس من الرجال الأجانب من قد أذن له، أو لا بد من الاستئذان والحالة هذه؟ فالجواب: إن الله جل ذكره قال في شأن زيد بن حارثة "لما دعاه الناس زيد بن محمد: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} 2، وهذه الآية الكريمة دلت على وجوب دعاء الرجل لأبيه، فإن جهل فيدعى بالإخوة الإسلامية أو بمولى فلان أو آل فلان، ولم يذكر قسما رابعا وهو دعاؤه إلى أمه. ونسبة الرجل إلى أمه تأنف منه العرب وأهل المروءة، فضلا عن أهل العلم والدين، لما في ذلك/3 / والده، والتنويه بأمه بين الأجانب، وما ظننت عاقلا يرضى هذا ويستحسنه، فضلا عن أن ينكر على من كرهه ونهى عنه 4، وإن كانت نصا في دعوى الرجل إلى من تبناه غير أبيه، فهي عامة في دعائه لأنه، إن قوله {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} نص في أنه لا يُدعى لغيره ولا شك في دخول الأم في الغير، وعلى هذا فالنص عام وإن قيل بخصوصه أخذا من خصوص السبب، فلا مانع من إلحاق النظير بنظيره.
والجمهور يرون في هذه المسألة أن عموم اللفظ مقدم في الاعتبار على خصوص السبب. والأول قال به بعض الأصوليين، وجماهير أهل العلم والتأويل قد رجحوا الثاني. وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} عام في ترك دعائهم لغيرهم، وإن كان المدعو إليه أمَّا فتفطَّن. أما المسألة الثانية: فنص آية الاستئذان عام، يدخل في هذه الصور المسئول عنها، وإدخال زيد وعمرو ليس فيه دلالة على الإذن لبكر وخالد، فكل قادم يشرع له أن يستأذن إذا أراد دخول بيت وغيره، إلا أن يأذن رب البيت له/1 /صريحا لكل من دخل. والمعروف من أقوال أهل العلم، أن فتح الباب ليس صريحا في الإذن، كما في الحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2 والله أعلم. قاله وأملاه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الثامنة والسبعون: جواب على سؤال
الرسالة الثامنة والسبعون: جواب على سؤال ... الرسالة الثامنة والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله –رحمه الله - جواب سؤال قال فيه السائل: الذي يعلم به الأخ المكرم والمحترم الموقر الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن –لطف الله بن في الدارين، وجعله ممن يؤتى أجره مرتين، و/2 /وأمَّنه مما يحذر ويخاف آمين - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: منعنا الله بما دعت الحاجة والفتية المباركة من طرفك، وهي: أن رجلا تزوج امرأة على صداق خمسة إريل، فلما جاء الصبح أعطاها ثلاثة إريل. ولما أتى بعد ذلك، ادعى أن الثلاثة الذي أعطاها إصباحه أنهن من الصداق المذكور، وعادت بنات عمها وأخواتها إصباحتهنَّ أكثر من ذلك. أفتنا مأجورا، وأجب جوابا شافيا تغنم أجرا وافيا. وأنت في أمان الله وحفظه والسلام. بسم الله الرحمن الرحيم الجواب: ما أعطاه الزوج زوجته عند الدخول والبناء بها مما جرت به العادة لأمثالها، كالذي تعطاه صبيحة الدخول لا يحتسب به من صداقها عند المفارقة أو المطالبة بالصداق، ولو نوى ذلك لعدم الإعلام والإشهاد عند القبض. كتبه عبد اللطيف بن عبد الرحمن. ونقلته من خطه الذي كتبه بيده، وعليه رسمه. وذلك في سنة 1343هـ، بقلم الربيعي.
الرسالة التاسعة والسبعون: إلى عثمان بن حسين وجماعته أهل الحوطة
الرسالة التاسعة والسبعون: إلى عثمان بن حسين وجماعته أهل الحوطة ... الرسالة التاسعة والسبعون1 قال جامع الرسائل: وله –قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة لعثمان بن حسين وجماعته أهل الحوطة. بسم الله الرحمن الرحيم. من عثمان بن حمد بن حسين وجماعته أهل الحوطة، إلى الأخ المكرم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن –سلمه الله تعالى سلامة الدين، ودمغ به حزب الشيطان المتمردين - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وغير ذلك، لنا أرض يقال لها الخضيري مزارع للحوطة، ملكا سابقا ومسابلها من الوادي الراكدة، ووضائمها وغفلنا عنها من قلة حاجتنا لجلب سيلها من المداريج الراكدة وطمع أهل الجنوبية في هذه الغفلة، ويوم بغينا حقنا من السيل الراكد السابق بالأول، منعونا أهل الجنوبية، وقوفا منا بلدان، وصدرا منا مثلها، ومن/2 /شرب من سيل الوادي المتصل ثم ينحدر على الذي صدرا منه، والجنوبية صدرا من الحوطة، وندخل على الله، ننخا الله أن انحن/3 نتعدى بغير حق على أحد. ويلزمنا تشريفك لفتيا الشريعة. أفتنا مأجورا غير مأزور. هذا، وبلغ سلامنا الوالد والإمام والأولاد. والإخوان يسلمون عليك. والسلام. بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. والخط وصل. وما ذكرتم كان معلوما، ومن المعلوم المشتهر عند الفقهاء، أن الأعلى يسقي قبل الأسفل ويحبس إلى الجدار. ومن
خالف في ذلك فلا التفات إليه يكون معلوما. وأنتم سالمون والسلام. وكاتبه عبد الرحمن بن علي بن حسن، ينهي السلام والسلام. حرر في سنة 1285هـ. بسم الله الرحمن الرحيم 1 من عبد الله بن فيصل إلى من يراه، السلام، وبعد: العمل على ما ذكره الشيخ أعلاه، يكون معلوما. والسلام. حرر في /5/ذي ك/2 1285هـ.
الرسالة الثمانون: إلى عبد العزيز بن حسن
الرسالة الثمانون: إلى عبد العزيز بن حسن ... الرسالة الثمانون1 من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن، سلك الله بنا وبه أهدى السنن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمائه وجزيل فضله وعطائه –جعلنا الله وإياك ممن عرف نعمة الله عليه فاستعان بها على ما يقربه إليه. والخط وصل وصلك الله بالرضا. وما أشرت إليه، فصار لدينا معلوما. أما الخطوط التي تذكر أنك أرسلتها إلينا قبل هذا الخط الأخير، فلم تصل، ولم يصل منك في هذا العام قبل هذا الخط. وأما الجواب عن المسألتين، فلا يخفى أن أما بالتخفيف تأتي على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح، كما في قوله: "أما أني لم أكن في صلاة" 2 ويقع أيضا قبل القسم، كما في قوله: "أما والذي أبكي وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر، لقد تركتني أحمد الوحش أن أرى أليفين 3 منهالا
يروعهن الذعر 1. وقول الأعصم: أما والذي حجت له العيس وارتمى ... لمرضاته شعث طويل ذميلها للانْ نائبات الدهر يوما/أدلْنَ لي/2 ... على أم عمرو دولة لا أقيلها وقول الآخر: أما يستفيق القلب إن ما بدا له ... توهم طيف من سعاد ومربع وخادع عن أطلالها العين أنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع عهدت بها وحشا عليها براقع ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع وهذا إذا قصد تنبيه المخاطب لما بعدها، والإشارة إلى أن ما بعدها مما يهتم به وطيف إليه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا لعنة الله على اليهود والنصارى"3 "ألا هل بلغت ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب4. وكقول الشاعر: ألا لا يجلهن أحد علينا 5
وكما في قوله: ألا ليت حظي من عطاياك أنني ... علمت وراء الرمل ما أنت صانع والثاني: بمعنى حقا أو أحقا. وزعم بعض الناس أنها تكون حرف عرض بمعنى لولا، فيختص بالفعل، كما في قولك: أما يقوم، أما يقعد ونحوه. أما نحو: أما كان فيهم من يفهم، فالهمزة للاستفهام، وما حرف نفي، وليست مما نحن فيه فتنبه. أما المسألة الثانية: وهي قولك: ما وجه نصب عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته 1؟. فاعلم أن نصب هذه المصادر، على أنها نعت لسبحان؛ لأنه اسم محذوف العامل وجوبا، لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل، كقول الشاعر: ثم 2 قالوا: تحبها؟ قلت بهرا ... عدد /الرمل/3 والحصا والتراب 4 فبهر هنا منصوب على المفعولية المطلقة، لكونها هنا بمعنى عجبا، لكن فعله مهمل غير مستعمل، فلذلك حذف وجوبا، وعدد الرمل في البيت، نعت له، ويحتمل أن
عدد وما عطف عليه، نصب على المفعولية المطلقة والعامل يقدر: سبحته ونزهته، فهو كقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةَ} 1 لأن "سبحانه" على أنه معنى التنزيه والبراءة، أو على لفظه، فلا يعمل في المفعول. ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى هذا التقدير؛ لأن الاسم قد يعمل لما فيه من رائحة الفعل، ويكون النصب لسبحان؛ ويقويه قول ابن مالك: بمثله أو فعله وصف نصب ... وكونه أصلا لهذين انتخب 2 وأما زنته: فمعناه الموازن، والثقل بخلاف ما إذا كان بعده الفعل مستعملا، كقوله: أفلا إذا شب العدى نار حربهم ... وزهوا إذا ما يجنحون إلى السلم 3 وقول الآخر: خمولا وإهمالا وغيرك مولع ... بتثبيت أسباب السيادة والمجد 4
الرسالة الحادية والثمانون: إلى صالح الشثري
الرسالة الحادية والثمانون: إلى صالح الشثري ... الرسالة الحادية والثمانون1 قال جامع الرسائل: /وله –رحمه الله-/2 رسالة إلى صالح الشتري: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم صالح الشتري، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط إبلاغ السلام، وما أشرت إليه من قول الفقهاء في الرخصة أنها: ما ثبتت على خلاف [دليل] 3 شرعي لمعارض راجح. وضدها العزيمة. فالجواب: اعلم أن العزيمة حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح. فقوله: بدليل شرعي، احترازا مما ثبت بدليل عقلي. وقوله: خال عن معارض، احترازا مما ثبت بدليل لكن لذلك الدليل معارض له، مساو له أو راجح لأنه إن كان المعارض مساويا، لزم الوقوف وانتفت العزيمة، ووجب طلب المرجح الخارجي؛ وإن كان راجحا لزم العمل بمقتضاه، وانتفت العزيمة وثبتت الرخصة؛ كتحريم الميتة عند عدم المخمصة، فالتحريم فيها عزيمة، لأنه حكم ثابت بدليل شرعي، خال عن معارض، فإذا وُجدت المخمصة، حصل المعارض لدليل التحريم وهو راجح عليه حفظا للنفس، فجاز الأكل وحصلت الرخصة. وأما الرخصة: فهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي. احترازا عما ثبت على وفق الدليل؛ فإنه لا يكون رخصة بل عزيمة؛ كالصوم في الحضر.
وقوله: لمعارض راجح، احترازا مما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساويا فليزم الوقوف على حصول المرجح، أو قاصرا عن مساواة الدليل الشرعي فلا يؤثر، وتبقى العزيمة بحالها. وعلى التعريف المذكور يدخل في العزيمة الأحكام الخمسة الثابتة بالأدلة الشرعية، ويدخل في الرخصة ما عارض تلك الأحكام وخالفها لمعارض راجح عليها؛ كأكل الميتة عند المخمصة. وسلم لنا على العيال، وأنت سالم والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. بلغ على الأصل وكتبه الربيعي سنة 1343هـ.
الرسالة الثانية والثمانون: الكلام على البسملة
الرسالة الثانية والثمانون: الكلام على البسملة ... الرسالة الثانية والثمانون1 قال جامع الرسائل: وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن أيضا كلام على بسم الله الرحمن الرحيم وجده الكاتب بعد الرسائل التي في الهامش، قال –قدس الله روحه ونور ضريحه-: في بسم الله الرحمن الرحيم أربعة مواضع، تدل على وجوب توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له. الأول: في متعلق الباء، إذا قُدر متأخرا فإنه يفيد الحصر والاختصاص، وتقديره: بسم الله أُؤَلِّف لا باسم غيره. لأن المشركين يستعينون بأسماء آلهتهم، كالمسيح ومريم واللات والعزى ونحو ذلك. والموحد يخص الله –سبحانه - ويفرده باستعانته، كما يخصه ويفرده بركوعه وسجوده، وغير ذلك من عباداته. والموضع الثاني: في اسمه الله. فإنه دال على أنه –سبحانه - هو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له، بما فيه من المعنى الموضوع له وهو عَلَمِيتَّه على ذي الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. فسره به حبر الأمة ابن عباس 2. وكلام غيره يدل على ذلك أيضا. والموضع الثالث: في وصفه –تعالى - بالرحمن؛ فإنه صفة دلت على أنه –تعالى - اتصف بغاية الرحمة ومنتهاها. ومَنْ هذا وصفه وهذا رحمته فقصد غيره وعبادة سواه ورجاؤه من أضل الضلال وأبطل الباطل وأسفه السفه، وهكذا الاستدلال بجميع صفات الكمال كالعلم والقدرة وغير ذلك. الموضع الرابع: في اسمه الرحيم؛ فإن معناه: الذي أوصل ويوصل إلى عباده غاية
الرحمة ومنتهاها، وكل ما في الموجودات من أنواع النعم والهداية والخيرات فمن رحمته وفضله وإحسانه. فمن هذا فعله بعبيده، وهذه رحمته لهم هو الذي يستحق ويجب أن يعبد ويقصد ويرجى ويناب إليه، والعدول إلى غيره ضلال بعيد، وجهل عظيم، وشرك وخيم. {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1. ومن تأمل ما في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال، فتح له باب عظيم في معرفة الله وحقه، ووجوب توحيده –تعالى - وتقدس عن أن يكون له شريك. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ثالثا: الرسائل الخاصة بالفتن
ثالثا: الرسائل الخاصة بالفتن الرسالة الثالثة والثمانون: إلى عبد الرحمن بن إبراهيم ... الرسالة الثالثة والثمانون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا - رحمه الله وعفا عنه - رسالة إلى عبد الرحمن بن إبراهيم "ابا الغنيم" يعظه فيها عن مجالسه من افتتن بموالاة أعداء الله ورسوله، من العساكر الهاجمة على بلاد المسلمين. والتحذير من رسالة ابن عجلان. وقد سماها الشيخ – رحمه الله-: "حبالة الشيطان" وذكر أنها دهليز يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم، وكذلك ذكر فيها حكم المتغلب إذا كان مسلما، وأن ما وقع منه من الظلم والغشم وسفك الدماء ونهب الأموال، كل ذلك لا يوجب الخروج عليه، ولا نزع اليد من طاعته. وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم "أبا الغنيم"، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل – وصلك الله بالفقه والبصيرة، وأصلح لك العمل والسريرة - وما ذكرت من المحبة والمودة، فما كان لله يبقى وإن طال الزمان به، ويذهب ما سواه. والذي أوصيك به تقوى الله – سبحانه وتعالى-، والنظر في سبب ما جرى عند هذه الفتنة الظلماء، من المهاجرة بيننا والمقاطعة، وشرحه لك فيه تذكرة وموعظة. لما وقعت الفتنة نأيت بجانبك عن الاسترشاد والاستفادة، واستحسنت المراء في الدين واللجاج، صدر منك ذلك في غير ما مجلس، حتى أسأت الأدب في السوق، وخاطبتني خطب من لا يدري الحقائق، ولا يهتدي لأوضح المسالك والطرائق، ونظرت بعين، وغمضت الأخرى، ونكبت عما هو أولى بالإصابة وأخرى، وأقبلت في
تلك الأيام على الملإ المفتونين بخطوط العساكر التي وصلت إلى بلدتنا، وأنت تدري ما فيها من الصد عن سبيل الله وهدم دينه، ومطاردة أوليائه، والتنويه بذكر أعداء الله، والدعوة إلى طاعتهم، والدخول تحت أمرهم، وتخويف المسلمين منهم. وقد صرح كثير من الناس بالدخول تحت أمرهم، وظهر الفرح والسرور من كثير ممن يدعي الإسلام، وأنت أيها الرجل ممن يتردد إلى هؤلاء المفتونين، ويأنس ببعضهم، ويصغي إلى شبهاتهم وجهالاتهم، ولم تلتفت إلى بحث ومحاقة ولا استرشاد، كما هو الواجب لله عند تلك الفتنة والشبهات، لكنك غلَّبت جانب الهوى، وأكثرت تلك الأيام من مجالسة من يضر ولا ينفع، ولا يني 1 /من/2 إغوائه ولا ينزع، وقد جاء الأثر: أن من جالس صاحب البدعة نزعت من العصمة 3. فكيف بما هو أكبر من البدعة وأعظم؟!. ولم يبلغني عنك تلك الأيام ما يسرني، من قيام لله، ونصرة لدينه، اللهم إلا ما جرى على لسانك من دعوى البراءة من الشرك وأهله على سبيل الإجمال، لا التفصيل. وقد علم الله أن العبرة بالحقائق،/و/4 ليس الإيمن بالتمني ولا
بالتحلي، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال 1. ولم تزل على ما وصفنا، تطير مع من طار، وتغير علينا بالتخطئة، والمراء مع من أغار، ومثلك كان يظن به الخير، ويأسى عليه الصاحب، وأنت وإن لم تكن كل الفقيه والطالب، فقد حنكتك التجارب، وقعدتك الحوادث والمذاهب، لولا ما عارضها من صحبة جلساء السوء، الذي يدعونك إلى أهوائهم وأغراضهم الفاسدة، لا سيما أخصهم لديك وأحبهم إليك، فإنه – كما قيل: "المس مس أرنب، والطبع طبع ثعلب" 2. وقد اتهم في السعي فيما يقوي عضد المشركين، ويوهن عزم الموحدين، وإلى الله المصير، وهو الحكم بيننا وبين من أعان على هدم الإسلام من صغير وكبير، ومأمور وأمير.
