عيون الأخبار

الدِّينَوري، ابن قتيبة

الجزء الاول

الجزء الاول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المقدمة هذا كتاب «عيون الأخبار» أقدّمه للقارىء الكريم بحلّة جديدة بعد أن تجشّمت عناء مراجعته غير مرة. ألّفه ابن قتيبه ليكون تذكرة لأهل العلم وتبصرة لمغفل التأدّب ومستراحا للملوك من كدّ الجدّ والتعب وذلك حين تبيّن شمول النقص وشغل الخليفة العباسي عن إقامة سوق الأدب. يقول في مقدمة هذا الكتاب: «وإني تكلّفت لمغفل التأدّب من الكتّاب كتابا في المعرفة وفي تقويم اللسان واليد حين تبيّنت شمول النقص ودروس العلم وشغل السلطان عن إقامة سوق الأدب حتى عفا ودرس ... » وفي مقدمة كتابه «أدب الكاتب» أوضح أيضا حال الأدب المتردّية في عصره فقال: «فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين «1» ، ومن اسمه متطيّرين «2» ، ولأهله كارهين: أما الناشىء «3» منهم فراغب عن التعليم، والشادي «4» تارك للازدياد، والمتأدّب في عنفوان الشباب ناس أو متناس ... وصار العلم عارا على صاحبه، والفضل نقصا، وأموال الملوك وقفا على شهوات النفوس ... » ونحن نقول: كيف يجرؤ

ابن قتيبه على هذا القول وبغداد آنذاك مقرّ الثقافة الإسلامية المزدهرة ومركز مرموق للحياة الأدبية والعقلية معا؟ وإذا لم تنحصر موضوعات «عيون الأخبار» «1» في القرآن والسّنّة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام فإنها- كما يقول ابن قتيبة- مرشدة لكريم الأخلاق، زاجرة عن الدناءة، ناهية عن القبيح، باعثة على صواب التدبير؛ لأنّ علم الدين والحلال والحرام تقليد لا يجوز أن نأخذه إلّا عمّن نراه حجّة. كذلك لم يكن كتابه هذا وقفا على طالب الدنيا دون طالب الآخرة، ولا على خواص الناس دون عوامّهم، ولا على ملوكهم دون سوقتهم، بل وفّى كلّ فريق منهم قسمه. ولكي يروّح عن القارىء من كدّ الجدّ، ضمّن هذا الكتاب نوادر طريفة وكلمات مضحكة تدخل في باب المزاح والفكاهة. يقول: «مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين» . وكان ابن قتيبة يتلقّط أخباره عن جلسائه وإخوانه وعمّن فوقه في السنّ والمعرفة، كما وقف على كتاب التاج، وكتاب الآيين، وكتاب إبرويز، وآداب ابن المقفع، وكتب الهند ولكن دون أن يذكر اسما لكتاب هندي اعتمد عليه. يقول مثلا: «قرأت في كتاب للهند إنّ فلانا ... » كما اعتمد على أقوال علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، وعلى أقوال بزرجمهر، وإسحاق بن راهويه، وأبي حاتم السّجستاني، وأحمد بن الخليل، وعبد الرحمن بن عبد المنعم، وأبي سهل، وعبد الملك بن مروان، وميمون بن ميمون، والمدائني، وأبي عبّاد الكاتب، وابن الأعرابي، ومحمد بن عبيد، ومحمد بن داود، وعلي بن محمد، وابن سيرين وغيرهم. وقد لجأ إلى الإتيان بأخبار وأشعار اتّضعت عن

قدر كتابه لسببين؛ أحدهما الحاجة إلى ذلك، والآخر أنّ الحسن إذا وصل بمثله نقص نوراهما. صنّف كتابه أبوابا مقرنا الباب بشكله، والخبر بمثله، والكلمة بأختها ليسهل على المتعلم علمها وعلى الدارس حفظها. وهذا الكتاب حلية الأدب، ونتاج أفكار الحكماء، ولقاح عقول العلماء، وسير الملوك وآثار السّلف. قسّم المؤلف فيه الأخبار والأشعار وجمعها في عشرة كتب؛ كل كتاب بمثابة باب. فالكتاب الأول هو كتاب السلطان، وفيه أخبار السلطان وسيرته وسياسته، إلى جانب اختياره القضاة والحجّاب والكتّاب، وفيه يكثر من النقل عن الفرس والهند مما يشير إلى تأثر الأدب العربي بأدب هؤلاء، ولكنه في موضوع القضاء لم ينقل إلّا عن أحكام العرب والمسلمين. والكتاب الثاني هو كتاب الحرب، وفيه الأخبار عن آداب الحرب ومكايدها، ووصايا الجيوش وعددها وسلاحها. وفي الكتاب الثالث يسهب المؤلف في الحديث عن مخايل السؤود وأسبابه ويتحدث عن الذلّ والمروءة والغنى والفقر والبيع والشراء. والكتاب الرابع هو كتاب الطبائع والأخلاق المذمومة، وفيه الأخبار عن تشابه الناس في الطبائع، إلى جانب طبائع الجن والسّباع والطير والحشرات. والكتاب الخامس هو كتاب الهلم والبيان، وفيه الأخبار عن العلماء، والبيان والبلاغة والخطب والمقامات ووصف الشعر، إلّا أن المؤلّف لم يعرض للشعر بالتفصيل؛ لأنه أفرد للشعراء كتابا هو «الشعر والشعراء» ، وهو إذا ذكر نتفة في هذا الكتاب، فإنما كراهية منه أن يخليه من فن من الفنون. والكتاب السادس كتاب الزّهد، وفيه أخبار الزّهّاد، ومناجاتهم ومواعظهم وذكر الدنيا والموت، ينقل فيه الكثير عن اليهود والنصارى. ثم يليه كتاب الإخوان، ويحثّ فيه على حسن اختيار الإخوان. وبعده كتاب الحوائج، ويتضمن الأخبار عن استنجاح الحوائج بالكتمان والصبر والهديّة والرشوة ولطيف الكلام. ثم الكتاب التاسع، وهو كتاب الطعام، وفيه الأخبار عن الأطعمة الطيّبة، والحلواء، وما يأكله فقراء

الأعراب، وما يصلح الأبدان من الغذاء والحمية وشرب الدواء، ومضارّ الأطعمة ومنافعها، إلى جانب نتف من طب العرب والعجم. وهو هنا ينقل عن كتاب الحيوان للجاحظ وكتب أرسطو، ولكنه يعرض المعلومات عرض مدرك لأمور الطب عارف بها. وأخيرا كتاب النساء، وفيه الأخبار عن اختلاف النساء في أخلاقهنّ وخلقهنّ وما يختار منهنّ للنكاح وما يكره، خلا أخبار عشّاق العرب. وهكذا اختار ابن قتيبة خير ما روي فرتّبه وبوّبه وجمع ما تشابه منه تحت عنوان واحد لكل كتاب من كتبه العشرة، فظهر أديبا حسن الذوق في الإختيار يمتاز عن غيره من الأدباء في هذا الميدان، بحيث أوصل عملية الاختيار إلى مرحلة الكمال والترتيب. ولقد ضمّن ابن قتيبة كتابه أبياتا من الشعر مشاكلة لأخباره. ويتّضح من منهجه الذي رسمه في مقدمة كتابه أنه صاحب منهاج حديث يعتمده الكثير من أدبائنا في الوقت الحاضر، ولا يؤخذ عليه سوى استطراده أو تكراره لأخبار نحن بغنى عنها. وهذا الكتاب صدى لشخصية صاحبه، فهو أديب رفيع الذوق في انتخاب الأخبار، مثقف ثقافة واسعة، كثير الميل إلى الأدب والتاريخ. كما يعدّ كتابه مرجعا ذا فائدة كبيرة في عالم الأخبار والأدب، والمؤلّف فيه صاحب ملكة مرهفة للتعبير النثري الدقيق، مما جعله فريدا بين كتب القديم وأحد مصادر النقل الرئيسية، تأثّر به ابن عبد ربه في كتابه «العقد الفريد» كثيرا سواء في الترتيب والتبويب أو فيما جاء به من موضوعات. ورغم أنه طبع غير مرة في غير بلد فإني رأيت أن أعنى به لما فيه من تصحيف وتحريف ونقص وزيادة، فراجعته وقابلت كثيرا من نصوصه بما يوافقها في مصادر أخرى ككتاب البيان والتبيين للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والكامل في اللغة والأدب للمبّرد، والكامل في التاريخ لابن الأثير وغيرها من المصادر والمراجع. ونظرت فيه

بدقة متناهية، وقمت بضبط ألفاظه، وأوضحت ما غمض فيه من مشكلات مكمّلا ما نقص من عباراته ومتحرّيا أصحّ ما قيل في نسبة الشعر والنثر إلى أصحابه، فجشمت الأمر معتمدا في ذلك النّصب على الراحة، فكان أن ترجمت لأكثر من ثلاثماية شخصية أدبية وعلمية وفسّرت أكثر من تسعين آية قرآنية وردت جميعها في الجزئين الأول والثاني مع تحديد العديد من المواضع والأماكن؛ لأن الجزئين الثالث والرابع قام بشرحهما وضبطهما زميلي الدكتور مفيد قمحية. وبذلك خرج هذا الكتاب في ثوب قشيب لم يعتد القراء على مثله من الطبعات السابقة التي تكاد تخلو من الحواشي والتوضيحات، راجيا أن يشبع رغبات أهل العلم وملتمسا العذر منهم إن هم عثروا فيه على خطأ؛ ذلك العصمة ليست إلّا لرب العالمين. وارتأيت أن أتمّم عملي هذا بتقديم نبذة عن سيرة المؤلّف موجزة، فأقول: هو الكاتب أبو «1» محمد عبد الله بن المسلم بن قتيبه الدّينوريّ (بكسر الدال وسكون الياء وفتح النون والواو معا وكسر الراء وتشديد الياء) سمّي بذلك لأنه ولي قضاء الدينور مدة فنسب إليها «2» . والدينور بلدة من بلاد الجبل عند قرميسين خرج منها خلق كبير «3» . وقال عنه السمعاني: إنه من أهل الدينور، أقام بها مدة فنسب إليها «4» . وقيل: المروزيّ (بفتح الميم والواو وسكون الراء ثم الزاي المكسورة والياء المشدودة) نسبة إلى مرو الشّاهجان (بسكون الهاء) ومرو الشاهجان مدينة عظمى تبعد أربعين فرسخا عن مدينة مرورّوذ، وهي إحدى كراسي خراسان، وكراسي خراسان أربع مدن؛ مرو

