عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار

ابن القصار

[1] مسألة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على مُحَمَّد وَآله كتاب الطهارة [1] مَسْأَلَة عند مالك - رَحمَه الله - غسلُ اليدين قبلَ الطهارة مندوبٌ إليه وليس بواجب، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي، وو الشافعي سواء كان حدثه من نوم الليل أو النهار، أو أي حدث كان.

وحُكي عن أحمد بن حنبل - رَحمَه الله - إنه إن كان من نوم الليل دون النهار واجب. وذهب قومٌ من أهل الظاهر إلى أنه واجب من أي نوم كان: تعبُّداً لا لنجاسة. فإن أدخلهما الإناء قبل غسلهما يفسُد الماء. وو قال الحسنُ البصري: إنْ أدخلهما الإناء قبل غسلهما نجِس

الماء، تحقق النجاسة على يده أو لا. والدليل على صحة قولنا هذا: أنَّ الوجوب يحتاج إلى شرع، فلا تُوجب شيئاً إلا بدلالة. وأيضاً فإن الله - تعالى - قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية، فأمرنا بغسل الأربعة الأعضاء، ولم يأمر بغسل اليد قبل ذلك، فلو كان يجب علينا حُكمٌ غيرُ ذلك لذكره، فلا تُوجب غير ما ذُكر إلا بدليل. وأيضاً قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله»، وبين

له الذي أمره الله - تعالى - غسلَ الأربعة الأعضاء، كاملة فقط وهذا موضعُ تعليم، فلو كان غسلُ اليدين قبل ذلك واجباً لبينه له. وأيضاً الحديثُ الذي قبل فيه: «لن تُجزئ عبداً صلاتُه حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله - تعالى - فيغسل وجهَه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه»، فدل [على] أنَّ هذا القدر يجزئه، وان ما دونه لا يجزئه. وأيضاً قولُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وإنَّمَا لا مرئ ما نوى»، ومن غسل هذه

الأعضاء الأربعة ونوى بها الطهارة، فله ما نواه. وأيضاً فإنَّ النوم لا يخلو أن يكون حَدَثاً في نفسه أو سبباً للحدث، بل هو سببٌ للحدث كمسِّ الذكر، وملامسة النساء، والقبلة للشهوة، وعلى الأحوال كلها، فلا يجب غسلُ اليد عند وجود الحدث، ولا عند سببهِ: كما ذكرنا من اللَّمسِ أو الغائطِ والبول. وجميعُ ذلك لا يوجب تنجيسَ اليد، ولا فساد الطهارة وإن لم يغسل. وأيضاً: فإننا نقول لهم: لا تَخْلُون من أحد أمرين: إما أن تأمروه بغسل اليد، فإن لم يفعل نجِس الماء، أو تقولوا: إنَّ طهارته لا تصح إلا بذلك، وفي الأمرين جميعاً: لا يجب ذلك بإجماع؛ لأنَّ ما كان متعبداً به لجل الحدث لا لأجل نجاسة فإنَّه لا يتغير بأي حدث كان، سواء كان بنوم أو غائط أو بول أو لمس. فلمَّا اتفقنا على أنَّه لو خرجت منه ريح أو غائط لم يجب غسل اليدين، ولا تنجيس الماء، ولا فساد الطهارة - مع يقين الحدث الموجود به - كان في حدث النوم - الذي هو غير متيقِّن، وهو أخفض مرتبة، وقد سقطت الطهارة

فيه إذا نام جالساً - أولى أن لا يجب. وأيضاً: فلو كان يُفسد الماء لأجل نجاسة في يده: فإنَّ الماء - عندنا - إذا لم يتغير بأحد الوصاف من ريح أو لون أو طعم لم ينجس. وهذا أصل لنا، فإن اخترتم نقل الكلام إليه فذلك إليكم. ثم مع هذا فاليدُ على أصل الطهارة: لأنَّه لو أدخلها في طعام أو شراب لم ينجُس، مع أن المائعات لا تدفع النجس ولا تجوز الطهارة بها. فالماءُ الذي يدفع النجَس عن نفسه، وتجوز الطهارة به: أولى ألا ينجس بإدخال يده فيه. فإن قيل: الدليلُ على وجوب ذلك: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يغمس يدَه في إنائه حتى يصبَّ عليها صبةً أو صبتين؛ فإنَّه لا يدري أين باتت يده». وفي بعض الأخبار: «حتى

يغسلها ثلاثاً: فإنَّه لا يدري أين باتت يده»، وهذا أمر ظاهره الوجوب كقوله: - تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}، وذلك على الوجوب له. قيل له: الحديثُ يدل على أنَّه استحباب؛ لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّل ونبَّه؛ بقوله: «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده، فعلمنا أنه على طريق الاحتياط، وأعلمنا بهذا أيضاً: أنَّه ليس لأجل الحدث بالنوم؛ لأنَّه لو كان لذلك، لم يحتج للاعتلال». والذي يدل أيضاً على أنَّه على طريق الاحتياط: أن قائلاً لو قال: اسلك هذا الطريق، واترك الطريق الآخر؛ فإنَّك لا تدري ما فيه، وكذلك لو قال: اغسل ثوبك؛ فإنَّك لا تدري أي شيء فيه، وهل أصابه نجَس أو لا؟ لعلم أن ذلك على طريق الاحتياط، وإن كان لو تجرد قولُه: اغسل ثوبك، لدل على الوجوب، غير أن الذي اقتران به دل على أنه على الاحتياط.

وفي حديث في السنن لأبي داود: «فإن أحدكم لا يدري أين طافت يده»، وهذا يدل على أنَّه استحباب؛ لنَّ الإنسان لا يأمن أن تطوف يدُه في المواضع التي إذا لاقتها يده استقذر أن يدخلها في وَضوئه، وتعافته نفسه؛ كإبطه ومغابنه الغامضة. فإن قيل: إنَّ هذا التعليم أل يمنع من وجوب ذلك، كما قال - تعالى -: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وكقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ

وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}، وكقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، ولم يدل ذلك على أن الصلاة ليست بواجبة، وإن اجتناب الخمر ليس بواجب. قيل له: ليس هذا مما نحن فيه بسبيل؛ لأنَّ الله - تعالى - أوجب علينا الصلاة، ثم وصفها بأنَّها تفعل ذلك، فكان هذا مؤكداً لإيجابها، وكذلك ما ذكره مما تفعله الخمر مؤكد لإيجاب اجتنابها، وليس كذلك ههنا، لأنه بيّن أن الغسل لأجل الشك. ولو كان ظاهر الخمر معهم لم يمتنع أن نخصه بدلالة القياس، وذلك أنَّنَا قد اتفقنا على أنَّه لو أحدث بغير النوم وادخل يده في الماء لم ينجس، وأجزأته الطهارة، والمعنى في ذلك: أنَّه لا يتقين نجاسة في يده فكان النوم مثله، أو بعلة أن يده طاهرة وهو منتقض الطهر. ويجوز أن تلزم من يوجبه من نوم الليل دون نوم النهار القياس على نوم النهار: لعلة أنَّه قائم من النوم لا يعلم في يده نجاسة، أو بعلة أنه لو أدخلها في طعام أو شارب غير الماء لم يفسده، ولم يجب غسل يده إن أدخلها فيه، وكذلك نوم الليل. فإن قيل: فإنَّه - عليه الصلاة والسلام - غسل يده

وأفعاله على الوجوب. قيل: لو تجرد عما قارنه من الاعتلال في الخبر فدل على أنَّه على الاستحباب. ويجوز أيضاً: أن ننقله من الوجوب إلى الاستحباب بدلالة القياس الذي ذكرناه. أو نحرر علة أخرى فنقول: هذا عضو قد تعبدنا بغسله في جملة الأعضاء ألربعة، فلم يجب غسله مرتين قياساً على الوجه والرجلين.

فإن قيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «العينان وكاء السَّه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء»، فأخرجه مخرج الاعتلال، وقد يستطلق

الوكاء، وقد لا يستطلق ومع هذا فإنَّ الوضوء واجب، وكذلك قوله: «فليغسل يده قبل إدخالها في وضوئه؛ فإنَّه لا يدري أين باتت يده»، فينبغي أن يكون غسلُ يده واجباً.

قيل له: إذا نام فالغالب من أمره خروجُ الحدث منه، وليس الغالب منه ملاقاة يده النجاسة. وأيضاً: فإن الطرف الواحد لا يستحق تطهيره مرتين في طهر واحد، والدليل على هذا غسل الرجلين. وأمَّا ما ذهب إلى التفرقةِ بين نوم الليل والنهار، فلا معنى لقوله: لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده، ولم يفرق بين نوم الليل ونوم النهار، فدل على أنَّهما مشتركان من طريق المعنى. فإن قيل: الخبر ورد في نوم الليل؛ لأنَّه قال: «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده». قيل له: فيجمع بينهما بعلة أنه قائم من النوم، لا يتيقن على يده نجاسة. وقد روي في بعض الأخبار: «فإنه لا يدري أين باتت يده»، واليد تطوف في نوم النهار كما تطوف في نوم الليل. وقد روى أنس بن السري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنه توضأ فاستوكف ثلاثاً).

قال الراوي: معنى استوكف ثلاثاً: أي غسل كفه ثلاثاً، ولم يبين أي وضوء هو من الليل أو النهار. ويجوز أن نقول: هي طهارة من حدث فوجب أن لا تتكرر بعض الأعضاء فيها، أصله التيمم.

[2] مسألة

[2] مَسْأَلَة عند مالك وكافة الفقهاء -رحمهم الله - أن التسمية عند الوضوء ليست بواجبة، إلا عند داوود، وقوم من أهل الظاهر، فإنَّهم قالوا:

إنها واجبة لا يجزئ الوضوءُ بها، سواء تركها ناسياً أو عامداً. وقال إسحاق بن راهويه: إن نسيها أجزأته طهارتُه. والدليل لقولنا والجماعة: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنما لأمرئ ما نوى»، ومن توضأ ونوى ولم يسم فقد حصل له ما نواه من الطهارة. وأيضاً قول الله -تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، الآية، فأوجب علينا عند القيام إلى الصلاة غسل الأربعة الأعضاء، ولم يذكر التسمية، فلا نوجب غير ما أوجبه إلا بدلالة. وأيضاً قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله، وهذا

موضع تعليم، فقال له: "اغسل وجهك وامسح برأسك واغسل رجليك"، فلو كانت التسمية واجبة لعلَّمه ذلك. وأيضاً الحديث الآخر الذي قيل فيه: "لن تجزئ عبداً صلاته حتَّى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه"، فأعلمنا ما تجزئ به الصلاة ولم يذكر التسمية، فظاهره أنَّها تجزئ بغيرها. وأيضاً ما روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضائه»، فعلمنا بهذا أن ترك التسمية لا يفسد الوضوء وأنه يطهر الأعضاء المأمور بغسلها، غير أنَّه أنقص حالاً منه إذا سمى، وكذلك نقول: إنَّها أفضل.

وأيضاً قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة إلا بطهور»، وهو نكرة، فإذا صلَّى بما يسمى طهوراً أجزأه أي طهور كان، إلا أن تقوم دلالة في إلحاق شيء آخر. ومن طريق القياس: اتفقنا في الصيام أنَّه لا يجب في أوَّلِه نطق فلم يجب في آخره، فكل عباده عل البدن لا يجب النطق في آخرها لم يجب في أولها، ونجد الحج كذلك لما كان يُخرج منه بغير نطق لم يجب في أوله نطق، وإنَّمَا التلبية سنة في أوله، ثم نعكس العلة

فنجدها مستمرة، وذلك أالصلاة لما كان في آخرها نطق واجب - هو السلام - وجب النطق في أولها. ونقيس عليه: لو سمى وتوضأ: بعلة أنَّه مكلف غسل الأربعة أعضاء بالماء المطلق، ووجود النية مع الموالاة. وأيضاً: فقد حكي عنهم أنه لا يجب عند غسل الجنابة والحيض. فإن كان هذا صحيحاً قسنا عليه: لعلة طهارة عن حدث أو تنتقض بالحدث فلم تجب التسمية فيها. والقياس على غسل النجاسة: بعلة أنَّها طهارة للصلاة، فكل طهارة للصلاة وجبت لأجل الصلاة أو تستباح بها الصلاة فلا تجب التسمية فيها.

فإن قيل: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه».

قيل: فقد سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن هذا، فقال: لا أعلم حديثاً إسناده جيد. ونقول أيضاً: فقد ذكرنا ما هو أخص من خبرهم، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام -: - «من توضأ وذكر اسم الله كان طهوراً لجميع أعضائه»، فعلمنا بهذا أن طهارة أعضائه قد حصلت، وأن الذي ذكره من التسمية للكمال، فكأنَّه قال: لا وضوء كاملاً، كما قال: لا صلاة لجار المسجد إلا ي المسجد»، و «لا إمان لمن لا أمانة له».

وأيضاً: فلو سُلِّم الظاهر لكان بعض القياسات التي تقدمت تخصه. وأيضاً: فإنه عموم فبأي ذكر ذكر اسم الله -تعالى - أجزأه، فإذا ذكره بقلبه أجزاه، لأن الذكر بالقلب يقع كما يقع باللسان، بل لو قلنا إن الحقيقة هو الذكر بالقلب لجاز ذلك، لأنه يقال: ذاكرٌ وناسٍ، وفي القول: ناطق وساكت. والدليل على أن يكون بالقلب: ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يقول الله عز وجل: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم». ففسر ربيعة ذلك، وقال: هو فيمن يتوضأ أو يغتسل ولا ينوي.

فإن قيل: لو أراد الذكر بالقلب لقال: لا وضوء لمن لا يذكر الله فلما قال: اسم الله، علمنا أنه أراد باللسان. قيل: لا فرق بين ذلك، فما صح أن يذكره بلسانه، صح ذكره بقلبه، وقد قال -تعالى -: {{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ}. وعلى هذا حمل قوله: {ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. قيل في أحد التأويلات: الذكر بالقلب. وأيضاً: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفاه مع عدم التسمية، وأثبته مع وجودها فمن سمى بقلبه وقع عليه اسم ذاكر، فعمومه يقتضي جواز الوضوء، فمن طلب تسمية على صفة دون صفة فعليه الدليل. فإن قيل: نحن نقول: إنه متعلق بالنطق فمتى وجد النطق صح. قيل: لا نخالف في هذا، بل نقول: متى وجد ذكر بالقلب صح، وإن وجد ذكر باللسان صح. فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع يده في الإناء، وقال:

«توضؤوا باسم الله». قيل: هذا دليل لنا؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - وضع يده في الإناء قبل وضوئه. وأيضاً فلم يقل: توضؤوا وسموا، وإنما سمى هو عليه السلام، فلو كانت واجبة لقال لهم: قولوا: بسم الله. ولو ثبت لهم الظاهر لكان مخصوصاً بالقياسِ الذي تقدم. فإن قاسوا ذلك على الصلاة فقد ذكر الصلاة، وأنه لما وجب النطق في آخرها وجب في أولها. على أنَّنَا قد ذكرنا قياسات أخرى تعارض قياسهم. ولنا فضل الترجيح باطراد العلة واستمرارها في العكس.

ولأنها ثبتت عكسيًّا، وهو إسقاط حكم الطهارة التي عليه إذا أراد الصلاة. ولنا أن نقيس ذلك عليه إذا نسي التسمية، بعلة أنها عبادة موضوعة على الفعل دون القول. ولنا أن نقيس ذلك على الاعتكاف؛ بعلة أنها عبادة لا يخرج منها بالكلام فلم يجب الدخول فيها بكلام، ولأنها عبادة يفسدها الجماع، ولا يجب في آخرها نطق فكذلك غي الطهارة، دليله الحج. وأيضاً فالعبادات على ضربين: ضرب لا يجب في خاتمته نطق، فلا يجب في فاتحته كالصوم. وضرب يجب في مختتمه نطق، فكذلك في مفتتحه كالصلاة، فلما كان الوضوء بالاتفاق لا يجب في انتهائه نطق، فكذلك لا يجب في ابتدائه اعتباراً بالأصول، وهذا أقوى من كل قياس يوردونه.

ولك أيضاً أن نقول: تعري الطهارة عن التسمية لا يبطلها، الدليل على ذلك أنه لو نسي أو جهل أو تأول تركها: لأنَّ الواجب إذا ترك لم يسقط بالنسيان، ولا بما ذكرناه، وهذا كلام على إسحاق بن راهويه. قال القاضي: ولي طريقة أنا أعتمد عليها في قوله عليه السلام: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله»، وهي: أن قوله: «لا وضوء»، معقول أنَّه لم يرد وجود الوضوء، لأننا نجده بلا نية ولا تسمية، وإنما أراد الحكم فقصد الظاهر مصروفاً عن حقيقته إلى المجاز، إذا الحكم غير مذكور في الفظ، وإنما هو مضمر محذوف من اللفظ، ومثل هذا لا يصلح لاستدلال بظاهره. فإن قيل: هذا معلوم من فحوى الخطاب أنه أراد الحكم؛ لأنَّ الوجود سقط بدليل العقل. قيل: فالمراد الحكم، وليس هو مذكور في اللفظ، والحكم يحتمل

أن يكون هو الإجزاء، ويحتمل أن يكون الكمال، ولا يجوز أن يدعي فيه العموم من وجهين. أحدهما: أن العموم يكون في الألفاظ لا في المضمرات. والثاني: أنه يتنافى وجود الكمال مع نفي الإجزاء، لأنه إذا انتفى الإجزاء انتفى تالكمال لا محالة، وإذا انتفى الكمال لم ينتف الإجزاء، وإذا كان هذا هكذا لم يكن لكم صرف المضمر المطلوب وهو الحكم إلى الإجزاء دون أن نصرفه نحن إلى الكمال، فيتعارض الاحتمالان ويسقطان، ويحتاجون إلى شيءٍ آخر، وبالله التوفيق.

[3] مسألة

[3] مَسْأَلَة قال مالك - رَحمَه الله - لا تُجزئ طهارةٌ من غُسل ولا وضوء ولا تيمم إلا بنية، فمتى عري شيء من ذلك من النية لم يجزئ، وكذلك قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال الأوزاعي: لا يفتقر شيء منها على النية، لا التيمم ولا الطهارة بالماء.

وذهب أبو حنيفة، والثوري إلى أن الطهارة بالماء لا تفتقر إلى نية، والتيمم لا بد من نية، ويقولون: لو قصد بالماء التبرد أو التنظف أو السباحة فيه فأصاب الماءُ تلك الأعضاء أجزأه. ولصحة قول مالك -رَحمَه الله - في هذه المسألة أدلة منها: أننا اتفقنا على أنه مُحْدِث، ثم اختلفنا هل ارتفع حدثُه أم لا؟ فنحن على ما كنا عليه. فإن قيل: فنحن نقول: ما نعلّق على ذمته طهارة إلا على هذه الصفة. قيل: قد فرضنا المسألة في رفع الحدث، فلا خلاف بيننا أنَّه إذا قدر على استعمال الماء فإن عليه أن يرفع الحدث، فمن ادعى أنَّه قد ارتفع فعليه الدليل.

وأيضاً قوله - تعالى -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، فتقديره عند أهل اللغة: فاغسلوا للصلاة، فمتى غسل لتنظيف أو تبرد ولم يغسل للصلاة لم يفعل المأمور به، ومثال هذا: قوله -تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، فكل هذا جزاء؛ لأنَّه جواب الشرط بالفاء، وإنَّما يقطع لأنه سرق، ويجلد لأنه زنى، وكذلك قوله: {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، وإنَّما وجبت الطهارة لنه جنب، لا للنظافة والتبرد. فإن قيل: فنحن نقول: إذا غسل بعد القيام للصلاة، فما الدليل على أنه يحتاج إلى النية؟ ألا ترى إذا قال لعبده: إذا خرج زيدٌ الدار فأعطه درهماً، فأعطاه عند دخوله، فليس يحتاج الغلام أن ينوي، فكذلك هذا. قيل: لم تحصلوا علينا ما قررنا؛ لأنَّه إذا ثبت أن عليه أن يغسل وجهه للصلاة، فمتى غسل للتبرد أو التنظيف فلم يغسل للصلاة، وَوِزانُ هذا من مسألتنا: أنَّ العبد المأمور لو أعطاه درهما من متاجره، أو بنية عن نفسه لم يكن قد فعل المأمور به؛ لأن إعطاءه إياه لم يوجبه دخول الدار.

فإن قيل: فإن هذه الآية مخالفة لقوله -تعالى - {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}، ومفارقةٌ لقوله -عليه السلام: «إذا زنى وهو محصن فارجموه»؛ لأن ذلك على طريق الجزاء، ولا خلاف بيننا أن الطهارة ليست جزاءً للصلاة. قيل: إن قولنا: جزاء وجواب للشرط نريد به أن هذا الشيء إنما وجب لأجل كذا وكذا، فنقول: إن الطهارة وجب أن تفعل لأجل الصلاة، وهذا عمدة من الأدلة. وأيضاً قوله -تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، والوضوء من الدين، فيجب أن نخلصه، والإخلاص هو القصد. فإن قيل: نحن نقول: إن هذا مخلص. يل: هذا غلط، لأن الإخلاص هو أن يكون العامل ذاكراً لمخلص

له، فأما وهو لا يخطر بقلبه، وهو معتقد اللعب بالماء فلا يقال: إنَّه مخلص. فإن قيل: فإنَّه أراد بالإخلاص نفس الإيمان؛ وهذا (هو) لأن ضد الإخلاص الشرك. قال شيخ منهم: ويلزم (هذا) على هذا أن يقولوا: إنَّ مَنْ لم ينو فهو مشرك، وقال: على أنه قال -تعالى - {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، والوضوء ليس بمفروض في نفسه، فلا نقول: إنَّه من الدين. فالجواب: أن قوله: إنَّه أراد الإيمان، فإن الله -تعالى - قال: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، فكأنَّه قال: أخلصوا لله الدين، والوضوء من الدين.

وقولهم: إن لم ينو فهو مشرك، فنحن نقول: إنَّه من لم يخلص هذا العمل له -تعالى - فما اتبع ما أمره الله به من الإخلاص، ولا نقول: إنه مشرك، ولكنه لم يعمل شيئاً. على أننا لو قلنا: إنَّه قد أشرك في العمل غير الله -تعالى - لكان ذلك، ولا يكون كافراً بل يكون له حكم من أحكام المشركين، كما قال عليه السلام: «من ترك الصلاة فقد كفر». وقد روي لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقول الله -تعالى - من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو له، وأنال منه بريء، أنا أغنى الشركاء عن الشرك»، وقد يصلي الإنسان لله -تعالى -، ولأن يراه الناسُ فيكون

فيه ضربٌ من الرياء، ولا يكون كافراً». وأما قوله: لا نسمي الطهارة من الدين، ولا خلاف بين المسلمين بأن الوضوء واجب، وهو من دين المسلمين، وهذا قبح من قائله جدًّا. دليل: وهو قوله -تعالى - {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ولا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، فأعلمنا - تعالى - أن الأعمال التي أمر بها لا تنفعه ولا تضره، ولا يحصل من ذلك إلا حسن الإخلاص. دليل: وهو ما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الوضوء شطر الإيمان»، ثم اتفقنا على أن الإيمان لا يصح إلا بنية وقصد، وكذلك

شطره؛ لأن الشيء إذا كان شرطاً في شيء فكل جزء منه له قسط من الشرط، وهذا الخبر يدل على أن الوضوء عبادة كالإيمان. دليل: ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»، ثم قد ثبت - ندنا وعندهم - أن الوضوء يجزئ، وإن لم يذكر اسم الله باللسان، فصح أنه أراد ذكر القلب وهو النية. فإن قيل: فظاهر هذا يقتضي ذكر الله -تعالى - وليس هنا موضع الخلاف، وإنما الخلاف في النية. قيل: الخلاف في القصد، والقصد في الوضوء للصلاة هو ذكر الله -تعالى - ولولا هذا لبطلت فائدة الحديث. دليل: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأعمال بالنيات، وإنما لأمرئ ما نوى». وفي هذا الحديث دليلان: أحدهما: قوله: «الأعمال بالنيات»، فيحتمل أحد امرين: إما وجود الأعمال بالنيات، ولا توجد بغير نية، وهذا غير مراد لأنها توجد في المشاهدات بغير نية.

أو يكون أراد بالأعمال المقرب بها من المجزئة بالنية. فهذا هو المراد، وظاهر قوله: «الأعمال بالنيات»؛ أي: عمادها بذلك، كما يقال: الطير بجناحيه، والأمير بجيشه؛ أي: عماد ذلك بهذا. والدلالة الثانية؛ قوله: «وإنما لامرئ ما نوى»، فدل على أن ما لم يَنْوِهِ لا يكون له. فإن قيل: فليس في هذا الخبر دلالة: لأنه خرج على سبب وهو قصد المهاجرة، ألا تراه قال: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، فوجب أن نقصره على الهجرة. قيل: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرج هذا خرج العموم، ثم ذكر بعض ما شمله العموم، ولو أراد الهجرة وحدها لقال: إنما الهجرة التي هي عمل واحد، فلما عدل عن ذلك وقال: «الأعمال بالنيات»، لم يجز أن نصرفه إلى عمل واحد. وعلى أنه عليه السلام نبه على المعنى وهو المقاصد، ولا فرق بين الهجرة وغيرها. دليل: وهو قوله -تعالى -: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، فمن سعى في اللعب بالماء لم تحصل له عبادة.

دلائل القياس اتفقنا أن التيمم لا يصح بغير نية، والمعنى فيه أنها طهارة تجب عن حدث، أو تنقض بالحدث، أو تستباح بها الصلاة لا لنجاسة، فكذلك الوضوء. فإن قيل: أن التيمم مفارق للوضوء بالماء من وجوه: أحدها: أن الله -تعالى - قال في الماء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، ولم يذكر نية، وقال في التيمم: {فَتَيَمَّمُوا}، والتيمم: القصد، قال الله -تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. وأيضاً فإن الوضوء يرفع الحدث وليس التيمم كذلك. وأيضاً فإن التيمم لا يصلى به إلا صلاة واحدة -عندكم -، مفروضة، والوضوء بخلاف ذلك.

وأيضاً فلا يجوز التيمم قبل الوقت، وليس الوضوء كذلك. وأيضاً فإن النية تدخل لتميز الأفعال المتفقة، فلما كان الوضوء من جميع الأحداث على صفة واحدة لا يختلف لم يحتج إلى نية، فشابه النجاسات، وليس التيمم كذلك؛ فإنَّه يقع عن حديث الجنابة تارة وله حكم، وعن الغائط وله حكم، وعن البول الذي له حكم آخر، فاحتيج إلى النية فيه. وأيضاً فإن الماء طهور في نفسه، يُقوي حكمه فلم يحتج إلى النية، ولما كان التراب بدلاً عنه للضرورة، وليس بطهور في نفسه احتيج إلى النية. فجواب ذلك: أما قولهم: إن الله -تعالى - فرَّق بين التيمم والغسل، فقال في التيمم: اقصدوا، فنقول في هذا: إنا لو سلمنا لكم أن الله -تعالى - نص على النية في التيمم، وأمسك عنها في الوضوء -لجاز لنا القياس، فنقيس المسكوت عنه على المنصوص عليه. وأيضاً فإن الأمر بخلاف ما ظننتم، ليس في الآية أكثر من القصد إلى التراب، ثم إذا قصدناه هل ننوي المسح منه أو لا؟ ليس في الآية، وقد نقصد إلى الصعيد، ثم يصح أن ننوي به تعليم إنان فلا تكون النية فيه. فإن قيل: فقد أجمعوا على أن المضي إلى التراب لا يحتاج إلى

نية، فعلم أنه أراد أن ينوي عند المسح. قيل: ليس هذا في الظاهر، وقد قلنا: إنَّه يجوز أن ينوي به تعليم إنسان. فإن قيل: فقد فرق الله -تعالى - بينهما في اللفظ، فقال في الوضوء: {فَاغْسِلُوا}، ولم يقل: فاقصدوا الماء واغسلوا، وقال في التيمم، اقصدوا التراب وامسحوا. قيل: لا يتأتى الغسل إلا بقصد الماء، ولا يتأتى التيمم إلا بقصد التراب، ولكن لما كان الغسل هو المشهور لم يذكر فيه القصد، فإذا عدم الماء قيل: فاعدلوا إلى الصعيد الذي تستعملونه، وجملة الأمر أنا قد قسناه عليه، ولا يلزم الفرق بالظواهر. والجواب عما ذكروه من رفع الحدث في الوضوء وان التيمم لا يرفعه، فهذا تأكيد لما ذكرناه؛ لأنَّ الماء لما كان يرفع الحدث ويعمل ما لا يعمله الصعيد احتيج فيه إلى نية، ولما كان الصعيد أضعف منه خفف فلم يحتج فيه على نية، فلما دخلته النية مع ضعفه كان في الماء أولى أن تدخله النية. والجواب عما ذكروه من أن التيمم لا يُصلى به إلا صلاة واحدة فإنَّه ينقلب عليهم؛ لأنهم يصلون به صلوات كثيرة. على أن هذا يدل على صحة قولنا: لأن الوضوء لما كان يعمل أعمالاً كثيرة احتيج فيه من النية إلى أكثر مما يحتاج إليه في التيمم. وعلى أن افتراقهما من هذه الوجوه لا يمنع من اجتماعهما في

الموضع الذي جمعتهما العلة فيه. والجواب عن قولهم: إن التيمم لا يجوز -عندنا - قبل الوقت، فكذلك هو على أصولنا، ولكنه يؤكد أمر الوضوء؛ لأنه لما جاز أن يفعل قبل وجوبه كان إلى النية أحوج من التيمم الذي لا يجوز عمله إلا عند وجوبه. والجواب عن قولهم: إن النية تدخل لتميز بين الأعمال المتفقة، فهذا سؤال ذكره أبو بكر الرازي، وهو عمدة لنا؛ لأن الوضوء لما كان يقع لتبرد وتنظف وتجديد طهارة، ويقع لرفع حدث احتاج إلى النية: لأن الصورة واحدة في جميع ذلك والأحكام مختلفة، ولما كان التيمم يدخل لاستباحة الصلاة صار كالشيء الواحد المستحق فلم يحتج إلى نية. ثم دعواه إن التيمم يختلف لأجل الجنابة فليس كذلك؛ لأن صفته للجنابة كصفته للحدث، وإنما يختلف ذلك في الماء، فيكون الوضوء من الحدث، والغسل من الجنابة، وإن اراد أن الذي يوجب هذا غير ما يوجب هذا فقد يوجب الحيض عند انقطاعه الغسل وتوجبه الجنابة، وليس هذا هذا، وصفة الغسل فيهما واحدة؛ لأن الحيض له أحكام ليست للجنابة، فينبغي ألا يجزئ إلا بنية تميز بين الغسل الذي أوجبه الحيض والغسل الذي أوجبته الجنابة. والجواب عن قولهم: إن الماء طهور والتراب ليس بطهور في نفسه -وهذا أيضاً ذكر الرازي - فنقول: كلاهما طهور في نفسه، قال

الله -تعالى - في الماء: {طَهُورًا}. وقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا»: على أن هذا يوجب العكس؛ لأن الماء لما كان طهورا يستعمل في أشياء مختلفة احتاج إلى النية، ولما كان الصعيد لا ينتقل إليه إلا عند عدم الماء، فحاله حال واحدة، فشابه -عندكم - رمضان بمستحق العين، وشابه الوديعة التي ضعف أمرها في باب النية. دليل من القياس: اتفقنا في الرقبة في الكفارة أنها لا تصح إلا بنية، والمعنى في ذلك أنها عبادة لا يصح بذلها عند عدمها إلا بنية

فلم يصح مبدلها إلا بنية، وهذا المعنى موجود في الطهارة؛ لأن التيمم بدل منها ولا يصح إلا بنية، فكذلك مبدله وهو الوضوء. فإن قيل : هذا ينتقض بالنكاح، قد جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدله الصيام، فقال: «ومن لم يستطع فليصم، فإن الصوم له وجاء»، ثم الصوم لا يصح إلا بنية، ولم يدل على أن النكاح يحتاج إلى نية. قيل: إن الصوم ليس ببدل من النكاح، لأن النكاح لمعنى، والصوم لمعنى. وعلى أننا قيَّدنا الاعتلال فقلنا: كل بدل لعدم، والصوم يعمل مع عدم النكاح ومع وجوده، ومع هذا فلا يصح - عندنا - النكاح إلا بقصد، ولو كان يصح بغير قصد لصح من المجنون والصبي والمبرسم، ولو علمنا أنه وقت العقد كان ساهياً لم يصح عقده. قياس آخر: اتفقنا على أن الصلاة لا تصح بغير نية، والمعنى في

ذلك: أنها عبادة على البدن يفسد أولها بفساد آخرها، وكذلك الطهارة. وإن شئت قلت: إنها عبادة يسقط شطرها للعذر، وهو يوجد في الطهارة، لأن شطرها يسقط في التيمم عند عدم الماء، كما أن الصلة يسقط شطرها في السفرِ. قياس آخر: وهو أننا قد اتفقنا في الصيام أنه لا يجوز بغير نية، لنه عبادة على البدن يفسد أوله بفساد آخره. استدلال: وجدنا إزالة الأنجاس تزول بشيئين: أحدهما: الماء، والآخر: الأحجاز، ثم قد استوى حكم الأمرين في سقوط النية، وهي طهارة، فوجب أن تكون الطهارة الأخرى يستوي حكم الأمرين فيهما، فلما اتفقنا على أن الطهارة بالتراب من شرطها النية، وجب أن تكون الطهارة بالماء كذلك يستوي الأمران فيها، وهذا وإن كان قياس الضد

فربما استدل به شيوخنا، ورجحوا به القياس، وهم أيضاً يقولون به. دليل: وهو أنهم يقولون: إن الرجل إذا تطهر بغير نية حصل طاهراً ولم يصر الماء مستعملاً، وإذا تطهر ونوى حصل طاهراً وحصل الماء مستعملاً، فدل هذا من مذهبهم على أنه إذا لم يكن ينوي فإن

الطهارة لم تحصل له، إذ لو حصلت لصار الماء مستعملاً. فإن استدلوا بالظاهر من قوله -تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، ولم يذكر النية، فقد جعلنا ذلك دليلاً، لأنه لو لم يغسل للصلاة. وجواب آخر: وهو أننا نقول: إن ظاهر الآية يوجب غسل الأربعة الأعضاء، ولا نختلف في إيجابها، وإنما كلامنا في أمر آخر وهو النية. جواب ثالث: لو سلمنا أن في الآية تعلقاً لهم لخصصناه بما تقدم ذكره. فإن قيل: فإن الزيادة -عندنا - نسخ، ولا يجوز بأخبار الآحاد،

ولا بالقياس والاستدلال، فلا نزيد حكم النية في الآية بهذه الدلالة. قيل: ليس الأمر -عندنا - كذلك. وعلى أن الآية تدل على القصد على ما بيناه بالظاهر فليست ههنا زيادة. وأيضاً: فإن الزيادة لو كانت نسخاً لكان ذلك حتى استقر الحكم، فأمَّا ونحن نقول: إن إيجاب النية ورد مقترناً مع القول أو مقروناً بوقت الحاجة فلا يكون نسخاً. وأيضاً فليس هذا -عندنا - زيادة، وإنما هو بيان. ألا ترى أنه قال -تعالى - {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، ولم يذكر نية، ثم بيَّن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ من شرط النية ولم يكن ذلك نسخاً.

فإن قيل: فإن عليًّا وعثمان وغيرهما حكوا وضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يذكروا نية.

قيل: هؤلاء حكوا ما ظهر من الفعل، وهو الذي قصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يريهم إياه، فأمَّا النية فلم يقصد تعريفها إياهم في ذلك الوقت. وجواب آخر: وهو أن مذهبنا ضم الأخبار بعضها إلى بعض فنقول: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به إذا كانت معه نية، كما لم نمنع نحن وأنتم في قوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث»، أن يضاف إليها رابع وأكثر بدلالة. وجواب آخر: وهو أنه أشار إلى الوضوء وهو في الحقيقة الغل، ولم يتعد من النية؛ لأنها ليست وضوءاً، ومنزلة هذا منزلة قوله: هذه القراءة التي لا يقبل الله الصلاة إلا بها، ثم لا يدل على أن الصلاة كلها هي القراءة. وجواب آخر: وهو أن قوله: «هذا وضوء»، ولا يحصل عندنا الوضوء في الشرع إلا بنية، فمتى حصلوا لنا وضوءاً من جهة الشرع فهو يجزئ.

وجواب آخر: وهو أن ظاهر قوله: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، هو ذلك الوضوء الذي وقع منه هو بعينه دون غيره، وهذا غير مراد، فبان أن المراد من الخبر غير ظاهر، فصار محتملاً. فإن قيل: فقد قال الله -تعالى - {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}، {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، ومعنى هذا، أمه مطهر، فاقتضى أن يكون مطهراً مع عدم النية، ولو لم نجعله مطهراً إلا بانضمام النية إليه، كنا قد سلبنا الحكم الذي قد جعله الله له، ووصفه به.

قيل: إن الله -تعالى - أخبر أنه يطهرنا بهذا الماء، وأنه طهور على أي صفة تستعمل، وهلي فعل هو الطهارة بنفسه أو باستعمالنا له؟ مأخوذ من دلالة أخرى. وجواب آخر: وهو أن الآية من هذه الجهة جملة، لأنه لما قال: {طَهُورًا} ولم يذكر أفعالنا فيه، فظاهره أن نفس الماء يفعل ذلك، وقد علمنا أن المراد شيء آخر، فنقول: إنَّه طهور إذا استعملناه ونوينا. وجواب آخر: وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»، ثم يدل هذا -عندكم - على سقوط النية في التيمم، كذلك قوله {طَهُورًا} لا يدل على سقوط النية من الوضوء، وهكذا ما روي من قوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم»، ولم يدل على سقوط

النية، وكذا قوله -تعالى - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، لم يدل على أن الزكاة لا تحتاج إلى نية. فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الطهر من الجنابة: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء، فإذا أنا قد طهرت»، ولم

يذكر النية، وهكذا قال لأم سلمة: «إنَّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء، فإذ أنت قد طهرت»، وكما قال لأبي ذر: «إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك»، ولم يضف إلى ذلك نية. قيل: هذه الظواهر كلها لو تجردت من ذكر النية لم يمتنع أن يلحق بها حكم النية بالأدلة التي تقدمت.

فإن قيل: فقد علَّم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأعرابي كيف يتوضأ، ولم يذكر له النية، وهذا موضع تعليم لا يجوز أن يغفل فيه شيء من الواجب عليه. قيل: إنَّما علمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظاهر، ألا ترى أنه لم يذكر له الماء، ولا الماء المستعمل -عندكم. وأيضاً فقوله: «توضأ كما امرك الله»، فيه دلالة على النية، لأنها مما أمر الله -تعالى - بها في الآية، على ما بيناه. وجواب آخر: وهو أن هذا قضية في عين، فيجوز أن يكون علم منه أنه يعلم النية فلم يشتغل بها، وليس يجي أن يعلمه كل شيء في حالة واحدة. وعلى أنه قد علمه الصلاة، ولم يذكر له نية، ولم يدل ذلك على سقوط النية في الصلاة. وإن قاسوا ذلك على غسل النجاسة؛ بعلة أنَّها طهارة فلم تحتج إلى نية. قيل: هذا أصل، وقد رددنا نحن ذلك إلى أصل آخر، وهو التيمم بالعلة التي ذكرنا فليس برد ذلك إلى أحد الأصلين بأولى من رده إلى الآخر، فإذا تعارضا كان رد الطهارة التي هي محض العبادة إلى الطهارة التي هي محض العبادة إلى الطهارة التي هي محض التعبد أولى.

وأيضاً فرد طهارة تتعلق بأعضاء مخصوصة حسب إلى طهارة تتعلق بأعضاء مخصوصة أولى. ,أيضاً فرد ما وجب لأجل الحدث إلى ما وجب لأجل الحدث أولى. وترجيح آخر: وهو أن رد طهارة وجبت لأمر يكون منه في نفسه إلى مثلها أولى من ردها إلى طهارة وجبت لأمر يكون من غيره؛ مثل البهائم وغيرها؛ لأنه قد يقع عليه دم من بهيمة أو من إنسان غيره. وأيضاً فإنا رددنا ما التفرقة فيه تفسده -عندنا - إلى مثله، وأنتم رددتم ما التفرقة فيه تفسده إلى ما لا تفسده التفرقة فيه؛ لأن النجاسة لو غسل بعضها صلاة الغداة، وأخَّر الباقي إلى زوال الشمس لجاز، وليس كذلك الطهارة والتيمم. وأيضاً فرد ما لا يصح أني قع من المجنون إلى مثله أولى من رده إلى ما يصح أن يقع من المجنون؛ لأن المجنون لو غسل النجاسة لصح، وليس كذلك الوضوء والتيمم. وأيضاً فإن النجاسة تزال عن النائم فيصح، ولو وُضئ أو يُمم وهو نائم لم يصح، فرد الوضوء إلى التيمم أولى. وأيضاً فإن شواهد الأصول تدل على ما ذكرناه، وذلك أن الصلاة والزكاة والصيام، والحج عبادات على البدن تخصه، وكلها مفتقرة إلى النية، فكان ردنا الطهارة إلى هذه الأصول أولى.

وقياسنا أيضاً يؤدي إلى الاحتياط فهو أولى. ثم تفرق بين الوضوء وبين النجاسات فنقول: الفرق بينهما هو أن النجاسة قد انخفض أمرها؛ لأنَّه قد عفي عن الشيء اليسير منها يكون على الثوب والبدن، مثل الدم، وسمح بموقع الاستنجاء، وليس كذلك الطهارة؛ لأنَّه لم يسمح فيها بترك شيء من الأعضاء المأخوذ غسلها أو مسحها مع القدرة على ذلك. قال القاضي: وفي نفسي من هذا شيء. وأيضاً فقد فرقوا -على أصولهم - فجوَّزوا أن تزال الأنجاس بالمائعات، ولم يجوزوا ذلك في الطهارة. وفرق آخر: وهو أنهم زعموا أنه قد استوى حكم إزالة النجاسة بالمائع أو بالجامد في أنه لا يحتاج إلى نية، وقالوا: الطهارة بخلاف ذلك؛ لأنها في موضع تحتاج على نية، وهو التيمم. وفرق آخر: وهو أنهم زعموا أن غسل النجاسة استوى حكم الماء المغسول به، نوى أو لم ينو، ثم كان في الطهارة، إن نو الطهارة حصل الماء مستعملاً، وإن لم ينو حصل هو طاهراً، ولم يصر الماء مستعملاً. وفرق آخر: وهو أن الطهارة تجب عن أي حدث كان في موضع واحد، وهو الأربعة الأعضاء، فسواء كان الحدث بولاً أو غائطاً، أو غير

ذلك، وليس كذلك النجاسة، لأنه لو أصاب فخذه نجاسة لم يجب غسل يده ورجله، ولو أصابت يده لم يجب غسل رجله. وأيضاً: فإن إزالة النجاسة طريقها الترك، والطهارة طريقها الفعل؛ لأنه قيل له: صل وأنت تارك للنجاسة، وصل وأنت متطهر، والأفعال تف تقر إلى النية، والترك لا يفتقر إليها؛ لأن الكلام في الصلاة مأمور بتركه، فلم يفتقر إلى نية، والركوع والسجود مأمور بفعلهما فاحتاجا إلى نية تعم جميع أفعال الصلاة. فإن قيل: لو توضأ لنافلة لجاز أن يصلي به فريضة، فلو كانت النية واجبة لم تجزئه ذلك؛ الا ترى أنه لما كانت النية واجبة في الصلاة فلو نوى أن يصلي نافلة لم يجزئ ذلك عن الفرض، وهكذا لو نوى التيمم صلاة نافلة لم يجز أن يصلي به الفرض، فبطل أن تكون النية واجبة في الطهارة. قيل: مرادنا بالطهارة رفع الحدث، فلما كانت النافلة إلا تصح إلا برفع الحدث لم يكن فرقٌ لبين أن ينوي برفعه نافلة أو فريضة. ثم هذا غير منكر في الأصول، ألا ترى أنه لو طاف ينوي تطوعاً وعليه فرض من الطواف فإنَّه ينوب عنه، ولم يدل على أن الطواف في الحج لا يحتاج إلى نية، والتيمم إ نما لم يصح أن ينوي به صلاة نافلة ويصلي به فريضة؛ لأنه لا يرفع الحدث ولا يصلي به إلا صلاة واحدة فريضة، وليس كذلك الوضوء.

وفرق آخر: وهو أنه لو توضأ ثم رأى الماء لم ينتقض وضوؤه، ولو تيمم، ثم رأى الماء لا ينتقض تيممه. فإن قيل: وجدنا العبادة فرضت على الرجل في نفسه، فلمَّا اتفقنا على أنه لا يجب عليه أن يتولى ذلك بنفسه، بل يجوز أن يوضئه، ويغسله غيره، كذلك لا يلزمه أن يقصد بقلبه كما لم يقصده بنفسه. قيل: هذه دعوى، وأيضاً فإن النية إذا حصلت من جهته وطابقت عمل غيره فيه فكأنَّه هو الذي عمل، وليس كذلك النية؛ لأن النية لا تقع فيها نيابة إلا في مواضع مخصوصة، وهي إذا منع الزكاة فأخذها الإمام أو خرجت عن الصغير أو المجنون. فإن قاسوا ذلك عليه، إذا توضأ ونوى؛ بعلة أنه غسل الأعضاء بماء طاهر. قيل: هذا ينتقض إذا كان مجنوناً، على أن العلة في ذلك أنه نوى مع الغسل. على أننا قد ذكرنا أصولاً آخر، وقسنا عليها، وذكرنا من الترجيحات ما ينبغي أن يرجح به قياسنا، وبالله التوفيق. وقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن رجل اغتسل لجنابة ولم ينو. فقال: يعيد الغسل، ولا يعرف له مخالف فصار كالإجماع.

شفإن قاسوا ذلك على ستر العورة. قيل: ستر العورة ليس مما تختص به الصلاة؛ لأنَّه مأخوذ عليه في غيرها، كالإيمان، وليس عليه أن ينوي الإيمان مع دخوله في الصلاة كستر العورة، والله أعلم.

[4] مسألة

[4] مَسْأَلَة في المضمضة والاستنشاق للناس في ذلك أقاويل: فعند مالك - رَحمَه الله - أنهما سنتان في الوضوء والجنابة جميعاً، وهو قول الحسن بن أبي الحسن البصري، والزهري، وربيعة، والليث بن سعد، والأوزاعي، والشافعي.

وذهب إسحاق، وابن أبي ليلى إلى أنهما واجبان في الطهارتين جميعاً، الوضوء وغسل الجنابة. وذهب أحمد بن حنبل، وأبو ثور، غلة أن الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة غير واجبة فيهما.

وذهب سفيان الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنهما واجبان في غسل الجنابة، وغير واجبين في الوضوء من الحدث. فهذه أربعة مذاهب. والدليل لقولنا إنهما سنتان في الوضوء والجنابة: استصحاب الحال، وأن الوجوب يحتاج إلى شرع. وأيضاً قوله -تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية، وحقيقة الوجه ما واجه الناظر، وداخل الفم والأنف لا يواجه به. فإن قيل: يقع عليه اسم وجه؛ بدلالة أنَّه لو حصل الماء في فمه لما أفطر به، ولو كان فيه نجاسة لوجب غسله كالوجه. قيل: كلامنا في اسم وقد سلم. على أن هذا لو كان صحيحاً لوجب غسل داخل العينين؛ لأنَّه لو حصل فيهما نجاسة لوجب غسلهما، ولا يفطر بحصول ما يقع فيهما من الماء. فإن قيل: فإنَّا لا نوجب غسل العينين من النجاسة، لأنهما جسم صقيل لاي قبل النجاسة، وعلى أن من اعتبر قدر الدرهم من أصحاب

أبي حنيفة لا يلزمه هذا؛ لأن العين تكون مقدار الدرهم واقل. قيل: أما قولكم: إنَّها لا تقبل النجاسة، فهذا خلاف المشاهدة فلو جاز أن يقال: إنَّها جسم صقيل لا ينجس. جاز أن يقال: إن الزجاج والصقر، والعاج، وما أشبهه من الأواني لا ينجس، وكذلك السيف؛ لأنه صقيل. فإن قيل: فإن الدموع تغسله. قيل: لا تصح إزالة ذلك إلا بالماء المطلق، على أننا نقول أليس قد نجست وغسلتها الدموع ولم يدل على أنها تغسل مع الوجه، وهذا أيضاً يوجب سقوط سؤالهم، لأن الفم يجري فيه الريق أكثر من الدموع. وما يقوله أصحاب أبي حنيفة من ا، العين مقدار الدرهم، فقد يكون من العيون ما هو اكبر من الدرهم، وعلى أنه لو أصاب خده شيء من النجاسة واتصل بعينه حتى يصير بنجاسة عينه أكثر من الدرهم لوجب غسله، وجعلنا لنجاسة الغير حكماً، ومع ذلك فلم يدل

على أنها في حكم المغسول. دليل: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنما لأمرئ ما نوى»، وهذا الذي توضأ ولم يتمضمض ويستنشق قد نوى الطهارة فله ما نواه. دليل: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله، فاغسل وجهك ويديك»، لم يذكر له مضمضة وهو موضع تعليم، وكذلك في الحديث الآخر، وهو قوله: «لن تجزئ عبداً صلاته حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه». فإن قيل: فنحن نقول: إن الذي أمره الله -عز وجل - به بمضمضة واستنشاق، وقوله: «واغسل وجهك»، قد دخلت فيه المضمضة. قيل: قد مضى الكلام في الوجه إذا أطلق، وقوله: «كما أمرك الله»، والإشارة وقعت إلى الآية، وفيها غسل الأربعة الأعضاء. دليل: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ذر: «التراب كافيك، فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك». فإن قيل: هذا لنا؛ لأن داخل الفم جلدٌ. قيل: هذا غلط؛ لأن الجلد اسم لما ظهر، فأما داخل الفم فيسمى

أدمة، ولثة، ولهاة، والعين شحمة. دليل: القياس على العين؛ لأنها لا يجب غسلها، العلة أنه عضو مستتر استتاراً دائماً من نفس الخلقة المعتادة، فلم يجب غسله في الوضوء. دليل: رأينا العين بادية ظاهرة، وقلّ ما يطبقها الإنسان، فهي أدخل فيما يواجه به، والفم والأنف ليسا كذلك في غالب أحوالهما، فإذا لم يجب غسل العين فداخل الفم والأنف أولى. فإن قيل: إن العين لها على أخرى، وهي المشقة؛ لأنَّها عضو لطيف لو أُدمن إدخالُ الماء فيها أتلفها، وليس كذلك الفم؛ لأن سلو الماء فيه معتاد. قيل له: فداخل الأنف ليس كذلك، فينبغي أن لا توجب الاستنشاق. على أن هذا المقدار في وقت الطهارة لا يخشى منه على العين، ولعل كثيراً من الناس يلتذون بدخول الماء فيها ويستنشقون به.

دليل: وهو ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «عشر من الفطرة خمس في الرأس، وخمس في البدن»، فذكر المضمضة والاستنشاق في الرأس، وجعلهما سنة؛ لأن الفطرة هي السنة، ولا سيما وقد جمع بينهما وبين السنن. دللي: اتفقنا أنهما غير واجبتين في المرة الثانية والثالثة؛ بعلة أنَّهما مضمضة من غير نجاسة.

فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمضمض واستنشق، وأفعاه على الوجوب إلا أن تقوم دلالة. قيل: قد عارضه قوله: «وإنما لأمرئ ما نوى»، فينقل وجوبُه إلى الاستحباب بهذه الدلالة. فإن قيل: فإنه عليه السلام توضأ مرة واحدة، وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به». قيل: هذا حديث رواه ابن عمر -رَحمَه الله - ولم يذكر فيه مضمضة ولا استنشاقاً، وإنما قال: توضأ مرة مرة. وعلى إن إطلاق مرة مرة يتوجه على ما يقولن إلى غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وإلى التيمن، وقد اتفقنا أن ذلك غير واجب، وقد سبق كلامنا على هذا الخبر في المسألة التي قبل هذه. ويحتمل أن يكون ذلك منسوباً بالدلائل التي تقدمت، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم الأعرابي الوجوب، وقال في الحديث الآخر: «لن تجزئ عبداً صلاته حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه».

وعلى أننا نقول: قُصد به الأخبار عن العدد، ألا ترى أنه توضأ بعد ذلك مرتين وثلاثاً، كان يفعل هذا ويذكر عند فراغه منه حكم العدد. وعلى الخبر الذي قيل فيه: «لن تجزئ عبداً صلاته»، أولى: لأنَّه بيَّنَ فيه حكم الإجزاء. فإن قيل: إنما أرياهم الوضوء الكامل، ألا ترى أنهما ذكرا ثلاثا ثلاثاً، وحكمُ الوجوب، والإجزاء بالقياس أيضاً. على أنه مخصوص بالقياس أيضاً. فإن قيل: فقد قال عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وأنقوا البشرة».

قيل: إنما قصد بذلك ظاهرة البشرة التي يباشر بها، وليس داخل الأنف والفم بشرة. قال القاضي: وأنا أتقصى الكلام مع أبي حنيفة. فإن قاسوا ذلك على الخد؛ لعلة أنه عضو من جملة الوضوء، لا يشق إيصال الماء إليه، قالوا: ولا ينتقض هذا بداخل العين، ولا بما تحت الحية الكثيفة، لأن ذلك يشق. قيل: ليس ذلك مما يشق فهو منتقض. على أننا قد ذكرنا قياساً آخر، فتقابلا -أعني قياسنا على العين. ثم نرجح قياسنا فنقول: إذا كانت العينان أظهر من الفم كان بأن يسقط عن الفم أولى، ولما وجدنا ما يجب غسله له حالتان: حالة ظهور وحالة انتسار، وسقط غسله في حال الانتسار كان الفم والأنف اللذان حالهما حالة واحدة في الانتسار أولى بسقوط هذا الفرض منهما.

فإن قيل: فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَقيط بن صَبِرة في الستنشاق: «بلغ إلا أن تكون صائما»، وهذا أمر ظاهره الوجوب.

قيل: هذا دليل لنا؛ لأنَّه لما امره بالترك عند الصوم علمنا امه مسنون. وعلى أن الظاهر لو كان معهم لجاز أن نخصه ببعض ما ذكرناه، على أنه قد أمره بالمبالغة، واتفقنا أنها ليست بواجبة. وعلى أنه قد روي: «من توضأ فليستنثر، من فعل فقد أحس ومن لا فلا حرج». فأما اصحاب أبي حنيفة فالدليل لنا عليهم: استصحاب الحال، وذلك أننا لا نوجب شيئاً إلا بدلالة. ,أيضاً قوله -تعالى - {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، فما وقع عليه اسم طهارة فإنَّه يجزئه. فإن قيل: هذه إشارة إلى الجملة. قيل: لو غسل من نفسه أعضاء لقيل: فلان قد تطهر. وأيضاً قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنما لأمرئ ما نوى»، وهذا قد نوى

غسل الجنابة فله ما نواه. وأيضاً قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا صلاة إلا بطهور»، فظاهره يقتضي أنَّه متى حصل منه طهور ما فقد تطهر. وأيضاً ما رواه جبير بن مطعم أنهم تذاكروا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغسل من الجنابة. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً»، وأشار بيديه كلتيهما، فدل على أن هذا القدر يجزئ. فإن قيل: فقد روي المضمضة والاستنشاق في حديث آخر. قيل: نقول بهما، فيجوز هذا هذا. وأيضاً قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ذر: «التراب كافيك، فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك»، وداخل الفم لا يسمى جلداً، بل يسمى لثات وأدمة.

وأيضاً قوله تعالى: {ولا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، فمن غسل يديه ولم يمضمض، قالت العرب: قد اغتسل. وأيضاً القياس على داخل العينين: بعلة أنه عضو في الوجه دونه عضو ساتر من نفس الخلقة المعتادة. فإن قيل: ينتقض بما تحت الآباط. قيل: ليس ينطبق إلا بتكلف، على أننا قد قيدناه بالوجه. وأيضاً قد اتفقنا أنَّهما غير واجبين في الوضوء بعلة أنه طهور وجب لأجل الحدث، أو لأنها طهارة تنتقض بالحدث. وأيضاً وجدنا العينين أشد ظهوراً من داخل الفم، ثم اتفقنا أنه لا يجب غسلهما، فداخل الفم أولى. فإن قيل: ههنا المشقة الغليظة في العين. قيل: الجنابة لا تتكرر كثيراً فلا تشق في الزمان الطويل. وأيضاً اتفقنا في المرة الثانية والثالثة أنها لا تجب؛ بعلة أنَّها مضمضة مسنونة في الوضوء فلم تجب في الجنابة. فإن اسندوا باستصحاب الحال، وأنه على جملة الجنابة إلا أن تقوم دلالة على إسقاط حكمها عنه. قيل: نحن نختلف فيما وجب عليه، فاستصحاب الحال لنا. فإن قيل: فقد قال عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر

وأنقوا البشر». قيل: هذا حديث رواه الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد طعن أبو داود على الحارث بن وجيه، وتكلم أصحاب الحديث فيه. وجواب آخر: وهو أنه ينقلب عليهم في شعر العين؛ لأنَّه قد ينبت

فيها، ثم لا يجب إيصال الماء إليه. فإن قيل: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكلم على الغالب. قيل: قد رضينا بهذا، فالغالب من الشعر غير شعر الأنف». وجواب آخر: وهو أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكلم على الشعر الذي على البشرة، ألا تراه قال: «وأنقوا البشرة»، فتقديره: البشرة التي تحت الشعر، وما تحت شعر الأنف لا يقال له بشرة، وهذا إذا قلنا على رواية ابن وهب: إنَّه يجب تخليل اللحية. وإن قلنا: لا يجب. قلنا: أراد الشعر المتفرق الذي على ظاهر البدن متفرقاً. وجواب آخر: وهو أن الظاهر لو أعطاهم ماا يريدون لكان عموماً يجوز أن يخص بالقياس الذي تقدم. فإن استدلوا بحديث عائشة -رحمها الله - وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان

يتوضأ للصلاة، وأنه كان يتمضمض في وضوئه. قيل: قد ثبت -عندنا وعندكم - أن الوضوء ليست المضمضة فيه واجبة، فإن المضمضة شرعت في الوضوء، فلما سقط فرض الوضوء في الجنابة سقطت توابعه. وإن استدلوا بحديث ميمونة قالت: وضعتُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غسلاً يغتسل به من الجنابة، إلى أن قالت: ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ثم صب على رأسه وجسده، فقد تمضمض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإما أن نقول: أفعاله على الوجوب. أو نقول: خرج مخرج البيان، وهذا ذكره أبو داود. قيل: يحتمل أن يكون أراد النبي عليه السلام الكمال؛ بدليل ما ذكرناه من قوله «أما أنا فأحثي على رأسي حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت». فإن قيل: فمن مذهبكم قبول الزيادة. قيل: إذا كان في خبر واحد، فأما إذا كان في خبرين وأمكن

الاستعمال فهو أولى، فنجيز المضمضة ونستحبها بهذا الخبر، ونجيز تركها بالخبر الآخر، ولأنه قد تبين في خبرنا ما يجزئ مَنْ فعله بقوله: لن تجزئ عبداً صلاته حتى يسبغ الوضوء، فيغسل وجهه ويديه». ولو كان الظاهر معهم لقابلناه بخبرنا، أو خصصناه بالقياس الذي تقدم. وإن استدلوا بما روى زاذان عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فُعل به كذا وكذا من النار»، وهذا توعد لا يكون إلا على ترك الواجب، قال علي: فمن ثم

عاديت رأسي، وكان يجز شعره، وهو كما قال: «ويل للأعقاب من النار». وهذا أيضاً ذكره أبو داود. قيل: هذا يقتضي أن يكون الغاسل يترك مما يجب غسله موضع شعرة، ولا يغسلها قاصداً، وهكذا نقول: هذا متوعد، وهذا يدل على الشعر الذي على ظاهر البدن، ألا ترى أن عليًّا رضي الله عنه قال: عاديت رأسي، ولم يقل: داخا أنفي، فكأنه أشار الشعر المعهود. وجواب آخر: وهو أن هذا عموم، ألا ترى أن شعر العين لم يتناوله هذا، فنخص العموم بما ذكرناه من القياس أو نقابله بعموم مثله.

وإن استدلوا بقوله -تعالى - {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، والطهارة تقتضي جميع البدن. قيل: قد جعلنا هذا دليلاً لنا؛ لأنَّه إذا غسل ظاهر البدن. قيل: قد تطهر واغتسل، فلو كان عموماً لخصصناه ببعض ما ذكرناه. فإن قيل: الآية مجملة بيَّنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفعله، فمضمض واستنشق واغتسل. قيل: ليست مجملة؛ لأنَّ أهل اللغة يفهمون الظاهر منها. ثم نقول: قد رضينا بهذا، أليس قد بيّن بقوله: «أما أنا فأحثي على راسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت»، فقد بين الواجب في خبرنا هذا، أو المسنون في خبركم. وعلى أن هذا يلزم في الوضوء؛ لأنه عليه السلام بيّنه، وتمضمض فيه واستنشق، ولم يدل على فرضهما في الوضوء. فإن قيل: الوضوء كان بينا، ولم تكن المضمضة في الوضوء. قيل: هذا غلط، لأنه لو كان بينا لما اختلف الناس في الوضوء، هل المضمضة واجبة أو لا؟ فإذا لم يكن بياناً في

الوضوء لم يكن بياناً في غسل الجنابة. وإن استدلوا بحديث بركة بن محمد الحلبي، عن يوسف بن أسباط عن سفي أن الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل المضمضة والاستنشاق ثلاثاً للجنب فريضة، وأسمعهم قد زادوا فيه: المضمضة والاستنشاق فريضتان في الجنابة سنتان في الوضوء.

قيل: هذا حديث ضعيف، تفرد بروايته بركة بن محمد الحلبي، وقيل عنه: إنه يزيد ألفاظ ولا يضبط نفسه. وجواب آخر: لو س لمنا لكان ظاهره من لفظ أبي هريرة؛ لأنَّه قال: جعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يحك لنا لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد يجوز أن يكون خاطب رجلاً سأله كيف أغتسل من الجنابة في الاختيار؟ فقال له: تمضمض ثلاثا، فقال أبو هريرة: جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المضمضة للجنب ثلاثاً. وهذا قد ألزمهم الناس إياه، ولكن عندي فيه شيء؛ لأن مذهبنا أن الراوي إذا قال: جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، ونهى عن كذا، فكأنَّه قال: جعلت ونهيت، ولكن نقول: حقيقة الفريضة التقدير، فكأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدّر للجنب ثلاثاً.

فإن قيل: فأي شيء الفائدة في هذا، وقد علنا أن الوضوء والجنابة في الثلاث بمنزلة. قيل: قد كان يجوز أن يقع في أوهامنا أن الجنابة مزيةً على الوضوء في باب العدد؛ لأنَّه قد غُسل فيها ما كان مُسح فيه، وما لم يكن يغسُل ولا يمسُح، فقدَّر عليه السلام للجنب ثلاثاً. وجواب آخر: وهو أنَّه يجوز أن يكون عليه السلام أراد تأكيداً من الجنابة، وان المضمة فيها أكد منها في الوضوء، وقد يعبر عن السنن المؤكدات بالفرض والواجب، ألا ترى أنه عليه السلام قال: «غسل الجمعة واجب»، فدلَّ على أنَّه أراد التأكيد، ألا ترى أنَّهم رووا أنه قال: «هما سنتان في الوضوء»، ولم يذكر العدد. وجواب آخر: وهو أنَّه ذكر في الخبر العدد الثلاث، واتفقنا أن الثلاث لا تجب، وليست بفريضة، فإذا جاز لهم أن يعدلوا عن ظاهر الوجوب في الثلاث بدلالة، جاز لنا أن نعدل عن ظاهر الوجوب بدلالة، فنقول: قد عارضه قوله عليه السلام: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذ أنا قد طهرت»، أو نخصه بالقياس الذي تقدم.

وإن استدلوا بقوله لأبي ذر: «إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك». قيل: قد حكينا عن غيره أنه يسمى لثات وأدمة، وأنهم سموا البشرة لما يباشر به. ولو كان الظاهر معهم لقابلناه ببعض ما تقدم من الأخبار أو نخصه بالقياس. فإن قيل: لما نُقل مسحُ الرأس في الوضوء إلى الغَسْل من الجنابة وجب أنْ تُنقلَ المضمضة من سنة إلى فرض. قيل: هذه دعوى لِمَ وجب ذلك؟ على أن هذا منتقض؛ لأنَّا نجد التثليث مسنوناً في الوضوء، وكذلك الترتيب، وغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، والتيمن، فهل دل ذلك على أنَّه واجب في الجنابة؟ وعلى أن مسح الرأس عضو وجبت فيه عبادة في الوضوء. فإن قيل: اتفقنا على أن الجنب ممنوع من قراءة القرآن بلسانه

ما دم جنباً فوجب أن يُمنع من القراءة حتى يغسل لسانه. قيل: لم وجب ذلك؟ وهذا حديث النفس والتمني. ومع هذا فيجوز -عندنا - أن يقرأ الآيات اليسيرة، ويقرأ القرآن كلَّه إذا تيمم عند عدم الماء. ويفسد أيضاً بالوضوء لأنَّه قد مُنع أن يصلي بجميع بدنه فيجب أن لا يصلي حتى يَغْسل جميع بدنه. وأيضاً فإن مخارج الحروف نختلف فبعضها حلقية، وبعضها لهوية، وبعضها شف وية، فلمَّا لم يجب غسل أقصى الحلق الذي هو مخرج الحلق لم يجب غسل الباقي. فإن قيل: الأعضاء التي تستعمل في الصلاة قد غسلت. قيل: الركبتان تستعملان في الصلاة ولا تغسلان. وجواب آخر: وهو أننا منعناه من القراءة؛ لأنه جنب، فإذا اغتسل زالت جنابته، فجاز له أن يقرأ. فإن قلتم: لا نسميه مغتسلاً رَفَعَ الجنابة. قيل: قد صار الكلام في جنبةٍ أخرى. وجواب آخر: وهو أن هذا لو كان صحيحاً إذا غسل فمه ولسانه جاز له أن يقرأ وإن لم يغسل سائر جسده، فلما لم يجز ذلك بطل السؤال.

ثم إنه يفسد أيضاً بالتيمم على ما ذكرناه. وأيضاً فإن القراءة لا تقع ببعض اللسان دون بعض، وقد اتفقنا على أنَّه لا يجب غسل أصل لسانه، وكذلك باقيه. فإن قاسوا ذلك على الخد؛ بعلة أنَّه موضع يلحقه التطهير من النجاسة فيجب غسله من الجنابة من غير مشقة، وهكذا القياس على الأصوات. قيل: هذا منتقض بداخل العين. وعلى أننا قد ذكرنا قياساً آخر على الوضوء بعلة أنها طهارة وجبت عن حدث أو تنقض بالحدث، والقياس على العين. فإن قيل: قياسنا أولى؛ لأنه يوجب شرعاً ويحتاك به. قيل: وقياسنا يوجب شرعاً وينقل، وهو أنَّه إذا اغتسل ولم يتمضمض وصلى فقد سقط الفرض عن ذمته، وهذا شرع وزيادة حكم. والاحتياط الذي ذكروه فلا ينبغي أن يثبت بالمحتمل، والأصل براءة الذمة. ويجوز أن نقول: إن كل عضو لا يجب إيصال الماء إليه في غسل الميت لم يجب غسله في الجنابة كالعين.

وأيضاً فقد روي عن أم سلمة أنها قالت: قلت يا رسول الله: إنِّي امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه في الغسل من الجنابة؟ فقال: «لا، وإنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء وتفيضي الماء عليك، فإذا أنت قد طهرت»، وفيه دليلان: أحدهما: أنَّه عليه السلام أخبر أن الاكتفاء يقع به من غير مضمضة واستنشاق، فمن قال: لا تقع الكفاية والإجزاء بذلك فقد خالف الظاهر. والثاني: قوله: «فإذا أنت قد طهرت»؛ أي فعلت الطهارة التي أمر الله بها الجنب في قوله: {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}.

[5] مسألة

[5] مَسْأَلَة عند مالك -رَحمَه الله - أن مسح جميع الرأس واجب في الوضوء. وقال محمد بن مسلمة: إن اقتصر على الثلثين وترك الثلث أجزأه. قال القاضي: ووجدت لأشهب أنَّه اقتصر على ثلث الرأس أجزأه، وهو أن يمسح مقدمه. والصحيح قول مالك - رَحمَه الله -.

وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما إذا مسح ناصيته أجزأه، وهي ما بين النزعتين، وذلك أقل من ربع الرأس. والرواية الأخرى -وهي المشهورة - ومذهب أبي وسف أنَّه لا بدّ من مسح ربع الرأس بثلاث أصابع، وإن مسح بثلاث أصابع دون ربع الرأس لم يجزئه، وإن مسح بأصبعين ربع الرأس، أو الرأس كله لم يجزئه، فحدّ المسموح والمسموح به.

وقال زفر: الفرض منه الربع، سواء مسحه بثلاث أصابع أو بدونها، فحدّ المسموح دون ما يمسح به. وقال الشافعي: يجزئه ما يقع عليه الاسم، وسواء مسح يده أو بخشبة أو وقف تحت ميزاب حتى قطر على رأسه الماء، وبه قال الأوزاعي، والنخعي، وسفيان الثوري.

والدليل لقولنا: قوله -تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، فألصق المسح بالرأس، فوجب استيفاء المسح فيه؛ لأنَّه ليس بعضه أولى بالمسح من بعض، وهذا كالعموم الذي ينبغي أن يستوفي عمومه إلا أن تقوم دلالة. والدلالة على أنَّه يصلح للعموم: حسنُ دخولِ الاستثناء فيه مع دخول الباء؛ لأنَّه لو قال -تعالى -: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} إلا موضع كذا منه فلا تمسحوه لم يمتنع ذلك، وهذا يسقط قول من يقول: إن دخول الباء ههنا للتبعيض؛ لأنَّها لو كانت كذلك لم يحسن دخول الاستثناء غيه؛ ولأنَّه كان يكون تقديره: وامسحوا ببعضه إلا بعضه، فيكون المسموح مجهولاً، والاستثناء منه مجهولاً. فإن قيل: إن الباء تدخل للتبعيض فلو قال: امسحوا ببعض رؤوسكم إلا اليسير من ذلك البعض لصح. قيل: أما قولكم: إن الباء ههنا للتبعيض فخطأ، لأنه لم يقل أحد

من اهل النحو إن موضعها للتبعيض، وإنَّمَا قال بعضهم: هي للإلصاق والتعدية، كقولهم: كتبت بالقلم، فألصقت الكتاب بالقلم، وعدَتها إليه. وقال بعضهم: هي للامتزاج والاختلاط، والامتزاج قولهم: مزجت الماء باللبن، والاختلاط كقولهم: خلطت الدراهم بالدنانير. وأما أن يكون موضوعها للتبعيض فليس كذلك، وإن دخلت لذلك في موضع فبدلالة. ثم لو قال: بعض رؤوسكم إلا اليسير منه لكان إطلاق البعض عموماً فيه؛ لأنَّه ذو أجزاء، وليس بعضه بأولى من بعض، فكذلك لما أضاف المسح إلى الرأس -وهو ذو أبعاض وأجزاء - لم يكن بعضه أولَى بالمسح من بعض، ثم لو قال: إلا الهامة، أو النُّقْرة، أو جمعها في الاستثناء لصح، فدل ذلك على أنه ينبغي أن يستوفي حكم العموم فيه، كما لو نص على البعض لوجبت هذه البعيضة فيه.

فإن قيل: فإن دخول الحرف الزائد فيه لا بد له من فائدة، وإلا كان دخوله وخروجه بمنزلة واحدة، ونحن إذا جعلنا الباء للتبعيض جعلنا لها فائدة، وأنتم تجعلون دخولها لسقوطها. قيل له: لعمري إن استعمالها على فائدة أولى، وإن كانت تدخل في مواضع زوائد كقولهم: دخلت البيت، وشكرتك وشكرت لك، ونصحتك ونصحت لك، غير انَّنَا نجعل لها فائدة صحيحة، وهي التأكيد، ومعنى التأكيد: أنَّه قد كان يجوز أن يظن ظان أن المسح لمت كان أخف من الغسل أنه يجوز الاقتصار في مسحه على البعض. فقيل: وإن كان المسح أخف من الغسل فلا بد من استيفاء المسح في جميعه، كما قال -تعالى - {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}، وهذه فائدة صحيحة، ولا ينبغي أن تقترح علينا كل فائدة. فإن قيل: فإن الله -تعالى - لما قال: {وَامْسَحُوا} كان هذا عموماً في المسح، فأي مسح أوقعه جاز، قليلاً كان أو كثيراً. قيل: لو تجرد ذكر المسح من غير أن يلصق بشيء لكان كما تقولون، فأمَّا إذا الصقه بشيء وجب أن يستوفي المسح في ذلك الشيء إلا أن تقوم دلالة، كما قال: اشتر حاجة بدرهم، أو اخدمني بدرهم، لوجب أن يستوفي الدرهم، وإن كان لو تجرد قوله: اخدمني، لوقعت الخدمة على القليل والكثير، فإذا قال: بدرهم، وجب أن يستوفي الخدمة بدرهم لا ببعضه.

فإن قيل: فقد تقول العرب: مسحت يدي بالمنديل، وبرأس اليتيم ويريدون بعضه. قيل: هذا يعبم بدلالة، ولو لزم هذا للزم في العموم ألا يكون حقيقة لاستيفاء الجنس؛ لأنَّه قد يطلق في موضع ويراد به البعض؛ كقولهم: غسلت ثيابي، وانحدر التجار إلى دار الخليفة، فيعلم أن تجار الصين وخراسان خارجون من ذلك، وأنَّ لم يرد غسل كل ثيابه حتى لا يبقى بخرقة على سوأته، وإنما يعلم هذا بدلالة اقترنت إليه، وكذلك ما نحن فيه. دليل: وهو أن عليه بيقين، فمن زعم أنه إذا مسح ببعض رأسه من غير عذر وصلى فقد سقط عنه حكم الصلاة فعليه الدليل. فإن قيل: نعارض بمثل هذا فنقول: الأصل براءة الذمة من الطهارة، وقد اتفقنا على أن الصلاة واجبة بيقين، ولا تجوز بغير طهارة، فمن زعم أن الذي وجب عليه مسح بعض رأسه، وأن هذه القدر يسقط عنه حكم الصلاة التي هي عليه بيقين فعليه الدليل. دليل: وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ ومسح بجميع رأسه، وأفعاله على الوجوب -عندنا - حتى تقوم الدلالة. وأيضاً فقد قال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به». فظاهره أن الصلاة لا تقبل على غير هذه الصفة إلا أن تقوم دلالة.

فإن قيل: إن سلمنا لكم أن أفعاله على الوجوب فقد فعل عليه السلام ضد ذلك، وهو أنه مسح بناصيته، وفي بعض الأخبار ببعض رأسه،

فقد حصل منه الفعلان جميعاً، فليس لكم أن تحملوا مسحه لجميع الرأس على الوجوب إلا ولنا أن نحمل مسحه ببعضه على الوجوب، وتحصل المعارضة، فنستعملها جميعاً، ونقول: مسحه البعض أتى بالوجوب، ومسحه الجميع أتي بالمستحب. وقوله: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، يتناول خبرنا كما يتناول خبركما يتناول خبركم. قيل: أما روي أنه مسح بناصيته، فالناصية اسم مشترك، يحتمل أن يراد بها البعض، ويحتمل أن يراد بها الكل، فلان ناصيته مباركة. وقال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}، قيل: الرؤوس والأقدام، فإذا كان من الأسماء المشتركة لم يجز الحجاج به، وصار بمنزلة عين ولسان تقع على عين الإنسان، وعين الميزان وعين الركبة، ويقع اللسان على لسان بني آدم وعلى لسان الميزان ولسان النار.

وأما ما: إنه مسح ببعض رأسه، فيحتمل أن يكون ذلك لعذر أو تجديد وضوء، فإذا احتمل ذلك، وهو لفظ يقتضي فعل مرة، ولا يجوز فيها ادعاء العموم ويحتمل ما تقولون، فلم يكن أحد الاحتمالين أولى من الآخر، فإما أن يسقطا أو نستعمله على ما نقول. فإن قلتم في خبرنا مثل هذا واستعملتموه. قلنا لكم: استعماله أولى؛ لأنه يسقط حكم الصلاة التي هي عليه بيقين بيقين مثله لا بمحتمل. وهذا إذا صح حديث الناصية أو سلمناه تسليم نظر؛ لأن الحديث غير صحيح عند أهل النقل؛ لأنَّ الذي رواه معقل بن مسلم عن أنس. وحديث المغيرة بن شعبة صحيح مرسل عن المغيرة.

وعلى أنه لو صح لكانت فيه حجة لنا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما لم يقتصر على مسح الناصية حتى قرن إلى ذلك مسحه على العمامة عُلم أنه لا يجوز الاقتصار على الناصية، ويُصرف مسحه على العمامة إلى العذر. وأيضاً: فإنه إذا كانت لأصحابه بأجمعها أو أكثرها ينقلون وضوء سول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلاً ورواية، وأنه نسح جميع رأسه، ثم شذت رواية بأنه مسح بناصيته أو ببعض رأسه، وحكيت منه فعلة وقعت منه في بعض الأوقات، كان حملها على ما ذكرناه من العذر أو التجديد أولى؛ لأنه لو أراد أن يعلم الواجب لكان يبين؛ كما قال لما توضأ مرة مرة «هذا وصيغة الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به»، ثم أعلمنا في المرتين والثلاث أنهما استحباب وفضل. دليل من القياس: اتفقنا على أن مسح الرأس، والمعنى في ذلك: أنه عضو تعبدنا بمباشرته في نفسه بالمسح فيجب أن يستوفي. فإن قيل: ينتقض بسقوط اليسير من الرأس من حيث لا نقصده. قيل: الوجه والرأس في ذلك بمنزلة واحدة؛ لأنه معلوم أن تتبع

كل شعرة في الرأس لا يمكن، كل جزء من الوجه في التيمم لا يمكن؛ لأننا نعلم أن محاجر العين والأجفان وأجزاء يسيرة تسقط، وخاصة التراب - عندكم - يعلم أنه لا يصيب أجفان العين ولا هدبها، ولو كلفوا ذلك لشق المشقة التي لا تخفى. فإن قيل: مسح الوجه في التيمم بدل منه في الغسل وليس الرأس بدلاً لشيء. قيل: أليس كان الأصل غسل الوجه؛ ثم وقع البدل بما يخالفه من المسح؟ فاجعلوه كالمسح على الخفين الذي كان الأصل فيه غسل القدمين، ثم نقل إلى المسح الذي يخالفه، فإذا لم يجب استيفاء مسح الخفين لم يجب استيفاء مسح الوجه، فلما لم تقتصروا على مسح بعض الوجه كما اقتصرتم على مسح بعض الخفين علمنا أن العلة لم تكن في مسح الوجه في التيمم أنه بدل من الغسل، بل إنما هو عزيمة وحكم مستأنف عند عدم الماء. فإن قاسوا مسح الرأس على مسح الخفين بعلة أنه مسح بالماء لا لمرض احترازاً من الجبيرة.

قيل: لا ينجيكم هذا من النقض؛ لأن الإنسان لو كان على يده سلخ أو احتراق نار لا يضره مسح الماء عليه ويضره صبه عليه لوجب ـن يستوفي مسحه عليه بالماء فقد انتقضت العلة. ثم مع هذا فالعلة في الخف أنه رخصة، ومسح الرأس عزيمة فكان رده إلى مسح الوجه في التيمم أولى؛ لأنه عزيمة مثله. دليل من القياس: اتفقنا ف يغسل الرجلين والعلة في ذلك؛ أنه عضو تعبدنا بمباشرته بالماء، يسقط حكمه في التيمم، فكذلك في الرأس، فيجب استيفاؤه. فإن رجحوا قياسهم على الخف بأنهم ردوا مسحاً بالماء إلى مسح بالماء. رجحنا نحن بأنه عضو مباشر بالمسح، فرده إلى الوجه المباشر في التيمم بالمسح أولى، ورد عزيمة إلى عزيمة أولى. فإن زادوا في الكلام في الباء وأنها للتبعيض بأن يقولوا: إن الباء في كلام العرب تدخل لمعنيين؛ تارة للإلصاق، وتارة للتبعيض، فالفعل إذا لم يتعد إلى مفعوله إلا بحرف الباء كانت للإلصاق، كقولهم: مررت بزيد، لما لم يجز أني قال مررت زيداً كان دخول الباء لإلصاق

الفعل بالمفعول. وإذا تعدى الفعل إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض، فلما تعجل ههنا من غير دخول الباء؛ لأنَّه لو قال: وامسحوا رؤوسكم صح، علم أن الباء دخلت للتبعيض، وحمله على الإلصاق حمل على ما لا يفيد. قيل: هذا الذي ذكرتموه دعوى على العرب، وقد حكينا عنهم ما قالوه في موضوعها، فلو وردت في موضع للتبعيض خرجت عن موضوعها بدلالة، ولو أكد بقوله -تعالى -: وامسحوا برؤوسكم كلها لصح، ولو استثنى بقوله: إلا الهامة لصح، فإذا صح دخول الاستثناء، والتأكيد فيه مع دخول الباء، كما حسُن مع سقوطها علم أنها لم تدخل للتبعيض، (وإذا حسن التأكيد والاستثناء مع دخولها كما يحسن مع سقوطها علم أنها لم تدخل للتبعيض)، وهذا مما يدل على أن وجوبها كسقوطها؛ مثل قولهم: دخلت البيت وإلى البيت، وكقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ}.

على أننا قد جعلنا لدخولها فائدة، وهي التأكيد، على ما تقدم ذكره. وقد ذكر بعض أصحابنا أن المراد من قوله -تعالى -: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}؛ أي امسحوا رؤوسكم، ثم حُذف ذكر الأيدي، وأقيم الرؤوس مقامها، فينبغي أن تكون الباء للإلصاق على ما ذكره المخالف؛ لأن الفعل ههنا لا يتعدى إلا بها. على ما ذكره باطل بقوله -تعالى - في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}، فلم تدخل الباء للتبعيض، وإن صح أنقول: فامسحوا وجوهكم، فسقط ما ذكروه وبالله التوفيق.

[6] مسألة

[6] مَسْأَلَة عند مالط -رَحمَه الله - أن المسح على الرأس لا يجوز في الطهارة إلا بمباشرة، وأن مسح على العمامة دونه لغير عذر لم يجزئه، وكذلك عند أبي حنيفة والشافعي. وحُكي عن الثوري، وأحمد بن حنبل،

وغيرهما أنه يجوز المسح على العمامة دون الراس لعذر وغير عذر. والدليل لقولنا: قوله -تعالى - {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، كما قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، فأمر بمسح الرأس، كما أمر بغسل الروجه، فمن مسح على العمامة لم يمسح على الرأس حقيقة. فإن قيل: فإنه رأس وإن كانت عليه العمامة. قيل: هو رأس حقيقة، ولكن المسح لم يقع عليه، وإنما وقع على العمامة التي هي غير الرأس. فإن قيل: فقد قال -تعالى -: {وَأَرْجُلَكُمْ}، فجوزتم المسح على الخفين وليسا برجلين. قيل: صدقتم إذا مسحنا على الخفين فلم نمسح على الرجلين، كما أن المسح على العمامة ليس مسحاً على الرأس، ولكننا جوزنا المسح على الخفين بدلالة، ولا دلالة في العمامة. فإن قيل: فقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مسح على عمامته. قيل: هذا حديث رواه قيس عن

هزيل عن المغيرة بن شعبة،

ورواه مطرف، عن ابن المغيرة عن المغيرة،

وهو حديث مضطرب اضطراباً شديداً، ليس بمعتمد عليه. وقد قيل فيه: مسح بناصيته وعلى عمامته. وإن صح فلفظه لفظ فعل، وهو لفعلة واحدة لا يجوز أن تقع على وجهين مختلفين في حال واحدة، ولا يدعي فيها العموم. ويجوز أن يكون ذلك لعذر منعه من كشف رأسه، أو يكون مجدداً لوضوئه، فإذا احتمل هذا واحتمل هذا واحتمل ما تقولون لم يكن صرفه إلى ما تذكرونه أول من صرفه ما نقوله، فتعارضا ونرجع إلى ظاهر الآية. فإن قيل: لو كان له عذر منع من كشف رأسه لنقل إلينا، والتجديد أيضاً إنما يكون مثل المجدد لا ناقصاً عنه. ألا ترى أن

الإنسان إذا جدد ثوبه أتى بمثل ما كان له أولاً. قيل: أنا قولكم: إنه كان هناك عذر لنقل فليس كل عذر لنقل فليس كل عذر ينقل، ولكن إذا كان هناك دليل أن مسح العمامة لا يجوز، وورد أنها مسحت مرة واحدة حمل على ذلك. على أنه قد نقل، وهو ما رواه ثوبان، قال: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا عليه أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين، والعصائب:

العمائم. والتساخين: الخفاف. فعلمنا أنه أمرهم بذلك للعذر، وهو البرد الذي وجدوه، فلو كان المسح لغير ذلك جائزاً لم يكن في ذلك فائدة؛ لأنه يكون قد أمرهم بشيء علموا أنه جائز في غير البرد، فلما أمرهم به عند هذا العذر علم أن هذا العذر هو السبب في جواز ذلك، وعلى أن عمائم العرب كانت صغاراً تسمى العصائب، فهي خفاف لعل المسح بالماء يصل منها إلى الرأس فيصير ممسوحاً بالماء. وأما ما ذكروه من التجديد والمثل الذي ضربوه له بأن فلاناً جدد ثوبه إذا لبس ثوباً جديداً مستأنفاً، فقد يجوز أن يكون مثل الأول أو

دونه أو فوقه؛ لأن الأول قد يكون صفيقا، والثاني خفيفاً، وإن كان جديداً، فهذا تجديد الوضوء يكون دون الأول؛ آلأنه لو لم يفعله لما احتاج إليه، ونحن نعلم أن الإنسان إذا توضأ فغسل وجهه مرة ثم ثم أعاد الثانية أنها دون الأولى لا محالة، وأنه ربما تساهل فيها؛ لأنه لو لم يفعلها لأجزأته الأولى. فإن قيل: فإذا كنتم تستعملون الأخبار كلها مع الإمكان، وتجعلون لكل خبر فائدة، فقد روي أنه عليه السلام مسح بجميع رأسه، وروي أنه مسح بناصيته، وروي مسح بناصيته وعمامته، وروي مسح على عمامته، فقولوا كما نقول: إن ذلك كله جائز. قيل: الصحيح من الأخبار مسح بجميع رأسه، والباقية

ضعاف، وإنما نستعملها إذا تساوت في الصحة. على أننا قد استعملنا وقلنا: إذا جاءت هذه الأخبار بفعل وقع شاذا في بعض الأوقات حملناها على مل نقدم ذكره من العذر أو التجديد، ولولاها لأوجبنا على من فعل ذلك مع العذر الإعادة، فهذا ضرب من الاستعمال، وقد كلن يجوز أن يكلف مع العذر الإعادة فاستفدنا بها الجواز وسقوط القضاء، ألا ترى أن الناس قد اختلفوا في المسح على الجبائر فجوزناه عند العذر: للخبر الذي ورد فيه.

دليل آخر: وهو استصحاب الحال؛ وذلك أن الصلاة عليه بيقين، وكذلك الطهارة، فمن زعم أنه إذا مسح على العمامة وصلى فقد سقط عنه حكم الطهارة والصلاة فعليه الدليل. فإن قيل: نحن نقول: إنَّه ما تعلق حكم الطهارة إلا على جواز المسح عليها. قيل: قد ذكرنا أن الحكم تعلق عليه بالآية، فإذا تنازعنا ذلك لم يسقط اليقين بهذا المحتمل. دليل من القياس: اتفقنا على أن البرقع والقفازين لا يجوز المسح عليهما من غير علة، والمعنى في ذلك: أنه ماسح على حائل دون العضو المأمور بغسله، والممسوح ليس بخف. فإن قا سوا مسح العمامة على الخفين: لعلة أنه عضو يسقط في التيمم فكل عض ويسقط في التيمم جاز أن ي مسح الحائل دونه، وهذا المعنى موجود في الرأس. قيل: هذا ينتقض في الجنابة؛ لأن الرجل والرأس يسقطان في التيمم عنها، ولا يجوز غسل الحائل دونهما. وعلى أننا نقول: ليس المعنى ما ذكرتم، ولكن المعنى أنه عضو يلحق في نزع الخف عنه مشقة غالبة؛ لأنه يتكلف نزعه، ولعله ينقطع عن شغله وسفره ورفقته، وليس عليه مش قة غالبة في إدخال يده تحت

عمامته ن وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمامة قِطْرية، فادخل يده ومسح ما تحتها، ألا ترى أن القفازين أشد ضرورة من العمامة، لأنه قد يشتد البرد على قوم ويكون غسلهم في الشوك ثم لا يجوز أن يمسح عليهما فبطل ما ذكروه. وعلى أننا قد ذكرنا قياساً آخر على البرقع والقفازين وليس الرد إلى أحدهما باولى من رده إلى الآخر. فأما سقوطهما في التيمم؛ فلأن طرح التراب على الرأس ومسحه بعد مس الأرض - التي لا تخلو في غالب الحال من شيء يكون عليها -فربما تطيَّر به الناس، وتجافته نفوسهم، ولعلهم لو كلفوه لم يفعلوه، والرِّجل فمن عادتها في الغالب ملاقاة التراب فنهوا عن

مسحها في التيمم لذلك، فكان الجمع بين الفقازين وبين العمامة في اعتبار حكم المشقة الأولى. وجواب آخر: وهو أن الرأس قد لحقته رخصة، وهي كونه ممسوحاً لا مغسولاً، فلم ينقل من رخصة إلى بدل، وليس كذلك الرجل؛ لأنها مغسولة فجاز أن تنقل فجاز إلى رخصة، هي المسح على الخف، والله أعلم.

[7] مسألة

[7] مَسْأَلَة المستحب والمسنون عند مالك -رَحمَه الله - في الرأس مسحة واحدة. وهي عندي أن يرد يديه من مؤخر رأسه إلى مقدمه؛ لأن مسح جميع الرأس واجب؛ وهو أن بدأ من مقدمه إلى مؤخره فرد يده بعد ذلك إلى مقدمه مسنون، ولو بدا بالمسح من مؤخر رأسه إلى مقدمه لكان المسنون أن يرد يديه من المقدم إلى المؤخر، وهذا مذهب ابن عمر، ووالحسن البصري، وأحمد بن حنبل.

وقال أبو حنيفة: المسنون مرة واحدة على الصفة التي ذكرتها من مذهبنا، ولكنه يقول: الفرض مسح الرأس، وتمامه رد اليدين إلى المقدم، وهو المسنون وسمعت بعض أصحابه يقول: ثلاث مسحات بماء واحد. وقال الشافعي: المسنون ثلاث مسحات، في كل واحدة يبدأ بمقدم رأسه إلى قفاه ثم يردها إلى حيث بدأ، فهذه مسحة واحدة وكذلك الثانية والثالثة. والدليل لقولنا: استصحاب الحال، وان المسنون والمستحب يحتاجان إلى شرع كما يحتاج الوجوب إلى دلالة من الشرع. فإن قيل: قد قامت الدلالة، وهب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ مرة مرة، وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصالة إلا به»، والوضوء عبارة عن غسل جميع أعضائه، ثم توضأ مرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وبيَّن الفضل في ذلك.

قيل: الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهذا يتوجه إلى ما يغسل حتى يضء. فإن قيل: فقد بيَّن ما أردناه في الخبر الآخر، وهو أنه عليه السلام مسح برأسه ثلاثاً، كما غسل وجهه ثلاثاً.

قيل: لعمري إنه قد رُوِيَ هكذا، ولكن الذي داوم على فعله هو الأفضل، وفي عُظْم الأخبار عن عثمان، وعلي، وابن عباس رضي الله عنه، وعن غيرهم أيضاً مثل عبد لله بن زيد،

والرُّبيِّع، وأكثر الصحابة أنهم كانوا يحكون وضوءه، ويعلمونه الناس أنه عليه السلام غسل وجهه ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه مرة واحدة، ففرق بين الغسل والمسح، وقد تقدم العلم بالفرق بينهما من طريق الصورة والهيئة، فلم يكن الفرق بينهما ههنا إلا في العدد، فإذا تبين أن الفضل في غسل اليدين ثلاثاً تبين أن الفضل في مسح الرأس مرة واحدة، إذ المداومة لا تكون إلا في الأفضل، ويكون مسحه إياه في بعض الأحوال ثلاثاً ليعلم أنه جائز؛ لئلا يظن ظان أنه لا يجوز. ويحتمل أن يكون الماء الذي مسح به رأسه جف في يده، -

وعندنا - يجب مسح جميعه فاحتاج أن يجدد الماء حتى يتممه بثلاث مسحات؛ لأن أرض الحجاز حارة، والريح بها يجفف، والمياه قليلة يشفق الإنسان في استعمالها، فإذا كان هذا محتملاً مع كون لفظ مسح لفظ فعل لا يقع إلاَّ على فعلة واحدة لم يترك بهذا المحتمل ظواهر الأحاديث، ومداومته عليه السلام على الفر بين الغسل والمسح مثل هذا. دليل من القياس: اتفقنا في التيمم على المرة الواحدة، والمعنى في ذلك: أنه مسح في طهارة، فكل مسح في طهارة مثله، سواء كان مسحاً بماء أو بغير ماء، فإن المستحب فيه مرة واحدة. وإن شئت قسته على مسح الخفين والجبائر؛ بعلة أنه مسح بالماء. فإن قيل: لأصحابنا في الخف والجبائر وجهان. قلت: الصحيح منهما ما قلناه. فإن قيل: نحن نقيس ذلك على غسل الوجه؛ بعلة أنه عضو تعبدنا بمباشرته بالماء فإذا كان المستحب فيه ثلاثاً كان الرأس مثله. قيل: قد حصل لنا قياس بإزاء هذا القياس، ولنا فضل الترجيح، وهو أن قياسنا يسند إلى مداومة فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسحه الرأس واحدة، وإلى فعل الصحابة رضي الله عنهم الأكثر في أكثر أفعالهم.

فإن قيل: قلنا الترجيح برد الماء إلى الماء. قيل: ونحن رددنا مسحاً إلى مسح، ومسحاً بالماء أيضاً إلى مسح بالماء على ما بيناه في أظهر الوجهين في الجبائر والخف. ولنا ترجيح آخر: وهو أن مسح الرأس أخف من الغسل، فلما خفف بأن جعل فيه المسح في العدد، ولما كان الغسل في الوجه أثقل من المسح أكد بالعدد، ألا ترى أالخلاف قد حصل في مسح جميع الرأس ولم يحصل في جميع الوجه. وأيضاً فلو كررنا المسح في الرأس لصار أشق من الغسل أو حصل في معناه، وكل أحد يعلم أن الوجه في غالب الأحوال مكشوف يلاقي البرد والرياح ويصير من ذلك على ما لا يصير عليه ما يتستر من الإنسان وكذلك اليد يعمل بها ويباشر بها وبالرجل ما لا يحصل في الرأس مثله، ولهذا يتوقى الإنسان من كشف {اسه أو شيء منه وخاصة في الأوقات التي تتخوف فيها النزلات والزكام، فكان المسح فيه على كل حال أخف، وكذلك خفف في العدد، والله أعلم. فإن قيل: فإن الطهارة تشتمل على مغسول وممسوح، فلما ساوى الممسوح المغسول في الوجوب وجب أن يساويه في المسنون، ألا ترى أن

الصلاة تشتمل على أفعال وأذكار، ثم لما ساوت الأذكار الأفعال في الوجوب ساوتها في المسنون، فالذكر الواجب فاتحة الكتاب، والمسنون السورة. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن أركان الطهارة قد اختلفت في الممسوح والمغسول في الوجوب - عندكم -، فقيل جميع الوجه واجب، وليس مسح جميع الرأس واجباً، فلما افترقا في الوجوب من هذا الوجه وجب أن يفترقا في المسنون من المسح. والجواب الآخر: هو أن المسح الواجب في الأصول قد فارق موضع الوجوب في الغسل. ألا ترى أن المسح في التيمم لم يسن فيه التكرار، وإن كان قد سن في غسله بالماء. وأما الذكر في الصلاة فقد اختلف المسنون منه والمفروض، فقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة منها، وقراءة السورة في ركعتين من الظهر والعصر والمغرب وعشاء الآخرة، فإن أردتم أن يكون في الطهارة شيء مسنون في المسح فالسنة في مسح الرأس مرة واحدة؛ لخفة المسح من الغسل، وبالله التوفيق.

[8] مسألة

[8] مَسْأَلَة والأذنان عند مالك -رَحمَه الله - من الرأس في الطهارة يمسحان معه، ويُستحب أن يُؤخذ لهما ماءٌ جديدٌ. ومذهبنا مذهب ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وعطاء،

والحسن، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل.

وقال الزهري: هما من الوجه يغسل ظاهرهما وباطنهما معاً، وقال الشعبي: والحسن بن صالح، وإسحاق، ما اقلب منهما من الوجه يغسل معه، وما أدبر منهما من الرأس يمسح معه. ولا خلاف بين الأمة أنه عن اقتصر على مسح الأذنين لم يجزئه، وقال الشافعي: هما سنة على حيالهما، يمسحان بماء جديد بعد الفراغ من مسح الرأس.

والدليل لقولنا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وقد اتفقنا على أن كل عضو في الوجه هو منه. وليست الأذنان منه فثبت أنهما من الرأس؛ لأننا قد تعبدنا فيهما بحكم من الطهارة بلا خلاف، وقد خرج حكمهما في التعبد من الوجه فوجب أن يكون حكمهما في الرأس؛ إذ لم يذكر الله تعالى مما يقارنهما من الأعضاء غيرهما. فإما أن يكونا في العبادة من الوجه أو من الرأس، فمن أثبت لشيء آخر بين الوجه والرأس حكماً يخالفهما فعليه الدلالة. فإن قيل على هذا: أليس الفم والأنف من الوجه وقد سُنَّ لهما سنةٌ غير ما في الوجه، وهي المضمضة والاستنشاق، فكذلك إن كانت الأذنان من الرأس كانت لهما سنةٌ في المسح غير ما في الرأس. قيل: إن الفم والأنف لما بطن داخلهما سُنت لهما سنةُ المضمضة والاستنشاق. ألا ترى أن ظاهرهما مغسول مع الوجه. ولما كان باطن الأذنين ظاهراً لم تسن له سنة تخالف مسح الرأس؛ لأن المسح يأتي على الظاهر والباطن منهما مع الرأس. والدليل أيضاً على أنهما من الرأس: ما رواه ابن عباس وأبو أمامة

عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الأذنان من الرأس»، وإذا قيل: هذا الشيء من

هذا الشيء، فهو بعضه لا محالة. فإن قيل: فإنَّه عليه السلام أراد أنهما تمسحان كما يمسح الرأس، ردًّا على من قال: إنَّهما من الوجه. قيل: إنَّه إذا قيل لنا: هذا الشيء من هذا الشيء، فهو بعضه، فمسحه داخل في مسح الرأس كدخول بعض من الرأس في باقيه. ولو أراد ما قلتم لقال: الأذنان تمسحان كمسح الرأس، ولم يجعلهما منه. فإن قيل: فقد علمنا لأنهما ليسا كالرأس صورة وهيئة، وأن لهما أحكاماً كثيرة تنفرد عن الرأس. قيل: لا يمنع أن يكونا منه في باب المسح، ألا ترى أن ظاهر الأنف والشفتين تغسل مع الوجه، ولهما حكم في الجنايات يخالف باقي أل وجه، فكذلك الأذنان. دليل آخر: وهو ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسحهما مع رأسه، كما

غسل مرفقه مع ذراعيه وكعبيه مع رجليه. وأيضاً ما روى الصُّنَابِحِيّ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا توضأ العبد المؤمن فغسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، وإذا مسح برأسه خرجت من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه». فعلمنا بهذا أنهما

من الرأس، كما علمنا أن العينين من الوجه. فإن قيل: ليستا من الرأس؛ لأنهما لا تنبتان الشعر. قيل: هذا غلط؛ لأن الشعر ينبت فيهما، ولو لم ينبت لما دل ذلك على ما تقولون، لأنَّ الجَلَخَة لا يكون عليها شعر وهي من الرأس، وليس إذا لم ينبت في موضع شعر لم يكن من ذلك الشيء، ونحن نعلم أن في الوجه مواضع يقل الشعر فيها ولا ينبت أيضاً، ولا يدل على أنها ليست من الوجه. فإن قيل: الخط الدائر وراء الأذنين لما لم يكن من الرأس وهو إليه أقرب، والأذنان منه أبعد فهما أولى أن لا يكونا منه. قيل: الخط الدائر - عندنا - من الرأس فسقط ما قلت. فإن قيل: عندكم أنهما لو سقطتا في الطهارة على طريق النسيان لم يكن عليه إعادة الصلاة، ولو سقط موضع من الرأس بيقين لأعاد الصلاة.

قيل: اليسير من الرأس الذي لا يعرف بعينه قد تركه ناسياً فعليه الإعادة على ظاهر قول مالك، وكذلك يجب في الأذنين بحق القياس، إلاَّ أننا نفرق بينهما بفرق، وهو: أن الأذنين في قد وقع الخلاف فيهما هل هما من الرأس أو لا؟ ولم يقع الخالف في بعض من أبعاض الرأس هل هو منه أو لا؟ فيجوز إذا نسي مسح أذنيه أن لا يعيد الصلاة؛ للخلاف فيما هل هما من الرأس أو لا؟ وإن قلنا أيضاً: إنه إن نسي شيئاً يسيراً من موضع بعينه من رأسه لم يُعد الصلاة جاز؛ لوقوع الخلاف في مسح جميعه، وإلى هذا ذهب محمد بن مسلمة ومن تابعه في ترك الثلث، ولكن لا يجوز أن يتعمد ذلك. فإن قيل: لو كانتا من الرأس لأجزأ المحرمَ حلقهما أو تقصيرُهما. قيل: لو ترك ما لا يختلف فيه أنه من الرأس لم يجزئه؛ لأن عليه استيفاء الحلق أو القصر في جميعه، فكيف يجزئ الاقتصار على الأذنين؟ وإنما يلزم هذا أصحاب أبي حنيفة؛ لأنه لا يتممون بهما ربع الرأس.

فإن قيل: فإنه لا يجب على المحرم في تغطيتهما الفدية. قيل: الدليل على أنهما ليسا من الرأس ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح برأسه ثم بأذنيه، وثم للتراخي. وما روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ لهما ماء جديداً. قيل: هذا لا يدل على ما قلت؛ لأنَّه يحتمل أن يكون بدأ من مقدم رأسه، فلما فرغ من جميع مسح أذنيه، فأعلمنا أن البداءة وقعت بغير الأذنين؛ لأنَّه لو قال: غسل كفيه ثم ذراعيه لكان كذلك. وأيضاً: إذا ثبت أنَّهما من الرأس بما ذكرناه فقوله: مسح برأسهن قد دخلتا فيه، ثم بأذنيه، أعلمنا أنه أخذ لهما ماء جديداً على وجه الاستحباب بعد أن مسحهما مع الرأس لأنها معه.

فإن قيل: فما الفائدة في تجديد الماء لأذنيه وقد دخلتا في مسح الرأس؟ ولم اختص الأذنين بذلك؟ قيل: لما كانت الأذنان منفصلتين منه في الانتشار استحب ذلك فيهما؛ لجواز أن لا يستوعب المسح في المرة الواحدة ظاهرهما وباطنهما. على أن قوله: مسح. حكاية عن فعلة وقعت، فيحتمل أن يكون فَنِي الماء الذي مسح به رأسه وجف فأخذ للأذنين ماء؛ لأنهما من الرأس، ويجب - عندنا - استيفاء الجميع. فإن قيل: فقد قال عليه السلام: «عشر من الفطرة، خمس منها في الرأس». فذكر من جملتها مسح الأذنين، والفطرة هي السنة، وقد أضاف إلى السنن أيضاً المضمضة والاستنشاق. قيل: معنى ذلك أنهما من فطرة الإسلام، ويكون في فطرة الإسلام الفرض والسنة. ألا ترى أنه قد ... ذكر فيها الختان وهو - عندكم - فرض، فكأنه أراد أنَّ مَسْحَ الأذنين - لأنهما من الرأس -

فرضٌ؛ لئلا يظن ظان كما ظننتم وأنه لو تركهما عامداً لأجزأه كما لو ترك بعض رأسه. وينبغي أن يحمل قول أبي زيد في كتابه: وسنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْحَ الأذنين، على تجديد الماء لهما. فإن قيل: فإن الأصول تشهد بما نقول؛ وذلك أننا وجدنا أعضاء الطهارة كل واحد منها قد استلحق موضعاً مسنوناً، ثم وجدنا تلك الأعضاء المسنونة اللاحقة بالمواضع المفروضة على ضربين: ضرب من جنس الموضع وجوداً وحكماً واجتزئ في أداء السنة بالماء المأخوذ للمفروض، وهما ما وراء المرفقين والكعبين. وضرب من غير جنس الموضع المفروض وجوداً وحكماً فأخذ له ماء جديد سوى ماء المفروض، وهو المضمضة والاستنشاق، ووجدنا

الأذنين من غير جنس الموضع المفروض وجوداً وحكماً، فونجب أن يؤخذ لهما ماء جديد. قيل: هذا غلط؛ لأن ما وراء المرفقين واجب غسله، وكذلك ما وراء الكعبين؛ لأنه لما كان مقارناً لما دونه حتى لا ينفك منه، ولا يكن الاقتصار في الغسل على ما دونه جعل في حكمه، وليسا بمسنونين، فلما صارا واجبين كوجوب ما دونهما وجب غسلهما بماء واحد. على أننا نعلم أن ما وراء الكعبين ليس من جنس الكعبين وما دونهما لا وجوداً ولا حكماً؛ لأنه في الوجود على هيئة وصورة تخالفانه، وفي الحكم قد فرق بينهما، وذلك أن الله تعالى لما أوجب قطع رجل المحارب وجب القطع من المفصل، وهو أسفل الكعبين، ولا تدخل الكعبان في القطع، فقد علمنا أيضاً أنهما ليسا من جنس الرجل في الحكم. ثم مع هذا فقد غسل ما وراء الكعبين بماء الرجل وهي المفروضة على ما قلتم، وكذلك يكون للأذنين حكم وصورة تخالفان الرأس ويكون مسحهما بماء الرأس على حسب ما قلتموه فيما وراء الكعبين والمرفقين. وكذلك أيضاً ما وراء المرفقين يخالف جنس ما قبلهما في الهيئة والصورة، والمفصل منه دون المرفقين، ومع هذا فقد غسل بماء الذراعين.

فإن أردتم أن ام اليد والرجل يتناول الجميع منعناكم منه، وقلنا: حقيقة اليد إلى الكوعين -كما قال الله -تعالى - {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، والقطع من الكوع، وكذلك الرجل فيما دون الكعبين، كما قيل في المحاربين: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ}، ثم لو انطلق الاسم على الجميع مع خلافه في الصورة لكان منطلقاً في اسم الرأس عليه وعلى الأذنين، وإن كانتا مخالفتين له في الصورة والحكم على ما بيّنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «الأذنان من الرأس»، فينبغي أن تمسح بماء الرأس، كما قلتم فيما وراء الكعبين إلى المرفقين، والمسنون في اليدين التبدئة من أطراف الأصابع إلى المرفقين، وفي الرجلين كذلك؛ لأن ما وراء المرفقين كذلك، لأن ما وراء المرفقين والكعبين من المسنون بل واجب على ما بيناه. ويجوز أن نقول: إنه أصل ممسوح بالماء في الطهارة فوجب أن يمسح مع الرأس أصله أبعاض الرأس، ولا يلزم عليه الخف؛ لأنَّه ليس بأصل، وإنما هو بدل. فإن قيل: إن فعل الوضوء نوعان: غسل ومسح، ثم الغسل منه

واجب ومنه سنة منفردة هي المضمضة والاستنشاق فكذلك المسح لما كان منه واجب وجب أن يكون منه مسنون منفرد، وليس - عندكم - مسنون منفرد في المسح. قيل: إنما سنت المضمضة والاستنشاق؛ لأن داخل الأنف والفم باطن، والأذنان ظاهرتان، ولم تسن للرأس سنة منفردة في المسح، ألا ترى أن اليدين والرجلين فرضهما الغسل، ولم تسن لهما سنة منفردة لظهورهما ولا باطن فيهما، وبالله التوفيق. واستدل الزهري بقوله عليه السلام في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره». فأضاف السمع إلى الوجه، والمعنى - عندنا - سنجد ذاتي، وقوله: «الأذنان من الرأس». أخص من هذا، وكذلك قوله في حديث الصُّنَابِحِي: «إذا توضأ فغسل وجهه خرجت الخطايا منه حتى تخرج من تحت أذنيه»، فعلمنا بهذا أنهما من الرأس كما علمنا أن العين من الوجه. واحتج من قال باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وباطن الأذنين يواجه به مع الوجه. وما ذكرناه يقضي عليه، مع أنهما تغطيهما العمامة وغيرها، والمواجهة لا تقع بهما، والله أعلم.

وقد روى ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح رأسه وأذنيه بماء واحد. وكذلك روي أنه عليه السلام أتي بوضوء فتوضأ فغسل وجهه وكفيه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً، ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وهذا يفيد مسحاً واحداً، فلو كان أخذ لهما ماء جديداً لقال: مسحين، أو كان يفرد أحدهما عن الآخر كإفراده سائر الأعضاء. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

سأله رجل فقال: كيف الطهور. فدعا بماء فغسل كفيه وغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، فأدخل أصبعيه السبابتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: «هذا الوضوء، فمن زاد أو نقص فقد أساء وظلم»، وهذا

خارج على وجه التعليم والبيان لصفة الطهارة وأحكامها، وبالله التوفيق والتسديد.

[9] مسألة

[9] مَسْأَلَة الترتيب في الطهارة ليس بواجب عند مالك، وأبي حنيفة، وهو مذهب علي، وابن مسعود، والزهري، والأوزاعي، وسفيان الثوري. وقال الشافعي: الترتيب مستحق.

والدليل لقولنا: قوله - تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، فجمع بين الأعضاء بالواو، التي موضوعها للاشتراك والجمع، كقولهم: جاءني زيد وعمرو، وليس عندهم فيه دلالة على أن أحدهم جاء قبل صاحبه. وقد ذكر سيبويه أن موضوع الواو للجمع لا للترتيب. وقد نبه الشرع أيضاً على ذلك فروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: ما شاء الله وشئت، فقال له: «أمثلان؟ قل ما شاء الله، ثم شئت». فنهاه أن يجمع بين مشيئة الله تعالى وبين مشيئته، فلو

كانت الواو للترتيب لم يمنعه من ذلك؛ لأنها تكون بمنزلة الفاء وثم. فإن قيل: فإن الآية حجة لنا: لأن الله تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، فأمر بغسل الوجه عقيب الْقِيَام إلى الصلاة؛ لأن الفاء في لغة العرب للتعقيب بلا خلاف، فإذا ثبت أن غسل الوجه عقيب الْقِيَام إلى الصلاة واجب ثبت قولنا؛ لأن من قال:

الترتيب لا يجب في الوضوء، قال: لا يلزمه غسل الوجه عند القيامن وإن غسل رجليه عند القيام إلى الصلاة فقد امتثل الأمر. قيل له: هذه الدلالة لا تصح من وجهين: أحدهما: أن الفاء ههنا ليست للتعقيب، وإنما دخلت لتعلق الكلام بالكلام، والجملة بالجملة، وجواباً للشرط بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}، والفاء التي للتعقيب تكون في الخبر، كقولك: جاء زيد فعمرو، أو في الأمر، كقولك: فعمراً، فأما إذا كانت للجزاء وجواب الشرط فلم تكن للتعقيب. والفرق بين الفاء التي للتعقيب والفاء التي هي جواب الشرط هو: أن الفاء إذا كانت جواباً للشرط والجزاء لم يصح قطع الكلام عنها؛ مثل: إذا جاء زيد فأكرمه، لو وقفت على قولك: إذا جاء زيد لم يتم الكلام، والفاء التي للتعقيب يصح قطع الكلام عنها، كقولك: جاءني زيد فعمرو، ولو وقفت على قولك: جاءني زيد، صح، وكذلك أعط زيداً درهماً فعمراً، لو اقتصرت على قولك: اعط زيداً كان الكلام مفيداً. والوجه الآخر: هو أننا لو سلمنا أنها للتعقيب لم نسلم ههنا؛ لأنها قرنت بعدها بالواو التي هي للجمع، فلما دخلت الواو في باقي الأعضاء بالواو ن ثبت أن الفاء ليست للتعقيب؛ لأنَّه لا أحد يمنع من تقديم اليدين على الوجه إذا ثبت جواز تقديم مسح الرأس على اليدين بالواو.

ثم لو ثبت أنه للتعقيب لكان المراد أن تقع جملة الطهارة عقيب الْقِيَام إلى الصلاة؛ لأن الطهارة لا تتم إلاَّ بغسل الأعضاء كلها، ومسح الرأس فيها، ولكن لا يَصِحُّ الابتداء في اللفظ بعد إذا إلاَّ بالفاء، فلو قال: إذا قمتم إلى الصلاة فامسحوا برؤوسكم، لم يكن إلاَّ كقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، فإذا كان كل واحد من الأعضاء لا تتم الطهارة إلاَّ به لم يكن بعضه بالتقدمة أولى من بعض. على أننا نقلب هذا عليهم فنقول: إن كان المراد غسل الوجه عقيب الْقِيَام من أجل الفاء التي للعقب، فنحن نقول: إذا قدَّم غسل الأعضاء وأخَّر الوجه إلى آخرها وقع غسله عقيب الْقِيَام إلى الصلاة فينبغي أن نكون نحن أسعد بهذا منكم؛ لأنه إذا تم لنا هذا في الوجه فليس أحدٌ يفرق بينه وبين سائر الأعضاء. فإن قيل: إن الواو - عندنا - للترتيب لغة وشرعاً. فأما اللغة فإن الفراء قال: الواو للترتب لا للجمع، وكذلك

قال أبو عبيد القاسم بن سلام؛ لأنَّه ذهب إلى أن الترتيب في الوضوء واجب، واستدل بالآية، ,أن الواو فيها تقتضي الترتيب. فحصل فيها خلاف بين أهل اللغة.

وأما الشرع فإنه رُوِيَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: من أطاع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال له النبي عليه السَّلام: «بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى». فلما لم يرتب الرجل ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذكر الله تعالى نهاه عنه، وأمره أن يرتب ذكر النبي عليه السَّلام على ذكر الله تعالى، فقال: «قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى». فدل على أن الواو للترتيب؛ إذ لو لم تكن للترتيب لكان معنى الجمع الذي نهاه عنه موجوداً في قوله: «ومن يعص الله ورسوله». وقد رُوِيَ أنه قيل لابن عباس: إنك تقدم العمرة على الحج، والله تعالى قم الحج على العمرة، فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. فقال: كما قدمتم الدَّين على الوصية، والله تعالى قدم الوصية على الدين، فسلم ابن عباس للقوم أن تقديم ذكر الحج على العمرة

يقتضي تقديم فعله عليهما، ولكن ذكر أنه تركه لدلالة قامت له، كما تركوا ذلك للدلالة في قوله - تعالى -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، فدل على أن الواو عند ابن عباس تقتضي الترتيب، وكفى به من اهل اللغة. فالجواب أن نقول: لأما قولكم: إن الفراء قال: إن الواو للترتيب، فإنه لم يقل: إن موضوعها لذلك، وإنما أراد أنها قد تكون للترتيب، ونحن لا نمنع من ذلك. والدليل على أنه أراد ذلك لا الموضوع: هو أنه لو كان موضوعها لذلك كحروف الترتيب لدخلت حروف الترتيب في كل موضع تدخل الواو فيه، كما يدخل كل حرف من حروف الترتيب المدخل الذي يدخله الآخر، فلما كان قول القائل: تشائم زيد وعمرو لا يصح دخول الفاء وثم فيه علمنا أن موضوع ذلك مختلف. وأما أبو عبيد فيجوز أن يكون استدل بالآية لا من حيث الموضوع. وأما قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للخطيب ما قال، فلا دلالة فيه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحب أن يجمع بينه وبين ربه - تعالى - في كتابة واحدة، وأحب أن يقدم ذكر الله - تعالى - على ذكره، ثم إذا قدم ذكر اسم الله - تعالى - عليه فبدلالة العقل يعلم الترتيب ههنا، ونحن لا نمنع أن تدخل الواو في موضع للترتيب بدلالة، والدليل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد ما

قلناه لا الترتيب: هو أن الله تعالى قد جمع بين نفسه وبين رسوله عليه السَّلام في كتابة وَاحِدَة، فقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، وهذا أبلغ من قوله: أن يرضوهما؛ لأن ما يرضي الله تعالى فهو يرضي رسوله، وما يرضي رسوله فهو يرضيه تعالى، وكذلك العصيان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عصيان الله تعالى، وإِنَّمَا أحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقدم ذكر الله تعالى في اللفظ. وأما حديث ابن عباس - رَحمَه الله - فإنه حجة لنا؛ لأنه رأى أن الواو للجمع في الحج والعمرة. وقد رَوَى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فغسل وجهه وذراعيه ثم رِجْلَيْهِ ثم مسح برأسه. فإن قيل: إن الواو التي للجمع تسقط عند الكناية، مثل قول القائل: إذا دخلت الدار فألق زيداً وعمراً وخالداً وبكراً، فإذا لقيتهم فأعطهم كذا وكذا، وهذا المعنى متعذر في هذا الموضع؛ لأنه لا يمكن أن تقول: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فإذا غسلتموها فصلُّوا؛ لأنه قد تخلل بينها المسح الذي هو خلاف الغسل، فدل على أن الواو ههنا للترتيب. قيل: أقل ما في هذا أنه ينقلب عليكم في الترتيب؛ لأن الواو

تسقط عند الكناية إذا قال: ألق زيداً ثم عمراً ثم خالداً ثم بكراً فإذا لقيتهم فافعل كذا، وفي هذه الآية لا يمكن هذا؛ لأنَّه لاي صح أني قول: اغسل وجهك ثم يديك، ثم امسح براسك ثم اغسل رجليك، فإذا غسلتها فصل؛ لأجل ما قد تخلل بين اعضاء الغسل من المسح، فسقط السؤال. وإنما لم يصح في الوجهين جميعاً للمخالفة كما قلت في الصفة، فإن أراد الكناية ففي اللفظ الواحد وهو إما الغسل وإما المسح لم يصح. ولكن: قد يجتمعان في كناية هي غير اللفظ، وهو أن تقول في كناية الجمع والترتيب جميعاً، فإذا فعلت ذلك بهم أو بهما فافعل كذا وكذا، فاستوى البابان جميعاً في هذه الكناية، وفي الامتناع ممن تلك الكناية، والله أعلم. فإن قيل: لو كانت الواو للجمع لكان يقول: اغسلوا وجوهكم مع أيديكم، ولكان تقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم إلى الكعبين، وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه. قيل: لو قال - تعالى - فاغسلوا وجوهكم مع أيديكم أو على المرافق لكان يجب علينا أن نغسل وجوهنا مع أيدينا في حال واحدة، بماء واحد، ولكنه أراد منا أن نغسل كل واحد على حدته بماء جديد، غير أننا بأي أعضائنا بدأنا أجزأ، ولو أراد الترتيب على ما تقولون لأتى بحرف من حروف الترتيب.

فإن قائلاً لو قال: خير الناس أبو بكر والنبي لقبح قوله، فعلم أن الواو للترتيب. قيل: هذا لا يلزم؛ وذلك أنه لا يحسن أن يبدأ بذكر أحد من أمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذكره إذا أريد الخبر عنه وعنهم. ألا تَرَى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو دخل هو وعلي رضي الله عنه على فاطمة - رضي الله عنها - في حال وَاحِدَة لما حسن أن تقول: جاءني علي والنبي. فتُقَدِّم ذكر علي على ذكره عليه السَّلام، ولو بدأت بذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذكر علي رضي الله عنه لما دل ذلك على أن النبي عليه السَّلام جاءها قبل علي رضي الله عنه؛ لأنهما قد جاءاها معاً، ولما كان النبي عليه السَّلام خير البشر لم يحسن أن يقال: خير الناس أبو بكر والنبي؛ لأنه يكون تسوية بينهما، وهذا كله قد فرغنا منه، وقلنا إننا لا نمنع أن تدخل الواو للترتيب في موضع بدلالة. فإن قيل: إن الخبر الذي رويتموه من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قل: ما شاء الله ثم شئت». لا دلالة فيه؛ لأن الواو للترتيب، ولكنه عليه السَّلام أراد من القائل أن تكون بين مشيئة الله تعالى وبين مشيئته مهملة، لا أن تكون مشيئته مقرونة تتلو مشيئة الله تعالى، ولا عقيبها. ألا تَرَى أن أتى بحرف ثم - التي هي للتراخي والمهلة - فقال له: «قل: ما شاء الله ثم شئت». فهذا هو المقصود؛ لا أن الواو للجمع.

قيل: هذا غلط؛ لأن الرجل لما أتى بالواو التي هي للجمع بالغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النكير عليه بأن قال له: «قل: ثم شئت»، كما إذا جلس الدنيء مع الرفيع في مجلس واحد أُنكر عليه، وقيل له: تباعد عن قربه. فإن قيل: إن من عادة العرب في كلامهم أن لا يدخلوا فيه ما لي سمن جنسه إلا لحاجة، ألا ترى أنهم يقولون: ضرب الأمير زيداً وعمراً وبكراً، ولا يقولون: ضرب زيداً وحبس عمراً وضرب بكراً، فإذا كان هذا عادتهم في كلامهم، فقد ذكر الله - تعالى - غسل الوجه واليدين، وأدخل فيه مسح الرأس الذي هو من غير جنس الغسل، ثم أمر بغسل الرجلين، فعلم أمه ادخل المسح بين ذلك لحاجة الترتيب، وأن يكون مستحقًّا، إذ لو لم يكن كذلك لكان أشبه أن يذكر المسح بعد فراغه من الغسل. قيل: ليس هذا مما نحن فيه بسبيل؛ لأن مسح الرأس بالماء من جنس الغسل، والوضوء لا يتم إلا بغسل الأعضاء، فإذا كانت الطهارة لا تتم إلا بالغسل والمسح لم يكن بعض الأعضاء بالتقديم أولى من الآخر. وقد يصح في الكلام أن تقول: أكرم زيداً وأدّب غلامه، وأكرم خالداً وبكراً، وأن تخلل بين الكرامات أدَّب الغلام، ولما كان مسح الرأس لا تتم الطهارة إلا به كما لا تتم إلا بغسل الرجلين، ثم قد سقط حكم الرأس والرجلين في التيمم - الذي هو إحدى الطهارتين - جاز أن يجمع بينهما بالواو. فإن قيل: إن مذهب العرب الحكمة البداءة بالأقرب فالأقرب،

ووجدنا الوجه أقرب إلى الرأس منه إلى الْيَدَيْنِ، فلما أمر الله تعالى بغسل الوجه، ثم بغسل الْيَدَيْنِ، وترك الرأس - الذي هو أقرب إلى الوجه - علم أنه لم يتركه إلاَّ لأن البداءة باليدين مستحق قبل الرأس. قيل: لما بدأ الله تعالى بالوجه الذي لا يسقط في التَّيَمُّم عطف عليه الْيَدَيْنِ؛ لأنهما لا يسقطان في التَّيَمُّم، ثم أتى بالمسح في الرأس، وعطف عليه غسل الرجلين؛ لأنهما يسقطان في التَّيَمُّم. ويجوز أيضاً أن يكون تعالى جمع ما في أعلى البدن في اللفظ، ثم أَخَّرَ الرجلين؛ لأنهما من أسفل البدن. على أن الواو إذا كانت للجمع لا للترتيب فبأي الأعضاء بدأ في الذكر جاز، وهذا يلزمهم؛ لأنه تعالى لو أراد الترتيب لبدأ بالأقرب فالأقرب، فلما بدأ بالوجه وترك الرأس الذي هو أقرب إليه علم أنه لم يرد الترتيب. فإن قيل: إن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق. وقعت الأولى ولم تقع الثانية، فلو كانت الواو للجمع للزمه تطليقتان، كما لو قال: أنت طالق تطليقتين. قيل: تقع عليه تطليقتان - عندنا -، وإِنَّمَا يلزم هذا أصحاب أبي حنيفة.

فإن قيل: فإن الله - تعالى - ذكر غسل الوجه وكرره، وذكر مسحه في التيمم وكرره، فبدأ في كل المواضع قبل اليدين؛ فلولا أنَّه أراد الترتيب لأشبه أن يذكر تقديم اليدين على الوجه في بعض المواضع ليعلمنا أنه اراد الجمع. قيل: هذا لا يلزم؛ لأننا قد دللنا على أن موضوع الواو للجمع، فلو كرر ذكر الوجه في ألف موضع لم يدل ذلك على الترتيب، ولو ثبت أنها للترتيب حتى تغير في بعض المواضع لما دل ذلك على خلاف الترتيب، ألا ترى أنه لما ثبت الترتيب في الصلاة، وأن الركوع مقدم على السجود، وقد كرر في مواضع كذلك، ثم ورد قوله - تعالى - {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}، فقدم السجود على الركوع لم يدل ذلك على أن المراد خلاف الترتيب، وإنما هذا على حسب الأدلة، فإن ثبت أن موضوع الواو للجمع لم يضر ذلك تكرير اللفظ ولا تغييره، وكذلك إن ثبت أنها للترتيب لم يضر ذلك. ثم إننا نحن أيضاً نقول: إنه - تعالى - لما كرر في هذه المواضع بالواو دل أنَّه أراد الجمع، إذ لو أراد الترتيب لأشبه أن يذكره في بعض المواضع بحرف الترتيب، مثل الفاء أو ثم، فلما لم يذكره كذلك، ولا غيَّره عن حرف الجمع علم أنه أراد الجمع، والله أعلم. فإن قيل: فإن الآية محتملة لما نقول: ولما تقولون، ورأينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ ورتب، فكان هذا منه بياناً للمراد بالآية. وقد يستدلون بهذا الخبر مفرداً فيقولون: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ

ورتب، وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاَّ به». فكان هذا منه بياناً للمراد بالآية، وأيضاً فإن أفعاله على الوجوب. وأنا أتكلم على الجميع، فالجواب أن نقول: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رتب تارة، وترك الترتيب تارة أخرى. فروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فغسل ونجهه وذراعيه ثم رِجْلَيْهِ ثم مسح برأسه، فليس لكم أن تجعلوا ترتيبه بياناً للآية إلاَّ ولنا أن نجعل تركه الترتيب بياناً لها، وإن المراد بالواو المجمع، وإذا تساوى ذلك، قلنا: إِنَّمَا رتب استحباباً، وترك الترتيب ليعلمنا الجواز. وقد رُوِيَ عن عثمان رضي الله عنه أنه تَوَضَّأَ وعكس بملأ من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أهكذا رأيتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ؟ فقالوا: نعم. فشهدوا له بذلك فيجب استعمال الأخبار كلها ألا يُسْقط بعضها، ويحصل معنا زيادة حكم، وهو جواز التعكيس الذي تمنعون منه. وقولة: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاَّ به». في خبرنا كما هو في خبرهم، فعلمنا أنه قصد بِالْوُضُوءِ ما تحصل فيه الوضاءة، وهو الغسل لا الترتيب ولا تركه، هذا إن صح الحديث هكذا وإِنَّمَا

الصحيح أنه توضأ مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصالة إلا به». وقولهم: إن أفعاله على الوجوب، فمثله نقول في أخبارنا، فإذا تعرضنا وجب الاستعمال على ما بينا من الجواز والاستحباب. ويجوز: أن نستدل نحن بأخبارنا ابتداء فإذا عارضونا بأخبارهم التي فيها الترتيب حملناها على الاستحباب وأخبارنا على الجواز، وهم لا يمكنهم استعمال أخبارنا. ولنا ما روي عن عمار أنه قال لعمر رضي الله عنه: بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجة فأجنبت ولم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له، فقال: «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بيده على الأرض فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه، ويمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه»، فدل هذا على جواز ترك الترتيب؛ لأنَّه لا أحد يفرق بين الوضوء والتيمم في وجوب الترتيب أو تركه، فإذا ثبت جوازه في التيمم ثبت جوازه في الوضوء.

فإن قيل: رأينا في الآية تقديم بعض الأعضاء على بعض، ورأينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رتب، وأجمعت الأمة على أن من تَوَضَّأَ ورتب أجزأه، ولم يجمعوا على أن من ترك الترتيب أجزأه فعلمنا أن المراد من الآية الترتيب؛ إذ لو كان المراد غيره لما أجمعوا عليه؛ إلاَّ أنهم لا يجمعون على الخطأ الذي هو خلاف المراد. قال القاضي أبو الحسن: وأَوَّل ما سمعت هذا الفصل من القاضي أبي حامد - رَحمَه الله - بالبصرة وكلمته عليه بما أذكره فقلت له: هذا ينقلب عليك مثله في الموالاة وترك التفرقة، وفي مسح بعض الرأس؛ وذلك أن الله تعالى أمر بغسل هذه الأعضاء، وبمسح الرأس وتَوَضَّأَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَالى، ومسح بجميع رأسه، وأجمعت الأمة على أن من فعل خلاف ذلك أنه يُجْزِئه، فعلمنا أن المراد بالآية ما أجمعوا عليه؛ لأنهم لا يجمعون على خلاف المراد. وهذا حذر النعل بالنعل. على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رتب تارة , وترك الترتيب تارة، نعلى ما رويناه كما رُوِيَ عندك أنه مسح جميع رأسه تارة ومسح ببعضه

تارة ولم يكن إجماعهم على أحد الفعلين أنه يجزئ، واختلافهم في الفعل الآخر أنه لا يجزئ يسقط عندك جواز ما اختلفوا فيه. دليل آخر: وهو أننا وجدنا الصحابة قد أجازوا ذلك ولا نجد بينهم اختلافاً فيه. فمنهم على وعبد لله بن مسعود وابن عباس. قال علي وابن مسعود: إذا أتممنا وضوءنا فلا نبالي بأي أعضائنا بدأنا.

وقال ابن عباس: إذا أسبغت وضوءك فسواء بدأت برجليك أو بيديك.

روى هذا الحديث ابن الجهم في كتابه عن مجاهد عن ابن عباس.

إذا كان هذا إجماع الصحابة مع روايتهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الترتيب، دل على أن ترتيبه حيث رتب استحباب، وأنه أحب أن يطابق لفظ الآية؛ للترتيب حيت ترك ليدل على الجواز. فإن ذكروا آيات في كتاب الله تدل على الترتيب، ذكرنا الآيات التي يجوز فيها ترك الترتيب، مثل قوله - تعالى - {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، وأنه لو قدم المساكين على الفقراء جاز. على أن الواو إذا وقعت للترتيب، فإنما تصير إليه بدلالة، وإلا فالظاهر أن موضوعها للجميع على ما بيناه. فإن قيل: فقد روي جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف وخرج من المسجد وبدأ بالصفا، وقال: «ابدؤوا بما بدأ

الله به وقوله «ابدؤوا»، لفظه الفظ أمر يقتضي أن يكون كل موضع بدأ بذكر الوجه فالبداءة به فعل ولجب بظاهر الأمر. قيل: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الواو لو كانت في لسانهم للترتيب لعقلوا من قوله - تعالى - {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}، أن الصفا مقدم، ولم يحتج أني قول لهم عليه السلام: «ابدؤوا بما بدأ الله»؛ لأن الواو في لسانهم للترتيب على ما تذكرون، فلما قال لهم: بدؤوا بما بدأ الله به»، علم أن الواو للجمع، وإنما أريد في هذا الموضوع المعقول في لسانهم. والجواب الآخر: هو أن قوله عليه السلام: «ابدؤوا بما بدأ الله به»، مقرن بسبب، هو الصفا وإذا خرج الخبر مقروناً بسبب حمل عليه، ولم يحمل على عمومه، هذا مذهب مالك - رَحمَه الله -.

ثم لو ثبت العموم فيه لحملناه عليه إلا أن تقوم دلالة، وقد ذكرنا في الوضوء دلائل تُجوز ترك الترتيب فيه، والبداءة بغير ما بدئ به في اللفظ. وأيضاً من جهة القياس قد اتفقنا على أنه لو قدم غسل اليسار على اليمين في الوضوء أجزأه؛ لعلة أنها طهارة تبيح الصلاة، فجاز تقدمة بعض الأعضاء فيها على بعض. وأيضاً فقد اتفقنا على لطهارة من الحيض والجنابة، وأن الترتيب لا يجب فيها، والعلة في ذلك؛ أنها طهارة تنتقض بالحدث، وكذلك الوضوء. فإن قيل: قياسكم على تقدمة اليسار على اليمين غير صحيح؛ لأن اليدين في حكم اليد الواحدة، وكذلك الرجلان؛ بدليل أنه لو لبس خفيه على طهارة ومسح عليهما جاز أن يصلي، ولو نزع أحد خفيه انتقص الطهر في قدميه ويصير كأنه نزع خفيه جميعاً ولا يجوز أن يمسح عليه ي، كما لو تطهر في الابتداء ولبس أحد خفيه لم يجز أن يمسح عليه، فإذا كانا في حكم العضو الواحد لم يعتبر فيه الترتيب، وليس كذلك الأعضاء في الطهارة؛ لأن حكم كل عضو منفرد عن الآخر فوجب أن يرتب.

وأما القياس على غسل الحيض والجنابة فلا يصح؛ لأن الغسل لا يتبعض، فجميع البدن في الجنابة كالعضو الذي لا يتبعض، وليس كذلك الوضوء؛ لأنَّه ذو أركان فكل عضو فيه كالغسل من الجنابة، وليس في الغسل موضع ترتيب. قيل: أما قولكم: إن اليدين في حكم العضو الواحد، وكذلك الرجلان فغلط؛ لأن الوضوء لا يصح بغسل أحدهما دون الآخر، كما لا يصح بغسل عضو دون العضو الآخر مع القدرة، فأما المسح على الخفين فإنما هو رخصة، جُوِّز على صفة، هي أن تكون الرجلان مستورتين في الخفين بعد طهارة كاملة، ولم يرخص له أن يمسح على واحدة ويغسل الأخرى؛ لأن الرجلين عضو واحد، ألا ترى أن الرخصة لم تدخل في اليدين بالمسح، وقد رأينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رتب فيهما فبدأ باليمين على الشمال، كما بدأ بغسل الوجه عليهما. وأما الغسل من الحيض والجنابة فقد رتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، فغسل يديه، ثم غسل ما به من الأذى، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم خلل أصول شعره بالماء، ثم أفاض على جسده، وهذا كله ترتيب كما رتب في الوضوء، ولو ترك عضواً من جسده لم يغسله لم تتم طهارته، كما لو ترك عضواً من أعضاء الوضوء لم يجزئه، فليس لكم أن تجعلوا اليدين ولا غسل الحيض والجنابة في حكم العضو الواحد إلا ولنا أن نجعل

الأعضاء كلها في حكم العضو الواحد؛ لأن الطهارة لا تتم إلاَّ بالجميع. دليل لنا لو كان الترتيب فرضاً في الطهارة لكان حكمه حكم النية، والماء الطاهر الذي لا يسقط بوجه إلاَّ لضرورة أو نيابة شيء عنه فلما جاز للمحدث بالغائط والبول الغوص في الماء - الذي يسقط معه الترتيب ويكون مختاراً - ولا تسقط معه النية والماء الطاهر علمنا بهذا أنه ليس بفرض. فإن قيل: على هذا الفصل إنه إذا غاص في الماء لم يحصل الوضوء دفعة وَاحِدَة - عندنا - بل يترتب من غير فعل، ومعنى هذا: أنه إذا انغسل في الماء فقد عم الماء جميع بدنه، وكل جزء وقع منكساً لم يعتد به، وكل جزء وقع مرتباً، فهو الذي صحح الوضوء، وهذا معنى الترتيب - عندنا -. وعلى أن هذا يلزمكم في المصلي منفرداً عليه فرض في قِرَاءَة فاتحة الكتاب، كالنية وتكبير الإِحْرَام ثم إن القراءة تسقط عنه خلف الإمام، ولا تسقط ولا تَكْبِيرَة الإِحْرَام، فينبغي أن لا تكون القراءة على المنفرد فرضاً، وكذلك يلزمكم في الموالاة؛ لأنها لو كانت فرضاً في الوضوء لكانت كالنية والماء الطاهر، فلا يسقط حكمها بالنسيان كما

لم يسقط حكم النية والماء الطاهر. قيل: أما قولكم في الانغماس في الماء يقع مرتباً فهذا دفع المشاهدة؛ لأنَّه إذا غاص فيه لم يسبق أحد الأعضاء صاحبه في الغسل ولم يتقدم في الفعل بعض الأعضاء على بعض، فإن جعلتموه الرتب حكماً فجوزوا تقدمه اليدين على الوجه، واجعلوه مرتباً حككماً ونحن نعلم أن المنغمس في الماء دفعة ما حصل غسل أعضائه إلا دفعة، لم يتقدم الفعل في أحد الأعضاء على صاحبه، فقد سقط الترتيب الذي هو الداءة بعضو على عضو فعلا. فأما المنفرد بالصلاة فعليه القراءة، فإذا صلى مأموناً ناب الإمام منابه في القراءة، وليس ينوب على الترتيب في الانغماس في الماء شيء. وأما الموالاة فالنسيان لها ضرورة، كما لو قام إلى خامسة ناسياً لم يفسد، وكلك - لو أكل ناسياً في صومه لم يفسد، ولو تعمد لأفسد وإذا انغمس في الماء فقد ترك الترتيب متعمداً مختاراً قد سقط السؤال. ونقول أيضاً: إنها طهارة للصلاة فوجب أن لا يستحق الترتيب فيها، أصله إزالة النجاسة. ونقول أيضاً: إن الفرض إذا سقط دفعة واحدة لم يستحق الترتيب فيه، أصله الزكاة؛ وذلك أنه لو كان معه شيء من الزكاة فدفعه

إلى مستحق أجزأه عن فرضه، ثم الترتيب فيه غير مستحق؛ لأنه لو فرق ذلك القدر من الزكاة جزءاً جزأه، فقدم وأَخَّرَ أجزأه، فكذلك فرض الطهارة في الانغماس في الماء يسقط دفعة وَاحِدَة، فلا يستحق الترتيب فيه إذا فرق. فإن قيل: فإنها عبادة ترجع إلى شطرها حال العذر، فوجب أن يكون الترتيب فيها مستحقاً كالصلاة. وأيضاً فإنها عبادة تجمع أفعالاً متغايرة نقلاً وفرضاً فوجب أن يكون فيها ترتيب مستحق، كالحج لا يجوز تقديم الطواف فيه على الوقوف بعرفة. وأيضاً فإنه فعل معلق أوله على آخره، ويفسد أوله بفساد آخره، فأشبه الصلاة لا يجوز تقديم السُّجُود على الرُّكُوع. قيل: لم يكن المعنى فِي الصَّلاَةِ ما ذكرتموه، وإِنَّمَا المعني فيه: أنها عبادة لا يجوز تعمد تفرقتها على وجه؛ لاتصال نظامها، وليس كذلك الوضوء؛ لأنه لو فرقه عامداً على وجه أجزأه. وعلى أنا نقيس ذلك على الصلاة فنقول: إذا جاز أن يسقط فرض الوجه في الوضوء مع بقاء الفرض على الْيَدَيْنِ أو غيرهما لم يستحق فيه الترتيب، كالصلاة والزكاة، أو الصوم والزكاة لما جاز أن يسقط فرض الصلاة عنه، وفرض الزكاة والصوم باق عليه، وقد يسقط عنه فرض الصلاة عليه باق لم يستحق بينهما ترتيب، وكذلك

إذا اجتمعت صلوات كثيرة، وقد ذكر أصحابنا أن في الصلاة موضع ترتيب - وقدم لجاز؛ وذلك أن الصاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد فرض وهو بعد قول: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فلو قدم قوله: اللهم صل على محمد، على ما قبله أجزأه. واما قياسهم على الحج؛ فإن أرادوا أن يكون في الوضوء ترتيب مستحق، فنحن نقول فيه بتقديم النية والماء الطاهر، كما نقول: إن النية والإحرام تتقدمان في الحج، وفي الحج مواضع قد رتبت ويجوز تأخير ما قدم فيها، ألا ترى أن السعي - عندنا وعندهم - فرض، وسنته أنَّ يكون عقيب طواف القدوم، فلو أخره حتى يوقفه عقيب طواف الفرض جاز ولم يفسد حجه.

ولقياساتنا فضل الترجيح من وجوه: منها: أنها تستند إلى أقوال الصحابة في جواز ترك الترتيب في الطهارة. ومنها: أن الرد إلى الجنس من الطهارة أولى، ورد ما تجوز التفرقة فيه على وجه إلى مثله أولى، ورد ما يراد لغيره إلى ما يراد لغيره أولى من رده إلى ما يراد لنفسه، ونحن قد رددنا الوضوء إلى الغسل وإلى الغسل إزالة النجاسة، ورد ما يسقط إلى بدل إلى مثله أولى من رده إلى ما لا يسقط إلى بدل، ورد ما ينوب عنه فيه غيره إلى مثله أولى من رده إلى ما لا يجوز ذلك فيه؛ لأن الإنسان يجوز أن يوضئه ويغسله غيره، ويزيل عنه النجس مع القدرة، ولا يجوز ذلك فِي الصَّلاَةِ والحج، وبالله التوفيق. فإن قيل: فإنها عبادة تجمع أشياء متغايرة، تتقدم على الصلاة للصلاة فوجب إذا لم يرتبها ألا يعتد بها، أصله الأذان. قيل: هذا منتقض؛ لأن غسل الجنابة واستقبال القبلة والطهارة، جميع ذلك عبادة تجمع أشياء متغايرة تتقدم على الصلاة

للصلاة، ومع هذا [أن] لو قدم الطهارة، ثم غسل ثوبه، أو بدنه من النجاسة، ثم استقبل القبلة جاز، وكذلك لو قدم استقبال القبلة، أو قدم غسل النجاسة. فإن قيل: هذه عبادات لا عبادة واحدة. قيل: كذلك غسل الأعضاء، كل واحد منها غسله عبادة، والطهارة عبادات، فإن أردتم أن الطهارة لا تتم إلا بجميعها، قلنا لكم: الصلاة لا تتم إلا بإزالة الأنجاس، واستقبال القبلة، والطهارة، كما لا تتم إلا بغسل الأعضاء كلها. فإن جعلتموها عبادة واحدة [فكذلك ما ذكرتموه، وإن جعلتموها]، فكذلك ما ذكرناه. على أن ردّ الوضوء إلى غسل الجنابة أولى منه إلى الأذان؛ لأنَّه لو أسقط الأذان مع القدرة لصحت صلاته ولو أسقط الوضوء مع القدرة لم تصح، وكذلك ما ذكرناه من غسل النجاسة واستقبال القبلة والطهارة، ولو أسقط واحداً منها مع القدرة وعدم العذر لم يصح، وليس كذلك الأذان، والله أعلم.

[10] مسألة

[10] مَسْأَلَة تخليل اللحية في الطهارة من الجنابة ليس بمفروض. ورَوَى ابن وهب عن مالك - رَحمَه الله - أنه في الغسل من الجنابة واجب، غير أن إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر ليس بمفروض. وقال الشافعي: التخليل مسنون، وإيصال الماء إلى البشرة مفروض في الجنابة، مثل أن يغلغل الماء في شعره أو يبله في الماء حَتَّى يعلم أنه قد وصل إلى البشرة.

والدليل لقولنا: قوله -تعالى - {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، ولاغتسال معقول؛ فإذا غسل ظاهر لحيته مع سائر بدنه فهو كغسله ظاهلا وجهه، ويقال: قد اغتسل، وإن لم يصل الماء إلى ما تحت شعره. وقوله -تعالى - {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، مثل ذلك، فإذا اغتسل قيل: قد اغتسل وتطهر. وأيضاً قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ذر: «فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك»، إنما يتوجه إلى ما ظهر من الجلد، وهو الذي يمكنه إمساسه بالماء الذي يكون في يده، ويسمي به غاسلاً ونحن نعلم أن المماسة باليد بالماء لا يمكن الماء تحت الشعر حتى يكون به غاسلاً، وإنما تبلغ يده مبلولة إما ماسحاً أو ماسًّا غاسلاً، والذي أخذ عليه أن يكون غاسلاً بقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}. فإن قيل: الخبر حجة لنا؛ لأن النبي عليه السلام قال: «فأمسسه جلدك»، فلم يعقل منه غير المس. قيل: يحتاج أن يكون ماسًّا لكل جزء من الجلد بالماء لا بالبلل، ومع الغسل يحصل كل جزء، وداخل اللحية لا يحصل في الغالب مماسًّا بالماء، وداخل اللحية لا يحصل ف الغالب مماسًّا بماء، ولكن بالبلل فعلم أن المراد الجلد الظاهر الذي يحصل في الغالب على هذه

الصفة بفعل اليد فيه بِالْمَاءِ. وأيضاً قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعرة جنابة وأنقوا البشرة» , وقد علمنا أن ما تحت الشعر لا يمكن غسله، وأن ما بين الشعر الكثيف لا يباشر به وإِنَّمَا يباشر بالجلد الذي يبين من الشعر، والإنقاء أيضاً مبالغة في الغسل، وهذا لا يكاد أن يتأتى إلاَّ في الظاهر من الجلد الذي يتناوله اسم الغسل على ما نقوله في الدلك بِالْمَاءِ وأيضاً قوله عليه السَّلام: «الأعمال بالنيات». وهذا إذا اغْتَسَلَ ونوي فقد حصل العمل بالنية. وأيضاً قوله عليه السَّلام: «وإِنَّمَا لامرئ ما نوى». وهذا قد نوى غسل الجنابة بما فعله فله ما نواه. وأيضاً قوله عليه السَّلام: «لا صلاة إلاَّ بطهور». وهذا قد فعل ما به متطهراً ويُسَمَّى فعله طهوراً وصلاة. فإن قيل: إننا لا نسمي هذا الغسل طهوراً حَتَّى يصل الماء إلى ما تحت لحيه. قيل: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمَّاه طهوراً بِقَوْلِهِ: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت».

وقيل لأم سلمة: «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضي الماء على سائر جسدك فإذا أنت قد طهرت»، وهذان الخبران يصلح أن يستدل بهما ابتداء، ويصلح أن يعارض بهما السؤال الذي تقدم. وأيضاً قوله عليه السلام: اصلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وهذا إذا اغتسل على ما قوله، وصلى بقراءة فاتحة الكتاب فقد حصلت له الصالة بحكم الظاهر. فإن قيل: فقد روي أنه عليه السلام كان يخلل أصول شعره بالماء في غسل الجنابة. قيل: ليس في التخليل أكثر من أنه يبل الشعر؛ لأنَّه ربما لم يبتل، وخاصة الشعر الكثيف المتجعد، فإذا خلله وصل الماء فابتل الشعر الذي يتجمع ويخفي، وقد قال: «بلوا الشعر»، فأما أن يكون في الخبر أن غسل الجلد الذي بين أصول الشعر فليس فيه، ولو صح ذلك لكان مستحبًّا، كما روي أنه توضأ واغتسل، ليس الوضوء

واجباُ؛ بدليل قوله: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت». وبما قاله لأم سلمة. فإن قيل: الطهارة عليه بيقين، ولا تسقط إلاَّ بيقين، وهذا إذا لم يوصل الماء إلى ما تحت اللحية فلسنا على يقين من طهارته. قيل: الذي تعلق عليه ما يُسَمَّى به مغتسلاً ومتطهراً، فإذا فعل ذلك تناوله الاسم، وحصلت له الصلاة التي لها تراد الطهارة بقول: «لا صلاة إلاَّ بطهور». فإن قيل: الصلاة عليه بيقين فلا تسقط إلاَّ بدليل. قيل: قد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب». وهذا إذا اغتسل ولم يوصل الماء إلى ما تحت لحيته، وصَلَّى وقرأ فقد أتى بالصلاة التي فيها فاتحة الكتاب. فإن قيل: فقد فال: «لا صلاة إلاَّ بطهور» قيل: هذا قد فعل ما يُسَمَّى طهوراً في اللغة والشرع، على ما ذكرناه عنه عليه السَّلام في فعله، وفي قوله لأم سلمة. وكل ظاهر يأتون به فلنا من الظواهر ما يعارضه.

دلائل القياس: اتفقنا على أنذ لك في الوضوء غير واجب، والمعنى فيه: أنَّها طهارة تبيح الصلاة، أو تنتقض بالحدث، أو تجب عن حدث فكذلك غسل الجنابة. وأيضاً قد اتفقنا على على أن داخل العينين لا يجب غسله؛ بعلة أن دونه سائر من نفس الخلقة، أو بعلة أنه باطن بطوناً مستداماً في الأغلب. وأيضاً فإنا اتفقنا على أن داخل العينين لا يجب غسله، ونذكر العلة التي في العينين. فإن قيل: هذا منتقض بتخليل أصابع الرجلين. قيل: إذا كانت متلاصقة لم يجب غسل ما بينها. فإن قيل: يفسد بالخفين. قيل: قد احترزنا وقلنا: بطونا مستداماً، وقلنا أيضاً، دونه ساتر من نفس الخلقة. فإن قيل: يفسد بما تحت ثدي المرأة، وبالسلعة إذا نزلت فإنه يجب غسل ما تحت ذلك. قيل: هذا لا يلزم على اعتلالنا؛ لأن ثدي المرأة إذا كان منكسراً

على صدرها فليس يحصل ما تحته باطناً بطوناً مستتداماً؛ لأنها إذا نامت أو مشت أو التوت زال عن موضعه، وليس كذلك ما تغطيه اللحية وداخل الفم والأنف والعين. فإن قيل: فإنَّ شعر اللحية طارٍ، وليس كذلك داخل الفم والعين فينبغي أن يكون الشعر كالخف. قيل: أليس الأمرد الذي لا لحية له يجب عليه غسل ذقنه في الوضوء والجنابة، ثم يسقط غسله في الوضوء إذا غطَّاه الشعر؟ فينبغي أن يسقط في الجنابة إذا غطاه الشعر، وإن كان طارئاً فيهما. فإن كان المخالف مِمَّنْ يوجب ذلك في الوضوء والجنابة، قلنا: القياس على داخل العين بما ذكرنا من العلة. فإن ذكر هذا السؤال في الشعر وأنه طار. نقضنا عليه ذلك بالمسح على العمامة في الوضوء؛ لأنه يجيزه، والعمامة طارئة. فإن فصل بينهما بأن العمامة لا تثبت دائماً مع طريانها. قيل: فقد صار ثبوت الشعر ودوامه مع طريانه يشبه الشعر الذي يخرج في العين. فإما أن توجب غسل شعر العين وما تحته من العين،

كما توجب في الشعر الظاهر الخارج، أو تسقط الشعر الظاهر كما أسقطت غسل شعر العين؛ فيجيء من هذا أن غسل الشعر في مسألتنا يسقط فضلاً عما تحته، أو يجب غسل اللحية وما تحتها فيجب غسل الشعر من العين، وهم لا يوجبون ذلك، ففسد الاعتلال بأنه طار. فإن قيل: إن شعر العين الذي ينبت فيها -أعني في داخلها - لو لم ينبت لما وجب غسل ما تحته، وليس كذلك الشعر الذي على البشرة. قيل: نحن قد أفسدنا الاعتلال، والفرق مع النقض والفساد لا يضر. على أننا نحن أيضاً نقول: إن داخل الأنف لو لم ينبت فيه شعر لما وجب غسله، وهو قول الشافعي فكذلك لا يجب غسل الشعر الذي فيه، ويصير الشعر الظاهر متردداً بين أصلين: هما: الشعر الذي داخل الأنف والعين، وبين الأشياء التي تطرأ كالجبائر والخف، فرد ما تحت الشعر إلى من رده إلى غيره، ورد ما يثبت بعد طريانه إلى ما يثبت من شعر الأنف والعين أولى، وبالله التوفيق.

ونقول أيضاً: إنه شعر يستر ما تحته في العادة فوجب أن ينتقل الفرض إليه، أصله الوضوء. هذا على الشافعي. والمزنيُّ يوجب إيصال الماء في الوضوء والجنابة إلي البشرة.

[11] مسألة

[11] مَسْأَلَة عند مالك، وأبي حنيفة وجميع الفقهاء، أن المرفقين تدخلان في غسل الذراعين في الوضوء. وذهب زفر بن الهذيل إلى أنه لا يجب غسل المرفقين، قال: لأنَّ الله -تعالى - قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، فأمر بغسلهما إلى المرفقين، وجعلهما حدًّا، والحد لا يدخل في المحدود، كقوله - تعالى -: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، فجعل الليل حدًّا للصوم، ثم لم يدخل شيء من الليل فيه، وكما يقول: دار فلان تنتهي إلى دار فلان، فتكون دار فلان حدًّا لها، ولا تدخل فيها، فكذلك ههنا.

والدليل لقولنا: قوله تعالى -: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وأن الله -تعالى - لما أراد منا استيفاء الغسل إلى هذا الحد، وعلم أنه لا يمكن تكلف إخراج الْمِرْفَقَيْنِ عنه لمقاربته، وأنَّه لا فصل بينهما أوجب غسل الْمِرْفَقَيْنِ. كما أنه لما لم يكن بين النهار والليل فصل وجب إدخال جزء من اللَّيْل في حكم الصيام بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وكذلك لما لم يكن بين اللَّيْل والْفَجْر فصل وجب أن يدخل جزء من اللَّيْل في ابتداء الصيام في باب النية والإمساك، حَتَّى يحصلا مقدمين على الصوم الذي يجب من طلوع الْفَجْر؛ لأنه لو تكلف ابتداء الإمساك: حين يطلع الْفَجْر لشق ولم يمكن، فكذلك في الْمِرْفَقَيْنِ مع الذراعين. فإن قيل: فينبغي ان يكون الوجب إدخال جزء منه لا جميعه كما ذكرتم في اللَّيْل والنهار. قيل: المرفق، فتكلف إدخل بعض المرفق دون بعض يشق ولا يمكن وإذا لم يمكن، استيفاء الذراع إلاَّ بجزء من المرفق، ويشق تمييز ذلك الجزء منه لقلته في نفسه صار جميعه في حكم الجزء من اللَّيْل.