وأيضا، فأهل الإحساء قد اشتهر حالهم، وأنهم ألقوا لسلم إلى عساكر الدولة 1 واختاروا ولايتهم، وصرحوا بطاعتهم، ونصروهم بالقول، وعاملوهم معاملة الأخ مع أخيه، بل جاءت خطوط التجار المترفين أولي النعمة بتزكيتهم والثناء عليهم، وانتصب ولدك لخدمتهم، وقضاء حوائجهم، ولم يظهر لي منك قيام بحق الله عند هذه الدواهي العظام، التي تمانع الإيمان والقرآن والإسلام، وتنتثر منه عقد النظام، والله أعلم بسرك، وهو الرقيب عليك، لكني أحكي ما ظهر لي منك ذاك الوقت، وقد ظهر أثر ما ذكرنا، وعقوبة ما أليه أشرنا، بإقبالك واشتغالك بحبالة الشيطان "رسالة ابن عجلان"، فطرت بها طيران من لا يلوي على أهل ولا صاحب، كأنها العهد الرباني، والوصية النبوية، واشتغلت بقراءتها وسماعها مع جماعة من العوام والصبيان. وتلك الرسالة دهليز 2 يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم على المسلمين، والحكم على عصر شيخ الإسلام ابن تيمية – من أهل مصر والشام - بالشرك والمكفرات. وفيها 3 أ، جلب عباد الأصنام إلى بلد الإسلام، والاستعانة بهم على من خرج عن الطاعة، ليس بذنب. ولولا أن حجاب الجهل والهوى من أكثف الحجب وأغلظها، لتبين شناعة ما فيها للناظرين من أول وهلة، وبمجرد الفطرة. "شعر": أَكُل امرئ تحسبين أمرّأ ... ونار تُوقد في الليل نارا 4 ثم هنا مسألة أخرى، وداهية كبرى، دهى بها الشيطان كثيرا من الناس، فصاروا
يسعون فيما يفرق جماعة المسلمين، ويوجب الاختلاف في الدين، وما ذمه الكتاب المبين،/ويقتضي الإخلاد/ 1 إلى الأرض، وترك الجهاد، ونصرة رب العالمين، ويقضي إلى منع الزكاة، وشب نار الفتن والضلالات، فتلطف الشيطان في إدخال هذه المكيدة ونصب لها حججا ومقدمات، وأوهم أن طاعة بعض المتعلِّبين، فيما أمر الله به ورسوله /من/2 واجبات الإيمان، وفيما فيه دفع عن الإسلام وحماية لحوزته؛ لا تجب – والحالة هذه - ولا تشرع. /ولم يدر/3 هؤلاء المفتونين، أن أكثر غلاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية 4 -حاشا عمر بن عبد العزيز رحمه الله 5، ومن شاء الله من بني أمية-6 قد وقع منهم ما وقع من الجرأة والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك، فسيرة الأئمة الأعلام والسادة العظام معهم، معروفة مشهورة، لا ينزعون يدا من طاعة، فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام، وواجبات الدين. وأضرب لك مثلا بالحجاج بن يوسف الثقفي 7، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم
والغشم والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادة الأمة؛ كسعيد بن جبير1، وحاصر ابن الزبير 2، وقد عاذ بالحرم الشريف. واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير 3، مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة، وبايعه أهل مكة والمدينة واليمن، وأكثر سواد العراق، والحجاج نائب عن مروان 4 ثم عن ولده عبد الملك 5 ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك، لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته، والانقياد له، فيما تسوغ طاعته فيه، من أركان الإسلام وواجباته. وكان ابن عمر 6 ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه، ولا يمنعون من طاعته فيما يُقومُ به الإسلام، ويكمل به الإيمان، وكذلك
من في زمنه من التابعين؛ كابن المسيب، 1 والحسن البصري، 2 وابن سيرين، 3 وإبراهيم التيمي، 4 وأشباههم من سادات الأمة. واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة من سادات الأمة وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر وفاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين، والعقائد 5. وكذلك بنو العباس، استولوا على بلاد المسلمين، قهرا بالسيف، لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلفا كثيرا، وجما غفيرا من بني أمية وأمرائهم ونوابهم، وقتلوا ابن هبيرة 6 أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان 7، حتى نقل أن السفاح 8 قتل
في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب1، ومع ذلك فسيرة الأئمة، كالأوزاعي 2 ومالك 3 والزهري 4، والليث بن سعد 5، وعطاء بن أبي رباح 6، مع هؤلاء الملوك، لا تخفى على من له/أدنى/7 مشاركة في العلم/ والإطلاع/8. والطبقة الثانية من أهل العلم؛ كأحمد بن حنبل 9، ومحمد بن إسماعيل 10،
محمد بن إدريس،1 /ومحمد بن نوح،/2 وإسحاق بن راهوية،3 وإخوانهم؛ وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وإنكار الصفات 4 ودعوا إلى ذلك وامتحنوا فيه، وقُتل من قتل، كمحمد بن نصر 5 ومع ذلك فلا يعلم أن أحدا منهم نزع يدا من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم. وإلى الآن يبلغني عنك أنتك تميل إلى ذلك الضرب من الناس الذين ويصفنا حالهم، فرضيت بهم في أمر دينك، وضربت عن سيرة الأئمة صفحا، وطويت على هجرها كشحا 6. فإن تبين لك هذا، ومَنَّ الله عليك بمعرفته، فأنت أخونا وصاحبنا القديم العهد، والجرح جبار، ولا حرج ولا عار، وإن بقيت عندك شبهة أو جادل مجادل، فاكتب واسأل كشفها، ولا تكتمها، فإني أحشى عليك قطاع الطرق، لا سيما عند
فقد رفق الرفيق والعدة. فإن حاك في صدرك شيء فأكثر من التضرع إلى الله، والتوسل بالأدعية المأثورة، ومنها ما في حديث الاستفتاح 1 وكرر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنام 2 من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله 3، فقد بسط القول في هذه المسألة في رسائله واستنباطه، ورأيت له عبارة يحسن ذكرها، قال – رحمه الله-: "لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم/أنهم/4 لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم، ومعلوم أن كلا من الطائفتين [أهل العراق وأهل الشام] 5 معتقدة أهها على الحق والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع 6 الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، [ولكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف] 7 أَتُرى أهل الشام لو حملتهم مخالة علي على الاجتماع بهم والاعتذار عنهم، والمقاتلة معهم – لو امتنعا - أترى/إن/8 أحدا من الصحابة شك في كفر من التجأ إليهم، ولو أظهر البراءة من اعتقادهم؟ وإنما التجأ إليهم [وزيّن مذهبهم] 9؛ لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان. قال – رحمه الله-: فتفكر في هذه/القضية/10 فإنا لا بتقي شبهة إلا على من أرادالله فتنته".
انتهى كلامه 1 والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الرابعة والثمانون: إلى زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري
الرسالة الرابعة والثمانون: إلى زيد بن محمد وصالح بن محمد الشثري ... الرسالة الرابعة والثمانون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا -/رحمه الله/2 - رسالة إلى زيد بن محمد 3 وصالح/بن محمد/4 الشتري 5 /-رحمهما الله تعالى-/6 وهي من آخر ما كتب – رحمه الله تعالى وعفا عنه. ثم اعلم أن كل من دعا إلى الله، وجاهد في الله/ولله/7، فلا بد أن يؤذى وينال منه، والعاقبة للمتقين،/وهذا نصها/8: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين زيد بن محمد، وصالح/بن محمد/9 الشتري،/سلمهما/10 الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد /إليكما/1 الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، والخط وصل، وصلكم الله ما يرضي÷ وما/ذكرتما/2 كان معلوما، وموجب تحرير هذا، ما بلغني بعد قدوم عبد الله 3 وغزوه، من أهل الفرع، وما جرى ليدكم من تفاصيل الخوص في أمرنا والمراء والغيبة، وإن كان قد يلغني أولا كثيرا من ذلك، لكن بلغني من ذكر تفاصيل ما ظننتها. فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض والمسبة، ونستبي إلى الهوى والمعصية، فتلك أعراض انتهكت وهُتكت في ذات الله، أعدها لديه جل وعلا ليوم فقر ي وفاقتي، وليس الكلام فيها. والقصد بيان ما أشكل على الخواص، والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء. فأول ذلك مفارقة سعود 4 لجماعة المسلمين، وخروجه على أخيه. وقد صدر منا من الرد عليه وتسفيه رأيه، ونصيحته ولد عايض 5 وأمثاله من الرؤساء، عن متابعته والإصغاء إليه، ونصرته، وذكرناه بما ورد من الآثار النبوية، والآيات القرآنية، بتحريم ما فعل، والتغليظ على من نصره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة 6، فثل عرش الولاية، وانتشر نظامها وحبس محمد بن فيصل 7. وخرج الإمام عبد الله شاردا، وفارقه أقاربه وأنصاره 8 وعند وداعه وصته بالاعتصام بالله، وطلب النصر منه
وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة 1. ثم قدم علينا سعود 2 بمن معه من العجمان 3 والدواسر 4 وأهل الفرع، وأهل الحريق، وأهل الأفلاج، وأهل الوادي 5، ونحن في قلة وضعف، وليس في بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا.
فخرجت إليه، وبذلك جهدي، ودافعت عن المسلمين ما استطعت؛ خشية استباحة البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القراء، من يحثه على ذلك/ ويتفوه/1 بتكفير بعض رؤساء أهل بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل. فوقى الله شر ذلك الفتنة، ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد، وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده. وصارت له ولاية بالغلبة والقهر، تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف، كما عليه كافة أهل العلم على تقادم الأعصار، ومر الدهور. وما قيل من تكفيره لم يثبت لديَّ. فسرتُ على آثار أهل العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف، وترك الفتنة، وما توجب/من/2 الفساد على الدين والدنيا؛ والله يعلم أني بار راشد في ذلك، ومن أشكل عليه شيء من ذلك، فليراجع كتب الإجماع؛ كمصنف ابن جزم 3 ومصنف ابن هبيرة 4 وما ذكره الحنابلة وغيرهم. وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى
تحصيل وممارسة، وقد قيل:"سلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم" 1 وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له – كما تقدم - أشد النصح، وبعد مجيئه لما أخرج شيعة عبد الله سعودا، وقدم من الإحساء، ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله وحقه، وإيثار مرضاته، والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه، أهل التعطيل والشرك والكفر، البواح/2؛ وأظهر التوبة والندم 3. واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول آل مرة 4، والعجمان. وصار لعبد الله غلبة، ثبتت بها ولايته، على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم أن عليه عمل الناس، من أعصار متطاولة. ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية، وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنده 5، ومر بالبلدة منهزما، لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعجلت إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت نفسي مدافعة الأعراب مع شرذمة قليلة، من أهل البلد؛ ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل
البلد، وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته 1. وأما بعد وفاة سعود 2، فقدم الغزاة ومن/ معهم/3 من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف، وسفك الدماء، وقطيعة الأرحام بين حمولة 4 آل مقرن 5، مع غيبة عبد الله، وتعذر مبايعته 6، بل ومكاتبته؛ ومن ذكره يخشى على ماله ونفسه. أفيحسن أن يُترك المسلمون وضعفاؤهم نهبا وسبيا للأعراب والفجار وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو شر من عبد الرحمن 7 وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أنِّي وأمثالي أستطيع دفع ذلك، مع ضعفي، وعدم سلطاني وناصري، فهو من أسفه الناس، وأضعفهم عقلا وتصورا. ومن عرف قواعد الدين، وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح، ودفع
المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع/ الجهلة/1، والغوغاء، وإنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمفاتي، والمتصدون لإفادة الناس، وحماية الشريعة المحمدية. وبهذا ثبتت بيعته، وانعقدت 2، وصار من ينتظر غائبا لا تحصل به المصالح، فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به 3. ثم إن حمولة آل سعود، صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولايةوصرنا نتوقع كل يوم فتنة، وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا وخرج ابن جلوي 4 من البلدة، وقتل ابن صنيتان 5 وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في
الصلح وترك الولاية لأخيه عبد الله، فلم آل جهدي في تحصيل ذلك، والمشورة عليه، مع أني قد أكثرت فيذلك حين ولايته، [ولكن رأيته ضيعف العزم، لا يستبد برأيه] 1 فيسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام، أنه وافق على تقديم عبد الله، وعزل نفسه بشروط اشترطها، بعضها غير سائغ شرعا. فلما نزل الإمام عبد الله ساحتنا، اجتهدت إلى أن محمد/بن/2 فيصل 3 يظهر إلى أخيه ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه، وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله، لما 4 خرجت للسلام عليه، وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين، يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا. ورأيت معه بعض التغيير والعبوس، ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا، ولكنه بعد ذلك أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا، "وبئس مطية الرجل زعموا"5، وتحقق عندي دعوى التوبة، فأظهر لديّ الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا مختصر القضية 6، ولولا أنكم من طلبة العلم، والممارسين الذين يكتفون بالإشارة، وأصول المسائل، لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم
وإجماعهم، ما يكشف الغمة، ويزيل اللبس. ومن بقي عليه إشكال، فليرشدنا رحمه الله. ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا أو يخالفه، وصارت المذاكرة، لا تكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة/ممن/1 كان عنده علم، واغتر الجاهل، ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس/والخلط/2 والمراء والاعتداء في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه، وعدم البحث، واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه. وبالجملة، فهذا الذي نعتقد وندين به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم والمتعدي حسابنا وحسابه إلى الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر فيه مخبآت الصدور والضمائر، يوم يبعث ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور. وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة، مما نسب في حقي إليكم، فالأمر سهل، والجرح جبار، ولا حرج ولا عار. وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه من الغلظة على المنافقين 3، الذين فتحوا للشرك كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب، وتأملوا قوله تعالى بعد نهيه عن موالاة الكافرين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ/4} الآية 5. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، /إلى يوم الدين/6.