الشاهجان، ونيسابور، وهراة، وبلخ. قيل لها: مرو الشاهجان لتتميّز عن مرو الرّوذ. والشاهجان لفظ عجمي معناه «العظيم» و «روح الملك» ؛ فالشاه: الملك، والجان: الروح. ومرو هذه بناها الإسكندر ذو القرنين، وكانت سرير الملك بخراسان، وزادوا في النسبة إليها حرف الزاي فيقال: مروزيّ كما قالوا في النسبة إلى الريّ: رازيّ، وإلى إصطخر: إصطخرزيّ. ومرو رّوذ (بفتح الميم وسكون الراء وفتح الواو وتشديد الراء المضمومة وتسكين الواو) أشهر مدن خراسان، وهي مدينة مبنية على نهر، والنهر يقال له بالعجمية «الرّوذ» بضم الراء وسكون الواو، والنسبة إليها مرو رّوذيّ ومروزيّ «1» . وأبو محمد من أصل فارسي، إذ ولد أبوه مسلم بمرو، لذا يقال له المروزي «2» . وذكر الخطيب البغدادي والسمعاني أن ولادة أبي محمد كانت ببغداد سنة 213 «3» هـ. وقال ابن خلكان: ولد ابن قتيبة ببغداد، وقيل: بالكوفة «4» . وقال النديم وابن الأنباري: ولد في الكوفة في مستهل رجب سنة 213 «5» هـ، ولذلك يقال له الكوفي. ولم يشر ابن الأثير إلى مكان ولادته بل اكتفى بالقول: «وهو كوفي» «6» . وقال ابن خلّكان والسمعاني والسيوطي إنه نزل بغداد فتربّى فيها وسكنها وعلى أهل العلم فيها تثقّف حتى قام فيها بمهمة التعليم مدة «7» . وقال القفطي: ولد ببغداد ونشأ بها وتأدّب «8» . وقال بروكلمان: ولي ابن قتيبة قضاء الدينور ثم انتقل إلى بغداد فظل يزاول التدريس والتعليم

بها إلى أن توفي سنة 276 «1» هـ. وقتيبه (بضم القاف وفتح التاء وسكون الياء وفتح الباء وبعدها هاء ساكنة) هي تصغير قتبة، بكسر القاف، وهي واحدة الأقتاب أي الأمعاء، وبها سمّي جدّه، والنسبة إليه قتبيّ (بضم القاف وفتح التاء وكسر الباء وتشديد الياء) ولذلك لقّبه الذهبي بالقتيبي «2» . وقال السمعاني: القتيبي والقتبي نسبة إلى جدّه قتيبة المشهور بهذه النسبة، أو إلى بطن من باهلة وهم رهط قتيبة بن معن بن باهلة ابن هلال «3» . وليس صحيحا ما ذكره الزركلي من أنّ ابن الأنباري سماه عبد الله بن مسلمة وأنّ اسمه وقع في دائرة المعارف الإسلامية محمد بن مسلم «4» . وكان ابن قتيبة في نظر الخطيب البغدادي وابن خلّكان والقفطي والسيوطي وابن العماد الحنبلي ثقة دينا فاضلا «5» . وقول الدارقطني إنه كان يميل إلى التشبيه قول مردود في نظر السيوطي؛ لأن له مؤلّفا في الردّ على المشبّهة «6» . وأضاف السيوطي قائلا: قال البيهقي: كان ابن قتيبة كرّامّيا «7» ،

وقال الحاكم: إجتمعت الأمة على أنه كذّاب، وقال الحافظ الذهبي: ما علمت أحدا اتّهم القتيبي في نقله مع أن الخطيب قد وثّقه، وما أعلم الأمة أجمعت إلّا على كذب الدجّال ومسيلمة «1» . وقال ابن العماد: قال الذهبي في المغني: عبد الله بن قتيبة رجل صدوق، وقال الحاكم: أجمعت الأمة على أن القتيبي كذّاب، قلت هذا بغي وتخرص، بل قال الخطيب هو ثقة «2» . ولقد عاصر ابن قتيبة الجاحظ، إلّا أنه كان على خلاف معه؛ فالجاحظ معتزليّ من المتكلّمين، وهو من أهل السنّة كما يقول ابن تيميّة «3» . سكن بغداد ودرس فيها علم الحديث دراسة واسعة على يد أساتيذ كبار، كان أوّلهم أبو يعقوب إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم بن مخلد بن تميم بن مرة الحنظلي المروزيّ المعروف بابن راهويه. جمع هذا بين الحديث والفقه والورع وكان أحد أئمة الإسلام. عدّه البيهقي في أصحاب الشافعي، وقال أحمد بن حنبل: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين. وقال إسحاق عن نفسه: أحفظ سبعين ألف حديث وأذاكر بمئة ألف حديث، وما سمعت شيئا قط إلّا حفظته. له مسند مشهور. وكانت ولادته سنة 161 هـ، وقيل: سنة 163 هـ، وقيل: سنة 166 هـ. رحل إلى الحجاز والعراق واليمن والشام، وسمع من سفيان بن عيينة ومن في طبقته، وسمع منه البخاري ومسلم والترمذي. سكن في آخر

عمره نيسابور وتوفي بها سنة 238 هـ، وقيل: سنة 237 هـ، وقيل سنة 230 هـ. وراهويه (بفتح الراء وبعد الألف هاء ساكنة ثم واو مفتوحة وبعدها ياء وهاء ساكنتان) لقب أبيه أبي الحسن إبراهيم، لقّب به لأنه ولد في طريق مكة، والطريق بالفارسية «راه» و «ويه» بمعنى «وجد» فكأنه وجد في الطريق «1» . وشيخ ابن قتيبة الثاني هو أبو حاتم السّجستاني الذي ذكره أبو الطيب اللغوي الحلبي والخطيب البغدادي وابن الأنباري فقالوا: أخذ ابن قتيبة عن أبي حاتم السجستاني وغيره «2» . ولكن ابن خلّكان والسيوطي أفردا له ترجمة كاملة فقالا: أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشميّ السّجستاني نحويّ لغوي مقرىء، نزيل البصرة وعالمها، إذ لم يكن جوّ بغداد يحلو له ليقيم به طويلا. كان إماما في علوم القرآن والآداب، عالما باللغة والشعر وعلم العروض، وعنه أخذ المبرد فكان يحضر حلقته ويلازم القراءة عليه وهو غلام. له شعر جيد، ولكنه لم يكن حاذقا بالنحو فكان إذا اجتمع بالمازني في دار عيسى بن جعفر الهاشمي تشاغل وبادر بالخروج خوف أن يسأله بمسألة في النحو. ونشير هنا إلى أنه قرأ كتاب سيبويه على الأخفش مرّتين، وروى عن أبي عبيدة والأصمعي وغيرهما. وكان يختم القرآن في كل أسبوع. من مصنفاته: «إعراب القرآن» و «ما يلحن فيه العامة» و «الطير» و «المذكر والمؤنث» و «النبات» و «المقصور والممدود» و «القراءات» و «الإدغام» و «الحشرات» و «الوحوش» و «السيوف والرماح» . وكانت وفاته في سنة 248 هـ، وقيل سنة 250 هـ، وقيل سنة 254 هـ، وقيل سنة 255 هـ، بالبصرة. والجشمي (بضم الجيم وفتح الشين وبعدها ميم مكسورة وياء مشدّدة) نسبة إلى عدّة قبائل، لكل منها جشم. والسّجستاني (بكسر السين والجيم وسكون

السين الثانية وفتح التاء) نسبة إلى سجستان الإقليم المشهور. وقيل: نسبة إلى سجستان أو سجستانة إحدى قرى البصرة «1» . والثالث الذي حدّث عنه ابن قتيبة ببغداد هو أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد بن أبيه الزيادي. وقد ترجم له السيوطي- نقلا عن ياقوت- فقال: كان الزيادي نحويا لغويا راوية، قرأ على سيبويه كتابه ولم يتمّه، وروى عن أبي عبيدة والأصمعي، وكان شاعرا ذا دعابة. توفي سنة 249 هـ. ومن مصنفاته «الأمثال» و «تنميق الأخبار» «2» . وترجم له ابن خلّكان وذكر أحد تلاميذه ببغداد وهو أبو بكر يموت بن المزرّع العبدي البصري، وقال: قدم ابن المزرّع بغداد في سنة 301 هـ وهو شيخ كبير، فحدّث بها عن الزيادي، وأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي «3» . وقد ذكر القفطي هؤلاء الأساتيذ الثلاثة دون أن يترجم لهم فقال: «روى (ابن قتيبة) عن العلماء أمثال إسحاق بن راهويه، ومحمد بن زياد الزيادي، وأبي حاتم السجستاني» «4» . كما ذكرهم الخطيب البغدادي والسمعاني وقالا: محمد ابن زياد الزيادي بدلا من إبراهيم بن سفيان الزيادي. وأضافا إليهم أبا الخطاب زياد بن يحيى الحساني «5» . والرجل الرابع الذي حدّث عنه ابن قتيبة هو أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي اللغوي النحوي الذي ذكره أبو الطيب اللغوي وقال: أخذ ابن قتيبة عن الرياشي وغيره «6» . وقد ترجم له السيوطي فقال: قرأ الرياشي النحو على

المازني، وقرأ عليه المازني اللغة. وأضاف: قال السيرافي: كان الرياشي عالما باللغة والشعر كثير الرواية عن الأصمعي، وأخذ عن المبرّد، وله مصنفات كثيرة منها كتاب الخيل وكتاب الإبل. قتله الزنج بالبصرة بالأسياف وهو يصلي وذلك سنة 257 «1» هـ. كذلك حدّث ابن قتيبة عن رجال آخرين نذكر منهم عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي «2» ، وحرملة بن يحيى التجيبي المتوفّى سنة 243 هـ، وأبا الخطاب زياد بن يحيى الحساني البصري المتوفى سنة 254 هـ. ولم يذكر ابن العماد من مشايخه سوى ابن راهويه فقال: «سكن (ابن قتيبة) بغداد وحدّث بها عن ابن راهويه وطبقته» «3» . ولما اشتغل ابن قتيبة بالتدريس في بغداد تخّرج عليه تلاميذ كثر نذكر منهم ابنه أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة. ولد أبو جعفر هذا ببغداد وكان فقيها قاضيا روى عن أبيه كتبه المصنّفة كلها. تولّى القضاء بمصر، وكان قدمها في 18 من جمادى الآخرة سنة 321 هـ، وتوفي بها في شهر ربيع الأول سنة 322 هـ وهو على القضاء «4» . وترجم له ياقوت في معجم الأدباء فقال: كان أحمد كاتبا، حدّث بكتب أبيه كلها بمصر حفظا ولم يكن معه كتاب، وحدّث عنه أبو الفتح المراغي النحوي، وعبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي وغيرهما. وقال السيوطي: حدّث عن عبد الله بن قتيبة ابنه القاضي أحمد «5» . وقال السمعاني: إنّ ابنه أبا أحمد عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله ابن مسلم بن قتيبة، المولود ببغداد سنة 270 هـ، روى بمصر عن أبيه عن جدّه كتبه المصنّفة. وأضاف: كان حفيد ابن قتيبة ثقة «6» .