وقد حكي عم المبرد أنه قال: لغة العرب أن الحد إذا كان من جنس المحدود داخل الحد في المحدود، كقولهم: بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف الآخر، دخل الطرف الآخر في البيع، وإن كان قد جعله حدًّ؛ لأنَّه من جنس الثوب، وإن كان الحد من غير جنس المحدود لم يدخل في المحدود، كقوله -تعالى - {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، لما لم يكن الليل من جنس النهار لم يدخل فيه، كذلك أيضاً دخل المرفق فيه؛ لأنه من جنس المحدود. قال القاضي أبو الحسن: وعندي أن إلى إذا كانت في موضعها حقيقة للغاية فلا فصل بين الجنسين وغيره إذا لم يمكن الفصل بينهما عند انتهاء الغاية فأما في المواضع التي تكون إلى بمعنى مع، كقوله - تعالى -: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}؛ أي: مع الله، فهي في هذا الموضع

ليست للغاية، ولا تكون حقيقة فيه؛ لخروجها عما وضعت له. وفي الآية أيضاً دليل آخر، وهو أن اسم اليد يتناول جميعها إلى الإبط، بدليل ما رُوِيَ عن عمار بن ياسر أنه لما تَيَمَّمَ مسح إلى الآباط؛ امتثالاً لما اقتضاه الاسم؛ أعني اسم اليد، وعمار من وجوه

أهل اللغة فإذا تقرر أن اليد اسم لها لها إلى الآباط، ثم أمر الله -تعالى - بغسل اليدين، اقتضى الاسم غسلهما إلى الإبطين، واستثنى مما أوجبه الاسم ونُقص منه بقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ}، فبقي المرفق مغسولاً مع الذراعين بحق الاسم؛ لأن الاستثناء لم يلحقه ولم ينته إليه، هذا إن سلمنا أن الحد لا يدخل في المحدود فقد صح ما قلناه. ثم يقوي ما ذهبنا إليه: ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غسل يديه، ثم أدار الماء على مرفقيه، وقال في الحديث: «هذا وضوء لا يقبل الله

الصلاة إلاَّ به». لما تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وهذا يمكن أن يجعل دليلاً مبتدأ، فإذا أورد عليه الكلام في الحد ذكر فيه ما تقدم. ويَدُلُّ على ذلك أيضاً: ما رُوِيَ عن جابر بن عبد الله وأنه قيل له: أرنا كيف كان وضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأراهم ذلك، وفيه: أنه لما بلغ الْمِرْفَقَيْنِ أدار الماء عليهما، وهو قول عدد من الصحابة، وظاهر أن فعل النبي عليه السَّلام واجب إلاَّ أن تقوم دلالة. ويجوز أن تجعل إلى ههنا بمعنى مع؛ بدليل ما رَوَى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أدار الماء على مرفقيه، وبخبر جابر.

[12] مسألة

[12] مَسْأَلَة والبياض الذي بين شعر اللحية والأذن ليس من الوجه، ولا يجب غسله معه في الوضوء. وذكر الطحاوي أنه من الوجه. وقال الرازي في شرحه إنه كان يجب قبل نبات الشعر غسله؛ لأنه من الوجه، فلا يسقط حكمه بنبات الشعر في غيره. قال: وكان الكرخي يحكي عن

البردعي أن حد الوجه من قصاص شعر الرأس إلى أصل الذقن إلى شحمة الأذن وكذلك قول الاشفعي. وهذا الذي ذكره أنه كان يجب غسله قبل نبات الشعر ليس كذلك، وإنَّما كان يجب غسل الموضع الذي نبت علي الشعر فأما ما وراء ذلك فلم يجب غسله مع الوجه. والدليل لقولنا: قوله -تعالى -: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}،

والوجه عند العرب ما وقعت المواجهة به، ولا تقع في غالب الحال بذلك الموضع. يبين ذلك: أن على المرأة المحرمة أن تكشف وجهها في الإحرام ونحن نعلم أن القناع يغطي ذلك الموضع ولا تكون عليها فيه فدية، ولو غطت موضعاً من وجهها لكان فيه الفدية، وكذلك الذي يجوز لها أن تظهر في الصلاة وجهها، وهو ما ظهر من القناع، وإذا كشفت هذا القدر قيل: قد كشفت وجهها حقيقة. ومن جهة الاستدلال: أن الذي ستره الشعر لما لم يجب غسله، كان الذي وقاه أولى ألا يجب، إما لأنَّه إلى الرأس أقرب، أو لأن الشعر قد حال بينه وبين الوجه. فإن قيل: فإن المرأة إذا لبست الوقاية تغطي رأسها، وانكشف الباقي، فينبغي أن يكون من الوجه، قيل: فيلزمك أن تكون الأذنان من الوجه، وليس الأمر كذلك عندك وهما ينكشفان مع الوجه، ولو فعلت

ذلك في الصلة لم يجز ذلك - عندنا - لأن رقبتها وأذنيها تنكشف. فإن قيل: فلم تقل في هذا كما قلت في المرفقين مع الذراعين، وأنه لما لم يمكن الفصل بينهما لتقاربهما وجب أن يغسل مع الوجه، كالمرفقين. قيل: الفصل بينهما أن اسم اليد يقع من أطراف الأصابع إلى المناكب حقيقة، وكل موضع منه يتناوله اسم يد حقيقة وليس كذلك الوجه مع الرأس، بل جعل بينهما فصل، لا هو وجه حقيقة ولا من الرأس حقيقة، أن الله -تعالى - ذكر غسل الوجه وأفرده؛ لأنَّه المواجه به، ثم عقبه بغسل اليدين، ثم اتى بمسح الرأس بعد ذلك، فعلم بهذا أن هذا مفرد عن هذا وليس كذلك الذراع مع العضد؛ لأنَّ الاسم الواحد يتناولها حقيقة، فبان الفصل بينهما. فإن قيل: فيلزمك هذا في النهار مع الليل. قيل: لا يلزم، لأن الذي جُعل آخر النهار هو غيبوبة الشمس وهي التي جعلت أول الليل فلا فصل، فكأنَّه مشترك بينهما، فلم يمكن الفصل بينهما، وبين الوجه والرأس فصلٌ بيّن فلم يلزم ما ذكرتموه، والله أعلم.

[13] مسألة

[13] مَسْأَلَة غسل القدمين في الوضوء مع القدرة عليه فرض عند مالك، وأبي حنيفة والشافعي، وجميع الفقهاء، وبه قال أنس بن مالك، وربيعة، والأوزاعي، وأهل الشام، وعبد الله بن الحسن البصري وأهل البصرة وسفيان الثوري، وأبو ثور، وأحمد

وذهب ابن جرير الطبري إلى أن الغسل يجوز، ومسح جميع القدمين يجوز، الإنسان مخيَّر بين الغسل والمسح على هذه الصفة.

وذهب الشيعة إلى أن الفرض هو المسح، ولا يجوز الغسل، وإن مسح البعض أجزأه.

والدليل لقولنا: قوله -تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، فنصب الرجلين، وحدّهما إلى الكعبين، كما نصب اليدين وحدّهما إلى المرفقين. فإن قيل: فقد قرئ: {وَأَرْجُلَكُمْ}، بالخفض، فنسق على المسح بالرأس فينبغي أن يكونا ممسوحين كالرأس، ويكون العطف على ما يليه من الرأس أولى من عطفه على اليدين. قيل: قد حصلت القراءتان جميعاً حجة لنا، فالنصبُ والتحديدُ إلى الكعبين ظاهرٌ في العطف على اليدين، ومن قرأ بالجرِّ خفض بالمجاورة لأن من شأن العرب أن تتبع اللفظ اللفظ على المجاورة، كقوله: هذا جُحرُ ضبٍّ خرب، ومعناه: خربٌ لأنَّه صفة للجحر،

وكقول الشاعر: لقد كان في حولٍ ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم فخفض الثواء على مجاورته الحول. فإن قيل: حن نعارضك بمثل هذا فنقول: من قرأ: {وَأَرْجُلَكُمْ}، بالنصب، إنما عطفه على موضع الرأس؛ لأنَّ موضع المجرور منصوب ألا ترى قول الشاعر: معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديد فنصب الحديد نسقاً على موضع الجبال؛ لأن موضع المجرور منصوب. قيل: إنما تعمل العرب هذا ضرورة، ولولا أن الشاعر عمله ههنا لتقطعت قافيته، وإنما اراد اتباع القافية. ثم لو سلمنا المساواة والمعارضة في القراءتين لكان استعمالنا في الغسل أولى من وجوه:

أحدهما: أن في الآية صريحاً يدل على أن المراد الغسل، وهو أنه قيد الرجلين بالكعبين، كما قيده في اليدين إلى المرفقين، وتقييده إلى الكعبين يقتضي استيعاب الرجلين إلى الكعبين، وهذا يكون في الغسل؛ لأنَّ من يعتبر المسح يقول: إذا مسح ظاهر القدم أجزأه دون الباطن. ووجه آخر: وهو أننا نستعمل القراءتين، فنحمل المنصوبة على غسل الرجلين، والمخفوضة على المسح على الخفين. وأيضاً فجعلها على الغسل أولى؛ لأن فيه المسح وزيادة عليه. ووجه آخر: وهو أن معنا من الأخبار ما لا يحمل غير ما نقول؛ وذلك أنه روي النبي عليه السلام قال للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله، واغسل وجهك ويديك وامسح برأسك، واغسل رجلك»، وهذا موضع تعليم، فذكر فيه أن الذي أمره الله به هو الغسل دون غيره. وأيضاً قوله عليه السلام في الخبر الآخر: «لن تجزئ عبداً صلاته حتى يسبغ الوضوء، فيغسل وجهه ويديه، ويمسح برأسه ويغسل رجليه»، فقوله: «لن يجزئ»، نفي للإجزاء إلا بما ذكره من الغسل، وهذان خبران يصلح الاستدلال بهما في أصل المسالة، ويصلحان لبيان موضع المراد من الآية. ووجه آخر: هو أن الوجه إنما أُمرنا بغسله؛ لكثرة مباشرته

الأشياء من الشموس والغبار والرياح وغير ذلك، وأُمرنا بغسل اليدين؛ لكثرة العمل بهما ومباشرة الأشياء، والرأسُ في أكثر أحواله مغطى، لا يكاد أن يُعمل به شيء ولا يباشر به، فأُمرنا بمسحه تخفيفاً، والرجلان فالسعي بهما وظهورهما أكثر من اليدين وإن كانتا للعمل فلعل عظم الناس تكون أيديهم مغطاة مخبأة، والرجلان أظهر منهما، فلما أمرنا بغسل اليدين كانت الرجلان أولى بأن تكونا مرادتين بالغسل. فإن قال قائل من أصحاب ابن جرير: إن ما ذكرتموه من تقييد الرجلين بالكعبين، وأنه يوجب الاستيعاب فإننا نقول: إن الاستيعاب واجب في المسح كما هو واجب في الغسل. قيل: التخيير إحداث قول ثالث؛ لأنَّ أحداً من الصحابة والمتقدمين لم يحمل الآيتين على التخيير. فإن قيل: معنا أخبار بإزاء أخباركم، وذلك أنَّه روي أن أنس بن

مالك سمع الحجاج يخطب، ويقول: أمر الله -تعالى - بغسل الوجه وغسل اليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين، فقال أنس: صدق الله، وكذب الحجاج. إنما أمر الله -تعالى - بمسح الرجلين فقال: {وَأَرْجُلَكُمْ}، بالخفض، فدل على أن القراءة بالخفض. وأيضاً فقد روي عن ابن عباس أنَّه قال: «غسلتان ومسحتان»،

وروي عنه أنه قال: كتاب الله المسح، ويأبى الناس إلا الغسل، فدل على أن الآية توجب المسح. وروي عن ابن عباس عن علي - رضوان الله عليهما - أنه وصف وضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، وأخذ حفنة فصكها على قدميه في نعليه، وبصك الماء على القدم لا يحصل

الغسل فعلم أنه حكي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مسح. وأيضاً فقد روى حذيفة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى سباطة قوم فبال قائماً ومسح على نعليه.

وروي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمسح على رجليه، فدل على ما ذكرناه. قيل: أما خبر أنس وقوله للحجاج ما قال: فإنما أنكر على الحجاج قوله: أمر الله بغسل الرجلين، فقال: لم يأمر به، وإنما أمر بالمسح، أي أن الكتاب يقتضي المسح ولكن الفرض فيهما الغسل؛ لأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن أن الفرض الغسل. وأما حديث ابن عباس: فقد روي عنه أنه قرأ الآية بالنصب فيكون لما قاله تأويلان. أحدهما: انَّه كان يذهب إليه قديماً ثم رجع عنه فقال: الفرض فيهما الغسل. أو يكون قاله على حسب ما قاله أنس؛ لأنَّ الآية تقتضي المسح، ولكن بين رسول الله أن المراد به الغسل، فالفرض فيهما الغسل. وما ذكروه من حديث على أنَّه أخذ حفنة فصك بها قدميه في

نعليه، فإننا نقول: إن هذا ليس بمسح؛ لأنَّ هذا صب ماء، والمسح هو أن يبل يديه ويمسح بهما على قدميه. وحديث حذيفة ففيه أنه مسح على نعليه، وهم لا يجيزون المسح على النعلين.

وحديث ابن عباس: أنه عليه السلام مسح على رجليه معناه أنَّه مسح على خفيه؛ بدليل قراءة ابن عباس بالنصب، وبالدلائل التي ذكرناها. على أن هذا كله حكاية أفعال، والأفعال لا تقع إلا على وجه واحد، فيجوز أن يفعل الشيء في وقت لعذر، وما كان فيها من الأقوال فهي محتملة، وقد روينا بإزاء هذه الأخبار ما هو أقوى منها، وذلك انَّه روي عن عبد الله بن زياد، قال: مر بنا أبو هريرة ونحن نتوضأ، فقال: أحسنوا الوضوء، قال أبو القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ويل للأعقاب من النار». وروت عائشة أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ويل للأعقاب من النار». فتواعد على ترك غسل العقب، فلو كان يجوز له تركه لم يكن متواعدً عليه؛ لأن الشيعة تقول: إذا مسح ظاهر القدم ولم يمسح على عقبيه جاز. وروى عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه قلت يا رسول الله:

كيف الوضوء؟ فقال: «أسبغ وضوءك وخلل بين الأصابع»، وهم يقولون: إذا مسح ظاهر القدم أجزأه. وهذه الأخبار لا تلزم الطبري؛ لأنه لا يجوز في المسح ترك شيء من القدم حتى يستوفيه كالغسل، ولكن الخبرين اللذين ذكرتهما من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي: «توضأ كما امرك الله»، إلى أن قال: «واغسل رجليك»، وقوله: «ويغسل رجليه» يلزمان الطائفتين جميعاً. ونحن وإن قلنا: إن الفعل يقع به البيان كما يقع بالقول، فإننا نقول: إن البيان بالقول أبلغ منه بالفعل؛ لأن الأمر إنما يكون لغير الآمر وهو لا يدخل تحت ما يأمر به، وفعله يخصه، ونحن وإن جعلنا أفعاله

يقع بها البيان لأن القول في باب البيان أبلغ منه لا محالة بلا خلاف بين من تكلم في أصول الفقه، فإذا كان هذا هكذا، فقوله عليه السلام للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله»، إلى أن قال: «واغسل رجليك»، وقوله: «لن تجزئ عبداً صلاته حتى يسبغ الوضوء»، إلى أن قال: «ويغسل رجليه»، ابلغ من فعله عليه السلام، هذا لو تجرد ما روي من فعله المسح فكيف وقد روينا عنه فعله الغسل؟ وعندي أن هذه الطريقة في لزوم هذين الخبرين لا تثبت لهما شيئاً من الأخبار. وأيضاً فإنَّه إجماع الصحابة لأنه روي عن علي وابن عباس وابن مسعود أنهم قرأوا بالنصب، وقال انس: كتاب الله المسح، وبين

رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه الغسل، فدل أنه إجماع منهم. وقد روي عن عثمان وجابر وغيرهما لأنهم كانوا إذا قيل لهم: أرونا وضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكوا وضوءه، وأنه غسل رجليه، وهذه أفعالكما رووا أنه مسح، غير أننا نقول: إنه قد يفعل الشيء تارة يريد به البيان، وتارة يفعله لعذر، وتارة للتعليم إلا

أن البيان بالقول أبلغ على ما بيناه. ونقول: هما عضوان تجب فيهما الدية، أمرنا بإيصال الماء إليهما في الوضوء، فوجب أن يكونا مغسولين مع القدرة كاليدين. أو نقول: هما عضوان تُعُبِّدنا بتطهيرهما في الوضوء، مذكوران بحدٍّ فيهما، فهما كاليدين. أو نقول: الرجل عضو مفروض في أحد طرفي الطهارة، فوجب أن يكون مغسولاً كالوجه. فإن قيل: هو عضو يسقط في التيمم فكان فرضه المسح كالرأس. وأيضاً فإن الخف بدل عن الرجلين فلما كان البدل ممسوحاً فكذلك مبدله. قيل: القياس على الرأس منتقض بالجنب، قد يسقط حكم رأسه ورجليه في التيمم، ثم فرض في ذلك الغسل في الجنابة. وقولهم: لما كان بدله ممسوحاً وكذلك مبدله، باطل بالوجه هو بالتيمم ممسوح، وفي المبدل في الوضوء والجنابة مغسول. ثم لو صح القياس لرجح قياسنا من وجوه: أحدها ما ذكرناه من مباشرة الرجلين بالسعي وظهورهما كالوجه واليدين. ومنها: استناده إلى تعليم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفسيره لما أمر الله -تعالى - به.

ومنها: استنتاده لفعل الصحابة رضي الله عنهم، ومداومتهم على الفعل وحكايتهم لوضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومنها: أن رد المذكور بحد إلى مثله من اليدين أولى. ومنها: أننا نرى أشياء من البدن يجب غسلها في الجنابة، مثل الرجلين، ولا يجوز المسح فيها مع القدرة، ثم تسقطان مع سائر الجسد في الجنابة عند التيمم. وأيضاً: فقد أجمعوا على أنه إذا توضأ وغسل رجليه فقد فعل المراد، واختلفوا فيه إذا مسح، فالتمسك بموضع الإجماع أولى. فإن قيل: ما ذكرتموه أن العرب تتبع اللفظ اللفظ للمجاورة، وأن القراءة بالجر في {وَأَرْجُلَكُمْ}، عطف بها على الرأس للمجاورة، فإنما تعمل العرب ذلك في الموضع الذي لا يلتبس، وها الموضع ملتبس؛ لأنَّه يجوز مسح الرجلين كما يجوز مسح الرأس. قيل: قد رأيناهم يفعلون ذلك، وليس علينا تفصيل المواضع. على أنه لما كان يلتبس قُيِّدت الرجلان بالكعبين كاليدين، فإذا عطف بهما على الرأس للمجاورة لم يلتبس، والله أعلم.

[14] مسألة

[14] مَسْأَلَة ولا يجوز تفرقة الوضوء وغسل الجنابة إلا اليسير منه، فأما إن فرقه حتى طال مقدار ما يجف فيه الماء على وجهه في هواء معتدل لم يجزئن وهو قول الشافعي في القديم. وقال أبو حنيفة: يجوز، وهو قول الشافعي في الجديد. ونحن نوافقهم إذا كان على وجه النسيان ونخالفهم في العمد. ومن أصحاب مالك -رَحمَه الله - من قال: الموالاة مستحبة. والظاهر من قول مالك أنها واجبة على الوجه الذي بيناه.

وبمثل قولنا قال الليث بن سعد، والأوزاعي، وربيعة، وأحمد. وروي هذا عن عمر -رَحمَه الله -. وقول المخالف هو قول سعيد بن المسيب،

وعطاء، والحسن، وسفيان الثوري. والدليل لقولنا: قوله -تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، فأمر بغسل الوجه وما معه من الأعضاء والأمر يقتضي المبادرة والفور، وحقيقة الفور: أن يقع الفعل في الزمان الثاني من الأمر، وإذا خرج بعض الأعضاء فقد غسل بعض ما أمر به على الفور لا كله. وأيضاً فإن العضو الثاني مأمور به كالأول، وتقديره: فاغسلوا وجوهكم واغسلوا أيديكم، فإذا ثبت غسل الأول على الفور، فالثاني مثله على الفور، والدليل في هذه المسألة مبني على الأصل. فإن قيل: فإن الواو للترتيب، فتصير بمنزلة ثم التي هي للمهلة والتراخي.

قيل: الواو للجمع على ما بيناه في مَسْأَلَة الترتيب، ثم مع هذا لو ثبت أنها للترتيب لكان أحسن أن يكون بمعنى الفاء، غير أنها توقع الثاني عقب الأول؛ لأنها للعقب، ولو كانت للترتيب لكان قولكم في أول الاية: إنها للعقب في غسل أل وجه يلزمكم التعقيب في باقي الأعضاء للنسق على أل وجه. وأيضاً: قد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ مرة مرة، وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله صلاة إلا به»، ونحن نعلم أنه عليه السلام لم يغسل وجهه بالغداة، ويديه ضحوة النهار، بل والى تابع بين غسل الوجه واليدين ثم بين أن الله -تعالى - لا يقبل الصلة إلا بذلك الوضوء. وقد روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ، ووالى، وقال: «هذا وضوء لاي قبل الله الصاة إلا به»، وفيه دليلان: أحدهما: أنه فعل ذلك، وفعله على الوجوب. والثاني: أنه أعلمنا من طريق القول أن الله لا يقبل الصاة إلا بوضوء هذه صفته، إلا أن تقوم دلالة. فإن قيل: الرواية أنه عليه السلام توضأ مرة مرة، وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصاة إلا به»، عليه سؤالان.

أحدهما: أنه لم ينقل أنه والى وتابع، وإذا لم يكن في الخبر هذا لم يصح الحجاج به؛ لأنَّه حكاية فعل يجوز أن يكون وقع على الوجه الذي ذكرتموه، ويجوز أن يكون وقع على غير ذلك الوجه، فإذا لم يعلم على أي وجه وقع لم يصح الحجاج به. على أن لو صح أنه والى لم تكن فيه دلالة، لأن قوله: «هذا وضوء» ن إشارة إلى الأفعال، والموالاة من صفات الفعل، وليست من أفعال الوضوء ن فيقتضي أن لاي قبل الله الصاة إلا بتلك الأفعال، لا بأفعالٍ صفاتها تلك الصفات. قيل: أما قولكم: ليس في الخبر أنه والى وتاعن فعليه جوابان: أحدهما: أننا قد روينا في خبر أنه توضأ متوالياً. والجواب الآخر: هو أنه لا يجوز أن يظن عليه السلام غير ذلك؛ لأن التفريق لغير عذر يخرج على طريق اللعب في الدين، وهذا مثله لا يظن به، وإنما يُظهر لنا ما يفعله لِيَسُنّ فَيُتَّبَع، ويُقتدَى به في فعله، ولا يجوز أن يُظن به أنه غسل وجهه بالغداة، وتمم وضوءه عند الظهر، لأن من يرى فعله الثاني يظن أن هذا القدر من الأعضاء يجزئ في الوضوء. وقولكم: إنه أشار إلى الأفعال، والموالاة من صفة ألفعال فإننا نقول: إنه إذا فعل فعلاً على صفة ثم أشار إليه، وقعت الإشارة إلى ذلك الفعل على صفته إلا أن تقوم دلالة. فإن قيل: يحتمل أن يكون عليه السلام فعل ذلك في الوقت المضيق، الذي لو أخر الطهارة أو بعضها حتى خرج الوقت لم يجز، وهذا الوقت لا يمكن فيه إلا الموالاة، فأما إذا كان الوقت متسعاً ن أو لم يدخل جازت التفرقة.

قيل: إنما أراد عليه السلام أن يعلمنا صفة الوضوء الذي لا تصح الصلاة إلا به، سواء توضأنا قبل الوقت أو في أوله أو في آخره، كما علم الأعرابي ذلك، وكما تقولون: إنَّه على الترتيب، ولم يتعرض لوقت الصلاة تضيَّق أو اتسع، وكذلك أعلمنا أن الفرض مرة، والفضل في الثا، ولم يتعرض للأوقات، والتعليم يكون في وقت الصلاة وفي غير وقتها، ونحن أبداً كذلك نعلم الناس كيف يتوضؤون ويصلون، وإن لم يحضر وقت الطهارة ولا وقت الصلاة. ويدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصد تعليمنا صفة الوضوء: قوله لنا: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، ولو كان يختلف لكان يقول: وهذا إذا تضيق الوقت، حتى نعلم الفرق بينهما، كذا ينبغي أني كون التعليم، وإلا التبس علينا، ولم نعلم الفرق بين الوقتين، مع جواز أن يكون هناك وضوء على غير هذه الصفة يقبل الله الصلاة به، فلما لم يبن لنا الفرق علم أن الأمر فيها سواء.

فإن قيل: إن الله -تعالى - أمر بغسل هذه الأعضاء في الآية، فمن غسلها مجتمعة، قيل: قد غسلها وإذا غسلها متفرقة، قيل: قد غسل أعضاءه، فإذا كان يسمى غاسلاً لأعضائه سواء فرق أو جمع فقد امتثل المأمور به. قيل: عنه جوابان. أحدهما: أننا قد ذكرنا أن الأمر يقتضي المبادرة في جملة الطهارة في كل عضو منها. والجواب الآخر: هو أنَّه إذا غسل وجهه وصبر، لا يقال: قد غسل أعضاءه، ولا بد أن يغسل يديه ثم يؤخر الباقي يقال: قد غسل أعضاءه، وأما إذا غسل وجهه وأخر الباقي، قيل: قد غسل وجهه حسب. وقد قلنا: إن التفريق على هذا الوجه يخرج إلى حد التواني واللعب الممنوعين في دين الله ع ز وجل. فإن قيل: فإن الاتفاق قد حصل لو قدم جملة الطهارة من ضحوة من النهار للظهر أجزأه، وهذا قبل توجه الأمر عليه، فإذا جاز تقديم الكل على زمان الأمر كان تقديم بعض الأعضاء على زمان الأمر وتأخير البعض إلى وقت الأمر أولى بالجواز، وتقدير ذلك: أن يغسل

وجهه ويديه، ضحوة النهار، وإذا زالت الشمس غسل الباقي، فيكون قد حصل غسل وجهه ويديه قبل زمان الأمر بغسلهما، وحصل مسح الرأس وغسل الرجلين بعد وقت الأمر فيهما. قيل: هذا لا يلزم؛ وذلك أن الآية خوطب بها من قام إلى الصلاة وهو محدث أيوقع غسل كل عضو على المبادرة، فثبتت الموالاة، وصار لكل عضو في المبادرة به حكم صاحبه، وهو أن يقع الثاني موالياً للأول، فإذا ثبت في الثاني أني كون عقيب الأول، وثبت في الثالث أن يكون عقيب الثاني، فمتى قدمنا الكل لم يتغير حكم كل عضو عما ثبت فيه من موالاته لصاحبه، وليس كذلك إذا قدمنا البعض وأخرنا البعض؛ لأنه يزول الحكم الذي كان يثبت فيه من أن يتلو كل عضو صاحبه. يبين هذا: أن الصلاة الواحدة يتناولها قوله: «صلوا»، ولفظه لفظ الأمر، والأمر يتوجه إلى الركعة الثانية كتوجهه إلى الأولى، وإن الفور في الثانية كهو في الأولى، فلا بد من أن تقع عقيبها ومواليه لها، فإذا ثبت فيها هذا الحكم لم يجز أن يتغير عنه حيث وقعت. ألا ترى أن صلاة الظهر إذا أخر وقتها أوقعت كذلك، متوالية، ولو قدمت في أول وقتها لكانت كذلكن حتى لا يتغير وقت الموالاة فيها ولو جاز إيقاعها قبل الزوال لما جازت إلا كذلك من أجل ما ثبت فيها من الموالاة، فإذا كان هذا هكذا سقط السؤال.

ويجوز أن يستدل في الأصل بكون الحديث حاصلاً بيقين فمن زعم أنه يزول بالوضوء المتفرق فعليه الدليل. وأيضاً فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ بالموالاة، فمن خالف فعله كان مردوداً بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو مردود»، وقد علم أن الفعل لا يمكن رده، فثبت أنه اراد أنَّ حكمه مردود. وأيضاً فإن الصاة عليه بيقين، فلا تستطيع إلا بيقين. فإن استدلوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة إلاب فاتحة الكتاب»، وهذا قد صلَّى بفاتحة الكتاب. قيل: وقد قال: «لا صلاة إلاب طهور»، فينبغي أن يسلم أنه قد تطهر. فإن قيل: فقد قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى»، وهذا قد نوى أن تكون له طهارة. قيل: قوله: «لا صلاة إلا بطهور»، أخص منه؛ لأنَّه يتناول اسم الطهارة بالذكر. على أن معنا القياس فنق ول: هي عبادة تسقط إلى شطرها في

حال العذر، فجاز أن تبطلها التفرقة كالصلاة. أو نقول: هي عبادة تنتقض بالحدث فجاز أن تبطلها التفرقة كالصلاة. أو نقول: هي عبادة تجمع أشياء متغايرة، تتقدم على الصلاة للصلاة، فجاز أن تبطلها التفرقة كالأذان، لو قال: الله أكبر ثم سكت ثم قال: أشهد ألا إله إلا الله، فذكر الشهادة الأولى قبل أن تتم التكبيرة لم يجز. وقولنا: تجمع أشياء متغايرة احتراز من الكسوة، فإنه لو غطى عورته بالغداة، وبعضها عند القيام إلى الصلاة جاز. وقولنا: احتراز من الحج؛ لأنَّه لا يراد للصلاة. فإن قيل: فإنَّه تفريق طهارة فوجب أن لا يمنع صحة الطهارة، أصله التفريق اليسير.

ولأن الحدود طهارة وكفارة، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الحدود كفارات لأهلها»، ثم يصح تفريق الحد؛ لأنَّه لو جلد عشرين سوطاً بالغداة وعشرين بالعشي جاز، فنقول: هو تفريق تطهير فوجب أن لا يمنع صحته أصله الحدود. أو نقول: كل ما لا يمنع منه التفريق اليسير لا يمنع من التفريق الكثير، أصله الحج، وعكسه الصلاة؛ لأنَّه لو وقف بعرفة وطاف يوم النحر أجزأه، وهذا تفريق يسير، ولو وقف وطاف بعد شهر أجزأه أيضاً.

وكذلك لو طاف خمسة أشواط ثم طاف في وقت آخر أجزأه. قيل: أما قياسكم على التفريق اليسير فغلط؛ لأنَّ الأصول قد جوزت العمل القليل في اصلاة ومنعت من الكثير، ثم ينتقض أيضاً بالصلاة، لأنه لو تعمد قتل عقرب أو خطأ ليسد الصف جاز، ولو اشتغل بإخراج غريق وهو في الصلاة بطلت الصلاة، وقد عفي عن يسير الدماء، ويسير العمل في الصلاة، ويسير الغرر في البياعات، بخلاف الكثيرة، وقد قلنا: إن تعمَّدَ التفرقة ضرب من اللعب، ويؤدي إلى التواني الذي هو ممنوع في الدين. وأما القياس على الحدود فإن الحدود تكون تطهيراً وكفارة بالتوبة، وإن لم يتب فإنها لا تطهره. على أننا قد رددنا ذلك على الصلاة فهو أولى من رده إلى

لحدود؛ لأن الطهارة تراد للصلاة، والحدود لا تراد للصلاة والا للحج، ورددناه إلى الأذان المراد للصلاة، فرد ما يراد للصلاة إلى مثله أولى. وأما تفريق الطواف حتى يطول فإنه لا يجوز عندنا. فإن قيل: فإن كل عبادة جاز تقطيع النية على أبعاضها جز تفريق أبعاضها، أصله الزكاة، بيان ذلك: أنه لو كان عليه خمسة دراهم زكاة، جاز أن يفرقها دانقاً دانقا، وينوي مع كل دانق أنه زكاة أجزأه، فقد فرق النية على أبعاضها، وفرق أبعاضها، وكذلك الطهارة لو غسل وجهه ونوى رفع الحدث أجزأه، وكذلك في الرجل فلما جاز أن يفرق النية ويقطعها جاز تفريق أبعاضها، وعكس ذلك الصاة؛ لما لم يجز بالتكبير أنه للظهر لم يجزئه، ولو ركع ونوى به ركوعاً عن الظهر لم يجزئه، فلا بدَّ من جملة النية في استفتاح الصلاة فيقول: نويت به صلاة الظهر أو الفرض.

قيل: إن الطهارة جعلت شروطاً تراد لأمر شرطه الموالاة، وهو الصاة، فكان من شرطها الموالاة كالأذان، وليس كذلك الزكاة. ثم لا فرق -عندنا - بين الطهارة والصلاة في المنع من تقطيع النية؛ لأنَّه لو نوى بغسل وجهه رفع الحدث ما ارتفع، وإنما يرتفع الحدث بالفراغ من الطهارة، ألا ترى أنه لو بقي عليه غسل عضو لم يصح أن يصلي فلم يرتفع حدثه، وإنَّمَا ينوي حين يشرع في الطهارة أنه يرفع الحدث بطهارته التامة، فتفرقة النية لا تجوز كما لا يجوز تفرقة النية في الصلاة. على أنه فاسد بالشهرين المتتابعين، فإن تفريق النيات في كل ليلة جائز، ولا يجوز تفريق الفعل الذي هو الصيام، فلو أجزنا تفريق النية في أعضاء الطهارة لم يلزم جواز تفريق الأعضاء، كما لا يجوز تفريق النية في ليالي صيام الشهرين ولا يجوز تفريق الصيام، وكذلك شهر رمضان أيضاً. وقولنا هو قول عمر بن الخطاب -رَحمَه الله - ن ولا مخالف له

من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع. وما يحتجون به من خبر ابن عمر أنَّه توضأ وخرج إلى السوق، فدعي إلى جنازة فمسح على خفيه، فإنه حكاية عن فعلة وقعت، فيجوز أن يكون ناسياً لمح الخف فذكر، ويجوز أن يكون كان بخفه أذى من بول أو غائط أو طين فمسحه عنه بالماء، وقد كان يتقبل في أفعاله فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن عليه السلام يتوضأ على الوجه الذي يجيزونه؛ لأنَّه يجري مجرى اللعب، ولم يظهر مظهر ابن عمرو في جواز التفرقة، وظهر مذهب عمر رضي الله عنه فهو حجة. فإن قيل: فإن النسيان إذا حصل في الصلاة حتى طالت التفرقة أعيدت الصلاة من أولها، وليس كذلك الطهارة.

قيل: هذا لا يضر؛ لأن العمد في الصاة قد خالف حكم النسيان، فلو فرق الصاة على طريق العمد أفسد، مثل أن ينصرف من اثنتينن ولو انصرف ناسياً لم يفسد، فكذلك التفريق في الطهارة على طريق العمد في الطول لا يجوز، وفي النسيان لا يفسد، فلا يمنع أن يكون الأمر في الطهارة أوسع منه في الصلاة. فإن قيل: لو كانت الموالاة شرطاً في صحة الطهارة لم ي فترق الحكم بين العمد والنسيان، كالنية والماء الطاهر. قيل: هذا غير لازم؛ لأن في الأصول ما هو واجب وقد افترق عمده ونسيانه، ألا ترى أن الإمساك عن القيام إلى خامسة في الصلاة الرباعية واجب، ولو قام إليها ناسياً لم تفسد، وكذلك الإمساك عن الكلام فيها واجب ويفترق عمده ونسيانه، وكذلك الإمساك عهن الأكل في الصوم واجب ويفترق -عندكم - حكم عمده ونسيانه، وكذلك التسمية على الذبيحة، وكذلك في مسألتنا لم يفترق حكم

النية والماء الطاهر في باب العمد والنسيان، اختلف في الموالاة في الطهارة.

[15] مسألة

[15] مَسْأَلَة ولا يمس المصحف ولا يحمله إلا طاهر غير محدث ولا جنب. هذا مذهب مالك، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، والشافعي. وقال حماد، والحكم: يجوز للمحدث والجنب

مسه، وبه قال داود. والدليل لقولنا: قوله -تعالى - {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، فأخبر -جل ثناؤه - أن الكتاب المكنون لا يمسه إلا المطهرون؛ لأنَّ القرآن لا يمس، ولكن المس وترك المس يقعان على الكتاب، ولن الكتاب أيضاً أقرب مذكور إليه، فكانت الهاء في {يَمَسُّهُ}، راجعة غليه -أعني إلى الكتاب الذي فيه القرآن -، لأنه قال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}. وقوله -تعالى -: {لَا يَمَسُّهُ}، يحتمل معنيين. أحدهما: أن يكون لفظه نهياً، كما إذا نهيت غائباً قلت: لا يَمسَ فلانٌ هذا، ويحتمل أن يكون لفظه للخبر، والمراد به النهي أو الأمر؛

لأنه لو كان خبراً حقيقة لما جاز أني كون بخلاف مخبره، فلمَّا وجدنا أنه يمسه من ليس على صفة الطهارة من جنب وغيره علمنا أن المراد به النهي، فصار تقديره: لا تمسوا المصحف إلا وأنتم مطهرون، ومثل هذا قوله -تعالى - {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، والمراد به ألمر، وصيغته صيغة الخبر، وهذا في القرآن كثيرٌ. فإن قيل: المراد بالكتاب المكنون: اللوح المحفوظ، وبالمطهرين: الملائكة، بدليل أنَّه سمَّاه محفوظاً مكنوناً، والمصاحف ليست بمحفوظة. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أنه قال: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولا يعرف قرآن منزل إلا ما في المصحف. والجواب الثاني: هو أنه غير جائز أني كون المراد غير المصحف، لأن من لا يتوهم عليه غير الطهارة لا يصح أن يتوجه عليه هذا الخطاب، وليس للملائكة حال غير حال الطهارة، فدل أن المراد به ما ذكرناه. فإن قيل: لو أراد ما ذكرتم لقال: إلا المطهرون. قيل: من تطهر بالماء يكون متطهراً ومطهراً، ولأنَّه قد يصح أيضاً

أن يطهره بالماء غيره فيقال: قد تطهر وهو مطهر. فإن قيل: إنما اراد الله -تعالى - بالمطهر الذي قد ارتفعت درجته، كقوله في عيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}،؛ أي مبعدك من هؤلاء الأنجاس، فكذلك أراد الملائكة ههنا، لأنهم مميزون ممن يلحقهم التنجيس والتطهير. قيل: فينبغي أن يكون هذا فضيلة للقرآن؛ لأنه قال: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فلا ينبغي أن يمسه منا إلا طاهر؛ لأن التنبيه على فضيلته يوجب ذلك. فإن قيل: نحن إذا جعلنا قوله: {لَا يَمَسُّهُ}، خبراً لا يجوز أن يوجد بخلاف مخبره حملنا على الحقيقة إذا كان خبراً عن الملائكة في اللوح المحفوظ، وأنتم تجعلونه للنهي بغير دليل. قيل: نحن جعلناه بدليل؛ لأنه لو كان خبراً لم يفد؛ لأننا قد علمنا أنه ليس في الملائكة غير طاهر، ولا أحد ممن يمس اللوح المحفوظ غير طاهر، فلا فائدة في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، إذا حمل على الملائكة. وأيضاً فإن التنبيه على عظم منزلته يوجب ألا يمسه إلا من عظمت حرمته؛ لأنه تنزيل من رب العالمين، وقد نزل إلينا فلا ينبغي أن نمسه إلا على أكمل أحوالنا.

ولنا من السنة ما رواه عمرو بن حزم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب له كتاباً إلى اليمن، وذكر فيه: «وأن لا يمس المصحف إلا طاهر».

وروى حكيم بن حزام أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قا: «لا يمس المصحف إلا طاهر». وروى ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تمس

المصحف إلا وأنت طاهر»، وهذا خبر صحيح جيد. فإن قيل: قوله عليه السلام: «لا يمس المصحف إلا طاهر»، أراد أن لا يمسه مشرك. قيل: الجواب عن هذا من وجوه: أحدهما: أن خبر ابن عمر يسقط؛ لأنَّ ابن عمر كان مسلماً، وقد نهي أن يحمله إلا وهو طاهر.

ووجه آخر: وهو أنه عام في كل مشرك ومسلم ليس على الطهارة. وجه آخر: وهو أن المشرك ليس بنجس البدن، وإنَّما هو معبد لدينه؛ لأن أصل النجس هو المعبد، ألا ترى أنه لو كان نجس في بدنه لم يطهر باعتقاد الإسلام، وإذا حمل للمشرك لم يكن للاستثناء والتخصيص معنى ولاف فائدة؛ إذ ليس للمشرك حالة طهارة، ثم لو أراد المشرك ولا يحمله إلا مؤمن لقال: لا يسمه إلا مؤمن، فلما أتى بذكر طاهر، إلى صفته زائدة على كونه مؤمناً، علمنا أنه أراد المؤمن إذا كان متطهراً؛ لأننا نعلم أنه لا يحكم له بالطهارة إلا بعد تقديم الإيمان منه، كما لو قال: لا يمسه إلا مصل، فلا يكون مصلياً صلاة شرعية إلا بعد كونه مؤمناً. وأيضاً فإنَّه عليه السلام نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن تناله أيدي المشركين، الذي لا يجتنبون الأنجاس، ولا تصح لهم طهارة، ولا يعظمون حرمته، فينبغي أن نعظم حرمته، ولا نمسه إلا على طهارة. ,أيضاً فلنا إجماع في المسألة؛ لأنَّه روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن المحدث أيمس المصحف؟ فقال: لا.

وروي أن عمر رضي الله عنه تسمع على أخته وهي تقرأ سورة طه وزوجها سعيد بن زيد وعندهم خباب بن الأرت، فسألهما عمر أن يخبراه بما قرأته، وان يعطياه لينظر إليه، فقالت له أخته: إنَّك لا تتوضأ من الحدث، ولا تغتسل من الجنابة، فلا أعطيكه تمسه، وهذا كان قبل إسلام عمر رضي الله عنه.

وروي أن مصعب بن سعد كان يمسك المصحف لأبيه سعد حتى يقرأ فيه، فحك مصعب بدنه فقال له أبوه سعد: أراك قد حككت ذكرك؟ فقال: نعم. فأمره بوضع المصحف، وقال له: توضأ ثم امسسه.

وقد روي عن سلمان أنه قيل له، وقد تبرز: لو توضأت فسألناك عن آي من القرآن. فقال: سلوني، فإنِّي لست أمسه، لأنه لا يمسه إلا المطهرون، وهذا صحابي تأول الآية على ما نقول فلم ينكر عليه. ومن الاعتبار: أنه ممنوع من الصلاة لمعنى فيه، فوجب أن لا يجوز له مس المصحف؛ كالمشرك. وأيضاً فإنه ممنوع من الصالة لمعنى تعلق حكمه بيده، فوجب أن يمنع من مسِّ المصحف بتلك اليد ما دام على صفته تلك، أصله إذا غمس يده في نجاسة لا يجوز مسه بها. وأيضاً فإن الجنابة لما منعت نم دخول مكان الصلاة منع الحدث

من نفس الصلاة. وأيضاً فإن مباشرة ما قد تناهت حرمته لا يجوز مع كونه محدثاً، كالطواف. وأيضاً فإن الأصول تشهد لقولنا: وذلك أالحدث حدثان: أعلى وأدنى، وللمصحف حرمتان، أعلى وأدنى، فلما منع الحدث الأعلى - وهو الجنابة - عن الحرمة العليا - وهي القراءة -، فكذلك يجب أن يمنع الحدث الأدنى من الحرمة الدنيا - وهي حمل المصحف ومسه -، وهذا إذا سلم لنا لأن الجنب لا يقرأ؛ لأنه عندهم - يقرأ. فإن قيل: فقد كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قيصر كتاباً فيه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وكتب إليهم آيتين»، مع علمه

بأنهم يمسونه ويبتذلونه، وليسوا بمتطهرين، فدل على ما ذكرناه. قيل عن هذا جوابان: أحدهما: أنه لا يصح لداود الاحتجاج بهذا؛ لأنَّه لا يجوز للمشرك مسه. والجواب الآخر: هو أنَّه يجوز للجنب أن يقرأ -عندنا - الآية والآيتين، وأن يمس ما فيه آية أو آيتان؛ لأنه يسير. على أننا نجوز للمحدث أن يحمل المصحف إذا لم يكن قصده حمله ومسه. فإن قيل: فإن المحدث تجوز له قراءة القرآن، فجاز له مسه، كالمتطهر. ولأن حرمة المصحف لما فيه من القرآن، ولا حرمة للجلد ولا للورق والسواد، فلما جاز للمحدث قراءة القرآن؛ فلأن يجوز له مس المصحف أولى.

وأيضاً فإن النجاسة تمنع من الصلاة كالحدث، ثم لو كان على يديه نجاسة لم يمتنع من مسِّ المصحف وإن كان ممنوعاً من الصلاة. وأيضاً فإن الصبيان في الكتاتيب يمسون المصحف والألواح، ويتعلمون فيها، وكذلك التعاويذ، وهذا كله يدل على صحة قولنا. والجواب: أما قياسهم على المتطهر فلا يصح، وذلك أن المتطهر ممنوع من الصلاة، وليس كذلك المحدث؛ لأنَّه ممنوع من الصلاة لمعنى فيه. ثم إنَّه منتقض بمن كان على جميع بدنه نجاة، يجوز له أن يقرأ القرآن، ولا يجوز له مس المصحف. وقولهم: إن حرمة المصحف لما فيه من القرآن فإننا نقول: ليس من حيث جاز له أن يقرأ القرآن ما يدل على أنه يجوز له حمل المصحف، كمن كان في دار العدو يجوز له أن يقرأ القرآن، ولا يجوز له حمل المصحف إلى دار العدو.

وعلى أن الفرق بين القراءة ومس المصحف هو: أنه لو منع المحدث من قراءة القرآن لأدى إلى أن ينسى القرآن، لأن الناس في غالب أحوالهم يكونون محدثين، فلهذا جاز لهم أن يقرؤوا وليس كذلك مس المصحف؛ لأنَّه لا يؤدي إلى هذا، لنه يمكنه أن يقرأ فيه وإن لم يمسه، بأن يتصفح الورق بخشية، وبمن يمسكه له؛ ولهذا المعنى قلنا: لا يقرأ الجنب القرآن؛ لأنَّ الجنابة تقل، ولا يؤدي إلى نسيان القرآن، والحدث بغير الجنابة يكثر ويعتاده. وماذ كروه من النجاسة فهو دليل لنا؛ لأن كل عضو لحقته النجاسة لم يجز أن يمسه به، كذلك الحدث لما كان حكمه حالاً في جميع أعضائه منع من مسه. وما ذكروه من مسِّ الصبيان المصاحف والألواح، فإن الصبيان لا عباده عليهم، فطهارتهم ناقصة، ولا فرق بين مسهم إياها على طهارة أو غير طهارة، وليس كذلك الكبير؛ لأن طهارته تكون تامة فمنع من مسه إلا على طهارة. وأيضاً فلو منعنا الصبيان من مسه إلا على طهارة أدَّى إلى أن لا يتعلموا القرآن؛ لأنَّهم إنما يتعلمونه في المصاحف والألواح، والغالب من أحوالهم أن يكونوا غير متطهرين. وعلى أن قياسنا ترجح باستناده إلى ظاهر القرآن، وسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعل الصحابة رضي الله عنه والاحتياط إعظام حرمة المصحف والله أعلم. وقد روي أن عائشة -رضي الله عنها - كانت تقرأ القرآن وهي

حائض، ويمسك لها المصحف، ولا تمسكه هي، فلو كانت قراءتها في المصحف كقراءتها في غير المصحف لما امسك لها غيرها، ولعرفها أحد الصحابة جوازه، وهذا ظاهر منها، لا يعرف لها فيه مخالفة، وعائشة -رضي الله عنها - مع اختصاصها برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واختصاصها بمعرة أحكام الحيض، لا يجوز في ظاهر الحال أن تكون فعلت ذلك إلا وعندها من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه توقيف، وبالله التوفيق.

[16] مسألة

[16] مَسْأَلَة والجنب ممنوع عند مالك -رَحمَه الله - من قراءة القرآن إلا الآية والآيتين. وعند أبي حنيفة إلا من بعض آية. وعند الشافعي من قليله وكثيره. وقال داود: يجوز له أن يقرأ القرآن كله، وكيف شاء. والدليل لقولنا: ما رواه ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا

يقرأ الجنب شيئاً من القرآن»، وهذا نهي عام إلا فيما قامت دلالته. وما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة،

وقد قال -تعالى -: {وَاتَّبِعُوهُ}.

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، إنَّك تأكل، وتشرب وأنت جنب، فقال عليه السلام: «آكل وأشرب وأنا جنب، ولا اقرأ وأنا جنب، فأعلمنا الفرق بين الأكل والشرب، والقرآن». وأيضاً ما روي أن عبد الله بن رواحة وطئ أمتهن فقالت له امرأته: إنك وطئت المملوكة. فقال: ما وطئت. فقالت له: إن كنت

صادقاً فاقرأ لي قرآناً. فلبس عليها وقال: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمين وتحمله ثمانية شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت: صدق الله وكذب بصري، ثم مرَّ عبد الله بن رواحة، وذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتبسم وقال: «امرأتك أفقه منك»،

ففي هذا الخبر دليل من ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه كان ظاهراً مكشوفاً عند الصحابة حتى عند النساء أن الجنب لا يقرأ القرآن. والثاني: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل له: ما احتجت إلى هذه الحيلة، هلا قرأت القرآن فإنه مباح للجنب. والثالث: قوله عليه السلام: «امرأتك أفقه منك»، حيث اعتمدت على أن طالبتك بالقرآن الذي لا يقرأه الجنب. ومن القياس: أن القراءة ركن ثابت في الصلاة في كل ركعة فوجب أن لا يجوز للجنب الإتيان به ودليله الركوع والسجود. وأيضاً فإن حرمة القرآن أعظم من حرمة المسجد، فلمَّا منع الجنب من اللبث في المسجد كان منعه من قراءة القرآن أولى.

فإن قيل: فقد قال -تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ}، وهذا عام في الجنب وغيره. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قرأ: قل هو الله أحد فكأنه قرأ ثلث القرآن»، وهذا عام لم يخص به جنباً من غيره. قيل: الجواب عن الاستدلال بقوله -تعالى -: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ}، من وجهين: أحدهما: أنه أراد فصلوا ما تيسر، فعبر عن الصلاة ببعض أركانها؛ بدليل أنه قال: {اأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ. . .}، الآية على قوله: {آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}؛ أي الذي أوجبت عليكم من قيام الليل قد خففت عنكم منه؛ لأن فيكم المريض والمسافر والمقاتل.

وجواب آخر: وهو أن لفظ -اقرؤوا - لفظ أمر، يقتضي قراءة مرة واحدة، وهذا قرأ قبل هذا، فلا يتكرر عليه إلا بدليل، ثم لو ثبت التكرار لكان لفظ الآية يدل على اليسير الخفيف، وكذلك نقول: ألا ترى أن القائل يقول: اعطني ما تيسر عليك، يريد به السهل اليسير. وجواب آخر: وهو انَّه لو ثبت العموم فيه لكان خبراً أخص منه؛ لأنه في ذكر الجنب. إن قيل: الخاص والعام -عندنا - سواء. قيل: هذا في الخبرين إذا تقابلا أحدهما خاص والآخر عام، فإن مذهب داود فيهما كما تقولون، وعنه في الآيتين روايتان، فأما الآية والسنة فلا خلاف بين أصحاب داود أن الخاص مقدم على العام، وفي غير هذا يتعارضان ويسقطان.

فإن قيل: فقد قال عليه السلام: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنه قرأ ثلث القرآن»، وهذا عام لم يخص جنباً من غيره. وأيضاً فقد روي أنه عليه السلام قال: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار»، وهذا عام في الجنب وغيره. قيل: هو على أصلنا مخصوص بما ذكرناه م أالجنب لا يقرا: لأنه أخص منه. فإن قيل: فقد قال -تعالى -: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}، وهذا عام. قيل: عنه جوابان: أن القراءة قول وليست فعلاً، فلم يدخل تحت الظاهر. والجواب الآخر: هو أن قراءة الجنب ليست من فعل الخير، بل هي من فعل الشر، وإن كان القرآن في نفسه خيراً. فإن قيل: فقد روت عائشة أن النبي عليه السلام كان لا يمتنع من ذكر الله على كل حال.

قيل: عنه جوابان: أحدهما: أننا نقول: إن الجنب غير ممنوع من ذكر الله -تعالى -، وليس كل الذكر القرآن. والجواب الثاني: هو أنه لو كان في الخبر أنه ما كان يمتنع من قراءة القرآن على كل حال لكان خبرنا أخص منه. فإن قيل: فإنه حدث يمتنع من الصلاة فوجب أن لا يمتنع من القراءة؛ كالطهارة الصغرى. قيل: المعنى في المحدث أنه يجوز له دخول المسجد والجلوس فيه، وليس كذلك الجنب، وعلى هذا التعليل لا تقرا الحائض. وإن شئنا قلنا: الغالب من أمر الناس الحدث فتلحقهم المشقة بالامتناع من القرآن خوف نسيانه. على أنهم لا يقولون بالقياس فسقط، فإن نقلناه على أصولنا فنقول أيضاً: إن المحدث تحل له الصلاة بالطهارة الصغرى فجاز أن يقرأ. ثم قياسنا أولى؛ لأن السنة تعضده، وفعل الصحابة يؤيده، والاحتياط يطابقه، وإعظام حرمة الدين وإعزاز القرآن يوافقه.

وأيضاً فإن اعتبار الأصول يشهد لما قلناه؛ وذلك أن للمصحف حرمتين: أعلى وأدنى، كما أن للصلاة حرمتين: أعلى وأدنى، فلمَّا منعت الجنابة حرمتي الصلاة، وهما دخول المسجد واللبث فيه وفعلها، وجب أن تمنع حرمتي المصحف، وهما حمله وقراءة ما فيه من القرآن، ولما كان الجنب ممنوعاً من اللبث في المسجد تعظيماً له، وهو مكان القراءة والصلاة كان بالمنع من نفس القرآن أولى.

فصل

فصل فأما قراءة الجنب الآية والآيتين فجائز؛ لأن الامتناع من ذلك يشق؛ لأن الناس في أكثر أحوالهم يذكرون الله - تعالى - ويتعوذون، فخفف عنهم وعفي لهم عن ذلك، والأصول تشهد لما قلنا؛ وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن يبتذله المشركون، ثم كتب إليهم: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. إلى آخر الآيتين. وكذلك عفي عن العمل اليسير في الصلاة؛ لأن الامتناع منه يشق، وعفي عن دم البراغيث وعفي للصائم عن غبار الدقيق والطريق، وعن الغرر اليسير في البياعات؛ لأنَّها لا تخلو منه ولو امتنعوا منه لضاق عليهم، ولحقت فيه المشقة، وقد يباح من الأشياء عند الضروريات ما لا يباح عند عدمها؛ ليخف عن الناس. من ذلك: دخول الحمام بقطعة لا يعلم الحمامي ولا الداخل كم

مبلغها، ولا مبلغ ما يستعمل من الماء، وكذلك عبور دجلة مع الملاح بقطعة مجهولة الوزن، وكذلك قطعة الشارب، وما أشبه ذلك، ونحن نعلم أن العمل في الصلاة، وجميع ما ذكرناه ممنوع منه في الدين، ثم قد تجوز عنه تخفيفاً ن فكذلك في ما ذكرناه، وهذا في ألصول كثير، لأنه ليس بمقصود. فإن استدلوا بقوله عليه السلام: «لا يقرأ الجنب شيئاً من القرآن»، فهاذ عام القليل والكثير. قيل: نخصه بما ذكرناه فنقول: إلا الآية والآيتين. وأيضاً فقد حصل الاتفاق على جواز قوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والله الرحمن، أو بسم الله، وكذلك يجوز الآية والآيتين، لأنه يسير من القرآن، وهذا على أبي حنيفة والشافعي. فإن قال العراقي: إن بعض الآية ليس بمعجز. قيل: كذلك قوله -تعالى -: {ثُمَّ نَظَرَ}، ليس بمعجز. فإن قال شافعي: هو ذكر من جملة في جنسها إعجاز، فوجب أن

لا يجوز له أن يأتي به وهو ممن لا يجوز له فعل الصلاة، أصله الآيات الكثيرة. قيل: هو متنقض بالمحدث فإنَّه لا يجوز فعل الصلاة وهو يقرأ. على أن المعنى الكثير أنه مقصود في نفسه للتلاوة، واليسير يقصد به في الغالب التعوذ والذكر، وقد بينا شهادة الأصول في الفرق بين القليل والكثير، والله أعلم.

فصل

فصل قد اختلفت الرواية عن مالك - رَحمَه الله - في قراءة الحائض القرآن. فروى عنه أكثر أصحابه جواز قراءتها ما شاءت من القرآن. وروي عنه منعها كالجنب، وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي. فوجه قوله أنها تقرأ: هو أنها غير ممنوعة قبل الحيض، أي ما تسهل، وهذه يسهل عليها الكثير من القرآن، فهو عموم في الحائض وغيرها حتى يقوم دليل.

وأيضاً قوله -تعالى -: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}، ولم يخص. وأيضاً قوله -تعالى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}، والعبادة عامة، وأفضلها قراءة القرآن، والتلاوة أيضاً من فعل الخير فهو عموم في الحائض والطاهر إلا أن تقوم دلالة. وأيضاً قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنه قرأ ثلث القرآن»، وهذا حث على قراءتها، ولم يخص حائض، من غيرها؛ لأن مَنْ لمن يعقل. وأيضاً فإنَّها تقرأ إذا كانت طاهرة، فكذلك وهي حائض؛ بعلة أنها مسلمة محدثة بغير الجنابة، أو نقول: هي مسلمة ممنوعة من الصلاة بغير الجنابة. فإن استدلوا بما روي أنه قال عليه السلام: «لا يقرأ جنب ولا حائض شيئاً من القرآن»، وقيل: نخصه.

فنقول: لا تقرأ في مصحف تمسكه؛ بدليل ما روي عن عائشة -رضي الله عنها - أنها كان يُمسك لها المصحف وهي حائض فتقرأ القرآن، وتفتي النساء بذلك، ولا يعرف لها مخالف، والصحابي إذا أفتى وانتشر قوله بذلك، ولم يظهر له مخالف، جرى مجرى الإجماع، والظاهر أن عائشة -رضي الله عنها - مع اختصاصها بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبمعرفة الحيض وأحكامه، لم تفعل ذلك، وتفت به إلا وعندها فيه توقيف من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ويخص خبرهم أيضاً بالقياس الذي ذكرناه أو نحمله على الكراهية دون التحريم. فإن قا سوها على الجنب بعلة أنه ممنوع من الكون في المسجد، وأداء الصلاة بسبب يوجب الطهارة الكبرى. قيل: المعنى في الجنب أنه لا يطول أمره مع قدرته على رفع الجنابة بالاغتسال، والحائض لا تقدر على ذلك إلا بانقضاء حيضها. وأيضاً فإن الحيض يطول أمره وقدره ومدته وهو طبع في النساء حتى ربما حاضت نصف دهرها كما قال عليه السلام: «إنَّها تصلي نصف دهرها»، فلو منعت من القراءة لأدَّى ذلك على أن تنسى ما تحفظه من القرآن، أو لا تتعلم القرآن أصلا.

وعلى إنَّ بإزاء قياسهم قياسنا عليها لو كانت طاهرة أو محدثة بغير جنابة، ويكون قياسنا أولى؛ لأن ردها إلى حالها فيما تعتاد من الغالب، وكونها محدثة وحائض أولى من ردها إلى الجنابة. فإن قيل: فإن حدث الجنابة أخف من حدث الحيض، ألا ترى أن الجنابة لا تمنع من الجماع ولا من الصوم، والحيض يمنع من ذلك، فلنا منع اخف الحدثين من قراءة القرآن فلأن يمنعه الحيض أولى واحرى. ولن كل معنى يمنع منه الجنابة يمنع منه الحيض كالصلاة. قيل: الحيض الذي يأتي من قبل الله -تعالى - قد اثر في إسقاط الصلاة عنها، فخفف عنها بأن جُوِّز لها القراءة، ومع هذا فإنَّه ينافي الصوم، فلمَّا لم تقدر على رفعه إلا بانقضاء وقته، سُهل لها في القراءة، كما سهل لها في ترك قضاء الصلاة، وهذا تخفيف عنها لا محالة، ولما كان الجنب مطالباً بقضاء الصلاة، لأنه [لا] يقدر على الاغتسال وأداء الصلاة، غلظ عليه في الامتناع من القراءة حتى يبادر إلى الغسل. وقولكم: إن كل معنى يمنع الجنابة يمنع من الحيض كالصلاة، فقد ذكرنا أن الحيض لما اسقط الصلاة وقضاءها؛ لأنَّه يأتيها من قبل الله -تعالى -، لا تقدر على دفعه خفف عنها، وسهل عليها في باب القراءة. فإن قيل: قولكم: إنَّها تنسى القرآن ولا تتعلمه، فإننا نقول: أنَّ

تقرأ بقلبها، وان تنظر في المصحف من غير أن تتلفظ به، ويجوز أن يقرأ عليها. قيل: هذا يشق من وجهين: أحدهما: أنه ربما تعذر عليها من تسمع منه، ولعلها أن تتكلف له مؤونة، وهي فلا تمسك المصحف، ويتعذر عليها تصفحه، وربما احتاجت أن تتعلم القرآن فلا ينفعها قراءة غيرها، وكذلك لا تحفظه بالتذكر بقلبها كما تحفظه بالتلاوة. فإن قيل: قياسنا أولى؛ لأنَّه يستند إلى نص السنة والاحتياط وإعزاز القرآن. قيل: قياسنا اولى؛ لأنَّه يزيد حكماً وهو جواز قراءتها، ونحمل السنة على الكراهية، وأما لاحتياط فإنَّه معنا؛ لأنَّه احتياط لحفظ القرآن؛ لئلا تنساه، ولتتعلمه أيضاً، وأما إعزازه فإنَّه في المحافظة حفظه وتعلمه، وقد كان ينبغي أن تمنعوا المحدث بغير الجنابة أن يقرأ، فإنَّه كان أعز للقرآن على حسابكم. فإن قيل: لما كان موجب حدثهما متفقاً وجب أن يستويا في المنع من القراءة؛ يريدون الحائض والجنب. قيل: هو متنقض بالمحدث بغير الجنابة والمحدث بالجنابة؛ لأنَّه قد يتفق تيممها وحدثهما مختلف، ومع هذا فالمحدث يقرأ القرآن، ولا يقرأ الجنب.

ثم أرادوا أن الموجب فيهما واحد، ويعنون الغسل فإننا نقول: إنهما وإن اتفقا في الغسل فقد اختلفنا في وقته ن فالجنب يقدر على الغسل عقيب الجنابة فيرفع حكمها، والحائض لا تقدر على ذلك فكان الغسل عقيب الجنابة فيرفع حكمها، والحائض لا تقدر على ذلك فكان لهذا الفرق بينهما تأثير. ألا ترى أنَّه قد أثر في إسقاط قضاء الصلاة عنها، ولم تسقط عن الجنب، فكذلك خفف عنها، وجُوزت لها القراءة ولم تجز للجنب. ووجه الرواية الأخرى ما ذكرته من الحجاج على الوجه الآخر، وبالله التوفيق.

[17] مسألة

[17] مَسْأَلَة اختلف الناس في الإنسان إذا قعد لحاجته من غائط أو بول في استقبال القبلة واستدبارها على ثلاثة مذاهب: فذهب النخعي، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، واحمد، وأبو ثور، إلى أنه لا يجوز أن يستقبل القبلة ولا يستدبرها في الصحاري والبنيان جميعاً، وروي هذا عن أبي أيوب الأنصاري. وروي عن عروة، وربيعة،

وهو مذهب داود أنه يجوز الاستقبال والاستدبار جميعاً في الصحارى والبنيان جميعاً. وذهب مالك، والشافعي إلى أنه يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان، ولا يجوز في الصحارى والفلوات. وقد رُوي عن أبي حنيفة أنه يجوز الاستدبار وحده في الصحارى والبنيان، وإنَّمَا الذي لا يجوز عنده الاستقبال في الصحارى والبنيان. واستدل أصحابه بأربعة أخبار: أحدها: ما روى الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي

أيوب الأنصاري أنه قال: أل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولكن ليشرق أو ليغرب»، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض جعلت إلى القبلة، فكذا ننحرف عنها ونستغفر الله. قالوا: موضع الدليل منه: أنَّه نهى عن استقبال القبلة واستدبارها، فهو عام في كل المواضع. والثاني: أنه أمر بالتشريق والتغريب، وأمره على الوجوب. والثالث: أنَّ أبا أيوب حيث قدم الشام ن وجدهم يستقبلون القبلة، فانحرف عن مجالسهم ن فدلّ على أنَّ النهي متوجه إلى البنيان. والحديث الآخر: هو ما رواه أبو صالح عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم لغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائط أو بول، وليستنج بثلاثة أحجار،

ونهى عن الروث، والرِّمَّة، وأم يستنجي الرجل بيمينه»، فنهى عليه السلام عن الاستقبال والاستدبار، ولم يفرق بين الصحارى والبنيان. وأيضاً ما روي عن سلمان أنه قال: نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نستقبل القبلة لغائط أو بول. وروى معقل بن أبي معقل الأسدي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن

استقبال القبلتين، هي الكعبة وبيت المقدس؛ لأنَّه إذا استقبل بيت المقدس بالمدينة استدبر الكعبة. والدليل لقولنا: ما رواه خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكروا استقبال القبلة بالفروج.

فقال عكرمة: قالت عائشة -رضي الله عنها - ذكر عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة وأن يستدبروها، فقال النبي عليه السلام: «أو فعلوا ذلك؟»، وأمر بان تستقبل بمقعدته القبلة، وهذا

نص في موقع الخلاف؛ لأنَّه في البنيان، وهذا أمر منه عليه السلام ظاهر منتشر. فإن قيل: إن خالد بن أبي الصلت لا يعرف. قيل: هو معروف؛ لأنَّ أحمد بن حنبل قال: خالد بن أبي الصلت حسن.

وروى سفيان الثوري، وخالد الحذاء عنه، فدل على معرفته. وقد روى محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر أنه قال: ارتقيت ذات يوم على السطح، فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته. وروي عنه أنه قال: ارتقيت سطح حفصة -وهي أخته - إلى أن

قال: مستقبل القبلة، وكيف ما كان، فإن فعله عليه السلام ذلك يدل على الجواز؛ لأنَّه إن كان استقبل بيت المقدس فقد استدبر الكعبة؛ لأنَّ من يستقبل بيت المقدس بالمدينة فهو مستدبر الكعبة، ومن يستقبل الكعبة بها فهو مستدبر لبيت المقدس. وروى مجاهد عن جابر قال: نهانا نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نستقبل القبلة للبول، ثم رايته أن يقبض بعام يستقبلها لبول، وقد اتفقنا أنه

لم يفعل في الصحارى، فدل على أنه فعل في البنيان. فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قصد بما فعله من ذلك الاستخفاء والاستتار وإنَّما يؤخذ الشرع من أفعاله التي يظهرها ليس لنا، فأما ما يقصد كتمانه ولا يظهر، ولا ينتشر عنه فلا يكون شرعاً. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أالذي يستسر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون شرعاً لنا كالذي يظهره؛ لأنَّه عليه السلام لا يفعل في نفسه ما لا يسوغ ولا هو من شريعته، فسواء فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه الاستسرار به أو الإظهار فهو ضرع لنا إذا وقفنا عليه. وةقد حكى الله -تعالى - عن شعيب عليه السلام أنه قال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}. ويشهد لما قلناه: أنَّ الصحابة لما اختلف في وجوب الغسل من الإيلاج، قالوا: النساء أعرف بهذا. فبعثوا إلى عائشة -رضي الله عنها - فقالت لهم: إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا، وقد حصل العلم بأنه عليه السلام

فعل ذلك مع عائشة مستسراً. والجواب الثاني: هو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فعل ذلك مستسراً به، وقد فعله ظاهراً منتشراً؛ وذلك أننا روينا أنه عليه السلام أمر بأن تستقبل بمقعدته القبلة. فإن قيل: إن هذه أخبار وردت في النهي بينه ظاهرة منتشرة على رؤوس الملأ، فلو كان المراد بالنهي فيها خصوص الصحارى والفلوات دون البنيان لم يترك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيان والتخصيص، ولكن يظهره على رؤوس الملأ كما اظهر النهي العام. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أنه يجوز أن يرد الخبر ظاهراً، ويقع التخصيص إلى ألخاص من الواحد والاثنين، ولا يقع ظاهراً للجماعة، كما يكون مخصوصاً بالقياس الذي ربما علمه بعضهم، ثم يقع لباقيهم.

والجواب الآخر: هو أن بيانه قد حكيناه بيننا ظاهراً من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «استقبلوا بمقعدتي القبلة». فإن قيل: فيه جوابان: أحدهما: أنه يجوز أن تكون حانت منه التفاتة فرآه، ولم يكن قاصداً لذلك، فنقل ما رأى، ومثل هذا يجوز كما لا يتعمد الشهور والنظر إلى الزنا ثم قد يجوز أن تقع أبصارهم عليه، ويجوز أن يحملوا الشهادة بعد ذلك. والجواب الآخر: هو أنَّه يجوز أن يكون ابن عر قصد ذلك، ولكنه رأى رأسه عليه السلام دون ما عداه من بدنه، ثم تأمل قعوده فعرف كيف هو جالس على اللبنتين؛ ليستفيد فعله عليه السلام، فنقل نا شاهد. فإن قيل: يجوز أن يكون فعل ذلك لضرورة كانت به إلى ذلك. قيل: هذا غلط؛ لأنَّه فعل ما كان نهى عنه، ونهيه إنَّمَا ينصرف إلى حال الاختيار دون الضرورة؛ إذ لا يجوز أن ينهى عما هو مضطر إليه؛ لأن التكليف لا يتعلق بالاضطرار، وقول الراوي: رأيته عليه السلام قبل موته بعام يستقبلها لبول، معناه أنه استقبلها وهو على الحالة التي وقع النهي عنها، وإنَّما أراد الراوي أن يفيدنا جوازه على هذه الصفة لغير ضرورة. وأيضاً فإننا رأينا الصحارى والفلوات لا تخلو في الغالب من مصل فيها، فمنع من استقبال القبلة أو استدبارها للحاجة؛ لئلا يرى

المصلي عورته وفرجه ودبره من خلف، وذكره م قدام، وهذا المعنى معدوم في البنيان؛ لأن البناء يمنع م المشاهدة والنظر إلى العورة. وقد روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: لا تستقبلوا القبلة في الصحارى؛ فإن الملائكة تشهد الصحارى وتصلي فيها، فيكون قد بدا عورته للملائكة، وهذا يشبه المعنى الذي ذكرناه. وقد روي: «إن لله -تعالى - ملائكة سياحين يصلون، فيكره أن يروا فرج المستقبل أو دبره إن استدبره».

فأما الجواب عن الأخبار التي رووها فهو أن هذه الأخبار كلها واردة في الصحارى دون البنيان، ألا ترى لقوله عليه السلام: «إذا أتى أحدكم الغائط»، والغائط هو الفضاء المتسع بين ربوتين. وروي أيضاً في خبر آخر: «إذا أراد ألحدكم البراز لغائط أو بول»، والبراز: هو الصحراء. ولأن النبي عليه السلام إذا خاطب أهل المدينة، والنهي توجه إليهم، ولم تكن لهم أخلية ولا حشوش، وإنما كانوا يخرجون لحاجتهم إلى الصحراء؛ بدليل ما روي أن عمر رضي الله عنه رأى سودة خرجت إلى الصحراء، فقال لها: قد عرفتك، وإنما قال لها ذلك؛ لأنه غار عليها.

وجواب آخر: وهو أنه لو كان النهي مطلقاً، ولم يكن فيه ما يقتضي الصحارى لكان عاماً، وأخبارنا تخصه، لأنها في البنيان فهي أولى. وأيضاً فالذي رويناه متأخراً والمتأخر ينسخ المتقدم، لما روي عن جابر أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينهانا عن استقبال القبلة لبول، ثم قال: رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها لبول. فإن قيل: إن أبا أيوب هو الراوي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي ذهب إلى أن النهي وارد في البنيان، ألا ترى أنه لما رأى مراحيض الشام إلى القبيلة تحرف عنها. قيل: يجوز أن يكون أبو أيوب إنما ذهب إلى ذلك؛ لأنَّه لم يعرف أخبار الإباحة. فإن قيل: فإنَّه مستقبل بفرجه الكعبة من غير ضرورة فوجب ألا يجوز، دليله الصحراء. وأيضاً فإن ما تعلق بحرمة الكعبة لا يفترق الحكم فيه من البنيان والصحارى، كاستقبال القبلة للصلاة، فإنَّه يجب فيها جميعاً. وأيَاً فإنَّه ليس في البنيان أكثر من حصول حائل بينه وبين الكعبة، وهو الحائط والسترة، وهذا لا يمنع من وجود المنع منه، والنهي عنه، بدليل أن الصحارى تحول فيما بينه وبين الكعبة جبال وأبنية وحيطان وأشجار وغير ذلك، ثم كان المنع من استقبالها

واستدبارها موجوداً ثابتاً. قيل: أما قياسكم على الصحارى والفضاء، فإن المعنى فيهما أنَّها لا تخلو من مصل في الغالب: فلم يجز خيفة أن تظهر عورته للمصلي، وليس كذلك البناء؛ لأنَّه يمنع من النظر إليه فلهذا جاز. وقولكم: إن ما تعلق بحرمة الكعبة يستوي فيه حكم الصحراء والبنيان كاستقبال القبلة للصلاة، فإننا نقول: هذا قياس بحكم مجهول لا يصح، لأنه لا يمكنهم إظهار حكمه؛ لأنَّكم إن قلتم: يستوي فيه البنيان والصحارى في الوجوب لم تجدوا ذلك في الفرع؛ لأنَّ من الفرع عندكم المنع والترك، وإذا قلتم بالمنع في الفرع لم تجدوه في الأصل، لأن حكمه على الوجوب. وعلى أنه قياس فاسد في الموضوع، لأن الفرع إنما يرد إلى الأصل ليجعل حكم الفرع حكمه، وإن كان حكمه الوجوب جعل حكم الفرع الوجوب، وإن كان حكم الأصل السقوط كان حكم الفرع مثله، فأما أن يكون حكم الأصل بالضد م حكم الفرع فلا يكون قاسياً صحيحاً. ثم إننا نفرق فيما يقع بحرمة الكعبة بين الصحارى والبنيان، ألا ترى أنه لا يجوز له في البنيان ترك القبلة في الصلاة أصلاً مع القدرة، وإذا كان مسافراً فبان من البيوت جاز له ترك القبلة في النوافل. وقولكم: إن الحائل بينه وبين القبلة في الصحارى من الجبال

وغيرها لم يمنع من أن يكون ممنوعاً من الاستقبال والاستدبار، فكذلك الحائل في البنيان لا يمنع أن يكون ممنوعاً منه؛ إذ لو أباح له هذا لأباحه له في الصحارى. فجوابه: أننا نحن لم نجوز له الاستقبال والاستدبار في البنيان لوجود الحائل بينه وبين القبلة، ولكن لوجود الحائل بينه وبين مصل يراه في الغالب، ويرى عورته، وهذا المعنى معدوم في الصحارى، فإن وجد هذا المعنى فيها جاز أن يبول مستقبلاً. وجملة الأمر: هو أنه قد روي في هذا الباب أخبار تفيد الحظر على العموم، وأخبار تقتضي الإباحة. فمن قال بالحظر في الصحراء والبنيان أسقط أخبار الإباحة، ومن قال بالإباحة في الموضعين جميعاً أسقط أخبار الحظرِ، ونحن نستعمل الجميع فنحمل عموم الحظر على الصحارى، وعموم الإباحة على البنيان، والاستعمال أولى. وقد روي أن ابن عمر أناخ راحلته، وجلس يبول إلى القبلة، فقيل له: إن النبي عليه السلام نهى عن الاستقبال. فقال: ذاك في الفضاء الذي ليس بينك وبينها حائل. فأما إذا كان يسترك عن القبلة فلا بأس.

فإن قيل: فإنا نستعمل الأخبار كما استعلمتم، على الرواية التي رواها أبو يوسف عن أبي حنيفة، من جواز الاستدبار في الصحارى والبنيان، والمنع من الاستقبال في الصحارى والبنيان. قيل: قد بينا الفرق بين الصحارى والبنيان؛ لأن الصحارى لا تخلو من مصل، فلا ينبغي أن يرى فرج الإنسان ولا دبره، والبنيان ليس كذلك، واستعمال الجميع من الاستقبال والاستدبار يجوز في البنيان لما ذكرناه، ويمتنع في الصحارى لما ذكرناه. واستعمالنا أولى من وجه آخر؛ وهو أنه يضيق على الناس في الأبنية أن تكون مراحيضهم غير مستقبلة القبلة، ويشق عليهم في الغالب أن يتحرفوا فيها عن الاستقبال، وربما ضاقت عن ذلك، وليس في الصحارى أن يتحرفوا فيها عن الاستقبال، وربما ضاقت عن ذلك، وليس في الصحارى ما يمنعهم من الانحراف ن مع ما ذكرناه من أنها لا تخلو م مصل يرى فروجهم وأدبارهم. ويجوز أن نقول: قد اتفقنا على جواز الاستدبار في البنيان، فكذلك الاستقبال، بعلة أنَّه مستقبل بأحد فرجيه القبلة من وراء حائل يخففه.

فإن قيل: قد اتفقنا على المنع من الاستقبال في الفضاء فكذلك في البنيان؛ بعلة أنه مستقبل بفرجه القبلة مع القدرة على الاستدبار. قيل: قد ذكرنا الفرق بين الفضاء والبنيان، وأنه لم يمكنه في الغالب الانحراف حتى لا يرى فرجيه جميعاً مصل، وأنه في البنيان دونه حائل، ويضيق أيضاً عليهم بناء المراحيض غير مستقبلة القبلة، ويشق الانحراف في الغالب، وبالله التوفيق. .

[18] مسألة

[18] مَسْأَلَة والاستنجاء ليس بفرض عند مالك -رَحمَه الله - وهو كسائر النجاسات التي تكون على البدن والثوب لا تجوز إزالتها إلا من طريق السنة. وقال بعض أصحابنا: إزالة النجاسة فرض، فينبغي أن يكون الاستنجاء فرضاً. ولكن الفرق بين الاستنجاء وسائر الأنجاس على قول مالك هو أن الاستنجاء يجوز بالأحجار، ولا تجوز إزالة الأنجاس التي في غير المخرج إلا بالماء، لأنه رخص له في الاستنجاء بإزالة العين دون الأثر، وفي الأنجاس التي في غير المخرج يزيل العين والأثر. وقال أبو حنيفة: الاستنجاء ليس بفرض -كقول مالك - وأنه إن صلى ولم يستنج صحت صلاته ولكنه جعل محل الاستنجاء مقدراً يعتبر به سائر النجاسات على سائر المواضع، وحده بالدرهم الأسود البغلي.

وقال الشافعي: الاستنجاء فرض، فإن صلَّى ولم يستنج لم تصح صلاته. وهو وأبو حنيفة يقولان: إن إزالة النجاسة من غير المخرج فرض. ولنا في هذه المسألة طريقان: أحدهما: أن ندل على عين مَسْأَلَة الاستنجاء. والثاني: أن ندل على أن إزالة الأنجاس ليست بفرض. والدليل على عين المسألة: قوله -تعالى -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، الآية، فأجاز -تعالى - فعل الصلاة بغسل هذه الأعضاء، ولم يشترط الاستنجاء، فمن أوجب شرطاً آخر هو الاستنجاء، فعليه الدليل. وأيضاً فإنه -تعالى - قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}، فذكر حكم الأحداث وموجبها، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، والماء المذكور الذي جعل التيمم بدلاً منه، ولم يذكر مع ذلك أحجار الاستنجاء فلو كان واجباً لذكرها. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خبر الأعرابي: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، فيغسل وجهه»، إلى أن قال: «ثم يكبر». ولم يذكر الاستنجاء، ولم يجعله شرطاً في قبول الصلاة، وقد كان السائل غير عالم بالحكم، وخرج كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه تعليم الطهارة، التي يحتاج إلى علمها في جميع الأحوال، فلو كان الاستنجاء واجباً مع الوضوء لم يغفل ذكره للمتعلم، فلا يجب إلا بدليل. وكذلك روي في خبر آخر أنه قال: «لن تجزئ عبداً صلاته حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه»، ولم يذكر استنجاء. ولنا من الظواهر: قوله: «إنما الأعمال بالنيات»، وهذا

قد نوى الوضوء وإن لم يستنج. وقوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى»، وهذا قد نوى أن تكون له طهارة وإن لم يستنج. وقوله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وهذا قد توضأ، وصلَّى بفاتحة الكتاب وإن لم يستنج. وأيضاً قوله عليه السلام: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج»، وهذا يتوجه إلى ما تقدم ذكره من فعل الوتر -

الذي أقله مرة واحدة، فلا حرج عليه في تركه. وأيضاً فإنها نجاسة على البدن قد سقط فرض إزالتها بالماء من غير ضرورة، فوجب أن يسقط قلع عينها، دليله اليسير من الدم. وأيضاً فإنها طهارة لا تجب بالماء مع القدرة فأشبهت المضمضة والاستنشاق. وأيضاً فإن كل نجاسة عفي عن إزالة أثرها في البدن مع القدرة فإنَّه قد عفي عن إزالة عينها، أصله الدم اليسير أو دم البراغيث. وأيضاً فإن تخفيفها لو وجب بالأحجار لوجب أن يصير حكم الحادث من جنسها في حكمها؛ بدليل الأصول في سائر النجاسات. ألا ترى أن الدم يسيل من الجرح، ويحدث مكانه دم آخر، فيجب غسله -عندكم -، وليس كذلك في الاستنجاء؛ لاتفاقهم على أن موضع الاستنجاء لو حصلت عليه نجاسة أخرى من جنسها لم يجب استعمال الحجر فيها بعد الأحجار الأول

ونقول أيضاً: هي نجاسة فلم يكن استعمال الأحجار في تخفيفها فرضاً؛ دليله سائر الأنجاس في غير هذا الموضع. وأيضاً فإنها نجاسة على بدنه فوجب ألا يلزمه استعمال الأحجار فيها، دليله من كان على بدنه نجاسة وهو عادم للماء. فإن قيل: فقد روى أبو صالح عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما أنا لكم مثل الولد، فإذا ذهب أحدكم لغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائط أو بول، وليستنج بثلاثة أحجار»، وقوله: «وليستنج»، أمر ظاهر الوجوب، وقد روي أنه قال: «ولا تستدبرها لغائط أو بول، وأمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار». وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

«إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً»، والدلالة منه من وجهين: أحدهما: أنه أوجب عليه الاستنجاء، قالوا: وأنتم تقولون: إنه لو استنجى مرة واحدة زجروه. والوجه الآخر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيد الاستنجاء بعدد، وكل نجاسة قرنت في الشرع بعدد فإن إزالتها واجب، كولوغ الكلب ودم الحيض؛ لن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأسماء: «حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه».

وقد روي أن سلمان قال: نهانا رسول الله أن نستنجي بالعظم والروث، وقال: لا يكفي أحدكم أن يستنجي بدون ثلاثة أحجار». وقوله عليه السلام: «لا يكفي»، قد منع الأجزاء؛ لأن الكفاية هي الإجزاء. قيل: لو تجردت هذه الأخبار جاز أن نحملها على الندب؛ بدليل ما روي أنه عليه السلام قال: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن

لا فلا حرج»، وقوله: «من استجمر فليوتر»، خبر عمن فعل، ليس فيه استجمروا وأوتروا. وقوله: «فلا حرج»، راجع على الجميع من الاستجمار والإيتار، لأنه لو صرح فقال: «من استجمر فليوتر، من فعل الاستجمار، والإيتار، فقد أحسن، ومن لم يستجمر ويوتر فلا حرج لصح. فإن قيل: إنَّما ورد الخبر بهذا اللفظ؛ لأن الغسل هو الأصل فقال: من عدل إلى الاستجمار فليوتر، قوله: «فليوتر»، أمر واجب فإذا عدل إلى الاستجمار وجب الإيتار. قيل: فقد صار الكلام في وجوب الإيتار. وأيضاً: فإن الغسل في الأصل لم يثبت وهو الذي زعمتم أنَّه أصل، ثم لو ثبت لدل هذا الخبر على أنَّه واجب؛ لأنه لما قال: إن عدل إلى الاستجمار فقد أحسن وإن لم يفعله فلا حرج، فإذا كان لا حرج في تركه مع العدول إليه دل على أن الغسل أيضاً ليس بواجب: لأنه لو كان واجباً لكان الذي عذل إليه من الاستجمار واجباً؛ لأنَّه تخيير بين الغسل والاستجمار، فانتم بين أمرين: إما أن تسقطوا الاستجمار وتوجبوا الغسل وليس هذا مذهبكم، وإذا سقط وجوب الاستجمار سقط حكم الغسل في الوجوب، ويكون التحيير إنما هو - عندنا - في المسنون وهو الغسل أو الاستجمار.

وأما حديث جابر وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا استجمر»، فليس فيه أيضاً استجمروا، وإنما هو إذا فعل فليس يدل على وجوب الاستجمار. وقوله: «فليستجمر ثلاثاً»، يصير الكلام في العدد، ونحن نتكلم عليه بعد ذها. وقولهم: إنه قد قيد فيه النجاسة بالعدد، [ونحن نتكلم عليه بعد هذا]، فصار كالولوغ ودم الحيض، فإنا نقول: ليس غسل الوضوء -عندنا - لنجس، ولا هو واجب أيضاً، والكلام يجيء عليه في موضعه. وأما دم الحيض فليست إزالته -عندنا - فرضاً، ولا فيه عدد، ونحن نتكلم في إزالة الأنجاس عند الفراغ من عين هذه المسألة. لإن قيل: فإنها نجاسة لا تلحقها المشقة في إزالتها غالباً، فوجب أن تجب عليه إزالتها، أصله إذا كانت النجاسة من الدم كثيرة، أو كانت في غير هذا الموضع. قيل: لا يلزم من وجهين: أحدهما: أن إزالة النجاسة ليست -عندنا - فرضاً في المواضع كلها.

والوجه الآخر: أنه ينتقض بأثر الاستنجاء، لا تلحقه المشقة في إزالتها في الغالب؛ لأنه إما أن يكون مسافراً أو مقيماً، والغالب من عادة المسافر ومن في البرية ألا ماء معه، وإن كان معه فهو يحتاج إليه لشفته، وإن كان مقيماً لحقته المشقة في إزالته بالماء، لأن الغالب أنه يتكرر منه في اليوم المرة والمرتان لا سيما العرب؛ لأن أقواتهم التمر فأجوافهم رقيقة. قيل: مع وجوده الماء ن وتمكنه منه لا تلحقه المشقة في غسله، فلمَّا لم يجب غسل الأثر لم يجب تخفيفه بالحجر، ألا ترى أن سائر الأنجاس -عنكم - لما وجب إزالتها وجبت بالماء الذي يزيل الأثر. ثم إن العلة منتقضة بما دون اللمعة من الدم فإن غسلها بالماء لا يشق، ومع هذا فليس تجب إزالتها إجماعاً. فإن قيل: قوله عليه السلام: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج»، عائد إلى الشفع وإلى الغسل فتقديره: فلا حرج في أن يعدل إلا هذين.

قوله عليه السلام: «فلا حرج»، عائد على ما ذكر من فعل الاستجمار والوتر، فلا حرج في تركهما جميعاً، والرجوع إلى الغسل يحتاج إلى دليل؛ لأنَّ الرجوع إليه يدل على أنه أصل، ولم يثبت الأصل. وعلى أنه لا يجوز صرف الخبر إلى هذا؛ لأن الغسل أحسن، فلا نقول: من عدل عنه إلى المسح أحسن وإن تركه وعاد إلى الغسل فلا حرج.

فصل

فصل فأما إزالة سائر النجاسات من البدن والثياب وغير ذلك فليست بفرض على ظاهر مذهب مالك. وقال بعض أصحابنا: إزالتها فرض، وبهذا قال أبو حنيفة في غير الاستنجاء إذا زاد عن مقدار الدرهم. وقال الشافعي: إزالتها فرض، ولم يعتبر مقدار الدرهم. وأنا أتكلم على إزالتها في الجملة ليس بفرض، فإذا ثبت ذلك دخل فيه الاستنجاء. والدليل على ذلك: هو أن الأصل أن لا يجب شيء إلا بدليل. وأيضاً فإنا نفرض المسألة في رجل صلَّى وعليه نجاسة، فقلنا: صلاته صحيحة، وقالوا: هي فاسدة، فالدليل لقولنا: قوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، وهذا قد فعل الصلاة، ونوى أن تكون له صلاة، فله ما نواه. وأيضاً قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وهذا قد

صلى وقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وأيضاً قول الله -تعالى -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}، إلى آخر الآية، ولم يذكر غسل شيء سوى ما ذكر من الأعضاء، وهذا قد فعل ما أمره به. وأيضاً قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لن تجزئ عبداً صلته حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه»، وأعلمنا أن الصلاة تجزئ بهذا الفعل، ولا تجزئ بما دونه. وكذلك قوله للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله، فاغسل وجهك ويديك»، ولم يذكر له شيئاً غير ما ذكره، وهو موضع تعليم، وبين له القدر الذي أمره الله به، فمن فعل ذلك فقد امتثل المأمور به، فلا يلزمه غيره إلا بدليل. ولنا أن نفرض المسألة فيمن اخطأ أو نسي غسل النجاسة حتى صلى، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»، وهذا عام

في رفع الحكم والمأثم؛ لأنَّ المراد الحكم؛ لأن الفعل قد وقع فلا يمكن رفعه، بل ينبغي أن يحمل على رفع الحكم في الفساد والقضاء لا على رفع المأثم؛ لأن رفع المأثم معلوم من هذا الخبر، فلا يحمل كلامه إلا على ما يعلم من جهته بهذا الخبر حتى تكون فيه فائدة مستأنفة، وهو الحكم الشرعي.

وأيضاً قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المستحاضة: «تصلي وإن قطر الدم على الحصير»، فلو كانت إزالة النجاسة فرضاً لوجب منم هذا أحد أمور: إما أن لا تصلي أصلاً لهذه الضرورة، كما لا تصلي إذا كانت حائضاً، أو إن كان صلت قضت الصلاة حتى تتمكن من إزالتها، فلمَّا جوز لها الصلاة على حل النجاسة، وأجزأتها صلواتها، دل على أن إزالتها ليست بفرض. وقد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثعب دماً بحضرة الصحابة، وكانت حاله كحالة المستحاضة.

وأيضاً فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في الصلاة، فخلع نعله فخلع الناس نعالهم، فلمَّا فرغ من صلاته قلا: «ما لكم خلعتم نعالكم؟»، قالوا: رأيناك قد خلعت فخلعنا. فقال: «إنه أتاني جبريل فأخبرني أن فيهما قذراً»، فقد علم عليه السلام في الصلاة بالقذر في نعله، وبنى على صلاته، فلو كان إزالة النجاسة فرضاً، لكان فرضه من أجل الصلاة، فلم يجز أن يبني عليها، بل كان الواجب أني قطع ويستأنفها، كما يجوز له أن يبتدئها بالنجاسة.

فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خلع النعلين، فلم تكن إزالة النجاسة فرضاً بها. خلعهما: ليعلمنا الاستحباب، وبنى على صلاته ليعلمنا أن الإزالة ليست بفرض. فإن قيل: فقول مالك أنه يجب أني قطع الصلاة إذا رأى في ثوبه نجاسة ويخرج فيغسلهما. وأيضاً فقد قال مالك: إن من تعمد الصلاة بذلك أعاد في الوقت وغيره، وليس الفرض أكثر من هذا، وان الوعيد يلحقه، ولا يقدح في فرضه قوله: إذا صلَّى ناسياً لنجاسة أنه يعيد في الوقت؛ لأن عنده أن الموالاة واجبة في الوضوء والغسل، ويفرق فيما بين العمد والنسيان، ويكون هذا فرضاً بمنزلة من يصلي أن عليه فرضاً أن أل ي قوم إلا خامسة، فلو قام إليها ناسياً لم يفسد، وكنا يقول على التسمية على الذكاة، إنها واجبة يفرق بين عمدها ونسيانها.

قيل: أما ما كان مثل النعل يلقيها عنه، ومثل أن يرى في ثوبه نجساً، وعليه ما يستره غير ذلك الثوب فإنَّه يلقيه عنه ويمضي على صلاته، كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النعل. فأما إن كان النجس على بدنه أو في ثوب يستره فإننا نقول: اقطع صلاتك حتى تأتي بالسنة المؤكدة في صلاتك ولا تعتمد تركها، وقد قال مالك - فيمن نسي الوتر حتى دخل في صلاة الصبح وذكر الوتر -: إنه يقطع الصبح -التي هي فرض - لأجل الوتر - الذي هو سنة - فيصلي الوتر، ثم يعود على صلاة الصبح إلا أن يحاف فواتها، فكذلك نقول له في الصلاة، إنه يقطعها إلا أن يخاف فواتها فيمضي ولا يقطع، كمن لم يجد إلا ثوباً نجساً يستره فإنَّه يصلي به. وقوله: إن من تعمد الصلاة بالنجس فإنَّه يعيد الصلاة في الوقت وغيره؛ يريد من يتعمدها لغير عذر، فإن الإنسان لا يجوز له تعمد ترك سنن النبي عليه السلام لغير تأول أو عذر من نسيان وغيره، وول كانت إزالته فرضاً لم تتخلف لضرورة وغير ضرورة، فلما جاز للمستحاضة، ولمن جرحه يثعب دماً أن يصلي ولا يعيد، ثبت أن ذلك ليس بفرض. وأما الموالاة في الوضوء فقد تقدم ثبوتها بظاهر الآية، ولم يتقدم ثبوت إزالة النجاسة في الوجوب، وقد يكون في السنن ما بعضه

آكد من بعض، فلما اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو واجب، وقال بعضهم: هو مسنون آكد مما اتفقوا فيه على أنه مسنون، فكل ما كان آكد فإن مالكاً يشدد فيه. ولنا في المسألة أيضاً: ما روي أن النبي عليه السلام صلى صلاة الصبح، فلمَّا قضى صلاته واقبل على الناس بوجهه، نظر فإذا لمعه من دم الحيض، في ملحفة قد صلَّى فيها، فصرها في يد بعض أصحابه، ووجه بها عائشة -رضي الله عنها - لتغسلها، ولم يعد الصداة،

فلو كانت إزالة ذلك فرضاً لأعاد الصاة، وهذا لا يلزم أبا حنيفة، لأنَّه يجوز أني كون أقل من الدرهم، ولكنه يلزم أصحاب الشافعي؛ لأنهم يسوون بين قليله وكثيره. ولنا أيضاً: القياس على المستحاضة إذا صلت، فإن صلاتها مجزئة، فكذلك إذا صلَّى من به نجاسة، والمعنى فيه: أنه مصل بجميع شرائط الصلاة، غير أن عليه نجاسة لم يتعمد تركها لغير تأويل. فإن قيل: المستحاضة معذورة بها ضرورة، ولا يمكن زوالها حتى يزول الوقت. قيل: هذا منتقض بمسألة فرع، وذلك أن رجلاً لو اقعد في ماء نجس إلى نصفه أو إلى حلقه، ومع أن يخرج منه أياماً، وأوقات الصلاة تحضر، وهو لا يقدر أن يتوضأ إلا بالماء النجس، وهو لا ينفك من النجاسة عليه، وهو مع هذا يخالف المستحاضة -عنكم -؛ لأنَّكم إما أن تقولوا يصلي ويعيد، أو لا يصلي في الحال ويصلي إذا تخلص، أو لا يصلي أصلاً، فأمتا أن يصلي ويجزئه كالمستحاضة فلا نظنه قولكم؛ لأنَّه كالمحبوس في الحش، وقولكم فيه معروف، وضرورة هذا أشد من ضرورة المستحاضة.

فإن قيل: فإن الدليل قد قام على وجوب إزالة الأنجاس، وهو قوله -تعالى - {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، والثياب في الإطلاق وما جرى به العرف، والتطهير بما علمناه في الشرع من نجس. قيل: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن الثياب وإن كانت من العرف على ما نعلمه من ثيابنا فإن هذه الآية قد وقع التنازع في المراد منها، فقال ابن عباس رضي الله عنه: إن الله -تعالى - أراد وقلبك فطهر، واستشهد على ذلك بقول امرئ القيس: وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسُلِّي ثيابي من ثيابِك تَنْسُلِ

فإذا كان الخلاف بيننا فيما أريد بالثياب في هذه الآية لم تكن لكم فيها حجة، لأننا لا نوجب شيئاً ونفرضه بأمر متنازع فيه. وجواب آخر؛ وهو أن حقيقة قولنا: طهر ثوبك، إنما هو أمر لمن في ثوبه نجس، ولا يقول أحد: إنه كان في ثوب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نجس، فيحمل قوله -تعالى -: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، على معنى بعدها من النجس، وهكذا نقول: وهذا مثل قوله -تعالى - في عيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي مبعدك منهم. لا إن قيل: يحتمل أن يكون كان في ثيابه شيء من نجس. قيل: ويحتمل ألا يكون، فلا نوجب شيئاً بمحتمل. وجواب آخر: وهو أن التطهير اسم مشترك، فلا نجعل هذا لنجاسة إلا بدليل، وقد قيل: إنه لنا أمر بتطهير الثياب قبل اجتناب الرجز دل على أن المراد القلب، لأنه محال أن يؤمر بإزالة النجاسة عن ثوبه أو بدنه قبل اجتناب الرجز، وقبل أن تفرض عليه الصلاة التي لأجلها أمر بتطهير الثياب.

فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بصبِّ الماء على بول الأعرابي، وأمره على الوجوب. وكذلك في دم الحيض حيث قال لأسماء: «حتيه ثن اقرصيه ثم اغسليه بالماء»، وهذا كله على الوجوب. قيل: هذا واجب كما ذكرتم وجوب سنة، وخلافنا في الفرض، والفرض كما يفرضه القرآن، أو يكون ذكره مجملاً في القرآن فيبينه عليه السلام فأما ما يبتدئ عليه السلام فيبينه فليس بفرض. قوله: فليس بفرض من عندي، وقد فرق المسلمون بين الفرض والسنة، فالفرض ما كان بالقرآن، والسنة ما كان من النبي عليه السلام وهكذا قولنا، وهذه كان الشيخ أبو بكر -رَحمَه الله - يختارها. وقد حُكي عن سعيد بن جبير لما قيل له: إن إزالة النجاسة

فرض أنه قال: اتل علي بها قرآناً، فرأى أن الفرض لا يكون إلا بقرآن. وعلى أن هذا يجوز أن يصرف إلى السنة والندب بالدلالة، وقد ذكرنا في المسألة دلائل من الأخبار والقياس. فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستنزه»، وفي خبر: «لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»، وهذا إخبار منه عليه السلام عن تعذيبه بسبب البول، وتوعد وتحذير لمن يسمع ذلك، فثبت بهذا أن الإزالة فرض. قيل: هذا إخبار عن عين واحدة، واللفظ قد اختلف فيه، فقيل: «لا يستبرئ». وقيل: «لا يستنزه»، فيحتمل أن يكون يدع البول يسيل عليه فيصلي بغير طهر؛ لأن الوضوء لاي صح مع وجوده. ويجوز أن يكون أيضاً يفعل ذلك على عمد له لغير عذر، - وعندنا - أن من تعمد ترك سنن النبي عليه السلام لغير عذرٍ ولا تأويلٍ متوعد مأثوم، وكذلك من لا يستنزه ويتعمد استعمال النجس ولا يجتنبه، فأما إذا لم يتعمد ذلك أو ترك إزالته متأولاً أو لعذر فصلاته ماضية وقد

أساء، ألا ترى أننا قدذ كرنا حديث المستحاضة، وحديث عمر رضي الله عنه أنَّه صلَّى وجرحه يثعب دماً، وكذلك تأول أكثر أصحابنا في الناسي إذا صلَّى وفي ثوبه نجس أو في بدنه جَعْلَه معذوراً بالنسيان كالمستحاضة، وقالوا في العمد لغير عذر، لا تجوز الصلاة وتعاد في الوقت غيره، فإن كان هذا هكذا فالمعذور لا يلحقه الوعيد، وإنما يلحق القاصد لغير عذر. لإإن قيل: فما الفرق بين الفرض والسنة إذا كنتم توجبون الإعادة في ترك الفرض في الوقت وغيره، وتوجبونها في السنة كذلك؟! قيل: الفرق بينهما هو أنه قد صلَّى وترك فرضاً أعاد الصلاة، سواء تعمد ذلك أو نسي أو لعذر، وإذا صلَّى وترك السنة لضرورة أو نسيان لم يعد، فأما إذا تعمَّد لغير عذر أو تأويل أعاد أبداً. كما لو ترك الفرض. مثال هذا: لو فاتته صلاة العيد، ونام عن الوتر حتى طلعت الشمس لم يعد، ولو تعمد ترك ذلك أعاد الوتر، فأما العيد فسنتها الجماعة فإذا فاتت لم تجب إعادتها إذا تركها عمداً، كما لو تعمد ترك الجمعة لم يعدها جمعة.

فإن قيل: فقد بان بهذا أن الموالاة في الوضوء والغسل مسنون؛ لأنَّه يمضي مع النسيان، وإن كان يعيد مع العمد إذا صلَّى. قيل: قد بينا أن في الفروض مثل ذلك، ألا ترى أن الإمساك عن الأكل والشرب قي رمضان فرض، ثم لو نسي فأكل لم يبطل صومه - عندكم -، ولو تعمد بطل. وكذلك الإمساك عن القيام إلى خامسة في صلاة الفرض، ويفترق عمده ونسيانه. فإن قيل: فقد استوت الفرائض والسنن في مواضع فبأي شيء يعلم الفرق بينهما في الابتداء؟ قيل: ما كان فرضاً فأصله في القرآن، إما مفسراً، أو مجملاً يبينه النبي عليه السلام، وما كان مسنوناً فهو ابتداء من النبي عليه السلام.

وقد دخل في الحِجَاجِ حجةُ مَنْ قال مِن أصحابنا: إن إزالتها فرض، وبيّنا حجةَ ظاهر قول مالك -رَحمَه الله - إن إزالتها سنة، فمن قال: إنها فرض، لزمه أن يكون الاستنجاء فرضاً، وعلى قول مالك يكون الاستنجاء مسنوناً، والله أعلم. ب ل يكون الفرق بين الاستنجاء وبين سائر الأنجاس على قول من يقول: إن الإزالة فرض أو سنة من وجه، وهو: أنَّه خفف في الاستنجاء بالأحجار دون الماء؛ ليقلع العين دون الأثر، والموالاة داخلة في جملة الفرض، لأن ظاهر القرآن يدل عليها، ولي سفي إزالة النجس ظاهر القرآن، فهو في حيز المسنونات، والله أعلم.

[19] مسألة

[19] مَسْأَلَة وعدد الأحجار غير مستحق عندنا، وعند أبي حنيفة، فإن اقتصر على دون ثلاثة مع الإنقاء جاز، وبه قال داود. وقال الشافعي: لا يجوز الاقتصار عن ثلاثة أحجار وإن أنقى. وهذه المسألة فرع أتى على أن الاستنجاء غير واجب، وقد دللنا عليه، وإذا سقط وجوبه سقط اعتبار صفته ومقداره، لأن أحداً لا يفرق بينهما. وكان الشيخ أبو بكر -رَحمَه الله - يقول: إنَّه لا يعرف عن مالك - رَحمَه الله - نصًّا: هل يجوز أن يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار إذا أنقى؟ قال: والذي أدركت عليه شيوخنا أنه يجوز الاقتصار عن ثلاثة

إذا أنقى إلا أبا الفرج المالكي فإنَّه في كتابه الحاوي: لا يقتصر على ثلاثة أحجار، والذي أقول أنا: وهذا يتخرج على قول أبي الفرج: إن الاستنجاء وإزالة الأنجاس فرض. وأنا أدل على أن العدد غير واجب فيه؛ لأنَّ أحداً لا يفصل بين الأمرين، فيسقط وجوب الأصل بسقوط وجوب ص فته. والدليل على أن العدد غير معتبر: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الجن طلب للاستنجاء أحجاراً من ابن مسعود، فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الروثة وقال: «إنها ركس»، وذكر في بعض الأخبار: أنَّه أتاه

بالثالث وروي: أنَّه لم يأته بشيءٍ، وأي الأمرين كان فالاستدلال به صحيح؛ لأنه عليه السلام، اقتصر للموضعين على ثلاثة أحجار، فحصل لكل واحد منهما أقل من ثلاثة أحجار، ألا ترى أنه لا يقتصر على الاستنجحاء لأحد الموضعين ويتر الآخر. وأيضاً فإن الأصل أن أل يجب شيء، وقد لتفقنا على إ ثبات حجر واحد إذا أنقى، واختلفنا في الزيادة عليه، فنحن على موضع الاتفاق حتى يقوم دليل الاختلاف. وأيضاً فقد روي أنه عليه السلام قال: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج»، فقوله: «فليوتر»، يقتضي أن يفعل ما يسمى وتراً، وأول الوتر [هو الوتر] هو الواحد، ولو ثبت أنَّه أراد الثلاث لكان قوله: «فقد أحسن، ومن لا فلا حرج»، يدل على جواز ترك الثلاث، ولا حرج عليه. فإن قيل: حملكم له على الواحد لا يفيد؛ لأن الواحد لا بد منه.

قيل: فائدته أنه إذا أنقى بالواحد لا يفعل الشفع الذي هو الاثنان. فإن قيل: دليل الشفع لا يجوز، ويجوز أن يكون قوله: «فلا حرج»، في العدول إلى الشفع أو إلى الغسل. قيل: إنما يرجع الكلام إلى ما تقدم ذكره، ولم يجر لغير الإيتار ذكر، فقوله: «فلا حرج» راجع إليه، ولو كان قوله: «فلا حرج»، راجعاً إلى أنه يفعل الشفع فأول الشفع بعد أول الوتر هو الاثنان، وأنتم لا تجيزون الاقتصار على الاثنين. وعلى أنه أل يصح أن يعود قوله: «فلا حرج»، إلى الغسل؛ لأنَّ الغسل أحسن من الاستنجاء، فلا يكون قوله: «فقد أحسن»، للاستجمار، «فلا حرج»، في الغسل. فإن قيل: فإنَّه مجمل يقضي عليه ما رويناه من الأحاديث التي في بعضها: «وأمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار»، وفي بعضها: «لا يجتزئ»، و «لا يكتفي بدون ثلاثة أحجار». قيل: هذه الأخبار حجة عليكم؛ لأنَّ الغائط يؤتى للأمرين من الغائط والبول، وقد اقتصر عليه السلام على ثلاثة أحجار فيها، فحصل لكل موضع منهما أقل من ثلاثة أحجار، وليس فيه ذكر أحد الموضعين

دون الآخر، فيحتمل أن يكون أراد الموضعين جميعاً أو أحدهما، فليس أحد الأمرين بأولى من الآخر. ويحتمل أني كون أراد بذكر الثلاثة أن الغالب وجود الإنقاء بها، كما ذكر في المستيقظ من النوم أن يغسل يده ثلاثاً قبل إدخالها في وضوئه على غير وجه الشرط، وليس في خبرنا إجمال يحتاج إلى تفسير. وأيضاً فإن الثلاثة ليست بحد، ألا ترى أنَّه لو لم ينق بها لزاد عليها. ثم إننا نستعمل الأخبار كلها، فنحمل أخبارنا على جواز الاقتصار على ثلاثة إذا أنقت، ولا يجتزئ عنها إذا لم تنق الاثنان، لأنَّه لي سفي إيجاب الثلاثة حكم يتقدر حتى لا يتجاوز، لأنه إذا لم ينق لزم الزيادة عليها، فعلم أن الفرض الإنقاء، ويجوز أن نحمل الثلاثة على الاستحباب إذا أنقى بما دونها. ونقول أيضاً: إن الاستنجاء مسح، والممسوحات في الشرع لا يجوز فيها التكرار دليله مسح الرأس، ومسح الخفين. وأيضاً: فإنها نجاسة عفي عن أثرها، فوجب ألا يجب تكرار المسح فيها، دليله سائر النجاسات. وأيضاً فإن الماء أبلغ في الإزالة؛ بدليل أنَّه لا يبقي حكم النجاسة، وإنما الاستنجاء يخفف قذرها ولا ينقي أثرها، فإذا سقط التكرار في موضع إزالة الأثر كان سقوطه في الموضع الذي لا يقصد به إزالة الأثر أولى؛ لأنه أخف.

وأيضاً فإنه مقام تطهير، هو أصل، فأشبه التيمم، ومسح الخفين لا يستحق التكرار فيه. وأيضاً فإن المقصود من المسح الإنقاء، بدليل الاتفاق على أنَّه إذا لم ينق بثلاثة زاد عليها، وبدليل الاتفاق على جواز الاقتصار على حجر واحد له ثلاثة أحرف، ولو كان العدد معتبراً لاعتبر عدد الأعيان، كأحجار رمي الجمار، فلمَّا سقط اعتبار العدد دل على اعتبار الإنقاء، وقد وجد فبان بما ذكرناه سقوط العدد، وإذا ثبت ذلك، صح أنه في الأصل غير واجب؛ لأن من أوجب الاستنجاء لم يوجبه إلا على هذه الصفة. وأيضاً فإن الاستنجاء اسم لإزالة النحو، ومنه اشتق فإذا زال بالحجر الواحد والحجرين لم يبق هناك نجو يقع الاستنجاء له. فإن قيل: فإنه نجاسة قرن إزالتها في الشرع بعدد من جنس فوجب أن يكون العدد فيه شرطاً كالولوغ. قيل: هذا لا يلزمنا نحن؛ لأنَّ غسل الإناء من الولوغ لا لنجاسة، ثم شرط العدد فيه غير مستحق وإنما هو مندوب.

فإن قيل: قوله عليه السلام: «من استجمر فليوتر»، عام في الوتر الذي هو مرة واحدة، وفي الوتر الذي هو الثلاث والخمس والسبع، وأخبارنا خاصة في وتر بعينه وهو الثاث. قيل: قوله: «فليوتر»، يتعلق الحكم بأول الوتر، وهو أمر يقتضي فعل مرة، وأول الوتر مرة، ثم قوله: «فقد أحسن»، يدل على أنه لم يرد ما زاد عن الثلاث مع الإنقاء؛ لأنَّه يكون مسيئاً غير محسن. فإن قيل: إنه وإن أنقى بما دون الثلاث فعليه أن يأتي بالثاث تعبداً مع إزالة النجس وقد يزول حكم النجاسة، ويبقى التعبد، كما نقول: إن العدة لبراءة الرحم، ألا ترى أته إذا طلقها قبل الدخول لا عدة عليها؛ لعلمنا ببراءة رحمها، ثم أوجبنا على الحرة ثلاثة أقراء وإن كانت البراءة تعلم بقرء واحد. والدليل على أن البراءة تقع بقرء واحد؛ أن الأمة إذا بيعت تستبرأ

بحيضة واحدة، ثم أوجبنا على الحرة ما زاد على القرء الواحد تعبداً، وإن كان القصد من العدة براءة الرحم، كذلك أيضاً وإن كان القصد من الاستنجاء إزالة النجاسة جاز أن توجد الإزالة ويبقى الوجوب للعبد. قيل: قولكم: إن ما زاد على الحجر الواحد إذا أنقى يجب تعبداً، فإننا نقول: إن العبادة ما كان واجباً يفعل على طريق القصد إلى القربة، فلو منعناكم من اسم العبادة على إزالة النجس لجاز، على أن الاستنجاء لم يوضع لإزالة النجس وإنما هو لتخفيفها والعدة لم توضع لإزالة المعنى، وإنما وضعت لتبيين أن الحمل ليس بموجود، وأن الرحم غير مشغولة، ويفترق حكم ما به يعلم عدم الشيء، وحكم ما يزيله ويؤثر في رفعه بعد وجوده. وعلى أن مراعاة العدد لوجب أن يستوي فيه حكم الحرة والأمة وأم الولد؛ لأنَّ عدة أم الولد على -أصولهم - عدة، ولم يعتبر فيها

العدد وإن روعي في الحرة، وإنما اختلف حكم العدة لاختلاف الحُر! م كالحدود وطلاق الحر والعبد، ولم يكن الاستنجاء لأجل الحُرَم معتبراً؛ لأنَّه يستوي فيه الحر والعبد، والحرة والأمر، لأن الفرض فيه التخفيف للنجاسة فحيث وجد إلقاء العين وقلعها دون أثرها جاز، ألا ترى أن الحرة والأمة قد اشتركا يف وضع الحمل، واعتبرا فيه جميعاً اعتباراً واحداً؛ لاستوائهما في الاستبراء، فكذلك لما استوى الفرض في الاستنجاء وهو خفيف النجاسة بقلع عينها لم يعتبر فيه العدد. فإن قيل: فإن الاستنجاء بالأحجار كالعدة بالأشهر والإقراء، والاستنجاء بالماء كالعدة بوضع الجمل؛ لأن الماء يزيل العين والأثر على الحقيقة، ووضع الحمل براءة للرحم على اليقين، فوجب ألا يثبت قولكم بالشهور والإقراء، وإنما هي دعوى. على أننا نقول لكم: أليس قد جاز الاستجمار الذي يقطع العين دون الأثر في أن الاستنجاء يقوم مقام الماء في ترك العدد؟ قيل: إنكم لم تذكروا معنى تجمعون به بين الاستجمار وبين العدد، فقد صار الغرض منه قلع العين حسب، كما أن الغرض من الماء قلع العين والأثر، فإذا لم يعتبر العدد فيما قصد له من قلع العين والأثر لم يعتبر العدد فيما أريد له من إزالة العين دون الأثر، لأن الغرض زوالها دون أثرها.

ثم أن الذي يدل على صحة هذا هو: أن العين إذا لم تزل بالثلاث زاد عليها حتى تزول العين دون الأثر، فقد استوى الأمران في سقوط العدد في قلع العين، بل الموضع الذي عفي فيه عن الأثر أولى أن يسقط فيه العدد، والموضوع الذي أخذ عليه قلع العين والأثر أولى أن يعتبر فيه العدد؛ لأنَّ ما تعاظم من حكم الشيء - عندكم - أولى من زيادة العدد فيه، كولوغ الكلب اعتبرتم فيه العدد ولم تعتبروه في غيره. ثم نقول أيضاً: إذا كان زوال العين دون الأثر قد يزول بأقل من ثلاثة أحجار مع جواز أن يكون ألثر قد زال، ويجوز ألا يزول، فليس ههنا أمر متحقق، فينبغي أن ترد هذه الزيادة على الحجر والحجرين إذا أزال العين إلى غسل اليد عند هذه الزيادة على الحجر والحجرين إذا أزال العين إلى غسل اليد عند الاستيقاظ من النوم قبل إدخالهما في الإناء، لأن هناك أمراً مشكوكاً فيه أل يتحقق، فيكون غسل اليدين مستحبًّا، ويكون المسح بالحجر الثالث مستحبًّا؛ لأنَّه ليس هناك أمر من بقايا العين يتحقق، وهذا من باب الطهارات، وغسل اليدين مثله، وليس كذلك العدة، لأنَّه وإن كان الغرض فيها براءة الرحم، ففي الموضع الذي يتحقق فيه بوضع الحمل تستوي فيه الأمة والحرة، وفي الموضع الذي أل يتحقق فيه بالإقراء والأشهر فإنما هو لأجل الحرم، مع الاستدلال على براءة الرحم، ألا ترى أن عدة الأمة والزوجة على النصف من عدة الحرة بالأقراء، واستبراء الأمة من وطء سيدها بحيضة، فهي كما ذكرنا وفي الحدود والطلاق الذي ينكمل بكمال الحرمة، وينقص بنقصانها، وليس كذلك الاستجمار؛ لأنَّه لا يختلف الغض فيه من الإنقاء في الحر والعبد، فحيث وجد أجزأ. وعلى أن العدة مرتبة، ولا يجوز للحامل أن تعتمد بالشهور أو الأقراء، ولا لذات قرء ن تعتد بالشهور، وليس الاستنجاء بالماء

والاستجمار مرتبين، بل هو مخي بينهما، فلم يشبه العدد. وعلى إننا قد ذكرنا أن الحجر الواحد إذا كان له ثلاثة أحرف قام مقام الثلاثة الأحجار والنبي عليه السلام نص على ثلاثة أحجار، وليس الحجر الواحد ثلاثة أحجار، فكذلك يقوم الحجر والحجران، وليس الثلاثة إذا حصل قلع العين من النجاسة، وإن جاز أن يقوم حجر واحد له ثلاثة أحرف مقام ثلاثة أحجار؛ لأنه يكون فيه ثلاث مسحات، جاز أني قوم الواحد والاثنان مقام الثلاثة إذا قلع عين النجاسة، وكان اعتبارنا بقلع العين أولى، لجواز الزيادة على الثلاث إذا لم يحصل الإنقاء. ونقول أيضاً: إن الطهارات المتعلقة بالمادات، عينيات كن أو حكميات لا تقتضي اعتبار العدد في الوجوب، أصل ذلك التيمم والدباغ. وأيضاً فقد اتفقنا على أن الثلاثة تجزئه إذا قلعت العين، فكذلك دونها؛ لوجود قلع عين النجاسة. فإن قيل: قد اتفقنا على أن الحج لا أو الحجرين إذا لم يقع الإنقاء لم يجزئ؛ بعلة قصوره عن الثلاثة. قيل: هو منتقض بالحجر الواحد له ثلاثة أحرف.

فإن قيدوه بالمساحات. قيل: المعنى فيه أن الإنقاء لم يحصل، ويكون قياسنا أولى؛ لأنَّه يطرد وينعكس، فأين وجد الإنقاء أجزأ، وإن لم يوجد لم يجزئه الثلاثة بالاتفاق. فإن قيل: قولكم: إن الاستنجاء اسم لإزالة النجو، فإذا انقلع النجو، بحجر واحد لم يبق هناك نجو خطأ؛ لأنَّنا نجد إزالة النجو بحجر ولا يسمى استنجاء، ألا ترى أن النجو يكون على الثوب والبدن فيزول بالحجر، ولا يسمى قلعه بالحجر استنجاء، وقد يسمى في موضع استنجاء ولا نجو هناك، مثل أن ينجي بحجر فيقال: قد استنجى، وإن لم يكن على ذكره نجو، فعلم أن الاستنجاء اسم لإمرار شيء على محل مخصوص. قيل: إنَّما لم يسم قلع النجو على الثوب أو البدن بحجر استنجاء؛ لأنه أخذ عليه قلع أثر النجو مع العين فلم يخص باسم الاستنجاء وإنما يقال له: قد غسل وقلع النجو، ولما أخذ عليه في الاستنجاء قلع العين دون ألثر اختص باسم الاستنجاء قلع عين النجو. وأما مسح الذكر بالحجر فالاسم المختص به الاستبراء لا الاستنجاء، فإن سمي بذلك فإنما هو لمراقبته موضوع النجو.

فإن قيل: قد سمي استجماراً، ,اخذ من اسم الجمار، واستعمال الأحجار فيها فروعي فيه العدد. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن رمي الجمار لا يجوز الزيادة على العدد المحدود فيها ولا النقصان منها، وليس كذلك الاستجمار؛ لأنَّه لو لم تزل العين بالثلاثة زاد عليها، وقد يجوز أن يقتصر على حجر واحد له ثلاثة أحرف. والجواب الآخر: هو أن الأخص من أسماء مسألتنا إنما هو الاستنجاء، وعبر عنه بالاستجمار بالحجر، فلمَّا دخل استعمال الحجر ههنا سمَّى استجماراً، والغرض مه الإنقاء لا العدد بما ذكرناه من الزيادة على العدد إذا لم ينق. ويجوز أن نقول: إن الاستجمار ههنا لم يؤخذ من الجمار بل أخذ من استعمال المجمرة يكون الجمر فيها بالبخور لطيب الرائحة، فلمَّا كان الحجر يقلع العين التي منها الرائحة جاز أن نقول: قد استجمر، والله أعلم.

فصل

فصل والاستنجاء بما يقوم مقام الحجارة من الآجر، والخرق والتراب وقطع الخشب جائز، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي. وقال داود: لا يجوز بما عدا الأحجار. والدليل لقولنا: الظواهر من قوله -تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم}، وهذا إذا استنجى بغير الحجارة، وغسل أعضاءه فقد امتثل ما أُمر به.

وجميع الظواهر مثل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنما لامرئ ما نوى». ومن قوله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وما أشبهها. وأيضاً ما روي أنه عليه السلام قال: «إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب».

ورواه طاووس عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد خيِّر بين الأحجار والأعواد والتراب. وروي عن أنس بن مالك أنَّه كان يستنجي بالحُرُض،

ويذكر أنَّه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستنجي بالحرض. ,أيضاً قوله عليه السلام: «من استجمر فليوتر»، ولم يخص ما يستجمر به. وأيضاً ما رواه أبو صالح عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة»، والدليل فيه من وجهين: أحدهما: أنه لما نص على الروث والرمة بالنهي دل على أن ما عداهما بخلافهما، وإلا لم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة. فإن قيل: إنما نص على الروث والرمة تنبيهاً على غيرهما، وأن ما عداهما وحكمهما. قيل: هذا لا يجوز، لأن هذه التنبيه إنما يفيدنا إذا كان في المنبه عليه معنى المنبه وزيادة عليه، فأما أن يكون دونه في المعنى فلا يجوز، كقوله -تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا}، دخل فيه الضرب؛ لأن الضرب، فيه أف، وما هو أبلغ من أف، ولو نص على الضرب، لم يقع فيه التنبيه على المنع من أف؛ لأنَّه ليس في أف معنى الضرب، ولا يقع فيه التنبيه على المنع من أف؛ لأنَّه ليس في أف معنى الضرب، ولا الأذى به. ألا ترى أنه لو قيل: فلان يخفر الأمانة في درهم أو دانق،

لكان فيه تنبيه على أنه يخفر في الدينار، وما هو أكثر منه؛ لأن في الدينار الدرهم والدانق، ولو قيل: إنَّه يخفر الأمانة في دينار لم يدل على أنه يخفرها في درهم أو دانق، لأنه ليس في الدرهم والدانق دينار، وقد قال -تعالى -: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}، فعلم أن من أدَّى الأمانة في القنطار كان أولى أن يؤديها في الدينار، ومن لم يؤدي الأمانة في الدينار، كان أولى أن لا يؤديها في القنطار، فكذلك أيضاً فيما عدا الروث والرمة من الظاهر، إذا ليس في الطهارات معنى الروث والرمة، فلم يقع التنبيه عليها، بل يقع التنبيه على ما في معناها من سائر النجاسات التي هي أعظم منها أو من الأشياء المبعدات المكرهات. والوجه الثاني: هو أن قول الراوي: ونهى عن الروث والرمة استثناء من عموم قد تضمنه حكم اللفظ، ألا ترى أنه لو قال: استنجوا بثلاثة أحجار إلا الروث والرمة فلا تستنجوا بهما، [و] لكان المعنى تقديره كأنه قال: وليستنج بثلاثة أحجار، وبكل شيء جامد مثل الأحجار إلا الروث والرمة. ولنا أيضاً حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمى بالروثة

وقال: «إنه نكس»، فبين أن المعنى في إلقائه أنه ركس، وداود بقول: علة المنع من استعماله كونه غير حجر، فخالف تعليل النبي عليه السلام. وأيضاً فقد روى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا»، ولم يفرق بين الحجر وغيره. وأيضاً فإنَّه جامد طاهر، ينشف رطوبات النجس، منقٍ فوجب أن يجزئ في حكم الاستنجاء به كالحجر. فإن قيل: ينتقض بشيء من الصحف وبالخبز والدقيق وما يؤكل. قيل: لم نقل فوجب أن يجوز، وإنما قلنا فوجب أن يجزئ إذا فعل، - وعندنا - أن هذا كله يجزئ وإن كنا نكره فِعْلَ ذلك. فإن قيل: ينتقض بأصبعه؛ لأنَّه يجوز أن يستنجي بأصبعه.

قيل: لا يدخل على اعتلالنا؛ لأن أصبعه لا ينشف رطوبات النجس، بل تصقع كالعظم والعاج والصفر، وغير ذلك من الأشياء الصقيلة، ولو ترك على أصبعه تراباً أو حرضاً واستنجى به جاز، ولا يدخل على اعتلالنا الخل والماء ورد وسائر المائعات؛ لأننا قلنا جامد طاهر ينشف الرطوبات، وهذه الأشياء لو جمدت لم تنشف. وأيضاً فإن الحجر منصوص عليه، فنقول: هو جامد طاهر منصوص عليه في إزالة النجس فجاز أن يقوم غيره مقامه فيه، أصله الشب والقرظ في الدباغ، فإنه يقوم قشر الرمان وغيره مقام الشب والقرظ. فإن قيل: فقد روى سلمان أن المشركين قالوا: إن صاحبكم علمكم كل شيء حتى يوشك أن يعلمكم الخراءة. فقال: أجل نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الاستنجاء بالعظام والرجيع. وقال: «لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار»، فأخبر أنه لا يكفي غير الحجر.

وأيضاً فإنه نص على العدد وعلى نصفه بعيون الأحجار، فلما لم يجز الإخلال بالعدد، كذلك الحجر هو شرط كالعدد. وأيضاً فإنَّه عدد موصوف لا يجوز الإخلال به، فلا يجوز الإخلال بالصفة، كالشهادة، قال الله -تعالى -: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وأيضاً فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص في رمي الجمار على الحصى، فقال: «خذوا مثل حصى الخذف»، ثم لا يجوز رمي الجمار بغير

الأحجار والحصى فكذلك في الاستنجاء. قالوا: ونقيس على ذلك فنقول: هو فرض يسقط بالأحجار فوجب أن لا يسقط بغير الأحجار كرمي الجمار. والجواب: أما الخبر فقد روينا أنه قال «يكفي دون الثلاثة»، وتكلمنا عليه بقوله عليه السلام: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج»، وبالنص على ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب. وأيضاً فإن المقصود من الخبر العدد، ألا تراه قال: «يكفي دون ثلاثة»، ولم يقصد الصفة، ثم لو تجرد جاز أن يجمل على الاستحباب. على أن قولهم: إنه نص على العدد والصفة التي هي الأحجار،

فإننا نقول: الحجر ليس بصفة، وإنما هو اسم المسمى، وتعلق الحكم بالاسم لا يدل على أن ما عداه بخلاف -عند أكثر أصحابنا - وإنما يدل على أن ما عداه بخلاف إذا علق بالصفة دون الاسم، وأنا أقول بالوجهين جميعاً، ولكنا قد قلنا: إن الخبر الذي قيل فيه: نهى عن الروث والرمة، قد تضمن الأحجار وغيرها، فلم يسلم النص على الأحجار، وقد عارضناه بالخبر الآخر الذي فيه: «من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج»، فصار تقديره: من استجمر بالأحجار فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، وهذا راجع إلى العدد والأحجار جميعاً. وقولهم: لا يجوز الإخلال بالعدد والصفة، غلط؛ لأنه يجوز -

- عندنا - الإخلال بالعدد، وقد دللنا عليها. وأيضاً فقد وافقنا داود في جواز الاقتصار على حجر واحد فسقط السؤال على مذهبهم. وعلى أن الفرق بين الشهادة وبين الاستجمار هو أن القلب على قول الشاهدين أسكن منه إلى قول الواحد إذا كرر الشهادة مرتين؛ لأن الاثنين إلى الصدق أقرب من الواحد، والمعنى الذي في الاثنين غير موجود في الواحد، وكذا قول العدل؛ إلى الصدق أقرب، والتهمة منه أبعد منها إلى الفاسق فلما لم يوجد في الفاسق معنى العدل لم يجز أن يقوم مقامه، وليس كذلك الأحجار؛ لأن المقصود منها قلع عين النجاسة؛ بدليل أن الثلاث لو لم تقلعها وجبت الزيادة عليها، والخرق والآجر وهذه الأشياء تعمل ما يعمل الحجر وأبلغ، فجاز أن تقوم مقامه لوجود معناها فيها. وأما الجمار فعند داود أنه لو رماها بعصفورة ميتة جاز، -

وعندنا - هي عبادة لا يعقل معناها، والعبادة إذا لم يعقل معناها لم يجز القياس عليها، ثم ما قالوه ينتقض بالرجم في الجمار على أصلهم، وينتقض بالرجم في الزنا. وأيضاً فإن الغرض في الاستنجاء إزالة النجو، لأنه أقيم مقام الماء الذي يزيل النجاسات، فلما أقيم الحجر في الاستنجاء مقام الماء، أقيم مقام الحجر غيره فيما يفعل فعله، وإنما خص النبي الحجر بالذكر؛ لأنه أغلب الموجودات من الجمادات عند أهل الحجاز لا أنه اختصه بالحكم، كما ذكر الله -تعالى - الرهن في السفر؛ لأن الأغلب فيه عدم الكاتب والبينة، والحضر بمنزلته، لأن الغرض منه التوثق، ولو منعنا الاستجمار في كل موضع إلاَّ بالحجر لشق، وتعذر على أكثر أهل البلاد؛ لأنه ليس كل البلاد تكون الأحجار فيها غالبة موجودة كوجود التراب وغيره. فإن قيل: فإنها طهارة بجامد أقيم مقام مائع كالتراب في التيمم.

قيل: أنتم لا تقولون بالقياس فسقط. وعلى أصولنا ليس التراب شرطاً في التيمم -عندنا -، والصعيد هو نفس الأرض سواء كان عليها تراب أو لا، أو كان عليها زرنيخ، أو جص أو غيره. وعلى ا، المعنى في التيمم أنه غير مخير بين الماء والتراب، وليس كذلك الاستنجاء؛ لأنه مخير بين الماء والحجر. وعلى أننا قد عارضناه بقياسات أخرى أولى؛ لاستنادها إلى ما ذكرناه من نص السنة على الأحجار والأعواد أو الحثيات بالتراب، ولأن الصول يشهد له؛ وذلك أن هذه طهارة موضوعة على الرخصة والترفيه والتوسعة والتخفيف، ألا ترى أنه مخير بين المائع الذي هو الماء وبين الجامد من الأحجار، وقد عفي فيها عن إنقاء الأثر، ويجوز فيها الاقتصار على الجامد مع القدرة على المائع، وهذه المعاني كلها معدومة في الطهارة الحكمية والعينية، فغير منكر أن يكون من أحدِ رُخَصِها أن تجوز بكل جامد يكون في المعنى الحجر.

وأيضاً فإن استعمال الجامد في هذا الموضع إنما دخل على سبيل الرخصة لكثرة البلوى، وفي أمرنا له باستعمال الماء في كل مرة يلحقه معه المشقة لتكرر ذلك منه، فلو كُلّف ألا يستعمل غير الأحجار للحقنة المشقة على ما ذكرناه من أن كثيراً من البلدان تخلو من الحجارة، فكانت تزول الرخصة المعتبرة في الأصل، وعلى هذا بني أمر الإبدال في الأصول، والله أعلم.

[20] مسألة

[20] مَسْأَلَة قال مالك -رَحمَه الله -: ولا يستنجي بعظم ولا روث، ويستحب بالحجارة، وذكر بعض أصحابنا أنه يجزئه، وليس ذلك كذلك، وإن كان نفس الإزالة غير فرض إلاَّ أنه إذا وجب من طريق السنة لم ينبغ أن يجزئه هذا الفعل من السنة، كما أن صلاة التطوع ليست بفرض، وإذا فعلت إلاَّ بطهارة بماء طاهر، كما أن الاعتكاف ليس بواجب، فإذا فعل فمن شرطه أن يقع في صوم. وعند أبي حنيفة أن الاستنجاء بذلك يجزئ، ولكنه مكروه، قال الشافعي: لا يجزئه.

وهذا الذي نختاره، وإن كنا نختلف في نفس الإزالة. والدليل لما قلناه: ما رُوِيَ أن النبي نهى عن الاستجمار بالروث والعظم، وأمر الاستنجاء بالحجر، وظهار النهي إذا تجرد يقضي فساد المنهي عنه أن يقوم دليل، وأمر بالحجر أمر ظاهر الوجوب إلاَّ

أن يقوم دليل، ودليله أن غير الحجر لا يجزئ حتى يقوم دليل. وأيضاً ما رواه أبو هريرة أن النبي قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم أمر دينكم». وأمر أن يستنجي بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة، وهذا موضع تعليم فلا ينبغي عنه إلا بدليل، والاستدلال منه أيضاً كالاستدلال بما قبله. وكذلك أيضاً قال لابن مسعود: «ائتني بثلاثة أحجار»، فأتيته بحجرين وروثة، فاستنجى بالحجرين وألقى الروثة، وقال: «إنها ركس»، وقيل في بعض الأخبار: «أما العظام فزاد إخوانكم من الجن، وأما الروث فزاد دوابهم»

ومن طريق المعنى: فإن العظم جسم صقيل، لا يزيل العين في غالب الحال، وقد أخذ علينا إزالتها وإن كان قد عفي عن أثرها، وكلك ينبغي أن يكون ما في معناه من الأجسام الصقيلة، مثل الزجاج والصفر والعاج، هذا لو تحققنا أن العظم ذُكي، فكيف وربما كان ميتة؟ فيلاقي النجس فيزداد نجاسة، وليس لشيء من النجاسات في الطهارة مدخل. وأما الرواية فهي -عندنا - مكروهة، وعند قوم نجسة، فإذا لاقتها النجاسة الرطبة تنجست، ولم تكن لها قوة الطاهرات المتفق عليها فتدخل مدخلها في هذا الموضع؛ لأنه موضع رخصة قد أخذ علينا فيه إزالة العين، وعفى عن الأثر خوف المشقة، فلا ينبغي أن يدخل على الرخصة ما فيه رخصة أخرى لقول المخالفين إنه نجس. وأيضاً فقد روى سلمان قال: نهانا رسول الله أن نستنجي بالعظم والرجيع.

وقد قال أبو عبيد: الرجيع ما رجع عن حالة الطعام، فهو عام في كل ما يسمى رجيعاً من جهة اللغة إلاَّ أن يقوم دليل. وعند أبي حنيفة أن الروث نجس فيقال له: إنه أحد ما يستعمل في إزالة النجاسة فوجب أن لا يجوز استعماله فيها وهو نجس؛ أصله الماء؛ لأن النجاسة تزال بمائع وجامد، ثم إذا كان المائع نجاساً لم يجز، فكذلك إذا كان الجامد - عندك - نجساً. وأيضاً فإن النجاسة تزيد في النجاسة ولا تزيلها، فوجب أن لا يجوز الاستنجاء به على أصلك. وقد روى رويفع عن النبي أنه قال له: «عسى أن يطول بك العمر بعدي، فأخبر الناس أن من استنجى بالعظم والروث فقد برئت عنه ذمة محمد»، وقد رُوِيَ: «برئت ذمتي منه»، وهذا توعد، ولا يمتنع أن يكون التوعد في الفرع أشد منه في ترك الأصل، ألا ترى أنه لو ترك صلاة التطوع أصلاً لم يتوعد، ولو قام يصليها بغير أصلاً

مع القدرة كان متوعداً، وكذلك حج التطوع لم يتوعد عليه ثم لو دخل فيه وتعمد إفساده كان متوعداً. فإن قيل: الغرض في الاستنجاء إزالة النجو مع بقاء أثره اللاصق، فمتى ذلك حصل الإجزاء. قيل: هذا غلط؛ إنما الفرض إزالته بما يزيله من الأشياء الطاهرة الناشفة التي تقلع عينه، ولو كان على ما تقول لجاز أني زيله بالعذرة اليابسة كما يجوز - عندك - بالروث، ويجب أيضاً أن يجوز له دلكه بأنه كما يجوز بالعظم. فإن قيل: فإن النبي علل فقال: «أما العظم فزاد إخوانكم من الجن، وأما الروث فزاد دوابهم»، فينبغي أن يكون زادهم مثل زادنا نحن، وهو -عندكم - يعمل في الاستنجاء ويجزئ. قيل: لا يمتنع فيه معنى معقول قد عقلناه فلم يحتج إلى ذكره لنا، ثم بينهما على معنى آخر يزيد على ما عقلناه، فكأنه أعلمنا أن الذي نجتنبه نحن ونرمي به ونبتعد عنه يتزودونه هم، فينبغي ا، نتركه لهم، فهذا يؤكد ما نقول في ألا ينبغي أن نتعرض له، وأما زادنا فليس مقصوراً على شيء واحد كاقتصار الجن على العظام. فإن قيل: ظاهر النهي في ذلك على الكراهية، كما نهى أن يستنجي الرجل بيمينه،

ويأكل بشماله، بدليلٍ وهو ما ذكرناه من المعنى في الإزالة. قيل: ظاهر النهي على التحريم، وما ذكرتموه لم يستقم، وهو ساقط. ورأيت هذا الإنسان من أصحابنا قد ألزم ظاهر النهي، وأنخه للتحريم كالنهي عن الذبح والظفر، فالتزم أن هذا محرم، فرّق بينه وبين العظم في الاستنجاء، ولم يكن ينبغي له ذلك؛ لأنَّ الذبح بالسن والظفر إن كان السن مركباً غير منزوع فإنما منع لأنه يقرض الحلقوم، وكذلك الظفر المركب إن كان رقيقاً فهو يثقب الحلقوم، فيكون فيه التعذيب للبهائم المنهي عنه. وإن كان السن منزوعاً عريضاً يشق الحلقوم ويقطع الودجين فإنه يجوز، وكذلك الظهر مثله، وهذا

لا يكره ولا يراعى فيه أنه صقيل؛ لن السكين أصقل منه، ولا تراعى نجاسته، لأنه لو ذبح بسكين ملطخة بدم أو بغيره من النجاسات لوقعت الذكاة موقعها، والذي رؤي في إزالة النجو أن يكون المزيل طاهراً يقلع العين وينشف رطوبتها فإذا لم يقع بذلك لم يقع موقعه. وهذا الذي ذكرته في السن والظفر في الذكاة قد ذكره جماعة من شيوخنا منهم أبو بكر وغيره. فإن قيل: هذه المسألة فرع على أن ألاستنجاء غير واجب، ومتى ثبت ذلك صح جوازه بهذه الأشياء؛ لن أحداً لا يفصل بينهما. قيل: هذا غلط، وقد بينا أنه قد يكون الأصل غير واجب، ثم إذا فعل كان فعله على صفة تجب لأجل فعله. فإن قيل: إن الإبقاء الذي ندب الله غليه يحصل بهذا الفعل - عندنا -، وإن كانت الآلة التي حصل بها الإنقاء قد مُنع من استعمالها، كما أن إزالة الحديث تحصل بالماء المغصوب، وإن كان المستعمل له منهيًّا عن استعماله.

والذي يدل عليه: أنَّ المأمور به الإبقاء، وهذا معنى يرجع إلى المشاهدة وقد حصلت، ,لن النبي بيَّن العلة في الروث أنها علف دوابهم - يعني الجن - والعظم طعامهم، فدل ذلك على أ، المنع لم يثبت فيه لحق الله - تعالى -، وإنما ثبت لحق الغير، فلم يمنع الإبقاء، مثل مَنْ غصب حجر غيره فاستنجى به، أو ماء غيره فتطهر به. وعلى أن النهي فيه غير متعلق لمعنى في نفس المنهي عنه فلا يفيد الفساد، مثل البيع يوم الجمعة عند إتيانها، والصلاة في الدار المغصوبة وقياساً على الحجر بعلة وجود الإنقاء. قيل له: نظير مسألتنا الماء النجس؛ لأنه لا يزول به الحدث، والماء المغصوب يُمنع منه لأجل حق الآدمي، فلما كان النهي عن الماء النجس من اجل حق الله - تعالى - كان العظم والروث مثله. وقولكم: إن الإبقاء موجود مشاهد، فهو يوجد أيضاً بالماء النجس، ومع هذا لا يجوز. ثم لا نسلم أن الإبقاء بالعظم، يصقله ويلبده في مكانه. وقولكم: إن النبي علل بأن العظم والروث ممنوع لأجل حق الغير من الجن عنه جوابان: أحدهما: إنه قد يجوز أن يكون علفهم الأشياء النجسة؛ لأنه لا عبادة عليهم، وليس كل ما تعلق به حكم الغير يجوز أن يتطهر به.

ألا ترى أن الخمر يتملكها الكفار، ولا يجوز أن يزوال بها الحديث، وكذلك الدهن النجس - عندكم - يجوز بيعه وتملكه، ولا مدخل له في الطهارات، فسقط هذا. وأما الحجر الغصب فهو كالماء الغصب، فلما جاز الوضوء بالماء الغصب جاز الاستنجاء بالحجر الغصب، ولما لم يجوز رفع الحدث بالماء النجس لم يجز الاستجمار بالنجس، وكذلك لا يجوز الاستنجاء بالماء النجس؛ فالاستجمار مثله لا يجوز بالنجس. وقولكم: عن النهي غير متعلق بمعنى في نفس المنهي عنه غلط؛ لأنه لم يتعلق إلاَّ بمعنى في العظم، لأنه جسم صقيل لا يقلع العين ولا ينشف رطوبتها، وأما البيع يوم الجمعة - فعندنا - أنه يفسخ، فلم يلزم ما ذكرتموه.

[21] مسألة

[21] مَسْأَلَة عند مالك - رَحمَه الله - أن الذي يخرج من السبيلين نادراً غير معتاد لا ينقض الطهارة، مثل سلس البول، والمذي، ودم الاستحاضة والحجر والدود، وبه قال داود. وقال أبو حنيفة والشافعي: إن الطهارة تنتقض بجميع ذلك، كما تنقص بالمعتاد. وَوَافَقَنا أبو حنيفة في أن المني إذا خرج لغير شهوة لا يوجب الغسل. والدليل لقولنا: هو أن الإنسان إذا تطهر قبل أن يحدث شيء من

هذا، فهو على طهارته، فمن قال: إن طهارته تنقص فعليه الدلالة. وأيضاً فإن إيجاب الوضوء يحتاج على دليل شرعي، والأصل براءة الذمة. فإن عورضنا باستصحاب حال أخرى، وهي أن الصلاة عليه بيقين فلا تسقط إلاَّ بدليل. قيل: قد اتفقنا على أن الصلاة تسقط بفعل الطهارة مع سائر شروطها، واتفقنا على أن هذا قد تطهر للصلاة، فمن زعم أن الطهارة المتفق عليها - وقد فُعلت للصلاة - قد انتقضت فعليه الدليل. وأيضاً قول النبي: «لا وضوء إلاَّ من صوات أو ريح»، فنفى

إيجاب الوضوء إلاَّ من هذين حتى يقوم الدليل. وأيضاً ما رُوِيَ عنه عليه السلام أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصافة، إذا ذهب قدرها فاغسلي عند الدم وصلي»، فأمرها بغسل الدم فحسب، ثم تُصَلِّي ولم يأمرها بطهارة. فإن قيل: غُسلها واجب، وهو طهارة. قيل: «وصلي»، لا يختص صلاة دون صلاة، فقامت الدلالة على غسلها عند انقطاع الحيضة، ولم تقم دلالة على وضوء لكل صلاة. فإن قيل: قوله لها: «وصلي»، أمر يقتضي ظاهره فعل مرة واحدة. ولا يقضي التكرار إلاَّ بدليل، وقد اتفقنا على أنها تغتسل لأول صلاة بعد انقطاع الحيضة، فلم يبق في الخبر دليل على موضع الخلاف. قيل: قد جعل إقبال الحيض دليلاً على ترك الصلاة، وجعل انقطاعها دليلاً على وجوب الصلاة، فعقل منه أنه اطراد الصالة التي بين الحيضتين كلتيهما، فتقديره: إذا فعل قدرها فصلي حتى تقبل فتتركي الصلاة.

+وأيضاً قوله عليه السلام لفاطمة بنت قيس في دم الاستحاضة: «إنما هو دم عرق وليس بالحيضة»، فعلل عليه السلام دم الاستحاضة بأنه دم عرق، أو خبر بأنه دم عرق، ودم العرق لا ينقض الوضوء. وأيضاً فإنَّه خارج نادر فوجب ألا ينقض الوضوء، كما يخرج من غير مخرج الحدث. وأيضاً فإن الخارج المعتاد إذا خرج من غير مخرج معتاد لم ينقض الوضوء، مثل أن يتقيأ أو يخرج من انفه، فكذلك يجب أيضاً إذا خرج ما ليس بمعتاد من مخرج ألا ينقض الوضوء حتى يكون الاعتبار بالعادة. فإن قيل: هذا يد لعلى أن الاعتبار بالمخرج لا بالخارج. قيل: الاعتبار بالمخرج وما يخرج منه، فإن خرج منه معتاد وهو معتاد، نقض الطهارة، ألا ترى أن دم الحيض يخرج معتاداً ففيه الغسل، ويخرج دم الاستحاضة فلا يجب فيه الغسل لخروجه عن العادة سقط الوضوء لخروجه عن العادة. ويجوز أن نقول: دم الاستحاضة دم نجس خارج من البدن على غير وجه العادة فلا ينقض الطهارة، قياساً على دم القرح

والدمل والفصاد. أو نقول: إذا خرج الدم من فرج الرجل، وهو شيء نجس خارج من بدنه على وجه المرض فلا يجب فيه الوضوء، أصله دم الرعاف، أو القرحة تكون على ظاهر البدن. وأيضاً فإننا رأينا الأحداث التي تفسد الطهارة في غير الصلاة هي في حال الصلاة أغلظ؛ لأنه لأنه قد تفسد الطهارة في الصلاة أشياء لا تفسدها في غير الصلاة عند قوم من أهل العلم، مثل القهقهة في الصلاة، وهذا لِغِلَظِ أمر الصلاة فلو كان دم الاستحاضة حدثا يفسد الصلاة لوجب أن يكون في الصلاة أولى أن يوجب طهارة مستأنفة، فلما وجدنا المستحاضة تُصَلِّي وإن قطر الدم على الحصير، ولا تخرج فتتوضأ، وجب أن يكون في غير الصلاة أولى أن لا تنقض طهارتها، ولا يجب عليها طهارة مستأنفة. فإن قيل: فإننا لو أوجبنا عليها أن تخرج من الصلاة وتتوضأ ودمها متتابع أدى ذلك إلى أن لا تُصَلِّي حتى يخرج الوقت. قيل: وكذلك لو أوجبنا عليها قبل الصلاة أن تتوضأ كما رأت الدم الذي ينقض الوضوء، وهو يحدث بعد الوضوء، أدى على أن

لا تدخل في الصلاة، وخرج الوقت. وجرى الكلام بيني وبين أبي الحسن المرزبان - رَحمَه الله - في هذه المسالة على هذا الفصل، فقال لي: إذا كان الم متتابعاً لا يمكن أن ينفصل يجعلها داخلة في الصلاة، بعد وضوئها إلاَّ بوجود الدم قبل دخولها في الصلاة، فلا فرق - عندنا - بين قبل الصلاة، وبين دخولها في الصلاة، في أنها لا تتوضأ. وإن كان غير متتابع، وإنما هو المرة بع المرة، فإن حكمها في الصلاة وفي غير الصلاة واحد، في أن الوضوء واجب عليها قبل الصلاة، وإذا طرا في الصلاة خرجت فتوضأتـ فقلت له: الذي كنا نعرف ويحكيه شيوخنا عنكم الفرق بينهما من أنكم تراعون دخولها في الصلاة، بأن تتوضأ وتدخل فيها إما مع الدم أو قبل أن يحدث، فإذا دخلت ثم حدث

بها مضت، ونحن نعلم أن المدة التي بين وضوئها وبين دخولها في الصلاة مدة قريبة، فإذا توضأت فإن كانت مستحاضة وكان الدم ينقطع عنها هاذ القدر حتى تدخل في الصالة بالوضوء، فحال الصلاة أطول، فلا يمهلها الدم حتى تخرج من الصلاة، فإذا طرأ عليها في نصف الصلاة، فإن أوجبتم عليها الخروج من الصلاة وأن تتوضأ أدى إلى أن تُصَلِّي ويخرج الوقت؛ لأنها تتوضأ فيمهلها الدم حتى تدخل في الصلاة، ولا يمهلها إلى أن تنقضي الصلاة، فمن قال: لا فرق بين الحالين سقط قوله بها، وبان أن الدم الذي هذه صفته ليس بحدث ينقض الطهارة. فإن قيل: فأوجبوا عليها الطهارة إذا الدم يمهلها بعد الوضوء حتى يتصل وضوؤها بدخولها في الصالة، وإن كان لا يمهلها حتى تنقي الصلاة. قيل: لا فائدة في هذا؛ لأنه ليس بحدث - عندنا - إذ لو كان حدثاً لاستوى فيه حكم الجزء الأول من الصلاة، وحكم الجزء الأخير، والطهارة ترد للصلاة، وإن كان ذلك حدثاً معفُّواً عنه، فينبغي أن يعفي عنه في الجزء الأول من الصلاة، كما يعفي عنه في الجزء الأخير، فثبت بهذا الاعتبار أن العلة في سقوط الوضوء هي: أن هذا الدم خرج عن الصحة إلى حال المرض، فلا فرق بين الحالين قبل الدخول في الصلاة وبعد الدخول فيها، وصار في حكم دم الرعاف والدمل الذي يخرج عن الصحة.

فإن قيل: ألا جعلتم ها بمنزلة المتيمم الذي يجد الماء قبل الصلاة فيجب عليه استعماله، ولو وجده في الصالة مضى على صلاته. قيل: إن روية الماء ليس حدثاً، وإنما قلنا: إن الأحداث التي تنقض الطهارة لا فرق بين طُرُوِّها قبل الدخول في الصلاة وبعد الدخول فيها، والمتيمم - عندنا - حدثُه لم يرتفع قبل الصلاة ولا بعدها، وإنما قلنا يرجع قبل الصلاة إلى الماء حتى يرفع حدثه؛ لأن الطلب لا يسقط حتى يدخل في الصلاة، فيسقط عنه، فيمضي بالتيمم الذي يستبيح به الصلاة، فالعلة ههنا هي الطلب، فإذا لم يسقط الطلب رجع إلى الماء، وإذا سقط الطلب مضى، وإن كان حدثه لم يرتفع، والعلة في دم الاستحاضة خروجه عن الصحة، فأي موضع وجد لم يجب استئناف الطهارة، وإذا عدم وجبت الطهارة. ولنا أيضاً الاعتبار الصحيح بدم الحيض ودم الاستحاضة؛ وذلك أن هذا الدم إذا خرج في زمانه على وجه العادة تعلقت به أحكام منها: ترك الصلاة والصيام وامتناع الوطء والغسل عند انقطاعه، فإذا خرج عن هذا الوجه، وصار دم فساد على ما قاله صاحب الشريعة عليه السلام سقطت عنه هذا الأحكام، ولم يكون هذا إلاَّ لخروجه عن وجهه في العادة، فوجب أن تكون سائر الأحداث التي تتعلق عليها أحكام الطهارة

إذا خرجت عن وجهها في الصحة والعادة أن تكون كذلك في سقوط الأحكام المتعلقة بها. فإن قيل: فقد استويا في كونهما نجسين يجب غسلهما عن الثوب والبدن. قيل: لا يجب غسلهما وقد سبق كلامنا عليه. وأيضاً فقد وافقونا على أن المستحاضة تجمع بين صلاتي نفل بوضوء واحد وفي الحديث المعتاد لا يجوز ذلك مع تخليل الحدث بين الصلاتين، فعلمنا بهذا أن الاستحاضة ليس بحدث، ولا تجب طهارة مستأنفة. فإن قيل: إنما جوزنا هذا لأجل أن النفل أخف، كما جوزنا وأنتم أن يجمع بينهما بتيمم واحد، ولم يجوز ذلك في صلاتي فرض. قيل: أمر النافلة وإن كان أسهل من الفريضة فقد اتفقنا على أنه لا يجوز أن يُصَلِّي صلاة نافلة بوضوء، ثم يطرأ عليه حدث معتاد قبل

دخوله في الثانية فيدخل فيها حتى يزيله، وقد جوزتم أن تدخل في الثانية وقد طرا عليها الدم قبل دخولها فيها، فعلمنا أنه ليس بحدث، وأما المتيمم فقد دخل فيها ببدل من الوضوء وهو التيمم، ولم تدخل المستحاضة بأصل ولا بدل. فإن قيل: فقد قال الله -تعالى -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، فأوجب على كل قائم إلى الصلاة غسل هذا الأعضاء، وهذا عموم في كل صلاة. قيل: عن هذا أجوبة: أحدها: أن قوله: {فَاغْسِلُوا}، يقتضى فعل مرة لكل الصلوات؛ الألف واللام في {الصَّلَاةِ}، للنجس، فإذا تطهر عند

القيام إلى الصلاة فقد غسل اعضاءه لكل الصلوات، ولم يقل: اغسلوا لكل صلاة وأيضاً فإن المراد بالآية أحد أمرين: إما أن يكون أراد إذا قمتم من النوم على ما قيل في التفسير، أو أنتم محدثون على ما قيل فيه أيضاً، وهذا لم يقم من النوم، ولا هو - عندنا - محدث. وأيضاً فإنه - تعالى - قال في سياق الآية ما يدل على ما نقول: وذلك أنه - تعالى - قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}، فكنير بالغائط عما ينوب الناس في صحتهم من الحدث الذي اعتادوه، لا عن دم أو حصى أو دود، لأن هذه الأشياء تكون من البول تجب عن غلبة، وليس لها موضع يقصد فلا تدخل تحت الكناية بالغائط. فإن قيل: فقد روى في حديث صفون بن عسال المرادي

أنه عليه السلام قال في نزع الخف: «لكن من غائط وبول ونوم»، ولم يفرق بين بول معتاد وبين سلس البول، وأمَرَ بالمسح على الخف من البول عموماً. قيل: هذا أيضاً إشارة إلى ما يعتاد الناس من الغائط والبول والنوم؛ لأنه قرن البول بغيره من المعتاد، والكلام أيضاً يخرج على الإطلاق، ومن جرت عادته بالبول إذا بال قيل فيه قد بال: وإذا سلس بوله قيل: قد سلس بوله، والنبي عليه السلام لم يقل: لكن من سلس البول، ثم لو ثبت العموم لقضى عليه بعض ما ذكرناه. فإن قيل: فإنه خارج من مخرج معتاد للحدث فوجب أن ينقض الوضوء أصله الخارج المعتاد.

قيل: هو ينقض بالمستحاضة كلما طرأ عليها في الصلاة. فإن قيل: طهارتها تنتقض، ولكن عفي لها عن الطهارة في الصلاة. قيل: وكذلك نقول نحن فيها قبل الصلاة، للمعنى الذي تقدم على أن المعنى في الأصل كونه حدثاً معتاداً خرج من مخرج معتاد. فإن قيل: فإن حديث فاطمة بنت قيس إنما سألته لاعن حكم الاغتسال، فقال: «إنه دم عرق»، في أنه لا يوجب الغسل. قيل: ولا الوضوء أيضاً؛ لأنه قال لها: هو دم عرق فأحالها على دم العروق الذي يعلم أنه لا ينقض الوضوء، لولا هذا لكان يبين لها، ويقول: هو بخلاف دم العروق؛ لأنَّه يوجب الوضوء وإن لم يوجب الغسل، فلما شبهه لها بدم العرق الذي لا غسل فيه ولا وضوء علمنا أنه لم يرد الغسل والوضوء جميعاً. فإن قيل: فقد رُوِيَ أنه قال لها في بعض الأخبار: «وتوضئي لكل صلاة».