الرسالة الخامسة والثمانون: إلى علي بن محمد وابنه في شأن الفتنة
الرسالة الخامسة والثمانون: إلى علي بن محمد وابنه في شأن الفتنة ... الرسالة الخامسة والثمانون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا/-قدس الله روحه، ونور ضريحه-/2 رسالة/أرسلها/3 إلى علي بن محمد وابنه محمد آل موسى 4 وقد ذكروا له في أمر هذه الفتنة والحوادث، وما حصل في ضمنها من عظيم الكوارث، فبين لهما – رحمه الله - مبدأ هذه الفتنة، والحكم في أهلها وجندها؛ لأنه قد خفي على بعض المنتسبين إلى العلم والدين، حقيقة الحكم الشرعي، والقول الصواب المرضي؛ /وهو/:5 أن من استولى على المسلمين بالغلبة والسيف، فالبيعة ثابتة له؛ تنفذ أحكامه، وتصح إمامته، باتفاق أهل العلم والدين، وأئمة الإسلام، لا يختلف في ذلك منهم اثنان 6. وأنهم يرون المنع من الخروج عليه بالسيف، وتفريق الأمة، وإن/كانت/7 الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يرو/كفرا/8 بواحا 9. وقد جرى في تلك الفتنة، من الخوض، والمراء، والجدال، والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ما عم ضرره، وطار في الأقطار شرره، وصار سببا وسلمّا، لولاية المشركين، وارتداد المرتدين، وخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده المؤمنين، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين علي بن محمد وابنه محمد بن علي، سلمهما الله تعالى من الأهواء، وحماهما نم طوارق المحن والبلوى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليكما الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والخط وصل، وصلكما الله ما يرضيه، وجعلكما ممن يحبه ويتقيه، وما ذكرتما صار معلوما. و/ها/ 1 الحوادث والفتن أكثر مما وصفتم، وأعظم مما إليه أشرتم، كيف لا وقد تلاعب الشيطان بأكثر المنتسبين،/وصار/2 سُلَّما لولاية المشركين، وسببا لارتداد المرتدين، وموجبا لخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى تعطيل توحيد رب العالمين وإلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده المؤمنين. فتنة لا يصل إليها حديث ولا قرآن 3 ولا يرعوى أبناؤها عما يهدم الإسلام والإيمان، يعرف ذلك من منَّ الله عليه بالعلم والبصيرة، وصار على حظ من أنوار الشريعة المطهرة المنيرة، وعلى نصيب من مراقبة عالم السر والسريرة. وقد عرفتم مبدأ هذه الفتنة، وأولها، والحكم في أهلها وجندها، ثم صار لهم دولة
بالغلبة والسيف، واستولوا على أكثر بلاد المسلمين، وديارهم، وصارت الإمامة لهم بهذا الوجه، ومن هذا الطريق، كما عليه العمل عند كافة أهل العلم من أهل الأمصار في أعصار متطاولة. وأوّل ذلك ولاية آل مروان، لم تصدر لا عن بيعة، ولا عن رأي، ولا عن رضا من أهل العلم والدين بل بالغلبة؛ حتى صار على ابن الزبير 1 ما صار، وانقاد لهم سائر أهل القرى والأمصار. وكذلك مبدأ الدولة العباسية، ومخرجها من خراسان، وزعيمها رجل فارسي يُدعى أبا مسلم 2، صال على من يليه، ودعا إلى الدولة العباسية، وشهر السيف وقتل من امتنع عن ذلك، وقاتل عليه، وقتل ابن هُبيرة 3 أمير العراق، وقتل خلقا/ كثيرا/4 لا يحصيهم إلا الله، وظهرت الرايات السود العباسية، وجاسوا خلال الديار قتلا ونهبا، في أواخر القرن الأول 5، وشاهد ذلك أهل القرن الثاني والثالث من أهل العلم والدين وأئمة الإسلام؛ كما لا يخفى على من شم رائحة العلم، وصار على نصيب من معرفة التاريخ وأيام الناس. وأهل العلم مع هذه الحوادث، متفقون على طاعة من تغلَّب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه، وصحة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج
عليهم بالسيف، وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحا. ونصوصهم في ذلك موجودة عند الأئمة الأربعة، وغيرهم 1، وأمثالهم ونظرائهم. إذا عرفت هذا، فالحاصل في هذا العصر، بين أهل نجده، حكم أمثاله من الحوادث السابقة، في زمن أكابر الأئمة؛ كما قدمنا. وصارت ولاية المتغلب ثابتة، كما إليه أشرنا، ووقع اتفاق ممن ينتسب إلى العلم لديكم على هذا؛ كالشيخ إبراهيم الشتري في الحوطة، وحسين 2 وزيد 3 في الحريق؛ وخطوطهم عندنا محفوظة معروفة، فيها تقرير إمامة سعود 4، ووجوب طاعته ودفع الزكاة إليه، والجهاد معه، وترك الاختلاف عليه، كل هذا موجود بخطوطهم، فلا جرم، قد صار العمل على هذا والاتفاق.
ثم تَوَقَّى الله/ سعودا/1، واضطرب أمر الناس، وخشينا الفتنة، واستباحة /الحرمات/2؛ من باد وحاضر، وتوقعنا حصول ذلك، وانسلاخ أمر المسلمين، فاستصحبنا ما ذكر وبنينا عليه 3، واختار أهل الحل والعقد. من حمولة آل سعود ومن غيرهم ومن يليهم – نصب عبد الرحمن بن فيصل 4، وذلك صريح في عدم الالتفات منهم إلى ولاية غير/آل/5 سعود؛ ولذلك كتبنا في الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة، والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأن يكون المسلمون يدا واحدة، وذكَّرناهم بالبيعة، والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأ، يكون المسلمون يدا واحدة، وذكرناهم قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 6، ونحو ذلك من الآيات، وبعضا مما ورد من الأحاديث الصحيحة 7. فترك بعض من لديكم هذا المنهج، وسلكوا طريقا وعرة، تفضي إلى سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتضليل من خالفهم، ودعا بعضهم إلى ذلك واستحسنه، من غير مشورة ولا بينة، ولم ينصحوا إخوانهم ويوضحوا لهم وجه الإصابة، فيما اختاروه وما
ارتضوه، وكان الواجب على من عنده تعلم أن ينصح الأمة، بل وينصح أولا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم 1. ويكرر الحجة، وينظر في الدليل، ويرشد الجاهل، ويهدي الضال، بحسن البيان وتقرير صواب المقال. لكنهم أحجموا عن ذلك كله، ولم يلتفتوا إلى المحاقة 2، والله هو ولي الهداية، الحافظ الواقي من موجبات الجهل والغواية. وقد أوجب البيان، وترك الكتمان، وأخذ الميثاق على ذلك 3 على من عنده علم وبرهان. وهذا هو صورة الأمر وحقيقة الحال، وقد عرفتموه أولا وآخرا في المكاتبات الواردة عليكم، فلا يلتبس/ عليكم/4 الحال، ولا يشتبه سبيل الهدى بالجهل والضلال/واذكروا /5 قوله/تعالى/6 {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 7. إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل 8 وأما الصلح بين المسلمين؛ فهو من واجبات الإيمان والدين، ولكن يحتاج
/إلى قوة/1 وبصيرة، يحصل بها نفوذ ذلك والإجبار عليه، فإن/ وجدت/2 إلى ذلك سبيلا، فاذكره/3 لي، /ولا آلو/4 جهدا -إن شاء الله - فيما يكف الفتن، ويصلح به بين المسلمين. وأسأل الله أن يَمُنَّ بذلك، ويوفق لما هنالك./وبلغوا سلامنا من لديكم من خواص الجماعة. ومن لدينا العيال بخير، وينهون إليكم السلام والسلام/5. [وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم] 6.
الرسالة السادسة والثمانون: إلى الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين في شأن الفتنة
الرسالة السادسة والثمانون: إلى الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين في شأن الفتنة ... الرسالة السادسة والثمانون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا/-قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى الأخوان: الشيخ إبراهيم ورشيد بن عوين وعيسى بن إبراهيم، وإخوانهم 2. مضمونها التحريض على لزوم الجماعة والإمامة، لأن إضاعتها من أسباب الخزي والندامة، وبالتزامها تحصل السلامة والاستقامة. وعرفهم في هذه الرسالة ما سبق منه في أول هذه الفتنة من المكاتبات، وما منَّ الله عليه به من المذاكرة والمناصحات، من لزوم بيعة الإمام عبد الله 3 والتصريح بأن راية أخيه سعود، راية جاهلية عمية. ثم لما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة 4 إلى البلاد الإسلامية، والجزيرة العربية، وإعطائهم الإحساء والقطيف والخط؛ تبرأ مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد نكيره ليه شفاها ومراسلة. كما مر ذكر ذلك فيما سبق من الرسائل 5. وثبتت لأخيه سعود البيعة بالغلبة والقهر. ثم بعد ذلك قدم عبد الله من الإحساء وادعى التوبة والندم وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض. وكتب الشيخ إلى الشيخ حمد بن عتيق 6
أنَّ الإسلام يجب ما قبله 1، وأن التوبة تهدم ما قبلها. وذكر له أن الواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين. ثم إنه تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة. وقد علمت أن الحكم يدور مع علته 2؛ يثبت بثباتها، وينتفي انتفائها. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم الشيخ إبراهيم، ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب وإخوانهم سلك الله بنا وبهم سبيل الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة؛ وقد حصل من التفرق والاختلاف، والخوض في الأهواء المضلة، ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين أعلامه الظاهرة وشرعه. وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها إلى بصر ناقد عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات. والقول على الله بغير علم، والخوض في دينه من غير دراية، ولا فهم، فوق الشرك واتخاذ الأنداد معه. وقد صار لديكم، وشاع بينكم ما يعز حصره واستقاؤه؛ فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فحسبه السكوت، وقد عرفتم حالنا
في أول هذه الفتنة، وما صدر إليكم من المكاتبات والنصائح؛ وفيها الحزم بإمامة عبد الله ولزوم بيتعه، والتصريح بأن راية أخيه، راية جاهلية عمية، وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله ورسوله، ووجوب السمع والطاعة. فلما صدر من عبد الله ما صدر من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية، والجزيرة العربية، وإعطائهم الإحساء والقطيف والخط، تبرأنا مما يرى الله منه ورسوله، واشتد النكير عليه شفاها ومراسلة، لمن يقبل مني، ويأخذ عني؛ وذكرت لكم أن بعض الناس جعله ترسا، تدفع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم، والبراءة منهم، وتحريم موادّتهم، ومؤاخاتهم؛ من النصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. والقول بأنهم جاءوا لنصرة إمام أو دين، قول يدل على ضعف دين قائله وعدم بصيرته، وضعف عقله، وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سواسية الأعراب، ومن نكب عن طريق الحق والصواب، وأعجب من هذا نسبه جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك، والصواب، والصورة المختلف فيها - مع ضعف القول بجوازها، وإباحتها، والدفع في صدرها؛ كما هو مبسوط في حديث: "إنا لا نستعن بمشرك" 1 - هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى، وهذه الصورة حقيقتها تولية وتخلية وخيانة ظاهرة، كما يعرفه من له أدنى ذوق ونهمة في العلم. لكن بعد أن قدم عبد الله من الإحساء، ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض؛ وكتب إلى ابن عتيق أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعي فيما يصلح الإسلام والمسلمين، ويأبى الله إلا ما أراد {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2 والمقصود كشف حقيقة الحال، في أول الأمر وآخره. وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، ووسموه باسم
الإمامة. وقد عرفتم أن أمر المسلمين لا يصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية، ولا تحصل الأركان الإسلامية، ولا تظهر الأحكام القرآنية إلا مع الجماعة والإمامة. والفرقة عذاب، وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط، ومن عرف القواعد الشرعية، عرف ضرورة الناس، وحاجتهم في أمر دينهم، ودنياهم، إلى الإمامة والجماعة. وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطوه حكم الإمامة 1 ولم ينازعوه، كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أُخِذت بالقهر والغلبة. وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الإمامة والجماعة 2، ولم يختلف أحد في ذلك، وغالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل، وهذا النمط، ومع ذلك فأهل العلم والدين يأتمرون بما أُمروا به بمن المعروف، وينتهون عما نهوا عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام؛ كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة 3 ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب، والخروج عليه، وترك الأمة تموج في مائها، وتستبيح الأموال والحرمات، ويحوس العدو الحربي خلال ديارهم، وينزل بحماهم؛ هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مصاب في عقله، موتور 4 في دينه وفهمه، وقد قيل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا 5
بل هذا الحكم الديني يؤخذ من قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1؛ لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركه مفسدة محضة، ومخالفة صريحة. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2، وفي الحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"3. لا سيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واستخف الشيطان أكثر الناس، وزين لهم الموالاة، واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرئاسة إليهم، وأنهم ولاة أمر/يعزلون/4 ويولون، وينصرون وينصبون، وأنهم جاءوا لنصرة فلان، وكما الشيطان على ألسنة المفتونين، وصاروا بعد التوسم بالدين من جملة أعوان المشركين/المبيحين/5 لترك جهاد أعداء رب العالمين فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطية، وما أبعدها عن دين الله ورسوله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وصدر من بعض الإخوان، من الرسائل المشعرة بجواز الاستنصار بهم، وتهوين
فتنتهم 1، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلة لا يُرقى سليمها، وورطة قد هلك وضل زعيمها، وما أحسن قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 2، فأقبلوا وامتثلوا موعظة ربكم، وجاهدوا في الله حق جهاده. وقد أجمع المسلمون على جهاد عدوهم، مع الإمام سعود -وفقه الله - وقد قرر أهل السنة في عقائدهم، أن الجهاد ماضٍ مع كل إمام، وهو فرض على المشهور 3 أو ركن من أركان الإسلام، لا يبطله جور جائر. وقد قال بعض السلف لما لامه بعض الناس على الصلاة خلف المبتدعة: إن دعونا إلى الله أجبنا، وإن دعونا إلى الشيطان أبينا 4. وفي الحديث: "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" 5. وفقنا الله
وإياكم، للجهاد في سبيله والإيمان بوعده وقيله. واحذروا المراء والخوض في دين الله بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك؛ كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1. وبلغوا/سلامنا/2 سائر الإخوان. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 3. وصلى الله على محمد وآله وصحبه/وسلم/4.