كذلك روى عن ابن قتيبة أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي الفسوي. وقد ترجم له ابن خلّكان فقال: إبن درستويه نحويّ وعالم فاضل أخذ فن الأدب عن ابن قتيبة والمبرّد وغيرهما ببغداد، وأخذ عنه جماعة من الأفاضل كالدارقطني وغيره، وأضاف قائلا: ولد ابن درستويه سنة 258 هـ وتوفي سنة 347 هـ ببغداد، وكان أبوه من كبار المحدثين وأعيانهم. ودرستويه (بضم الدال والراء وسكون السين وضم التاء وفتح الواو وسكون الياء) هكذا قاله السمعاني، وقال ابن ماكولا في كتاب «الإكمال» : هو بفتح الدال والراء والواو. وتصانيفه في غاية الجودة والإتقان، منها» تفسير كتاب الجرمي» و «الإرشاد» في النحو، و «الهجاء» و «شرح الفصيح» و «المقصور والممدود» و «غريب الحديث» و «معاني الشعر» و «الحي والميت» و «الأعداد» و «أخبار النحويين» «1» . كذلك ترجم له السيوطي فقال: كان ابن درستويه أحد من اشتهر وعلا قدره وكثر علمه، صحب المبرّد ولقي ابن قتيبه، وكان جيد التصنيف، وأخذ عن الدارقطني وغيره «2» . وهنا يناقض قول آبن خلّكان السابق الذكر: «وأخذ عنه جماعة من الأفاضل كالدارقطني وغيره» «3» . وأضاف السيوطي قائلا: كان ابن درستويه شديد الإنتصار للبصريين في النحو واللغة «4» . كذلك ذكره الخطيب البغدادي وابن الأنباري فقالا: «وأخذ عنه (عن ابن قتيبة) أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه وغيره» «5» . وقال القفطي: روى عن ابن قتيبة العلماء كولده أحمد، وأبي محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي «6» .

وممن رووا عن ابن قتيبة نذكر أيضا أبا سعيد الهيثم بن كليب بن شريج ابن معقل الشاشي البنكثي، وقد ترجم له ياقوت فقال: أصله من ترمذ (وقيل بكسر التاء والميم جميعا، وقيل بضمهما) سكن بنكث (بكسر الباء وسكون النون وفتح الكاف) فنسب إليها. وبنكث قصبة إقليم الشاش. وكان إماما أديبا حافظا رحّالا قرأ الأدب على أبي محمد عبد الله بن مسلم ببغداد، وروى عن عيسى بن أحمد العسقلاني، وأبي عيسى الترمذي وغيرهما من أهل خراسان والعراق. روى عنه أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد الخزاعي. مات أبو سعيد بالشاش سنة 335 هـ. وأضاف ياقوت قائلا: وله مسند في مجلدين ضخمين سمعناه بمرو على أبي المظفر عبد الرحيم بن أبي سعد الحافظ «1» . والشاش- كما يذكر ابن خلّكان- مدينة وراء نهر سيحون «2» . ومن تلاميذ صاحب «عيون الأخبار» نذكر كذلك أبا محمد قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح بن عطاء البيّاني، مولى الوليد بن عبد الملك بن مروان. وقد ترجم له الحميدي فقال: إنه إمام من أئمة الحديث وحافظ مكثر مصنّف، كان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره. أصله من بيّانة، وسكن قرطبة عاصمة بني أمية بالأندلس، وبها مات سنة 340 هـ عن سنّ عالية. سمع محمد بن وضّاح، ومحمد بن عبد السلام الخشني وجماعة، ثم رحل إلى بغداد فسمع أبا إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، وأبا محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة. من مصنفاته «أحكام القرآن» و «فضائل قريش» و «في الناسخ والمنسوخ» «3» . كذلك ترجم له السيوطي- نقلا عن ابن الفرضي- فقال: كان ابن أصبغ بصيرا بالحديث والرجال، نبيلا في النحو والشعر، سمع ببغداد من ثعلب والمبرّد وابن قتيبة «4» .

كذلك روى عن ابن قتيبة عبيد الله بن عبد الرحمن السكّري، وإبراهيم بن محمد بن أيوب الصائغ، وعبيد الله بن أحمد بن بكير التميمي «1» . ولم يذكر ابن العماد سوى اثنين من تلاميذ ابن قتيبة هما أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة وابن درستويه «2» . ولقد اتّسعت معارف ابن قتيبة بحيث بدا لنا حاملا صولجان المعرفة والعلم، مرتديا ثوب الجدل والحوار، مصنّفا من الفئة الأولى بين كبار العلماء والأدباء والكتّاب. تصانيفه متعدّدة النواحي تتناول معارف عصره وتعدّ من أمهات المكتبة العربية والإسلامية. وكان هدفه من أكثر مصنّفاته- كما يقول بروكلمان- أن يقدّم إلى طبقة الكتّاب وأصحاب الدواوين ما يسدّ حاجتها من الأدب والتاريخ، ولكنه تناول في اثنين من كتبه مسائل الخلاف التي كانت سائدة في عصره، فراح يدافع بقوة عن القرآن والحديث تجاه مطاعن الفلاسفة وأهل الشكّ من علماء الكلام «3» . ولقد أقرأ جميع مؤلفاته ببغداد إلى حين وفاته، وإليكها: 1- معاني الشعر الكبير: يدور هذا الكتاب، كما هو واضح من عنوانه، حول موضوعات الشعر، وهو مطبوع في حيدر آباد، دائرة المعارف العثمانية، سنة 1949 (3 أجزاء في مجلدين) تحت اسم «كتاب المعاني الكبير في أبيات المعاني» . ولقد ذكره النديم وقال: يحتوي على اثنتي عشر كتابا، منها كتاب الفرس ويضم 46 بابا، وقد عدّه القفطي «4» كتابا مستقلا بذاته. كتاب الإبل ويضم 16 بابا. كتاب الحرب، عشرة أبواب. كتاب القدور، عشرون بابا. كتاب الديار، عشرة أبواب. كتاب الرياح، أحد وثلاثون

بابا. كتاب السّباع والوحوش، سبعة عشر بابا. كتاب الهوام، أربعة وعشرون بابا. كتاب الأيمان والدواهي، سبعة أبواب. كتاب النساء والغزل، باب واحد. كتاب الشّيب والكبر، ثمانية أبواب. كتاب تصحيف العلماء، باب واحد «1» . هذا وذكر القفطي وبروكلمان هذا الكتاب باسم «معاني الشعر» وذكره الزركلي باسم «المعاني» وقال: إنه مطبوع ويقع في ثلاثة مجلدات «2» . ولقد ذكر حاجي خليفة كتبا لثعلب والأخفش وابن عبدوس الكوفي وابن درستويه تحمل اسم «معاني الشعر» دون أن يذكر اسم ابن قتيبة أو كتابه «3» . 2- عيون الشعر: ذكره ابن النديم وقال: يحتوي على عشرة كتب هي؛ كتاب المراتب، كتاب القلائد، كتاب المحاسن، كتاب المشاهد، كتاب الشواهد، كتاب الجواهر، كتاب المراكب، كتاب المناقب، كتاب المعاني، وكتاب المدائح «4» . 3- الشعر والشعراء: ألّفه ابن قتيبة- كما يذكر في مقدمته- في الشعراء، وأخبر فيه عن الشعراء وأزمانهم وأحوالهم وقبائلهم وأسماء آبائهم، وعن أقسام الشعر وطبقاته، وكان أكثر قصده للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جلّ أهل الأدب. وله طبعات عديدة، منها طبعة دار الثقافة ببيروت، سنة 1969، ويقع في جزئين. وورد في الفهرست ودائرة المعارف الإسلامية بهذا الإسم «5» . وذكره أبو الطيب اللغوي باسم «الشعراء» «6» كما ذكره ابن

خلّكان والقفطي والسيوطي وابن العماد الحنبلي باسم «طبقات الشعراء» «1» . ثم عاد ابن خلكان وذكره باسم «أخبار الشعراء» «2» . 4- المراتب والمناقب عن عيون الشعر: ذكره النديم والسيوطي دون تعليق «3» . وقد يكون جزء من كتاب «عيون الشعر» الذي يحتوي على عشرة كتب، من بينها كتابا «المراتب» و «المناقب» . 5- أدب الكاتب: ذكره ابن خلّكان وقال: كان العلماء يقولون: كتاب أدب الكاتب خطبة بلا كتاب لأنه طوّل الخطبة وأودعها فوائد. وأضاف قائلا: يحوي أدب الكاتب من كل شيء وهو مفنّن، وإن كانت الخطبة فيه طويلة لا يعني- كما يقول أكثر أهل العلم- أنه خطبة بلا كتاب «4» . ثم علّق عليه في مكان آخر فقال: صنّفه ابن قتيبه للوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير المعتمد بن المتوكل الخليفة العباسي «5» . ولقد صرح ابن قتيبه بذلك في مقدمة كتابه فقال: «فالحمد لله الذي أعاذ الوزير أبا الحسن- أيّده الله- من هذه الرذيلة، وأبانه بالفضيلة ... » «6» وذكره ابن خلدون فقال: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن (الأدب) وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها» «7» . وذكر ابن خلكان أن أبا محمد عبد الله بن