قيل: هذا ليس بصحيح، فإن صح حملناه على طريق الاستحباب بالدلائل التي ذكرناها أو نحمله على الوجوب إذا كان مثل المرة بعد المرة، إذا ندرت وبينها وبين الحيض زمان لا يحكم له بالحيض، فإن

هذا قد يكون عادة في النساء، ولا يكون مرضاً فتتوضأ واجباً، فأما إذا كان يجيئها مثلاً ساعة وينقطع ساعة فهو مرض لا يجب عليها فيه الوضوء بل يستحب. وهذا الذي خرجته يدل عليه قول مالك - رَحمَه الله -؛ لأن ابْن الْقَاسِمِ حكى عنه فقال: ومن اعتراه المذي المرة بعد المرة فليتوضأ إلاَّ أن يستنكحه ذلك فإن الوضوء فيه مستحب. وهذا يدل من قوله على ما ذكرناه، فإن لم يحمل على هذا فالمسألة وفاقٌ بيننا وبين الشافعي؛ لأنهم يقولون بوجوب الوضوء في المرة بعد المرة، وإن كان متصلاً متتابعاً لم يجب على ما حكيته فيما تقدم عن ابن المرزبان. فإن قيل: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة علي رضي الله عنه لما قال

للمقداد: سله لي عن المذي، فقال عليه السلام: «كل فحل مذاء، فاغسل ذكرك وتوضأ»، ولم يفرق بين المذي لشهوة وعزبة، ولا بين غيرها فثبت بهذا وجوب الوضوء. قيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب عن الوجه الذي سئل عنه، وهو الذي يعتاد الإنسان، ألا ترى أنه قال: «كل فحل مذاء»، فخرج كلامه على عادة الفحول. أفترى أنه أراد أن كل فحل يسلس مذية، ويخرج على وجه المرض؟ ولعل هذا يكون في خلق عظيم، وهو قضية في عين يحتمل أيضاً هاذ الذي ذكرناه فيحمل عليه، ولو ثبت العموم فيه لجاز أن يحمل على وجه الاستحباب، أو على من اعتراه المرة بما تقدام من الاعتبار.

وأيضاً فإن هذه الأشياء لو كانت حدثاً لم يرتفع بالوضوء لها، لأنها تطرأ فيُنْقَضُ، فكلما توضأ نقضته، وكذلك في الصلاة فلا معنى لطهارة لا ترفع الحدث، وإن لم يكن حدثاً على ما نقول فلا معنى لتكرير الطهارة على من هو متطهر، وقد حصل الاتفاق على أن الطهارة بالماء إنما هي لرفع الحدث. ويجوز أن نقيس دم الاستحاضة على دم الحجامة والفصاد بعلة أنه دم خارج من البدن لا يجب فيه غسل البدن فلم يجب فيه الوضوء لخروجه عنه العادة. وهذا الكلام إنما يلزم أبا حنيفة في قوله: يتوضأ لوقت كل صلاة. فإن قيل: فقد اتفقنا على المذي المعتاد أنه ينقض الوضوء ويوجه، فكذلك هذا بعلة أنه خارج من السبيل غير متصل. قيل: علة الأصل أنه خارج على وجه الصحة والعادة، وليس كذلك الفرع. على أنه يسقط بما بيناه من مفارقة دم الحيض لدم الاستحاضة، وهو خارج من السبيل على والوجه الذي ذكرناه. وعلى أنه معارض بالقياس الذي ذكرناه.

فإن رجحوا قياسهم بأن رد ما خرج من السبيل إلى مثله أولى من رد ما خرج من السبيل إلى غيره. رجحنا قياسنا بان العلة فيه تطرد وتنعكس في أن كل ما خرج من السبيل على وجه الصحة على حكمه، وما خرج على وجه المرض يتغير حكمه، كدم الاستحاضة ويستوي الحكم فيه في الصالة وغير الصلاة.

[22] مسألة

[22] مَسْأَلَة اختلفت الروايات عن مالك - رَحمَه الله - في مس الذكر. فالعمل من الروايات على أنه إذا مسه لشهوة بباطن كفه أو ظاهره، من فوق ثوب أو من تحته، وبسائر أعضائه انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء.

قال القاضي أبو الحسن: قال لي الشيخ أبو بكر - رَحمَه الله - على هذا كان يعمل شيوخنا كلهم. ووافقه أحمد بن الحنبل على مسه بيده لشهوة بظاهر يده وباطنها، وهو قول عطاء، والأوزاعي. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ينقض الوضوء على أي وجه كان وبه قال

داود، وبه سفيان الثوري. وقال الشافعي: إذا مسه بباطن يده من غير حائل انتقض وضوؤه على كل حال، سواء مسه لشهوة أو غير شهوة. وهو أحد الروايات عن مالك -، وليس عليه العمل -، وبه أن إسحاق، وأبو ثور، وهو مذهب الأوزاعي. وأنا ابتدئ الكلام على أبي حنيفة، والدليل لنا: كون الصالة في ذمته فلا تسقط إلاَّ بدليل، ولسنا نسلم أن هذا مع مس ذكره ملتذًّا

يكون مصليًّا بطهارته، وأيضاً قول الله -تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، فعلى كل قائم إلى كل صلاة غسلُ هذه الأعضاء إلاَّ أن يقوم دليل. فإن قيل: المراد بالآية: إذا قمتم من النوم أو أنتم محدثون، وهذا لم يقم من النوم، ولا نسلم أنه محدث. قيل: الظاهر يقتضي أن على كل قائم إلى الصلاة غسل ذلك، سواء كان من نوم أو غير ذلك حتى يقوم دليل. فإن قيل: هذا قد غسل الأعضاء عند قيامه إلى الصلاة، وأنتم تقولون: إذا مس ذكره عند تكبيرة الإحرام أو في الصالة انتقض ما فعله من المأمور به، والظاهر يفيد أن يفعل ذلك، وقد فعله، فمن قال: إن فعله قد فسد فعليه الدلالي. قيل: المراد أن يدخل في الصالة بيقين طهارة، والصلاة متعلقة في ذمته بيقين، وهاذ لم يدخل الصاة بيقين طهارة، ولم يسقط عن ذمته بيقين. وأيضاً فما رواه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير أنه قال: كنت

عند مروان، فتذاكروا الأحداث، فحدثني مروان عن بسرة بنت صفوان أنها سمعت رؤسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إلا مس أحدكم ذكره فليتوضأ». وقد روى هاذ الخبر عروة عن بسرة ولم يروه عن مروان، فروى هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمام

الخبر، ووري أن قال: حدثني بهذا الحديث مروان فلم اثق به، فبعث بحرس يإليها فحدثني، بمثل ما حدثني به مروان، ثم لَقِيتَهُا فحدثتني بذلك.

فإن قيل: هذا حديث ضعيف؛ لأنه رُوِيَ عن رجل حرسي. قيل: قد ذكرنا أن عروة لقيها فسألها بعد الحرسي. على آن هذا الحرسي كان قاضياً ولكم يكن شرطيًّا. وعلى أن الشرطي في ذلك الوقت لم يكن يلي الشرطة إلاَّ وهو ممن يجوز أن يلي الأحكام، ويروي الحديث ويقبل منه، ولو لم يكن ثقة لم يرض به غيره ومروان. على أنه روى أن الواسطة كان حرسيا، وروي مطلقاً بلا واسطة، ولا سيما حديث مالك عن عبد الله بن آبي بكر عن

عروة عن مروان. وقد أثبت هذا الحديث يحيى القطان، وأيوب السختياني، وعبد الحميد بن جعر الأنصاري، وعلي بن المبارك،

وعبد العزيز بن أبي حازم، وانو علقمة الفِرْوي، وعبد العزيز الدراوردي، فقالوا كلهم: عن هشام عن عروة عن بسرة.

ورواه الزهري عن عروة عن بسرة، قاله عُقَيْل، والأوزاعي.

وابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن بسرة. فقد سقط الحرسي ومروان جميعاً. وقد رُوِيَ من غير حديث عروة عن بسرة. فروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتوضأ من مس

الذكر، ويقول: سمعت بسرة بنت صفوان تقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الوضوء من مس الذكر». وقد رُوِيَ من طرق كثيرة عن غير بسرة. فروى عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة - زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من مس فرجه فليتوضأ». فإن قيل: هذا حديث مرسل.

قال يحيى بن معين: مكحول لم ير عنبسة. قيل: فنحن وأنتم بالمراسيل. وقد رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ،

وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ». وأيضاً فقد رواه عبد الملك بن المغيرة بن نوفل عن أبيه عن سعيد بن أبي سعيد عن آبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه

قال: «إذا أفضى الرجل بيده إلى فرجه في الصلاة وليس بينهما ستر فليتوضأ»، وهذا عام.

وقد روى ابن أبي ذئب عن عقبة بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا فضى

أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ». وزاد ابن نافع فقال: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقد روى مسلم بن خالد عن ابن جابر عن عبد الواحد بن قيس عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ».

وعن عائشة - رحمها الله - موقوف عليها: إذا مست المرأة فرجها توضأت. وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ويل للذين يمسون فروجهم يوم القيامة ثم يصلون ولا يتوضؤون». قالت: فقلت: يا رسول الله هذا للرجال، أفرأيت النساء؟

قال: «إذا مست المرأة فرجها فلتتوضأ»، وقد روى ابن جريج

عن يحيى بن أبي كثير عن رجال من الأنصار أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنا مس أحدكم ذكره فليتوضأ». وقد روى الوضوء من مس الذكر أربعة عشر نفساً من بين رجل وامرأة، فروته عائشة وأم حبيبة، و [أم] أروى،

وبسرة، ومن الرجال مثل: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وأبي هريرة وابن عمر وجابر وغيرهم من الأنصار، وقد روى قيس بن طلق بن علي عن أبيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ فقيل له: أحدثت؟ قال:

«لا، بل مسست ذكري»، فالدليل منه أنه عليه السلام توضأ من مس الذكر، وفعله واجب. فإن قيل: فقد نفى عليه السلام أن يكون حدثاً بقوله: «ما أحدثت»، فهذه حجة عليكم. قيل: إنما نفى الحدث المعتاد من الريح والبول وغير ذلك. وقد اعترضوا على جملة هذه الأخبار بأشياء: أحدها: أن قالوا: قد قال أحمد بن حنبل: الربعة أحاديث لا تصح عن النبي عليه السلام منها: حديث مس الذكر والقهقهة. وقال يحيى بن معين: لا يصح في الوضوء من مس الذكر حديث.

قالوا: وأيضاً فإن مذهبنا أن ما كانت البلوى به عامة لا تقبل فيه أخبار الآحاد، والإنسان لا يخلو في كل يوم من مس ذكره مراراً، كما لا يخلو من الغائط والبول، فلو كان الوضوء من مس الذكر واجباً لكان نقله مستفيضاً، كما هو الغائط والبول. قالوا: ولو صح الحديث لكان معارضاً بحديث طلق بن علي أنه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن مس ذكره وهو في الصلاة، فقال: «لا بأس، هل هو إلاَّ كبعض جسده»، وموضع الدليل منه: أنه قال: «لا بأس».

والحدث في الصلاة لا يقال فيه: لا بأس، ولأنه علل فقال: لأنه كبعض جسده.

وقد روى قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي أنَّ رجلاً سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أنا أتوضأ فأمس ذكري؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هو منك»، قالوا: وفي بعض الأخبار: «لا وضوء عليك»، وإذا تعارضت الأخبار سقطت وكنا على ما نحن عليه حتى يقوم دليل. قالوا: ويجوز أن نحمله على الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليد، بدليل حدث طلق، ولأن القوم كانوا يستجمرون بالحجارة، فربما عرقت أيديهم فيمسون فروجهم، فأمروا بغسل أيديهم. قالوا: وقد روى أن مس ذكره وأنثييه توضأ، وقد اتفقنا على

أنه لا يجب في مس الانثيين وضوء، فعلم أن ذلك على طريق الاستحباب. قالوا: وقد اتفقنا أنه لو مسه لغير شهوة لم يجب عليه وضوء فكذلك لشهوة، بعلة أنه مس عضواً منه. قالوا: ولأنه مس فرجه بجزء من بدنه فوجب أن لا ينتقض طهره، دليله إذا مسه بغير شهوة. والجواب: أما ما ذكروه عن أحمد ويحيى في تضعيف الحديث فعنه جوابان: أحدهما: أن من أثبته أكثر عدداً من هذين وأثبت. والثاني: أننا لا نرجع في ذلك إلى مذهبهم في تضعيفه؛ لن مذهبهم أن الحديث إذا أرسله قوم ووصله آخرون أن القول قول من

أرسل، والقول - عندنا - قول من اسند؛ لأنه زائد. وعلى أننا نقول بل مرسل أيضاً، وقد أُسند هذا الحديث وأُرسل، وكذلك الأخبار التي رويناها، فيها مرسل ومسند. وعلى أنه ينقلب عليهم في حديث القهقهة؛ لأن أصحاب الحديث قالوا فيه: إنه لا يصح. وما ذكروه من أخبار الآحاد، وأنها لا تقبل فيما يعم البلوى فغلط، ونحن نخالفهم فيه؛ لأن الله - تعالى - أمر بقبول أخبار الآحاد، ولم يفرق بين ما تقع به البلوى العامة وبين غيرها، ولامتنع أن تكون البلوى عامة، فيعلم الحكم فيها العلماء من أخبار الآحاد، وترجع العامة في

حكمها على العلماء، وإنما ذلك على ما يراه صاحب الشريعة من المصلحة، فربما راى المصلحة في إلقاء الحكم على الخاصة فينقلونه على العامة فيعلم من جهتهم، وربما أعلمه الأكثر. وعلى أن النقل قد ورد في هذا مستيقضاً؛ لأنه قد رُوِيَ عن أربعة عشر من الصحابة من بين رجل وامرأة، ويجوز أن يكون أمسك الباقون عن رواية ذلك اكتفاء برواية بعضهم، ومثل هذا يلزمهم في الوتر، هو مما تعم البلوى؛ لأنه في كل ليلة، وقد قبلوا فيه خبر الواحد وجعلوه واجباً بذلك وأكثر من رواه الواحد والاثنان بأن النبي عليه الاسم قال: «إن الله زادكم صلاة، ألا وهي الوتر». وكذلك قالوا في تكبيرة الافتتاح: لو قال: الله أكبر، أجزأه، ولو قال: الله العظيم، والله الجليل، أجزأه، وما نقل

هذا أحد، وهو من البلوى العامة. وكذلك قبلوا أخباراً لآحادهم، ونحن في الأذان والتشهد وغير ذلك مما تعم البلوى به، وقبلوا في القهقهة، وقد قبل ابن عمر من رافع بن خديج خبر المخابرة. وقبل أبو بكر خبر محمد بن مسلمة والمغيرة، وهذا في المواريث، وفي غير ذلك، وهذا كله كمما يعم البلوى به.

وعلى أن هذا وإن كان من البلوى العامة فقد يجوز أن يذهب على قوم إلاَّ أن الله - تعالى - لا يتركهم حتى يعلمهم الواجب، إما بنقل كما يذكرون، أو بالرجوع إلى العلماء إذا احتاجوا إليه وسألوا عنه، وهكذا التقاء الختانين البلوى به عامة وقد ذهب على الأنصار ما استدركه غيرهم. ثم لو قلنا: إن مس الذكر ليس من البلوى العامة في غير أوقات الوضوء لجاز؛ لأنه من شأن الغالب من الناس مس ذلك في غير أوقات الوضوء والجماع، ولعله يجري أقل من القهقهة في الصاة، وقد قبلوا فيه وفي القيء والرعاف وأنه ينقض الوضوء خبر الواحد. وأما حديث طلق بن علي فعنه أجوبة: أحدها: أن له ثلاث طرق:

محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه قلت: يا رسول الله: إني أكون في الصلاة فأمس ذكري بيدي، فقال: «إنما هو بضعة منك». وقد رواه أيوب عن عتبة عن قيس بن طلق عن أبيه قال: جاء

رجل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن مس الذكر، فقال: أيتوضأ أحدنا إلا مس ذكره؟ فقال: «هل هو إلاَّ بضعة منك». ورواه عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه فمدار الحديث على هؤلاء الثلاثة محمد بن جابر وأيوب بن عتبة وعبد الله بن بدر، ولكل واحد منهم علة. سئل موسى بن هارون عن حديث طلق في مس الذكر فقال: إسناده ضعيف، محمد بن جابر ضعيف، وأيوب بن عتبة ضعيف، وعبد

الله بن بدر شيح لا يمكننا أن نحكم به. ومن قال أهل الصنعة فيه هذا لم يكن حجة. وجواب آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون الحديث منسوخاً؛ لأن حديث قيس عن طلق قال النبي عليه السلام حين قدم المدينة وهو يبني المسجد، وحديث أبي هريرة متأخر؛ لأن أبا هريرة روى ما قلناه، وإنما صحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع سنين. ويشبه من طريق آخر أن يكون منسوخاً؛ لأنَّه لو كان قوله: «من مس ذكره فليتوضأ»، متقدماً لم يكن لقوله لطلق: هل هو إلا بضعة منك؟»، ثم قال بعد ذلك: عليك الوضوء، وهذا شابه. وعلى أن الكلام في الأخبار في فصلين: أحدهما: في تقديم أحدهما على الآخر.

والثاني: في الاستعمال. فأما الكلام في التقديم وترك الآخر فإذا لم يكن بُدّ من ترك أحدهما فإننا نقول: إن خبرهم يقتضي أنه لا يجب الوضوء منه، وخبرنا يقتضي وجوب الوضوء منه، فإسقاط خبرهم بخبرنا أولى من وجهين: أحدهما: أن خبرنا متأخر على ما ذكرناه عن أبي هريرة، وخبرهم متقدم، والمتأخر ينسخ المتقدم. والوجه الثاني: هو أنه إذا لم يكن بد من ترك أحد الخبرين فترك ما هو أقل رواة لما هو أكثر رواة أولى، وخبر طلق بن عليي لم يرد إلاَّ من جهته، وخبرنا رواه أربعة عشر نفساً من الرجال والنساء

مثل أبي هريرة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وغيرهما ومن النساء مثل عائشة وأم حبيبة و [أم] أروى وبسرة. وأما الكلام في الاستعمال فيحمل خبرهم على أنه مسه لغير شهوة، ألا تراه قال: «هل هو إلاَّ بضعة منك؟»، ولا يكون كسائر بضاعه إلاَّ على هذا الوجه، وإلا فهو يخالف سائر بضاعه، ألا تراه أنه واستمنى منه لأمنى، وله في الإيلاج حكم ليس لسائر البضاع. والاستعمال الثاني: هو أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا بأس»؛ أي: ليس بنجس، لأن بعض الناس كان يذهب إلى أنه نجس لأنه مسلك النجاسة. الدليل على هذا: ما رُوِيَ أن رجلاً سأل سعد بن أبي وقاص فقال: إن كان منك شيء نجساً فقاطعه؛ أي: ليس منك شيء نجس.

فإن قالوا: نحن أيضاً نستعمل فنقول: قول عليه السلام: «فليتوضأ»، استحباب. قيل: أنتم لا تستحبونه. على أنا نحن نرجح فنقول: خبرنا يثبت الإيجاب، وخبركم ينفيه، والمثبت أولى من النافي، وعند أبي حنيفة أن النافي يسقط من المثبت. وأيضاً فإنه ناقل عن العادة؛ لأنهم ما كانوا في الأصل يتوضؤون منه، ولأنه يحتاط، ولأن رواته أكثر. ويشهد أيضاً لاستعمالنا: ما رواه قيس بن طلق عن أبيه عن النبي عليه السلام أنه توضأ وقال: «مسست ذكري». وما ذكروه من أنه عليه السلام قال: «من توضأ ومس ذكره وأنثيه توضأ». فإننا نقول: لولا قيام الدليل في الأنثيين لأوجبنا في مسهما الوضوء، وليس إذا خص بعض الخبر بدليل يجب أن يخص باقيه بغير دليل.

وأما القياس الذي ذكروه فعنه جوابان: أحدهما: أنه لم يجب الوضوء في الأصل لعدم الشهوة. والثاني: أن بإزائه قياساً هو أولى منه، فنقول: إن مس الذكر سبب يفضي إلى نقض الطهر بمسه، أصله التقاء الختانين، لأنه إذا مس ذكره لشهوة أمذى، وإذا أولجه على هذا الوجه أمذى وأمنى. وأيضاً فإنه مسلك للمني فجاز أن يتعلق بعض الطهر به كالنوم، لأن بمسه قد يخرج منه ما ينقض الطهر، وبالنوم يوجد ما ينقض الطهر. ونرجح قياسنا بأنه يؤدي إلى استعمال الأخبار كلها، ويستمر فيها على عمومها، فيكون الخبر الذي فيه الوضوء في كل موضع إذا كان لشهوة، وإذ لقي الفرج على كل حال، وفي استعمالنا هذا نقل من براءة الذمة إلى وجوب الوضوء، وفيه احتياط للصلاة، وإسقاط حكمها بيقين. فإن قيل: لو كان خبركم ثابتاً لم يجز أن يذهب على عمر

وعلي، وابن مسعود، وسعد، وحذيفة،

وعمار، وعمران بن حصين وابن عباس. قيل: قد ثبت ما قلناه ببضعة عشر من الصحابة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن قطعة منهم أن الوضوء واجب، فأقل الأحوال أن يُستعمل ما رُوِيَ

عنهم كما استعملنا ما رُوِيَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون قول من نفى الوضوء إذا كان لغيرة، ومن أثبت الوضوء إذا كان لشهوة. على أننا نروي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا مس الرجل ذكره فليتوضأ. وعن حماد بن سلمة عن قتادة أن ابن عمر وابن عباس كانا

يتوضآن من مس الذكر. والذي رووه هم عن ابن عباس إنما هو عن إبراهيم المزني عن صالح - مولى التوأمة - عن ابن

عباس، وهذا مما لا ينبغي أن يعتمد عليه، فكيف وقد رويناه عن ابن عباس خلافه؟ وما حكوه عن سعد فقد رُوي عن سعد بإسناد أجود من إسنادهم خلافُه؛ لأن الذي رووه عن سعد رواه يحيى بن المهلب، عن ابن أبي خالد

عن قيس عن سعد. وقد رُوِيَ مالك عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن مصعب بن سعد قال: كنت أمسك المصحف على أبي - سعد بن أبي وقاص - فاحتككت فقال لي: لعلك مسست ذكرك؟ فقلت: نعم. فقال: قم فتوضأ. فقمت فتوضأت ورجعت.

فأما الأحاديث عن علي وابن مسعود فكلها ضعاف لا حجة فيها ولو صحت لكنا قد استعملناها على ما ذكرناه. وقولهم: يجوز أن يكون أراد بالوضوء غسل اليد فإننا نقول: إن الوضوء إذا أطلق في الشرع فهو محمول على الوضوء المعروف الذي هو غسل الأعضاء حتى يقوم دليل. واستعمالنا أيضاً له على الوضوء الشرعي أولى؛ لما ذكرناه من الترجيحات، فنحمله عليه إذا كان لشهوة، ونحمل غسل اليد إذا كان لغير شهوة. وعلى أنه قد روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فليتوضأ وضوءه للصلاة». وأيضاً فإن الناس في المسألة على قولين: فطائفة توجب الوضوء في الأعضاء كلها، وطائفة لا توجبه ولا توجب غسل اليد. وعلى إنهم أن أسلموا إيجاب غسل اليد سلمت المسألة، وبالله التوفيق.

فصل

فصل في الكلام على الشافعي إذا مس ذكره لغير شهوة نقض الوضوء. وعندنا لا ينقض. الدليل لقولنا: هو أن مذهبنا ومذهبه استعمال الأخبار إذا تعارضت وأمكن استعمالها، وقد وردت الأخبار على ما تقدم من وضوء في مسه عموماً، وورد الخبر في حديث طلق بن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفي الوضوء من مسه عموماً، فنستعمل خبر الوضوء إذا مسه لشهوة، ونفي الوضوء إذا مسه لغير شهوة. فإن قيل: نحن نستعمل أيضاً فنجعل الوضوء فيه إذا مسه بباطن كفه من غير حائل، ونف بالوضوء إذا مسه بظاهر كفه أو من فوق حائل. قيل: بقي الترجيح لأحد الاستعمالين، فاستعمالنا أولى من وجوه: أحدهما: أنه يستمر، فنوجب الوضوء إذا كان لشهوة، بظاهر اليد وباطنها، ومن فوق الثوب وتحته، وفي ذوات المحارم، والكبار والصغار، وننفي الوضوء في جميع هذه المواضع إذا كان المس لغير شهوة، فرجع استعمالنا؛ لأنه يطابق ألفاظ الأخبار التي هي عموم في إثبات الوضوء ونفيه. وأيضاً فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبهه في حديث طلق بن علي بسائر

البضاع، ولا يكون كهي إلاَّ في عدم الشهوة، ولا فرق في عدم الشهوة بين باطن اليد وظاهرها، كما لا فرق بين ظاهر اليد وباطنها في مس سائر الأعضاء. وأيضاً فإننا رأينا هذا العضو يلتذ بمسه كما يُلتذ بمس النساء، ألا ترى أنه لو استمنى منه لأمنى كما يمني بمماسة النساء، وليس سائر الأعضاء كذلك، فعلمنا اختصاصه من بين سائر الأعضاء بهاذ المعنى، فينبغي أن تكون المراعاة في مسه للذة، وفي عدمها تكون كسائر الأعضاء؛ لنهم خصوا باللمس هذا العضو من بين سائر الأعضاء، فَعُلِمَ أن المُعوّل على اللذة. فإن قيل: إننا لا نسلم التعارض في الأخبار في الأخبار، بل نقول: حديثنا في الوضوء من مسه أصح من حديث طلق، ونجعلُ حديث طلق منسوخاً، فلا يجب علينا الاستعمال. قيل: ليس يسلم لكم حديث الوضوء من المعترضة؛ لأن أهل العراق يحتجون - علينا وعليكم - في صحة حديثهم وفي النسخ. بمثل ما نقول لهم، ولسنا نقطع بصحة ما نقول دون ما يقولون، وإنما هو استدلال وترجيحات، يسوغ فيها الاجتهاد، فلا بد أن نسلم ونستعمل، فإن امتنعنا من ذلك امتنعوا هم أيضاً، فأدى هذا إلى إسقاط الخربين إذا كان كل واحد منا يقطع على صحة مذهبه. فإن قيل: استعمالنا أولى؛ لأن الأصول تشهد لنا، وذلك أننا رأينا الناقض للطهارة الموجب علينا طهارةً مستأنفة فقد استوى فعله لشهوة وغير شهوة. ألا ترى أنه لو أولج ملتذاً أو غير ملتذ لانتقض وضوءه، ووجب عليه في الموضوعين جميعاً الغسل، فكذلك يجب أن

يستوي في مس الذكر حكم الشهوة وغير الشهوة، وكذلك سائر الأحداث من الغائط والبول والريح لم يفترق الحكم فيها بين الالتذاذ وغيره. قيل: هذا لا يلزم؛ لأنه ليس يَبْلُغُ أحدٌ في الغالب إلى الإيلاج إلاَّ وقد اخذ غاية من الالتذاذ، إلا رجل به آفة، وإلا فهو في غاية من الالتذاذ، بمنزلة من انزل سواء أنزل في الفرج أو في غيره، ألا ترى أنه يوجب الغسل كما يوجبه الإنزال. ثم مع هذا فقد تعلق عليه من الأحكام في الإيلاج ما لا يتعلق عليه في مس ذكره، من وجوب الغسل والحد وتحصل به الحصانة وتكملة المهر وغير ذلك من الأحكام، فقد حصل للفرج من الاختصاص في الإيلاج ما ليس لمس الذكر، فلما كان الإيلاج ينقض الطهارة، ويوجب الطهارة العليا لم يفترق الحكم فيه، ولما كان مس الذكر - عندكم - يوجب الطهر الدنيا افترق الحكم فيه بين اللذة وغيرها، وكان أولى من فرقكم بين باطن اليد وظاهرها مع وجود اللذة وعدمها. فأما الغائط والبول والريح فإن ذلك كلَّه أحداثٌ في نفسها، ومس الذكر سبب للحدث وفي حكمه، وما حكم الشيء وهو سبب له ليس هو نفس الشيء، ألا ترى أنكم قد فرقتم بين مسه بباطن اليد وبين مسه بظاهرها، ولم تفرقوا بين الأحداث أنفسها على أي وجه حصلت، فصار المس كالنوم الذي ليس بحدث في نفسه، ولكنه في

حكم الحدث، وقد افترق حكم النوم في مواضع، كما افترق حكم المس في موضع، فهو أشبه به. فإن قيل: إن ظاهر مذهبكم يدل على أنه إن مسه بظاهر كفه أو بذراعه أو فخذه أنه لا ينقض الوضوء، سواء كان ذلك لشهوة أو غيرها. قيل: قد اختلفت الرواية في مسه أصلاً، وقد ذكر ما قلتم، إلاَّ أن المعوّلَ على ما بيناه، وما حكي محمول على أن مالكاً تكلم على الغالب من أمر الناس، أنهم يقصدون إلى مسه بباطن أيديهم، فأما إذا فصدوا الالتذاذ أو حصل بمسه فلا فرق بين مسه بسائر الأعضاء وبين اليد، كما تَوَافَقْنَا في مس الرجل النساء بباطن يده وبظاهرها وبسائر أعضائه؛ لأن المراد أن تقع ممارسة تحصل معها اللذة، وقد يخرج الكلام على الغالب ويكون النادر في حكمه إذا حصل المعنى المقصود، كقول الله - تعالى -: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ}، خرج الكلام على الغالب من الربيبة تكون في حجر زوج أمها، وإذا لم تكن عنده، وفي حجره فهي كذلك، فإذا كان المعنى المقصود هو حصول اللذة بالممارسة، فبأي عضو حصلت المماسة مع الشهوة حصل الحكم، وهذا كالطلاق الذي يوجب التحريم، فبأي لفظ حصل وقصد به

التحريم حصل الحكم - عندنا -. فإن أوردوا القياس عليه إذا مسه لشهوة، أو أردنا القياس عليه إذا مسه بظاهر اليد أو على مسه عضواً غير الذكر، بعلة أنه مس عضواً من بدنه لم يلتذّ بمسه لذة الجماع. فإن تكلموا على حديث طلق وقالوا: قوله عليه السلام: «هل هو إلا بضعة منك؟»، أفادنا أنه ليس بنجس، وانه لا حرج في مسه، ولا يمنع ذلك من إيجاب الوضوء ومن مسه، كما لا يمنع من إيجاب الغسل في إيلاجه في الفرج، وهو بضعة منه. قيل: إنما سئل عليه السلام عن الوضوء في مسه فقال: «لا وضوء»، وشَبَّهَهُ بسائر الأعضاء التي لا وضوء في مسها، ولم يُسْأَل هل عليه حرج في مسه أم لا؟ فلا ينبي أن يسقط ما سُئل عنه، وخرج الجواب عليه، ويُعْدل إلى ما لم يذكر في الخبر، ولا خرج الجواب عليه؛ لأنه لو جاز ذلك لجاز الآخران يقول: إنما سئل هل عليه في إيلاجه غسل أو وضوء؟ فقال: «هل عليه إلاَّ بضعة منك»؛ أي كما لو أولجت بضعة منك غير الذكر لما كان عليك وضوء ولا غسل فيجيء من هذا قول من قال: الماء من الماء، دون الإيلاج المفرد، وإذا كان جوابنا وجوابكم أن هذا لم يسأل عنه في الخبر ولا خرج الجواب عليه فكذلك نقول لكم: إن الذي أوَّلْتُموه وحملتموه عليه لم يسأل عنه في الخبر، ولا خرج الجواب عليه، فسقط هذا السؤال. ثم لو احتمل ما ذكرتموه لكان أقل الأحوال أن يكون الجواب خرج على الأمرين، حتى لا يسقط الصريح من السؤال، ويقتصر على

المحتمل دونه، فنحمله على صريح السؤال والمحتمل جميعاً. فإن قيل: فإننا قد روينا خبراً يدل على أن المس بباطن اليد من غير حائل يوجب الوضوء، وهو قوله عليه السلام: «إذا أفضى الرجل بيده إلى فرجه في الصاة وليس بينهما ستر فليتوضأ»، وفي هذا الخبر أدلة توجب مخالفة مذهبكم. منها: أن الإفضاء قصر على اليد دون غيرها من الأعضاء. ومنها: أن حقيقة الإفضاء باليد إنما هو بباطنها. ومنها: أنه قال: «ليس بينهما ستر». ومنها: أنه ذكر الفرج، وهو اسم للذكر والدبر جميعاً. فنصه على اليد وباطنها يدل على أن ظاهر اليد، وغي اليد من الأعضاء بخلاف ذلك؛ لأنكم توافقوننا على القول بدليل الخطاب. ونصه على الفرج يشتمل على الذكر والدبر. ونصه بقوله: «وليس بينهما ستر»، يدل على أنه إذا كان هناك ستر بخلافه. فالجواب أن نقول: إن صح الحديث فإن الإفضاء حقيقته مماسة البشرة البشرة بدليل قوله - تعالى -: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}.

وأما تخصيصه اليد فإن الكلام خرج على الأغلب من أحوال الناس أنهم إذا عبثوا بالفرج فإنما يكون ذلك باليد، ولا يدل على أن النادر ليس في حكمه على ما بيناه قبل هذا الفصل. وأما الفرج فحقيقته تقع على المقدم؛ لن فرج المرأة هو مقدمها. وعلى أنه لو وقع على المقدم والمؤخر لكان إضافته بلفظ الواحد إلى الإنسان يدل على فرج واحد؛ لأنه لو أراد الفرجين لقال: إذا أفضى إلى فرجيه أو إلى فرجيه فلما قال: «إلى فرجه»، بلفظ الواحد، - وقد أجمعوا على أن القبل يراد به الفرج - دل على أنه هو المقصود دون غيره. فإن قيل: قولنا: فرج، نكرة يتناول هذا وهذا فلا يمتنع أن يراد به الاثنان. قيل: هذا غلط من وجهين: أحدهما: أن النكرة في الإثبات لا تكون على الجنس وإنما تكون في النفي، وليس في قوله: «إذا أفضى بيده على فرجه». نفي. والثاني: أن النكرة تشيع في الجنس ولا يقتصر بها على اثنين لا ثالث لهما، ألا ترى ما كان في ابن آدم من عضوين مثل اليدين والرجلين والعينين والأذنين لا تطلق على الاثنين بلفظ الواحد حقيقة، وإذا كثرت أعضاؤه وأجزاؤه قيل: عضوه، وجزؤه، فيشيع في سائر أعضائه وأجزائه لكثرتها، فلما لم يكن للإنسان إلاَّ فرجان لا ثالث

لهما لم يجز على طريق الحقيقة أن يقول: «إذا أفضى إلى فرجه». وهو يريد الفرجين، فثبت أنه أراد فرجاً واحداً، والقبل متفق عليه دون الدبر.

فصل

فصل قد ذكرت أن أحمد بن حنبل وعطاء والأوزاعي يوافقوننا في مسه لشهوة بظاهر اليد وباطنها غير أن أحمد يقول: لا يتعدى اليد إلى غيرها، والأوزاعي يقول: إن مسه بسائر أعضاء الطهارة نقض الوضوء، وأما غيرها من الأعضاء فلا. فإن صح ها عنهم قلنا: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ»، وقال: «الوضوء من مس الذكر»، والمس يقع بسائر الأعضاء، لا فرق بين اليد وغيرها، فلا فرق بين أعضاء الطهارى وغيرها. ومن طريق المعنى: فإن اللذة تحصل بسائر المماسة من الأعضاء كلها، كما تحصل باليد وبأعضاء الطهارة، فإن جاز لإنسان أن يتعدى باطن اليد على ظاهرها، ويتعدى اليد على غيرها من أعضاء الطهارة، جاز لنا أن نتعدى ذلك إلى سائر الأعضاء؛ بعلة أن حصل ما ذكرناه بعضو من بدنه ملتذًّا بذلك لذة الجماع أو لشهوة الجماع.

فصل

فصل عند داود إذا مس ذكر نفسه توضأ، ولا شيء عليه في مس ذكر غيره. والدليل لقولنا: قوله رضي الله عنه: «في مس الذكر الوضوء»، وهذا عام في كل ذكر. فإن قيل: قوله في الخبر الآخر: «من مس ذكره فليتوضأ».

دليله إذا مس ذكر غيره فبخلافه، وهذا الدليل يقضي على عموم خبركم في الذكر؛ لأنه أخص منه. قيل: الذي نعرف من مذهبكم: إن الخبرين إذا تعارضا لم تقضوا بالخاص على العام وإن أمكن استعمالها، بل يسقطان جميعاً. فإن أردتم القضاء بالدليل على العام، قلنا: القياس عليه إذا مس ذكر نفسه؛ بعلة أنه مس ذكر آدمي ملتذا به، أو بعلة أنه مس ذكراً لو والج في فرج لوجب فيه الغسل على وجه ملتذاً بمسه. وأيضاً فإنه إذا مس فرج غيره فقد هتك حرمة الغير، وإذا منس ذكر نفسه لم يهتك الحرمة، فلما نقض الوضوء إذا لم يهتك الحرمة كان بأن ينقض الحرمة أولى.

فصل

فصل - عندنا - ألا وضوء في مس الدبر، وكذلك عند داود. وقال الشافعي: فيه الوضوء كمس الذكر. والدليل لقولنا: الظواهر من براءة الذمة من وجوب شيء. وقوله - تعالى -: {قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وهذا قد فعل المأمور به، فمن قال: إن مسه دبره ينقض ما فعله فعليه الدليل. وأيضاً فقد كان طاهراً قبل مسه، فمن قال: انتقضت طهارته فعليه الدليل. وأيضاً: إلا صَلَّى ونوى الصلاة فله ما نواه عليه الاسم: «فله ما نواه» ,

وأيضاً قوله عليه السلام: «لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب»، وهذا إذا صَلَّى وقرأ بفاتحة الكتاب فقد حصلت له الصلاة بظاهر الخبر. فإن قيل: فق قال: «لا صلاة إلاَّ بطهور». قيل: قد تطهر فمن زعم أن طهارته انتقضت فعليه الدليل. فإن قيل: الآية حجة لنا؛ لأن ظاهرها يوجب على كل قائم إلى الصاة أن يغسل أعضاءه. قيل: ظاهر الآية يقتضي فعل مرة للصلوات كلها؛ لأن الألف واللام في الصلاة للجنس، فإذا غسل أعضاءه لصلوات كثيرة فَصَلَّى صلاة، ثم مس دبره فقد أجزأه الغسل الأول للصلوات الباقية. على أن المراد بالآية أحد أمرين: أمما إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو أنتم محدثون، وهذا لم يقم من النوم، ولا نسلم أنه محدث. وأيضاً قول النبي عليه السلام: «من مس ذكره فليتوضأ»، وفي خبر: «ومن مس الذكر الوضوء»، فدليله أن غير الذكر لا وضوء فيه؛ لقولنا بدليل الخطاب. فإن قيل: ليس للاسم دليل يحكم له بخلافه، وإنما يكون في الصفات. قيل: عن هذا جوابان:

أحدهما: أننا نقول بدليل الخطاب في الاسم كما نقوله في الصفة. والثاني: أن الحكم علق على صفة في الاسم وهو المس، فدليله بخلافه. فإن رُوِيَ فقد رُوِيَ: «من مس فرجه فليتوضأ»، وهذا عام في القبل والدبر؛ لأنه فرج. قيل: اسم الفرج إذا أطلق يتناول القبل كما إذا أطلق في المرأة تناول قبلها، فلو صح لهما جميعاً لكان لكل من الأسماء المشتركة، كقولنا: عين ولسان، وكالشفق والقرء، فلا يعقل من ظاهره المراد إلاَّ بدليل. وأيضاً فلو أرادهما لقال: من مس فرجيه أو مس فرجيه، فلما قال: من مس فرجه بلفظ الواحد، وقد اجمعنا على أن القبل مراد بهذا الخبر، وقفنا في الدبر حتى يقوم الدليل. فإن قيل: فقد رُوِيَ: «من مس الفرج»، بالألف واللام التي للجنس. قيل: الأمر الواحد، فإن كانتا للعهد فهو اسم مشترك كاللون والقرء والشفق فإذا أجمعنا أن الذكر مراد بهذا الخبر وقفنا فيما عداه.

على أن هذا لو كان من ألفاظ العموم لكان دليل الخطاب من قوله: «من مس ذكره فليتوضأ»، يقضي عليه؛ لأنه اخص منه، فيصير تقديره: من مس فرجه الذي هو قبله فليتوضأ؛ لن دليل الخطاب يقضي على الظاهر. فإن قيل: القياس يقضي على دليل الخطاب، وقد اتفقنا على مس الذكر على وجه؛ بعلة أنه مس فرجاً ذا حرمة، أو مس عضواً مخرجاً للحدث، أو أنه موضع خروج الخارج منه ينقض منه الطهر، فوجب أن يكون مسه ينقض الطهر. قيل: هو منتقض به إذا مسه بظاهر كفه، وينتقض بالمرأة تمس فرج المرأة، لأن المرأة لو مست ذكر الرجل انتقض وضوؤها، ولو مست فرج امرأة لم ينتقض. ثم لم سلم لكان معارضاً بقياس آخر، وهو إذا مس ظاهر أليتيه، أو مسه بظاهر كفه؛ بعلة أنه مس دبره أو مس عضواً من بدنه لغير شهوة.

ويستند قياسنا إلى تنبيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله في الذكر: «هل هو إلا بضعة منك؟ ولا وضوء عليك»، وهذا تقدير منه عليه السلام أنه لا وضوء في غير الذكر، ولا يكون التقدير في مثل هذا إلاَّ فيما عند المقدر والمقدر له أنهما بمنزلة واحدة، وهذا كقوله عليه السلام: «أينقض الرطب إذا يبس؟»، فقيل له: نعم. فقدرهم على ما يعلمه ويعلمونه من نقصانه إذا يبس، وهذا يصلح أن يكون دليلاً مبتدأ في أصل المسالة. وإذا قسناه أيضاً على مسه دبره بظاهر يده أو من فوق حائل كان أولى من قياسهم؛ لأن ردّ الدبر إلى الدبر أولى من رده إلى القبل. فإن قيل: لا نسلم أنه يكون ماسا بظاهر كفه، ولا من وراء حائل. قيل: هذا غلط، ليس المس بظاهر اليد بأدنى من مس الرجل،

وهو لمس المرأة برجله أو بساعده انتقض وضوؤه، فظاهر اليد أولى لأن يكون به ماسا. وأما من وراء الحائل الرقيق فلا يخرج لا أن يكون ماسا وإن لم يكن مباشراً وليس في مس دبره حال يتلذذ به؛ لأن المذي والمني لا يخرجان منه ولا بمسه أيضاً، ألا ترى أن كل جزء من المرأة لما كان يلتذ به إذا مس، ويخرج بمسه المذي، ويجوز أن يخرج به المني، كان مسها بجميع الأعضاء على طريقة واحدة، فلا يخرج ظاهر الكف إذا وقعا للمس به عن سائر الأعضاء، والله أعلم. ويكون الفرق بين مسه وبين مسه ذكره هو أن مسه ذكره يُلتذ به كما يلتذ بمسه النساء. ألا ترى أنه قد يستديم مسه للذة فيخرج منه المني، كما لو استدام مس المرأة للذة جاز أن يخرج منه المني، فينبغي أن تستوي الحالتان فيهما في نقض الوضوء، وفي المس بأي عضو كان من أعضائه، وبالله التوفيق.

[23] مسألة

[23] مَسْأَلَة اختلف الناسُ في مس الرجل المرأة على خمسة مذاهب: فذهب مالك، والشعبي، والنخعي، وسفيان الثوري، إلى أنه إن قبّلها أو مسها لشهوة انتقض وضوؤه، وإن كان لغير شهوة لم ينتقض، وعندي أنه مذهب أحمد على ما يقوله في م الذكر. وذهب أبو حنيفة وانو يوسف: على أنه لا ينتقض الوضوء بالمس إلاَّ أن ينتشر عليه بالمس فينتقض الوضوء بالمس والانتشار جميعاً.

قال الشافعي: ينتقض وضوؤه بكل حال، وبمسها بكل عضو من أعضائه إذا كان بغير حائل، وحكي إنه مذهب زيد بن أسلم، والأوزاعي. وحُكي عن الحسن البصري، ومحمد بن الحسن - صاحب

أبي حنيفة - أنه لا ينتقض وضوؤه وإن انتشر عليه. وحُكي عن عطاء أنه قال: إن مس امرأة أجنبية لا تحل له انتقض وضوؤه، وإن كانت تحل له مثل زوجته وأنته لم ينتقض وضوؤه. وأنا أبدأ الكلام على أبي حنيفة فنقول: الدليل لقولنا: كون الصاة في ذمته بيقين؛ فلا تسقط إلاَّ بدليل أو بطهرة متيقنة؛ لقوله عز وجل: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، إلى قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، فجعل -تعالى - ظاهر الملامسة حدثاً؛ لأنه أمر بالوضوء منها إذا وجد الماء والتيمم إذا لم يجد الماء. ومنها أنه قرن اللمس بمجيئه من الغائط، الذي يكون فيه الحدث الأدنى، والظاهر منه اللمس باليد، وحقيقة الملامسة: التقاء البشرتين؛ بدللي ما رُوِيَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن الملامسة في بيع الثوب باللمس، وقد قال - تعالى -: {فَلَمَسُوهُ

بِأَيْدِيهِمْ}، وقال: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ}. وقال الشاعر: وألمست كفي طلب الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي فبان بهذا أن حقيقة اللمس والملامسة هو التقاء البشرتين، وهو اسم يجمع أنواعاً كلها ملامسة، ويختص باسم قبله، والمس باليد من الملامسة، وتخصص باسم، واللمس بالرجل وكذلك اللمس بالفرج ويتخصص باسم الوطي والدوس، والجس أيضاً وكذلك اللمس بالفرج من الملامسة، ويتخصص باسم الوطء والجماع، فإذا أطلق اللمس تناول الجميع، وقد يقع اللمس والمس على كل جزء من البدن، فإن مس الرأس كان ماسا، وإن مس الفم كان ماسا، وإن مس الفرج كان ماسا وكذلك إن مس الدبر فليس اختصاص المس بكل موضع من المرأة بمخرج له أن يكون جميعه مسًّا ولمساً إذا أطلق. فإن قيل: لا دليل لكم في هذا؛ لأنكم حملتم الملامسة على المس باليد وعلى الجماع جميعاً، وهذا إحداث قول ثالث؛ لن الصحابة اختلفت على قولين لا ثالث لهما، فقال علي وابن عباس وأبو موسى:

المراد بالملامسة: الجماع.

وقال عمر وعمار: المراد به اللمس باليد، ولم يقل أحد منهم: إن المراد به المس والجماع جميعاً، فثبت إجماعهم على القولين فلا يقبل قول ثالث. قالوا: والدليل على أن عمر وعماراً كانا يذهبان إلى أن المراد بالملامسة المس باليد لا الجماع: هو أن عمر - رَحمَه الله - ذهب إلى أن الجنب لا يتيمم، والاية تقتضي إباحة التيمم من الجنابة، فلو كان المراد عند عمر بالملامسة الجماع لم يذهب إلى أن الجنب لا يتيمم؛ لن الآية تقتضيه. وأما عمار فإنه استدل على عمر حيث سمعه يقول: لا يتيمم الجنب بالخبر لا بالآية، فلو كانت الملامسة عند عمار المراد بها الجماع لاستدل على عمر بها لا بالخبر، فلما قال لعمر: أما سمعت أني أجنبت فتمعكت في الصعيد، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«تكفيك ضربة للوجه واليدين». وقد رُوِيَ: «ضربة للوجه وضربة لليدين»، فقال له عمر: قد وليتك ما توليت. فإذا كان هذا مذهب عمر وعمار، ومذهب غيرهما أن المراد بالملامسة الجماع بطل قول من خرج عنهم فجعله للأمرين جميعاً. قيل: قد روينا عن ابن عمر وابن مسعود أن المراد بها الأمران جميعاً، الجماع واللمس باليد.

وذلك أن ابن عمر قال: قبله الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فجعل هذين من جنس الملامسة، ومن للتبعيض والألف واللام في الملامسة للجنس. وقال ابن مسعود: إذا أقبل الرجل امرأته أو مسها انتقض وضوؤه استدلالاً بالآية، فبان بهذا أن قول آخر من الصحابة فلم يخالفهم؛ لأن هذين الصحابيين حملاه على الأمرين جميعاً.

وأيضاً فإن الصحابة اختلفت في المراد بالملامسة على ثلاثة مذاهب: فذهب علي وابن عباس إلى أن المراد به الجماع. وذهب عمر وعمار إلى أن المراد به اللمس. وذهب ابن عمر وابن مسعود في آخرين إلى أن المراد الأمران جميعاً، فإذا لم يكن بد من الأخذ بأحد المذاهب فالمصير إلى قول من قال: إن المراد بالآية اللمس لا الجماع أولى من وجهين: أحدهما: أن من حمل الآية على الجماع جعل اللمس كناية عنه، ومن حمله على اللمس حمله على الحقيقة؛ لأن عليًّا وابن عباس - رضي الله عنهما - قالا: كنى الله - تعالى - بالملامسة عن الجماع. والوجه الثاني: هو أنه إذا حمل اللمس على الجماع حمل على التكرار الذي لا فائدة فيه؛ لأن الله - تعالى - ذكر في الآية الجنب بقوله: {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، فوجب أن يحمل اللمس على المس دون الجماع؛ كلا يكون حملاً على التكرار، وتكون فيه فائدة أخرى. فإن قيل: فإن ابن عباس قال: إن اللمس كناية عن الجماع، ومتى حمل اللفظ على الكناية لم يجز حمله على الصريح لاختلافهما. وأما ابن عمر وقوله: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فإنه حمل ذلك على ما سوى الجماع، فقد بقي مما لم

يذكره أنواع، مثل المعانقة وغيرها لم يذكرها في قوله، فيصير المكور مقصوراً على ما ذكر، ويبقى ما عداه، فليس لأحد حمله على ما يقوله إلا ولغيره حمله على غيره من الجماع. قيل: قول ابن عباس رضي الله عنه: إن اللمس كناية عن الجماع لا يمنع غيره أن يقول: هو صريح في اللمس، ولكن يكنى به عن الجماع، فيكون حمله على صريحه أولى؛ لأنه الحقيقة، ثم لا يمتنع أيضاً أن يحمل صريحه على اللمس إذا وقع، ويجعل كناية عن الجماع إذا حصل. على أن ابن عمر أيضاً من أهل اللغة، فقوله: قبلة الرجل امراته وجسها بيده من الملامسة يدل على أن الملامسة اسم جنس لا يتناول جميع المس، سواء كان باليد أو بالفرج او بغير ذلك، وأعلمنا أن القبلة والجس من هذا الجنس، فأي نوع حصل من الجنس تناوله اسم اللمس، وهذا جواب حديث ابن عمر. ونقول أيضاً: إن الآية قرئت بقراءتين فقرأ بعض القراء: {أَوْ لَامَسْتُمُ}، ولا خلاف بين أهل اللغة أن اللمس لا الجماع، وهو فعل من واحد، ليس هو من فاعلتم؛ كقوله: {لَامَسْتُمُ}، يكون من اثنين. فإن قيل: فقد قرئت: {أَوْ لَامَسْتُمُ}، وهذا لا يكون إلاَّ من اثنين؛ لنه فاعلتم، فدل أن المراد الجماع الذي يكون من اثنين. قيل: فأحسن الأحوال أن يستعمل الحكم بالقراءتين، فتحمل القراءة بـ {لَامَسْتُمُ}، في الجماع، والقراءتان كالخبرين.

وأيضاً فقد رُوِيَ عن زيد بن أسلم مذهب حسن في الآية فقال: ظاهر قول الله - تعالى -: {وإن كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}، يدل بظاهره أن نفس المرض والسفر والمجيء من الغائط حدث، وبالإجماع ليس نفس ذلك حدثاً، وإنما فيه ضمير - وأنتم محدثون - ففي الآية تقديم وتأخير. وترتيبه: أن الله - تعالى - قال: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط وقد احدث، أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم على الكعبين وإن وجدتم الماء، ثم قال: وإن كنتم جنباً فاطهروا، ثم قال: وإن كنتم مرضى أو على سفر وحالكم ما تقدم من الجنابة أو الحدث فحكمك ما ذكرناه من التيمم عند عدم الماء. ولنا أيضاً ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أنه كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاه جبريل فسأله عن رجل يصيب من امرأة لا تحل له ما يصيب من امرأته إلاَّ الجماع، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يتوضأ وضوءً حسناً، وهذا أمر بالوضوء فيما سوى الجماع. فإن قيل: قد بالغ فيما عمله، فلم يترك شيئاً سوى الجماع إلاَّ فعله، فيدل على أنه بالغ في المباشرة بالفرجين المباشرة الفاحشة، وهذه حال يكون فيها المذي لا محالة أو يقاربه؛ لبلوغه الغاية في الشهوة.

قيل: إذا كان جنس المس تكون منه الشهوة وجب أن يعتبر المس لشهوة، سواء قل نوعه في المس أو أكثر، ألا ترى أن الإيلاج في أوله له هذا الحكم، وكلما بالغ في الإيلاج كان ابلغ في الشهوة، والحكم فيه واحد، فكذلك ينبغي أن يحكم في المس لشهوة، باليد وبغيرها، كما يحكم به في المباشرة الفاحشة، وإن كان لهما فضل في الشهوة، ثم لو كان الحكم يختلف لسأله النبي عليه السلام عن تفصيله، فلما لم يسأله وأوجب الوضوء لم يختلف. ومما يدل على أن إطلاق اللمس يتناول باليد دون الجماع؛ ما رواه عكرمة عن ابن عباس أن الأسلمي أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعترف بالزنا فقيل في بعض الأخبار: إنه عليه السلام قال: «لعلك قبلت

أو لمست»، فأطلق اللمس، فلو كان للجماع على ما يقول أبو حنيفة لم يكن في هذا فائدة؛ لأنه يكون قد قال لمن اعترف بالجماع؛ لعلك جامعت، ولا يجوز هذا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما فرق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين قول الرجل زنيت، وبين قوله عليه السلام: «لمست.، علمنا أن اللمس غير الجماع، والنبي عليه السلام سيد أهل اللغة، وبحضرته سادات في اللغة - يقول: «لعلك لمست»، فلا يقول أحد منهم: يا رسول الله، اللمس: الجماع، فلما سكتوا مع إطلاقه علم أن إطلاق اللمس في لسانهم هو المس دون الجماع. وكذلك روت عائشة - رضي الله عنها - أنه ما كان من يوم إلاَّ ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطوف علينا فيقبل ويلمس، فإذا جاء إلى من هي في يومها أقام عندها، وعائشة - رضي الله عنها - من المعرفة باللغة واللسان بالمكان الذي لا يخفى، فأطلقت اللمس على ما دون الجماع، فبان بهذا أن إطلاق اللمس لما قلناه. فإن قيل: يجوز أن يكون صريحاً في اللمس إذا أطلق لما ذكرتم، ثم قد يجعل كناية عن الجماع كما قَالَ ابْنُ عباس، وإذا اختلفوا في حكم المراد بالآية عن الجماع كما قَالَ ابْنُ عباس، وإذا اختلفوا في حكم المراد بالآية فإما أن تحملوه على الصريح من المس فقد أسقطتم قول من قال: إنه في الآية كناية، أو تحملوه عن الكناية فتسقطوا حكم من حملها على الصريح، وهذا لا يسلم لأحد القولين دون الآخر،

أو تحملوه على الأمرين فإن الصريح والكناية لا يجتمعان في المراد بلفظ واحد. قيل: قد أجبنا عن هذا وقلنا: من مس ولم يجامع قلنا: عليك الوضوء؛ للصريح من اللمس، ومن جامع قلنا: عليك الغسل؛ لن من قال: هي كناية عن الجماع لم يقل: إن من فعل ما يقتضيه الصريح لا يتوجه غليه. ووجه آخر: وهو أن الجميع - عندنا - صريح على ما بيناه من أن الجنس واحد في المس وإن كان بعضه أبلغ من بعض، فمن قال: هو كناية؛ أراد أنه ليس بالاسم الأخص في الوطء؛ لأن اسم الجماع أخص به وإن كان لمساً، ألا ترى أن اسم السرق للجنس، ومعناه: أن يسرق الشيء على طريق الاستخفاء سواء كان المسروق سعداً أو لحظاً أو ما يقول، وقد اختص في الإطلاق إذا قيل: قد سرق توجه إلى سارق ما يتمول، ولا يمتنع إطلاق العموم عليه إلا أن يقوم دليل يخصه. ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه: أن الله - تعالى - قال في هذه الآية: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، وقرئ: {أَوْ لَامَسْتُم}، وقال في آية أخرى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، وقال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}، وقال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}، وقرئ:

{تماسوهن}، وقال في الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، والمراد في هذه الآيات بالمماسة الجماع، فلو جعلنا اللمس بهذا اللفظ أيضاً للجماع أبطلنا فائدة تغيير العبارة؛ لأن لفظ اللمس غير لفظ المس، وإذا جعلنا للفظين المختلفين حكمين كان أكثر في الفائدة من حملها على حكم واحد. , وأيضاً فإنه - تعالى - قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، والبداية بأولا يصلح إلاَّ بأن يكون لهما مقدمة تعطف بها عليها، وإذا لم يكن بدٌّ من مقدمة تعطف بأو عليها نظرنا، فلا يخلو أن تكون المقدمة قوله -تعالى -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}، فيكون تقديره: إذا قمتم من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم، أو تكون المقدمة قوله: {وإن كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، أو لامستم النساء، أو تكون المقدمة لقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ}، هي قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}، فيبطل أن تكون المقدمة قوله: {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}؛ لأن بعدها: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}؛ لأن الجنابة توجب الغسل، والمجيء من الغائط لا يوجبه، وإن جعلنا قوله: {لمستم النساء}، عطفاً على قوله: {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، لم يكن فيه فائدة إن كان لامستم للجماع، لأن الجنابة قد ذكرت.

ويبطل أن تكون المقدمة قوله: {وإن كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}؛ لأن المرض والسفر ليسا بحدث، وإنما تقديره: وأنتم محدثون، فإن أراد: وكنتم محدثين الحدث الأصغر فالعطف عليه باللمس الذي هو دون الجماع يصح، وإن أراد وأنتم يا مرضى مسافرين محدثين بالوطء، فلا فائدة بالعطف عليه باللمس المراد به الجماع؛ لأنه يكتفي بقوله: وأنتم محدثون بالجماع، فصح أن قوله - تعالى - {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} معطوف على أحد موضعين: غما قوله: إذا قمتم من النوم، أو على قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}، وعطف على قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}، أولى؛ لأنه أقرب المذكور إليه، وهو معطوف عليه، والغائط كناية عما ينوب الناس من الحدث الأصغر، واللمس باليد لا يكون في الغائط، وإنما يفعل خارج الغائط، ولكنه في حكم الحدث الأصغر الذي يكون في الغائط. هذا يقوي قول زيد بن اسلم في التقديم والتأخير في الآية إن جعلنا اللمس عطفاً على قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}، ونقول أيضاً: إن الآية لو احتملت ما ذكروا، واحتملت ما نقول وفرض الاصة بيقين، كان قولنا أولى؛ لأننا نوجب الضوء احتياطاً للصلاة حتى يسقط حكمه بيقين، وتعارض التأويلين بهذا الوجه، وفيه أيضاً نقل من براءة الذمة إلى إيجاب الطهارة. فإن قيل: لو ثبت لكم ما ذكرتم لكان ظاهر الآية يدل على أن الوضوء يجب على من لمس جميع النساء بقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، فدليله إذا لمس بعض النساء لم يجب عليه شيء؛ لأنكم تقولون بدليل الخطاب. قيل: إن هذا وإن كان بلفظ الجمع في

الرجال والنساء فالمراد به كل واحد في نفسه؛ كلأن الأمة قد عقلته، وها كقوله: - تعالى -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، المراد: أن كل قائل إلى الصلاة يلزمه ذلك؛ لأن الله -تعالى - أوجب على عباده من أمه نبيه عليه السلام ذلك، ولما لم يكن الخطاب لكل شخص في نفسه بما يلزمه من ذلك، لم يكن بدٌّ من جمعهم في اللفظ والمراد كل واحد منهم، فإذا ثبت ذلك في كل ملموس على هذا الصفة. وجواب آخر: وهو أن الناس قائلان: فقائل يقول: المراد بالآية اللمس، فجعله للجنس، وقائل يقول: المراد: الجماع، فجعله في جنس النساء، فكل واحد من الجماعة يراد بذلك على هذا الوجه وعلى الوجه الآخر. وجواب آخر: وهو أن ظاهر هذا يوجب أن جماعتنا إذا لمسوا جماعة النساء وجب الوضوء، فإذا حصل لنا هذا فقد سلمت المسألة، وإذا ثبت لنا ذلك فقد حصل لنا استعمالنا الآية على مذهبنا من وجهين: أحدهما: أن نقوي قول من قال من الصحابة: إن المراد بها اللمس دون الجماع بما ذكرناه من صريح اللمس، وبأنه أحوط، وأنه ناقل، وأنه تكون فيه زيادة فائدة حتى لا يحمل على التكرار إن حمل على الجماع، وقد تقدم قوله - تعالى -: {وإن كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}. والوجه الآخر: أن نحملها على الأمرين جميعاً بما ذكرناه عن ابن مسعود وابن عمر.

وقد روى الأعمش عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: القبلة من اللمس وفيها الوضوء. وسالم عن أبيه أن عمر قال: القبلة من اللمس، وفيها الوضوء. وهو قول الشعبي،

وإبراهيم، ومكحول، والحكم، وحماد، والزهري، وربيعة، وعبد الله بن يزيد بن هرمز، وزيد بن اسلم، ويحيى بن سعيد،

والليث، وعبد العزيز، وهذه الآثار كلها في الفتوى في نفس ما اختلفنا فيه، وفي تفسير اللمس. ولنا من القياس: أنه لمي يحرم الربيبة فوجب أن ينقض الطهر، أصله التقاء الختانين؛ لأن أبا حنيفة يوافقنا على أنه إذا قبلها للشهوة حرمت عليه ابنتها كما نقول. وأيضاً فإن اللمس لشهوة يفضي في الغالب إلى نقض الطهر؛ لأنه قد يلمسها لشهوة فيمذي، فجاز أن يتعلق نقض الطهر بنفس المس، كالنوم لما أن يفضي في الغالب إلى نقض الوضوء؛ لأنه قد يخرج منه الريح جاز أن يتعلق نقض الوضوء بعينه. ونقيسه أيضاً عليه لو عانقها متجرداً؛ بعلة إلصاق بشرته

ببشرتها لشهوة، ونقيسه عليه لو أمذى باللمس بعلة حصول التقاء البشرتين ملتذاً. ويؤيد ما نقوله: أن الجماع في الحج يوجب الكفارة العليا، والقبلة فيه توجب الكفارة الصغرى، فكذلك لما كان الإيلاج يوجب الطهارة العليا جاز أن توجب القبلة لشهوة الطهارة الصغرى. فإن استدلوا باستصحاب الحال في الأصل، وأنه على جملة الطهارة قبل ان يمس. فلنا أن نعارضهم بما هو أقوى من ذلك فنقول: الصلاة في ذمته بيقين، فمن زعم أنه تسقط بطهارة وقد لمس فعليه الدليل، والطهارة تراد للصلاة. ثم لو سلمت لهم الحال لكانت الدلائل التي تقدمت تنقل عنها. وإن استدلوا بقوله عليه السلام: «لا وضوء إلاَّ من صوت أو ريح»، وبقوله في قصة صفوان: «لكن من غائط وبول ونوم»، إلاَّ أن يقوم دليل. قلنا: وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور»، ولا نسلم أن هذا متطهر، والصلاة عليه بيقين فلا تسقط إلاَّ بدليل. على أن هذه كلها ظواهر تخص ببعض ما ذكرناه، كما أوجبوا هم

الوضوء في الرعاف والقيء وغير ذلك مما لم يذكر في الخبر. فإن قيل: فقد روى عروة عن عائشة أنها قالت: قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض نسائه، ثم خرج ولم يتوضأ، قال عروة: ما هي إلاَّ أنت فضحكت. وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها فقدت

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من فراشه، فوقعت يدها على أخمص قدميه، فلما فرغ قال: «يا عائشة أتتك شياطينك»، ولم يقطع الصلاة بوقوع يدها عليه. وروي أنه عليه السلام كان يحمل أمامة بنت أبي العاص - وهي بنت بنته

زينب - في صلاته، فكان إذا سجد وضعها، وإذا رفع حملها، ونحن لا نعلم أنه كان يصيب بشرتها. قيل: أما الأخبار عن عائشة - رضي الله عنها - فقد وردت من طرق لا تثبت. فروى معبد بن نباتة عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُقبّل ولا يتوضأ.

والصحيح أن عروة روى عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلها صائماً. وروى إبراهيم التيمي عن عائشة، وهو لم

يسمع منها شيئا. وقال موسى بن هارون: وقد رواه بعض الكوفيين عن الثوري فقال فيه: عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عائشة، وهذا وهم على الثوري.

وقد رواه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع عن إبراهيم التيمي عن عائشة مرسلاً. وقد رواه الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت

عن عروة عن عائشة. قال موسى بن هارون: حبيب دخل عليه الوهم جدًّا، وهو حديث منكر. وقيل: إن حبيباً إنما روى عن عروة المزني، وهو رجل مجهول. وحكي عن يحيى بن سعيد أنه قال: لم يكن أحد أعلم بحبيب بن أبي ثابت من سفيان الثوري: وقد قال: لم يسمع حبيب من عروة شيئاً.

وروى الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج إلى الصلاة ثم يُقبلني ولا يتوضأ.

وقال موسى بن هارون: وأما حديث سعيد بن بشير عن منصور عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة فإن حديث منكر، وهو والريح اثنان، وإنما رواه الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي عليه السلام كان يقبل وهو صائم، وابن شهاب يرى في القبلة الوضوء ولو كان عنده عن النبي عليه الاسم إلاَّ وضوء فيه لم يخالفه وقد روى من طرق أخر كلها منكرة. على أننا لو سلمنا ذلك كله استعملناها عليه إلا مس بغير شهوة، أو نعارضها بالحديث الذي قيل فيه: إني أصبت من المرأة كل شيء غير الجماع، فأمره عليه السلام أن يتوضأ، فإذا تعارضت الأخبار وأمكن الاستعمال فهو واجب، وقد استعملنا الجميع، ففي أخباركم إذا كان لغير شهوة، وفي الأخبار الموجبة للوضوء إذا كان لشهوة؛ لأنها كلها

قضايا في أعيان مخصوصة محتملة، ويمتنع أن تكون يد عائشة وقعت على أخمص النبي عليه السلام وهو في الصاة، مقبل على ربه - تعالى - مشغول بخشوعه فليتذ بوقوع يدها عليه. ويحتمل أن يكون عليه السلام كان في دعاء، والدعاء يسمى صلاة، ولا يحتاج إلى وضوء، ولو التذ أيضاً لجاز أن يكون مخصوصاً بذلك. وأما حديث أمامة وحمله عليه السلام لها في الصلاة، فهو حجة لنا على الشافعي؛ لأنه عليه السلام لا يمسها لشهوة، ثم لو ثبت العموم في الأخبار كلها جاز أن تخص بالقياس الذي ذكرناه. فإن قيل: فإنا نعارض بقياس فنقول: إنه لمس جسماً ظاهراً فلم ينتقض وضوؤه، أصله إذا مس الرجل وإذا مس الرجل الرجل وإذا مس لغير شهوة. وأيضاً فإن شعر المرأة بدنها؛ لأنه لو طلق شعرها لطلقت، ومع هذا لو مس شعرها لم ينتقض وضوؤه. قيل: إذا مس الرجل أو لمس شعر المرأة لشهوة فعليه الوضوء. وأما القياس على المس لغير شهوة فيه: أنه في الغالب لا يؤدي إلى نقض الطهارة، وليس كذلك إذا كان لشهوة، ألا ترى أنكم قد أوجبتم الوضوء في المباشرة الفاحشة بهذا المعنى، وكذلك تحرم الربيبة بالمس لشهوة، ولا تحرم بالمس لغير شهوة، فثبت ما ذكرناه، وقياسنا أولى؛ لأنَّ فيه احتياطاً للصلاة لتسقط بيقين، ولأنه ناقل من براءة الذمة إلى وجوب الطهارة. وبالله التوفيق. ... المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عماد البحث العلمي سلسلة الرسائل الجامعية: 60 اسم الكتاب: عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين الفقهاء الأمصار كتاب الطهارة تأليف: أبي الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي المالكي المعروف بابن القصار المتوفي: سنة 397 هـ دراسة وحققه: د: عبد الحميد بن سعد بن ناصر السعودي الجزء الثاني سنة: 1426 هـ - 2006 الطبعة: الأولى

فصل

فصل كلام على الشافعي في الملامسة لغير الشهوة. قال القاضي: الدليل لقولنا: براءة الذمة من وجوي شيء إلا بدليل. وأيضا فقد اتفقنا على كونه ظاهرا قبل أن يمس، فمن زعم أن طهارته انتقضت عليه بالدليل. وإن عارضوا باستصحاب مثله وهو أن الصلاة عليه بيقين فلا تسقط بطهارة فيها لمس إلا بدليل. قيل: إنما نسلم أن الصلاة عليه حتى يؤديها بطهارة من جهة الشرع، وهذا قد تطهر كما أمر بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى آخر الأية وهذا قد غسل ما أمر به. وأيضا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا صلاة إلى بطهر). وقد بين لنا كيف الطهارة من الكتاب وفعله، وهذا قد تطهر. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {أو لامستم النساء}، وقدرئ: {لمستم}، فجعل اللمس كالأحداث المقرونة معه، وأوجب الوضوء، ولم يفرق بين لامس ولمس. قيل: إن الصحابة اختلفت في هذه الآية على وجهين.

فقال علي وابن عباس وأبو موسى - رضوان الله عليهم -: إن المراد باللم الجماع. وقال عمر وابن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهم -: إن المراد اللمس لشهوة كالقبلة والجسة، ولم يقل أحد منهم: إنه اللم على كل حال، فمن حمله على اللمس لغير شهوة عن القولين فوجبا أن يسقط قوله. وخلافهم في هذا وأنهم أرادوا اللمس على طريق الشهوة أظهر عندي من أن يستدل عليه؛ وذلك أن الذين قالوا هو للجماع، أرادوا به الغاية في بلوغ اللذة، وقال لهم من بإزائهم: إن دواعيه من الملامسة: لأنهم قالوا: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة. أفترى أنهم قصدوا قبلته على طريق التحنن والرحمة إذا هي بكت فقيل رأسها، كما يفعل بأمه وابنته؟، وأرادوا إذا جسها بيده لمداواة أو غيرها؟ هذا لا يظن بهم، وإنما يكون الشيء من جنس الشيء إذا كان معناه فيه أو يقاربه، وليس تقارب قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة التي هي الجماع إلا إذا كان لشهوة. وذا أمر إذا راعيناه أطرد في كل مس للشهوة على كل وجه من كل أحد؛ لأن فيه معنى من اللذة المقصودة بالجماع، المخالف لا يطرد قوله في كل مس لا يكون لشهوة؛ لأنه ينوعه في ذات المحارم وفي

الأصاغر، ويقول في بعضه قولين، وعلى وجهين، فيخرج عن مراعاة قول أحد ممن تقدم، وقولنا يصير كالعلة المستمرة في الطرد والعكس، كما قلنا لهم في تطهير الماء وتنجيسه: إن العلة التغير بالجنس، فيطرد في قليل الماء وكثيره، وبارتفاعها يكون الماء طاهرا في قليله وكثيره. قيل: هذا لا يصح؛ لأنهم قالوا لمن قال إنه الجماع: هذا ضرب منه؛ لأن فيه بعض المعاني التي فيه من وجود اللذة. وقد يقال: هذا الشيء من هذا المكان فيه معنى من معانيه أو يقاربه. كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مولى القوم منهم)، (والأذنان من الرأس). فإن قيل: إن المس معنى من معاني الجماع وإن كان لغير شهوة، وهو إلصاق البشرة بالبشرة. قيل: هذا فاسد بذوات الماحرم والصغار وغيرهم،

وبظاهر الكف. ويفسد أيضا؛ لأن للذة العظمى تحصل بالاحتلام، وهو الإنزال، كما تحصل بالإيلاج، ويجب فيه الغسل كما يجب بالإيلاج، وليس فيه إلصاق البشرة بمثلها، فثبت بهذا أن المراد على ما نراعيه من الالتذاد. ولنا في المسألة: الظواهر التي ذكرناها لأصحاب أبي حنيفة، وظواهر آخر، مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، وهذا قد قرأها في صلاته، وإن مس. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي: (توضأ كما أمرك الله، فاغسل وجهك ويديك)، وهذا قد فعل. وقوله: (لن تجزئ عبدا صلاته حتى يسبغ الوضوء)، وفيه: (حتى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه)، وهذا قد فعل، وما أشبه هذا، فمن زعم أن المس قد أفسد عليه فعله المأمور به فعليه الدليل. وأن أعيد بعض الظواهر التي تقدمت لأصحاب أبي حنيفة، وهي

حجة لنا على الشافعي. فمنها ما روته عائشة - رضي الله عنها - أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبلها وهو صائم ثم يصلي ولا يتوضأ، فقيل لها في ذلك، قالت: وأيكم أملك لإربه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. وهذا نص لا محالة في أنه إذا كان لغير شهوة فلا حكم له. فإن قيل: يحتمل أن يكون قبلها من فوق حائل. قيل: حقيقة قولها: قبلني المباشرة، وفي الحائل: قبل ثوبي، والكلام محمول على الحقيقة. فإن قيل: يجوز أن يكون عليه السلام مخصوصا بذلك. قيل: قد عللته بقولها: وأيكم كان أملك لإربه منه؟. أي إنما ذلك منه لأنه يملك إربه، ولو كنتم انتم تملكون إربكم فلا تلتذون ولكنتم كذلك. والحديث الذي قالت فيه: فوقعت يدي على أخمص قدميه وهو يصلي، ولم يقطع الصلاة، ولو كان ذلك ينقض الوضوء لقطع الصلاة

وتوضأ، ولو فعل ذلك لنقلته عائشة، وإنما نقلت إلينا ما جرى لتفدينا أن ذلك لا ينقض الوضوء، ومحال أن تنقل ما يتعلق به حكم، وتترك ما هو أظم منه. فإن قيل: إنما نقلت ذلك لتفدينا الدعاء الذي سمعته منه. قيل: هو للجميع. فإن قيل: هذه قضية في عين، فيحتمل أن يكون عليه السلام مخصوصا بذلك، ويحتمل أن يكون بينهما حائل، أو نحمله على أحد قولي الشافعي في الملموس، وخلافنا في الملامس. قيل: قولكم: إنه مخصوص بالحجة لنا من فعله الذي هو على الوجوب، ولا نخصه إلا بدليل، وأيضا فلو كان الحكم يختلف لنقلت الحائل. وأيضا فإن الأشياء التي تنقض الطهارات من الأحداث قد استوى حكمه عليه السلام وحكمنا فيها، مثل الغائط والبول والريح وغير ذلك فلا ينبغي أن نجعله مخصوصا بشيء منها بغير دليل. والذي نخصه من هذا الباب هو أنه يملك إربه بخلافنا، وأنه في حال صلاته مقبل على ربه - تعلى -، مشغول بخشوعه، بخلاف الغالب منا؛ لأنه لا يتطرق عليه طرو الالتذاذ والشهوة باللمس، ونحن إن اتفق لواحد منا مثل ذلك في نادر الحال فهو في مثل حكم النبي عليه السلام، فلا ينتقض وضوؤه، كما فرقت عائشة بيننا وبينه عليه السلام في القبلة في الصيام، فقالت: وأيكم أملك لإربه منه عليه السلام؟. أي الغالب منكم أنتم بخلافه، فإن قبلا نحن

لغير شهوة، فنحن وهو في الحكم سواء. وقولهم يحتمل أن يكون بينهما حائل فلا تقول وقعت يدي على أخمص قدميه ويهما حائل، هذا هو الحقيقة. وعلى أنه لو كان الحكم يختلف لذكرته، أو ذكره عليه السلام. وقولهم: إنه في الملموس على أحد القولين، فهذا هو القول الضعيف منهما. على أنه يفسد في الاعتبار؛ لأن اللذة تحصل تارة بلمسه، وتحصل تارة بأن يلمس، وتحصل الشهوة منهما جميعا، كما لو مكنته من الإيلاج، أو مكنها منه، وهذا تحكم في صرف المعاني عن حقائقها لنصرة المذاهب، وإنما ينبغي أن تبنى المذاهب على ما توجبه الأدلة، وإطراد المعاني فيها، وأن لا يفرق بين حقائقها مع الإمكان. وأيضا فقد وافقونا على أن استعمال الأخبار واجب، ولا يطرح بعضها إذا أمكن الجمع لكثرة الفوائد. فقد روينا حديث الذي قال للنبي عليه السلام: إني نلت من امرأة كل ما ينال الرجل من امرأته إلا الجمع، فأمره النبي عليه السلام بالوضوء، فإن قلنا: إن المسألة لم تقع إلا عن شيء التذ به، فهو ودجه صحيح؛ لأن الغالب أنه لا يشكل عليه أنه إن ضربها أو داواها، أو قبل رأسها رحمة لها أن هذا مما لا يقارب حكم الجماع، فيحتاج إلى المسألة عنه، وإنما سأل عما يداعب الرجل

به امرأته، ويتعرض لها مما يقارب معنى الجماع. آلا ترى أنه قال: إلا أني لم أجامعها. أي قاربت على ذلك. ولو سلمنا أنه لذلك ولغيره لعارضه ما روي عن عائشة - رضي اله عنها - في وقوع يدها على أخمص قدميه، وحديث حمله لأمامة بنت زينب في الصلاة، فنستعمل الأحاديث كلها، ونجعل الموضع الذي أوجب فيه الوضوء إذا كان لشهوة، والموضع الذي لا وضوء فيه إذا كان لغير شهوة. ويكون استعمالنا أولى من استعمالهم؛ لأنه يطرد في وجوب الوضوء في كل ملتذ، ويسقط الوضوء لفي كل من لا يلتذ، سواء كان لامسا أو ملموسا، صغيرا مكان الملموس أو كبيرا، إذا محرم أو غيره، من تحت حائل أو من فوقه، بباطن اليد وظاهرها، وهذا ترجيح قوي لترجيحنا العلة التي هذه سبيلها. فإن قاسوه على المس بعلة أنه لمس من رجل لامرأته من غير حائل. قيل: المعنى أنه لغير شهوة. فإن قيل: هذه علة لا تتعدى، والمتعدية أولى منها. قيل: هي تتعدى إلى الملموس واللامس، والحائل وغير الحائل، وأنتم لا تعدون علتكم إلى هذه الفروع. على أننا نستخرج من أصله فنقول: اتفقنا أنه لو مسها من فوق حائل، أو مس شعرها، أو صغيرة ذات محرم على أحد القولين لم يكن

عليه وضوء، والمعنى فيه أنه لمس لغير شهوة. فإن عارضوا بعلة أخرى. قيل: إنها لا تتعدى، وعلتنا متعدية، كما قالوا في معرضتنا لعلتهم في أصلهم. فإن رجحوا قياسهم بشيء. فترجيحنا أولى باستمرار العلة في الإطراد والعكس، وفي الصغار والكبار، وذات المحارم وغيرهن، والحائل وغير الحائل، وهذا أقوى ما يكون من ترجيح العلل. فإن قيل: إن شعر المرأة من جنس لا يلتذ به، فلاينبغي أن يجعل أصلا. قيل: هو فيها منزلة عضو منها، ولستم تراعون اللذة، وإنما تراعون مسها في نفسها، وشعرها منها. وعلى أن الشعر الحسن يلتذ بمسه والنظر إليه، في ثمن المملوكة كما يزيد في ذلك سمنها وغيره، حتى ربما ردت الجارية بالعيب في شعرها كما ترد بعيب في بدنها، ولو قال لها: شعرك طالق لطلقت، كما لو قال لها: يدك طالق.

ويقوي اعتبارنا في التفريق بين المس والقبلة لشهوة وبين عدم الشهوة: ما نقوله في القبلة لشهوة إنها تحرم الربيبة، ولو كان لغير شهوة لم تحرمها، وهم يوافقوننا على ذلك، فقد صارت القبلة لشهوة تعمل عمل الجماع في التحريم. ونقول أيضا: هو لمس لم تقصد به الشهوة فلم ينقض الوضوء. أصله مس الرجل للرج، والمرأة للمرأة. فإن قيل: إن ما ينقض الطهر لا فرق فيه بين أن يوجد على وجه الشهوة أو غير وجه الشهوة، ألا ترى أن خروج المني لما نقض الطهر، لا فرق بين أن يخرج لشهوة، وهو عند الجماع، أو لغير شهوة وهو أن تكون به علة، أو يكون مغمى عليه، وكذلك البول والغائط، لما نقض الطهر لم يفترق الحكم بين خروجه لشهوة أو غيرها؛ لأن الإنسان إذا كان حاقنا بشدة البول التذ بخروجه، وكذلك لو سلس بوله فخرج لغير لذة. قيل: أما ما ذكرتموه من المني فغلط؛ لأن الغسل لا يجب - عندنا - إلا في المني الذي تقارنه اللذة، فأما إن خرج لعلة ولم تقارنه لذة لم يجب فيه الغسل، فقد افترق الحكم. وأما المغمى عليه فذلك كالنائم يجد اللذة ولكنه لا يعقل بها. وأما والغائط فعنه جوابان:

أحدهما: أنه لا يلتذ به الجماع، ونحن نراعي في القبلة والمس لذة الجماع، كما راعيناه جميعا في تحريم الربيبة. والجواب الآخر: هو أنه إذا خرج منه البول المعتاد نقض الطهر، وإذا سلس بوله وخرج من المعتاد لم ينقض الوضوء، وقد سبق الكلام على هذا، فسقط السؤال وبالله التوفيق. فإن قيل المعنى في مس الرجل والمرأة هو أنه لمس من ليس له في مسه شهوة، ألا ترى أنه لو لمسه لشهوة لم يجب عليه الوضوء، وكذلك المرأة مع المرأة. قيل: هذا غلط؛ لأن الرجل يلتذ بمس الغلام، ويجب عليه الوضوء - عندنا - إذا التذ، وكذلك المرأة مع المرأة.

[24] مسألة

[24] مَسْأَلَة ومن نام منضطجعا أو قائما أو راكعا أو ساجدا فعليه الوضوء، وبه قال الشافعي. وللشافعي قول آخر يفرق فيه بين كونه في الصلاة وغير الصلاة، فإن كان في الصلاة لم ينقض كما لا ينقض نوم القاعد، والقول الآخر مثل قولنا، سواء كان في الصلاة أو في غير الصلاة. وعند المزني أن النوم حدث، فهو ينقض الوضوء، قليله وكثيره على كل حال، وفي القاعد أيضا. وعند أبي حنيفة وأصحابه لا ينقض إلا في المضطجع حسب.

واتفق فقهاء الأمصار على أن نوم المضطجع ينقض الوضوء. وروي عن أبي موسى الأشعري وأبي مجلز وعمروا بن دينار وحميد الأعرج أنهم قالوا: لا وضوء من النوم أصلا على أي حال

كان وإنما ينقض الوضوء ما خرج منه وتيقنه في نومه. قالوا: لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على خالتي ميمونة، ونام فغط، حتى سمعنا غطيطه، ثم قام وصلى ولم يتوضأ. والدليل عليهم: قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية. وهذه وردت على سبب، وهو أن أصحاب رسول الله كانوا قد قاموا من النوم، وكان ورودها في غزوة المريسيع حيث فقدت عائشة - رضي الله عنها - عقدها، فأخروا الرحيل إلى أن أضاء الصبح، فطلبوا الماء فلم يجدوا، أنزل الله تعالى هذه الماء إلى قوله {فتيمموا}، وإن كان الخطاب خارجا على سبب فلا خلاف

أن السبب داخل فيه، وهم قاموا من النوم فأوجب الله تعالى غسل هذه الأعضاء عند قيامهم من النوم. وأيضا ما رواه علي ومعاوية أن النبي عليه السلام قال: (العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ) فأوجب الوضوء من النوم، وهم لا يوجبون الوضوء من النوم أصلا. وروى حذيفة قال: كنت جالسا في المسجد فدخل النبس عليه السلام، ووضع يده على منكبي، فانتبهت فقلت: يا رسول الله، أمن هذا وضوء؟. فقال: لا أو تضع جنبك على الأرض، فأخبروه أن الوضوء يجب عليه إذا وضع جنبه إلى الأرض ونام. فأما ما رووه من الخبر فيجوز أن يكون النبي عليه السلام مخصوصا به؛ لما روته عائشة أن النبي عليه السلام قال: (إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي)،

وهذه معجزة له. فإن قيل: كيف يكون هذا هو عليه السلام بقي نائما حتى أيقظهم حر الشمس فلو لم ينم قلبه لعقل ما هو فيه. قيل: خصوصيته إنما كانت في أنه إذا نام لا يخرج منه الحدث، وكان محروسا من ذلك، ولو خرج منه لعقله، ونحن بخلافه في ذلك، ولم يكن مخصوصا بأن يحسن في نومه. وجواب آخر: وهو أنه يجوز أن يكون له عليه السلام نومان: أحدهما: لا ينام فيه قلبه، وهو الذي روته عائشة - رضي الله عنها -، ونوم مثل نوم أمته، ينام قلبه وجميع أعضائه. فأما الكلام على أبي حنيفة فالديل لقولنا: ما روي أن النبي

عليه السلام قال: (لا وضوء على الجالس)، دليله غير الجالس بخلافه فعليه الوضوء. وأيضا ما روي أنه عليه السلام قال: (لا وضوء على من نام قاعدا) دليله أن من نام غير قاعد فعليه الوضوء. وأيضا قول الله تعالى: {قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية، وقد بينا أنها وردت على سبب، وهو أنهم كانوا قد قاموا من النوم في غزوة المريسيع، ولم يفرق بين نوم

ونوم، فهو عمود إلا أن يقوم دليل. وأيضا ما روي أنه عليه السلام قال: (إنما الوضوء على من نام مضطجعا، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله) وهذا تعليل منه عليه السلام أو تنبيه، فينبغي أن يكون كل نائم تسترخي مفاصله كذلك، والنائم راكعا أو ساجدا بهذه الصفة. وأيضا ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية - رضي الله عنهما - أن النبي عليه السلام قال: العينان وكاء السه، فإذا نامت العينان

استطلق الوكاء، فأخبر أن بنوم العينين يستطلق الوكاء، فهو عام في كل نوم إلا أن يقوم دليل. وفي هذا الخبر: استطلق الوكاء فمن نام فليتوضأ فأمر بالوضوء، والأمر يقتضي الوجوب، نوما من نوم. وأيضا فإنه نام زائلا عن مستوى الجلوس فوجب أن ينتقض وضوؤه، دليله إذا نام مضطجعا. وأيضا فإنه لا خلاف بيننا أن النوم في نفسه ليس بحدث، وإنما وجب عليه الوضوء في نومه مضطجعا؛ لجواز خروج الحدث منه في الغالب؛ لأنه إذا كان متربعا قد أفضى بمقعدته إلى الأرض لا وضوء عليه؛ لأن الغالب عدم خروج الريح منه، فإذا كان الوضوء إنما وجب عليه في نومه مضطجعا لهذا المعنى، وهو إمكان خروج الريح منه في الغالب، ففي الراكع والساجد هذا المعنى، وهو أولى بوجوب لوضوء عليه؛ لأن الخارج منه أمكن؛ لأن المضطجع منضم الأطراف، والراكع والساجد بخلاف ذلك؛ لانفراج موضع الحدث، وفي الاضطجاع هو منضم، وهذه نكته جيدة.

فإن قيل: فقد روى أبو خالد الداراني عند قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد فنام ونفخ، ثم قام فصلى. فقيل يا رسول الله، إنك نمت في سجودك وصليت ولم تتوضأ؟. فقال: (إنما الوضوء على من نام مضطجعا)، وأنكر عليهم ظنهم، ففيه نص على النائم مضطجعا في وجوب الوضوء، وفيه نفي الوضوء عن الساجد، لأنه عليه السلام نام ساجدا. وأيضا ما روي حذيفة بن اليمان قال: كنت في المسجد فدخل النبي عليه السلام، فوضع يده على منكبي، فانتبهت فقلت: أمن هذا وضوء

يا رسول الله؟ فقال: (لا أو تضع جنبك على الأرض)، فقوله: لا، نفي لوجوب الوضوء إلا في وضعه جنبه على الأرض مع نومه. قيل: أما حديث أبي خالد الداراني فإنه حديث منكر، هكذا ذكر أحمد بن حنبل، وأبو داود، وموسى بن هارون. قال أحمد: وما لأبي خالد الداراني يدخل نفسه في أصحاب قتادة. وعلى أن قتادة لم يسمع من أبي العالية إلا أربعة أحاديث ليلس هذا منها، ومن مذهب أصحاب الحديث أنهم إذا قالوا: لم يسمع فلان من فلان شيئا فقد نفوا أن يكون أخذ عنه شيئا، ولا يريد بهذا

أنه قرأ عليه؛ لأن قراءته عليه سماع منه، ولو أرادوا أنه عنده مرسل لذكروه ولم ينكروه؛ لأنهم بأجمعهم - عندنا - يقولون بالمرسل، ولو اختلفوا فيه ذكره من لم يقل بالمرسل، وعلله وبين رده، ومن يقول بالمرسل لا ينكر عليه، وإنما يريدون بقولهم: لم يسمع النفي والرد لما رواه. فإن قيل: فإن أبا داود قال: إن قتادة لم يسمع من أبي العالية إلا أربعة أحاديث ليس منها. وهو مرسل من وجه آخر، وهو أن أبا خالد لم يلق قتادة، وأنتم ونحن نقول بالمراسيل. قيل: قد أجبنا عن هذا، وإنما نقول بالمرسل ما لم يمنع منه مانع، وقد بينا المانع، وهو أن أصحاب الحديث يريدون بذلك انه لا رواية عنده عنه. على أنه لو صح لكان حجة لنا؛ لأن النبي عليه السلام نص على المضطجع، وعلل تعليلا يدخل فيه المضطجع وغير المضطجع من الراكع والساجد، لأنه قال: (فإذا نام مضطجعا استرخت مفاصله)، كما نص على الأشياء الستة في الربا،

ونبه على غيرها مما هو في معناها. فإن قيل: هذه العلة لا توجد في الراكع والساجد من طريق المشاهدة؛ لأنه مجتمع يثبت، ولو استرخت مفاصله لم يثبت وكان يسقط ويزول عن حالته في نومه. قيل: مفاصله تسترخي لا محالة، فإن زاد عليه سقط، وليس هو بأكثر حالة من القاعدة المتمكن من الأرض، ثم إذا نام القاعد واستثقل سقط. فإن قيل: لا يجوز أن يكون هذا التعليل عاما في المضطجع والساجد والراكع؛ لأن عمومه يسقط لفظ الخبر؛ لأن النبي عليه السلام نام وهو ساجد، فلو كان الوضوء واجبا على الساجد بتعليله قوله:

"إنما الوضوء، على من نام مضطجعا" قيل: إن تعليله عليه السلام عام فينا، ولا يدخل فيه عليه السلام؛ لأنه محروس من أن تسترخي مفاصله؛ لأنه لا ينام قلبه وإنما تنام عيناه. على أن هذا لا فائدة فيه لأصحاب أبي حنيفة؛ لأنهم يقولون: إنه لا ينتقض وضوؤه أيضا في غير الصلاة. وأما حديث حذيفة فلا حجة لهم فيه؛ لأن النبي عليه السلام قال: (لا وضوء في نوم القاعد) ونحن لا نوجب في مثله الوضوء، وأوجب عليه السلام الوضوء في النوم مضطجعا، ونحن نوجبه، ولم يذكر في الخبر إلا حالتان: إحداهما: أن حذيفة كان جالسا نائما، فقال: أمن هذا وضوء يا رسول الله؟ فقال: (لا) فنفي الوضوء عنه لكونه جالسا، وقوله: (إلا أن تضع جنبك) استثناء من كونه جالسا ما كان عليه. فإن قيل: فإن النائم والقاعد معتمد على غيره، والقائم غير معتمد إلى على أعضائه، فإذا لم يجب الوضوء على القاعدة فلأن لا يجب على الراكع والساجد أولى.

قيل: القاعد معتمد على غيره، وموضع خروج الحدث منه، وليس كذلك الراكع والساجد؛ لأن موضع خروج الحدث منه غير معتمد على شيء وهو منفرج. فإن قيل: فإن أعضاءه لم تسترخ أكثر من استرخاء الناعس، ولهذا المعنى بقي على ركوعه لم يسقط. ألا ترى أن المغمى عليه لما استرخت أعضاؤه لم يبق، فصار بقاء الراكع على هذه الحال دلالة على تحفظه وعدم استرخاء مفاصله، فلم يجب عليه الوضوء. قيل: إن الناعس ليس بنائم، وإنما أسباب النوم قد حصلت به تدعوه إلى النوم، فإذا حصل النوم استرخت مفاصله. وأما المغمى عليه فيزيد على نوم المضطجع. ألا ترى أن النائم المضطجع يحرك فيحس وينتبه، وليس المغمى عليه كذلك، وليس بقاء الراكع على حاله مما يمنع سبق الحدث منه لانفراج مقعدته، ثم إذا تزايد نومه سقط. فإن قيل: فإنها حال من أحوال الصلاة في حال الاختيار، والاحتراز من المضطجع لأن الاضطجاع من أحوال الصلاة عند الضرورة. قيل: هذا ينتقض به إذا نام متكئا فإن صلاته مجزئة مع الاختيار، ومع هذا ينتقض وضوؤه إذا نام متكئا. ثم نقول: المعنى في القاعد أن الخارج لا يتمكن منه في غالب الحال، وقد أفضى بمقعدته إلى الأرض فلهذا لم ينتقض وضوؤه، وليس كذلك الراكع والساجد لانفراج موضع خروج الريح منه، وخروج ذلك متمكن منه.

على أنهم ردوا الراكع والساجد إلى القاعد، ونحن رددناه إلى المضطجع، فما ذهبنا إليه أولى لموافقة تعليل النبي عليه السلام ولتمكن الخارج منه في الأمرين جميعا، لأنه أحوط في إسقاط الصلاة عن ذمته بيقين، ولأنه ناقل عن أصل براءة الذمة إلى وجوب الطهارة وبالله التوفيق.

فصل

فصل فأما الكلام على المزني، وما ذكر أنه أحد قولي الشافعي فالدليل عليه: ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينام حتى ينفخ، ثم يصلي ولا يتوضأ. فقيول له في ذلك. فقال: (إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي) ففيه دليلان: أحدهما: أن النوم نفسه لو كان حدثا لتوضأ عليه السلام منه، كما يتوضأ من قليل الأحداث وكثيرها. والثاني: إنما خبر أنه تنام عيناه ولا ينام قلبه ما كان منه، ولم يوجب الوضوء لأجل النوم، ونبه على أن الوضوء يجب من لا يعلم ما يكون منه في النوم. وأيضا ما روي عن حذيفة أنه قال: أمن هذا وضوء يا رسول الله؟ قال: (لا)، أو تضع جنبك على الأرض، فنفي إيجاب الوضوء عمن نام جالسا. وأيضا حديث علي ومعاوية - رضي الله عنهما - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قال: العينان وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) وفي حديث: (أنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله، فأعلمنا أن باسترخاء المفاصل يسرع خروج الحدث ولم يجعل النوم حدثا، ولو كان النوم في نفسه حدثا لم يكن في قوله: (استرخت مفاصله) فائدة. وأيضا فإنه إجماع الصحابة؛ بدليل ما روي أنس أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا ينتظرون عشاء الآخرة، ويناموا حتى تخفق رؤوسهم، ثم يقومون ويصلبون ولا يتوضؤون، والعمدة في المسألة على هذا الخبر، ومحال أن يذهب على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النوم حدث ينقض الوضوء فيصلون بالنوم، ولا يسألون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك.

وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما كانا ينامان قاعدين ثم يصليان ولا يتوضآن. وكذلك روي عن أبي أمامة وأبي هريرة مثل ذلك. وإذا روي عن المنفتين بين الصحابة، روي عنهم أجمعين علم أن هذه المسألة مشهورة بينهم. فإن قيل: القياس يوجب أن كل نوم ينقض الوضوء. قيل: لو كان حدثا في نفسه لكان كما ذكرت، ثم لو كان كذلك لكان قياسا يمنع منه الإجماع.

فإن قيل: في خبر صفوان أن النبي عليه السلام أمرنا ألا ننزع خفافنا من نوم. ولم يخص، فاقتضى أن يتوضأ من كل نوم. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن إطلاق النوم لا يفهم منه نوم الجالس، وإنما يعقل منه نوم المضطجع. ثم لو ثبت العموم لكان مخصوصا بالخير وبالإجماع الذي ذكرناه. فإن قيل: فإن النبي عليه السلام جمع بين النوم وبين الغائط والبول في حديث صفوان. قيل: إن الاقتران بين الشيئين في اللفظ لا يوجب اجتماعهما في الحكم. على أنه إنما جمع بينهما إذا كان النوم مضطجعا، فإن الغالب منه خروج الريح، وما هذه صفته من النوم يجب فيه الوضوء. فإن قيل: فإن حدث البول لم يختلف أحوال البائل في نقض الطهر. قيل: إن البول يختلف باختلاف الأحوال؛ لأن سلس البول لا ينقض الوضوء، والمعتاد منه ينقض. وعلى أنه لو لم يختلف حكمه لكان ذلك من أجل أنه لا يختلف في

نفسه لأننا قد نجد نوما ليس معه استرخاء المفاصل، ولا يمكن الخارج منه، فلما اختلف حال النوم في نفسه جاء اختلاف حكمه؛ لأنه سبب للحدث كمس الذكر الذي يختلف أحواله، فلو مسه بباطن يده نقض الوضوء - عندك - ولو مسه بظاهرها لم ينتقض. فإن قيل: لو كان نوم الجالس لا ينقض وضوءه لبينه عليه السلام كما بين الأكل في الصوم أن في ما يوجب القضاء مثل أن يأكل عامدا، ومنه ما لا يوجب القضاء كالأكل ناسيا. قيل: الأكل - عندنا - على كل حال يوقع الفطر، لأنه يضاد الصوم، والنوم لا يضاد الطهارة في جنسه؛ لأن النبي عليه السلام قد بين حكم النوم في حديث حذيفة لما نام جالسا، وقال: يار رسول الله، أمن هذا وضوء؟. فقال: (لا أو تضع جنبك على الأرض). فإن قيل: فقد روت عائشة - رضي الله عنها - أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من استجمع نوما فعليه الوضوء).

قيل: كذلك نقول إذا طال نوم الجالس، ورأي المنامات فهو الذي ستجمع نوما، وكذلك المضطجع. فإن قيل: فإن النوم كالإغمااء يبطل الوضوء على جميع الأحوال فكذلك النوم لزوال العقل. قيل: الفرق بينهما واضح؛ وذلك أن المغمى عليه لا يحس بشيء، وإن نبه لم ينتبه في جميع أحواله فانتقض في جميع أحواله. والنائم ليس كذلك؛ لأنه ريما أحس بخروج الحدث منه فانتبه ولو حرك لانتبه فجاز أن تختلف أحواله.

فصل

فصل وإذا طال نوم الجالس ورأى المنامات فعليه الوضوء وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد. ولم يفرق أبو حنيفة والشافعي بين نوم الجالس وقالا: لا ينتقض وضوؤه وإن طال. والدليل لقولنا: أن الصلاة عليه بيقين، وهذا شاك فيها؛ لأنه إذا طال نومه لم يتقن كونه على طاهرة. وأيضا ما روته عائشة - رضي الله عنها - أن النبي عليه السلام قال: (من استجمع نوما فعليه الوضوء) ولفظ: عليه للوجوب، واستجماع الإنسان نوما هو أن يغترفه النوم حتى يزول عن أحكام المتيقظ، وإذا طال نومه لم يعقل ما يخرج منه فهو المضطجع، وليس كذلك إذا لم يطل نومه؛ لأنه بتحركه وخفق رأسه يحس ما يخرج منه،

وإذا كان النوم سببا للحدث أن يرعى الغالب منه، كما يراعي في مس الذكر إذا كان بباطن اليد فهو أقوى منه بظاهرها. فإن قيل: فإن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا ينامون حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون. قيل: نحن نقول بموجب ذلك؛ لأن من يخفق رأسه ويتمايل لم يغرق في نومه حتى يطول؛ لأنه قريب من الحس بما يخرج منه، وليس كذلك إذا اغترقه النوم وطال به حتى يرى المنامات؛ لأن النوم تختلف حالاته في قلته وكثرته. فإن قيل: فقد قال عليه السلام لحذيفة لما قال له ذلك: أمن هذا وضوء يا رسول الله؟. قال (لا إلا أن تضع جنبك على الأرض). قيل: هذه قضية في عين، ويحتمل أن يكون لم يطل نومه، ولا غرق فيه ألا تراه لما وضع عليه السلام يده عليه أحس به وانتبه وفي العقود من ينام ولا ينتبه لو يحرك، وقد بينا أن أسباب الحدث ليست كالحدث نفسه، وأن ما قوى منها بخلاف ما ضعف وقد فرق الشافعي بين مس الذكر وبين مس المرأة، فخص اليد في مس الذكر، ونقض الوضوء المرأة بجميع الأعضاء، وكذلك فرقوا معنا بين القبلة

لشهوة في تحريم الربيبة وبين القبلة لغير شهوة في أنها لا تحرم من هذا كله؛ لأن ذلك سبب للحدث في نفسه. ولنا القياس عليه إذا نام مضطجعا واستثقل نوما؛ بعلة أنه نائم مستثقل في نومه. فإن قاسوا عليه إذا لم يستثقل في نومه بعلة أنه نام جالسا. قيل: بينا الفرق بين أحكام أسباب الأحداث وأن كل ما قوى منها قوى حكمه، فكان اعتبارنا أولى؛ لأنه أحوط، وتسقط الصلاة بيقين، ونزيد حكما هو إيجاب الطاهرة بعد أن لم تجب وفيه نقل من براءة الذمة وبالله التوفيق.

[25] مسألة

[25] مَسْأَلَة وما خرج من بدن الإنسان من غير السيلين مثل القئ والرعاف، أو دم فصاد أو دمل فلا وضوء فيه، كما لا وضوء في الجشاء المتغير، والقهقهة. وما أشبه ذلك وبه قال ربيعة والحسن، والشافعي، وداود، وهو قول جماعة من الصحابة.

وقال أبو حنيفة: الخارج النجس على ثلاث مراتب. فما كان من السبيلين فظهوره ينقض الوضوء. والخارج من سائر البدن إن كان غير القيئ فإنه إذا سال نقض الوضوء، فأما ظهوره من غير أن يرسل فلا. وإن كان قيئا فملأ الفم نقض الوضوء، وإن كان دون ذلك لم ينقض الوضوء. ففرق بين اليسير منه والكثير. فحصل الخلاف معه في الخارج من غير السبيل، فعنده ينقض الوضوء عندنا وعند الشافعي لا ينقضه. والدليل لقولنا: استصحاب الحال، وهو كونه على جملة الطهارة حتى يقوم دليل على نقضها. وأيضا فإن إيجاب الوضوء بعد الطهارة المتقدمة يحتاج إلى دليل. وأيضا قول النبي عليه السلام: (إذا دخل أحدكم في الصلاة فلا ينصرف

حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فنهى عن الانصراف منها إلا بوجود هذين النوعين من الحدث، والنهي يفيد التحريف، إلا أن يقوم دليل. وأيضا ما رواه أبو داود مسندا عن عقيل بن جابر عن جابر في غزوة ذات الرقاع مع النبي عليه السلام، وأنه قال عليه السلام: هل من رجل

يكلؤنا؟. فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فأصيب أحدهما بثلاثة أسهم وهو في الصلا، وهو ينزعها والدم يسيل ويصلي حتى ركع ثم جاءا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبراه، فلم ينكر على المصلي ما فعل، فدل ذلك على أن خروج الدم من غير مخرج الحدث لا ينقض الوضوء. فإن قيل: فليس فيه أنه أمره بغسله، فقولوا: إنه لا يجب غسله. قيل: إن تروك النبي عليه السلام كالعموم، وكان الظاهر يقتضي ألا

يغسل لولا دليل قام. وجواب آخر: وهو أنه يجوز أن يكون الدم يزرق ولم يصب بدنه ولا ثوبه. وجواب أخر: وهو أن إزالة الدم وغسله غير فرض - عندنا - على ما نقوله في إزالة الأنجاس، فلم يأمره بغسله، ليعلمنا أن إزالته ليس بفرض. فإن قيل: فإن تأولتم أن الدم يرزق فلم يلوثه جاز لنا أن نتأول ذلك على أن سد موضع الدم، فلم يسل عن موضع الجرح، ويجوز أن يكون الدم يسيرا لا حكم له - عندنا - وإنما نوجب الوضوء فيما يسيل على ظاهر البدن. قيل: قولكم: يحتمل أن يكون سد موضع الدم باطل؛ لأنه روي أن الدم كان يسيل. وعلى أن الحال لو كانت تختلف لكان عليه السلام يسأله عن ذلك حتى يبين له الحكم فيه إذا سال. وقولكم: يجوز أن يكون يسيرا باطل بما رويناه؛ لأن الراوي لا يخبر بسيلان الدم إلا وقد ظهر على الجرح. وأيضا ما رواه أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم فلم يزد على أن غسل أثر محاجمه وصلى ولم

يتوضأ، وهذا نص في موضع الخلاف. فإن قيل: هذه حكاية عن فعلة كانت منه عليه السلام فيجوز أن يكون حصل شرط المحاجم ولم يسل الدم. قيل: هذا باطل بقوله: وغسل أثر المحاجم، وإنما غسل الدم، ولو لم يسل لما احتاج إلى غسله. على أن هذا دفع المشاهدات في الحجامة. وأيضا: ما رواه ثوبان عن النبي عليه السلام أنه كان صائما في غير رمضان فأصابه غم أذاه، فقاء، ثم عاني بوضوء، فسكبت له وضوءا فتوضأ ثم أفطر، فقلت: يا رسول الله، الوضوء من القيئ واجب؟. فقال: (لو كانواجبا لوجدته في القرآن) قال: ثم صام الغد فسمعته يقول: (هذا مكان إفطاري أمس)، وهذا خبر حسن. فإن قيل: فقد نجد أشياء واجبة ليست في كتاب الله عز وجل. قيل: مرادنا من ذلك قوله عليه السلام: ليس بواجب، وعلى أن شيوخنا كانوا يقولون: الفرض ما في كتاب الله نصا أو جملة بينها النبي عليه السلام،

وما كان من النبي عليه السلام ابتداء فهو سنة. وقد روي هذا الذي ذهبنا إليه عن أربعة من الصحابة رضي الله عنهم، عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن أبي أوفي.

وروي أيضا عن أنس، ومعاذ، ولا مخالف لهم في الصحابة. ومن القياس نقول: هو خارج من غير السبيلين فوجب أن لا ينقض الوضوء، أصله الدود إذا خرج من الجراحة على البدن. ولنا أن نقيسه على الجشاء المتغير بهذه العلة أيضا. ونقول أيضا: إن كل ما لا ينقض قليله الوضوء لم ينقضه كثيره، دليله الجشاء المتغير. ونقول أيضا: إن كل خارج لم ينتقض الطهر بظهوره لم يجب الطهر بجريانه وخروجه، كاللعاب والمخاط. ونقول أيضا: هو خارج من تجب بالخارج من أحد السبيلين فلم تجب تلك الطهارة بالخارج من سائر البدن غيرهما. أصله الطهارة

العليا التي هي الغسل. فإن قيل: إنما لم يجب الاغتسال بالخارج من سائر البدن، لأن موجب الغسل لا يخرج منه. ألا ترى أن المني والحيض يختص خروجهما بالفرج. قيل: وكذلك البول والمذي والودي لا يخرج من سائر البدن غير السيلين، وقد نقضتم الطهر بالخارج منه. فإن قيل: فقد قال تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}، فعلى كل قائم إلى الصلاة غسل هذه الأعضاء غلا أن يقوم دليل. قيل: على هذا أجوبة: أحدهما: أنكم انتم لا يصح لكم الاستدلال بالآية؛ لأنها - عندكم - غير مستقلة بنفسها؛ لأن المراد منها إذا قمتم من النوم، أو وأنتم محدثون، وما لم يستقل بنفسه إلا بشرط مضاف إليه فإن في حيز المجمل يفتقر إلى البيان، وهكذا يقولون في قوله تعالى {والسارق والسارقة} وجواب آخر: وهو أن قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة} الألف واللام اللتان في الصلاة للجنس، فتقديره: إذا قمتم إلى الصلوات

فاغسلوا وجوهكم، وهذا أمر يقتضي فعل مرة واحدة من الغسل، وهذا قد غسل وجهه لصلاة مضت، فمن زعم أن عليه أن يغتسل لصلاة ثانية فعليه الدليل. وجواب آخر: وهو أنه لو ثبت لكان قول النبي عليه السلام: لا وضوء إلا من صوت أو ريح وقوله: لو كان الوضوء واجبا لوجدته في القرآن، يخصه ويقضي عليه، وكذلك نخصه بالقياس أيضا. فإن قيل: فقد قال عليه السلام للمستحاضة: (أنه دم عرق وليست بحيضة، فتوضئي لكل صلاة) فأمرها بالوضوء منه وعلله بأنه دم عرق، فتعليله يقتضي أن كل موضع يوجد فيه دم عرق أن يكون فيه الوضوء، وهذا عمدة لهم في المسألة. وأيضا فما رواه ابن جريج عن ابيه عن ابن أبي مليكة عن

عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قاء أو رعف في صلاته فلينفتل عن صلاته وليتوضأ وبين على صلاته) فأمر بالخروج من الصلاة بالقيئ والرعاف، ثم أمر بالوضوء أمرا يقتضي الوجوب، وبالبناء على صلاته.

قيل: أما حديث المستحاضة فعنه أجوبة: أحدهما: أن النبي عليه السلام علل الدم الخارج من مخرج الحيض، ألا ترى أنه قال: (إنه) وهذه الهاء ضمير له. وقال (ليست بالحيضة) والتعليل إذا كان في شيء مخصوص كان تعليلا فيه وفي نظائره من كل دم يخرج من مخرج الحيض، وفي كل امرأة يصيبها ذلك في العرق المخصوص. وجواب آخر: وهو أن النبي عليه السلام علل إسقاط الغسل الذي يجب بدم الحيض، ولم يعلل لإيجاب الوضوء؛ بدليل قوله: وليست بالحيضة ولو كان التعليل يوجب الوضوء لم يقل: وليست بالحيضة؛ لأن الحيضة توجب الوضوء. وجواب آخر: وهو أن الذي حكي أنه عليه السلام قال إنه دم عرق لا تعرف هذه اللفظة في خبر صحيح أصلا، ولم توجد في الكتب، وإنما الخبر الصحيح هو قوله للمستحاضة: توضئي لكل صلاة. وجواب آخر: وهو أننا نقول: تتوضأ على الاستحباب.

وقد تكلمنا على أن الأحداث التي تخرج عن العادة لا تنقض الوضوء، وأن استئناف الوضوء لها مستحب، فلم يلزمها هذا. وأما حديث عائشة وقوله عليه السلام: من قاء أو رعف في صلاته فقد قيل: إن الحديث في كتاب ابن جريج عن أبيه فقط موقوفا عليه.

وقد قيل: إن الحجاج بن أرطأة أيضا رواه، وهو ضعيف. فإن صح جاز أن يحمل على الوضوء اللغوي، وهو غسل موضع القيئ والرعاف، كما روي عن معاذ بن جبل أنه قال: ليبس الوضوء من الرعاف والقيئ ومس الذكر وما مسته النار بواجب. فقيل له: إن أناسا يقولون: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الوضوء مما مسته النار، فقال معاذ:

إن قوما سمعوا ولم يعو، كما يسمى غسل الفم واليدين وضوءا وليس بواجب، وإنما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمنين أن يغسلوا أيديهم وأفواههم مما مست النار وليس بواجب، وهذا تفسير منه للوضوء من القيئ والرعاف. وعلى أن الحديث مطلق، ولم يفرق فيه بين القليل والكثير، فمهما أجبتم به في القليل فهو جوابنا في الكثير. فإن قيل: إذا قلتم: إنه عليه السلام أراد الوضوء للغوي لزمكم القول به في مس الذكر؛ لأنه مذكور في الخبر. قيل: نحمله عليه إذا مسه لغير شهوة. وقد روينا في مس الذكر: يتوضأ وضوءه للصلاة. فإن قيل: فقد روي أن سلمان رعف بحضرة النبي عليه السلام فقال له: يا سلمان، أحدث وضوءا، وهذا أمر يقتضي الوجوب.

وأيضا فإن هذا القول قد روي عن علي وابن عباس - رضي الله عنهما -. فأما علي فكان يرى الوضوء من القلس. وعن ابن عباس قال: الحدث حدثان: حدث من فيك، وحدث من فرجك. قيل: أما قول النبي عليه السلام لسلمان رضي الله عنه: أحدث وضوءا محمول على الوضوء اللغوي، أو على الاستحباب بما ذكرناه. وما روي عن علي وابن عباس، فقد روي عن ابن عباس خلافه

فقد عارضناهم بأكثر من ذلك عن الصحابة، وينبغي أن نستعمل أقوالهم حتى لا تتنافى، فقول من قال: فيه الوضوء. محمول على الاستحباب، وقول من خالف محمول على نفي الإيجاب، وهذا يجب في استعمال الأخبار عن النبي عليه السلام إذا تعارضت. فإن قيل: فلنا قياس بإزاء قياسكم، وهو أن هذا نجس خرج بنفسه من البدن إلى موضع يلحقه حكم التطهير، فوجب أن يوجب الوضوء، أصله الخارج من السبيلين. وقولنا بنفسه، احترازا من القيئ القليل. وأيضا فإن الخارج من البدن ينقض الطهر، كما أن الواصل إلى الجوف ينقض الصوم، ثم قد نقول: إنه لا فرق بين أن يخرج من أحد السبيلين أو من سائر البدن في نقص الصوم، فذلك أيضا لا فرق بين أن يخرج من أحد السبيلين أو من سائر البدن نقض الطهر. قيل: أما القياس الأول ففاسد من وجوه. أحدهما: أنه لا يستمر على أصلنا؛ لأن سلس البول والمذي والمني - عندنا - لا ينقض الطهر.

والثاني: أنه لا تأثير له أيضا؛ لأن البول سواء خرج بنفسه أو بخارج فإنه ينقض - عندكم -: لأنه إن سلس البول خرج بنفسه، وإن استدعاه خرج وعليه الوضوء. وقولكم: إنه خرج إلى موضع يلحقه حكم التطهير لا تأثير له أيضا؛ لأن الوضوء ينتقض بظهور البول وإن لم يخرج إلى موضع يلحقه حم التطهير؛ لأنه قد يزرقه ولا يصيب ما عدا مخرجه. وعلى أنه منتقض بالقيئ القليل فإن المعنى فيه المعنى فيه موجود، ولا ينقض الوضوء. فإن قيل: القليل منه لا يخرج بنفسه، وإنما يخرج بالعلاج؛ لأن السيالة طبعها النزول. قيل: لا فرق بينهما؛ لأن الكثير منه غنما يخرج بدفع الطبيعة له ولا يخرج بنفسه، وقد يستدعي الإنسان القيئ فيخرج تارة قليلا، وتارة كثيرا، وقد يخرج بنفسه تارة قليلا، وتارة كثيرا. وعلى أن المعنى في الخارج من السبيلين هو أن قليله المعتاد ينقض كما ينقض كثيره المعتاد، وخروج الريح أيضا منه ينقض فكذلك غير الريح، وليس كذلك في القيئ؛ لأن خروج الريح المقارنة له لا ينقض فلم ينقض هو أيضا. وأما ما ذكروه من الصوم فهو قياس الداخل إلى البدن على الخارج

منه، وهذا قياس الضد، ومن أصحابنا من لا يقول به. ومع هذا فإنها دعوى لا على أصل بعلة. ثم لو سلمناه لكان مع ذلك فاسدا بأشياء في الأصل والفرع. فأما في الفرع، فالبلغم وقليل القئ وقليل الدم وبالدورة اليابسة وبالدواء إذا خرج من الجرح على جهته. وأما في الأصل فقد زعموا أنه إذا داوى جرحه بدواء يابس لم يفسد صومه ولو احتقن بدواء يابس أفسد صومه. ثم إننا نتطوع بالفصل بين الصوم والطهارة، فنقول: إن الريح تبطل الطهارة، ولا يبطل بخروج الريح منه، والصوم لا يبطل بالغلبة في القئ، والوضوء يبطل بالغلبة فيه - عندكم -. على أن المعنى في الناقض للصوم هو أن قليله ينقض الصوم فكذلك كثيره، ولما كان قليل القئ لا ينقض الوضوء لم ينقضه كثيره. ثم نرجح قياسا بأشياء، منها: أن سائر الأصول تشهد له من استواء حكم القليل والكثير في الموضع الذي ينقض الوضوء، وفي الموضع الذي لا ينقض، والكثير في الموضع الذي ينقض الوضوء، وفي الموضع الذي لا ينقض، من البصاق والبلغم والجشاء المتغير والعرق

والدموع، ومن الغائط والبول والمني والمذي على غير وجه العادة. فإن قيل: ليس يخلو من أن يكون الحكم متعلقا بالخارج أو بالمخرج، فيبطل أن يتعلق الحكم بالموضع؛ لأننا وجدنا أحكام الموضع مختلفة، فتارة يخرج البول فيوجب الوضوء، وتارة يخرج المني فيوجب الغسل، والحيض مثل ذلك، فصح أن الاعتبار بالخارج. قيل: هذا يبطل على مذهبكم؛ لأنكم تقولون: لو احتقن بشيء نجس فخرج على جهته انتقض وضوءه، ولو داوى جرحه بشيء نجس فخرج على جهته لم ينتقض الوضوء، فقد اعتبرتهم المخرج دون الخارج، وهو أيضا باطل بما ذكرناه من الدودة اليابسة وبقليل القيئ ثم نقول: أليس قد انتقض الوضوء بالتقاء الختانين؟. على أننا نقول: قد استوت هذه الأشياء كلها في الخروج، واختلفت في الأحكام، فلا ينبغي أن يراعي خروجها حسب. فإن قيل: قد اتقنا على أنه إذا خرج من البدن وجبت فيه طهارة وهي إزالته عن البدن والثوب، فكذلك يجب فيه الوضوء الذي هو طهارة قياسا على ما يخرج من السبيلين. قيل: هذا لا يلزمنا من وجهين: أحدهما: أن الذي يخرج من السبيل على غير العادة لا تجب فيه الطهارة. والوجه الثاني: هو أن إزالة النجاسة ليست بفرض - عندنا - على ما ذكرناه.

على أنه لو صح القياس على أصولنا منتقضا بالقليل من القئ الرعاف؛ لأن قليل ما يخرج من السبيل ينقض الوضوء، ويوجب الإزالة، وقليل الدم والقئ يوجب الإزالة ولا ينقض الوضوء. وعلى أنه يصيب بدن الإنسان وثوبه نجاسه من غيره، مثل الدم والبول فيجب - عندهم - إزالته ولا يجب منه الوضوء على من أصابه. ويبطل أيضا على مذهبهم؛ لأنه لو كان الخارج أقل من دورهم نقض الوضوء ولم تجب إزالته. فإن قيل: فقد روي في خبر عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء حتى يكون دما سائلا، وظاهر هذا يفيد إيجاب الوضوء فيه إذا كان سائلا. قيل: هذه حجة لنا؛ لأنه نفى الوضوء في القطرة والقطرتين، وأنتم توجبون الوضوء في مثل هذا، فعلم أنه أراد غسل ذلك، وهو اسم وضوء في اللغة. فإن قيل: فقد روي جابر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إذا كان الرعاف مما يقطر في الأرض ففيه الوضوء)

قيل: أراد الوضوء اللغوي من غسله، أو نحمله على الشرعي استحبابا بما ذكرناه من الأخبار المعارضة له، وبالقياس المرجح أيضا. فإن قيل: فإنه خارج من جنس ما يوجب الإزالة فجاز أن تتعلق بجنسه الطهارة. دليله الخارج من السبيلين. قيل: لا نسلم وجوب الإزالة على أصولنا في إزالة الأنجاس فلم تسلم العلة. على أننا قد عارضناه بقياس آخر، ثم بينا العلة في الخارج من السبيلين، وأن قليله يوجب ما يوجب كثيره، وأن الريح المقارنة تعمل عمله في نقض الوضوء. وقد رد محمد بن الحسن هذه المسألة على مالك - رَحمَه الله - وقال: كيف تركتم ما رويتم عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا رعف انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى على صلاته ولم يتكلم؟، ورويتم أن

عبد الله بن عباس كان يرعف فيخرج فيتوضأ ثم يرجع فيبني على ما صلى؟، ورويتم عن عبد الله بن قسيط الليثي أنه رأى سعيد بن المسيب رعف وهو يصلي فأتى حجرة أم سلمة زوج النبي عليه السلام فأتي بوضوء فتوضأ، ثم رجع فبنى على صلاته؟. فتركتم هذه الأحاديث اليت رويتموها، وعدلتم إلى أن تقولوا: أن يغسل الدم ويستأنف الصلاة. فتركتم البناء والوضوء، وعدلتم إلى غسل الدم واستئناف الصلاة. قال: والعجب ممن يقول: إن أهل المدينة يقولون بالآثار، وهم يروونها ثم يتركونها عيانا، ثم يتأولون ذلك، ويشبهون القيئ والرعاف والريق والمخاط، والقيئ والدم نجسان، والريق والمخاط طاهران.

وأجابه القاضي إسماعيل - رَحمَه الله - عن ذلك بأن قال: الذي رواه مالك عن عبد الرحمن بن حرملة أنه رأى سعيد بن المسيب يرعف فيخرج منه الدم حتى يختضب أصابعه من الدم يخرج من أنفه، ثم يصلي ولا يتوضأ. وهذا يدل على أنه لا يرى في ذلك وضوء.

وأنه إنما انصرف حين رعف في الصلاة، لأنه لم يمكنه أن يصلي وهو يرعف، ولما أصابه ذلك وهو في غير الصلاة نحاه عنه، ثم صلى ولم يتوضأ. قال: وعلى هذا تأول أمر ابن عمر؛ لما روي عنه أنه كان يخرج منه قيح أو دم فلم يتوضأ، وروي عنه عطاء أنه زاحم على الحجر حتى أدمى أنفه، ثم ذهب فغسله صم عاد. فذكر عنه غسله , ولم يرو عنه توضأ، والطائف بالبيت في صلاته، عليه أن يتوضأ إذا انتقض وضوؤه. قال: والوضوء من الدم فيما نوى غسله ليس وضوء الصلاة. قال: وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتوضأ بالماء لما تحت الإزار. فعلم أنه غسل الأذى، فلو كان الرعاف ينقض الوضوء لا ينتقض الصلاة؛ لأنه يكون فيها وهو على غير وضوء، وإنما جاز أن يغسل ويبني؛ لأنه على غير وضوء. ولو أن رجلا رعف فلم يجد

الماء إلا بعيدا من مكانه لم ينبغ له أن يبني؛ لأنه جاء عن سعيد أنه غسل الدم في حجرة أم سلمة، وقد رخص للذي ينسى السلام أن يرجع إذا كان قريبا فيتشهد وسلم، وقد قال مالك - رَحمَه الله -: لو كان الرعاف عند ابن عمر ينقض الوضوء لما بنى على صلاته. قال القاضي إسماعيل: والوضوء قد عني به التطهير للصلاة وقد يعني به غسل الأذى. فإذا لم يكن الأذى دل اللفظ بالوضوء على وضوء الصلاة الذي يطهر الذنوب. وإذا كان الأذى دل على تطهير النجاسة. وقد روى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: من مس لحما نيا فليتوضأ. فقيل لقتادة: فلو مسست دما هل كان إلا أغسل ذلك الدم؟. قال قتادة: لا أدري لعل الوضوء هو ذاك. وقد روي عن أبي هريرة أنه أدخل أصبعه في أنفه وأخرجها متلطخة بالدم وصلى. وكان سعيد يختضب أصابعه من الدم من أنفه ثم يصلي. وروي عن أبي أمامة أنه كان يقول: الوضوء فيما

خرج من النصف الأسفل. وقد روي عن خلق من التابعين أنهم قالوا: لا وضوء في الرعاف وخروج الدم من غير السبيل. وتكلم إسماعيل على محمد بن الحسن في قوله: إن الدم نجس، والريق طاهر، وإن كل خارج من البدن نجس ينقض الطاهرة، وناقضه بالقليل منه تفرقته بين ذلك وبين قليل ما يخرج من السبيل، وبالله التوفيق.

[26] مسألة

[26] مَسْأَلَة ولس في قهقهة مصل وضوء، وهي - عندنا - كالكلام لغير إصلاح الصلاة، فتبطل الصلاة ولا تبطل الطهارة. وبه قال من الصحابة أبو موسى الأشعري وجابر، ومن التابعين عطاء والزهدي ومن الفقهاء الشافعي وأحمد وإسحاق وداود.

وقال الحسن والنخغي والأوزاعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: إنها تنقض الصلاة والوضوء جميعا. وحصل الإجماع في أنها لا تبطل الوضوء في غير الصلاة. والدليل قولنا: كونه داخلا في الطهارة على الصحة فلا يخرج منها إلا بدليل. ولنا أيضا قول النبي عليه السلام: (لا وضوء إلا من صوت أو ريح) وأيضا ما رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (المقهقه في صلاته والمتكلم سواء). فإن قيل: ليس كلامنا في الضحك، وإنما خلافنا في القهقهة.

قيل: المراد بالضاحك ههنا المققهقة؛ لأنه عليه السلام جعله كالكلام في الصلاة، وما دون القهقهة ليس حكمه حكم الكلام في الصلاة. وروي أيضا في هذا الحديث أنه عليه السلام قال (الضاحك في الصلاة والمفقع أصابعه، والملتفت بمنزلة واحدة)، فأجراه مجرى من لا ينتقض طهره بفعله. فإن قيل: قوله عليه السلام: (لا وضوء إلا من صوت الريح) حجة لنا؛ لأن القهقهة صوت. قيل: إنما أشار إلى صوت على صفة، وقد عقل أن القهقهة لا تدخل فيه. يبين هذا: ما روي في حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا وضوء إلا من حدث، والحدث أن يفسو أو يضرط).

ونقول أيضا: إن كل ما لم يكن حدثا في غير الصلاة لم يكن حدثا في الصلاة كالكلام، عكسه البول والغائط، لما كان حدثا في غير الصلاة كان حدثا في الصلاة. وأيضا فإن كل معنى لا ينقض قليله الوضوء لم ينقض كثيره، كالمشي والتبسم. ونقول أيضا: إن القهقهة جنس نطق قد أبيح في غير الصلاة فلم ينقض الطهر إذا حدث خارج الصلاة لم ينقضه إذا حدث في الصلاة. دليله الضحك الذي ليس بقهقهة. ثم الأصول تشهد لما نقول، وذاك أن كشف العورة في غير الصلاة لا ينقض الوضوء، كذلك مس النجاسة، وكذلك في الصلاة. ووجدنا الغائط والبول واللمس للذكر لشهوة كل ذلك ينقض الوضوء في غير الصلاة وينقضه في الصلاة. فإن قيل: قد فرقتم بين النوم في الصلاة وغير الصلاة. فإن قيل: لا فرق بينهما؛ لأن النوم الذي ينقض الوضوء في غير الصلاة ينقضه في الصلاة.

فإن قيل: فرؤية الماء قبل الصلاة للمتيمم بخلافه في الصلاة. قيل: ليس رؤية الماء حدثا، والمتيمم على غير طهر في الصلاة وفي غير الصلاة، وإنما هو مستبيح للصلاة بالتيمم فعليه الوضوء في غير الصلاة؛ إذ الطلب لم يسقط وإنما علمنا أن الذي ينقض الوضوء في غير الصلاة ينقضه في الصلاة، وما لا ينقض الوضوء في غير الصلاة لا ينقضه في الصلاة. وأيضا فإن القهقهة لا تبلغ حد الكلام المبني على حروف مستقيمة، ويمكن الإنسان ضبطه، ولعل الضحك والقهقهة ربما بدر فلم يمكن الإنسان دفعه، فإذا لم ينقض الكلام الوضوء، فالقهقهة أولى أن لا تنقضه. فإن قيل: إن الردة بالكلام تنقض الوضوء. قيل: فقد استوى الحكم فيها قبل الصلاة وفي الصلاة. على أننا قلنا: إن ما لا ينقض في غير الصلاة من الكلام لا ينقضه في الصلاة. ثم إن الردة لم تنقض نفس الوضوء، وإنما عملت في الأصل

فانجر ذلك إلى إحباط أعماله كلها، ويدخل الوضوء في جملتها. ألا ترى أن قذف المحصنات - الذي هو أغلط الكلام ولا ينحبط معه العمل - لما لم ينقض الوضوء في غير الصلاة لم ينقضه في الصلاة، وهو منهي عنه في غير الصلاة وفي الصلاة، حتى إن الحد يتعلق به، فإذا لم ينقض الطهارة في الصلاة - مع غلط أمره - كان القهقهة أولى لا ينقضها. ويجوز أن نقول: هو مقهقهة فلم ينقض وضوؤه، أصله إذا قهقه في غير الصلاة. وأيضا فإنه قهقه في صلاة فلم ينتقض وضوؤه أصله إذا قهقه في صلاة الجنازة. فإن قيل: ليس من شرط الجنازة - عندنا - الوضوء؛ لأنه يجوز أن يصليها بالتيمم على وجه مع القدرة الماء. قيل: لابد من الطهارة إما بالماء أو بالتيمم ولو أحدث ببول أو غائط خرج من الصلاة. فإن قيل: القياس يوجب ما ذكرتم، وإنما صرنا إلى هذا؛ لما روى أبو هريرة وعمران بن حصين أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قهقه في صلاته فليعد الصلاة والوضوء) وهذا نص.

وروى أبو العالية أن النبي عليه السلام كان يصلي بقوم فأقبل رجل ضرير، فتردى في حفرة في المسجد، فضحك طائفة خلف النبي عليه السلام. فلما فرغ أمر الطائفة التي ضحكت بإعادة الصلاة والوضوء.

قيل: أكثره ما روي في القهقهة ضعيف ومرسل. وأما أبو العالية فهو ضعيف من وجوه. أحدها: أنه قيل فيه: أبو العالية الرياحي عندي حديثه كالرياح. وأيضا فإن علي بن المديني ناظر عبد الرحمن بن مهدي فيه

وراجعه فيه، فلم يثبت بينهما فيه سند صحيح - وهما إمامان في عصرهما -. وأيضا فإننا روينا حديث مس الذكر فذكرتم أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قالا: أربعة أحاديث لا تصح، منها مس الذكر والقهقهة. فكيف يجوز أن توردوا هذه الحكاية في القهقهة وقد

ألزمتموناها في مس الذكر؟. فإن تأولتم أن في حديث مس الذكر يجوز أن يكون أمذى، كما تأوله ابن البلخي جاز لنا أن نتأول حديث القهقهة على أنه يجوز أن يكون كان معها ريح لها صوت، فسمع النبي عليه السلام فأمر بالوضوء. على أننا روينا ما يعارضه في حديث جابر أن النبي عليه السلام قال: (يعيد صلاته ولا يعيد الوضوء) وخبرنا زائد؛ لأن

فيه (ولا يعيد الوضوء). ويجوز أن تكون هذه الزيادة ذهبت على ألئك؛ لأنه يجوز أن ينسوها، وراوينا لم ينسها. وعلى أننا نحمل خبرهم في الوضوء على الاستحباب، وخبرنا على نفي الإيجاب وجواتز تركه. وعلى أنه لم يطعن على حديث أبي العالية في الضرير لما صح متنه؛ لأن الله - تعالى وصف الصحابة - رضي الله عنهم - بالرأفة والرحمة فقال: {رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا} فإذا كانوا بهذه الصفة لم يجز أن يضحكوا في مثل هذا؛ لأنه موضع بكاء لا موضع ضحك، وقد جوزنا حمله على الاستحباب. على أن مذهبكم أن من قهقه في صلاته خرج فتوضأ وبنى. وفي هذا الحديث أنه عليه السلام أمرهم بإعادة الصلاة، فعلم أن للحديث وجها غير ما ذهبتم إليه. ويجوز أيضا أن يكون ذلك خصوصا لأولئك الذين ضحكوا خلف النبي عليه السلام من أعمى تردى في بئر؛ لأن لحضور النبي عليه السلام ما ليس لغيرها. وقد روي هذا التأويل عن جابر بن عبد الله، وأنه قال: ليس على من ضحك في الصلاة وضوء، وإنما كان ذلك لأنهم ضحكوا خلف

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن مذهبنا الرجوع إلى تفسير الراوي، وجابر روى حديث الضرير. ومع ذلك فهذا التأويل غير منكر في الأصول. ألا ترى أن طائفة ذهبت إلى من زنى بحضرة النبي عليه السلام فهو كافر؛ لأنه مستخف بالشرع والدين، ولو زنى بحضرة غيره لم يكن كافرا. فإن قيل: فينبغي أن يكفر الذين ضحكوا بحضرة النبي عليه السلام. قيل: إن ذلك يترتب، فإذا فعلوا كبيرة بحضرته متعمدين وجب لهم حكم الكفر، ولو فعلوها بحضرة غيره لوجب تعنيفهم، فإذا فعلوا صغيرة بحضرته عليه السلام انخفضت العقوبة، ولو فعلوها بخضرة غيره لم يجب عليهم شيء.

فإن قيل قولكم: إنهم رحماء كما ذكر الله - تعالى - فيجوز أن يكونوا فعلوا ذلك بغير علم، ثم شرع النبي عليه السلام لهم يعملون عليه. ألا ترى إلى قول الله - تعالى -: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}، فليس هذا بمستحيل، وقد كان أيضا بحضرته عليه السلام منافقون وأعراب لا علم لهم، مثل الذي بال في المسجد. قيل: أما التجارة واللهو الذي انفضوا إليه فإن التجارة مما يجوز أن يفعلها الإنسان، وإنما يقبح فعلها مع ترك الصلاة من حيث الشرع، وقد كان جائزا فعل ذلك، ثم ورد النهي عنه، وكذلك اللهو إنما كان بالأصوات والفرح الذي يتابشرون عند ورود تجارتهم من المواضع. وذا شيء تدعو إليه النفس. ثم حظر عليهم، وليس كذلك الضحك من مثل هذا؛ لأنه أمر لا تستحسنه إسلامي ولا جاهلي، ويقبح قبل

المشرع، وكذلك فعل الأعرابي في المسجد إنما قبح بالشرع. وقولكم: قد كان خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منافقون، فإننا نقول: الظاهر في الصلاة غير ذلك، ولو كان كذلك لم يجز أن يقول الراوي: إن طوائف من أصحاب النبي عليه السلام ضحكوا؛ لأن هؤلاء ليسوا من الصحابة والراوي قطع أنهم من الصحابة. وأيضا فإن من مذهبهم أن أخبار الآحاد إذا وردت عرضت على الأصول، فإن دفعتها لم يقولوا بها. من ذلك ما قالوا في مس الذكر، وفي اليمين مع الشاهد، وخبر القرعة في حديث عمران بن حصين، وحديث أي هريرة في المصراة، وهذا الحديث إذا عرضوه على الأصول دفعته، فلزمهم أن

يردوه ويحملوه على وجه الندب، فأحسن أحوالهم أن نسلم لهم ظاهر الحديث ونحمله على الاستحباب، أو على أنه سمع من بعضهم صوت ريح إن لم يدفعه ما رويناه من الأحاديث فنخصه بالقياس الذي ذكرناه. فإن قيل: إن كان فعل يحدث باختياره تارة، وتارة بغير اختياره فهو حدث، كالبول والريح وغير ذلك. قيل: هذا باطل بأكثر الأشياء وبالحركة؛ لأن الإنسان يتحرك تارة باختياره، وكل هذا ليس بحدث، وينتقض بها في غير الصلاة فإنها ليست بحدث إجماعا. وعلى أن المعنى في البول وغيره هو أنه لما أبطل الوضوء في غير الصلاة، ولما لم تبطل الوضوء القهقهة في غير الصلاة لم تبطله في الصلاة. وعلى أنهم أرادوا أن البول يخرج بغير اختياره، ويعنون إذا سلس

بوله فإنه - عندنا - لا ينقض الوضوء قبل الصلاة ولا فيها، فسقط ما ذكروه. ونقول لهم أيضا: قد زعمتم أن لو جلس قدر التشهد في آخر صلاته، ثم قهقه، كانت صلاته ماضية وبطلت طهارته، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون في صلاة فيجب - عندكم أن تبطل صلاته وطهارته جميعا، وإن لم يكن في صلاة فلا يجب أن تبطل طهارته؛ لأن من قهقه في غير صلاة لم تبطل طهارته، وهذا من مذهبكم متناقض. فإن قيل: القياس يوجب أن لا ينقض الوضوء في الصلاة، ولكن لا نعترض بالقياس على الأخبار، كما قلتم في مس الذكر وفي المصراة، كذلك نحن أيضا قلنا هذا الخبر. قيل: عن هذا أجوبة. أحدهما: أن القياس - عندنا - مقدم على خبر الواحد إذا نافاه. وجواب آخر: وهو أننا نحن قد دللنا على القياس يوجب مبانية

الذكر لسائر الأعضاء في أحكام منها: إيجاب الحد بإيلاجه، وتكملة المهر، والحصانة، والغسل، وإفساد الصوم والحج، وغير ذلك، ومعنا أيضا في المصراة قياس نذكره في موضعه، وبينا أن الأصول تدفع حديث القهقهة. وجواب آخر: وهو أننا قد روينا من الأخبار ما يعارض خبركم وذاد عليه، ثم استعملناه على وجه الاستحباب، والقياس يوجب نفي وجوب الوضوء حتى لا يتلاقى القياس والخبر. فإن قيل: فإنه قهقه في صلاة فرض فانتقض وضوؤه، دليله إذا قهقه وأحدث. قيل: معناه وجود الحدث؛ بدليل أنه لو قهقه وأحدث في غير صلاة كان كذلك.

[27] مسألة

[27) مَسْأَلَة وما مسته النار مثل الخبز وغيره فإنه لا وضوء بأكله، وهو مذهب أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود،

والفقهاء بأجمعهم - رضي الله عنهم -. وذهب جماعة من الصحابة إلى وجوب الوضوء بأكله. وذهب إليه فيما حكي ابن عمر، وأبو طلحة - عم أنس -، وأبو موسى الأشعري، وزيد ابن ثابت وأبو هريرة.

والدليل لقولنا: كونه على جملة الطهارة، فمن زعم أنها تنتقض بأكل ذلك فعليه الدليل. وأيضا ما روي أنه عليه السلام قال: (لا وضوء إلا من صوت أو ريح). وقوله: (فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) وأيضا قوله عليه السلام: (من مس ذكره فليتوضأ) فدليله أن من لم يمسه فلا وضوء عليه، وهذا لم يمس ذكره. وأيضا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل كتف شاه ثم صلى ولم يتوضأ. وكذلك روى أمية الضمري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل لحما

فصلى ولم يتوضأ. وعن ابن عباس أن النبي عليه السلام أكل لحما فصلى ولم يتوضأ. وعن ابن عباس أن النبي عليه السلام توضأ، فقالت له بعض نسائه: قد نضجت القدر، فناولته كتفا، فأكل ثم مسح يديه، ثم صلى ولم يتوضأ. وعن جابر أكلت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان خبزا

ولحما، فصلوا ولم يتوضؤوا. ومحمد بن المنكدب عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الوضوء مما مست النار. وهذا الحديث هو العمدة في هذه المسألة؛ لأنه حكى أنه آخر الأمرين من فعله فنسخ كل ما مضى؛ لأن ترك الوضوء يكون بعد ما مضى.

وروي عن ابن عباس مثله. فإما أن يكون مضى كان واجبا أو مستحبا فقد تركه عليه السلام آخر أمره. وأيضا فلا نعلم خلافا أن الوضوء لا يجب من شرب الماء الساخن، وهو مما مسته النار. وأيضا فقد حصل الاتفاق على أنه لو أكل حشيشا، أو شيئا من الفكهة لم يجب عليه الوضوء، والمعنى فيه أنه أكل لشيء حلال، فكل من أكل شيئا حلالا فلا وضوء عليه. فإن قيل: فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: (توضؤوا مما غيرت النار).

وروى عن أم سلمة قالت: في بيتي كان هذا، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل كتفا من لحم ولم يتوضأ، ثم أتي بشيء من أقط فأكل وتوضأ، قلت يا رسول الله، إنك لم تتوضأ في المرة الأولى، فقال: توضؤوا مما مست النار. قيل: هذا عندنا على أحد وجوه. إما أن يكون منسوخا؛ بدليل ما روى عن جابر محمد بن

مسلمة أن آخر الأمرين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أكل لحما وصلى ولم يتوضأ، وعن ابن عباس وجابر أن آخر الأمرين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الوضوء مما مسته النار. أو نحمله على الوضوء اللغوي الذي هو غسل الفم واليد، وقد ذكرناه عن معاذ أنه قال: ليس الوضوء في هذا واجبا، فقيل له: إن أناسا يقولون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (توضؤوا مما مست النار) فقال معاذ: إن قوما سمعوا ولم يعو، كنا نسمي غسل الفم واليدين وضوءا وليس بواجب، وإنما أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمنين أن يغسلوا أيديهم

وأفواههم مما مست النار، وليس بواجب. ويجوز أن نحمل ذلك على الاستحباب لما رويناه. وقد قيل: إن حديث أم سلمة رواه عمر عن حميد عنها، وفي حفظ عمر هذا شيء. وقد روي عن جابر قال: قرب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبز ولحم، فأكل ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى الظهر، ثم دعا فضل طعامه فأكل، ثم قام إلى صلاة العصر ولم يتوضأ. والمعمول على الحديث الذي فيه كان آخر الأمرين منه عليه السلام ترك الوضوء مما مست النار.

فصل

فصل فأما إذا أكل لحم الإبل فلا وضوء عليه، وكذلك عند أبي حنيفة والشافعي. وقال أحمد: عليه الوضوء، نيا كان أو مطبوخا. واستدل له بما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال

"توضؤوا منها" وسئل عن الوضوء من لحوم الغنم، فقال: (لا تتوضؤوا منها) وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: (لا تصولا فيها؛ فإن فيها شياطين) وسئل عن الصلاة في مبارك الغنم فقال: (صلوا فيها؛ فإن فيها بركة)، فأمر بالوضوء من لحم الجزور أمرا ظاهره الوجوب، وأسقط ذلك عن أكل لحوم الغنم. والدليل لقولنا: الظواهر التي ذكرناها قبل هذا الفصل. وأيضا فإن الذي ينقض الوضوء هو ما خرج من الجوف على صفة، فأما ما يصل إلى الجوف فلا ينقص؛ لأنه لو حقن ووصلت

الحقنة إلى جوفه لم ينتقض الوضوء، ولو خرج مثلها من جوفه لا ينتقض الوضوء. فأما خبرهم فيحمل على الاستحباب، أو على غسل اليد إنما فرق عليه السلام بين لحم الإبل والغنم؛ لأن لحم الإبل له سهوكة ليست للحم الغنم، فاستحب ذلك في لحوم الإبل لقطع السهوكة. أو نقول أيضا: هو مأكول فلا يؤثر أكله في نقض الطهارة ولا إيجابها، أصله سائر المأكولات. وأيضا فإن تناول الأشياء النجسة، مثل الخمر والميتة والدم لا يوجب الوضوء، فلأن لا توجبه الأشياء الطاهرة أولى. وأيضا فإنه لا يخلو أن يحكم لذلك، ولما مسته النار بحكم الأشياء الطاهرة فقياس على نظائرها، أو بحكم الأشياء النجسة فقياس على ما هو من جنسها، والجميع مما لا يوجب الوضوء، وبالله التوفيق.

[28] مسألة

[28) مَسْأَلَة من يتقين الطهارة وشك في الحدث بعد ذلك فعليه الوضوء، هذا ظاهر قول مالك - رَحمَه الله -. وروى عنه ابن وهب أنه قال: أحب إلي أن يتوضأ. واختلف أصحابه، فقال بعضهم: هو مستحب. قال بعضهم: هو واجب. وإلى هذا كان شيخنا أبو بكر - رَحمَه الله - يذهب. وأنا أختاره. وقال الحسن: إن شك في الحدث وهو في الصلاة بنى على يقينه ولم يقطع الصلاة، وإن كان في غير الصلاة أخذ بالشك. وقد روي هذا عن مالك.

وروي أيضا أنه قطع الصلاة أيضا ويتوضأ. وقال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما: يبني على يقينه، وهو على وضوئه بيقين. والدليل لقولنا: هو أن الطهارة لا تراد لنفسها وإنما تراد الصلاة، والصلاة عليه بيقين فلا تسقط إلا بيقين. وأيضا فإنه أخذ عليه أن يدخل في الصلاة بيقين طهارة، وقد قدح الشك في يقين طهارته لا محالة، فصار بمنزلة من تيقنالحدث وشك هل تطهر أو لا؟. فإنه يجدب عليه أن يتطهر حتى يدخل في الصلاة بيين طهارة. فإن قيل: هذا دليل، لأنه إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة رجع إلى يقينه في الحدث فيجب أن يتطهر، فكذلك إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث ينبغي أن يرجع إلى يقينه في الطهارة فلا يزيلها الشك.

قيل: إننا لم نأمره بالطهارة إذا شك فيها وقد تيقن الحدث من أجل تيقن الحد، وإنما أوجبنا عليه الطهارة حتى يدخل في الصلاة بيقين طهارة، فكذلك إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث نوجب عليه الطهارة حتى يدخل في الصلاة بيقين طهارة؛ إذ الطهارة لا تراد لنفسها، وإما تراد للصلاة. وأيضا فإن الطهارة قد تتقدم، ثم تطرأ عليها الشك فيبطلها، مثل المتطهر إذا نام مضطجعا، فإن الطهارة عليه واجبة، وليس النوم في نفسه حدثا وإنما هو من أسباب الحدث، الذي ربما كان وربما لم يكن. فإن قيل: إن النبي عليه السلام شبه النائم بالزق المشدود، إذا حل وكاؤه خرج ما فيه، ولا يجوز أن يقع الخبر بخلاف مخبره. قيل: استطلاق الوكاء صحيح، ولم يقل عليه السلام: إنه إذا استطلق الوكاء يخرج ما في الزق لا محالة، وقد يخرج بالاستطلاق وقد لا يخرج؛ لأنه قد يكون في الزق شيء جامد فلا يخرج حين الاستطلاق، ولعله أن يخرج بعد وقت. وعل كل حال ليس نفس الإطلاق هو الحدث، وإنما الحدث ما يخرج منه، وما في جوف ابن آدم قد يخرج عند الاستطلاق وقد لا يخرد؛ لأننا نجد خلقا لعلهم في بعض الأوقات يجتهدون أن يخرج منهم ريح أو غيرها، وهم يقدون ذلك ويتعمدونه مع الاستطلاق فلا

يكون منهم شيء من ذلك، وإنما أراد النبي عليه السلام أن الأغلب أن يكون ذلك من النائم، وهذا كله شك لا محالة، وقد وجبت الطهارة حتى يدخل في الصلاة بيقين طهارة، وقد يخرج أيضا من المستيقظ الريح فينسى ذلك وإن كان يتقين قبله طهارة. ومما يدل على أن نفس استطلاق الوكاء ليس بحدث، وقد يجوز أن يخرج الريح معه ويجوز أن لا يخرج: قول النبي عليه السلام لما نام ونفخ (إنه تنام عيني، ولا ينام قلبي) فيعلم ما يخرج منه. ولنا من الظواهر قول الله - تعالى - {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} فالظاهر منه أمر لكل قائم إلى كل صلاة على أي وجه قام إلا أن يقوم دليل. وأيضا قول النبي عليه السلام: (لا صلاة إلا بطهور)، ولا نسلم أن هذا متطهر في حال دخوله وكونه في الصلاة. وأيضا فإن إطلاق طهور يفيد طهورا بلا شك، ولم يقل: إلا بطهور مشكوك فيه. فإن قيل: فقد روي عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: شكي

إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل يخيل إليه الشيء وهو في الصلاة. فقال: (لا ينفتل من صلاته حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا). وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحا بين أليتيه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا). وروي أن النبي عليه السلام قال: (إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فينفخ بين أليتيه فيقول: أحدثت أحدثت، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا).

قيل: على هذه الأحاديث جوابان: أحدهما: أنها وردت فيمن هو في الصلاة، فنحن نقول بموجبها على أظهر الروايتين عن مالك؛ لأن الصلاة تراد لنفسها، والوضوء لها يراد، فإذا دخل في الصلاة بيقين طهارة فقد حصل المقصود الذي أريدت له الطهارة، وتناهي دخوله فيها فلم يبطل ما دخل فيه، ولو أبطلنا الصلاة أبطلنا بالشك عملين، أحدهما: الصلاة، والآخر: الطهارة التي أريدت للصلاة وقد دخل بها فيها، وإذا كان قبل الصلاة فإنا يبطل عمل واحد وهو الطهارة التي تراد للصلاة لا لنفسها. الجواب الآخر: على الوجه الذي يبطل الوضوء في الصلاة وقبلها فإننا نقول: نفخ الشيطان بين أليتيه، وما يخيله إليه يشككه هل هذا حدث ينقض الطهارة أو لا؟، ومسألتنا فيه إذا شك هل أحدث الذي يتيقنه عند خروجه ولا يشك فيه أنه حدث؟ مثل الصوت والريح، وهل خرج منه ذلك حتى سمعه أو شمه ثم نسيه أو لا؟. على أن هذا يجوز أن يخص فيكون تقديره: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا إلا أن تقوم دلالة على شيء آخر، كما لو بال

فلم يسمع صوتا ولا وجد ريحا أو أمذى، وقد ذكرنا أدلة تخص هذا الظاهر. ولنا أن نقيسه عليه إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة؛ بعلة أنه لا يمكنه أن يدخل في اصلاة بيقين طهارة في الحال. فإن قيل: فإنه شك طرأ على يقين فوجب أن لا يزال ذلك اليقين به. وأصله إذا كان محدثا فشك هل تطهر أو لا؟ فيصير الأصل الذي قستم عليه أصلا لنا. قيل: هذا فاسد بأشياء على مذهب الشافعي وأبي حنيفة. فأحدهما: إذا كان له عبد فهرب منه وفقد خبره، ولا يعلم موضعه فأعتقه عن كفارة ظهاره لم يجزئه، والأصل يقين حياته، ولم تسقط الكفارة عن ذمته، فقد دفعتم يقين حياته بالشك في وفاته، لأن سبيل الكفارة أن تسقط عن ذمته بيين العتق. فهذا نقض وهو شاهد لنا؛ لأن الصلاة في ذمته بيقين فلا تسقط بيقين طهارة قد عارضها شك. فإن قيل: على هذا أنه قد تقابل في الكفارة يقينان: بقاء حياة العبد، وبقاء فرض الكفارة في ذمته، والظاهر يشهد لبقاء الفرض في ذمته، وهو فقد خبر العبد، وعدم العلم بموضعه، وليس كذلك في هذه المسألة. قيل: الأمران سواء لا فرق بينهما، وذلك أنه قد تقابل في مسألتنا يقينان: أحدهما: يقين الطهارة، والآخر: يقين الصلاة في ذمته،

والظاهر فقد يقين الطهارة بالشك فيها؛ لأن الحدث ينافيها، ولا يتحقق دخوله في الصلاة بها، ولا يتقين سقوط الصلاة عن ذمته. والوجه الثاني: الذي يفسد ما ذكروه: هو أن المقيم - عندهم - يمسح على خفه يوما وليله، ثم لو شك هل مسح يوما وليله أو دون اليوم والليلة لم يجز له أن يمسح، وعليه أن يجدد الوضوء. والأصل بقاء وقت المسح، وأن اليوم والليلة لم يمضيا فأزالوا اليقين بالشك. والوجه الآخر: قالوا: إذا بالت الظبية في ماء هو أكثر من قلتين ووجد الماء متغيرا لم يجز له الوضوء منه. ويجوز أن يكون هذا التغير حصل من بول الظبي فيمنع من الوضوء به، ويجوز أن يكون التغير حصل بنفسه من غير البول فلا يمنع من الوضوء به. فأزالوا طهارة الماء الكثير بالشك. فإن قيل: لم نزل اليقين ههنا بالشك، وإنا رفعنا اليقين بيقين يشهد له ظاهر؛ وذلك أن طهارة الماء يقين وحصول النجاسة فيه يقين والتغير مشكوك فيه هل حصل من النجاسة أم لا؟، والظاهر أن التغير حصل من النجاسة فرجحنا به يقين النجاسة ورفعنا به طهارة الماء. وفي مسألتنا بخلاف هذا؛ لأنه لا ظاهر يشهد ويرجح به بقاء فرض الصلاة في ذمته فاستصحبنا يقين طهارته. قيل: الشك في الموضعين حصل لا محالة. شك في نجيس الماء وشك في الحدث، وغن افترق وجها الشك فيهما، فإذا رفع يقين الماء بالشك رفع يقين الطهارة بالشك؛ حتى يسقط فرض الصلاة عن ذمته.

بيقين. على أن ظاهر وجود القلتين وأكثر أقوى من ظاهر وزن درهمين من بول غزال فيهما، فإذا تغير الماء فالظاهر أنه لم يتغير من ذلك، فينبغي ألا يرفع حكم طهارته بهذا الشك. وعلى أننا قد ذكرنا القياس عليه إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة، وقياسنا أولى؛ لأنه يؤدي إلى الاحتياط لصلاة فيسقطها بيقين، وهو ناقل عن براءة الذمة، وعن الحال المتقدمة، وموجب. فإن قيل: فإن الأصول مبنية على اليقين. فمن ذلك ما روي أن النبي عليه السلام قال: (إذا شك احكم في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثا أو أربعا فليبين على يقينه) وكذلك لو شك هل طلق أولا؟ لم يلزمه الطلاق؛ لأنه على يقين نكاحه، وهذا لو شك هل أصاب بدنه أو ثوبه نجس أو لا؟ فإنه يبني على يقين طهارته. قيل: عن هذا واجبان: أحدهما: أننا قد أريناكم في الأصول العمل على الشك، مثل عتق العبد الآبق في الكفارة وغير ذلك. والجواب الآخر: هو أن الذي ذكرتموه في الصلاة عروضه أن يشك في الطهارة هل غسل الأربعة الأعضاء أو الثلاثة منها؟. فإنه يبني على اليقين، وهذا حجة لنا؛ لأنه يرجه فيغسل عضوا لعله قد غسله، ويصلي ركعة لعله قد صلاها؛ احتياطا للصلاة حتى تسقط بيقين، فلا ننكر أن يعيد طهارة قد تطهرها؛ احتياطا للصلاة حتى تسقط عنه بيقين.