الرسالة السابعة والثمانون: إلى الأخوان من بني تميم يعزيهم في وفاتهالشيخ عبد الملك
الرسالة السابعة والثمانون: إلى الأخوان من بني تميم يعزيهم في وفاتهالشيخ عبد الملك ... الرسالة السابعة والثمانون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة إلى الإخوان من بني تميم 2، يعزيهم في الشيخ عبد الملك 3 -رحمه الله تعالى-، ويخبرهم بالصلح الذي وقع بينه وبين سعود الفيصل 4 لما خرج من الإحساء يريد نجد، بعد "وقعة الجودة" 5 ورجوع عبد الله إلى الرياض، وليس معه إذ ذاك إلا نزر قليل من البادية، والحاضرة، ومع سعود خلق كثير، وجم غفير. فلما رأى – رحمه الله تعالى - كثرة تلك البوادي، وشدة الحنق، والغيظ مع أولئك الأعادي، وخشي على البلد من الدمار، وخراب الدين والدنيا، وهتك الأستار؛ سعى في الصلح، ودافع عن الإسلام والمسلمين، وبذل الجهد، وأخذ العهد على ضعفة المسلمين عن أولئك المعتدين. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف عبد الرحمن، إلى الإخوان من بني تميم، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه. ونسأل الله
أن يحسن عزاءنا، وعزاءكم، في الأخ الشيخ عبد الملك بن حسين، غفر الله ذنبه، ورحمه ورفع في المقربين درجته. وما ذكرتم من جهة حالكم مع عبد الله، وصدقكم معه، صار معلوما، نسأل الله لنا، ولكم التوفيق. وقد بذلنا الاستطاعة في نصرته، حتى نزل بالناس ما لا قبل لهم به، وخشينا على كافة المسلمين من أهل البلد، من الشيء، وهتك الأستار، وخراب الدين والدنيا والدمار. ونزلنا وسعينا بالصلح، بإذن من عبد الله في الصلح، /وألجأتنا/1 إليه الضرورة، ودفعنا عن الإسلام والمسلمين ما لا قبل لهم به. فإن يك صوابا، فمن الله، وإن يك خطأ، فمنا، ومن الشيطان. وفي السير ما يؤيد ما فعلناه، وينصر ما انتحلناه. وقد صالح أهل الدرعية، وآل الشيخ، وعلماؤهم، وفقهاؤهم، على الدرعية، لما خيف السَّبي والاستئصال، وعبد الله ظهر بمرجلة البلد، ونزل الحائر، ولم يحصل منه نصر، ولا دفاع. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. ثم بلغنا أن الدولة، ومن والهم من النصارى وأشباههم، نزلوا على القطيف يزعمون نصرة عبد الله، وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضَّينا/ سعودا/3 على جهادهم، ورغبناه في قتالهم، وكتبنا/ لبلاد المسلمين/4 بذلك. قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 5. والعاقل يدور مع الحق، أينما دار، وقتال الدولة، والأتراك، والإفرنج، وسائر الكفار،
من أعظم الذخائر المنجية من النار. {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1 والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الثامنة والثمانون: منظومة في الفتنة التي وقعت بين المسلمين
الرسالة الثامنة والثمانون: منظومة في الفتنة التي وقعت بين المسلمين ... الرسالة الثامنة والثمانون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – قدس الله روحه ونور ضريحه - منظومة أنشأها/ رحمه الله-/2 لما اشتدت الكربة، واستحكمت الغربة، وقلَّ المعاون والمساعد، وكثر المخالف والمعاند، ودهمت فوادح معضلات الحوادث، وهجمت بكلاكلها الخطوب الأثائث 3 التي تشيب من أهوالها النواصي، ويعجز عن حمل بعاعها 4 الجبال الرواسي. فأول ذلك الفتنة التي وقعت بين المسلمين، وانثل بها عرش الملة والدين، وانهدم/بها/5 سور الإسلام وصار الأمر بأيدي البوادي الطغام، فانفرجت ذات البين، وانكشفت العورة لأهل الكفر والمين 6. فعند ذلك، فحدتنا المعضلات العظام، وانهدمت أصول الدين والإسلام، وانطمست المعالم والأحكام؛ فقدمت العساكر إلى البلاد الإسلامية، فانكشفت شمس الرسالة المحمدية، وافتتن كثير من جهلة الناس، بفتوى من ينتسب إلى العلم، من أهل الجهل والإفلاس، بأن تلك العساكر التي هجمت على بلاد أهل الإسلام، إنما جاءوا لنصرة ذلك الإمام 7. فأنشأ هذه المنظومة، من حرارة الجوى 8، وخوفا على الناس، من سلوك المفاوز
التوى 1، وأسّ على من هلك،/بشبه/2 المشبهين وتمويهات 3 الأئمة المضلين. ويذكر مآثر أهل الإسلام، الذين استجابوا لله ورسوله، بدعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كانوا عليه من المعتقد، حسن السيرة، وخلوص الطوية والسريرة، ويحذر من طريقة أقوام، إنما/نشؤا/4 في ظل عافية الإسلام، ولم يعرفوا ما عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والأصنام، الذرائع للقضية إلى الدخول في ولاية من حاد الله ورسوله، وموالاتهم، والرضا بأحكامهم وقوانينهم. وقد حُمِلَت إليهم الأثقال، ورُحلت الرواحل، واستفاء بظلهم من آثر العاجل، وغمض الطرف عن الآجل. فكم هلك بسببهم من هلك، وانتظم في سلكهم من شك في دينه وارتبك، فنعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. وإذا أردت ترى مصارع من ثوى 5 ... ممن تربص وارتضى بهوان 6 وتروم مصداق الذي قد قاله ... شيخ الوجود العالم الربان فاستقرئ الأخبار ممن جاءهم ... ماذا رأوا من أمة الكفران نبذوا الكتاب وراءهم واستبدلوا ... عن ذاك بالقانون ذي الطغيان وعن الأذان استبدلوا من زيغهم ... بالبوق تشريعا من الشيطان وكذا مسبة ربنا سبحانه ... والجعل للأنداد للرحمن وكذاك شرب المسكرات مع الزنا ... وكذا اللواط وسائر النكران
وكذلك الأرفاض قام شعارهم ... بل أظهروا كفرانهم بأمان هل يرتضي بالمكث بين ظهورهم ... عبيد يشم روائح الإيمان والله ما يرضى بهذا مؤمن ... أنى يكون وليس في الإمكان حاش الذي ما اسطاع يوما جهرة ... أو مظهرا للدين ذا تبيان لكنما المقصود من لم يرفعوا ... رأسا بما قد جاء في القرآن أو صحَّ في الإخبار عن خير الورى ... والصحب والأتباع بالإحسان وضروا ولاية دولة قد عارضت ... أحكامه بزبالة الأذهان وضعوا قوانينا تخالف وحيه ... واستبدلوا الإيمان بالكفران فسَلِ المقيم بظلمهم وحماهمو ... هل أنكروا ما فيه من طغيان أو زايلوا أصحابه أو قاطعوا ... أخدانهم من كل ذي خسران لكنهم قد آثروا الدنيا على الـ ... أخرى فيا سُحقا لذي العصيان بل ليتهم كفوا عن استجلابهم ... من غاب من صحب ومن إخوان بل صح عن بعض الملا/تسفيهه/1 ... /أحلام/2 /أهل/3 الحق والإيمان تبا لهاتيك العقول وما رأت ... واستحسنت من طاعة الشيطان 4 وقد قال الشيخ – رحمه الله تعالى - فيما تقدم من الرسائل، أن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج، ونحوهم، من المعطلة للربوبية والإلهية، وترفع فيها شعارهم، ويُهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، /وتقلع/5 قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون، من أهل بدر، وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم والحالة هذه، لا
تصدر عن قلب/باشرته/1 حقيقة الإسلام والإيمان، والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين؛ بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا 2. /ثم/3 إنه – رحمه الله - بذل الوسع بكتب الرسائل، والنصائح، والتحذير عن أسباب الندم، والفضائح. والمنظومة المشار إليها من كلامه – رحمه الله - مسودة، ولم أجدها تامة. وهذا نص الموجود منها، قال – رحمه الله وعفا عنه/ بمنِّه/-4: دع عنك ذكر منازل ومغاني ... وبدور أنس قد بدت/وغوان/5 و/جآذر/6 في روضة يشدو بها ... صوت النديم وشادن فتان لا تُصغ للعشاق سمعك إنما ... إنما منادمهم بين البرية عان والعشق داء قاتل ودواؤه ... في السنة المثلى عن الأعيان قطع الرسائل والذرائع والتي ... بين الورى أحبولة الشيطان واقرأ كتاب الله إن رُمت الهدى ... أو رُمت ترقى ذروة الإحسان واعكف بقلبك في/أزاهر روضة/7 ... مملوءة بالعلم والإيمان وانظر إلى تركيبه واعمل به ... إن كنت ذا بصر بهذا الشان هذا ولا ينجيك طب في التي ... ترجو بغير مشيئة الرحمان
فاسأله في غسق الليالي والدجى ... يا دائم المعروف والسلطان وانظر إلى ما قاله علم الهد ... عند ازدحام عساكر الشيطان أشكو إليك حوادثا أنزلتها ... فتركتني متواصل الأحزان من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك/لاستطير/ 1 جناني واذكر مآثر أقوام قد انتدبوا ... يوما لنصر الدين بالإحسان من صالحي الإخوان أعلام الهدى ... من أطدوا التوحيد ذي الأركان قامت بهم أركان شرعة أحمد ... وعلت سيوف الحق والإيمان وغدا الزمان بذكرهم متبسما ... يبدي سنا للطالب الولهان سارت بهم أبناء مجد في الورى ... يغشي/سناها/2 عابد الأوثان قد جددوا للدين أوضح منهج ... /يبدي/3 ضيا للسالك الحيران حتى علا في عهدهم شأن الهدى ... وانقض ركن الشرك في الأديان أما العقائد إن ترد تحقيقها ... عنهم بلا شك ولا كتمان إن الإله مقدس سبحانه ... رب عظيم جل عن حدثان حقا على عرش السماء قد استوى ... ويرى ويسمع فوق ست ثمان يعطي ويمنع من يشاء بحكمة ... في كل يوم ربنا ذو شان خضعت لعزة وجهه وجلاله ... حقا وجوه الخلق والأكوان بل كل معبود سواه فباطل ... من دون عرشه للثرى التَّحْتان فاحذر توالى في حياتك غيره ... من كل معبود ومن شيطان واحذر طريقة أقوام قد افتتنوا ... في حب أدنى أو خسيس فان
واقطع علائق حبها وطلابها ... إذ قطعوا فيها عرى الإيمان لهفي عليهم لهفة من واله ... متوجعا من قلة الأعوان قد صاده المقدور بين معاشر ... في غفلة عن نصرة الرحمان واستبدلوا بعد الهدى طرق الهوى ... لما عموا عن واضح البرهان واقطع علاقة حبهم في ذاته ... لا في هواك ونخوة الشيطان واهجر مجالس غيهم إذ قطعوا ... فيها عرى التوحيد والإيمان لا سيما لما ارتضاهم جاهل ... ذو قدرة في الناس مع سلطان لما بدا جيش الضلالة هادما ... ربع الهدى وشرائع الإحسان قوم سكارى لا يفيق نديمهم ... أبد الزمان/ يبوء/1 بالخسران قوم تراهم مهطعين لمجلس ... فيه الشقاء وكل كفر دان بل فيه قانون النصارى حاكما ... من دون نص جاء في القرآن بل كل أحكام له قد عطلت ... حتى الندا بين الورى بأذان ويرون أحكام النبي وصحبه ... في شرعه من جملة الهذيان ويرون قتل القائمين بدينه ... في زعمهم من أفضل القربان والفسق عندهمو فأمر سائغ ... يلو به الأشياخ كالشبان والمنع في قانونهم وطريقهم ... غصب اللواط كذاك والنسوان فانظر إلى أنهار كفرٍ فجرت ... قد صادمت لشريعة الرحمان بل لا يزال لجريها بين الورى ... من هالك متجاهل خوان والله لولا الله ناصر دينه ... لتفصَّمت فينا عرى الإيمان فالله يجزي من سعى في سدها ... من أمة التوحيد والقرآن والله يعطي من يشاء بفضله ... فوق الجنان عطية الرضوان وكذا يجازي من سعى في رفعها ... ما قد أعد لصاحب الكفران
يا رب واحكم بيننا في عصبة ... شدوا ركائبهم إلى الشيطان سلوا سيوف البغي من أغمادها ... وسعوا بها في ذلة وهوان واستبدلوا بعد الدراسة والهدى ... بالقدح في صحب وفي إخوان صرفوا نصوص الوحي عن أوضاعها ... وسعوا بها في زمرة العميان فتحوا الذرائع والوسائل للتي ... يهوى هواها عابدو الصلبان وسعوا بها في كل مجلس جاهل ... أو مشحرك أو أقلف نصران وقضوا بأن السير نحو ديارهم ... في كل وقت جائز بأمان لم يفقهوا معنى النصوص ولم يعوا ... ما قال أهل العلم والعرفان ما وافق الحكم المحل ولا هو اسـ ... توفي الشروط فصار ذا بطلان فادرأ بها نحرهم تلقى الهدي ... وارجمهمو 1 بثواقب الشهبان واقعد لهم في كل مقعد فرصة ... واكشف نوابغ جهلهم ببيان حتى يعود الحق أبلج واضحا ... يبدو سنا للسالك الحيران وقضوا بأن العهد باقي للذي ... ولَّى الولاية شيعة الشيطان تبا لهم من معشر قد أشربوا ... حب الخلاف ورشوة السلطان وقضوا له بالجزم أن متابه ... قد هدّ ما /أعلى من البنيان/2 وطلابه للأمر والحرب الوبي ... فعلى طريق العفو والغفران قال جامع الرسائل: هذا آخر ما وُجد منها، فرحمه الله، وعفا عنه. وصلى الله على/ عبده ورسوله/3 محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الرسالة التاسعة والثمانون: إلى سالم بن سلطان
الرسالة التاسعة والثمانون: إلى سالم بن سلطان ... الرسالة التاسعة والثمانون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى سالم بن سلطان 2 أمير الشارقة، من ساحل مان، يحرضه على لزوم الجماعة والانحياز إلى المسلمين وترك المفارقة، ونبذ الطاعة، وذلك بعد ما حصل الخلل في المسلمين بسب الفتنة التي بين آل سعود، ومقتل تركي بن أحمد السديري، أمير آل سعود في عمان. فخرج عزان الأباضي 3، فاستولى على ممالك المسلمين التي بتلك الجهات، إلا ما كان من سالن بن سلطان، فإنه لم ينزع يدا من طاعة، ولم يفارق الجماعة. فكتب له الشيخ يحضه على الثبات والانحياز إلى المسلمين، وعدم الدخول تحت طاعة عزان الأباضي، ومن ساعده من الجهمية والمشركين. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأمير المكرم سالم بن سلطان -/سلمه الله تعالى-/4. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو على نعمه. وبلغنا/ خبر الفتنة/1 التي حصلت عندكم، من عران، ومن تبعه، ممن استزلهم الشيطان. وبلغنا أنك لم تشهد هذا المشهد، ولم تحضر ما جرى في ذلك المعهد، وسرنا؛ هذا، لأنا نحب لكم ما جرى عليه أسلافكم من الانحياز إلى المسلمين، ولزوم الجماعة، وترك المفارقة، ونبذ الطاعة. فالله سبحانه يبتلي العبد على حسب إيمانه 2؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين3. فعليكم بالجد والاجتهاد فيما يحفظ الله به عليكم الإيمان والتوحيد، وينجيكم من الركون إلى أهل الكفر والإشراك والتبديد. قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} 4، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 5، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. فتأمل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإن هذا الحرف؛ وهو "إن" الشرطية، تقتضي نفي شرطها، إذا انتفى جوابها، ومعناه: إن من اتخذهم أولياء، فليس بمؤمن. فعليكم بتقوى الله، ولزوم طاعته، والعمل لوجهه واحذروا أن يضيع الإسلام لديكم، أو يلتبس الحق عليكم، فتزل قدم بعد ثبوتها، وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله 3. نسأل الله لنا. ولكم الثبات في الأمر، /والعزيمة/4 على الرشد، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا 5، وأن لا/ينزع/6 عنا ما منَّ به /علينا/7 من الإيمان والتوحيد، بعد ما تفضل علينا وأعطانا. وقد وعد الله عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين بالنصر والظفر وحس العاقبة، قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 8، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 9، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 10. ولقد كتبنا هذا تذكرة، ولم يبلغنا عنك في فتنة عران، ما يوجب اتهامك ولكن
أحببنا الموعظة والتذكرة. والواصل إليك، ولدنا علي بن سليم 1، بتدبير الإمام بتذكير أهل الإسلام، وحثهم على الثبات، والتمسك بدين الله، الذي ارتضاه لنفسه. واختار القدوم عليكم، لأنكم أخص. والله الموفق والهادي. [وبلغ سلامنا/الإخوان/2 والخواص، واقرأ عليهم/هذا/3 الكتاب. ولدينا الإمام ومحمد، وأخيه، وأولاده، وعيالنا ينهون السلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته] 4.
الرسالة التسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق في شأن الفتنة
الرسالة التسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق في شأن الفتنة ... الرسالة التسعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق 2/3 في شأن الفتنة الواقعة بين آل سعود 4، وكيف كان أول هذه الفتنة، وآخرها. وقد تقدم نظيرها إلى أهل الحوطة 5، لكن هذه أبسط فصل الشيخ فيها ما عنده وشرحه. كما أن الشيخ حمد قد كتب إليه، بما عنده في ذلك، وأوضحه، وقد حثه فيها – رحمه الله - على بذل الجهد، والاجتهاد، في تحريض الناس على جهاد أعداء الله، ورسوله، الذين قلعوا أصول الدين، والإسلام، وهدموا قواعده العظام، وطمسوا منه المنار، والأعلام، وعطلوا الأحكام الشرعية، وأظهروا القوانين الإفرنجية. وهذه/وظيفة/6 العلماء قديما وحديثا؛ يتواصون بالنصح لعباده، وردهم إليه، تحضيضا وتحثيثا، وليس من شأنهم السكوت، وتمشية الحال، على أي حال، كما هي حال من لا غيرة له على دين الله، من أئمة الجهل والضلال، الذين يرون أن الكف لهم أسلم، وإن هذا الرأي أحكم. وهذا نص الرسالة:
بسم الله ارحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، حمد بن عتيق، سلمه الله، ونصر به شرعه ودينه، وثبت إيمانه ويقينه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، ومرّ بلواه، وبديع حكمه. والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما، وكتبت لك/خطا أولا/1، على نشر النصائح، وكتب الرسائل، لأني استعظمت ما فعل سعود؛ من خروجه على الأمة وإمامها، يضرب برها وفاجرها إلا من أطاعه، وانتظم في سلكه. وعبد الله له بيعة، وله ولاية شرعية في الجملة، ثم بعد ذلك بدا لي منه، أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة، واستنصرها واستجلبها على ديار المسلمين، فصار كما قيل: /والمستجير/2 بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار 3 فخاطبته شفاها، بالإنكار والبراءة، وأغلظت له؛ بالقول أن هذا هدم لأصول الإسلام، وقلع لقواعده، وفيه وفيه وفيه مما لا يحضرني تفصيله الآن، فأظهر التوبة والندم، وأكثر الاستغفار. وكتبت على لسانه، لوالي بغداد، أن الله قد أغنى ويسَّر، وانقاد لنا/من/4 أهل نجد والبوادي ما يحصل به المقصود إن شاء الله، ولا حاجة لنا بعساكر الدولة، وكلام من هذا الجنس.