محمد المعروف بابن السّيد البطليوسي الأندلسي المتوفى سنة 521 هـ شرح هذا الكتاب شرحا مستوفى، ونبّه على مواضع الغلط منه، وفيه دلالة على كثرة اطّلاع الرجل، وسمّاه «الإقتضاب في شرح أدب الكتاب» «1» . وكتاب «الإقتضاب» هذا حققه مصطفى السّقّا وحامد عبد المجيد، القاهرة، سنة 1980. وذكره حاجي خليفة وقال: قيل إن كتاب «أدب الكاتب» خطبة بلا كتاب لطول خطبته مع أنه قد حوى من كل شيء. وله شروح أفضلها شرح أبي محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن السّيد البطليوسي، وهو شرح مفيد جدا ذكر منه أن غرضه تفسير الخطبة والتنبيه على غلطه، وشرح أبياته، وقد قسّم على ثلاثة أجزاء؛ الأول في شرح الخطبة، والثاني في التنبيه على الغلط، والثالث في شرح أبياته، وسماه «الإقتضاب في شرح أدب الكتّاب» . ومنها شرح أبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي المتوفّى سنة 539 هـ، وسليمان بن محمد الزهراوي، وأبي علي حسن بن محمد البطليوسي المتوفّي سنة 576 هـ، وأحمد بن داود الجذامي المتوفّى سنة 598 هـ، وإسحاق بن إبراهيم الفارابي المتوفّي سنة 350 هـ. وشرح بعضهم خطبته خاصة كأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي المتوفّى سنة 339 هـ، ومبارك بن مفاخر النحوي المتوفي سنة 500 هـ، وبعضهم شرح أبياته كأحمد بن محمد الخارزنجي المتوفّى سنة 348 هـ «2» . وذكره بروكلمان وقال: صنّفه ابن قتيبه قبل كتاب «عيون الإخبار» ، وقام بشرحه أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي المتوفّى سنة 337 هـ، والجواليقي، وابن السّيد البطليوسي «3» . كما ذكره القفطي، وابن الأثير، والنديم، وابن الأنباري، والسمعاني، وابن العماد الحنبلي دون تعليق «4» . وورد آسمه في دائرة المعارف الإسلامية مع إشارة إلى

أنه محقق سنة 1900 «1» . وذكره الخطيب البغدادي باسم «أدب الكتّاب» «2» وهذا الكتاب مطبوع في ليدن بريل سنة 1900، وهناك تحقيق آخر لمحمد محي الدين عبد الحميد، القاهرة، سنة 1963، وطبعة أخرى حققها محمد الدالي، بيروت، مؤسسة الرسالة 1982. 6- ديوان الكتّاب: ذكره النديم والسيوطي وحاجي خليفة دون تعليق «3» . 7- إعراب القرآن: ذكره النديم والقفطي والسيوطي وابن العماد دون تعليق «4» . وورد في دائرة المعارف الإسلامية هذه العبارة: هذا الكتاب بالنسبة إلينا من الكتب الميّتة «5» . وذكره ابن خلكان باسم «إعراب القراءات» «6» . وقد يكون ذلك تحريفا من الناسخ، وكيفما اختلفت التسمية فإنهما كتاب واحد، وإنّ كتاب «القراءات» الذي سيرد اسمه بعد قليل هو غير «إعراب القراءات» . وفي فصل «علم إعراب القرآن» ذكر حاجي خليفة عددا كبيرا من العلماء الذين صنّفوا في إعراب القرآن، دون أن يذكر اسم ابن قتيبة. من هؤلاء أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني المتوفّى سنة 248 هـ، وأبو العباس محمد ابن يزيد المعروف بالمبرّد النحوي المتوفى سنة 286 هـ، وأبو زكريا يحيى ابن علي الخطيب التبريزي المتوفّى سنة 502 هـ، وأبو عبد الله حسين بن أحمد المعروف بابن خالويه وغيرهم. وأضاف قائلا: علم إعراب القرآن من فروع علم التفسير، ولكنه في الحقيقة هو من علم النحو «7» .

8- معانى القرآن: ذكره السيوطي دون أي تعليق يذكر «1» . 9- مشكل القرآن: يبحث في قوة بيان العرب، وإعجاز القرآن ووجوهه واللحن والمتشابه منه، وقد ذكره الخطيب البغدادي، والقفطي، وابن الأنباري، والسمعاني، وابن خلّكان، وابن العماد نقلا عن ابن خلّكان، والسيوطي، وبروكلمان «2» . وذكره النديم باسم «المشكل» «3» وقد يعني بذلك «مشكل القرآن» أو «مشكل الحديث» . وورد في دائرة المعارف الإسلامية باسم «تأويل مشكل القرآن» «4» . وبهذا الإسم الأخير شرحه ونشره السيد أحمد صقر، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية 1954. وطبع مرة ثانية في القاهرة، دار التراث، سنة 1973. وقد جمع بينه وبين «غريب القرآن» العلامة ابن مطرّف الكناني في كتاب أسماه «كتاب القرطين» ، وطبع هذا الكتاب بالقاهرة. 10- غريب القرآن: هو تتمة لكتاب «مشكل القرآن» وقد ذكره الخطيب البغدادي، والقفطي، وابن الأنباري، وابن خلّكان، والسيوطي، وابن العماد، والبغدادي دون تعليق «5» . وورد في الأعلام ودائرة المعارف الإسلامية باسم «تفسير غريب القرآن» «6» ، وهو مطبوع بهذا الاسم الأخير بتحقيق السيد أحمد صقر، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية 1958. 11- الردّ على القائل بخلق القرآن: ذكره السيوطي دون تعليق «7» .

12- القراءات: ذكره النديم دون تعليق «1» . وورد في دائرة المعارف الإسلامية هذه العبارة: هذا الكتاب، بالنسبة إلينا، من الكتب الميّتة «2» . 13- آداب القراءة: ذكره حاجي خليفة «3» . 14- غريب الحديث: يعالج هذا الكتاب مسائل الحديث منذ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى معاوية، وقد ذكره النديم وقال: أحسن فيه المؤلف «4» . وذكره الخطيب البغدادي، والقفطي، وابن الأنباري، والسمعاني، وابن خلكان، والسيوطي، وابن العماد نقلا عن ابن خلكان، دون تعليق يذكر «5» . وذكره حاجي خليفة في فصل عنوانه «علم غريب الحديث والقرآن» فقال: جمع أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفّى سنة 224 هـ كتابا في غريب الحديث أفنى فيه عمره حتى لقد قيل فيما يروى عنه أنه جمعه في أربعين سنة، وبقي كتابه في أيدي الناس يرجعون إليه في غريب الحديث إلى عصر ابن قتيبة، فصنف هذا كتاب «غريب الحديث» المشهور، «حذا فيه حذو أبي عبيد فجاء كتابه مثل كتابه أو أكبر منه، وقال في مقدمته: أرجو أن لا يكون بقي بعد هذين الكتابين من غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال ولا غريب القرآن أيضا» «6» . وذكره الزركلي وقال: طبع منه جزآن فقط في الهند، ومنه أجزاء مخطوطة في الخزانة الظاهرية بدمشق «7» .

15- مختلف الحديث: يذكر فيه المؤلف المشبّهة وينسبهم إلى الافتراء على الله تعالى في أحاديث التشبيه، كما يتّهم فيه الجاحظ بأنه يذكر حجج النصارى على المسلمين بأقوى مما يذكر الردّ عليهم. ولقد ذكر هذا الكتاب كلّ من النديم، والسمعاني، والسيوطي، ولكن دون تعليق «1» . وذكره ابن خلّكان وحاجي خليفة باسم «إختلاف الحديث» «2» . وذكره الزركلي وبروكلمان باسم «تأويل مختلف الحديث» وقال هذا الأخير: يحاول فيه ابن قتيبة إبطال جميع اعتراضات الفلاسفة على الحديث من وجهة نظر أهل السنة «3» . كذلك ورد في دائرة المعارف الإسلامية بهذا الإسم الأخير وجاء فيها أنه من أشهر كتب ابن قتيبة في الفقه «4» . كما طبع هذا الكتاب بهذا الإسم في مطبعة كردستان العلمية سنة 1326 هـ بتحقيق فرج الله زكي الكردي، ومحمود شكري الألوسي، ومحمود شبندار زاد. وهناك طبعة القاهرة بتصحيح محمد زهري النجار، سنة 1966. 16- إختلاف تأويل الحديث: ذكره النديم والسيوطي دون تعليق «5» . ويرجّح أن يكون هذا الكتاب نفس كتاب «مختلف الحديث» السابق الذكر. 17- مشكل الحديث: ذكره الخطيب البغدادي، والقفطي، وابن الأنباري، والسمعاني، وابن خلكان، وابن العماد «6» . وذكره النديم باسم «المشكل» «7» وقد يعني به «مشكل الحديث» أو «مشكل القرآن» .