وأما من شك هل طلق أو لا؟ فقد روي عن مالك أنها تطلق. ولكن الأظهر أنها لا تطلق، بل يستجب له أن يطلق. والفرق بين الموضعين هو: أن المقصود في النكاح الاستمتاع والوطء نفسه. فلم يعمل الشك في يقينه. وأيضا فلو أعملنا الشك في يقينه للحقت فيه المشقة العظمى: لأن الشكوك تكثر من الناس، وليس في إعادة الطهارة من المشقة ما في ابتداء التزويج. وقد فرقت الأصول بين ما تكثر فيه المشقة وما تقل فيه. فمن ذلك: الحائض لم تكلف قضاء الصلاة؛ لتكررها في كل يوم خمس مرات، وكلفت قضاء الصيام؛ لأنه في السنة مرة واحدة. وأما إذا شك هل في ثوبه نجس أو لا؟. كان على ما هو عليه، لو صلى به ناسيا لم تبطل صلاته؛ لأن إزالة الأنجاس - عندنا - ليس بفرض، وليس كذلك الوضوء؛ لأنه فرض لأجل الصلاة.

وأيضا فإن مضيه على صلاته مع شكه في طهارته يوجب إسقاط الفرض عن ذمته بالشك. فإن قيل: هذا يلزم فيه إذا شك في طهارته وهو في صلاته. قيل: هو كذلك في القياس، وإليه أذهب وبالله التوفيق.

[29] مسألة

[29) مَسْأَلَة إذا جامع الرجل المرأة والتقى ختانهما فقد وجب عليهما الغسل وإن لم ينزلا، وهو مذهب جميع الفقهاء غير داود. ووجوب الغسل مذهب أكثر الصحابة. وقد ذهب بعضهم إلى أن الغسل لا يجب إلا بالإنزال، منهم أبي ابن كعب، وسعد بن أبي وقاص، وأبو سعيد الخدري وغيرهم.

والدليل لقولنا: قول الله - تعالى -: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}، وقوله: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، والمجانبة في اللغة هي المفارقة، وهي كناية عن الوطء، فهو إذا كان مجامعا ثم فارق فقد حصلت المفارقة، سواء أنزل أو لم ينزل، فهو عام في كل مجامع فارق إلا أن يقوم دليل. وهذا قول النبي عليه السلام: (الكذب مجانب الإيمان)، أي مفارقه. فإن قيل: قوله - تعالى -: {فاطهروا} و {حتى تغتسلوا} يفيد طهارة ما، وغسلا ما، لا يدل على غسل جميع البدن، ونحن نوجب عليه غسلا ما وهو الوضوء. قيل: هذا غلط؛ لأن الله - تعالى - فرق بين الوضوء وبين الغسل والتطهير، فقال في آية الوضوء: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم}، حتى ذكر الأعضاء، ثم لما ذكر الجنابة غير اللفظ، فقال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}، وقال: {حتى تغتسلوا}، فعلمنا أن الثاني غير الأول.

ومن جهة اللغة أيضا لا يعقل من قول القائل: قد اغتسل، غسل بعضه، وإنما يعقل منه غسل جميع بدنه. وكذلك حكت عائشة - رضي اله عنها - أن النبي عليه السلام كان إذا كان جنبا يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل أصول شعره بالماء، ثم يفيض على سائد جسده، فعبرت عن فعله بلفظ الجنابة التي هي المفارقة ثم وصفت فعله وأن فيه غسل جميع البدن. ولنا أيضا: ما رواه سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن التقاء الختانين، فقالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا التقى الختانين فقد وجب الغسل).

وأيضا: ما رواه الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا قعد أحدكم بين شعبها الأربع وألصق جناحيه بجناحيها فقد وجب الغسل، وأنزل أو لم ينزل)، وهذا نص قد ذكره أبو داود. وقد روي مثل هذا عن عائشة أنها قالت: إذا قعد بين شعبها الأربع، ومس ختانه ختانها فقد وجب الغسل.

فإن قيل: فإنه لم يذكر في هذه الأخبار غسل جميع البدن، وإنا فيها ذكر الغسل، فإذا توضأ تناوله اسم الغسل. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن الألف واللام في الغسل للجنس. فقوله (وجب الغسل) يوجب جميع الغسل، قليله وكثيره إلا أن يقوم دليل. والجواب الآخر: هو أن إطلاق الغسل يقتضي غسل جميع البدن لا غسل أعضائه مخصوصة، وقد فرق بين اسم الوضوء واسم الغسل. وأيضا ما روي عن عائشة قالت: قال النبي عليه السلام: (إذا التقى الختانان وجب الغسل)، ثم زادت بيانا فقالت: فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا. وعائشة رائية ومباشرة بذلمك، فقد أخبرت بحقيقة الباطن فيه. فإن قيل: إن هذا الحديث موقوف عليها. وأيضا فإن إضافة الفعل إليها لا يلزم لو صح، فنحن نحمله على الوضوء أو على الاستحباب؛ بدليل ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن الذي يجامع أهله فلا ينزل، قال: ليس عليه إلا الوضوء، هكذا سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قيل: أما قولكم: إن الحديث موقوف على عائشة فقد أسندته، وأبو هريرة معها. وأما إضافة الفعل إليها فإنه لم يتجرد حتى أضافته إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصحابي إذا حكى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل هذا ففعل من أجله كذا، فهو كأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فعلت كذا ففعلت لأجله كذا، وهو مثل قول الراوي: سها النبي فسجد، وزنا ماعز فرجمه. وأما حديث عثمان رضي الله عنه فيمن جامع، فلفظ المجامعة يفيد المباشرة، مأخوذ من الاجتماع، فهو اجتماع البشرة مع البشرة، وليس فيه ذكر الجنابة، ولا ذكر الإيلاج، ونحن نقول بموجبه، والحديث الذي فيه التقاء الختانين بين صريح في موضع الخلاف، فأحسن أحوال حديث عثمان أن يكون عموما في كل مجامع، وخبر الختان أخص من هـ فيقتضي عليه.

فإن قيل: فقد روي أبو سعيد الخدري أن انبي عليه السلام قال: الماء من الماء يعني الاغتسال من الإنزال، فجعل جنس الماء إنما هو من الإنزال، فصار كأنه قال: لا ماء إلا من الماء. وروي أبي بن كعب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا جامع أحدكم ولم يمن فلا غسل عليه) وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: (إذا أكسل أحدكم ولم يقحط فلا غسل عليه) لا، فقوله: (أكسل) أي انقطع جماعه، وقوله: (ولم يقحط) أي لم ينزل.

قيل: أما الخبر الذي فيه: (الماء من الماء)، فقد روى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي عن أبي بن كعب أنه قال: الماء من الماء رخصة رخصها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال. وعلى أن دليل الخطاب من قوله (الماء من الماء) عموم تقديره: إن الماء لا يجب من غير الماء إلا أن يقوم دليل، وقد ذكرنا قوله: (إذا التقى

الختانان وجب الغسل)، فصار تقديره: الماء من الماء ومن التقاء الختانين. وقوله: (إذا جامع أحدكم ولم يمن فلا غسل عليه)، فقد ذكرنا أن ظاهره اجتماع البشرتين بغير إيلاج. وعلى أن قولنا: إذا التقى الختانان أخص منه فيقضي عليه. وأما الخبر الذي قيل فيه: (إذا أكسل أحدكم ولم يقحط فلا غسل عليه) فعنه أجوبة. فأحدهما: أنه قد روى أبو الزبير عن جابر عن أم كلثوم عن عائشة - رضي الله عنها - أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يجامع

أهله ثم يكسل، هل عليه غسل؟. فقال: (نعم، إني لأفعل ذلك فأغتسل)، وهذا ضد ذلك. وجواب آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون جامع البشرة بالبشرة، ثم يكسل فتلحقه الفترة التي في اللذة فلا ينزل، ولم يكن قد أولج. فأما الإكسال مع الإيلاج ففيه الغسل بخبر عائشة أن النبي عليه السلام قال: (إني لأفعل ذلك فأغتسل) وجواب آخر: وهو أن أخبارهم تقتضي ألا غسل، وأخبارنا تقتضي الغسل، ففيها زيادة حكم فهي أولى. ونجعل أخبارهم منسوخة أيضا؛ لأن أخبارهم متقدمة، وأخبارنا متأخرة. والدليل على أن أخبارهم منسوخة متقدمة: ما رواه محمود بن لبيد قال: سألت زيد بن ثابت عمن أولج ولم ينزل. فقال: يغتسل.

فقلت: إن أبيا كان يقول: لا يغتسل. فقال: إن أبيا - رَحمَه الله - كان قد نزع عنه قبل أن مات. أي رجع، فدل على أن ما ذكروه متقدم في أول الإسلام. ولنا أيضا أن نقول: إن طريق الإجماع فيه وجهان: أحدهما: أن الصحابة - رضي الله عنهم - لما اختلفت في هذه المسألة، فقال الأكثرون: فيه الغسل. وقالت الأنصار: لا يجب، والماء من الماء، ثم أرسلوا إلى عائشة - رضي الله عنها - بأبي سعيد الخدري حتى سألها عن ذلك، فقالت: قال رسلول الله: (إذا التقى الختانان وجب الغسل). فعلته أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاغتسلنا. فرجعوا إلى قولها، حتى قال عمر رضي الله عنه: لو خالف أحد بعد ها جعلته نكالا. وقال لزيد ابن ثابت: إن أفتيت بعد هذا بخلافه وتوعده.

وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كيف توجبون فيه الحد، ولا توجبون فيه صاعا من ماء؟.

والوجه الثاني: هو أن المسألة متى كانت على وجهين بعد انقراض الصحابة ثم أجمع العصر الثاني من التابعين بعدهم على أحد القولين كان ذلك مسقطا للخلاف قبله، ويصير إجماعا، وإجماع الأعصار عندنا - حجة كإجماع الصحابة. ثم لو تعارضت الأخبار لكان ما ذهبنا إليه أولى؛ لاستناده إلى أقاويل الأئمة مثل: عمر وعلي، والإنكار منهم ولشهادة الأصول باستدلال وقياس.

فأما الاستدلال فهو أن الحد يسقط بالشبه ويحتاط والغسل يجب على وجه الاحتياط وبالشباهة، فإذا تعلق الحد بهذا الفعل فلأن يتعلق به الغسل أولى. وأيضا فإن النوم لما كان حالا لا يؤمن معه الحدث جعل المتيقن في وجوب الطهارة، فجاز أن يجب الغسل في مسألتنا؛ لأنه غاية ما تطلب به الشهوة فأشبه الإنزال. وأيضا: فإن الوطء يتعلق به فساد الحج والصوم والكفارة، وتكملة المهر والحد والحصانة، وتحريم الربيبة والخروج من الإيلاء وبطلان العدة، والتحليل للزوج الأول، ولما استوى في جميع هذه الأشياء والإنزال وغير الإنزال، فكذلك الاغتسال، بل هو آكد. وأما من جهة القياس فنقول: هو حكم يتعلق بالجماع فلا يعتبر فيه الإنزال كالحد والإحصان. ونقول أيضا: إن الأحكام التي تجب في الإيلاج مع وجود الإنزال هي في الإيلاج بلا إنزال آكد منها في الإنزال دون الإيلاج؛ وذلك أن الإيلاج يتعلق به جميع الأحكام التي تتعلق به إذا وجد معه الإنزال، من الحصانة والحد وغير ذلك من الأحكام، فيجب أن يتعلق وجوب الغسل عليه كما يتعلق على المولج سائر الأحكام. ويجوز أن نقول: كل الإيلاج في فرج يتعلق به الحد والحصانة وتكملة المهر يجب فيه الغسل. أصله إذا أولج فأنزل.

فإن قيل: فإن للإنزال في الغسل مزية ليست للإيلاج والمنفرد؛ لأن الإنزال يوجب الغسل في النوم واليقظة؛ وخارج الفرج وداخله، وليس الإيلاج كذلك؛ لأنه لو أولج في النوم ولم ينزل لم يجب الغسل، ولو أنزل ولم يولج وجب عليه الغسل. قيل: الإيلاج لقوته في اليقظة وتعلق سائر الأحكام به هو كالإيلاج الذي يقارنه الإنزال، وما أوجب الأحكام التي ذكرناها آكد مما لم يوجب بانفراده إلا الغسل، فيجب أن يكون في وجوب الغسل أولى. وعلى أن الإيلاج في النوم ليس هو شيئا موجودا حقيقته، والإيلاج في اليقظة هو موجود وحقيقة، فهو كوجود الإنزال حقيقة، فعلى أي وجه وجد الإنزال حقيقة وجب الغسل، وعلى أي وجه وجد الإيلاج حقيقة وجب الغسل، والله أعلم.

[30] مسألة

[30] مَسْأَلَة خروج المني غير مقارن للذة لا يوجب الغسل عندنا، وعند أبي حنيفة، سواء كان قبل البول أو بعده. فإذا اغتسل من الجنابة ثم خرج منه مني بعد ذلك لم يجب فيه الغسل. وقال الأوزاعي: إن كان قد بال ثم خرج منه لم يعد الغسل، وإن خرج منه قبل البول أعاد. وقد حكي عن أبي حنيفة مثل هذا.

وعند الشافعي أنه يعيد الغسل سواء خرج قبل البول أو بعده. والدليل لقولنا: استصحاب الحال، وكونه على جملة الطهارة قبل خروج هذا منه، فمن زعم أن طهارته انتقضت فعليه الدليل. فإن قيل: هو غير متطهر - عندكم -؛ لأن الوضوء واجب. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن من أصحابنا من قال: الوضوء مستحب وإلا فهو طاهر. والجواب الآخر: هو أننا قلنا: هو على طهارة، وإطلاق هذا على من اغتسل من الجنابة؛ لأن الله - تعالى - قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}، ولم نقل: انتقض وضوؤه، وإنما قلنا: هو على جملة الطهارة بغسل الجنابة المتقدم.

ولنا أن نقول: قد اغتسل، من زعم أن الغسل من هذا الخارج يجب فعليه الدليل. فإن قيل: الصلاة عليه بيقين، من زعم أنها تسقط عنه بغير غسل من هذا المني عليه الدليل. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن الصلاة واجبة عليه على شرط أن يؤديها بطهارة مأمور بها من جهة الشرع، وقد اغتسل من المني كما أمر، فمن زعم أن طهره بعد ذلك قد انتقض فعليه الدليل. والجواب الآخر: هو أننا نوافقهم على أن الصلاة واجبة عليه، وأنها تسقط عن ذمته على شرط ما نقوله. فأما على شرطكم فإننا نخالفكم فيه. ولنا ظواهر آخر: مثل قوله عليه السلام: (لا صلا إلا بطهور)، وهذا قد تطهر بالغسل الأول، فمن زعم أن عليه طهارة احتاج إلى دليل. وأيضا قوله: (وإنما لامرئ ما نوى)، وهذا إذا صلى ونوى الصلاة فله ما نواه إلا أن يقوم دليل. وأيضا قوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، دليله الصلاة

تصح بفاتحة الكتاب، وهذا قد صلى وقرأ فاتحة الكتاب، فنفرض المسألة فيه إذا صلى وقرأ بغير غسل. ونقول أيضا: إن هذا خارج من غير لذة الجماع، ولا دفق فلا يصير جنبا، أصله المذي. وأيضا: فإن المذي من أجزاء المني إلا أنه جزء رقيق، وإن كان يوجب الوضوء، المني يوجب الاغتسال، وليس ههنا معنى يفرق بينهما إلا خروج المني مقارن للذة المخصومة، والمزي لغير لذة الجماع، فدل على أن الجنابة تتعلق بالمعنى الذي ذكرناه من خروجه على الشهوة والدفق. وأيضا فإن أصل هذا الباب ما بيناه في خروج الأحداث على وجه المرض؛ لأن خروج المني موضوع على مقارنة اللذة المخصوصة، فإذا خرج على أصله وعادته فهو مرض كدم الاستحاضة. ألا ترى أن دم الحيض يوجب الغسل، فإذا خرج عن عادته سقط الغسل، فكذلك خروج المني مقارنا للذة يوجب الغسل، فإذا خرج عن عادته سقط الغسل. فإن قيل: فقد قال عليه السلام: (الماء من الماء)، فأوجب الغسل من خروج الماء فهو عموم. وسألته عليه السلام أم سليم عن المرأة ترى الماء في نومها. فقال: (إذا رأت الماء اغتسلت)، ولم يخص ما تقارنه اللذة من غيره.

قيل: أما قوله: (الماء من الماء) فعنه جوابان: أحدهما: أنه من قول الأنصار لا من قول النبي عليه السلام؛ بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأل الأنصار عن ذلك. قالوا: كنا نقول ذلك في بدء الإسلام. فقال لهم عمر: أسمعتم ذلك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه فرضه من الحكم؟. فقالوا: لا. فقال: فلا إذن. والجواب الآخر: وهو أن إطلاق اسم الماء لا يتاول المني؛ لأن اسم المني أخص به، وإنما يتناوله اسم الماء مجازا، واللفظ محمول على الحقيقة دون المجاز، فيجب أن يرجع إلى معناه دون الحكم بظاهره،

ومعنى ما قالت الأنصار: الماء من الماء بمعنى أن الاغتسال من الإنزال، والإنزال لا يطلق فيما خرج على غير وجه اللذة والدفق، وكلام النبي عليه السلام يتوجه إلى ما خرج على العادة، وكذلك خرج كلامه في سائر الأحداث التي هي معتادة، كما حكم في الحيض وغيره، ثم لما سئل عما خرج عن العادة من دم الاستحاضة فرق بينه وبين دم الحيض. فإن قيل: فإنه إنزال فوجب أن يتعلق به الغسل، كالإنزال المقارن للذة. وأيضا: فإن المني يوجب الطهارة العليا، والبول يوجب الطهارة الصغرى، ثم لو بال الرجل بعض البول وبقي البعض ثم توضأ، ثم أرسل باقي البول وجب عليه أن يعيد الوضوء، وإن كان ذلك البول من بقية ذلك البول كالمني. قيل: أما القياس على المني للذة فالمعنى في الأصل أنه خارج على وجه العادة، فهو كالحيض، وإذا خرج عن وجه العادة لم يجب الغسل كدم الاستحاضة، وهذا هو الاعتبار الصحيح، وقد قسناه على المذي وهو به أشبه. وما ذكروه من البول، فعروضه من مسألتنا أن تبقي من المني بقية تخرج مقارنة للذة، كما خرج بقية البول على عادته. وعروض مسألتنا من البول أن يسلس بوله فيخرج عن عادته، فلا يجب عليه الوضوء - عندنا -. فإن قيل: فإنه خارج من مخرجه، وهو مما يخلق منه الوالد، فأشبه ما خرج منه على وجه اللذة.

قيل: إنه لا معتبر بكون الماء مما يخلق منه الولد؛ بدليل أن ما الخارم والمجبوب وما العقيم لا يكون منه الولد - عندكم - في العادة، وإن كن خروجه على وجه الدفق واللذة، وهو مع هذا يوجب الغسل، فدل ذلك على أن اعتبار ما ذكرناه هو الصحيح، دون خلق الولد. فأما الكلام على الأوزاعي، وعلى ما حكي عن أبي حنيفة، فإننا نورد عليه الظواهر التي تقدمت. وأيضا فلا فرق بين ظهوره قبل البول وبعده؛ لأنه خرج عن عادته وموضوعه من مقارنة اللذة، كما لا فرق بين خروج دم الاستحاضة على أي وجه خرج؛ لخروجه عن العادة. ونقول: هو ضرب من المني خرج غير مقارن للذة فأشبه خروجه بعد البول. فإن قاسوه على المني المعتاد انتقض عليهم به إذا خرج بعد البول. فإن قيل: إنه إذا خرج بعد البول فالظاهر منه أنه لم يحصل من الإنزال الأول، وإنما حصل إنزالا بغير دفق ولا شهوة. ألا ترى أنه لو كان من الأول لم يجز بقاؤه مع خروج البول، وإذا خرج قبل البول فهو

من الإنزال الأول، والغسل يجب بظهور ذلك من بدن الإنسان، فإذا ظهر قبل البول حكمنا بوجوب الاغتسال بالسبب المتقدم. قيل: أما قلوكم: إنه إذا خرج بعد البول لم يكن من المني الأول وليس كذلك قبل البول. فعنه جوابان. أحدهما: أنه يجوز أن يتولد بعد انقطاعه قبل البول، كما يتولد بعد البول؛ لخروجه عن صفة الأول المقارن للذة. والجواب الآخر: هو أنه إذا ظهر قبل البول فإنه لا حكم له لعدم اللذة وإن كان الأول قد مضى على صفته، فلو أن هذا بقية الأول لوجب أن يكون فيه شيء من اللذة، فلما عدمت اللذة منه جملة فارق حكمه حكم الأول وإن كان ضربا من المني. ألا ترى أن المذي هو ضرب من المني؛ لأنه يتولد عن الشهوة، فإذا كان المذي هو ضرب من المني يتولد عن الشهوة، مع هذا لا يوجب الغسل، فالمني الذي هذه صفته، وإنما هو ضرب من ذلك المني غير أنه لا شهوة معه، ولم يخرج ملتذا به أولى أن لا يجب فيه الغسل، والله أعلم. فإن قال قائل ممن لا يفصل بين قبل البول وبعده: وجدنا الصائم ممنوعا ن الأكل وهو يفسد، وكذلك يفسده الإنزال للذة في اليقظة على وجه، ثم لو أكل شيئا غير ملتذ، وأنزل فيه غير ملتذ عند مباشرة لكان مفسدا لصومه وعليه القضاء، ولم يجز أن يقال: إن موضوع ذلك على الانتفاع بما يأكله، وكذلك لو بلع حصاة، فكذلك لا ينبغي أن تراعى في مسألتنا اللذة.

قيل: إن الصوم هو الإمساك عن الأكل الذي يحصل به ضرب من الغذاء أو ما يقوم مقامه مما يصل إلى الجوف، فعلى أي وجه حصل فهو ضد الإمساك. والصائم أيضا ممنوع من الجماع والمباشرة التي يقارن بها الالتزاز والإنزال، وقد يخرج أيضا منه المني ولا ينقض صومه مثل المحتلم، ومن كانت منه نظرة فأنزل. وكذلك إن خرج منه المني المتعري من اللذة لم يفسد صومه، ولم يجب فيه غسل، وإن كان على وجه اللذة وجب فيه الغسل، ولم يفسد صومه في مواضع، فعلم أن الصوم ليس بأصل لمسألتنا، وهذا كدم الحيض والاستحاضة، فإن الصوم يفسد مع وجود الحيض، ولا يفسد مع دم الاستحاضة. فإن قيل: اتفقنا على أن الغسل يجدب بشيئين: أحدهما: الإنزال والثاني: التقاء الختانين. ثم اتقنا على أن التقاء الختانين قد استوت فيه اللذة وعدمها، فكذلك ينبغي ان يكون الإنزال. قيل: إن الغالب من أمر الصحيح أنه لا يبلغ إلى الإيلاج إلا وقد

أخذ غاية من الالتزاز التي هي أبلغ من الجسة والقبلة. ثم إن للإيلاج من الأحكام ما ليس للإنزال المتعري من الإيلاج، فلغلط أمر الإيلاج وتحصين الفرج لزمت فيه تلك الأحكام، فكان الغسل من جملتها، ولما سقطت تلك الأحكام في الإنزال بغير إيلاج افترق الحكم فيه بين خروجه مقارنا للذة وبين عدمها، والله أعلم.

[31] مسألة

[31] مَسْأَلَة وإمرار اليد على البدن في غسل الجنابة واجب عند مالك - رَحمَه الله -. وقال بعض أصحابه: إنه مستحب، مثل أبي الفرج المالكي وغيره. وإلى مثل هذا ذهب أبو حنيفة والشافعي. وأنا أقول بظاهر قول مالك في وجوبه. والدليل لذلك: قوله - تعالى - في الوضوء {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}

وكذلك قال النبي عليه السلام للأعرابي: (توضأ كما أمرك الله فاغسل وجهك) وقال: لن تجزئ عبدا صلاته حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه، وقال - تعالى -: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، فذكر الغسل في الوضوء والجنابة، وقد عقل أهل اللغة الفرق بين الغسل والغمس والمس واللمس، وجعلوا كل اسم منها لمعنى معقول غير معنى صاحبه، لأن الاغتسال افتعال لابد أن يكون فيه الليد فعل يحصل به غاسلا لجميع بدنه وأعضائه في الوضوء حتى يفارق تلك المعاني من الغمس والمس واللمس التي أسماؤها غير اسم الغسل. فإذا ثبت أن غسل البدن والأعضاء عند الأحداث واجب، فصفة ذلك واجبة؛ لأنه بالأمر وجب، والأمر حصل بفعل يدخل تحت هذا الاسم، فالواجب امتثال ما دخل تحت الاسم، ولا ينكر أن تتعلق العبادة بمعنى هذا الاسم دون غيره. وأيضا قول النبي عليه السلام: (تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وأنقوا البشرة)، فأمر عليه السلام بالانقاء، والأمر بالانقاء ظاهره واجب، ولا يحصل الإنقاء في غالب الحال إلا بإمرار اليد، فإذا كان الإنقاء من

فعل إمرار اليد فظاهره الوجوب. وهذا مثل ما يستدل به على وجوب التلبية بقوله عليه السلام: (إن الله يأمركم أن ترفعوا أصواتكم بالتلبية)، فإذا أمر برفع الصوت فيها دلى على وجوبها. وأيضا فإن في البدن مواضع كثيرة تغمض، ومواضع ينبو عنها الماء، وخاصة الأبدان النمشة التي لعلها في أكثر الناس ينفض الماء

عنها، وقد أخذ عليه تطهير جميعها، فلا يحصل معنى الغسل فيها إلا بإمرار اليد عليها حتى تطهر، ولا ينكر أن يجب في الشريعة شيء لأجل الاحتياط، كمن شك في ركعة فلم يدر أهي رابعة أو ثالثة، كمن شك في صلاة من يوم لا يدري أية صلاة هي، فإنه يصلي خمس صلوات، وهذا كله احتياط حتى يتيقن ما صلى. فإن قيل: فما تقول في أقطع اليد إذا كان إمرار اليد واجبا عليه، ولم يجزئه الغمس في الماء والصب عليه، كيف يعمل؟. قيل: قد نص مالك على أن عليه أن يأتي بمن يمر يده عليه، وقال إن لم ينل شيئا من بدنه بل شيئا من ثوبه، وأمره عليه. فإن قيل: فإن لم يقدر على شيء من ذلك. قيل: هذه حال ضرورة، يسقط معها الفرض، فيجزئه الانغماس لأجل خلاف الناس فيه، وهذا كالأمي يصلي بالأميين، يصلي لنفسه إذا لم يجد من يصلي خلفه، وكالعاجز عن القيام يصلي جالسا. فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}، ثم قال: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، وهذا قد اغتسل. وأيضا ما روي أن أم سلمة قالت: يا رسول اله، إن امرأة

وأشد ظفر رأسي فأنقضه للغسل؟. قال: (لا، إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضي الماء عليك فإذا أنت قد طهرت)، فأخبر بأنه متى وجد إفاضة الماء أجزأ؛ لأن الطهارة تقتضي طهارة مطلقة. وقد قال لأبي ذر: (الصعيد الطيب وضوء المؤمن ولو لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته)، ولم يأمر بالدلك. قيل: أما قوله - تعالى -: {حتى تغتسلوا}، فهو حجة لنا؛ لما بيناه من الفرق بين اسم الغسل والصب والغمس والمس، وإذا أفاض عليه ولم يمر يده لم يقل: قد اغتسل حقيقة، فإن سمي به فهو مجاز. وأما حدثيث أم سلمة فإنما أعملها أن الفرض في رأسها بل الشعر دون غسل ما تحته، وقوله لها: (ثم تفيضي عليك الماء) فإنه لا ينافي ما قلناه. ألا ترى أن الإفاضة قد تصيب بعض البدن، وقد لا تصيب بعضه، ولا نعلم بوصول الماء إلى تحت الآباط وما غمض بالإضافة دون إمرار اليد، وإنما قصد بالخبر أن لا تنقض شعرها، فأما صفة الغسل فهو مأخوذ من قوله: {حتى تغتسلوا}. وقوله لأبي ذر: (إذا وجدت الماء أمسسه بشرتك) يدل على صحة قولنا؛ لأن الهاء في (أمسسه) كناية عن الماء، فقال: (أمسسه بشرتك) فيحتاج أن يكون باليد؛ لأن حقيقة المس إنما تكون باليد.

على أن الآية في الاغتسال، وما رويناه من قول النبي عليه السلام للأعرابي أخص وأبين مما أورده، وليس فيه إجمال فهو مبين لما أورده. فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}، وإذا فعل ما نقوله قيل: قد تطهر. قيل: لا يطلق عليه في الشريعة أنه قد تطهر إلا على صفة، وهو أن يغتسل ويمر يده، كما لا يحصل متطهرا إلا بماء طاهر وبالنية. فإن قيل: عن هذا أجوبة: أحدهما: أنه أراد أن يعلمنا أنه ليس للماء قدر محدود، وأن هذا القد يكفي. وجواب آخر: وهو أن هذا القدر من الفعل لا يكفي؛ لأنه معلوم أنه يحثي على أرسه فل يصيب جميع بدنه ولا يصل إلى تحت آباطه، وما يغمض منه مما يجب غسله، فصار مفتقرا إلى بيان، وقوله - تعالى - {حتى تغتسلوا} أخص منه. وجواب آخر: وهو أنه يجوز أن تقوم دلالة تلحق به صفة أخرى، كوجوب النية وغير ذلك، وقد ذكرنا ما هو أخص من هذا من تعليمه

الأعرابي، وقوله: (لن تجزئ عبدا صلاته حتى يسبغ الوضوء فيغسل)، وقد بينا أن للغسل صفة تختص بها في اللغة، وقد نفى الإجزاء إلا بوجودها. فإن قيل: قد روت عائشة أنه عليه السلام كان إذا اغتسل من جنابته، بدأ بغسل يديه، ثم تنظف من الأذى، ثم توضأ كما توضأ للصلاة، ثم خلل أصول شعره بالماء، ثم غرف على رأسه ثلاث غرفات من ماء، ثم أفاض الماء على جلده كله، فنقلت غسله عليه السلام مفروضه مسنونه ومستحبه، ولم تذكر الدلك. قيل: لا يحتاج إلى ذكر الدلك؛ لأن الاغتسال يقتضيه، وهو صفة فيه قد عقل من الآية، وإنما نقلت هذا لتفيد الأفعال التي فعلها قبل غسله. وقولها: ثم يفيض الماء على جلده كله، قد فهم منه أن المقصود الغسل المطلوب. فإن قيل: فإنه موضع يلحقه حكم الجنابة فوجب أن لا يلزمه إمرار اليد عليه. أصله الموضع الذي لا تناله يده خلف ظهره لسمنه، وهذا وفاق. قيل: إن كان ما لا تناله يده شيئا كثيرا فعليه أن يأتي بمن يمر يده عليه، وإن كان شيئا يسيرا لا بال له فهو خفيف كالعمل القليل في

الصلاة، والعفو عن دم البراغيث، ولأجل الخلاف في جواز ترك الدلك. فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {حتى تغتسلوا}، وقال في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، ففرق بين الأمرين، فوجب اعتبار فائدة الفرق بينهما، ولا يكون إلا بترك إمرار اليد في الغسل وبإمرارها في التيمم. قيل: إنما ذكر المسح في التيمم؛ لأنه لا غسل فيه، والغسل خلاف المسح، وإن كان لليد فيهما جميعا فعل، فهذا هو الفرق بين الموضعين. ولنا أن نقيس ذلك على المسح في التيمم، وأن لليد فيه فعلا فنقول: قد اتقنا على إمرار اليد في التيمم، العلة فيه: أنها عبادة تجب للصلاة، وتنقض بالحدث، والتيمم والوضوء وغسل الجنابة كله - عندنا - بمنزلة واحدة في وجوب إمرار اليد. فإن قيل: فإنه قد أجرى الماء الطاهر على أعضائه فأشبه إذا تدلك، وبين ذلك: أن حال الجنابة لم توجد هناك عين يحتاج إلى

إزالتها، وإنما العبادة في إجراء الماء على الأعضاء، وقد جرى بفعله، فاعتبار الدلك لا معنى له. ألا ترى أنه ليس في الأصول إمرار اليد على الأعضاء على وجه العبادة من غير معنى. وأيضا فإن ذلك غسل واجب فأشبه إزالة الطيب من بدن المحرم، ولأن الدلك مبالغة في الغسل وزيادة صفة فيه فأشبه تكرار الماء في العضو. قيل: أما إذا تدلك فالمعنى فيه حصول اسم الاغتسال على حقيقته، وتحقيق وصول الماء إلى جميع بشرته الغامض منها والظاهر ومماسته بيده. وقولكم: إنه لم توجد عين يحتاج إلى إزالتها، وإنما العبادة إجراء الماء على الأعضاء فإننا نقول: لا يمتنع أن يكون العبادة في إجراء الماء على صفة إمرار اليد، ليتحقق وصول الماء؛ لأن في البدن مواضع ينبو الماء عنها. قولكم: ليس في الأصول إجراء اليد على الأعضاء على وجه العبادة غلط؛ لأنه في المسح في التيمم موجود. والمعنى الذي فيه موجود في الغسل، وهو إجراء اليد على كل موضع وقعت العبادة بتطهيره، ليتحقق وصول الماء إليه، ويجوز أن تتعلق العبادة فيه أيضا بالتنظف، كغسل الجمعة الذي قصد منه التنظف لزوال الروائح التي لا تزول إلا بإمرار اليد في الغالب.

وأما غسل طيب المحرم فالأجناس أعظم منه، وليس إزالتها بفرض - عندنا -، وغسل الجنابة فرض. وقولكم: إن إمرار اليد مبالغة فأشبه التكرار، فإننا نقول: صفة الغسل هي إمرار اليد بالماء على الأعضاء كصفة المسح في التيمم، فتكرار الغسل كتكرار التيمم، لا تسقط صفة المسح في الأول. فإن قيل: فإن النبي عليه السلام أمر بصب ذنوب أو ذنوبين من ماء على بول الأعرابي، ولم يأمر بدلكه، وهو عين نجسة، ففي غسل البدن الذي لا نجس عليه أولى أن لا يجب إمرار اليد فيه. قيل: إن النبي عليه السلام أمر بصب الماء على البول؛ لأن الغرض إزالته، وهو مائع فإذا لاقى الماء وهو مائع وغلب عليه أزال عينه وأثره؛ لان الغرض إزالة ذلك، فأما غسل الجنابة فقد اجتمع فيه أمران: أحدهما: المني الذي هو - عندنا - نجس، فإذا خرج كان له حكمان: أحدهما: غسله في نفسه عن أصاب ثوبا أو بقعة من المسجد أو البدن كالبول. والحكم الآخر: هو الاغتسال منه. فإن أصاب شيئا من الثياب والأبدان احتيج فيه إلى إمرار اليد في غسله، كذلك غسل جميع البدن منه، وما حصل في الأرض من البول إن لم يدلك فقد

حصل فيه تطهيران من جهة الماء والتراب الذي له مدخل في التطهير، فاستغنى عن الدلك. على أنه يجوز أن يكون عليه السلام أمر بصب الماء على بول الأعرابي، وعلموا منه أن الفرض الغسل فغسلوا بأيديهم، ونقل الخبر إلينا؛ ليفيدنا أن هذا القدر من الماء يطهره.

[32] مسألة

[32] مَسْأَلَة ولا بأس بالوضوء من فضل الجنب والحائض، مثل أن يفضل في إنائهما ماء بعد فراغهما من غسلهما، للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة وغسلها، وهو مذهب الفقهاء كافة. وقال أحمد بن حنبل: لا يجوز أن يتوضأ من فضل ماء توضأت من فضل الرجل، والرجل من فضل الرجل، والمرأة من فضل المرأة، وكذلك إذا استعملاه جميعا معا جاز أن يتوضأ الرجل منه. واستدل بخبرين: أحدهما: ما روي أن النبي عليه السلم نهى أن يغتسل الرجل من فضل وضوء المرأة، ما روي أن النبي عليه السلام نهى أن يغتسل الرجل من فضل

وضوء المرأة، وأن المرأة من فضل وضوء الرجل، وليغترفا معا. وروى أنه عليه السلام نهى أن يتوضأ الرجل من فضل وضوء المرأة. والدليل لقولنا: ما رواه مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي

طلحة عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد حانت صلاة العصر، فالتمس القوم الماء فلم يجدوا، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإناء فوضع يده فيه، وامر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم. فوضع الدليل منه أنهم توضؤوا كلهم من إناء واحد، ومعلوم أنه كان منهم نساء ورجال؛ لأن هذا كان في الحضر، ولم يفصل بين أن يتقدم النساء أولا أو الرجال، أو بعضهم على بعض، بل كلهم استعملوا، فمن متقدم ومن متأخر. وأيضا ما رواه ابن عمر قال: كان الرجال والنساء يتوضؤون على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناء واحد، وعند أحمد أن مثل هذا يجوز،

وهو مما يسقط مذهبه؛ لأن الرجال والنساء إذا توضؤوا في إناء واحد، فإن الرجل يكون مستعملا لفضل المرأة لا محالة. وقد روي عن معاذة العدوية عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد، فلما غتسل عليه السلام معها من إناء واحد علم أنه لا محالة قد استعمل فضل مائها، فدل على جوازه. وما روي أنه عليه السلام أرد أن يغتسل من ماء في جفنه اغتسلت منه امرأة، فقالت له بعض نسائه: أغتسل: منه يا رسول الله وقد اغتسلت

منه من الجنابة؟. فقال: (المؤمن ليس بجنس)، وهذا نص في المسألة بفعله وتعليمه أن المؤمن ليس بنجس. ولنا من الظواهر: قوله - تعالى -: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}، وهذا كيف ما كان فهو منزل من السماء. وقوله عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير

لونه أو طعمه أو ريحه، وطهور اسم لما يتكرر منه التطهير فهو على عمومه. ونقول: هو ماء فضل عن استعمال ما سقط به الفرض فجاز أن يسقط به الفرض، أصله فضل الرجل تتوضأ به المرأة. وفضل الرجل

يتوضأ به الرجل، وفضل المرأة تتوضأ به المرأة. ونقول أيضا: هو ماء لم يخالطه شيء أثر فيه فجاز أن يتوضأ به، أصله لو لم يتوضأ به، أو ما ذكرناه من فضل الرجل، ولا يلزم على هذا الماء المستعمل؛ لأن التوضؤ يقع به - عندنا -. فأما أخبارهم فمحمولة على الاستحباب. وعلى أن أخبارهم النهي أن تتوضأ المرأة بفضل الرجل، وقد جاز - عندهم - بدليل فكذلك يجوز - عندنا - وضوء الرجل بفضل المرأة بدليل، وقد ذكرنا أدلته. ويجوز أن نقول: إن الماء الذي يقي لم يستعمل في عضو يزول به الحدث، فأشبه حال الابتداء، وإذا فضل عن عضو من الأعضاء قبل كما طهارة المرأة. وأيضا فإن ما يفضل بعد غسل النجاسة لا ينفي جواز الوضوء فكذلك ما فضل عن غسل الجنابة؛ لأن كل واحد منهما عبادة، فإذا جاز استعمال الفاضل عن أحدهما جاز في الآخر مثله. وأيضا: فإن إدخال يدها فيه لا يؤثر في حكم الماء؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن تمنع منه المرأة أولا، وكل مستعمل؛ لأن منع المستعمل لا يخص بالمنع منه واحد دون الآخر، ولا يجوز اعتبار أداء الفرض به؛ لأنه يتنقض بفضل الرجل، وبما يبقى بعد إزالة النجاسة، والله أعلم.

[33] مسألة

[33] مَسْأَلَة عند مالك - رَحمَه الله - أن المياه كلها طاهرة مطهرة، قليلها وكثيرها، من ماء بحر أجاج، أو عذب، لا يغيره عن طهارته وتطهيره شيء يخالطه من غير قراره إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه. فإن خالطه شيء طاهر من غير قراره وغلب عليه فهو طاهر غير طاهر ولا مطهر، قليلا كان الماء أو كثيرا. وأجمع فقهاء الأمصار أن مياه البحر عذبها وأجاجها بمنزلة واحدة في الطهارة والتطهير، إلا ما حكى عن قوم أنهم لا يجيزون التوضؤ بماء البحر. والمروي عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وابن عباس

وغيرهم رضي الله عنهم أنه لا فرق بين مياه البحار وغيرها. وقد حكي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنهم قالوا بالتيمم مع وجوده. وقال عبد الله بن عمرو: والتيمم أحب إلي منه. وقد حكي عن بعض الناس أنه أجاز التوضؤ به عند الضرورة.

والدليل لما عليه الجماعة: قول الله - تعالى - {وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به}، وطهور اسم للطهارة يطهر غيره. وأيضا قول النبي عليه السلام في البحر: هو الطهور ماؤه والحل ميتته)، وقال هذا حين قيل له: إننا نحمل معنا القليل من الماء ونحن في البحر، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟. فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).

وأيضا ما روي عنه عليه السلم أنه قال: (خلق اله الماء طهورا لا ينجسه شيء ما غير طعمه أو لونه أو ريحه) ى. وهذا عام في كل ماء. وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال: (من لم يطهره البحر فلا طهره الله). وهذه الآيات والأخبار بعضها عام في جميع المياه لم يخص بها

ماء بحر من غيره، وبعض الأخبار خصوص في ماء البحر. فإن قيل: كيف جعلتم طهورا بمعنى مطهر؟، وإنما الطهور هو الطاهر في نفسه، ولا يعقل منه أنه مطهر إلا بدلالة. والدليل أن الطهور بمعنى طاهر: قوله - تعالى -: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا {. بمعنى طاهر؛ لأننا نعلم أنه ليس في الجنة عبادة حتى يكون الطهور مطهرا لغيره. قيل: قد ذكرنا قوله - تعالى -: {وينزل علكم من السماء ماء ليهركم به}، يبين أن قوله: {طهورا} بمعنى مطهر. والحدث الذي ذكرناه في ماء البحر يدل على ذلك أيضا، لأنه عليه السلام قال: (توضؤوا فهو الطهور ماؤه الحل ميتته). وأيضا فإنه صحيح على ما قلناه؛ لأن طهورا عند أهل اللغة اسم لما يتطهر به، كقولهم: سحور اسم لما يتسحر به، وسعوط لما يستعط به، ولو كان بمعنى طاهر لقيل لكل شيء طاهر: فكان يقول للإنسان: طهور، ويستمر هذا في الثوب واللحم والخل وغير ذلك، لا يقوله أحد.

وأيضا فإنه لا يكون للماء خصيصة من غيره من المائعات لو قيل فيه: ماء طاهر، فخص هذا الاسم الذي هو طهور ليبين به سائر الأشياء، ومن المائعات التي هي طاهرة غير مطهرة، ثم يستفاد به فائدة أخرى تزيد على كونه مطهرا، وهي المبالغة في تطهيره حتى إنه يتكرر من التطهير لغيره، كما قيل: رجل شكور وصبور، وسيف قتول، وهذا اسم موضوع لمن يتكرر منه الفعل، فحصل في طهور فائدتان: إحداهما: كونه مطهرا لغيره، والأخرى: تكرار ذلك منه. فإن قيل: فقد حصلت في هذه ثلالثة ألفاظ طاهر وطهور ومطهر، فإذا جاز لكم أن تحملوا طهورا ومطهرا على معنى واحد. قيل: إنما نحمل طاهرا على العموم في الماء وسائر الأشياء، ونحمل طهورا ومطهرا على أنهما يفعلان الطهارة في الغير، وتكون كل لفظة منها وإن كانت مشاركة لصاحبتها مرجحة على الأخرى. ففي اسم طهور مبالغة فوجب تكرار الفعل، وأنتم إذا حملتم طاهرا وطهورا على معنى واحد أسقطتم فائدة تطهيرة لغيره، وفائدة التكرار، ولم تجعلوا للماء مزية على غيره من الأشياء الطاهرة، ونحن نعلم أن الله - تعالى - قد خص الماء من بين غيره بقوله: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}. وجواب آخر: وهو أننا قد اتفقنا على أنه يجوز أن نسمي المطهر طهورا، فإذا وقع النزاع في لفظة، فقلتم: المراد طاهر، وقلنا نحن: المراد مطهر. فإنهما لا يتنافيان، فهو طاهر مطهر، وكل مطهر طاهر،

وليس كل طاهر مطهرا. ثم مع هذا فإن جميع ما أطلق في هذا الباب في الشرع إنما يقتضي المطهر للغير، فمن ذلك: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، فأرد أن الأرض لي مطهرة ولم يرد أنها لي طاهرة، ولو كان كذلك لم يكن موضع فضيلة. ومن ذلك: قوله عليه السلام في البحر، وقد سئل عن التوضؤ بمائه: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، فخرج جوابه عما سئل عنه من الطهر به. وأما ما ذكروه من قوله - تعالى -: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا}، وأنه ليس في الجنة عبادة، فنقول: إن الآية توجب أن يكون الشراب طاهرا في نفسه مطهرا لغيره، وليس إذا لم تكن على أهل الجنة عبادة ما يجب أن نسلب الماء صفته. ثم إنه ينقلب عليهم في طاهر إن كان هذا معناه - عندهم -؛ لأنه إنما يقال: طاهر ونجس في موضع العبادة، فإذا لم تكن هناك عبادة وقد ذكر الطاهر جاز أن يخبر عن تطهيره لغيره وإن لم تكن هناك عبادة، وإنما أرد - تعالى - أن يخبرهم أن لهذا الشراب فضيلة تزيد على شراب الدنيا، وهو مما لو تعبدتكم بعبادة لجاز أن تتقربوا إلى باستعماله، كما أني في دار الدنيا جعلت للماء فضيلة على غيره، وهو أنه يطهركم، فكذلك لسائر أشربة الجنة فضيلة على سائر أشربة الدنيا.

وجواب آخر: وهو أنه - تعالى - أراد أن يصف لنا شراب الجنة بشيء مما نعرفه بيننا، ووجدنا أشرف الأشربة عندنا هو الماء الذي هو طاهر مطهر، فوصف شراب أهل الجنة بأشرف شيء نعرفه. ألا ترى أنه - تعالى - ذكر الأشياء التي نعرفها في الدنيا ونستلذها من الخمر والعسل واللبن، وقال: {ولحم طير مما تشتهون}، وذكر الحور العين، وقال: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا}، وليس في الجنة بكرة ولا عشي، فكذلك هذا. فأما ما روي عن عبد الله بن عمروا، وقوله: التيمم أحب إلي من ماء البحر. فإنه يحتمل تأويلين: أحدهما أنه أراد أنني أركب البر فأعدم الماء فأتيمم أحب إلي من أن أركب البحر فأتوضأ منه؛ وهذا لهو البحر وخطره. ألا ترى أنه لما قال له عمر رضي الله عنه: صف لي أمر البحر. قال: خلق شديد، يركبه خلق ضعيف، دود على عود، إن ضاعوا هلكوا، وإن سلموا فرقوا. فامتنع عمر رضي الله عنه من أن يركبه أحد.

والتأويل الثاني: هو أن يكون قوله: التيمم أحب إلي منه لو كان ذلك يجوز، وقد يحب الإنسان شيئا غير ما يجب عليه إلا أن الشرع قد منع منه، وأوجب عليه غيره إذا كان ذلك الشيء الذي قد أحبه مما قد كان يجوز أن يتعبد به، فلا يمتنع أن يقول: قد كان هذا أحب إلي من هذا. على أنه لو ثبت على ما يذكرونه لقضي عليه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البحر وقد سئل: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). فإن قيل: فقد روي عنه عليه السلام أنه قل في البحر: (هو نار من نار) وقال - تعالى -: {والبحر المسحور}.

قيل: ليس في هذا دليل يمنع من التوضؤ به؛ لأنه قوله: (هو نار من نار) يحتمل أحد معنيين. إما أن يكون لهو له وغرره وشدته هو نار من نار، كما قال في الإبل: (إن جن من جن). والمعنى الآخر: أي أنه يؤول إلى نار، فكأنه سماه للمقارنة. أي من ركب البحر وخاطر بنفسه وماله آل أمره إلى نار. ويحتمل أن يكون أراد البحر يكون يوم القيامة نارا، ولهذا قال - تعالى -: {والبحر المسحور}. وجملته أنه ليس في ظاهر ذلك ما يمنع التطهر منه، كما لا يمنع غسل النجاسة به. ولنا أن نستدل بظواهر فنقول: إذا كان معه ماء البحر هل يستعمله أو يتيمم؟. قال الله - تعلى - {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وهذا واجد لما يقع عليه اسم ماء. وأيضا فإنه عليه السلام قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه، فدليله أنه إذا لم يبل فيه جاز له أن يتوضأ منه، والبحر ماء دائم.

ولنا أيضا القياس على ماء البئر؛ بعلة أنه ما اكتسب الملوحة من قراره. وأيضا فإنهم لا يخلون في الامتناع منه إما لأنه ماء بحر أو لأنه ملح أو لركوده، فيبطل ذلك لكونه بحرا؛ لأن ماء البحر العذب يجوز، ويبطل لكونه ملحا بماء الآبار المالحة، ويبطل لكونه راكدا بماء المصانع وغيرها، وقد قال - تعالى - {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض}، قيل: إنه

ماء البحار، وقال: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به).

[34] مسألة

[34] مَسْأَلَة والماء المستعمل مكروه عند مالك، مثل أن يجمع وضوءه من الحدث، أو اغسله من الجنابة في إناء فيتوضأ به دفعة أخرى، أو يغتسل به من جنابة. وقال ابن القاسم في موضع: إنه لا يستعمل، وإن لم يكن غيره تيمم. فكان الشيخ أبو بجر - رَحمَه الله - يقول: معناه يتوضأ به ويتيمم ويصلي. وبعض أصحابنا قال: هذه رواية أخرى في أنه لا يجوز أن يتوضأ به. وحكى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن الماء نجس إذا كان قد استعمل سواء أزال به فرض الطهارة وغسل الجنابة، أو كان مجددا به ذلك.

وقال محمد بن الحسن: هو طاهر غير مطهر. وقد كان أصحابنا يحكون هذا عن أبي حنيفة وأنا أبا يوصف قال: هو نجس. والصحيح أن أبا يوسف وأبا حنيفة يقولان: هو نجس، ومحمد يقول: هو طاهر غير مطهر. والظاهر من قول الشافعي أنه طاهر غير مطهر. واختلف أصحابه، فقال بعضهم: إن له قولا آخر في أنه طاهر مطهر، كقولنا.

وقال بعضهم: ليس له إلا قول واحد وهو أنه طاهر غير مطهر. وبمثل قولنا قال الحسن، والنخغي، والزهري، وداود. والدليل لقولنا إنه طاهر مطهر: قوله - تعالى -: وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، فوصفه بهذه الصفة، وطهور اسم للطاهر الذي يتكرر منه التطهير، كقولهم: رجل شكور، وسيف قتول، ورجل روب، وما أشبه ذلك، فإذا ثبت هذا فيه في الأصل فمن زعم أنه انتقل عما هو عليه بالاستعمال فعليه الدليل. فإن قيل: هذا الاستدلال لا يلزم من وجهين. أحدهما: أن الله - تعالى - جعل جنس الماء طهورا، ونحن نقول: إن جنس الماء طهور يتكر منه التطهير، والرجل إذا توضأ فليس هذا القدر جنس الماء، وإما هو جزء من الجنس.

والوجه الآخر: هو أن الطاهر - عندنا - هو الطاهر المطهر، لا ما يتكرر منه الطهارة. قيل: أما قولكم إن الله - تعالى - جعل جنس الماء طهورا، وأن هذا جزء من الجنس فإننا نقول: إنه إذا أراد الجنس فكل جزء منه له هذه الصفة، كقولنا: طعام مشبع، وماء مرو، وشراب مسكر، فإن كل جزء منه له هذه الصفة، فاللقمة تشبع الغير من الحيوان، وأكثر منها تشبع ما هو أكبر من ذلك الصغير، وإنما يختلف الشبع في الحيوان، فما يشبع الصغير منه لا يشبع الكبير، ولا يخرج الجنس كله وكل جزء منه على جنس ما يشبع. وهذا هو جوابنا لأصحاب أبي حنيفة في أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرم جنس المسكر، وهو قليله وكثيره، لأن قليله يسكر ما صغر من الحيوان كما يسكر كثيره ما كبر من الحيوان. ومع هذا فقد عقل العلماء أن الله - تعالى - لم يرد أن مياه الدنيا كلها هي الطهارة المطهرة، وأن ماء دجلة لا تكون له هذه الصفة

دون انضمام ماء البحار إليه فسقط هذا الوجه. وأما قولهم: إن الطهور هو الطاهر المطهر، لا ما تكرر منه الطهارة فإننا نقول: إنما سمي بهذا الاسم، ووصف بهذه الصفة للمبالغة فيما يتكرر منه، كما قيل: سيف قتول، ورجل شكور، فإذا وصف بهذه الصفة لهذا المعنى لم تزل صفته باستعماله أول مرة؛ لأن هذه صفة طاهر مطهر، لا صفة طهور. وأيضا فإن الله - تعالى - قال: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}، فهو على عمومه أينما وجد، وليس يخرج باستعماله عن كونه منزلا من السماء. فإن قيل: إن هذا إخبار عن تطهيره حين ينزله من السماء، ونحن كذلك نقول. قيل: تأخره بعد نزوله وبعد استعماله لا يخرجه أن يكون منزلا من السماء، فلا نخرجه عن صفته إلا بدليل، وهذا كقوله: ماء دجلة، لو استعملته لم يخرجه أن يكون ماء دجلة، وحيثما نقلته فهو كذلك. وأيضا قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وهذا واجد لما قد تناوله الاسم، فهو عموم حتى يقوم دليل. والنفي يتناول الجنس إذا كان نفيا في نكرة، فلما قال {فلم تجدوا ماء فتيمموا} دل على أنه إذا وجد ماء لم يتيمم.

وأيضا وقوله - تعالى - {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، وهذا إذا كان جنبا اغتسل بالماء المستعمل قيل: قد اغتسل. وأيضا قول النبي عليه السلام لأبي ذر: (إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك)، وهذا واجد للماء. وكذلك قوله عليه السلام: (أما انا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت) لا، ولم يخص ماء من ماء. ولنا عمومات كثيرة، مثل ما روي أنه عليه السلام قال لأسماء في دم الحيض. (حتيه ثم اقرصيه بالماء). ومثل ما روي أنه عليه السلام كاتن عند جنابته يغسل الأذى، ويغسل يديه، ثم يتوضأ ثم يخلل أصول شعره ثم يفيض الماء على جسده، ولم يخص ماء من ماء. ومثل قوله للمرأة التي سألته فقالت: أنقض شرع رأسي؟ فقال: (إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي الماء على جسد). ومثل قوله عليه السلام (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير

طعمه أو لونه أو ريحه) فخبرنا أن الله - تعالى - خلق الماء على هذه الصفة التي هي كونه طاهرا مطهرا يتكرر ذلك منه فلا يغيره عن صفته إلا ما غير طعمه أو لونه إلا أن يقوم دليل، وإذا كان الله - تعالى - قد خلق الماء على هذه الصفة فكل جزء منه ينطلق عليه اسم الماء على ما بيناه قبل هذا الفصل. فإن قيل: فإن هذه الظواهر كلها إنما هي فيما يقع عليه اسم ماء مطلق، وإذا صار مقيدا بصفة لازمة له تفارقه، وليست من قراره فلا يتناوله اسم ماء مطلق. فأما إذا قيل: مستعمل. فقد لزمته هذه الصفة فلا يدخل تحت الظواهر. قيل: إن الصفات في الماء على ضروب. فما كان منها مضافا إلى قرار، مثل ماء ددلة وماء الفرات، وماء الجب والجرة والماء الكدر لا معتبر به. وما كان موصوفا بشيء يخالطه ويغلب عليه إما

طاهر أو نجس فهو معتبر. وصفات لشيء عمل به أو كان غير أنه لم يؤثر فيه شيئا - أعني في عينه - مثل الماء المشمس والمسخن والمغلي فهذه أوصاف قد وصف بها الماء لازما حيثما نقلته، وفي أي إناء تركته هو موصوف بها، ولم يتغير حكمه فيها، فكذلك الماء المستعمل وإن كان صفته فيه لازمة فهي غير معتبرة، ولا مغيرة لحكمه، لأن الصفة لم تؤثر فيها شيئا. والدليل: على أن الاستعمال لم يخرجه عن إطلاقه حتى يصثر في صفة ماء الورد والخل وماء الباقلاء: أنه لو شربه من حلف ألا يشرب ماء لحنث، ولو لم يشربه لبر، ولو شرب ماء ورد لم يحنث، فصار كالمسخن والمغلي والمشمس، فثبت أن هذه الصفة لما لم تؤثر فيه لم تخرجه عن إطلاقه. ولنا أيضا ما روي عن ابن عباس - رَحمَه الله - أن بعض أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغتسلت في جفنة فجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليغتسل منها أو يتوضأ، فقالت: إني كنت جنبا، فقال: (إن الماء لا يجنب). رواه أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن

ابن عباس، وهذا نص في جواز الماء المستعمل؛ لأنها اغتسلت في الجفنة، وقالت: إني كنت جنبا، فاغتسل النبي عليه السلام فيها وقال: (إن الماء لا يجنب) أي هو على ما كان عليه. فإن قيل: إنما هذا فيما فضل عن غسلها وليس هو فيما استعملته. قيل: هذا غلط، لأنه قال: اغتسلت فيها، ولم يقل: منها، ولولا ذلك لم يقل: (إن الماء لا يجنب) أي إذا اغتسلت فيه لم تنتقل جنابتك إليه.

وأيضا فإننا إذا اعتبرنا الاستعمال علمنا أنه لم يؤثر في عينه فلا يؤثر في حكمه. ألا ترى أنه (لو) لم يؤثر في طهارته فلا يؤثر في تطهيره. ال1ي يكشف عن هذا: أن الأشياء التي تحدث في الماء فتؤثر في عينه مما ينفك الماء منه، إما من نجس - عندنا -، أو طاهر - عندنا وعندكم - إذا لم يؤثر في عين الماء لم يغيره عن حكمه في طهارته وتطهيره، فإن لم يكن الاستعمال أولى منه فينبغي أن يكون مثله؛ لأننا نعلم أن تلك الأشياء إذا كثرت غلبت على الماء فغيرت حكمه، والاستعمال لو تكرر أبدا لم يغير عينه، فينبغي أن يكون أولى بأن لا يغير حكمه عما كان عليه. ونقول أيضا: هو ماء طاهر لاقى جسما طاهرا أو جرى على جسم طاهر فجاز أن يسقط به الفرض ثانيا، أصله الماء الذي غسل به ثوب طاهر وبدن طاهر. ونقول: هو ماء مستعمل لم يؤثر الاستعمال في عينه، فجاز أن يزول به الفرض ثانيا. أصله ما ذكرناه إذا غسل به ثوب طاهر أو بدن طاهر. وأيضا فإن الماء يستعمل في إسقاط فرض الوضوء كما يستعمل في إسقاط مسنون الوضوء، وهو التوضؤ في المرة الثانية والثالثة، ثم إن المستعمل في إسقاط المسنون لم يمنع إسقاط الفرض به؛ لأنه لو جمع ماء المرة الثانية والثالثة جاز أن يتوضأ به من حدث فكذلك المستعمل في إسقاط الفرض.

وأيضا: فإن كل ما أسقط به الفرض مرة جاز أن يتكرر في ذلك الشيء ويسقط فرضا آخر، كالسقوط في الحدود، وكالمد في الكفارة، لو عاد إليه جاز أن يكفر به ثانية، وكالبقعة يتيمم عليها ثم يتيمم ثانية وكالثوب يصلي به صلاة فرض ثم يصلي به صلاة فرضا آخر. فإن قيل: قياسكم عليه إذا غسل به ثوبا طاهرا المعنى فيه: أنه لم يسقط به فرضا، وليس كذلك إذا وقع به الحدث؛ لأنه يصير كالعتق في الكفارة. قيل: علتنا أولى؛ لأنها تتعدى وتجلب حكما زائدا، ويشهد لها غير الماء مما يزيل فرضا ثم يجوز أن يزال به فرض آخر كما ذكرنا في السوط، والطعام في الكفارة، والثوب يصلي فيه. وأما العتق في الكفارة فلو جاز أن يعود الرق جاز ذلك فيه، ولكنه يزيل الملك أصلا حتى لا يصح أن يتملك ثانية. ألا ترى أن الطعام والكسوة لما صح عود الملك فيه جاز أن يسقط به فرض آخر. وعلى أن هذا قد يتأتى في العتق على وجه؛ وذلك أن أبا حنيفة يجوز للمكفر أن يعتق رقبة كافرة في غير القتل، ثم يجوز أن تنقض تلك الرقبة المعتقة العهد، وتلحق بدار الحرب، ثم تسبى وتسلم عند السابي أو لا تسلم، فإن أسلمت جاز - عندنا - أن تعتقد في الكفارة

بعد تقدم عتقها أولا في كفارة، وإن لم تسلم جاز عتقها عند أبي حنيفة في كفارة ثانية، سواء كان من صارت إليه بالسبي هو الذي كفر بها أو غيره فسقط هذا. فإن قيل: فإن ما ذكرتموه في الماء الذي يسقط المسنون، في أصحابنا من قال: لا يجوز الوضوء به، وليس بشيء؛ لأن الشافعي يجوزه، ولكن المعنى فيه: أنه لم يسقط به فرض فلهذا جاز أن يسقط به الفرض. قيل: قياسنا أولى؛ لأنه يفيد حكما زائدا وهو جواز الوضوء به ثانيا. فإن قيل: ما ذكرتموه من السوط والتيمم من موضع ثم يتيمم منه هو وغيره فإن التراب - عندنا - شرط، فما حصل على وجه من التراب لا يجوز أن يتيمم به ثانية كالماء، وأما السوط والمد والثوب فليس بإتلاف ملك قصد به إسقاط فرض، فلهذا جاز أن يسقط به فرض آخر، وليس كذلك الماء؛ لأنه إتلاف ملك قصد به إسقاط فرض فهو كالعتق. قيل: أما التراب فليس شرطا في التيمم - عندنا وعند أبي حنيفة - و - عند الشافعي - فنحن نعلم أن التراب الذي يحصل على يديه لا يتحصل في كل العضو، وإنما يصب بعض الوجه، فإلى أن يبلغ الذقن لا يبقى منه شيء وهذا لا يجيء في باب التيمم.

وقولهم: إن الماء إتلاف قصد به إزالة الفرض، وليس كذلك السوط والمد والثوب يصلي به غلط؛ لأن كلامنا في جميع الماء الذي توضأ به، ولا هو متلفا، ولا نسلم أن من شرط الوضوء إتلاف الماء؛ لأنه يجوز له أن يجمعه لشربه، وللوضوء به على ما شرحناه، فلم نسلم وصف علتهم. ونقول أيضا: إن الإجماع حاصل على جواز استعمال الماء المستعمل، وذلك أن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو فقد صار مستعملا ثم يمره على كل جزء بعده وهو مستعمل فيجزئه، فلو كان التوضؤ بالماء المستعمل لا يجوز لم يجزئه إمراره على باقي العضو، ولوجب عليه أن يأخذ لكل جزء من العضو ماء جديدا. فإن قيل: إن الماء المستعمل - عندنا - هو إذا سقط عن جميع العضو، فأما ما دام على العضو فليس بمستعمل. ووجه آخر: وهو أنه وإن صار في أول جزء مستعمل فإن الماء ذو طبقات، فالطهارة لباقي العضو تقع بالطبقة التي لم تلاق الجزء الأول. قيل: قولكم: إنه لا يكون مستعملا حتى يسقط عن العضو يلزمكم أن لا يكو مستعملا حتى يسقط عن الأعضاء كلها؛ لأن حكم الحدث

لا يزول، والطهارة لا تتم إلا بغسل الأعضاء كلها. ألا ترى أنه لا يصح أن يصلي، ولا يكون متوضئا بغسل بعض الأعضاء وترك البعض مع القدرة؛ لأن الأعضاء كلها كالعضو الواحد في حكم الوضوء. وقولكم: إن الماء ذو طبقات، خطأ من جهة المشاهدة؛ لأن الطبقة الأولى يذهب منها جزء، وينحدر باقيها على باقي العضو. فإن كان طبقات الثاني غير الأول، فما يفضل عن العضو هو طبقة أخرى غير مستعملة على حسابكم. فإن قيل: فإن الله - تعالى - قال: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} الآية، فأمر - تعالى - بغسل اليد بما أمر به في غسل الوجه، فلما كان غسل الوجه بماء غير مستعمل كذلك سائر الأعضاء. هذا استدلال الشافعي. قيل: المقصود من الآية غسل اليدين كما يغسل الوجه بالماء، ولم يخص ماء من ماء وليس شط الوجه في الابتداء أن يكون بماء غير مستعمل. فإن اتفق في أول وهلة أن يستعمل ماء من دجلة أو الفرات فالوجه يقع بماء مفرد، وباليدان بغير ذلك الماء، فالماء الثاني غير مستعمل كما الوجه. وإن جمع ذلك الماء عن الأعضاء كلها فهو المستعمل، إن غسل منه فهو كماء يغسل منه اليد.

فإن قيل: فإن النبي عليه السلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وفضل الوضوء حقيقته ما يفضل عن العضو، ويتساقط منه، فدل على أن الماء المستعمل لا يجوز التوضؤ به. قيل: قوله عليه السلام: (لا يتوضأ الرجل بفضل المرأة) ظاهره ما فضل عنها لا ما تساقط منها، وأصحاب الحديث ذهبوا إلى هذا، وهو - عندنا - منسوخ بالحديث الذي رويناه وأنه عليه السلام توضأ واغتسل في الجفنة التي اغتسلت منها زوجته، وقال: (إن الماء لا ينجب). ويجوز أن يحمل خبر النهي على الندب إلى تركه وكراهية التوضؤ به، ويدل خبرنا هذا على جوازه، واستعمل الأخبار إذا تعارضت واجب مع الإمكان. على أنه روى في خبر النهي أنه عليه السلام قال: (وليغترفا معا) فدل على أنه نهى عن فضل مائها لا ما يتساقط منها. فإن قيل: فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ به، ولا يغتسلن فيه من جنابة)، فتقديره: لا

يبولن في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه من جنابة ثم يتوضأ فيه، فمنع من أن يبول في الماء الدائم ويغتسل منه ثم يتوضأ، فعلم أن للاغتسال في تأثيرا في المنع من التوضؤ. وروي أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام نهى عن البول في الماء الراكد والاغتسال منه، ووجه الدليل منه كما ذكرناه في الخبر الأول.

قيل: هذا كله - عندنا - محمول على الكراهية؛ لأنه يصير ماء مختلفا فيه، وليس هذا في الماء الكثير الراكد الذي هو كالغدير الكثير، وأكثر من القلتين فإن البول النجس إذا لم يؤثر فيه جاز استعماله، فالمستعمل أولى بجوازه، فإذا جاز هذا في الكثير مع عدم التأثير في عينه ففي القليل كذلك؛ لعدم التأثير في عينه، وهذا يطرد لنا نحن في قليل الماء وكثيره، كما نقول في النجس الذي لا يغير الماء: لا فرق بين قليله وكثيره، وعكسه أن يؤثر في قليله وكثيره فيتفق الحكم فيه. فإن قيل: فإن إجماع الصحابة معنا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سافر وسافر معه أصحابه، وسافروا بعده عليه السلام وخرجوا إلى الغزوات، وعدموا الماء فيها، فلم ينقل أنهم أو بعضهم توضؤوا بالماء المستعمل، ولا جمعوا الماء بعد استعماله ليتوضؤوا به، فعلم ما ذكرناه، ولو جاز ذلك لوجب عليهم أن يجمعوه ولا يتيمموا؛ لأن الله - تعالى - أباح لهم التيمم عند عدم الماء، وهم - عندك - قادرون عليه بأن يجمعوه ليتوضؤوا به.

قيل: هذا لا يلزم؛ لأن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يسافرون، وفي الغالب أن الأواني التي يجمع فيها الماء يتعذر وجودها في السفر، وإنما يكون معهم ما فيه فيتعذر فلم يؤخذ عليهم ذلك. ألا ترى أنهم لم يجمعوه للشرب الذي ضرورته أشد من ضرورة الوضوء؛ لأن للوضوء بدلا هو التيمم، ولا ينوب مناب الماء في شربه شيء، ومع هذا فإننا نقلب ذلك فنقول: لما لم ينقل عنهم أنهم جمعوه للشرب، وحاجتهم إليه أشد وجب أن لا يجوز شربه على قود قولكم، فلما جاز شربه بالإجماع مع أنه لم ينقل عنهم جمعه كان الاستعمال أولى. وأيضا فقد يجوز أن يكون فيهم من جمعه وتوضأ به، كما يجوز أن يكون فيهم من جمعه ليشربه، ولم ينقل. وعلى أن استعماله مكروه - عندنا - فعفي لهم عن جمعه واستعماله. فإن قيل: إنما ل يجمعوه للشرب؛ لأن أنفسه تعاف شربه. قيل: هم يشربون في السفر الماء الآجن، والماء الذي تحمله الميتة، والنفوس تعافه أشد من هذا، وأيضا فإن النفوس تعاف ما جددت به الطهارة ولم يؤثر فيعينه، سواء كان وضوؤه من حدث أو تجديدا

ومع هذا فالوضوء به جائز، وقد كان ابن عمر يجدد الطهارة عند كل صلاة، ولم ينقل عنه أنه جمعه للوضوء به. فإن قيل: ما أدي به الفرض مرة فوجب أن لا يؤدي به الفرض مرة أخرى. أصله الماء المزال به النجاسة إذا كان متغيرا بالإجماع أنه لا يجوز إسقاط الفرض به.

قيل هذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن إزالة النجس - عندنا - ليس بفرض، فلا نسلم قولكم: إنه أزال فرضا. والوجه الآخر: أنه إذا كان الماء متغيرا فلم يزل حكم النجاسة، فكيف يكون مزيلا للفرض وذلك الفرض باق؟ لأن النجاسة لا تزول والماء الذي أزيلت به متغير؛ لأنه ماء نجس. فالنجاسة لم تزل فسقط هذا، ولكنه لو أزال حكم النجس بان غلب الماء عليها فلم يتغير الماء لكان الماء الذي قد زالت به النجاسة طاهرا - عندنا - يجوز الوضوء به، كما يجوز بالماء المستعمل، بل المستعمل أولى بالجواز. فإن قيل: إن العضو طاهر غير مطهر، والماء طاهر مطهر فلما صار العضو مطهرا بعد الاستعمال علم أنه سلب من الماء حكم التطهير. قيل: هذا غلط، مع كونه دعوى؛ وذلك أننا حكمنا للمحدث بهذا الحكم لدلالة الشرع، ولم يدل على تغيير حكم الماء بعد تطهيره للمحدث؛ لأن الماء في الأصل يتكرر منه التطهير؛ لقوله - تعالى - {ماء طهورا}.

على أن هذا فاسد ومنتقض فإن كان استدلالا فهو فاسد بالماء الذي تغسل به اليد إلى المرفقين بعد الحدث. كل جزء من اليد يصير مطهرا بما يلاقيه، ثم ينحدر الماء إلى الجزء الذي يليه فيصير مطهرا، وكذلك في الجزء الثالث إلى المرفق، فكان ينبغي أن لا يجوز إمرار الجزء الأول، وقد صار الجزء الذي لاقاه مطهرا؛ لان ما لاقاه وصار طاهرا قد سلبه حكم تطهيره، فلما كان انحدار الماء إلى آخر اليد قبل انفصاله عنها طاهرا مطهرا علمنا انه لم يسلب حكم تطهيره، فكذلك إذا انفصل عن آخر العضو. وإن كان ذلك قياسا فهو منتقض بهذا. فإن قيل: لا يصير شيء من العضو مطهرا إلا بسقوط الماء على آخره. قيل: فينبغي أن لا يصير العضو كله مطهرا إلا بغسل آخر الأعضاء؛ لأن الطهارة لا تتم إلا بالفراغ من غسل سائر الأعضاء. فإن قيل: فإنه ماء الذنوب؛ لأن النبي عليه السلام قال: (إذا توضأ تحاتت الذنوب فيه). قيل: عن هذا جوابان:

أحدهما: أنه عليه السلام، أراد ضرب المثل، أي كما ينغسل الدرن من الثوب فكذلك تنحات الذنوب بالغسل، لا أن الذنوب شيء يمناع في الماء ولا يؤثر في حكمه، وإنما يصير المتوضئ كمن لا ذنب له، فهذه الإضافة كما نقول ماء القرآن وماء الختمة. ثم إننا نعلم أن الذنوب تنحات مع كل جزء منه عند غسل أول جزء مس الوجه أو اليد، ثم كل ما انحدر على جزء آخر هو كذلك، فينبغي أن لا تجزئه ما مر على الجزء الأول؛ لأنه ماء الذنوب. والجواب الآخر: هو أن ابن عمر كان يجدد وضوءه لكل صلاة، ولولا زيادة الثواب وتحات الذنوب ما فعل ذلك، ومع هذا فإن الماء الذي جدد به وضوءه يجوز الوضوء به. هذا يلزم أصحاب الشافعي؛ لأن أبا حنيفة وأبا يوسف يمنعون الوضوء بهذا الماء، والذي يلزمهما ما ذكرناه من ملاقاته كل جزء من العضو؛ لأنه - عندهم - نجس، ونحن نعلم أنه لو كان على أول جزء من يده نجاسة فمر عليها الماء ثم وصل إلى جزء آخر من العضو نجسه ذلك الماء، فكذلك ينبغي إذا مر الماء على الجزء الأول وصار نجسا ثم مر على جزء آخر أن ينجسه، فلما حكموا بطهارته ما لم ينفصل عن آخر العضو علم أنه لم ينجس، فكذلك لا يتنجس بانقطاعه عن العضو كله. وأيضا فإن الأصول ترد هذا، وذلك أن الثوب فيه حكمان: أحدهما: أنه طاهر، والآخر: كونه ساترا للعورة التي به نستبيح الصلاة مع القدرة، وفي المصلي حكما: أحدهما أنه طاهر، والآخر: أنه

ممنوع من الصلاة إلا بالسترة، فإذا صلى زال عنه المنع، فينبغي أن يزول حكم الثوب؛ لأنه قد أباح الصلاة وأسقط حكم الفرض بالمنع، فيجب من هذا أن لا تصلي به صلاة أخرى؛ لأن حكمه قد سلب في أول صلاة، ويجب أن لا بدفعه إلى من يصلي فيها، كما يجب في الماء المستعمل، ومثل هذا يلزم في إطعام المساكين إذا أخرج في الكفارة، ثم عاد إلى المكفر إذا رتب هذا الترتيب، ويلزمهم في الأحجار التي رمى بها الجمار - وهم يجيزون الرمي بها ثانية - وبالله التوفيق.

فصل

فصل قد دخل في جملة الكلام الرد على أبي حنيفة في قوله: إنه نجس، والمعمول منه على فصلين: أحدهما: قوله عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه)، وهذا ماء لم يغيره شيء. والفصل الآخر: ما ذكرناه نم ملاقاة الماء الأول جزءا من اليد، لو تنجس تنجس ما بعده. وأيضا فإن الإجماع بخلافه؛ لأنهم أجمعوا أن الإنسان غير مأخوذ عليه أن يوقي ثوبه أو بدنه من شيء يترشش عليه من الماء الذي استعمله، وقد أخذ عليه أن يتحرز من ترش البول عليه، فلو صار الماء المستعمل نجسا لوجب التحرز منه كالبول، ولما لم ينقل عن أحد من السلف والخلف التحرز منه، ولا أنه غسل ما أصابه منه علم أنه طاهر، والله أعلم. وأيضا فقد روى شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا مريض وألا أعقل فتوضأ وصب علي من

وضوئه، وهذا نص؛ لأنه لو كان نجسا لم يصبه عليه. وقد روى أنه أخذ من بلل لحيته ومسح به رأسه. وروي أنه مسح رأسه بفضل ماء يده. وأيضا فإنه ماء طاهر لم يلاق نجسا أثر فيه فينبغي أن لا يكون نجسا، كالماء الذي يغسل به شيء طاهر. وأيضا فإن الماء طاهر مطهر فمن أين تحدث النجاسة؟. فإن قيل: هذا غير ممتنع. ألا ترى أن العبد يتزوج امرأة على أنها حرة فيستولدها، ثم تظهر أنها أماة، فإن الولد حر، فلما جاز أن يحدث الولد الحر من بين رفيقين جاز أن تحدث النجاسة من بين طاهرين.

قيل: هذا خطأ على مذهبنا؛ لأن الولد يكون رقيقا لسيد الأمة. وعلى أن الحرية والرق يتغير بالاعتقاد. ألا ترى أن الحر يتزوج امرأة على أنها أمة فيكون الولد - عندكم - مملوكا، ولو تزوج امرأة على أنها حرة، فكانت امة كان الولد حرا باعتقاد الحرية، وليس كذلك الطهارة والنجاسة؛ لأنه لا يتغير بالاعتقاد. فإن قيل: فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه، ولا يغتسلن فيه من جنابة)، فجمع عليه السلام بين الاغتسال من الجنابة وبين البول في الماء الدائم، فلما كان البول فيه ينجسه كذلك الاغتسال فيه ينجسه. وأيضا فإنه ماء قد أدي به الفرض فوجب أن يكون نجسا أصله الماء المزال به النجاسة. قيل: الجواب عن الخبر من وجهين:

أحدهما: أنه محمول - عندنا - على الكراهية؛ لان البول إذا لم يغير الماء فالماء طاهر مطهر - عندنا - فالماء المستعمل مثله. وعلى أنه عليه السلام جمع بينهما في المنع لا في النجس. فإن أرادوا به إذا لم يتغير الماء فهو - عندنا - طاهر فلم نسلم قولهم: إنه نجس، وإن أرادوا إذا تغير الماء فإن الفرض من إزالة النجس لم يزل، وهو باق؛ لأن النجس لا يزول حتى يغلب الماء عليه ولا يتغير الماء، فسقط هذا وبالله التوفيق. ويجوز أن يكون كل شيء استعماله شرط من شرائط الصلاة لا يبطل حكمه عنه بمجرد الاستعمال، كالثوب يصلي فيه، والأرض يتيمم منها.

[35] مسألة

[35] مَسْأَلَة الماء الذي يلغ فيه الكلب - عندنا - طاهر؛ لأن الكلب طاهر، وإنما غسل الإناء من ولوغه تعبد، وبه قال الزهري، والأوزاعي، وداود. وقال الثوري: يتوضأ بذلك الماء ويتمم معه. وقال أبو حنيفة،

والشافعي، وأحمد، وإسحاق: الكلب نجس، وولوغه نجس، ويغسل الإناء منه؛ لأنه نجس. والدليل على طهارة الكلب: ما نهي عن الانتفاع به مع القدرة وقد قامت الدلالة على الانتفاع بالكلب لا لضرورة من الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقوله - تعالى -: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم}، فأباح - تعالى - تعليمها والانتفاع بها في الصيد، وأكل ما صاده، لأنه من جملة الجوارح. ومن السنة قوله عليه السلام لعدي بن حاتم

وغيره: (إذا أرسلت كلبك المعلم على صيد فقتله فكل ما أمسك عليك كلبك)، ففيه دليل على إباحة اقتناء الكلب، والانتفاع به، وأكل ما صاده، كما هو في البازي والصقر. وقول النبي عليه السلام: (من اقتنى كلبا إلا صيد أو ماشية أو زرع)، فأباح اقتناءه والصيد به، كما أباح ذلك في غيره من الجوارح، فصار كسائر الطاهرات التي أباح لنا الانتفاع بها نم غير ضرورة. وأما الإجماع فقد أجمعوا على ما دل عليه الكتاب والسنة من ذلك.

وأيضا فإن الكلب إذا قتل الصيد، ونيب أنيابه ومخاليبه فيه جاز أكله، ولم ينقل عن أحد أنه غسله في حال اصطياده، ومعلوم أنهم في موضع الصيد يسمطونه تارة، ويشتوونه، وما ينتقف منه نتف بحيث لا يكون معهم الأواني لغسله، ولو غسلوه بالماء لم ينقلع ما يداخل في لحمه. فلما جاز أكله على هذه الحال إما بغير غسل، أو بغسل يعلم أنه لا يقلع شاع فيه من ريق الكلب أو ملاقاة أنيابه ومخالبه للرطوبة التي فيه من دم وغيره علم أنه طاهر. أيضا فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب فقال عليه السلام: (لها ما شربت في بطونها ولنا ما بقي شرابا وطهورا).

وروى ابن وهب قال: أخبرني ابن جريج أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورد معه أبو بكر وعمر على حوض، فخرج أهل الماء فقالوا: يا رسول الله، إن السباع والكلاب تلغ في هذا الحوض. فقال: (لها ما حملت ولكم ما غبر شرابا طهورا). ورواه ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن

عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام. فهذا نص على طهارة الكلاب؛ لأنه قال في بقية الماء الذي ولغت فيه: (شراب وطهور)، ولم ينقل قدر الماء الذي ولغت فيه، فلو كان يختلف لبينه النبي عليه السلام ولفصل بين الحياض، فإن فيها الكبير والصغير، وربما كان الحوض الكبير فيه القليل من الماء، والنبي عليه السلام ومن سأله لم يفصلوا. وكذلك قال عمر رضي الله عنه بحضرة الصحابة لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض لا تخبرنا؛ فإننا نرد على السباع وترد علينا، ولم

يفرق بين السباع التي كلب من جملتها، ولا فرق بين قدر الماء في قليله وكثيره. ولنا أيضا ما روي من حديث أبي قتادة أنه حصل في بيت كبشة بنت كعب بن مالك - وهي زوجة ابنه - فقربت له إناء يتوضأ منه، فجاءت الهرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء فشربت منه - وكبشة تنظر إليه -، فقال لها أبو قتادة: مالك تنظرين؟، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (الهرة ليس بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات)، ففي هذا الخبر دليلان.

أحدهما: أنه أثبت طاهرة الهر التي هي سبع من السباع، تفرس الحي ولا ترعى الكلأ. فنبه به على ما هو مثلها؛ لئلا يظن ظان أن السباع التي هذه صفتها بخلاف الهر، فأعلمهم أن الأمر في السباع واحد. والدليل الثاني: أنه عليه السلام علل لطهارتها بكونها من الطوافين عليهم والطوافات، والكلب أشد طيافة على العرب من الهر، خاصة

للزرع والضرع والصيد، فينبغي أن تجري العلة في الكلب كهي في الهر. فإن قيل: فقد قال عليه السلام في هذا الخبر: (إن الهر ليس بنجس) فدل على أن غير الهر نجس. وقال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) التي لم ينه عن اقتنائها، وقد نهي عن اقتناء الكلب، فدل على أن الكلب نجس من دليل الخطاب، ومن جهة النهي عن اقتنائه، ولم ينه عن اقتناء الهر. قيل: قد اجتمع في الخبر دليل خطاب وتعليل والتعليل صريح فقضى على الدليل، فنحمل الدليل على أنه أراد أن الهر ليست بمعبدة؛ لأن النجس في اللغة هو المبعد، كما قال - تعالى -: {إنما المشركون نجس فلا تقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}، والكافر ليس بنجس العين، فكأنه أراد أن الكلب مبعد، والهر ليست بمبعدة. والتعليل بكون الهر من الطوافين يدل على طهارتها؛ لكونها من الطوافين، والكلب كذلك يطوف عليهم للانتفاع به في الصيد والزرع والضرع فلا فرق بين أن يطوف عليهم في بيوتهم أو مواضع ماشيتهم وصيدهم وزرعهم. وأما النهي عن اقتناء ضرب منها لأنها في الحلل تروع المسلم

لا يدل على تنجيسها، إذ لو كانت نجسة لم يفترق حكمها في كل موضع، فإن دل على كونها نجسة للمنع من اقتنائها في البيوت دل على طهارتها إذا اقتنيت للصيد والضرع والزرع؛ إذ لا أحد يفرق في تطهيرها أو تنجيسها في الموضعين. وإذا ثبت بالتعليل طهارة الكلاب كلها لم يدل النهي على اقتناء بعضها في حال دون حال على تنجيسها. ألا ترى أن النبي عليه السلام قد نص على تحريم الربا في البر لعلة من العلل، وتلك العلة موجودة في الأرز والدخن، فلو قال: لا تأكلوا البر في هذا الوقت، أو في هذه الدار، أو إذا بيع قبل قبضه، لم يكن هذا مزيلا لعلة الربا، فكذلك نهيه عن اقتناء الكلاب في موضعما، وأن لا يطوف عليهم في الحلة لا يزيل حكم طهارته؛ للعلة التي وردت في الهر واستوائهما فيها. على أننا قد نهينا أيضا عن اقتناء ما يتأذى بها، ويتأذى بها الناس، وليس في ذلك دليل على زوال طهارتها. على أنه عليه السلام قد أباح اقتناء الكلب لصيد وزرع وضرع فهو طاهر كالهر. وأيضا فقد روي عن عائشة أنها قالت: كنا نتوضأ أنا ورسول الله من إناء قد أصابت منه الهر، وقد علم أنها سبع من السباع ذو

ناب، تفترس الحي ولا ترعى الكلأ، ولم تنقل إلينا ذلك إلا لتفيدنا أن هذا الجنس طاهر، لا تخصيصا للهر؛ لأن جميع المعاني التي في السباع موجودة فيها - لم سن بد من أن تبين لأي معنى خصصت، فلما لم تبين علمنا أنها نهبت على جملة السباع التي هي مثلها وأنها بهذه المنزلة. ألا ترى أنها لما قالت: كنت أتوضأ أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناء واحد. أرادت أن تعلمنا بأننا كلنا يجوز لنا ذلك، لا انها أرادت تخصيص عينها وعين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكذلك لم ترد تخصيص عين الهر بذلك. فإن قيل: إنها لم ترد تخصيص تلك الهر دون غيرها من السنانير، وإنما أرادت جنس السنانير دون سائر السباع، كما أنها لم ترد عينها وعين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما أرادت ما هو من جنسها دون الحمير والدواب وغير ذلك. قيل: لا فرق بين الأمرين إذا كان المعنى الهر وسائر السباع واحد إلا أن يبين موضع التخصيص؛ إذ جنس السباع واحد فإن اختلفت صورها وخلقها، كما أن جنس بني آدم واحد وإن اختلف خلقهم وصورهم.

وعلى أننا عقلنا أنها أرادت بالوضوء جنس بني آدم دون الحمير والدواب؛ لأنها خصصته بذكر الوضوء الذي لا يصح إلا من المتعبدين دون غيرهم. على أننا لو قلنا: إنها أفادتنا أن كل حي إذا لم تكن عليه نجاسة، وانغمس كله أو بعضه في الماء فإنه طاهر، كما أن النبي عليه السلام وهي غمسا أيديهما في الماء وهما حيان، فالماء طاهر. ولنا أن نستدل بقوله - تعالى -: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير}، والولوغ من هذه الأشياء، والماء مما يطعم فلا يكون محرما إلا بدليل. وأيضا فإن الكلب في حياته ذو روح فوجب أن يكون طاهرا، أو فوجب أن لا يكون ولوغه نجسا، دليله سائر الحيوان المتفق عليه. ولا يلزمنا الخنزير؛ لأنه - عندنا - طاهر في حياته. فإن قيل: هذه العلة فاسدة من وجهين: أحدهما أنه لا تأثير لها؛

لأننا نجد الشاة طاهرة في حياتها لكونها ذات روح، ثم تذكي وقد زالت الروح فتكون طاهرة أيضا، وكذلك السمك حيه وميته بمنزلة واحدة، وإذا لم يكن للعلة تأثير سقطت. والوجه الآخر: هو أنه لو كانت صحيحة لوجب أن يوجد الحكم بوجودها، ويرتفع بارتفاعها من جهتها، فلما وجدنا السمك الميت والشاة المذكاة طاهرين مع ارتفاع العلة علم فسادها. قيل: علتنا صحيحة. ألا ترى أن الشاة في حياتها طاهرة، ثم تموت حتف نفسها فتصير نجسة، ولم تكن كذلك إلا لعدم الروح منها فاستمر هذا. ثم لا ننكر أن تخلف علة الحياة علة أخرى تقوم مقامها في الطهارة، فالتذكية تقوم في الطهارة مقام الحياة، وكذلك موت السمك يقوم مقام حياته. وهذا كما يقول أصحاب الشافعي إن علة نجاسة الخمر كون الشدة المخصوصة فيها، ثم تخلل فتزول الشدة وهي نجسة بالتخليل، فخلفت هذه العلة المتقدمة وهي الشدة. وكذلك نقول جميعا: إنه لو طرح في الخمر ميتة أو دم، ثم خللت لكانت نجسة باتفاق؛ لأن النجاسة التي وقعت فيها خلفت النجاسة التي هي الشدة بعد زوالها، وهذا في الأصول كثير.

قياس آخر: اتفقنا على أن الطهر، فكذلك الكلب؛ بعلة أنه سبع من السباع، أو بعلة أنها بهيمة ذات ناب، أو بعلة أنها تفرس الحي ولا ترعى الكلأ. قياس آخر: اتقنا على أن الصقر والبازي طاهران، فكذلك الكلب؛ بعلة أنه جارح أبيح لنا الاصطياد به. فإن قيل: العلة في سائر الحيوان أنه لا يجب غسل الإناء من ولوغه، والكلب والخنزير يجب غسل الإناء من ولوغهما. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن علتنا متعدية فهي أولى؛ لأنها تجلب حكما. والجواب الآخر: هو أن غسل الإناء من ولوغ الكلب والخنزير ليس بفرض - عندنا -، وهو كالهر إذا كانت تأكل الجيف. وعلى أن غسل ذلك تعبد، كغسل الخلوق والطب من ثوب المحرم. فإن قيل: العلة في طهارة الشاة في حياتها: كونها مأكولة اللحم وليس كذلك الكلب. قيل: عن هذا أجوبة: أحدهما: أن هذه العلة غير متعدية وعلتنا متعدية فهي أولى عند التعارض.

والوجه الثاني: أن علتنا مستمرة في كل حيوان في حال حياته من السباع وغيرها مما هو طاهر ولا يؤكل لحمه، مثل بني آدم. وجواب آخر: وهو أننا قسنا الكلب على الهر؛ بعلة أنه سبه يفرس الحي ولا يرعى الكلأ، وهذا أصل لم يحصل ما يعارضه. وقسناه أيضا على البازي والصقر فهو أشبه. وقياسنا أولى أيضا؛ لأننا رأينا سائر الحيوان على ضربين: فضرب منه يجوز أكل لحمه، كالأنعام والصيد المباح وغير ذلك مما يجوز أكله، وضرب آخر لا يجوز أكله، كابن آدم والسباع، ووجدنا هذين الضربين جميعا طاهرين، فوجب أن لا يخرج حكم السبع والكلب والحمار عن ذلك؛ لأنها من جملة الحيوان. فإن قيل: فقد روي أن النبي عليه السلام حرم الكلب وحريم ثمنه، وحرم الخنزير وحرم ثمنه، فأخبرنا أن الكلم محرم، فيقتضي أن يكون محرما من جميع الوجوه.

وأيضا فالدليل على نجاسة ولوغه ما رواه أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: (إذا ولغ الكلب في إناء فليرقه وليغسله سبع مرات)، فأمر بإراقة ما فيه، وقد يكون المولوغ لبنا وعسلا وغيرهما، فلولا أنه نجس لم يأمر بإراقته؛ لأنه تضييع المال، وقد نهى عنه.

وايضا فقد روي أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال (طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات)، والطهور إما أن يكون عبارة عن رفع الحدث أو رفع النجاسة، فلما لم يكن بالإناء حدث علم أن فيه نجاسة. قيل: أما قولكم: إن النبي عليه السلام حرم الكلب وحرم ثمنه فإن عين الكلب ليست محرمة؛ لأن الأعيان لا تحرم، وإنما تحرم أفعالنا فيها، كقوله: {حرمت عليكم أموالكم}، المراد حرم علينا نكاحهن. فإذا كان المراد تحريم أفعالنا في الكلب فهو عموم قد أبيح لنا بعضها من الاقتناء للصيد والزرع والضرع، ولم يدل ذلك على تنجيسها؛ لأن النجس لا يجوز الانتفاع به لغير ضرورة كالبول والخمر. وأما تحريم ثمنه فإنما هو مكروه - عندنا - لا واجب. وقد روي أنه عليه السلام نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية.

ثم لو ثبت تحريم ثمنه لم يدل على تنجيسه؛ لأن بيع أم الولد لا يجوز وهي طاهرة. فإن قيل: فإن النهي عن ثمنه لا يخلو من احد ثلاثة أوجه: إما أن يكون لحرمته، كالنهي عن ثمن الحر وأم الولد، أو يكون لعدم منفعته، كثمن العقارب والخنافس، وغير ذلك مما لا منفعة فيه، فيكون صرف الثمن فيه من إضاعة المال، أو يكون النهي لأجل نجاسته كالنهي عن ثمن الخمر والخنزير والميتة. فلما بطل أن يكون لحرمته؛ لأنه لا حرمة له، وليست مع هذا حرمته لو كانت له حرمة بأوكد من حرمة البقر والغنم، وقد جاز بيعها. وبطل أيضا أن يكون لعدم منفعته لان فيه منافع كثيرة موجودة، فلم يبق إلا أن يكون النهي لنجاسته. قيل: قد ذكرنا أن النهي إنما هو تنزيه وكراهية - عندنا -؛ لا لأنه

محرم، وإنما غلط بذلك عن اقتنائه حيث يروع المسلم وإلا فبيعه جائز. ألا ترى أنه قد روي في الخبر أنه نهى عن بيعه إلا يكون كلب صيد أو ماشية أو زرع. وللكلاب في جواز بيعه مَسْأَلَة مفردة تجيء في موضعها. وليس يمتنع في الأصول أن ينهى عن اقتناء شيء أو عن ثمنه تنزها وكراهية، كالنهي عن كسب الحجام، وثمن الصور. وقد قال عليه السلام: (إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة)، فكذلك النهي عن اقتناء الكلب وبيعه، وليس كذلك الميتة والدم والخنزير الذي لم يبح استعماله واقتناؤه في غير ضرورة. ألا ترى أننا قد أبحنا اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية لغير ضرورة. ولو كان كالميتة والدم لم تجز الوصية به ولا قسمته إذا كان مباحا استعماله، فلما جازت الوصية به وقسمته في المواريث واقتناؤه للصيد وغيره فارق حكم سائر الأجناس. فإن قيل: لو قتل لم يجب على قاتله قيمة. قيل: تجب - عندنا -.

فإن قيل: لو سرقه سارق لم يقطع. قيل: يقطع - عندنا -. على أننا لو قلنا: إنه لا تجب قيمته ولا القطع في سرقته لم يدل على نجاسته؛ لأنه لو صال عليه جمل فقتله لم تجب فيه قيمته ولو سرق حرا لم يجب قطعه إن كان صغيرا - عندكم - وكبيرا - عندنا وعندكم -، ولم يدل ذلك على كونهما نجسين. وأما قوله عليه السلام: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليقه وليغسله

سبع مرات)، فإنه لا يلزم؛ لأن الانتفاع بالكلب واقتناؤه قد أبيح لغير ضرورة، فهو كالطاهرات في الشرع. فأما الأمر بإراقته وغسل الإناء من ولوغه فلا يدل على نجاسته، بل هو لأن النفس تعافه، كما لو بصق إنسان في الماء، وامتخط فيه لعافته نفسه وجازت إراقته. ألا ترى أن إنسانا لو اضطر إلى أكل الميتة ثم يشرب من إناء لعافته النفس حتى يراق الماء ويغسل الإناء منه تنظيفا وتنزها، فكذلك الكلب إذا ولغ فيه؛ لأنه لا يجتنب أكل الأنجاس في الغالب، فتعافه النفوس، فيؤمر الإنسان بإراقته وغسل الإناء؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه، وليس إراقته - عندنا - فرضا، ولا غسل الإناء منه فرضا. ويحتمل أن يكون ذلك تغليظا عليهم في الماء؛ لأنهم نهوا عن اقتنائها؛ لأنها تروع الضيف والمجتاز كما قال ابن عمر، والحسن، فلما لم ينتهوا غلط عليهم في الماء؛ لقلة المياه عندهم في البادية حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها، لا لأنها نجسة. والدليل على أنه على وجه التغليظ: دخول العدد والتراب فيه؛ لأنه مع قلة المياه عندهم يجتمع عليهم إراقة الماء من الإناء، وتكرير الغسل سبع مرات بالماء، ثم بالتراب الذي لم يدخل في سائر الأجناس التي هي أغلظ من ولوغ الكلب؛ لأن الدم والبول والعذرة المتفق على نجاستها أغلظ من ريق الكلب المختلط في طهارته، فلما لم يدخل

العدد والتراب في الأغلظ، ودخل في الولوغ الذي هو أضعف علم أنه لم يدخل لنجاسة. وقد رأينا العدد في الغسل قد دخل عبادة لا لنجاسة كوضوء الإنسان، ودخل التراب في غسل الإناء أيضا عبادة كما دخل في التيمم لا لنجاسة. وأما قولهم: إنه قد يكون في الإناء لبن أو غسل فيكون فيه تضييع المال، فإننا نقول: إن الخبر لم يرد إلا في الماء على طريق الاستحباب، والماء يسير القيمة في الغالب، وقد قال عليه السلام: (إذا وجد أحدكم قذى في إنائه فليرقه ولا ينفخ فيه)، وكله - عندنا - مستحب. وقد سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن القدر يلغ فيها الكلب. فقالت: يؤكل المرق، ويغسل القدر سبعا. وكانت تفتي به بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم -.

وما روي أنه عليه السلام قال: (طهور إناء أحدكم)، فإننا نقول: طهور اسم مشترك يصلح لإزالة النجس، ويصلح لتمييز الشيء من الأشياء الدنية، ويصلح للتعبد. فأما إزالة النجس، كالثوب والبدن والمكان إذا كان عليه نجس طهور بإزالة ذلك بالماء. وأما التعبد فكغسل الجنابة والوضوء الذي قيل فيه: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}. وأما تمييز الشيء من الأشياء الدنية فكقولنا في أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطاهرات، وكقولنا: فلان طاهر ويكون طاهر مطهر، أي متميز ممن يدخل فيما لا يجوز من الدناءة، ويكون أيضا لرفع درجة كقوله - تعالى - لعيسى عليه السلام: {إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا}. فإذا كان طهور من الأسماء المشتركة لم يجز الحجاج به حتى يعلم أي ذلك أريد به، ولا يدعي في الاسم المشترك العموم، فإذا احتمل ما يقولونه من إزالة النجاسة احتمل أن يكون للعبادة كغسل الخلوق من ثوب المحرم الذي لا هو لإزالة حدث ولا لرفع نجاسة. على أن حقيقة الطهارة إنما هي نقل من حال إلى حال في جميع المواضع، فهو نقل مما لا يجوز إلى ما يجوز، فقد نقل امتناع جواز استعمال الإناء إلى جواز استعماله.

وإراقة الماء فقد ذكرنا أنه على وجه التنزه والتنظف، ويحتمل أن يكون تغليظا ليمتنعوا من اقتناء الكلب. فإن كان للتنظف أو التنفس تعافه فهو كمن كان يجد القذى في إنائه قد أمر بإراقته ولا ينفخه؛ لأنه بالنفخ يتطاير من البصاق في الإناء مع يساره قيمة الماء في الأغلب، وقد ندب الإنسان إلى التنزه والتنظف، كما ندب المتوضئ إلى غسل يده قبل إدخالها في وضوئه. فإن قيل: فكيف خصت الأواني بذلك دون غسل الصيد إذا نيبه الكلب - عندكم -؟، وخص داخل الإناء بالغسل كما خص غسل موضع النجاسة، والأواني لا تعبد عليها؟، وخص الماء وحده نم بين غيره من المائعات. قيل: أما تخصيص الأواني فلأن الكلاب في الحضر وبين الناس تروع المجتاز والضيف، وتلغ في الأواني، وفي الصحاري ومكان الصيد والمواشي والزرع لا ينتشر الناس في الغالب فتروعهم، ولا تكون الأواني هناك. وأما تخصيص داخل الأواني فإنه موضع الاستعمال، والقذر من الريق هو المستقذر يحصل داخل الإناء وإن لم يكن نجسا. وأما تخصيص الماء داخل الأواني فإنه موضع الاستعمال، والقذر من الريق هو المستقذر يحصل داخل الإناء وإن لم يكن نجسا. وأما تخصيص الماء وحده فإنه في الأغلب لا يحفظ كما يحفظ غيره من المائعات، فالكلب في الغالب يشرب الماء دون غيره من المائعات. وقولهم: لا تعبد على الأواني فإننا نقول: نحن المتعبدون فيها، كما تعبدنا بأن تربص الصغيرة المتعدة، وتعبدنا بغسل الطيب من ثوب

المحرم، وكما تعبدنا بغسل الميت الذي لا يخلو أن يجب غسله لنجاسة تزول، أو لعابدة. فإن كان الميت نجسا بالموت فإن نجاسته لا تزول بالغسل، وإن ذهب عنه الدرن. وإن كان طاهرا وعليه نجاسة فليس هو متعبدا بإزالتها بعد الموت؛ لأن العبادة قد انقطعت عنه، فصرنا نحن المتعبدين بغسله، فكذلك النجاسات التي على الثياب والبقاع نحن المتعبدون بها، فكذلك نحن المندوبون بغسل الإناء من ولوغ الكلب تنزها وتنظفا، فلا معنى لقولهم: إنه لا عبادة على الأواني. فإن قيل: إنما وجب غسل الإناء لحدوث حادث فيه فوجب أن يكون عن نجاسة، كالبول وغيره من النجاسات إذا وقعت في الإناء. وأيضا فإنه مائع ورد الشرع بإراقته فوجب أن يكون نجسا كالخمر. قال ففي الولوغ: (فأريقوه)، وقال في الخمر: (اقلبوها في البطحاء). وأيضا فإنه غسل بالماء تعلق بموضع الإصابة فوجب أن يكون

غسل نجاسة لا غسل تعبد، وأصله النجاسة إذا وقعت على ثوبه أو على بدنه. وأيضا فإن الكلب لم يماس الإناء ولا أصابه، وإنما أصاب الذي في الإناء، فلما وجب غسل الإناء على أنه وجب غسل الإناء لحدوث حادث فيه، فإننا نقول: ليس غسله فرضا، فلم تسلم علتكم وإنما غسله مسنون، وليس ما كان غسله مسنونا يكون لنجاسة، كالطيب من ثوب المحرم، فلم يسلم القياس على البول، وإنما كان بول ابن آدم نجسا؛ لأنه محرم أكله، وإن كان في حياته طاهرا. فأما الكلب فأكله مكروه فبوله مثله، وكذلك سائر السباع غير الخنزير محرم كابن آدم وبوله مثله. وعلى أن إزالة النجاسات - عندنا - ليست بفرض، فكيف ولوغ الكلب الذي هو - عندنا - طاهر؟. وقولهم: إنه مائع ورد الشرع بإراقته، فقد قلنا: إن النبي عليه السلام قال: (إذا وجد أحدكم قذى في إنائه فليرقه ولا ينفخه)، فقد ورد الشرع بإراقته لا لنجاسة، وهذا ندب، وكذلك ولوغ الكلب إراقته ليست

بفرض، وأما الخمر فنجسة محرمة الثمن، كبول ما لا يؤكل لحمه. وقولهم: إنه غسل بالماء علق بموضع الإصابة فوجب أن يكون غسل نجاسة، فنقول: غسل داخل الإناء مندوب وليس بمفروض، وإنما هو تغليظ أو للنظافة؛ فإن النفس تعاف الشرب من الإناء بعد ولوغ الكلب فيه إن لم يغسل بالماء، فهو - عندنا - مندوب إلى غسل بول ما لا يؤكل لحمه من السباع وهي طاهرة، ومندوب إلى غسل ما يؤكل لحمه من الدواب أيضا وهي طاهرة، وهذا هو الجواب عن قولهم: إن الكلب لم يماس الإناء، وإنما مس ما فيه؛ لأنه إذا ولغ في الماء اختلط ولوغه فقذر الإناء لا لنجاسة، كما لو امتخط في الإناء قذره بلا نجاسة. على أن قياسنا الكلب في طهارته على سائر الحيوان أولى من هذا. ويجوز أن نستدل على طهارة الماء الذي ولغ فيه بقوله عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه). فإن قيل: فقد روي أن النبي عليه السلام أراد أن يدخل بين رجل فقيل له: إن فيه هرا. فقال: (الهر ليست بنجس)، فدليله أن الكلب نجس.

قيل: قد ذكر أن هذين خبران، قد دخل أحدهما في الآخر. على أننا نقول: إن كان هذا تعليلا في الكلب، وأنه لم يدخل البيت الذي هو فيه؛ لأنه نجس فينبغي أن تجري العلة في كل موضع فيه نجس، ولو كان كذلك لوجب أن لا يدخل بيتا فيه دم ولا بول، ولا غير ذلك من الأنجاس التي هي أغلظ من الكلب، فلما كان عليه السلام يدخل البيوت التي فيها الأنجاس دل على أن هذا ليس بتعليل، وإنما معناه أن الكلب مبعد والهر ليست مبعدة؛ لأن النجس في اللغة وهو المبعد،

كقوله - تعالى - {إنما المشركون نجس}، وهذا أولى من تعليل لا يصح، وقد كانت مبولة النبي عليه السلام معه في البيت تحت سريره، ولم يمتنع من دخول البيت. وعلى أنه عليه السلام لم ينص في الكلب على شيء، وإنما قال في الهر: (إنه ليست بنجس)، فاستدلوا بالتنبيه ودليل الخطاب على الكلب، ونحن ننازعهم في النص على الهر

وفي دليله، وهل أراد النجس اللغوي أو غيره؟. فإن قيل: اسم النجس والطاهر إذا أطلقنا في الشريعة عقل منه خلف اللغة، كالصلاة التي هي الدعاء في اللغة، ثم إذا أطلقت في الشرع عقل منها هذه الأفعال المخصوصة. قيل: إن الأحكام معلقة على الأسماء اللغوية حتى يقوم الدليل على نقلها، وليس إذا نقلت في موضع بدليل ينبغي أن تنقل في كل موضع ولم تقم - عندنا - دلالة في هذا الموضع أنه أريد به غير اللغوي. ثم لو ثبت الدليل على ما يذكرونه من دليل الخطاب لم يمتنع أن يلحق الكلب بالهر بدليل، وقد ذكرنا دلائل تقدمت تدل على طهارة الكلب، ودليل الخطاب يحض، ويسقط بالدلالة، فإسقاطه ههنا بالدلالة، ويصير تقديره كأنه قال: الهر ليست بنجس ولا الكلب، كما قال - تعالى - في خبر الصيد: {ومن قتله منكم متعمدا}، فالخاطئ بخلافه، ثم قامت دلالة ألحقت الخاطئ بالعامد، وصار تقديره:

متعمدا أو مخطئا. وإن كان ذلك تعليلا من النبي عليه السلام جاز أيضا تخصيصه بدليل، فيحمل على النجس اللغوي بدليل. على أن التعليل إنما ورد في الهر، فكأنه عليه السلام قال: دخلت لأن الهر طاهرة، والعلة لا يكون لها دليل فيما عداها، ولا إذا حصلت علة في أصل يقع منها تنبيه على علة أخرى تضادها في أصل آخر، وإنما يكون هذا فيما طريقه النطق في الأسماء والأوصاف، فكأنه عليه السلام جعل العلة في دخوله البيت الذي في الكلب لشيء آخر، وهو تغليظ عليهم حتى لا يقتنوه إلا أباحهم منها، فيدخل عليهم في صيدهم وضرعهم وزرعهم، ومكان صيدهم وفيه الكلاب، فلو كان نجسا لم

يدخل عليه السلام عليهم في هذه المواضع، فلما كان يدخل عليهم فيها علم أن الكلب ليس بنجس؛ إذ لو كان نجسا لامتنع من الدخول عليهم في كل موضع حتى تجري العلة في معلولاتها؛ لأنه لا يجوز أن يعلل فيقول: لا أدخل عليهم؛ لأن الكلب نجس، ثم يدخل عليهم وهو نجس، فلما أباحهم اقتناءها للصيد والزرع والضرع، ودخل عليهم علم أنه ليس بنجس؛ لأنه لو كان نجسا لكانت هذه مناقضة، والنبي عليه السلام لا يناقض. فإن قيل: فإن العلة المنصوص عليها يجوز أن تخص. قيل: قد خصصناها لو نص عليها في الكلب بالأدلة، فنحملها على أنه أراد أنه مبعد، وهذا اسم لغوي. ويجوز أن نقول: قد جعل الله - تعالى - ورسوله عليه السلام الكلب المعلم مذكيا للصيد، ومحال أن يبيحنا تذكية نجس العين؛ لأن كل حي حصلت منه التذكية طاهر العين مثل بني آدم، والخنزير - عند المخالف - نجس العين، فلو كان الكلب مثله لم يجز أكل ما قتله الكلب الصيد، كما لا يجوز أكل ما ذكاه الخنزير، وبالله التوفيق.

[36] مسألة

[36] مَسْأَلَة ولا يجوز التوضؤ بماء الورد وماء الشجر، وعرق الدواب، وماء العصفر، وماء الكرش. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وكذلك نقول في ماء الزعفران. والخلاف بيننا وبين أبي حنيفة إنما هو إذا خالط هذه الأشياء الطاهرة الماء، وكانت أجزاء الماء غالبة عليها إلا أن الماء متغير اللون والطعم والريح، فلا يجوز به الوضوء - عندنا وعند الشافعي -، ويجوز - عنده - الوضوء به، وأما إن كانت أجزاء هذه الأشياء غالبة على أجزاء الماء فإنه لا يجوز به الوضوء - عندنا وعنده وعند الشافعي -.

وقال الأصم: يجوز الوضوء بهذه المياه كلها على كل وجه. واحتج الأصم بان ماء الورد وماء الشجر، والماء الذي من الكرش إذا نحر الجزور فأخرج الماء من كرشه مائع طاهر فهو كالماء. والدليل لقولنا: استصحاب الحال، وأنه على حكم الحدث حتى يقوم الدليل على سقوطه عنه. وأيضا فإن الصلاة عليه بيقين فلا تسقط عنه إلا بدليل. وأيضا فإن الكلأ بيننا في إطلاق اسم الماء، والإطلاق يقتضي ماء القراح، فإن نوزعنا في هذا، قلنا: قد ثبت أن حالفا لو حلف لا

يشرب ماء فشرب ما ورد لم يحنث، ولو شرب ماء الشجر، وماء الخلوق، وحلف أنه لم يشرب ماء لكان صادقا. ولو أمر غلامه أن يشتري له ماء ورد، فاشترى له ماء القراح لعصى وحسن منه تعنيفه وتوبيخه، ولو أمره أن يشتري له ماء، فاشترى ما ورد لكان مخالفا، فلو كان يطلق عليه اسم الماء، كماء القراح لجاز استعماله مع وجود ماء القراح. ولا أظنهم يقولون هذا، فإن قالوه فما قدمنا فيه كفاية. ولنا أن نستدل بقوله - تعالى -: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، والطهور هو الطاهر في نفسه والمطهر لغيره، وقد دللنا عليه قبل هذا فيما مضى من المسائل، فلما خص الماء بهذه الصفة الزائدة وجب أن يكون مخصوصا بالحكم دون غيره. وأيضا قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فنقلنا من الماء المطلق إلى التيمم من غير واسطة. وأيضا فإن النبي عليه السلام والصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يسافرون ويتعذر عليهم الماء، ومعهم أنواع من المائعات، مثل ماء الورد والخل وغير ذلك، فلم ينقل عن أحد منهم أنه توضأ بها، فعلم أنهم لم يفعلوا ذلك؛ لأنه لا يجوز.

وأيضا فإن النبي عليه السلام توضأ بماء القراح، وقال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به)، فلا يجوز الوضوء إلا بمثل ما توضأ به إلا أن يقوم بدليل. وأيضا فإن النبي عليه السلام قال لابن مسعود: (هل معك ماء؟). فقال: لا، ولكن معي نبيذ، فلو كان ينطلق اسم الماء على النبيذ لم يقل: لا. ولكان النبي عليه السلام ينكر ذلك عليه. فإن قيل: جميع ما ذكرتموه مخرج على العرف ولم يخرج عن أصله في الماء. قيل: فإذا كان العرف قد جرى بهذا على ما تقولون فما تريد أكثر منه؟، فما خاطبنا الله - تعالى - على هذا الحساب إلا بما جرى به عرفنا.

فإن قيل: فإن الله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء}، وقال النبي عليه السلام: (أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت)، ولم يخص ماء من ماء، ومن معه ماء ورد فهو واجد الماء، وليس إضافته إلى الورد بمخرج له عن الاسم، وهذا كما نقول: ماء دجلة وماء الفرات، وماء النهر، وماء الجب، وماء البئرة، وما أشبه ذلك، ومنزلة هذا: منزلة من حلف - عندكم - أن لا يأكل خبزا، فأكل خبزا وجبنا أو خبزا وملحا فإنه يحنث، ولا تكون إضافة الخبز إلى غيره بمخرج له عن اسم الخبر فكذلك هذا. وأيضا فإننا رأينا الله - تعالى - يجري الماء في أوعية، فتارة يجريه في عين، وتارة في بئر، وتارة ينزله من السماء، وتارة يجريه في الشجر وعروقها، فلا ينبغي أن يخرج عن إطلاقه، وقد قال - تعالى - {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض}، وقال - تعالى -: {فسلكه ينابيع في الأرض}، فكذلك يسلكه في الشجر وغيرها، فلا يخرج ذلك عن إطلاقه. قيل: أما قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}، وقوله عليه السلام: (أحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء)، فهو حجة لنا؛ لأن إطلاق اسم ماء لا يقع على ماء الورد، ولا يعقل منه ذلك لغة ولا شرعا، وأما إضافة الماء إلى قراره فلا معتبر به؛ لأن الإنسان إذا أخذه

في يده للوضوء تناوله اسم ماء مطلق، وإذا نقل من قراره إلى قرار آخر انتقلت الإضافة من القرار الأول إلى القرار الثاني، فالماء الذي كان في دجلة هو الماء الذي في الجب، ويقال ماء الجب بعد أن كان يقال فيه ماء دجلة، وهو مع هذا في الجب يقال: ماء دجلة، فإضافته إلى قراره لا تؤثر فيه، وليس كذلك ماء الورد؛ لأنه مضاف صفة لازمة له مؤثر فيه؛ لمخالطته ما هو من غير جنس قراره، وإنما هو لشيء حل فيه فغلب عليه، فحيثما نقلته وفي أي إناء تركته قيل: ماء ورد. وأما الذي حلف ألا يأكل خبزا فأكل خبزا وجبنا فإنما حنثناه بأكله الخبز؛ لأن الأيمان تخص بالعرف. وعلى أننا حنثناه بأكله الخبز، وأكله لشيء آخر معه لا يضر؛ لزن عين الخبز متميزة من الجبن، فاسم الخبز الخبز منطلق عليه، فعروضه لو حلف لا شرب ماء، فشرب ماء فيه ورق الورد لحنث؛ لأنه شرب ماء ووردا والماء مميز عن الورد، وليس كذلك إذا حلف ألا يشرب ماء، فشرب ماء ورد فرنه لا يحنث. وأما قولهم: إن الله - تعالى - يجري الماء في أوعية، فقد أجراه في الشجر وعيدانه، كما أجراه في الأرض، فإننا نقول: إن الله - تعالى - جعل الأرض قرارا للماء، وهو متميز عنها، فلم يكن للأرض فيه حكم أكثر من استقراره فيها، وهو مشاهد كما يشاهد في الجب

والجرة وغير ذلك؛ لأنه لا ينفك مع إطلاقه من قرار يحل فيه، فما دام الاسم ينطلق عليه من غير شيء يحل فيه من غير قراره فيؤث فيه فهو المأمور بالوضوء به؛ لأن الأمر ورد بماء هذه صفته وقد بينا أن ماء القراح حيث حل، قيل له: ماء القراح، وماء الورد وماء الشجر حيث حل، قيل: ورد وماء الشجر. وعلى أن الإضافة على ضربين: إضافة حقيقة - وهي المخالطة، وإضافة سمة وعلامة. فإضافة السمة والعلامة لا تغير الماء؛ لأنها لا تتغير عليه، كما ذكرنا وهو بحاله، فحيثما نقل أضيفت إلى ما نقل إليه سمة وعلامة، وهو بحاله، كما يقال ماء زيد، ثم ينتقل ملكه إلى عمرو فيقال: ماء عمرو، وليس كذلك ماء الورد وماء الشجر للتأثير في عينه، فهي إضافة حقيقة حيثما نقلته لم يتغير اسمه عن الإضافة المؤثرة وإن لحقته إضافة السمة، وهات ماء الورد الذي في القنينة. وقياسهم على الماء بعلة أنه مائع طاهر فإننا نقول المعنى في الماء أنه مخصوص بالصفة فكان مخصوصا بالحكم.

فصل

فصل قد مضى في جملة الكلام على الأصم ما يلزم أبا حنيفة في الماء إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه من الورد أو الزعفران وإن كانت أجزاء الماء غالبة لأجزاء تلك الطهارات وأنا أفرد الكلام عليه. فالدليل لقولنا: كون الإنسان على جملة الحدث، وكون الصلاة عليه بيقين فلا تقسط إلا بدليل. وأيضاً قوله - تعالى -: {وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً}، وقوله: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا}، وقوله - تعالى - {وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به}، فأطلق - تعالى - اسم الماء في هذه المواضع، وهذا فقد زال عنه إطلاق الماء حتى صار مقيداً بصفة مما حل فيه. يدل على ذلك: أنه لو أمر غلامه بشراء ذلك، فجاءه بماء القراح عصاه، وحسن تعنيفه له، ولو قال له: اشتر لي ماء، وأسقني ماء، فجاءه بهذا الماء المتغير حسن تعنيفه له، وكان الغلام عاصياً بذلك. وأيضاً قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن مسعود: "هل معك ماء؟ " فقال: لا، ولكن معي ماء نبذت فيه تمراً. فلو كان اسم الماء في الإطلاق يتناوله لم يقل: ليس معي ماء. لكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينكر عليه، ويقول: هذا ماء، وهو

أحسن حالاً من ماء الزعفران الذي قد تغير طعمه ولونه وريحه. وأيضاً فقد اتفقنا على أن أجزءا الزعفران إذا غلبت على أجزاء الماء خرج الماء عن إطلاقه، ولم يجز الوضوء به، والعلة في ذلك: أنه ماء بان فيه لون الزعفران. وأيضاً فقد وافقونا على أن الماء الباقلاء المطبوخ لا يجوز التوضؤ به، وفيه من غلبة الماء مثل ما في الزعفران. ولنا القياس على نبيذ الزبيب؛ بعلة أنه ماء خالطه شيء يستغني عنه، وينفك منه غالباً، بان لونه أو طعمه فيه. وأيضاً فإن الدموع والعرق لا يجوز الوضوء به، العلة فيه أنه مائع لا يعد للعطش، فكذلك ماء الزعفران الذي اختلفنا فيه. فإن قيل: فإن إطلاق الاسم هو الأصل، والتقييد داخل عليه، كما أن الأصل هو التخفيف، والتثقيل داخل عليه، والأصل التذكير، والتأنيث داخل عليه، والأصل الحقيقة، والمجاز داخل عليه؛ لأن واضع اللغة لا يضع التقييد، وإنما يضع الاسم لجملة أشياء، يتقيد في بعضها بقلة الاستعمال، ويصير مطلقاً في بعضها لكثرة الاستعمال، فصار التقييد داخلاً في الوضع،

فمدعيه يحتاج إلى دلالة، كمدعي المجاز. قيل: إنما يرجع في هذا إلى وضع اللغة، فما كان مطلقاً منها فهو معروف، وما قيدوه خرج عن الإطلاق، وقد قيدوا في مسألتنا فقالوا: ماء الخلوق، وماء الزعفران، وماء الأشنان، وماء الباقلاء، فعرف من قولهم هذا خلاف ما يعقل من قولهم ماء غير مقيد، وكذلك يعقل من قولهم ماء نجس، وماء مستعمل، وماء مشمس، وماء مغلي ما يعقل من قولهم ماء مطلق، فليس يحتاج في هذا إلى دلالة أكثر من تقييدهم. ثم إن الشريعة بعد ذلك ميزت أحكام ما قيدوه، فما كان من المقيد بصفة لم ينفك منها، أو لم يؤثر في عينه شيء حل فيه أجرته مجرى المطلق. وما أثر فيه مما حل فيه وليس من قراره. فما كان طاهراً حصل الماء طاهراً غير مطهر، وما كان نجساً حصل الماء غير طاهر ولا مطهر. فإن قيل: فإن ما تغير لونه بالزعفران يقال: إنه ماء وقع فيه زعفران، فيوصف أنه محل له، وهذا لا يؤثر في إطلاق الاسم، مثل وقولهم: ماء وقع فيه ثوب. ولا يجوز أن يقال له: ماء الزعفران؛ لأن هذا الوصف لما اتخذ من الزعفران، كما يقال: ماء الفاكهة لما اتخذ منها، ولا يقال لما وقع فيه شيء من الفاكهة: إنه ماء الفاكهة، فكذلك إذا وقع ورد فاكتسب به رائحة لا يقال: إنه ماء الورد. وإذا كان إطلاق الاسم بحاله تناوله قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا}، وقوله:

" التيمم طهور المسلم ما لم يجد الماء"، وهذا واجد له. قيل: إذا وقع الزعفران في الماء فهو على وجهين: إن لم يؤثر في صفاته قيل: هذا ماء قد وقع فيه زعفران؛ ليعلم من لم يعلم بذلك، وإن أثر فيه علم من طريق المشاهدة أنه ماء الزعفران، وقيل: ماء الزعفران، وهذا كما يقع فيه نجس ولا يؤثر في طعمه ولا ريحه ولونه فيقال: هذا ماء وقعت فيه نجاسة؛ ليعلم ذلك من لم يعلمه، وإذا تغير بلون أو طعم أو ريح قيل: هذا ماء نجس وإن لم يكن مستخرجاً من النجاسة وإنما حلت فيه نجاسة أثرت فيه. فتأثير الزعفران في الماء كتأثير النجاسة في الماء، وإن كان هذا نجساً وذاك طاهراً. وكذلك الثوب إذا وقع في الماء، فإن طال مكثه فيه حتى غير طعمه ولونه وريحه كان مضافاً كماء الزعفران، وإن لم يطل مكثه فيه ولم يتغيره فهو كالزعفران إذا لم يؤثر فيه، وكذلك ماء الفاكهة، وهذا كما الباقلاء ليس هو شيئاً استخرج من الباقلاء، وإنما الباقلاء غيره لما حل فيه. فإن جوزوا الوضوء بماء الباقلاء فالكلام على الجميع واحد، وهم يجوزون الوضوء بماء الباقلاء الني إذا بيتوه فيه، ولا يجيزونه بماء الباقلاء المطبوخ، ولا يختلف أهل اللغة في تسمية ماء الباقلاء بهذا الاسم، وإن كان الباقلاء حل فيه، فكذلك ماء الزعفران إذا أثر فيه، وإذا كان هذا هكذا لم يتناوله قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماءً

فتيمموا}؛ لأن هذا ماء مطلق، وذاك ماء مقيد بالزعفران كما الباقلاء. فإن قيل: فإننا نفرض الكلام في الماء إذا خالطه الأشنان فغير طعمه ولونه، فنقول: هو ماء خالطه ما يحصل به الإنقاء فلا يكون تغيير لونه مانعاً من جواز التوضؤ به مثل الطين. قيل: هو فاسد بماء الصابون وماء الباقلاء: فإن الإنقاء يقع بالباقلاء المطحون ويقع بالصابون. فإن جوزوا هذين قلنا: المعنى في الطين أنه من قرار الماء الذي لا ينفك منه غالباً، وله مدخل في الطهارات عند التيمم، فكأنه من جنسه. على أن ما ذكروه ينتقض به إذا كانت أجزاء الزعفران غالبة على أجزاء الماء. فإن قيل: المانع ههنا هو غلبة الأجزاء لا التغيير. قيل: قوة الأجزاء هي المغيرة، وإنما يزيد في التغيير في الطعم واللون والريح، وأول جزء يصل به التغيير هو المؤثر ولا اعتبار بماء زاد عليه. ألا ترى أن النجاسة إذا غيرت طعم الماء ولونه وريحه كان الحكم لها ولم يؤثر فيه تزايد النجاسة وقوتها في التأثير، فكذلك في الزعفران. فإن قيل: إن كل تغيير حاصل في الماء يمنع جواز الوضوء به فإنه لا يختلف حكم المجاورة والمخالطة، يدلك عليه: اعتبار النجاسات، وفي

اتفاقهم على أن العود متى غير رائحة الماء لم يمنع من استعماله دلالة على أن مخالطته لا تمنع أيضا. وأيضا فلو تغير الماء بمكثه في بقعة لم يمنع ذلك جواز الوضوء به، فكذلك إذا حصل بحادث، دليله الماء العذب إذا تغير بالملح. أيضا قد يكون متغيرا في أصل خلقته فوجب أن يكون الحادث بمنزلته. أصله الملوحة. قيل: قولكم: إن كل تغيير يمنع جواز الوضوء لا يختلف حكم المجاورة والمخالفة كالعود يقع في الماء، فإننا نقول: العود إذا نقع في الماء حتى يتغير ريح الماس لم يجز الوضوء به، وإن لم يتغير جاز، وهذا كالنجاسة اليابسة إذا وقعت في الماء، وأخرجت ولم تغيره فهو طاهر مطهر، وإن أثرت في ريحه لم يجز الوضوء به. على أن صفة المجاورة ليست هي بشيء تحل فيه ولكن الماء لو كان في إناء، مجاورا لشيء طيب، أثر ريح ذلك في الماء لم يمنع الوضوء به؛ لأنه لم يحل فيه من جسم الطيب شيء، وكذلك لو كان الماء في

إناء، والإناء مجاور لشيء فيه نجس له ريح، فأثر ذلك في ريح الماء المفرد في الإناء المجاور له لم يمنع الوضوء به؛ لأنه لم يحل من جسم النجاسة فيه شيء. وقولكم: لو تغير الماء بمكثه لم يمنع جواز الوضوء به فكذلك إذا حصل بحادث منتقض بحلول النجاسة فيه إذا غيرته. وكذلك قولكم: إن الماء قد يكون متغيرا في أصل خلقته فوجب أن يكون الحادث بمنزلته كالملوحة، فإنه أيضا منتقض بحلول النجاسة فيه إذا غيرته. على أن الملوحة إن كانت من ملح طرح فيه حتى يغير طعمه فلو قلنا: لا يجوز الوضوء به لم تكن لكم حجة، ثم لو جوزناه لكان الملح من جنس الأرض؛ لأن التيمم يجوز عليه، فهو كالطين والرمل الذي هو من الأرض، لأن الملح من السباخ. ويجوز أن يحتج في أصل المسألة بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه)، والاستدلال به من وجهين. أحدهما: أن النجس في اللغة هو المبعد، فكأنه قال: الماء لا يبعده إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه، فينبغي أن يكون هذا الماء مبعدا لما غيره، وما يتوضأ به لا يكون مبعدا. والوجه الآخر: هو أنه عليه السلام نبه على أن الشيء الذي يحل في الماء فيغيره له تأثير في منع الوضوء به؛ لاتفاقنا على أن أجزاء الطاهرات

إذا غلبت على أجزاء الماء كان كغلبة أجزاء النجاسة لأجزاء الماء فينبغي أن يكون الحكم فيها إذا غير الماء واحدا، والله أعلم. فإن قيل: فإنه طاهر غلب على الماء ولم يخرجه عنه طبعه فجاز الوضوء به. أصله الماء إذا تغير بالورق أو الطحلب أو بالطين أو الحمأة. قيل: المعنى فيه أنه ماء غلب عليه ما ليس بقرار له مما ينفك منه الماء غالبا، وليس كذلك ما حصل فيه طحلب وطين فقد تعارضت العلتان. ولنا أن نرده بهذه العلة إلى أصل آخر، وهو ماء الباقلاء المطبوخ. ولا يلزم على علتنا الماء الذي يغريه الطحلب والطين والحمأة وما تساقط فيه من ورق الشجر؛ لأن الماء لا ينفك بهذه الأشياء غالبا، ولا يمنكن التحرز منها، وإذا تعارض القياسان أولى؛ لشهادة الأصول فيه كل شيء يحل في الماء مما ينفك منه غالبا، فلا فرق بين أن يغيره بتزايد أجزائه على أجزاء الماء أو بتزايد الماء عليه ولا فرق بين ماء الباقلاء الني والمطبوخ، كالماء الذي تحل فيه النجاسة فتغيره فلا فرق بين تزايد أجزائها على أجزاء الماء، وبين تزايد أجزاء الماء على أجزائها، وبالله التوفيق.

[37] مسألة

[37] مَسْأَلَة ولا يجوز الوضوء بالنبيذ، نيه ومطبوخه، مع عدم الماء ووجوده، تمريا كان أو غيره، فإن كان مع ذلك مشتدا فهو نجس، ولا يجوز شربه ولا الوضوء به، وبه قال الشافعي، وأحمد، وأبو يوسف. واستدل على أن هذا مذهب عمر وابنه عبد الله لما روي عنهما أنهما قالا: النبيذ نجس لا يجوز شربه. فقد قالا: إن الوضوء لا يجوز به. وقال الأواعي: يجوز التوضؤ بسائر الأنبذة، وروي مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز التوضؤ به في حضر ولا سفر مع وجود الماء. فأما مع عدمه فيجوز بمطبوخ التمر إذا أسكر، فأما الني والنقيع يجوز التوضؤ به.

وذكر بعض أهل العراق أن ابن المبارك ونوح بن دارج رويا عن أبي حنيفة الرجوع عن ذلك. فعلى الرواية التي يجوزه في المطبوخ فقد اختلفوا في الطبخ. فقال بعضهم: حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وحكيم عن الكرخي أنه شرط الطبخ ولم يوقت. وحكيم بعضهم أنه ليس عن أبي حنيفة فيه رواية، وإنما اختلفوا هم، فمنهم من يجوز - أعني في مطبوخ التمر الحلو - ومنهم من قال: لا يجوز حتى يسكر.

وقال محمد بن الحسن: يتوضأ به كما قال أبو حنيفة ويتيمم معه. ومعه غرضنا الكلام في تحريم النبيذ المسكر ههنا، وهو يجيء في كتاب الأشربة، وإنما القصد ههنا الكلام على من جوز التوضؤ به. والدليل لقولنا: كون المحدث على حدث، وأن الطهارة واجبة عليه، فمن زعم أن حدثه يرتفع بالوضوء بالنبيذ فعليه الدليل. وأيضا قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}. وأيضا فإن الله - تعالى - قال: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، وقال: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}، وقال النبي عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا)، فجعل الماء المطلق هو الطهور دون غيره، فدل على أن غير الماء المطلق لا يكون طهورا.

فإن قيل: قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، نقلنا من الماء إلى الصعيد، وفي النبيذ، ماء لا محالة، فهو واجد لماء؛ لأنه قوله: {فلم تجدوا ماء} منكر، فلم يخص ماء من ماء، فيجوز التوضؤ بالنبيذ؛ لأن فيه ماء. قيل: إنما قال - تعالى -: {فلم تجدوا ماء}، وهذا يقتضي الماء المطلق، ولم يقل: تجدوا ماء فيه ماء. والماء الذي في النبيذ ليس بماء مطلق؛ لأن إنسانا لو حلف ألا يشرب ماء فشرب نبيذا لم يحنث، ولو حلف أن يشرب ماء فشرب نبيذا لم يبر، وكذلك لو أمر غلامه أن يشتري له ماء فاشترى له نبيذا كان مخالفا يجوز تعنيفه، ثم لو انطلق عليه اسم ماء لجاز استعماله مع وجود الماء. فإن قيل، إن النبيذ وإن لم يقع عليه اسم الماء في اللغة فإنه يقع عليه في الشرع؛ لأن النبي عليه السلام قال للنبيذ الذي كان مع ابن مسعود: (تمرة طيبة وماء طهور). قيل: عن هذا ثلاثة أجوبة: أحدهما: أن النبيذ لا ينطلقق عليه اسم الماء لا في اللغة ولا في الشرع، فأما قوله عليه السلام: (تمرة طيبة وماء طهور)، إنما سمي الماء باسمه ولم يسم النبيذ ماء؛ لأنه لم يكن معه نبيذ وإنما كان معه ماء نبذ فيه تمرا ولم يختلط؛ لأن مياه العرب كانت فيها ملوحة، فكانوا

يستعذبونها بالتمر. ألا ترى أنه عليه السلام أفرد ذكر الماء فقال: (تمرة طيبة) فأرد ذكرها، وقال: (ماء طهور)، فأفرد اسمه، وذكر أنه طهور، فلو كان مختلطا قد امناع في الماء لكان يقول: نبيذ طيب طهور، وليس يجوز أن يقال: إن النبيذ يقع عليه اسم التمر في الشرع، فكذلك لا يقع عليه اسم الماء. والجواب الثاني: هو أننا لو سلمنا أن اسم الماء يقع على النبيذ في الشرع لم يكن مرادا بالظاهر ولا تناوله اللفظ من وجهين. أحدهما: أن النبيذ يقع عليه اسم ماء في الشرع، والماء المطلق يسمى ماء باللغة واللفظة الواحدة لا يجوز أن يراد بها ما يسمى في الشرع وما يسمى في اللغة في حالة واحدة بلفظة واحدة، كان المراد باللفظ أحدهما، وقد أجمعوا على أن الماء المطلق مراد بالآية فوجب أن يكون النبيذ غير مارد بها. والجواب الثالث: هو أنه لو تناول الظاهر النبيذ كما تناول الماء المطلق لوجب أن يستوي مع الماء المطلق في جواز استعماله، فيكون مخيرا بين استعماله وبين استعمال الماء المطلق، كما يكون مخيرا بين ماءين؛ لأن اللفظ إذا تناول شيئين تناولا واحدا لم يفترقا في الحكم؛

لأن الجنس واحد، كألفاظ العموم. مثل قوله - تعالى - {فاقتلوا المشركين}، {والسارق والسارقة}، فلما قالوا: إن النبيذ لا يجوز التوضؤ به مع وجود الماء المطلق علم أنه لم يتناوله اللفظ أصلا، وهذا السؤال أجود أسئلتهم على الآية. وأيضا فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ روي عنه أنه قال لابن مسعود: (هل معك ماء؟). فقال: لا، ولكن معي نبيذ. فلو كان اسم الماء ينطلق على النبيذ لم يجز لابن مسعود أن يقول ليس معي ماء. وهو من وجوه أهل اللغة، عارف بأسماء الشرع أيضا، وكان النبي عليه السلام أيضا ينكر عليه، ويقول هذا ماء في اللغة وفي شرعي. فإن قيل: ليس يخلو من الذي كان مع ابن مسعود من أحد أمرين: إما أن يكون نبيذا كما نقول. أو يكون ماء قد طرح فيه تمرا لم يمنع فيه. فإن كان نبيذا فقد أنكر عليه بقوله: لا، وقال: (تمرة طيبة وماء طهور)، أو يكون ماء ولم ينمع فيه التمر، فقول ابن مسعود: ليس معي ماء محال. قيل: لم يكن معه نبيذ على ما تقولون، وإنما قال: ليس معي ماء مفرد ولا ماء أعد للتوضؤ، وإنما معي ماء استعددته للشرب، ولهذا أفرد النبي عليه السلام ذكر الماء عن ذكر التمر، فقال: (تمرة طيبة وماء طهور)، ولو جاز لإنسان أن يسمي النبيذ ماء مطلقا؛ لأن النبي عليه السلام قال: (ماء طهور) جاز لآخر أن يسمي النبيذ تمرا؛ لأنه عليه السلام قال:

"تمرة طيبة"، ولو جاز أن يسمى النبيز ماء؛ لأن فيه ماء جاز أن يسمى الخل ماء؛ لأن فيه ماء. وهذا أبو عبيد القاسم بن سلام - وهو إمام في اللغة - يقول: وقد ذكر النبيذ أنه لا يكون طهورا أبدا؛ لأن الله - تعالى - اشترط الطهور بشرطين لم يجعل لهما ثالثا، وهما: الماء والصعيد، وأن النبيذ ليس واحدا منهما. ثم نقول: لو أن الأمر على ما ذكرتم، وأنه يسمى ماء لما فيه من الماء فإن العرف جرى بأن لا يطلق عليه الاسم، فسبيلنا أن نرجع إلى عرف اللغة والشريعة؛ لأن الألفاظ إذا أطلقت ووقع التنازع فيها كان الأول فيها أن تحمل على عرف اللغة والشريعة، كما قيل في قوله - تعالى -: {وجعل الشمس سراجا}، {والجبال أوتادا}، ثم إذا أطلق اللفظ من هذا حمل على العرف، والغالب من السراج الذي هو المصباح، والوتد هو الذي يوتد في الحائط، وكذلك قوله - تعالى -: {فضحكت فبشرناها بإسحاق}، وإنما أريد به الحيض، وفيما بيننا

لو قال قائل لزوجته: إذا ضحكت فأنت طالق. لم يتعلق الحكم إلا بالضحك المعقول في العرف. هذا مذاهب الفقهاء جملة وإن كانوا في مواضع من الإيمان ريما حملوه على كل ما تقتضيه اللغة غير أنهم لا يخرجون به عن اسم الحقيقة. ثم إننا نقول لهم: قد وجدنا اسم الماء قد ارتفع عن النبيذ بكل وجه حتى لا يسمى ماء مطلقا ولا مقيدا، وقد يسمى غيره من ماء الزعفران وماء الورد والباقلاء ماء بتقييد. ثم نقول أيضا: أليس قد زعمتم أن الاسم الحقيقي لا ينتفي عن المسمى بوجه؟ فمتى انتفى عنه علمنا أنه ليس بحقيقة له، ولو قيل له: هل معك ماء؟. فقال: لا، ولكن معي نبيذ لم يكن مخطئا، كما قال ابن مسعود للنبي عليه السلام. فعلمنا بهذا أن إطلاق الماء قد بطل عنه. ولنا أن نبني المسألة على أصلنا في أن النبيذ المشتد حرام نجس. فإن سلموا ذلك فلا قول إلا قولنا، وإن لم يسلموه دللنا على صحته بقول النبي عليه السلام: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وبالأدلة المذكورة في مَسْأَلَة النبيذ. دلائل القياس: نقول: إن النبيذ مائع لا يجوز التوضؤ به مع وجد الماء فلا يجوز

التوضؤ به مع عدمه. أصله ماء الباقلاء وماء الورد وقولنا: مائع احتراز من الصعيد. ونقول: هو مائع لا يجوز التوضؤ به في الحضر فكذلك في السفر، أصله جميع الأنبذة. ونقول: هو مائع غلب عليه طعم التمر ولونه فلا يجوز الوضوء به، أصله النبيذ الني. أو نقول: هو اء غلب عليه لون التمر فأشبه الخل. أو نقول: هو شراب مسكر فلا يجوز التوضؤ به أصله الخمر. أو نقول هو مائع غلب عليه طعم ما يؤكل فأشبه الماء إذا بل فيه الخبز وإنماع فيه. ثم إن الاعتبار الصحيح معنا؛ وذلك أن الماء في الخل أكثر منه في النبيذ؛ لأنهم يكثرون الماء في طبخ التمر حتى يرق فتسرع إليه الحموضة، فالتمر الذي فيه أقل منه في النبيذ، وماؤه أكثر، فلما لم يجز التوضؤ بما فيه الماء أكثر مع قلة التمر كان في الموضع الذي يقل فيه الماء ويكثر التمر أولى أن لا يجوز. وأيضا فإننا رأينا الخل من جنس النبيذ؛ لأنه ماء مع تمر، فلما لم يجز التوضؤ بالخل مع الإجماع على طهارته وكونه من جنس النبيذ كان النبيذ أولى أن لا يجوز التوضؤ به. وأيضا فإننا وجدنا الأصول كلها تدل على أن ما جاز التوضؤ به استوى حكم مطبوخه وغير مطبوخه. ألا ترى أن الماء الطاهر يجوز الوضوء به طبخ أو لم يطبخ، والماء النجس لا يجوز الوضوء به طبخ أو لا.

فلو جاز الوضوء بالنبيذ لاستوى حكم مطبوخه وغير مطبوخه، فلما افترق حكم النبيذ - عندهم - في نيه ومطبوخه خرج عن الأصول. وأيضا فإن الأبدال في الأصول موضوعة على ما هو أسهل وجودا وأهون من المبدلات، كالتراب في الطهارات، والإطعام في الكفارات. والحكمة أيضا توجب ذلك، لأنه يبعد في الحكمة أن يؤمر من لا يقدر على أسهل الموجود وأهونه بالعدول إلى أصعبها مأخذا وأعزها مطلبا، ونحن نعلم أن النبيذ أشد تعذرا وأعز من الماء، فوجب أن يكون العدول إلى الصعيد عند عدم الماء هو البدل عنه؛ أسهل وأهون وجودا. وأيضا: فإنه لا تعدو حال النبيذ في جواز التوضؤ به أحد أمرين: إما أن يكون أصلا أو بدلا. فإن كان أصلا فيجب أن يترتب على العدم كالماء، أو يكون بدلا فيجب أن يكون أعم وجودا من الأصل، وأن يستوي فيه حكم الحدثين الأعلى والأدنى، وأن يختص باسم كالتيمم، فلما لم يوافق الأصل ولا البدل بطل أن كون له مدخل في التطهير. ألا ترى أن الصعيد لما كان بدلا عن الماء استوى حكمه في الطهارتين جميعا الأعلى والأدنى، وهو الاقتصار على العضوين المخصوصين، وهم قالوا: يتوضأ بالنبيذ إن كان محدثا، ويغتسل به إن كان جنبا، فعلم بهذا أنه ليس ببدل عن الماء. فإن قل: جميع الظواهر والاستدلالات والقياسات على ما قلتم، وإنما عدلنا إلى الخبر الصحيح المشهور الذي يترك لمثله قياس

الأصول، وهو ارواه أبو فزارة العبسي عن أبي زيد - مولى عمروا حريث عن ابن مسعود أنه قال: كنت مع النبي عليه السلام ليلة الجن، فقال: (يا عبد الله أمعك ماء؟). فقلت: لا، معي نبيذ، فأخذه وقال: (تمرة طيبة وماء طهور)، فتوضأ به، وهذا نص، وهذا استدل به أبو حنيفة وشيوخهم. والجواب: أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن أبا فزارة وأبا زيد مجهولان، ولم يعرفهما أحد من أصحاب الحديث.

وقال موسى بن هارون: هذا حديث باطل، ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث عن ابن مسعود إلا أبا زيد هذا، وهو رجل مجهول، - وعندنا - أنه إذا لم يعلم إسلام الرجل وعدالته لم يجز قبول خبره. وقد قيل: إنا أبا فزراة راشد بن كيسان كان نباذا بالكوفة، فروي هذا لنفق سلعته. فإن قيل: فقد روى سفيان الثوري عن أبي فزارة، فدل على أنه ثقة معروف. وأما بيعة النبيذ فلا يرد به خبره؛ لأن شرب النبيذ حلال كالماء، وليس هذا إلا كبيعه الخل وغيره من المائعات.

قيل: نقل الثوري عنه لا يدل على كونه ثقة، كما روى الشعبي عن حارث الأعور، قال: كان والله كذابا. وأما جواز شربه - عندكم - فإن بيعه من الخاساسات والأكساب الدنيئة، وقد ترد شهادة من يسقط المروءة، وكذلك نقول فيمن يتعاطى شرب المسكر جهارا ويسقط مروئته، ولعل أكثر من يعتقد هذا المذهب لا يستحسن لنفسه الإدمان عليه، فضلا عن بيعه والمجاهرة بشربه، وبيعه على السفهاء الذين لا خلاق لهم يخونون به. ثم قد وقع الاضطراب في الحديث أيضا فقيل: أبو زيد، وقيل؛ زيد، وقيل: أبو زياد، وأبو زيد. وأيضا فلو كان الخبر صحيحا لنقله الثقات الإثبات من أصحاب

عبد الله بن مسعود مثل علقمة، والأسود؛ لأنه من مفاخر عبد الله انفراده مع النبي عليه السلام لية الجن بحث لم يحضراه أحد من الصحابة غيره، فلما لم ينقل هؤلاء الخبر علم أنه لا أصل له. وأيضا فإن ابن مسعود سئل عنه فأنكره؛ لأنه روى إبراهيم النخعي عن علقمة قال: قلت لعبد الله: هل كنت مع النبي عليه السلام ليلة الجن؟. فقالا: لا، وددت أني كنت معه. قال: فقلت: إن الناس يقولون إنك كنت معه. فقال: فقدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة، فقلنا: اغتيل أو استطيل - أي

قتل -، فبتنا بشر ليلة بات بها أهلها، فلما أصبح أقبل من ناحية حراء وذكر أن داعي الجن أتاه، فقرأ لهم القرآن. فكما رووا عنه أنه قال: كنت معه، فقد روي عنه أنه قال: ما كنت معه، فتعارضنا. فإن قيل: خبرنا مثبت فهو أولى. ثم يجوز أن يكون نسى فقال: ما كنت. وعلى أنه قد كان للجن غير ليلة، فلعل هذه الليلة التي قال فيها: ما كمنت، هي ليلة منها. قيل: إن قولكم: إن خبرنا مثبت، فإنا كلانا نثبت؛ لأنه من روى أنه كان مع النبي عليه السلام أثبت كونه معه، ومن روى أنه لم يمكن معه أُبت كونه مع الصحابة فهما سواء. وعلى أن هذا ليس من حيث المثبت والنفي؛ لأن الذي أثبت ههنا هو ابن مسعود، وهو الذي ينفي، ويقول: ما كنت. وليس هو قول الراوي عنه: إنه كان، ويقول آخر: إنه لم يكن. وقولكم: يجوز أن يكون ابن مسعود نسى، فهذا يبعد؛ لأن ليلة الجن مشهورة معروفة،

ولا يظن بمثل ابن مسعود حضورها فينسى، كما يبعد أن ينسى رجل امرأة ولدت له أولادا وماتت فورثها. وقولكم: قد كانت للجن ليال فلعل ابن مسعود لم يحضر ليلة منها فسئل عنها فقال: ما كنت. فإنا نقول: إن قال نقلة الأخبار والتواريخ إنها كانت ليالي نظرنا فيه. على أن هذا لا يقع فيه نزاع بين أصحاب عبد اله حتى يسألوه. فإن قيل: فإننا نستعمل الرواتين فنقول: من روى عنه أنه كان معه، أي في أول الليل، ثم رجع في آخره، ومن روى عنه أنه لم يكن، يعني في آخر الليل ووقت الصبح. قيل: هذا غلط؛ لأن من روى أنه كان معه أثبت كونه معه في آخر الليل وقت الصبح. فروى أبو فزارة عن أبي زيد - مولي عمرو بن حريث.

وقد روى أيضا من طريق آخر عن سعيد عن عمروا بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن ابن مسعود أنه كان مع النبي عليه السلام ليلة الجن.

وعن ابن المبارك عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله أن النبي عليه السلام ناداه ليلة الجن.

وعن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق

عن أبي عبيدة عن أبيه قال: كنت مع النبي عليه السلام ليلة الجن فقال لي: (التمس ثلاثة أحجار)، فوجدت حجرين وروثة. وعن معمر عن أي إسحاق عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود أن النبي عليه السلام ذهب لحاجته فأمر ابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار. فجاء بحجرين وروثة.

فأما حديث ابن عباس فرواه ابن مصفى عن أبي عمرو بن سعيد عن ابن لهيعة عن قيس بن

الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود الحديث، وقال فيه: فتوضأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: (هذا شراب وطهور).

وأما حديث أبي رافع فرواه أبو الحسين بن أحمد بن أبي بشر السراج، ومحمد بن عبدوس قالا: حدثنا محمد بن عباد المكي عن أبي سعيد - مولى

بني هاشم - عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود أن النبي عليه السلام قال ليلة الجن (أمعك ماء؟). قال: لا. قال: (معك نبيذ؟). قال: نعم. فتوضأ به.

وأما حديث أبي وائل فرواه أبو العباس الفضل بن صالح الهاشمي عن الحسين بن عبد الله

العجلي عن أبي معاوية محمد بن حازم عن الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: كنت مع النبي عليه السلام ليلة الجن، فأتاهم فقرأ عليهم القرآن. قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أمعك ماء يا بن أم عبد؟) قلت: لا والله يا رسول الله إلا إداوة فيها نبيذ. فقال: (تمرة طيبة وماء طهور). فتوضأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحديث أبي زيد بإسناده معروف.

وقد روي هذا عن ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، ولا نعلم أحدا من الصحابة روى عنه خلاف هذا. والحديث عن علي أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ. وعن الحسن مثل ذلك.

والجواب: أن الناس قد طعنوا على هذه الأحاديث المروية عن أبي زيد، وأنا أذكر ما قيل في كل واحد منها. فأما حديث أبي رافع، فأبو رافع مجهول، وعلي بن زيد الذي روى عنه ضعيف. وأما حديث أبي وائل فروايه الحسين بن عبد الله العجلي قيل: إنه يضع الحديث.

وأما حديث ابن عباس فرواه عنه حنش الصنعاني، وهو ضعيف ورواه عن حنش قيس بن الحجاج، وهو مجهول. وأما حديث أبي عبيدة عن عبد الله فقد قيل: إنه لا يصح له سماع من أبيه. والذي ذكروا من أن ابن مسعود قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحجرين وروثة، فإن هذا كان ليلة الجن، فقيل له: إن هذا حديث آخر عن وكيع عن إسرائل عن أبي إسحاق عن عبد الله قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلب ثلاثة أحجار وذكر الحديث، فكيف يجوز أن يخلط هذا بليلة الجن؟؛ لأن هذا حديث معروف ليس فيه ذكر ليلة الجن.

والجواب عما ذكروه من الرواية عن علي وابن عباس وغيرهما، فإنه لا يعرف خلاف هذا، فأول ما يقال فيه: إن حديث علي رواه الحارث الأعور، فلا يلزم القول به، والمحفوظ عن علي رضي الله عنه خلاف هذا، وهو قوله بحضر الصحابة لا ينكره أحد: لا لا أوتى بشارب خمر أو مسكر إلا حددته، ولم ينقل عن أحد من الصحابة جوازه. وقال: جماعة من علماء الحديث: إن الحديث المروي عنه في ذلك لم يثبت. على أنه لو ثبت لم يخل إما أن يستدلوا به إجماعا أو توقيفا. فإن استدلوا به إجماعا لم يصح؛ لأننا قد نقلنا عن عمر وابنه

عبد الله أنهما قالا: النبيذ نجس لا يجوز شربه، وإذا كان عندهما نجسا لم يجز عندهما التوضؤ به. وإن استدلوا به من حيث التوفيق أنهم ما قالوا ذلك إلا توقيفا قلنا: يجوز أن يكونوا قالوه نم الظاهر؛ لأنه - تعالى - قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فقالوا: في النبيذ ماء فجاز التوضؤ به. أو يكونوا قالوا بجوازه لحديث عبد الله بن مسعود، وقد بينا فساد الدلالة منه بما بيناه من تركهم ماء البحر بالنبيذ، وأبو حنيفة لا يتركه به. قيل: لم يرو هذا، وقد روي عن أبي العالية كراهية ذلك، فروي عنه أنه سئل عن رجل أجنب ولي عنده ماء أيغتسل بالنبيذ؟ فكرهه.

فقيل له: أرأيت ليلة الجن؟. فقال: أنبذتكم هذه؟. إنما كان ذلك زبيبا وماء. وقد ثبت عن جمهور الصحابة تحريم النبيذ، فأي خلاف يكون أكثر من هذا؟. ولعل النقل في منع التوضؤ بالنبيذ مما يقل لشهرة المنع منه، كما قل النقل في التوضؤ بالخمر والمياه النجسة. على أننا نقول: لو صح كون عبد الله مع النبي عليه السلام ليلة الجن لكان الجواب عن الخبر من وجوه: أحدهما: أنه لا دلالة في ظاهره؛ لأن قوله عليه السلام: (تمرة طيبة وماء طهور) يقتضي أن يكون في الحال تمرا وماء، ولا يكون نبيذا، وعلى ما يقولون قوله: (تمرة طيبة وماء طهور) على المجاز، أي: كان تمرا طيبا وماء طهورا. فإن قيل: قال عبد الله بن مسعود: معي نبيذ. قيل: له تأويلان: أحدهما: أن قوله: معي نبيذ. أي: ماء منبوذ. والثاني: أي يؤول إلى نبيذ، كقوله - تعالى -: {إني أراني أعصر خمرا}، وكقوله: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد

رأيتموه}، رأوا أمارته، وكقوله: {حتى إذا حضر أحدهم الموت}. فإن قيل: فنحن نقول: تمرة طيبة وماء طهور، أي كان لا في الحال؛ بدليل قول عبد اله: معي نبيذ. قيل: إذا لم يكن بد من تحقيق أحد الكلامين، فتحقيق قول النبي عليه السلام، وتأويل قول عبد الله أولى، فنحمل قول عبد الله على المجاز بالتأويل بقول النبي عليه السلام، وقوله: (تمرة طيبة وماء طهور). فإن قيل: فقد نفى عبد الله أن يكون معه ماء. ألا ترى لما سأله عليه السلام: (هل معك ماء؟)، قال: لا. فعلم أنه كان نبيذا لا ماء منبوذا، أو نبذ فيه تمر. قيل: الجواب عنه تأويلين: أحدهما: وقد ذكرناه أنه قال: لا. يعني الماء للتوضؤ؛ لأن الماء الذي كان معه للشرب؛ لأن مياههم كان فيها ملوحة، فكانوا يستعذبونها بالتمر للشرب، ويتوضؤون بها غير مستعذبة، فلهذا قال: ليس معي ماء لم ينبذ فيه تمر. والثاني: أن الخبر منسوخ؛ لأن ليلة الجن كانت بمكة في صدر

الإسلام، وقوله عز وجل: {فلم تجدوا ماء} متأخر؛ لأنها نزلت في غزوة المريسيع حيث فقدت عائشة - رضي الله عنها - عقدها، فاشتغلوا به حتى فتتهم الصلاة، فأنزل الله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، والمتأخر - عند أبي حنيفة - ينسخ المتقدم، سواء كان المتأخر عاما أو خاصا. على أننا نقول: لو لم يكن منسوخا لم يسع الحجاج به؛ لأن النبي عليه السلام توضأ بنبيذ التمر التي منه لا المطبوخ؛ لأن العرب لم تكن تطبخ الأنبذة - وعند أبي حنيفة - لا يجوز التوضؤ بالني، وإنما يجوز بالمطبوخ المسكر. فإن قيل: يجوز - عندنا - أن سنسخ الأصل ويبقى الفرع. قيل: لا يجوز - عندنا - أن يثبت الفرع ويرتفع الأصل. ألا ترى

أن القياس في الأرز على البر صحيح، ولا يجوز لأحد الربا في الأرز الذي هو فرع للحنطة ويسقط حكم البر. فإن قيل: النسخ لا يكون بالاحتمال، سيما إذا أمكن الاستعمال. وعلى أن هذا يكون نسخا للسنة بالقرآن، وهذا لا يجوز. قيل: لم ينسخ بالاحتمال، فإذا ثبت لنا التاريخ لم يبق هناك احتمال. ألا ترى إلى قول الراوي: كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من فعل النبي عليه السلام.