وأرسل الخط فيما أرى، وتبرأ مما جرى، فاشتبه علىّ أمره،/وتعارض/1 عندي موجب إمامته، ومبيح خلعه؛ حتى نزل سعود بمن معه من أشرار نجد وفُجارها ومنافقيها، فعثا في/العارض/؛2 بسفك الدماء وقطع الثمار، وإخافة الأرامل والمحصنات، وانتهاك حرمة اليتامى والأيامى، هذا وأخوه منحصر في شعب الحائر، وفقد ظهر عجزه، واشتهر وأهل البلد معهم من الخوف، ومحبة المسارعة إليه ما قد عرف. فرأيت من المتعين على مثلي، الأخذ على يد أهل البلاد، والنزول إلى هذا الرجل، والتوثق منعه، ودفع صولته؛ حقنا لدماء المسلمين، وصيانة لعوراتهم ونسائهم، وحماية لأموالهم وأعراضهم، وكان لم يعهد لي شيئا، ولكن الأمر إذا لم يدرك كان الرأي فيه أصوبه، وأكمله، وأعمه، نفعا. فلما واجهت/سعودا/3، وخاطبته، فما يصلح الحال بينه، وبين أخيه، اشترط شروطا ثقالا على أخيه، ولم يتفق الحال؛ فصارت الهمة فيما يدفع الفتنة، ويجمع الكلمة، ويلم الشعث، ويستدرك البقية. وخشيت من عنوة على البلدة، يبقى عارها، بعد سفك دمائهم، ونهب أموالهم/،4 والدار الآخرة؛ وخرج /عرفاؤه/،5 والمعروفون من رجالها، فبايعوا /سعودا/،6 بعد ما أعطاهم على دمائهم وأموالهم، محسنهم ومسيئهم عهد الله وأمانه، عهدا مغلظا، فعند ذلك كتبت إليك الخط الثاني بما رأيت من ترك التفرق والاختلاف، ولزوم الجماعة.
وبعد ذلك أتانا النبأ الفادح الجليل، والخطب الموجع العظيم، الذي طمس أعلام الإسلام، ورفع الشرك بالله، وعبادة الأصنام، في تلك البلاد، التي كانت بالإسلام ظاهرة، ولأعداء الله قاهرة؛ وذلك بوصول عساكر الأتراك، واستيلائهم على الحسا والقطيف/يتقدمهم/1 طاغيتهم داود بن جرجيس 2 داعيا إلى الشرك بالله وعبادة إبليس، فانقادت لهم تلك البلاد، وأنزلوا العساكر بالحصون والقلاع، ودخلوها بغير قتال ولا نزاع، فطاف بهم إخوانهم من المنافقين، وظهر الشرك برب العالمين، وشاعت مسبة التوحيد والدين، وفشا اللواط والمسكر والخبث المبين، ولم ينتطح في ذلك شاتان"3، لما أوحاه، وزينه الشيطان، من أن القوم أنصار لعبد الله بن فيصل، فقَبِل هذه الحيلة من آثر الحياة الدنيا وزينتها، على الإيمان بالله ورسوله 4، وكف النفس عن هلاكها وشقاوتها. وبعضهم يظن أن هذه الحيلة لها تأثير في الحكم؛ لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق؛ بل بلغني أن بعض من يدعي طلب العلم، يحتج بقول شاذ مطرح، وهو أن لولي الأمر أن يستعين بالمشرك عند الحاجة؛
ولم يدر هذا القائل، أن هذا القول يحتج قائله، بمرسل ضعيف 1 مدفوع بالأحاديث المرفوعة الصحيحة، وأن قائله اشترط أن لا يكون للمشرك رأي في أمر المسلمين، ولا سلطان؛ 2، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 3 فكيف بما هو أعظم من ذلك، وأطم من الانسلاخ الكلي، والخدمة الظاهرة، لأهل الشرك. إذا عرفت هذا، عرفت شيئا من جناية الفتن، وأن منها قلع قواعد الإسلام، ومحو/آثاره/4 بالكلية. وعرفت حينئذ أن هذه الفتنة من أعظم ما طرق أهل نجد في الإسلام، وأنها شبيهة بأول فتنة وقعت فيه. فالله الله في الجد والاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة، في جهاد أعداء الله، وأعداء رسله. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 5. إلى أمثال ذلك في القرآن يعرفها الخبير بهذا الشأن. هذا ما عندي في هذه الحادثة، قد شرحته وبسطته لك، كما ذكرت لي ما عندك. وأسأل الله أن يهديني وإياك إلى صراطه المستقيم، وأن يمنَّ علينا، وعليك بمخالفة أصحاب الجحيم. /وبلغ سلامنا العيال والطلبة، ومن لدينا العيال، والإخوان يبلغون السلام، وأنت سالم والسلام/،6 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الحادية والتسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق يحضه على الغلظة في معاداة من والى المشركين
الرسالة الحادية والتسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق يحضه على الغلظة في معاداة من والى المشركين ... الرسالة الحادية والتسعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق 2 يحضه 3 على الغلظة في معاداة من والى المشركين، وركن إليهم، أو سافر إلى بلادهم وشهد كفرياتهم ومبارزتهم /لرب/4 العالمين؛ لأن بعضا ممن ينتسب إلى العلم والدين ما كبر همه بهذه القضية، ولا عرف المصيبة والرزية، وبعضا أنكر وتبرأ، لكن مع الهوينا ولين الجانب. وهذا لا يستقيم/معه/5 إسلام، بل هو للهدي النبوي مجانب. وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى، وفرج له من كل هم وضيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: أوصيك بتقوى الله، والصدق في معاملته، ونصر دينه، والتوكل عليه في ذلك
وأكثر الناس استنكروا الإنكار، على من والى عساكر المشركين، وركن إليهم، أو راح إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم، ومبارزتهم لرب العالمين؛ بالقبائح والكفريات المتعددة، هذا مع قرب العهد، بدعوة شيخنا، والقراءة في تصانيفه، ورسائله وأصوله. وهذا مما/يتبين/1 به ميل النفوس إلى الباطل، /ومسارعتها/2 إلي، /ومحبتها/3 له، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 4. ويبلغنا عنك ما يسر، ولكننا/نرجو/5 لنا، ولك فوق ذلك مظهرا. وبعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، ولا اشتد إنكاره، ولا ظهر منه غضب لله وحمية لدينة، وأنفة من ذهاب الإسلام، وهدم قواعده، وإن أنكر بعضهم، وذم ذلك وتبرأ منه؛ لكنه مع الهوينا في ذلك، ولين الجانب، ومحبة للأغراض، وعدم البحث. وأظن الشيطان قد بلغ مراده منهم في ذلك، واكتفى به لما فيه من الغرض، ولعلمه بغائلته، وغايته، وأن الدين لا يستقيم معه؛ قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} 6 أي بالقرآن. وللشيطان وأعوانه غرض في المداهنة؛ لأنها وسيلة إلى السلم ووضع الحرب بين الطائفتين، قال تعالى-: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} -7 شعر: وثمود 8 لو لم يدهنوا في ربهم لم تدم ناقتهم بسيف قدار 9.
فعليك بالجد، والحذر من/خدع/ 1 الشيطان/ جعلني الله وإياكم/2 من أنصار السنة والقرآن. ثم قال – رحمه الله تعالى-: ولا /تدخر حض/3 أهل الأفلاج، وحثهم على جهاد هذه الطائفة الكافرة. وأهل نجد كادهم الشيطان 4 وبلغ مبلغا عظيما، وصل بهم إلى عدم الوحشة من أكفر خلق الله، وأضلهم عن سواء السبيل؛ الذين جمعا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية: وتعطيل صفات الله، ومعهم جملة من عساكر الإنجليز، المعطلة لنفس وجود الباري، القائلين بالطبائع، والعلل، وقدم العمل وأبديته 5. وبلنا أنهم كتبوا خطوطا لجهات نجد، مضمونها: إنا مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله، ونحو هذا الكلام. وبسطوا القول في/إكرام/6 الدولة، والترهيب منهم والترغيب فيهم. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الله قد استخلفكم في الأرض، بعد ذلك القرن الصالح، لينظر كيف تعملون. فاحذر أن تلقاه/تعالى/،7 مداهنا في دينه، أو مقصرا في جهاد أعدائه،،و/8 في النصح له، ولكتابه ولرسوله، اجعل أكثر درسك في هذا، ولو اقتصدت في التعليم، والقلوب أوعية يعطى كل وعاء بحسبه.
قال جامع الرسائل: /وقد اختصر هذه الرسالة من نقلها لنا، فقال: هذا منقول، وما بعده من كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله تعالى،1 وعفا عنهم-/2. ثم قال الناقل: قال رحمه الله: وأما مسألة دعوى المودع انتقال الوديعة إليه بالبيع: فهذا مما لا يقبل قوله فيه؛ بل حكمه حكم سائر المودعين، وكلام الفقهاء صريح، في أنه لا يقبل قوله مطلقا، بل فيه مسائل مخصوصة، بعضهم اكتفى بعدها عن حدها، وما عداها فهو باق على أصله. وقد أشار بعضهم إلى ذلك، في الكلام على قبول قول الأمين في المضاربة، وغيرها، من مسائل هذا الباب. وعموم قولهم في باب الدعاوي والبينات، داخل فيه ما لم ينص على استثنائه. وإن وقفت على كلام خاص في هذه المسألة، رفعته إليك – إن شاء الله-. وذكر ابن رجب، 3 في شرح الأربعين، في شرح حديث: "لو يعطى الناس بدعواهم.." 4، شيئا من تعريف المدعي، فراجعه إن شئت 5. وأما الفرق بين الفلاسفة الإلهيين، والفلاسفة المشائيين؛ فذكر شارح 6 رسالة ابن
زيدون 1: أن المشائيين: أفلاطون 2 ومن تبعه، وأنهم أول من قال بالطبائع، وتكلم فيها، وأمر بالرياضة والمشي؛ لمعاونة قوة الطبيعة، وتحليل ما يضادها من الأخلاط، وأمر بالمشيء، والرياضة عند المذاكرة، في مسائل الطبيعة، فسموا بالمشائيين لهذا 3. أما الإلهيين: فهم قدماؤهم من أهل النظر، والكلام في الأفلاك العلوية وحركاتها، ما يزعمونه وينتحلونه من إفاضتها، وتأثيرها. وفي اللغة: إطلاق الإله على المدبر
والمؤثر، كما يطلق على المعبود 1. وقد عرفت أن جمهورهم وقدماءهم، ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، ومذهبهم أكفر المذاهب، وأبطلها، وأضلها، عن سواء السبيل. /وبلغ سلامنا العيال، والطلبة، والسلام/2./وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم/3.
الرسالة الثانية والتسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق يحضه في الدعوة إلى الله وبث العلم
الرسالة الثانية والتسعون: إلى الشيخ حمد بن عتيق يحضه في الدعوة إلى الله وبث العلم ... الرسالة الثانية والتسعون1 قال جامع الرسائل: ولد أيضا – قدس الله روحه، نور ضريحه - رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق 2، /يحضه على الدعوة إلى الله، وبث العلم، ونشره في الناس، خصوصا التحذير عن موالاة أعداء الله ورسوله، والحث على جهادهم، واستنفاذ بلاد المسلمين من أيديهم/3. وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم الشيخ، حمد بن عتيق سلمه الله تعالى، ووفقه للصبر واليقين، ورزقه الهداية بأمره/ والإمامة 4 /في الدين/ئ. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وأسأله الثبات على دينه؛ الذي رغب عنه الجاهلون، ونكب عنه المبطلون. والخط وصل، وسرني ما فيه من الأخبار عن عافيتكم وسلامتكم، والحمد لله على ذلك، وما ذكرت صار معلوما، لا سيما ما أشرت إليه من حال الجاهلين، وخوضهم في مسائل العلم والدين. وليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا، كيف نجا. قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} 5،والواجب على من رزقه الله علما وحكمة، أن يبثه في الناس وينشره، لعل
الله أن ينفع به، ويهدي على يديه من أدركته السعادة، وسبقت له الحسنى 1. واعلم أن الإمام سعودا قد عزم على الغزو والجهاد، وكتبت لك خطا 2 فيه الإلزام بوصول الوادي، وحث من فيه من المسلمين على الجهاد في سبيل الله، واستنقاذ بلاد المسلمين من أيدي أعداء الله المشركين. وقد بلغك ما صار من صاحب بريدة 3 وخروجه عن طاعة المسلمين، ودخوله تحت طاعة أعداء الله رب العالمين، ونبذ الإسلام وراء ظهر، كذلك حال البوادي والأعراب، استخفهم الشيطان وأطاعوه، وتركوا ما كانوا عليه من الانتساب إلى الإسلام، فتوكل على الله، واحتسب خطواتك وكلماتكم وحركاتك وسكناتك، وشمر عن ساعد جدك واجتهادك، فقد اشتد الكرب، وتفاقم الهول والخطب، والله المستعان. وقد عرفت القراء في زمانك، وأن أكثرهم قد راغ روغان الثعالب، فلا يؤمن 4 على مثل هذه المقاصد والمطالب، والله – سبحانه - المسئول المرجو الإجابة، أن يمن علينا وعليكم بالتوفيق والسداد، وأن ينفع بك الإسلام والتوحيد {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 5. يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا ... سعدا ومرعاك للزوار سعدانا وأن يضر بك الرحمن طائفة ... ولت وينصر من بالخير والانا 6
/وبلغ سلامنا الأولاد، وسعود بن مفلح، وآل فهيد،1 وإخوانهم، ولدينا عبد العزيز، 2 وإخوانه، وأعمامه يبلغون السلام، وأنت سالم والسلام/3./وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/4.
الرسالة الثالثة والتسعون: غلى الشيخ حمد بن عتيق
الرسالة الثالثة والتسعون: غلى الشيخ حمد بن عتيق ... الرسالة الثالثة والتسعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – رحمه الله - رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق 2، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم الشيخ حمد بن عتيق أمده الله بالتسديد والتوفيق، وأذاقه حلاوة الإيمان، والتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل مع الغزو، 3 وما ذكرت صار معلوما، /وأرجو/4 أن الله يسدد ولي أمر المسلمين، ويمنّ عليه بمعرفة /هذا الدين/5 والرغبة فيه، وإتباع ما منَّ الله به من الهدي الذي جاءت به رسله. وأكثر الناس ما رغبوا في هذا/الدين/6 ولا رفعوا به رأسا. /ونشكو/7 إلى الله ما نحن فيه من غربة الدين وقلة الأنصار. وما ذكرت من جهة /8 / وأنك ترى العفو والصفح، فاعلم أن الحق في ذلك لله. والواجب على المسلم تغيير المنكر بحسب الاستطاعة، وليس له العفو والصفح إلا في
حق نفسه. وما ورد من النصوص في السفح عن أعداء الله، إنما هو في الآي المكية 1. وقد صرح القرآن بنسخه،2 وجاءت السنة ببيان ذلك،3 ولم يرد في الآيات المدنية الأمر بالفصح عن المشركين وأعداء الدين، بل جاء الأمر بجهادهم والغلظة عليهم في غير موضع. وجاء الأمر بإعلان الإنكار على المجاهدين من الفساق، ولو كان مسلما، ومن جاهر بالمعاصي ونصرة أولياء المشركين، فلا حرمة لعرضه، ولا يشرع الستر عليه بترك الإنكار. وفي قصة حاطب ما يدلك على هذا،4 وهو صحابي بدري، وقد قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 5. وقد ذكر ابن القيم 6 طرفا من الفروق في كتاب الروح 7 فينبغي مراجعته ومعرفة
حدود ما أنزل الله على رسوله، ومثلك يُقتدى به، وقد نفع الله بإنكارك وشدتك على أهل الزيغ، فلا ينبغي العدول إلى خيال لا يعرج عليه. وقد عرفت حال أهل وقتك من طلبة العلم، وأنهم ما بين مجاهر بإنكار الحق قد ليس عليه أمر دينه، أو مداهن مع هؤلاء ومع هؤلاء، غاية قصده/السلوك/1 مع الناس وإرضاؤهم، أو ساكت معرض عن نصرة الحق ونصرة الباطل، يرى الكف أسلم، وأن هذا الرأي/أحكم/2. هذا حال فقهاء زماننا، فقل لي من يقوم بنصر الحق وبيانه، وكشف الشبه عنه ونصرته، إذا رأيت السكوت والصفح كما في البيتين اللذين في الخط فينبغي النظر في زيادة قيد في تلك الأبيات لئلا يتوجه الإيراد. /والابن عبد الرحمن 3 يسلم عليك، وكان في الخاطر نصحه وإرشاده، لكنه ما جاء إلا مرة عجل في مجلس عام، ونرجو أن الله يصلح لنا ولكم الذرية./وبلغ سلامنا الإخوان/4، وعيالنا يبلغون السلام، وأنت في أمان الله وحفظه والسلام/5. /وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/6.