18- المشتبه من الحديث والقرآن: ذكره الزركلي وقال: إنه ما يزال مخطوطا «1» . وذكره بروكلمان باسم «المتشابه من الحديث والقرآن» «2» . 19- إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث: يكشف هذا الكتاب، كما يتضح من عنوانه، أخطاء أبي عبيد القاسم بن سلام، التي وردت في كتابه «غريب الحديث» . ولقد ذكره النديم «3» . وسماه حاجي خليفة «إصلاح غلط أبي عبيدة» وقال: شرحه أبو المظفر محمد بن آدم الهروي المتوفّى سنة 414 «4» هـ. وذكره القفطي، وابن خلكان، وابن العماد نقلا عن ابن خلّكان، باسم «إصلاح الغلط» «5» . وذكره السيوطي باسم «إصلاح غلط أبي عبيد» «6» . وورد في دائرة المعارف الإسلامية باسم «إصلاح الغلط في غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام» (آيا صوفيا، 457، ظاهرية، 7899) «7» . 20- المسائل والجوابات: ذكره النديم، وابن خلكان، والقفطي دون تعليق «8» . وذكره بروكلمان بهذا الإسم أيضا وقال: أكثره مستمدّ من الحديث «9» . وذكره السيوطي والزركلي ودائرة المعارف الإسلامية باسم «المسائل والأجوبة» «10» . ولقد طبع هذا الكتاب باسم «المسائل والأجوبة في

الحديث واللغة» ، القاهرة، مكتبة القدسي، سنة 1349 هـ، ويقع في ثمان وعشرين صفحة تدور كلها حول أجوبة ابن قتيبة عن أسئلة كانت وجّهت إليه، وتختص الأسئلة والأجوبة بالحديث أكثر مما تختص باللغة. 21- جامع الفقه: ذكره النديم دون تعليق «1» . وذكره القفطي باسم كتاب «الفقه» «2» . كذلك ورد بهذا الإسم في دائرة المعارف الإسلامية مع العبارة التالية: هذا الكتاب، بالنسبة إلينا، من الكتب الميتة «3» . 22- التفقيه: ذكره النديم وقال: «هذا الكتاب رأيت منه ثلاثة أجزاء بنحو ستمائة ورقة بخط نزك «4» وكانت تنقص على التقريب جزئين، وسألت عن هذا الكتاب جماعة من أهل الجبل فزعموا أنه موجود وهو أكبر من كتاب البندنيجي وأحسن» «5» . كذلك بهذا الإسم كل من القفطي وحاجي خليفة «6» . وذكره ابن خلكان باسم «التّقفية» «7» ، وأعتقد أنه خطأ من المحقق وليس من الناسخ. 23- دلائل النّبوّة: ذكره النديم، والسيوطي، وحاجي خليفة دون تعليق «8» . كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية بنفس الإسم مع التعليق التالي: هذا كتاب لا أهمية له تذكر، فهو بالنسبة إلينا، من الكتب الميّتة «9» .

وذكره ابن الأنباري باسم «دلائل النبوّة من الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام» «1» . 24- معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: ذكره أبو الطيب اللغوي الحلبي «2» . 25- إدريس النبي: لم يرد اسم هذا الكتاب في أي من المصادر التي تترجم لابن قتيبة، وهو مخطوط في مكتبة الجامعة الأميركية تحت رقم. L Sa A LL 21 I 170. L MS LL. 26- خلق الإنسان: يبحث في أسماء أعضاء الإنسان وصفاته، وقد ذكره النديم، والسيوطي، وحاجي خليفة دون تعليق «3» . 27- الردّ على المشبّهة: في هذا الكتاب يدفع ابن قتيبة عن نفسه تهمة الزندقة التي رمي بها، وهو لم يرم بها إلّا لأنه تخطّى معاصريه إلى مرتبة الأفذاذ النابهين ووصل إلى درجة من العلم لم يستطيعوا التوصل إليها. ولقد ذكره بهذا الإسم كل من النديم، والقفطي، والسيوطي «4» . وتجدر الإشارة هنا أن حاجي خليفة ذكر كتاب «الرد على المشبهة» للقاضي بدر الدين ابن جماعة محمد بن إبراهيم الشافعي المتوفّى سنة 733 هـ دون أن يذكر اسم ابن قتيبة «5» . وورد في تاريخ الأدب العربي ودائرة المعارف الإسلامية «6» باسم «الإختلاف في اللفظ والرد على الجهمية «7» والمشبّهة» . طبع هذا الكتاب

بالإسم الأخير بتصحيح الشيخ محمد زاهر الكوثري، القاهرة، مكتبة القدس، سنة 1349 هـ. ويقع في ست وثمانين صفحة. 28- جامع النحو: ذكره النديم والسيوطي «1» . وقال حاجي خليفة: وهو كبير وصغير «2» . وذكره أبو الطيب اللغوي والقفطي باسم «النحو» «3» كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية بهذا الإسم الأخير وعدّ فيها من الكتب الميتة «4» . 29- جامع النحو الصغير: ذكره النديم والسيوطي «5» . وذكره القفطي باسم «النحو الصغير» «6» . 30- التسوية بين العرب والعجم: ذكره النديم والقفطي وبروكلمان «7» . 31- فضل العرب على العجم: ذكره الزركلي وقال: إنه ما يزال مخطوطا ويقع في أربعين ورقة «8» . والمعلوم أن الأستاذ جمال الدين القاسمي نشر بعضا من هذا الكتاب في مجلة المقتبس، المجلد الرابع ص 657- 668 ومن ص 721 حتى 735. كذلك نشر الأستاذ محمد كرد علي قطعة منه في رسائل البلغاء، طبعة 1331 هـ/ 1913 م من ص 269 حتى 295. وورد

هذا الكتاب في دائرة المعارف الإسلامية باسم كتاب «العرب» وجاء فيها: حققه كرد علي في رسائل البلغاء سنة 1946 «1» . ونحن نعتقد أن ابن عبد ربه نقل عنه في العقد الفريد، الجزء الثالث في فصل عنوانه: «كتاب اليتيمة في النسب وفضائل العرب» . 32- الردّ على الشعوبية: ذكره الزركلي وقال: إنه مطبوع. وذكره بروكلمان وقال: إنه مطبوع في رسائل البلغاء لمحمد كرد علي، القاهرة سنة 3131 هـ/ 1913 «2» م. 33- العرب وعلومها: ذكره الزركلي وقال: إنه مخطوط. وذكره بروكلمان وقال: يوجد قسم منه في القاهرة «3» . 34- الألفاظ المغربة بالألقاب المعربة: ذكره الزركلي وقال: إنه مخطوط في القرويين. وجاء في دائرة المعارف الإسلامية ما نصه: هذا الكتاب من الكتب المشكوك بنسبتها إلى ابن قتيبة «4» . 35- البلغة في شذور اللغة: هذا الكتاب عبارة عن عشر مقالات لغوية لأئمة كتبة العرب، وقد ظهر معظمها في مجلة المشرق، وألحقت بالفهارس على طريقة حروف المعجم. نشرها أوغست هفنر والأب لويس شيخو، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، سنة 1908، وتقع في 176 صفحة. 36- تقويم اللسان: ذكره حاجي خليفة دون تعليق «5» . 37- الإشتقاق: ذكره الزركلي وقال: إنه مخطوط «6» .

38- تعبير الرؤيا: ذكره أبو الطيب اللغوي، وذكره النديم ضمن الكتب المؤلفة في موضوع تعبير الرؤيا ككتب الكرماني وابن سيرين وغيرهما. كما ذكر في دائرة المعارف الإسلامية وجاء فيها: هذا الكتاب، بالنسبة الينا، من الكتب الميّتة «1» . وتحت عنوان «علم تعبير الرؤيا» قال حاجي خليفة: هو علم يتعرّف منه المناسبة بين التخيّلات النفسانية والأمور الغيبية لينتقل من الأولى إلى الثانية. وذكر كتبا مصنّفة في التعبير دون أن يذكر اسم كتاب ابن قتيبة «2» . 39- المعرفة: لم يرد اسم هذا الكتاب في أي من المصادر التي تترجم لابن قتيبة. وهو مخطوط في مكتبة الجامعة الأميركية، مكتوب بخط فارسي واضح، سنة 1020 تحت رقم 135 7. 492. 40- المعارف: هو كتاب في التاريخ يتناول فيه المؤلف مسألة مبدأ الخلق، وقصة الطوفان، وتاريخ الأنبياء والرسل، وسيرة الرسول الكريم ومغازيه، والعرب الجاهليين، وأنساب العرب، وأخبار الصحابة والتابعين والخلفاء والولاة إلى عصر ابن قتيبة، ورواة الشعر، والفقهاء والمحدثين والقراء وأصحاب الأخبار، والنحو. وفي الختام يذكر نوادر الحوادث ويتحدث عن أسر الملوك في جنوبي الجزيرة وشمالها، وملوك الفرس قبل الإسلام. والمؤلف في هذا الكتاب ينقل عن الكتب السماوية والعهد القديم مما يشير إلى أنه كان على دراية بالكتاب المقدّس. ولقد ذكره ابن خلّكان وقال: إن هذا الكتاب يترجم للرواة وأشهر الخطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة «3» . ولا بدّ أن نشير هنا إلى أن ابن خلكان ينقل من هذا الكتاب معلومات لا يستهان بها أوردها في صفحات

عديدة من كتابه «وفيات الأعيان» ، كما ينقل من كتب ابن قتيبة الأخرى ولا سيما «الشعر والشعراء» منها. ولقد ذكره أبو الطيب اللغوي، والنديم، والخطيب البغدادي، والقفطي، وابن الأنباري، وابن الأثير، والسمعاني، وابن العماد، والزركلي، ودائرة المعارف الإسلامية «1» . وذكره بروكلمان وقال: يستقى من مقدمة «عيون الأخبار» أن كتابي «المعارف» و «الأشربة» هما بمثابة تكملة لكتاب «عيون الأخبار» «2» . وهذا الكتاب مطبوع في غوتنجن، سنة 1850، وطبع في مصر بتحقيق ثروت عكاشة، القاهرة، سنة 1960. ويوجد طبعة دار المعارف، سنة 1969 (ويقع في 817 صفحة) وطبعة القاهرة سنة 1300 هـ (ويقع في 227 صفحة) . 41- الأشربة: يتضمن هذا الكتاب الحديث عن المشروبات الخمرية بأسلوب أدبي جميل. ولقد ذكره النديم، والقفطي، وابن خلكان، وحاجي خليفة، وابن العماد نقلا عن ابن خلكان، والزركلي، ودائرة المعارف الإسلامية «3» . وهو كتاب مطبوع في مطبعة الترقي بدمشق سنة 1366 هـ/ 1947 بتحقيق الأستاذ محمد كرد علي، ويقع في 147 صفحة. ولقد نقل ابن عبد ربه عنه ما يتعلق بباب الطعام والشراب وضمّنه كتابه «العقد الفريد» في فصل «في فرش الفريدة الثانية» الجزء السادس ص 290- 378. 42- العلم: ذكره النديم وقال: يقع في خمسين ورقة. وذكره القفطي دون تعليق «4» .