وقولهم: إن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز فإنه يجوز - عندنا -، ولو قلنا: إنه لا يجوز لقلنا: إن إباحة النبيذ بالقرآن في سورة النحل، ثم نسخ بما ذكرناه. وقولهم: إن الاستعمال ممكن فليس كذلك؛ لأن النبيذ منعوا شربه منعوا التوضؤ به. وجواب آخر: وهو أن هذه قضية واحدة في عين، فيحتمل أن يكون قول ابن مسعود: توضأ به، أي غسل شيئا كان عليه أراد أن يزيله به لا لصلاة، وهذا يسمى وضوءا. فإن قيل: روى أنه توضأ وصلى. قيل: غسل الذي قلناه، وصلى بوضوء متقدم. وإذا احتمل ما قلناه، واحتمل ما قلتموه لم يعترض به على عموم الآية والأخبار. وأيضا: فليس عند أبي حنيفة أن أفعال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الوجوب. وأيضا: فهم أبعد الناس نم هذا؛ لأنهم يزعمون أن الزيادة في النص نسخ، والله - تعالى - نص على الصعيد عند عدم الماء، فإذا قالوا: معناه فلم تجدوا ماء ولا نبيذا فقد زادوا في النص بخبر واحد، وهذا نسخ.

وهو مع هذا خبر ضعيف على ما بيناه، وقد ألزمونا هذا في الشاهد واليمين. فإذا قالوا: فإذا فعلتم هذا في اليمين مع الشاهد، وفي التغريب مع الجلد فلم تمتنعون منه ههنا؟. قيل: إنا أنكرنا عليكم انتم؛ لأنكم لا تجوزونه، ونحن نجوزه. فأما امتناعنا نحن منه ههنا فليس لأنه زيادة في النص، ولكن لما سمعتموه من الدلال. مع أننا وإن زدنا التغريب مع الجلد فلم نسقط شيئا ورد به القرآن، وأنتم إذا استعملتم النبيذ أسقطتم التيمم مع وجوده لا محالة. وهذا إسقاط لشيء من القرآن في غير موضعه. فإن قيل: قولكم إن النبيذ كان نيا فقد خالفتم الخبر لا يلزمنا؛ لأن النبي عليه السلام لم يستفسر ابن مسعود عنه، هل هو ني أو مطبوخ؟. فصار كالعموم، ثم قامت الدلالة على تخصيصه، فلم يجز الني وبقي المطبوخ. وقد يجوز أيضا أن يكون نيا كما زعمتم فكان يجوز هو والمطبوخ، ثم لما خص النبي عليه السلام التي بالمنع بقي الباقي على الجواز على ما دل عليه الخبر؛ لأن النبي عليه السلام لم يبين في وقت قيل له: معي نبيذ.

قيل: لا يجوز التخصيص بمثل معنى المخصوص منه، ونحن نعلم أن الطبخ لم يغير من حكمنه شيئا؛ لأن الغلبة من التمر للماء والشدة المخصوصة فيه على ما هي عليه في الني، فإذا لم يجز التوضؤ بالأصل الذي نص عليه وارتفع حكمه كان فيما لم يرد النص فيه وعلة الني فيه موجودة أولى أن لا يجوز. ثم مع هذا فإن النبي عليه السلام كان ينهى عن النبيذ المشتد، وينهى عن الانتباذ في أوعية مخصوصة؛ لئلا يسرع إليها النش والشدة، ويعلم

أن ابن مسعود لا يكون معه نبيذ مشتد وهو ني طاهر بإجماع. فإذا ثبت عنه المنع بالتوضؤ بمثل هذا كان محالا أن يجوزه فيما قد اشتد وقد نهى عن شربه، وصار مختلفا في نجاسته، ويمنع من جوازه في الحلال بإجماع. فإن قيل: إنكاركم علينا نسخ الأصل وبقاء الفرع قد قلتم بمثله في القرعة، فزعمتم أن الأصل فيها قصة مريم، وقوله - تعالى - {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم}، وقوله في قصة يونس: {فساهم فكان من المدحضين}، ثم قلتم إن القرعة لا تصح في الإلقاء في البحر، ولا في الكفالة، فأبطلتموها فيما وردت فيه، وأخذتم بالقرعة منها في القسمة وغيرها.

قيل: اعترفوا بأنكم قد فعلتم ذلك، وأنه منكر، ثم ننظر فيما عملناه نحن. على أننا لم نفعل في القرعة ما ذكرتموه، وإنما الأصل - عندنا الأحاديث المروية عن النبي عليه السلام، وأنه استعمل القرعة في شرعه في قسمة الأرض، والقسم

بين نسائه، وبين العبيد الذين أتقهم الأنصاري عند موته، ولو جعلنا الأصل قصة يونس لكتن كما ذكرتم. فإن قيل: إن خبر ابن مسعود كان قبل تحريم الخمر. قيل: فقد جاء من هذا ما يريد، وأن الوضوء بالنبيذ منسوخ، لأن فيه معنى الخمر. ثم نقول لهم: أنتم أبعد الناس من الاستدلال بمثل هذا؛ لأنكم تزعمون أن الحديث إذا كان خبر واحد وجاء بما لا يطابق الأصول لم يعمل به، وألزمتمونا ذلك في مس الذكر وغيره، ثم وجدنا خبر النبيذ من أشد شيء منافاة للأصول؛ لأننا نجد الخل أخف حالا، وكذلك ماء الزعفران وماء الورد والباقلاء من النبيذ، ومع هذا فلم يجز الوضوء بذلك، فالنبيذ أولى. فإن قيل: إن هذا الخبر لم يعترض على الأصول نفسها، وإنما اعترض على قياس الأصول. قيل: كل شيء رددتموه من أخبار الآحاد فإنما رددتموه؛ لأنه يزاحم الأصول فأما نفس الأصول فلا يبطلها إلا نفس النطق، مثل أن

تكون الأصول مبنية على أن القاتل يقتل، فيرد خبر واحد فيه لا يقتل قاتل. فإن قيل: قد قلتم أنتم بخبر القرعة، وهو ينافي موجبات الأصول؛ لأن العتق إذا توجه إلى جماعة فقد حصل في كل عبد جزء من الحرية، فإن قلتم في ذلك بالقرعة فهو منافاة للأصول بخبر واحد. قيل: إنما ألزمناكم هذا؛ لأنكم أنتم استدللتم به، وأنتم تنكرونه، فلا يلزمنا نحن. فأما قصة العتق فلا نقول: إن العتق وقع على كل واحد منهم، وإنما هو مراعى إلى أن تقع القرعة، كما نقول في الذي لا يملك إلا عبدا واحدا فأعتقه في مرضه إنه موقوف. وأيضا فإنهم يقولون: إن الخبرين إذا وردا وكان أحدهما متفقا على استعماله، والآخر مختلفا في استعماله فالمتفق على استعماله أولى. قالوا ذلك: (فيما سقت السماء العشر)، وليس فيما دون خمسة أو سق صدقة)، وما أشبه ذلك. فقد روينا أخبارا ههنا متفقا

عليها في الاستعمال في الماء إما من حيث النطق، أو من حيث الدليل، ورووا خبر ابن مسعود في النبيذ، وهو مختلف في استعماله. فوجب أن لا يقولوا به. فإن قيل: فقد روى عكرمة عن ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: (النبيذ وضوء من لم يجد الماء) لا، ولا يمكن حمل هذا الخبر على شيء إلا بإسقاطه. قيل: الخبر ضعيف. على أنه يمكن استعماله وتأويله فيحتمل أن يكون أراد الماء الذي يسمى نبيذا، وهو الذي طرح فيه التمر ولم يمنع فيه، وإنما سمي بذلك لما يؤول إليه كقوله: {إني أراني أعصر خمرا}. ويحتمل أيضا أن يكون منسوخا. ويحتمل أيضا أن يريد الوضوء الذي يغسل به الشيء فإنه يسمى وضوءا.

ويحتمل أن يكون أراد غسل اليدين الغمر، فإن النبيذ الحلو يقلع ذلك، ويسمى ذلك وضوءا. كما قال معاذ: كنا نسمي ذلك وضوءا، بالدلائل التي ذكرناها. فإن تعسف منهم متعسف بقياس يذكره فيقول: يجوز الوضوء بالماء الذي فيه تمر قليل، طبخ طبخا لم يتغير فكذلك إذا تغير؛ بعلة أنه ماء طبخ فيه تمر فلم يمنع من استعماله عند عدم الماء. أو نقول: هو مائع يسمى طهورا في الشريعة، يدل عليه: قوله عليه السلام في حديث ابن مسعود: (هو شراب طهور)، وإذا سمي طهورا في الشريعة أشبه الماء. قيل: أول ما في هذا: أن صاحب هذه المقالة يعترف بأنه مخالف للقياس في هذه المسألة، وإنما يحتج بالخبر، وقد قال بعض شيوخهم في شرحه مختصر الطحاوي: إن القياس يمنع - عند أبي حنيفة - من جواز التوضؤ بالنبيذ؛ لاتفاق فقهاء الأمصار على الامتناع من جوازه بالخل والمرق.

وأيضا فهو منتقض به إذا لم يذهب ثلثاه. وقولهم: هو مائع يسمى طهورا فإننا لا نسلم له ذلك، وقد قلنا إن قول النبي عليه السلام - إن صح ذلك عنه - ينصرف إلى الماء الذي فيه تم لم يمنع فيه ولا غيره، وإلا فطهور - عندنا - لا يسمى به غير الماء المطلق. ثم قولهم: فأشبه الماء غلط؛ لأنه لا يجوز مع وجود الماء. ولنا إذا سئلنا ابتداء عن هذه المسألة أن نقول: القياس عليه، فيصير الكلام في هذا الأصل، فإن سلم طرح الخبر إن صح ولم يكن التأويل فيه، وإن قلنا: إن الخبر مقدم فقد ذكرنا ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.

[38] مسألة

[38] مَسْأَلَة لا تجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن وغيرهما إلا بما يجوز التوضؤ به من الماء دون سائر المائعات. وبه قال الشافعي؛ ومحمد ابن الحسن وزفر. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: تزول بكل مائع طاهر. فأما الدهن والمرق فعنه رواية أنه لا تجوز إزالتها به. إلا أن أصحابه يقولون: إذا زالت النجاسة به جاز. وكذلك - عنده - للنار والشمس في إزالتها مدخل، حتى إن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ. وكذلك يقول: إذا كان على الأرض نجاسة فجفت في الشمس فإنه يطهر ذلك الموضع بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب، وكذلك يقول في النار: إنها تزيل النجاسة.

والدليل لقولنا استصحاب الحال، وكون ذلك الشيء نجسا، فمن زعم أنه يطهر بالمائع سوى الماء فعليه الدليل. وأيضا قوله - تعالى -: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}، ففي هذا دليلان. أحدهما: أن الله - تعالى - أخرج هذا مخرج الامتنان والفضيلة للماء، فلو كان غير الماء في إزالة النجاسة في حكم الماء لبطلت فائدة الامتنان بالماء. والثاني: هو أنه لو نص على الماء لينبه على ما عداه من المائعات لوجب أن ينص على أدون المائعات في الإزالة؛ ليكون فيه تنبيه على أعلاها مثل الماء، فلما نص على الماء نم بين سائر المائعات، وخصه بالذكر - وهو أعلاها - علم أنه خصه بالذكر لتخصيصه بالحكم، ثم إنه - تعالى - أكد ذلك بقوله: {ويذهب عنكم رجز الشيطان}، قيل: إنه النجاسة، وإذا كان النص ورد بالماء دل على أنه ما عاداه بخلافه.

وأيضا قوله - تعالى -: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، فدل على أن غير الماء لا يكون طهورا. وأيضا ما روي أن أسماء بنت أبي بكر سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن دم الحيض يصيب الثوب، فقال عليه السلام: (حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء) لا، فأمر عليه السلام بغسله بالماء، والأمر إذا توجه معينا بشيء لم يسقط إلا بالإتيان بذلك المعين، فوجب إذا غسل بغير الماء أن يكون حكم الأمر باقيا على المأمور، وإلا فهو بمنزلة من لم يغسله أصلا؛ لأنه خالف الأمر. ودليله ألا يغسل بغير الماء، فقد حصل من هذا الخبر ثلاثة أدلة: أحدها: أن قوله عليه السلام: (اغسليه بالماء)، لفظه لفظ أمر فهو على الوجوب، ومن عدل عن الماء ترك الواجب. والثاني: أنه موضع تعليم وبيان، فلو كان غير الماء

يزيل ذلك لم يغفله وبينه لها. والثالث: لما نص دل على أن غيره بخلافه. فإن قيل: الأمر توجه إلى الندم؛ لأن الهاء في قوله: (حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه) هي ضمير الدم؛ وإذا غسل الدم بالخل متى ذهبت حمرته لم يبق هناك دم يجب غسله، فوجب أن يسقط عنه. قيل عنه جوابان: أحدهما: أن كلامنا في أن الذي تزال به النجاسة متعين أو لا. وأنتم تقولون: هو مخير بين أن يزيلها بالخل أو الماء، ولا تعينون شيئا. ونحن نقول: إنه متعين إزالته بالماء؛ لأن الخبر يقتضي تعيين الماء، فإذا صح تعيينه بالنص عليه بقوله: (ثم اغسليه بالماء) سقط التخيير. والجواب الثاني: أن الهاء فيه راجعة إلى المحل لا إلى الدم، والمحل موجود، فالأمر عليه باق، وإن زال عين الدم بالخل. فإن قيل: فقد قال عليه السلام: (حتيه ثم اقرصيه)، وليس كل ذلك واجبا. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن دلكه واجب، وهو قرصه حتى يزول بالماء.

والثاني: أن الظاهر يقتضي عموم ذلك، فما خص منه خرج بالدليل، وبقي الباقي من غسله بالماء على ما يقتضيه الخبر. على أن سقوط الحت والقرص من الوجوب لا يدل على أن الغسل بالماء ليس بواجب، كما لم يدل على أن نفس الغسل ليس بواجب. فإن قيل: فإن الأمر بغسله - عندكم - ليس بواجب؛ لأن إزالة الأنجاس ليس بفرض - عندكم -. قيل: في رواية عن مالك أنه واجب. وإن قلنا: إنه ليس بفرض وإنما هو مسنون لم يخرج أن تكون صفة غسله المسنون بالماء دون غيره؛ لأن النص والتعيين وقع فيه على الماء دون غيره. ولنا أيضا ما روي أن أعرابيا بال في المسجد فقال النبي عليه السلام: (صبوا عليه ذنوبا أو ذنوبين من ماء)، والاستدلال منه كهو من الخبر الأول. فإن قيل: إن خبر أسماء قد تناول اليسير من الدم؛ لامتناع حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز في حالة واحدة. قيل: لو كان الحكم يختلف في غسل القليل من الدم والكثير بالماء

لبينه عليه السلام؛ حتى يعلم الفرق بين ذلك، فلما لم يفرق علم أن المسنون والمفروض والمستحب كله بالماء. ولنا من جهة القياس أن نقول: هو مانع من الصلاة، أمر في رفعه بضرب من المائع، فوجب أن يكون ذلك المائع ماء، دليله رفع الحدث. أو نقول: غسله عبادة تعلقت بالصلاة فلم يجزئ بغير الماء المطلق، دليله ماء فع الحدث. فإن قل: الفصل بنهما أن من شرط رفع الحدث - عندكم - النية. قيل: فأنتم لا توجبونها في الجميع. على أن هذه علة لا تتعدى فلا تصح - عندكم - أيضا، وتصح - عندنا -، ولكن المتعدية أولى منها عند اجتماعها. ونقول أيضا: هي طهارة لا تلحق المشقة في اعتبار الماء فيها غالبا فوجب أن لا تجوز بغير الماء. أصله طهارة الحدث. ونقول أيضا: إن المائع إذا لاقى النجس على الثوب والبدن تنجس؛

لأن المائع الكثير إذا حلت فيه نجاسة يسيرة، غيرته أو لم تغيره فإنه نجس كله. فعلى هذا لا يطهر الثوب؛ لأنه كلما غسله بالخل تنجس الخل، فيلاقي النجس النجس، والماء بخلاف ذلك؛ لأن إذا كثر رفع النجس عن نفسه، كما أنه يرفع الحدث. ونقول أيضا: هي طهارة شرعية فوجب ألا تصح بالخل، وماء الباقلاء، ولا الماء كرفع الحدث. أو نقول: هو غسل واجب أن لا يصح بغير الماء، أصله الغسل من الجنابة وغسل الميت. وهذا التعليل إنما يلزمهم في النجاسة إذا كانت على البدن، ولا يلزمهم ذلك في الثوب؛ لأنهم يقولون غسله ليس بواجب.

ولنا أن نقيسه على الدهن والمرق، لأنه لا يزيل النجس، بعلة أنه مائع لا يرفع الحدث فوجب ألا يرفع النجس. أصله ما ذكرنا من الدهن. فإن قيل: - عندنا - أن الدهن والمرق يجوز إزالة النجاسة بهما. قيل: قد قال أبو حنيفة أيضا: إنه لا يجوز. فقولكم: إنه لا يزيل لا يخلو من تريدوا أنه لا يزيل حكمها أو عينها. فإن أردتم أنه لا يزيل عينها فهو دفع المشاهدة؛ لأن النجاسة لو كانت على شيء أملس، وصب عليها الدهن والزيت، وغسلت به انقلع عينها حتى لا يبقى منها شيء. وإن أردتم أنه لا يزيل حكمها فكذلك سائر المائعات - عندنا - لا تزيل حكمها. فإن سلموا أن النجاسة لا تزال بالدموع والعرق قسنا عليه المائعات كلها؛ بعلة أنه ليس بماء مطلق، أو بعلة أنها لا ترفع الحدث. ومن طريق الاستدلال نقول: رأسنا جنس الماء إذا كان كثيرا يدفع الأنجاس عن نفسه إذا لم يتغير، وليس كذلك جنس المائع، فإذا لم يدفع النجس عن نفسه فبأن لا يدفعه عن غيره أولى.

هذا قد ذكره أصحابنا والناس، ولكنهم لا يسلمونه ويقولون: المانع الكثير لا يقبل النجاسة إذا لم تغيره، فيدفعها عن نفسه كالماء، ولكننا إذا اعتبرنا أصولهم كان ما قلناه صحيحا وذلك أن النجاسة أغلظ حكما وأقوى من الحدث أو مثله؛ لأن الماء المزال به النجاسة مسلوب الصفتين - عندهم - من الطهارة والتطهير، فيكون نجسا، أو يسلب التطهير وحده فيكون طاهرا غير مطهر، - وعندهم - أن الماء المستعمل نجس على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف فينبغي أن لا تجوز إزالة النجاسة به. فإن ركبوا قول محمد بن الحسن في أن الماء المستعمل طاهر. قيل لهم: فعلى كل حال إزالة النجاسة أكد - عندكم - من رفع الحدث؛ بدليل أن إنسانا لو كان معه ماء لا يكفيه لرفع الحدث وإزالة النجس جميعا، وهو يكفي لأحدهما فإنه يزيل به النجس ويتيمم للصلاة، فإذا كانت إزالة النجس أقوى ولم يرتفع الحدث بالمائع فأولى ألا يزول به النجس. وأيضا فإن تيمم المحدث يسقط الفرض، وتيمم من عليه نجاسة لا

يسقط الفرض، فإن صلى وعليه النجاسة كانت عليه الإعادة، فعلم بهذا أن إزالة النجس - عندهم - أغلظ وأقوى من رفع الحدث -، فلما كان الحدث الذي هو دونها لا يرتفع إلا بالماء دون سائر المائعات غيره كانت النجاسة التي هي أقوى أن لا ترتفع بالمائعات غير الماء. وأما على أصولنا فإن إزالة النجاسة أخفض من إزالة الحدث لا محالة؛ لأن الناس اختلفوا في وجوب إزالة النجس. فقال بعضهم: فرض، وقال بعضهم مسنون، ولم يختلفوا في فرض إزالة الحدث. وإزالة النجس لا تفتقر إلى نية، ورفع الحدث يفتقر إلى نية - عندنا - غير أن إزالة النجس طهارة من أجل الصلاة، ورفع الحدث طهارة، وليس قوة إحدى الطهارتين على الأخرى بمخرج لها عن الماء إلى المائع. ألا ترى أن الوضوء من الحدث طهارة، وغسل الجنابة طهارة، وهو أقوى من الوضوء؛ لأن فيه غسل جميع البدن، ومع هذا فقد استوى حكمها في الماء، فكذلك يستوي حم إزالة النجس والوضوء في الماء، وإن كانت إزالة النجاسة أضعف من الوضوء. فإن قيل: قد قال النبي عليه السلام في المستيقظ من النوم: (لا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا)، ولم يخص غسلها بشيء من المائعات، فهو عموم.

وقال في الولوغ: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله). وقال لعمار: (إنما يغسل الثوب من المني والدم والبول)، ولم يخص شيئا مما يغسل به، فوجب إجراؤه على عمومه في كل ما يتأتى به الغسل إلا ما خصه الدليل. قيل: هذه عمومات يقضي عليها نصه على الماء في حديث أسماء،

وهو قوله: (ثم اغسليه بالماء)، دليله ألا يغسل بغير الماء. فإن قيل: قد روي عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله، إني امرأة أطيل ذيلي، فأجره على المكان القذر. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يطهره ما بعده)، وليس ما بعده إلا الأرض والتراب.

على أن الغرض من الأخبار الغسل، ثم بماذا يغسل مأخوذ نم قوله: {وأنزلنا من المساء ماء طهورا}، وقوله: {ليطهركم به}، وقوله لأسماء: (ثم اغسليه بالماء)، وغسل الإناء من ولوغ الكلب - عندنا - ليس بنجاسة، وإنما هو عبادة بالماء. وأيضا قوله عليه السلام: (إذا أصاب خف أحدكم أذى فليدلكه بالأرض). وروي: (فليمسه).

وأيضا فقد روي أن عائشة - رضي الله عنها - أصاب ثوبها الدم، فبلته بريقها ومصته، فدل على أن الريق يزيل النجاسة. قيل: أما قوله عليه السلام لأم سلمة: (يطهره ما بعده) أراد به إذا علق به النجس اليابس، وجرته على التراب انقلع؛ بدليل أن النجاسة الطرية إذا أصابت ثوبا أو خفا أو نعلا لم تزل بالدلك وغيره بإجماع. وقد وافقونا على أن التراب لا يزل النجس في غير المخرج، فصال للحديث معنى، وهو ما ذكرناه.

فإن قيل: فما معنى قوله: (يطهره ما بعده)؟. قلنا: لو بقي في الثوب لم يجز أن يصلي به حتى يلقيه، كما لا يصلي إنسان وهو حامل للميتة أو غيرها من الأنجاس؛ لأن الثوب نفسه نجس. ثم نتأول بتأويل آخر فنقول: يجوز أن يصيب ثوبها شيء نجس رطب فيطهره ما بعده إذا كان ماء واقفا في طرق وانجر الثوب فيه؛ لأن الغريبة من النساء تجر الثوب خلفها نحو الذراع وأكثر، وإذا احتمل هذا خصصناه بما ذكرناه من قوله عليه السلام لأسماء في الماء. وأما قوله عليه السلام في الخف يصيبه الأذى. معناه من أرواث الدواب والبغال والحمير؛ لأن الغالب كونها في الطرقات، وهي - عندنا - مكروهة لا نجسة، وليس الغالب أن الناس يتغوطون ويبولون في الطرقات إلا في الجوانب. ويجوز أن يريد النجاسة اليابسة أيضا بدليل ما ذكرناه من الآيات، وخبر أسماء في الماء. وأما حديث عائشة في بل الدم بالريق ومصه، فإنه في دم يسير

معفو عنه لو لم تزله؛ بدليل أن الكثير لا يمكن بله بالريق ولا إزالته به. ثم يجوز أن يكحون مصته ثم غسلته بعد ذلك، كما قال عليه السلام لأسماء: (حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء). فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {وثيابك فطهر}، ولم يخص ما يطهر به. وأيضا فإننا نفرض المسألة في هل يجوز أن تطهر النجاسات بغير الماء؟. فإن سلمتم لنا ذلك سلمت المسألة. قالوا: ولعاب الهر مائع طاهر، ثم قد اتفقنا على أنها لو أكلت ميتة، ثم ولغت في إناء لم تنجسه، ولم نجد ههنا ما أزال تلك النجاسة إلا لعابها فدل على ما ذكرناه. قيل: أما قوله - تعالى -: {وثيابك فطهر}، لا نسلم أنها تطهر بغير الماء، ولكنها تطهر بما ذكره - تعالى - من قوله - تعالى -: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به {، وبما ذكره لأسماء.

على أن قوله {وثيابك فطهر} معناه - عندنا -: وقلبك فنقه على ما ذكره ابن عباس، ولم يرد به طهره من نجاسة. وأما ولوغ الهر فلا يلزمنا من وجوه: أحدهما: أن نفس لعابها لو كان نجسا وحل في الماء لم يغيره وهو طاهر كسائر الأنجاس التي لا تغير الماء، فكيف ولعابها طاهر؟. ولو بقي في فمها شيء من دم الميتة، فشاهده، ثم حصل في الماء ولم يغيره لكان الماء طاهرا - عندنا -. ثم لا يلزم أيضا لغيرنا ممن ألزموه؛ لأنهم على ضربين: منهم من يقول: إن لم تبرح الهر بعد أكلها الميتة حتى شربت من الإناء فإنه نجس، وإن غابت ثم رجعت فشربت من الإناء كان طاهرا؛ لجواز أن يكون قد شربت في غيبتها ماء فغسل ما فيها. ومنهم من يقول: هذه حال ضرورة، ولا يمكن الاحتراز منها؛ لأنها من الطوافين عليكم، فعفي عن ذلك للضرورة، كما عفي عن دم البراغيث.

فإن قيل: رأينا المحرم ممنوعا من استعمال الطيب على بدنه، فلو أنه أطلى بخلوق لأجزاه أن يزيله بالخل، كما يجزئه بالماء، فدل على أن المائعات تعمل عمل الماء في العبادات غير إزالة الحدث. ولأنها عين استحق إزالته لحرمة عبادة فأشبه إزالة الطيب نم ثوب المحرم. وأيضا فإذا أزيلت بمائع طاهر فإنها عين من النجاسة قد عدمت من الثوب في حال الصلاة فوجب أن يحكم بجوازها. دليله القطع، يعنون إذا قطعت عين الموضع من الثوب. قيل: أما زوال الخلوق من ثوب المحرم بالخل فهو دعوى، ولا أعرف فيه نصا عن مالك رضي الله عنه. فإن قلنا: إنه لا يزول إلا بالماء سقط السؤال. وإن قلنا: يجوز. فليس الطبيب نجسا يمنع من الصلاة فيه، وإنما منع منه مع كونه طاهرا؛ لئلا يلتذ بريحه فتدعوه نفسه إلى الجماع، أو يخرج به عن قشف الإحرام ومتعته، وخلافنا وقع في إزالة نجس، فإن كان ذلك من أجل سقوط الفدية وجبت بحقوله إن علم به ولم يزله، وإن أزاله فهو كما يزيله بالماء النجس، فإن الفدية تسقط كما تسقط بزواله بالخل، والأنجاس فلا تزول بالماء النجس. وأما قطع موضع النجاسة فهو أبلغ من الماء؛ لأن العين والأثر ينقلع لا محالة، فلا يحصل مصليا بما فيه خلاف، كما لو طرح الثوب جملة ولم يصل فيه. وإذا غسله بمائع فإن النجس - عندنا - لم يفارقه؛ لأن المائع ينجس، فإن انقلعت تلك العين النجسة خلفتها نجاسة أخرى، فهو كما يزيل العين بالبول.

فإن قيل: فإنه مائع طاهر فجاز إزالة النجاسة به أصله الماء. وأيضا فإن الخمر إذا انقلبت خلا فقد طهرت هي والدن جميعا. ونحن نعلم أن الخمر كانت نجسة والدن نجس، ولم يطهره إلا الخل الذي انقلبت عينه من الخمر، فدل على أن الخل يزيل النجاسة. وأيضا فإن الحكم إذا ثبت بمعنى زال بزوال ذلك المعنى. الدليل على ذلك الأصول كلها، فلما تقرر أن المنع من الصلاة كان لوجود عين النجاسة على البدن والثوب، وقد نفدت العين وعدمت المشاهدة إذا أزيلت بالخل فوجب أن يرتفع المنع منها. قيل: أما القياس على الماء، فإن المعنى في الماء أنه يرفع الحدث، والمائعات سواه لا ترفع الحدث. وما قالوه من نجاسة الدن وزوالها بالخل، فإننا نقول: إن الدن جامد كان طاهرا قبل حدوث الشدة في الخمر، وإنما حصل على وجهه أجزاء نجسة من الخمر، فإذا انقلبت الخمر خلا انقلبت تلك الأجزاء أيضا خلا، فلم تزل باخل أصلا، وإنما انقلبت كما انقلبت نفس الخمر، فوزان مسألتنا: أن تصيب الثوب نجاسة، فتنقلب عينها فتصر طاهرة، فنقول: إن هذا لا يحتاج إلى غسل. ثم نقول: لو كان الدن إنما طهر بالخل على طريق الغسل لوجب أن لا يحكم بطهارته، ولا بطهارة ذلك الخل. ألا ترى أن إناء لو كان فيه بول أو دم فصب عليه الخل حتى ملأ الدن، فإن الخل ينجس ولا يطهر الإناء، فعلمنا أن الدن لم يطهر بكون الخل فيه، وإنما طهر بما ذكرناه. ويبين ذلك: أن الدن لو جرد حتى تنقلع منه تلك الأجزاء لحكمنا بطهارته؛ لأن الأجزاء النجسة زالت عنه.

ثم نقول أيضا: إن من مذهبهم أن الماء الذي تغسل به النجاسة يكون نجسا، فكيف بالخل؟. فلو كان الدن إنما طهر بغسل الخل له لوجب أن يكون ذلك الخل نجسا. ألا ترى أنه لو كان الدن نجسا بالخمر ثم غسل بخل آخر لم يطهر وينجس الخل. وقولهم: إن الحكم إذا وجب لعلة زال بزوالها باطل على مذهبهم بعظم الخنزير أو شعره إذا غمس في الماء فإن الماء نجس بوجوده فيه، ثم إذا أخرجه منه زالت العين ولم تزل نجاسة الماء، وقد ارتفعت العلة ولم يرتفع الحكم، وقال بعضهم: قد يبقى في الماء جزء لطيف فلهذا بقيت نجاسة الماء، وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا ينحل من الشعر شيء. فإن قيل: النجاسة التي حصلت لأجله قد زالت بزواله ولكن تعقبته علة أخرى، فهو نجس بمعنى آخر؛ لأن العلة تخلف العلة. قيل: نحن كذلك نقول: إن الخل إذا لاقى النجاسة زالت تلك النجاسة، ولكنه يصير الخل نجسا فيصير الكل نجسا فلم يزل حكم النجاسة. على أننا نقول: إن العين لو انقلعت بالخل لم نقل: إن أثره ينقلع. ولو قلنا: إنه لم تكن العلة وجود النجاسة حسب لجاز؛ لأننا نقول: إنه قد كان يجوز أن نتعبد بترك زوالها، وإنما منعنا الشرع، فقد صار

الشرع أوجب ذلك مع وجودها، فإذا زال وجودها لم يزل الحكم إلا بشرع. فإن قيل: إن الشرع قد أوجب زوالها لما حدثت. قيل: إن الشرع قد يوجب الحكم لوجود شيء، ثم يزول ذلك الشيء فلا يزول الحكم، مثل: المطلقة ثلاثا، قال الله - تعالى -: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره}، ثم قد تنكح فلا تحل لعلة أخرى، وهكذا الحائض لا يجوز وطؤها لأجل الدم، ثم ينقطع الدم لأكثر مدة الحيض فلا يحل وطؤها لعلة أخرى، وهي الغسل. فإن قيل: إن المقصود من إزالة النجاسة إزالتها حسب من غير تعبد؛ بدليل أنه لو جاء عليها مطر لطهر الموضع، فإذا كان المقصد فيها إزالتها حسب كان الخل أبلغ في باب الإزالة، وكان إزالتها به أولى. وأيضا فقد حصل الإجماع بأن لغير الماء مدخلا في إزالة النجاسة، وهو الاستنجاء بالأحجار. وأيضا فإن النص ورد في الاستنجاء بالأحجار ثم أقيم غيرها مقامها، كذلك أيضا لا ننكر أن يقوم مقام الماء غيره في إزالة النجاسة. قيل: قولكم إن المقصود من إزالة النجاسة زوالها لا تعبدا فإننا نقول: إنه لابد من اعتبار معنى آخر مع إزالتها. ألا ترى أنه لو أزالها

بالدهن والمرق زالت العين ولم يحكم بزوالها. على أن قولكم: لا تعبد فيها محال؛ لأن الإزالة وجبت من طرق الشرع، وتعبدنا بأن لا نصلي والنجس في ثيابنا وأبداننا. وقولهم: إن غير الماء يزيل النجاسة كالأحجار في الاستنجاء فإننا نقول: إن الحجر في الاستنجاء لا يزيل النجاسة، وإنما يخففها، والنجاسة باقية سومحنا بذلك. ألا ترى أنه لو عرق بعد المسح بالحجر، نفسه لا يزيل النجاسة الرطبة من غير هذا الموضع، فعلم أن الاستنجاء مخصوص. ألا ترى أن الاستنجاء - عندنا وعندكم - غير واجب، وإزالة النجاسة - عندكم - في غيره واجب. وقولهم لما أقيم غير الحجر مقام الحجر في الاستنجاء مع ورود النص في الحجر، كذلك في غير الماء من المائعات فإننا نقول: عنه جوابان: أحدهما: أن النص هو في حكم الحجر. والثاني: أن النص ورد في الحجر وأقيمت الجامدات الطاهرات مقامه؛ لأنها في معناه؛ لأنها طاهرة، والحجر طاهر، وليس كذلك

المائعات مع الماء؛ لأنها ليست في معنى الماء الذي هو طاهر مطهر، والمائعات طاهرة غير مطهرة، فلم يجز أن تقوم مقامه. فإن قيل: قد قلتم إن الأرض إذا وقعت عليها نجاسة، وطلعت عليها الشموس ومضت عليها دهور فإنها تطهر، فقد زالت النجاسة بغير الماء - عندنا وعندكم -. قل: إن كانت أرضا صلبة لا رمل ولا تراب فإنها لا تطهر، وإن كان عليها رمل أو تراب كثير يعلم أن النجس لم يصل إلى الأرض ثم جاءت الرياح فأزالت ذلك فإن عين النجس وأثره يزول ولم يكن وصل إلى الأرض، اللهم إلا أن تكون الأرض المكشوفة يعلم أن الأمطار قد جاءت علها فأزالت عين النجاسة وأثرها فإنها تطهر، فلم يلزم ما ذكروه. فذكرنا ظواهر واستدلالات وقياسات، وذكروا مثل ذلك فما قلنا أولى؛ لأن النصوص وردت في طهارة الماء وتطهيره، ووجد العمل على استعماله في الطهارات إلا الموضع المخصوص من الاستنجاء، ولأنه أحوط لزوال الخلاف، ولأنه موجب للماء وهم يخيرون بين الماء وبين المائع، ولأنه يسقط حكم الصلاة بيقين، وهم يسقطونها بخلاف.

[39] مسألة

[39] مَسْأَلَة وليس للماء الذي تحله النجاسة، عندنا قدر معلوم، ولكنه إن تغير طعمه أو لونه أو ريحه منها فهو نجس، قليلا كان الماء أو كثيرا، ولا خلاف في التغير. وإن لم يتغير طعم الماء ولا لونه ولا ريحه فهو - عندنا - طاهر، قليلا كان الماء أو كثيرا. وبه قال الحسن، والنخعي، وداود. وقال أبو حنيفة: الاعتبار بالاختلاط، متى اختلطت النجاسة بالماء نجس الماء إلا أن يكون كثيرا، وحد الكثرة - عنده - هو أنه إذا

حرك أحد جانبيه لم يتحرك الجانب الآخر، فإذا وقعت النجاسة في هذا الماء فالجانب الذي لم يتحرك لم ينجس، وأما الجانب الذي تحرك وحلت النجاسة فيه ففيه روايتان. أصحهما: أنه نجس إلى الموضع الذي تحرك منه، ويعلم انتشار النجاسة إليه. والرواية الثانية: أن الكل ظاهر، حكاه شيخ من شيوخهم يرجع إليه في مثل هذا، فلا يعتبر أبو حنيفة التغيير. وقال الشافعي: إنه إن كان الماء دون القلتين نجس وإن لم يتغير، وإن كان قلتين فصاعدا لم ينجس إلا بالتغيير، وبه قال أحمد، وإسحاق.

والدليل لقولنا: كون الماء طاهرا قبل حلول النجاسة فيه، فمن زعم أن حكمه قد زال فعليه الدليل. وأيضا قوله - تعالى -: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، وقد بينا أن الطهور صفة للطاهر المطهر، ولم يخص ماء من ماء، فهو على عمومه حتى يقوم الدليل. وكذلك قوله - تعالى -: {وينزل عليكم من السماء ما ليطهركم به}، فهو عام في كل ماء، قليلا كان أو كثيرا حتى يقوم الدليل. وأيضا فإن الخلاف في رجل معه ماء دون القلتين، ودون الغدير، فيه نجاسة لم تغيره أراد الوضوء من الحدث، قالوا: يتيمم. وقلنا: يتوضأ به ولا يتيمم؛ لأن الله - تعالى - قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا واجد لماء؛ لأن النفي في النكرة يتناول النجس، فدليله أنه إذا وجد ماء أي ماء كان لم يتيمم إلا أن يقوم دليل. وأيضا ما روى أن النبي عليه السلام قال: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه) فأخبر أنه لا ينجسه إلا ما غيره، والألف واللام في الماء للجنس. فإن قيل: هذا يتناول المياه كلها، والجنس كله لا ينجسه إلا ما غيره، وليس بعض الجنس هو الجنس كله.

قيل: هذا ساقط بالإجماع، وإنما أراد أن هذا الجنس من الماء مخالف لما سواه من المائعات. ألا ترى أن قليله ينطلق عليه اسم الماء، فإن لم تحله نجاسة كان طاهرا مطهرا بإجماع يجوز استعماله، كالكثير منه، وإن لم تغير لم يجز بالإجماع كالكثير منه. كما أن جنسه مرو، وجنس الخبز مشبع، فكل جزء منه له هذا الحكم. وأيضا فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الحياض ترد عليها السباع والكلاب، فقال: (لها ما أخذت في بطونها، ولكم ما غير شراب وطهور). وسؤر الكلب - عند المخالف - نجس، وقد يكون من الحياض ما فيها من الماء قليل دون الغدير، ودون القلتين، وتنتشر في جميعه، فلو كان الحكم يختلف لبينه عليه السلام، فلما لم يخص دل على عمومه إلا أن يقوم دليل. وأيضا فإن النبي عليه السلام أمر بصب ذنب أو ذنوبين على بول الأعرابي في المسجد، وقد علمنا أنه عليه السلام أرد تطهير المكان بهذا القدر من الماء، ولا يطهر إلا بزوال النجاسة، (ولم تزل إلا بزوال

النجاسة)، ولم تزل إلا بغلبة الماء الذي هو دون المقدار الذي يعتبره المخالف، ومعلوم أن هذا القدر من الماء لا يزيل النجس إلا وقد حل فيه النجس أو بعضه، وإذا حصل النجس فيه لم يكن بد من أن يحكم له بالطهارة؛ لأنه لم لوم يطهر لكان نجسا، ولو كان نجسا لما زال حكم النجاسة عن الموضع؛ لأنه كلما لاقى النجس الماء نجسه، وإذا نجسه لاقى ذلك الماء النجس للنجاسة، فأدى ذلك إلى أن لا تزول النجاسة، ولا يطهر المكان. فإن قيل: إن الجزء الأخير من صب الماء هو الذي يطهره. قيل: أليس البقعة نجسة على ما كانت قبل الصبة الأخيرة؟، فإذا لاقاها كل جزء من الصبة الأخيرة تنجس ذلك الجزء من الماء، فلاقى النجس النجس فلم تحصل طهارة البقعة على وجه، فلما كانت البقعة قد طهرت علمنا أنها لم تطهر إلا والماء الذي طهرها طاهر، فبان بهذا الحكم لغلبة الماء على النجاسة. ولنا أيضا ما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل فقيل له: إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي تطرح فيها المحايض ولحوم

الكلاب وما ينجيه الناس. فقال عليه السلام: (الماء طهور لا ينجسه شيء) وهذا نص لم يخص فيه القليل من الكثير. وهو شديد على

أبي حنيفة خاصة؛ لأنه يقول: لو وقعت نقطة نجاسة في بئر عمقها إلى تخوم الأرضين السابعة نجس الماء كله. فإن قيل: إن بئر بضاعة كان ماؤها جاريا. قال الواقدي: كانوا يسقون منها البساتين. قيل: هذا غلط؛ لأن الناس ضبطوا هذه البئر، وذكروها في كتبهم في مكة والمدينة، فلم يقل أحد منهم: إن ماءها كان جاريا.

قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد الثقفي قال: سألت فيم بئر بضاعة فقلت: كم قدر هذا الماء إذا كثر فيها؟. فقال: إلى العانة. فقلت: وإذا نقص؟. فقال: دون العورة. فقلت: هل غيرت عما كانت عليه أولا؟. فقال: لا قال أبو داود: فجئت إليها بعد ذلك فقدرتها بإزاري فكان فتحتها ستة أذرع. فضبطوا أمرها هذا الضبط، ولم يذكروا أنها كانت جارية، ولو كانت جارية لم يذهب عليهم ولا على النبي عليه السلام أن النجاسة إذا ألقيت فيها انحدرت مع الماء، ولم تبق فلا يحتاجون إلى السؤال عنها. ثم لو كانت جارية كانت نهرا، والمنقول في الخبر البئر. وقول الواقدي: كانوا يسقون منها البساتين فلا يمتنع أن يسقى منها بالدالاء والنواضج كسائر الآبار. على أن المارعي نم هذا لفظ النبي عليه السلام لما قال: (الماء طهورا لا ينجسه شيء)، فعم الماء؛ ليعلمنا أن ماء بئر بضاعة وغيره سواء في

أنه لا ينجس إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه بالخير الذي قال هذا فيه. وأيضا فإن الماء قد يرد على النجاسة، وترد النجاسة على الماء، ثم قد تقرر أن الماء إذا ورد على النجاسة لم ينجس إلا أن يتغير، كذلك يجب إذا وردت النجاسة على الماء أن لا ينجس إلا أن يتغير، إذ لا فرق بين الموضعين. وأيضا فإنه ماء لم تغيره النجاسة فوجب أن يكون طاهرا، أصله الغدير الذي لا يتحرك جوانبه على أبي حنيفة. وإذا كان قلتين على الشافعي. فإن قيل: فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: (لا يبولون أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه، ولا يغتسل فيه من جنابة)، فمنع من البول في الماء الراكد فدل على أنه نجس. وأيضا فإن النبي عليه السلام قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا)، فأمر بإراقة ما في الإناء وغسله، ولم يفرق بين تغيره أو لا، ولا بين إناء صغير وكبير، فعلم أنه نجس. وأيضا فقد روي أن ابن عباس - رَحمَه الله - نزح زمزم من زنجي

مات فيها، ولم يذكر تغير الماء، فعلم أنه نزحها لوقوع الميتة فيها. وأيضا فإن القدر الذي حصلت فيه النجاسة قد اجتمع فيه حرام ومباح، وقد أجمعنا على أن اجتناب الحرام واجب، والإقدام على المباح ليس بواجب، فوجب الامتناع من استعمال هذا الماء إلا أن يقوم دليل. ومنزلة هذا منزلة شاة مذبوحة اختلطت بشاة ميتة، فاشتبهتا

عليه، فإنه يحرم تناولهما، وكالمرأتين إحداهما أجنبية والأخرى اخته من الرضاعة اشتبهتا عليه، فإنه لا يجوز أن يتزوج واحدة منهما، وكالقليل من النجاسة إذا حل في كثير من المائع غير الماء فإنه يجتنب كله، فكذلك القليل من الماء إذا حلت فيه النجاسة وجب أن يغلب التحريم. قيل: أما قول النبي عليه السلام: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) فهذا - عندنا - على وجه الكراهية والتنزيه؛ بدليل قوله عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غيره)، وبغيره من الدلائل التي تقدمت، وبما بيناه من الصب على بول الأعرابي، وبالقياس. وقوله عليه السلام: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه) فإنما هو مندوب لا لنجس، والكلب - عندنا - طاهر، وريقه طاهر، وإنما هو لأمر آخر، كما قال: (إذا وجد أحدكم قذى في شرابه فليرقه ولا ينفخه). وأما نزح ابن عباس رضي الله عنه زمزم فيحتمل أن يكون الماء تغير؛ لأنه معلوم أن زنجيا يموت في بئر يسرع التغير إليها. فإن لم يكن تغعير فالمستحب نزحها، وخاصة زمزم من بين الآبار؛ للاستشفاء بها، ونحن نستحب هذا في غيرها فكيف فيها؟. وإذا كانت هذه فعلة من ابن عباس محتملة حملناها على ذلك؛ بدليل قوله: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غيره.

وقد قيل: إن نزح زمزم لا يمكن بحال. قال ابن الزبير: نزحها فغلبه الماء فلم يقدر عليه. وعلى أن ابن عباس يقول: إن ابن آدم لا ينجس بالموت، فالماء لا ينجس، فلم ينزحها لنجس. وقولهم: إنه قد اجتمع في الماء مباح ومحظور، وإن اجتناب المحظور واجب، فإننا نقول: إن النجاسة إذا غلبت على الماء وجب اجتناب المحظور، وإذا غلب الماء على النجاسة جاز استعمال المباح؛ لأن للماء خصيصة ليست لغيره. ألا ترى أنه في الغدير والقلتين على ما قلناه، إن تغير وجب اجتنابه، وإن لم يتغير لم يجب اجتنابه، وقد فرقنا وأنتم بينه وبين سائر المائعات، فوجب أن يكون الحكم للتغير حيث كان، وأن يكون الحكم للماء إن يتغير، وهذا مستمر؛ لأن الاتفاق قد حصل عليه إذا تغير في القليل والكثير، وإذا لم يتغير الماء فرق المخالف بين القليل والكثير، فكان اعتبارنا هو الصحيح.

ثم إن هذا الاعتبار يسقط مع النص من قوله عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غيره)، وهذا كما ترك أصحاب أبي حنيفة قياس الأصول وأجازوا الوضوء بالنبيذ، وكالقهقة في الصلاة، وكذلك فعلنا نحن والشافعي في المصراة، والمساقاة،

والمضاربة، وأشياء كثيرة، وهكذا ينبغي أن تتبع السنة التي أوردنا ويترك لها القياس، فكيف والقياس معنا؟. والاعتبار في التغير في القليل والكثير من الماء؟. فإن قيل: قوله: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء)، أي جنس الماء لا ينقلب عينه فيصير جنسه جنس النجس إلا أنه قصد به الحكم الذي نحن فيه فكأنه عرفنا أن العين لا تنقلب.

قيل: هذا لا فائدة فيه، ولا يجوز أن يقصده عليه السلام؛ لأنه معقول أن الجنسين إذا اختلطا لم تنقلب أعيانهما حين تصيرا عينين، هذا عين في الماء لم تغير حكمه عما كان عليه قبل حلولها فيه إلا أن تغلب عليه؛ لدليل اتفاقنا أن الماء إذا تغير بالنجاسة ينجس في قليله وكثيره، من بينها بأن جعله طاهرا مطهرا لغيره، وينبغي أن تحمل سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مالا يستفاد إلا من جهته، فأما ما يعلم من غير جهته فلا فائدة في حملها عليه، فإذا ثبت النص في الخبر انتفى معه كل اعتبار وقياس. على أن الذي ذكروه من تجنب المحظور إذا اجتمع مع المباح وأنه واجب يسقط في أكثر الأصول مع منافاته للنص، وذلك أن النجس يكون محظورا في انفراده، وإذا اجتمع مع الماء يغلب عليه حتى يصير مستهلكا فيه يزول حكم الحظر عنه تخصيصا للماء، وذلك بمنزلة اللبن الذي يحصل بانفراده في جوف الرضيع فتثبت به الحرمة، ولو خلط بماء وغيره من المائعات حتى يغلب ذلك عليه لزال حكمه عما كان عليه، وكذلك قد نهي المحرم عن استعمال الزعفران على انفراده، ثم لو طبخ أو خلط بالمائعات التي تغلب عليه لجاز استعماله، فكذلك لا ننكر حديث النجاسة مع الماء إذا غلبها الماء. فإن قيل: اللبن والزعفران طاهران يجوز استعمالهما منفردين. قيل: إنه وإن جاز استعمالهما على انفرادهما فقد صار لهما حكم في المواضع التي ذكرناها في انفرادهما، ثم يزول ذلك الحكم مع مخالطتهما لغيرهما، فكذلك النجس.

على أن بعض النجاسة يجوز استعماله على وجه، كأكل الميتة للمضطر، وشرب الخمر والبول في حال ما، ليس لقولنا: نجس، أكثر من أن الحكم فيه أنه لا يستعمل بانفراده، فيجوز أن يزول هذا الحكم في موضع آخر، وهو إذا خالطه غيره فغلب عليه. وعلى أنه إذا اعتبر مذهب أبي حنيفة في ذلك حق الاعتبار أدى إلى خرق الإجماع، وذلك أن بحار الدنيا لا تخلو من الأنجاس، ولو تحققنا نجسا وقع في موضع منها بعينه، مع علمنا أن عين الماء لا تنقلب، وإنما يتنجس الجزء الذي يجاور النجس بمجاورته، إذا تنجس ذلك الجزء بمجاورته النجس نجس ما يجاور ذلك الجزء الذي يجاور النجس، وكذلك كل جزء مجاور للجزء النجس تنجس، فيؤدي هذا إلى البحار العظيمة المتصلة نجسة لا يجوز استعمال شيء منها. ومثال هذا: أن كوزا فيه ماء حلت فيه نقطة ما نجس، أو أكثر منها، فإنه يكون نجسا كله، وعلى هذا التقدير بصبه في أكثر منه يتنجس حتى يؤدي ذلك إلى ما لا نهاية له، وهذا شنيع جدا. وعلى أن هذا المذهب يخالف إجماع المسلمين؛ لأنهم قد أجمعوا على أن نقطة بول أو خمر لو وقعت في غذير كبير لم ينجس وأبو حنيفة يقول: لو وقعت نقطة من ذلك في كوز نجس ماء الكوز بها ولو صب الكوز في الجب وصب ماء الجب في أجباب، ثم قلبت في هذا الغدير العظيم بحيث يتحرك الغدير بوقوع هذا الماء فيه أن الغدير نجس كله، فنجسوا ما اتفق المسلمون عليه أنه لا ينجس، وقد علمنا ضرورة أنه لم تحصل فيه كله إلا النقطة التي حصلت في الكوز، وهذه

النقطة وقعت في الابتداء في الغدير لم ينجس. قال أبو حنيفة: إذا وقعت نقطة بول أو خمر في بئر نجس الماء كله، ولم يطهر إلا بنزح جميع ذلك، ولو وقعت في البئر فأرة نجس الماء كله، ويطهر بنزح عشرين دلوا، والوزغة بأربعين دلوا، والسنور بستين دلوا. قال: وإذا نزح تسعة عشر دلوا في الفأرة فالماء كله نجس، فإذا خرج الدلو العشرين طهرت كله، فإن انقلبت الدلو فيه نجس الماء كله فإن نزح منه دلوا طهر كله، وهذا كالتلاعب في الشرع. فإن قال شافعي: فقد روى أبو أسامة عن الوليد

ابن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحتمل خبثا)

روى الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا بلغ

الماء قلتين لم يحتمل خبثا). وروي حماد عن عاصم بن المنذر بن الزبير قال: كنت مع عبيد الله بن عبد الله بن عمر في بستان فحضرت الصلاة فقام إلى مقراة فيها جلد بعير ليتوضأ. فقلت: أتتوضأ منها وفيها جلد بعير؟. فقال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس).

قالوا: وإذا ثبت هذا فدليله ما دون القلتين يحمل الخبث، فتخص قوله عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء)، فيكون تقديره: إلا أن يكون دون القلتين فإنه ينجس وإن لم يتغير. قيل: حديث القلتين عنه أجوبة: أحدهما: أنه ليس بثابت عند أهل النقل؛ لأن ابن إسحاق قد رواه، وقد تكلم فيه الأئمة مثل: مالك

وهشام بن عروة ويحيى القطان. وقال غير مالك: إنا يؤخذ عنه ما رواه من المغازي دون غيرها، وهو ضعيف عندهم. وأما الوليد بن كثير فكثير الغلط مضطرب الرواية. طعن عليه أحمد بن حنبل وغيره. ورواه أيضا ابن جريج عن محمد عن يحيى بن عقيل

ومحمد مجهول. وكذلك يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر. ورواه الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر عن الزبير، وتارة يرويه عن محمد بن عباد بن جعفر. ومحمد بن جعفر بن الزبير يرويه تارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وتارة يرويه عن عبد الله بن عبد الله.

وجملته: أن الوليد مطعون عليه كثير الغلط. وقيل: إن الحديث موقوف على ابن عمر. ثم قد اختلف في متن الحديث أيضا. فروى محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي عليه السلام: (إذا كان الماء أربعين قلة لم يحمل نجسا).

وروى أبو هريرة عنه عليه السلام: (إذا كان الماء قلة أو قلتين لم يحمل خبثا) , وروي عنه عليه السلام: (إذا كان الماء قلتين أو ثلاثا لم يحمل خبثا). فإذا اضطرب المتن هذا الاضطراب الشديد لم يثبت منه تحديد يبطل به ظاهر الأحاديث، ولا يخص بمثل هذا؛ لأن الحدود لا تثبت بمثله حتى تصير مقادير في الشريعة لا تتجاوز.

ولو صح ذلك لكان الأشبه بها أن تكون خرجت على أسئلة سائليها كل سائل يسأل عن شيء فيجاب عنه، لا أنه قصد بذلك الحد؛ لأن الحدود لا تثبت بمثل هذا. وجواب آخر: وهو أن القلة من الأسماء المشتركة؛ لأنها تقع في اللغة على الكوز؛ وتقع على الجرة، وعلى القربة، وعلى قلة الجبل، وغير ذلك، فصارت كقولنا عين ولسان، وكالأقراء فلا يصح ادعاء العموم في اسم مشترك، ولا صرفه إلى بعض ما يتناوله دون بعض إلا بدليل، ومن صرفه إلى بعضها جاز لآخر أن يصرفه إلى الوجه الآخر، فيجب الوقوف به حتى يثبت المراد منه، ولا يحتج بظاهره. فإن قيل: فما الفائدة في ذكر القلة إذا كان لا فرق بينها وبين غيرها؟. قيل: الفائدة في ذلك إن كان ابتداء من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يعلمهم أن للماء خصيصة ليست لغيره من المائعات، فيكون قليله من القلة الصغيرة، وكثيره من القلة الكبيرة بمنزلة واحدة في أنه إذا حلت فيه نجاسة لم تغيره فهو على طريقة واحدة في طهارته، وأن غيره من المائعات بخلافه، إذا حلته نجاسة حمل الخبث سواء تغير أو لا، وإن كان ذلك من النبي عليه السلام جوابا لسائل سأله فالفائدة فيه أنهم قد عقلوا أن الكثير من الماء إذا حلته نجاسة لم تغيره فإنه طاهر بخلاف المائعات، فأرادوا أن يعلموا أن فضيلته على غيره في قليله كهي في كثيره،

أو في كثيره حسب، فأعلمهم أن قليله وكثيره بمنزلة واحدة من الفضيلة على غيره نم المائعات. وهذه فوائد حسان أحسن من استعمال التحديد الذي لا يثبت في الشرع بمثل هذا. ولأن الاعتبار الصحيح في التغير قد استوى في قليل الماء وكثيره فينبغي أن يتفق الحكم بعدم التغير في قليله وكثيره، فيكون طاهرا كما كان نجسا بالتغير في قليله وكثيره. ومما يقوي ما قلناه وأن المقادير والتحديد لا تثبت بمثل هذا: أن القلال والقرب تختلف وتتباين في الكبير والصغير، ولا يكاد يوجد في بلد من البلدان على تقدير واحد؛ لأنها تحمل على حسب العاملين لها من شيخ وشاب، وكبير وصغير، لابد من تفاضل ما بينها، ولو اتفقت أو تقاربت في بلد من البلدان ل تتفق في سائر البلدان، والعبادة في تقدير الماء لا يختص بها أهل بلد دون بلد، فعلم بهذا أنه عليه السلام لم يقصد بذكرها التحديد والمقدار. فإن قيل: فإن المكاييل والأرطال قد تختلف في البلدان، ولم يدل ذلك على أنها لم تجعل مقادير. قيل: إن هذه وإن اختلفت في البلدان فإن أصلها وما كان في زمن النبي عليه السلام مضبوط متفق عليه غير مختلف فيه، ولم يثبت تقدير القلة ولا ضبط ولا اتفق عليه وقد ضبطت مقادير النصب في الزكاة، وضبط كل ما كان مقدرا ضبطا لا يشكل، وليست القلة كذلك؛ لأنها لم

تضبط برطل معلوم وقدر معلوم، ولم يفرق بين قلة مع كثرة اختلاف القلل وتقاربها ولابد من تباين ما فيها. فإن قيل: قد حال جريج بقلال هجر، ورفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أحالنا على قلال بلد معلوف، كما أحالنا في مقدار الصاع والوزن على صاعه عليه السلام ووزنه بالمدينة.

قيل: أما تفسير الشافعي وابن جريج فهو واحد، فلم يلزمنا تفسيرهما. وأما رفع ابن جريج ذلك إلى النبي عليه السلام بهذا اللفظ فلا يعرف من طريق صحيح؛ لأن أصل الحديث فيه اضطراب ولين فكيف بهذه الزيادة؟. على أنها لو ثبتت لم يثبت التحديد بمثلها لما بيناه من اختلاف قلال هجر وتباينها، ولم تحصر بوزن معلوم وكيل معلوم فكان أحسن الأحوال أن تحمل على ما تقدم ذكره من الفوائد التي حملناه إياها. وقد قال سعيد بن جبير ومسروق: القلة: الجرة. وقال مسروق:

الرطبة من رطب الجنة مثل القلة. فخشي أن لايفهم عنه فقال: هي الجرة. والجرة لا تسع قربتين وشيئا كما قال الشافعي. وقد قيل أيضا في حديث ابن جريج: إنه ورد بلفظ آخر، قيل عنه فيه إنه قال: إن القلة تسع فرقين أو فرقين وشيئا، فصحف وإنما هي قربتين. وقيل: إن القلة تسعة قربتين أو قربتين وشيئا، فجعل الشافعي الشيء نصفا على التقريب والاحتياط، وجعل الجميع خمس قرب، وقدر كل قربة مائة رطل، فتصير القلتين خمسمائة رطل بضرب من الاجتهاد، وهذا لا يمنع أن يخالفه غيره فيقدره بستمائة رطل، أو أربعمائة رطل؛ إذ لا نص في تحديده بخمسمائة رطل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس محقق، وليس يجوز العدول عن الظواهر من الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح بمثل هذا، وقد ثبت ما قلناه بما ذكرناه من الاعتبار الصحيح الذي هو علامة في الطرد والعكس؛ لأن الجميع قد اتفقوا على أن الماء الكثير والقليل إذا تغير أحد أوصافه

بالنجس فإنه نجس فيجب إذا لم يتغير أن لا يختلف أيضا في قليله وكثيره. ويحقق هذا: قوله عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه)، وبهذا تنتظم الدلالة على أبي حنيفة والشافعي. فإن قيل فأنتم قد فصلتم بين قليل الماء وكثيره، وقلتم: لا يبولون في الدائم ثم يتوضأ منه، وقد فرقتم بينه وبين البرك العظام فقلتم: لا بأس به فيها، فحملتم الخبر على الكراهية في القليل، واستعملتم قوله عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء) على الكثير منه، فصرتم إلى مثل قولنا في الفصل، فقولنا أحسن؛ لأننا فصلنا بين القليل والكثير بفصل معلوم، وأنتم لم تفعلوا ذلك، فلم ينحصر مذهبكم لعدم الفصل الصحيح بين الماءين. قيل: إننا لن نفصل بين القليل والكثير في تطهير ولا تنجيس، وجعلناهما سواء في الأمرين جميعا، وإنما فصلنا بينهما في الكراهية؛ لأجل خلف الناس في القليل، فإن مالكا - رَحمَه الله - لا يقطع على مسائل الاجتهاد أن الحق عند الله - تعالى - فيما يقول دون ما ذهب إليه من خالفه؛ لأنه غلبة ظن يجوز أن يكون مخالفه فيه مصيبا، وهو مخطئ عند الله - تعالى - خطأ يعذر به، فاستعمل خبر البول في الماء والوضوء منه على الكراهية؛ لأن هذا الضرب نم الاجتهاد يجوز.

فإن قيل: فإن النبي عليه السلام قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده)، فمنعه من إدخال يده فيه احتياطا لنجاسة مسكوك فيها لم يتحقق وجودها، فعلم أنها لو كانت متحققة نجس ذلك الماء. قيل: إن النبي عليه السلام لم يمنع من ذلك على وجه التحريم، وإنما هو كراهية لأجل نجس، ولكن تنظفا لئلا يتكون يده لاقت موضعا يكره أن يخالط الماء، مثل أن يدخلها في أنفه، أو يلاقيها دنس ووسخ دون النجاسة، ولو لاقت نجسا لم يغير الماء كرهنا له ذلك أيضا. فإن قيل: فقد روى في خبر أبي قتادة حين أصغى الإناء للهر وقال لكبشة: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن الهر ليس بنجس؛ إنها نم الطوافين عليكم والطوافات)، فجعل العلة في جواز شربها طهارتها، فعلم أنها لو كانت نجسة لم يجز أن تشرب منه، ومن اعتبر عدم التغير في جواز شربه أسقط تعليل أبي قتادة. قيل: قوله عليه السلام: (إنها ليست نجسة) أي بمبعدة؛ لأنها من الطوافين، وإن كانت سبعا من السباع، ودليله: أنها لو كانت مبعدة كرهنا شربها من الإناء؛ لأن الكلب وغير الهر من السباع التي تأكل الجيف في غالب الحال يمكن التحرز منها وحفظ الماء عنها؛ لأن غير

الهر يكون نجسا؛ لأه ليس - عندنا - في الدنيا حيوان نجس. ثم إن النجاسة لو حصلت في الماء ولم تغيره فإن الماء طاهر، فلم يلزمنا ما ذكروه، ولكنه مكروه لأجل خلاف الناس فيه. فإن قيل: فإنه ماء قليل خالطته نجاسة فوجب أن يكون نجسا، أصله إذا تغير بها. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنه إذا تغير بها صار الحكم للنجاسة كالكثير من الماء إذا تغير بها؛ لأن الاتفاق قد حصل على أن العلة في الكثير إذا تغير هو غلبة النجاسة على الماء، وهذا موجود في القليل، وإذا لم يتغير الكثير من الماء كان الحكم للماء فكذلك القليل منه، وهذا مستمر. والجواب الآخر: هو أننا قد قسناه إذا لم يتغير على الكثير إذا لم يتغير، فكان قياسنا أولى؛ لأن الحكم يوجد بوجوده، ويرتفع بارتفاعه حيث كان، والنصوص تؤيده. فإن قيل: فإن الأصل موضوعه على أن كل نجاسة لا يمكن الاحتراز منها، وتشق إزالتها لم يكمن معفوا عنها. ألا أرى أن دم البراغيث والقليل نم الدم على بدن الإنسان معفو عنه؛ إذ لا يمكن الاحتراز منه، وكذلك أثر الاستنجاء، والمستحاضة وسلس البول يصلي

به ولا إعادة عليه؛ لان الاحتراز منه لا يمكن ولو خرج البول منه دفعة أو دم الفصاد كانت عليه الإعادة؛ لأن الاحتراز منه يمكن، كذلك أيضا إذا كان الماء دون القلتين يمكن الاحتراز من وقوع النجاسة فيه؛ لأنه يحفظ من الأواني، فلم تكن هذه النجاسة معفوا عنها، والماء إذا كان قلتين وأكثر لا يمن الاحتراز من وقوع النجاسة فيه؛ لأنه لا يحفظ في العادة في الأواني، فكان معفوا عنها. قالوا: وهذه نكتة المسألة، وفيها جواب عما قلتموه. ألا ترى أن سائر المائعات من الخل واللبن وغيرهما لما أمكن حفظه من النجاسة لم تكن النجاسة فيها معفوا عنها، سواء كان المائع قليلا أو كثيرا فإنه ينجس؛ لأنه يحفظ في الأواني وإن كان كثيرا. قيل: هذا اعتبار فاسد في هذه المسألة. ثم لو جعلناه دليلا لصح، وذلك أن ما زاد على القلتين بمقدار رطل أو رطلين أو عشرة في معنى ما نقص من القلتين بهذا القدر يمكن حفظ الجميع في الأواني ولا يشق، فينبغي أن يتفقا في الحكم، إما في النجاسة أو الطهارة، وأنتم تفرقون بينهما. وعلى أنه يلزمكن إذا كان الماء كثيرا لا يمكن التحرز منه بحفظه أن تعفوا عن النجاسة وإن أثرت فيه؛ لأنه حفظه يشق. ثم إن الماء هو دون القلتين لا يمكن حفظه في العادة من يسير نجاسة تقع فيه، إما من ذباب يموت فيه، أو برغوث، أو وزغة صغيرة تدخل فيه وتموت، أو ما أشبه ذلك فينبغي أن يكون معفوا عنه؛ لأن هذا يسير يشق التحفظ منه فهو في الماء القليل كهو في، ويستوي هذا الحكم فيه في كل موضع سواء أصاب دم

البراغيث الثوب والبدن أو الماء؛ لأن دم الرعاف معفو عنه إذا كان يسيرا في الثوب كدم البراغيث، وكذلك قليل من الدم إذا لم يكن مسفوحا بخلاف غيره م الأنجاس، فينبغي أن يستوي حكمه سواء حل في الثوب أو الماء؛ إذ لا يمكن التحرز منه، وقد عفي عنه، والبول وما أشبهه إذا خرج على وجه العادة يمكن التحفظ منه، غير أنه إذا أصاب الثوب والبدن تنجس، وليس حكمه في الماء كحكمه في الثياب والمائعات غير الماء؛ لأن الماء يطهر الأنجاس ما دام غالبا عليها، ويدفعها عن نفسه، فسواء كان قليلا أو كثيرا، أمكن حفظه أو لا. ألا ترى أن إزالة الأنجاس والأحداث به لا يفترق الحكم بين قليله وكثيره إذا لم يخالطه نجس، فكذلك إذا خالطته نجاسة لم تؤثر في عينه لم يفترق الحكم فيه بين قليله وكثيره؛ لأن الحكم له لغلبته على النجس. وأما سائر المائعات غير الماء فإنما تنجست بقليل النجاسة سواء كانت قليلة أو كثيرة، وسواء حفظت في الأواني أو غيرها؛ لأنها لا تدفع النجاسة عن نفسها؛ لأن الأنجاس لا تزال بها، ولا يرتفع بها الحدث، لا لأنها تحفظ في الأوني؛ لأننا نعلم أن بعضها قد تعمل في غير الأواني مثل الحياض التي تنقع فيها التمور للخل، وعصير العنب الكثير، وما أشبه إنما يكون في الحياض، ثم تنقل إلى الأواني، ومع هذا فيسير النجاسة تنجسه سواء كانت المائعات قليلة أو كثيرة، محفوظة في الأواني أو غيرها؛ لأن جنسها لا تزال به النجاسة، ولا يرتفع به الحدث، والماء بخلافها، فإن لم تؤثر النجاسة فيه فهو

يدفعها كما تزال به النجاسة من الثوب والبدن، فقد أزالها عن نفسه وهذا موجود في القليل منه والكثير. ألا ترى أن النجاسة على الثوب والبدن إذا غسلناها بماء حتى زالت بذلك القدر من الماء فإن الماء أزالها عن الثوب، وانتقلت النجاسة إلى الماء، والماء طاهر لولا هذا لما زالت النجاسة، فإذا كان قد أزالها عن الثوب ودفعها عنه وهو طاهر فقد دفعها عن نفسه أيضا؛ لأنه إذا دفعها عن غيره كان دفعها عن نفسه أولى، وهذا الذي يكشف أنه لا فرق بين وروده على النجاسة أو ورود النجاسة عليه، وبالله التوفيق.

[40] مسألة

[40] مَسْأَلَة اختلفت الرواية عن مالك - رَحمَه الله - في جلود الميتة إذا دبغت. فالظاهر من الروايتين أنها لا تطهر، ولكنها تستعمل في الأشياء اليابسة وفي الماء خاصة من بين سائر المائعات، فإنه قال في الماء: أتقيه في نفسي خاصة، ولا أضيقه على الناس. والرواية الأخرى: أنها تطهر طهارة تامة، وهذا في كل جلد ميتة إلا الخنزير وحده؛ لأن الذكاة لا تعمل فيه فالدباغة أولى، وسائر الحيوان غيره تتأتى فيه الذكاة. وبالرواية الأولى قال أحمد، ولكنه لا يبيح الانتفاع بها في شيء؛ لأنها كلحم الميتة.

وبالرواية الثانية قال أبو حنيفة إلا في الخنزير كقولنا، وبها قال الشافعي إلا في الكلب والخنزير. فيحصل الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة والشافعي في الرواية الأخرى، وبيننا وبين الشافعي في الكلب على الرواية الثانية. وقال داود: يطهر جلد جميع الحيوان بالدباغ حتى الخنزير، وقد حكي عن أبي يوسف مثله. وقال الأوزاعي وأبو ثور: يطهر جلد ما يؤكل من الحيوان ولا يطهر جلد مالا يؤكل. قال الزهري: يجوز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ مع كونها نجسة لا أنها طاهرة. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم}، والميتة اسم للجملة، ولكل جزء منها، والجلد منها.

وأيضا: ما رواه جابر عن النبي عليه السلام أنه قال: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء)، وهذا عام فيها وفي كل جزء منها إلا أن يقوم دليل. وأيضا ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلي عن عبد الله بن عكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل موته بشهر (ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب

ولا عصب)، وهذا نص في الجلد مع كونه متأخرا.

ينسخ المتقدم، وهذا عمدة في المسألة. وأيضا ما روته عائشة - رحمها الله - عن النبي عليه السلام أنه أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت، والاستمتاع بالشيء مأخوذ من المتعة

به، والمتعة به تمنع من بيعه؛ لأنه إذا بيع صار الاستمتاع بالثمن لا بالجلد، فدليله أن غير المتعة به لا يجوز إلا أن يقوم دليل. وأيضا ما روي أن ابن الأشعث قال لعائشة - رحمها الله -: ألا نعمل لك فروا تلبسينه في اليوم الشاتي. فكرهته؛ لأنها تريد الصلاة فيه، فقال: ألا نعمل لك ذكيا؟ فلا بأس، فلم تمتنع من الذكي وامتنعت من غيره، ولم يكن هذا إلا وقد فهمت نم قصد النبي عليه السلام في الاستمتاع بالجلد المدبوغ في غير الصلاة، وعلى وجه دون وجه، وأنه فرق بين المدبوغ والذكي.

وأيضا فإن الجلد لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قبل الدباغ نجسا لذاته وعينه فوجب أن لا يطهر بالدباغ كاللحم - عندنا وعندكم -، وكجلد الخنزير والكلب - عندكم -. أو يكون نجسا لأجزاء نجسة جاورته بالموت فينبغي أن يجوز بيعه قبل الدباغ كالثوب النجس، فلما لم يجز بيعه قبل الدباغ علم أنه كاللحم الذي نجست عينه بالموت. ونقول أيضا: هو جزء من الميتة تلحقه الحياة والموت فأشبه اللحم. أو نقول: هي نجاسة حدثت بالموت فوجب أن تكون مؤبدة كاللحم. وأيضا فإن علة التنجيس هو الموت فلا يجوز أن ترتفع النجاسة مع بقاء العلة؛ لأن الموت لا يمكن دفعه. ونقول أيضا: أتسلمون أن الجلد بعد الدباغ لا يجوز أكله؟. فإن سلموا ذلك: قلنا إنما لم يجز أكله لأنه نجس بالموت فصار كاللحم. وإن لم يسلموا المنع من أكله دللنا عليه بما روي أن النبي عليه السلام مر بشاة ميمونة - وقد طرحت وهي ميتة - فقال: هلا دبغتم إهابها فانتفعتم به). فقالوا: إنها ميتة - وقد علم عليه السلام أنها ميتة - فقال: (إنما حرم أكلها)، ومن المحال أن يكون إنما أعلمهم أن اللحم حرم أكله دون الجلد؛ لأنهم طرحوها وهم يعلمون أن لحم الميتة محرم، ويعتقدون ذلك، وكذلك الجلد فوجب أن تكون الفائدة في إعلامهم

حكم الجلد الذي أباحهم الانتفاع به، وأنه الذي حرم أكله دون النفع به، أو تكون الفائدة هي أن الذي يتأتى أكله منها محرم أكله، وأن الجلد منه أيضا، وإذا كنا قد اتفقنا على أن الموت يحل في الجلد كما يحل في اللحم، ثم اتفقنا على أن غسل اللحم أقوى من الدباغ، وهو لا يزيل حكم النجاسة الحالة فيه بالموت كانت الدباغة أولى ألا تزيل حكم النجاسة الحالة بالموت في الجلد، أو تكون كالغسل لا يزول به حكم النجاسة. وفارق حكم هذه النجاسة حكم سائر النجاسات العارضة في الثياب؛ لأنها لو كانت بمنزلتها لزالت بالغسل عن اللحم كما يغسل عنه الدم في الذكاة، ولجاز بيعه وبيع الجلد من الميتة قبل أن يدبغ كما يباع لحم المذكي وعليه دم. فإن قيل: جميع ما ذكرتموه مخصوص بما رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بشاة لمولاة ميمونة ميتة، فقال: (ما على أهلها أن لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به)، فقال: (إنما حرم أكلها)، فأباح عليه السلام الانتفاع بإهاب الميتة إذا دبغ فسقط قول من يقول: لا

يجوز الانتفاع به، والانتفاع أيضا عام من كل وجه يتبعه والصلاة عليه وغير ذلك. وأيضا ما رواه زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة المصري عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر). ومالك عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه عن عائشة قالت: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت. وأيضا ما روي أنه عليه السلام قال: (دباغ الأديم ذكاته)،

فأقام الدباغ مقام الذكاة. وأيضا ما رواه أنس أن النبي عليه السلام أتى على سقاء أخضر قد برد فيه الماء فاستقى. فقالت صاحبته: إنه لمن جلد كيتة. فقال عليه السلام: (دباغه طهوره).

وروى سلمة بن المحبق قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذكاة كل أديم دباغه). قالوا: وهذه الأخبار تلزم أحمد بن حنبل في امتناعه نم استعماله بعد الدباغ، وتلزمكم أنتم في طهارته بكل وجه. قيل: لعمري إنها تلزم أحمد فأما نحن فإنا نستعملها على ما تحتمله فنقول: قوله: (هلا انتفعوا به بالدباغ)، فظاهره يقتضي الانتفاع بالجلد نفسه دون ثمنه، ونحن نجيز الانتفاع به على وجه مخصوصة بالدلائل التي ذكرناها. وقوله عليه السلام (فقد طهر)، وجميع ما ذكر في الطهارة، فإننا نقول:

طهارة وطهور اسم مشترك في اللغة والشريعة فتارة يكون لزوال حم النجاسة، ويصلح للعبادة، ولرفع درجة، وللتمييز على ما بيناه في مَسْأَلَة الكلب، وحقيقة الطهارة إنما هي نقل من حال إلى حال، فقد نقلت الدباغة من منع استعماله فإلى استعماله على وجه دون وجه، ولا ينبغي أن يكون كالذكاة التي تبيحه على كل وجه؛ لأن الذكاة هي الأصل، وهي طهارة فلا ينبغي أن يكون حكم الفرع كحكمها من كل وجه، وإن كانا جميعا يسمان بالطهارة. ألا ترى أن الطهارة بالماء ترفع الحدث فإذا عدم الماء جاز التيمم، وقد سمي طهارة. ثم مع هذا فلم يساو حكم الأصل لضعفه عنه، فلم يجز أن يتيمم قبل الوقت، ولا يرفع الحدث، ولا يجمع به بين صلاتي فرض - عندنا وعند الشافعي -، فلما كان البدل فيما يسمى طهارة أضعف من المبدل، فكذلك الدباغة أضعف من حكم الذكاة التي هي الأصل، وإن كان اسم الطهارة يتناولها جميعا. فإن قيل: إطلاق طهارة تقتضي طهارة من رفع حدث أو إزالة نجس، فإذا لم تكن في الدباغ لرفع حدث فهي لرفع نجاسة. قيل: إطلاق طهارة تقتضي طهارة من رفع حدث أو إزالة نجس، فإذا لم تكن في الدباغ لرفع حدث فهي لرفع نجاسة. قيل: قد بينا في مَسْأَلَة ولوغ الكلب أنها تكون أيضا للتنظف فلا نسلم أنها لا تكون في الشريعة إلا لما ذكرتم، والتيمم أيضا يسمى طهارة، ولم يرفع الحدث، فإذا كان أريد من أجل الحدث وإن لم يرفعه

جاز أن تراد الدباغة من أجل النجس ولا تدفعه، فتكون إباحة الداباغة دون إباحة الذكاة، كما كان حكم التيمم دون حكم الماء، ثم لو كان طهارة تتناول ما ذكرتموه جاز أن نحملها على ما ذكرناه بما بيناه من حكم الميتة، ومساواة الجلد للحم. وأما قوله عليه السلام: (دباغ الأديم ذكاته)، فإن جلد الميتة قبل دباغه لا يتناوله اسم أديم، وإنما يسمى أديما بعد الدباغ، فكأنه قال عليه السلام: دباغه ذكاته. أي ذكاته ريحه طيبها فصارت ذكية، وكذلك نقول: إن ذكاته التي هي طيب رائحته إنما تكون بالدباغ الذي يخرج معه السهوكة وتغير الريح، وهذا هو الأصل في الذكاة. والذكي: هو الطيب الريح، وإنما نقل إلى اسم الريح؛ لأن الحيوان إذا ذبح كان طيب الريح بخلاف الميت، فإذا كان أصل الذكاة ما ذكرناه حملنا قول النبي عليه السلام على هذا، ونكون بهذا أولى منكم في اللغة؛ لأنكم تجعلون الدباغة تشبيها بالذكاة، فتقديره: كذكاته، أي: مثل ذكاته، فتضمرون كاف التشبيه، ونحن لا نضمر شيئا، بل نجعل الدباغة بالشب والقرظ هي بعينها ذكاته وطيب ريحه، فتقديره: تقديره قولنا: الله ربنا، فربنا هو الله، والله هو ربنا، وكذلك محمد نبينا، وزيد قائم، زيد هو القائم والقائم هو زيد، وقولكم أنتم بمنزلة قولهم: شربك شرب الإبل، وليس شربه شرب الإبل، وإنما هو كشرب الإبل أي: مثله.

وأيضا فإن الدباغة بالشب والقرظ تصير عليه مثل الغشاوة فتزول معه الروائح المتغيرة، وتكتسي ريح الشب والقرظ، ولهذا نستعمله نحن في الأشياء اليابسة؛ لأنه يصر بمنزلة شيء قد غشيه شيء طاهر. فأما قوله عليه السلام في السقاء الذي استسقى منه: (دباغه طهوره)، أي قد نقله من منع الاستعمال إلى جوازه على ما بيناه، ويجوز ترك الماء فيه؛ لأن الناس مختلفون في تطهيره، والماء في أصله يدفع النجس عن نفسه. ثم مع هذا فإن الميتة إذا لاقت الماء فلم تغيره فإن الماء على أصله في الطهارة - عندنا - قليلا كان الماء أو كثيرا، وليس كذلك المائعات غير الماء، فلهذا جاز استعمال الجلد المدبوغ في الماء ولم يجز في غيره من المائعات. فإن قيل: فإنه جلد طاهر بنجاسته فجاز أن يحكم بطهارته أصله جلد المذكي إذا تلوث بالدم أو غيره. أو نقول: نجاسة طرأت على جلد طاهر فجاز أن يطهر، أصله ما ذكرناه. قيل: الجلد المذكي علته أنه طاهر انتقل إلى طهارة هي التذكية، فأشبه اللحم المذكي، فإذا تلوث بالدم جاز أن يزول عنه كما يزول عن اللحم، وليس كذلك جلد الميتة؛ لأنه كلحمها، فإذا لم تزل نجاسة لحمها لم تزل نجاسة جلدها. فإن قيل: اللحم يتهوا بالدباغة ولا يثبت مثل الجلد.

قيل: وأي حاجة بنا إلى دباغ اللحم والجلد إن كانت النجاسة تزول بعد الموت. فالغسل يكفي فيهما. ألا ترى أنهما في الذكاة على طريقة واحدة، لو أصاب اللحم دم زال بالغسل كما يزول من الجلد، ونحن نعلم أن كل نجاسة تكون في لحم المذكي أو الميت لو نقعت في الماء المسخن أو غيره من الماء والملح والخل، وطال مكثه خرجت كل نجاسة فيه، وقد كان يمكن أن ينقع في الماء والأشنان وغيره مما يقلع النجاسات أكثر مما يقلعه الشب والقرظ، ويثبت مع ذلك ولا يفسد، فلما كان هذا كله لا يزيل نجاسة اللحم؛ لأنها بالموت حصلت، كذلك الجلد لحصول الموت فيه، وعلمنا بهذا أن الشب والقرظ أدخل في الجلد؛ لأنه تصير عليه غشاوة يمكن استعماله معها على وجه ليطول بقاؤه والانتفاع به لا أنه يصيره طاهرا بذلك. على أنهم يدبغون المذكي أيضا لحاجتهم إليه. وعلى أن قياسنا إياه على اللحم أولى؛ لأننا رددنا من نجس بالموت إلى مثله، ورددنا جزءا اكتساه جزء مثله؛ لأنه اكتساه جزء منه نجس، وهو اللحم، والجميع يحله الموت. ولا يلزمنا على هذا الصوف والشعر؛ لأن الحياة والموت لا يحلان فيهما. ثم إن الاعتبار الصحيح معنا؛ لأننا وجدنا الجلد مساويا للحم حيث كان، فهما بمنزلة واحدة لو قطعا من الحي، وبمنزلة واحدة في الذكاة، فكذلك ينبغي أن يكون بمنزلة واحدة بعد الممات؛ لأنهما ميتان إذا قطعا في حال الحياة، ميتان في حال موت الحيوان، فلا ينبغي أن

يفرق بينهما كما لم يفترق حكمهما في الذكاة، ولا في كونهما في الحياة إذا لم يقطعا من الحي. فإن قيل: إنها نجاسة طرأت على عين يتأتى غسلها فجاز أن تطهر، دليله الثوب النجس. وأيضا: فإن هذه النجاسة لا تخلو أن تكون في معنى نجاسة العين أو نجاسة الحكم، فإن كانت في معنى نجاسة العين فإنها متى كانت طارئة على العين جاز أن تزال مثل سائر النجاسات، وإن كانت نجاسة من جهة الحكم، وكانت طارئة جاز أن تزال دليله الخمر. وأيضا فلو كان الدباغ لا يطهر جلد الميتة لكان لا يطهر بالذبح، دليله الخنزير. قيل: أما الثوب النجس فقياسه اللحم المذكي والجلد إذا أصابهما نجس، فإن أعيان الجميع طاهرة، وإنما طرأ على طاهرها ما يزول بالغسل. ألا ترى أن بيع الجميع وعليه الدم يجوز، وليس كذلك جلد الميتة؛ لأنه كلحمها. ألاى ترى أن بيع الجلد قبل الدباغ لا يجوز كما لا يجوز بيع اللحم، فعلم أن عينه نجست بالموت كاللحم، والثوب إنما نجس بمجاورة النجاسة له، وجلد الميتة نجست عينه كاللحم الذي نجست عينه بالموت. وقولكم: إن هذه النجاسة لا تخلو أن تكون في معنى نجاسة العين أو نجاسة الحم فإننا نقول فيها ما تقولونه في اللحم سواء، فإذا لم تزل نجاسة اللحم لم تزل نجاسة الجلد. وأما الخمر فإنها نجسة العين فإذا تغيرت صارت العين كلها طاهرة فينبغي أن تصير عين الميتة كلها طاهرة لحمها وجلدها.

وقولكم: إن الدباغة إن لم تطهر الجلد لم تطهره الذكاة يلزمكم في لحم الميتة أيضا إن لم يطهره الغسل لم تطهره الذكاة كالخنزير. فإن قيل: قولكم: إن علة التنجيس الموت فلا يجوز ارتفاع النجاسة مع بقاء الموت غير مسلم؛ لأننا نقول: إن علة التنجيس الموت وفقد الدباغ، فعلة التنجيس ذات وصفين، فإذا عدم أحد الوصفين وهو فقد الدباغ جاز أن لا يرتفع الوصف الآخر الذي هو الموت فينبغي ألا يطهر على هذا الحساب. فإن قيل: فإن الموت علة في تنجيسه ابتداء دون الاستدامة، فإذا كان الموت علة في وجود النجاسة دون بقائها واستدامتها جاز أن ترتفع استدامتها وبقاؤها وإن كان علة الوجود في الابتداء لا ترتفع، كما إذا تيمم فإنه يصلي؛ لأنه استباح به الصلاة، ثم لو أحدث لم يجز له أن يصلي بذلك التيمم قطع الاستدامة وبقاء الاستجابة، والله أعلم. قيل: هذا بعينه يلزم في لحم الميتة، وأما التيمم فهو شاهد لنا؛ لأنه لم يرفع الحدث فلهذا انقطعت استدامته فينبغي ألا ترتفع نجاسة الجلد بالدباغ ولكن تنقطع استدامة المنع من الانتفاع به، فيصير منتفعا بالدباغ لا كمنفعة الذكاة، كما أباح التيمم الصلاة لا على معنى الوضوء الذي يرفع الحدث، وبالله التوفيق. ووجه الرواية الأخرى في طهارة الجلد بالدباغ ما ذكرته عن المخالفين وفيه الرد على أحمد في امتناعه من استعماله بكل وجه وإن دبغ.

فصل

فصل فأما ما قاله الأوزاعي وأبو ثور في أنه يطهر جلد ما يؤكل لحمه دون مالا يؤكل لحمه فاحتجوا له بما رواه المليح الهزلي عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن افتراش جلود السباع، ولم يفرق بين أن تكون مدبوغة أو غير مدبوغة. وبما روي أنه قال عليه السلام: (دباغ الأديم ذكاته)، فأقام الدباغ مقام الذكاة، وبين أنه يعمل عملها، فلما لم تعمل الذكاة فيما لا يؤكل لحمه لم تعمل الدباغة أيضا فيما لا يؤكل لحمه.

قالوا: ولأنه حيوان لا يؤكل لحمه فوجب أن لا يطهر جلده بالدباغ، أصله الكلب والخنزير. والدليل لقولنا: قوله عليه السلام: (أيما إهاب دبغ فقد طهر). وما روته عائشة أن النبي عليه السلام أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت ولم يفرق بين جلد وجلد فهو عام إلا ما خصه الدليل. وأيضا فإنه حيوان لم يرد نص القرآن بتحريمه، ولا أجمع عليه فجاز أن يطهر بالدباغ، أصله ما يؤكل لحمه بعلة أنه حيوان يجوز بيعه في حياته. فأما نهيه عليه السلام عن افتراش جلود السباع فإنه عام فيما دبغ وما لم يدبغ فخصصناه بقوله: (إذا دبغ فقد طهر).

على أنه لا يجوز أن يكون الخبر واردا إلا في جلود السباع التي لم تدبغ؛ لأن المقصود من جلود النمور شعرها، وهي إذا دبغت شعرها، فهي لا تدبغ، وإنما تستعمل غير مدبوغة. وقولهم إن النبي عليه السلام أقام الدباغة مقام الذكاة، وان الذكاة لا تعمل في السباع غلط علينا؛ لأن الذكاة تعمل في السباع ويستغنيى بها عن الدباغة إلا الخنزير. وأما الخنزير فإنما لم تعمل الدباغة في جلده؛ لأن الذكاة - التي هي أقوى منه، وهي الأصل - لا تعمل فيه، فلم تعمل الدباغة. وأما قول داود في الانتفاع بجلد الخنزير إذا دبغ، فإنه احتج بقوله عليه السلام: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، فعم ولم يخص. وأيضا فقد قال: (دباغه ذكاته). فنقول: إن الذكاة في الأصل أقوى من الدباغة والدباغة إما أن تكون بدلا أو فرعا، وإذا لم تعمل الذكاة في جلد الخنزير كانت الدباغة أولى أن لا تعمل. فإن قيل: فإنه حيوان طاهر - عندكم - ينجس بالموت فينبغي ان تعمل الدباغة فيه كسائر الحيوان الذي ينجس بالموت.

قيل: أنتم على أصلكم أن الخنزير نجي، فإذا كان نجسا لم تتأت فيه الذكاة فالدباغة أولى. والفرق - عندنا - بين الخنزير وغيره هو أن النص ورد بتحريمه، والإجماع حاصل على لمنع من اقتنائه فلهذا لم تعمل الذكاة والدباغة فيه. وأما الزهري فإنه اعتمد على خبر رواه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بشاة لمولاة ميمونة ميتة، فقال: (ما على أهلها لو أخذوا إهابها فانتفعوا به)، ولم يذكر فيه فدبغوه، وفي الخبر أنهم قالوا له عليه السلام: إنها ميتة. فقال: (إنما يحرم لحمها)، فلم يذكر فيه الدباغ، فدل على أنه يجوز الانتفاع به قبل الدباغ. ولنا نحن حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن النبي عليه السلام مر بشاة مولاة ميمونة

فقال: (لا على أهلها لو أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به). فقالوا: إنها ميتة. فقال: (إنما يحرم أكلها)، فإذا كان الزهري الراوي للخبرين أخذنا بالزائد منهما، وهو الذي فيه ذكر الدباغة، وكان أولى أيضا للزيادة ولموافقته الأصول في أن لا تقتني النجاسات ولا ينتفع بها مع الحكم لأعيانها بذلك. فإن قيل: إذا روى الراوي خبرين، وعمل بأحدهما وترك الآخر وجب أن يرجع إليه فيما عمله فيعمل به ويترك الآخر. قيل: يجوز أن يكون قد نسي الخبر الآخر الذي فيه الزيادة، أو نسي الزيادة. ثم إنه يجوز أن يراد به اجتهاده إلى العمل بالخبر الآخر ويترك الزيادة فينبغي أن لا يرجع إلى اجتهاده إذا أمكننا بالزيادة، والله أعلم. ونقول أيضا: هو جزء من الميتة يتأتى فيه الأكل فأشبه لحمه.

[41] مسألة

[41] مَسْأَلَة والذكاة تعمل في سائر السباع إلا الخنزير. وإذا ذكي سبع من السباع فجلده طاهر يجوز أن يتوضأ فيه، ويجوز بيعه وإن لم يدبغ، والكلب منها، وبه قال أبو حنيفة، وأن جميع أجزائه من لحم وجلد طاهر إلا أن اللحم - عنده محرم أكله -، - وعندنا - مكروه. وقال الشافعي: إن الذكاة لا تعمل في السباع، وإنها إذا ذكيت صارت ميتة لو ماتت.

والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {وما أكل السبع إلا ما ذكيتم}، وبين النبي عليه السلام الذكاة فقال: (الذكاة في الخلق واللبة)، فعم الله - تعالى -

كل ما ذكي، وبما بين النبي عليه السلام أن الذكاة - التي هي الشق في اللغة - إنما في الشرع في الحلق واللبة لم يخص حيوانا نم حيوان، فهو عام في الأنعام والسباع وغيرها إلا ما خصته الدلالة. وأيضا فإن النبي عليه السلام قال: (دباغ الأديم ذكاته)، وروي: (ذكاة الأديم دباغه)، فأعلمنا في الخبر الأول أن دباغ الأديم كذكاته، فلولا أن الذكاة تعمل لم يشبه الدباغ بها. وقال: (ذكاة الأديم دباغه)، فأقام الذكاة مقام الدباغ لها، وأنها تعمل عمله، فلما كان الدباغ يعمل في ذلك كانت الذكاة كذلك. ويدل على ما نقوله: أن الدباغة بدل من الذكاة؛ بدليل أن الشاة الذكية لا يحتاج جلدها إلى دباغ يطهره، وإذا عدمت الذكاة وحل الموت أقيمت الدباغة في تطهير الجلد مقام التذكية، فإذا كانت الدباغة بدلا من الذكاة فهي فرع لها، ومن المحال أن يعمل الفرع ولا يعمل الأصل الذي هو أقوى منه في التطهير. ألا ترى أن التيمم الذي هو بدل الوضوء يبيح الصلاة ويرفع الحدث.

ولنا أن نقول: هو جلد يطهر بالدباغ فوجب أن يطهر بالذكاة. أصله ما يؤكل لحمه. فإن قيل: جلد الميتة - عندكم - لا يطهر بالدباغ. قيل: يطهر ثم صفة الطهارة هي على وجه دون وجه، وعلتنا تنتظم أنه يطهر، وقد صحت، ولنا رواية أخرى أنه يطهر على كل وجه. فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة}، وقال عليه السلام: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء)، وهذا ميتة؛ لأن الذكاة لا تبيح أكل لحمه فيصير كذبح المجوس والمحرم. قيل: جميع ذلك دليل لنا؛ لأن الله - تعالى - حرم الميتة واستثنى منها ومما ذكر معها المذكي، فقال: {إلا ما ذكيتم}. معناه: لكن ما ذكيتم؛ لأن هذا من الاستثناء المنقطع، فلما استثنى المذكي صار قوله - تعالى - {إلا ما ذكيتم} خارجا من حكم الميتة، ولو كان ميتة لكان حراما. وكذلك نقول في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء): إن

هذا خارج عن حكم الميتة، داخل في قوله: {إلا ما ذكيتم}، فقد صار لنا من قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة}، ومن قوله عليه السلام دليل الخطاب في أن غير الميتة ليس بمحرم علينا؛ لأن ما عدا المذكور بخلافه. فإن قيل: الاسم لا دليل له. قيل: - عندنا - له دليل كدليل الصفة. فإن قيل: إنها ذكاة لا تفيد جواز الأكل فوجب ألا تفيد الطهارة أصله ذكاة المجوسي، وذكاة الخنزير. وعكسه ذكاة ما يؤكل لحمه لما أفادت جواز الأكل أفادت الطهارة. قيل: هذا لا يلزمنا نحن؛ لأنها تعمل في لحم السبع، وإنما أكله مكروه، إن أكله إنسان أساء ولم يعص، وإنما يلزم أصحاب أبي حنيفة. وعلى أن أصحاب أبي حنيفة أيضا يقولون لحمها مباح ولكنهه ليس مما يؤكل؛ لأن اللحم - عندهم - طاهر بالذكاة كالجلد. فأما المجوسي فلا فرق في تذكيته بين ما يؤكل لحمه أو لا يؤكل؛ لأنه ليس من أهل التذكية، ولا تلزمنا ذكاة المحرم للصيد؛ لأنه ممنوع من حال دون حال. ألا ترى أن ذكاته صيدا يؤكل لحمه بمنزلة مالا يؤكل لحمه، وقد اتقنا على أن غير المحرم تعمل ذكاته فيما يؤكل لحمه فجاز أن يعمل في السباع غير الخنزير. ويجوز أن نقول: السبع والكلب بهيمة يجوز تمليكها بالوصية

والميراث فأشبها الشاة، ولا يلزم عليها الخنزير؛ لأن تمليكه لا يجوز. وأيضا فإنه حيوان لا حرمة له أبيح الانتفاع بعينه من غير ضرورة فأشبه الضبع. ولأنه بهيمة أبيح إمساكه واقتناؤه فأشبه ما يؤكل لحمه. ولنا أن نفرض المسألة في أن الذكاة تصح في الحمار فنقول: لما جاز أن يطهر جلده بالدباغ أن تعمل فيه الذكاة بالذبح، أصله الشاة والبقرة. وأيضا فإن الدباغة هي الذكاة الثانبة تقوم مقام الأول في حال الفوات، فإذا جاز أن تؤثر الدباغة في جلد فلأن تؤثر فيه الذكاة أولى. وأيضا فإن الحمار والبغل حيوان مختلف في جواز أكل لحمه فأشبه الضبع. فإن قيل: فقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن افتراش جلود السباع، وهذا عموم، سواء ذكي أو لا. قيل: هو محمول على غير المذكي؛ بدليل قوله - تعالى -: {إلا ما ذكيتم}، وبما ذكرناه من القياس. فإن قيل: فإن الذكاة إخراج روح لا تعمل في إباحة لحمه بحال فوجب أن لا تعمل في تطهيره، مثل ذكاة المجوسي. قيل: هي تعمل في إباحة لحمه، وإنما نكرهه كما نكره أكل الضبع، وإن كانت الذكة تعمل فيه - عندنا وعندكم -.

وعلى أنها تعمل في إباحة لحمه أيضا، لأن من اضطر إلى أكل لحم الكلب والحمار جاز له ذبحه وأكله بعد الذبح فقد فسد قولكم. فأما المجوسي فالمنع في ذكاته لأجل دينه، ولهذا المعنى استوى حكمه فيما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، وفي مسألتنا نرجع إلى المذبوح فالأمر فيه مختلف. ألا ترى أن ذبح ملك الغير بغير إذنه لما كان النهي عنه يعود إلى نفس المذبوح دون غيره لم تمتنع الذكاة فيه، وكذلك النهي متى توجه إلى الآلة، مثل السكين المغصوبة كان أخف منه إذا توجه إلى غيرها، فلم يجز قياس أحد الموضوعين على الآخر، وكذلك المحرم منع من ذكاة الصيد بمعنى فيه من جهة الدين، وفعل غيره أخف من فعله. فإن قيل: ليست الذكاة من الدباغة في شيء؛ لأن الدباغة تصح ممن لا تصح منه الذكاة، والذكاة تصح في موضع لا تصح فيه الدباغة، والدباغة تصح في موضع لا تصح فيه الذكاة، ويعتبر في الذكاة صفة المذكي والآلة والموضع. قيل: هذا لا دلالة فيه؛ لأن اختلافهما لا يمنع من تساوي حكم الذكاة والدباغ في حكم جلد ما يؤكل لحمه؛ إذ لا فرق بين أن يذكي ويطهر، وإن مات دبغ وطهر. ولأن الذكاة على ضربين: أحدهما: في السمك، وهي تحصل بأخذه ولا تعتبر فيه الآلة ولا الموضع ولا صفات الآخذ له، وذلك كله معتبر في الذكاة التي هي الذبح، ولم يكن اختلافهما مانعا من تأثيرهما في إباحة الأكل، فكذلك مخالفة الدباغة للذكاة في هذه الوجوه لا يمنع تساويهما في حكم التطهير، والله أعلم.

[42] مسألة

[42] مَسْأَلَة شعر الميتة وصوفها ووبرها طاهر - عندنا - وليس مما يحله الموت، وسواء كان مما لا يؤكل لحمه أو مما يؤكل لحمه، كشعر ابن آدم، وشعر الكلب والخنزير طاهر في الحياة والموت جميعا. وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر. قال: لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها فلا تنجس بموت الحيوان. وقال الحسن البصري والليث بن سعد الأوزاعي: إن الشعور كلها نجسة، ولكنها تطهر بالغسل. وعن الشافعي ثلاث روايات: أحدهما: أن الشعور كلها تنجس بالموت. والثانية: أنها كلها طاهرة كقولنا. والثالثة: أن شعر ابن آدم وحده طاهر، وأن ما عداه نجس.

والدليل لقولنا: كونه طاهرا قبل موت الحيوان، فمن زعم أنه قد انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل. وأيضا قوله - تعالى -: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها بوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين}، فمن الله - تعالى - علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخص شعر الميتة من الذكاة، فهو عموم إلا أن يمنع منه دليل. فإن قيل: لا دلالة لكم في هذه الآية من وجوه. أحدهما: أنه - تعالى - قرن ذكر الأصواف والأوبار والأشعار بالجلود كقوله: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا}، وأنتم لا تجيزون هذا في جلد الميتة، فكذلك في الباقي، فصار المقصود منها إذا ذكيت جاز الانتفاع بالجميع. ووجه آخر: وهو أنه - تعالى - قال: {حرمت عليكم الميتة والدم}، اسم للجملة ولكل جزء منها، فوجب أن تكون الجملة وكل جزء منها

محرما؛ لأنه صريح في الميتة، بل هو عموم فصار ذكر الميتة قاضيا عليها؛ لأنها أخص منها. وأيضا قوله: {ومتاعا إلى حين}، والحين غير معلوم مدته، فصارت الآية مجملة تفتقر إلى بيان، فلا يصح الاحتجاج بها حتى يثبت تفسيرها. وأيضا فإن الحين متردد بين زمانين فيكون المراد به حال الحياة إلى حين الممات؛ لأنه يقال: قد حان حينه، إذا جاء الموت، فكأنه قال: ما دامت حياته. قيل: الجواب عن هذا أيضا من وجوه: أحدهما: أن قولكم: إنه - تعالى - قرن ذكر الصوف والوبر والشعر بالجلد لا يقدح في الاستدلال بالعموم، ثم تقوم دلالة على إخراج الجلد. ثم إنه ينقلب عليكم؛ لأنكم تجوزون الانتفاع بالصوف والشعر في حال الحياة، ولا تجيزونه في الجلد إذا أخذ فيحال الحياة، فنحن وأنتم في هذا سواء. وأما حال الممات فأنتم تدبغون الجلد وتنتفعون به، ولا تنتفعون بالصوف والشعر، فقد فرقتم بين ذلك وبين الجلد في الحياة والممات وإن كان الله - تعالى - قد امتن بهما جميعا، وقد اتفقنا جميعا على جواز الانتفاع بالجميع مع الذكاة، والانتفاع بالصوف والشعر دون الجلد في الحياة، وبقيت حال الممات فأجزتم الانتفاع بالجلد إذا دبغ ومنعتم من الصوف والشعر، وأجزنا نحن الانتفاع بالشعر والجلد في الحال التي امتن الله - تعالى - علينا؛ لأن الجلد

إذا دبغ جاز أن نتخذ منه بيوتا نستخفها يوم ظعننا ويوم إقامتنا، وإنما تمنع من بيعه على إحدى الروايتين كما تمنعون من أكلة، وننتفع بالصوف والشعر كما كنا ننتفع به في حال الحياة، وصرنا أسعد منكم؛ لأن الامتنان من الله - تعالى - لم يفرق فيه بين الحياة والموت، وصار المباح من الآية الانتفاع بالجلد في حال الذكاة، وبالدباغ في الموت، وحصل الانتفاع بالصوف والشعر على كل حال في الحياة والذكاة والموت، كما جاز الانتفاع به في حال الحياة وإن لم يجز ذلك في الجلد، فيكون هذا أبلغ وأعظم في الامتنان لكثرة المنفعة به. وقولكم: إن الميتة تتناول الجملة وكل منها، وأنه نص في ذكر الميتة، ولا ذكر للميتة في الآية الأخرى، وأن تخصيص الميتة يقضي عليها فإننا نقول: إن قوله - تعالى -: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} تخصيصا لذكر الصوف والشعر، وليس في ذكر الميتة تخصيص لذلك، فقد حصل معنا خصوص في ذكر الصوف والوبر والشعر، وحصل في الآية التي معكم خصوص ذكر الميتة، فصار خصوص آيتكم يقضي على عموم آيتنا، وخصوص آيتنا يقضي على عموم آيتكم، فننظر أينا أولى. فوجدنا النص ورد بذكر الصوف والوبر والشعر الذي فيه اختلفنا، وليس في آيتكم ذكره صريحا، والخلاف حاصل في الشعر هل يحله الموت أو لا؟، فاستعمالنا أولى. ويقوي استعمالنا أيضا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما قطع من حي

فهو ميت لا يجوز الانتفاع به وإن دبغ، وأن الشعر إذا قطع في حال الحياة فليس بميت، ويجوز الانتفاع به، فإذا كان طاهرا في الحال التي لو قطع فيها الجلد كان نجسا فطهارته وجواز الانتفاع به في الحال التي يجوز فيها الانتفاع بالجلد إذا دبغ أولى.

وقولكم: إن الحين يصير في حيز المجمل ليس كذلك؛ لأن الناس اختلفوا في الحين. فقال بعضهم: هو سنة؛ لقوله - تعالى -: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها}، وقال بعضهم: هو عموم في كل زمان، فلا يسقط التعليق به، وإنما أراد الله - تعالى - بقوله: {ومتاعا إلى حين} أي أنكم تنتفعون به مدة من الزمان، ولكنه لم يعينه؛ لأن استعمال الناس له يختلف على حسب حاجتهم إليه، ويختلف فيما له يستعمل أيضا، ولو قال - تعالى -: إني جعلت لكم ذلك لتنتفعوا به كلما احتجتم إليه لما صار هذا في حيز المجمل. ألا تراه قال: {تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم}، وليس لظعننا ولا إقامتنا وقت معلوم، فليس هذا في حيز المجمل. وقولكم: إن الحين يتردد بين زماننين فنصرفه إلى حال حياة الأنعام حتى يحين الموت فإنه غلط؛ لأنه الله - تعالى - امتن علينا باستعماله، ولم يفرق بين حياتنا نحن أو حياة الأنعام، فيجوز أن نستعمله إلى أن نموت نحن، كما يجوز استعماله إلى موت الحيوان. وعلى أنه أيضا من وجه آخر؛ لأن قولكم يدل على أننا إذا جوزناه في حال الحياة فلا نستعمله إلا ما دام الحيوان حيا حتى إذا مات لم نستعمله، وهذا لا يقوله أحد.

وعلى أننا لا نسلم أن الصوف والشعر يقع عليهما اسم ميتة حقيقة وإن تناول الجملة فإنما يتوجه إلى اللحم والجلد والعظم. فإن قيل: قد يقول الإنسان: رأيت ميتة، وإنما رأى الشعر الحائل. ويقول: مسست الميتة، ولم يمس إلا الشعر، فدل ذلك على أن الميتة يتناول الجمع. ويدل على أن الميتة اسم لجميع الجملة: أن الجملة إذا فرقت لا يقال لها ميتة، وإنما يقال: لحم الميتة، وجلد الميتة، ورجل الميتة، فدل على ما ذكرناه. قيل: أما قول الإنسان: رأيت الميتة، وإنما رأى الشعر الحائل، ويقول: مسست الميتة، ولم يمس إلا الشعر فإنه لا يدل على حقيقة. ألا ترى أنه لو رآها مسلوخة من الجلد جاز أن يقول: رأيت الميتة، ولو مسها مسلوخة قال: مسست الميتة، وفي الحقيقة لو مس الشعر دون الجلد لقال: مسست شعر الميتة، وإنما الحقيقة تتناول الجملة سواء كان عليها شعر أم لا. فإن قيل: ما ذكرتموه من المساواة في استعمال الآيتين من قوله - تعالى -: {ومن أصوافها وأوبارها} فلنا نحن الترجيح؛ لأن آيتنا في ذكر الميتة قصد بها بيان الأعيان المحرمة، وآيتكم قصد بها الامتنان وعدد النعمة علينا، والآيتان إذا تقابلتا وقصد بأحدهما تحريم العيان التي وقع فيها الاختلاف وقصد بالأخرى غير ذلك، كان ما قصد به بيان التحريم والتحليل أولى، كما نقول في قوله - تعالى -:

{حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم}، وفي قوله - تعالى -: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} كل واحد منها عام من وجه خاص من وجه، فكان تقديم قوله - تعالى -: {حرمت علكم أمهاتكم} أولى؛ لأنه قصد بها بيان الأعيان المحرمة، وقصد بقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} بيان العدد الذي يحل ولا يحل. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} يفيد تحريم ما يموت، والشعر لا يحله الموت، وإنما ينقطع نماؤه بموت ما يموت فلم نسلم لكم أن الشعر ميتة. ألا ترى - تعالى - استثنى في الميتة فقال: {إلا ما اضطررتم إليه}، والضرورة تدعو إلى أكل الميتة، والشعر لا يؤكل، فثبت أن الميتة اسم لما عدا الصوف والشعر، وحصل النص في الامتنان بالصوف والشعر عاما، فلا يقضي عليه، فلا يخصه ذكر الميتة. والجواب الآخر: هو أن الامتنان أيضا يقع بالانتفاع بالأعيان كما يقع تحريمها، فما أمكننا أن نحس موضع النعمة والمنة فهو أولى، وقد بينا أن المنة في سعة استعماله أولى، يشهد لما قلناه: التفرقة بينه وبين الميتة في حال حياة الحيوان فإن الشعر ينتفع به، وجلد الحية لا ينتفع به، وهو ميتة، والمنة في الشعر قد أباحته بخلاف الجلد، ولم يقضوا

بتحريم الجلد الذي هو ميتة في حياة الحيوان على الشعر الذي حصل به الامتنان، فكذلك لا يقضي بتحريم الميتة في حال الموت على الشعر الذي وقع الامتنان به. ويدل على صحة قولنا أيضا: ما روي عن أبي سلمة عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بأس بصوفها ووبرها وشعرها إذا غسل بالماء)، وهذا نص، فسقط معه كل ظاهر وقياس، وقوله عليه السلام: (لا بأس) أي لا ضيق ولا حرج. فإن قيل: هذا الحديث لا يصح، ولو صح لكان السؤال عليه م وجهين. أحدهما: أن قوله عليه السلام: (لا بأس) لا يفيد الطهارة ورفع النجاسة كما روى البراء بن عازب أن النبي عليه السلام قال: (لا بأس ببول ما أكل لحمه).

والوجه الآخر: أن النبي عيه السلام إنما حكم بطهارة الشعر بشرط الغسل. وهذا معنى غير معتبر - عندنا وعندكم - لأنه - عندنا - لا يطهر بالغسل، و - عندكم - لا يفتقر إلى الغسل، وقد جعل عليه السلام من شرطه الغسل. قيل: أما قولكم: إن الحديث لا يصح دعوى بلا برهان فلا يسمع. وقوله عليه السلام: (لا بأس ببول ما أكل لحمه) فكذلك نقول أيضا، فلا فرق بين الموضعين. وقولكم: إن النبي عليه السلام حكم بطهارة الشعر بشرط الغسل، وأنه

لا يفتقر إلى الغسل - عندكم - فإننا نقول: إنما ذكر الغسل على طريق الندب تنظفا لما يحدث من الحيوان عند موته، والمقصد إعلامنا جواز استعماله، وأنه طاهر في نفسه، ولا ينجسه الموت. ويدل على صحة قولنا: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام مر بشاة مولاة ميمونة ميتة، فقال: (ما على أهلها أن لو أخذها إهابها فدبغوه فانتفعوا به). فقالوا: إنها ميتة. فقال: (إنما حرم أكلها)، وروي: (إنما حرم لحمها)، فلم يحرم منها غير ما يؤكل، والشعر لا يؤكل، ولو كان في الشعر روح لوجب أن لا يستباح أخذه إلا بالذكاة، كالجلد واللحم وغيرهما، فما أجمعنا على أنه لو أخذ من حيوان يؤكل لحمه في حال حياته كان طاهرا من غير تذكية علم أنه لا روح فيه. وأيضا فإن النبي عليه السلام قال: (ما قطع من حي - وهو حي - فهو ميتة)، فلو كان الشعر فيه روح لوجب إذا جز مما يؤكل لحمه في حياته أن يكون ميتا نجسا، وهم لا يقولون إنه ميت، بل يقولون مثل قولنا إنه طاهر، فدل على أنه لا روح فيه. فإن قيل: فإن الصوف والشعر إذا قطع من حي يؤكل لحمه في حال حياته فإن ذلك ميتة، فإن لم يكن نجسا فقوله عليه السلام: (فهو ميت)

صحيح لا بدل على تنجيسه. ألا ترى أن السمك ميت وليس بنجس. قيل: فينبغي أن يكون جلد الحي إذا قطع منه ميتا ولا يكون نجسا، وإنما أراد عليه السلام أن الذي يقطع من الحيوان في حياته يكنن ميتا كما لو مات الحيوان؛ بدليل الجلد، فإذا كان الشعر يسمى ميتا كان مثل الجلد. فأما السمك فلو قطع جلده أو بعض لحمه وهو حي فإنه بمنزلته لو مات لا فرق بين حياته وموته، فلما تقرر أن الجلد من الشاة لو قطع في حياتها لكان ميتا نجسا كان كذلك في موتها، كان الشعر إذا قطع منها في حياتها لم يكن ميتا نجسا كان كذلك في موتها. فإن قيل: خبر شاة مولاة ميمونة حجة لنا؛ لأنه عليه السلام بين حكم الجلد بأنه إذا دبغ انتفع به، وأعرض عن غيره؛ لأنه لا سبيل إلى الانتفاع بشيء من هذه الجملة إلا بالجلد حسب دون غيره، لاسيما على مذهب من يقول: إن الشعر طاهر، فهو في الحال مال عنده، ولم يبين حكمه، فدل على ما ذكرناه. قيل: النبي عليه السلام بين حكم الجلد الذي الشعر والصوف عليه فقال: (هلا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به)، فعلم أنه أباح الجلد والشعر جميعا، فلما قالوا له: إنه ميتة، علم أن الجلد ميتة، فقال: (إنما حرم أكلها) إشارة إلى الجلد الذي يتأتى فيه الأكل، وإلى اللحم

أيضا وبقي الجلد والشعر الذي عليه على جملة الانتفاع بقوله: (ألا انتفعوا به)، فلم يحتج إلى بيان ثان. وليس قوله عليه السلام: (إنما حرم أكرها) بيانا لحكم الانتفاع بها؛ لأنه قد تقدم، وإنما هو بيان لحكم الأكل، وأنه محرم دون الانتفاع به. ولنا أيضا ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أن رجلا سأل النبي عليه السلام عن الصلاة في الفرا. فقال: (أين الدباغ؟)، ومعلوم أن الدباغ يؤثر في الجلد حسب، فكان حكم على أصل طهارته ويجوز أن نقول: هو شعر منفصل من عين يجوز الانتفاع بها على وجه من غير عذر فأشبه الحي منها. ونقول أيضا: إن الذي ينجس بالموت في حين اتصاله بالحيوان فإن انفصاله منه في حال حياته بمنزلته. دليل ذلك: سائر أبعاضه،

فلما كان الشعر يفارق سائر أبعاضه في حال حياته فارق سائر أبعاضه في حال مماته. ألا ترى أنه لو قطع عضو منه في حال حياته كان بمنزلته في حال مماته، فعلم مخالفة الشعر لسائر أبعاض الميتة. وأيضا فإن تأثير الموت في الجلد الذي هو محل الشعر أبلغ من تأثيره في الشعر. ألا ترى أنه في إبطال الحسن منه، ووصول الألم إليه، وتوكد الإجماع في تحريمه. فإذا لم يوجب نجاسة الشعر في الحال التي فيها ألم الجلد فلأن لا ينجس في حال انقطاع الحس عن الجلد الذي هو محل الشعر أولى. وأيضا فإن صفة الشعر في نفسه لما لم يتغير بموت الأصل عما كان عليه لم يعتبر نفس انقطاع النماء فيه، دليله: الجنين لما كان باقيا على حالته لم يكن انقطاع النماء موت الأصل مانعا نم طهارته. فإن قيل: الجنين في وعاء، والشعر على عين نجسة. قيل: لا فرق بينهما؛ لأن الشعر على وهاء ينمي بنمائه، فإذا انفصل انقطع نماؤه من الأصل، والجنين في وعاء ينمي بنمائه، فإذا انفصل منه انقطع نماؤه من الوعاء فإذا انفصل من الأصل في حياته فهو كانفصال الشعر منه والنماء منقطع عنهما جميعا من الأصل. ويجوز أن نجعل الجنين أصلا فنقول: هو عين ينفصل في حال حياة الأصل فيحكم بطهارتها، فكان انفصالها بعد الممات على تلك الصفة وفي حكمها، وهذا المعنى موجود في الشعر.

وأيضا فإن وقوع الفعل في نفس الجنين لا يؤثر في إيلام الأصل، فأشبه من هذا الوجه الشعر فوجب أن يتفقا في الحكم. ونقول أيضا: قد اتفقنا على أن صوف الحي من الأنعام وشعره طاهر فكذلك إذا مات؛ بعلة أنه متصل بحيوان لو قطع جلده لكان نجسا. فإن قيل: فإنه متصل بذي روح ينمو بنمائه فوجب أن يكون فيه روح، أصله الجلد واللحم. أو نقول: فوجب أن ينجس. أو نقول: فوجب أن يموت بموت ذاته. واحترزوا بقولهم: متصل بذي بوح من الجنين، وهو ينمو بنماء أمه، ولا ينجس بموتها؛ لأنه ليس متصل بذي روح، وإنما هو في وعاء. وقولهم: ينمو بنمائه احتراز إذا جف بعض بدنه أو أصابه شلل هو متصل بذي روح ثم لا روح فيه، ولا ينجس أيضا بموته؛ لأنه لا ينمو بنمائه؛ لأنه إذا سمن لم يسمن موضع الشلل. قيل: إن الشعر ليس بجزء من الأصل ولا هو من أبعاضه وإن كان متصلا به، ولو كان في حكم الأجزاء لنجس بقطعه في حياة الأصل مثل سائر أجزائه، ولكان يؤلم أخذه ويحس به كما يوجد ذلك في سائر أبعاضه من غير آفة به. ولو صح هذا لكان الأولى أن يحكم بنجاسة الولد؛ لأنه متصل بأمه، ويعتق بعتقها ويصير مذكى بتذكيتها - عندنا وعندهم -. وقولهم: ينمو بنمائه فاسد؛ لأن النماء قد يحصل مع انقطاع نماء الحي، ولا يفسد بموته في العادة الجارية. على أن سائر الأعضاء من اللحم الجلد حجة لنا؛ لأنها لما كانت تنجس بالموت كان كذلك حكمها

إذا انقطعت في حال الحياة، ولما كان الشعر ينفصل في حال الحياة ولا يحكم بنجاسته كان انفصاله بعد الموت كذلك، مثل الجنين. ولا يلزمنا شعر الكلب والخنزير؛ لأنه طاهر في الحياة والموت - عندنا -. فإن قيل: فإن كل ما كان مضمونا من الصيد بالجزاء كأنه فيه روح، أصله اللحم والجلد وتأثيره عندي، وعكسه دمعه وبوله لما لم يكن فيه روح لم يضمن بالجزاء. قيل: لا جزاء - عندنا - في أبعاض الصيد، وإنما الجزاء في إتلاف الصيد جملة سواء كان عليه شعر أو لا فلا يلزم ما ذكرتموه على أننا قد ذكرنا قياسات هي أولى من كل قياس؛ لاستمرارها في الشعر سواء قطع من حي متفق عليه أو ميت، ويطرد لنا في شعر ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل؛ لأنه إذا ثبت أنه لا روح فيه لم يختلف حكمه. فإن قيل: قولكم: إن الشعر لا روح فيه ولا يموت غلط؛ لأنه ينمو بنماء الحياة حتى إذا عدم لم ينم. قيل: النماء لا يدل على أن في الشعر حياة؛ لأن الذي فيه الحياة من الحيوان يلحقه الألم؛ ويحس إذا قطع ولا آفة به، والشعر إذا قطع لم يؤلم. فإن قيل: فإن الجلد الغليظ في العقب به آفة فزال الألم منه

بعد أن كان موجودا فيه، فهو كاليد الشلاء، والشعر على كل حال بمنزلة واحدة لا يتعير، ألا ترى أن عقب الصبي ومن هو مترف يألم كما خلق، وشعر الصغير والكبير والمترف على صفة واحدة. فإن قيل: فإن الظفر يقص ولا يؤلم كالشعر، ومع هذا فإن الظفر فيه حياة، وينجس بالموت. قيل: الظفر لا حياة فيه غير أن أصله يسقيه الدم كالريش، فهو ينمس كما ينمي الشعر، ولكن الشعر لا تسقي أصوله الدم. فإن قيل: فإن الرجل الخدرة، ومن شرب البنج، والجنون لا حس لهم ولا ألم، ولم يدل على أنه لا يحكم لهم بحكم الحي، فكذلك الشعر. قيل: إن الرجل الخدرة كان الألم فيها مخلوقا موجودا، ثم قد تعود إذا زال الخدر، وليس كذلك الشعر. وأما المجنون والسكران فبهذه المنزلة، على أنهما يحسان، وإنما تذهب عقولهم فلا يميزون، والشعر ينمي بنماء الحي لاتصاله به، كما ينمي النبات باتصاله بالأرض. فإن قيل: إن في الأرض حساة، قال الله - تعالى -: {أحييناها}. قيل: لا يقال فيها روح، فعلم أن ذكر الحياة فيها مجاز، وإنما شبهت بما فيه الحياة. ألا ترى أن الله - تعالى - قال في الزرع إذا

هلك: {ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما}، ولم يقل: إنه يموت. وإنما نحن نقول ذلك مجازا، وحقيقة الموت إنما هو فيمن له روح وليس في الأرض ولا في الزرع روح. فإن قيل: فقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء)، وهذا عام في جميعها. قيل: قد ذكرنا أن حقيقة الميتة لما فيه روح فعدمت منه، وذلك لا ينتفع منه بشيء إلا بدليل. ثم لو تناوله العموم لجاز أن يخص كما خص الجلد بالدباغ، وكما جاز استعمال الشعر في حال الحياة، وقد ذكرنا ما يخص ذلك. فإن قيل: فإن اللبن يؤخذ في حياة الحيوان فيكون طاهرا، ثم إذا مات الحيوان وهو فيه نجس، فكذلك الشعر. قيل: إنما نجس اللبن إذا مات الحي؛ لأنه يحصل بالموت في وعاء نجس لا أنه نجس بموت الحي، وليس كذلك الشعر. ونظير البن وحصوله في وعاء نجس أن يتلوث الشعر بالدم أو يحصل فيه فإنه يغسل، واللبن مائع ينجس بكونه في الوعاء النجس، ولا يمكن غسله. فإن قيل: فإن الشعر والصوف جزء متصل بالبدن مشاهد، له مدخل في الطهارتين الأعلى والأدنى، فيلحقه حكم الحياة والموت كالجلد. قيل: إن الشعر المتدلي من اللحية والرأس مثل الضفائر لا مدخل

له في الوضوء فلا يلحقه حكم التطهير. على أن ثمرة هذا القياس ونتيجته أن الشعر إذا مات نجس فلم يجز استعماله، كالجلد واللحم وهذا فاسد؛ لأنه يوجب إذا قطع من الحي أن يكون كذلك فينبغي أن يكون نجسا كالجلد، فلما جاز الانتفاع به إذا أخذ في الحياة - وهو مع هذا طاهر - سقط ما قلتموه مع استواء حكمهما في الطهارتين. على أن داخل العين لا مدخل له في الطهارتين، وهو يلحقه حكم النجاسة، فعلم أنه لا تعلق لأحدهما بالآخر، وكذلك ما ستره الشعر لا يلحقه حكم التطهير - عندنا -، وهو ينجس بالموت، فلم يكن أحدهما علة في الآخر. ثم لنا أن نعكس عليهم فنقول: لما كان الشعر يلحقه حكم الطهارتين وجب أن يتفق حكمه في انفصاله في الحياة والموت، دليله تساوي سائر الأجزاء في الحياة والموت. فإن قيل: رأينا الجلد له حالتان: إحداهما: تمكن الانتفاع به فيها، وهي الذكاة، والأخرى: يمتنع الانتفاع به فيها، وهو إذا قطع منها في حياتها، فالشعر المضموم إليه مثله بحق القرآن، فينبغي أن يجوز الانتفاع به في حالتين، هما: واحدة في حياة الحيوان، والأخرى في الذكاة. قيل: هذا فاسد؛ لأنه كان ينبغي أن لا يجوز استعماله إلا في الحال التي يجوز فيها الانتفاع بالجلد، لأنه مضموم إليه، فلما جاز

الانتفاع به في الحال التي لا يجوز استعمال الجلد فيها، وهو إذا أخذ في حال الحياة، كذلك يجوز الانتفاع به في حال الممات، وهي حال يكون الجلد فيها نجسا كالحياة. وأيضا فإن الشعر يحدث في الحيوان بعد وجود الحيوان، فهو كالولد يحدث فيه وأجزاء الحيوان موجودة في الخلقة قبل حدوثه، ولا يجوز أن يقال: إن الشعر يجب قطعه الغرم والضمان كالأجزاء؛ وذلك أن وجوب الغرم لا مدخل له في حكم النجاسة والطهارة. ألا ترى أن ما لا قيمة له في الأشياء الطاهرة لا يجب به ضمان، وما له قيمة من النجس يتعلق به الضمان، فصار هذا الكلام لغوا؛ لأن قائلا لو قال: لما جاز أن تكون الأجزاء مغصوبة جاز أن تلحقها النجاسة لكان ذلك لغوا. وأيضا فإن تساوي الشعر والأجزاء في الضمان لما لم يوجب تساويهما في حال الحياة في النجاسة والطهارة وجب أن يكون كذلك بعد الموت، فكل فرق يفرقون به بين الأمرين فهو فرقنا في السؤال. فإن قيل: لما كان تحريم الميتة يعم سائر المسلمين غير المضطرين، كما أن تحريم الصيد يعم جميع المحرمين غير المضطرين، ثم لو كان أحد التحريمين يتعلق بجميع أجزائه من الصيد فوجب أن يكون كذلك حكم الأجزاء في الميتة. قيل: هذه دعوى لم تجمعوا بينهما بمعنى فلا تقبل إلا بدليل. وأيضا تعليل بحكم مجهول؛ لأن أحد التحريمين يعود إلى إتلاف، وهو صيد المحرم، والتحريم في الميتة يعود إلى نجاستها، وإلى بطلان

الصلاة معها، فقولكم: إن أحد التحريمين يتعلق بجميع أجزائه من غير أن تبينوا حكم التحريم وكيفيته تعليل بمجهول، وهذا غير صحيح. وعلى أن هذا منتقض بالحيوان في حياته؛ لأن تحريم سائر أجزائه يعم سائر المسلمين غير المضطرين، لأنه ما قطع منه فهو حرام ولم تستو أجزاؤه وما هو متصل به من صوفه وشعره، فكذلك في مسألتنا، وبالله التوفيق.

فصل

فصل فأما عظم الميتة وسنها وقرونها وريشها فهو - عندنا - نجس، وكذلك عظم الفيل ونابه، فإن ذكي فهو طاهر بناء على أصلنا في أن الذكاة تعمل في جلود السباع ولحومها. وقال أبو حنيفة: عظام الميتة وسنها وقرونها وريشها طاهر، وكذلك عظام الفيل، بناء على أصله أنه لا حياة فيها، وأن الذكاة تعمل في السباع وتطهرها وإن كانت نجسة في حياتها، فسواء ذكيت أو ماتت فإن العظام طاهرة؛ لأنه لا روح فيها. ووافقنا الشافعي على أن عظام الميتة نجسة وقرونها وسنها، وإنما خالفنا في صوفها ووبرها وشعرها، وقد مضى الكلام معه في ذلك، وخالفنا في أن الذكاة لا تعمل فيما لا يؤكل لحمه وقد مضى الكلام عليه.

والدليل لقولنا وقول الشافعي على أبي حنيفة في أن عظام الميتة نجسة: قول النبي عليه السلام: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء)، وهذا عام فيها وفي كل جزء منها إلا ما قام دليله. فإن قيل: ليس العظم منها فلا يتناوله اسم ميتة. قيل: عن هذا أجوبة. أحدهما: أن اسم الميتة يقع على جملتها والسن فيها. وأيضا: ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره أن يدهن في مدهن الفيل، وقال: إنه ميتة، وهذا تعليل منه فكأنه قال: لأنه ميتة.

وأيضا: فإن الله - تعالى - قال: {من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة}، وقال: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما}، وقال: {أءذا كنا عظما نخرة}، وقال: {فكسونا العظام لحما}، فالأصل هو العظام، والروح والحياة فيها كما هي في اللحم والجلد. وأيضا: يألم كما يألم اللحم والجلد. فإن قيل: القرن يقطع فلا يألم، ويتبرد السن فلا يألم، وكذلك الريش. قيل: يجوز أن يكون الظفر والسن والقرن والريش لا روح فيه غير أن أصله يسقيه الدم، فهو بخلاف الشعر والصوف، وأما العظم الذي تحت اللحم فإنه يؤلم كما يؤلم اللحم. ولنا أيضا قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة}، وهذا عام فيها وفي كل جزء منها إلا ما قام دليله، وقد بينا أن العظم يموت ويدخله الحياة بقوله - تعالى -: {من يحيي العظام وهي رميم}، وبما تقدم ذكره.

وأيضا فإن العظم يتأتى أكله كاللحم والجلد، فلما اتفقنا على أنه لا يؤكل مع تأتي الأكل فيه، دل على أنه كاللحم والجلد. قيل: هذا غلط؛ لأن العظم يؤكل، وخاصة عظم الحمل الرضيع والجدي والفرخ والطير وغير ذلك، وعظم الكبير يشوي ويؤكل، ويتأتى فيه الأكل، وليس كالصوف والشعر. ويجوز أن نحرز قياسنا فنقول: قد اتفقنا على أن لحم الميتة نجس إذا أخذ في حياتها أو موتها، وكذلك العظم الذي تحت اللحم بعلة أنه لو قطع في حياتها لكان نجسا. أو نقول: هو جزء متصل بذي روح قد اكتسى جزءا منها، فهو كاللحم الذي اكتسى جزءا منها، وهو الجلد، فكذلك العظم قد اكتسى جزءا من الحيوان وهو اللحم، فوجب أن يكون نسجا كاللحم، ولا يلزم على هذا السن والقرن والريش؛ لأنه لم كتس جزءا من الحيوان، وبالله التوفيق.

[43] مسألة

[43] مَسْأَلَة قد مضى الكلام في طهارة الكلب وسائر الحيوان، وأن غسل الإناء منه تعبد، ولكنه لا يقتصر في غسله إذا أريد استعماله عن سبع مرات، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: غسله كغسل سائر النجاسات، ويعتبر في إزالته ما يغلب على ظنه، فإن غلب على ظنه أن قد زال بالمرة الواحدة لم يفتقر إلى غيرها، وإن لم يزل بالواحدة فلابد من غسله حتى يغلب على ظنه إزالته، ولو كان عشرين مرة؛ لأنه - عندهم - نجس. هذا الذي يناظرون عليه في هذا الوقت، وقد كان شيوخهم فيما مضى يختلفون، فيقول بعضهم: الواجب مرة واحدة، وما زاد عليها مستحب. وبعضهم يقول: يغسل ثلاثا.

وقال أحمد: يغسل ثماني مرات الثامنة بالتراب. ومن يقول إنه نجس يقول: إن غسله فرض، - وعندنا - أنه طاهر فغسله عبادة مسنونة، والكلام في العدد. واستدل أصحاب أبي حنيفة بما رواه أبو هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاثا أو خمسا أو سبعا)، وهذا نص؛ لأنه خيره بين ذلك، ولم يوجب السبع.

وأيضا فقد روى أبو هريرة أنه قال: (يغسل من ولوغه ثلاثا)، ولا مخالف له في الصحابة. ولأنه إزالة نجاسة فلا يكون من شرطه العدد كسائر النجاسات. وأيضا فلو كان العدد من شرطه لوجب إذا طرح الإناء في ماء كثير أن لا يطهر؛ لأنه لم يوجد العدد، فلما قلتم: إنه يطهر علم أن العدد ليس من شرطه. والدليل لقولنا: ما رواه مالك وسفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا)، وهذا أمر يقتضي وجوب السبع.

وروى أيوب بن أبي تميمة عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحد فليغسله سبعا أولهن أو آخرهن بالتراب)، فأوجب السبع، على أن يكون أحدهما بالتراب. وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: (طهور إناء أحكم إذا ولغ فيه الكلب إن يغسله سبعا أولهن وآخرهن بالتراب)، فعلق عليه السلام الطهارة التي تنقله من منع استعماله إلى جواز استعماله بالسبع، وإذا تعلق الحكم بالسبع لم يكف دون السبع، ومن علقه بدون السبع يكون ذلك نسخا؛ لأنه يمنع من تعلقه بالسبع، والنسخ لا يكون بخبر محتمل ولا بقياس. فإن قيل: على هذا نحن نقول إن السبع واجبة ويتعلق التطهير بها، وهو إذا غلب على ظنه أن الإناء لم يطهر بدون السبع. قيل: عنه جوابان: أن الإناء - عندنا - ليس بنجس فيغلب على ظنه طهارته أولا.

والجواب الآخر: هو أن هذا لا يظنه عالم؛ لأن الذي يغلب على الظن أنه لم يطهر إنما يكون في مرة واحدة أو مرتين وأكثر الثلاث، فأما أن يغلب على ظن أحد الإناء إذا غسل ست مرات أن النجاسة - التي ليس بعين قائمة - لم تزل فهذا محال. وأيضا فإنه لو كان تعلقه بذلك - لأنه قد يغلب على ظنه أنه لم يطهر بما دون ذلك - لم يجعله محدودا في الشرع لا يرجع فيه إلى غلبة الظن، وما كان الأمر فيه معلقا على غلبة الظن لم يكن محدودا؛ لأن الحد في المظنون ما يحده الظان لا الشرع، كما نقول والجميع في التقويم: إن الأمر لما كان فيه معلقا على غلبة الظن لم يكن للقيمة حد في الشريعة، وإنما هو على ما يحده الظان. فإن قيل: إن الراوي إذا روى خبرا وفسره رجع فيه إلى تفسيره، وقد قال أبو هريرة: يغسل ثلاث، فلا يخلو أن يكون علم النسخ لما

زاد على الثلاث، أو عقل ذلك من لفظ النبي عليه السلام، وقد روى أيضا التخيير بين الثلاث والخمس والسبع. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن قول الراوي حجة عليكم؛ لأنه اعتبر عددا، وأنتم لا تعتبرونه. والجواب الآخر: أننا لا نقبل قول الراوي في التخصيص والنسخ، كقول ابن عباس: إن بيع الأمة طلاقها، وإنما يقبل قوله في لفظ محتمل يجوز أن يكون المراد به شيئا، ويجوز غيره. فإذا فسر الراوي أن المراد به أحدهما رجحنا قوله، وفي هذا الموضع قول أبي هريرة أفتى رجلا بعينه فيحتاج أن يعرف خبر ذلك الرجل، وكيف كانت حاله، فلعله كان مضطرا إلى استعمال ذلك الإناء لشيء لابد منه، ولم يقدر من الماء إلا على ما يكفيه ثلاث مرات، أو غير ذلك مما تدعو إليه الضرورة، أو لعله أراد أن يعلمه أن غسله ليس بفرض على ما نقوله في طهارة الكلب، وأن الإناء طاهر، وأنه مسنون غسله، ونحن نقول: المسنون غسله بالعدد الذي هو سبع مرات، فيصير الكلام معتلا

في هذا الأصل، فلا ينبغي أن يترك ما نص عليه من العدد بمثل هذا المحتمل. ونقول أيضا: هو عدد شرط في موضع تطهير لم يبين لنا الشرع فضل بعضه على بعض فوجب أن يستوفى العدد فيما ورد، أصله غسل الأربعة الأعضاء في الوضوء. أو نقول: هو عدد قد تعبدنا به ورد الأمر به لم يبين لنا فضل بعضه على بعض فوجب أن يستوفى عدد الذي ورد فيه، أصله عدد رمي الجمرة. ولا يلزم على هذا تكرير الغسل في الوضوء لأن النبي عليه السلام بين فضل المرة الثانية، وأن الأولى هي الفرض. ولا يلزم عليه أحجار الاستنجاء؛ لأن الفرض منه إزالة عين النجس، وليس في الإناء نجاسة - عندنا -. ولا يلزم عليه غسل اليد عند الاستيقاظ من النوم؛ لأنه ليس بواجب فرضا ولا سنة، وإنما هو مستحب. ونقول أيضا: لما ثبت المنع من اقتناء الكلب على وجه حتى غلظ في إراقة الماء من ولوغه اقتضى زيادة عدد فيما طريقه العبادات يتخصص به، فإذا زاد على الثلاث الذي قد دخلت في الوضوء وغيره فليس إلا الشرع. وأما ما رواه أبو هريرة من قول النبي عليه السلام: (فليغسله ثلاثا أو

خمسا أو سبعا) فهو حجة لنا من وجهين. أحدهما: أنه عليه السلام اعتبر العدد وهم لا يعتبرون العدد. والثاني: أنه خير بين الثلاث والخمس والسبع، والمخير بين ثلاثة أشياء متى أتى بواحدة منها كان ذلك واجبا كالكفارة، فيقتضي أنه إذا أتى بالسبع كانت السبع هي الواجبة، وهذا مذهبنا، وهو خلاف مذهبهم. ووجه آخر: هو أننا نقول: إن (أو) إنما تدخل في الكلام للتخيير أو الشك إذا كان في أخبار، وأبو هريرة مخبر، فكانت أو في خبره للشك، فكأنه شك أن النبي عليه السلام قال: يغسل ثلاثا، أو قال: يغسل خمسا، أو سبعا، فلا يصح الاحتجاج به. أو نقول: يحتمل الشك ويحتمل التخيير فلا ينسخ ما رويناه عنه عليه السلام بالمحتمل. وعلى أن أصحاب الحديث قد طعنوا في الحديث، وزعموا أن راويه عن ابن جريج إسماعيل بن عياش، وهو مضطرب الرواية، فلا يعارض به في حديث مالك وغيره من الإثبات.

وقولهم: إنه مذهب أبي هريرة عنه جوابان: أحدهما: أنه حجة عليهم؛ لأنه اعتبر العدد، وهم لا يعتبرونه. والجواب الثاني: أن ابن عباس وابن عمر قد خالفاه، وقالا: يغسل سبعا، وقول بعض الصحابة لا يكون حجة على بعض. وأما وقوع الإناء في الماء، وسقوط العدد فإننا نقول: إن التغليظ في العدد في غسل داخله قد حصل أكثر منه بحصول جميع الإناء في الماء، فهو أبلغ في مكاثرة الماء عليه، فقد حصل أكثر مما لو غسله سبع غسلات.

فصل

فصل فأما غسل الإناء من ولوغ الخنزير فليس بواجب. وروي مطرف عن مالك أنه يغسل سبعا كما قال في ولوغ الكلب، وبهذا قال الشافعي. وحكى أبو العباس بن القاص أنه قال في القديم: يغسل مرة واحدة. وقد حكينا مذهب أبي حنيفة في

ولوغ الكلب، والخنزير مثله. والدليل للرواية الأولى وأنه لا يجب غسله: هو أن وجوب غسل الإناء يحتاج إلى شرع، ولولا أن النص ورد في الكلب لما أوجبناه. وأيضا فإنه عليه السلام غلظ في الكلب؛ لأنهم كانوا يقتنونه فيؤذي الضيف، ويروع المسلم، فغلط عليهم فيه حتى ينتهوا، وهم فلا يقتنون الخنزير فلا يجب غسل ما ولغ فيه. وأيضا فإنه ذو ناب يختص باسم يخالف الكلب فأشبه الهر والفهد والنمر. ووجه ما رواه مطرف: هو أنه غالب حاله يأكل الأنجاس ولا يجتنبها، وقد ورد النص في تحريمه من بين سائر السباع، فإذا غلظ الغسل في الإناء من ولوغ الكلب ففيه أولى.

وأيضا فإنه أسوأ حالا من الكلب؛ لأنه ساواه في أكله الأنجاس، وزاد عليه بأكله العذرة، وأن النص ورد بتحريم لحمه، وبيعه على كل حال، ولا يجوز اقتناؤه لصيد ولا غيره فوجب أن يكون بالتغليظ في غسل الإناء من ولواغه.

فصل

فصل فأما غسل الإناء من نجاسة تقع فيه، وسائر الأنجاس فليس فيه عند مؤقت، وبذلك قال أبو حنيفة، والشافعي. وقال أحمد: ثماني مرات الثامنة بالتراب، كما قال في ولوغ الكلب والخنزير.

والدليل لقولنا: أن العدد محتاج إلى شرع. وأيضا فإن النبي عليه السلام قال لأسماء في دم الحيضة: (حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء)، ولم يأمرها بعدد، هذا فيما عينه نجسه فكيف ما ليست عين قائمة، وهو مختلف في طهارته؟، وإنما غلظ في الكلب والخنزير لمعنى غير النجاسة. - عندنا -. وأيضا قول النبي عليه السلام: (يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء)، ولم يأمر بعدد. وقال: (يرش على بول الصبي، ويغسل بول الصبية)،

ولم يأمر فيه بعدد. وأيضا ما روي أنه عليه السلام صلى ثم وجد في ثوبه لمعة من دم حيض فوجه به إلى عائشة وقال: (اغسليه)، ولم يذكر عددا. وما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم تذكر عددا، فكان غرضها أن تفيدنا غسله، فلو كان شرطه العدد لذكرته. وأيضا فإن الطهارة ضربان: طهارة نجاسة، وطهارة حدث، فلما كان الفرض في طهارة الحدث مرة واحدة كانت في طهارة النجاسة، ولا يلزمنا غسل الإناء من ولوغ الكلب والخنزير؛ لأنه ليس بطهارة من نجس ولا حدث؛ لأنهما طاهران، والله أعلم.

فصل

فصل قد تكلمنا على طهارة الكلب وسائر الحيوان، فإذا ثبت ذلك فسؤر جميع ذلك طاهر، لا يفسد الماء. ورأيت أن أفراد الكلام على أبي حنيفة فإنه يقول: أسآر سائر سباع البهائم نجسة لا يجوز التوضؤ بما ولغت فيه بحال، كالكلب والخنزير فكذلك الأسد والفهد، وأما سباع الطير، وحشرات الأرض مثل الحية والفأرة وغير ذلك فكلها نجسة، ولكن عفي عن نجاستها؛ لأن الاحتراز منه لا يمكن فيكره التوضؤ بسؤره، ولكنه جائز، كذلك الهر قال: هي نجسة، ولكن عفي عن نجاستها فيكره التوضؤ بسؤرها. وأما البغل والحمار فمشكوك فيه، فإن كان واجدا للماء لم يجز التوضؤ به، وإن كان عادما له توضأ بما فيه سؤره ويتيمم. ووافقنا الشافعي على طهارة جميع ذلك إلا الكلب والخنزير،

وقد مضى الكلام على جميع ما فيه الحياة. واستدل أصحاب أبي حنيفة ومن نصر قوله بما روي أن النبي عليه السلام سئل عن الحياض بين مكة والمدينة تردها السباع والدواب فقال: (إذا ولغ الماء قلتين لم يحمل خبثا)، فجعل ذلك نجسا خبيثا إذا كان دون القلتين. وأيضا فإنه حيوان لا يؤكل، ويمكن حفظ الإناء منه فوجب أن يكون سؤره نجسا كالكلب، أو سبع يمكن الاحتراز منه فهو كالكلب.

ولنا ما رواه داود بن الحصين عن أبيه عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل فقيل له: أيتوضأ بما أفضلت الحمر؟. فقال: (نعم، وبما أفضلت السباع كلها)، وهذا نص؛ لأنه عليه السلام جوز التوضؤ بسؤر

الحمار. وهم يمنعون منه، وكذلك سؤر السباع كلها، وأبو حنيفة إما طأن يكرهها أو يمنع من ذلك. وهذا الخبر يلزم الشافعي أيضا؛ لأن الكلب والخنزير من جملة

السباع، وقد روي فيه (والكلاب). فإن قيل: المراد بقوله: (وبما أفضلت) مثل أن يشرب من نهر أو دجلة. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن هذا غير محتمل؛ لأن الفضل هو قليل من كثير، كما يقال: أكل زيد ففضل منه، فعلى هذا لا يجوز حمله عليه بقياس ولا غيره. والثاني: أنه عام في كل فضل. وأيضا فإن هذا لا يصح على أصلهم؛ لأن الماء القليل هو إذا حرك أحد جانبيه تحرك الآخر - عندهم - إذا شرب منه السبع نجس الماء كله، وإذا كان كثيرا بحيث لا يتحرك الجانب الآخر فالموضع الذي شرب منه نجس. وبعضهم اليوم يقول: فيه رواية أخرى أنه لا ينجس. ولنا أيضا حديث كبشة مع أبي قتادة لما أصغى الإناء للهر حتى شربت، وقال: سمعت النبي عليه السلام يقول: (الهر ليست بنجس إنها .....)، وما ليس بنجس لا يكره سؤره. وأبو حنيفة يكره سؤر الهر.

وأيضا فإن النبي عليه السلام امتنع من دخول دار فيها جرو، ودخل دارا فيها هر. فقيل له: دخلت دار فلان وفيها هر. فقال عليه السلام: (الهر سبع)، فلما علل الهر بأنها سبع علم أن السباع كلها لا تجتنب، والكلب سبع، وإنما أراد أن يعلمهم أنه امتنع لسبب آخر في الكلب، وهو نهيه لهم عن اقتنائه. وأيضا فهو إجماع الصحابة. روي أن عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب وردا على حوض فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا. وروي أن أبا هريرة سئل عن الماء ترده السباع. فقال: الماء لا ينجسه شيء. وأيضا فإنه حيوان يجوز بيعه فوجب أن يكون سؤره طاهرا، أصله النعم. ولا يلزمنا على هذا الكلب؛ لأنه يجوز بيعه، وإنما يكره. ونقول: هو حيوان يجوز اقتناؤه بكل حال فوجب أن يكون سؤره طاهرا، أصله النعم.

ويجوز أن يحتج بالظواهر، نم قوله - تعالى -: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}، فهو على أصل تطهيره حتى يقوم دليل. وقول النبي عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه)، ونقول في الحمار: هو حيوان مركوب فأشبه الفرس والبعير. ثم يقال لأصحاب أبي حنيفة لما شككتم في البغل والحمار وجب أن تتوقفوا فيه فلا تستعملوه أصلا. قيل: تركتم الاحتياط؛ لأن الاحتياط هو أن يتيمم ويصلي، ثم يتوضأ منه ويصلي؛ حتى إن كان نجسا فقد مضت السنة بالتيمم، ولم تحصل على بدنه نجاسة يصلي بها. فأما ما احتجوا به من الخبر فهم لا يعتبرون القلتين. ثم يجوز أن يكون أراد تقليل الماء؛ لأنا قد بينا أن القلة تقع على الكوز فلا يحمل خبثا لم يغيره. ثم قد قضي عليه ما رويناه من الحياض تردها السباع فقال: (لها

ما شربت، وكم ما غبر شراب وطهور)، ولم يفرق بين صغير الحياض وكبيرها. وبما روينا من النص على الحمار وما أفضلت السباع ولا يقضي على مثل هذا بالمحتمل، وقد بينا أن القلة اسم مشترك. وقياسهم غير مسلم؛ لأننا نكره أكل الكلب ولا نحرمه. وقولهم: إن الكلب يمكن التحفظ منه فإننا نقول: هو مثل الهر لا يمكن التحفظ منه، ثم البازي لا يمكن التحفظ منه، وسؤره - عندهم - نجس ما ذكروه، وبالله التوفيق.

[44] مسألة

[44] مَسْأَلَة غسل الإناء من ولوغ الكلب مسنون إذا أريد استعماله، وإن لم يرد استعماله لم يجب غسله، هذا مذهب الفقهاء إلا قوما من المتأخرين فإنه حكي عنهم: أنه يجب غسله سبعا، سواء أريد استعماله أم لا. والأصل أنه لا يخلو أن يكون غسله إما لنجس أو لطهارة حدث أو لتعبد على ما نقول، وليس في الأصول ما يجب غسله إلا إذا أريد الشيء الذي من أجله وجب الغسل. ألا ترى أن الوضوء وغسل الجنابة والحيض لا يجب إلا إذا أراد الإنسان الصلاة، وغسل سائر الأنجاس لا يجب إلا إذا أراد الصلاة في ذلك الشيء النجس، إما من بدنه أو غسله، وما كان غسله للعبادة، مثل الخلوق من ثوب المحرم لم يجب مما ليس فيه طيب لم يجب غسل الثوب الذي تركه وفيه الخلوق، فإذا ثبت هذا في الأصول لم يخرج غسل الإناء من ولوغ الكلب عنها. وأيضا فإن الغسل المفروض في الطهارات التي تراد للصلاة لا تجب إلا إذا أراد الصلاة فالغسل المسنون في الإناء المراد غسله لأجل الصلاة أولى ألا يجب إلا إذا أراد استعماله.

فإن قيل: فإنه فرض - عندنا -. قيل: فيكون كسائر الغسل المفروض للصلاة. ويجوز أن نحرز هذا قياسا فنقول: هو غسل قد تعبدنا به فلا يجب إلا عند إرادة ما يغسل من أجله قياسا على غسل النجاسة نم الثوب أو طهارة الحدث. ونقول أيضا: إن الأمر ورد بغسل الإناء من ولوغه تغليظا عليهم حتى لا يقتنوا الكلاب، فغلظ عليهم في غسل الأواني إذا أرادوا استعمالها. ألا تراه عليه السلام قال: (طهور إناء أحدكم)، فسماه طهورا، والطهور يقتضي مطهرا، وهو الإناء الذي يطهره الماء، فهو كالإنسان الذي يلزمه أن يتطهر بالماء، ويكون به مطهرا للصلاة، أو يكون كالثوب الذي يطهره الماء من النجس فيصير مطهرا، ولا يجب ذلك إلا إذا أريد للصلاة. فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (فليغسله سبعا)، ولم يفرق بين أن يريد استعماله أو لا. قيل: وكذلك قال الله - تبارك وتعالى -: {وثيابك فطهر}، ولم يقل: إذا أردت الصلاة أو لم ترد، ومع هذا فلم يجب إلا إذا أرد الصلاة، فكذلك دل

الدليل على وجوب غسل الإناء إذا أريد استعماله، وهو ما ذكروه من الاستدلال والقياس. فإن قيل: فإذا كان هذا ورد في الكلب تغليظا من بين سائر الأنجاس وجب أن يثبت التغليظ فيه، فسواء أريد استعماله أو لا، حتى يبين من نظيره مما لم يقع التغليظ فيه. قيل: إن التغليظ ورد في غسله سبعا إذا أريد استعماله، وغيره من الأواني لم يغلظ فيه بعدد، فالتغليظ من هذا الوجه قد حصل، وليس إذا وجب التغليظ من وجه وجب من كل وجه؛ لأنه لو وجب ذلك لوجب غسل الإناء سبعا، وأن يمنع بعد الغسل من استعماله أصلا حتى يكون أغلظ، فلما سقط هذا، وجاز استعماله بعد غسله علمنا أن التغليظ قصد على الوجه الذي ذكرناه، هذا لو كان غسله لنجاسة، فكيف وقد بينا أنه عبادة؟، فهو كالوضوء الذي يراد للصلاة، أو كغسل الطيب من ثوب المحرم إذا أراد الإحرام فيه. ثم قد بينا في قوله عليه السلام: (طهور إناء أحدكم) أنه كسائر الأشياء التي يجب تطهيرها إما لأجل الصلاة أو لتكون طاهرة إن جعل فيها ما يؤكل أو يشرب لم ينجس مثل سائر الأواني التي تستعمل فلا يجب غسل جميعها إلا إذا أريد استعمالها. فإن قيل: يجب غسله سواء أراد صاحبه استعماله أو لا؛ لئلا يستعمله غيره ممن لا يعلم حاله.

قيل: فيجب أن يغسل ثوبه النجس وإن لم يرد استعماله؛ لئلا يصلي فيه من لا يعلم خبره، ويجب على الإنسان أن يكون على وضوء؛ لئلا ينسى فيصلي بلا طهارة، ويجب على الإنسان أن لا يكون في ثوبه طيب؛ لئلا ينساه فيحرم فيه، وكذلك يجب عليه أن وقت أصاب ثوبه نجس أن يبادر بغسله؛ لئلا ينساه فيصلي به، فلما كان هذا كله ساقطا سقط ما قلتموه، والله أعلم.

[45] مسألة

[45] مَسْأَلَة وما لا نفس له سائلة مثل العنكبوت والزنبور والعقرب والخنفساء والجعل والبرغوث وما يتولد من دود الخل والباقلاء والجبن والفواكه وغير ذلك فإنه لا يفسد شيئا من المائعات، الماء وغيره في ذلك سواء عندنا، وعند أبي حنيفة. وقال أصحاب الشافعي: إن ما يتولد من شيء كالدود الذي ذكرناه فإنه إذا مات في ذلك الشيء الذي تولد فيه فإنه بموته ينجس، ولا

ينجس ذلك الشيء، بل إن أخرج الدود الميت منه فطرح في شيء نجسه، وما لم يتولد من ذلك الشيء مثل العنكبوت والعقرب والزنبور والذباب والبرغوث إذا مات في شيء من المائعات فإنه على قولين: أحدهما: أنه ينجسه. والثاني: أنه لا ينجسه وإن كان في نفسه نجسا. والدليل لقولنا: هو أن ذلك المائع طاهر قبل وقوع هذه الأشياء فيه، فمن زعم أنه انتقل عن حاله فعليه الدليل. وأيضا قوله - تعالى -: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، وقوله: {وينزل عليكم من المساء ماء ليطهركم به}، فوصف الماء عموما بأنه طاهر مطهر لم يخص من جنسه شيئا، فمن زعم أنه انتقل عن طهارته فعليه الدليل. وأيضا قول النبي عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه)، وهذا ماء لم يتغير فهو طاهر. ولنا أن نفرض المسألة في مائع يؤكل وقع فيه شيء من ذلك

فنقول: قال الله - تعالى - {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير}، فهو عام في كل شيء لا يكون ميتة، ولم يقل: إلا يكون في ميتة، وإنما حرم الميتة نفسها دون ما وقعت فيه، وهذا المائع ليس ميتة ولا دما ولا لحم خنزير فهو غير محرم. وأيضا ما رواه سعيد بن المسيب عن سلمان أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو الحلال أكله وشربه ووضوؤه).

وأيضا ما روي أنه عليه السلام قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم)، وفي حديث: (في طعام أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه داء. وفي الآخر دواء، وأنه يقدم الداء)، وقد يقع الذباب حيا فيموت بالمقل فيه، وقد يقع أيضا فيه ميتا كما يقع فيه حيا، فلو كان ينجس بموته، أو ينجس ذلك الشيء لم يأمر بمقله فيه.

فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}، وهذا ميتة، والذم يقتضي وجوب الاجتناب منه والامتناع. وما تلوتموه من القرآن في طهارة الماء فهو عموم لم يخص بتحريمه الميتة، وقوله: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غيره) محمول على الكثير منه. قيل: ظاهر قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} يتناول عين الميتة ولا يتناول ما وقعت فيه، وما يكون ميتة محرمة بإجماع تقع في الماء الكثير فلا تغيره هي ميتة محرمة بإجماع، والماء غير محرم فصارت الآية متوجهة إلى نفس الميتة لا إلى ما وقعت فيه. ثم لو ثبت العموم لكان حديث سلمان عن النبي عليه السلام يقضي عليه، وكذلك حديث الذباب ومقله في الطعام. فإن قيل: مقل الذباب فيه ليس بقتله فلهذا أباح مقله فيه. على أنه ليس يمتنع أن يبيح ذلك وإن كان يخاف موته، وتنجس الطعام لغرض صحيح، وهو زوال الداء، كما أباح الكي في الحيوان، وقد يخاف منه الموت، وإتلاف المال، ولكن ما تعلق به غرض صحيح جازت إباحته.

قيل: إن قولكم: إن مقل الذباب ليس بقتله محال، فهو وإن سلم في شيء فليس يسلم في كل شيء مثل الشيء الحار والعسل والدهن وما أشبهه، والنبي عليه السلام لم يخص شيئا مما وقع فيه. وقولكم: ليس يمتنع أن يبيح مقله فيه ويتنجس ذلك لغرض صحيح فإننا نقول: غرض فاسد؛ لأنه إذا كان في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء كان الدواء بإزاء الداء فلم يربح من هذا أكثر من فساد المائع حتى لا يصلح لشيء، ففيه إضاعة المال، وقد نهينا عنه، وإنما أعلمنا عليه السلام أن أكل ذلك الشيء لا يضرنا، ولا شربه؛ لأن الداء الذي في أحد جناحيه قد أزاله الذي الجناح الآخر، فلا يفسد علينا شيء مما وقع فيه. وأما كي الحيوان فلنا فيه غرض صحيح لا يفسد علينا به شيء، فنظيره أن لا ينجس الماء، ولا يفسد علنيا ما وقع فيه الذباب. ويؤيد ما قلناه: ما عليه المسلمون خلفهم عن سلفهم من لدن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى وقتنا هذا، فإنهم يستعملون ما وقع فيه البق والذباب والزنبور، ولا يجتنبونه ولا يكرهونه، ولا ينكر بعضهم على بعض ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم فيه خلاف، وهذا يدل على أنه موضع إجماع، ولو وقع بينهم فيه خلاف أو حكي عن واحد منهم أنه

حرمه أو أنكره لم يخل من ينقله، ومن المحال أن يتنجس شيء من ذلك فلا يذكر حكمه عن أحد منهم مع عموم البلوي به. ثم من المحال أن يموت دود الخل فيه فلا يتنجس، فيؤخذ ذلك الدود فيجعل في خل مثله أو غير الخل فيتنجس؛ لأنه لو تنجس ما ينقل إليه لكان ما هو فيه أولى أن يتنجس؛ لطول مكثه فيه، ونحن نعلم أن الباقلاء المطبوخ بالماء يكون في الباقلاء الدود والذباب الميت، فيتهوى في ماء الباقلاء بالطبخ، ولم يقل أحد من المسلمين: إن ماء الباقلاء نجس، وربما أكل الدود والذباب الذي فيه، خاصة العميان، ومن يفطر بالليل، ولم نسمع عن أحد إنكار ذلك. ثم كيف يكون ذلك الماء طاهرا فيخرج منه الذباب - وقد تهوى بالطبخ فيه - فيجعل في ماء مثله فينجس ذلك الماء. وإن كان هذا نجسا فالماء الذي كان فيه أولى بالتنجس، فلا يصح لهم الفرق ههنا إلا بأن يقولوا: إذا طبخ الباقلاء فإن ماءه ورد على نجاسة الدود والذباب الذي في الباقلاء، وإذا ورد الماء على النجاسة طهرها وإن كان دود القلتين، وليس كذلك إذا أخرج الدود في الباقلاء وطرح في ماء قليل؛ لأن هذه نجاسة وردت على الماء، وهذا قد تكلمنا عليه.

ثم نقول: هذا فاسد بالخل والمائعات غير الماء، فإن ورود النجاسة على المائع غير الماء كورود المائع على النجاسة، وهذا الخل الذي فيه الدود طاهر فينبغي إذا أخذ الدود منه وطرح في خل آخر ألا ينجس. (وأن يتنجس بالخل الذي تولد فيه الدود أولى أن يتنجس). وإذا أنصف الإنسان نفسه، واتقى ربه علم صحة هذا، ولم يخرج عن الإجماع فيه، ونحن نعلم أن الشافعي - رَحمَه الله - لم يقل في القول الآخر: إنه لا ينجس شيئا وقع فيه إلا وقد بان له الحق فيه، فينبغي أن يعمل على هذا القول، ونطرح القول الآخر، ولا نتعرض له. ونقول أيضا: إنه نفس له سائلة فلا ينجس بموته، ولا ما وقع فيه كالجراد. ويجوز أن نقول: إنه لا يمكن الاحتراز منه، وأن يقع الذباب والبرغوث والبق وما أشبهه في الماء والطعام فوجب أن يكون معفو عنه، كدود الخل والماء والجبن.

فإن قيل: فإنه ميتة لا يؤكل لا لحرمته فوجب أن يكون نجسا، أصله البهائم. قيل: إن أردتم أنه لا يؤكل؛ لأنه محرم فليس هو محرما - عندنا -، ويجوز أكله، وإنما تعافه النفس، كالضب الذي لم يأكله النبي عليه السلام. فإن قيل: فإن الحيوان على ضربين: ماله نفس سائله، وما لا نفس له سائلة، ثم ماله نفس سائلة منه ما ينجس الماء بموته، ومنه مالا ينجسه، مثل السمك والجراد، كذلك ما لا نفس له سائلة يجب أن يتنوع نوعين: نوع منه ينجس الماء بموته، ونوع لا ينجسه مثل دود الماء. قيل: هذه دعوى بلا برهان، فلم يجب أن يكون إذا تنوع ماله نفس سائلة أن يتنوع مالا نفس له. وأي شيء المعنى الجامع بينهما؟. على أن الفرق بين السمك وما ذكرتم واضح؛ لأن السمك لما لم ينجس الماء الذي تولد فيه لم ينجس ما نقل إليه، فينبغي أن يكون دود

الخل إذا ل ينجس ما تولد فيه لم ينجس ما نقل إليه، فلما فرقتم بينهما كفانا هذا الفرق. ثم إن السمك الذي مات في الماء الذي تولد فيه طاهر فلم ينجس الماء. وأنتم تقولون: إن الدود الذي تولد في الماء نجس فينبغي أن ينجس الماء، وإن لم ينجس الماء الذي تولد فيه لم ينجس ما نقل إليه كالسمك. وكل قياس توردونه فقياسنا أولى منه؛ لأن رد مالا نفس له سائلة إلى مثله من الجراد أولى، ولأنه يستند إلى استعمال المسلمين ذلك على ما بيناه. فإن قيل: لا يمكن الاحتراز من البق والذباب، وخاصة في عمل الدبس، ووقوعه على التمر مع الزنبور، ولم يتحفظ أحد من ذلك فسقط هذا، وبالله التوفيق.

[46] مسألة

[46] مَسْأَلَة وليس يعتبر مالك - رَحمَه الله - في سائر الأنجاس قدر الدرهم، وقليلها وكثيرها سواء في حكم الإزالة إذا كان على وجه الصحة سوى الدم فإن قليله معفو عنه في دم الحيض وسائر الدماء. وروى ابن وهب عنه أنه فرق بين دم الحيض وبين غيره من الدماء، فجعل دم الحيض قليله ككثيره، كما يقول في المني والمذي وسائر الأنجاس. واعتبر أبو حنيفة في سائر الأنجاس قدر الدرهم البلخي فمتى كان دونه عفا عنه، وما كان مثله فكذلك، وما زاد على الدرهم لم يعف عنه. وعند الشافعي أن سائر الأنجاس يستوي قليلها وكثيرها كقولنا، وخالف في الدم فقال: قليله غير معفو عنه ككثيره إلا في الموضع

الذي لا يمكن التحرز منه مثل دم البراغيث. والدليل لقولنا: ما روي أن النبي عليه السلام خلع نعله في الصلاة، وقال: (أخبرني جبريل أن فيه قذارا)، ولم يبين هل كان قدر الدرهم أو أكثر، ولو كان يختلف لبينه. وأيضا ما روي أنه عليه السلام مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول)، وهذا عام في قليل البول وكثيره، ولو كان الحكم فيه يختلف لبينه، ونحن وإن كنا نقول: إن إزالة النجاسة ليست بفرض فإن المسنون في القليل والكثير واحد. فإن قيل: هذا توعد منه عليه السلام وإخبار عن تعذيب، وأنتم لا توجبونه. قيل: قد بينا حكمه فثبت منه حكم القليل والكثير، وأنه ممنوع

منه، ثم قامت دلالة على سقوط حكم التوعد وثبت أنه تغليظ، وصار كقوله: (من قتل عبده قتلناه)، فإنه تغليظ لمنع القتل. ولنا أيضا ما روي أنه عليه السلام سئل عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: (حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء)، ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره، وهذا دليل للوجه الذي يقوله في دم الحيض، وأن قليله ككثيره. وأيضا ما روي عنه عليه السلام انه صلى في ملحفة ثم رأى فيها لمعة من

دم فأنفذها إلى عائشة - رضي الله عنها - لتغسلها، واللمعة من الدم أقل من قدر الدرهم بكثير. وأيضا ما رواه المقداد في قصة علي حين سأله عن المذي فقال: (اغسل ذكرك)، وموضع المذي من الذكر أقل من درهم. وأيضا فقد اتفقنا وأبو حنيفة على الاستنجاء مسنون، إما بالماء أو بالأحجار، ونفس المخرج أقل من قدر الدرهم، فكذلك كل موضع من البدن والثوب إذا أصاب النجس منه هذا القدر. فإن قيل: إنما وجب في هذا الموضع؛ لأن إزالته منه سنة، وسائر المواضع إزالته - عندنا - فرض. قيل: الجميع - عندنا - سنة. على أن هذا أولى أن يعفى عن قليله في الاستنجاء؛ لأن الموضع الذي عفي عنه إزالته سنة، والموضع الذي لم يعف عنه إزالته فرض، والعفو عن المسنون أولى، فلما لم يعف في الاستنجاء عن القليل كان في الفرض أولى أن لا يعفى عنه.

وأيضا: فإنه لما وجب غسل ما زاد على قدر الدرهم وما دونه في حكمه، لأنه من جنسه في الموضع الذي لا تتعلق بها ضرورة وليس غرضنا في هذه المسألة أن إزالة النجاسة فرض، ولا التفرقة بينها وبين إزالة النجو، وأن ذلك يزال بجامد والباقي مائع، وإنما الغرض الجمع بين القليل والكثير، فهو في النجو وغيره سواء في حكم الإزالة إما فرضا أو سنة فكذلك في سائر البدن إذا لم يتعلق بموضع ضرورة. ولأن ما يخرج على طريق المرض فقليله وكثيره ربما اتفق وربما اختلف، وفي سائر الدماء سوى دم الحيض فقليله يخالف كثيره لموضع الضرورة، وهو أن الإنسان لا يخلو في غالب حاله من بثرة أو دمل أو ذباب أو برغوث فعفى عن القليل منه، ولأجل هذا حرم الله - تعالى - المسفوح منه فقال: ({أو دما مسفوحا}، فدل على أن غير المسفوح ليس بمحرم، وأحل - تعالى - من جنسه الكبد والطحال.

قالت عائشة - رضي الله عنها -) لو حرم قليل الدم لتتبع الناس ما في العروق، ولقد كنا نطبخ اللحم - البرمة تعلوها الصفرة -. وليس الغالب من أمر الناس كون الغائط والبول وغير ذلك في ثيابهم وأبدانهم، لأن التحرز يمكن منه.

فإن قيل: قد يكون المخرج وما لا ينفك منه أكثر من قدر الدرهم، ثم قد جوزتم إزالته بالجامد في السنة، وعفوتم عن يسيره في سائر البدن حتى لا تجب إزالته بالنسبة لا بمائع ولا جامد. فإن قيل: فقد روى يزيد ابن أبي حبيب عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن خولة أتت النبي عليه السلام فقالت: ليس لي إلا ثوب

واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟. فقال عليه السلام: (إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه)، فقالت: فإن لم يخرج الدم؟. قال: (يكفيك الماء ولا يضرك أثره)، فلما أباحها الصلاة مع وجود أثر الدم دل على أنه جعله في حيز المعفو عنه لقتله، قالوا: وهذا يخص ظواهركم التي ذكرتموها، فتحمل ظواهركم على الكثير منه بهذه الدلالة. قيل: عن هذا أجوبة: أحدهما: أننا نوافقكم على العفو عن قليل الدماء، ومنها دم

الحيض على أظهر الروايتين عن مالك، فنقول بموجب هذا الخبر في الدم، وليس في هذا دليل على ما عدا الدم من سائر الأنجاس. وجواب آخر: وهو أن الخبر حجة لنا على الرواية التي تحرم قليل دم الحيض وكثيره؛ لأنه قال لها: (اغسليه)، ولم يفرق لها بين قليله وكثيره، فأما إذا لم يخرج وبقي أثره فلا شيء عليها فيه؛ لأن سائر الأنجاس إذا غسلت وكان فيها ما يبقى أثره فلا ينقطع، وقد انقلعت عينه وريحه فقد مضى حكمه، ولو كان أثره بمنزلة عينه لم يأمرها بغسله؛ لأنه معفو - عندكم - عن عينه، كما هو معفو عن أثره، فلما أمرها بغسله ولم يفرق بين قليله وكثيره دل على ما قلناه، وليس في هذا ما يخص الظواهر التي ذكرناها، بل هو يؤكدها. وجواب آخر: وهو أنهم لا يخلون معنا من أحد أمرين: إما أن يجعلوا هذا الخبر حجة علينا في سائر الدماء، ويحملوه على العفو عن قليله، فنوافقهم على إحدى الروايتين. أو يجعلوه حجة علينا في دم الحيض على الرواية الأخرى، فقد قلنا: إنه عليه السلام قد أمرها بغسله أمرا ظاهره الوجوب، ولم يفرق لها بين قليله وكثيره، ولا يضر أن ينقلع أثره على ما بيناه. ولو كان يختلف لقال لها: اغسليه إن كان كثيرا؛ حتى يعلم الفرق بين قليله وكثيره. ثم لا ينفك من قدر القليل بدرهم بلخي ممن قدره بدرهم غير البلخي إما أصغر منه وإما أكبر؛ لأنه يقدره اجتهادا لا ينص، وإنما القليل ما يغلب على ظن الإنسان كالعمل القليل في الصلاة. فإن قيل: فقد ثبت أن الدم نجس فإذا جاز العفو عن قليله جاز في سائر الأنجاس؛ لكونه نجسا قليلا.

قيل: قد ذكرنا الفصل بين الدم وسائر الأنجاس، وأن الله - تعالى - حرم المسفوح منه فدل أن غير المسفوح بخلافه، وإنما لم يحرم غير السفوح؛ لئلا يلحق فيه المشقة؛ لأن الإنسان لا يخلو في غالب حاله من أن يصيبه الذباب والبق والبراغيث والبثور وما أشبه ذلك، ومن أكله في اللحم والعروق، وليس كذلك الغائط والبول، فصار يسير البول في التحفظ منه مثل كثير الدم في التحفظ منه إذا لم تكن ضرورة، وكذلك دم الحيض على الرواية التي تحرم قليله؛ لأنه ليس الغالب منه إصابة الثياب، ومع هذا فيختص به النساء، وليس كذلك سائر الدماء، ولان قليله ينقض الطهر ويوجب الغسل، كالمني فلهذا فرق مالك بينه وبين سائر الدماء. ويجوز أن يحتج بقوله - تعالى - {وثيابك فطهر}، وهذا المراد به تطهير من نجس، ولم يفرق بين القليل والكثير فهو عموم إلا أن يخصه دليل.

[47] مسألة

[47] مَسْأَلَة ويغسل بول الصبي والصبية عند مالك وهما سواء في الحكم، وسواء أكلا الطعام أو لا. وقال أبو حنيفة والشافعي: يرش على بول الصبي، ويغسل بول الصبية. واحتج لهما بما روي من حديث أم قيس بنت محصن، وأن النبي عليه السلام أمرها أن ترش على بول الصبي.

قال مالك: وهذا الحديث ليس بالمتواطأ عليه - عندنا -، ويعني على العمل به. وهذا على أصل أبي حنيفة لا يستقيم ولا ينبغي أن يعمل عليه؛ لأنه مما يعم البلوى به، فكان سبيله أن ينقل نقلا مستفيضا منتشرا حتى يصير في معنى نقل الصلوات والزكوات وغير ذلك مما تقع البلوى به عامة، ولعل عموم هذا في النساء أكثر منه في الرعاف والقيء في الصلاة، وقد قيل في الجميع الحديث، ولم ينتشر نقله ولا استفاض. ولا يستقيم أيضا على أصول الشافعي؛ لأنه لا يعدل عن قياس الأصول بقضية في عين تحمل وجودها من التأويل وهذا الخبر يخرج حكم هذا الجنس عن الأصول فيه؛ لأنه كسائر الأبوال النجسة التي لا فرق فيها في الكبار بين الذكر والأنثى.

وأيضا فإن كان ثفلهما جميعا نجسا فبولهما نجس، فينبغي أن يستويا في الغسل كالثفل، وإن كان بول الصبي وثفله ليسا بنجسين فكذلك في الصبية؛ لأن الأصول تشهد له، فالخبر محتمل إن صح لأمور منها: أنه أمر بالرش عليه، والرش يكون في معنى الغسل، لأنه إذا كثر حتى تضاعف الماء عليه غلب عليه وأزاله، فيكون رشا هذه صفته، ولم يخصص النبي عليه السلام رشا من رش. ويحتمل أيضا أن تكون هذه المرأة قد كثر عليها بول الصبي، ولا ثوب عليها غير ذلك الثوب، ويكون الزمان شديد البرد فلو كلفها غسله في كل نقطة تصيبه لحقتها المشقة التي لا تخفى، ونحن نجوز لها هذا وتصير منزلته منزلة العفو عن دم البراغيث، ومنزلة النجو الذي خفف إزالته بالأحجار. ويحتمل أيضا أن يكون عليه السلام أراد أن يعلمنا أن إزالة النجاسة ليست بفرض حتى يسقط مذهب من يخالفنا في ذلك، وأمر بغسل بول الصبية على الأصل.

فإن قيل: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرق بين بول الصبي والصبية فقال: (يرش على بول الصبي) فأفادنا بهذا الفرق بينهما. قيل: إذا خرج هذا على سؤال سائل احتمل أن يكون عليه السلام عرف حال المرأة مع الصبي على ما ذكرناه، ولم تكن البلوى وقعت ببول الصبية على مثل ما وقعت ببول الصبي. ولو أنه عليه السلام ابتدأ هذا على غير سؤال سائل احتمل أن يكون عليه السلام أراد أن ينبهنا على أن الرش يكون بمعنى الغسل؛ لأننا نعلم أن نقطة بول تصيب ثوب إنسان؛ ويشاهد موضعها، فيصرها في يده ويأخذ ماء فيرشه عليها فإننا نعلم أن هذا رش يغلب على حكم النقطة من البول، فيفهم بذكر الغسل في بول الصبية أن الرش على بول الصبي هذه صفته، ولم يرد عليه السلام الفرق بينهما في الحكم وإنما أتى بالمعنى بلفظين مختلفين، فلو قال فيهما جميعا: يرش عليهما، لاحتمل رشا كثيرا ورشا قليلا، فلما قرن الرش مع الغسل نبه على رش في معنى الغسل؛ لأننا نجد رشا هذه صفته، إذ لو أراد الفرق في الحكم لبين لأي معنى فرق بينهما؛ حتى يزول ما نعلمه من الجميع بينهما؛ لأن بوليهما نجسان كثفلهما، ولا يجوز أن يفترقا، فإما أن يكونا نجسين أو طاهرين، فإذا كان هذا مقدرا لم نزل عنه بخير محتمل. وقد روى في الخبر أنه عليه السلام أمر بالنضح على بول الصبي،

والنضج وهو في معنى الغسل، كقوله عليه السلام للمقداد في قصة علي: (انضح فرجك)، وكما قال في دم الحيض: (انضحه)، فجعل النضح عبارة عن الغسل، ولا يمتنع أن يورد عليه السلام لفظين بمعنى واحد، فتستفيد الأشهر منه لمعنى واحد، ولا ينصرف عن قياس الأصول بمثل هذا؛ لأنه إن كان بول الصبي نجسا فبول الصبية مثله، فما وجب في بولها وجب في بوله مثله، كالذكر والأنثى الكبيرين، وكذلك في ثفلهما فيجب تساويهما في الحكم؛ لاجتماعهما في المعنى الذي نم أجله وجب غسل بول الصبية.

ويجوز أن تقول: هو بول آدمي فأشبه بول الصبية، ويستمر هذا في جميع بني آدم. وأيضا فإنه مائع خارج من فرج آدمي على وجه الصحة فأشبه بول الصبية والكبير، وقد ذكرنا أن الفرض في هذه المسألة تساويهما في حكم الإزالة إما فرضا أو إما سنة، والله أعلم. ويجوز أن يحتج بقوله - تعالى -: {وثيابك فطهر}، وهذا تطهير نجس لم يفرق فيه بين أن يكون من صبي أو صبية، والتطهير واحد فيهما جميعا فينبغي أن تستوي صفة التطهير فيهما.

[48] مسألة

[48] مَسْأَلَة إذا نوى بوضوئه أن يصلي صلاة بعينها فرضا أو نافلة أو قراءة في مصحف أو صلاة على جنازة فإن حدثه يرتفع، ويجوز أن يصلي به سائر الصلوات، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وإن كان أبو حنيفة ليس من شرط صحة الطهارة عنده النية. وحكي عن داود به استباحة صلاة بعينها دون غيرها من الصلوات فإنه على ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي. وأجودها: أن حدثه يرتفع، ويستبيح به سائر الصلوات؛ لأنه نوى

استباحة صلاة، إذا ارتفع لصلاة ارتفع لجميع الصلوات. والوجه الثاني: أنه لا يرتفع حدثه بهذا الوضوء فلا يصلي به أصلا؛ لأنه نفى أن يستبح به غير هذه الصلاة، والحدث إذا لم يرتفع لصلاة لم يرتفع لجميع الصلوات. والوجه الآخر: منهم من قال: يجوز له أن يصلي به الصلاة التي نواها، ولا يصلي به غيرها؛ لأنه لو لم ينو رفع الحدث لم يجز له أن يصلي، ولو نوى رفع الحدث مطلقا جاز له أن يصلي، فيجب إذا نوى به استباحة صلاة دون غيرها أن يستبيح به ما نوى استباحته، ولا يستبيح غيرها. وهذا أضعف الوجوه عندهم. وهذا عندي يتخرج على الروايتين عن مالك فيمن اعتقد رفع النية في الطهارة بعد أن تطهر، فإذا قلنا: لا ترفع الطهارة فإنه يصلي الصلاة التي نوى لها الوضوء، ويصلي الصلاة الثانية؛ لأنه اعتقد رفع النية في الوضوء لها فلا ترتفع. وإذا قلنا: إن طهارته تبطل صلى بالوضوء الصلاة التي نواها وبطلت بعد ذلك. فلا يصلي بها هي صلاة أخرى؛ لأنه يصليها وقد رفع من طهارتها النية. والدليل لنا على داود: قول الله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}، والألف واللام في الصلاة للجنس، وهذا قد غسل وجهه للقيام إلى جميع الصلوات.

فإن قيل: هذا لم يغسل وجهه لجميع الصلوات، وإنما غسل وجهه لصلاة واحدة. قيل: ظاهر الأمر يقتضي غسل وجهه، ولا يتميز نيته، فنحن على ذلك الأمر إلا أن يقوم دليل. فإن قيل: الظاهر يقتضي غسل وجهه لكل صلاة. قيل: الظاهر يقتضي أن يغسل وجهه إذا أراد القيام إلى جميع الصلوات، وهذا قد غسله فلا يجب عليه التكرار إلا بدليل؛ لأن الظاهر يقتضي غسل مرة واحدة، وقد غسل. وأيضا قول النبي عليه السلام: (لا صلاة إلا بطهور)، وهذا نفي في ذكره يعم كل الصلوات إلا بطهور، وقد تطهر. فإن قيل: لا نسميه عند الصلاة الثانية متطهرا. قيل: هو على طهارته التي تطهر بها، وقد سمي متطهرا فيستصحب الاسم حتى يمنع منه مانع. وأيضا قوله عليه السلام: (لن تجزئ عبدا صلاته حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه)، وقد أسبغ هذا الوضوء لصلاته التي هي للجنس لا تختص بصلاة دون أخرى، فهو على عمومه في كل صلاة

حتى يمنع منه مانع. وأيضا تعلميه عليه السلام الأعرابي بقوله: (توضأ كما أمرك الله فاغسل)، وهذا قد غسل، ولم يخص له صلاة من صلاة. فإن قيل: فقد قال عليه السلام: (وإنما لامرئ ما نوى)، وهذا نوى بوضوئه صلاة بعينها، فدليله أن ما لم ينوه لا يكون له، فلا تكون له الصلاة الثانية. قيل: هذا حجة لنا؛ لأنه إذا صلى الثانية بالوضوء الأول، ونوى أن تكون له صلاة فقد نواها صلاة له فله ما نواه. قيل: ولا رفع النية لها، وإنما نوى ذلك فارتفع حدثه، وإذا ارتفع حدثه جاز أن يصلي سائر الصلوات كما لو أطلق النية. فإن قيل: قد قلتم: إنه لو تيمم لنافلة لم يجز أن يصلي به فريضة فكذلك هذا. قيل: التيمم لا يرفع الحدث، ولا يفعل إلا بعد دخول الوقت، ولا يجمع به بين صلاتي فرض، فلهذا لم يعمل إلا في الصلاة التي

قصد به استباحتها؛ لأنه عليه طلب الماء للصلاة الثانية كالأولى. فإن قيل: فقد جوزتم إذا تيمم لمكتوبة فصلاها أن يتبعها بنافلة بذلك التيمم. قيل: تصير تبعا للفريضة.

[49] مسألة

[49] مَسْأَلَة لا يدخل الجنب المسجد ولا عابر سبيل، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يجوز أن يمر فيه عابر سبيل. والدليل لقولنا: ما روي أن أفضل البقاع المساجد، وأنها بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر بها اسمه، وأنها بنيت للصلاة والتسبيح، فوجب تعظيم حرمتها بكل وجه، ومن تعظيم حرمتها ألا يدخلها الجنب إلا أن يقوم دليل.

وأيضا ما روته جسرة بنت دجاجة عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد)، ثم دخل النبي عليه السلام ولم يصنع القوم شيئا؛ رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج عليهم بعد فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد؛ فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)، فهذا يقتضي ألا

يحله (إلا) على كل وجهه إلا أن يقوم دليل. وأيضا فلو جاز دخوله المسجد لجاز أن يستديم الجلوس فيه، كالمتوضئ والمحدث بغير الجنابة والحيض، فلما لم يجز للجنب ذلك صار كالحائض التي لما لم يجز لها استدامة الكون فيه لم يجز لها دخوله. وتحرر من هذا قياسنا على الحائض فنقول: كل من منع من الاستدامة في المسجد منع من دخوله، أصله الحائض، وكذلك الجنب لما منع من استدامة كونه فيه منع من دخوله. وأيضا فإن للمسجد حرمتين: إحداهما: للصلاة فيه، والأخرى: تلاوة القرآن فيه، فلما منع الجنب من الصلاة وقراءة القرآن فيه منع من دخوله؛ لأنه ظرف لهما، ولا يلزم على هذا المحدث بغير جنابة؛ لأنه غير ممنوع من القراءة فيه. والمشرك - عندنا - بمنزلة الجنب والحائض لا يدخل المسجد؛ لأنه ممنوع من استدامة كونه فيه.

فإن استدلوا بقوله - تعالى - {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، وأن المراد منه مكان الصلاة؛ لأنه هو الذي يقرب لا نفس الصلاة، فتقديره: لا تقربوا مكان الصلاة جنبا إلا عابري سبيل، والعابر هو المجتاز. قيل: إذا أمكن أن يحمل الظاهر على حقيقته لم يصرف المجاز، والظاهر المذكور هو نفس الصلاة، فقوله - تعالى - {لا تقربوا الصلاة} أي لا تصلوا، كما قال: {ولا تقربوا الزنا} معناه: لا تزنوا، فتقدير الآية: لا تصلوا وأنتم على حال سكر (وجنابة) حتى تعلموا ما تقولون في الصلاة، ولا جنبا إلا عابري سبيل، وهو إذا كنتم متيممين عند عندم الماء أو تعذر استعماله في السفر، وعلى هذا تأوله علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأن عابر سبيل هو الغريب المسافر، كما قيل فيه: ابن سبيل، فقد حملنا الظاهر على حقيقته في الصلاة، ولم نحمله على المكان الذي لم يجر له ذكر، وإنما يدعون أنه مضمر، فإذا تنازعنا الظاهر، وصرفناه إلى حقيقته لم يصح لهم دلالة في جواز

دخوله المسجد، والخلاف واقع فيه فصحت أدلتنا في أن الجنب لا يدخل المسجد. فإن قيل: فإن المسجد قد سمي باسم الصلاة في قوله: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد}، فإذا احتمل الأمرين جميعا - ما تقولون وما نقول - جاز أن نحملها على العموم فنقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا مكان الصلاة على هذا الحال إلا عابري سبيل. قيل: إن الحقيقة في الظاهر هو الصلاة على ما ذكرناه، وليس تتناول حقيقته المكان، بل هو مجاز، لا يجوز ادعاء العموم في حقيقته المجاز بلفظة واحدة. على أننا نحن نحمله أيضا على عمومه من هذا الطريق فنقول: لا تقربوا الصلاة ولا مكانها على هذا الحال إلا أن تكونوا مسافرين فتيمموا واقربوا ذلك وصلوا، ونكون بهذا أسعد منكم؛ لأن فيه تعظيما لحرمة المسجد، وبمثل ذلك تأوله علي - وهو إمام هدى -. وفيه أيضا أن عابر سبيل إذا أطلق للمسافر حقيقة لا للحاضر، بل إذا أطلق قوله: عابر احتمل ما يقولون، وإذا أضيف إلى سبيل فهو المسافر أخص، وإن احتمل الحاضر أيضا فنحن نقول: إن الحاضر إذا عدم الماء أو تعذر عليه استعماله وخاف فوت الوقت تيمم ودخل المسجد وصلى، فيكون قوله - تعالى -: {عابري سبيل} مصروفا إلى الحاضر على هذا الوجه، وإلى المسافر على هذا الوجه، فيحتمل

الظاهر على حقيقته مع تعظيم حرمة المسجد. فإن قيل: قوله: {عابري سبيل} مضافا إلى منكر، فأي سبيل كان جاز، مسافرا أو غير مسافر. قيل: لا فرق بين أن يضاف إلى منكر أو معروف، وهذا بمنزلة قولنا: ابن سبيل منكرا لا يعقل منه إلا المسافر، كقوله: ابن السبيل، فصار تقدير قوله: {عابري سبيل} أي ابن سفر ما، وابن السبيل ابن السفر. على أننا قد ذكرنا أننا نستعمله على الحاضر وأيضا إذا عدم الماء وتيمم جاز له دخول المسجد وهو جنب؛ لأن التيمم لا يرفع الجنابة. وأشد ما في الباب أنه إذا احتمل ما تقولون وما نقول قضينا عليه بالخاص الذي لا يحتمل، وهو قوله عليه السلام: (فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)، ومعناه: لا أحل فيه فعل حائض ولا جنب على كل حال من دخول واجتياز واستدامة وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك؛ لأنه لم يرد أن عين المسجد ونفسه محرمة؛ ى لأن ذلك لا يقع عليه تحليل ولا تحريم، وإنما الحلال والحرام فعلنا فيه، بمنزلة قوله: {حرمت عليكم الميتة}، و {حرمت عليكم أمهاتكم}، وإنما المحرم فعلنا فيهن الذي هو تزوجهن، والمحرم أكل الميتة، والتصرف فيها لا أن نفس الأعيان محرمة، فإذا كان هذا هكذا قضينا بهذا النص في ذكر المسجد على

المحتمل في الآية، لأنه أخص منه. فإن قيل: ففي خبركم أيضا عموم في المجتاز وغير المجتاز، وفي الآية خصوص، وهو ذكر المجتاز، فقضينا بهذا الخصوص على عموم خبركم. قيل: قوله: {عابري سبيل} حقيقة للمسافر، ونحن نقول في المسافر كذلك، ثم قد استعملناه على ما ذكرتم نم الحاضر إذا عدم الماء وتيمم، وبقي معناه ذكر المسجد نصا، وليس بإزالة مثله.

[50] مسألة

[50] مَسْأَلَة وبول ما يؤكل لحمه طاهر - عندنا - وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة والشافعي: هو نجس. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {قل لا أجد في ما أوحي إلا محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير}، فإذا لم يكن محرما لم يكن نجسا.

وأيضا قوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم}، وهذا يقتضي جملة البهيمة، ومن جملتها بولها كلبنها وغيره إلا أن يقوم دليل. ولنا أن نبني المسألة على أصل: وهو أن الأشياء في الأصل على الإباحة حتى يقوم دليل الحظر. وأيضا ما رواه البراء بن عازب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما أطكل لحمه فلا بأس ببوله)، والبأس: الشدة والضيق عندنا فيه، وحصلت هذه اللفظة في الشريعة عبارة عن الإباحة، فكل موضع يسأل فيه عن إباحة شيء قيل فيه: لا بأس. وقد روي أن النبي عليه السلام قال: (فلا بأس بسحله).

وعن ابن الزبير مثله. وأيضا ما روي عن أنس أن النبي عليه السلام قال: (ليس بشرب بول كل ذي كرش بأس). وأيضا ما روي في حديث العرنيين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباحهم شرب ألبان الإبل وأبوالها، فجعل ذلك بمنزلة اللبن، فلو كانت نجسة ما أباحهم ذلك، فظاهر الإباحة لا يصرف عن ظاهره إلى ضرورة أو مرض إلا أن يذكر في الخبر ما يوجب ذلك. فإن قيل: إنما أباحهم شرب البول للمرض؛ لأنهم لما اجتووا المدنية استوخموها فاصفرت وجوههم وانتفخت بطونهم فأباحهم ذلك.

قيل: إن صح هذا وكان اللبن لا يخلو أن ينتفع به كمنفعة البول أو يضاده، فإن كان يضاده فلا ينبغي أن ينتفعوا بالشيء وضده، أو تكون المنفعة فيهما واحدة فينبغي أن يستغنوا اللبن الذي هو حلال عن البول النجس الحرام، فلما أباحهم ذلك علمنا أنه لم يبحهم ذلك للمرض. وأيضا فإن المرض لا يجوز أن ينتفع فيه بشيء نجس؛ لقول النبي عليه السلام: (ما جعل شفاؤكم فيما حرم عليكم). وأيضا فلو حملناه على الضرورة لكان تأكيدا للآية التي فيها ذكر المضطر إلىالميتة وغيرها مما أبيح للمضطر، هذا لو كانت ضرورة الجوع، وإذا أمكن أن يستعمل الخبر على فائدة مجددة كان أولى من تكرار آية أو تأكيدها. وكذلك إن قالوا: استعمل قول النبي عليه السلام: (ما أكل لحمه لا بأس

ببوله) في الضرورة. قيل: لا يخلو أن تحملوه على ضرورة الجوع أو ضرورة المرض، فإن كان في المرض فقد قال عليه السلام: (لا شفاء لكم فيما حرم عليكم)، وإن كان لضرورة الجوع فقد استفدنا ذلك بغير هذا الخبر فلا تكون فيه فائدة. فإن قيل: فإننا نخص هذه الظواهر كلها بما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول)، وهذا عام في كل بول. قيل: قد اختلف اللفظ في هذا الخبر، فقيل: (لا يستنزه من بوله)، وقيل: (لا يستبرئ من البول)، والاستبراء هو من بوله، وكذلك ينبغي أن يكون التنزه أيضا من بوله؛ لأن اللفظ إذا كان في خبر واحد واختلف حمل مطلقه على مقيده؛ لأنه قد قيل: (لا يستنزه من بوله)، ولو كان العموم فيه لكان مخصوصا بقوله: (ما أكل لحمه فلا بأس ببوله)؛ لأنه نص في ذكر ما يؤكل لحمه. فإن قيل: فقد روي عنه عليه السلام أنه قال: (استنزهوا من البول؛ فإن

عامة عذاب القبر منه)،فهو عموم في كل بول، فيحمل خبركم على الضرورة. قيل: قد بينا حكم الضرورة إن كانت بجوع أن مرض فلا فائدة فيه، بل ينبغي أن يقضي على عموم خبركم في ذكر البول؛ لأنه مخصوص بالذكر فيما يؤكل لحمه.

فإن قيل: فإننا نخص خبركم بالقياس فنقول:. هو ما استحال في مالا يؤكل لحمه بالذكاة، وليس كذلك بول الأغنام. قيل: قد اتفقنا على أن ريق ما يؤكل لحمه وعرقه طاهر، والمعنى فيه: أنه مائع مستحيل في حيوان مأكول اللحم ليس بدم ولا فيح فكذلك بوله. فإن قيل: لا تأثير لهذه العلة - عندكم -؛ لأن ريق كل حيوان وعرقه طاهر، وأبواله مختلف. قيل: لها تأثير فيما بيننا وبينكم؛ لأنكم تزعمون أن ريق الكلب والخنزير وعرقهما نجس، وعند أبي حنيفة أن سؤر السباع تتنجس الماء - وعندنا - نحن أن بعض الحيوان الذي يؤكل الجيف مكروه،

وريق الأنعام غير مكروه. فإن عارضوا بعلة أخرى. قلنا لهم: لا تتعدى، فعلتنا أولى. فإن قيل: إن رد البول إلى البول أولى من رده إلى الريق والعرق. قيل: علتنا أولى؛ لأنها تستند إلى السنة المخصوصة بذكر بول ما يؤكل لحمه، وإلى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا بأس بسحله)، ولأن رد ما يستحيل في لحم يؤكل بالذكاة إلى مثله أولى من رده إلى ما لا يؤكل لحمه. وقد روى زيد بن علي عن آبائه عن علي رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قال: (لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم، وكل شيء يحل أكل لحمه أصابه أو أصاب الثوب)، ولا فائدة في حمل هذا على الضرورة؛ لأن الضرورة لا تختص بالأنعام دون غيرها فلا يكون في تخصيصها هذا الجنس فائدة، ثم قد كشفه قوله: (وما أصابنه أو أصاب الثوب)، وبالله التوفيق.

[51] مسألة

[51] مَسْأَلَة والمني عند مالك - رَحمَه الله - نجس لا يزيل حكمه إلا الغسل بالماء في رطبه ويابسه. وقال أبو حنيفة: هو نجس، ويزول اليابس منه بالفرك، والرطب بالغسل. وعند الشافعي أنه طاهر كالبصاق والمخاط. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {وبدأ خلق الإنسان من طين} يعني آدم، {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين}، فسماه مهينا لمهانته، وهذا صفة الجنس.

فإن قيل: فقد قال - تعالى - {خلق من ماء دافق}، وقال: {وهو الذي خلق من الماء بشرا}، فسماه ماء مطلقا فظاهره يوجب طهارته. قيل: أما قوله - تعالى - {من ماء دافق} لم يذكر فيه طاهر، والماء الطاهر هو الذي خبرنا - تعالى - بطهارته بقوله: {ماء طهورا}، وبقوله: {ليطهركم به}، والماء الدافق هو الذي سماه - تعالى - مهينا، والطاهر لا يكون مهينا يمتهن، وقوله - تعالى -: {وهو الذي خلق من الماء بشرا} يعني به آدم عليه السلام؛ لأنه خلق من الماء والطين. فإن قيل: فلم ذكر الماء وحده؟. قيل: كما قال: {وبدأ خلق الإنسان من طين}، فذكر الطين مفردا في موضع ليعلمنا أنه خلقه منهما جميعا. وعلى أنه لو ثبت العموم فيه، وأن اسم الماء يتناوله لخصه القياس والسنة. فأما السنة فما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:

كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يخرج إلى الصلاة، وبقع الماء في ثوبه. فإن قيل: فقد روي عنها أنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يصلي فيه، فكأنها ذكرت ههنا الجائز، وذكرت الغسل المستحب. قيل: هذا يحتمل وجوها: منها: أن الفرك لا ينافي الغسل، لأن الغسل لابد فيه من الفرك في غالب الأحوال، فكأنها أرادت بالفرك الغسل؛ لأنه يعبر به عنه، والخبر واحد عنها دون غيرها. ويحتمل أن تكون تفعل الفرك دون الغسل ولا تعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك ولم ينقل أنه علم بذلك فأجازه، ولا قال: إن الذي فعلته صواب فلا يلزمنا فعلها، ويحتمل أن تكون فعلت ذلك في بعض الأوقات لتعلمنا أن إزالة النجاسة ليست بفرض - وهذا مذهبنا -، ولا يدل على طهارة المني. فإن قيل: قولها: كنت أغسل المني من ثوبه عليه السلام ليس في أنه عليه السلام علم بذلك أيضا، فيكون الغسل من فعلها كما قلتم لنا في الفرك. قيل عنه جوابان:

أحدهما: أنها حكت أنها كانت تغسله ويخرج عليه السلام وبقع الماء على ثوبه، وهذا أمر يشاهد النبي عليه السلام في غالب الحال، والفرك ليس بأمر مشاهد كالغسل الذي هو رطب. والجواب الآخر: أنه روى سليمان بن يسار قال: قالت عائشة: كان النبي عليه السلام يصيب ثوبه المني، فيغسله من ثوبه، ثم يخرج في ثوبه إلى الصلاة، وإني أرى أثر الغسل، فثبت بهذا أن النبي عليه السلام غسله، وأنها غسلت ثوبه كما رأته يغسل. فإن قيل: قولكم: إنها فركته بغير علمه عليه السلام لا يجوز؛ لأنه لا يقر عليه كما أخبره جبريل عليه السلام أن في نعليه قذرا. قيل: فقد أقر على بعض الصلاة ولم يخبره بذلك حتى مضى بعضها وبنى عليه، فيجوز أن يقر عليه ليعلم أن إزالة الأنجاس ليست بفرض. ولنا أيضا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان في سفر فأجنب، وحضرت صلاة الصبح، ومعه جماعة من الصحابة، فانتظر غسل ثوبه

حتى كادت الشمس تطلع. فقال له عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، قد أصبحنا ومعنا ثياب، فلو لبست منها وصليت إلى أن يغسل ثوبك. فقال: لو فعلت ذلك لكانت سنة، فلو كان المني طاهرا لصلى فيه، ولكان من معه من الصحابة يقولون: إنه طاهر، والتغليس بصلاة الصبح سنة مجتمع عليها من فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفعل أصحابه، فلم

يتركها حتى تكاد الشمس تطلع من أجل غسل شيء طاهر. وإن كان غسله مستحبا فليس ينبغي أن يترك التغليس المسنون بالصبح من أجل غسل مستحب، فلما لم يجر في هذا مخالفة ولا نكير دل على أن المني نجس؛ لأنهم سوغوا لعمر تأخير الصلاة لغسل المني، وهذا يجري مجرى الإجماع الذي هو أولى من خبر الواحد. وإن ثبت أن يترك المستحب في الأصل للمستحب في الفرع؛ لأن إزالة المني بالغسل لأجل الصلاة. وأما القياس فقد اتفقنا على نجاسة المذي، وكذلك المني؛ بعلة أنه مائع خارج من مجرى الحدث يتولد عن الشهوة. وأيضا فإن دم الحيض نجس، العلة فيه أنه مائع يخرج من السبيل يوجب انقطاعه الغسل على وجه مخصوص. ولنا أن نقيسه على البول؛ بعلة أنه مائع ينقض الطهر ويوجبه. فإن قيل: إننا نعارض قياسكم بقياس آخر فنقول: اتفقنا على مجة البيضة أنها ظاهرة، فكذلك المني؛ بعلة أنه مائع يخلق منه حيوان طاهر. قيل: لا يخلو أن تريدوا المني الذي يخلق منه الولد فذلك لا يحكم له بتطهير ولا بنجس، وإنما يحكم لما يسقط على ثوب أو بدن أو

بقعة طاهرة أو نجس، وهو المني الذي نتنازعه إذا انفصل وسقط على شيء لا يجيء منه الولد. وإن أردتم أنه مائع يخلق من جنسه حيوان طاهر، فإن نازعناكم أن هذا ليس من جنس ذلك لم يبق معكم شيء؛ لأن ذلك المني الذي لم ينفصل لا يحكم له بتطهير ولا تنجيس، وقد يخلق منه الولد وقد لا يخلق منه شيء أصلا، وليس كذلك هذا المني المنفصل فلا نقول: إنه من جنسه. ثم لو قلنا: إنه من جنسه فقد يكون الشيء في نفسه طاهرا ويكون متولدا عن نجس، كاللبن فإنه متولد عن الدم، وقد قيل فيه: إنه دم، فما دام الولد في الرحم يتغذى به على ما هو عليه، وهو دم الحيض الذي ينجس على الحمل لغذاء الولد، فإذا سقط الولد أبيض الدم فصار لبنا حتى تعافه النفس، وهذا قد ذكره أهل الصناعة والمعرفة بالفلسفة. وقد يكون أيضا الشيء في نفسه طاهرا ويستحيل إلى النجس، كالغذاء والماء في جوف ابن آدم، وقد قيل: إن العلقة المتولدة عن المني من دم نجس، وهذا يسقط ما اعتبروه. فإن قيس على اللبن؛ بعلة أنه مائع تثبت به الحرمة بين المرضع وبين من ارتضع منها، وانتشاره إلى غيرهما فكذلك المني. قيل: الذي ينشر الحرمة هو الوطء سواء كان معه مني أو لا وقد تنشر الحرمة القبلة والجسة للذة. وإن أرادوا المني يثبت الحرمة فإنه يخلق منه الولد، ويحرم على نم أنزل المني وينتشر إلى غيره فهذا هو معنى ما ذكروه من أنه يخلق

منه حيوان طاهر، وقد تكلمنا عليه، وقلنا: إن المني المنفصل الذي نتنازعه لا يكون منه ولد فسقط ذلك. على أنه لو صح لهم القياس لكان رد المني إلى المذي أولى؛ لاتفاقهما في المخرج، وأن الشهوة تولدهمها، وأنهما ينقضان الطهر، ويوجبانه على وجه مخصوص، وأنهما لا يكادان يفترقان في غالب الحال، لأن المذي يسبق المني، ويختلط به بعضه، ولأنه يمنع الصلاة، ويمنع حمل المصحف، وكذلك رد المني إلى دم الحيض أولى؛ لاتفاقهما في المخرج وأنهما ينقضان الطهر ويوجبان الغسل، وإذا اجتذبت الأصلانفرعا كان رده إلى ما هو أكطثر شبها به أولى. فإن قيل: فقد روى عبد الله بن عباس أن النبي عليه السلام قال: (أمطه عنك بإذخره، فإنما هو كبصاق أو مخاط)، فلما شبهه بالبصاق

والمخاط الطاهرين، وأمر أن يماط بإذخره دل على أنه طاهر. قيل: إنه دلالة لكم في هذا من وجوه. أحدهما: أنه يجوز أن يكون ذلك الثوب للنوم لا للصلاة، وعلم ذلك عليه السلام وقوله: (كبصاق ومخاط) شبهه بهما في انعقادهما لا أنه تعرض لنجاسته لعلمه بأنه لا يصلي فيه. على أنه قد أمر بإماطته، وأمره بمقتضى الوجوب فإزالته واجبة، ثم قامت الدلالة في إزالته بشيء مخصوص، وهذه قضية في عين تحمل ما حملته. ثم لا يمتنع أن يكون قال له: (أمطه عنك بإخرة) فيوافق مذهب أبي حنيفة في أنه نجس يابس يزال بإذخرة، ثم تقوم لنا دلالة الغسل بما قدمناه من الدلائل. فإن قيل: فقد خلق منه الأنبياء والأولياء ولا يجوز أن يخلقوا من نجس. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنهم قد يكونون علقة نجسة فلا ينقصهم ذلك، وإنما كرامتهم ألآن يصطفوا ويؤتمنوا على الوحي إن كانوا أنبياء، والإحسان إليهم، والتوفيق لهم، وأن يبجلوا ويعظموا وتمتد النعم لديهم. فأما

خلقهم في الابتداء من مني فقد قلنا: إن الذي خلقوا منه لا يحكم له بتطهير ولا تنجيس، والمنفصل المتنازع فيه لم يخلقوا منه، ثم مع كرامتهم وكونهم أنبياء هو ذا يخرج منهم الغائط والبول والدم المتفق على نجاسته ولم ينقصهم ذلك. والجواب الآخر: هو أنه لو وجب أن يكون طاهرا لأن الأنبياء خلقوا منه لوجب أن يكون نجسا، لأن الفراعنة والطغاة قد خلقوا منه. فإن قيل: فإن الله - تعالى - خلق آدم من ماء وطين، وهما طاهران فوجب أن يكون ما خلق منه غيره من جنسه مخلوقا من طاهر؛ لمشاركته له في جنسه. قيل: هذا غير لازم؛ لأنه لما لم يشركه في ابتداء خلقه لم تجب مساواته له فيما ذكرتم. ألا ترى أن آدم لم ينتقل في رحم فيكون نطفة ثم علقة ثم مضغة، والعلقة دم من سائر الدماء إذا انفصلت حكم لها بالنجاسة، فكذلك يجوز أن يخلق ابن آدم من نطفة غير طاهرة. فإن قيل: العلقة - عندنا - طاهرة. قيل: هذا خارج عما عليه المسلمون؛ لأنها تتربى بدم الحيض الذي ينجس عند الحمل، فهو يربي العلقة حتى تصير مضغة، ثم لا يزال ذلك عند الحمل حتى يسقط إلى الأرض. وقد روى سعيد بن المسيب عن عمار بن ياسر قال: مر بي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أسقي راحلتين من ركوة بين يدي،

إذ تنخمت بأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة. فقال لي (يا عمار ما تخامتك ولا دموع عينك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيئ) فأخبر أن الثوب يغسل من المني كما يغسل من سائر الأنجاس، وهذا يدل على نجساته لإضافته إلى سائر الأنجاس في الغسل. دليل: وجدنا الخارجات من البدن على ضربين: فضرب مائع طاهر لا ينقض الوضوء ولا يوجبه كاللبن والدموع والعرق والبصاق والمخاط. والضرب الآخر: نجس ينقض الطهر ويوجبه، ويجب غسله، كالبول والغائط ودم الحيض، ويجب غسل دم الرعاف والحجامة والفصاد إن لم ينقض الطهر - عندنا وعند الشافعي -، ثم ثبت الإجماع على أن المني ينقض الطهر ويوجبه فوجب أن يكون من قبيل البول والمذي ودم الحيض، وهذا ترجيح لقياسنا، ويصلح أن يكون دليلا مبتدأ في المسألة، وبالله التوفيق.

فصل

فصل قد تقدم كلامنا في أن المني إذا خرج يغير لذة لا يوجب الغسل، وسواء خرج قبل البول أو بعده، فإذا خرج منه بقية المني بعد أن اغتسل سواء بال قبل الغسل أولم يبل فإن الظاهر من قول مالك - رَحمَه الله - أن عليه فيه الوضوء واجبا. وذكر بعض أصحابه أن الوضوء منه مستحب لا واجب. قال: لأنه مني، والمني على وجهين: أحدهما: أن تقارنه اللذة فالغسل منه واجب. والوجه الآخر: إذا لم تقارنه اللذة فهو على وجه المرض فلا يجب

به الغسل ولا الوضوء، وهذا مني قد خرج عن حال العادة فينبغي أن لا يكون فيه وضوء واجب كدم الاستحاضة الذي سقط الغسل فيه فسقط الوضوء فيه لخروجه عن أصله. قال: وأيضا فإن هذا بقية مني قد اغتسل منه، وإنما منع من خروجها مرض وعلة، لولا ذلك لخرج في جملة المني الذي قد اغتسل منه، وقد قامت الدلالة على أن ما خرج من السبيل على وجه المرض فليس بحدث ينقض الوضوء، ولولا هذا لوجب فيه الغسل كأصله. والذي - عند أن الوضوء منه واجب على ظاهر قول مالك، وهذا الذي كان الشيخ أبو بكر - رَحمَه الله - يختاره، وأصول مالك تدل عليه، وقد بينته في مَسْأَلَة الأحداث إذا خرجت عن وجه العادة واتصلت وتتبعت، والفرق بينها وبين ظهورها المرة بعد المرة فعليه الوضوء إلا أن يستنكحه ذلك فإن الوضوء فيه مستحب؛ وذلك أن هذا قد يكون غالبا في الناس، وهو أن يبقى في القضيب من المني الذي تقارنه اللذة بقية تظهر عند البول، وبعد ساعة، وذلك كالمعتاد أيضا، فينبغي أن يكون فيه الوضوء واجبا؛ لأن الغسل قد تقدم في الدافق منه، وقد قارنته اللذة فمضى حكم الغسل وصار كدم الاستحاضة الذي أصله قد اغتسل منه، وهو يجيء مرة بعد مرة، وقد قال مالك: فيه الوضوء، كم اعتراه المذي المرة بعد المرة. ولا يمتنع أن يجب فيه الوضوء؛ لأنه مائع قد يخرج من السبيل على وجه العادة وإن لم تقارنه اللذة، وصار في حكم دم الاستحاضة على ما بيناه، فإذا سقط فيه حكم الطهارة العليا لم يمتنع أن تجب فيه

الطهارة الصغرى؛ لأنه من ذلك الجنس خرج عن أصله إلى عادة فيه، ولا مشقة في الوضوء منه، فإن اتصل وتابع تحققنا أن لمرض؛ لخروجه عن عادة الناس فيه. مع شدة الكلفة في الوضوء منه، وليس إذا لم يكن معتادا لجميع الناس يخرج عن أن يكون معتادا لأكثرهم أو كل لبعضهم، ويحكم له بحكم العادة. كما أن دم الحيض ليس الغالب في كل النساء أن يحضن خمسة عشر يوما، ولكنه قد يكون معتادا في بقية هذا الماء معتادا في أكثر الناس أو في بعضهم فيحكم له بحكم عادته، وكذلك دم الاستحاضة قد يكون خروجه مرة بعد مرة عادة في بعض النساء فيكون الحكم جاريا عليها على عادتها فيه، فيجب عليها فيه الوضوء منه؛ لأن الدلالة قد أخرجته عن حكم الغسل ولم يتحقق فأحسن أحواله أن يكون بمنزلة سائر الأحداث من البول والمذي والودي. ألا ترى أن من خالف فيه يستحب الوضوء منه ولا يستحب الغسل، فهو كدم الاستحاضة الخارج عن أصله من دم الحيض، والله أعلم.

[52] مسألة

[52] مَسْأَلَة حكي عن ابن وهب عن مالك - رَحمَه الله - أن من جس أو قبل أو فعل فعلا التذ به وأكسل ولحقته الفترة ولم يظهر منه الإنزال حتى توضأ وصلى ثم اندفق منه الماء فإنه يجب عليه الغسل وإعادة الصلاة. والظاهر من مذهب مالك - رَحمَه الله - أن هذا المني إذا لم تقارنه اللذة في حال خروجه أنه لا غسل منه ولا تعاد الصلاة التي مضت قبل خروجه. ومن أصحابنا من قال: يغتسل من هذا المني، ولا يعيد ما صلى. وهذا معناه - عندي - إن خرج مقارنا للذة أخرى زيادة على التي تقدمت. والحجة لرواية ابن وهب قوله - تعالى -: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}،

وقوله: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، والمجانبة في اللغة المباعدة والمفارقة، فهو عموم في مفارقة الماء موضعه سواء خرج أو لم يخرج، وعموم في مفارقة الرجل المرأة بعد لمسه أو جسه أو إيلاجه؛ لأنه مجامع لها فإذا فارقها فقد جانبها إلا أن يقوم دليل، وهذا كقوله عليه السلام: (الكذب مجانب الإيمان)، أي مفارقه، فكل من فارق شيئا فهو مجانب له. وأيضا قول النبي عليه السلام: (الماء من الماء)، وهذا ماء قد ظهر فيجب أن يغتسل منه إلا أن يقوم دليل. فإن قيل: فإنما ووجب الغسل منه إذا خرج ولا يعيد الصلاة الماضية. قيل: إنا خرج بلذة متقدمة، هي معدومة في حال خروجه، فأنتم بين أمرين: إما أن يجب الغسل لأجل اللذة المتقدمة فقد صحت المسألة، أو يجب لظهوره مع تعريته عن اللذة فهو خلاف مذهب مالك؛ لأن المني - عنده - إذا لم تقارنه لذة لم يجب منه غسل، فإذا ثبت ذلك فإنما يجب بظهوره مع شيئ آخر، وهو اللذة، وقد تقدمت لهذا الماء فيجب منه الغسل كما يجب بمقارنته، وإذا وجب ذلك وجبت إعادة الصلاة لوجود الشرطين من اللذة والإنزال.

ووجه الرواية الأخرى - وهي الصحيحة -: هو أنه طاهر غير جنب قبل ظهوره فلا يحكم له بحكم الجنب إلا بدليل، وما صلاة فلا تجب إعادته؛ لأنه أداه على ما كلف. وأيضا فإن النبي عليه السلام قال: (لا صلاة إلا بطهور)، و (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، وهذا قد تطهر وصلى وقرأ فصحت له الصلاة. وأيضا فإن الجنب في الشريعة هو الذي لا يجوز له دخول المسجد مع القدرة على الغسل، ولا الصلاة، ولا قراءة القرآن ولا مس المصحف، وهذا قبل ظهور المني منه تجوز له هذه الأمور كلها إذا توضأ للجسة والقبلة التي قارنتها اللذة، فإذا توضأ فليس بجنب، وقد جاز له فعل جميع ما ذكرناه وصلى، وله أن يصلي وإن لم يغتسل قبل ظهور هذا المني، فلس يتناوله اسم جنب بحق الإطلاق. وأيضا فقد دللنا على أن وجود المني إذا عري عن اللذة لا يوجب الغسل، ولا يكون به جنبا، فكذلك إذا عريت اللذة عن ظهور المني لم يكن لها حكم، وصار الحكم واجبا بوجودهما جميعا مقترنين في حالة واحدة، وكذلك حكم سائر الأحداث لا تعتبر فيه مفارقة الحدث موضعه، وإنما يعتبر خروجه. ألا ترى أن الطعام ينهضم بعد استحالته فينحدر إلى المعي السفلي، وكذلك يستحيل الماء ثم ينحدر إلى

المثانة، ولم تعتبر فيه مفارقة مستقرة، بل اعتبر فيه خروجه على وجه الصحة والعادة، ولم يحكموا له بحكم النجاسة إلا بعد ظهوره. وأيضا فإن الصحابة اختلفت على وجهين، فقالت الأنصار: الماء من الماء، فحكموا بالغسل عند خروجه، ولم يحك عن أحد أنه رد عليهم ذلك، ولا قالوا ولا قيل لهم: إن الغسل يجب بمفارقة الماء موضعه، وخالفهم الباقون في الوجه الآخر وهو التقاء الختانين، كما قالوا بالغسل من الماء ولم يقولوا ولا واحد منهم: إن اللذة قد تقدمت، وفارق الماء موضعه وقد كان هذا أولى من أن يستخرجوا إلى الخبر، ويقولوا: قال النبي عليه السلام: (إذا التقى الختانان وجب الغسل)؛ لأن الحجة كانت عليهم أقوى إذا قالوا لهم: الماء من الماء سواء فارق موضعه أو خرج من مخرجه وتأولنا نحن قولهم: الماء من الماء إذا خرج مقارنا للذة. فإن قيل: فإنه ظهر الماء بعد تقدم الفترة قلنا: إنه كمان جنبا، فانكشف لنا ذلك عند طهور المني. قيل: هذا يلزم في سائر الأحداث إذا ظهر الحدث بخروجه علمنا أنه كان محدثا لمفارقة الحدث موضعه؛ لأن الإنسان قد يعلم ضرورة إذا لحقه الحقن الشديد، ودافع الأخبثين أن الحدث قد

فارق موضعه، ولا يكاد يعلم بوجود الفترة والإكسال أن المني قد فارق موضعه، فإذا لم يحكم للمحتقن بحكم الحدث حتى يظهر كان فيما يشك فيه أولى أن لا يحكم له بحكمه حتى يظهر. على أننا قد بينا أن الحكم يتعلق بوجود الشرطين معا في حالة واحدة، وهو خروج المني مقارنا للذة، ولا يجب بوجود أحدهما منفردا على الآخر. ومن جعل من أصحابنا في وجود هذا المني الغسل ولا تعاد الصلاة، وفرق بينه وبين ما يظهر إذا لم تتقدمه لذة أو فترة بأن هذا قد تقدمته فترة وإكسال لم ينفك من رواية ابن وهب؛ لأنه قد جعل الفترة المتقدمة شرطا، كما أن ظهوره شرط، وإن افترقا فلابد أن يكون للفترة المتقدمة قسط في إسقاط حكم الصلاة صلاها فتجب إعادتها، والله أعلم.

[53] مسألة

[53] مَسْأَلَة إذا حاضت المرأة الجنب فلا غسل عليها للجنابة حتى تطهر، ثم يجزئها غسل واحد , هذا مذهب جميع الفقهاء إلا أهل الظاهر فإنهم يوجبون عليها غسلين. والدليل لقولنا: أن هذه المرأة إذا انقطع دمها وكانت جنبا فاغتسلت جاز لزوجها وطؤها لقوله - تعالى -: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأوهن من حيث أمركم الله}، فإذا سميت متطهرة يجوز لزوجها وطؤها وصلت قبل الوطء فقد دخلت تحت قوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بطهور). فإن قيل: فإنها جنب وقد قال الله - تعالى -: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، وقال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}، فوجب أن تتطهر وتغتسل للجنابة.

قيل عن هذا جوابان: أحدهما: أن ظاهر الآية يتناول جنبا مفردا، وهذا جنب حائض ولم يرد لها ذكر، فدليله أن الجنب الحائض بخلاف ذلك. وأيضا إن هذه قد اغتسلت وفعلت ما سميت به طاهرة لقوله - تعالى -: {فإذا تطهرن}، وليس في الظاهر: فاطهروا للجنابة دون الحيض، وكذلك قوله - تعالى -: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، ولم يقل: تغتسلوا للجنابة دون الحيض، وهذا قد اغتسلت. وأيضا فليس في الظاهر وإن كنتم جنبا، وفيه تنازعنا، فدليله بخلافه. وعلى أن الظواهر كلها وردت بلفظ يتناول الذكور أو الذكور والإناث، وليس فيها ذكر الإناث منفردات، وقد ذكرنا نحن ما يتناول الإناث منفردات بقوله - تعالى -: {فلا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن}، فهذا خاص فيهن فلا يقربن حتى يطهرن بالماء، سواء تطهرن للجنابة أو للحيض؛ لأن المرأة هي التي يجتمع فيها الأمران جميعا الجنابة والحيض. على أن الأصول كلها تدل على أن الأحداث إذا كان موجبها واحدا واجتمعت تداخل حكمها، وناب موجب أحدها عن الآخر، كاجتماع البول والغائط والريح والمذي ينوب عن جميعها وضوء واحد، وكذلك لو وطئ دفعات كثيرة أجزأه غسل واحد، وكذلك لو حاضت امرأة ثم

جنت أو برسمت، والدم ينقطع ثم يعود. أو تعمدت ترك الغسل حتى حاضت دفعات، ثم اغتسلت أجزأها غسل واحد، فقد استوى حكم سائر الأحداث المختلف منها والمتفق إذا اتفق موجبها في أن الوضوء الواحد أو الغسل الواحد ينوب مناب صاحبه، ويدخل حكم بعضها في بعض، وكذلك مثل هذا في الحدود إذا اجتمعت وكان موجبها واحدا سواء اتفقت أنواعها أو اختلفت، مثل أن يسرق مرارا، أو يشرب الخمر مرارا، أو يقذف مرارا، أو يشرب خمرا ويقذف، فإن حدا واحدا ينوب عن الآخر، وكذلك المحرم إذا قتل صيدا في الحرم فإن عليه جزاء واحدا، وإن كان لو انفرد بقتله محرما دون الحرم وجب عليه جزاء واحد، ولو قتل حلال في الحرم وجب عليه جزاء، ثم إذا قتله محرم في حرم وجب فيه جزاء واحد، فكذلك يجب على الحائض الجنب غسل واحد؛ لأن الموجب واحد، وبالله التوفيق.

[54] مسألة

[54] مَسْأَلَة ومن معه إناءان أحدهما نجس والآخر طاهر، واختلطا عليه فلم يعرف النجس من الطاهر، ولا يقدر على غيرهما، وقد حضر وقت الصلاة - وهو على غير وضوء - فظاهر قول أهل المدينة أن الماء لا ينجس إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه على ما تقدم بيانه في الكلام في الماء. وقال عبد الملك بن الماجشون: إنه يتوضأ من أحدهما ويصلي ثم يتوضأ من الآخر ويعيد الصلاة. وقال محمد بن مسلمة: يتوضأ من أحدهما ويصلي، ثم يغسل أعضاءه نم الآخر، ثم يتوضأ منه ويعيد الصلاة. وقال أبو حنيفة: لا يتحرى في الإناءين ويتركهما ويتيمم، وبه

قال المزني. قال أبو حنيفة: يتحرى في ثلاث أوان أو أكثر. وقال الشافعي: يتحرى أحد الإنائين، فإذا غلب على ظنه طهارة أحدهما تطهر منه وأراق الآخر. وذهب عبد الملك ومحمد بن مسلمة في هذا إلى التغليظ في الماء القليل إذا حلته نجاسة ولم يتغير، وقد شدد مالك الكراهية فيه، وإن كان الأصل في المياه على ما ذكرناه؛ لقوة الخلاف فيه. ووجه قول عبد الملك ومحمد: أنه إذا عمل هذا حصل وضوؤه بماء طاهر بإجماع؛ لأنه إن كان الأول هو الطاهر فقد مضت صلاته

صحيحة باتفاق، وحصل ما بعدها ملغي، وإن كان الأول هو النجس فاستعماله الثاني يزيل أثر الماء الأول، وتصح الصلاة به، وخاصة إن غسل الأعضاء ثم توضأ، ويكون الأول النجس لغوا. وكذلك يقولان في الثوبين أحدهما نجس، والآخر طاهر. وكذلك يقول أبو حنيفة في الثوبين، ويفرق بينهما وبين الإناءين قال: لأنه لو صلى في ثوب نجس أجزأه، ولو توضأ بماء نجس لم يجزئه، وهذا يلزمه في ثلاث أوان وأكثر. وأيضا فقد ثبت أنه لو نسي صلاة من يوم وليلة لا يدري أي صلاة هي من الخمس الصلوات كلفناه أن يصلي الخمس الصلوات؛ ليكون قد أدى الفرض بيقين، فكذلك ينبغي في الماء.

فإن قيل: فإنها عبادة تؤدى تارة بيقين، وتارة بالظاهر فجاز دخول التحير عليها عند الاشتباه، أصله القبلة، اليقين فيها أن يكون بمكة في المسجد معاينا للكعبة، أو بالمدينة فتصلي في محراب النبي عليه السلام فهذا يقين، وأما الظاهر فهو أن تكون في بعض البلدان أو القرى فتشاهد مسجدا فيه قبلة فيجوز أن تصلي إليها على الظاهر، مع جواز أن تكون القبلة غير تلك الجهة. وأداء الطهارة بيقين مثل أن تتوضأ من دجلة فتتيقن أن الماء طاهر، وأما الظاهر دون اليقين فمثل أن يجد ماء في إناء على الشط فيجوز له أن يتطهر منه، وهذا الماء في الظاهر طاهر لا بيقين؛ لجواز أن يكون قد حلت فيه نجاسة من ولوغ كلب قد أكل نجاسة هي على فمه أو غير ذلك من بول خنزير أو ترشيش فيه من بول آدمي فيجوز التحري في الإناءين، كالقبلة يصلي إلى جهة تغلب على ظنه، وليس عليه أن يصلي إلى الجهات كلها. قيل: الفرق بينهما هو أن القبلة قد جوز تركها والصلاة إليها مع القدرة في الصلاة التطوع في السفر , وللمسايف في وجه العدو وغير ذلك، وأما الماء النجس فلا يجوز الوضوء به على وجه، فلهذا

طلب اليقين فيه كما قلنا فيمن نسي صلاة من خمس صلوات أنه يصلي الصلوات كلها حتى يأتي على اليقين؛ لأن الصلاة لا يجوز تركها مع القدرة ولا مع العذر. والدليل على أبي حنيفة: هو أن هذا الإنسان معه ماء طاهر بيقين يمكنه الوصول إليه وأداء الصلاة به من الماء النجس فوجب أن يجوز له التحري فيه، أصله الثلاث الأواني. وأيضا: فإن التحري في الإناءين أمكن منه في الثلاث لوجهين: أحدهما: أنه بالتحري يطلب الطاهر، ولا يتوصل إلى معرفة الطاهر إلا بمعرفة النجس؛ لأه يطلب العلامة والأثر، والعلامة والأثر قد يكون على الماء النجس من أثر الرجل أو قلة الماء وكثرته وما يشبه ذلك، فصار كأنه لا يطلب إلا النجس، فإذا كان كذلك فتمييز الشيء بين شيئين أمكن وأقرب منه نم الثلاث وأكثر، كما أن تمييز عبد أشكل أمره من بين عبدين أمكن منه وأسهل من بين مائة عبد. والوجه الثاني: هو أن التحري أن ينظر في كل إناء على الانفراد، ويضبط صفاته ويحفظها حتى إذا وجد اختلاف الصفة حكم حينئذ إما بنجاسة أو طهارة، فإذا ضبط (ذلك فهو إذا ضبط) صفة الإناء ثم نظر في الآخر كان أقر عهدا بالأول منه أن ينظر في ثالث. فإن قيل: فأنتم لا تتحرون بل تأمرون باستعمال الجميع.

قيل: نحن نقول يتحرى أولا فيتوضأ بما يغلب على ظنه أنه طاهر ويصلي، ثم يتوضأ بالآخر ويصلي احتياطا؛ لأنه قد يجوز أن يخطئ اجتهاده في الأول فإذا احتاط بالثاني أصاب لا محالة. فإن قيل: يلزمكم هذا في أكثر من إناءين حتى لو كانت أواني كثيرة وجب أن يستعملها كلها، وهذا يشق. قيل: إذا خرج إلى المشقة تركنا ذلك وتحرى الواحد. ألا ترى أنه لو اختلط على إنسان أو أشكل أمر امرأتين وثلاث في أن إحداهن أخته من الرضاعة منعناه أن يتزوج إحداهن، وقلنا له: احتط واترك الجميع، ولو اختلطت عليه بأهل بلد جاز أن يتزوج إحداهن؛ لأن منعه من ذلك يشق، وكذلك لو اختلطت عليه شاة ميتة باثنتين وثلاث من المذكاة وجب أن يمتنع من الجميع، ولو اختلطت بشيء كثير جاز له أن يأكل. فإن قال عراقي: إن هذا يشهد لنا؛ لأننا لا نتحرى في إناءين ونتحرى في أكثر، كما قلتم في المرأتين إحداهما أخته من الرضاعة، وشاتين إحداهما ميتة. قيل: قد فرقتم أنتم بين الموضعين؛ لأنكم لا تجيزون له أن يتزوج إحدى عشرة فيهن أخته من الرضاعة، كما لا يتزوج واحدة من اثنتين، ولا تعملون في الأواني كذلك؛ لأنكم لا تجيزون التحري في

إناءين، وتجيزونه في ثلاث. فإن قال الشافعي: فقولنا أولى؛ لأنه يستمر في إناءين وثوبين، وفي اجتهاد الحاكم والقبلة في أنه ليس عليه أن يحكم بالاجتهادين، ولا الصلاة إلى جهات القبلة كلها. قيل: أما الحاكم فإنه ينظر لقطع الخصومات، فإذا غلب على ظنه الحكم لأحدهما حكم، فلو قلنا له: احكم للآخر أدى ذلك إلى إحكام الخصومة بينهما، ولعل خصومتهما قبل هذا الحكم تكون أسهل، فلا يجوز أن يفعل ذلك، والصلاة حق محضة لله فنعمل بما ذكرناه، وقد ذكرنا الفرق بين الإناءين وبين القبلة بما فيه كفاية. ويجوز أن نستدل على أبي حنيفة في تركه الإناءين وعدوله إلى التيمم بقوله - تعالى -: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، وبقوله: {وينزل عليكم من السماء ما ليطهركم به}، وظاهر هذا طهارته، وبقول النبي عليه السلام: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه)، وهذا ماء لم يغيره شيء من ذلك، وقد قال - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، ولم يخص ماء من ماء، وهذا واجد للماء فلا يجوز العدول عنه إلى التيمم إلا بدليل.

[55] مسألة

[55] مَسْأَلَة من التيمم الصعيد عند مالك - رَحمَه الله - هو الأرض، فيجوز التيمم على كل أرض طاهرة، سواء كانت حجرا لا تراب عليها أو عليها تراب، أو رمل أو زرنيخ أو غير ذلك. وبه قال أبو حنيفة محمد وأبو يوسف إلا على صخر لا تراب عليه فإن أبا يوسف قال: لا يجزئه. وقال الشافعي: لا يجوز التيمم بغير التراب أصلا، إذا تيمم فلا بد أن يعلق بيده منه شيء يمسح به وجهة وذراعيه، ولا بد عنده من التيمم على التراب ومن الممسوح به.

والدليل على لقولنا: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}، والصعيد اسم للأرض. قال - الله تعالى - {فتصبح صعيدا زلقا}، قيل: إنها أرض زلقة. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يجمع الخلائق يوم القيامة على صعيد واحد» أي أرض واحدة، فالاسم الأخص من الصعيد يتناول الأرض نفسها، ولم يخص - تعالى - صعيدا من صعيد. فأي أرض كانت فهي صعيد. وأراد بقوله: {طيبا} أي طاهرا. وقد قيل: إن الصعيد لما تصاعد من الأرض، فليس يختص بموضع منها دون موضع، والصخر متصاعد من الأرض، وكذلك الرمل وغيره، فهو عموم في كل ما تصاعد منها إلا أن يقوم دليل. وقد ذكر ابن الأعرابي أن الصعيد اسم للأرض، واسم للتراب،

واسم للطريق، واسم للقبر. فإذا كان يتناول كل واحد من هذه حقيقة فإما أن نجعله للعموم فيتناول جميعها، أو يكون من الأسماد المشتركة، كقولهم: عين ولسان لون. فقوله تعالى: {فيتمموا صعيدا طيبا} اسم نكرة في إثبات لا يكون عموما، بل يكون شائعا في الجنس لا يتناول صعيدا بعينه، بل يتناول كل ما يقع عليه اسم صعيد على طريق البلد، والأرض والتراب والطريق والقبر من جنس أحد، فأي صعيد قصد جاز التيمم عليه إلا أن يقوم دليل، بمنزلة قولك: اضرب رجلا، فإنه لا يختص برجل دون رجل فأي رجل ضربه قد امتثل المأمور به، وإن كان الجنس مختلفا فلاسم مشترك لا يمكن ادعاء العموم فيه، لا صرفه إلى وجه دون وجه لا بدليل، فدل على أنها من المراد، وأن المراد جميعها. وقد قام الدليل على أن الأرض مقصودة، وما تصاعد منها مقصود، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «جعلت لي الأرض مسجدا طهرا، فأينما أدركتني الصلاة فتيممت وصليت»، فذكر الأرض ولم يخص

موضعا منها، وجمع بين الصلاة والتيمم عليها، ثم آكد ذلك بقوله: «فأينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت». وقد تدركه في موضع من الأرض لا تراب عليه، وفي موضع فيه رمل أو جص أو غير ذلك كما تدركه في أرض عليها تراب. ولنا أيضا ما رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فضلت على الأنبياء بست» فذكر أشياء، إلى أن قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»، فأخبر أن

الطهور من الأرض هـ ما كان مسجدا، وقد ثبت أن الصلاة جائزة على كل موضع من الأرض، فكذلك التيمم، ولا يختص بموضع عليه تراب من غيره. وأيضا: ما روي عن عبد الله بن عمر أنه مضى إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فكان في حديثه أن قال: بال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما، فأتاه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى قام وضرب بيده على الحائط ومسح بها وجهه، ثم ضرب أخرى ومسح بها كفيه، ومعلوم

أن الحائط لا تراب عليه، فدل على أن التيمم لا يفتقر إلى مسموح به. وأيضا ما رواه سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن عمار أنه قال: أجنبت فتمعكت فأخبرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بيده على الأرض، ثم أدناها منه ونفخ فهيا، ثم مسح بها وجهه»، فحكى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفخ في يديه ومسح بهما وجهه، وهذا نص على أن التراب ليس من شرطه؛ إذ لو كان من شرطه لما نفخهما.

ولنا أيضا ما رواه عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن قوم جاءوا إلى رسل الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: إنا نكون في الرمال فلا نقدر على الماء ثلاثة أشهر وأربعة أشهر، وفينا النفساء والحائض والجنب. فقال: «عليكم بالأرض»، وهذا يدل على جواز

التيمم بالرمال؛ لأنها أرضهم، ويتناوله اسم الأرض، ولو كان اسم الأرض لا يقع إلا على التراب لقال لهم: انتظروا وصولكم إلى الأرض، فلما قال لهم: «عليكم بالأرض» أي أرضكم التي أنتم بها دل على ما قلناه. وأيضا فإن أحدا لا يمتنع أن يقول: جلسنا على الأرض، ونزلنا بأرض مصر والبصرة والحجاز وبني فلان، وإن كان موضع الجبال والحجر. وأيضا فإن التيمم ثبت على وجه الترفيه والرخصة فيما كان مضيقا على من تقدم من الأمم فوجب أن لا يختص بموضع التراب كالصلاة، وهذا الذي دل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». وأيضا فإن ما جاز أن يكون قرارا لماء جاز أن يتيمم به. أصله موضع التراب، وهذا موجود في موضع الرمل. وأيضا فإن موضع يجوز السجود عليه فأشبه موضع التراب. فإن قيل: قوله تعالى -: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، فأمر بالمسح من الصعيد، فشرط الممسوح به؛ لأنه لا يقال: مسح منه إلا بأخذه جزءا منه. واقتضى هذا أيضا أن يكون الصعيد ما يمكن الأخذ منه، وهو اللين الناعم، وهذه صفة التراب،

وأنتم تجعلون الجبل صعيدا، وهو لا يمكن الأخذ منه. وأيضا فإن قوله: {منه} يدل على التبغيض؛ لأن من للتبعيض والهاء في {منه} كناية عن مذكر فهي ضمير التراب لأنه يذكر. أحدها: أنه يجوز أن يكون {منه} صلة في الكلام، كقوله: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة}، والقرآن شفاء. جواب آخر: وهو أننا لو سلمنا أنه أراد غير الصلة فإنما أراد به {منه} الموضع الطاهر من الصعيد، والهاء كناية عن الصعيد - وهو مذكر - فتقديره من بعض الصعيد، وهو المكان الطاهر الذي يجوز السجود عليه، وقد يذكر بعض أسماء المواضع ويؤنث، مثل بدر وحنين

وواسط ودابق، وهذه مواضع من الأرض. وأيضا فإن كل ما ليس له فرج فإنه يجوز أن يذكر ويؤنث، فيقال: أطفئ نارك، وأطفئت نارك، وهدم دارك، وقد قال تعالى: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة}، {وأخذت الذين ظلموا الصيحة}. وأيضا فلو أراد - تعالى - بالصعيد الطيب التراب لقال: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم به، ولم يقل: منه، فلما قال: دل على أنه أراد من الأرض أو مما تصاعد من الأرض، فلا يخص بعض ما تصاعد منها من بعض، وقد يتصاعد منها الرجل والجص وغير ذلك. وأيضا فقد ورد القرآن في هذه الآية بقوله: {منه}، ووردت

آية أخرى قيل أخرى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم}، وإن تيمم بتراب جاز بقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}. فإن قيل: يبنى المطلق على المقيد، فالمطلق قوله: {فامسحا بوجوهكم وأيديكم}، والمقيد: {منه}. قيل: لا يبنى المطلق على المقيد إلا بدليل. يحتمل أيضا أن يكن قوله - تعالى -: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}. أي من المقصود، ولأن معناه: اقصدوا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم من المقصود الذي هو الصعيد، وقد ذكرنا أن اسم الصعيد حقيقة إما أن يكون لنفس الأرض على ما ذكرناه، أو لما تصاعد منها فهو المقصود، ولا يخص التراب منه دون غيره، وإن كان الصعيد اسما للأرض ولما تصاعد منها فذلك مقصود لا يختص موضع تراب من موضع غيره. فإن قيل: فقد روى أبو عوانة عن أبي مالك

الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت لنا الأرض مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا».

وروى عن سعيد بن مسلمة بهذا الإسناد عن حذيفة أنه عليه السلام قال: «جعل ترابها طهورا»، وهذا نص؛ لأنه عليه السلام خص التراب بالطهور وما عداه فليس بتراب، فدليله أن غير التراب ليس بطهور. قالوا: وهذه زيادة في الخبر على قوله: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»، فكان الزائد أولى. قالوا: وأيضا فإن قوله عليه السلام: «جعلت الأرض مسجدا وطهورا» مطلق، وقوله «وترابها طهورا»، مقيد، فيبنى المطلق على المقيد، كما علمناه وأنتم في الشهادة في قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} بنيناه على قوله - تعالى -: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، وكذلك أطلق - تعالى - قوله في موضع في الكفارة فقال: {فتحرير رقبة}،

وقيدها في موضع بالإيمان، فلا يجوز من الرقاب في الكفارات إلا مؤمنة. قيل: أما قولكم: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على التراب فإننا نقول بموجبه. ويجوز التيمم على التراب. فأما دليله فلا يلزم: لأن الأرض هي غير التراب، والتراب غيرها فلا يخص دليل الخطاب ما ليس من جنسه. ألا ترى أنه لما قال عليه السلام «في سائمة الغنم الزكاة» كان دليله ألا زكاة في عاملة الغنم، ولا في عاملة البقر، فكذلك دليل قوله: «ترابها طهورا» أن غير ترابها مما يضاف إليه ليس بطهور، وكما لو قال: رملها طهور. لكان دليله أن ترابها ليس بطهور، وكذلك لو قال: صوف الغنم طاهر. دل على أن لحمها وجلدها وقرنها ليس بطاهر. فأما أن يكون نفسها ليس بطاهر فلا. وإن جاز أن يكون في دليل الخطاب ما يعم الجنس وغير الجنس فهو ضعيف، وقضى عليه القياس الذي ذكرناه فيحلق المسكوت عنه بالمنطوق به. وقولكم: إن في خبركم زيادة هي ذكر التراب فإننا نقول بالزائد وبالمزيد عليه، فنجوز الأمرين جميعا، وهذا زيادة في الحكم لا محالة فهو أولى من الاقتصار على الزائد حسب.

وقولكم: إنما يبنى المطلق على المقيد في هذا فهو غلط من وجهين: أحدهما: أنه يحتاج إلى دليل. والوجه الآخر: هو أن الأرض المطلقة ليست هي تراب، والتراب ليس هو الأرض: لأن التراب من الأرض بمنزلة الصوف من الغنم، والصوف ليس هو الغنم، فكذلك التراب ليس هو نفس الأرض. وأما الشاهد المطلق فهو المقيد بالعدالة، وكذلك الرقبة نفسها مقيدة بالإيمان. فإن قيل: ما روي عن عمار، وأن النبي عليه السلام ضرب بيديه الأرض ثم نفخهما يجوز أن يكون نفخ حتى ذهب الغبارة وأثره، فيجوز أن يكن نفخ حتى جف الغبار ولم يذهب الأثر، وهذه فعلة واحدة تحتمل، فإذا لم يعلم على أي وجه وقت لم يصح الاحتجاج بها، ولا يدعي في ذلك العموم. قيل: هذا خرج مخرج التعليم فلا يجوز أن يغفل بيانه، ولو كان الحكم فيه يختلف لبين لعمار الحكم فيه، كان عمرا وغيره ممن حضر ينقلون تفصيل ذلك، هل النفخ يزول معه الأثر أولا؟، وقد روي أنه قال لعمار: «أنفخ يديك»، ولم يفصل له صفة

النفخ، وروي أنه عليه السلام نفض يديه. فإن قيل: فقد روي أنه عليه السلام قال لأبي ذر: «التراب كافيك ". قيل: قد روي: «التيمم كافيك»، وليس في قوله: «التراب كافيك وأن لم تجد الماء عشر حجج» أكثر من أنه أعلمه أن التيمم يكفيه، هذا هو الغرض، ويجوز أن يسمي له الأرض باسم التراب؛ لأن الغالب أنه يكون عليها. وعلى أننا نقول بموجب الخبر، فيجوز التيمم بالتراب. فإن قيل: دليله أن غير التراب لا يكفي. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن الحكم علي باسم له لم ين ما عداه بخلافه - عندكم -، وإنما ذلك في الشروط في الأوصاف، والتراب اسم، ثم قد بينا أن الأرض غير التراب، دليل التراب هو الرمل وغيره، فإن اقتضى دليله أن التيمم على الرمل لا يجوز سلمت لنا الأرض التي لا تراب عليها، وإذا جاز التيمم على الأرض التي لا تراب عليها سلمت المسألة.

وعلى أنه لو سلم الدليل لكان القياس الذي ذكرناه يخصه، فيصير تقديره، أن غير التراب من الذهب والفضة والنحاس والحيوان وغير ذلك لا يجوز إلا في الأرض الحجر وغير ذلك ما عدا الأنواع التي ذكرناها. وقد روي: «الصعيد كافيك»، وإذا أمكن استعمال الجميع كان أكثر الفوائد. فإن قيل: فإنه ممسوح في الطهارة فوجب أن يكون من شرطه ممسوح به. أصله مسح أو الرأس في الطهارة. وأيضا فإنه معدن في الأرض فوجب أو فلا يجوز التيمم له - يعنون الجص وغيره - أصله سحالة الحديد والذهب والفضة. وأيضا فإن ذلك يتمول على وجه العادة فوجب أن لا يجوز التطهر

به. أصله المائعات كلها من الخل وغيره. وأيضا فإن الطهارة تتعلق بجامد ومائع، ثم لما تعلقت الجامد وجب أن تتعلق بأعمها وجودا. قالوا: وإن شئنا جوزنا فقلنا: هو أحد جنسي ما يقع به التطهر فوجب أن يتعلق بأعمها وجودا. أصلها الماء. قيل: أما القياس على مسح الرأس في الطهارة فلا نسلم قولكم: ممسوح في طهارة؛ لأن التيمم ليس بطهارة على الإطلاق. وعلى أن المعنى في الطهارة بالماء أن الحديث يرتفع، لا يتعرف في التيمم. ألا ترى أن كل عضو من الأعضاء مثل الوجه واليدين لا بد أن يلاقيه الماء في جميع أجزائه، وليس من شرط التيمم ملاقاة التراب لكل جزء من الوجه واليدين. وأيضا فإذا سقط مسح الرأس والرجلين في التيمم أصلا كان سقوط الممسوح به في الوجه واليدين أخف. وقولكم: إنه معدن في الأرض فلا يجوز التيمم به كالحديد والذهب والفضة فإننا نقول: إن الصعيد - عندنا - هو الأرض نفسها، فالتيمم يقع عليها، سواء كانت جصية أو رملية، فأما على الكحل مفردا عن الأرض، وكذلك الجص وبالزرنيخ فلا يجوز التيمم عليه، فلا يلزم ما ذكرتموه.

وقولكم: إنه يتمول في العادة، فإنه في حال ما يتمول لا يجوز التيمم به فإما مع كونه مع الأرض فالمقصد الأرض لا هو. وعلى أن الذهب والفضة كالمودعين في الأرض فليسا من جنسها. وأما المائعات غير الماء فلا مدخل لها في شيء من الطهارات. ألا ترى أن الاستنجاء بها لا يجوز، ويجوز بما (من جنس الأرض. وأما قولكم: إن لطهارة هو لما تعلقت بالمائعات تعلقت بأعمها وجودا، وهو الماء، فإننا نقول: إن الأرض في التيمم أعم وجودا، فهي في أن أحدا لا ينفك منها كانت أعم وجودا من الماد، كما إنها عامة في الصلاة عليها، وشرط التيمم - عندنا - أن يكون على الأرض دون ما ينفصل منها إلا في موضع ضرورة. مثل أن يكون في مركب لا يقدر على الماء ولا على الأرض ومعه فإنه يتيمم به؛ لأجل كون التراب مختصا من بين سائر ما ينفصل من الأرض فجوزناه للضرورة. وعلى أننا إذا سبرنا قول المخالف في كون التراب شرطا كالماء وجدناه فاسدا: لأن المأخوذ علينا في الطهارة بالماء أن يلاقي كل جزء من الأعضاء جزء من الماء، وهذا غير مأخوذ علينا في التيمم؛ لأن المتيمم إذا ضرب بيده على التراب ثم أمرها على وجهه فهو إلى أن يبلغ حد الذقن لا يبقى في يده من التراب شيء، وكذلك إذا مسح يده اليمنى بيده اليسرى فإلى أن يبلغ المرفق ويديرها على باطن ذراعه لا يبقى منه شيء أيضا. وإذا كان هذا هكذا جاز في الجزء الأول ما يجوز في الأخير، أو لا يجوز في الجزء الأخير إلا ما يجوز في الأجزاء الأول، فلما لم توجبوا وجود التراب في الجزء الأخير وجب أن يكون

الأول مثله، هذا مع قوله - تعالى -: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، فعم الوجه واليدين في المسح منه، ولم يقل: ببعض وجوهكم وبعض أيديكم. ومعنى آخر: وهو أن التيمم أخف أمرا من التطهر بالماء، لأن الماء يرفع الحدث، والتيمم لا يرفعه. ألا ترى أن غسل جميع البدن في الجنابة يجب بالماء، ثم مع التيمم يسقط جميع حكم البدن إلا في الوجه واليدين، فإذا سقط ذلك في باقي البدن وهو الممسوح والممسوح به جاز أن يثبت المسح في الوجه واليدين وسقط الممسوح به وهو التراب. ويجوز إذا كنا مسئولين أن نبني المسألة على جواز ضربة واحدة في التيمم للوجه واليدين. فإن سلموا ل صحت المسألة: لأن كل عاقل يعلم أن الضربة الواحدة إذا مسح بها الوجه خلت اليدان من التراب، ومع هذا فيجوز

أن يمسح بهما الذرعين، فلو كان التراب شرطا في كل جزء منه لما جاز ذلك. وإن لم يجوزوا ذلك ولا سلموه لنا نقل الكلام إليه. والدليل عليه: قوله - تعالى -: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}. وأيضا قول النبي عليه السلام لعمار: «إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفضهما ثم تمسح بهما كفيك ووجهك»، هذا موضع تعليم وبيان لا يجوز أن يهمله. وكذلك روي أن عمارا حكى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب بيديه على الأرض، ثم نفشهما، وقيل: نفخهما مسح بهما كفيه ووجهه. فقد تضمن هذه الخبر أدلة على المخالفين. منها: أنه عليه السلام قال لعمار: «اضرب بيديك على الأرض» ولم يذكر له التراب، فأكد الأمر فيه: ليعلمنا أن التراب ليس شرطا؛ لقوله: ثم ينفضهما.

ومنها: أنه جمع الوجه والكفين في ضربة واحدة. ومنها: جواز ترك الترتيب؛ لأنه قال: «تمسح كفيك ووجهك»، وفي حديث «ثم وجهك». ومنها: جواز الاقتصار في المسح على الكفين دون الذراعين، وجميع ذلك مذهبنا. وقد روى عن عمار أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين».

وأيضا فقد ذكرنا أنه إذا ضرب بيده على الأرض فبدأ بمسح وجهه فإلى أن يبلغ حد الذقن لا يبقى في يده شيء من التراب، فإذا جاز في بعض الوجه ذلك، ولم يحج أن يعيد ضرب يديه على الأرض لم يحتج أن يضر بيديه ليديه؛ لأنه ليس كالماء الذي من شطره أن يماس كل جز من الأعضاء جزء من الماء. وأيضا فلما أن التيمم لا يرفع الحدث وقد شرع فيه بإسقاط مسح الرأس والرجلين في الحدث الأدنى، وأكثر البدن في الحدث الأعلى جاز أن يقتصر فيه على ضربة واحدة للوجه والكفين. فإن قيل في أصل المسألة: إن التيمم شرط يه المسح من أجل الحدث فيجب أن يكن واقعا بشيء من أجل الحدث؛ قياسا على الخفين والجبائر. قيل: هذا لا يجب؛ لأن المسح على الخفين جعل بدلا من غسل الرجلين مع القدرة على غسلهما، فهو تابع لأعضاء قد غسلت فارتفع معها الحدث، وكذلك مسح الجبائر هو تابع لما يرتفع معه الحدث، والتيمم لا يرفع الحدث. ألا ترى أنه يسقط حكم أكثر البدن في الجنابة في غير مسح في التيمم، فلا ننكر أن يجز المسح بغعي شيء أصلا بعد أن يضرب يديه على الأرض. على أننا قد ذكرنا قياسا يجوز ما قلناه. فإن قيل: فإن التراب خص بالذكر من بين سائر أنواع ما يخرج من الأرض، فصار بارعا مشارا إليه دون غيره من الأنواع في باب الطهارة، كما خص الماء في الطهارة من بين سائر المائعات، فلا ينبغي

أن يقوم مقام ما خص بالذكر غيره مما لم يذكر. قيل: هذا لا يلزم: لأن الأرض نفسها قد خصت بالذكر، كما خص التراب، ولم يخص في الذكر في الطهارة بغير الماء من المائعات. على أن الماء قصد في نفسه؛ لأنه يرفع الحدث ويدفع الأنجاس عن نفسه وعن غيره، التراب لم يقصد لذلك؛ لأنه في حكم غيره من سائر الجامدات، كما أن الحجر خص في الاستجمار بالذكر، وقام غيره من الجامدات التي تنشف مقامه. وقد روي أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي عنهم - لما نزلت آية التيمم ضربا بأكفهم على الأرض، ولم يقبضوا شيئا من التراب، ثم مسحوا أيديهم، فلو كان التراب شرطا لما ذهب لما عليهم مع مشاهدتهم التنزيل، وكون النبي عليه السلام بينهم مبينا لهم أحكام ما ينزل عليهم، فيما ذكرناه من المسألة كفاية وبلاغ، وبالله التوفيق. وقد جوز الشافعي التيمم على السباخ اليابسة، وهذه لا غبار عليها ولا تراب يعلق باليد، فكذلك ينبغي أن يجوز في غيرها مما لا تراب عليها: لأنه جنس من الأرض تجوز الصلاة عليه، والله أعلم.

[56] مسألة

[56] مَسْأَلَة ومن كان جنبا وبه حدث أصغر فتيمم معتقدا بتيممه أنه عن الحدث الأدنى لم يجزئه، سواء نسي الجنابة أو كان ذكرا لها. ذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه صلى بهذا التيمم أعاد الصلاة في الوقت، هذا يدل على عن الإعادة مستحبة وأن التيمم مجزئ. وقد روى ابن وهب والمدنيون عن مالك أن التيمم مجزئ ولا يعيد الصلاة، به قال محمد بن مسلمة، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي.

وأظنهما يقولان: إنه يجزئ إذا نسى الجنابة، وأما مع العمد فلا يجزئه. والدليل لقول مالك إنه لا يجزئه: قول النبي عليه الصلام: «إنما لامرئ ما نوى». فدل أن ما لم ينوه لا يكون له، وها لم ينو بتيممه للجنابة. فإن قيل: قد نوى الصلاة فينبغي أن يكن له ما نواه. قيل: الصلاة لا تصح إلا بطهارة، إما الماء أو التيمم من أجل أنه محدث، وهذا لم يتيمم من أجل حدث الجنابة، ولا نوى استباحة الصلاة مطلقا؛ لأنه لو نوى بتيممه استباحة الصلاة ولم يصرفها إلى الحدث الأدنى أجزأه. وأيضا فد ثبت أنه لو قدر على الماء فتوضأ ونوى به الطهارة الصغرى لم يجزئه عن الجنابة، والوضوء يرفع الحدث، ففي التيمم الذي هو أضعف لا يرفع الحدث أولى ألا ينوب عن الجنابة.

وأيضا فقد ثبت أن للنية تأثيرا في التيمم، وذلك أنه لو نوى بتيممه استباحة صلاة نافلة لم يجز أن يصلي به فريضة، وإن كان يستبيح الصلاة بتيممه، لم تجعل نيته ها هنا ملغاة حتى يحصل مستبيحا للصلاة فيصلي به أي صلاة شاء، عن كانت صورة التيمم واحدة، فإذا صرفه إلى النافلة لم يجزئه عن الفريضة، فيجب إذا صرفه نيته بالتيمم إلى الحدث الأدنى أولى أن لا يجزئه عن الحدث الأعلى. وأيضا فإن الجنب يخالف المحدث؛ لأن المحدث يتعلق فرضه بأربعة أعضاء، والجنب فرضه بسائر بدنه متعلق، فإذا كان أحدهما مخالفا للآخر فأخطأ في اعتقاده، ونسي الجنابة واعتقد بتيممه الحدث الأدنى لم يجزئه، كما لو نسي ظهر أمسه، فصلى وعنده أن عليه عصر أمسه لم يجزئه؛ لأن العصر وإن كانت صورتها صورة الظهر فإنها مخالفة لها في النية، فإذا أخطأ في اعتقاده منع من صحته، وكذلك إذا كان عليه كفارة من ظهار، فأعتق رقبة وعنده أن عليه كفارة قتل لم يجزئه الرقبة عن الظهار. فإن قيل: فقد روي أن الني عليه قال لأبي ذر: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، فإن وجد الماء فليمسسه بشرته»، فجعل عليه السلام الصعيد وضوء المسلم، فهو على عمومه في الأحوال كلها، أخطأ في الاعتقاد أو لم يخطئ. قيل: عنه جوابان:

أحدهما: أنه نبه بقوله: «وضوء المسلم» على أنه نائب عن الوضوء، والوضوء يرفع الحدث الأصغر، وغسل الجنابة غير الوضوء من جهة الاسم الأخص. والجواب الثاني: أنه عموم يخصه ما ذكرناه، ألا ترى أن الوضوء بالماء وينوب تطوعه عن فرضه، حتى لو توضأ لصلاة نافلة جاز أن يصلي به فريضة، ولو نوى بتيممه صلاة نافلة لم يجز أن يصلي به فريضة، فالتيمم للحدث الأدنى أولى أن لا ينوب عن الحدث الأعلى. فإن قيل: فإنهما طهارتان نيتهما واحدة فوجب أن يمنع الخطأ في تعيينهما من صحتهما، أصله إذا كان عليها غسل من حيض فاعتقدت أن عليها غسلا من جنابة فاغتسلت للجنابة، أو كان عليها غسل من جنابة فاغتسلت معتقدة أن عليها غسلا من حيض، لا خلاف أنه يجزئها، فكذلك إذا تيممت وأخطأت في الاعتقاد، فأعتقدت عن غسل الجنابة ونسيت الحيض، أو اعتقدت بالتيمم عن الحيض ونسيت الجنابة فإنه يجزئها. وقولنا: نيتهما واحدة معناه إنها تنوي في التيمم من الجنابة والتيمم من الحدث استباحة الصلاة في الحدث الأصغر والأعلى كما هو في الحيض والجنابة. قيل: إذا كان عليها غسل من حيض وغسل من جنابة فإن حكمهما واحد في غسل جميع البدن، فهما كالحدثين الأصغرين حكمهما واحد، فصرف النية إلى أحدهما [في الغسل والحكم] في الغسل والوضوء مجزئ، وكذلك في تيمم الحيض والجنابة يجوز صرف النية

إلى أحدهما فينوب عن الآخر، وكذلك في الحدثين الأصغرين، وأما الوضوء من الحدث الأدنى والغسل من الحدث الأعلى فهما مختلفان، فلا تنوب نية الأصغر عن الأعلى في الماء ولا في التيمم. ألا ترى أنه لو توضأ فغسل الأربعة الأعضاء ونوى ها الجنابة لم يجزئه، وكذلك لو اغتسل وهو جنب ونوى بغسله رفع الحدث الأدنى لم يجزئه، فكذلك في التيمم. وقولكم: إنه ينوي في الأمرين بالتيمم استباحة الصلاة فإننا نقول: إن نوى بتيممه استباحة الصلاة ولم يصرفاه ويعينا عن الحدث الأصغر فإنه يجزئه، وإنما الكلام إذا عين النية وقال: أستبيها من أجل الحدث الأصغر، فهو كما ينوي بتيممه استباحة صلاة نفل، ولا يجزئ أن يصلي به الفرض، فلو أطلق النية فقال: أتيمم لأستبيح الصلاة الفرض جاز أن يصلي به الفرض أو النفل، وكذلك إذا نوى بتيممه استباحة الصلاة من أجل الجنابة التي به، وهو محدث أيضا بالحدث الأصغر سحنون تيممه، ودخل الأدنى في الأعلى، كما لو اغتسل لجنابة وبه حدث آخر، ونوى بغسله الجنابة أجزأه. فإن قيل: فإن التيمم للحدث كالتيمم للجنابة فعلا ونية مع الذكر والنسيان لا يختلف بوجه؛ لأن المحدث يتيمم فيمسح وجهه ويديه، وينوي استباحة الصلاة، والجنب يتيمم فيسمح وجهه ويديه، وينوي استباحة الصلاة، فإذا كان التيمم عن الحدث كهو عن الجنابة فعلا ونية مع الذكر والنسيان صح وإن أخطأ في الاعتقاد ونفي؛ لأنه لو كان ذاكرا لم يفعل أكثر من هذا، فلم يترك من الفرض شيئا؛ لأنه لو ... ذكر الجنابة لم يكن عليه أكثر من التيمم.

ويفارق هذا الظهر الفائتة والعصر الفائتة؛ لأنه إذا فاتته ظهر أمس فعليه أن ينوي ويعين نية الظهر. فإذا ظهر نوى عصر أمسه فلم يأت بالنية التي أخذت عليه، وفي التيمم لو كان ذاكرا للجنابة فإنه يأتي بالنية التي يأتي بها إذا كان ناسيا لها وهو استباحة الصلاة، وكذلك الكفارة إذا كان عليه كفارة من ظهار فعليه أن يعين أن ذلك عن ظهار، وإذا نوى بها عن القتل فقد ترك النية التي أخذ عليه إتيانها فلم يجزئ. وفرق آخر بين الظهار والصلاة والكفارة، وهو أن الطهارة أوسع في باب التداخل. ألا ترى أن الطهارات إذا ترادفت تداخلت فعلا، والصلوات الكفارات إذا ترادفت لم تتداخل فعلا، فلا يجوز أيضا أن تتداخل في النية. قيل: أما قولكم: إن التيمم للحدث كالتيمم للجنابة فعلا ونية فهو غلط، وفيه اختلفنا، وإنما يصح ذلك لو نوى بتيممه استباحة الصلاة حسب، ولم يصرف نيته إلى الحدث الأصغر، فأما إذا صرفها إلى الحدث الأصغر فإنه لا يجزئ، وقد بينا أن للنية تأثيرا في التيمم؛ بدليل أنه لو صرف نيته في التيمم إلى صلاة نافلة أو نذر لم يصح أن يصلي به فريضة، ولو صرفها إلى صلاة فريضة جاز أن يصلي به نافلة، فإذا كانت صورة التيمم في النفل والفرض واحدة - وقد اختلفتا في النية - فكذلك صورة التيمم للحدث الأصغر والأعلى واحدة

ويختلفان في النية. وهذا كما قلناه في صلاة الظهر الفائتة صورتها صورة صلاة العصر، وهو لو صرف النية إلى إحداهما لم تنب عن الأخرى المنسية، وهو لو أطلق النية فقال: هذه قضاء عن الصلاة التي نسيت صح، فإذا صرفها إلى غيرها لم يجزئه. وقولكم: إن الطهارات أوسع في باب التداخل فإننا نقول: إنما يتداخل ... إذا كان الجنس واحدا، فأما اختلفت لم يتداخل فعلا ولا نية. ألا ترى أنه لو كان محدثا جنبا فتوضأ للحدث ولم ينو الجنابة لم يجزئه، ولو اغتسل ونوى بغسله رفع الحدث الأدنى لم يرتفع حكم الجنابة، فبان بهذا سقوط ما ذكرتموه، وكذ ... لك في كفارة الظهار، ولو أعتق وقال: هذه عن الكفارة التي على أجزأه، ولو نسي فأعتقها عن قتل لم يجزئه عن الظهار، وليس عليه تعيين النية للكفارة أيضا؛ لأنه لو كانت عليه كفارات من ظهار وقتل وكفارة صيام فأعتق رقبة وقال: هذه على إحدى الكفارات التي على أجزأه، ولم يكن عليه أن يعين، حتى لو أعتق ثلاث رقاب وقال: هذه عن الكفارات التي علي، لم يكن عليه أن يعين رقبة دون رقبة عن كفارة دون كفارة، ولكنه إذا كانت عليه كفارة قتل فأعتق رقبة، وقال: هذه عن الكفارة التي على أجزأه، سوءا ذكر وجه تلك الكفارة أو نسيها، ومثله إذا تيمم وقال: أستبيح الصلاة فإنه يجزئه، فإذا عينه عن الحدث الأصغر لم يجزئه وإن نشي الجنابة، كما لو نسي كفارة الظهار فأعتق عن القتل لم يجزئه، والله أعلم

[57] مسألة

[57] مَسْأَلَة اختلف الرواية عن مالك في مسح اليدين في التيمم. فروى ابن وهب عنه أنهما تمسحان مع المرافق. وروى عنه ابن عبد الحكم مثل ذلك، ثم قال: إلا أنه إن تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة في الوقت. وهذا يدل على أن الإعادة على وجه الاستحباب، وأن المسح إلى المرافق مستحب. ووافقنا الشافعي في قوله القديم، وأنه يجزئ إلى الكوعين، وهو قول الشافعي في الجديد.

وبقولنا في الآخر إلى الكوعين قال سعيد بن المسيب، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وابن جرير الطبري. وقال الزهري: يمسحان إلى الآباط.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إلى الكوعين. وعن ابن عمر وجابر إلى المرفقين.

والدليل لقولنا إنه يجزئه إلى الكوعين: قوله - تعالى -: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، فذكر اليد مطلقة فإذا مسح يده إلى الكوعين، قيل: قدي مسح يده. وأيضا فإن إطلاق اسم اليد يختص بالكفين إلى الكوعين؛ بدليل قوله - تعالى -: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، ثم قطع النبي عليه السلام والمسلمون بعده من الكوع مع إطلاق اليد في الآية، فثبت بهذا أخص أسماء اليد هو إلى الكوع. وأيضا فإن قلنا: إن اليد إلى الكوع يتناولها اسم يد حقيقية، ويتناول ما بقي بعد الكوع اسم يد حقيقة جاز، والحكم إذا علق بما هذه صفته تعلق بأول اسميه أو بأخصهما، كالشفق الذي يقع على الحمرة، ويقع على البياض، ومن مذهبنا أن الحكم يتعلق بأول اسميه وأدناهما، وكذلك الأب يقع على الأب الأدنى ويتناول الحد أيضا، فإذا قال لأبوية كذا، ثبت الحكم لأولهما - وهو الأب الأدنى - حتى يقوم دليل. وأيضا فإن الله - تعالى - ذكر غسل اليدين في الوضوء إلى

المرفقين، وكرره في موضع آخر كذلك، وقد اتفقنا على سقوط ما جاوز المرفقين، فلم يكن التقييد في الوضوء في الموضعين والإطلاق في التيمم في موضعين إلا لفرق بينهما، فإذا سقط مسح ما جاوز المرفقين لم يبق من الفرق بينهما إلا ما نقوله من المسح في التيمم إلى الكوعين؛ إذ لو أراد أن يكون كالغسل لحده في الموضعين أو في أحدهما. وأيضا ما روه سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن عمار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «التيمم ضربة للوجه والكفين»، وهذا يتناولهما إلى الكوعين. وبهذا الإسناد عن عمار قال: أجنبت فتمعكت، وأخبرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إنما كان يكفيك هكذا»، وضرب عمار بيديه على الأرض ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وظاهر كفيه. ونقول أيضا: إن كل حكم علق باليد مطلقا بغير تحديد فإنه يتعلق بهما إلى الكوعين. أصله القطع في السرق. ونقول أيضا: إن مسح إلى الكوعين فقد حصل ما سحا لما يسمى يدا على الإطلاق. وإن شئت أن نقول: قد مسح مفصلا من اليد تجب بإصابته الدية كاملة - أعني إذا كان إلى المرفقين -، فالاقتصار على المفصل الذي

دونه يجوز: لأن الدية تجب إصابته. وإن شئت حررته على غير هذا اللفظ فقلت: قد اتفقنا أنه ... إذا مسح إلى المرفقين أجزأه فكذلك إلى الكوعين، العلة فيه: أنه ماسح لمفصل من اليد تجب الدية كمالا بإصابته. فإن قيل: فقد قال الله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، وإطلاق اليد يقتضى إلى المناكب؛ بدليل حديث عمار، وقوله: فمسحنا أيدينا إلى المناكب والآباط، وهم كانوا أهل لسان ولغة، ففهموا من الآية الاستيعاب، وأن إطلاق اليد يتناولها إلى المنكب. وأيضا ما رواه الأعرج عن ابن الصمة وهو أبو جهيم أن

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تيمم فمسح وجهه وذراعيه. وروى نافع قال: مررت مع عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فكان من حديثه أن قال: بال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاه رجل فسلم عليه فام يرد حتى ضرب بيديه إلى الحائط.

ومسح بهما وجهه، ثم ضرب بهما ثانية ومسح ذراعيه. وروى ربيع بن بدر عن أبيه عن جدة عن أسلع قال: أصابتني جنابة فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أسلع قم فارحل». فقلت: إني جنب، فكست ثم نزلت آية التيمم، فقال: «إنما يكفيك هذا، وضرب بيديه على الأرض ونفضهما ومسح بهما وجهه، ثم ضرب بهما

الأرض ثانيا ومسح بهما ذراعيه ظاهرهما وباطنهما»، قالوا: وهذا نص. قيل: أما ظاهر الآية في قوله - تعالى -: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} فإننا نقول: اسم اليد الأخص هو إلى الكوعين ما بعد ذلك مجاز؛ بدليل قوله - تعالى -: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، فعقل عليه السلام إلى الكوع، وعقل المسلمون معه ذلك. وأما حديث عمار وقوله: مسحنا إلى المناكب، فيحتمل أن يكونوا استظهروا فمسحوا ما تناوله الاسم حقيقة وزادوا عليه مسح

المجاز. ألا ترى أن عمارا روى أن النبي عليه السلام قال: «يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، فتمسح بهما وجهك وكفيك»، عبارة عن الإجزاء، فإنه عليه السلام بين له أن المراد هذا دون ما مسحتموه إلى المناكب. ويحتمل أيضا أن يكون اسم اليد حقيقة إلى الكوعين، وما بعده يتناوله السم يد حقيقة، فلما نزلت الآية حملوها على الحقيقة في جميع ذلك، فأعمله النبي عليه السلام أنه يكفيه مسح أدنى الحقائق وهو إلى الكوعين، قد قلنا: إن الحكم - عندنا - إذا أطلق يتعلق بأول الاسمين، وأولهما هو إلى الكوعين كما قلنا في الشفق. وأما ما روي عنه عليه السلام أنه مسح الذراعين، فنحمله على طريق الاستحباب، ومسح اليدين إلى الكوعين هو الواجب؛ بدليل تعليمه عليه السلام لعمار بدليل قوله: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة للكفين»، وروى: «ضربة للوجه والكفين»، وموضع التعليم يفيد افرض والواجب.

فإن قيل: فقد قال لأسلع: «إنما يكفيك هذا، وضرب بيديه على الأرض ونفضهما مسح بهما وجهه، ثم ضرب بهما الأرض ومسح بذراعيه»، ويكفيك عبارة عن الإجزاء كما ذكرتم في حديث عمار. قيل: قوله لأسلع: «يكفيك» في الواجب والمستحب، هذا حتى لا تجاوز إلى المناكب، وقوله لعمار: «يكفيك» في الواجب حسب. فإن قيل: التيمم رخصة، والرخص لا يطلب فيها الاستحباب والكمال. قيل: هذا غلط؛ لأن مسح الخفين رخصة، ونحن نستحب فيه الكمال نمسح أعلاه وأسفله، وصلاة التطوع القيام فيها أفضل من الجلوس ولو صلى جالسا أجزأه. فإن قيل: فإنه بدل يقع في محل مبدله فوجب أن يكون في الاستيعاب كمبدله، أصله الوجه في التيمم. قيل: الوجه يتناوله الاسم حقيقة على وجه واحد. ألا ترى - تعالى - ذكر غسل الوجه في الوضوء، وذكر مسحه في التيمم على وجه أحد، وليس كذلك اليد؛ لأن اسمها حقيقة يتناول إلى الكوعين. ألا ترى - تعالى - فرق بينهما في الذكر، فقيدهما في الوضوء بالمرفقين، وأطلقهما في التيمم، وكذلك علق النبي عليه السلام وأصحابه معه من أن القطع من الكوعين، وقال عليه السلام عمار في التيمم: «إنما تكفيك

ضربة للوجه الكفين» إن كان قد ذكر أيضا الذراعين، فقد فرق بينهما في الخبرين، ولم يفرق بين الوجه في الوضوء والتيمم بوجه. على أننا قد ذكرنا قياسا بإزاء هذا فهو أولى: لاستناده إلى استعمال الأخبار. وإلى بيان الحقيقة في اليدين. فإن قاسوا مسح اليدين في التيمم على غسلهما في الوضوء بعلة يذكرونها. قيل: التيمم مبني على التخفيف. ألا ترى أنه يسقط عن الجنب مسح جميع بدنه ألا وجهه ويديه فالاقتصار في اليدين على الكوعين مع تناول الاسم له [اسم يدله] حقيقة أولى - وقياسنا يستند إلى التخفيف الذي قد حصل في أصل التيمم فهو أولى من قياسهم الذي يؤدي إلى التشديد. فإن قيل: فإن الله - تعالى - قيد غسل اليدين في الوضوء بالمرفقين، وأطلق في التيمم اكتفاء بتقييده في الوضوء، كما أطلق الشاهدة في موضع اكتفاء بما قيده بالعدالة في موضع آخر، وكذلك قيد الرقبة بالإيمان في القتل، وأطلقها في موضع آخر اكتفاء بما قيده في القتل. قيل: عنه جوابان "

أحدهما: أنه لا يبنى المطلق على المقيد إلا بدليل، وإنما علمنا ذلك في الشهادة؛ لأن الغرض مناه التوثق الذي يقع الحكم به، لا يحكم بغير العدل فلذلك اعتبرت العدالة. وأما الرقبة المؤمنة في كفارة القتل شرطت في مواضع التكفير فوجب أن تكون كل كفارة كذلك، ألا ترى أن الإطعام في الكفارة لا يجوز وضعه إلا في مؤمن، وكذلك العتق لا يوقع إلا في مؤمن. ومع هذا فإن المطلق يبني على المقيد في الأوصاف والشروط، فأما في زيادة أحكام فلا يجب إلا من حيث الدليل. ألا ترى أن الله - تعالى - ذكر غسل الأربعة الأعضاء في الوضوء، وأمسك عن ذكر عضوين منها في التيمم، ثم لم يجب أن يبني حكم التيمم على الغسل، فكذلك لا يبني حكم الذراعين في التيمم على تقييدهما بالمرفقين في الغسل؛ لأنه زيادة عضو، كما أن الرأس والرجلين زيادة عضوين في الوضوء، وكذلك لما اختلف العدد في باب الشهادات، فطلب في الزنا أربعة وفي غيره اثنان بني الشرط في العدالة على المطلق والمقيد، لم بين المطلق على المقيد في العدد؛ لأنه زيادة حكم مستأنف ولا في نقصانه، وإنما ينبغي أن يكون الشاهد عدلا، ولا يزاد على العدد، فعرض العدد الذارع الزائد على الكف، وكذلك شرط في كفارة القتل الإيمان وأطلقت في كفارة الظهار، فبني المطلق على المقيد من صفة الرقبة فأضيف إليها الإيمان، ولم تبن إحداهما على الأخرى في دخول

الإطعام المذكور في الظهار؛ لأنه زيادة حكم مستأنف. فإن قيل: لما كان الوضوء طهارة تجب عن حدث أو تنتقض بالحدث وجب أن يكون التيمم كذلك، فيستوفي حكم اليد فيه كما استوفي في الوضوء. قيل: لو وجب هذا لوجب أن يمسح الرأس والرجلان كما يغسلان في الوضوء، فلما سقط مسح الرأس والرجلين في التيمم - وإن كان طهارة تنتقض بالحدث - كذلك في مسح الذراعين. ويجوز أن نقول: إن غسل اليدين في الوضوء لما اقتصر فيه على المرفقين دون ما يطلق عليه من اسم اليد إلى المنكب تحقيقا؛ لأن الاسم يصلح له جاز أن يقتصر في التيمم على الكفين؛ لأنه أخف من الغسل، والاسم يصلح فيه. فإن قيل: لما كانت اليدان كالوجه في أنهما لا يسقطان في العذر وغير العذر مع القدرة على الكل وجب أن يكونا كركعتي المسافر أنهما لا يسقطان مع العذر وعدمه مع القدرة على الكل، وأن يكنا على صفة واحدة، فكذلك ينبغي أن يستوفي حكم الوجه واليدين في التيمم كما يستوفيان في الغسل، كما وجب استيفاء حكم الركعتين في الحضر والسفر وعلى طريقة واحدة؛ لأنهما عبادتان سقطتا إلى شطرهما في حال العذر. قيل: ليس العلة في ركعتي السفر ما ذكرتم، وإنما هي أن الركعة

لا تقع حقيقة على ما دونها، واسم اليد حقيقة على الكفين الذين هما دون المرفقين. وأيضا فإن المسافر بالخيار بين القصر والإتمام، وليس كذلك في التيمم لوجهين: أحدهما: أنه ليس مخيرا بين مسح الأربعة الأعضاء بين العضوين. والوجه الآخر: وهو أن الصلاة في غير السفر إذا عجز عن القيام والركوع والسجود استوفى فيها العدد بالإيماء، والتيمم عند العجز عن استعمال الماء مع جوده لا يستوفي فيه حكم العدد في الأربعة الأعضاء كما استوفى العدد في الصلاة، فصار التيمم للحاضر والمسافر على طريقة واحدة، فدل على أنه مبني على التخفيف. ونقول أيضا: إن الله - تعالى - ذكر اليد في موضعين هما المحارب والسارق، فكان القطع فيهما من الركوع، وذكر غسل اليد في موضعين مقيدا بالمرفقين، ذكر التيمم في موضعين مطلقا، وتنازعنا فيه، فكان رده إلى ما له من نظير مطلقا وهو القطع في الشرق والمحاربة أولى، والله الموفق للصواب.

[58] مسألة

[58] مَسْأَلَة ومن تيمم ثم دخل في الصلاة فطلع عليه الماء مضى في صلاته ولم يخرج منها، وبه قال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة وصاحباه محمد وأبو يوسف: إنه يلزمه الخروج من الصلاة واستعمال الماء ويبطل تيممه، وبه قال المزني. غيرا أن أبا حنيفة نقض فقال: لا يلزمه ذلك في صلاة العيدين.

ولا في صلاة الجنازة ولا في سؤر الحمار، وذلك أنه قال في سؤر الحمار إذا وجده المتيمم قبل الدخول في الصلاة: لا يجوز له إلا أن يستعمل سؤر الحمار، وإن وجد السؤر وهو في الصلاة لم يلزمه قطعها ولا استعمال السؤر: لأن سؤر الحمار مشكوك فيه - عند أبي حنيفة - لا يدري أطاهر هو أو نجس؟. وقال الأوزاعي: يخرج من الصلاة ويتطهر، ويضيف إلى الركعة التي صلاها ركعة أخرى إن أن صلى ركعة ويجعلها نافلة، ثم يستأنف الفرض. والدليل لقولنا: استصحاب الحال؛ وذلك أنه قد وجب عليه الدخول في الصلاة وصح عقده لها، فمن زعم إنها تبطل أو يجب عليه الخروج منها فعليه الدليل. وأيضا قوله - تعالى -: {أوفوا بالعقود}، فهو عموم في كل عقد، وهذا عقد الصلاة، وخروجه منها بعد عقدها ضد الوفاء. وأيضا قوله - تعالى -: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم}، فأمر بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا قد أطاعهما

بدخوله في الصلاة التي هي عمل، ثم نهى عن إبطالها بقوله: {ولا تبطلوا أعمالكم} والخروج منها فيه إبطالها، وهذا عام في كل عمل إلا أن يقوم بدليل. وأيضا قوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم أيديكم} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فأوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، والمعلق بشرط يزول بزوال الشرط، والشرط هو القيام إلى الصلاة، وقد زال وتقديره: أيها القائمون إلى الصلاة بخلافه؛ لأنه قد زال عنه الشرط الذي هو القيام إلى الصلة. فإن قيل: فإن الذي دخل في الصلاة مأمور بالقيام إلى باقيها، وهو صلاة، فحكمه حك الابتداء. قيل: لم يقل: إذا قمتم إلى بضع الصلاة، وإنما قال: {إذا قمتم إلى الصلاة} وهذا حال الابتداء. ثم قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء} يدل على أنه طلب فلم يجد، وهذه حال الابتداء، وبالدخول في الصلاة قد سقط عنه الطلب. ومن السنة قول النبي عليه السلام: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح»، فنفى إيجاب الوضوء إلا من هذين، وهذا لم يجد هذين ولا أحدهما. وأيضا قوله عليه السلام: «من دخل في صلاة فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا»، وهذا غير واجد لهما ولا لأحدهما، فلا

ينصرفن إلا أن يقوم دليل. وأيضا فإنه إذا دخل في الصلاة بالتيمم صار مخاطبا بإتمامها المضي فيها؛ لسقوط طلب الماء منه، وسقوط استعماله، فكل من سقط عنه طلب الماء سقط عنه استعماله، وكل من وجب عليه الطلب وجب عليه الاستعمال إذا وجده؛ بدليل أن من لم يدخل عليه وقت صلاة فإنه غير مخاطب بطلب الماء، فلم يكن مخاطبا باستعماله، فإذا ثبت ذلك ثبت سقوط استعمال الماء لسقوط طلبه، وقد سقط عن هذا الطلب بدخوله في الصلاة فسقط عنه وجوب استعماله إذا وجده. وأيضا فإنها صلاة لو وجد سؤر الحمار فيها جاز له المضي فيها، ولم يلزمه استعماله فوجب إذا وجد الماء المطلق أن يجوز له المضي فيها. دليله صلاة العيدين والجنازة. فإن قيل: المعنى في صلاة العيدين والجنازة هو أنه لو خرج منها واشتغل بالماء لفاتته لا إلا بدل فلهذا جاز له المضي فيها مع وجوده، وليس كذلك سائر الصلوات؛ لأن لها بدلا، هو يقضيها فلم يجز له أن يمضي فيها مع وجود الماء. قيل: هذا باطل بالحدث؛ لأنه إذا أحدث في صلاة العيدين والجنازة لزمه الخروج منها، ومع هذا فهي تفوته لا إلى بدل، وهو باطل أيضا بصلاة الجمعة فإنها تفوت ولا تقضين وليس صلاة الظهر بدلا منا، بل هي بدل من الظهر، ومن أصحابنا من قال: هي فرض مبتدأ.

وقولهم: وسائر الصلوات لا تفوت إلى غير بدل فلهذا لزمه استعمال الماء باطل إذا وجد سؤر الحمار في الصلاة لا يلزمه استعماله وإن كانت لا تفوت. وأيضا فإنه ماء لو وجده المتيمم في صلاة العيد ينجاز له المضي فيها ولم يبطل فوجب إذا وده في غيرها من الصلوات أن لا يبطل تيممه. دليله سؤر الحمار. أو نقول: التيمم طهارة لاستباحه الصلاة، فرؤية الماء بعد الشروع فيها لا يوجب الرجوع إلى الماء. دليله ... رأى سؤر الحمار لم يجب عليه الخروج من الصلاة إليه. فإن قيل: سؤر الحمار - عندنا - مشكوك فيه، هل هو طاهر أو نجس؟. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنه - عندنا - طاهر متيقن غير مشكوك فيه. والثاني: أنه لما كان كالماء المطلق في أن المتيمم لا يجوز له أن يستفتح الصلاة إلا بعد استعماله، كذلك أيضا يجب أن يكن كالماء المطلق في خلال الصلاة. وأيضا فإنه قد عقد تحريمته بصلاة شرعية فوجب أن لا يلزمه الخروج منها عند رؤية الماء وقدرته عليه. أصله كان متطهرا بالماء إلى رآه في خلال الصلاة. ويجوز أن نقول: رؤية الماء في الصلاة أمر حادث لا يجوب فساد

صلاة الجنازة إذا وجد هذا الحادث فيها، ولا الرجوع إلى استعمال الماء فلم تفسد سائر الصلوات، وكذلك سائر ما يوجد منها مما لا ينقض الصلاة والطهارة. دليله الضحك الخفيف لما لم يفسد سائر الصلوات. فإن قيل: فقد قال الله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فهو عام في كل واجد للماء، وهذا واجد؛ لأن دليله على أن كل واجد للماء فإنه لا يتمم؛ لأن الشرط في جواز تيممه هو عدم الماء. وهذا واجد له. قيل: قد بينا أن المراد بالآية التيمم قبل الدخول في الصلاة لا بعد الدخول فيها؛ لأنه - تعالى - خاطب القائمين إلى الصلاة إذا لم يجدوا الماء تيمموا، ومن كان في الصلاة لا يقال له: قم إلى الصلاة، وهو قائم فيها. ووجه آخر: وهو أنه - تعالى - أمر باستعمال الماء من إذا كان عادما له جاز له أن يتيمم، والمتيمم في الصلاة لعدم الماء لا يجوز له أن يتيمم في خلال الصلاة، فدل على إنها لم تتناول الداخل في الصلاة. فإن قيل: فقد روي عن أبي ذر أن النبي عليه السلام قال: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته»، ولم يمض من يجده قبل الصلاة أو في خلالها.

قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنه لا حجة فيه في موضع الخلاف؛ لاه يقتضي أن الصعيد وضوء المسلم وأنه يقع به التطهير كما يقع بالماء، ونحن كذلك نقول. ثم وجود الماء يلزمه استعماله في الموضع الذي يجوز له أن يبتدئ التيمم مع عدمه، وفي الصلاة لا يجوز له ابتداد التيمم، فإنما أراد - تعالى - وجده في الموضع الذي يمكن فيه استعماله، ولم يرد وجود الماء في العالم؛ لأنه لا يفقد في العالم، فإذ كان المراد وجوده الذي يقدر معه على استعماله فلا فرق بين عدم القدرة على استعماله من جهة بلية به، أو من جهة الشرع، وهو غير قادر عليه من جهة الشرع؛ لأن الصلاة المدخول فيها بحكم الشرع تمنعه منه. والدليل من جهة الشرع: هو إجماع المسلمين على صحة دخوله في الصلاة، ولزوم المضي فيها. وعلى أنه عام فيه قبل الصلاة وفي الصلاة، وخبرنا في قول النبي عليه السلام في المصلي: «لا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» أخص منه؛ لأنه يتناول من هو في الصلاة. فإن قيل: خبركم هو أورد فيمن يحلقه الشك وهو في الصلاة هل أحدث أو لا؟ لأنه قال: «إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة بين أليتيه، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا».

قيل: التعلق بعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فلا ينصرفن» إلا السبب. فإن قيل: فإن هذا متيقن للحدث؛ إذ التيمم لا يرفعه. قيل: ومع وجود الحدث منه أمرا بالتيمم واستباحة الصلاة، ووجب عليه المضي فيها، فلا ينقض عليه ما دخل فيه واستباحه بحدوث الماء في خلالها. فإن قيل: فإنه قد وجد ماء متيقنا مقدورا على استعماله طاهرا فوجب أن يلزمه استعماله، كما لو وجده قبل الدخول في الصلاة. وأيضا فإنها طهارة ضرورة فوجب أن ينقطع حكمها بزوال الضرورة كطهارة المستحاضة؛ لأن المستحاضة تتطهر للصلاة، وتصلي ودمها سائل، ثم لو انقطع الدم لما رأت الضرورة لزمها أن تتوضأ وتغسل أثر الدم. وأيضا فإن كان ماء بقدر عليه قبل التلبس بالصلاة لزمه المصير إليه، فإنه إذا قدر عليه بعد التلبس بها لزمه المصير إليه، كالقدرة على القيام، والقدرة على القراءة، والقدرة على ستر العورة؛ لأنه قبل أن يدخل في الصلاة لو كان قادرا على أن يصلي قائما لم يجز أن يصلي قاعدا، ثم لو كان عاجزا عن القيام فاستفتح الصلاة قاعدا، ثم قدر على القيام لزمه أن يقوم، وكذلك لو كان يحسن أن يقرأ لم يجز له أن يصلي بغير قراءة ثم لو كان لا يحسن القراءة فدخل في الصلاة ثم قدر على القراءة، مثل أن يكون أميا فيدخل في الصلاة ويلقن آية من

القرآن لزمه أن يقرأ، وكذلك لو كان قادرا على ستر عورته لم يجز له أن يدخل في الصلاة مكشوف العورة، ثم لو كان عاجزا عن ذلك فاستفتح الصلاة ثم قدر على سترتها لزمها أن يسترها، كذلك الماء في التيمم مثل ذلك. قيل: أما قياسكم عليه لو جده قبل الدخول في الصلاة فإنه غير صحيح؛ لأن قولكم: طاهر متيقن لا تأثير له إذا وجده قبل الدخول فيه؛ لأن المتيقن والمشكوك فيه من سؤر الحمار بمنزلة واحدة في أنه يلزمه استعماله، ولا يستفتح الصلاة قبل استعماله. على أنه ينتقض بصلاة العيدين والجنازة. ثم إن المعنى أن الأصل هو أنه قادر على الماء في وقت الطهارة، ألا ترى أنه تلزمه المسألة والطلب ممن يظن معه ماء وأنه يعطيه، فلهذا لزمه استعماله، وليس كذلك إذا وجده بعد الدخول في الصلاة؛ لأنه وجده بعد فوات وقت الطهارة؛ لأن فرض المسألة قد سقط عنه، وسقط الطلب فلم يلزمه استعماله، مثل ما لو وجده بعد الفراغ من الصلاة. وأما قياسكم: على المستحاضة فغلط؛ لأن طهارتها قبل الدخول في الصلاة ليست بواجبة - عندنا -، وإذا انقطع دمها في الصلاة مضت على صلاتها ولم تخرج. على أنه منتقض بصلاة العيدين والجنازة. على أن الفرق بين الموضعين هو أنه إذا انقطع دمها وهي في

الصلاة فإن عليها نجاسة مقدورا على إزالتها، وهو أثر الدم، ولم تأت ببدل على تلك النجاسة، فلهذا لم يجز لها أن تمضي على صلاتها حتى تتطهر، قبل انقطاع الدم فهي نجاسة لا يقدر على إزالتها؛ لأن الدم سائل فعفي لها عنه، وجازت صلاتها، وليس كذلك المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة؛ لأنه قد أتى بالبدل الذي هو التيمم على الطهارة فجاز له أن يمضي في صلاته. وما ذكرتموه من القيام والقراءة وستر العورة فإنه باطل بسؤر الحمار. وعلى أن المعنى في هذه الأشياء هو أن استعمالها والمصير إليها لا يبطل عليه شيئا قد مضى من صلاته فلم يلزم ما ذكرتموه؛ لأن المتيمم إذا وجد الماء في خلال الصلاة بطل عيه ما مضى من صلاته ولم يبن عليه فإن قيل: فإن التيمم بدل عن الطهارة كما أن المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، ثم لو مسح على خفيه ودخل في الصلاة، ثم انفتق خفه وظهرت رجله لزمه أن يغسلها ويخرج من الصلاة؛ لأن المبدل قد ظهر، كذلك إذا تيمم ثم وجد الماء في الصلاة لزمه أن يعود إلى الأصل وهو المبدل. قيل: هذا باطل بصلاة العيدين والجنازة؛ لأنه لو مسح على خفيه ودخل في الصلاة - أعني العيدين والجنازة - وانشق خفه وظهر قدمه لزمه أن يغسل رجليه ولم تصح صلاته إلا بذلك، ولو وجد الماء لم يلزمه استعماله ولا الخروج من صلاته.

وعلى أن إسقاط فرض الصلاة بالتيمم مع وجود الماء أوسع. ألا ترى أنه إذا كان واجدا للماء واحتاج إلى تبقيته لعطشه فإنه يتيمم ويصلي مع قدرته على استعمال الماء، وسقط عنه الفرض، ولا يسقط فرضه أصلا إذا ظهرت رجله بعد أن مسح على خفيه. فإن قيل: فإن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء لم يجز لها أن تعتد بالشهور، والشهور بدل من الأقراء، ثم لو كانت من أهل الشهور مثل الصغيرة التي لم تحض فاعتدت بالشهور إلا ي ما، ثم رأت الدم وصارت من ذوات الأقراء لزمها أن ترجع إلى الأقراء وتعتد بها، ولم يجز لها أن تكمل العدة بالشهور؛ لوجود المبدل، فكذلك المتيمم إذا قدر على الماء في الصلاة لم يجز له أن يكمل الصلاة، بل يلزمه أن يستعمل الماء ويخرج من الصلاة. وأيضا فإن رؤية الماء بعد التيمم حدث كسائر الأحداث؛ بدليل أن رجلين محدثين لا يجد أحدهما الماء فتيمم، ووجد الآخر الماء فتطهر، ثم لو أحدث المتطهر منهما قبل الصلاة بطل حكم طهارته، ولم يجز له أن يصلي بها، ولو رأى المتيمم منهما الماء قبل الدخول في الصلاة لم يجز له أن يصلي بالتيمم. فما كانت رؤية الماء كالحدث قبل الصلاة فكذلك في الصلاة. هذا والذي قبله سؤال المزني. قيل: إن التي اعتدت بالشهور ثم رأت الدم في آخرها فإنها تنتقل إلى الأقراء، ولكن ما مضى لها من الشهور لا تبطل ويحسب لها

به قروءا، ولو جنبا على المتيمم في الصلاة الرجوع إلى الماء بطل عليه ما مضى منها؛ لأنه لا شيء عليه ويستأنف الصلاة. فقد بأن الفرق بين الموضعين. وأما السؤال الثاني فإننا نقول: لو كانت رؤية الماء حدثا لم يفترق حكم طهارة المتيمم المحدث ولا حكم الطهارة الميمم الجنب؛ لأنه حدث واحد، والحدث الواحد لا يوجب الطهارة العليا والطهارة الأدنى جميعا، فلما اتقنا أن المتيمم الجنب إذا وجد الماء اغتسل لجنابته، والمتيمم المحدث إذا ... وجد الماء غسل أربعة أعضائه دون سائر بدنه علمنا أن رؤية الماء ليس بحدث في نفسه. وعلى أن رؤية الماء في الصلاة لو كان حدثا لوجب إذا رأى الماء وهو محتاج إليه لعطشه أن ينتقض تيممه؛ لأنه لا فرق بين الأحداث

إذا وجدت مع الضرورة أو غير الضرورة فإنها تنقض الطهارة، فلما اتفقنا على أنه يصلي بتيممه إذا وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش سقط أن يكون في نفسه حدثا، وهو خلاف الجماع. ولنا أن نقلو: إن الصلاة هي المقصود بالتيمم، والتيمم لا يراد لنفسه، فحصول المقصود الشروع فيه بالبدل يمنع من إيجاب العد إلى المبدل. دليله: إذا شرع في صوم التمتع فإنه يمنع من العود إلى المبدل الذي هو الهدى ... إذا وجده. وأيضا فإننا لو أوجبنا عليه الخروج من الصلاة واستعمال الماء لجاز أن يفوته وقت الصلاة المضيق، ومراعاة الوقت بطهارة غير كاملة أولى من أدائها في غير الوقت بطهارة كاملة، الدليل على ذلك: عادم الماء والمريض الذي لا يقدر على استعماله، ومن معه ماء يخاف العطش على نفسه فغنهم يتيممون لمراعاة الوقت، ولا ينتظرن خروج الوقت حتى يقدروا على استعمال الماء. فصار قياسنا أولى من قياسهم؛ لأنه يؤدي إلى وقوع الصلاة في وقتها بالتيمم الذي لا ينافيه وجود الماء في حال ما. فإن قيل: اعتبار وجود الماء بعد الدخول في الصلاة بوجوده قبل الصلاة أولى، فتكون العلة في الابتداء والانتهاء واحدة؛ لشهادة الأصول لها. ألا ترى أن وجود الردة بعد عقد النكاح يرفع حكمه، كما لو كان موجودا قبل النكاح لم يجز أن يبتدأ، وكذلك الرضاع وملك أحد الزوجين صاحبه، فيستوي حك ابتدائه وانتهائه، فكذلك المتيمم إذا وجد الماء في الابتداء قبل دخوله في الصلاة منع منه، فكذلك مذ ورد في انتهائها.

قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنه ينتقض بصلاة العيدين والجنازة، وبسؤر الحمار. والجواب الثاني: هو أن العلل على ضربين، فعلة للابتداء دون الانتهاء، وعلة الابتداء والانتهاء. فأما علة الابتداء دون الانتهاء فهي مثل الإحرام [لم] يمنع ابتداء النكاح، ولو طرأ على النكاح لم يبطله، وكلك في وجود الطول وخوف العنت يمنعان من صحة عقد نكاح الأمة، ولو عقد عند عدم الطول وخوف العنت، ثم وجد الطول وزال العنت لم يؤثر في صحة ذلك، فهذه علل الابتداء لا الانتهاء. وأما علل الابتداء والانتهار فهي كالرضاع والردة وملك أحد الزوجين صاحبه على ما ذكرتم، فلم يجز اعتبار وجد الماء بعد الدخول في الصلاة بوجوده قبل الدخول فيها بما ذكرتموه دون اعتباره بما ذكرناه.

[59] مسألة

[59] مَسْأَلَة ولا يجوز الجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد، سواء كانتا لوقتهما أو كانت إحداهما فائتة والأخرى في وقتها. واختلفت الرواية عن مالك في الفوائت، فالظاهر المعمول عليه: أنه يتيمم لكل صلاة. وروى عنه: أنه يكفي لها تيمم واحد وبهذه الرواية قال أبو ثور. ووافقنا الشافعي في أنه لا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد، سواء كانتا لوقتهما أو كانتا فائتتين، وبه قال الليث، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل.

وهو مذهب علي، وابن عباس وابن عمر. ومن التابعين وغيرهم سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والنخعي، والشعبي، وربيعة، وابن أبي سلمة. وقال أبو حنيفة: التيمم كالوضوء بالماء، يصلي به من الحدث

إلى الحدث وبه قال الحسن، والثوري. والدليل لقولنا: قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}، وهذا يقتضي أن كل قائم إلى الصلاة تلزمه الطهارة إذا كان واجدا للماء، فإذا عدمه تيمم. والدليل على أن الظاهر يقتضي ها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جمع بطهارة واحدة بين صلوات في عام الفتح، قال له عمر رضي الله عنه: فعلت هذا عامدا؟. قال «نعم» فعلم أنهم فهموا من الآية وجوب الطهارة عند كل قيام للصلاة. فإن قيل: إن هذا لا يلزم من أربعة أوجه. أحدها: أن الأمر بمجرده لا يقتضي التكرار، وإنما يقتضي فعل مرة واحدة. قيل: قد اختلف أصحابنا في ذلك، فمن قال: إنه بمجرده [لا] يقتضي التكرار لم يلزمه هذا السؤال. ومن قال: يقتضي فعل مرة - إليه أذهب - يقول: إنه يقتضي فعل

مرة واحدة إلا أن يقوم دليل، وقد قام الدليل ها هنا على أن المراد التكرار لا مرة واحدة؛ لأن الإجماع قد حصل على أن الطهارة واحدة لا تكفي الإنسان في طول عمره. قالوا: فإن الله - تعالى - أمر بالطهارة لجنس الصلوات؛ لأن الألف واللام في الصالة للجنس، وهذا يقتضي أنه إذا تطهر فإنما يتطهر للجنس، فإذا تيمم فإنما يتيمم لجنس الصلوات فيصلي الصلوات كلها بالتيمم إلا أن يقوم دليل. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة} قد عقل منه أنه يحتاج إلى القيام عند كل صلاة، وقيام واحد لا يكفي لكل صلاة، فكذلك الوضوء والتيمم؛ لأنه يفعل عند كل قيام إلى الصلاة. والجواب الآخر: هو أنه - تعالى - أراد التيمم لهذا الجنس الذي هو الصلاة دون غيره من الأجناس التي ليست بصلاة، وإذا تيمم لصلاة فقد تيمم لهذا الجنس؛ لأن الإجماع به قد حصل على أنه لم يرد التيمم لجميع الصلوات في الدنيا وما عاش. قالوا: فهذا يقتضي أنه إذا قام إلى الركعة الثانية تيمم لها: لأنه قائم إلى الصلاة.

قيل: القيام إلى الصلاة لا يقلا لمن هو في الصلاة، والله - تعالى - أمر بالتيمم إذا قام إلى الصلاة. قالوا: فإن الله - تعالى - قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}، ثم قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وحكم المرتب حكم المرتب عليه، فلما قامت الدلالة على أنه يجوز أن يصلي فرائض كثيرة بطهارة واحدة كان بالتيمم مثله؛ لأنه إذا تغير حكم المرتب عليه تغير حكم المرتب، وهذا خير أسئلتهم. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن التيمم غير مرتب على الطهارات، بل هو حكم مستأنف؛ بدليل أن الله - تعالى - لو نسي الطهارة بالماء لم يبطل حكم التيمم، وإن كان التيمم غير مرتب عليه فتغير حكم الطهارة على ما يقتضيه الظاهر لا يوجب تغر حكم التيمم. والجواب الثاني: هو أن تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوه فتيمموا، فإذا تطهر بالماء عند القيام إلى الصلاة أخرى لم يلزمه أن يتطهر؛ لأنه ليس بمحدث والله - تعالى - أمر المحدث بالطهارة عند القيام إلى الصلاة، والمتيمم محدث عند القيام إلى لصلاة الثانية فوجب أن يتيمم. وأيضا فقد روى سعيد بن المسيب قال: مضت السنة أن لا يجمع

المتيمم بين صلاتي فرض السنة يقتضي سنة النبي عليه السلام إلا أن يقم دليل. وأيضا ففي المسألة إجماع الصحابة؛ لأنه روي عن عي وابن عمر وابن عباس وأنهم قالوا: لا يجمع المتيمم بين صلاتي فرض،

وانتشر ذلك عنهم، ولم ي ظهر لهم مخالف. وأيضا فإنه لا يجوز له أن يتيمم للصلاة مع استغنائه عن التيمم لها. ألا ترى أنه لو تيمم مع وجد الماء لمي صح، فإذا ثبت ذلك فإنه إذا تيمم لصلاة الظهر، فهو مستغن عن التيمم للعصر، فلم يجز أن يكون هذا التيمم لصلاة العصر. وإن شئت غيرت العبارة فقلت: إن الصلاة الثانية لم يدخل وقتها.

ولم يفتقر إلى التيمم لها، وكل تيمم مستغنى عنه غير مضطر إليه لم يجز أداء الفرض به. دليله: التيمم مع وجود الماء. ونقول أيضا: إن التيمم طهارة بدل قد قصرت عن المبدل، فقصرت عنه في الوقت أيضا؛ لأنها لا ترفع الحدث. وأيضا فإن عليه طلب الماء وهو محدث للصلاة الأولى: فإذا لم يجد الماء بعد الطلب تيمم، فكذلك عليه في الصلاة الثانية مثل ما في الأولى، فإذا لم يجد الماء وجب عليه التيمم؛ لأنهما قد اشتركا في وجود الطلب لهما من أجل الحدث، والمتيمم محدث عند الصلاة الثانية لا محالة. فإن قيل: لا نسلم أن عليه طلب الماء. قيل: حقيقة قول القائل لم أجد كذا: معناه طلبت فلم أجد، وإن وقع ذلك على غير طلب فهو مجاز، ويكون معناه: لم أقدر. على أننا لا نعلم أحدا من الناس يريد الصلاة وهو محدث إلا وهو يطلب الماء سواء كان الماء في رحله أو أبعد منه إلا أن يكون جالسا في الماء فإنه قادر، أو من يسقط عنه استعمال الماء مع وجوده لعذر فإن هذا ... أو غير مراد بالآية، وإنما الآية في غير المعذورين. وأيضا فقد حكى عن أبي حنيفة أن المحدث لا يجوز له التيمم لصلاة المغرب قبل وقتها. فإن ثبت هذا من مذهبه فإنه إذا جمع بين صلاة العصر والمغرب بتيمم واحد فقد صار متيمما لصلاة المغرب قبل

وقتها، فنقض أصله في ذلك. ويجوز أن يقال له: كل متيمم قبل وقت الصلاة لا يجوز له ذلك، دليله صلاة المغرب. وأيضا فإن أبا حنيفة يقول: إن المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة، فنقول: إذا توضأت لوقت الظهر وصلت الظهر ثم دخل وقت العصر وجب عليها أن تتوضأ أيضا لوقت العصر، ولا يجوز أن تصلي العصر بطهارة الظهر بل المستحاضة - عنده - تصلي الفوائت بطهارة واحدة. وعندي أن المستحاضة إذا لم يكن دمها متصلا، وكانت صلاتها تسلم بالوضوء توضأت. فإذا ثبت إنها لا تجمع بين الصلاتين بوضوء واحد قلنا: هما صلاتا فرض فوجب أن لا يجوز الجمع بينهما بطهارة ضرورة، فكذلك في التيمم؛ لأنها طهارة ضرورة فلا يجمع بها بين صلاتي فرض. ونقول أيضا: إن التيمم بدل عن مبدل فيجب أن لا يجوز قبل وجوبه، ولا يجوز إلا بعد دخول الوقت. دليله سائر الأبدال التي لا تجوز قبل وجوبها. فإن قيل: فقد روي في حدث أبي ذر أن النبي عليه السلام قال: «الصعيد الطيب بوضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج "، فجعله وضوءا له أبدا.

وأيضا فإنه طهارة يؤدي بها النفل فجاز أن يؤدي بها الفرض. أصله الطهارة بالماء. قيل: عن الخبر جوابان: أحدهما: أنه يقتضي أن الصعيد وضوء ومما يتطهر به، نحن نقول بذلك، وهل يفعله عن كل صلاة أم لا؟. ليس فيه. ولجواب الآخر: هو أن الصعيد اسم للجنس، والوضوء للجنس، فصار جنس الصعيد كجنس الوضوء، فينبغي أن يستوفى جنس التيمم بجنس الصلاة، وإذا تيمم مرة واحدة للصلوات كلها فهو بعض جنس التيمم لا كله. وكذلك إن استدلوا بقوله: «التيمم طهور المسلم وغم لم يجد الماء عشر حجج»، فإن التيمم اسم لجنس التيمم فينبغي أن يستوفي كل التيمم لكل الصلات فيصير لكل صلاة تيمم، وهو أيضا دليلنا؛ لأن التيمم هو القصد والفعل، ونحن نأمر به عند كل صلاة فريضة حتى يستوفى جنسه لجنس الفرائض. وأما قياسهم على الطهارة بالماء فإنه فاسد الموضع؛ لأنه لا يجز اعتبار الفرض بالنفل. ألا ترى أنه يجوز أن يترك في النفل ما لا يجوز تركه في الفرض؛ لأن النفل أخفض رتبة من الفرض فيجوز أن يصلي النفل جالسا مع قدرته على القيام، ويجوز ترك القبلة في النفل في السفر مع القدرة، ولا يجوز ذلك في الفرض، فكذلك يجوز أن يجمع في التيمم بين صلاتي نفل، ولا يجوز الجمع به بين صلاتي فرض.

وعلى أن المعنى في الطهارة بالماء أنه يرفع الحدث، فلهذا يصلي به ما شاء، وليس كذلك التيمم؛ لاه لا يفع الحدث، وإنما يستباح به فعل الصلاة، ولأنها طهارة ضرورة فلا يجوز أن يستباح بها ما يستباح بالطهارة، كطهارة المستحاضة. فإن قيل: فإن الأصول موضوعة على أن حكم الأبدال حكم المبدلات، فكل ما يستباح بالمبدل يستباح بالبدل، كالصوم في الكفارة، كذلك أيضا التيمم لما كان بدلا عن الماء وجب أن يستباح به من الصلاة ما يستباح بمبدله. وأيضا فلو أوجبنا التيمم لكل صلاة لأوجبنا من حدث واحد طهارتين من جنس واحد، وهذا لا يوجد في الأصول. ألا ترى أنه لو أحدث لم يوجب طهارتين من جنس واحد. قيل: أما قولكم: إن حكم الأبدال حكم المبدلات فإنه باطل على مذهبكم بالمسح على الخفين، هو بدل من غسل الرجلين، ولا يستباح به ما يستباح به إذا غسل الرجلين؛ لأنه إذا غسل رجليه صلى لغير توقيت، وفي مسح الخفين توقيت. وقولكم: إننا نجب طهارتين من جنس واحد من حدث واحد، فإننا نقول: قد يجوز مثل هذا. ألا ترى أنه ل لم يجد الماء فتيمم ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة، ثم انقلب الماء قبل استعماله فإن عليه أن يتيمم دفعة أخرى، وهما تيممان لحدث واحد، فسقط ما قلتموه بمحدث لا يزول حدثه، فإذا تيمم لصلاة وصلاها انتقض حكم

تيممه، فهو كما يتوضأ ويصلي ثم يحدث فإنه يتوضأ للصلاة الأخرى. فإن قيل: هذا يمنع من الجمع بين الصلاتين؛ لأنه إذا صلى صلاة بالتيمم، وأراد أن يجمع بينهما وبين الأخرى، مثل صلاة الظهر والعصر في وقت الظهر، فتشاغله بطلب الماء للثانية فإن لم يجده تيمم يخرجه عن الجمع بين الصلاتين، وقد أبيح له الجمع بينهما لعذر السفر أو المرض، وصورة الجمع أن تكن الصلاة الثانية تالية للأولى لا فصل. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن صورة الجمع تقديم الثانية إلى وقت الأولى، وإن انفصل ينهما بركعتين تنفل جاز، فلا يمنعه الفصل القريب. والجواب الثاني: هو أن يمنع من الفصل بينهما إذا كان الفصل لا لأجل أسباب الصلاة، فأما إذا كان بأسباب الصلاة لم يمنع. ألا ترى أنه قد يفرغ من الصلاة الأولى ثم يجوز أن يؤذن الثانية ويقيم، ولم يمنع هذا من الجمع، لأن الأذان والإقامة من شعار الصلاة، فهو كالشروع فيها، فكذلك طلب الماء والتيمم من شعار الصلاة فهو كالشروع فيها، وكذلك لو جب عليه صلاتان فائتان على ظهر الروايتين عن مالك - رَحمَه الله -. ونقول أيضا: إنه قد صارت الصلاة علة في وجوب الطهارة، كما

أن السهو فيها علة في وجب سجده، فكل مصل تجب عليه الطهارة، كما أن كل ساه يجب عليه سجود السهو، فإذا صلى صلوات بوضوء واحد حصل طاهرا في كل صلاة، وإذا صلى صلوات بتيمم واحد لم يحصل طاهرا ارتفع حدثه في كل صلاة، وإنما يحصل مستبيحا للصلاة بالتيمم، وه محدث. فإن احتجوا بحديث عبد الرحمن بن عوف وأنه ابتغى يوما ماء فلم يجده فتمسح بالتراب ثم صلى، ثم أدركته السبحة فصلاها ولم يتوضأ، وقال: أنا طاهر ولو أدركني وقت صلاة أخرى لم أبال أن أصلي بتمسحي من التراب الذي تمسحت به إلا إن أحدثت شيئا فأتوضأ.

وبما رواه هشام بن حسان عن الحسن قال: التيمم بمنزلة الوضوء، إذا تيممت فأنت على وضوء حتى تحدث. قيل: أما حديث عبد الرحمن فإن راويه إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف جدا. وأيضا فإن هذا مذهب عبد الرحمن، وقد عارضه ما هو أقوى منه، وه ما ذكرناه عن علي وابن عباس، وابن عمر فإنهم كانوا

يتيممون لكل صلاة، وقول الجماعة، وفيهم علي رضي الله عنه - وهو إمام - أولى من قول عبد الرحمن بن عوف. على أن قول عبد الرحمن ذلك يدل على أنه كان يتيمم مع وجود الماء؛ لأنه قال: إلا أن أحدث شيئا فأتوضأ، ولم يقل: فأتيمم، وهذا لا يجوز. وما روي عن الحسن فقد عارضه ما رواه حارث العكلي عن إبراهيم النخعي قال: يتمم لكل صلاة،

وقد ذكرنا ذلك عن جملة من التابعين. وعلى أن قول علي وابن عباس وابن عمر أولى: لأنه كإجماع الصحابة. وقد قيل: إن الوضوء كان واجبا في أول الإسلام على الناس كل صلاة، سواء كانوا محدثين أو متطهرين، فلما صلى النبي عليه السلام صلوات بطهر واحد علم أن ذلك قد نسخ، وبقي على ذلك علي ابن مسعود وابن عمر إلى أن ماتوا - رضي الله عنهم -، فعلم أنهم كان يستحبون ذلك، وبقي المتيمم على أصله؛ لأنه بدل الوضوء الذي كان واجبا لكل صلاة لم ينسخ، لا يجوز نسخه بقياس خاصة وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر على ذلك. وقد قيل: إن الوضوء لكل صلاة مخصوص بفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جمع الصلوات عام الفتح بوضوء واحد، وهذا كله يدل على أن المفهوم من قوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة، والله أعلم.

فصل

فصل ويجوز للمتيمم أن يصلي بالمتيممين والمتطهرين جميعا، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وحكي عن ربيعة محمد بن الحسن أنه لا يجوز أن يصلي بالمتطهرين، ويصلي بالمتيممين. قال: محمد: بلغنا ذلك عن علي - رضوان الله عليه -.

والدليل لقولنا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان متيمما جنبا فصلى بعمار وآخرين كانوا معه من الصحابة، وهم متطهرون. وأيضا ما روي عن عمر بن العاص - حيث كان واليا - قال: فتيممت وصليت بالناس، ولم يفرق.

وأيضا فإن كل من جاز له أن يصلي بالمتيممين جاز له أن يصلي بالمتوضئين، أصله المتطهر بالماء.

فأما ما ذكروه عن علي فإنه لا يصح عنه، ولو صح لكان قول الأكثر من الصحابة - رضوان الله عليهم - أولى. ويجوز أن يكون كرهه، ونحن نكرهه، وجوازه بالقياس، وبقول ابن عباس وعمرو بن العاص.