الرسالة الرابعة والتسعون: إلى محمد علي
الرسالة الرابعة والتسعون: إلى محمد علي ... الرسالة الرابعة والتسعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا -/قدس الله روحه ونور ضريحه/2 وعفا عنه - رسالة إلى محمد بن علي 3 فيما جرى من الفتن والامتحان الذي وقع بين آل سعود 4 وسارع أكثر الناس إليها واستشرف لها. وكان من جملة من سارع إلى سعود بعد قتله للمسلمين، علي بن محمد، 5 فصار ابنه يعتذر عنه، ويطلب من الشيخ أن يكتب له كتابا، ولكن علم الشيخ – رحمه الله - أن أباه قد تلبس بالفتنة، وأنه لا ينجع فيه شيء. وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ الابن محمد بن علي – كشف الله عنه كل ريب وغمة، وسلك بنا وبه سبيل سلف الأمة - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك /الله الذي لا إله إلا هو/6، على ما اختصنا به من سوابغ أنعامه، وما ألبسناه من ملابس إكرامه والخط وصل، وما/ذكرته/7 صار معلوما فأما ما أجرى الله من الفتن والامتحان، فالله – سبحانه وتعالى - فيها حكم، يستحق عليها الحمد. منها: تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وذي البصيرة من الأعمى، كما دل عليه صدر سورة العنكبوت 8،
والآيات من سورة البقرة، 1 وآل عمران 2 وغير ذلك من آي القرآن. وتذكر أن أباك يوم يركب ما ظن/أن/3 لعبد الله ولاية، ولا أن عبد الله سيعود إليه 4 عن قريب. والظن أكذب الحديث 5، وظن السوء أورد أهله الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة. والعجب من فقيه يحكي هذا محتجا به. وقد تربى – بحمد الله - بين يدي طلبة العلم وأهل الفتوى. أي حجة في هذا لو كانوا يعلمون؟ ولو دعوت أباك إلى لزوم السنة والجماعة، والوفاء بالعهد الذي يُسأل عنه يوم تنكشف السرائر، لكان هذا من أعظم البر، وأرجحه في ميزانك، لا سيما وقد جاءك من العلم ما لم يؤته. ثم لو فُرض أن هذا الظن متحقق في نفس الأمر، فأي مسوغ للمسارعة إلى الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وسفكوا الدماء بغير بينة ولا سلطان ينبغي أن يتنزه عن هذا سوقة الناس وعامتهم، وإنما خاطبتك بلسان العلم، لحسن ظني،
والأكثر قد تحققت هلاكهم 1 وأنهم في ظلمة الجهل، "لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق" 2. وبعض من ينتسب إلى الدين قد عرف ما هناك، ولكنه آثر العاجلة، وأخذ إلى الأرض، واتبع هواه، وأبدى من المعاذير ما لا ينجي يوم العرض على الله. وأما يمينك على أنك تحققت من أبيك أنه لا ينكث عهده، ولو بقال لك الدنيا ومثلها معها؛ فعجب لا ينقضي، والله يغفر لك، وهل لنكث العهد حقيقة تباين ما وقع؟ "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" 3. وقولك: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} 4، حق تؤمن به، ولا نحتج به على شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما الخط مني له، فخطي/ إليك/5 يكفي، ومثلك لا يخفى عليه وجوب
الجهاد، وأنه ركن من أركان الإسلام، وذرة سنامه 1 كما هو مقرر في محله، والآيات القرآنية لا يتسع هذا الموضع لسياقها. بقي أن يقال: هل الجهاد في هذه القضية جهاد في سبيل الله؟ وهذه مسألة لا يحتص بها طالب العلم، بل كل من كان له نصيب من نور الفطرة، ونور الإسلام يعرف هذه المسألة، ولا تلتبس عليه. ومن المقرر في عقائد أهل السنة، أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر 2؛ وأبوك وغيره يعلمون أن المسلمين بايعوا عبد الله، وسعود من جملة من بايع، وأن البيعة صدرت عن مشورة من المسلمين على يد شيخهم وإمامهم في الدين، -والدنا - قدس الله روحه، ونور ضريحه - فأي شيء نسخ هذا؟ وأنت وأبوك تعرفون حال عبد الله معنا فيما سلف. والمؤمن يعامل ربه، ولا يتشفى بما يفسد دينه. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، الذي ارتضاه لنفسه؛ ونعوذ بالله من اتباع خطوات الشيطان، والرغبة عن سبيل/أهل السنة والقرآن/3. وذكر أباك حديث ابن عباس في استفتاحه صلى الله عليه وسلم صلاته، إذا قام من الليل 4. وذاكره بما ظهر لك فيه من حقائق العلم والإيمان، واعرف جلالة هذا المطلوب وعظم قدره، وقدر ما توسل به السائل إلى مطلوبه. والمقام يقتضي البسط لحاجة السائل وغيره، ولعل الله يمن بذلك. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الخامسة والتسعون: إلى أهل الحوطة
الرسالة الخامسة والتسعون: إلى أهل الحوطة ... الرسالة الخامسة والتسعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – رحمه الله تعالى وعفا عنه - رسالة إلى أهل الحوطة، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإخوان المكرمين من أهل الحوطة – سلمهم الله تعالى وهداهم - سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته والاعتصام بجبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين 2. فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة. وقد أناخ ساحتكم من الفتن والمحن ما لا نشكوه إلا إلى الله، فمن ذلك: الفتنة الكبرى والمصيبة العظمى؛ الفتنة بعساكر المشركين 3 أعداء الملة والدين، وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله، وتجريد التوحيد، والتحيز إلى
أولياء الله وعباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك، وعدل به غيره، ولم ينزهه مما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون. وأفضل القرب إلى الله، مقت/أعدائه/1 المشركين، وبغضهم وعداوتهم وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك. فالحذر الحذر مما يهدم الإسلام ويقلع أساسه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 وانتفاء الشرط يدل على انتفاء الإيمان بحصول الموالاة. ونظائر هذه الآية في القرآن كثير. وكذلك الفتنة بالبغاة والمحاربين، توجب من الاختلاف والتفرق والبغضاء، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وترك أوامر الله ورسوله، والإفساد في الأرض ما لا يحصيه إلا الله، وذلك مما لا يستقيم معه إسلام، ولا يحصل بملابسته من الإيمان، ما ينجي العبد من غضب الله وسخطه. وهذه الحالة وتلك الطريقة بها ذهاب الإسلام وأهله، وتسلط أعداء الله وتمكنهم من بلاد/المسلمين،3 وهدم مبانيه والإعلام. فكيف يسعى فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بالجنة والنار، ويخاف سوء الحساب. فاتقوا الله عباد الله، ولا تذهب بكم الدنيا والأهواء وشياطين الإنس والجن، إلى ما يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، والطرد عن بابه، والخروج عن جملة أوليائه وأحبابه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ
اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 1. فتدبروا هذه الآيات الكريمات، وسارعوا إلى ما يحبه الرب ويرضاه، من الجماعة والطاعات، وائتموا بالقرآن، وقفوا عند عجائبه، وما فيه من الحجة والبرهان، فإن الله تكفل لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة 2 وهو حبل الله المتين، ونور المبين، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم، لا يضل مُتَّبعه 3 ولا يطفأ نوره فيما هذه المشاقة؟ وما هذا الاختلاف والتفرق، وقد جاءتكم النصائح وتكررت إليكم المواعظ؟ قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 4/و/5 قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 6،
وقد خرج الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري 1 بعد أن ذكر ما أمر به يحيى بن زكريا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... وآمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد 2 في سبيل الله؛ فإنه من خرج /من/3 الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن/يرجع/4؛ ومن/دعا بدعوى/5 الجاهلية فهو /جُثاء/6 جهنم قالوا:" يا رسول الله، وإن صام /وإن صلى/ 7 قال: "وإن صلى، وص ام، وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم/بما/8 سماهم الله – عز وجل-/9 المسلمين المؤمنين عباد الله" 10، وهذه الخمس المذكورة في الحديث ألحقها بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم /بناؤه/11 ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية من ترك الجماعة والسمع والطاعة. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والاعتصام بحبله، والامتثال لأمره، واتقاء غضبه وسخطه.
فاحذروا الاختلاف {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2 {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 3. وصلى الله على/عبده ورسوله محمد/4 النبي الأمي العربي الهاشمي وآله وصحبه وسلم.
الرسالة السادسة والتسعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
الرسالة السادسة والتسعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان ... الرسالة السادسة والتسعون1 قال جامع الرسائل: وله – قدس الله روحه ونور ضريحه - رسالة أيضا إلى زيد بن محمد آل سليمان، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم المحب زيد بن محمد – حفظه الله من طوائف الشيطان، وجعلنا وإياه من أوعية العلم، وحرسنا وإياه من مضلات الفتن وتلاعب الشيطان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأساله اللطف بنا وبكم وبكافة المسلمين عند كل كرب عسير. وقد بلغكم خبر الوقعة التي جرت على إخوانكم وتفصيلها عن ألسن القادمين وقد لطف الله بنا، ودفع ما هو أشد من استباحة البيوت والمحارم حين صارت الهزيمة، وجنب عبد الله الديرة، وكتبت لسعود خطا، ونادى في مُخَيَّمه بالكف عن الرياض، وأن البلد سلَّمت. فدفع الله بذلك شرا عظيما. وثاني يوم وصلته في مخيمه، وأكثرت عليه في أمر المسلمين، وأظهر القبول، وكف عن كثير من الناس، وأُدخل له طارفة 2 في القصر، واستقر أمره. وهذه الفتن أصاب الإسلام منها بلاء عظيم، قلعت قواعده، وانهدمت أركانه، واجتثت بنيانه. وهل عند رسم دارس من مغول. فالواجب مساعدة إخوانكم بصالح الدعاء، ونشر العلم، وبذل النصائح، وتقديم خوف الله على مخافة خلقه. وما منكم
من أحد إلا على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يؤتى الإسلام من قِبَلِه. كذلك الشبهة التي حصلت، والمكاتبات التي رُسمت في شأن هذه الفتن، ممن ينتسب إلى العلم والدين، لا يسوغ لمثلك السكوت عليها، وعدم التنبيه على ما فيها، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} 1 فاكتب لي بما يسر عن مثلك وما هو الظن بك ولقومك – يحمد الله - موقع في نفوس المسلمين. كذلك لا تدخر نصح سعود بالمكاتبة والنصائح والتذكير، وابسط القول. وبلغ سلامنا الشيخ حسين، وأخبره أن حمولته بعافية، ما بهم سوء. ولا تنسانا من صالح دعائك، عبد الله، وعبد العزيز ما بهم جراح/2 /، وهم يبلغون السلام. والسلام.
الرسالة السابعة والتسعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان
الرسالة السابعة والتسعون: إلى زيد بن محمد آل سليمان ... الرسالة السابعة والتسعون1 قال جامع الرسائل: وله أيضا – رحمه الله رحمة الأبرار، وجمعنا به في دار القرار - رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد، لا زال من العلم في مزيد، مناضلا عن الإيمان والتوحيد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل – وصلك الله ما يرضيه، والأخبار عن سلامتك وعافيتك تسرنا، لا سيما في وقت الهرج والفتن، وتتابع الزلازل والمحن - عصمنا الله وإياك بالإسلام على كل حال وفي كل حال. وما ذكرت من وصول الخط وتدبر ما فيه، صار معلوما، نسأل الله أن ينفعنا وإياك بمواعظ كتابه، وزواجر خطابه. وتذكر أن ما اعترض على حمد بن عتيق إلا/ ... /2 وبعض إخوان الحوطة، وأنهم ما نقموا إلا الميل مع أحد الرجلين. فلا يخفاك أن المقام مقام ضنك واشتباه، لا يتخلص منه إلا من كان له نصيب وافر من نور الوحي والوراثة النبوية. ومن سلم من الهوى وأدركته العناية الربانية. وفي حديث حذيفة: "فهل بعد هذا الخبر من شر؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر، لا تدرون أيا من أي" انتهى 3. ومن أشرت إليه من أهل الاعتراضات، عامتهم قد عرف قصورهم عن مقاومة
الخصوم الفضلاء، وأنى يدرك الضالع شأوى الضليع1 وترجيح أحد الرجلين لا يذم مطلقا، إلا إذا خلا من مرجح شرعي. فالواجب عليك سد الباب عما يوهن الإسلام والتوحيد، ويقوي جانب الشرك والتنديد. فمن هذا الباب دخل من كاتب العساكر، ووالاهم، وساكنهم، وجامعهم، ولله ما استبيح بهذه الشبه من عرض ومال ودم، وما أصاب الإسلام منم نقص وهدم وهضم. ومثلك لو سد هذا الباب، وأغلظ في الخطاب والجواب، حتى تتفق الكلمة، ويجتمع أهل الإسلام على جهاد عدو الله وعدوهم، لكان خيرا وأقوم قيلا، وأهدى عند الله منهجا وسبيلا. والشيخ محمد بن عجلان رسالته عندي، أظنها بقلم ولده، فجحدها مكابرة، والأولى لنا وله التوبة ظاهرا من تلك الظاهرة، لئلا يضل الغاوي ويحق القدر السماوي {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 وقد عرفت ما جرى بين إسماعيل وخالد، وما قيل فيمن ركن إليهم واستنصر بهم وقاتل تحت رايتهم. بل قد عرفت ما قيل وما أفتى به المشايخ فيمن أقام بين ظهرانيهم 3 وإن لم يحصل منه غير ذلك، ولكن الإسلام يخلق كما يخلق الثوب، وتضمحل حقائقه من القلوب حتى لا تعرف معروفا، ولا تنكر منكرا. والفتنة بالسكوت عن نصر دين الله من هؤلاء المنتسبين إلى العلم، أضر على الإسلام من بعض كلام غيرهم من العامة. والله المسئول المرجو الإجابة، أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يمن علينا بالثبات على دينه وسلوك سبيل /رسله/4 {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 5. وبلغ سلامنا الأولاد والشيخ حسين، وحسين بن علي، ومن لدينا عبد العزيز وإخوانه وأعمامه بخير وينهون السلام، والسلام.
رسالة ملحقة
رسالة ملحقة رسالة الرد على الصحاف ... رسالة الرد على الصحاف1 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين 2 الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله وسراجا منيرا. أما بعد: فإن بعض الإخوان ناولني كراسة أنشأها عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف، فيما تعرض لعيب الموحدين، وذم لما هم عليه من الملة والدين، ومدح 3 لبعض شيوخه
المارقين، وأنهم من جلة العلماء العاملين، الذين لهم لسان صدق في الآخرين، وفيها غير ذلك مما هو مستبين للواقفين عليها والناظرين. وقد طلب مني من ناولنيها، أن أكتب شيئا في بيان ما تضمنته من الأباطيل، مع الاختصار وترك البسط والتطويل، إلا لإيراد حجة أو كشف دليل./ونسأل/1 الله الإعانة على ذلك، والهداية إلى ما هنالك. فأما المقدمة التي قدمها الصحاف أمام مقصوده، وجعلها طالعة نثره وعقوده، ففيها من الدلالة على جهله وقصوره، ما يعرف بأول نظر في جمعه ومسطوره. من ذلك: أنه يصف بالعلم من ليس من أهله، ويكذب على المعصوم في عزوه ونقله، يحتج في فضل العلم بالضعيف/و/2 الموضوع، لجهله بما صح من المرسل والمرفوع، ليست له ملكة في نقد الثابت من الموضوع 3، يتأول كل حاذق فقيه عند سماع خلطه وما يبديه، حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم4، ورياسة الغمر. وكلامه من أظهر الأدلة/ على ما قلناه عند كل من وقف عليه من أهل الفقه عن الله، فلذلك اكتفينا بالإشارة عن بسط القول والعبارة. فأما قوله في المقدمة التي مدح بها أشياخه المذكورين في رسالته: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"5.