43- القلم: ذكره السيوطي دون تعليق «1» . وقد يكون هو نفس كتاب «العلم» بحيث حصل تحريف من المحقق أو الناسخ. 44- الأنوار: يبحث هذا الكتاب في مواسم العرب ويتحدث عن علم النجوم، ومنازل القمر، والفصول، والبروج، والرياح، والبرق، والسحاب. ولقد ذكره النديم، والقفطي، وابن خلكان، والسيوطي، وحاجي خليفة، وبروكلمان، ودائرة المعارف الإسلامية «2» . وذكره السمعاني باسم «الأنوار» «3» ولعله تحريف من المحقق أو الناسخ. وهو كتاب مطبوع في حيدر آباد، 1375 هـ/ 1956، ويقع في 235 صفحة. 45- فرائد الدّرّ: ذكره النديم دون تعليق «4» . 46- حكم الأمثال: ذكره النديم «5» . 47- الحكاية والمحكي: ذكره النديم «6» أيضا. 48- الخيل: ذكره النديم، والقفطي، وابن خلكان، والسيوطي «7» . وذكره حاجي خليفة باسم «الحيل» «8» بالحاء، ولعله تحريف من الناسخ أو المحقق. 49- الرحل والمنزل: ذكره الزركلي وقال: إنه مطبوع، وهو عبارة عن

رسالة. وذكره بروكلمان وقال: نشره لويس شيخو في مجموعة L Dix ancicns LL L traites LL رقم 5 «1» . 50- النبات: ذكره الزركلي دون تعليق «2» . 51- الجراثيم: ذكره بروكلمان وقال: يستوعب أصول العالم والبهائم وأسماء أنواع الأرض والشجر والنبات وغير ذلك «3» . 52- الميسر والقداح: ذكره النديم، وابن خلكان، والقفطي، وحاجي خليفة، وابن العماد، والزركلي، ودائرة المعارف الإسلامية «4» . وهو كتاب مطبوع في 173 صفحة، نسخه وصحّحه محبّ الدين الخطيب، القاهرة المطبعة السلفية، سنة 1343 هـ. 53- آداب العشرة: ذكره النديم دون تعليق «5» . 54- الجوابات الحاضرة: ذكره السيوطي وحاجي خليفة «6» . 55- الكلام: ورد في دائرة المعارف الإسلامية ما نصه: كتاب «الكلام» من كتب ابن قتيبة التي نعتبرها ميتّة «7» . 56- تاريخ الخلفاء أو الإمامة والسياسة: يبحث في تاريخ الخلفاء المسلمين منذ الخلفاء الراشدين وحتى استخلاف المأمون من قبل الرشيد، ويتضمن الحديث عن فتح الأندلس وولاتها. ولقد شكّ العلماء في نسبة هذا الكتاب لابن قتيبة، مستندين في ذلك على أن أحدا من العلماء الذين ترجموا

له لم يذكره، فقال الزركلي: «وللعلماء نظر في نسبته إليه» «1» ، وقال بروكلمان: ينسب هذا الكتاب لابن قتيبة، إذ يذكر دي خويه أنه صنّف بمصر أو في بلاد المغرب في أثناء حياة ابن قتيبة، وأن بعض أقسامه مأخوذة عن كتاب في التاريخ ينسب إلى ابن حبيب المتوفّى سنة 239 «2» هـ. وورد في دائرة المعارف الإسلامية ما نصّه: هذا الكتاب من الكتب المشكوك بنسبتها إلى ابن قتيبة «3» . وقال دوزي في صدر كتابه «تاريخ الأندلس وآدابه» : أشكّ في صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن قتيبة لأسباب كثيرة. وقال محقّق كتاب «أدب الكاتب» في مقدمته: ينسب إلى ابن قتيبة كتاب «الإمامة والسياسة» ، «ولكن الأثبات من ذوي الدراية والبحث يشكّون كثيرا- وحقّ لهم- في أن يكون ابن قتيبة ناسج بردته» . طبع هذا الكتاب بمصر بتحقيق طه محمد الزيتي، مؤسسة الحلبي، القاهرة 1967. وأعادت طبعة مؤسسة الوفاء بلبنان سنة 1981، وهي طبعة رديئة. والكتاب جزآن في مجلد. ونشر ريبيرا مختارات منه في كتاب «تاريخ افتتاح الأندلس» لابن القوطية، صفحة 105- 106، مدريد، سنة 1926. 57- وصية لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة إلى ولده: تقع في خمس عشرة صفحة، نشرها إسحق موسى الحسيني ببيروت سنة 1954. 58- أرجوزة الظاء والضاد: ذكرها بروكلمان وقال: نشرها داود چلبي في مجلة لغة العرب، الجزء السابع ص 461- 463 «4» . ولقد اختلف الاقدمون في تحديد وفاة ابن قتيبة فقال النديم: توفي سنة 270 «5» هـ. وقال الخطيب البغدادي: قرأت على الحسن بن أبي بكر عن

أحمد بن كامل القاضي، قال: مات عبد الله بن مسلم بن قتيبة في ذي القعدة سنة سبعين ومائتين. وأضاف قائلا: أخبرنا محمد بن عبد الواحد، حدثنا محمد بن العباس قال: قرىء على ابن المنادى- وأنا أسمع- قال: مات ابن قتيبة فجأة؛ صاح صيحة سمعت من بعد ثم أغمي عليه ومات. قال ابن المنادى: أخبرني أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن أيوب بن بشير الصائغ أنّ ابن قتيبة أكل هريسة فأصاب حرارة ثم صاح صيحة شديدة وأغمي عليه إلى وقت صلاة الظهر فاضطرب ساعة ثم هدأ فما زال يتشهد إلى وقت السحر ومات وذلك أول ليلة من رجب سنة ست وسبعين ومائتين «1» . وقال السمعاني: مات ابن قتيبة فجاءة، صاح صيحة سمعت من بعد ثم أغمي عليه ثم هدأ فما زال يتشهد إلى وقت السحر ومات وذلك أول ليلة من رجب سنة 276 هـ، وقيل: مات في ذي القعدة سنة 270 «2» هـ. وهكذا ينقل السمعاني عن الخطيب البغدادي إلّا أنه لم يذكر عن الهريسة شيئا. وذكر السيوطي أن الهريسة كانت سببا في موت ابن قتيبة، معتمدا في ذلك على ما جاء به الخطيب البغدادي، ومخالفا إيّاه في تحديد الوفاة فقال: مات ابن قتيبة سنة 267 «3» هـ. وذهب ابن الأنباري والقفطي مذهب الخطيب فرويا كيفية موت ابن قتيبة ولم يرجّحا سنة وفاته فتراوحت عندهما بين 270 هـ و 276 «4» هـ. وكذلك ذهب ابن الأثير فقال؛ توفي ابن قتيبة سنة 276 هـ، وقيل: سنة 270 «5» هـ. أما ابن خلكان فقد تميّز بموقفه حين حدّد سنة الوفاة فقال: قيل: توفي ابن قتيبة في ذي القعدة سنة 270 هـ، وقيل: سنة 271 هـ، وقيل: أول ليلة في رجب وقيل منتصف رجب سنة 276 هـ، والقول الأخير أصح

الأقوال. ثم عاد وروى نفس ما رواه الخطيب حول كيفية موته «1» . كذلك ذكر ابن العماد رواية من تقدمه، وقال: توفي ابن قتيبة سنة 276 «2» هـ. أما حاجي خليفة فإنه تعثّر في تحديد الوفاة فذهب إلى أنها كانت في سنة 276 هـ، ثم قال: توفي ابن قتيبة سنة 270 هـ. وفي مكان آخر يقول: توفي سنة 267 هـ، ثم ذكر سنة 266 هـ، وأخيرا حدّد سنة 263 «3» هـ. ولقد أشاد والمؤرخون بذكر ابن قتيبة وأطنب النقاد والكتاب في الثناء عليه فعدّوه إمام مدرسة بغداد النحوية، التي خلطت بين مذهبي البصريين والكوفيين. ففي مقالته الثانية من كتابه «الفهرست» تحت عنوان «أسماء وأخبار جماعة من علماء النحويين واللغويين ممن خلطوا المذهبين» قال النديم: كان ابن قتيبة عالما نحويا لغويا، صادقا فيما يرويه، ورغم أنه كان يغلو في البصريين، فقد خلط المذهبين وحكى في كتبه عن الكوفيين. وأضاف قائلا: كان عالما في غريب القرآن ومعانيه وفي الشعر والفقه كثير التصنيف والتأليف «4» . وتجدر الإشارة هنا أن المدرستين المتنافستين في البصرة والكوفة أخذتا منذ القرن الثالث الهجري، تتقاربان وتندمجان إحداهما في الأخرى «5» . وقال الخطيب البغدادي: إبن قتيبة «هو صاحب التصانيف المشهورة» «6» . وذهب ابن الأنباري إلى أنه فاضل في اللغة والنحو والشعر متفنن في العلوم «7» ، وقال القفطي: ابن قتيبة نحوي لغوي عالم وصاحب التصانيف

الحسان في فنون العلم «1» . وقال ابن خلكان وابن العماد: ابن قتيبة لغوي نحوي، وتصانيفه كلها مفيدة «2» . وهو في نظر السيوطي لغوي نحوي كاتب وراس في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس «3» . وقال بروكلمان: تجاوزت شهرته دائرة النحو واللغة العربية «4» . وقال الزركلي: كان ابن قتيبة من أئمة الأدب ومن المصنّفين المكثرين «5» . أما أبو الطيب اللغوي فقد وقف موقفا مناقضا لمواقف هؤلاء فقال نقلا عن الأشنانداني خلّط ابن قتيبة عليه بحكايات عن الكوفيين لم يكن أخذها عن ثقات، وكان يتسرّع في أشياء لا يقوم بها نحو تعرّضه لتأليف كتابه في النحو، وكتابه في «تعبير الرؤيا» وكتابه في «معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله» و «عيون الأخبار» و «المعارف» و «الشعراء» ونحو ذلك مما أزرى به عند العلماء، وإن كان نفق بها عند العامة ومن لا بصيرة له «6» . وكان لا بدّ أن نشير إلى الدراسة القيمة التي قام بها عبد الحميد الجندي بعنوان: «ابن قتيبة: العالم الناقد الأديب» طبعة القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للطباعة والنشر، سنة 1963، وتقع في 436 صفحة. وأخير أقدم جزيل شكري ووافر تقديري للأستاذ محمد علي بيضون مدير دار الكتب العلمية للفتة الكريمة التي بدرت منه وكانت حافزا لي على تحمل