فصل

فصل قد مضى الكلام على أنه لا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد، وتضمن أنه لا يجوز قبل الوقت، ورأيت أن أجرد الكلام في أنه لا يجوز التيمم قبل وقت الصلاة، وأن من شرطه دخول الوقت، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز التيمم قبل دخول الوقت. قالوا: لأن كل طهارة صح أن يؤتى بها بعد الوقت صح أن يؤتى بها قبله، كالطهارة بالماء. والدليل لقولنا: ما تقدم ذكره من قوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فأباح

التيمم إذا لم يجد الماء بشرط أن نكون قياما إلى الصلاة، وقبل الدخول الوقت لا نكن قائمين إلى الصلاة. وأيضا فإنه يكون متيمما للفرض في وقت هو مستغن عن التيمم فيه فوجب أن لا يصح له ذلك، أصله إذا تيمم مع وجود الماء وقدرته على استعماله. ولا يلزم على هذا التيمم للنفل قبل وقته؛ لأنه غير مستغن عنه للنفل؛ إذ لا وقت له معين. فإن قيل: هو منتقض به إذا تيمم في أول الوقت فإنه يصح أن يصلي به الفرض وإن كان مستغنيا عنه؛ لأنه يجوز له أن صلي به في آخر الوقت. قيل: إذا ... دخل الوقت فقد لزمه الفرض، ومن لزمه الفرض لا يقال: إنه مستغن عن أداء فرضه. وأيضا فإن التيمم أبيح الضرورة على وجه الرخصة؛ بدليل أنه لا يتيمم مع قدرته على استعمال الماء، وما أبيح للضرورة والحاجة لا يستباح قبل وقت الحاجة ووجودها، مثل أكل الميتة وغيرها، ومثل طهارة المستحاضة. فأما قياسهم على الطهارة بالماء فنقول: المعنى في ذلك أنها أبيحت لا لضرورة، ما جاز من غير ضرورة وحاجة جاز أن يؤتى به من غير حاجة، كسائر المآكل المباحة، وما أبيح لحاجة وضرورة فلا بد فيه من وجود الضرورة والحاجة كما ذكرنا في أكل الميتة، والله أعلم.

فصل

فصل وطلب الماء من شرط صحة التيمم عندنا، وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة وصاحبناه: لا يفتقر إلى طلب الماء؛ لقوله: - تعالى -: {فلم تجدا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}، من عدمه من غير طلبه فهو غير واجد له. ولأنه إذا كان واجدا للرقبة في الكفارة لزمه أن يعتقها، لم ل لم يجدها لم يلزمه أن يطلبها في المواضع، بل يجوز له الانتقال إلى الصوم، كذلك الماء. والدليل لقولنا: ما ذكروه من دليلهم من قوله -

تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وحقيقة هذا: أنه لا يقال لمن لم يطلب الشيء: إنه لم يجده، وإنما يقال: ليس هو عندي، فإذا وجده من غير طلب لا يقال: إنه وجده، بل يقال: أصابه إن كان عنده. وأما عتق الرقبة في الكفارة فإنه لا خلاف أنه لا يجوز له الانتقال إلى الصوم إلا بعد أن يطلب الرقبة أو يطلب ثمنها في كله، فإن وجد الثمن طلب الرقبة للشراء، فأما قبل الطلب في ملكه فلا يجوز له، كذلك الماء يطلبه أو ثمنه ليبتاعه، والعلة فيه: أنه بدل عن مبدل مر بت فوجب أن لا يجوز له الانتقال إليه إلا بعد طلب المبدل في الموضع الذي يطلب مثله فيه، أصله طلب الرقبة أو ثمنها في الملك، وطلب الماء في المواضع، مثل الآبار والحياض والرفقة، ومواضع بيعه. واحترزنا بقولنا: " مرتب " من مواضع التخيير في جزاء الصيد، وما أشبهه؛ لأنه ليس بمرتب، وبالله التوفيق.

[60] مسألة

[60] مَسْأَلَة ويجوز للحاضر إذا تعذر عليه الماء، وخاف فوات الوقت أن يتيمم، مثل أن يعبد منه، أو يكون ي بئر فإلى أن يعالجه تطلع الشمس ولم يكن صلى الصبح فإنه يتيمم يصلي، ولا يعيد الصلاة، وبه قال الأوزاعي. وقد روي عن مالك أنه يعالجه وإن طلعت الشمس. وروي عنه أنه يصلي بالتيمم ويعيد الصلاة. وقال أبو حنيفة، وداود: لا يصلي أصلا، ويتعلق الفرض بذمته إلى أن يقدر على الماء. وقال الشافعي: يلزمه أن يتيمم ويصلي، وإذا وجد الماء أعاد الصلاة، هذا موافق لإحدى الروايات عن مالك.

والدليل لقولنا في أنه التيمم ويصلي ولا يعيد: ما روي عن أبي ذر قال: اجتويت المدينة فانتقلت بأهلي إلى الربذة، وكنت أجنب وأعدم الماء خمسة الأيام والستة. فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج»، والدليل منه على وجهين: أحدهما: أنه عم بجعل الصعيد الطيب وضوء المسلم فلم يفرق بين حاضر ومسافر. والثاني: أنه ورد خاصا في المقيم؛ لأن أبا ذر انتقل بأهله إلى الربذة مقيما بها معهم. وأيضا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأين

أدركتني الصلاة تيممت وصليت»، وهذا عام لم يخص سفرا من حضر، فهو على عمومه إلا أن يقوم دليل. يجوز أن نستدل بقوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا}، وهذا عام فيمن لم يجد الماء وعدمه فإنه يتيمم إلا أن تقوم دلالة. هذا على أبي حنيفة؛ لأن الشافعي يوافقنا على أنه يتيمم. فإن قيل: هذه الآية حجة لنا: لأنه - تعالى - أباح التيمم بشرط المرض أو السفر، فلو جعلناه عموما في كل محدث حاضر ومسافر لكان ذكر المرض والسفر لغوا لا فائدة فيه، وإن جعلنا نفس المرض والسفر بمنزلة الحدث كان ساقطا، فعلمنا أن المرض والسفر خصا في جواز التيمم عند عدم الماء. قيل: هذا فاسد، وإنما ذكر السفر والمرض لمعنى، هو أنه لو لم يذكرهما لجاز أن يظن ظان أن المرض لشدته وما قد أبيح للإنسان فيه من الفطر والجمع بين الصلاتين وأنه يثقل عليه ما لا يثقل على الصحيح، وكذلك مشقة السفر وقلة المياه في غالب الحال ما يجوز مع ذلك سقوط الطهارة جملة، كما سقط عن المسافر نصف الصلاة، فقيل: تيمموا مع عدم الماء سواء كنتم حاضرين أو مسافرين ومرضى تلحقكم المشقة، فإن الطهارة بالماء أو التيمم لا بد منه مع القدرة عليه، ويصير تقدير الآية: قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وإن كنتم

- خطابا لهم أيضا - يا محدثين على حال مرض وسفر فلم تستطيعوا استعمال الماء فتيمموا، فهو خطاب للمحدثين على اختلاف صفاتهم إذا لم يجدوا الماء تيمموا. وأيضا فإنه لا يمتنع أن يخرج الخطاب على الغالب، يتعذر معه التمكن من الماء وكذلك المريض إذا اشتد مرضه خاف استعمال الماء، فخرج الكلام على الأغلب ويكون غير المريض والمسافر عند تعذر استعمال الماء ودخول وقت الصلاة بمنزلتهما وفي حكمهما؛ لأن المعنى موجود في الجميع، كما ذكر الرهن بشرط السفر؛ لأن الغالب منه عدم الشهود، ثم قد ثبت جواز الرهن في الحضر كجوازه في السفر؛ ولم يبح التيمم الذي هو بدل الماء إلا لمراعاة وقت الصلاة وخوف فواتها عند تعذر استعمال الماء، وهذا المعنى في الحاضر موجود، كما يوجد فيه لو كان مريضا أو مسافرا، وقد قال الله - تعالى -: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} فخرج الكلام على الغالب من أمر الربيبة أنها تكون مع الزوج، ولو لم تكن عنده مع أمها لكانت أيضا محرمة عليه؛ لأن المعنى الموجب للتحريم فيها موجود. ثم لو ثبت أن المرض والسفر شرطان في إباحة التيمم لم يمتنع أن يلحق بهما غيرهما بالقياس، فنقول: هو غير قادر على استعمال الماء، وقد لزمه فرض الصلاة فوجب أن يلزمها لتيمم، أصله المسافر أو المريض. أو نقول: المعنى في جواز التيمم للمريض أو المسافر هو توجه

الصلاة عليهما، وخوف فوت وقتها مع العجز عن استعمال الماء، هذا موجود في الحاضر. هذا قياس يلزم من يمنع التيمم أصلا. وأما من يلزمه التيمم ويوجب الإعادة فنقول: اتفقنا في المريض والمسافر أنهما إذا تيمما وصليا لم تجب عليهما الإعادة؛ لأنهما قد تيمما على ما أمرا به، هذا مجد في الحاضر؛ لأنه مأمور بالتيمم عند العجز عن استعمال الماء مع خوف فوت القوت وحضوره، فإذا فعل التيمم على ما أمر به لم تلزمه الإعادة؛ لأن كل واجب مجزئ في السفر والحضر؛ إذ قد أدى ما فرض عليه، ولو لزمته الإعادة مع فعله ما فرض عليه لم يكن فرق بين أن يفعل المأمور به فيطيع، أو يفعل المنعي عنه فيعصي، ولا يجزئه في الأمرين جميعا، وهذا فاسد، بل قد رأينا في الشريعة ضد هذا، وهو أن الإنسان ينهي عن فعل شيء فيفعل فيقع موقع الصحيح، ويجزئ عن الفرض، ولا تجب فيه الإعادة، كالصلاة في الدار المغصوبة، والتوضؤ بالماء المغصوب، ولا يجوز أن يفعل الطاعة المأمور بها ابتداء، فيقع موقع الفاسد حتى لا يجزئه، فإذا كان الحاضر قد تعذر عليه استعمال الماء، وخاف فوت الصلاة مأمورا بالتيمم، مطيعا فيه فقد صلى على ما أمر به أطاع، فلا ينبغي أن يقع موقع الفاسد الذي لا يجزئ تجب فيه الإعادة. فإن قيل: فقد رأينا من يفعل ما افترض عليه، وأمر به، ولا تسقط معه الإعادة، هو موقع موقع الفاسد، مثل من أفسد حجه، وصومه

المفترض، فإنه مأمور بالمضي فيه فرضا عليه، ومع هذا فعليه الإعادة. قيل: هذه غفلة وسهو؛ لأن القضاء عن الحج والصوم الفاسد إنما جب بالفساد الذي تقدم على المضي في باقيه، وعوقب بالمضي فيه، والحاضر إذا تعذر عليه استعمال الماء وخاف فوات الوقت صار مطيعا بالتيمم والصلاة ابتداء، فاعلا لما أمر به، لم يفسد شيئا يجب عليه معه القضاء. فعروضه في الحج والصوم أن يؤمر قبل الدخول فيها فيهما بالدخول، ويكون مطيعا لم تتقدم منه إفساد فدخل فيهما بالأمر الممتثل مطيعا فيه فلا يجب عليه إعادة، فإن أفسد بعد الدخول وجب القضاء بالإفساد، كما لو أفسد الحاضر ما دخل فيه من الصلاة لوجب عليه القضاء، فصار تيمم الحاضر بمنزلة الليل للصائم، فإن أمر بالدخول في التيمم والصلاة، ولم يطرأ عليه الفساد لم يجب القضاء. وأيضا فإن الماضي في الحج الفاسد والصوم الفاسد مأموران بذلك، فإذا فعلا ما أمر به أجزأهما في المضي ولا يجزئهما في إسقاط القضاء الواجب بالإفساد الذي هو غير المضي. فإن قيل: هذا فاسد بالمصلوب، والذي تحت الهدم، والمحبوس في الحش فإنهم مأمورون بالصلاة وعليهم بالإعادة. قيل: هؤلاء لا تجب عليهم الصلاة إذا لم يقدروا على الماء والتيمم، ولا يجب علهم القضاء، كالحائض والمغمى عليه؛ لأن المنع أتاهم بغير اختيارهم حيث لا يمكنهم دفعه.

ومن قال من أصحابنا: عليهم الإعادة، فمعناه - عندي -: إذا كانوا على طهارة ولم يصلوا بالإيماء وغيره، ومعهم عقولهم، فتصير منزلتهم منزلة من وجب عليه التيمم فتيمم ولم يصل فعليه الإعادة. ثم هذا بعينه يلزمهم في المسافر إذا تيمم وصلى ينبغي أن تكون عليه الإعادة، وإن كان قد فعل المأمور به، كما ظنوا أنه يلزمنا فيما أورده. فإن قيل: المسافر والمريض قد أبيح لهما الفطر في رمضان، ففعلا المأمور به ولم يسقط عنهما القضاء، فكذلك الحاضر يفعل التيمم والصلاة، ولا يسقط عنه القضاء. قيل: أيضا هذا سهو؛ لأن الفطر رخصة ولم يفعلا الصوم، والمتيمم فعل الواجب، وفعل الصلاة، فل رخص له في الخروج من الصلاة كما رخص للمسافر في الفطر لوجب عليه القضاء. ألا ترى أن المصلي لو رأى إنسانا يغرق، أو شيئا له يتلف لخرج منها، وكان عليه القضاء؛ لأنه لم يصل، فسقط ما ذكروه. وعلى أن هذا نفسه يلزم في المسافر والمريض إذا عدما الماء وتيمما ثم صليا. فإن قيل: فإن الله - تعالى - لما أباح التيمم بشرط المرض والسفر دل على أن ما عداهما بخلافهما

قيل: عنه جوابان: أحدهما: أننا قد ذكرنا أن الحكم من نص الآية لم يعلق بشرط المرض والسفر، وإنما خصا بالذكر للمعنى الذي بيناه. والجواب الثاني: أن لو ثبت حكم دليل الخطاب لم يمتنع أن تقوم دلالة القياس، فيلحق المسكوت عنه بالمنطوق به، وقد ذكرنا دليل القياس. ونقول: إن كل من لزمه فرض التيمم فتيمم فإنه يسقط فرضه كالمسافر. وأيضا فإن القادر على استعمال الماء لا يفترق حكه بين أن يكون مقيما أو مسافرا في سقوط الفرض عنه، فكذلك العادم للماء يجب أن لا يفترق حكمهما. هذا يحتمل أن يلزم أبا حنيفة والشافعي. ولنا أن نخص كل واحد منهما بلفظ فنقول: لما كان الواجد للماء، القادر على استعماله، وقد حضر وقت الصلاة يجب عليه استعماله، ولم يفترق حكم الحاضر والمسافر في وجوب استعماله، وجب أن يكون العام للماء الذي لا يقدر على استعماله في جب التيمم عليه والصلاة به لا يفترق حكم المسافر والحاضر فيه؛ لأن وقت الصلاة قد حضر، ويخاف فواته. هذا على أبي حنيفة. ونقول للشافعي: لما كان واجدا للماء إذا استعمله عل ما أمر به لم يفترق حكم المقيم والمسافر فيه وجب أن يكون لعام له يستوي فيه

المقيم والمسافر في أنه إذا فعله لم يجب عليه القضاء، كواجد الماء سواء. فإن قيل: فإن قوله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}، فشرط - تعالى - في جواز التيمم السفر، فلا يخلو أن يكون شرطا في جواز التيمم، أو شرطا في سقوط الفرض بذلك التيمم، فبطل أن يكون شرطا في جواز التيمم؛ لأن المقيم - عندنا وعندكم - يتيمم، فدل أنه شرط في سقوط الفرض بذلك التيمم، ولم يوجد ها هنا سفر فلم يسقط فرضه. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أننا قد ذكرنا أنه ليس بشرط وإنما خص المرض والسفر بالذكر لما بيناه، على أن يكون شرطا يتعلق بالحكم به لا يجزئ مع عدمه. والجواب الآخر: هو أن ظاهره شرط في جواز التيمم، ثم قامت دلالة على جواز التيمم ووجوبه مع عدم السفر، فسقط أن يكون شرطا في الجواز، إذا سقط أن يكون شرطا في إباحة التيمم - وقد وجب التيمم - سقط الفرض على ما شرحناه. ثم لا يمتنع مع هذا أن تقوم دلالة تسقط الفرض [كما أسقطت مع التيمم]، وقد ذكرنا قياسا يوجب ذلك.

فإن قيل: فإنه مقيم صحيح فوجب أن لا يسقط فرضه بالتيمم. أصله إذا كان واجدا للماء. وأيضا: فإن عدم الماء في الحضر عذر نادر لا يدوم؛ لأن الأوطان والبنيان لا تبنى على غير مياه، والأعذار النادرة لا تسقط الفرض، وإنما يسقطه الأعذار العامة السائدة ألا ترى أنه إذا لم يجد ماء ولا ترابا يصلي ويعيد، وكذلك إذا صلى وعلى ثوبه أو بدنه نجاسه [و] سقط فرضها؛ لأنه عام يدوم، وكذلك سلس البول، وكذلك السفر، وكذلك الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؛ لأنه لا تحلقها المشقة في قضاء الصوم؛ لأنه في السنة مرة، والصلاة تتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات فتلحقها المشقة في قضائها، وكذلك نكتتهم. والجواب أما قولهم: إنه مقيم صحيح فوجب أن لا يسقط فرضه بالتيمم، كواجد الماء غلط؛ لأن واجد الماء، القادر على استعماله منهي عن التيمم، فإذا تيمم لم يجزئ في حضر ولا سفر، وعادم الماء مأمور بالتيمم، حتى إن لم يفعله عصى، فوجب أن يسقط فرضه، كالمسافر إذا عدم الماء، وهذا أولى من قياسهم؛ لأن رد المأمور بالتيمم إلى مثله أولى من رد المأمور بالتيمم إلى المنهي عن التيمم. أما قولهم: إن عدم الماء في الحضر عذر نادر لا يدوم إلى آخر الفصل فعنه جوابان: أحدهما: أن واجد الماء في السفر العام نادر، كما أن عادم الماء في الحضر عذر نادر، فلما ردوا واجد الماء في السفر إلى الغالب من

حكم الحضر، لزم أن يرد نادر، وواجد الماء في السفر نادر. وعلى أن المسافر ربما احتاطوا في جميع الماء خوفا أن يقطع بهم أكثر من احتياطهم في الحضر، ومع هذا فقد جوز لمن عدمه التيمم، فكذلك الحاضر. على أن هذا يستمر لمن لا يوجب على الحاضر التيمم، فأما من يوجبه عليه كما يوجبه على المسافر فينبغي أن يسقط رضه كالمسافر. والجواب الآخر: أنه ساقط من " ب ": بمن لم يجد ما يستر عورته، فصلى عريانا فإنه نادر ويسقط فرضه إذا صلى، وكذلك الخائف من عدو وسبع وأفعى وغيره، وهذا كله نادر. فأما من صلى وعليه نجاسة فلا إعادة عليه؛ لأن إزالتها ليست بفرض - عندنا -، وقد قلنا: إن من لم يجد ترابا ولا ماء فإن الصلاة تسقط عنه، ولو صلى لم تجب عليه الإعادة. أما من سلس مذيه وبوله فإن طهارته لا تنتقض، وليس عليه أن يتوضأ لكل صلاة، وكذلك المستحاضة ليست بمحدثة - عندنا -. ثم لو أوجبنا على هؤلاء الطهارة لم يكن هذا عاما بل هو نادر؛ لأن العادة جارية بالحيض لا بالاستحاضة، فهي نادرة، وكذلك سلس

البول والمذي نادر، فإذا توضأ أو تيمم وصلى سقط فرضه وإن كان نادرا لولا ذلك لم يجب عليه التيمم. وقد ثبت أيضا أن التيمم يجب لمراعاة الوقت، والصلاة في وقتها بالتيمم الذي هو طهارة ناقصة أولى من الصلاة في غير وقتها بطهارة تامة، فإذا وجب التيمم لمراعاة الوقت لم تجب الإعادة في غير الوقت بالطهارة الكاملة؛ لأنها قد مضت في وقتها، كما مضت في السفر بالتيمم. وأما قضاء الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة فهو حجة عليكم؛ لأن الصلاة لما كانت تتكرر ثم سقط قضاؤها فيجب إذا صلى من لزمه التيمم ألا يكون عليه قضاؤها؛ لأنه قد أداها على ما أمر به، فهو أولى بسقوط القضاء عنه من الحائض، وهو كالمسافر إذا تيمم. ألا ترى أن الحائض غير مخاطبة بالصلاة ولا بالصوم، ولوصلت وصامت لم يصح منها، وعادم الماء في الحضر مخاطب بالتيمم والصلاة، وإن تركهما عصى كالمسافر سواء، فدق استيا ففي وجوب التيمم والصلاة فوجب أن يستويا في سقوط الفرض، كما استويا في فعل الصوم إذا صاما، وافترقهما في أن المسافر مرخص له في الفطر ولم يرخص للحاضر لا يضر في الجمع بينهما في الصلاة؛ لأن كل واحد منهما غير مرخص له في ترك التيمم والصلاة. ألا ترى أنهما قد استويا في الاجتهاد في القبلة، وكلفا طلبها، ووجب عليهما الصلاة إلى حيث يغلب على ظنهما؛ لمراعاة الوقت، وكذلك الخائف مسافرا كان أو حاضرا يجتهد في القبلة، فيصلي إليها مع القدرة ويصلي إلى غير القبلة مع عدم القدرة، وإن كانا يعلمان جهتها إذا لم يتمكنا من الصلاة إليها، وهذا كله لمراعاة وقتها، إذا فعل ذلك على ما أمر به سقط فرضه في

الباب كله مستمر - عندنا -؛ لأن الصلاة في وقتها بالتيمم أولى منها في غير وقتها بالوضوء. فإن قل: فجوزوا للحاضر أن يتمم ويصلي الجمعة إذا خاف فواتها مع الإمام إلى أن يفرغ من الوضوء بالماء؛ لأنه إن تشاغل بطلب الماء فاتته الجمعة مع الإمام، وكذلك يجب أن تجوز له الصلاة على الجنازة في الحضر بالتيمم إذا خاف فاتها. قيل: أما الجمعة فليس فيها نلب مالك، قد قال بعض أصحابنا: إن القياس يوجب ذلك، فعلى هذا لا يلزم السؤال، وينبغي أن يكن هذا سؤالا لأصحاب الشافعي؛ لأننا ألزمناهم في الموضع الذي يوجبون فيه التيمم والصلاة كما نوجبه فقلنا: كل من وجب عليه التيمم والصلاة سقط فرضه، كالمريض والمسافر، ونحن هم نقل: لا يجب عليهم التيمم للجمعة وإن خافوا فوات الجماعة والماء موجود؛ لأن الظهر هي الأصل، فإن فاته فرض الجماعة فليس يفوته وقت الظهر وهو قادر على استعمال الماء، ووقت الظهر باق، فمن كان قادرا على الماء وخاف إن تشاغل به فاته الجمعة مع الإمام فإنه لا يتيمم - عندنا وعند الشافعي -. فإن كان عادما للماء ووجب عليه التيمم فلا فرق ين الجمعة وغيرها في أن فرضها يسقط بصلاته بالتيمم إن خاف فوات الوقت المضيق؛ لأن التيمم قد وجب عليه كلف الصلاة، فلما وجب

عليه أن يتيمم ويصلي فعل ذلك سقط فرضه، وليس الكلام في هذه المسألة فيمن يقدر على الماء يخاف إن تشاغل به فات الوقت، وإنما الكلام في عادم الماء ولا يعرف له موضعا فيجب عليه التيمم والصلاة، فإذا فعل ذلك قلنا: سقط فرضه. فأما الذي يجد الماء في الحضر أو السفر فيخاف إن استعمله فات الوقت فإننا نقول: إن خاف فوات الوقت المضيق بتشاغله بالماء فإنه - عندنا - يتيمم ويصلي، والمخالف يقول: لا يتيمم مع جوده إلا أن يخاف على نفسه التلف باستعماله وإن خاف فوات الوقت، وقد قال مالك - رَحمَه الله -: فيمن جاء ماء وخاف إن عالجه طلعت الشمس وفاتته صلاة الصبح فإنه يتيمم ويصلي. وقد ذكرت اختلاف الرواية عنه فيه. فعلى هذا ينبغي أن يفصل، فإن كان عادما للماء أصلا فإنه إذا خاف فوات الوقت المختار يتيمم لكل صلاة جمعة كانت أو غيرها، في سفر أو حضر. وإن كان واجدا للماء يخاف بتشاغله أن يفوته الوقت المضيق فإنه - عندنا - يتيمم ويصلي ويسقط فرضه؛ لأن التيمم جعل لمراعاة الوقت، إما المختار وإما المضيق. وقد يجوز أن ي فرق بين صلاة الجمعة وغيرها فنقول: إن الحاضر الذي عليه صلاة الجمعة إذا عدم الماء وخاف فوتها مع الإمام فإنه لا يتيمم ويصبر حتى يجد الماء إلا أن يخاف فوات الوقت المضيق، مثل أن لا يصلوا الجمعة حتى بقى من لانهار قدر ثلاث ركعات ثم تغيب

الشمس فإنهم يصلون الجمعة، فإن خاف فاتها تيمم وصلى، سواء كان عادما للماء أصلا أو واجدا له يخاف إن اشتغل به فاتته الجمعة، فأما إن صلاها الإمام في الوقت الأول أو الأوسط فإن المأموم لا يصليها بالتيمم؛ لأن الظهر هي الأصل. ألا ترى إنها تجب على الحاضر والمسافر والعبد والمرأة، والجمعة لا تجب إلا على الحاضر الحر الذكر، فإن فاته الجمعة مع الإمام فإنما تفوته الجماعة، والوقت - الذي هو الظهر - باق لم يفته، وينتظر حتى يأس من الماء إلا أن يخاف أن يفوته الظهر المختار فيتيمم، وكذلك إن صلاها الإمام في آخر الوقت المختار لم يجد المأموم ماء فإنه يتيمم يصلي معه. فأما صلاة الجنازة فإن كان الحاضر واجدا للماء غير أنه إن توضأ فاتته صلاة الجنازة فإنه لا يصلي بالتيمم؛ لأنه ليس بها مخاطبا في عينه؛ لأن غيره ينوب عنه، وليست الجمعة والظهر كذلك؛ لأن كل إنسان مخاطب بها في نفسه، وليست على الكفاية كصلاة الجنازة، وإن كان عادما للماء أصلا هو ممن يلزمه التيمم لصلاة الفرض جاز له - عندي - أن يصلي على الجنازة كالمسافر. هذا هو القياس. وفرق مالك - رَحمَه الله - بين الحضر والسفر في صلاة الجنازة، فقال: المسافر إذا عدم الماء ووجب عليه التيمم للفرض جاز أن يصلي على الجنازة بالتيمم، وأما الحاضر فإنه يتيمم للفرض ولا يصلي على

الجنازة؛ لأن الفرض يتعين عليه في الحضر والسفر، وله وقت مخصوص يخاف فواته فهو آكد، وقد دخلت الرخص في السفر بخلاف الحضر، فيجوز أن يصلي على الجنازة في السفر بالتيمم، ولأجل خلاف الناس في صلاة الفرض في الحضر بالتيمم. فإن قيل: فما تقول إن تعينت عليه الصلاة على الجنازة في الحضر ولم يكن غيره، وخاف التغير على الميت ولا يقدر على الماء؟. قيل: قد ذكرت أن القياس يوجب الصلاة عليه. ويحتمل أن لا يصلي عليها؛ لأن من الناس من يجز الصلاة على القبر، وقدر روي ذلك عن مالك، فيدفن الميت، ثم إذا وجد الماء توضأ وصلى على القبر هو أو غيره. ويحتمل أن يصلي عليه ... إذا لم يكن غيره من يحمل الميت إلا من هو مثله في عدم الماء، وهذا هو القياس كالمسافر إذا عدم الماء. وقد جمعت في هذه المسألة الكلام على أبي حنيفة في أن

الحاضر إذا عدم الماء فإنه - عندنا - يتيمم ويصلي الفرض، وعنده - لا يتيمم ولا يصلي، ويكون الفرض في ذمته، والكلام على الشافعي في أنه يجب عليه أن يتيمم ويصلي كما نقول، وأن فره لا يسقط - عنده -، - وعندنا - يسقط. وذكرت الفرق بين الفرض وصلاة الجنازة، والتيمم في الحضر فاستغنيت عن إفراد المسائل في ذلك. ووجه قول مالك إنه يعالج الماء ويبلغ إليه وإن طلعت الشمس يوافق قول أي حنيفة، والحجة له هي حجة أي حنيفة. ووجه قوله يصلي بالتيمم ويعيد هو قول الشافعي، فما ذكرته من حجتهم هو حجه لهذه الراية، والله الموفق للصواب.

فصل

فصل فإن سئلنا على مذهب أبي حنيفة والثوري في صلاة الجنازة بالتيمم في الحضر إذا خاف فوتها مع وجود الماء مَسْأَلَة مبتدأة. قلنا: لا يجوز، وبه قال الشافعي وأحمد. والدليل لقولنا: الظاهر من قوله - تعالى -: {وإن كنتم مضى أو على سفر} إلى قوله: {فلم تجدوا ماء}، فعل التيمم بشرط المرض والسفر وعدم الماء، وهذا ليس بواحد منهم. ونورد أسئلتهم التي سألونا عنها في الحاضر يصلي الفرض بالتيمم. فإن قاسوا ذلك على الفرض فهم لا يقولون به في الفرض، وإن

ألزمونا ذلك على أصلنا فقد فرقنا بينهما بما تقدم. وإن قاسوه على المسافر لزمهم الفروض في الحضر؛ لأن في عدم الماء يجوز التيمم للفروض في السفر وللمسنون وللمستحب، والحكم في الحضر يختلف - عندهم -، ولا يجيزون التيمم للفروض لا للتطوع ويجوزونه لصلاة الجنازة إذا خاف فواتها. فإذا لم يجوزوا التيمم للفروض التي قد روعي فيها الوقت وهي متعينة على كل أحد ففي صلاة لجنازة أولى أن لا يصلي بالتيمم في الحضر. فإن قيل: إن لصلاة الجنازة فضيلة على سائر النوافل، حتى إنه قد اختلف فيها، فقيل: هي فرض على الكفاية، وقيل: سنة مؤكدة، فإذا خيف عيها الفوات واستدراك فضيلتها جاز التيمم لها.

قيل: إن الجمعة آكد منها، وهو إذا أدرك الركعة الآخرة مع الإمام خاف فوتها، ولم يجز له أن يتيمم - عندكم -، فإذا يجز مع خوف فوات الأوكد كان في الأضعف أولى أن لا يجوز. مع أننا قلنا: إنه لا وقت لها يفوت فيجوز أن يصلي على القبر. فإن قيل: فقد قيل: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جعلت علي الأرض مسجدا وطهورا فأينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت»، وهذا عام فقي جنس الصلوات، وفي الحضر والسفر، وصلاة الجنازة من جنس الصلوات فقد تناولها ظاهر الخبر. قيل: المقصود من الخبر بيان الفضيلة التي خص عليه السلام بها. ألا تراه قد قال: «أوتيت خمسا لم يؤتهن أحد قبلي»، فذكر هذا منها. على أنه لو ثبت العموم فهو مرتب على قوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء»، هذا واجد له، وعلى قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وهذا واجد للماء. فإن قيل: إن صلاة الجنازة تترك لا إلى بدل، فيجوز أداؤها في الحضر بالتيمم كرد السلام. ق قيل: صلاة الجنازة لا تفوت؛ لأن لا على - قلوكم - بدلين، إما

الصلاة عليها أو على قبرها. ثم لو كانت كرد السلام لجازت بغير طهارة أصلا، كما يجوز في رد السلام، فإذا أن قد شدد في صلاة الجنازة حتى حصل من شرطها أن تصلى بطهارة جاز أن تستوفي بشرطها. على أن هذا منتقض به إذا لم يخف فوتها. فإن قيل: فهو دعاء، فجاز أن تصلي بالتيمم. قيل: هو فاسد به إذا لم يخف فوتها، وهذا واجد للماء. وعلى أنه يلزم أن تجز بغير طهارة أصلا، ومستقبل القبلة ومستدبرها، وبغير سترة، كما يجوز في الدعاء. ثم نقلو: إن التيمم طهارة ضرورة، وصلاة الجنازة لا ضرورة بالإنسان إليها؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون وحده فيتوضأ ويصلي، أو يكون مع غيره ممن هو على [غير] وضوء، فإن ذلك الغير إذا صلى عليها كفى وسط من غيره. ونقول أيضا: هي صلاة تفتقر إلى القبلة مع القدرة، ولا وقت لها معين يخاف فواته، وهو واجد للماء لا يخاف استعماله فلم تجز بالتيمم، أصله صلاة الخسوف والاستسقاء، وغيرهما. ونقول: كل من لا يجوز له أن يصلي غير صلاة الجناة والعيدين لم تجز له صلاة الجنازة والعيدين، أصله إذا لم يتيمم

وهذه الأدلة تلزم الطبري. وأيضا فإن النبي عليه السلام صلى علا الجنائز فسميت صلاة، وقد قال: «لا صلاة إلا بطهور». وأيضا فإنها مفتقرة إلى التوجه والتكبير فهي كغيرها.

[61] مسألة

[61] مَسْأَلَة كل من خاف التلف من استعمال الماء جاز له تركه أن يتيمم بلا خلاف من فقهاء الأمصار. وأما إن خاف زيادة في مرضه أو تأخير برئه، أو حدث مرض وإن لم يخف من التلف فعندنا يجوز له أن يتيمم، وبه قال أبو حنيفة، وداود. وقال أبو يوسف ومحمد: يتيمم ويصلي وعليه الإعادة إن كان مقيما، وإن كان مسافرا فلا إعادة عليه. واختلف قول الشافعي، فقال مثل قولنا، وقال: لا يعدل

عن الماء إلا أن يخاف التلف. وقد روي عن مالك - رَحمَه الله - مثل هذا. وقال عطاء والحسن البصري: لا يستباح التيمم بالمرض أصلا، وإنما يجوز للمريض التيمم إذا عدم الماء، فإما مع وجوده فلا. والدليل لجواز التيمم وإن لم يخف التلف: قول الله - تعالى - {وإن كنتم مرضى أو على سفر} إلى قوله {فتيمموا}، ولم يفرق بين مرض ويخاف من التلف أو مرض يخاف زيادته، فهو عام في كل مرض وكل مريض إلا أن يقوم دليل. وأيضا قوله - تعالى -: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، أي:

ضيق، فنفي الضيق عنا في الدين، واستعمال الماء مع الخوف من زيادة المرض ضيق. وأيضا قوله - تعالى -: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، ومن العسر وجوب استعمال الماء مع خوف المرض أو زيادته. وأيضا قوله - تعالى -: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، وزيادة الضنى والعلة من التهلكة، فهو ممنوع منه ومن كل سبب يؤدي إليه. وأيضا قوله - تعالى -: {لا تقلتا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}، وزيادة المرض ربما أدى إلى قتلنا. وأيضا ما روى عن عمر بن العاص أنه قال: ولاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزاة ذات السلاسل، فاحتملت في ليلة باردة، فقلت: إن اغتسلت هلكت، فتيممت وصليت بالناس فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال «صليت بالناس وأنت جنب». فقلت: سمعت الله - تعالى - يقول {ولا تقتلوا أنفسكم}. فضحك النبي عليه السلام، لم يقل شيئا.

ففي هذا الخبر فوائد كثيرة. أحدها: جواز التيمم للخائف من استعمال الماء، وقد يقول الإنسان: هلكت ولم يمت لم يخف الموت، مثل من يقع في شدة فيقول: هلكت. والفائدة الثانية: جواز التيمم لجنب خلاف ما روي عن عمر، وابن مسعود. والثالثة: أن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأنه عليه السلام قال له: «صليت بالناس وأنت جنبي؟». والرابعة: جواز التيمم لأجل البرد.

والخامسة: أن التيمم يصلي بالمتطهرين. وأيضا ما ري في حديث جابر قال: خرج أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجابر فيهم - في غزوة، فأصاب أحدهم حجر فشجه، فاحتلم، فقال لهم: هل تجدون لي رخصة؟. فقالوا: لا نجد لك رخصة. فاغتسل فمات، فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره به، فقال: «قتله قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلما؛ فإن شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يعصب رأسه ويتيمم، أو يمسح على العصابة ويغسل سائر جسده»، وفي هذا دليل على جواز التيمم للمشجوج إذا خاف ضرر الماء، ولو كان الحكم يختلف فيه لبينه عليه السلام، وقال: إنما كان يكفيه أن

يتيمم إن خاف التلف من استعمال الماء، وفي الابتداء لم يعلم له كان يخاف التلف أو الزيادة في العلة؟. وفي ها الخبر أيضا دليل على جواز المسح على العصائب. وفيه أيضا دليل على أن الغسل والتيمم لا يجتمعان في وجوبهما عليه في حالة واحدة. ونقول أيضا: إنه يستنصر باستعمال الماء فيجب له جواز التيمم. أصله إذا خاف التلف. وأيضا فإنه إذا خاف التلف جاز له التيمم فكذلك إذا خاف زيادة المرض؛ لأن خوف التلف موجود فيه؛ إذ لا تلف إلا من زيادة المرض. أيضا فإن الرخص كلها تستباح بلحوق المشقة، ولا تقف على خوف التلف، كالفطر وترك القيام في الصلاة، وما أشبه ذلك، فإن المريض يفطر إذا شق عليه الصوم، ولا يجوز أن يقال له لا تفطر حتى تخاف التلف، وكذلك إذا شق عليه القيام في الصلاة جاز له القعود وإن لم يخف من القيام التلف، كذلك المريض يتيمم للمشقة وخوف المرض أو الزيادة فيه إن استعمل الماء، وكذلك المضطر يأكل الميتة إذا لحقه الجوع الشديد وإن لم يخف التلف، وكذلك خائف اللصوص وقطاع الطريق والخوف من الجراح وأخذ المال قد رخص له في ترك الحج، وحرمة النفس أعظم من حرمة المال، فإذا كانت الرخص على ما قلنا، والأصول تشهد له صح ما قلناه. فإن قيل: آية التيمم لا حجة لكم فيها من وجهين:

أحدهما: إنها تضمنت حكم المريض العادم للماء، نحن نجوز له التيمم، ومسألتنا غير هذه، وهي في المريض الواجد للماء، وليس في الآية حكمه. والوجه الآخر: هو أن ابن عباس - رحمة الله عليه - فسر الآية فقال: المراد بالمريض القرح المجروح الذي يتلف من مس الماء. قيل: أما الوجه الأول فساقط باتفاق، وبالظاهر أيضا؛ لأن من لم يجد الماء فالتيمم له جائز لعدمه الماء لا لأجل المرض، وإنما خص المريض بالذكر ليخص بالحكم، فيكون مرضه في جواز التيمم مخالفا للصحيح، سواء وجد الماء أو عدمه، وإلا فهو داخل في جملة المحدثين إذا عدموا الماء مسافرين وغيرهم.

وأما تفسير ابن عباس فلا يلزم؛ لأنه لم يذكره عن الله - تعالى -، ولا عن رسوله، والظاهر أولى من التفسير؛ لأنه ليس بمجمل فيحتاج إلى تفسير. على أن قوله: الذي يتلف من مس الماء لا يعلمه إلا الله، وهذا قطع على أنه يتلف من مسه وإنما يغلب على ظنه أنه يتلف، وقد يغلب على ظنه زيادة في المرض تجر إلى التلف، فأسباب التلف أيضا ممنوع من فعلها كما يمنع من التلف، وما ذكرناه من الرخص وشهادة الرخص أولى. فإن قيل: قياسكم على الخائف من التلف لا معنى له؛ لأنه يخاف التلف، ومن خاف الزيادة في المرض لم يخف التلف، وقد يباح عند خوف التلف ما لا يباح عن عدمه. وقولكم: إن الخوف من الزيادة في المرض كالخوف من التلف؛ لأن سبب التلف هو الزيادة في المرض فليس من مسألتنا؛ لأن الذي يخاف زيادة في المرض وهي مؤدية إلى التلف يجوز له التيمم - عندنا، وإنما كلامنا فيمن يخاف زيادة في المرض فقط، مثل: أن يكون في رجله قرح إن أصابه الماء زاد في وجعه ومرضه، ولا يخاف التلف من زيادته. قيل: قولكم: إن من خاف الزيادة في المرض لم يخف التلف فإنه ليس كذلك؛ لأن كل عليل خائف من التلف يخوفه تزايد علته، وهذا كله اجتهاد، وقد يعلم أن من بدا به المرض يخاف الموت ما لا يخافه وهو صحيح، فكلما تزايد مرضه تزايد خوفه، كله مخافة الموت. وقولكم: إن كلامنا فيمن يخاف زيادة المرض فقط فإن هذا أمر لا

يعلمه إلا الله - تعالى -، كل من خاف زيادة المرض لا يتحقق زيادة تقف دون زيادة تزيد وتقوى فتؤدي إلى التلف، بل الطباع مجبولة على أن أول العلة يخاف معها التزايد الذي يؤدي إلى التلف، والحذر كله من الموت، ومن برجله قرح يخاف تزايده يمس الماء، فليس يخاف تزايده إلا خيفة أن تؤدي إلى التلف. فإن قيل: هذا يلزم في المحموم والمصدع. قيل: الغالب من أمر المحموم المصدع أن ينفعه الماء. ألا ترى أن النبي عليه السلام قال: «اكسروها بالماء»، وليس كلامنا فيمن لا يخاف استعمال الماء، ولا فيمن يستشفى بالماء، وإنما كلامنا فيمن يخاف أن يحدث به مرض، أو يخاف زيادة مرضه فقد أرخص الله له - تعالى - أن يعدل إلى الرخص، كما ذكرناه في فطر العليل وتركه القيام في الصلاة المفروضة. فإن قيل: الفرق بين فطر المريض وتركه القيام في الصلاة وبين

تيممه حيث قلنا له: لا تتيمم وأنت واجد للماء إلا أن تخاف الماء من استعماله من وجهين. أحدهما: أنه إنما جاز له أن يفطر وإن لم يخف التلف على نفسه إذا لحقته المشقة في الصوم؛ لأن للمسافر أن يفطر إذا لحقته في الصوم مشقة وإن لم يخف التلف، ولما لم يجز للمسافر الواجد للماء أن يتيمم إلا إذا خاف التلف من استعمال الماء، كذلك المريض مثله، فيجعل حكم المريض كحكم المسافر في الفطر والتيمم جميعا؛ لأن الفطر مباح للمريض والمسافر كما يباح التيمم للمريض والمسافر. الفرق الثاني: وهو الفقهي أن المريض إنما جاز له أن يفطر ويقعد في الصلاة عن لم يخف التلف منه على النفس؛ لأن عذره موجود في الحال متحقق؛ لأن وجود المشقة في الصيام والقيام حاصلة، فكان له أن ينتقل عنه، وليس كذلك في مسألتنا إذا خاف زيادة المرض؛ لأنه لم يتحقق العذر الذي هو زيادة المرض، وإنما يخاف وجوده فيما يأتي، وقد يوجد وقد لا يوجد، فلما لم يتحقق العذر لم يجز له أن يتمم إلا في الموضع الذي هو تعزير بالنفس، وهو أن يخاف التلف؛ لأن التغرير بالنفس ممنوع منه. قيل: أما الفرق الأول فغلط، ولا فرق بين المسافر والمريض، لأن المسافر إن خاف من استعمال الماء حدوث مرض جاز له أن يتيمم وإن لم يخف التلف، كما يجوز له إن خاف التلف، كالمريض سوءا فسقط هذا الفرق. وأما الفرق الثاني وقولكم: إن المريض عذره موجد متحقق؛ لأن

وجود المشقة في الصيام والقيام في الصلاة حاصلة، وأن الزيادة في المرض لا يتحقق فإن هذا ليس بشيء، وليس فطر المريض إلا لرجاء برئه أو خوف زيادة مرضه. ألا ترى أن المشقة في الصيام تلحق الصحيح ولا يجوز له الفطر حتى يخاف مرضا يحدث - عندنا -، أو يخاف التلف من الصوم، وإنما الاعتبار مشقة تؤدي إلى المرض أو التلف. وعل أن المريض الخائف من استعمال الماء عذره في المرض موجود متحقق، وما يخافه من الزيادة هو المراعى، كما أن مرضه موجود وخوفه من الصوم مراعى، فلا فرق بينهما. فإن قيل: فقد روى في حديث أبي ذر أن النبي عليه السلام قال: «الصعيد الطيب ضوء المسلم ول لم يجد الماء عشر سنين، فإذا جد الماء فليمسه بضرته»، فأمره بإمساس الماء البشرة إذا جده، ولم يفرق بين أن يخاف التلف، أو الزيادة في المرض، أو كيف ما كان، فهو على عمومه حتى يقوم دليل.

قيل: هذه الآية مرتبة على قوله - تعالى -: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} أي من ضيق، واستعمال الماء للمريض الذي يخاف هو من أشد الضيق. مرتبة أيضا على قوله - تعالى -: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، من أشد العسر استعمال الماء الذي تخاف منه زيادة المرض. ومرتبة على قل النبي عليه السلام في المشجوج: «إنما كان كيفيه أن يتيمم». ويؤيد هذا: ما ... ذكرناه من الرخص وشهادة الأصول والقياس الذي يخص الظاهر، فيصير تقدير قول النبي عليه السلام: «فليمسسه بشرته»، إذا لم يخف الضنى وزيادة المرض، كما لو خاف التلف. فإن قيل: فإنه واجد للماء لا يخاف من استعماله التلف فوجب أن لا يجوز له التيمم ولا يعتد به. أصله إذا كانت به حمى أو صداع. قيل: إن كان الصداع يصره الماء البارد الشديد البرد حتى يخاف

منه تزايد الصادع فله أن يتيمم، فإما أو كان الصداع من شدة الحمى ينفعه الماء فإنه يستعمله، وكذلك الحمى التي تكسر بالماء، فالمعنى في هذا النوع أنه لا يخاف مرضا ولا زيادة فيه، بل هو ينفعه. فإن جعلوا العلة في الصحيح. قيل: إن كان الصحيح يخاف أن تحدث به علة، مثل النزلة من شدة برد الماء إن اغتسل وهو جنب، أو يخاف حمى فإنه يتيمم، وإن لم يخف شيئا من ذلك فالمعنى فيه أنه غير خائف، وليس كذلك المريض الذي يخاف تزايد ما به؛ لأن تزايده من أسباب التلف، وقياسنا أولى بشهادة الأصول له. فإن قيل: إن الله - تعالى - ما أباح للمريض التيمم إلا وأباح للمسافر التيمم؛ لأنه قال: «{وإن كنتم مضى أو على سفر}، ثم تقرر أن المسافر الواجد للماء لا يجوز له أن يتيمم إلا عند الخف من التلف. قيل: عن هذا جوابان: أحداهما: أن المسافر إذا خاف العطش فليس يخاف التلف، وليس كل عطش يخاف منه التلف، وله أن يحبس الماء خوف العطش، والإنسان لا يعلم مقدار ما يحدث له من العطش، فينبغي أن يكن المرض الخائف من حدوث المرض أو تزايده، كالخائف من العطش أو تزايده.

الجواب الآخر: هو أن المسافر لو لم يخف العطش، وخاف استعمال الماء لحدوث مرض فإنه يتيمم، فلم يلزم ما ذكروه. ووجه قول مالك في الرواية الأخرى أنه لا يتيمم إلا عند خوف التلف ما ذكرته من الحجاج للمخالفين، والله أعلم. وقد تضمن حجاجنا فيما مضى من الكلام على عطاء والحسن فتؤخذ من خبر عمرو بن العاص حين ولاه النبي عليه السلام الغزاة، وأنه تيمم لما خاف التلف، وأخبر النبي عليه السلام بذلك، فقال له: «أصليت بالناس وأنت جنب؟» فاحتج بالآية، فتيمم مع وجد الماء، ولم ينكر عليه، ولا أمره بالإعادة. وبما ذكرناه أيضا من تغيير الفروض بلحوق المشقة وإن لم يخف معها التلف، مثل الصائم يفطر وإن لم يخف التلف إذا كان مريضا يخاف الصوم، ومثل صلاته جالسا وإن لم يخف التلف من القيام، ومثل ما ذكرناه من قطاع الطريق وترك الخروج إلى الحج، والسعي إلى الجمعة، ففيه كفاية، والله التوفيق. وما قاله محمد وأبو يوسف من أنه وإن كان مقيما تيمم وصلى وأعاد تكون الحجاج عليه ما احتججنا به على الشافعي في الحاضر إذا عدم الماء فتيمم وصلى؛ لأنه قد أدى ما كلف ووجب عيه من التيمم والصلاة، وكل من صلى على ما أمر به سقط فرضه ولم تجب عليه الإعادة، والله أعلم.

[62] مسألة

[62] مَسْأَلَة عند مالك - رَحمَه الله - أن من كان معه من الماء ما لا يكفيه لغسله من الجنابة، مثل أن يكفيه لبعض أعضائه، ولا يكفي الباقي فإنه يتيمم ولا يجب عليه استعماله، وكذلك لو كان معه ما يكفي بعض أعضائه في الوضوء، ولا يكفي جميع أعضائه فإنه يتيمم ويترك الماء الذي لا يكفيه. وبه قال أبو حنيفة، والمزني، والشافعي في أحد قوليه، وهو القديم. وقال في الحديد: يستعمل الماء في بعض أعضائه ويتيمم للباقي.

والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} إلى قوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}، فأمر - تعالى - بغسل الأعضاء وبطهارة جميع البدن في الجنابة، ولم يذكر بأي شيء يغسل ويتطهر، فلما قال: {فلم تجدوا ماء} علمنا أنه أراد غسل جميع ذلك بالماء، وعلمنا أن بعدم ما كيفي غسل ما تقدم ذكر يجب الغسل، ومن معه ماء كفي لبعض ما أمر بغسله فإنه غير واجد لما يكفي ما تقدم ذكره، فوجب عليه التيمم؛ لأنه بدل الماء المقصود به غسل جميع الأعضاء. فإن قيل: السؤال عليكم من هذه الآية من وجوه: أحدها: أن الله - تعالى - لو أراد عدم ما يكفي جميع تلك الأعضاء التي قدم ذكرها لعرفه بالألف اللام، فقال: فلم تجدا الماء؛ لأن إعادة المذكور كذا يكون معرفا، فلما قال: {فلم تجدوا ماء} ونكره كان شائعا في كل ماء، قليلا كان أو كثيرا. والسؤال الثاني: هو أنا لا نخالفكم في وجوب التيمم، وإنما خلافنا في الماء القليل قبل التيمم. والثالث: أن الآية حجة لنا، والمعنى فيه: فلم تجدوا ماء أصلا، فإنه غير قادر على استعماله أصلا، فلهذا يكون فرضه

التيمم، ليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه واجد الماء قادر على استعماله، فكان فرضه استعماله. قيل: عن هذا أجوبة. فأما السؤال الأول فساقط؛ لأن الله - تعالى - لم يذكر في أول الآية بأي شيء تغسل، بماء أو غيره. فلم يجر الماء ذكر فيحتاج إلى إعادته بالتعريف فردد منكرا، ونبهنا - تعالى - بذكره أنه أراد غسل الأعضاء بماء دون غيره من المائعات، ولكنه ماء يكفي الأعضاء التي تقدمت. ألا ترى أنه لو صرح فقال: فلم تجدوا ماء يكفيكم لتلك الأعضاء فتيمموا لصح. وعلى أنه لو ذكر - تعالى - في أول الآية ماء منكرا، ثم قال: فلم تجدوا ماء لم يجب أن يعرف بالألف واللام؛ لأنه لو عرف لصار الأمر مقصورا على ماء بعينه من بين سائر المياه، فأعاد بلفظ منكر؛ ليعلمنا أننا إذا عدمنا ماء من المياه يكفينا لجميع الأعضاء وجب التيمم، ومثل هذا: قوله - تعالى -: {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} فأراد باليسر الثاني غير ما أراد باليسر الأول، ولها قال ابن عباس رضي الله عنه: لن يغلب عسر يسرين. ومثل هذا من الكلام لو قال قائل لغلامه: اطلب لي خياطا يخيط

لي قميصا وجبة وقلنسية، فإن لم تجد خياطا فجئني بكذا. لكان كلاما صحيحا، ولم يجز أن يقول له: فإن لم تجد الخياط؛ لأنه يصير معرفا في إنسان بعينه. وأما السؤال الثاني واتفاقنا على التيمم فإن الآية تقتضي أننا إذا عدمنا ماء يكفي جميع الأعضاء التي تقدم ذكرها وجب التيمم، فإذا لم نعدم ماء هذه صفته، وإنما عدمنا وجب أن لا نتيمم، فلما أجمعنا على وجوب التيمم سقط وجوب استعمال الماء الذي لا يكفي. وأما السؤال الثالث: فإن دليل الخطاب يلزم؛ لأنه قال: فلم تجدوا ماء أصلا فتيمموا، فدليله أنا إذا وجدنا ماء أي ماء كان لا نتيمم، وهذا واجد لماء على ما تذكرون فوجب أن لا يتيمم، فلما قلتم: يتيمم، علمنا أن المراد فلما تجدوا ماء يكفيكم فتيمموا وهذا غير واجد لماء كيفيه فوجب أن يتيمم، ويترك الماء الذي لا يكفيه؛ لأنه إن استعمله وتيمم ترك حكم الآية. فإن قيل: فإن الله - تعالى - قال: {فاغسلوا وجوهكم}، فمن قدر على غسل وجهه توجه الخطاب إليه بالأمر، فينبغي أن يستعمل القدر الذي يتهيأ له من الماء في غسل وجهه فقوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، أباح التيمم بشرط العدم، والوجود يمنع منه.

قيل: إن الله - تعالى - لم يقتصر على غسل الوجه دون باقي الأعضاء. ألا ترى أنه لم يذكر الماء حتى ذكر غسل الأعضاء كلها، وفرغ من ذكر حكم طهارة الجنابة، ثم قال: {فلم تجدوا ماء}، فثبت أنه أراد ماء للحكم الذي تقدم ذكره، فلا فرق بين ذكر الوجه وبين غيره من المذكور؛ لأن حكم الجميع حكم واحد في أن الطهارة لا تتم إلا بجميعه، فهي في حكم العضو الواحد، فعلمنا أنه أباح التيمم عند عدم الماء الذي تعلق الحكم به في الطهارتين جميعا. وقولكم: إن الوجود يمنع العدم فإننا نقول: إنما الوجود لماء يكفي الطهارة كلها يمنع التيمم، وليس ها هنا ماء هذه صفته، وقد كان أيضا ينبغي على ما تقولون أن لا يجوز التيمم أصلا؛ لأن الوجد الحاصل ينفيه، لما أوجبتم التيمم سقط حكم الماء الموجود. فإن قيل: إنما أوجبنا التيمم عبد استعمال هذا القدر من الماء في بعض أعضائه، ثم يصير عادما لما يكفي باقي الأعضاء فيجب عليه أن يتيمم. قيل: هذا لا يلزم من وجهين: أحدهما: أن الأمر بغسل الأعضاء كلها قد تقدم على فعلنا جملة الطهارة، وذكر كيف الحكم فيها، فلما انقضى ذكرها قال: وإن كنتم يا محدثين مأمورين بالطهارة على غير هذه الصفة في وجود الماء الذي

تتطهرون به فاعدلوا إلى التيمم، ولم يقل: فاغسلوا بماء فإن لم تجدوا بعد ذلك ماء لباقي الأعضاء فتيمموا. والوجه الثاني: هو أنه كان يجب إذا غسلنا وجوهنا أن نمسح أيدينا حسب بالتيمم، فلما قلتم: إنه يتيمم تيمما تاما علمنا سقوط ما ذكرتم، وأن ذلك الماء لم يفد شيئا؛ لأن التيمم الذي هو بدل في عدم الماء الكافي للأعضاء كلها مقصود بحاله. ولنا أن نستدل بقول النبي عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأينما أدركتني تيممت وصليت»، وهذا عام، سواء وجد ماء أو لم يجده إلا أن تقوم دلالة. فإن أوردوا الآية فقد تكلم عليها ما تقدم ذكره. فإن قيل: فقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي ذر: «التيمم طهور المسلم ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسسه بشرته»، ففيه دليلان: أحدهما: يفيد كونه طهورا بشرط عدم الماء. والثاني: إيجاب إمساس بشرته بالماء عند الوجود، ولم يفرق بين ماء قليل يكفيه أو لا يكفيه.

قيل: قوله عليه السلام: «التيمم طهور المسلم ما لم يجد الماء»، فعرف الماء بالألف واللام: لأنه منكر في آية الوضوء، فالمراد به ما يكفي لجملة الوضوء، فلما عرفه بالخبر علمنا أنه مشار به إلى المعهود، وهو الكافي للوضوء أو لغسل الجنابة. وقوله: «فليمسه بشرته» يدل على ما قلناه أيضا؛ لأنه لم يقل: فليمسه بعض بشرته، فالظاهر منه أنه إذا جد ماء يكفيه لإمساس بشرته كلها استعمله، ودليله أنه إذا وجد ماء يكفي بعض بشرته يستعمله، فسقط ما ذكروه. ونقول أيضا: إنه لا ي قدر على رفع حدثه بها القدر من الماء فوجب أن يكون فرضه التيمم، كما لم يجد الماء أصلا. وأيضا فإنه لا يلزمه الجمع بين البدل والمبدل منه جميعا. ألا ترى أن الواجد لبعض الرقبة هو عادم للبعض، فصار كالعادم للكل في أن فرضه الصيام، ولا يعيق بعض الرقبة المقدور عليه، كذلك أيضا العادم لبعض الماء كالعادم للكل. ونقول أيضا: قد اتفقنا على أنه لو عدم جملة الماء وجب عليه التيمم بدلا عن الأعضاء كلها، وكذلك إذا وجد بعض الماء وجب أن يتيمم عن الأعضاء كلها؛ بعلة أنه حدثه غير مرتفع بهذا التيمم. فإن قيل: فإنه واجد للماء لا يخاف من استعماله فوجب أن يلزمه استعماله، أصله إذا وجد ما يكفيه. وأيضا فإن كل جملة صح أن يتيمم عنها صح أن يتيمم عن

بعضها، أصله البدن في الجنابة، فنقيس جواز التيمم للرجل على جواز التيمم للأعضاء الأربعة؛ لأن الرجل هي بعض الأعضاء الأربعة، كما أن الأعضاء هي بعض جميع البدن؛ لأن الجنب حدثه متعلق بجميع البدن، وهو يتيمم فيمسح وجهه ويديه. قيل: أما إذا وجد ماء يكفيه لجميع أعضائه فإن حدثه يرتفع، وإذا استعمل الماء القليل وتيمم لم يرتفع حدثه، فلم يجز رده إليه، وكان رده إلى من لا يجد الماء أصلا حج لأن التيمم لا يرفع حدثه. وقيل قولكم: إن كل جملة صح أن يتيمم عنها صح أن يتيمم عن بعضها باطل به إذا لم يجد الماء أصلا، فإنه يصح أن يتيمم عن الأربعة الأعضاء ولا يصح أن يتيمم عن بعضها، وكذلك إذا لم يجد الماء أصلا تيمم عن الجنابة، فيمسح وجهه ويديه، ولا يصح تيممه عن وجهه دون يديه، لو مسح وجهه ويده ونوى به عن يديه حسب لم يجزئه، وإن كان لو نوى به الجميع أجزأه. فإن قيل: إن حكم كل عضو غير متعلق بعضو آخر، بل لكل عضو حكم نفسه. ألا ترى أنه لو قطع شيء من أعضائه لم ي سقط فرض الطهارة عما لم يقطع من أعضائه، كذلك أيضا العجز عن طهارة بعض الأعضاء لا يكون عجزا عن طهارة جميع الأعضاء. قيل: عن هذا أجوبة: أحدها: أن قطع العضو يسقط حكمه في التيمم والطهارة بالماء جميعا، ولم يجز إذا وجد ماء لجميع بدنه أن يجمع بين استعمال الماء

وبين التيمم؛ لأن الماء يرفع الحدث، فإذا وجد بعض الماء الذي لا يرتفع معه الحدث صار في حكم من لا يجده أصلا. والجواب الآخر: هو أن لكل عضو حكما في نفسه في باب الغسل الذي هو الفعل، ولكن الطهارة لا تتم به دون غيره. ألا ترى أنه لو بقي عليه عضو واحد لم يغسله مع قدرته لم تعم الطهارة، وكذلك لو مسح وجهه في التيمم دون يديه مع القدرة لم يستبح الصلاة، ثم لو قطعت إحدى يديه أو رجليه وغسل الباقي ارتفع حدثه. وكذلك لو قطعت إحدى يديه وعدم الماء فمسح وجهه ويده الباقية لاستباح الصلاة، وهو مع وجود اليد المقطوعة بخلاف ذلك، وإنما كلامنا في أن لا يجتمع الغسل والتيمم في حال واحدة؛ لأن استعمال الماء القليل في بعض الأعضاء لا يرفع الحدث، ولا بد معه من التيمم، فلم يستفد باستعمال الماء شيئا؛ لأن التيمم الذي هو بدل عن جميع الأعضاء لا بد منه؛ لأن حدثه غير مرتفع، بمنزلته لو لم يجد الماء أصلا. والجواب الآخر: هو إذا غسل وجهه بالماء القليل وتيمم ومسح وجهه ويديه فقد حصل وجهه مغسولا ممسوحا عن كان للوجه حكم نفسه، فيكفي فيه غسله، لا يحتاج إلى مسحه بالتراب؛ لأن حكم نفسه بالغسل قد زال ومضى، فينبغي أن يكون المسح فيما لم يغسل، فيكون للمغسول حكم نفسه، وللممسوح حكم نفسه. فلما قلتم: يمسح الوجه بالتراب بعد غسله علمنا أنكم لم تجعلوا له حكما في نفسه في إحدى الحالين، بل جمعتم له حكمين: أحدهما: الغسل، والآخر: المسح

- الذي هو حكم اليدين - ولا يجوز أن يجمع في عضو واحد المبدل والبدل؛ إذ لو جاز في واحد من الأعضاء لجاز في جميعها، ليس جمع الغسل والمسح في الوجه - والحد لا يرتفع - بأولى من أن يجمع في اليدين تيممين والحدث غير مرتفع، فبان سقوط ما ذكروه. فإن قيل: فإننا ما ألزمناه الجمع ين المبدل البدل، إنما يتيمم عن الرجل التي سقط عنها الغسل، ولا يتيمم عن الذي غسله، كما نقول: إذا كان جنبا تيمم عن جميع البدن بأن يمسح وجهه ويديه، وإن كان محدثا فحدثه متعلق ببعض تلك الجملة - أعني البدن في الجنابة، ثم يتيمم فيمسح وجهه يديه، فجاز له أن يتيمم لبعض جملة البدن، كما جاز لجملة البدن، كذلك لما جاز التيمم للأعضاء الأربعة جاز التيمم لبعضها، وهو الرجل. قيل: إن الجنب إذا لم يجد الماء تيمم فمسح وجهه ويديه سقط حكم باقي بدنه فلم يجتمع فيه غسل ومحس، بل سقط جملة، فناب عنه مسح الوجه واليدين. فوزان هذا أن لا يجتمع ي عضو واحد من الأربعة الأعضاء يتيمم فيمسح وجهه ويديه، يسقط حكم رأسه رجليه، ليس كذل إذا غسل وجهه ثم تيمم، يمسح وجهه ويديه، لأنه يجتمع في الوجه الغسل المسح جميعا، وهذا مبدل وبدل في عضو واحد فلم يلزم.

ما ذكرتموه من وجد بعض الرقبة في الكفارة وعدم البعض لا يلزمنا؛ لأنه دعوى بلا دليل. على أن الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن صيام الشهرين - اللذين هما بدل عن الرقبة في الكفارة - لما لم يجز أن يكونا عدلا عن بعض الرقبة لم يلزمه أن يأتي ببعض الرقبة وبالصوم، لما جاز التيمم - الذي هو بدل عن جميع البدن - أن يكن بدلا عن بعض البدن، كذلك أيضا جاز أن يقع عن بعض الأعضاء الأربعة، وهو الرجل. الفرق الثاني: هو أنه لا يستفيد بعتق بعض الرقبة إذا أتى بصوم شهرين شيئا، لا في هذ ... هـ الكفارة ولا كفارة أخرى؛ لأنه إذا وجد تمام الرقبة في كفارة أخرى لم يبن على البعض الذي مضى في الكفارة الأولى، فلهذا لم يلزمه عتق بعض الرقبة، فكان فرضه الصيام أو الإطعام، وليس كذلك في الماء؛ لأنه يستفيد باستعمال الماء الذي وجده، وهو أنه إذا وجد الماء الذي يتمم به غسل باقي الأعضاء غسل به العضو الذي لم يغسله وبني عليه، وارتفع حدثه فلهذا لزمه. قيل: أما ما ذكرتموه أنه دعوى بلا دليل فمحال؛ لأننا قلنا: إن البدل والمبدل لا يجتمعان، كما أن بعض الرقبة هو مبدل فلا يجتمع معه الصيام، كذلك غسل الوجه بالماء القليل لا يجتمع معه التيمم؛ لأن الماء القليل مبدل، والتيمم بدله.

وأما الفرق الأول فليس بشيء؛ لأنه لم يجز أن يجتمع في الكفارة عتق هو مبدل، وصيام هو بدل، بل يسقط حكم بعض الرقبة أصلا، وعدل إلى البدل الذي هو الصيام، كذلك يجب أن يسقط حكم الماء القليل في الطهارة، يعدل إلى التيمم الذي هو بدل، ولا يجتمع في الوجه غسل هو مبدل مع مسح هو بدل، وقد ذكرنا أن التيمم في الجنابة يسقط حكم سائر البدن أصلا فلا يجتمع فيه غسل ومسح، لأن الخلاف فيه واحد، فكذلك يسقط حكم الماء القليل أصلا في الوجه، ويعدل إلى التيمم الذي هو البدل، ولا يجتمع في الوجه غسل في الوضوء ومسح في التيمم. وأما الفرق الثاني فليس بشيء أيضا؛ لأن الذي استعمل الماء القليل في بعض الأعضاء، ويتيمم لتلك الصلاة لو وجد عند صلاة أخرى ماء قليلا يكفي باقي أعضائه التي لم يغسلها في الصلاة الأولى لم يبن؛ لأن تفرقة الوضوء - عندنا - لا يجوز في صلاة واحدة فكيف في صلاتين، وحدثه قائم في الأولى بالتيمم الذي كان منه، فلا هو يستفيد بالأولى شيئا إذا تيمم، ولا في الثانية، وهو يتيمم، لأن حدثه باق كما كان. فإن قيل: إن الطهارة شرط من شرائط الصلاة لا تصح دونه، فوجب أن يكون العجز في بعضها لا يسقط الفرض في باقيها كتسر العورة.

قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن ستر العورة ليس من شرائط الصلاة التي تختصها، فإنما هو فرض في الجملة يستر عورته عن أعين المخلوقين، والطهارة من فروض الصلاة تختصها. وأيضا فإنه إذا صلى بعض الصلاة بغير سترة، ثم وجد السترة في خلالها استتر وبنى على صلاته، فعروض هذا أن يتيمم ويصلي بعض الصلاة ثم يجد الماء فينبغي أن يستعمله لباقي صلاته، - ونحن وأنتم - لا نقول هذا. وإن استعمل الماء وتيمم ثم دخل في الصلاة ثم وجد ماء يكفيه لما بقي من أعضائه يجب أن يستعمله ويبني على صلاته، وأنتم لا تقولون هذا أيضا. فإن قيل: فإن الطهارة عبادة على البدن، يؤتى بها جزءا فجزءا، لا تجمع أفعالا متغايرة، فوجب أن يكون العدل إلى البدل عن الأصل فيه لا يصح إلا عند العجز عن كمال الأصل. دليل ذلك: الصلاة لا يسقط عنه ما قدر عليه من الركوع والسجود لعجزه عن القيام، ولا يسقط القيام لعجزه عن الركوع. قيل: ... هذا غلط؛ لأننا قد بينا أن عجزه عن الماء المأمور به لجملة الطهارة يدخل تحت شرط العدم. وأيضا فإن العاجز في الصلاة عهن ركن من أركانها يأتي بدله حسب مع عجزه عنه، ولا يحتاج إلى بدل لما لم يعجز عنه، وأنتم

توجبون على هذا تيمما كاملا مع استعمال الماء في وجهه، فيجتمع في وجهه غسل ومسح، ولم يكن عاجزا عن غسل الوجه وقد غسله، فكان ينبغي أن يبقى عليه بدل غسل يديه حسب، فلما أوجبتم عليه التيمم الكلي الذي هو بدل عن غسل جميع الأعضاء علمنا أن غسل وجهه لم يفده شيئا. وعلى أن هذا ينعكس عليكم بوجود بعض الرقبة في الكفارة؛ لأنه ينبغي أن لا يسقط حكم ما وجده من الرقبة وقدر عليه من أجل مالا يقدر عليه، كما قلتم في الصلاة. ولنا أن نقول: إن التيمم بدل عن الماء، وعدم بعض الأصل كعدم الأصل. دليل ذلك: الرقبة في الكفارة إذا ملك بعضها ولم يقدر على الباقي صار حكم ما قدر عيه مها في حكم عدم الكل، فوجب العدول إلى البدل وترك استعمال ما يجده منها. فإن قيل: إنما عدل إلى الصوم في الكفارة مع وجود بعض الرقبة؛ لأن اسم رقبة لا يتناول بعض رقبة، والماء القليل يتناوله اسم ماء كما يتناول الكثير. قيل: إن أردت اسم ماء يكفي لعضوين يقع على اسم ماء يكفي لأربعة أعضاء، فإن ها محلا، وقد بينا أن المارد بقوله: {فلم تجدوا ماء} يكفي للوضوء وللجنابة، والكلام معكم في الحكم، فالتفرقة بالأسماء لا معنى له. ألا ترى أنه - تعالى - قال في الكفارة: {فمن لم يد فصيام شهرين متتابعين}، فأصناف اسم جنس الصيام

إلى الأصل المذكور، فل قال قائل: أنا إذا صمت يوما أو شهرا فإنه يقع عليه اسم صوم، كما يقع على صوم شهرين اسم صن فأجوز بعض الصيام إذا قدر عليه واستعمل الإطعام عن الباقي، وأفرق بينه وبين الرقبة؛ لأن بعضها لا يتناوله اسم رقبة، وصوم يوم من شهرين يتناوله اسم صوم لكان قوله ساقطا؛ لأننا نقول له: إذا ... أضيف اسم الجنس إلى شيء فالمقصود الاسم على الصفة التي وصف عليه، فكذلك قوله: {فلم تجدوا ماء}، أي ماء يكفي الوضوء فتيمموا، فالمقصود أنه دم ماء هذه صفته. وعلى أن ذلك الخاطب يقتضي أن لا يتيمم مع وجود الماء القليل، فإن قام دليل جواز التيمم زيادة على الماء جاز على أن يقوم دليل على إسقاط الماء. والاكتفاء بالتيمم؛ إذ حدثه لا يرتفع مع استعمال الماء والتيمم. فإن قيل: فقد روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرجل الذي أصابته شجة واحتلم، فسال بعض الصحابة: هلي من رخصة؟. فلم يرخص له في المسح فاغتسل فمات. . الحدث إلى قول النبي عليه السلام: «إنما كان يكفيه أن يتيمم أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده»، فأخبر النبي عليه السلام عن المع ين التيمم والغسل بالماء لما قدر عليه، والمسح على ما عجز عنه. قيل: هذا كلام في مَسْأَلَة أخرى خارجة عن مسألتنا؛ وذلك أنه إن كان قادرا على غسل أكثر بدنه عاجزا عن غسل أقله، فإنه يمسح

على ما يعجز عن غسله، ويغسل الأكثر، ويصير في حكم المغتسل لزوال حدثه، فلا يكن لتيممه معنى؛ لأن لا يرتفع الحدث، وما مسح عليه وغسل الباقي قد ارتفع حدثه بذلك، كما لو مسح على خفيه مع غسل بعض أعضائه لم يحتج معه إلى تيمم؛ لأن حدثه قد ارتفع. ولو كان أكثر بدنه جريحا لا يستطيع غسله، ولم يبق منه إلا يد أو رجل صحيحة فإنه يتيمم حسب لا يلزمه غير ذلك، فثبت أن الحديث لم يرد لما ظننتموه. على أنه قد روي فيه: «إنما كان يكفيه أن يتيمم أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده»، فأفرد التيمم عن المسح والغسل، لا دلالة لكم في الخبر؛ لأننا نقول: إنه لا يجمع بينهما. فإن قيل: وجدنا الأبدان على ضربين: ضرب منها يتبعض، وضرب لا يتبعض، والماء مما يتبعض في الاستعمال في العرف والدين، والرقبة لا تتبعض، فوجد الجزء من المتبعض في منع بدله كوجود الكل. يدل على ذلك: أن من وجد شيئا من طعام حلال يقع موقعا لكنه لا يشبع، ولا لكل الجوع يدفع، فإنه بالإجماع يبدأ بالحلال فيتناوله، ثم يصله بما قد أبيح للضرورة إن دامت حاجته إليه، كذلك في مسألتنا. قيل: هذا غير صحيح في التشبيه؛ وذلك أنه قد استوى في سد

الرمق الحلال والحرام. ألا ترى أن الماء النجس والماء الطاهر في شربهما للضرورة على منزلة واحدة، وقد اختلف حكمهما في الطهارة حتى جعل بدل الماء النجس التيمم إذا عدم الماء الطاهر، ولم يجز استعمال الماء الطاهر والماء النجس في الطهارة. ثم إن ها ينقلب عليكم في الوضوء والتيمم جميعا؛ لأنه مع استعمال الماء الذي يكفي لغسل وجهه لا يتمه بالتيمم الذي هو بلد عند الضرورة، وإنما يأتي بالتيمم الكامل على صفته لو لم يجد ماء أصلا. وأيضا فإن التراب - عندكم - شرط في التيمم، وهو مما يتبعض، ولو لم يقدر منه على ما يمسح به وجه فقط، مثل أن يكون في بحر ولا يقدر على ماء، ولا يجد من التراب ولا ما يكفيه لضربة واحدة لوجهه فإنه لا يجب عليه استعمال الضربة لوجهه؛ لأنها لا تفيده شيئا، وهذا هو بدل مما يتبعض وهو عبادة على البدن. وأيضا فإن ما ذكرتموه على الإطلاق يتبعض في الصوم؛ لأن صوم التتابع في الشهرين هو بدل على البدن، وهو يتبعض في الشهرين؛ لأن صيام يوم ويومين هو بعض الشهرين، كما أن غسل الوجه بماء كيفيه هو بعض ما يكفي الكلم، وهو أيضا بعض الأعضاء، فإذا لم يكن واجد الماء القليل في حكم من عدم الكل لزم الذي يقدر على الكل، فيلزمه صيام ما قدر عيه وأن يتمه بالإطعام، وبكل الإطعام أيضا في كفارة الظهار، فلما لم يجب ذلك فكذلك في مسألتنا.

فإن قيل: لما كانت المعتدة متى قاربت حد الإياس، وقد اعتدت بقرء، ثم خرجت بعده من الحيضة إلى الإياس فإنها تعتد بالأشهر، فتكون جامعة بين البدل والمبدل منه فكلك لا يمتنع أن يكون الذي يجد بعض ما يكفيه لوضوئه جامعا بين البدل والمبدل منه. فإن قيل: هذا مع أنه دعوى منتقض بالذي يقدر على نصف رقبة ولا يقدر على باقيها؛ فإنه لا يلزمه عتق نصف رقبة وصيام شهر، وكذلك لو عجز عن الرقبة وقدر على إطعام ثلاثين مسكينا وعلى صيام شرهي لم يلزمه الجمع بينهما. ومع هذا فإن العدة بالشهور ليست بدلا، بل هي أصل في نفسها، والحيض أصل في نفسه، والوضع من الحمل أصل في نفسه. فالعدة بالأقراء لمن عادتها الحيض، والعدة ثلاثة أشهر لمن لم تحض واليائسة من الحيض، والوضع للحامل، وأربعة أشهر وعشرة أيام للمتوفى عنها زوجها، وليست واحدة من ذلك بدلا عن الأخرى. وعلى أن التي حاضت حيضة لم تقطع على عدتها في الابتداء، ولو تيقنت عدتها لعملت عليها، فهي تعمل على الظاهر، ولا تقطع على حقيقة ذلك إلا بعد انقضائه. فعروض مسألتنا أن يكون من معه ماء قليل يغلب علة ظنه أنه يكفيه، ثم لا يكون كذلك فإنه يعدل إلى التيمم الذي هو بدل، ولو تحقق من أول أمرة أنه لا يكفيه لم يجب عليه استعماله ووجب التيمم الذي هو بدل.

فإن قيل: فيجب استعماله لعله إلى أن يستعمله يقدر على ما يتمم به طهارته فيبني عليه. قيل: هذا يلزم في واجد بعض الرقبة فإنه يعتقها، ثم يجوز، يملك الباقي فيبني عليه، وكذلك يلزم في الصيام لبعض الشهرين والإطعام، وبالله التوفيق.

فصل

فصل إذا كان أكثر بدنه جريحا لا يقدر على استعمال الماء عليه، ولم تبق له إلا يد ورجل فإنه يسقط عنه غسل ذلك ويتيمم، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يغسل الصحيح منه ويتيمم. والأصل في هذا الفصل ما قدمنا ذكره في المسألة التي تقدمت إذا كان معه ماء قليل لا يكفيه لطهارته فإنه لا يلزمه استعماله ويتيمم؛ لأن استعماله لا يفيده شيئا، إذ لا بد له من التيمم الذي قد جعل بدلا عن الكل، فلا يجمع شيء من المبدل مع البدل. فإن قيل: فقد قال الله - تعالى - {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى آخر الآية، فلا يسقط فرض ما قدر عليه من أجل ما عجز عنه.

قيل: لم يذكر الله - تعالى - في الآية الجمع بين استعمال الماء والتيمم، إنما ذكر الماء إذا قدر عليه أو التيمم مع عدمه وتعذر استعماله، وهذا ممن قد تعذر عليه استعماله في جملة الأعضاء أو أكثرها، فصار من أهل التيمم لا من أهل الماء. ولنا أن نقول: إن التيمم بدل عن الطهارة بالماء، فلا يجوز الجمع بين الأصل والبدل الذي مناب جملته مفردا، كالرقبة في كفارة الظهار. فإن قيل: هو منتقض بالمسح على الخفين والجبائر مع غسل الباقي. قيل: هذا لا يلزم على اعتلالنا؛ لأننا قلنا: لا يجوز جمع الأصل مع البدل الذي ينوب مناب جملته مفردا، والمسح على الخفين والجبيرة ليس هما بدلا ينوب في الإفراد عن جميع الأصل. وأيضا فإن الخفين بدل من غسل الرجلين اللتين تحتهما، لا بدلا عن جملة الأعضاء، فالحدث يرتفع وإن مسح على الخفين والجبيرة، وليس كذلك التيمم؛ لأنه بدل عن الجملة، ألا ترى أنه لو لم يجد ماء أصلا كان هذا التيمم هو البدل والحدث غير مرتفع. وأسئلة هذه المسألة هي أسئلة المسألة التي تقدمت فتنقل الأجوبة هناك إلى الأسئلة ها هنا، وبالله التوفيق.

[63] مسألة

[63] مَسْأَلَة ومن نسي الماء في رحله حتى تيمم وصلى أعاد في الوقت. وروي عن مالك أنه لا يعيد، وإن أعاد فحسن. وروى المدنيون عنه أنه يعيد أبدا. وبهذا قال الشافعي في قوله الجديد، وبه قال أبو يوسف. وبالرواية الأولى أنه لا إعادة عليه قال أبو حنيفة محمد، الشافعي في قوله القديم. والدليل لقوله لا إعادة عليه: قول الله -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وهذا تيمم وهو غير واجد، فدخل تحت الأمر، سواء نسي

الماء في رحله أو لم يكن في رحله؛ لأنه قد طلب طلب مثله فلم يجد، ولم يكلف إصابة الماء، وإنما كلف الطلب. وش قول الني عليه السلام: «جعلت لي الأرض مشدا وطهورا، فأينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت»، وهذا عام سواء الماء في رحله أو لم يكن في ملكه. وأيضا فإن الاعتبار في الماء بالقدرة على استعماله لا بالماء. ألا ترى أن المسافر إذا لم يقدر على الماء جاز له أن يتيمم ويصلي وإن أن الماء في ملكه بحيث لا يقدر عليه، مثل أن يحول بينه وبينه بلد آخر، أو غير ذلك، فإذا ثبت ذلك فالناسي للماء في رحله لا يوصف بأنه قادر عليه وعلى استعماله فلم تلزمه الإعادة. وأيضا فإنه لو كان في برية، وطلب الماء حوله وبقربه، فلم يجده ولم يقف عليه، فتيمم وصلى ثم ظهر له بقربه بئر فيها ماء فإنه فلا إعادة عليه، كذلك إذ ظهر له الماء في رحله. وأيضا فقد ذكرنا فيما تقدم أن كل من لزمه فرض التيمم والصلاة، فتيمم وصلى على ما كلف لم تلزمه الإعادة، ولا خلاف أن هذا ممن قد لزمه التيمم والصلاة، وفد فعل ذلك فلا إعادة عليه. وش فإنه معر في نسيانه، فهو كمن لم يكن في ملكه، أو كان مريضا يخاف التلف من استعمال الماء، فكل معذور في تيممه إذا صلى

لم تلزمه الإعادة قياسا عليه إذا لم يكمن في ملكه أو كان مريضا. فإن قيل: قوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وقول النبي عليه السلام: «الصعيد وضوء المسلم ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسسه بشرته»، فأباح - تعالى - هو ورسوله عيه السلام التيمم إذا لم يجد الماء، ومنع منه إذا وجده، وإنما يقال: لم يجد إذا طلب فلم يجد، وأما إذا لم يجده من غير طلب فإنه لا يقال له: لم يجده، وإنما يقال: لم يصبه، أو ليس عنده، فإذا ثبت ذلك فالذي نسي الماء في رحله لا يقلا له: لم يجد الماء؛ لأنه لم يطلبه، وأول الطلب يكون من رحله، ثم ما حوله، فلم يعتد بتيممه وصلاته. قيل: هذا قد طلب طلب مثله، وبدأ برحله، والإنسان قد يعتقد الشيء في رحله فيطلبه وينسى وموضعه، فهو طالب له فلم يجده، فصار عادما له بعد أن طلبه، فهو غير واجد. على أن الإنسان قد ينسى أن في رحله ماء، فيطلب من حوله فلا يجد، وهذا قد طلب من غير رحله فلم يجد، وأنتم تقولون: إذا نسي الماء في رحله، واجتهد في الطلب من غير رحله فلم يجد وتيمم وصلى فإنه يعيد الصلاة، مع أنه قد اجتهد في الطلب من غير رحله فلم يجد، فصار ظاهر الآية حجة لنا وحجة عليكم. فإن قيل: فإن التيمم بدل عن مبدل، لو كان عالما قادرا على مبدله لم يعتد به، فوجب إذا كان ناسيا له أن لا يعتد به. أصله إذا نسي أنه قادر على الرقبة فصام لم يعتد بصومه.

قيل: الفرق بين الموضعين: هو أنه قد يجوز أن يعدل عن الماء إلى التيمم مع وجود الماء على وجه ماء، ولم يجز العدول عن الرقبة مع وجودها عل وجه ما، فبان بهاذ أن الرخصة قد تدخل في ترك الماء مع وجوده لعذر، ولا تدخل الرخصة في ترك الرقبة مع وجودها، فبان الفرق. وأيضا فإن التيمم روعي فيه خوف فوات وقت الصلاة، وليس للرقبة وقت يخاف فواته، فلهذا أعاد عتق الرقبة، ولم يعد الصلاة، والله أعلم. فإن قيل: فإنه أمر متعلق بالطهارة فوجب أن يكون الناسي منه كالعامد في وجوب الإعادة، كالمتطهر بالماء النجس لا فرق بين أن يستعمله ناسيا أو متعمدا في أن عليه الإعادة. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن الماء النجس لم يجز استعماله في الطهارة على وجه، لا مع القدرة ولا مع العجز، قد جاز التيمم مع وجود الماء الطاهر على وجه. الجواب الآخر: هو أن الماء لا يتنجس - عندنا - إلا بتغير أحد أوصافه، فهو أمر متيقن يبعد أن ينسى صاحبه كنه نجسا، وإن كان يجوز أن يستعمله مستعمل على طريق الجهل. فإن قيل: قد وجدنا شرائط الصلاة كلها مبينة على أن لا فرق بين

أن يتركها ناسيا أو عامدا في إيجاب الإعادة، مثل الاستقبال للقبلة، وستر العورة، وإزالة النجاسة، والتكبير، والقيام، والركوع والسجود وغير ذلك، فكذلك الطهارة بالماء. ألا ترى أنه لو نسي نفس الطهارة لكان كتركها عامدا ي وجوب إعادة الصلاة، فكذلك نسيانه الماء كتركه عمدا في وجوب إعادة الصلاة. قيل: إن أصل التيمم إنما أبيح لمراعاة الوقت - أعني الصلاة الذي يخاف فواته - فأي موضع يخاف فوت الصلاة فيه مع تعذر الماء عليه لزمه التيمم، والذي نسي الماء في رحله، ولا يجد غيره يخاف فوت وقت الصلاة الحاضرة فلزمه التيمم باتفاق، كالمسافر لا يجد الماء، وكالمريض الخائف من استعمال الماء، وليس كذلك ما ذكرتموه من سائر الأوصاف؛ لأن تلك لازمة، سوءا خاف فوات الصلاة أم لا، فبان الفرق. ألا ترى أن المتمتع إذا لم يحضره يسر، وهو موسر ببلده فإنه يدل إلى الصيام، فيصوم ثلاثة أيام في الحج خوف فواتها، لا يعيد إذا قدر على الرقبة بعد ذلك. على أن سرت العورة - عندنا - ليس بفرض، وكذلك إزالة النجاسة، والذي نسي القبلة أيضا فصلى إلى غيرها إن ذكر بعد

خروج الصلاة لم تلزمه الإعادة. على أن هذه الأشياء إذا نسيها فإنه لم يأت بها لا ببدلها، والذي نسي الماء قد أتى بالبدل الذي هو التيمم، ولا يلزم على هذا من نسي الطهارة بالماء والتيمم جميعا؛ لأنه لم يأت ببدل، وكذلك من نسي القيام والركوع والسجود وغير ذلك، فلم يلزم ما ذكرتموه. فإن قيل: قولكم: إن الاعتبار في جواز التيمم بعدم القدرة على استعمال الماء لا بعدمه في الملك إلى آخر الفصل فإننا نقول: إنما يعتبر جواز التيمم بعدم القدرة على الماء إذا لم ينسب هو في ترك تلك القدرة إلى التفريط. فأما إذا نسب في ترك تلك القدرة إلى التفريط فلا يكن كعدم القدرة، بل يكن كوجود الدرة عليه، والإنسان إذا كان في ملكه ماء في بلد آخر، ولا ماء معه في موضعه فإنه يتيمم؛ لأنه غير منسوب إلى التفريط في ترك هذه القدرة، فأما من نسي الماء في رحله فهو مفرط في ترك هذه القدرة - وإن كان لا يقدر على استعماله - فلم يكن كعدم القدرة عليه. وأما ما ذكرتموه من البئر يظهر عليها بعد تيممه وصلاته فإننا نقول: لا فرق بين البئر وبين ناسي الماء في رحله؛ وذلك متى كان مفرطا فيه لزمته الإعادة، ومثل أن يكون قد عرف تلك البئر أصلا، فإننا ننظر فيه، فإن كان مفرطا في طلبها، مثل أن يكون لها أعلام لا تخفى، وعليها أمثال وآثار مثلها تعلم، ففرط في طلب ذلك فإن عليه الإعادة، وإن كانت البئر في موضع خفي مغطى بشيء حيث لا يعثر

عليه فلا إعادة عليه، واعتبار طلب الماء في الرحل على هذه الصفة متى كان مفرطا في طلبه فعليه الإعادة، وإن لم يكن مفرطا فلا إعادة عليه، فإذا كان ذلك سقط ما ذكرتموه ولم يلزمنا. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أننا على هذا الوجه متفقون؛ لأننا نقول: إن طلب في رحله طلب مثله فلم يجده، هر أنه قد خبأه في موضع خفي عليه عند الطلب، فإنه غير مفرط، فلا إعادة عليه، وإن ترك الطلب أصلا في رحله فإنه مفرط وعليه الإعادة. والجواب الآخر: هو أن يكون نسي أن في رحله ماء أصلا، كان عنده أنه لا ماء عنده، فطلب من غير رحله فلم يجد فإن هذا أيضا لا إلى يكون مفرطا؛ لأن النسيان عذر أتاه من قبل الله - تعالى -، فكان عنده أنه لا ماء في رحله، فلطلب من جهة أخرى، فلم يفرط فيما على من الطلب، فصار بمنزلة من غلب على ظنه أنه لا ماء في هذه الجهة، فطلبه من جهة أخرى فلم يجد، وليس عليه أن يطلب الماء من جميع الجهات، وإنما هو على ما يغلب على ظنه أنه يجده في تلك الجهة، فيكون الخلاف ها هنا واقعا، في الأول اتفاق. والأولى عندي أنه إن لم يتعرض لطلب الماء في رحله أصلا أن يكون مفرطا عليه الإعادة، ويكون ها وجه قول مالك: إنه يعيد أبدا. ويكون وجه قوله: لا إعادة إذا طلبه في رحله فلم يجده؛ لأنه خفي موضعه من رحله فلم يفرط، والله الموفق.

ويجوز: أن نحرر لموضع الخلاف قياسا فنقول: قد تيمم لعذر هو عجز عن استعمال الماء حين خاف فوات الوقت فلم تجب عليه الإعادة. أصله المريض المسافر إذا لم يجد الماء، ورد المعذور بالتيمم إلى مثله أولى من غير جنسه، وبالله التوفيق.

فصل

فصل قد مضى [في] الكلام في الصلاة على الجنازة في الحضر بالتيمم إذا خاف فوات الكلام على أبي حنيفة، وفي آخر الكلام عن الشعبي الطبري لم أستقصه. ورأيت أن أفرده ها هنا، وذلك أن الشعبي وابن جرير الطبري يقولان: صلاة الجنازة غر مفتقرة إلى الطهارة أصلا، لا بالماء ولا بالتيمم، وليست عندهما صلاة وإنما هي دعاء. قالا: هي كالصلاة على الني عليه السلام. ألا ترى إنها لا تفتقر إلى ركوع ولا سجود فلم تفتقر إلى الصلاة. والوجه أن يدل على أنها تسمى صلاة، والدليل على ذلك: ما روي أن النبي عليه السلام صلى على النجاشة وكبدا أربعا، وما روي أنه عليه السلام صلى على مسكينة.

وروي أنه عليه السلام صلى على شهداء أحد، وروي عنه لم يصل. وروي أنه صلى على حمزة، فإذا ثبت إنها تسمى صلاة، فقال الله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}، فأمر بغسل هذه الأربعة الأعضاء لمن قام إلى الصلاة، والألف واللام في الصلاة للجنس، فهو عموم في كل ما يسمى صلاة إلا أن تقوم دلالة. وأيضا قول النبي عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور»، فهو عام في كل

صلاة ما لم يمنع منه دليل. وقال: «لن تجزئ عبدا صلاته حتى يسبغ الوضوء». وأيضا فإن كل عبادة افتقر افتتاحها إلى التوجه إلى القبلة والتكبير فإنها مفتقرة إلى الطهارة، أصله سائر الصلوات. وفإن صلاة الجنازة مفتقرة إلى التوجه، وستر العورة، وإزالة النجاسة، والتكبير، وقطع الكلام فيها، وكذلك هي في وجوب الطهارة مثل سائر الصلوات. وأما قولهم: إنها لم تفتقر إلى ركوع وسجود ولم تفتقر إلى طهارة، فإننا نقول: الصلوات تختلف، فمنها أربع ركعات، ومنها ثلاث، ومنها ركعتان، ومنها ركعة - هي الوتر -، ومنها ما فيه ركوعان ومنها ما لا ركوع فيه ولا سجود كالطواف، وقال عليه السلام: «الطواف بالبيت صلاة»، فليس من أجل خلافها للصلوات ما يخرج عن جميع

أحكامها. ألا ترى أنها شاركت الصلوات في التوجه والتكبير والسلام فهي مثلها في الطهارة. فأما إلى الصلاة على النبي عليه السلام فإنها قول لا فعل. ألا ترى أنها لا تفتقر إلى شيء مما في الصلوات من الأفعال فلم تفتقر إلى الطهارة، والله أعلم.

[64] مسألة

[64] مَسْأَلَة اختلف أصحاب مالك - رَحمَه الله وإياهم - في المهدوم عليه والمربوط على خشبة تحضرهم الصلاة. فذكر ابن القاسم أن عليهم إعادة الصلاة. وهذا يدل أنهم يصلون في الوقت بالإيماء، ويعيدون إذا قدروا؛ لأنه لم يقل يقضون، وإنما قال: يعيدون. وأيضا يعيد من قد صلى، وظاهر قوله يعيدون واجبا. وقال أشهب: لا إعادة عليهم:، وظاهر هذا يدل على أنهم يصلون في الوقت، فيحتمل أن يصلوا واجبا، ولا إعادة، ويحتمل أن يريد يصلون استحبابا ولا إعادة عليهم. وعندي أنهم إن كانا على طهارة فغنهم يقدرون على الصلاة إيماء، فيجب عليهم أن يصلوا على حسب قدرتهم، كالمريض والمسايف، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول ابن القاسم في الإعادة أنها مستحبة، وإن لم يقدروا على استعمال الماء ولا التيمم لم يصلوا ولا إعادة عليهم. ويحمل قول أشهب على أنهم يصلون استحبابا ولا إعادة عليهم، ويحتمل أن يصلوا واجبا ولا إعادة عليهم. وحكي عن أبي حنيفة أنهم لا يصلون ولا إعادة عليهم، وهذا الذي اختاره.

واختلف قول الشافعي في هل يصلون في الوقت على طريق الوجوب أو الاستحباب، ولم يختلف قوله في أن عليهم الإعادة. وقال المزني: يصلون واجبا ولا إعادة عليهم. وقد يحتمل قول أشهب مثل هذا. ووجه القول أنه لا تجب عليهم الصلاة ولا القضاء: لقول النبي عليه السلام: «لا قبل الله صلاة بغير طهور»، وهذا دليل على سقوط حكمها إذا صلى بغير طهور، وإذا سقط عنه أن يصلي بغير طهور،

وعقله معه، وهو ذاكر غير ناس لم يجب القضاء، كالمراهق والحائض. وكذلك قوله عليه السلام: «لن تجزئ عبدا صلاته حتى يضع الوضوء مواضعه» وهذا غير قادر على ذلك. وقوله عليه السلام لعمار: «إنما كان يكفيه هكذا» في التيمم حين لم يقدر على استعمال الماء، فيدل أن غير ذلك لا يكفيه جملة، ولم يقل: إنما كان يكفيك أن تصلي إن لم تقدر على الماء والتيمم. وأيضا فإنه ممن معه عقله، وقد عجز عن استعمال الماء والتيمم بأمر لا يمكنه دفعه، فأشبه الحائض. فإن قيل: الحائض مع قدرتها على الماء لا تصلي، وليس كذلك هذا، فالحائض ليست عاجزة. قيل: عجزها عن استعمال الماء بالشرع، وعجز ذلك بعدم القدرة، ولا يخرجهما أن يكونا عاجزين، وإن افترق وجه عجزهما. ويجوز أن يستدل باستصحاب الحال، فإن ذمته بريئة من وجوب شيء حتى يقوم دليل. وأيضا فلو وجب عليه ابتداء الدخول أن تسقط فرضه، فلما قالوا: لا تسقط فرضه لم يجب عليه كالنوافل. وأيضا فلو وجب عليه أن يبتدئ الصلاة حتى يتمها ويقضي،

لأوجبنا عليه صلاتي فرض من جنس واحد، في يوم واحد، كظهرين وعصرين، وهذا لا يجوز، فكيف وقد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ظهرين في يوم» يعني واجبتين. ووجه قول المزني الذي يحتمله قول أشهب: هو أن كل من أدى الفرض على ما كلفه لم يلزمه قضاؤه، كالمستحاضة، ومن به سلس البول، والعاجز عن أركان الصلاة يصلي على حسب حاله، وكذلك المسايف والمسافر يحبس الماء خوفا على نفسه العطش يتيمم، كل هؤلاء إذا صلوا على حسب تمكنهم لم تجب عليهم الإعادة. فإن قيل: الدليل على أنهم تلزمهم الصلاة في وقتها والقضاء إذا

قدروا: قوله - تعالى -: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}، وهو عام في كل أحد، إلا أن الفرض لا يسقط؛ لقوله عليه السلام: «أو صلاة إلا بطهور». قيل: هذا الخبر يقضي على الآية، فصار تقدير قوله - تعالى -: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} إذا كنت طاهرا، وقوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور»، أي لا يصلي بغير طهر، وإن أراد لا حكم لصلاة فلا حكم لها في أن تبتدأ ولا تجزئ. فإن قيل: فإنه مكلف أدرك الوقت فوجب أن تلزمه إقامة فرض الوقت، كالمريض والمعذور ومن عجز عن القيام والقراءة وغيره لمرض قيل: إن أردتم أنه مكلف لهذه الصلاة على هذا الوجه ففيه اختلفنا، وإن أردتم عن علقه معه، فقولكم: تلزمه إقامة فرض الوقت فإنه لا فرض عليه في هذا الوقت إلا أن يقدر على الضوء أو التيمم، وفي هذا أيضا اختلفنا. فأما المريض العاجز عن القيام وغيرهم فإنما لزمهم أن يصلوا إن كانوا على طهارة، فأما لو لم يقدروا على الوضوء والتيمم فإن حكمهم حكم المربوط الذي تحت الهدم. فإن قيل: إن المربوط قادر على الركوع والسجود وإنما الحائل منعه منه.

قيل: كلامنا فيه إذا لم يقدر على لطهارة أصلا، فإن كان المربوط والذي تحت الهدم على طهارة أو يمكنه الوضوء والتيمم فواجب عليهم أن يصلوا في الوقت ولا إعادة عليهم كالمسايف. ووجه قول ابن القاسم على ما خرجناه من وجوب الإعادة: هو أن الله - تعالى - قد أوجب على العاقل البالغ من المسلمين الصلاة لوقتها فلا تسقط عنه إلا بدليل، وعجزه عن الطهارتين جميعا ومعه عقله، وليس ممن يحيض لا يسقط عنه حكم الصلاة؛ لأنه إذا عجز عن فرض الصلاة وعقله معه لم يسقط عنه حكمها، فعجزه عن شرط أخذ عليه الصلاة. قيل: الدخول فيها أولى أن لا يسقط حكم الصلاة. ألا ترى أن المريض إذا لم يقدر على القيام والمسايف وغيره ممن لا يقدر على الركوع والسجود لا يسقط عنهم أحكام الصلاة. وأيضا فإن النائم قد غاب عقله حتى خرج وقت الصلاة لم يسقط عنه حكمها، فمن معه عقله وهو ممن يصح منه أداؤها في الحال لو كان على طهر أولى أن لا يسقط عنه حكم الصلاة، والله أعلم. فإن قيل: على الوجه الأول إن قولكم: لو كان يلزمه الدخول فيها لوجب أن يسقط فرضه باطل بمن أدرك الإمام في السجود، وبمن أفسد حجه يلزمه المضي ولا يسقط فرضه. قيل: هذا لا يدخل في على ما ذكرناه؛ لأنه لا يجب عليه أن يدخل مع الإمام في السجود، ولو دخل معه لم يكن هذا القدر مما يعتد به لو كان على طهارة؛ والصلاة كلها إذا دخل فيها يعتد بها لو كان طاهرا.

والذي أفسد حجه لو كان في الابتداء لم يدخل فيه، وهذا توجبون عليه أن يدخل في الصلاة مع إنها لا تجزئه فلم يشتبها. فإن قيل: إن قولكم: هذا يؤدي إلى إيجاب ظهرين في يوم فإننا نقول: هذا غير ممتنع، كما إذا فاتته صلاة من خمس صلوات ونسيها فإنه يصلي خمس صلوات. قيل: هذا يصلي خمس صلوات مختلفة حتى يصيب تلك الصلاة، وفي مسألتنا توجبون عيه أن يصلي الظهر على أنه يعيدها بعينها واجبا، وهذا إيجاب ظهرين في يوم واحد فلا يجب، والله الموفق.

[65] مسألة

[65] مَسْأَلَة من كتاب المسح على الخفين اتفق العلماء - مالك منهم - على جاز المسح على الخفين. ورويت عن مالك - رَحمَه الله - فيه روايات، والذي استقر عليه مذهبه ومذ ... هب أصحابه جوازه. ومذهب الخوارج أنه لا يجوز أصلا؛ لأن القرآن لم يرد به. وقالت الشيعة: لا يجوز؛ لأن عليا رضي الله عنه امتنع منه. والدليل لقول الفقهاء: ما روي عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطرق

التي اشتهرت وظهرت، وعن الصحابة الذين كانوا لا يفارقونه في الحضر والسفر. فممن نقل ذلك عنه عليه السلام: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وخزيمة بن ثابت،

والمغيرة بن شعبة، وصفوان بن عسال، وأبو بكر ة،

وأبي بن عمارة - رضي الله عنهم - وقد صلى النبي عليه السلام في بيته

القبلتين، وبلال - خادم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جرير بن عبد الله، وأنس بن

مالك - وهو خادم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان صبيا، وغير هذه الطائفة ممن يكثر عددهم، حتى قال الحسن البصري: إنه روي المسح على الخفين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعون نفسا، فنقلوه فعلا منه عليه السلام، وقولا، وأمرا لغيره في الحضر والسفر، في أحوال مفترقة، وبألفاظ

مختلفة. منها ما بدأ هو بفعله، ومنها أجوبة عن أسئلة سائلين، حتى جرى ذلك مجرى التواتر، وخرج عن طريق خبر الواحد. ثم عملت الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك في حياته وبعد وفاته، وهو قول أبي بكر، وعمر،

وعثمان، وعلي، وابن عباس،

وعائشة، وسعد، وزيد بن ثابت، والصحابة كلهم،

ولم يرد بعضهم على بعض ذلك، بل كان من لم يسافر معه عليه السلام يحيل على من سافر، كقول عائشة للسائل: ائت عليا فإنه كان يسافر مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعلم كيف المسح. ومنهم من كان يسافر معه عليه السلام، ثم يبعد عنه، فحيل على من قرب منه، مثل علي وبلال وأنس والمغيرة، فإن هؤلاء ممن كان يختصه لفطانته وخدمته، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك. فإن قيل: فقد قال الله - تعالى -: {وأرجلكم إلى الكعبين}، فنصبها عطفا على غسل الوجه واليدين، فوجب أن يكون الفرض فيه الغسل. وأيضا فإن المسح في ظاهر القرآن ورد في الرجلين حسب دون الخفين بقوله: {وأرجلكم}، بالخفض عطفا على الرأس. قيل: الجواب عن السؤال الأول في الآية من وجهين: أحدهما: إنها قرئت بالنصب، وقرئت بالخفض، فيحمل النصب على غسل الرجلين، والخفض على المسح على الخفين؛ لأن الآية تقتضي المسح. والجواب الثاني: أن قوله: {وأرجلكم} منصوب عام فيمن كان لابسا للخف ومن لا خف له، فنحمله على من ليس بلابس للخف.

وأما السؤال الثاني عن كان في الآية ذكر الرجلين إلا ذكر الخفين، فإنه لا يمتنع أن يرد القرآن ذكر شيء، ترد السنة بجواز الشيء آخر. فيكون بيانا للمراد بظاهر الآية، فيصير تقدير القراءة بالخفض: وامسحوا برؤوسكم وخفافكم، ويجو أن يعبر عن الخف إذا كانت الرجل فيه بالرجل، كقوله - تعالى -: {وقرآن الفجر}، أراد صلاة الفجر، فعبر عن الصلاة بالقرآن؛ لأنه يكون فيها. ويجوز أن يكون تقدير الآية أيضا: وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إن اخترتم مباشرتها بالماء، وإن اخترتم فامسحوا على الفخين؛ بدليل مسح النبي عليه السلام على خفيه، وأمره بذلك. ومن الدليل على صحة قولنا: ما رواه سفليان عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام عن جرير بن عبد الله البجلي أنه توضأ ومسح على الخفين. فقيل له أو تفعل ل؟ فقال كيف قد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك؟. فقيل له: قبل المائدة أو بعدها؟. فقال

سبحان الله، وهل أسلمت إلا بعد المائدة، هذا نص: لأن سائر أخبارنا يحملونها على أن مسحه كان قبل نزول المائدة، وأن الآية نسخت ذلك، هذا بعد المائدة. وأيضا فإن حديث المغيرة بن شعبة الثابت الذي لا يتداخله شك أنه كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غزاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذهب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاجته، فاتبعه المغيرة بماء، فسكب عليه فتوضأ ومسح على خفيه.

رواه الزهري عن عباد ابن زياد من ولد المغيرة عن المغيرة. ورواه الزهري أيضا وغيره عن حمزة بن المغيرة عن المغيرة.

ورواه الشعبي عن عروة بن المغيرة عن المغيرة. ورواه نافع بن جبير بن مطعم عن عروة بن المغيرة عن المغيرة.

ورواه الأشعث بن سليمان عن الأسود بن هلال عن المغيرة. فتفقت الروايات وغيرها مما لم نذكره عن المغيرة عنه عليه السلام بالمسح على الخفين في غزوة تبوك، وهي آخر الغزوات، فيسقط بهذا قول من يقول: إن آية الوضوء مدنية، والمسح منسوخ بها؛ لأنه متقدم؛ لأن غزوة تبوك آخر غزاة كانت بالمدينة، والمائدة نزلت بالمدينة قبل هذه الغزاة.

فإن قيل: إن إجماع الصحابة معنا. فروي عن علي أنه ابن القاسم: ما أبالي أمسح على الخفين أو على ظهر عير بالفلاة. وروي عن أبي هريرة أنه كره ذلك. وروي عن عائشة - رحمها الله - إنها قلت: لأن تقطع رجلاي

أحب إلي من المسح على الخفين. وروي عن ابن عبسا أنه قال كسبق كتبا الله المسح على الخفين. وروي أن أبا مسعود البدري: قال مسح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على

الخفين. فقال له علي عليه السلام: قبل المائدة أو بعدها؟ فسكت أبو مسعد، فدل علي أن الخبر منسوخ بقوله: {وأرجلكم إلى الكعبين}؛ لأنه في المائدة، وبين علي أن المسح قبلها. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أنه لم ينقل عن أحد منهم نقلا صحيحا أنه قال: لا يجوز. والجواب الآخر: أننا نسلم ما حكي عنهم، ولكنهم رجعوا عنه، لأننا قد روينا فعلهم وفعل الأئمة منهم عبد النبي عليه السلام، والمسح بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون، وكيف يمتنعون منه وقد روينا عنهم ذلك، ولكن المسح على الخفين كان بالمدينة قليلا؛ لقلة حاجتهم إليه؛ لأن أرض الحجاز يقل فيها الرد الذي يحتاج معه إلى لبس الخفاف، ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - للسائل ائت عليا فإنه أن يسافر مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أكثر مسحه ومسحهم على الخفاف إنما هو

في الأسفار التي يحتاج فيها إلى لبس الخفاف، كما روي أن الطائفة التي اشتد عليهم البرد في سفرهم فأمرهم عليه السلام بالمسح على العصائب والتساخين. والعصائب: العمائم، التساخين: الخفاف. وكذلك أنكر ابن عمر على سعد بالكوفة، فلما عرف ذلك مسح بعد ذلك بالمدينة. وأيضا فإن السائل لما قالت له عائشة: ائت عليا فاسأله، فقال علي للسائل: قال النبي عليه السلام: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوما وليلة». وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدين بالقياس لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه، ولكني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح على ظاهر الخف.

وأما حديث أبي هريرة فقد روي عنه أنه قال: مسح النبي عليه السلام على الخفين.

وروي أنه هو مسح على الخفين. ما ذكروه عن عائشة - رضي الله عنها - فعنه جوابان: أحدهما: أنه قد روي عنها أنها قالت: مسح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الخفين إلى أن مات. وقالت لشريح بن هانئ:

سل عليا. والجواب الثاني: فإنه يجوز أنها كانت تكره المسح على الخفين وتقول: غسل رجلي أسهل في نفسي، والإنسان قد يختار العزائم على الرخص؛ لقوته في الدين، ولم تقل: إنه لا جوز. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه، فقد روي عن عطاء قال سألت ابن عباس عن المسح على الخفين فقال: مسح النبي عليه السلام على الخفين. فقلت له: إن عكرمة روى عنك أنك تقول: سبق القرآن المسح على الخفين. فقال: كذب عكرمة. يعني غلط. وأما قل علي رضي الله عنه لأبي مسعود، فإنما قال له ذلك؛ لأن أبا مسعود البدري كان قعد عن بيعة علي، فأراد أن يبين للناس ضعف

علمه وقلته، أنه لا يعلم الناسخ والمنسوخ، لم يقصد به أن الخبر منسوخ؛ بدليل ما رويناه عن علي رضي الله عنه في المسح. فإن قيل: فإنها طهارة من حدث فلا يجوز فيها المسح على الخفين كالجنابة. وأيضا فإنه حائل منفصل عن العضو فوجب أن لا يجوز المسح عليه لغير عذر كالعمامة، وقولهم: منفصل؛ احتراز من الشعر. قيل: أما القياس على الجنابة فعنه جوابان: أحداهما: أن القياس إذا أدى إلى إسقاط السنن سقط، وقد ذكرنا عن النبي عليه السلام جوز المسح. والجواب الآخر: هو أن الجنابة أغلظ من الوضوء حتى إنه يسقط مسح الرأس بالماء ويصير غسلا، ويجب غسل جميع البدن الذي كان يسقط في الوضوء، فلم يجز المسح فيه على الخفين. وكيف يجوز أن يغتسل ويغسل ساقيه إلى حد الكعبين وهو لابس للخف؟. فبان بهذا مخالفة أمر الجنابة للوضوء المبني على التخفيف، وسقط فيه غسل أكثر البدن، وجوز فيه مسح الرأس دون غسله فلم يشتبها. وأما القياس على محس العمامة فهو أيضا فاسد؛ لأن فيه إسقاط جواز المسح الثابت بالسنة. على أننا نفرق بينهما فنقول: لما كانت الرجلان يقع السعي عليهما، وظهورهما أكثر من ظهور الرأس اليدين في غالب الحال، والوجه أكثر صبرا على البرد والحر منهما؛ لكثرة مباشرة ذلك بالوجه

وجرى العادة به فجازت الرخصة في الرجلين للمشقة التي تلحق في نزع الخفين عند كل طهارة، والحاجة إليه أكثر؛ لأن نزعه يؤدي إلى التخلف عن رفقته، والانقطاع عن العجلة في السفر، الذي قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه: «إنه قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل الأوبة إلى أهله»، والعمامة لا تلحق المشقة في أن يدخل يده تحتها فيمسح رأسه، فكان الفرض فيه مسح الرأس دون العمامة. فإن استدلوا بأصحاب الحال، وأن الصلاة في ذمته، فمن زعم أنها تسقط بطهارة فيها المسح على الخفين فعليه الدليل. وبما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ وغسل رجليه، وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، فدليله إنها لا تقبل بالمسح على الخفين. قيل: أما استصحاب الحال فلنا مثله؛ لأن أصل الذمة بريئة من وجوب الطهارة على الصفة التي تذكرونها دون جواز المسح على الخفين، ولا نسلم لكم أن الصلاة في ذمته إلا على جواز المسح على

الخفين في الطهارة. ثم لو ثبت لكم ذلك لكان مسح النبي عليه السلام على الخفين، والصلاة بذلك تدل على سقوط الصلاة من ذمته. وأما احتجاجكم بالخبر فإن الحديث الصحيح روي أنه توضأ مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، ومن مسح على خفيه فقد توضأ. ثم لو ثبت الحديث على ما ذكرتم لم يتمنع أن يكون قوله عليه السلام متوجها إلى من أظهر رجليه ولم يلبس الخف، فإما من سترهما بالخف فإنه يجوز له المسح؛ بدليل الأخبار المروية في جواز المسح، حتى نستعمل سنته وأقواله كلها، ولا نسقط بعضها، وبالله التوفيق.

[66] مسألة

[66] مَسْأَلَة وليس للمسح على الخفين عند مالك - رَحمَه الله - حد محدود، لا للمقيم ولا لمسافر، يمسح ما بدا هل ما لم ينزعهما أو تصبه جنابة. وبه قال الليث بن سعد، والأوزاعي، وهو قول الشافعي في القديم. وعن مالك فيه روايات لا تصح، والصحيح ما حكيناه. وقال أبو حنيفة والشافعي في قوله الجديد. هو موقت محدود، فللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وللمقيم يوم وليلة من وقت ما أحدثا، وبه قال الثوري،

وأحمد، وإسحاق. والدليل لقولنا: ما رواه عمر وأنس أن النبي عليه السلام قال: «إذا أدخلت رجليك في خفيك وأنت طاهر فامسح عليهما وصل فيهما ما لم تنزعهما أو تصبك جنابة» فأباح المسح ما لم يحدث أحد هذين إما النزاع أو الجنابة، ولم يخص وقتا من وقت. وأيضا ما روي عن عطاء بن يسار قال: سألت ميمونة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسح على الخفين فقلت: أفي كل ساعة يمسح على الخفين؟.

فقالت: نعم، ولم تخص مؤقتا من وقت. أيضا ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح على خفيه غب روابة المغبرة. وفي حديث حذيفة أتى سباطة قوم فبال قائما ثم توضأ فسمح على خفيه. وأيضا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا لبستهما على طهر فامسح عليهما»، فثبت عنه عليه السلام جواز المسح، ولم يثبت عنه فيه توقيت. وأيضا ما روي عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يمسح

المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوما وليلة». وروي فيه: والله لو استزدناده لزادنا. وروي: لو استزاده السائل لزاده، والصحابي لا يجوز أن يقطع على علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يزيد السائل إذا استزاد حتى يحلف عليه، ويكون ذلك ظنا منه النبي عليه السلام ل إنما يكون ذلك إذا تحقق بعلم قد تقدم منه، علمه من النبي عليه السلام في جواز الزيادة على ذلك. وأيضا ما روي عن أبي بن عمارة أنه قال: سألت رسول الله عن المسح فقلت: أمسح على الخفين؟ فقال: «امسح». فقلت: يوما؟. فقال: «ويومين وثلاثة وما شئت». ورواه سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا يحيى بن

أيوب قال: حدثني عبد الرحمن بن زرين عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن عبادة بن نسي عن أبي بن عمارة - وصلى رسول

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته القبلتين - أنه قال: يا رسول الله، أمسح على الخفين؟. قال: «نعم ويومين». قلت: وثلاثة يا رسول الله؟. قال: «نعم». حتى بلغ سبعا. ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم وما بدا لك». ورواه يحيى بن معين قال: حدثنا عمرو بن الربيع قال: حدثني يحيى بن أيوب بإسناد مثله. وقد روي أيضا من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله. وروي عن عقبة بن عمر أنه قدم المدينة فدخل على عمر

الخطاب رضي الله عنه - وعليه خفان في يوم الجمعة -، فقال عمر: منذ كم لبستهما أو تمسح عليهما؟. قال: منذ الجمعة وهذه الجمعة. فقال: أصبت السنة، والصحابي إذا أطلق السنة فهي سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإن قيل: ما استدللتم به من ظواهر الأخبار التي قبل حديث خزيمة وأبي بن عمارة فغناه عموم يخصها ما روي عن شريح بن هانئ قال: أبيت عائشة فسألتها عن المسح على الخفين. فقالت: سل عليا، فإنه كان يسافر مع الني صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فأتيت عليا فسألته، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوما وليلة». وروى صفوان بن عسال الرمادي قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يمسح المسافر ثلاثة أيام لياليهن، والمقيم يوما ليلة».

وروى صفوان قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم. وروى عوف بن مالك الأشجعي قال: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فأمر المسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوما وليلة.

قالوا: والاستدلال من هذه الأخبار من وجهين: أحدهما: أن الني عليه السلام فرق في المسح بين المسافر والمقيم، فسقط قول من قال: إنه غير موقت؛ لأنه لا يفرق بينهما. والوجه الآخر: أن النبي عليه السلام جعل وقت المسح للمسافر محدودا بالثلاثة، وللمقيم يوما وليلة، والحد الوارد في الشرع إما يفيد أحد أمرين: إما المنع من النقصان عنه، أو المنع من مجاوزته، كآخر وقت الظهر، والميقات لما جاز قبله علم أنه للمنع من المجاوزة عنه، فلما تقرر أن للمسافر أن يمسح دون ثلاثة الأيام، وللمقيم دون اليوم والليلة علم أنه حد للمنع من مجاوزته. ثم دليل الخطاب بخلاف المذكور فلا يجوز خلاف ما حد في أخبارنا. قيل: عن هذه الأخبار أجوبة: أحدها: أن عبد الرحمن بن مهدي - إمام في الحديث -، وقد قال: لا يصح عن النبي عليه السلام في التوقيت في المسح على الخفين حديث. وقال أيضا: حديثان لا أصل لهما، التسليمتان في الصلاة، والتوقيت في المسح على الخفين. وأما حديث صفوان بن عسال فإنما رواه عاصم

عن زر عن صفوان. وعاصم قد تكلم أصحاب الحديث في حفظه. فقال يحيى بن معين على عاصم: روى الحديث فهو ضعيف. وكذلك طعن على أي عبد الله الجدلي في روايته عن خريمة، فتكلم في دينه فقيل: إنه كان صاحب راية المختار بن أبي عبيد.

وإن كان في حديث لو مضى السائل في حديثه لزاده. وجواب آخر: وهو أن في بعضها أنه خرج من النبي عليه السلام على سؤال سائل سأل عن جواز المسح ثلاثا، وسأل عن جواز المسح للمقيم يوما وليلة، فقال: نعم، لم يرد بهذا الحد الذي لا يتجاوز. ولو لم ينقل أنها ردت على سؤال سائل لجاز أن تحمل على ذلك؛ لأنه قد روي عن الحسن أنه قال: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يوقتون في المسح على الخفين.

وروى هشام بن حسان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يوقت في المسح على الخفين.

فإذا كان كذلك لم يثبت الحد بثمل هذا؛ لأن الحدود سبيله أن تثبت بما ثبت به المسح، فلو كانت كنفس المسح لوردت مورده، ولم يختلف فيها. ألا ترى أن الحدود والمقادير لم تثبت بمثل هذا. وجواب آخر: وهو أنه لو ثبت الحد فيما رويتموه لم يمتنع أن يكون متقدما، ثم يرد ما فيه زيادة حكم، وقد روينا عن أبي بن عمارة ما رواه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مضيه إلى السبعة، ثم قال: «نعم وما بدا لك»، وقوبل الزيادة في الحكم يجوز، فتستعمل الأخبار كلها، فمن اختار أن يمسح ثلاثا جاز، ومن اختار التجاوز جاز. وجواب آخر: وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكلم على الغالب من أمر المقيم أنه يمسح يما وليلة؛ لأنه أكثر ما يلبس في الحضر، وأن الغالب من أمر المسافر أن يبقى خفه في رجله ثلاثة أيام وأمر بالاختيار من ذلك، ولم يرد منع من تجاوز ذلك، ولا جعله حدا لا يتجاوز، ولو أراد ذلك لأكده بأن يقول: ولا يجوز تجاوز ذلك؛ حتى لا يختلف فيه، فلما وقع خلاف الصحابة في ذلك علم أنه لم يرد الحد. فإن قيل: فقد روى عبد الرحمن النبي عليه السلام أبي بكرة عن أبيه أبي بكرة أنه اقل: رخص رسل الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسافرين ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم

في يوم وليلة إذا تطهر ولبس الخفين أن يمسح عليهما، وهذا أجود خبر لهم، والاستدلال لهم به من وجهين. أحدهما: كما استدلوا به من الأخبار المتقدمة. ووجه آخر: وهو أن الراوي قال: أرخص في المسح، والرخصة في ورود إباحة على أصل محظور، فعلم أن المسح على الخفين كان محرما محظورا، وإذا كان محظورا فالقدر الذي أبيح جاز فعله، فأما الزائد عليه فمحرم على أصل الحظر. قيل: قد قلنا: إنه لا يصح في التوقيت حديث. فإن صح هذا جاز أن يكون عليه السلام أرخص في هذا لم يمنع من الزيادة عليه بما ذكرناه، فيكون هذا أيضا جوابا لسائل سأل: هل يرخص له في هذا القدر؟، فخرج جوابه له عنه، لم يرد أن يكون ذلك حدا؛ إذ لو أراد الحد لم يزد على ذلك في حديث أبي بن عمارة. وأيضا فيحتمل أن تكون الرخصة متوجهة إلى نفس المسجد دون أن يتعرض للتوقيت بالدلائل التي تقدمت. وأيضا فإنه قد نبه على أنه رخصة للحاجة، وسائر الرخص مباحة ما دامت الحاجة، كالفطر والقصر في السفر، والتيمم للمريض، وشد الجبائر، وأكل الميتة، وما أشبه ذلك، ولم يقع فيها حد ما دامت الحاجة، فكذلك إن احتاج إلى لبس الخف أكثر من ذلك مسح ما دامت حاجته.

فإن قيل: المسح على الخفين رخصة كما ذكرتم، غير أنه عليه السلام أرخص للمسافر في ثلاثة أيام، وللمقيم في يوم وليلة، والرخص إنما تستباح على قدر الحاجة، فأما الزيادة على قدر الحاجة فلا، كأكل الميتة لما كان رخصة جاز فيه قدر الحاجة، ووجدنا الحاجة في المسح للمقيم تدعوه في يوم وليلة؛ لأنه إنما يستديم لبس الخف يوما وليلة، فأما استدامته في أكثر من ذلك فعليه فيه مشقة، فالحاجة هي في نزعه بعد اليوم والليلة، وفي المسافر ثلاثة أيام؛ لأنه وإن احتاج إلى المسح على خفيه فإنما يستديمه ثلاثة أيام، والمشقة عليه في نوعه في هذا القدر، فلم يجز أن يمسح في أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن لبسه أكثر من هذا غير محتاج إليه، وعليه في مشقة. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن لبس الخفين قد أبيح مع زوال المشقة، لولا هذا لما جاز لبسه إلا مع وجود المشقة، فإذا أرخص فيه مع عدم المشقة وجب أن يجوز المسح ما دام الإنسان مختارا للبسه. والجواب الآخر: هو أنه لو ثبت أرخص فيه للمشقة، فإن الفطر والقصر في السفر أبيح لأجل المشقة التي تلحق، وليس ذلك محدودا، وقد يكون من الملوك الذين يترفهون في سفرهم أكثر من ترفه غيرهم في المقام، ويلبسون خفافهم أكثر من لبس غيرهم، وقد يحتاج المسافر إلى لبس الخف أكثر من ثلاثة أيام أيضا، خاصة في السفر في مواضع الثلوج، والجد في السفر، وغير ذلك، ألا ترى إلى

قول عمر رضي الله عنه لعقبة مستحب من الجمعة إلى الجمعة، فقولكم: إن المشقة تلحق في هذا القدر، وأن لبسه في الزيادة عليها فيه المشقة غلط، ونحن نعم أن العسكر في الغزوات قد يشتد خوفهم ليلا ونهارا، ويكون البرد شديد يثقل عليهم نزع خفافهم، ولو أنه بعد خمسة أيام، فلم يثبت ما ذكروه. فإن قيل: إن لطهارة على ثلاثة أضرب: فطهارة ترفع الحدث عن جميع الأعضاء، وهي الطهارة بالماء، فيجوز أن يصلي بها غير موقت. والثاني: طهارة لا ترفع الحدث عن جميع الأعضاء أصلا، وهو التيمم، فيصلي بها موقتا، لا يصلي به إلا صلاة واحدة، لا يجمع فيه بين صلاتي فرض. والثالث: طهارة فيها المسح على الخفين فلا يرتفع الحدث عن الرجلين، فهو دون الطهارة بالماء في جميع الأعضاء، وفوق التيمم الذي لا يرفع الحدث أصلا، فلم يبلغ حكم الطهارة التي فيها المسح على الخفين مرتبة الطهارة بالماء في جميع الأعضاء، وكانت أبلغ من التيمم الذي لا يرفع الحدث أصلا، فجاز أن يصلي بها أكثر من صلاة واحدة، ولم تبلغ مرتبة الطهارة التي ترفع الحدث عن جميع الأعضاء في أنه يصلي بها غير موقت. قيل: إن هذا التقسيم مليح في ظاهره، فاسد في باطنه؛ وذلك

أنه يفسد بالمسح على الجبائر، فإن المسح عيا لا يرفع الحدث عن العضو الذي تحتها، كما لا يرفعه المسح على الخف، وهو في المسح على الجبائر غير موقت، وليس حكمه حكم الطهارة بالماء في جميع الأعضاء، وهو أعلى رتبة من التيمم الذي لا يرفع الحدث أصلا، فسقط هذا. وجوب آخر: وهو أن المسح على الخف تابع لنا في الأعضاء المغسولة، فالحدث يرتفع أصلا كما يرتفع بالماء، وكما هو في الجبائر، وليس يجوز أن يجمع في طهارة واحدة تطهير وحدث على ما بيناه فيمن معه ماء قليل لا يكفيه فإنه يتمم ولا يستعمله. وجواب آخر: وهو أن المسح على الخفين أبيح مع القدرة على نزعهما، والجبائر أبيح المسح عليهما للضرورة، كما أبيح التيمم للضرورة، فصارت الرخصة في المسح على الخفين أبلغ منها في الجبائر، فإذا جاز أن يمسح على الجبائر غير موقت - وهو في معنى التيمم - كان في المسح على الخفين أولى بالجواز، وصار المسح على الخفين بمنزلة الغسل. ألا ترى أن الجمع بين الصلاتين قد جاز بالمسح كما جاز بالغسل، وإن لم يجز ذلك في التيمم. وأيضا فإن المسح جميع الرأس في الطهارة أعلى رتبة من مسح بعضه، وجوزتم الاقتصار على البعض مع قدرته على مسح كله، كما جاز مسح الفخين مع قدره على نزعهما وغسل الرجلين، فلما جاز أن

يصلي بمسح بعض رأسه غير موقت كان في مسح الخفين كذلك، ولا يلزم على هذا أن بمسح بعض الرأس بالماء يرفع الحدث، وليس كذلك المسح على الخفين؛ لأن هذا يلزم في الجبائر مثله. وأيضا فقد كان ينبغي على ما وصفتموه أن الحدث عن الرجل وحدها لا يرتفع أن يجعلوا الثلاثة الأعضاء التي ارتفع عنها الحدث تقديرا على الحساب يكون له أن يصلي بها ثلاثة صلوات أو ثلاثة أيام في الحضر والسفر فيكون موقتا على هذا الوجه، فأما أن يكون للحاضر وقت، وللمسافر وقت، وقد اشتركا فيما ارتفع الحدث عنه، وفيما لم يترفع عنه لا معنى للتفرقة. فإن قيل: ما ذكرتموه من حديث خزيمة عنه جوابان: أحدهما: أنه (إن) كان ظنا من خزيمة لا تحقيقا؛ لأنه ربما كان عليه السلام يزيد، وربما لم يزد. كيف وقد نقل في الخبر أنه قال: ظننت أننا لو استزدناه زادنا؟. والجواب الثاني: هو أنه لو تحقق أن النبي عليه السلام كان يزيدهم أن لو سألوه الزيادة فإنما يكون للزيادة حكم إذا فعله النبي عليه السلام وأمر به، فأما قبل أن يأذن فيه فلا حكم له، وإن تحقق منه أنه كان يزيد. قيل: قد نقل في خبر خزيمة ما ذكرناه فلا يجوز أن يظن بالصحابي أن ينقل إلينا أن السائل لو استزاده لزاده، ويكون ذلك

تخمينا وظنا منه، فيقطع على حكم صاحب الشريعة أنه يفعل ذلك من غير علم منه قد سبق بذلك. فإن صح أنه قال: ظننا، فإنه يجوز أن يكون الظن بمعنى اليقين، كما قال - تعالى -: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه}، وهذا كثير، فيطابق معنى ما قطع عليه في الخبر ولا يتنافى. وأما الفصل الثاني فإن الصحابي إذا تحقق من النبي عليه السلام أنه كان يزيد السائل لو سأله عنه فقد تحقق جوازه، ولا يحتاج إلى إيجاد الفعل؛ لأننا قد نعلم جواز أشياء، وأنها مباحة في شرعنا فإن لم يفعلها، وقد نعلم إباحة الشيء من جهة النبي عليه السلام بعلم متقدم، وأن المسح أكثر من ثلاث يجوز، فلا يحتاج إلى أن يأمر به في كل وقت، ولو سئل عنه لأجاب بإباحته، فلم يلزم ما ذكروه. فإن قيل: ما ذكرتموه عن أبي بن عمارة، فإننا نقل: إن الرجل إنما سأله عن جواز المسح لا عن كيفيته ومقداره. ألا ترى أنه قال: يا رسول الله، أمسح؟، ولم يقل: كم أستديم المسح؟. فالنبي عليه السلم بين له جواز المسح، ونحن نقول: إن المسافر يمسح أبدا يومين وثلاثة وسبعة، ولكن على الصفة التي نقولها، وخبرنا قصد به بيان المدة والوقت.

قيل: أبي بن عمارة سأل عن جواز لمسح وعن صفته له هو موقت أم لا؟ فقال له عليه السلام حين سأله عن اليومين والثلاثة: " نعم، وسبعا ما بد لك "، ففهم عنه أنه يجوز غير موقت. هذا ظاهر الخبر، فحمله عليه، وحمل خبر الثلاثة على سؤال سائل أولى؛ لأن في هذا زيادة حكم مستفاد، ويشهد له سائر الرخص؛ لأنها ليست موقتة، وإنما هي على حسب الحاجة. فإن قيل: خبر عقبة بن عامر مع عمر رضي الله عنه عليه سؤالان: أحدهما: أننا قد نقلنا عن الصحابة خلافه، فلا يكون قوله حجة. والآخر: هو أنه قد اختلف فيه، فقيل: قد على أبي بكر، وقيل: إنه قدم على عمر، وفيه ألفاظ مختلفة. قيل: إن صح نقلكم عن بعض الصحابة في التوقيت فهو متأول على ما تأولنا عليه قول النبي عليه السلام من سؤال سائل، ويكون جوابه لعقبة بأنه أصاب السنة أولى. وأيضا فإن الإمام من الصحابة إذا قال في الخطبة بحضرة الصحابة مثل هذا كان أولى من قول غيره.

وأما اختلاف الرواية فيه عن أبي بكر أو عمر، فإنه يجوز أن يكون في سفرتين، إحداهما أنه قدم فيها على أبي بكر، والأخرى على عمر، ولو نسي الراوي القدوم على من كان منهما، وضبط حديث المسح على الخفين لما ضر ذلك؛ لأن الفائدة من الحكم المقصود جواز المسح المدة التي ذكرناها، وهذا بمنزلة أن يقول النبي عليه السلام قولا يتعلق به حكم، فقال أحد الراويين: أن النبي عليه السلام قاله في وقت، وقال الآخر: إنه قاله في غير ذلك الوقت، وقد ضبط القول الذي يتعلق به الحكم واتفقا عليه ولم يضر ذلك، ولزم العمل بالقول الذي قاله عليه السلام فكذلك ها هنا ... إذا ضبط الراوي القول في المسح ونقله، واختلف الرواة فيه، فقال بعضهم: هذا القول كان من أبي بكر، وقال بعضهم: إنه كان من عمر عمل عليه؛ لأن كل واحد منهما إمام يقتدى به، ويقبل قوله، مع جواز أن يكون القول قد تكرر منهما جميعا. ويجوز أن نقول: هو ممسوح في الطهارة فوجب أن لا يكون محدودا، أصله مسح الرأس والجبائر. وأيضا فإن الفرض متعلق بالرجلين إذا كانتا باديتين، فإذا سترهما الخف انتقل الفرض إليه على حسب أصله، كاللحية إذا نبتت على الوجه، وسترت بشرة الوجه، لما انتقل الفرض ... إليها من بشرة الوجه انتقل إليها على حسب ما أن متعلقا بالبشرة على التأييد من غير توقيت. وأيضا فإن المسح مسحان: مسح على الجبائر، ومسح على

الخفين، فلما تقرر أن المسح على الجبيرة غير موقت فكذلك المسح على الخفين رخصة. فإن قيل: مسح الرأس واللحية عزيمتان، ومسح الخفين ورخصة. ألا ترى أنه لو مسح شعر لحيته ورأسه، ثم سقط شعره لم ينتقض حكم مسحه، ولو مسح على خفيه ثم بدت رجله انتقض حكم مسحه. فأما مسح الجبائر فلا فرق بينهما وبين الخفين؛ لأن مسح الجبيرة ما دامت الحاجة، وقد بينا أن حاجة المسح على الخفين هي ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم. قيل: أما قولكم: إن مسح الرأس عزيمة فلهذا لم يتوقت وليس كذلك مسح الخفين فجوابه: أنه لا يتأثر لهذه العلة؛ لأن الجبيرة ليست بعزيمة، وهي غير موقتة مثل العزيمة. على أن العلة المتعدية أولى من غير المتعدية. وقولكم: إن حاجة المسح على الخفين ما ذكرتموه فقد بينا فساده، وأن الحاجة قد تدعو إلى أكثر من ذلك فسقط أيضا، وصار كالجبائر وسائر الرخص، وبالله التوفيق.

[67] مسألة

[67] مَسْأَلَة التيمم لا يرفع الحدث عندنا وعند سائر الفقهاء. وقال داود: إنه يرفع الحدث. والدليل لقولنا وقول الجماعة: هو انه محدث قبل التيمم، فمن زعم أن حدثه ارتفع فعليه الدليل. وأيضا ما روي عن عمر بن العاص أنه قال: ولاني النبي عليه السلام غزاة ذات السلاسل، فأجنبت فخشيت أن اغتسلت هلكت، فتيممت وصليت بالناس، ثم أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته. فقال: «أصليت بالناس وأنت جنب؟». فقلت: قال الله - تعالى -: {ولا تقتلوا أنفسكم}. فضحك مني. فموضع الدليل: وهو أنه عليه السلام سوغ له التيمم،

وسماه مع ذلك جنبا. وأيضا فلا خلاف أن الجنب إذا تيمم وصلى، ثم وجد الماء بعد ذلك فإنه يغتسل واجبا، ولولا الجنابة لم يجب عليه الغسل بعد التيمم لا الجنابة مستأنفة، فلما وجب عليه أن يغتسل بعد التيمم، لم تحدث منه جنابة مستأنفة علم أن الجنابة باقية؛ لأن وجود الماء ليس بجنابة، فلولا أن حدث الجنابة لم يرتفع لم يجب عليه الغسل. فإن قيل: هذا الغسل عبادة مستأنفة لا الجنابة المتقدمة. قيل: لولا الجنابة المتقدمة لم تجب هذه العبادة. ألا ترى أنه لو لم يكن جنبا لم يجب عليه هذا الغسل. وأيضا فإنها طهارة ضرورة فوجب أن لا ترفع الحدث، أصله طهارة المستحاضة. وأصحابنا يختلفون هل الاستحاضة حدث عفي عن الوضوء بها أو ليست بحدث؟، والله الموفق.

[68] مسألة

[68] مَسْأَلَة ومن توضأ فغسل إحدى رجليه وأدخلها في الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها في الخف الآخر، ثم أحدث لم يجز له أن يمسح على الخفين حتى يكون طاهرا الطهارة التامة قبل لبسهما، وليس أحدهما. والجملة له في جواز المسح: أن ينزع الخف الأول ثم يلبسه، فيحصل لبسه حينئذ بعد كمال طهارته. وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني: يجوز له المسح عليه، وهو

قول مطرف من أصحاب مالك. وأبو حنيفة يخالفنا في أعظم من هذا؛ لأنه يعتبر في جواز المسح ورود الحدث على الوضوء، سواء لبس الخفين وهو محدث أو غير محدث؛ لأنه يقول: لو أن محدثا لبس خفيه، ثم غسل باقي أعضائه، ثم أدخل الماء في خفيه حتى انغسلت رجلاه، أو خاض في الماء، ثم أحدث بعد ذلك جاز له المسح. والدليل لقولنا: كونه محدثا قبل ذلك، فمن زعم أن حدثه قد ارتفع بهذا الفعل فعليه الدليل. وأيضا كون الصلاة والطهارة في ذمته بيقين، فمن زعم أنهما يسقطان بالمسح المستأنف بعد الطهارة الأولى فعليه الدليل. وأيضا قوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله: {وأرجلكم}، فأمر بغسل الرجلين إذا قام إلى الصلاة ولم يخص صلاة من صلاة، فلا يجوز المسح إلا بدليل. وأيضا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن توضأ وغسل رجليه: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، فلا يجوز بغير الغسل حتى يقوم دليل. وأيضا قوله: «لن تجزئ عبدا صلاته حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه» إلى أن قال: «ويغسل رجليه»، فهو عموم لا تقبل صلاة عبد

حتى يغسل رجليه في وضوئه إلا أن يقوم دليل. وأيضا قوله: «ويل للأعقاب من النار». وأيضا ما رواه المغيرة بن شعبة من قوله: كنا في غزاة تبوك مع النبي عليه السلام فأهويت عند وضوئه أن أنزع خفيه. فقال: «دعهما فإني لبستهما وهما طاهرتان»، فجعل كون العلة في جواز المسح وجود اللبس والرجلان طاهرتان، ولا يكن اللبس وهما طاهرتان إلا بعد غسلهما جميعا، وللبس بعد غسل إحدى الرجلين لا يكون لبسا وهما طاهرتان، وقبول خبر واحد محتمل وقياس على هذا يؤدي إلى إسقاط تعليل النبي عليه السلام، وما أدى إلى ذلك لم يقبل. وفي رواية أخرى: «فإني لبستهما على طهر»، وفي حديث: «فإني أدخلتهما وهما طاهرتان»، وهذا في معنى قوله: «لبستهما وهما طاهرتان إنه، وهذا يقتضي أن تكونا طاهرتين قبل إدخالهما، ومن غسل أحدهما، ثم أدخلها في الخف فلم يدخلها طاهرة؛ لأنها لا تحصل طاهرة إلا بطهر الأخرى. ألا ترى أنه لا يجوز له أن يصلي قبل غسل الأخرى، فهو في حكم المحدث حتى يفرغ من غسل الأخرى. فإن قيل: فنحن نجيز له المسح على الخفين إذا لبسهما وهما طاهرتان، فقد قلنا بموجب الخبر. قيل: لعمري إنكم تجيزون هذا، ولكنكم تجعلون الشرط في جواز

المسح ورود الحدث على الطهارة لا وجود اللبس على الطهارة، والنبي عليه السلام جعل شرط جوازه ورود اللبس عليهما بعد كونهما طاهرتين. وأيضا ما رواه عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة أنه قال: أرخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة إذا تظهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما، وموضع الدليل منه: أنه ذكر الرخصة وذكر شرطها، فقال: «إذا تطهر ولبس خفيه»، وقوله: تطهر عبارة عمن تطهر طهارة كاملة. والفاء بعد ذلك للعقب؛ لأنه قال بعد أن ذكر الطهارة: «فلبس خفيه أن يمسح عليهما»، فصار تقديره: أنه إذا تطهر الطهارة التامة ولبس الخف مسح. وأيضا ما روي في حديث عمر وأنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أدخلت رجليك في خفيك وأنت طاهر فامسح عليهما، وصل فيهما ما لم تنزعهما أو تصبك جنابة»، فجوز المسح عليهما متى لبسهما وهو طاهر، فما عدا هذا الشرط بخلاف، ومن غسل إحدى رجليه وأدخلها في الخف فقد أدخلها وهو محدث؛ لأنه لا يكون متطهرا وقد بقي عليه عضو مأمور بغسله؛ لأنه لا يجوز له أن يصلي. ونقول: إن لبسه أحد الخفين بغسل إحدى الرجلين مقدم على كمال الطهارة، ولم يصادف تمام العبادة، فصار كمن لبس الخفين ولم يغسل إحدى الرجلين.

ولك أن تعبر عبارة أخرى فنقول: هو لبس قبل كمال الطهارة فوجب أن لا يجوز له المسح عليه، أصله إذا غسل إحدى رجليه وأدخلها في الخف، وأدخل الأخرى الخف الآخر بغير غسل. فإن قيل: المعنى فيه أنه لم يغسل إحدى رجليه. قيل: هذه علة لا تتعدى فلا تصح على أصولكم، وعلى أصولنا نحن، والعلة المتعدية أولى منها. ونقول أيضا: إن ما تعلق صحته بالطهر استدعى كماله قبل المتأخر مما يقتضى أفعاله، دليله الصلاة لم يصح فعلها والدخول فيها إلا بعد كمال الطهارة. وأيضا فإن ابتداء اللبس وقع على غير كمال الطهارة الحكمية، فأشبه من لبس الخف وهو محدث. وأيضا فإن اللبس يقتضي الطهر، وكل ما اقتضى ظهرا حكميا اقتضى كماله قبله، كالصلاة. فإن قيل: قوله عليه السلام: «إذا أدخلت رجليك وهما طاهرتان» حجة لنا؛ لأنه إذا غسل إحدى رجليه وأدخلها في الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلهما وهما طاهرتان. قيل: إذا أدخل إحداهما قبل غسل الأخرى أدخلها غير طاهرة، وإذا أدخل الأخرى أدخلها وحدها طاهرة، وبعدهما صارتا طاهرتين، والنبي عليه السلام شرط أن تكون طاهرتين قبل لبسهما ولبس أحدهما.

على أن الطهارة حكم شرعي، ولا يكون كذلك إلا بعد كمالها، ولم يقل: أدخلتهما مغسولتين. على أن الأحاديث الأخر تدل على ما نقول فلا احتمال، مثل قوله: «فإنني لبستهما على طهر، أو وأنا طاهر»، وفي حديث عمر: «إذا لبستهما وأنت طاهر فامسح عليهما»، وكذلك في حديث أبي بكرة على ما بيناه. فإن قيل: قوله عليه السلام: «يمسح المسافر ثلاثة أيام، والمقيم، يوما وليلة» لم يفرق فيه بين أن يكن لبس الخف بعد كمال طهارته أو قبلها، فهو عموم في جواز المسح. وش ما رواه عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة أنه قال: فأهويت أن أنزع خفيه عليه السلام فقال: «دعهما فإنني لبستهما وهما طاهرتان»، وإذا فرق الغسل واللبس فقد حصل لابسا لهما على طهر. قيل: أما الخبر الأول ففيه رخصة المسح لا شرط الرخصة، وأخبارنا تقتضي شرط الرخصة، وهو موضع الخلاف. وأما الخبر الثاني فقد جعلناه حجتنا؛ لأن قوله: «لبستهما وهما طاهرتان» يقتضي أن يكونا طاهرتين ثم يلبسهما.

فإن قيل: فأنتم لا توقتون في المسح فكيف تحتجون بالخير؟. قيل: لا يمتنع أن يتضمن الخبر شيئين يقوم الدليل على إسقاط أحدهما ويثبت الآخر، وحديث أبي بكرة عن النبي عليه السلام تضمن التوقيت وتضمن شرط الرخصة في المسح، فقام الدليل على إسقاط التوقيت في المسح، ولم يقم دليل على إسقاط شرط الرخصة المسح، وعلى أي وجه يجوز. فإن قيل: قد قال صفوان بن عسال: أمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، لكن من غائط ونوم وبول، وهذا عام سواء لبسه على الوجه الذي تقولون، انو على ما نقول. قيل: عن هذا أجوبة: أحدها: أنه عليه السلام أراد أن يعلمهم زمان المسح الذي سألوا عنه، ثم كيف يمسحون، على أي وجه يلبسون معلوم من الأخبار الأخر. وجه آخر: وهو أن صفوان قال: أمرنا. ولم يذكر من أمرهم حتى نعلم من الآمر، صاحب الشريعة أو غيره، فنلزم قول صاحب

الشريعة، وننظر في أمر غيره. وأيضا فإنهم لا ينزعون خفافهم إذا كانوا قد لبسوا على الوجه الذي بيناه بالأخبار الأخر. فإن قيل: فإنه حدث ورد على طهر كامل فجاز له المسح. أصله إذا لبسهما بعد غسل رجليه وكمال طهارته. وأيضا فإن لنزع الخف تأثيرا في منع المسح لا في إباحته وجوازه؛ بدليل أنه ل تطهر ولبس خفيه، ثم أحدث وهو لابس للخفين جاز له مسحهما، ولو أحدث ونزع الخف لم يجز له المسح عليه، فإذا كان كذلك، وأنتم تقولون: لو نزع الخف من الرجل الأولى ثم لبسه أباح له المسح بعد ذلك، وقد قلنا: إن نزعه يؤثر في منع المسح، وأنتم جعلتموه مؤثرا في إباحة المسح، لعم أن المسح كان جائزا له قبل النزع. قيل: أما القياس الأول فالمعنى في جواز المسح هو أنه لبسه بعد كال طهارته فلهذا جاز. فإن قيل: علتنا متعدية فهي أولى. قيل: قد ذكرنا قياسا يعارض هذا فهو أولى؛ لأنه يؤدي إلى الاحتياط، وسقوط حكم الصلاة والطهارة بيقين بإجماع. وأما الفصل الثاني وقولكم: إن للنزع تأثيرا في المنع على ما ذكرتم فإننا نقول: لنزعه تأثيرا في المنع من المسح إذا كان بعد الحديث، فأما إذا كان قبل الحدث فلا يمنع أصلا. ألا ترى أنه لو تطهر ثم لبس

خفيه ونزعهما قبل أن أحدث، ثم لبسهما أيضا ثم نزعهما ثم لبسهما، ولو مائة مرة وهو على طهارته، ثم أحدث بعد لبسهما في المرة الأخيرة جاز له أن يمسح عليهما. وجواب آخر: وهو أنا لم ندع أن الشرع أباح المسح إلا بعد وجود اللبس بعد كمال الطهارة. فإن قيل: (فإن) لا فائدة في أن ينزع الخف الأول ويلبسه في الحال، فلما لم تكن فيه فائدة علم أن عدم نزعه لا يمنع المسح عليه. قيل: فائدته أنه يحصل لا بسا له بعد كمال طهارته. على أن هذا يلزمكم إذا اصطاد المحرم صيدا في حلا إحرامه، ثم حل من إحرامه فإنه يلزمه إرساله، ثم له أن يأخذه في الحال فيما الفائدة في إرساله؟ فإن قيل: فائدته أنه يصير ممسكا للصيد باصطياد مباح، ولو لم يرسله كان ممسكا له باصطياد محظور. قيل: وكذلك أيضا إذا نزع الخف ولبسه يصير لابسا له بعد كمال طهارته، وقبل نزعه يكون لابسا له قبل كمال طهارته. ومثل هذا قلتم في عبد كافر تحته أربع نسوة، ثم أسلم وعتق، فإنه يلزمه أن يفارق اثنتين ثم يتزوجهما في الحال، فما الفائدة في تخليتهما ثم يتزوجهما؟. وعلى أنكم لا تنفصلون ممن يقلب هذا عليكم فيقول: ولبس الخف لا يحدث طهارة، فلا معنى للبسهما على طهارة، وكذلك لا

ينفصلون ممن يقول: لا معنى لنزعهما بعد المسح عليهما ثم لبسهما. فلما كان لهذا كله تأثيرا علم أن حكم الطهارة يتغير باللبس والنزع على ما ورد به الشرع. فإن قيل: فإن الطهر لما انتقض بظهور إحدى الرجلين بعد المسح على الخفين وجب أن يثبت حكم اللبس بلبس أحد الخفين. قيل: هذه دعوى، لم وجب هذا؟. على أنه قياس الضد، ومنا من لا يقول به. وعلى أنه يلزمكم على هذا أن تقتصروا على طهر رجل واحدة، كما قلتم في جواز المسح وسقوط المسح. وعلى أن المعنى في الظهور أنه إذا ظهر شيء من رجل واحدة وهو شيء كبير انتقض طهر الرجلين جميعا. وليس كذلك اللبس؛ لأنه لا يصير بلبس بعض الرجل الواحدة لابسا على الرجلين جميعا، ولا يغسل بعض الرجل الواحدة غاسلا للرجلين. فإن قيل: فإن استدامة اللبس كابتدائه. ألا ترى أنه لو حلف إلا يلبس ثوبا فإنه يحنث إن أدام على لبسه. قيل هذا باطل؛ لأنه لو أحدث بعد اللبس جاز له أن يمسح عليهما، ولو نزعهما ولبسهما ثم مسح عليهما، وكذلك إذا لبسهما

على كمال طهارته فله أن يمسح عيهما، ثم لو انقضت مدة المسح - عندكم - لم يجز له أن يمسح، فعلمنا من هذين الوجهين أن الانتهاء في باب اللبس ليس كالابتداء. فإن قيل: فإن الحدث طرأ على لبس كامل بعد طهر شامل فجاز له أن يمسح. دليله إذا لبسهما بعد كمال الطهارة. قيل: قد تكلمنا على هذا، على أننا لا نسلم أنه كان على طهر كامل على الإطلاق؛ لأن اللبس طرأ على طهر غير كامل، فطرأ الحدث على لبس قبل كمال الطهارة. وعلى أننا قد ذكرنا أن المعنى فيه: أنه ل سه وه ممن تجز له الصلاة، وليس كذلك إذا لبس أحدهما قبل كمال الطهارة. وعلى أننا قد عارضنا بقياس مرجح على هذا باستناده إلى الظواهر والنصوص التي ذكرناها، وفيه احتياط للفرض، ولأن قياس الطهارة على الصلاة أولى؛ لأنها أحد أركانها. وأيضا فإن الأصول مبنية على أن حك الإجازة والمنع إذا التقيا في حكم الرجل كانت الغلبة للمنه. ألا ترى أنه لو نزع أحد الخفين بعد المسح صار إلى حكم الغسل، فكذلك لبس أحدهما والحدث في الأخرى قائم صار إلى حكم المنع. وأيضا فإننا وجدنا المسح يقتضي لبسا، واللبس يستدعي طهرا، ورأينا الأصول مبنية على أن كل موضع يستدعي صحته طهرا

استدعى طهرا كاملا، كالصلاة لما استدعت طهرا استدعته كاملا قبلها، فصار قولنا لهذه الوجوه أولى. ويجوز أن نعبر بعبارة أخرى فنقول: كل شيء يفتقر الجزء منه إلى الطهارة فإن جميعه يفتقر إليها، كالصلاة والطواف. وبيان هذا هو أن أبا حنيفة يقول: إذا لبس خفه بالغداة على غير طهارة، واستدامه إلى الزوال وأحدث لم يجز له المسح عليه، ولو تطهر قبل الزوال وأحدث جاز له المسح عليه، فيعتبر أن يصادف الحدث بعض اللبس على طهارة، وهو اللبس الذي يتعقبه الحدث، واعتبرنا نحن جميع لبسه على الطهارة، والله أعلم.

[69] مسألة

[69] مَسْأَلَة إذا كان في الخف خرق يسير مما دن الكعبين، يظهر من الرجل شيء يسير جاز المسح عليه، وإن تفاحش لم يجز المسح ووجب نزعه وغسل الرجلين. وبه قال الشافعي في القديم. وقال في الجديد: لا يجوز المسح سواء كان الخرق يسيرا أو كبيرا، وبه قال أحمد. وقال الثوري، وأبو ثور، وإسحاق: إنه يجوز المسح عليه ما دام يمكنه المشي فيه. وقال الأوزاعي: يجوز المسح، ويمسح على ما ظهر من الرجل وعلى باقي الخف.

وقال أبو حنيفة: إن كان الخرق مقدار ثلاث أصابع لم يجز المسح، وأن كان دونها جاز، وذهب إلى جواز التفليق إن كان في فرد خف، وإن كان في الخفين جميعا لم يلفق أحدهما إلى الآخر، فإذا كان في فرد خف خروق في مواضع منه متفرقة قال: إن بلغ كله إذا ... ضم بعضه إلى بعض ثلاث أصابع لم يجز المسح عليه، وإن كان أقل من ثلاث أصابع مسح عليه، وإن كان في خف واحد قدر أصبع مثلا، وفي الآخر قدر أصبعين لم يلفق، وجاز المسح على الخفين جميعا وإن بلغ الجميع ثلاث أصابع. فحصل الخلاف في المسح بالخروق على خمسة مذاهب. والدليل لقولنا في جواز المسح إذا كان الخرق يسيرا، ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة رضي الله عنهم في المسح على الخفين، وفي جوازه قولا وفعلا، في السفر والحضر، ولم يفرقوا بين أن يكون الخف صحيحا أو فيه خرق يسيرا أو كثير؛ لأن اسم الخف لا يزول عنه مع كون الخرق فيه، فلو خلينا وهذا الظاهر من فعلهم وقولهم لجوزنا المسح على الخف بأي خرق كان، ولكن قامت دلالة منعت من المسح إذا تفاحش الخرق، ولم تقم دلالة في المنع من الخرق اليسير، فبقي على حكم الظاهر في جواز المسح؛ لأن اسم الخف موجود. وأيضا فإن خفاف الناس تختلف على حسب أحوالهم وحاجاتهم، وفي الجدة والخلوة، فرخص له في المسح ترفيها لحاجتهم إلى

الخفاف، وأنهم يحتاجون إلى لبسها في أسفارهم ومواضع البرد والثلوج، والمشي في طول الطرق، وحيث لا يجدون من يخرزها لهم، فعفي لهم عن الخرق اليسير. كما عفي عن العلم القليل في الصلاة؛ لأنه يشق التحرز منه، فكذلك يشق التحرز من الخرق اليسير في الخف في مثل ما ذكرنا، وليس كل أحوال الناس تتفق؛ لأن منهم من لا يستحسن لبس الخف المخرق، ومنهم من لا يمكنه غير ذلك، ويشق تتبع كل خرق يسير في خف، خاصة للماشة في طرقهم كلها، وقد عفي عن الدم اليسير الذي يشق التحفظ منه في الصلاة كدم البراغيث، وكذلك عفي عن الغرر اليسير في البياعات، وعن أشياء أخرجت عن أصولها؛ للرفق والحاجة إليها. وأيضا فإن المعنى الذي لأجله جوز المسح على الخف الصحيح السليم هو أن الحاجة تدعو إلى لبسه، وتلحق المشقة في نفسه في نزعه، وهذا المعنى موجود لا محالة فيمن في خفه خرق يسير. وأيضا فإن المسح على الخفين رخصة عامة لجميع من يحتاج إلى لبسه فلو قلنا: لا يمسح على خف مخرق صارت الرخصة خاصة لبعض أصحاب الخفاف دون بعض. فإن قيل: قد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ فغسل وجهه إلى أن غسل رجليه، ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله الطهارة

إلا به»، فهو على عمومه إلا، يقوم دليل المسح. وكذلك ظاهر القرآن يدل على غسل الرجلين لكل صلاة إلا أن يقوم دليل. قيل: الآية والخبر وردا فيمن كانت رجلاه باديتين، فإما كانتا في الخف جاز المسح بما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة في المسح على الخفين لم يخصوا خفا فيه خرق من غيره. فإن قيل: فإن ظهر من رجله ما يلزمه غسله عند ظهور جميعه، فوجب أن لا يجوز له المسح عليه، أصله إذا كان كبيرا. قبل: ليس المعنى ما ذكرتم؛ إن الكبير يكون نادرا، وليس هو الغالب، ولأن أكثر القدم يظهر، ليس كذلك اليسير؛ لأن خفاف الناس في الغالب لا تخلو منه، مثل أن يظهر منه ظفر أو رأس أصبع، وقد عفت الشريعة في الرخص عن القليل، كما ذكرنا في العمل القليل في الصلاة، وكدم البراغيث. فإن قيل: فإن الرجلين لو كانتا باديتين لكان الفرض فيهما الغسل، وإذا كانتا مستورتين جاز المسح، فإذا تخرق بعض الخف، وظهر بعض الرجل فلا بد من تغليب أحدهما على الآخر، فتغليب حكم الغسل أولى؛ لأنه أصل، والمسح بدل عنه. قيل: إذا تفاحش ظهور الرجل فهو كما قلتم، يغلب حكم الغسل،

فأما إذا كان الخرق يسيرا غلب عليه حكم المسح، كما قلنا في الدم: الأصل كون الثوب طاهرا من الدم، فإن حصل فيه دم البراغيث غلب حكم العفو عنه، وإن كان على غير ذلك غلب حكم الإزالة، وكذلك حكم العمل القليل في الصلاة يخالف الكثير. على أنه إنما يغلب حك الأصل وهو المبدل على البدل إذا جد جميع المبدل، وها هنا لم يجد حكم جميع المبدل من ظهور القدمين أو أكثرهما. ألا ترى أن واجد الرقبة في الكفارة يمنع جواز البدل الذي هو الصم؛ لأن القبة - التي هي الأصل - موجودة فمنعت البدل، وليس كذلك إذا وجد بعض الرقبة، لم يقدر على باقيها، فإن الصوم - الذي هو البدل - جائز؛ لأن جميع الأصل معدوم، فكذلك ظهور القليل من القدم لا يمنع المسح الذي هو البدل، ويصير في حكم ما لم يظهر. فإن فصلوا بين الموضعين بأن واجد بعض الرقبة لا يقدر على باقيها، والذي ظهر اليسير من رجله يقدر على الغسل، الذي هو الأصل. قيل: هذا الفرق لا ينجي مما ذكرناه؛ لأننا قد رأينا الفصل بين ظهر المبدل مع البدل وبين عدمه، وهو موجود في الموضعين جميعا، وإنما كسرنا ما قلتم بما ذكرناه فلم.