وقوله: "نظرك إلى وجه العالم خير لك من ألف فرس تتصدق بها 1 في سبيل الله، وسلامك على العالم خير لك من عبادة ألف سنة"2. كذلك قوله: "إن العالم/أوالمتعلم/3 إذا مر على قرية، فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين صباحا"4. وقوله: "إن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل". فهذه الآثار ونحوها، ليست بشيء عند أهل العلم بالحديث، ولا يحتج بها ويعول عليها من له أدنى تمييز /أو ممارسة/5؛ وإنما يلتفت إليها ويحكيها أهل الجهالة والسفاهة من القصاصين والكذابين. وأما أهل العلم والدين: فمجرد النظر إليها، والوقوف عليها، يعرفون أنها من الأخبار الموضوعة المكذوبة التي لا تروج إلا على سفهاء الأحلام، وأشباه الأنعام وقد ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما ينيف 6 على مائة وخمسين دليلا، كما قرره صاحب "مفتاح دار السعادة"7 وقد مر صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه، وهم سادات العلماء والمتعلمين على قبرين يعذبان، فشق
جريدة ووضعها عليهما وقال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا" 1 ولم يقل لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما، كما زعمه هذا الجاهل. وكأي من قرية عُذبت، وأتاها أمر الله بغتة، وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم، وهم ينظرون إلى وجوههم، ويخاطبونهم، ويسمعون كلامهم، فما أغنى عنهم ذلك إذ لم يؤمنوا بآيات الله، وأصابهم من العذاب ما أصابهم 2. وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه، وأن يعطي القوس باريه 3. شعرا/ لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها وأما قوله: إن في الحديث: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 4. فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم؛ بل ذكروا أنه موضوع. قال ابن عبد البر إمام المغرب في وقته، وحامل لواء المالكية في زمانه: "حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد 5
أن أبا عبد الله بن مفرج حدثه قال: حدثنا محمد بن أيوب الصموت 1 قال: قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم ... " فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن قيم 2 الجوزية بعد أن ذكر طرق هذا الحديث: "لا يثبت شيء منها"3 4. ثم قال ما معناه: "إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي، ولو تخالفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده، فيخبر في مسألة الجد والإخوة بين مذهب أبي بكر ومن خالفه، وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة بين رأي عمر" وغيره، وفي مسألة المتوفى عنها زوجها 5 بين الاعتداد بالوضع وتربص أقصى الأجلين، وفي مسألة استرقاق المرتدات بين مذهب أبي بكر وعمر، ويخير في بيع أمهات الأولاد بين مذهب من يقول بجوازه، كعلي، ومن يقول بمنعه؛ كعمر ومن وافقه. وبالجملة، فإطلاق هذا يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين، ولا نعلم قائلا به من أهل العلم، والحق واحد في نفسه لا يتعدد، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 6. والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم، وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النزاع والاختلاف إلا بالرد إلى الله والرسول، لا بالإقتداء بأحد من الخلق كائنا من
كان، وأما مع عدم النص المخالف فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. وأما ثناء الصحاف على مشايخه الستة الذين سماهم، وادعى أنهم من أهل العلم والفضل، وقدمهم على من سواهم. فيقال له: هذه دعوى، وهذا الثناء، هو بحسب ما عندك وما ظهر لك، ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة، الذين يكفرون أهل "لا إله إلا الله" ويجعل عباد الأولياء والصالحين، الذين يفزعون إليه بالدعوة من دون رب العالمين، هم أهل "لا إله إلا الله" كيف يعرف العلم والإيمان؟ أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟ شعرا: ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل 2 وشهادة من لا يعرف العلم أو النحو أو الهندسة أو الطب مثلا، لشخص بأنه عالم أو نحوي أو مهندس أو طبيب: شهادة زور، وقول بلا علم، وفي المثل: "لا يعرف الفضل إلا ذووه" ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله، والعلم ومحله، لأحجم عن هذا الهذيان. وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة الذين سماهم واختارهم ما يقتضي – إن صح - أن يحكم على صاحبه بأنه من المعطلة الضالين. ويقال لهذا 3 أيضا: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه؛ فادعتها الجهمية، والقدرية، والخوارج، والمعتزلة، والروافض، والنصيرية، ونحوهم من كل مبتدع ضال، فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه، والدعاوى المجردة لسنا منها في شيء، وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا
مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1. فإسلام الوجه لله هو عبادته، والكفر بعبادة من سواه، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وهذه/الكلمة تتضمن العلم والعمل مع القول، فلا يكتفى ببعض ذلك، بل لا بد من العلم والعمل والشهادة. وأما الإحسان: فهو أن تعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع وهذا هو حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله، فإنها تقتضي وتتضمن وجوب متابعة، وتحريم معصيته، وأن السير إلى الله من طريقه ومحجته، هذا هو حقيقة اتباع الرسول، والشهادة له، بالرسالة. والدين كله يدخل في هذه الجملة الشريفة وبسط الكلام عليها يستدعي أسفارا. والسؤال الذي أجاب عنه هذا الرجل في رسالته، يلزم المفتي ويجب عليه التفصيل في جوابه، ولا يجوز له إطلاق القول؛ لأن الحكم يختلف باختلاف الحال. وإطلاق القول بتكفير كل صالح من صلحاء الأمة من غير تعيين يدخل فيه كل موصوف بهذه الصفة من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين. وما أظن هذا يقع من عاقل يتصور ما يقول، مسلما كان أو كافرا، سُنيا أو بدعيا؛ لأن الكافر لا يرى الحكم بالكفر 2 أو الإسلام؛ إذ هي أحكام شرعية، لا يقول بها إلا أهل الشريعة. وأما المسلم، فلا يتصور أن يكفر صلحاء أهل المدينة، وكذلك السني والبدعي كل منهما يدعي موالاة صلحاء الأمة، ويرى أنهم هم أسلافه وأئمته، وكل طائفة تدعي موالاة الصلحاء والبراءة من الفساق ونحوهم. وأما إن كان قصد السائل من يكفر معينا من هذه الأمة: فعليه أن يعبر بغير هذه
العبارة الموهومة، والمجيب عليه أن يستفصل؛ لأن ترك الاستفصال؛ فيه إيهام ولا شك أن تكفير بعض صلحاء الأمة ممكن الوقوع؛ بل قد وقع من الخوارج وغيرهم من أهل البدع. فيقال حينئذ 1: إن كان المكفر لبعض صلحاء الأمة متأولا مخطئا وهو ممن يسوغ له التأويل. فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم لاجتهاده، وبذل وسعه، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة 2، فإن عمر – رضي الله عنه - وصفه بالنفاق واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم/في قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"3. ومع ذلك فلم يُعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق. وقد قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 4، وقد ثبت أن الرب – تبارك وتعالى - قال بعد نزول هذه الآية وقراءة المؤمنين لها: "قد فعلت"5. وأما إن كان المكفر لأحد هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفرا بواحا؛ كالشرك بالله وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته أو رسوله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحود الحق 6، أو جحد صفات الله – تعالى - ونعوت جلاله ونحو ذلك فالمكفر بهذا مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله، قال الله – تعالى - {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1. فمن لم يكن من أهل عبادة الله – تعالى-، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنبا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه. والتكفير بترك هذه الأصول، وعدم الإيمان بها من أعظم دعائم الدين، يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام، وغالب ما في القرآن إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى، وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا من دونه الآلهة والأرباب، وهذا بين بحمد الله. وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة من أعداء الله ورسله، أهل الإشراك به، والإلحاد في أسمائه، فهؤلاء يكفرون المؤمنين بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويعيبون أهل الإسلام، ويذمونهم/على إخلاص الدين، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد يقاتلونهم على ذلك، ويستحلون دماءهم وأموالهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} 2. فمن كفر المسلمين أهل التوحيد أو فتنهم بالقتال أو التعذيب: فهو من شر أصناف الكفار، ومن الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار، وفي الحديث: "من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما" 3. وأما من أطلق لسانه بالتكفير لمجرد عداوة أو هوى، أو لمخالفة في المذهب – كما يقع
لكثير من الجهال. فهذا من الخطأ البين، والتجاسر على التكفير والتفسيق 1 والتضليل، لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا عنده، فيه من الله برهان. والمخالفة في المسائل الاجتهادية التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس، لا تقتضي كفرا ولا فسقا، وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. والواجب على كل أحد: أن يتقي الله ما استطاع، وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم، لا يجب على من خفيت عليه عند العجز عن معرفتها، والتقليد ليس بواجب؛ بل غايته أن يسوغ عند الحاجة وقد قرر بعض مشايخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وقيام الحجة، ولا يحل لأحد أن يكفر أو يفسق بمجرد مخالفة للرأي والمذهب. وبقي قسم خامس، هم الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، كالسرقة والزنا وشرب الخمر. هؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة ضُلال مبتدعة، قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم، والترغيب فيه، وفيه: "أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم"2. وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج، وليس كذلك؛ بل التلفظ بالشهادتينن/لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله، ولم يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان. وأما من قالهما ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله، واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرب لهم القرابين،
وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان بل هو كاذب في شهادته، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1. ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو: عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، فمن استكبر عن عبادته ولم يعبده، فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله، ومن عبده وعبد معه غيره، فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله. وأما قول السائل في سؤاله: "ويعتقد أن أهل القسم 2 كلهم كفار معطلون، كاليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو كافر، وإذا لقيه أحد من المسلمين وسلم عليه قال: عليكم". إلى آخر ما قال. فاعلم أن أهل "القسم" يخفى حالهم علينا، ولا ندري ما هم عليه من الدين، وفيهما تقدم من التفصيل كفاية، فالمكفر لهم لا يخرج عن الأقسام المتقدمة. والصحاف قد خلط هنا، وأطال الهذيان، وزعم أن من كفرهم بكفر ولا يصلى خلفه، وقد عرفت أن المسألة فيها تفصيل كما قدمناه، وبه يعرف حكم الصلاة خلفه، وأنها لا تصح خلف من أشرك بالله، أو جحد أسماءه وصفاته لكفره، وأهم شروط الصلاة والإمامة هو الإسلام معرفة والعمل به. ومن كفر المشركين ومقتهم، وأخلص دينه لله، فلم يعبد سواه فهو أفضل الأئمة وأحقهم بالإمامة؛ لأن التكفير بالشرك والتعطيل هو أهم ما يجب من الكفر بالطاغوت. وأما من كفَّر من ليس من أهل الكفر لكنه متأول يسوغ تأويله، فهو أيضا من الأئمة المرضيين، إذا تمت له شروط الإمامة، وخطؤه مغفور له بنص الحديث.
وأما من يكفر لهوى أو عصبية أو لمخالفة في المذهب، أو لأنه يرى رأي الخوارج، فهو/ فاسق لا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة مع غيره، إلا إن كان ذا سلطان تخشى سطوته، فصلى خلفه كما يصلي خلف أئمة الظلم والجور. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الصحاف ذكر في جوابه ما لا يتعلق بالسؤال؛ كمسبته وعيبه من يعيب مشايخه الذين ذكرهم، وترضى عنهم، كابن كمال، وعبد الله البصري، وحسين الدوسي وغيرهم ممن ذكر، وحكمه على من عابهم أنه من الجهال المبتدعة، أكلة الحرام الذين لا هم لهم في الدين، وأنهم ممن قال فيهم صاحب الزبد: وعالم يعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن وأن همهم في جمع الدراهم والدينار، يعملون في تحصيلها أنواع الحيل بالليل والنهار. فهذا الكلام مجرد دعوى ومسبة، ينزه العاقل نفسه عن مثلها، ويكفي في ردها منعها وتكذيبها، ويمكن خصم الصحاف أن يقابلها ويعارضها بما هو محق فيه، كقوله: بل أنتم أهل الجهل بما بعث الله به رُسله، وأنزل به كتبه، لم تعرفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من صفات الكمال ونعوت الجلال، ولكنكم أخذتم العقيدة في ذلك عن أفراخ الفلاسفة واليونان الذين هم من أعظم الخلق مناقضة لما نطق به القرآن، وما وصف به الرب نفسه في كتابه العزيز، وكذلك أنتم في باب معرفة حق الله وتوحيده، من أضل الناس وأهلهم، تجعلون عبادة غير الله، ودعاءه، والاستغاثة والاستعاذة به، والذبح والنذر له 1، والحب مع الله، توسلا بالصالحين وتشفعا بهم، وقد صرح بهذا أشياخ هذا الصحاف وأشياعه، وكتبوا به إلينا وإلى شيخنا – رحمه الله تعالى - وعنهم أن الإنسان لا يكفر ولا يكون مشركا، إلا اعتقد التأثير له من دون الله ولم يفقهوا أن الله حكى عن المشركين في غير موضع من كتابه، أنهم يعترفون له بأنه هو المختص بالإيجاد والتأثير والتدبير، وأن غيره لا يستقل بشيء من ذلك ولا
يشاركه فيه، وحكى عن المشركين أنهم ما قصدوا بعبادة من سواه إلا القربان والشفاعة، كما ذكر ذلك في غير موضع من كتابه. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 1. {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 2. ومثل هذا كثير في القرآن، يخبر فيه – تعالى - أن المشركين يعترفون بأن الله هو المتفرد بالإيجاد والتأثير والتدبير. وقال تعالى في صفة شرك المشركين وبيان قصدهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3. وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 5. فأبيتم علينا هذا كله، وقلتم هذا دين الوهابية، ونعم، هو ديننا بحمد الله؛ ورضي الله عن الشافعي إذ يقول: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد 6 خيفها والناهض
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي "فصل" قال الصحاف: "وأنهم إذا سمعوا من يذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، ويصلي على الرسول جهرا خصوصا على المنار – كما يفعله سائر أهل الأمصار - أنكروا ذلك ونفروا عنه وفروا". فيقال: أما ذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، فلا نعلم أحدا من المسلمين بحمد الله – تعالى - 1 ينكره أو يُنَفِّر عنه، وإطلاق هذه العبارة من الكذب البين، والبهت الظاهر الذي لا يمتري فيه من عرف حال من يشير إليهم هذا الرجل، وليس هذا بعجيب من جرأته وظلمه، وقد قال – تعالى-: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 2. نعم، قد أنكروا ما يفعله كثير من جهلة أهل الطرائق المبتدعة، من الاجتماعات على السماع الشيطاني، وقيامهم/بين يدي المنشد يميلون ويرقصون. وبعضهم يذكر الله بمجرد الاسم الظاهر 3 أو المضمر 4، ويزعم أن هذا هو ذكر الخواص أهل المعرفة والتحقيق، فهؤلاء مبتدعة ضلال، وما فعلوه ليس بذكر شرعي، بل هو د ين مبتدع غير مرض، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 5. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 6.