مشاقّ هذا العمل. كما أعترف بفضل زميلي الدكتور مفيد قمحية في إخراج هذا الكتاب على هذا النمط. والله نسأل الهداية إلى سبيل الرشاد بيروت في 12 آب 1985 الدكتور يوسف علي طويل أستاذ الأدب الأندلسي في الجامعة اللبنانية

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال الإمام أبو محمد بن مسلم بن قتيبة الدّينوريّ رضي الله عنه: الحمد لله الذي يعجز بلاؤه صفة الواصفين وتفوت آلاؤه عدد العادّين وتسع رحمته ذنوب المسرفين، والحمد الله الذي لا تحجب عنه دعوة ولا تخيب لديه طلبة ولا يضل عنده سعي، الذي رضي عن عظيم النعم بقليل الشكر وغفر بعقد الندم كبير الذنوب ومحا بتوبة الساعة خطايا السنين، والحمد لله الذي ابتعث فينا البشير النذير السراج المنير هاديا إلى رضاه وداعيا إلى محابّته ودالّا على سبيل جنته ففتح لنا باب رحمته وأغلق عنا باب سخطه. صلى الله وملائكته المقرّبون عليه وعلى آله وصحبه أبدا ما طما بحر وذرّ شارق وعلى جميع النبيين والمرسلين. أما بعد، فإنّ لله في كل نعمة أنعم بها حقا وعلى كل بلاء أبلاه زكاة: فزكاة المال الصدقة، وزكاة الشرف التواضع، وزكاة الجاه بذله، وزكاة العلم نشره، وخير العلوم أنفعها، وأنفعها أحمدها مغبّة، وأحمدها مغبّة ما تعلّم وعلّم لله وأريد به وجه الله تعالى. ونحن نسأل الله تعالى، جلّ وعلا، أن يجعلنا بما علمنا عاملين وبأحسنه آخذين ولوجهه الكريم بما نستفيد ونفيد مريدين ولحسن بلائه عندنا

عارفين وبشكره آناء الليل والنهار هارفين إنه أقرب المدعوّين وأجود المسؤولين. وإني كنت تكلفت لمغفل التأدب من الكتّاب كتابا من المعرفة وفي تقويم اللسان واليد حين تبيّنت شمول النقص ودروس العلم وشغل السلطان عن إقامة سوق الأدب حتى عفا ودرس، بلغت به فيه همّة النفس وثلج الفؤاد وقيّدت عليه به ما أطرفني الاله ليوم الإدالة، وشرطت عليه مع تعلّم ذلك تحفّظ عيون الحديث ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلا إذا كاتب، ويستعين بما فيها من معنى لطيف ولفظ خفيف حسن إذا حاور. ولما تقلّدت له القيام ببعض آلته دعتني الهمة إلى كفايته وخشيت إن وكلته فيما بقي إلى نفسه وعوّلت له على اختياره أن تستمرّ مريرته على التهاون ويستوطىء مركبه من العجز فيضرب صفحا عن الآخر كما ضرب صفحا عن الأوّل، أو يزاول ذلك بضعف من النية وكلال من الحدّ فيلحقه خور الطباع وسآمة الكلفة. فأكملت له ما ابتدأت وشيّدت ما أسّست وعملت له في ذلك من طبّ لمن حبّ بل عمل الوالد الشفيق للولد البرّ ورضيت منه بعاجل الشكر وعوّلت على الله في الجزاء والأجر. فإنّ هذا الكتاب، وإن لم يكن في القرآن والسّنّة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام، دال على معالي الأمور مرشد لكريم الأخلاق زاجر عن الدناءة ناه عن القبيح باعث على صواب التدبير وحسن التقدير ورفق السياسة وعمارة الأرض وليس الطريق إلى الله واحدا ولا كل الخير مجتمعا في تهجّد الليل وسرد الصيام وعلم الحلال والحرام، بل الطرق إليه كثيرة وأبواب الخير واسعة وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان بعد توفيق الله بالإرشاد وحسن التبصير.

وهذه عيون الأخبار نظمتها لمغفل التأدب تبصرة ولأهل العلم تذكرة ولسائس الناس ومسوسهم مؤدّبا وللمولك مستراحا من كدّ الجدّ والتعب وصنّفتها أبوابا وقرنت الباب بشكله والخبر بمثله والكلمة بأختها ليسهل على المتعلم علمها وعلى الدارس حفظها وعلى الناشد طلبها، وهي لقاح عقول العلماء ونتاج أفكار الحكماء وزبدة المخض وحلية الأدب وأثمار طول النظر والمتخيّر من كلام البلغاء وفطن الشعراء وسير الملوك وآثار السلف. جمعت لك منها ما جمعت في هذا الكتاب لتأخذ نفسك بأحسنها وتقوّمها بثقافها وتخلّصها من مساوىء الأخلاق كما تخلص الفضة البيضاء من خبثها، وتروضها على الأخذ بما فيها من سنة حسنة وسيرة قويمة وأدب كريم وخلق عظيم، وتصل بها كلامك إذا حاورت وبلاغتك إذا كتبت، وتستنجح بها حاجتك إذا سألت، وتتلطف في القول إن شفعت، وتخرج من اللوم بأحسن العذر إذا اعتذرت فإنّ الكلام مصايد القلوب والسحر الحلال، وتستعمل آدابها في صحبة سلطانك وتسديد ولايته ورفق سياسته وتدبير حروبه، وتعمر بها مجلسك إذا جددت وأهزلت وتوضح بأمثالها حججك وتبذّ باعتبارها خصمك حتى يظهر الحقّ في أحسن صورة وتبلغ الإرادة بأخف مؤونة، وتستولي على الأمد وأنت وادع وتلحق الطّريدة ثانيا من عنانك وتمشي رويدا وتكون أوّلا هذا إذا كانت الغريزة مواتية والطبيعة قابلة والحسّ منقادا، فإن لم يكن كذلك ففي هذا الكتاب، لمن أراه عقله نقص نفسه فأحسن سياستها وستر بالأناة والرويّة عيبها ووضع من دواء هذا الكتاب على داء غريزته وسقاها بمائه وقدح فيها بضيائه، ما نعش منها العليل وشحذ الكليل وبعث الوسنان وأيقظ الهاجع حتى يقارب بعون الله رتب المطبوعين. ولم أر صوابا أن يكون كتابى هذا وقفا على طالب الدنيا دون طالب

الآخرة ولا على خواص الناس دون عوامّهم «1» ولا على ملوكهم دون سوقتهم، فوفّيت كلّ فريق منهم قسمه ووفّرت عليه سهمه وأودعته طرفا من محاسن كلام الزهاد في الدنيا وذكر فجائعها والزوال والانتقال وما يتلاقون به إذا اجتمعوا ويتكاتبون به إذا افتر قول في المواعظ والزهد والصبر والتقوى واليقين وأشباه ذلك لعل الله يعطف به صادفا، ويأطر على التوبة متجانفا، ويردع ظالما ويلين برقائقه قسوة القلوب. ولم أخله مع ذلك من نادرة طريفة وفطنة لطيفة وكلمة معجبة وأخرى مضحكة لئلا يخرج عن الكتاب مذهب سلكه السالكون وعروض أخذ فيها القائلون، ولأروّح بذلك عن القارىء من كدّ الجدّ وإتعاب الحق فإنّ الأذن مجّاجة والنفس حمضة، والمزح إذا كان حقا أو مقاربا ولأحايينه وأوقاته وأسباب أوجبته مشاكلا ليس من القبيح ولا من المنكر ولا من الكبائر ولا من الصغائر إن شاء الله. وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روى عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مرّ بك، أيها المتزمّت، حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له فاعرف المذهب فيه وما أردنا به. واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك فإن غيرك ممن يترخّص فيما تشدّدت فيه محتاج إليه، وإنّ الكتاب لم يعمل لك دون غيرك فيهيّأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقّي المتزمّتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل إليه معك. وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مرّ بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج

أو وصف فاحشة فلا يحملنّك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدّك وتعرض بوجهك فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزّور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعزّى بعزاء الجاهلية فأعضّوه بهن «1» أبيه ولا تكنوا» . وقال أبو بكر الصدّيق، رضي الله عنه، لبديل بن ورقاء «2» ،- حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ هؤلاء لو قد مسّهم حزّ السلاح لأسلموك-: «إعضض ببظر الّلات «3» ، أنحن نسلمه!» . وقال عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه: «من يطل أير أبيه ينتطق به» . وقال الشاعر في هذا المعنى بعينه: [طويل] فلو شاء ربّي كان أير أبيكم ... طويلا كأير الحارث بن سدوس قال الأصمعيّ: كان للحارث بن سدوس أحد وعشرون ذكرا، وقيل للشّعبيّ: إن هذا لا يجيء في القياس، فقال: أير في القياس، الولد ذكر. وليس هذا من شكل ما تراه في شعر جرير والفرزدق لأنّ ذلك تعيير وابتهار في الأخوات والأمهات وقذف للمحصنات الغافلات، فتفهّم الأمرين وافرق بين الجنسين، ولم أترخّص لك في إرسال اللسان بالرّفث «4» على أن تجعله هجيّراك «5» على كل حال «6» وديدنك في كل مقال، بل الترخّص منّي فيه عند حكاية تحكيها

أو رواية ترويها، تنقّصها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض، وأحببت أن تجري في القليل من هذا على عادة السّلف الصالح في إرسال النّفس على السجيّة والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع. ولا تستشعر أنّ القوم قارفوا وتنزّهت وثلموا أديانهم وتورّعت. وكذلك اللحن إن مرّ بك في حديث من النوادر فلا يذهبنّ عليك أنّا تعمدناه وأردنا منك أن تتعمده لأنّ الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه وشاطر النادرة حلاوتها، وسأمثل لك مثالا: قيل لمزيد المديني- وقد أكل طعاما كظّه «1» : قي؛ فقال: ما أقي، أقي نقا ولحم جدي! مرتي طالق لو وجدت هذا قيا لأكلته. ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفّيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتها ولاستبشعها سامعها وكان أحسن أحوالها أن يكافىء لطف معناها ثقل ألفاظها فيكون مثل المخبر عنها ما قال الأوّل: [بسيط] إضرب ندى طلحة «2» الخيرات إن فخروا ... ببخل أشعث واستثبت وكن حكما تخرج خزاعة من لؤم ومن كرم ... فلا تعدّ لها لؤما ولا كرما ولمثل هذا قال مالك بن أسماء «3» في جارية له: [خفيف] أمغطّى منّي على بصري لل ... حبّ أم أنت أكمل الناس حسنا؟