فصل

فصل فأما التقديم في الكلام مع أبي حنيفة فيستدل بظاهر قوله - تعالى -: {فاغسلوا وجوهكم}، إلى قوله: {وأرجلكم}، وبالخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غسل الرجلين إلا أن يقوم دليل. وحصل الاتفاق منها ومنه على جواز المسح مع الخرق اليسير، ولم يقم دليل على جوازه مع الخرق الذي هو مقدر. فإن قيل: الأخبار الواردة في جواز المسح لم يفرق فيها بين القليل والكثير. قيل: لم يرد فيها حد محدود، فمن قدر بثلاث أصابع فعليه الدليل، والقديرات تحتاج إلى دليل من صاحب الشرع عليه السلام، ولما لم يكن في تقدير الخرق دلالة من كتاب ولا سنة ولا اتفاق ولا قياس لم يثبت حكمه، وقد ثبت في الأصول العفو عما يغلب على الظن قلته، كما ذكرنا في العمل القليل في الصلاة، والغرر اليسير في البياعات. وأيضا فإنه لا ينفك في قدر ذلك بثلاث أصابع ممن قدره بأربع أصابع أو أصبعين بغير دليل. وأيضا فإنهم يقولون: إن التقديرات والحدود والكفارات لا تؤخذ قياسا، وهذا من التقدير الذي لا أصل له يرجع إليه، فلا ينبغي أن يثبت من جهة القياس لو كان هناك أصل يقاس عليه، نحن نعلم أن

خفاف الصحابة رضي الله عنهم - وأكثرهم عرب - لم تخل من خروق فيها، وكذلك من بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم تحديد وامتناع من المسح إذا كان على حد محدود. فإن قيل: فكيف يجوز أن يكون اليسير منه مجوزا، ولا يجوز في الكثير ولا يكون بنيهما حد يفرق بين القليل والكثير حتى نعلمه؟. قيل: هذا جائز قد ورد الشرع به في مواضع، ووكلنا إلى ما يغلب على الظن من القلة أو الكثرة، كالعمل في الصلاة، وغير ذلك مما لا حد محدودا فيه بين القليل والكثير غير الرجوع إلى غلبة الظن. فإن قيل: إذا ثبت أن يسير الخرق لا يمنع المسح؛ لأن مواضع الخرق التي يدخلها الغبار لا تمنع جواز المسح، والكثير الذي يظهر معه أكثر الرجل يمنع احتيج إلى حد يفصل بينهما، فوجب أن يكون من طريق الاجتهاد مقدار ثلاثة أصابع من أصابع الرجال؛ لأن الحكم في الأصول يتعلق بذلك، كمسح الرأس ومسح الرجلين. قيل: إن الحد في ذلك لا يجوز أن يقف على تحكمنا نحن وتقديرنا من غير أصل يرجع إليه من كتاب أو سنة أو اتفاق أو قياس على علة أو تنبيه، فإذا عدم جميع ذلك فليس غير الاجتهاد الذي يختلف بحسب اختلاف المجتهدين؛ لاختلاف حال المجتهدين فيه. فأما مسح الرأس فليس فيه تقدير، وعليه أن يمسح الجميع - عندنا -، فإن سقط منه اليسير من حيث لا يقصد فليس هو مقدرا ولا محدودا، وأما الرجلان فلا يمسحان.

فإن أرادوا مقدار المسح على الخف ين فليس فيه أحد، وإنما يمسح ظاهرهما وباطنهما، فهو على ما تقضيه العادة في مسح أكثره، وقد قال مالك - رَحمَه الله -: إنه إن مسح أعلاهما أعاد الصلاة في الوقت، ولم يحد في مسح أعلاه ثلاث أصابع ولا غيرها، وبالله التوفيق.

[70] مسألة

[70] مَسْأَلَة ولا يجوز المسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدين، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي. وقال الثوري، وأبو يوسف ومحمد، وأحمد بن حنبل: يجوز المسح عليه. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا

وجوهكم} إلى قوله: {وأرجلكم إلى الكعبين}، فأمر كل قائم إلى الصلاة بغسل رجليه عموما. فلا يجوز العدول عن الغسل إلا بدليل. وما روي أن النبي عليه السلام غسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل رجليه، وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، فلا يجوز غير غسل الرجلين في كل وضوء إلا بدليل. وأيضا فإن الطهارة والصلاة في ذمته بيقين فلا تسقطان إلا بدليل. وأيضا فإنه ستر قدميه بما لا يمكنه متابعة المشي عليه، فلم يجز المسح عليه، أصله إذا لف على رجليه خرقة. وأيضا فإن المروي عن النبي عليه السلام وعن أصحابه رضي الله عنهم المسح على الخفين، وهذا الاسم لا يختص بالجوربين فما عدا الخفين بخلافه. وأيضا فإنما جوز المسح على الخفين؛ لأن حاجة الني عامة تدعو إلى لبسة، وتلحق المشقة في نزعه، وبهم حاجة إلى تتابع المشي فيه في الطرق الطلا والثلوج والأسفار، وهذا المعاني لا توجد في الجوربين، ولا يقاس الخف على الخف؛ لأن معنى غيره لا يوجد فيه، لا يوجد معناه في غيره، ولا تقاس العمامة عليه، لأن حاجة الناس تدعو إلى لبسها، ولكن لا تلحق المشقة في نزعها، أو إدخال اليد تحتها بالمسح. وأيضا فإن المخصوص بالذكر على ثلاثة أضرب:

فضرب مخصوص بالذكر لا يعقل معناه، فلا يقاس عليه، مثل الصلوات والطهارات؛ لأنه لم يعلم معناه لم يمكن القياس عليه. وضرب آخر مخصوص بالذكر عام المعنى فهذا يقاس عليه، كالنص على البر والتمر في الربا يجوز القياس عليه؛ لأن معناه معقول يوجد فيه وفي غيره. والضرب الثالث مخصوص بالذكر مخصوص المعنى، فلا يقاس عليه، مثل المسح على الخفين. فإن قيل: قد روي أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة أن النبي عليه السلام مسح على الجوربين. وأيضا فإنه ساتر لقدميه فجاز المسح عليه كالخف. قيل: أما الخبر فغير صحيح من وجهين: أحدهما: أن عبد الرحمن بن مهدي قال: هزيل ضعيف، وهو لم يلحق المغيرة أيضا. على أنه ل صح لم تكن فيه حجة؛ لأنه نقل فعله عن النبي عليه السلام

لا نعلم صفتها، ولا كيف هي، والفعلة الواحدة لا يدعي فيها العموم، فيحتمل أن يكو [كان] الجورب مجلدا يمكن متابعة الشيء فيه. وقياسهم باطل به إذا لف على رجليه خرقة. على أنه لو سلم من النقض لم يجز القياس على الخف؛ لأنه مخصوص المعنى. ثم إننا قد ذكرنا قياسا على الخرقة فيسقطه، ويرجع عليه بالاحتياط للصلاة، وإسقاط الفرض بيقين، والله أعلم.

[71] مسألة

[71] مَسْأَلَة ولا يمسح على جرموقين. الجرموق هو الخف فوق الخف، وبه قال الشافعي في الجديد. وقد روي عن مالك جوازه، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في قوله القديم. وهذا ينبغي أن يكون الخف الأسفل مما [ينبغي] إذا انفرد جاز المسح عليه، ويكون الفوقاني كذلك، فأما إن كان التحتاني مما لا يجز المسح عليه الو انفرد، مثل أن يكون مخرقا خرقا فاحشا أو ضعيفا

لا يمكن متابعة المشي عليه، فلا يختلف القول في جواز المسح على الأعلى، ويكون الأسفل كالجورب، وكذلك إن كان الأعلى بهذه الصفة، الأسفل صحيحا لم يجز المسح على الأعلى بلا خلاف على هذا المذهب. الدليل لقوله لا يجوز المسح على الأعلى على كل حال: كون الطهارة والصلاة في الذمة فلا تسقطان إلا بدليل. وأيضا قول النبي عليه السلام وقد تطهر وغسل رجليه: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، فه عموم في كل صلاة؛ لأن الألف واللام في الصلاة للجنس. وكذلك قوله عليه السلام: «لن تجزئ عبدا صلاته حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه» أن قال: «ويغسل رجليه»، فنفي الإجزاء عن كل عبد إلا على هذه الصفة، فما عداها بخلافها إلا أن يقوم دليل. فإن قيل: قد اشتهرت الرواية عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم بجواز المسح على الخفين، فسواء كانا تحت أو فوق. قيل: إذا أطلق المسح على الخفين اقتضى لابس الخفين؛ لأن من لبس أربعة.

على أنه لو كان عاما جاز أن يخص، فنقول: إن رخصة المسح لا تزول بزوال الجرموق على الشيء الذي هو منفصل عنه، فوجب ألا يجوز المسح. أصله إذا لف على الخف الأسفل خرقة مكان الجرموق. وقولنا: منفصل عنه؛ احتراز عن طبقتي الخف؛ لأنها غير منفصلة عنه، وعكس ما ذكرناه الخف الواحد لما زالت الرخصة بزواله جاز المسح عليه، وكذلك إذا كان التحتاني مخرقا جاز المسح على الأعلى؛ لأن الرخصة تزول بزواله. وأيضا فإنما جاز المسح على الخف الواحد للحاجة العامة إلى لبسه، ولحوق المشقة في نزعه، وهذا لا يوجد في الجرموق؛ لأنه لا تدعو عوام الناس إلى لبسه، ولا تلحق المشقة في نزعه فلم يجز المسح عليه. فإن قيل: فإنه خف يلي الماسح فجاز المسح عليه، أصله إذا كان خفا واحدا، أو كان التحتاني مخرقا خرقا فاحشا بحيث لا يجوز المسح عليه. وأيضا فإن المعنى الذي لأجله جاز المسح على الخف هو كون الحاجة إلى لبسه، ولحوق المشقة في نزعه، وهذا موجود في الخف الأعلى. قيل: أما القياس الأول فالمعنى فيه زال الرخصة في المسح بزواله، فلهذا جاز المسح عليه. وأما قولهم: إن الحاجة تدع إليه فقد ذكرنا أن الأمر بخلافه، والحاجة إليه لست عامة، هي عامة في الخف الواحد، والمشقة

تلحق في نزع الخف الواحد، ولا تلحق في نزع الأعلى؛ لأن الأسفل باق. ونقول أيضا: إن ما تحت الجرموق يجوز المسح عليه، وهو الخف الأسفل؛ فالمغطي لما يجوز المسح عليه لا يجوز أن يقصد بالمسح عليه. دليله العمامة لا يجوز المسح عليها؛ لأن ما تحتها مما يمسح. فإن قيل: فقد روي أن النبي عليه السلام كان يمسح على الموق، وروي:

الجرموقين، رواه الحارث بن معاوية عن بلال عنه عليه السلام. قيل: إن الموق غير لجرموق؛ لأنه خف يلبس وحده، أما مسحه على الجرموق فإن صح فلنا به، ولكننا لا نعرف. ويحتمل أن يكون عليه السلام فعل ذلك؛ لأنه كان على طهر ولم ينتقض، فجدد وضوءه ومسح عليه، ولو كان يجوز على ما تقولون لاشتهرت الرواية فيه وظهرت عنه عليه السلام، أو عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم، وليس يجوز أن ينتقل عن فرض وغسل القدمين إلا بأمر ظاهر، كالمسح على الخف الأسفل. وأيضا فإن المسح على الخف رخصة وليس بعزيمة، والرخص لا يجوز القياس عليها عند كثير من أصحابنا، ويجوز عند بعضهم إذا عرف معناها، وليس في الخف الأسفل معنى يجمع به بينه وبين

الجرموق؛ لأن الحاجة تعم في الخف الأسفل، وتلحق في نزعه المشقة، وقد بينا أيضا أنه ممسوح فلا ينوب عنه ممسوح مع القدرة عليه، فلم يسلم فيه معنى يجمع به بينه وبين الجرموقين. وأيضا عن مسح الخف بدل من غسل الرجلين فهو كالتيمم بدلا من الوضوء، فلما لم يكن للتيمم بدل مع القدرة عليه لم يكن للمسح على الخف بدل مع القدرة عليه. فإن قيل: قد يكون للبدل بدل يقوم مقامه. ألا ترى أن من لا يقدر أن يمسح لشجة فيه فإنه جوز له أن يمسح على العمامة والعصابة، وكذلك الوجه في التيمم قد يمسح على الحائل إذا كان هناك مانع من المسح عليه. قيل: هذا لا يلزم: لأننا لا نجوز ذلك مع القدرة على البدل، وأنتم تجيزون المسح على الجرموق مع القدرة على مسح الخف. ووجه قول مالك - رَحمَه الله - إن المسح يجوز: هو ما ذكرناه من الأسئلة على هذه الرواية. وأيضا فإن الحاجة تدعو إلى لبس الجرموق في المواضع الباردة، ومواضع الثلوج وإن لم يكن ذلك عاما في جميع الناس، كما أن لبس الخف ليس تدعو الحاجة إليه في جميع الناس، والله أعلم.

[72] مسألة

[72] مَسْأَلَة إذا نزع خفيه أو أحدهما بعد أن كان قد مسح عليهما غسل رجليه مكانه، فإن أخر غسل رجليه استأنف الطهارة، وبه قال الليث بن سعد. وقال أبو حنيفة، والثوري، والشافعي في أحد قوليه، والمزني: إنه يغسل رجليه سوءا طال ذلك أولا، ليس عليه أن يستأنف الطهارة. ومن قال من أصحابنا: إن الموالاة مستحبة وليست واجبة كذلك يقول. وقال الشافعي في القديم: يستأنف الطهارة من أولها على كل

حال، وبه قال الأوزاعي، وابن أبي ليلى، والنخعي، الحسن البصري. وقال داود: إذا نوع خفيه ثم يحتج إلى شيء لا غسل الرجلين ولا استئناف الطهارة، ويصلي كما هو حتى يحدث حدثا مستأنفا.

والدليل على داود: ظاهر قوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله: {وأرجلكم إلى الكعبين}، فهو عموم في كل صلاة إلا أن يقوم دليل. وأيضا كون الصلاة في ذمته، فمن زعم إنها تسقط عنه إذا صلاها مكشوف الرجلين من غير غسل فعليه الدليل. وأيضا عن النبي عليه السلام توضأ وغسل رجليه، وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، فهو عموم في كل صلاة. وأيضا قوله للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله فاغسل وجهك» إلى أن قال: «واغسل رجليك»، فبين أن الذي أمر الله به غسل الرجلين. وأيضا قوله: «لن تجزئ عبدا صلاته حتى يضع الوضوء موضعه، فيغسل وجهه ويديه» إلى قوله: «ويغسل رجليه»، فنفي الأجزاء عن كل عبد إلا بهذه الصفة، فهو عموم إلا أن يقوم دليل. وأيضا قوله لأبي ذر: «التيمم طهور المسلم ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته»، والرجل من البشرة، فهو عموم إلا أن يقوم دليل.

فإن قيل: فقد حصل الإجماع على أنه طاهر بعد مسحه على الخفين، وأن الصلاة جائزة له، فمن زعم أن عليه غسل رجليه، أن طهارته تنتقض فعليه الدليل، وإلا فنحن متمسكون بموضع الإجماع. قيل: إن الإجماع حصل على صفة، وهو كون رجليه في الخفين، فلما نزعهما انحل الإجماع، ألا ترى أن الخلاف حاصل. وعلى أن الأصل كان عليه غسل رجليه، لأنه محدث فجوز له الإجماع أن يمسح على الخفين ما دامت الرجلان مستترتين بالخف، فإذا نزعهما عاد إلى ما كان عليه من وجوب غسلهما، فلم يبق إجماع. فإن قيل: هذا كلام في إبطال استصحاب الحال؛ لأننا قلنا: قد حصل الاتفاق على أنه يجوز له الصلاة قبل نزع الخف، فمن زعم أن حكمه يتغير بنزعه فعليه الدليل. قيل: نحن أيضا نقول باستصحاب الحال، ويجوز الانتقال عنها بالدليل، وقد بينا لأي معنى حصل الإجماع، وهو كونه طاهرا قبل نزع الخف؛ لانستار قدميه في الخف مع وجود المسح عليهما. قد زال هذا المعنى بظهور قدميه، وإذا تعلق الحكم بعلة ثم زالت زال الحكم المتعلق بها. يدلك على هذا: أن القدمين لو كانا ظاهرين بعد الحدث وقبل كونهما ممسوحين في الخف لوجب غسلهما، ولكن المسح ناب عن الغسل، وصار هذا كالتيمم الذي كان على الإنسان في الأصل أن يستعمل الماء ما دام قادرا على استعماله، فإذا تعذر ذلك جاز له التيمم ما دام على هذا الحال، فإذا زال العذر زال حكم التيمم الذي هو

بدل من الغسل، كذلك هذا كان عليه غسل رجليه بالماء، فإذا أدخلهما في الخف على صفة جاز له بعد الحدث المسح ما دام على هذه الحال، فإذا ظهرت رجلاه زال المعنى الذي من أجله زال المسح على الخف بدلا من غسلهما، ورجع الشيء إلى حكمه الأول من وجوب الغسل بأجل الحدث المتقدم. وعلى أننا قد إذا ... كرنا استصحاب حال هي أولى مما ذكرتم، وقلنا: الصلاة في ذمته بيقين. فإن قيل: إن التيمم لم يرتفع حدثه وإنما استباح الصلاة بالتيمم وهو محدث، وماسح الخفين مع غسل باقي الأعضاء قد ارتفع حدثه، فلا يصير محدثا بنزعه الخفين. قيل: إنما نقول: إن حكم حدثه ارتفع على صفة، وهو أنه ما دامت رجلاه في الخف بدلا من الغسل فهو تابع للأعضاء المغسولة، فإذا ظهرت الرجلان حتى حضرت صلاة أخرى زال حكم المسح الذي هو بدل عن غسلهما لا بدلا عن جميع الأعضاء، فيجب غسل الرجلين. فإن قيل: فإن الإنسان إذا كان أصلع أو أمرد وجب عليه في الضوء غسل وجهه ومسح رأسه، ثم لو نبتت لحيته وشعر رأسه جاز له غسل الشعر ومسحه على الرأس، فلو أنه غسل ظاهر لحيته ومسح شعر رأسه ثم حلق ذلك لم تجب عليه إعادة الغسل والمسح، وجاز له أن يصلي قبل أن يحدث، فكذلك في مسألتنا في الخف. قيل: هذا التشبيه غلط؛ لأن الشعر ليس ببدل وهو من نفس الخلقة، وغسله ومسحه عزيمة كما لو لم يكن، وليس كذلك الخف؛ لأنه في الأصل منفصل ليس من الخلقة في شيء. ألا ترى أنه لو قال

لزوجته: شعرك طالق. طلقت. فلو قال لها: خفكي طالق. ولم تطلق، فصار مسح الخف بالتيمم أشبه؛ لأنه بدل كالتيمم. فإن قيل: قد نجد في الأصول أن يكون الشيء له حكم في الأصل، ثم يحدث له حكم آخر، ثم يعود إلى مثل الحال الأولى فلا يعود حكمه إلى الأول ولا يتغير حكمه عما قد حصل عليه. من ذلك: عقد التزويج لو وقع في الإحرام لقبح - عندنا وعندكم، وكذلك في العدة، ثم لو عقد في غير الإحرام بشرائطه لكان صحيحا، ثم لو طرأ عليه الإحرام لم يقدح في صحته، ولم يبطل حكم النكاح، وكذلك لو طرأت العدة على زوجته، مثل أن توطأ بشبهة لم يبطل حكم عقده، وإن كانت هذه الحال لو وجدت في الابتداء لم يصح العقد، وكذلك لا يؤثر نزع الخف في صحة الطهارة المتقدمة، وإن كانت الرجلان لو كانتا في الابتداء ظاهرتين لم يكن بد من الغسل.

قيل: إن التشبيهة أيضا غير صحيحة، وعروض مسألتنا: أن يكون في الابتداء محرما، محدثا ظاهر الرجلين، فهذا لا يجوز له المسح على رجليه لا إدخالهما في الخف إلا بعد الغسل، والمحرم لا يجوز له العقد، فإذا غسل هذا رجليه وأدخلهما في الخف صار بمنزلة من عقد وهو غير محرم في أنه فعل ماله أن يفعل، والآخر أدخل رجليه في الخفين ففعل ماله أن يفعل. فطرق المسح عليه لا يبطل فعله، وطرق الإحرام على الآخر لا يبطل فعله المتقدم وهو العقد، فإذا نزع هذا خفه بعد الحدث والمسح، فهو بمنزلة المحرم يطلق في حال إحرامه، فإنه يعد إلى حالته الأولى في الابتداء في أنه لا يصح منه التزويج الذي كان يصح منه، ورجلاه في الخف بل عاد إلى حالة الابتداء من أنه لا بد من غسل رجليه، كما كان في الأول قبل إدخالهما في الخف، كما عاد المحرم بعد إطلاقه إلى الحال التي لو كان عليها في الابتداء من الإحرام لم يجز له عقد التزويج. وعلى أن المحرم إذا طرأ عليه الإحرام بعد تقدم عقده فهو ممنوع من الوطء، كما لو عقد النكاح وه محرم، والذي أدخل رجليه في الخفين هو غير ممنوع من المسح ما دام على حاله، فبان بهذا أن التشبيه أيضا غير صحيح. وقد أجاب أصحابنا عن هذا السؤال بأن قالوا: العلل على ضربين: فضرب الابتداء والانتهاء، وضرب لابتداء دون الانتهاء. فالضرب للابتداء والانتهاء، وضرب للابتداء دون الانتهاء. فالضرب الذي للابتداء حسب، كالإحرام والعدة كما ذكرتموه. والضرب الذي يستوي حكم ابتدائه وانتهائه كالرضاع والردة.

وملك أحد الزوجين صاحبه. فأدني ما في ذلك ألا تكونوا فيما ذكرتموه من اعتبار ما تنازعناه بأسعد منه باعتباره بما ذكرناه من علل الابتداء الانتهاء؛ لأن العقد مع وجود الردة والرضاع لا يجوز، ولو طرأ بعد العقد لأبطله، كما كان يبطله في الابتداء، ووجب أن يغلب الأقوى من الاعتبارين، فكان اعتبارنا أولى؛ لأن مسح الخفين نائب عن الغسل لا محالة؛ لأنه إحدى الطهارتين، ولا تصح نيابته عنه إلا على صفة، وهي أن يكون العضو الذي هو الأصل غير ظاهر؛ لأنه متى ظهر كان الخف أجنبيا منه لا يكن من المسح بسبيل، فإذا ظهر القدم فقد زال حكم المسح؛ لأن الأصل الذي من أجله صار هذا نائبا عنه قد حضر، فوجب أن يكون على الأصل الذي كان عليه. يدل على صحة هذا: التيمم على ما تقدم ذكره، ولهذا نظائر كثيرة في الأصول منها: أن شهود الأصل لو كانوا حضورا غير مرضى ولا مسافرين، أو فسقوا لم يجز لشهود الفرع أو يؤدوا الشهادة التي على شهادتهم؛ لأن شهادتهم تجوز على صفة هي غيبة شهود الأصل، أو تخلفهم لعذر، ولكونهم عدولا. ومنها: أن الميتة مباحة للمضطر إليها، ثم لو حضر من الحلال ما ينب منه بها ارتفعت الإباحة، وعاد إلى الأصل الذي كان عليه من حضرها لعدم ضرورة. فإن قيل: فلنا نحن شواهد في الأصول. منها: إن عدم الطول

وخوف العنت يبيح التزويج بالأمة المؤمنة، فإذا تزوج ثم وجد الطول، وزال خوف العنت لم يبطل حكم عقده على الأمة، وإن كان قد صار إلى حالة لو كان عليها في الابتداء لم يجز له العقد، وكذلك ما تنازعناه. قيل: عروض مسألتنا في نزعه خفيه هو أن يطلق هذا هذه الأمة، فيحصل على الحالة التي لا يجوز معها ابتداء العقد، فيتغير حكنه لا محالة، كما أن نازع الخف قد تغير حكمه، وعاد إلى ما لو أن عليه في الابتدء لم يجز له الصلاة إلا بغسل رجليه. وأجاب أصحابنا عن هذا السؤال بأن اعتبار مَسْأَلَة الخلاف أولى؛ لأنه من بابه والمسح إليه أقرب، وله أشبه. وأيضا فإن عروض ما إذا ... ذكروه الصلاة التي أديت في حال المسح وهي صحيحة، وليس أمرها مراعى أو موقوفا، وكذلك النكاح ليس أمره مراعى، وقد مضى سليما. وأيضا فإن النكاح لا يبطله مضي زمان من غير فعل مؤثر، والمسح يزول حكمه - عندكم - بمضي مدة المقيم ومدة المسافر.

ويقوي ما نقوله في المسألة: أن من عليه رقبة من ظهار أو قتل، إذا كان واجدا لها لم يجز له الصوم، فلو لم يجدها ثم دخل في الصوم، ثم جد الرقبة فإنه يمضي على صيامه ما دام على حاله، فلو أفسد صيام التتابع بغير عذر أو لعذر - وهو واجد للرقبة - عاد إلى حكم الرقبة التي لا يجوز له مع وجودها في الابتداء العدول إلى الصوم، فصارت الأبدال على طريقة واحدة. ومثل ذلك، هدي القرآن والتمتع وغيرها إذا عدمها حتى دخل في صيام العشرة الأيام، ثم وجد الهدي فإنه يمضي على صيامه، فلو أفسده رجع إلى الهدي الذي في ملكه، فقد استمر هذا في الأصول، وبالله الموفق. واعتبارنا أولى؛ لاه يؤدي إلى إسقاط الصلاة بيقين. فأما الكلام في غسل الرجلين عند نوع الخفين دون استئناف الطهارة من أولها، فمبني على جواز تفرقة الوضوء لعذر، فإن أخر غسل رجليه استأنف الطهارة من أولها. وقد مضى الكلام في الموالاة في موضعه. وقد ذكرنا أن أحد قولي الشافعي أنه يستأنف الطهارة من أولها على كل حال. ويجوز أن ندل على أن عليه غسل رجليه في الحال دون استئناف الطهارة بأن نقول: الأصل ألا شيء عليه قبل نزعهما، ثم قامت دلالة على غسل الرجلين، وبقي الباقي على الأصل.

وأيضا فإنه بدل بطل حكمه بظهور مبدله فوجب فوجب أن يلزمه غسل ما كان البدل نائبا عنه. دليله التيمم، وذلك أن الإنسان إذا عدم الماء وتيمم فن التيمم نائب عن غسل جميع الأعضاء، فإذا وجد الماء لزمه غسل جميع الأعضاء التي كان التيمم نائبا عنها، كذلك أيضا مسح الخفين بدل عن غسل الرجلين، ونائب عنهما، فإذا بطل حكمه بالنزع لزمه غسل الرجلين؛ لأن المسح عنهما لا عن غيرهما. فإن قيل: هذا فاسد به إذا أخر غسلهما. قيل: لا يلزم؛ لأنه ليس علية الاستئناف هي النزع، وإنما العلة لشيء آخر، وهو تأخير غسل الرجلين، وإلا فالواجب بالنزع وهو غسل الرجلين فقط. وأيضا فإن مسح الخفين في حكم رفع الحدث؛ لأن الحدث حقيقة يرتفع؛ لأن مسح الخفين ليس كغسل الرجلين الذي يرتفع معه الحدث حقيقة. والدليل على أنه لا يرفع الحدث حقيقة، وإنما هو تابع للأعضاء المغسولة: وهو أن كل طهارة ترفع الحدث لم تبطل قبل وجود الحدث، وكل طهارة لا ترفع الحدث يجوز أن تبطل قبل الحدث، كالتيمم، فلما كان المسح على الخفين يبطل حكمه بنزع الخفين، علم أنه لم يرفع الحدث، فإذا لم يرفع الحدث عن الرجلين، وإنما استباح الصلاة بالمسح، فإذا نزع الخف فقد بطلت الاستباحة، وصار كمن غسل

الأعضاء الثلاثة وبقي غسل رجليه فيكفيه أن يغسل رجليه. فإن قيل: قد روى صفوان بن عسال قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم، ثم نحدث وضوءا بعد ذلك، فأخبرنا أن النبي عليه السلام أمر بالوضوء عند نزع الخف، وإطلاق الوضوء يقتضي وضوءا كاملا. قيل: الخبر يدل على أنه ينزع الخف للجنابة، وإذا كان جنبا أحدث وضوءا كاملا مع غسله، فنقول بموجبه. فإن قيل: فإنه معنى يبطله الحد فوجب أن يكن انتقاض جزء منه كانتقاض جميعه، أصله الصلاة إذا بطلت ركعة منها بطلت كلها. وأيضا فإن المسح على الخفين يرفع الحدث؛ بدليل أنها طهارة بالماء، وكل طهارة بالماء فإنها ترفع الحدث كغسل الرجلين. ألا ترى أنه يجمع بالمسح على الخفين بين صلوات كثيرة، وكل طهارة يستباح بها الجمع بين الفرضين فإنها ترفع الحدث، كغسل الأعضاء كلها، عكسه التيمم، فإذا كان يرفع الحدث فالحدث إذا ارتفع لم يبطل إلا بالحدث، فعلم أن نزع الخفين كالحدث، والمتطهر إذا أحدث لم يكفه غسل الرجلين. قيل: أما القياس على صلاة فليس بصحيح؛ لأن فساد ركعة يفسد الصلاة، فعروضه أن يفسد غسل الرجلين، والرجلان فلم

يحصل فيهما غسل، وإنما فسد مسح الخفين، والمسح ليس من جنس المغسول، وإذا فسد رجع الفرض إلى غسل القدمين حتى تساوي الأعضاء التي غسلت. وقولكم: إن مسح الخفين يرفع الحقد فقد قلنا: إنه يصير في معنى رفع الحدث؛ لأنه تابع للأعضاء المغسولة ليس كالغسل حقيقة، وما هو في حكم المغسول فهو أضعف من المغسول، فلهذا لم يكن نزع الخف حدث، وبالله التوفيق.

[73] مسألة

[73] مَسْأَلَة - عندنا - أن الكمال والسنة في مسح أسفل الخفين وأعلاهما وبه قال الشافعي، وهو مذهب ابن عمر، وسعد ابن أبي وقاص. من التابعين الزهري. وقالت طائفة: إن باطن الخف ليس بمحل للمسح مسننا ولا جائزا. وحكي أنه قول أنس بن مالك، وهو مذهب الشعبي، والنخعي، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة وأصحابه.

قالوا: لما رواه عروة بن الزبير عن المغيرة بن شعبة أن النبي عليه السلام مسح على ظهور خفيه، قالوا: فلا يخلو أن يكن عليه السلام أتى

بالجائز أو الكامل، فبطل أن يكون هذا القدر الجائز؛ لأن ما دونه يجوز. أي ما دون جميع ظهر الخفين، فلعم أنه المسح الكامل، فخرج باطن الخفين على الجواز والكمال. وأيضا فقد روي أن جابرا مسح ظهور خفيه، وقال: صنعت كما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع.

وروى عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف بالمسح أولى من ظاهره، ولكنني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح على ظاهره، فمنع علي أن يجري المسح على الباطن، وأن يكون محلا له. والدليل لقوله: ما رواه إبراهيم بن يحيى عن ثور بن يزيد عن

رجاء بن حيوة عن وراد كاتب المغيرة عن المغيرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح أعلى الخف وأسفله، وهذا نص في مسح أسفله،

فلا بد أن يكون عليه السلام فعل الجائز أو الكامل. وأيضا فإنه موضع من الخف يحاذي المغسول من القدم، فجاز أن يكون محلا للمسح عليه، أصله ظاهر الخف. فأما الجب عما ذكروه من خبر المغيرة فإننا نقول بموجبه، ويجوز المسح على ظهور الخفين، ولهذا لا يمنع أن يكون أسفلهما محلا للمسح، وإنما فعل الجائز؛ ليعلمنا جوازه، ولا يجوز الاقتصار - عندنا

- بالمسح على بعض أعلاهما. ولو جوزنا لم يمتنع أن يكون عليه السلام فعل الجائز وبعض الكمال، وأعلمنا أن هذا أيضا يجوز، وإن كان قد ترك باقي الكمال في مسح الباطن، وهكذا الجواب عما ذكروه من حديث جابر. وما ذكروه عن علي - رضوان الله عليه - لا حجة فيه؛ لأنه لم يقل: ل كان الدين بالقياس لجاز المسح على باطن الخف، وإنما قال: لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخف بالمسح أولى، لكني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح على ظاهره، يمنع أن يكون أسفله محلا للمسح، وإنما جعل مسح الظاهر أولى، ولو كان القياس لكان باطنه أولى، وهذا يقتضي أن يكون ظاهره أولى، وكذلك نقول: إنه أولى إذا أفرده؛ لأنه لو اقتصر على ظاهره أجزأه، ولو اقتصر بالمسح على باطنه لم يجزئه، وكون الظاهر أولى بالمسح لا يدل على أن أسفله ليس بحل للمسح، فظاهر الخف هو الجائز، ومسح الأسفل مع الظاهر هو الكامل.

وأيضا فإنه ممسوح جرى مجرى البدل من المغسول فجاز أن يكون جميعه محلا للمسح الوجه في التيمم.

[74] مسألة

[74] مَسْأَلَة وإن مسح أسفل الخف دون أعلاه لم يجزئه، به قال أبو حنيفة، والشافعي، وعامة أصحابه، وهو عندنا إجماع الصحابة. وقال المروزي في شرحه: يجوز الاقتصار على أسفله.

وهو خلاف منصوص الشافعي. واستدل له: بما رواه المغيرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح أعلى الخف وأسفله، قالوا: وإنما مسح أعلاه وأسفله؛ لأن كل واحد منهما محل للمسح جوازا ومسنونا. قالوا: ولأن انكشاف جزء مما تحت القدم لما كان كانكشاف الجزء من ظاهر القدم في المنع من المسح، كذلك أيضا استتاره يجب أن يكون كاستتاره في جواز الاقتصار عليه. والدليل لقولنا: ما روي عن عمر علي - رضي الله عنهما - أنهما قالا: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكننا رأينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح على ظاهره، وموضع الدلالة منه: أنهما أخبرا أن المسح على ظاهره أولى، وأن له مزية على باطنه، فإذا جاز الاقتصار على باطنه لم تكن للظاهر مزية عليه، لأنه أراد الكمال فالجمع بينهما كامل مسنون، وإذا أراد الجواز فجعل الباطن جائزا كالظاهر كان الظاهر والباطن في الكمال سواء، وكذلك في المسنون والجائز، ولم يكن للظاهر مزية على الباطن. وأيضا ما رواه أبو بكرة قال: رخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسافر ثلاثة أيام لياليها إذا تطهر فلبس أن يمسح على خفيه، والمسح على

الخف يقتضي المسح على ظاهره، فثبت بهذا أن الرخصة توجهت إليه وحده. ويجوز أن نقول: قد اتفقنا على أن الحدث حاصل، والصلاة عليه بيقين، فمن زعم أن حدثه ارتفع، وأن صلاته مجزئة فعليه الدليل. وأيضا: فإنه لما لم يجز تعدي مسح الخف إلى غيره من الجورب وشبهه، لم يجز تعدي موضع المسح المنصوص عليه إلى غيره قياسا. وفإن أسفل الخف يجري مجرى النعل، وظهر القدم يجري مجرى الخف. ألا ترى أن المحرم إذا لبس الخف كانت عليه الفدية، ولو لبس نعلا لم تجب عليه الفدية، ثم قد تكرر أنه لو لبس خفا بلا أسفل وله ظهر القدم كانت عليه فدية، ولو لبس خفا لا ظهر له على القدم وله أسفل القدم لم تجب عليه فدية. فإذا لم يكن بد من أن يجعل أحد الموضعين محلا للجواز فلأن يجعل ما هو في حكم الخف ويجري مجراه أولى مما يجري مجرى النعل. وأيضا فإن أسفل الخف، وباطن الخف لا يكون محلا للمسح. ألا ترى أنه لو أدخل يده في خفه فمسح على باطنه لم يجزئه. فأما قوله: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح أعلى الخف وأسفله ليبين أنهما جميعا ملح للمسح فه صحيح، ولكنه عليه السلام قصد أن يبين محل المسنون من مسح لا محل الجائز، والمعنى في مسح ظهر الخف: هو كونه ظاهرا من الخف، وليس كذلك أسفله؛ لأنه باطن.

وما ذكروه من المعنى في الخبر فهو عكس، ولا يقول به أكثر أصحابنا؛ لأنهم اعتبروا جواز المسح بالمنع منه، وهذا لا يجوز، فسقط ولو اقتصرنا في المسألة على الإجماع لكفى. فإن قال قائل: فإنه محل للمسح بالماء غير مستوعب فوجب ألا يتعين كمسح الرأس في الوضوء. قيل: مسح الرأس - عندنا - مستوعب؛ لأنه عزيمة في الوضوء ليس برخصة، والمسح على الخفين رخصة فلا يتعدى به موضع إجازته. فإن قيل: إن لكل موضع غسل غطاه خف تام فهو موضع للمسح كالظاهر من الخف. قيل: فينبغي أن يستوعب جميعه على هذا التعليل، أو يقتصر على موضع الرخصة منه ولا يتعدى بقياس. وما قلناه مرجح بما حكيناه من النص على أعلاه، والمنع من التعدي إلى غير الخف، فكذلك موضع الرخصة من المسح، وبالاحتياط للفرض، وإسقاط حكم الطهارة والصلاة وزوال الحدث بيقين. وأيضا فإن الأصول تشهد له؛ وذلك أننا وجدنا قد تعلق بظاهر القدم في المحرم إذا لم يجد نعلين لبس الخفين وقطعهما أسفل الكعبين؛ فكذلك الإباحة يجب أن تتعلق بظاهر القدم دون الباطن، وبالله التوفيق.

[75] مسألة

[75] مَسْأَلَة ويمسح على العصائب الجبائر إذا كان يخاف نزعهما، وسوءا وعضها على طهر تام أو حدث، ولا إعادة عليه إذا كان قد صلى، رهب قال أبو حنيفة. والشافعي يقول: إن وضعها على طهارة تامة ثم برأ من مرضه ففي الإعادة قولان، وإذا شدها على موضع الوضوء والغسل وهو محدث فالإعادة واجبة قول واحد. والدليل لقولنا: ما روي أن عليا رضي الله عنه قال انكسرت إحدى زندي فشددتها، وسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوضوء، فقال: «امسح عليها»، ولم يفرق بين شدها على طهر أو حدث، فلو كان الحكم يختلف لسأله عليه السلام

هل شدها على طهر أو هو محدث؟. ثم كان يبين له الحكم في ذلك، فلما لم يسأله، وأطلق له المسح مع جواز أن يكون شدها هو محدث علم أن الحكم لا يختلف. وأيضا فإن ضرورة الخف لأنه يسمح على الخف مع القدرة على نزعه وغسل رجليه، وهذا لا يقدر على غسل ما تحت العصائب، فهو يمسح عليها مضطرا غير مختار، فلم يكلف أن يعصب على الجرح وهو متطهر، مع جواز أن يتفق الجرح والكسر عليه وهو محدث فلا يمكنه الغسل، ليس كذلك الخف. ألا ترى أن الجنب مأخوذ عليه نزع خفه، وليس ذلك على الكسير المجروح. ولا إعادة عليه، لاه قد صلى على الوجه المأمور به على حسب قدرته، فصار بمنزلة من تعذر عليه استعمال الماء وخاف فوات الصلاة فإنه يبج عليه التيمم، ولا إعادة عليه، وكذلك من عجز عن قيام في الصلاة وجب عليه أن يصلي على حسب قدرته وطاقته، ثم لا إعادة عليه، وكذلك من لم يقدر على الرقبة في الظهار وقدر على الصيام جب عليه الصوم ولا إعادة عليه متى قدر على الرقبة، وكذلك من عجز عن كفارة اليمين حتى دخل في الصوم لم يجب عليه الرجوع في الكفارة إذا قدر، وهذا كله لأنه قد أدى الفرض على ما وجب عليه. فإن قيل: فإن الصحابة رضي الله عنهم قالت: إن من لم يجد ماء، ولم يقدر على التيمم، مثل المصلوب ومن حبس في الحش إنه يصلي ويعيد الصلاة، ولم يطرحوا الفرض الذي لزمه بالعجز. ومنهم

من قال: لا يصلي، ولكنه يقضي، فقد بطل ما قلتم. قيل: ليس تقدرون أن تعينوا على أحد من الصحابة أنه نص على هذه المسألة - وعندنا - أن المصلوب لا يصلي ولا يقضي، وكذلك المهدوم عليه إذا لم يقدر على ماء ولا تيمم. وأما المحبوس في الحش فقد قال مال في رواية ابن القاسم عنه: إنه يتيمم على الأرض النجسة، ولكنه يعيد في الوقت استحبابا إن قدر على أرض طاهرة. ويجوز أن يصلي في المكان النجس كالثوب النجس إذا لم يجد غيره. وقد قال أصحابنا في المصلوب والمهدوم عليه غير ما حكيناه، قد ذكرت قبل هذا اختلافهم فيه، فلو قلنا: إنهما يعيدان الصلاة لما ضر، لأن صاحب الجبائر قد مسح على الجبائر فناب المسح عن الغسل، وكما ناب التيمم عن الغسل، وهؤلاء لم يأتوا بأصل ولا بدل فافترق الحكم. فإن قيل: فما تقولون فيمن منعه مانع من الماء فصلى؟ قيل: إن كان تيمم لم تكن عليه إعادة، وإن لم يتيمم مع القدرة فعليه الإعادة، عن لم يقدر على التيمم أيضا فهو كمسألة المصلوب. فإن قيل: لو لطخه إنسان بنجاسة وهو في الصلاة، ومنعه أن يخرج منها حتى صلاها.

قيل: لا إعادة عليه، لأنه لو ابتدأ في الصلاة بنجاسة لعذر النسيان استحببنا له الإعادة في الوقت، وليس بواجب. وهذا أيضا إنما يلزم المزني، لأنه يقول: لا إعادة على صاحب الجبيرة إذا شد العصائب على طهارة، لأنه عاجز فتلزمه هذه الأسئلة أو يفرق بينهما فلا يلزمه ذلك. فإن قيل: قد اتفقنا على أنه لو مسح على الخف وقد لبسه على الخف وقد لبسه على غير طهر أن الإعادة واجبة، فكذلك في العصائب، المعنى الجامع بينهما، أنه مسح على حائل دون العضو المأمور بغسله، وهو محدث قبل غسله. قيل: هذا غلط فاحش، لأن لابس الخف على غر طهر ممنوع من الصلاة، عاص بفعلها فن مسح الخف، وصاحب الجبائر مأمور بالصلاة، عاص بتركها على ما هو عليه. ثم نقول أيضا: ليس المعنى في الخف ما ذكرتم، وإنما المعنى فيه أنه عند كل صلاة قادر على غسل رجليه، وإنما يترك ذلك ترخيصا واختيارا للترفه. أو نقول: العلة فيه أنه يجب عليه نزع الخف وغسل رجليه عند الجنابة، وليس كذلك صاحب الجبائر. ثم نعارض بأصل آخر فنقول: اتفقنا على أنه لو تكلف المشقة العظمى في نزع العصائب، فغسل أو مسح بعد تكلفة ونزعها، ثم صلى

لم تكن عليه الإعادة، والعلة فيه: أنه قد صلى على قدر طاقته وعلى ما كلف وأمر، فكذلك إذا مسح ولم ينزعها. وقد كان وضعها على غير طهر، فيكون هذا القياس أولى؛ لشهادة الأصول له. وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا في غزوة فاشتد عليهم البرد، فأمرهم النبي عليه السلام أن يمسحوا على العصائب والتساخين، لم يقل لهم: إن كنتم لبستموها على طهارة، وذلك للضرورة، والعصائب: العمائم. وقد اتفقنا على أنه لا يجوز المسح على العمائم مع القدرة على مسح الرأس. فإن قيل: ففي الخبر أنه أمرهم بالمسح على التساخين، وهي الخفاف، وقد اتفقنا على أنه لا يجوز المسح عليها إذا ... لبست على غير طهارة، ولم يسألهم عليه السلام هل لبسوها على طهارة؟ كما لم يسألهم عن العمائم. قيل: لو خلينا والظاهر لم يكن بين الأمرين فرق، ولكن قامت دلالة في الخف صرنا إليه، وبقي مسح العصائب. على أننا فرقنا بين الأمرين من طريق المعنى فلم يلزم ما ذكرتموه. يجوز أن نحتج بالظاهر من قوله - تعالى -: {يريد الله بكم اليسر لا يريد بكم العسر}، من العسر تكليف وضعها على طهارة، أو إعادة الصلاة بعد الرخصة في المسح الذي هو يسير.

وأيضا قوله - تعالى -: {يريد الله أن يخفف عنكم}، فدليله أنه لا يريد التثقيل علينا، وفي موضع العصائب على طهارة تثقيل علينا، وكذلك الإعادة. وقوله أيضا: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، أي من ضيق. وهذه عمومات في كل موضع إلا ما خصه الدليل، والله أعلم. ويجوز أن نحتج بقوله - تعالى -: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وهذا واجد للماء فيجب استعماله على الوجه الذي يقدر عليه، ولا يقدر على استعماله إلا المسح على الجبيرة، ولم يفرق بين أن يكون وضعها على طهر أو محدثا، فهو عموم إلا أن يقوم دليل. ونقول.: هو خائف من نزعها للغسل، فجاز له المسح عليها عند وجوب الوضوء، أصله إذا وضعها على طهارة، فإذا ثبت المسح سقطت الإعادة؛ لأنه قد أدى الصلوات على ما أمر وكلف كما بيناه، وكما لو كان وضعها على طهارة. وأيضا فقد تدركه العلة وهو غير متوضئ، فيخاف أن يصيبه الماء غسلا أو مسحا فيحتاج إلى تغطية ذلك بالعصائب والخرق، ثم تدركه الطهارة، فكما يخاف من قلعها قد يخاف من الماء قبل شدها، فجاز له المسح وسقطت الإعادة.

فإن قيل: هو حائل أحدثه بفعله للمسح عليه فوجب أن يمسح عليه إذا وضعه على غير طهر، كالخفين. قيل: قد ذكرنا الفرق بين ذلك وبين الخفين مما فيه كفاية. وفرق آخر: وهو أن مسح الخفين - عندكم - موقت، ومسح الجبائر غير موقت؛ لأنه قادر على نزع الخفين غير خائف، هذا [غير] خائف لا يقدر على نزع الجبائر، فبان الفرق بين الموضعين. وأيضا فإن العلة تأتيه بغير اختياره، يخاف استعمال الماء، فإذا أتته العلة بغير اختيار، فوضع الجبائر عليها ضرورة بغير اختياره، فجاز المسح عليها عن لم يكن وضعها على الوضوء. ألا ترى أن الله - تعالى - قد جوز المسح على شعر الرأس في الوضوء وإن كان حدث على غير وضوء؛ لأنه حدث بغير اختياره فكذلك يجوز المسح على الجبائر وإن كانت على غير وضوء؛ لأنها حدثت بغير اختياره، فإذا ثبت أن له أن يمسح فمسح وصلى فقد أدى ما كلف على ما كلف، والله الموفق.

[76] مسألة

في غسل الجمعة [76] مَسْأَلَة غسل الجمعة سنة، وبه قال جميع الفقهاء إنه ليس بفرض. إلا ما روي عن كعب الأحبار أنه قال: لو وجدت ماء بدينار لأشتريته وهذا يدل على أنه يذهب إلى وجوبه، به قال داود. واحتج بما رواه ابن عمر أن النبي عليه السلام قال: «من أتى الجمعة

فليغتسل»، وهذا يقتضي الوجوب. وروي عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «غسل الجمعة واجب يوم الجمعة على كل محتلم»، وهذا أشد خبر يحتجون به. وروت حفصة أنه عليه السلام قال: «على كل مسلم أن يروح إلى الجمعة، فمن راح إلى الجمعة فليغتسل». والدليل لقولنا: ما رواه الثوري عن يزيد الرقاشي عن أنس بن

مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من توضأ فبها نعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل»، والدليل منه من وجهين:

أحدهما: أنه جوز الاقتصار على الوضوء بقوله: «فبها ونعمت»، فلعم به أن الغسل ليس بفرض. والوجه الآخر: هو أنه أخرج الاغتسال مخرج الفضيلة. وأيضا: ما رواه صفوان بن عسال المرادي قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا إذا كنا مسافرين ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة، لكن من غائط.

ونوم وبول فأمر عليه السلام باستدامة لبس الخف، ذكر نزعه عند الجنابة حسب، فمن زعم أن نزعه يجب لغسل الجمعة خالف ظاهر الخبر، وأوجب ما لم يذكر فيه. ولنا أيضا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما وعائشة - رحمة الله عليها - أن الناس كانا عمال أنفسهم، وكانوا يروحن إلى الجمعة - وعليهم الصوف والمسجد ضيق -، وروي: إن عليهم الجلود، فكانوا يعرقون، ويتأذى بعضهم بروائح بعض، فقال عليه السلام: «لو اغتسلتم»، أي اغتسلتم لتزول الرائح من العرق، فعلل علليه السلام الغسل وبين أنه للتنظيف. وأيضا ففي المسألة إجماع الصحابة، وذلك ما رواه مالك عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر أن عثمان دخل في يوم الجمعة، وعمر رضي الله عنه يخطب، فقال لعثمان: أية ساعة هذه؟. فقال: ما زدت على أن توضأت بعد أن انقلبت من السوق. فقال له: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمرنا بالغسل، فترك

عثمان الغسل، ولو كان واجبا ما تركه، ثم إن عمر أقره على ذلك بحضرة الصحابة لم ينكر أحد ذلك، فلو كان واجبا ما أقره على ذلك. وقول عمر: والوضوء أيضا. يعني أنك تأخرت إلى هذا الوقت ولم تغتسل. وقوله: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمرنا بالغسل. إنما هو على طريق الاستحباب؛ بدليل ما قاله عليه السلام: «من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل»، وبهذا الإجماع. ما روي أنه قال: «غسل الجمعة واجب»، محمول على وجوب سنة، بما ذكرناه من الدلائل. ونقول أيضا: هو غسل لأمر مستقبل لم يتقدم سببه فوجب أن يكون غير واجب. أصله الغسل للحج، لأن الغسل الواجب هو ما تقدم سببه. ولنا أن نقول: إن هذا الغسل مأمور به لأجل الجمعة أو لصلاة جماعة لا لحدث، فأشبه الغسل لصلاة العيدين والاستسقاء وغير ذلك من الحج، فلما لم يكن الغسل لجميع ذلك فرض ... أو لما ذكرناه فكذلك للجمعة.

فإن قيل كفقد روي أنه عليه السلام قال: «غسل الجمعة»، وروي أنه قال: «غسل الجمعة واجب كغسل الجنابة» وهذا آكد ما يكون في كونه فرضا. والأخبار التي رويتموها فهي عن أنس وسمرة. وأما يزيد الرقاشي عن أنس فضعيف الحديث، وقد يرويه بعضهم عن الحسن عن سمرة، وليس بالوجه الواضح. وما رويتموه عن عثمان مع عمر - رَحمَه الله عليهما، فإنه لم يأمره بالخروج والغسل؛ لأن الوقت كان قد ضاق فيما ذكرتموه. قيل: أما الخبر الذي قال فيه: «غسل الجمعة فريضة» فالفرض: هو التقدير في الموضع، كقوله - تعالى -: {سورة أنزلناها وفرضناها}، ومثله يقال: فرض القاضي النفقة، أي قدرها، ولم يرد الفرض الذي هو في الشريعة من تركه فقد عصى؛ بدليل ما روي

عنه أنه قال: «غسل الجمعة سنة»، وبدليل الأخبار التي ... ذكرناها. وقولكم: إن يزيد الرقاشي ضعيف فليس كذلك؛ لأن الأعلام الثقات قد رووا عنه. وأما حديث سمرة، أنه روى بعضهم عن السحن عن سمرة فلا يضر مثل هذا في الحديث إذا أرسل أو أسند. وأما حديث عثمان مع عمر - رضي الله عنهما، فإن كان لم يأمره بالخروج والغسل لضيق في الوقت فذلك أقوى دليل على أنه ليس بفرض؛ إذ لو كان فرضا لكان أولى من استماع الخطبة، ولا يسقط فرض في الجمعة لضيق الوقت، ولم يكن دخل في الصلاة بعد فيقال: تفوته الصلاة. مع أنه لو كان شرطا في صحة الجمعة لم يجز أن يدخل فيها بغير شرطها، والغسل كالخطبة التي يختص بأدائها الإمام وحده؛ لأن الغسل على ما يزعمون مفترض على كل إنسان في نفسه، فلما لم يخرج عثمان، وقد ترك الغسل عامدا، ولم يأمره عمر رضي الله عنه بالخروج والغسل، ولم ينكر أحد من الصحابة، دل ذلك على سقوط فرضه، وعلم أن نكير عمر على عثمان - رضي الله عنهما - بالخروج إنما هو لتركه سنة مؤكدة، ولكن السنن إذا ضاق الوقت وحصل استماع الخطبة الذي هو واجب. خاصة مع استماع الحاضر خطبة الإمام صارت السنن ما قد فات وقتها، فيتشاغل عنها بالأهم.

وقوله عليه السلام: «غسل الجمعة واجب كغسل الجنابة»، فإنه عليه السلام أراد وجوب سنة، وهو في صفته كغسل الجنابة بالدلائل التي تقدمت، وبالله التوفيق.

فصل

فصل وينبغي أن يكون الجمعة متصلا بالرواح، وهذا هو المستحب والمسنون، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي. وقال قوم: إنه إن اغتسل قبل الفجر أجزأه. قالوا: إنه لا خلاف أنه لو اغتسل للعيد قبل الفجر أجزأه واعتد به، فكذلك الجمعة؛ لأنه غسل عيد. والدليل لقولنا: ما رواه ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال كمم من جاء إلى الجمعة فليغتسل»، وفي خبر: «من راح إلى الجمعة»، «من أتى إلى الجمعة»، فقرن الغسل بالمجيء والرواح، المجيء والرواح قرنا بالغسل أيضا.

وكذلك في حديث حفصة أنه عليه السلام قال: «على كل مسلم أن يروح إلى الجمعة فمن راح إلى الجمعة فليغتسل»، فجعل وقته وقت الرواح خلاف التغليس والبكور. وأيضا قد روى أبو سيعد الخدري أن الني عليه السلام قال: «الغسل واجب على كل محتلم يوم الجمعة»، ففيه دلالة على أنه لا يجزئ قبل الفجر؛ لأنه قال: «يوم الجمعة»، وقبل الفجر ليس من يوم الجمعة. فإن قيل: ففي هذا دلالة عليكم؛ لأنه جعل جميع النهار وقتا له. قيل: كل النهار ليس وقتا للجمعة؛ لأن غسل الجمعة هو قبلها، فعلم أنه أراد قبل الزوال لا قبل الفجر. فإن قيل: قد علمنا أنه عليه السلام لم يرد الغسل بعد الرواح والمجيء وإنما معناه: من أراد المجيء والرواح فليغتسل، وهذا قبل الفجر وبعده يريد الرواح فيغتسل. قيل: فينبغي إذا عزم وأراد المجيء إلى الجمعة يوم الخميس أو ليلة الجمعة أن يغتسل، وهذا مثل قوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}، أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا عند القيام، كذلك هذا يغتسل عند الرواح، ولولا أن دلالة قامت في جواز تقديم الوضوء لما زلنا عن الظاهر وهو وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة.

وأيضا فإنه غسل للجمعة قبل يومها فوجب ألا يعتد به، كما لو اغتسل يوم الخميس. وقال الشافعي: إنه [إن] غسل في يوم الجمة لها قبل فعلها فوجب أن يعتد به، أصله إذا اغتسل قبل الرواح. قيل: هو معتد به، وإنما الاستحباب ما قلناه. ثم لو قلنا: إنه لا يعتدد به من السنة إذا تأخر مضيه إلى الجمعة؛ لأننا قد عرفنا المعنى الذي من أجله أمروا بالغسل فينبغي أن يكون متصلا بالرواح؛ ليكون رواحه متصلا بالنظافة وقطع الروائح من العرق وغيره؛ لأنه بعد رواحه ينتظر الصلاة، ولعله يعرق، وتفوح له رائحة فكل ما كان غسله متصلا برواحه كان أقطع لما يحدث منه بعد الرواح. يقوي هذا: أنه لا يجزئه الغسل قبل الفجر؛ لبعده عن المعنى المراعى. يقوي هذا: ما روي أن الناس كانوا عملا أنفسهن، فكانا يروحون بهيئتهم، فتفوح روائحهم، قيل: «لو اغتسلتم». ويجوز أن نقول: قد اتفقنا أنه لو اغتسل لها قبل الفجر لم يجز؛ بعلة أنه غسل سن لأجل الاجتماع للجمعة، ولقطع الروائح عنهم، فلما لم يتصل ذلك بالرواح لم يجزئه من غسل الجمعة، كذلك هذا؛ لأن غير متصل بالرواح.

ونقول أيضا: لو جاز تقدمة الغسل ويكون هو المسنون إذا لم يتعقبه المجيء إلى الجمعة عن كان مشترطا بالمجيء ليجوز تقدمة الغسل قبل يوم الجمعة وإن كان مشترطا في الجمعة، فلما لم يجز ذلك؛ لأنه خلاف الشرط المأمور به كذلك في مسألتنا، وبالله التوفيق.

[77] مسألة

ومن كتاب الحيض [77] مَسْأَلَة أقل الحيض عند مالك - رَحمَه الله - فيما تترك له الصلاة والصيام هو أقل ما يوجد في النساء، وذلك لمعة أو دفعة من دم. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام بلياليها. وبمثل هذا قال محمد بن مسلمة في العدد. وحكي عن مالك مثله في العدد والاستبراء لا في ترك الصلاة. وقال الشافعي: أقله يم ليلة. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {ويسألونك عن المحيض قل هو

أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فسماه أذى وأمر بالاعتزال فيه، ولم يفرق بين قليله وكثيره، فكل دم خارج ممن يجوز أن تحيض في زمان يصلح فيه فهو دم حيض ... إلا أن يقوم دليل. فإن قيل: المحيض ليس هو الحيض، وإنما هو مكان الحيض الذي هو الرحم، فإذا ثبت أنه محيض صح ما قلتم، ولا نسلم أنه يسمى محيضا بخروج دفعة من دم. قيل: إنما كني باسم المحيض عن الدم؛ لأنه يخرج منه، ولم يجعله كناية عن دم مخصوص، فمن زعم أنه كناية عن دم كثير دون دم قليل فعليه الدلالة. وأيضا فقد بين النبي عليه السلام صفة دم الحيض فقال: «هو أسود ثخين له رائحة»، فعلمنا أن المحيض كناية عن الدم الذي هذه صفته،

قليلا كان أو كثيرا إلا أن يقوم دلالة. وأيضا فإذا كان اسم المحيض كناية عن الرحم فهو يستحق الاسم في حال خروج الحيض وفي خلاله، فالظاهر يقتضي أن نعتزل هذا المكان على كل حال، في حال الدم وفي خلاله، كان الدم قليلا أو كثيرا إلا أن تقوم دلالة. وعلى أنهم لا يخالفوننا في اعتزالها في هذا الدم القليل، ولكنهم يراعون أي وقت ينقطع. فإن انقطع دون المدة التي جعلوها حدا لأكثر الحيض كان حيضا. وإن زاد كان حيضا واستحاضة، ويكون الحيض منه هو المحدود في أقل الحيض - عندهم - على اختلاف بينهم فيه. وإن انقطع دون يوم وليلة - عند الشافعي - أو ثلاثة أيام - عند أبي حنيفة فهو غير حيض. ولنا أن نستدل في ابتداء المسألة بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة»، وهذا إنما ذكره عليه السلام؛ ليعلمنا أن الحكم بتعلق بوجود الدم الذي صفته، ولم يفرق بين قليله وكثيره؛ إذا لو كانت المدة صفة فيه لم يحذفها منه، كما لو يحذف علامات الدم نفه عام إلا أن يقوم دليل. وأيضا فما رواه عروة عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة بنت

أبي حبيشة قالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر. فقال: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت وأذهب وقدرها فاغسلي عنك الدم وصلى»، وإقبالها إنما تعرفه بأمارته ولونه، فلولا أن الجزء الأول الذي تعرفه من الحيض، ومحكوم له بحكمه لم يأمرها بترك الصلاة في إقبالها، ولكان يقول لها: إذا عرفت الدم وأقبل فلا تتركي الصلاة حتى يمضي يوم وليلة أو ثلاثة أيام. وأيضا فإنه لما كان دم النفس تتعلق بالأحكام بوجوده من ترك الصلاة والصوم والامتناع من الوطء، ولم يكن لأقله حد غير وجوده وجب أن يكون دم لحيض مثله؛ لمشاركته إياه في علته. فإن قيل: فقد روي في حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: «اتركي الصلاة يوم حيضتك يوم محيضك»، فوجب أن يكون

اليوم مقدرا فيه. قيل: هذا دليل لنا؛ وذلك أنه أراد وقت حيضتك، أي في يوم الذي تحيضين فيه، كما تقول: كلم زيدا يوم يقدم فلان، فإنما معناه في اليوم، أي: وقت قدومه منه، ولم يقل: دعي الصلاة بعد يوم حيضتك وبعد ليلته، فصار هذا حجة لنا. وأيضا فإن أصل دم الحيض والنفاس المرجوع فيه إلى الوجود في النساء؛ لأنه يختلف فيهن بحسب طباعهن، وبحسب أسنانهن، وبحسب اختلاف الأزمنة عليهن، وباختلاف الحرارة فيهن؛ لأنه يقل ويكثر وينتقل، فجعل ذلك معتبرا بوجوده منهن وفيهن، وقد يوجد من تحيض دفعة، كما يوجد من تحيض أكثر من ذلك، ووجد من تحيض أكثر من صاحبتها، فينبغي أن يحكم في ذلك يقدر ما قد وجد ويوجد. وأيضا فإن النبي عليه السلام سمى دم الاستحاضة لما خرج من عادة النساء دم عرق وفساد، وهو الزائد على خمسة عشر يوما، أو عشرة أيام، فوجب أن يكون ما دونه دم حيض قليلا أو كثيرا. والدليل على صحة قولنا أيضا: أننا لا نعلم خلافا أن المرأة المبتدأة بالدم تترك الصلاة لرؤيته، فلولا أن ذلك دم حيض لم يجز

لها ترك الصلاة التي عليها بيقين بدم مشكوك فيه، فثبت بهذا أن رؤية الدم بالمبتدأة دم حيض إلا أن يتبين أنه ليس بحيض بدليل يقارنه، وهو أن يزيد على خمسة عشر يوما. فإن قيل: قد روي أن النبي عليه السلام قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك»، وأقل مما يقع عليه اسم أيام ثلاثة. قيل: هذا إنما هو خطاب لا المرأة بعينها، وفتوى لها، ولا يجب إذا كانت امرأة على صفتها أن يكون حالها كحالها، وخلافنا في امرأة ليست لها أيام، وهي مبتدأة، أو تكون لها أيام فيما مضى ثم تتغير، وقد علمنا اختلاف أحوال النساء، واختلاف أحوال الدم عليهن من زيادة ونقصان، وانتقال من زمان إلى زمان. وعلى أن هذا أمر منه ألا تزيد على الأيام التي كانت تعتادها، ولم

يعترض للنقصان. فإن كنتم تستدلون من دليل الخطاب، وأن دون ما يسمى أياما لا تترك له الصلاة فأنتم لا تقولون بدليل الخطاب، ولو قلتم به لم يمتنع أن يلحق المسكوت عنه بالمنطوق به بدلالة، قد ذكرنا أدلة. ونقول أيضا: لما كان دم الحيض دما تزجيه الرحم يمنع الصوم والصلاة جاز أن يكون أقله ساعة، ودفعة من دم، ودليله دم النفاس. ونقول أيضا: إن الحيض مما يسقط الصوم والصلاة إذا دام ثلاثة أيام، فوجب أن يحكم لما دونه بحكمه إذا وجد على صفته كدم النفاس. أو نقول: الحيض يتغير به حكم الطهر كالنفاس، فيجب أن يستوي حكم قليلهما؛ لاشتراكهما في العلة. وهذه القياسات بعينها تلزم أصحاب الشافعي أيضا في اليوم والليلة. فإن قيل: فد روي عن عثمان بن أبي العاص، وأنس في الحيض أنهما قالا: أقله ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وما بعد ذلك فهو استحاضة.

قيل: الراوي لحديث أنس هو: الجلد بن أيوب، وهو مجهول لا يعرف، فإن صح ذلك فيحتمل أن يكون في امرأة بعينها، كان أقل.

حيضا ثلاثة أيام وأكثره عشرة؛ حتى يتفق مع ما قدمناه من الدلائل. فإن قال قائل من أصحاب الشافعي: فإنه قد روى عن علي رضي الله عنه أن ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة، واقل الحيض يوم وليلة. قيل: يجوز أن يصرف هذا أيضا في امرأة بعينها بدلالة، يوجز أن يكون هذا في العدة. على أنه قد روي عنه أنه حضر رجلا خاصم امرأة له طلقها منذ شهر عند شريح، فالت: انقضت عدتي. فقال علي رضي الله عنه لشريح: قل. فقال شريح: إن انقضت عدتها بما يعرفه الناس فقد بانت منه.

فقال علي: قالون. أي قد صدقت، فدل هذا على أن ما قل قد يكون حيضا. فإن قيل: فأنتم لا تجعلون دفعة من دم تعتد بها في العدة. قيل: القياس هذا. ومن أصحابنا من قال: لا فرق بين العدة وغيرها إذا كان الطهر بين الحيضتين تاما، وإنما يستحسن الاستظهار في العدة احتياطا للفرج والنسب حتى يخرج من الخلاف، وهذا سمعته من الشيخ أبي بكر - رَحمَه الله -.

فإن قيل: فقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أقل الحيض. . . . في غالب الوجود، والعرف الدائم في الغالب، فأما دونه فمحكوم له بحكمه؛ لأنه قد وجد، كما أنه ليس في الغالب من تحيض خمسة عشر يوما، ولها الحكم هو من دون ذلك، ونحمله على ما ذكرناه بالدلائل التي تقدمت أيضا. فإن قيل: فقد قال الله - تعالى -: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن}، فاحتمل أن يكون أراد كل دم موجود خارج عن العرف العام والخاص، واحتمل أن يكون أراد دما موجودا متعلقا بالعرف الخاص أو العام، فلما اتفقوا [على ذلك دل] على أن ما زاد على خمسة عشر يوما أو سبعة عشر لا يكون حيضا عن كان الدم موجودا، علم أنه أراد بذلك الوجود المعتاد لا الوجود النادر الشاذ. قيل: هذا يلزمك في اليوم والليلة، ويلزم من يقول الثلاث؛ لأنه

ليس هذا هو المعتاد، بل هو نادر، والمعتاد في غالب أحوال النساء السبع والثماني إلى العشر، وما نقص عنه أو زاد إلى الخمسة عشر فهو نادر فثبت أنه - تعالى - أراد الموجود المعتاد على حسب اختلافه فيهن. فإن قيل: فإن قوله - تعالى -: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى}، فإنما جعل الحيض أذى، ولم يجعل الأذى حيضا، فبينوا أولا أن هذا حيض حتى نسلم لكم ما تقولون. قيل: قوله - تعالى -: {قل هو أذى}، أي ما تتأذون هب كناية عرفنا صفته، ولم يفرق فيما يتأذى به بين قليله وكثيره. وعلى أنه قد بينه النبي عليه السلام بقوله: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة»، فكأن الله - تعالى - قال: قل هو أذى إذا كانت صفته ما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإن قيل: فإن قياسكم دم الحيض على دم النفاس لا يستقيم؛ لأن العلة في دم النفاس أنه يجوز أن يزيد على خمسة عشر يوما. وأيضا فإن أقله قد وجد. قيل: علتكم هذه لا تتعدى، ولا تصح على أصل أبي حنيفة، وعلى أصحاب الشافعي تصح، ولكن علتنا المتعدية أولى منها.

ثم إذا جاز أن يكون أقل النفاس دفعة من كان في الحيض أجوز؛ لن دم النفاس يجتمع في الرحم على الحمل ويكثر، فكان ينبغي أن لا يتعدى بقليله بل يزاد في أقله كما زيد في أكثره، وأن ينقص من قليل الحيض كما نقص في أكثره عن النفاس، فلما اعتدل بالأقل في النفاس كان في الحيض أولى. وما ذكروه من أن دفعة من دم قد وجد في النفاس، فمثله قد وجد في الحيض، وما حجتنا فيه إلا الوجود. فإن قال شافعي: إن الأصول تشهد لقولنا، وذلك أن الحيض يسقط الصوم والصلاة فوجب أن يكون أقله محيطا بإسقاط هذه الفرائض، وأقل زمان يسقط هذه - عندنا وعندكم - يوم وليلة. قيل: هذه دعوى. على أن جنس الحيض يسقط جنس الصلاة والصيام، ولما لم يتخصص بصلاة دون صلاة في أكثره لم يتخصص بزمان دون زمان في أكثره ولا في أقله. على أن هذا يلزم في أقل النفاس. فإن قيل: أكثره مقدر فكذلك أقله. قيل: دفعة من دم مقدرة فهي كالنفاس سواء، وهذا ينقض ما قالوه، وبالله التوفيق.

[78] مسألة

[78] مَسْأَلَة قال مالك - رَحمَه الله -: ويستمتع من الحائض بما فوق إزارها، ولا يقرب أسلفها، فأما الاستمتاع بما دون الإزار، هو ما بين السرة والركبة إلى الفرج فظاهر قوله أنه محرم، به قال أبو حنيفة وأبو يوسف فيما حكاه الطحاوي عنهم، وهو ظاهر قول الشافعي. وقال محمد بن الحسن: يجوز فيما دون الفرج، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وحكى أن الشافعي قد أشار إليه.

قالوا: لما روى أيوب عن عكرمة عن بعض زوجات النبي عليه السلام أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد أن يباشر امرأته هي حائض أمرها أن تلقي على فرجها ثوبا، والثوب على الفجر لا يحول بينه وبين ما عداه، فدل على جوازه. وأيضا: فقد قال عليه السلام لعائشة - رضي الله عنها -: «ناوليني الخمرة من المسجد»، فقالت: إني حائض. فقال: «ليست الحيضة في يدك»، فبين أن كل موضع لا يكون موضعا للحيض لم يتعلق به حكم الحيض، قالوا: وهذا نص. قالوا: ولأنه لما منع من الإيلاج في الموضع المكروه - وهو الدبر - لم يمنع مما قاربه، وكذلك الفرج في حال الحيض لما منع منه لم يمنه مما قاربه. والدليل لقولنا: ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفراش، فحضت، فقال: «مال لعلك قد

حضت؟». فقلت: نعم. فقال: «ائتزري وارجعي»، فأمرها أن تأتزر لتحول بينه وبين ذلك الموضع، فعلم أن مباشرة ذلك الموضع - اعني ما دون الإزار - محرم. ولنا من الظاهر قوله - تعالى -: {فاعتزلوا النساء في المحيض}، فأمر باعتزالهن جملة في المحيض، لم يقل: فاعتزلوا موضع لحيض. فإن قيل: قوله: {المحيض} هو موضع الحيض، فكأنه قال: فاعتزلوهن في موضع الحيض، وكذا نقول. قيل: المحيض كناية عن الحيض، فالمارد زمان الحيض الذي يصح أن يكون ظرفا لما يقع الاعتزال فيه، وهو زمان يطرأ فيه الحيض، قد تقدم، وهو ظرف لنا نحن أيضا فيه نعتزلهن، والرحم ظرفا لنا، فالمقصود الزمان الذي هو ظرف لنا وللنساء وللحيض جميعا، ولو أراد - تعالى - موضع الدم لقال: فاعتزلوا موضع الدم، وقد أكد ذلك - تعالى بقوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}، وهذا يقتضي أن لا نقربهن جملة، ولكن لما سئل النبي عليه السلام فقال له السائل: ماذا يحل لي من امرأتي وهي حائض؟. فقال: «لتشد عليها إزارها، وشأنك

بأعلاها، فأعلمنا أن ما فوق الإزار يجوز أن يقرب، وهو حلال، ودل على أن أسفل الإزار حرام؛ لأنه قال له: ماذا يحل لي من امرأتي، فلما أحل له الفوقاني دل على أن السفلاني حرام، وبقوله - تعالى - {ولا تقربوهن حتى يطهرن}. وهذا الخبر يصلح أن يكون دليلا مبتدأ في هذه المسألة إذا رتب هذا الترتيب. ثم مع هذا فنحن نعلم أن النبي عليه السلام كان أملك لإربه من كل أحد عن المحارم، فلو كان الممنوع منه هو موضع الدم لم يقل النبي عليه السلام.

لعائشة - رضي الله عنها -: «شدي عليك إزارك»، لأنه لا يخاف منه التعرض لمكان الدم الممنوع منه، ولكنه امتنع مما قارب الموضع؛ لأنه من دواعيه فامتنع منه لذلك، وقد وقع الامتناع في الشريعة من دواعي الشيء المحرم لغلظه، من ذلك: الخطبة في العدة، ونكاح المحرم وتطيبه؛ لأن ذلك يدعو إلى شهوة الجماع المفسد للحج. وأيضا فقد روي عن علي رضي الله عنه، رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل فقيل له: ما يحرم على الرجل من امرأته وهي حائض؟. فقال: «ما تحت الإزار»، فهذا نص. فإن قيل: الإزار عبارة عن المئزر، وعبارة عن الجماع والفرج؛ بدليل حديث سعد فكشفنا عن مؤتزرهم، فمن أنبت قتلناه، ومن لم ينبت جعلناه في الذراري.

ومما يدل: على أن الإزار كناية عن الجماع قول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء لو كانت بأطهار أراد يشدون مآزرهم، أي يمتنعون من الجماع. قيل: قد يقع اسم الغزار على ما ذكرتم على طريق المجاز والكناية، وإنما يحمل الخبر عليه إذا احتمله، والخبر لا يحتمله؛ لأنه لم يقل شدي على فرجك، وإنما قال: «شدي عليك إزارك»، وقال: «سيحرم ما تحت الإزار»، والذي تحته الفرج وما قاربه، ولا يجوز أن يكون أراد به الجماع؛ لأنه لا يكني عنه بقوله: «شدي عليك إزارك». وأيضا فإن الإيلاج في الفرج في حال الحيض محرم لأجل الأذى، قال الله - تعالى -: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض}، فإذا ثبت المنع من الرج للأذى وجب أن يكون ممنوعا مما قاربه؛ لأنه في الغالب يصيبه الأذى؛ إذ دم الحيض يسيل باختياره ويستمسك باختياره.

فإن قيل: علة الفرج دائمة؛ لأن الأذى فيه قائم دائم، والذي يقاربه يجوز أن يصيبه أذى ويجوز أن لا يصيبه. قيل: لا فرق بينهما؛ لأن الأذى ليس بدائم في الفرج، وإنما ينصب من الرحم إلى الفرج، فتارة يكثر وتارة يقل، وتارة يمسك، فإذا خرج فالغالب منه ملاقاة ما قاربه. فإن قيل: دم الحيض إنما منع ملاقاته في محله وموضعه، فأما إذا زايل موضعه لم يمنه من ملاقاته في محله وموضعه، فأما إذا زايل موضعه لم يمنع من ملاقاة وجهها؛ لأن الدم ليس في محله، كذلك لا يمنع من ملاقاة ما قارب لفرج وإن أصابه دم الحيض. قيل: وعن ها جوابان: أحدهما: أنه يمنع من ملاقاة دم الحيض إذا كان جاريا، فكذلك إذا كان على الوجه منع منه؛ لأن مباشرة النجاسة لا تجوز. والجواب الثاني: أن دم الحيض إنما يمنه من ملاقاته إذا سأل من محله جرى من موضعه، وعلى ما يقارب الفجر يسيل من موضعه، فأما على وجهها فلا يسيل من موضعه، فلم يثبت حكم المنع من ملاقاته. وعلى أن ما يقارب الشيء قد يكون في حكمه، ويفارق ما بعد منه. فأما حديث أيوب عن عكرمة فهو حجة لنا، لأنه عليه السلام أمرها بأن تلقي الثوب على فرجها، وقد علم أن الثوب إذا حصل على الفرج

غطاه وغطى غيره مما يقاربه، فصار كالمئزر. وأما قوله لعائشة - رضي الله عنها -: «ليست الحيضة في يديك»، فنما كان كذلك؛ لأن ما يصيبه من سيلان الجم من الفرج فهو في حكمه. على أن الذي قال لها هذا هو الذي قال لها: «شدي عليك إزارك وعودي إلى مضجعك»، وقال للرجال: «شأنك بأعلاها»، وقال: «ما تحت الإزار حرام». فإن قيل: فإنما منه من وطئها من أجل الدم هو الحيض فوجب أن يكون المنع مقصورا على موضعه. قيل: لو وجب هذا لوجب أن يكون الغسل مقصورا على ذلك الموضع؛ لأن الغسل وجب لأجل الدم، فلما وجب غسل جميع البدن دل على أن الدم قد أحدث في جميع البدن حكما، وأوجب منه الوطء في

الموضع ما قاربه خوف الذريعة، كما قال عليه السلام: «ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه»، وقال في الفأرة تقع في السمن: «تطرح وما حولها»، فحكم لها قاربه بحكمه. وقد روى عمير - مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟. فقال: «لك منها ما فوق الإزار، وليس لك ما تحته».

فإن قيل: قد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي عليه السلام كان يباشر نساءه وهن حيض في إزار واحد. وروي أنها قالت: كل شيء منها له حلال إلا الجماع. وعن أنس مثله.

قيل: لا دلالة في هذا؛ لأنه عليه السلام كان يقسم لنسائه لا يأتي إحداهن في يوم الأخرى، فإن أرادات أنه كان يباشر كل امرأة في إزار واحد وعليها مئزرها، فليس فيه أنه يستمتع بما دون الإزار، وقد ثبت عنه تحريم ما دون الإزار. وأما قلها: كل شيء منها حلال إلا الجماع، فهو حجتنا: لأن الجماع يكن في الفرج وخارجه وما قاربه، فكأنها قالت: كلها حلال إلا ما تحت الإزار، وهو موضع الجماع، ويصلح له بدلالة ما ذكرناه، وبالدلائل الأخرى. وأيضا فقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى من قول الصحابي. وأيضا فإنه يحظر وخبر الصحابي يبيح، فالحظر أولى، والله الموفق.

[79] مسألة

[79] مَسْأَلَة إذا انقطع دم الحائض لم يجز وطؤها حتى تغتسل، سواء انقطع قبل تناهي حيضها أو بعد أكثره، وهو مذهب الشافعي، وأكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة: إن انقطع لأكثر الحيض - الذي هو عنده عشرة أيام - جاز وطؤها قبل غسلها، وإن انقطع لدون أكثر حيضها في دن العشر لم يجز وطؤها حتى تغتسل، أو يمر عليها وقت صلاة؛ لأن الصلاة تجب - عنده - بآخر الوقت، فإذا مضى آخر الوقت جبت عليها الصلاة، فعلم أن الحيض قد زال؛ لأن الحائض لا تجب عليها الصلاة. وقال الأوزاعي: إن غسلت فرجها جاز وطؤها، وإن لم تغسله لم

يجز وبه قالت طائفة من أصحاب الحديث. واحتجوا بقوله - تعالى: {ولا تربوهن حتى يطهرن}؛ أي ينقطع دمهن، فمنع - تعالى - من قربان الحائض، وجعل للمنع غاية هي انقطاع الدم، فعلم أن الحكم بعد الغاية بخلافة قبلها. قالوا: ولأنها أمنت من معاودة دم الحيض فجاز وطؤها، كما لو اغتسلت، أو لأن الصوم قد حل لها فجب أن يحل لها فوجب أن يحل وطؤها، كما لو اغتسلت. قالوا: وأيضا فإن الحكم إذا وجب لعلة زال بزوالها، كذلك ها هنا إنما كان المنع لأجل الحيض - وقد زال - فوجب أن يزول المنع. قالوا: ولأن الحيض قد زال إنما بقي عليها استحقاق الغسل، استحقاق الغسل لا يمنع من الوطء كالجنابة. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}، والاستدلال من هذه الآية من وجهين. أحدهما: إنها قد قرئت بقرائتين {حتى يطهرن} مخففة،

و {حتى يطهرن} مشددة، أي يتطهرن بالماء، فأراد انقطاع دمهن وتطهرهن بالماء وإلا تناقض. والدليل الثاني منها: (أنه - تعالى - قال: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}، أي يفعلن الطهارة، فأضاف فعل التطهر إليهن، وانقطاع الدم ليس إليهن فعله، فعلم أنه أراد التطهر بالماء. ثم إنه - تعالى - أثنى على من فعل هذه الطهارة فقال: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، الثناء لا يقع إلا على فعل يصدر من جهتهن، وانقطاع الدم ليس من جهة المرأة فلا يقع الثناء عليه. قال الله - تعالى -: {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}، فإذا تقرر أن المرد به فعل الطهارة بالماء صار كأنه - تعالى - قال: ولا تقربوهن حتى يطرهن، أي ينقطع دمهن، ويتطهرن بالماء، لأنه قال: {فإذا تطهرن فأتوهن} أي تطهرن بالماء، وهذا كقوله: لا تعط زيادا شيئا حتى يدخل الدار فإذا دخل الدار وقعد فأعطه درهما يقتضي آن لا يستحق الدرهم إلا بوجود الشرطين، هما دخول الدار من غير قعود فلا يستحق به شيئا. فإن قيل: هذا غلط في اللغة، وخلاف موجبها؛ لأن قله: {حتى يطهرن} شرط، وقوله: {فإذا تطهرن} جواب الشرط، وجواب الشرط يتعلق بما يتعلق به الشرط، فقوله - تعالى -: {فإذا تطهرن}

أي انقطع دمهن؛ حتى يكونا جوابا لقوله: {حتى يطهرن}؛ إذ لا يصح أن يجعل جوابه فإذا اغتسلن؛ لأنه خلاف اللغة، كقولهم: لا تعط زيدا حتى يدخل الدار فإنه دخل الدار فأعطه، فقوله: فإذا دخل يقتضي أن يكون الدخول هو الدخول المشرط لا صفة أخرى. قيل: عن هذا جوابان: احدهما: أن جواب الشرط يقتضي أن يكون ما تعلق به الشرط لا صفة أخرى ومعنى آخر كما ذكرتم، ولكنه لا يحتمل أن يكن قوله: {فإذا تطهرن} جواب له أصلا؛ لما ذكرناه من الوجهين، وذلك أنه - تعالى - أضاف الفعل إلى النساء، وأثنى على من فعل ذلك، وهذا لا يحتمل انقطاع الدم، فإذا لم يحتمل أن يكون هذا جوابا له؛ ولا بد للشرط من جواب، علم، جوابه مضمر فكأنه قال: ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا طهرن وتطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، فلا تحل إلا بوجود شرطين. والجواب الثاني: هو أن الشرط في الآية الطهارة بالماء بالقراءة التي ذكرناها {حتى يطهرن}، [فقوله: {فإذا تطهرن}، وهذا يسقط كلامهم أصلا. فإن قيل: قولكم {فإذا تطهرن}، أضاف الفعل إليهن، ولا يجوز أن يعود إلى انقطاع الدم غلط، لأن {يطهرن} بمعنى يفعلن، كما يقال: ينكسر وإن لم يكن هو فعل ذلك فمعنى قوله: {تطهرن} أي طهرن.

قيل: هذا غلط، لأن الفعل أضيف إلى الحائض لا إلى الدم. على أن الحقيقة معنا في ذلك فلا ننقله إلى المجاز. ويفيدنا أيضا منع الوطء إلا بيقين؛ لغلظ أمره. فإن عادوا أدلتهم من الآية، وأن التحريم تعلق بغاية هي انقطاع الدن، والحكم إذا علق بغاية دل على أن ما عداها بخلافها. قيل: هذا صحيح إذا كانت الغاية واحدة، فأما إذا علق على غايتين وشرطين فإنما يكون الحكم بخلافه بعد وجود الشرطين جميعا لا بعد أحدهما. فإن قيل: فإننا نستعمل القراءتين جميعا في قوله - تعالى -: {حتى يطهرن}، و {تطهرن}، فنحمل الخفيفة على انقطاع الدم الذي هو أكثر الحيض، ونحمل {تطهرن} على من انقطع دمها في دون العشر فلا يجوز وطؤها حتى تغتسل. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن القرائتين جميعا لم يتجردا عن قوله: {فإذا تطهرن فأتوهن} أي تفعلن، فحصلت الإباحة في القرائتين بشرط ثان مصرحا ومستدلا عليه بقوله: {حتى يطهرن}، لم يتجرد قوله - تعالى -: {حتى يطهرن} فخفف من القراءة الأخرى بالتثقيل، ومعناها غير معنى المخففة، وإنما المثقلة للاغتسال، فينبغي أن يجمعا؛ بين قوله: {يطهرن} و {يطهرن}، فلا يجوز الوطء إلا بعدهما جميعا؛ لعلة قوله: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}، وهذا

كقوله - تعالى - {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره}، يقتضي عقد النكاح، ثم أضيف إلى العقد الوطء بالدلالة من السنة فإضافة الغسل إلى انقطاع الدم أولى بالدليل المتصل به من القرآن، وهو قوله - تعالى -: {فإذا تطهرن}. فإن قيل: ما قلناه أولى؛ لأنه يفدي حكمين في حالين مختلفين. قيل: حكمهما على قلتم. . .، لأنه - تعالى - علق الشرطين في جميع ذوات الحيض إذا انقطع عنهن الجم في القراءتين جميعا، فاستعمال أحدهما فيهن جميعا ينفي الشرط الآخر فيهن. فإن قيل: تحمل القراءة الخفيفة فيهن جميعا على الجواز، والثقيلة على الاستحباب، وهو أن يكون الوطء بعد الغسل. قيل: إنما يجوز ذلك لو تجردت القراءتان من قوله - تعالى -: {فإذا تطهرن فأتوهن}، فأما وقد جعل شرط الإباحة هو الاغتسال بقوله: {فإذا تطهرن فأتوهن} فلا يجوز أن يحمل على غير الوجوب. ويجوز أن نقول: إن بقاء حكم حدث الحيض يمنه من وطئها حتى

تغتسل، كما إذا انقطع دمها قبل العشر، لما تغتسل ولم يمر عليها وقت صلاة. فإن قيل: هو منتقض بها إذا انقطع دمها ولم تجد الماء فتيممت فإن حكم دم الحيض باق؛ لأن حدثها لا يرتفع وهو باق، ومع هذا فيجوز وطؤها قبل أن تغتسل. قيل: هذا غلط علينا، لا يجوز له وطؤها بالتيمم؛ لأنه حين يولج ينتقض حكم تيممها فتكون في حكم الحيض كما كانت قبل التيمم. ويجوز أن نقول: هي ممنوعة من الصلاة بحكم الحيض مع قدرتها على الغسل فلم جز وطؤها، أصله ما ذكرناه من انقطاع الدم قبل العشر وقبل مضى وقت صلاة.

فإن قيل: العلة الأولى منتقضة بالكتابية تحت المسلم إذا انقطع دمها ثم اغتسلت فإن حدثها لا يرتفع؛ لأنه لا نية لها صحيحة في العبادة، ومع هذا فإن زوجها يطؤها. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن حدثها بالحيض قد ارتفع بغسلها، عن كانت ممنوعة من الصلاة؛ لأنه لا يمتنع أن يكون الغسل لمعنيين: أحدهما: استباحة الزوج الوطء، والأخر: للصلاة، فيرتفع منع الزوج وبقى المنع من الصلاة. ألا ترى أن الزوج يطأ الجنب المحدثة بغير الحيض، وهي لا تصلي. فإن قيل: المعنى في المنع من وطئها قبل العشر إذا انقطع دمها هو: أنها لا تأمن معادة الدم الذي هو حيض فلهذا لا يجوز وطؤها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة. قيل: هذا باطل به إذا اغتسلت أو مر عليها وقت صلاة فإنها لا تأمن معاودة الدم، وقد جاز وطؤها فسقط هذا. ونقول أيضا: هذه مسلمة يجب الاغتسال عليها عن حيض سابق فلا يجوز وطؤها حتى تغتسل، دليله إذا انقطع دون العشر. وإنما احترزت بقولي: مسلمة؛ لا اختلاف الراوية عن مالك - رَحمَه الله - في الكتابية فإنه قال: لا تجبر الذمية على الغسل من الحيض ويطؤها زوجها.

ونقول أيضا: كل معنى حرم الوطء وغيره فإن الوطء لا يحل مع بقاء شيء مما حرم معه، أصله الحج والصوم؛ لأن الإحرام بالحج يمنع الوطء القبلة واللباس المطيب والمباشرة، ثم لا يحل الوطء مع بقاء شيء من هذه المحرمات، وكذلك الصوم. وأيضا فإن كل موضع حرم الوطء وغيره ساوى ما حرم معه فيه في وجوب الكفارة وانفرد هو بالإفساد، وكذلك الصوم لما حرم معه فيه في وجوب الكفارة وانفرد هو بالإفساد، وكذلك الصوم لما رحم فيه الوطء وغيره من الأكل والشرب ساوى الوطء فيه سائر ما حرم عليه وانفرد الوطء بالكفارة عند بعض الفقهاء، وكذلك من طلق امرأته ثلاثا حرم عليه وطؤها وقبلتها والتلذذ بها، ثم ساوى الوطء ما حرم معه في الحكم، وانفرد الوطء بتحليلها للزوج الأول، فكذلك الحيض لما منع الوطء والصلاة والصوم فإن لم تكن للوطء مزية على غيره مما حرم معه فلا يحل إلا بعد أن تحل الصلاة مع رفع الحد أو يكون مثلها. فأما ما احتجوا به من الآية فقد جعلناها حجة لنا من الوجه التي ذكرناها. وأما قياسهم فدق عبروا عنه بعبارتين. إحداهما أن قالوا: يجوز لها أن تصوم فجاز أن توطأ، وهذا ينتقض بها إذا انقطع دمها في دون العشر وقبل الفجر فإنها تصوم إذا طلع الفجر الثاني ثم لا يحل وطؤها حتى تغتسل أو تطلع الشمس؛ لأن وقت الصلاة يمضى ويفوت إذا طلعت الشمس. والعبارة الأخرى: أنها أمنت معاودة الدم إذا انقطع بعد العشر فنقول: لا تأثير لهذه العلة؛ إذا اغتسلت فسواء أمنت من معادة الدم أو لم تأمن فإن وطأها يجوز. ألا ترى أن الدم إذا انقطع قبل العشر ثم

اغتسلت فإنه يطؤها؛ وهي لا تأمن من معاودة الدم. على أن المعنى في الأصل إنها اغتسلت عند انقطاع دمها، يشهد لذلك غسلها قبل العشر. وقولهم: إن الحكم إذا وجب العلة زال بزوالها فإننا نقول: العلة قد تزول تخلفها علة أخرى، كما تقولون في النجس يزال بالبول، وكما نقول جميعا: إن الصائمة لا يجوز وطؤها لأجل الصوم، ثم لو حاضت في خلال الصوم زال حكم الصوم، وانتقل منع الوطء بالصوم فصار ممنوعا بالحيض، فكذلك أيضا يكن ممنوعا من وطء الحائض لأجل الحيض، ثم يزول الحيض، وصار المنع باقيا لأجل الغسل. وجواب آخر: وهو أجود من الأول - هو أن العلة المانعة - عندنا - هي بقاء حكم الحدث الحيض وهذا لا يزول إلا بالغسل له. وقولهم: إن استحقاق الغسل لا يمنع الوطء كالجنابة عنه جوابان: أحدهما: أن الذي يمنع الوطء هو بقاء حكم حدث الحيض. والجواب الآخر: هو أن الجنابة حجة لنا؛ لأن الوطء لا يمنع الوطء فكذلك أيضا حدثه لا منع الوطء، وحدثه هو الجنابة، ولما كان الحيض يمنع الوطء جاز أن يكون حدثه مانعا من الوطء، والله أعلم. وعلى أن اعتبارنا أولى؛ لأن رد الوطء إلى الوطء أولى، ولأنه يصح فيه الوجود والسلب، ويرجع إلى الاحتياط في باب الفروج، ويستند إلى ما قبله من استصحاب الحال في المنع من الوطء قبل انقطاع الدم،

وإلى ظاهر القرآن. ثم نقول: إنهم لو اعتبروا الاعتبار الصحيح لكان ينبغي أن يجري الأمر على خلاف ما رتبوه؛ لأنه إذا انقطع دمها فيما دون العشر فلا يخلو أن يون الذي يحل وطأها هو انقطاعه الدم، أو مجيء وقت صلاة يبيح الوطء وإن لم تغتسل؛ لأن مجيء الوقت ليس إليها ولا يمكنها فعله، والله - تعالى - علق إباحة الوطء بشرط أن تفعله هي وهو التطهير بقوله: {فإذا تطهرن}، ولم يقل: فإذا جاء وقت صلاة، ولقد كان ينبغي أن يكون ممنوعا من وطئها إذا جاء وقت صلاة ولم تغتسل أشد من منعه قبل ذلك؛ لأنها قبل مجيء وقت الصلاة لا تكون عاصية بترك الغسل؛ لأن الصلاة لا تلزمها، وإذا حضر وقت صلاة ولم تغتسل كانت عاصية فكان ينبغي أن تكون بمنع الوطء أولى، فثبت بهذا أن الذي يبيح وطأها هو الغسل بعد انقطاع الدم، سواء انقطع قبل العشر أو بعده، حضر وقت صلاة أو لم يحضر. وقد قال مجاهد وعكرمة في تفسير قوله - تعالى -: {فإذا تطهرن} قالا: يغتسلن بالماء. وكذلك ابن القاسم سلام ابن عبد الله، وعطاء، وسليمان بن بيسار،

والقاسم والليث بن سعد، والزهري، وغيرهم: إنه لا يجوز وطؤها حتى تغتسل، وبالله التوفيق.

[80] مسألة

[80] مَسْأَلَة وأكثر الحيض عند مالك - رَحمَه الله - خمسة عشر يوما، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عشرة أيام. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض}، ولم يفرق بين حك الدم في العشرة وبعدها، فهو عموم إلا أن يقم دليل. فإن قيل: بينوا أن ما بعد العشرة حيض حتى نسلم ما تقولون.

قيل: قد تكلمنا على هذا، وبينا أن النبي عليه السلام قال: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة»، وبينا أيضا أنه قال - تعالى -: {هو أذى} أي ما تتأذون به، فكل دم تتأذى به المرأة فهو حيض حتى يقوم الدليل. ولنا قوله - تعالى -: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن}، فأطلق ولم يخص دما من دم. وأيضا ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ميقات حيض النساء وطهرهن شهرا»، فظاهر هذا أنه نصفان نصف للحيض ونصف الطهر. وما روي أنه قال في المرأة: «إنها ناقصة العقل والدين»، وبين أن نقصن دينها أن تصلي نصف دهرها، وفي حديث: نصف عمرها، وشطر عمرها.

وأيضا قوله عليه السلام لفاطمة بين أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فعي الصلاة فإنه دم أسود يعرفن وإذا أدربت فا غسلي عنك الدم وصلي»، فأحالها على إقباله وإدباره، ولم يقل إذا مضت عشرة أيام، فهو عام. وقوله أيضا للأخرى: «لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن»، ولم يقل: إلا أن تزيد على عشرة أيام.

وقوله عليه السلام: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة» فاعلم أن الحكم يتعلق بدم هذه صفته، لم يقيده بمدة عشرة أيام ولا غيرها فلا ينتقل عن حكمه إلا بدليل. أيضا فإن ل وقت من الشهر أبقى لأقل الطهر وقتا جاز أن يكون ذلك الوقت كله حيضا، دليله العشرة الأيام لما كانت تبقي من الشهر ما يجوز أن يكون وقتا لأقل الطهر فالعشرة كلها حيض، كذلك الخمسة عشر لما أبقت من الشهر وقتا لأقل الطهر جاز أن تكون كلها حيضا.

وأيضا فإن كان شفع من العدد قد حكم له بحكم الحيض، فالاتفاق إذا أضيف إليه نصف صار به وترا جاز أو يكون بمجموعه حيضا، دليل ذلك: الستة الأيام لما أضيف إليها نصفها فصارت شفعا وهي وتر وتكون حيضا، كذلك العشر تكون حيضا باتفاق، فإذا أضيف إليها نصفها صارت به وترا جاز أن تكون كلها حيضا. وأيضا فإن العشرة الأيام موجودة في النساء في العرف والعادة، وجبلة وخلقة فيجوز أن يكون على تلك العادة زيادة في الحيض أصله الستة الأيام والسبعة والثمانية. فإن قيل: فإن الصلاة في الأصل قبل الحيض عليها بيقين فلا تسقط عنها إلا بيقين، قد تيقنا سقوطها عنها بالعشر، ولم يتيقن فيما بعد. قيل: بإزاء هذا مثله، وهو أننا تقينا سقوط الصلاة عنها في العشر فلا ينتقل عن هذا اليقين حتى نوجب عليها بعدا شيئا إلا بيقين، والصلاة وإن كانت عليها في الأصل بيقين فإنها تسقط بإقبال الحيض بيقين؛ لأننا لا نقطع على يقين ما تعلق عليها من حكم الحيض، لأنها قد تحيض وتطهر قبل العشر فلا يتحقق الوقت الذي ينقطع فيه فلا ينبغي أن ننتقل عن حكمه إذا أقبل إلا بيقين، ولسنا نتيقن على العشرة أنها أكثر لأن الخلاف قائم فيها. فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {حافظوا على الصلوات}، فتجب عليها المحافظة في كل وقت إلا في الوقت الذي حصل بالاتفاق أنه.

حيض، وقد اتفقنا في العشرة أنها حيض. قيل: إنما تجب المحافظة على من عليه الصلاة بيقين، وقد تيقنا سقوطها عنها بالحيض ولم نتيقن وجوبها عليها بعد العشرة. على أنه لو ثبت العموم لكان مخصوصا ببعض ذكرناه. فإن قيل: قد قال عليه السلام: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا».

فلا يجوز الزيادة عليها إلا بدليل، قد قام دليل العشرة، فنحن عليه حتى يقوم دليل بالزيادة. قيل: هذا وارد في امرأة بعينها مبتدأة اتصل بها الدم، ولم يكن لها تمييز ولا أيام ترجع إليها، فردها إلى عادة النساء سواها. ألا تراه كيف قال لفاطمة بن أبي حبيش - وهي مميزة -: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي». وعلى أنه لما لم يدل على أنها لا تحيض عشرة أيام لما قامت من الأدلة - عندكم - فكذلك لا يدل على أنها لا تحيض خمسة عشر يما لما ذكرناه من الأدلة. فإن قيل: قد روي أنه قال: «اقعدي أيام أقرائك»، وقال «لتنظر عدد الأيام والليالي»، وهذه عبارة عما دون العشرة.

قيل: هذا غلط؛ لأننا نقول: أيام أبي بكر، وأيام عمر، فتكون عبارة عما هو أكثر من عشرة بكثير. وقد قال - تعالى -: {فعدة من أيام أخر}، وقال: {وذكرهم بأيام الله} وقوله: {وتلك الأيام نداولها بين الناسء، ولم يقل: إلا أن تزيد على عشرة، ولو أراد الأيام الأقل الذي هو ثلاثة لم يمنع أن تقوم الدلالة على الزيادة إلى خمسة عشر، كما قامت لكم الدلالة في الزيادة إلى عشرة أيام. وعلى أن الخبرين وردا على امرأة اشتهبت عليها حال حيضتها لا أنها عرفت أيامها. فإن قيل: قد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «أكثر الحيض عشرة أيام». قيل: هذا لم يصح - عندنا -، ولو صح لكان محمولا على ما تأولناه أنه قضية في امرأة بعينها.

ولنا أن نقول: إن ها دم ترخيه الرحم يسقط الصلاة والصوم فجاز أن يحكم له بحكم الحيض في الخمسة عشر يوما، دليله دم النفاس. وأيضا فكل حم استوفى فيه تسعة أيام ولم تبلغ به العشرين اقتصر على خمسة عشر، دليله: أقل الطهر ولم تبلغ بأقل العشرين اقتصر فيه على خمسة عشر يوما. ونقول أيضا: إنه حك معلق على الأيام يجوز أن يستوفي به عشرة أيام فيجوز أن يستوفي فيه خمسة عشر، كالطهارة. وأيضا فإنه زوج من العدد لا يزيد على العقد، نصفه يوتره فجاز أن يكون هو مضموما إليه نصف حيض، دليله الست. فقد ثبت صحة ما قلناه بالظواهر والاستدلالات والقياسات، ثم الحكم بشهادة الأصول، وذلك أن الله - تعالى - جعل الأشهر الثلاثة بإزاء الأقراء الثلاثة في التي لم تحض التي قد يئست من المحيض، فكان كل شهر بإزاء قرء، فدل على أن الشهر يجمع الحيض الطهر جمعيا، فإذا ثبت أن الشهر بإزاء القرء فلا يخلو من أحد أمور: إما أن يكون يجمع أقل الطهر وأقل الحيض، وإما أن يجمع أكثرهما، وإما أن يجمع أكثر الطهر وأقل الحيض، وإما أن يجمع أكثر الحيض وأقل الطهر، فلا يخلو من هذه الأقسام الأربعة. فتبطل منها الثلاثة الأول، فيبطل أن يجمع الأقلين؛ لأنهما ينقصان عن الشهر، وهو يزيد عليهما.

ويبطل أيضا أن يجمع الأكثرين؛ لأنه ليس لأكثر الطهر حد، فهما يزيدان على الشهر. ويبطل أيضا أن يجمع أكثر الطهر وأقل الحيض؛ لما ذكرناه في أكثر الطهر. فإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلا أنه يجمع أكثر الحيض وأقل الطهر، فإذا كان أقل الطهر خمسة عشري يوما ثبت أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما. وإن عبرنا عن هذا الترجيح بعبارة أخرى أخصر من ذلك قلنا: إن الشهر في الحكم يجمع طهرا وحيضا، فحصل ظرفا لهما، فوجب أن يحوي أقصى أحد النوعين وأدنى النوع الآخر، ثم قد حصل الاتفاق على أن أقل الطهر خمسة عشر يوما فوجب أن يكون أكثر الحيض خمسة عشر يوما؛ ليتم بها الشهر، كما أن الثلاثين شهرا حوت مدة

الفصال والحمل، وجلت ظرفا لهما، ثم كان أقصى مدة الفصال حولين بالقرآن ثم كان مدة أدنى الحمل ستة أشهر لتستوفي الثلاثون شهرا المدتين جميعا، وبالله التوفيق.

[81] مسألة

[81] مَسْأَلَة والحامل عند مالك تحيض، فإذا رأت الدم تركت الصلاة كالحائل سواء، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا حكم لدمها في ذلك وتجعله استحاضة. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد}، قال ابن عباس رضي الله عنهما - وهو ترجمان القرآن -: إنه حيض الحبالى، وكذلك قال عكرمة، ومجاهد.

ومع هذا فهو عموم في كل رحم حاملا كانت أو غيره حامل. وأيضا قوله: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض}، فظاهره يوجب أن ما نفصل منه مما يتأذى به فهو حيض إلا أن تقوم دلالة، ولم يفرق بين حامل وحائل. وقول النبي عليه السلام لفاطمة بين أبي حبيش وقد سألته إني أستحاض فلا أطهر: «إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة»، فلو كان الحكم يختلف لبين لها، وقال: إلا أن تكني حاملا. وأيضا ما روي أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسارير وجهه تبرق فقلت له: أنت أحق بما قال أبو كبير الهذلي: ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء معضل

معنى مبرأ: أي أمك لم تحملك في حال حيضها، فلم يقل له: كيف تحمل المرأة في حال الحيض. وقوله عليه السلام: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة تعرف» فأخبر بعلامته فلو كان يختلف لقال: إذا كان على غير حمل ولم يغفل ذلك كما لم يغفل باقي علامته، فهو عام في الحائل والحامل إلا أن يقوم دليل. وأيضا فإن كل دم يحرم الوطء ويمنع الصلاة والطواف فإنه يجوز وجوده مع الحمل، أصله دم النفاس إذا كانت حاملا باثنين فوضعت واحدا وتأخر وضع الآخر وهي ترى الدم بينهما. ولو جعل هذا استدلالا مبتدأ لجاز، وذلك أن يقال: إن النفساء من واحد من اثنين إلى أن تضع الآخر يوجد الدم منها بينهما فحيكم له بحكم الحيض باتفاقنا، وهو حكم موجود مع حمل، فلم يناف الحمل الحيض،

فكذلك قبل أن توضع شيئا لا فرق بينهما؛ لأن دم الحيض والنفاس واحد، ولأنه دم يجتمع في الرحم فربما أرخت الرخم بعضه على الحمل، وربما تأخر إلى أن تضع. وأيضا فإنه دم موجود منها بصورته في أيام عادتها فوجب أن يكون حيضا كالحائل. أو نقول: إنها رأت الدم المشبه للحيض في حال الإمكان فيجب أن يكون حيضا كما لورأته وهي حائل. وأيضا فإنه لا يخلو أن يكون الدم الظاهر من الحمل حيضا أو استحاضة، وقد بطل أن يكون استحاضة، لأن من شرط الاستحاضة أن يكون بعد الحيض، فثبت أنه دم حيض. وأيضا فإن الأصل في ذلك الوجود، وقد يوجد من الحامل كما يوجد من الحائل، فينبغي أن يجرع فيه إلى الوجود فيحكم به. وأيضا فإنه لو عقد عليها عقد نكاح، ثم لما تقرر حكم العقد وطئها، ثم حاضت عقيب الوطء فإنها تترك الصلاة ويحرم وطؤها، فلو أنت بعد ذلك بولد لستة أشهر من يوم العقد للحق نسبة بالاتفاق، فعلمنا بهذا أنها حاضت على الحمل. وكذلك لو عقد عليها حائضا ثم أتت بولد الستة أشهر من يوم العقد للحق به، فثبت أن الحمل طرأ على الحيض، فإذا كان الحيض لا ينافي الحمل كذلك الحمل لا ينافيه.

فإن قيل: فإن الحمل يضاد الحيض؛ لإجماع الأمة أن المرأة إذا طلقت وهي من ذوات الأقراء فتكرر الحيض منها انقضضت عدتها به. وعلم فراع رحمها، فلو كان الحيض يوجد مع الحمل ما كان وجوده دليلا على البراءة؛ لجواز أن تكن حالما مع وجوده، يدل على ذلك: قوله: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض إنه، فجعل علامة براءة الرحم الحائل وجود الحيض، وبراءة رحم الحامل الوضع. قيل: هذا هو الدليل على جواز وجود الحيض مع الحمل؛ لأن براءة رحم الحائض بالأقراء إنما هو عام ظاهر، وغلبة ظن لا يقين وإحاطة علم، ولو أن يقينا لاقتصر على قرء واحد. ألا ترى أن وضع

الحمل من حيث أفادنا اليقين لم يضم إليه سواه، ومن حيث اشترط العدد في الأقراء دل على أن ذلك كالعدد من الشهود التي تدل على البراءة من طريق غلبة الظن، ومنزلته منزلة الشهود على الشهود على الحقوق من حيث كان قولهم دلالة ظاهرة لا متيقنة افتقر فيه إلى العدد، ثم الشهود في الدلالة وإن كانوا كالأقراء فقد يجوز أن تنكشف الحقيقة بخلاف الظاهر فكذلك الأقراء. وأيضا فمعنى قوله عليه السلام: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض»، أي أن الحامل وإن حاضت فلا يبرئها الحيض حتى تضع، فلا توطأ وإن رأت الحيض وانقطع عنها حتى تضع فهو بخلاف الحائل، فهذا فائدته. وأيضا فإن الحامل باثنين إذا وضعت واحدا ورأت الدم ولم تضع الآخر فهي تترك الصلاة لرؤية ذلك الدم فلا تنقضي به العدة. وأيضا فإن الحيضة الواحدة من الحائل تترك لها الصلاة، ولا تنقضي به العدة وكذلك إذا مات فحاضت في الشهور فإنه حيض لا تنقضي به العدة. فإن قيل: لو كان محرما لحرم الطلاق فيه. قيل: الطلاق محرم فيه. فإن قيل: لما كان الحمل تنقضي بوضعه العدة كما تنقضي

بالحيض، ثم لما لم يجز أن تحمل الحامل وجب أن لا تحيض؛ إذا الحيض بمنزلة الحمل في انقضاء العدة. قيل له: يجوز الحمل مع عدم الحيض، ويجوز الحيض مع عدم الحمل، ويجوز اجتماعهما على ما بيناه، وإنما لم يجز أن تحمل الحمل من أجل شغل الموضع بالحمل، كما لا يجوز كون الجسمين في محل واحد؛ لأن أحدهما قد يشغل المكان، فمنع غيره من الحيز الذي حصل فيه ولم ينتقل عنه، فسبيل الحمل الموجود هذا السبيل، وليس كذلك الحيض؛ لأنه ليس بمستحيل وجوده مع الحمل كما لا يستحيل وجوده من الحائل. وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حن أن يتركن الصلاة، الصحابة إذ ذلك متوافرون

ولم ينكر أحد منهم عليها، ولو خالفها أحد منهم لكان قولها أولى: لاختصاصها بعلم أحكام الحيض أنه مما يختص به النساء، ولقربها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ما يعتادها من الحيض، ولكثرة أسئلة النساء عن ذلك بحيث هي ولا يكون الرجال، فكيف ولم ينقل عن أحد منهم خلافها؟ فصار هذا الإجماع. ثم نقول أيضا: إن للون الدم من الدلالة على الحيض ما للحيض من دلالة على براءة الرحم، فلو بطل كون أحدهما دليلا لأنه قد يخلف في حال ما بطل الثاني لأنه قد يخلف في حال ما، والله أعلم. وفيه إجماع الصحابة؛ لأنه روي أن رجلين تنازعا ولدا فترافعا إلى عمر فعرضه على القافة، فألحقه القائف بهما، فعلاه عمر بالدرة وسأل نسوة من قريش وقال: أبصرن ما شأن هذا الولد. فقلن: إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل فاستحشف الولد،

فظنت أن عدتها انقضت، فدخل بها الثاني فانتعش المولود بماء الثاني. فقال عمر: الله أكبر، وألحقه بالأول، ولم

يقول: إن الحامل لا تحيض. وأيضا فإنه دم صارع دم الحيض صفة قدرا في أيام العادة فجاز أن يكون حيضا، دليله الحامل.

[82] مسألة

[82] مَسْأَلَة وأكثر النفاس عند مالك - رَحمَه الله - ستون يوما. وقد حكي عنه أن يرجع إلى أكثر الوجود في النساء في غالب أحوالهن. وعند الشافعي ستون يوما. وعند أبي حنيفة أربعون يوما، وما زاد على ذلك فهو استحاضة. والدليل لقولنا: أن أصل الحيض والنفاس مبني على الموجود في طباع النساء على حسب عادتهن فيه، وهن مختلفات في جوده على حسب اختلاف البلدان، واختلاف الأزمنة عليهن، واختلاف أسنانهن وطباعهن، فالمرأة الواحدة يختلف ذلك عليها بحسب احتداد الحرارة بها والبرودة، ويختلف عليها في الزمانين، وتختلف الحال في صغرها وكبرها، وكذلك يختلف في المرأتين على حسب طباعهما واختلاف

أحوالهما وينتقل الحيض عليها من زمان إلى زمان، ويزيد زمان وينقص آخر، وبعضهن ترى الدم في النفاس أربعين يوما، وبعضهن تراه أقل من ذلك، وبعضه تراه أكثر، ولعل المرأة الواحدة يختلف حالها بين نفاسها في الولد الثاني وبين الأول، فإذا كان هذا هكذا صار حكم النفاس في ذلك كحكم الحمل، لأقله حد ولأكثره حد على حسب الوجود في عادتهن، فوجب الحكم بذلك في النادر والمعتاد كما كان في الحيض أيضا، فالرجوع إلى حكم الوجود أولى؛ لأنه قد وجد من نفاسها ستون يوما، ثم ترى بعد طهرا تاما، فيعلم أن ذلك نفاس إذا الوجود إليه انتهى. وأيضا فقد حكي عن الأوزاعي أن المرأة كانت ترى الدم عندهم شهرين. وأيضا فإن العلماء مجمعون على أن أقصى غاية النفاس عادة أربع حيض، فمن يقول: أكثر الحيض خمسة عشر، يقول: أقصى النفاس ستون، ومن يقول: أكثر الحيض عشرة، ويقول: أقصى النفاس أربعون، وقد دللنا على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما، فيجب أن يكون أكثر النفاس ستون يوما. وأيضا فإن الأربعين يوما كانت عادة في النساء في النفاس وجب أن يكون أكثره زائدا على العادة، كدم الحيض الذي الست والسبع منه عادة فيهن زادت نهاية أكثره عليه. ولنا من الظواهر قوله - تعالى -: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق

الله في أرحامهن}، فجعلهن مؤتمنات على ذلك ليقبل منهن، فإذا ذكرت ذلك تعلق الحكم عليه إلا أن يقوم دليل. وأيضا فإننا قد حكمنا لها بحكم النفاس والدم موجود فيما دون الأربعين وفي الأربعين فلا ينقل عنه إلا بدلالة؛ لأن العلم الموجب للحكم موجود. فإن قيل: فقد روى ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «للنفساء أربعون يوما، فإذا مضت اغتسلت وصلت». وروي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تنتظر النفساء أربعين ليلة، فإذا رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، وإن جاوزت الأربعين فهي مستحاضة تغسل وتصلي».

وروى عثمان بن أبي العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أكثر النفاس أربعون يوما، وما زاد فهو استحاضة». قالوا: وكذا روي أن أم سلمة قالت: كان النساء يقعدن على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النفاس أربعين يوما».

قالوا: ومعلوم أن وجود هذا القدر لا يتعلق بنساء الله زمان واحد، فثبت أن المراد كون مدتهن مقصورات على هذا القدر، وهذا الاتفاق من أهل عصر واحد لا يكن إلا عن أمر من النبي عليه السلام. قيل: أما خبر عائشة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحتمل وجوها منها: أنه خرج على سؤال قيل له: ما حكم النفساء ترى الدم أربعين يوما ثم ينقطع؟. فقال: النفساء التي هذه صفتها أربعين يوما، فإذا مضت، أي فإذا مضت الأربعين يوما بالدم اغتسلت وصلت. ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد، وهي امرأة يعرفها النبي عليه السلام هذه صفتها فأفتى فيها بذلك، وهذا ظاهر؛ لأنه ليس في العرف أن يبتدأ إنسان على غير سؤال فيقول: للنفساء أربعين يوما، وقد اختلف الناس في الألف واللام إذا دخلت على النكرة هل تكون للعهد وتعريفا للنكرة، أو للنجس؟ والأليق في هذا المكان أن تكون للتعريف والعهد لما ذكرناه من حال الابتداء.

فإن قيل: فهذا كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للفرس سهمان، وللفارس سهم». قيل: هذا أيضا حجتنا؛ لأنه خرج كلامه على الفرسان الذين كانوا معه في المغنم، وهم أصحابه الذين يعرفهم، ولم يرد تعريف الجنس في كل فارس في الأرض أو البلد. وأيضا فلا يمتنع أن تقوم الدلالة في الموضع أن ذلك للجنس، فلا ينبغي أن يحمل كل موضع فيه الألف واللام عليها. وأما خبر ابن عمر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تنتظر النفساء أربعين ليلة فإذا رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، فإن جاوزت الأربعين فهي مستحاضة تغتسل وتصلي»، فإنه خبر لا يعرف، فإن صح فيحتمل أن يكن في امرأة جرت عادتها بذلك على السنين، وكثيرة الولادة، فحكم لها بعادتها، كما إذا زادت على عادتها في أيام الحيض - عندهم -. ويحتمل أن يكون قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإذا جاوزت الأربعين، وبعدها

عشرين؛ لأنها أيضا متجاوزة، ولم يقل: أو ما تجاوز بالدلائل التي قدمناها. وأما حديث عثمان بن أبي العاص فقد قيل: إنه موقوف عليه. ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام: «أكثر النفاس أربعين يوما، لمن لم يزل عادتها كذلك. ويحتمل أن يكون وما زاد على عشرين يوما أخر؛ لأننا قد أقمنا الدلائل على الستين، فلو قال: أكثر النفاس أربعين وبعدها عشرون لما استحال إذا خلت الدلالة على الستين، ولم يقل: وأول الزيادة استحاضة، وإنما قال: وما زاد، فيحتمل أن يريد وما زاد فأفرط حتى تجاوز الأربعين بأكثر من عشرين الدلائل التي أقمناها. وأما قول أم سلمة: كان النساء يقعدن على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين، فهذا يدل على أنهن بعده - وقد تغيرت أحوالهن - فقالت هذا القول، فيحتمل أن يكون أولئك الناس كان طباعهن وعاداتهن في ذلك الوقت جارية الأربعين، ثم تغير الزمان، وقد بينا أنه يتغير بغير الأزمنة، وإنما خبرت عن حال كان النساء عليها في ذلك الوقت، ولم تقل لمن حضر: فاقعدن أنتن كذلك، وإنما أعلمتهن أن عادات أولئك كانت على خلاف عاداتكن. وقولهم: إن هذا لا يتعلق بأهل زمان واحد غلط؛ لأننا قد بينا أنه يختلف عليهن باختلاف الأزمان.

وقولهم: إن هذا الاتفاق من أهل عصر واحد لا يكون إلا عن أمر النبي عليه السلام فقد بينا الاحتمال في صريح قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس ما ذكروه اتفاقا وإنما هي روايات مختلفة، وألفاظ مختلفة محتملة. فإن قيل: فقد روي عن عمر وابن عباس وعثمان بن أبي العاص وعامر بن عمير أن أكثر النفاس أربعين يوما، وما زاد فهو استحاضة.

قالوا: والاستدلال بهذا من وجهين: أحدهما: أن تقدير الأربعين في مدة النفاس لا يتوصل إليه إلا من طريق التوقيف، فصار هذا كروايتهم عن النبي عليه السلام. والثاني: أن هذا القول نقل عنهم من غير خلاف من نظرائهم فتصير مَسْأَلَة إجماع. ولأن المقادير التي تتعلق بها حقوق الله - تعالى - على غير وجه الفصل بين القليل والكثير لا يتوصل إلى إثباته إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق، وقد حصل الاتفاق على الأربعين، وما فرق ذلك مختلف فيه فلا يصلح إثباته إلا بتوقيف أو اتفاق. قيل: هذا [هو] الذي ذكرتموه عن هذه الجماعة ليس بأولى من صريح قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد تأولناه، فهذا بالتأويل أولى. وأما الوجه الآخر: فإنه لا يجري مجرى الإجماع إلا أن تكون فتيا ظاهرة تنتشر منهم في الصحابة فلا يخالفون، فأما حكايات عنهم تتأول فلا يجيء منها ما ذكرتم. على أنكم أنتم لا تحكمون بفتوى الصحابي إذا انتشرت، حتى إن بعضكم لا يجعله حجة فكيف يجري مجرى الإجماع.

وأما أن المقادير لا توجد إلا عن توقيف فأنتم تعلمون خلافنا لكم في الكفارات وغير ذلك من المقدرات. ثم مع هذا كله فإننا استدللنا بالوجود الذي هو الأصل الذي ردنا صاحب الشريعة إليه بما بيناه فيما تقدم، وهو أقوى مما أوردتموه؛ لأنه أصل ثابت لا يعترض عليه بهذه الأشياء المحتملة. وقد استدل بعض من وافقنا في المسألة باستلالات وقياسات أنا أذكر بعضها، وهو أن قال: لما اتفقنا على كون الأربعين نفاسا جاز أن يضاف إليها مثل نصفها، دليله العشرون. ولأنه دم لأقله غاية فجاز أن يجاوز الأقل والعادة، دليله الحيض. ولأن دم النفاس هو الحيض أي اجتمع في الرحم من أجل الحائل الذي هو الولد، ومتى عددنا لك شهر ستا أو سبعا حصل قريبا من ستين يوما فوجب أن يكون ذلك مدة نفاسها. واعترض على ذلك باعتراضات كرهنا التطويل يذكرها، وفيما ذكرناه كفاية، وبالله التوفيق.

[83] مسألة

[83] مَسْأَلَة عند مالك - رَحمَه الله - أنها إذا ميزت بين الدمين علمت على إقبال الدم وإدباره، فتركت الصلاة عند إقبال الحيضة، وتغتسل وتصلي، وبذلك قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تعمل على عدد الأيام. والدليل لقولنا: قوله - تعالى -: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد}، فأعلمنا أنه يزيد وينقص، وذلك يعرف بعلامة، وقد بينا أنه يتغير في الأزمان والأحوال والإنسان، وينتقل من وقت إلى وقت فيجب أن يدار معه حيث دار إلا أن تقوم الدلالة.

وأيضا قوله - تعالى -: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى}، فردهن إلى التمييز، وهو الدم الذي يكون معه أذى. وقال النبي عليه السلام: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة تعرف»، رواه أبو هريرة، فأعلمناه أن الحكم يتبع هذه الصفة حيث وجدت إلا أن تقوم دلالة. وأيضا قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: «إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عند الدم وصلي»، فردها إلى التمييز عند اشتباه الدم وتجاوزه مدة حيضها، ولا يقول لمن هذه صفتها: إذا أقبلت الحياضة إلا وهي عارفة بالحيضة، هذا الأشبه والأظهر. وأيضا فإن الأيام لا حكم لها بمجردها، ولها حكم مع الدم فثبت أن الحكم للدم لا غيره. وأيضا فإن الخارج متى اختلف أحكامه عند اختلاف أنواعه الحكم للدلالة لا غيره. وأيضا فإن الخارج متى اختلف أحكامه عند اختلاف أنواعه وألوانه كان التمييز فيه، دليل ذلك المني والمذي. وأيضا فإن الوصف إذا أمكن أخذه من ذات الشيء لم يجز تعديه إلى غيره كما إذا أمكن من ذات الحيض ثم تصر فيه إلى عادة النساء.

فإن قيل: فقد روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم سلمة: «لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر»، فردها إلى أيامها. قيل: إنما كان هذا في امرأة لم يكن لها تمييز، وكان دمها مشتبها، ولها أيام تعريفها قد زاد على أيامها. ويحتمل أيضا أن تكون المرأة ظنت أنه مع التمييز إذا انقطع عنها دم الحيض بعد أيامها وتغير أن حكمها واحد في ترك الصلاة، فأعلمها أنه إذا تغير بعد تقضي أيامها التي كانت تحيضها اغتسلت صلت، وأنها تترك الصلاة في تلك الأيام لرؤية الدم الذي تعرفه، تحمل على هذا بدليل ما ذكرناه. فإن قيل: فقد روي في حديث حمنة بنت جحش أنه قال لها: «تحيضي في علم الله ستا وسبعا فذلك ميقات حيض النساء وطهرهن». قيل: إنما هذا وارد في امرأة مبتدأة ولم يكن هلا بعد أيام ولا تمييز، فردها إلى هذا القدر الذي هو الغالب في أسنانها.

فإن قيل: فإنه قد روي أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك»، فردها إلى الأيام. قيل: هذا الذي يدل على أنها كانت مميزة، فأحالها على أيام أقرائها التي تعرفها مع وجود الدم الذي تعرفه؛ لأنه لم يقل: أيامك. وإنما قال: أيام حيضك، فلا بد أن تكون قد عرفت الحيض بلونه أو غير ذلك، وإلا كان مشكلا؛ لأنها سألت عن الزائد على دمها هل هو حيض أو غيره؟. فلا يجوز أن يقول لها: اقعدي أيام حيضك؛ لأنها تقول: هذا حيضي أيضا، ولو أراد أيام حيضك فيما مضى لكان أيضا مشكلا إن لم تكن تعرف دم الحيض وتميزه، فإنما أحالها على حيض تعرفه. فإن قيل: فإن الدم إذا جاوز خمسة عشر يما لم ين حيضا، وإن نقص كان حيضا فعلمنا أن الاعتبار بالأيام لا بالدم. وأيضا فإنه لما لم يختلف حكم السواد وغيره في الأيام في أنه حيض لم يختلف حكمها في غير الأيام، وعلم أن المعتبر بالأيام لا بالدم. قيل: قولكم: إن الدم إذا جاوز خمسة عشر يما لم يكن حيضا مع ما ذكرتموه لا يلزم؛ لأننا قد ذكرنا أن بعض أيام العشر لو خلت من الدم لم يعتبر، وإنما يحكم لها بحكم الحض مع وجود الدم فهو المعتبر والمتبع.

والفصل الآخر فلا يلزم أيضا؛ لأن الأيام لها حكم - عندهم - قبل العشرة ولا حكم لها بعد العشرة، فكذلك نقول التمييز نفرق بين حكمه بعد أكثر الحيض وبين حكمه قبل ذلك. وعلى أنه قياس ساذج لم يذكرا معنى يجمع بينهما. على أننا نقلب ذلك عليهم فنقول: لما لم يكن في غير أيام الحيض للأيام حكم فكذلك مع وجود الدم المشتبه ليس لها حكم. على أنهم لو صح لهم معنى يعارض ما ذكرناه لكان قولنا أولى؛ لأننا نستعمل الأخبار على كثرة الفوائد؛ لاختلاف أحوال النساء في ذلك فتكون أخباركم لا تنافي ما نقوله: والله أعلم. تحمل الأخبار على التكرار والإعادة، فنحمل قوله: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» على امرأة لها تمييز، وكذلك قوله: «دم الحيض أسود ثخين يعرف»، ويحمل قوله: «لتنظر عدد الأيام والليالي» على امرأة لها أيام ولا تمييز معها، أو على التمييز على الوجه الذي ذكرناه، وكذلك قوله:

«اقعدي أيام أقرائك»، ويحمل قوله: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا»، على امرأة ليس لها تمييز ولا أيام تقدمت، ويحتمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حيض نساء أمتي ما بين الست والسبع» إما على المبتدأة في الأغلب، أو على أن العادة في الغالب أمرهن، هذا مع وجود الدم الذي صفه لم ينقص لونه فهذا أولى من حمل الأخبار على الإعادة والتكرار. ويكون قولنا أيضا أولى؛ لما ذكرناه من الاعتبار والاستدلال، وقياس الشيء على نفسه. فإن قيل: لما كان دم النفاس مشاركا لدم الحيض في وجوب ترك الصلاة معه والصوم ومنع الوطء وجوب الغسل عند زواله ثم لم يعتبر لونه فكذلك لا يعتبر لون دم الحيض. قيل: دم النفاس لم يعتبر لونه؛ لأنه لا يتكرر دم الحيض الذي يعرف بلونه؛ لأنه دم النفاس احتبس مع الحمل لغذيته لما يتغذى منه

فإذا وضعت الحمل ثجت الرحم ما يبقى من ذلك الذي قد اجتمع في طول الحمل فلم يعتبر لونه لذلك، فإذا بلغ أقصى مدته زال حكمه، ثم لم يكن لما بعده حكم أصلا حتى طهر بعده طهرا كاملا، ثم يظهر فيكون لظهوره حكم الحيض. ثم إننا نقول: الفراش دليل النسب، ثم إنه إنما يدل إذا أمكن، فأما إذا لم يمكن فلا يدل. ألا ترى أن ما عقد للصبي الذي لا يطأ لو أتت بولد لستة أشهر من يوم العقد لم يحلق به، ولو كان هناك إمكان وطء الحق النسب، فكذلك التمييز يدل على الممكن ولا يستدل به فيما لا يمكن. والأصول تشهد لنا: وذلك أننا وجدنا أحكام الحيض تعتبر تارة بالدم وتارة بالأيام فيجب أن لا تعتبر الأيام ما دام لنا طريق إلى وصول الاعتبار بالدم. الدليل على ذلك: أننا نعتبر العدة مرة بالأيام ومرة بالدم، ثم لما كان الدم مقدما على الأيام فكذلك ها هنا ما دام التمييز موجودا، فلا ينبغي أن نعتبر بالأيام كما كان فيما ذكرنا. وأيضا فإن الأيام ظرف للدم، والدم هو المقصود، فاعتبار الحكم بالمقصود أولى من الحكم بظرفه. ألا ترى أنها اشتبهت عليها الأيام والتمييز وكانت لها أيام متقدمة معهودة كان المصير إلى ما الأيام - عندكم - أولى من ردها إلى غيرها من النساء، ثم لو تكن لها أيام متقدمة معروفة وكانت مبتدأة لكان الاعتبار بنساء أهلها وبلدها أولى

من الاعتبار بمن يتعذر عليها؛ لأن الحكم بما قرب من المقصود أولى من الحكم مما بعد عنه، فإذا كان ذلك كذلك والدم هو المقصود وجب أن يكون الاعتبار به دون غيره. وأيضا فإن الخارج من الفرج نوعان: أحدهما يوجب الوضوء، والآخر يوجب الغسل، وهما متباينان في غالب الزمان مع السلامة والاستقامة، ثم قد تعرض علة فتصور المني تصور المذي، ثم لا يمنع من أن يكونا معتبرين في أنفسهما، فكذلك حكم الحيض والاستحاضة ينبغي أن يكون الاعتبار بهما في أنفسهما وإن جاز أن تعترض ذلك شبهة علينا، ويشكل علينا شأنهما وبالله التوفيق.

فصل

فصل عند الشافعي أن المستحاضة إذا فاتها التمييز عملت على الأيام وعندنا لا اعتبار بالأيام لما ذكرناه مع أبي حنيفة من أن الحيض ينتقل من زمان إلى زمان، ويقل ويكثر ويختلف، فإذا لم يوجد علامته لم تترك الصلاة التي عليها بيقين بدم مشكوك فيه حتى يتيقن أنه دم حيض. ولنا أن نستدل باستصحاب الحال، وهو أن الصلاة عليها واجبة بيقين مع وجود الاستحاضة، فمن زعم إنها تسقط عنها فعليه الدليل. وأيضا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لفاطمة: «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة»، فإنما يعرف إقبالها بالعلامة، فدليله أنها إذا لم تقبل لا تدع الصلاة، ولم يقل لها: إذا أقبلت مثل الأيام التي كانت تحيضها، وإنما قال: «إذا أقبلت الحيضة» التي هي الدم.

وقد قال: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة» فأعلمنا أن الحكم يتعلق بما هذه صفته، فما لم تره لا يتعلق الحك إلا أن تقوم الدلالة. وقد قال: «لدم الحيض أمارات وعلامات، فإذا أدبر فاغتسلي وصلي». كذلك قالت أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئا، فدل على أن الاعتبار بالدم لا بالأيام. وقد قلنا: إن ذلك دلالةل قائمة في نفس الدم فهو بالاعتبار أولى، كما أن حكمها في نفسها أولى من حكم غيرها. ولأن الأيام لا حكم لها إذا لم يكن دم، لها حكم مع الدم، فعلم أن الحكم للدم. فإن قيل: نورد الحكم الأخبار التي ذكرها أصحاب أبي حنيفة في ذكر الأيام، نستعملها على ما يوجب مذهبنا من كثرة الفوائد. قيل: استعملنا نحن الأخبار بفوائدها، ولم نستعمل استعمالا يؤدي إلى إسقاط الصلاة التي هي بيقين بدم مشكك فيه، مع جاز أن

ينتقل الحيض من تلك الأيام: لأننا نجده في غير المستحاضة ينتقل من شهر إلى شهر، من وقت إلى غيره، ويقل في وقت ويكثر في غيره ينبغي أن يجرى فيه على طريقة واحدة، إلا بوجود الدم المحكوم له بحكم الحيض احتياطا للصلاة. فإن قيل: فإن اعتبار الأصول يدل على ما قلناه، وذلك أننا وجدنا أن الأمور إذا اشتبهت على مجتهديها. وأشكلت على مميزيها، وفاتهم أقرب الوجوه إلى الإصابة فيها وجب الرجوع إلى ما يقاربها ويدانيها لا المقام على العمى الجهل فيها، وهذه الجملة تجدونها كالمشاهدة في كل أمر مجتهد فيه، مختلف فيه اثنان، فاعتبروه في الاجتهاد والنوازل، وطلب الحكم في المسائل، وفيم المتلفات وتقويم النفقات، وطلب المثل في جزاء الصيد، والاجتهاد في القبلة وغير ذلك، فكذلك ما قلناه. والجواب: أن الذي لا ذكروه لا يشبه ما نحن فيه؛ لأننا لم نقم على العمى والجهل؛ لأن الحكم تعلق في الشريعة بشرط، وهو أن تجد علامة الحيض، فلما لم تجدها لم يتعلق علينا حكم فلسنا على عمى، بل على يقين حتى تحضر العلامة. ألا ترى أن اليائسة عن الحيض قد كان لها زمان وأيام تحيض فيه، فذا لم ترم الدم فليست على عمى، وكذلك التي تحيض لو انقطع عنها الدم أصلا فلم تحيض مدة من الزمان فإنها تصلى حتى يجيئها الدم الذي ذكره صاحب الشرعية أنه حيض، ولو كان طهرها في عادتها خمسة عشر يوما، ثم لم يحضرها الدم حتى مضى لها شهران فإنها تصلي وليس على عمى، لا يجوز أن نقلو لها: إذا جاءك الدم بعد هذا أنك كنت على عمى، فكيف هذا إذا حكمنا لها حكم الاستحاضة؟. فهي على يقين، كمن لم تر دما أصلا، فهي تصلي بيقين، ولا تنقل حتى يجيئها ما ينقلها عن ذلك،

وإنما كان هذا في الحيض والاستحاضة؛ لما ذكرناه من أن دم الحيض ليست له حال يستقر عليها؛ لأنه قد ينتقل من وقت إلى وقت، ويزيد في زمان وينقص في آخر، فه بالحمل أشبه لأنه قد يكون في غالب الحال تسعة، ثم قد يكن في ستة، وفي أكثر من تسعة، وإلى سنتين - عندكم -، وأكثر - عندنا -، ثم لم يجز أن يرجع فيه إلى الغالب ويقال: إننا فيما زاد على تسعة أشهر في عمى. وأما ما ذكروه من قيم المتلفات فهو عليهم لا لهم؛ لأن المقوم يقومه في زمانه بقيمته، التي ربما زادت على زمان متقدم أو نقضت؛ لأن القيم تختلف ولا تثبت على أصل واحد، وهم لا يعتبرون في قيمة المتلف ما كان يساوي، لا يجعلون ذلك أصلا يرجعون إليه، بل يرجعون إلى القيمة في وقت الإتلاف لأن القيم لا تستقر على حال واحدة، فكذلك يحكم لدم الاستحاضة بحكمه في وقته ولا نرده إلى حال متقدمة لو لم تكن له، وكذلك تقدير النفقات لما كانت تختلف باختلاف الأسعار، واختلاف الشتاء والصيف، لم يرجع فيها إلى المتقدمة، وإنما يحكم لها في وقتها؛ لأنها لا تستقر على حال واحدة.

وعروض ما نحن فيه إذا وجد دم الحيض فإننا نحكم بوجوده ومتى يوجد، لا يعتبر به ما تقدم. وأما طلب المثل في جزاء الصيد فهو أصل ثابت، كالأشياء التي تتلف ولها مثل من الموزونات والمكيلات لا يعمل فيها على اليم التي تختلف. ألا ترى أنه لو حكم عليه الطعام لكانت القيمة في الوقت، وعلى سعر الطعام أيضا في الوقت، ولم نرجع فيه إلى قيمة متقدمة. وأما الاجتهاد في القبلة فهو لنا احتياط في الصلاة، فهو يجتهد فيخطئ القبلة فيصلي والشك موجود، فكذلك تصلي مع الاستحاضة وإن كان قد يجوز أن يكون حيضا، فلم يكن فيما ذكروه طائل، وبالله التوفيق.

[84] مسألة

[84] مَسْأَلَة عند مالك - رَحمَه الله - أن المبتدأة إذا رأت الدم قعدت مقدار أسنانها من النساء، فإن زاد عليها الدم استظهرت بثلاثة أيام، كذلك من كانت لها أيام معروفة فزاد عليها الدم استظهرت بثلاثة أيام تغتسل وتصلي، وهذا إذا لم يزد مع الاستظهار على خمسة عشر يوما - التي هي عنده أكثر الحيض -. وقد روي عنه أنهما تقعدان إلى خمسة عشرة يوما - وهو القياس. وإنما استحسن الأول احتياطا للصلاة؛ لأنها تصلي قبل الخمسة عشرة يوما؛ الجواز أن يكون ذلك دم استحاضة؛ لأن صلاتها مع جواز

أن لا يكون عليها صلاة أحوط من ترك صلاتها مع جواز أن يكون عليها صلاة، وهو علة مالك في الاحتياط؛ لأنه قد روي أنها تقعد عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن، وهو لا يقطع على الإصابة في مسائل الاجتهاد، فرأى أن يحتاط للصلاة؛ لجواز أن يكون الحق في قول مخالفه. فإن قيل: فينبغي أن يحتاط للصلاة بأن لا يستظهر؛ لجواز أن تكون أيام الاستظهار أيام استحاضة. قيل: إنما قال بذلك لحديث رواه أهل المدينة عن حرام بن عثمان بن عبد الرحمن ومحمد ابني جابر عن أبيهما جابر بن

عبد الله قال: جاءت أسماء بنت مرشدة الحارثية إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له - وأنا جالس عنده - يا رسول الله، قد حدثت لي حيضة أنكرها، أمكث بعد الطهر ثلاثة أو أربعة ثم تراجعني أفتحرم على الصلاة؟. فقال: «إذا رأيت ذلك فامكثي ثلاثة ثم تطهري اليوم الرابع». وروي أنها كانت تستحاض فسألته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فقال لها: «اقعدي أيامك التي كانت تقعدين واستظهري بثلاثة أيام ثم اغتسلي وصلي». فإن قيل: فإن هذا حديث ضعيف. قيل: بل هذا حديث صحيح، وهو أصح وأقوى من حديث القلتين، وحديث إبراهيم بن أبي يحيى، ومن الثقة

عنده ومن قوله: حدثنا ابن جريج بإسناد لا يحضره ذكره، واحتجاج الشافعي بما لا يثبته أصحاب الحديث، وأسانيد أهل العراق في النبيذ والقهقهة وما أشبه ذلك. فإن قيل: فإن الاستظهار خلاف ظاهر قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر فتترك الصلاة ثم تغتسل وتصلي». قيل: لو تركنا وظاهر هذا الحديث، وصح من غير تأويل لم نزد عليه شيئا آخر إلا أننا أوجبنا الاستظهار بثلاثة أيام بالحديث الآخر الذي ذكرناه، فوجب الجمع بين الحديثين والعمل بالزائد. فإن قيل: فكيف اقتصرتم على ثلاثة أيام دن غيرها مما هو أقل منها أو كثير. قيل: للحديث الذي ذكرناه، وللنظر أيضا هو أنها تميز بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة بالثلاثة؛ لأنه شيء خارج من البدن معتاد

ونادر أشكل أمره، كما أن في اللبن معتادا ونادرا، فلما أشكل أمره في المصراة جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها الزمان الذي يتوصل به إلى الفصل بين اللبنين ثلاثة أيام، وجب أن يكون هذا القدر فاصلا بين الدمين. وهذا القول إنما هو اختيار واستحسان. والحديث الصحيح المتفق عليه الذي يعمل عليه والذي يذهب إليه غير هذين الحديثين، وهو ما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر أفادع الصلاة؟. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي»، على هذا يعتمد أنها إذا ميزت عملت على إقبال الدم وإدباره، سواء كان ذلك قل تقضي مدة أكثر الحيض أو بعد ذلك، فإن لم تميز فهي قبل تقضي أكثره تقعده إلى أكثره، وبعد ذلك تصلي أبدا حتى ترى دما لا تشك فيه فتعمل على إقباله وإدباره. والله الموفق.

[85] مسألة

[85] مَسْأَلَة قد بينا حكم المبتدأة، ومن لها أيام معروفة وزاد عليها الدم، وبينا وجه الاستظهار، ونحن نذكر وجه قعودها إلى خمسة عشر يوما، ويكون جميع ذلك حيضا، وإن زاد على خمسة عشر يما فإنهما تغتسلان بعد ذلك وتصليان. وعند أبي حنيفة أن المبتدأة إذا تطايق بها الدم حتى زاد على أكثر الحيض - الذي هو عنده عشرة أيام - فإن العشرة حيض، كما هو - عندنا - في الخمسة عشر. وعند الشافعي أن المبتدأة إذا تطاول دمها فهي تترك الصلاة، فإن زاد على خمسة عشر يما أعادت صلاة ما زاد على يوم وليلة في أحد قوليه، وفي القول الآخر: تعيد ما زاد على ست أو سبع؛ لأن الزائد استحاضة.

والدليل لقولنا - أن الخمسة عشر كلها حيض -: قوله - تعالى -: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى}، فأعلمنا أن الدم الخارج ممن يجوز منها الحيض هو الذي يتأذى به، فهو أبدا كذلك حتى يقوم دليل الاستحاضة. وأيضا فإنها حائض محكوم لها به في اليوم الليلة، فهي على ذلك حتى يقوم دليل. وأيضا فقد حكم عليها بترك الصلاة بإجماع، فمن زعم أن عليها الإعادة فعليه الدليل؛ لأن الإعادة فرض ثان. وأيضا قوله عليه السلام: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة تعرف» فما دامت هذه صفته فالحكم يتبعه حتى يقوم الدليل. أيضا قوله: «تصلي المارة نصف دهرها»، فهو عم في المبتدأة وغيرها حتى يقوم الدليل. وأيضا قوله عليه السلام: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما

تحيض النساء في كل شهر»، فأخبر عن غالب أحوالهن، ولم يفرق بين المبتدأة وغيرها، ولم يقل: يوما وليلة، فهو عام. وهاذ الخبر يلزم على القول الذي يقول فيه: إن حكم الحي منه يوما وليلة لا على القول الآخر. فإن قيل: فأنتم لا تقولون بهذا، وتقولون خمسة عشرة يوما. قيل: مرادنا أن تزيدوا على اليوم والليلة، فإذا تجاوزتم ذلك فقد قام دليلنا على الزيادة على ذلك بشيء ينضم إليه. فإن قيل: فهو حجتنا على الوجه الآخر. قيل: هو كذلك، ولكنه حجة عليكم في هذا الوجه. وأيضا فقد أجمعوا على أنها عند رؤية الدم ترك الصلاة وتمضي مع وجود الدم، ولم يجمعوا على ترك صلاة هي عليها بيقين بدم لا يحكم له بحكم الحيض، ويكون مشكوكا فيه، فلولا أنه دم حيض لم تترك الصلاة الذي هي عليها بيقين بدم لا يحكم له بحكم الحيض. وأيضا فإن الدم ل لم يزد على مدة الغالب أو على أكثر لم يرد إلى أقل الحيض حلان الدم قد تمادى إلى أكثره، فكذلك إذا زاد. فإن قيل: فهذا يلزمكم إذا كانت لها أيام معروفة وزاد عليها.

قيل: لأمر - عندنا - واحد لا فرق بينهما. فإن قيل: فإن الصلاة عليها في الأصل بيقين فلا تسقط إلا بدليل. قيل: قد أجمعوا على سقوطها عنهما قبل الخمسة عشر في اليوم والليلة، فمن زعم أنها قد وجبت بعد ذلك فعليه الدليل، ونحن مختلفون في الإعادة. فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}. قيل: هذا يتناول حلا الطهر بإجماع، وقد اختلفنا في حكم المبتدأة فيما زاد على يوم وليلة هل هي طاهر أم حائض؟، فلم يتوجه إليها الخطاب. وأيضا فالألف واللام لتعريف الجنس المقصود في أوقاته بأن لا تضيع وقته، وقد أجمعوا على أن المبتدأة تترك أوقات الصلوات مع وجود الدم، لا تجوز لها المحافظة لعيها، وإنما يقولون تقضي الفوائت قد أمرت بترك أوقاتها فكيف يتوجه الخطاب إليها؟. بل تلزمها في المستأنف إذا طهرت أن تحافظ على الصلوات في أوقاتها. فإن قيل: فقد قال - تعالى -: {وأقم الصلاة لذكري}. قيل: لا يخلو أن يكن - تعالى - أراد أقم الصلاة عند ذكري بها، أو

إذا ذكرتها، وكلاهما لا يتوجه إلى هذه؛ لأن الذي قال: أقم الصلاة عند ذكري، هو الذي قال لها: لا تصلي مع جود الدم، فكأنه قال لها: اتركي الصلاة ند ذكري؛ لأنها بأمره تركت. والوجه الآخر يتوجه إلى من نسي وذكر، وليست هي كذلك. وأيضا فإن لفظة: {وأقم} للمذكر الواحد، وهي لا تدخل فيه. فإن قيل: فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحمنة بنت جحش: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا، وذلك ميقات حيضهن وطهرهن». قيل: وقد قلنا إنه لما قال: «ذلك ميقات حيضهن وطهرهن» عام لم يفرق بين المبتدأة وغيرها، فإن أردتم أنه حجة لقولكم الآخر الذي ترودنها فيه إلى ذلك فقد أقمنا الدلالة من حديث أسماء بنت مرشدة في الاستظهار عليها بثلاثة أيام، على الوجه الذي نقولك تستظهر، وعلى هذا الوجه نحمله على أنها كانت لها أيام معروفة يتميز معها الدم بدلالة قوله لفاطمة: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي»، بما ذكرناه من الدلائل. فإن قيل: فإن دمها إذا زاد على خمسة عشر دخل حيضها في

الاستحاضة، فوجب أن يرد أمرها إلى العرف العادة، أصله من لها أيام معهودة فتجاوز حيضها. ولأنه دم لم ينفصل عما تيقنا فساده ممن لم يصر لها أكثر الحيض عادة فلم يجز أن يحكم فيه بأكثر الحيض، دليله من أيام معروفة تجاوزها الدم ثم استمر بها. قيل: هذا لا يلزمنا نحن لأنهما عندنا - سواء، وإنما يلزم أصحاب أبي حنيفة. وأيضا فقد بينا أن الدم لا يستقر على عادة واحدة؛ لأنه يزيد ويقل وينقل ويختلف باختلاف الطباع والزمان فينبغي أن نردها إلى أكثر الحيض الذي وجده أكثر من وجود يوم وليلة، وعلامة الدم موجودة فيه بصفته، ويكون قولنا أولى بما ذكرناه من تركها الصلاة التي كانت عليها بيقين بوجود الدم الذي هذه صفته.

[86] مسألة

[86] مَسْأَلَة وإذا حاضت المارة يوما أو يومين وطهرت يوما أو يومين، مبتدأة كانت أو كانت لها معروفة فزاد عليها لدم فإنها تلفق أيام الدم إلى الدم، وتصلي في أيام الطهر، فإذا اجتمع في يدها من أيام الدم - وهي مبتدأة - أقصى ما يجلس أسنانها من النساء استظهرت على ذلك بثلاثة أيام من أيام الدم تضيفها إلى أيام الدم الذي قد قعدته، ثم تغتسل وتصلي في أيام الدم وأيام الطهر؛ لأنها مستحاضة، وكذلك التي لها أيام معروفة تستظهر بثلاثة أيام كما ذكرنا. وقد قال: - وهو القياس - إنهما تلفقان حتى يجتمع في أيديهما من الدم خمسة عشر يوما، ثم تكونان مستحاضتين على ما ذكرنا، تصليان أبدا حتى يأتي دم لا يشك فيه أنه دم حيض فتعملان على إقباله وإدباره على حديث فاطمة

بنت أبي حبيش، وهذا قول محمد بن مسلمة، وقول أحمد بن المعذل. وقال عبد الملك بن الماجشون: إن دمها إذا كان موازيا لطهرها، مثل أن ترى الدم يوما والطهر يومين والدم مثل ذلك، فإنها تغتسل

وتصلي في يوم الطهر وتترك الصلاة في يوم الحيض، تعمل هذا أبدا. ووجه قول عبد الملك هذا: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تصلي المرأة نصف دهرها، ونصف عمرها»، وإذا استوى الطهر والحيض في امرأة، ولم يتميز لها وعملت بهذا فقد دخلت تحت الظاهر. وأيضا فإذا وجد هذا في امرأة ولم تدر ما تعمله من ذلك إلى خروجها عن أكثر الحيض ولا عن أقل الطهر، وهذا في أيامه حض على علاماته، وهذا طهر على صفته، فينبغي أن تعمل عليه، فإنه ليس يخرج عن الحد المجعول في الشريعة لأكثر الحيض وأقل الطهر، وهما أصلان في الشريعة، كما لو اتصل الدم خمسة عشر يما، والطهر بعده خمسة عشر يوما؛ لأنهما حدان لأكثر الحيض وأقل الطهر، وهو - عندي - أولى؛ لأن فيه احتياطا لحفظ هذا الأصل مع وجود الدم وعلاماته، وليس يضر أن تختلف الحال في أحكام الحيض، فيكون في امرأة حكم، وفي غيرها بخلافه؛ لوحده مختلفا عليهن وفيهن،، زيادة ونقصان، وكثرة وقلة، فإذا كانت هذه بفعلها ما ذكره عبد الملك لا يخرج عن ظاهر قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تصلي نصف دهرها»، ولم تخرج عن أن يكون حيضها موازيا لطهرها، فهو كما يوجد في أن تحيض خمسة عشر وتطهر خمسة عشر؛ لأن معنى هذا: أنها تصلي نصف

دهرها، فلا فرق بين أن تصليه مجتمعا أو مفرقا، وكذلك لا فرق بين أن تحيضه مجتمعا أو مفرقا. ومن الظاهر لقوله أيضا: قوله - تعالى -: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض}، ولم يقل: تلفق، بل جعل الشرط مقرونا بوجود الدم الذي يتأذى به. وقول النبي عليه السلام: «دم الحيض أسود ثخين له رائحة تعرف»، فأعلمنا أن الحكم يتعلق عليه بوجود هذه الصفة، فحيث قارنها الحكم إلا أن تقوم دلالة. فإن قيل: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا». قيل: معناه إذا اتصل الدم، وكان أيضا يختلف لونه، وإنما خرج على سؤال من اتصل دمها، فأما من صورتها ما ذكرناه فلم تدخل تحت ذلك. وأيضا فإنها قضية في عين لا يتعدى بها إلى غيرها حتى يعرف معناه. فإن قيل: فإن الرواية الأخرى فيها احتياط للصلاة؛ لأنها لفقت صار الباقي استحاضة فتصلي أبدا. قيل: إذا كانت علامة دم الحيض باقية على طريقة واحدة،

وكذلك حكمنا له بأنه حيض في أيامه فينبغي أن لا يتغير حكمه، وليس الاحتياط بأن تصلي ما ليس عليها بأولى من ترك الصلاة لا تجب عليها؛ لأنها تحصل عاصية بصلاتها حائضا، وهي طائعة بترك ما لا يجب عليها، قد علمت على ما أوجبته الشريعة في الظاهر من اتباع حكم الدم الذي جعلت له علامة، ومن أنها تصلي بإزاء ما ترك. فإن قيل: قد أجمع أصحابنا على أن أيامها إذا اختلفت فكانت يمين حيضا ويوما طاهرا أو يومين طهرا ويما حيضا فإنها تلفق، والمعنى في ذلك أن ما بين الدمين ليس بطهر كامل، فكذلك إذا اتفقت. قيل: المعنى في المختلف عدم المساواة فيهما فلما لم يتفق لفقت، وإذا استوى لم تلفق. فإن قيل: لو كان لهذا الدم حكم نفسه لوجب أن لا يكون عدتها إذا طلقت سنة كالمستحاضة، وهذا موضع لا تختلفون فيه. قيل: هذا لا يلزم؛ لأنه لم يحك عن عبد الملك نصا في هذه أنها تعتد سنة، ولعلها أن تجعل الشهر مقسما بين حيضة وطهر؛ لأن الله - تعالى - جعل في التي لا تحيض كل شهر بإزاء قرء، ولو قال: إن عدتها سنة لم يضر؛ لأنه استظهر فيها؛ لأن الحامل تحيض، فجعل

عليها تسعة أشهر الغالب من مدة الحمل، وإن كان الدم موجودا، ثم بعدها ثلاثة كل شهر بإزاء قرء، لأنه قد جمع الحيض والطهر. وأيضا فإن الدم الذي تترك له الصلاة بخلاف الذي تعتد به. ألا ترى أن مالكا قال: تترك الصلاة لدفعة من دم، ولا تعتد بذلك في العدة، فلم يلزم عبد الملك هذا السؤال، وبالله التوفيق. كمل كتاب الطهارة وهي ست وثمانون مَسْأَلَة، والحمد لله كثيرا.

§1/1