وفي الحديث: "إن أصد ق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بعدة ضلالة"1. ووكل عالم يعرف أن هذا السماع الشيطاني مبتدع، لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة، وقد أنكره عامة أئمة الإسلام، وأشهدهم في ذلك أتباع الإمام مالك بن أنس، الذي ينتسب هذا الرجل إلى مذهبه، وكفى به جهلا وضلالا أن يعيب ما عليه قدماء أئمته وفضلاؤهم، ونصوصهم موجودة بأيدينا، في إنكار هذا السماع الشيطاني، وتضليل فاعله وتفسيقه. وقد صنف ابن قيم الجوزية في هذا الذكر المبتدع كتابا مستقلا 2 قرر فيه مذاهب الأئمة في حكم هذا السماع، وأنه محرم لا يجوز. وإن كان قصد هذا المعترض: خصوص رفع الصوت بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، كما يفعله أهل الأمصار، فقد صدق في حكاية إنكار هذا عنه 3، وهم لا ينازعون في مشروعية الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم سرا وجهرا، بل يستحبونها ويوجبونها في الصلاة، ويرون أنها من جملة الأركان فيها. لكنهم يرون أن ما يفعله أهل الأمصار، على المنائر 4 بعد الأذان مبتدع محدث في القرن الخامس والسادس، وسبب إحداثه رؤيا رآها بعض ملوك مصر، على ما ذكره بعض المؤرخين، وقد أنكره بعض الأئمة، وقالوا: هو بدعة لم يفعله صلى الله عليه وسلم مع التمكن من فعله، ولم يفعله أحد من أئمة الهدى بعده، ولا غيرهم من
أهل القرون المفضلة، وقد أمرنا بالاتباع، ونهينا عن/الابتداع. قال ابن مسعود "اتبعوا ولا تبتدعوا، ومن كان منكم مستنا فعليه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم 1، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، والقيام بدينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم"2، أو كما قال. وقد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل لقوله ويشهد له، وكتب قدماء أهل المذاهب الأربعة، وجمهور متأخريهم ليس فيها استحباب هذا، ولا الأمر به، بل فيها ما يدل على منعه، وأن الواجب هو ما شرعه الله. قالوا: وأما الصلاة والسلام عليه سرا بعد الأذان، وسؤال الله له الوسيلة والفضيلة، فهذا مشروع قد ورد به الخبر، وصح به الأثر 3، مع من خالفهم من الأدلة ما يجب المصير إليه، وإنما يعيب على من منع البدع واختار السنن، أهل الجهالة والسفاهة {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} 4. ثم إن المفتري 5 الصحاف أطلق لسانه بالمسبة، وأطال في ذلك، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 1، وقد قيل في المثل: وقال العلي: أنا ذاهب إلى المغرب، فقالت الحماقة: وأنا معك. وقد ذكر في جوابه من الحشو والكلام الذي لا يقتضيه المقام، ما يدل على قصوره وعجزه، وعدم ممارسته لصناعة العلم، كما ذكر قضيته مع راشد بن عيسى في مسألة الهبة واختلافها في لزومها، ومسألة العقد على اليتيمة، فلقد أبدى بذلك ما خفي من جهله، ورب كملة تقول دعني. وكلامهم في الهبة ولزومها كلام غير محقق، والناس يختلفون في الهبة ولزومها، هل هو بالعقد فقط، أو لا بد من القبض؟ وعن بعضهم ما يقتضي التفرقة بين المكيل والموزون وغيرهما. واختلف الناس أيضا؛ هل تبطل بالموت قبل القبض أو لا؟ واختلف القائلون باشتراط القبض، هل يشترط فيما وهبه لزوجته أو لا يشترط؟ /وأدلة هذه الأقوال ومآخذها، والرد على المخالف مبسوط في المطولات، ولا غرض لنا في ذكره، وإنما قصدنا أن حكم هذا الصحاف على أحد الأقوال بالصحة. مع قصوره عن معرفتها ومعرفة أدلتها، والتزامه التقليد. حكم باطل لا يجوز، وما للأعمى ونقد الدراهم؟. وحكمه على الذي أفتى بخلاف قوله، بأنه ضال عن سبيل الرشاد، حكم باطل، أوجبه ما بينهما من التنافس والعناد، ومثل هذه المسائل الاجتهادية لا يجوز لأحد أن ينكر فيها على خصمه بمجرد التقليد، وحكاية فروع المذهب، بل لا بد من الدليل على ذلك من الكتاب، أو شنة أو إجماع أو قياس صحيح، ومن كلام شيخ الإسلام: "من ترك الدليل ضل السبيل". وجميع ما ذكره إنما هو مجرد نقل لأقوال بعض المالكية؛ كالشيخ خليل، وعبد الباقي، وابن عرفة وأمثالهم، وتقليد هؤلاء إنما يسوغ عند الضرورة، والمقلد لهم أو
لغيرهم ليس من أهل العلم بالإجماع، كما حكاه ابن عبد البر أو إمام المالكية عمن يحفظ قوله من أهل العلم، فكيف والحال هذه يحكم هذا الجاهل الذي ليس هو من أهل العلم عند أئمة مذهبه وغيرهم بصحة جوابه، وفساد قول خصمه وضلاله؟ وهل يعلم هذا إلا بالنص من كلام الله، أو كلام رسوله، أو إجماع الأمة؟ فما للمقلد والحكم بالصحة والصواب، وقد جهل نصوص السنة والكتاب؟ ومن تشبَّع بما لم يعطي فهو كلابس ثوبي زور 1. وقوله: فلا شك في أن الطاعن في أهل القسم من أهل النار بعيد عن الهدى، وأنه لا يفلح أبدا في الدنيا خاسر أي خاسر، وفي الآخرة إلى النار صائر، إلى آخر عبارته.. فهذا الكلام لا يصدر ممن عاقل، يعرف ما خرج من بين شفتيه، نعوذ بالله من الجهل المردي، والهوى المعمي، وهذه المسبة والحكم على المخالف في هذه المسألة بالنار، مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا، وما أشبهها بأخلاق أهل المجون، وأصحاب الوقاحة والجنون. وكان ينبغي لنا أن نعد هذه الفتوى من جملة هذيان/الضالين، وأن نكف القلم عن إجابة هذا النوع من المفترين، ولكن الضرورة اقتضت، فلا إله إلا الله، ما أشد غربة الدين، وما أقل العارفين له والمميزين، كيف يقر مثل هذا بين ظهراني من له عقل يميز به الخبيث من الطيب، ويفرق به بين الآجن والصيب؟ وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفروا من كفرهم من الخوارج الحرورية، وقد سُئل علي رضي الله عنه 2، فقيل له: أكُفارٌ هم؟ فقال: "من الكفر فروا"3.
وفي الحديث: "أن رجلا فيمن قبلنا رأى من يعمل بالمعاصي فاستعظم ذلك وقال: والله لن يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألَّى علي أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له، وأحبطت عملك" 1. وأما قوله: ومن تسمَّى بالإسلام، وأحب محمدا سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفر أحدا من سائر المسلمين، فضلا عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين اسقطوا حرمة "لا إله إلا الله" وسؤال لهم الشيطان وأملى لهم، حيث استباحوا دماء المسلمين – إلى آخر رسالته. فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله واتخذ معه الأنداد والآلهة، ودعاهم مع الله لتفريج الكربات وإغاثة اللهفان، يحكم عليه والحال هذه بأنه من المسلمين؛ لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتهما2 ن لا تضره، ولا توجب عند كفره، فمن كفَّره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة "لا إله إلا الله" وهذا القول مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم كفر إجماعا"3. انتهى. ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادتين لا يجدي شيئا، والمنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار. نعم، إذا قاله المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يكف عنه بمرد القول، ويحكم بإسلامه، وأما إذا تبين منه تكرر عدم التزامه ما دلت عليه من الإيمان بالله
وتوحيده والكفر بما يعد من/دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام ولا كرامة له، ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة تدل 1 على هذا. فمن تسمى بالإسلام حقيقة، وأحب محمدا، واقتدى به في الطريقة وأحب أصحابه الكرام، ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوى بالله غيره، ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة، ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام ولا يعرف حقيقته، وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد، والظاهر الأول. وقد ابتلي بهذه الشبهة، وضل بها كثير من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال – تعالى-: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 2. وقال – تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3. وقال – تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} 4 فالتكفير بدعاء غير الله: هو نص كتاب الله، وفي الحديث: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار" 5. وفي الحديث أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 6،
وفي رواية: "إلا بحق الإسلام" 1. وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل هو: عبادة الله وحده، والكفر بما يعبد من دونه، وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، فمن قالها وعبد غير الله، أو استكبر عن عبادة الله فهو مكذب لنفسه، شاهد عليها بالكفر والإشراك. وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة، في كتب الفقه باب مستقلا في حكم المرتد، ويذكر أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وقد قال – تعالى - في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2، فكفَّرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قوله "لا إله إلا الله". وكذلك: إجماع الأمة على كفر من صدق مسيلمة الكذاب، ولو شهد "أن لا إله إلا الله" وقد كفَّر الصحابة أهل مسجد بالكوفة بكلمة ذُكرت عنهم في احتمال صدق مسيلمة الكذاب، ولم يلتفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم يشهدون "أن لا إله إلا الله". لأنه قد وجد منهم ما ينافيها، ويناقضها: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3 وبالجملة فالذي يقوم بحرمة "لا إله إلا الله": هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها علما وعملا، كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه، ومن تبعهم بإحسان، كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى - وأما من أباح الشرك بالله وعبادة غيره، وتولى المشركين، وذب عنهم، وعادى
الموحدين وتبرأ منهم فهو الذي أسقط حرمة "لا إله إلا الله"، ولم يعظمها، ولا قام بحقها، ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها. وأما ما ساقه هذا الصحاف من كلام شيخه حسين الدوسري: فالخصم يعارضه ويمنعه، وما ذكره 1 ليس – بحمد الله تعالى - من أوصاف أهل التوحيد، ولكنه وصف أهل الشرك والتنديد. والذي أنكر الطاعة، وعصى ربه في كل ساعة، واتبع هوى نفسه الخداعة، وشذ عن السنة وفارق الجماعة، ووافق الشبهة وأهل الإضاعة، هو من كانت طريقته عبادة غير الله، والاستعانة بغير مولاه، وصرف الوجه لغير من خلقه وسواه، والتعبد بغير الذي شرعه الله على لسان عبده الذي اصطفاه، من أهل التعطيل والتضليل، والإلحاد والتمثيل، الذين اختلفوا وخالفوا الكتاب، وضلوا عن الصواب. وأما الصحاف نقلا عن شيخه الدوسري: "أما كفروا العلماء؟ أما سفكوا الدماء؟ أما استحلوا المحرمات؟ أما روعوا المسلمين والمسلمات؟ أما أسخطوا رب السموات؟ أما رجفوا أهل الحرم؟ أما تجاسروا على حجرة منْ صلى الله عليه وسلم؟ فلا أفلح من ظلم. فالجواب عن هذا يقال: كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - يعلم أنه من أعظم الناس إجلالا /للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهيا عن تكفيرهم وتنقصهم وأذيتهم، بل هو ممن يدين بتوقيرهم وإكرامهم والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم عملا بقوله – تعالى-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2. وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 3 الآية
وبقوله – تعالى-: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 1. فالإيمان والتقوى هما أصل العلم بالله وبدينه وشرعه، فكيف يظن بمسلم فضلا عن شيخ الإسلام أنه يكفر العلماء؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . والشيخ – رحمه الله - لم يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأجمعت الأمة على كفره؛ كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين، ولم يلتزم ما جاءت به الرسل من الإسلام والدين، أو جحد ما نطق به الكتاب المبين، من صفات الكمال، ونعوت الجلال لرب العالمين، وكذلك من نصب نفسه لنصرة الشرك والمشركين، وزعم أنه توسل بالأنبياء والصالحين، وأنه مما يسوغ في الشرع والدين، فالشيخ وغيره من جميع المسلمين، يعلمون أن هذا من أعظم الكفر وأفحشه. ولكن هذا الجاهل، يظن أن من زعم أنه يعرف شيئا من أحكام الفروع وتسمى بالعلم، وانتسب إليه، ويصير بذلك من العلماء، ولو فعل ما فعل، ولم يدر هذا الجاهل أن الله كفَّر علماء أهل الكتاب والتوراة والإنجيل بأيديهم، وكفَّرهم رسوله لما أبوا أن يؤمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق. ولا ضير على الشيخ بمسبة هؤلاء الجهال، وله أسوة بمن مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم ن أهل الإيمان والاهتداء. قال الشافعي – رحمه الله-: "ما أرى الناس ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله ثوابا عند انقطاع أعمالهم"، وما أحسن ما قيل: شعرا قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا عليك في البحث أن تُبِدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر وقد اعترضت اليهود والنصارى على عبد الله ورسوله بالقتال، وسفك الدماء
وسبي الذرية وقالوا إنما يفعل هذا الملوك المسلطون، وحكاياتهم في ذلك معروفة مشهورة عند أهل العلم، ويكفي في ذلك قوله – تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 الآية. وأما قوله: "أما رجفوا أهل الحرم". فلا يخفى أن الذي جرى في الحرمين، من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو: هدم القباب التي أسست على معصية الله ورسوله، وصارت من أعظم وسائل الشرك وذرائعه، وكسروا آلات التنباك وسائر المسكرات وألزموا الناس المحافظة 2 على الصلوات في الجماعات، ونهوا عن لبس الحرير، وألزمهم بتعلم أصول الدين، والالتفات إلى ما في الكتاب والسنة من أدلة التوحيد وبراهينه، وقرروا الكتب المصنفة في عقائد السلف أهل السنة والجماعة في باب عرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقرروا 3 إثبات ذلك من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، وأنكروا على من قال بقول الجهمية في ذلك، وبدَّعوه وفسَّقوه، فإن كان هذا إرجافا للحرم فحبذا هو، وما أحسن ما قيل: وعيَّرني 4 الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارفا وقد أمر الله – تعالى - من خاض في مثل هذا أن يتكلم بعلم وعدل، كما قال – تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 5 الآية. وهذا الرجل كلامه جهل محض وجور ظاهر، وأصله الذي يرجع إليه هو الانتصار للنفس والهوى، لا لنصر الحق والهدى.
وأما التجاسر على حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه يشير به إلى المال الذي استخرجه الأمير سعود من الحجرة الشريفة، وصرفه في أهل المدينة ومصالح الحرم، وهو – رحمه الله - لم يفعل هذا إلا بعد أن أفتاه علماء المدينة من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة، وصرفه في حاجة أهل المدينة وجيران الحرم؛ لأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدت الحاجة والضرورة إلى استخراج هذا المال وإنفاقه، ولا حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبقائه في حجرته وكنزه لديه، وقد حرم كنز الذهب والفضة وأمر بالإنفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقا لفقراء المسلمين، وذوي الحاجة منهم، كالذي بأيدي الملوك والسلاطين. فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه، وصرفها في مصارفها الشرعية أحب إلى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها، وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة إليها؟ وتعظيم الرسول وتوقيره: إنما هو في اتباع/ أمره والتزام دينه وهديه، فإن كان عند علينا دليل شرعي يقتضي تحريم صرفها في مصالح المسلمين فليذكره لنا، ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم، وليس عند هؤلاء إلا اتباع عادة أسلافهم ومشايخهم، ويعرف هذا من ناظرهم ومارسهم، ودعواهم عريضة وعجزهم ظاهر. وقد أطال هذا الصحاف فيما نقله عن شيخه حسين الدوسري، وأكثر فيه من النصيحة، ولا بأس بالنصائح لمن أراد الحق وتوخاه، ونهى عما يسخطه الرب ولا يرضاه، ولم يلحد في أسمائه، ولم يعبد سواه، فهذا هو الصادق في نصحه وقوله الذي أبداه. بخلاف من توهم الأمر على خلاف ما هو عليه، ولبس الحق بالباطل لديه، واعتقد أن المجاهد لإعلاء كلمة الله يشار بالذم إليه، فعمل مثل هذا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ
عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. نسأل الله – تعالى - أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم، والفوز لديه بجنات النعيم صلى الله عليه وسلم 2. أملاه 3 الفقير إلى اله عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ملحق (جدول يبين أمراء آل سعود وفترة إماراتهم)
ملحق (جدول يبين أمراء آل سعود وفترة إماراتهم) ... جدول يبين أمراء آل سعود، وفترة إمارتهم، والأدوار التي مرت بها الدولة السعودية {الدور الأول} * اسم الأمير ... فترة إمارته: من ... إلى 1- محمد بن سعود ... 1139هـ ... 1179هـ 2- عبد العزيز بن محمد ... 1179هـ ... 1218هـ 3- سعود (الكبير) بن عبد العزيز ... 1218هـ ... 1229هـ 4- عبد الله بن سعود الكبير ... 1229هـ ... 1233هـ 5- مشاري بن سعود الكبير ... 1233هـ ... 1235هـ {الدور الثاني} 6- تركي بن عبد الله بن محمد ... 1235هـ ... 1249هـ 7- فيصل بن تركي (للمرة الأولى) ... 1250هـ ... 1254هـ 8- خالد بن سعود (الكبير) ... 1254هـ ... 1257هـ 9- عبد الله بن ثنيان ... 1257هـ ... 1259هـ 10- فيصل بن تركي (للمرة الثانية) ... 1259هـ ... 1282هـ 11- عبد الله بن فيصل ... 1282هـ ... 1288هـ 12- سعود بن فيصل ... 1288هـ ... 1291هـ 13- عبد الرحمن بن فيصل ... 1307هـ ... 1309هـ {الدور الثالث} 14- عبد العزيز بن عبد الرحمن ... 1319هـ ... 1373هـ 15- سعود بن عبد العزيز ... 1373هـ ... 1384هـ 16- فيصل بن عبد العزيز ... 1384هـ ... 1395هـ 17- خالد بن عبد العزيز ... 1395هـ ... 1402هـ 18- فهد بن عبد العزيز ... 1402هـ ... (1)