وحديث ألذّه هو ممّا ... يشتهي الناعتون يوزن وزنا منطق بارع وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا «1» وإن مرّ بك خبر أو شعر يتّضع عن قدر الكتاب وما بني عليه فاعلم أنّ لذلك سببين: أحدهما قلة ما جاء في ذلك المعنى مع الحاجة إليه، والسبب الآخر أن الحسن إذا وصل بمثله نقص نوراهما ولم يتبيّن فاضل بمفضول. وإذا وصل بما هو دونه أراك نقصان أحدهما من الآخر الرجحان، ومدار الأمر وقوامه على واحدة تحتاج إلى أن تأخذ نفسك بها وهي أن تحضر الكلمة موضعها وتصلها بسببها ولا ترى غبنا أن يتكلم الناس وأنت ممسك، فإذا رأيت حالا تشاكل ما حضرك من القول أحضرته وفرصة تخاف فوتها انتهزتها، وكان يقال: انتهزوا فرص القول فإن للقول ساعات يضرّ فيها الخطأ ولا ينفع فيها الصواب، وقالوا: ربّ كلمة تقول: دعني. وإن وقفت على باب من أبواب هذا الكتاب لم تره مشبعا فلا تقض علينا بالإغفال حتى تتصفّح الكتب كلها، فإنه ربّ معنى يكون له موضعان وثلاثة مواضع فنقسم ما جاء فيه على مواضعه، كالتلطف في القول يقع في كتاب السلطان ويقع في كتاب الحوائج ويقع في باب البيان، وكالإعتذار يقع في كتاب السلطان وفي كتاب الإخوان، وكالبخل يقع في كتاب الطبائع وفي كتاب الطعام، وكالكبر والمشيب يقع في كتاب الزهد، ويقع في كتاب النساء. واعلم أنّا لم نزل نتلقّط هذه الأحاديث في الحداثة والإكتهال عمن هو

فوقنا في السنّ والمعرفة وعن جلسائنا وإخواننا ومن كتب الأعاجم وسيرهم وبلاغات الكتّاب في فصول من كتبهم وعمّن هو دوننا غير مستنكفين أن نأخذ عن الحديث سنّا لحداثته ولا عن الصغير قدرا لخساسته ولا عن الأمة الوكعاء لجهلها فضلا عن غيرها، فإن العلم ضالّة المؤمن من حيث أخذه نفعه، ولن يزري بالحق أن تسمعه من المشركين ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين، ولا تضير الحسناء أطمارها ولا بنات الأصداف أصدافها ولا الذهب الإبريز مخرجه من كبا «1» ، ومن ترك أخذ الحسن من موضعه أضاع الفرصة، والفرص تمرّمرّ السّحاب. حدثني أبو الخطاب قال: حدّثنا أبو داود عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: «خذوا الحكمة ممن سمعتموها منه، فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم وتكون الرّمية من غير الرامي» . وهذا يكون في مثل كتابنا لأنه في آداب ومحاسن أقوام ومقابح أقوام والحسن لا يلتبس بالقبيح ولا يخفى على من سمعه من حيث كان. فأما علم الدين والحلال والحرام فإنما هو استعباد وتقليد ولا يجوز أن تأخذه إلا عمّن تراه لك حجة ولا تقدح في صدرك منه الشكوك، وكذلك مذهبنا فيما نختاره من كلام المتأخرين وأشعار المحدثين إذا كان متخيّر اللفظ لطيف المعنى لم يزّر به عندنا تأخر قائله كما أنه إذا كان بخلاف ذلك لم يرفعه تقدّمه فكل قديم حديث في عصره وكل شرف فأوّله خارجيّه، ومن شأن عوامّ الناس رفع المعدوم ووضع الموجود ورفض المبذول وحب الممنوع وتعظيم المتقدّم وغفران زلته وبخس المتأخر والتجنّي عليه، والعاقل منهم ينظر بعين العدل لا بعين الرضا ويزن الأمور بالقسطاس المستقيم.

وإني حين قسّمت هذه الأخبار والأشعار وصنّفتها وجدتها على اختلاف فنونها وكثرة عدد أبوابها تجتمع في عشرة كتب بعد الذي رأيت إفراده عنها وهو أربعة كتب متميزة، كل كتاب منها مفرد على حدته، كتاب الشراب، وكتاب المعارف، وكتاب الشعر، وكتاب تأويل الرؤيا. فالكتاب الأوّل من الكتب العشرة المجموعة «كتاب السلطان» وفيه الأخبار من محل السلطان واختلاف أحواله وعن سيرته وعما يحتاج صاحبه إلى استعماله من الآداب في صحبته وفي مخاطبته ومعاملته ومشاورته له وما يجب على السلطان أن يأخذ به في اختيار عمّاله وقضاته وحجّابه وكتّابه وعلى الحكام أن يمتثلوه في أحكامهم وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار. والكتاب الثاني «كتاب الحرب» وهذا الكتاب مشاكل لكتاب السلطان فضممته إليه وجعلتهما جزءا واحدا وفيه الأخبار عن آداب الحرب ومكايدها ووصايا الجيوش وعن العدد والسلاح والكراع «1» وما جاء في السّفر والمسير والطّيرة والفأل وما يؤمر به الغزاة والمسافرون، وأخبار الجبناء والشجعاء وحيل الحرب وغيرها وشيء من أخبار الدولة والطالبيّين وأخبار الأمصار وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار. والكتاب الثالث «كتاب السّؤدد» وفيه الأخبار عن مخايل السؤدد في الحدث «2» وأسبابه في الكبير وعن الهمة السامية والخطار بالنفس لطلب المعالي واختلاف الإرادات والأماني والتواضع والكبر والعجب والحياء والعقل والحلم والغضب والعز والهيبة والذلّ والمروءة واللباس والطيب والمجالسة

والبناء والمزاح وترك التصنّع والتوسط في الأشياء وما يكره من الغلوّ والتقصير واليسار والفقر والتجارة والبيع والشراء والمداينة والشريف من أفعال الأشراف والسادة وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار. والكتاب الرابع كتاب الطبائع والأخلاق وهذا الكتاب مقارب لكتاب السؤدد فضممته إليه وجعلتهما جزءا واحدا وفيه الأخبار عن تشابه الناس في الطبائع وذمّهم وعن مساوىء الأخلاق من الحسد والغيبة والسّعاية والكذب والقحة وسوء الخلق وسوء الجوار والسّباب والبخل والحمق ونوادر الحمقى وطبائع الحيوان من الناس والجن والأنعام والسباع والطير والحشرات وصغار الحيوان والنبات وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار. والكتاب الخامس «كتاب العلم» وفيه الأخبار عن العلم والعلماء والمتعلمين وعن الكتب والحفظ والقرآن والأثر والكلام في الدين ووصايا المؤدّبين والبيان والبلاغة والتلطف في الجواب والكلام وحسن التعريض والخطب والمقامات وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار. والكتاب السادس «كتاب الزهد» وهذا الكتاب مقارب لكتاب العلم فضممته إليه وجعلتهما جزءا واحدا وفيه الأخبار عن صفات الزهّاد وكلامهم في الزهد والدعاء والبكاء والمناجاة وذكر الدنيا والتهجد والموت والكبر والشيب والصبر واليقين والشكر والاجتهاد والقناعة والرضا ومقامات الزهّاد عند الخلفاء والملوك ومواعظهم وغير ذلك وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار. والكتاب السابع «كتاب الإخوان» وفيه الحث على اتخاذ الإخوان

واختيارهم والأخبار عن المودّة والمحبة وما يجب للصديق ومخالفته الناس وحسن محاورتهم والتلاقي والزيارة والمعانقة والوداع والتهادي والعيادة والتعازي والتهاني وذكر شرار الإخوان وذكر القرابات والولد والاعتذار وعتب الإخوان وتعاديهم وتباغضهم وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار. والكتاب الثامن «كتاب الحوائج» وهذا الكتاب مقارب لكتاب الإخوان فضممته إليه وجعلتهما جزءا واحدا فيه الأخبار عن استنجاح الحوائج بالكتمان والصبر والجدّ والهديّة والرشوة ولطيف الكلام ومن يعتمد في الحاجة ومن يستسعى لها والإجابة إلى الحاجة والردّ عنها والمواعيد وتنجّزها وأحوال المسؤولين عند السؤال في الطّلاقة والعبوس والعادة من المعروف تقطع والشكر والثناء والتلطف فيهما والترغيب في قضاء الحوائج واصطناع المعروف والحرص والإلحاح والقناعة والاستعفاف وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الآخبار. والكتاب التاسع «كتاب الطعام» ، وفيه الأخبار عن الأطعمة الطيبة والحلواء والسّويق «1» واللبن والتمر والخبائث منها التي يأكلها فقراء الأعراب، ونازلة الفقر وأدب الأكل وذكر الجوع والصوم وأخبار الأكلة والمنهومين والدعاء إلى المآدب والضيافة وأخبار البخلاء بالطعام وسياسة الأبدان بما يصلحها من الغذاء والحمية وشرب الدواء ومضارّ الأطعمة منافعها ومصالحها ونتف من طبّ العرب والعجم وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار.

والكتاب العاشر «كتاب النساء» وهذا الكتاب مقارب لكتاب الطعام، والعرب تدعو الأكل والنكاح الأطيبين فتقول: قد ذهب منه الأطيبان. تريدهما، فضممته إليه وجعلتهما جزءا واحدا وفيه الأخبار عن اختلاف النساء في أخلاقهنّ وخلقهنّ وما يختار منهن للنكاح وما يكره واختلاف الرجال في ذلك والحسن والجمال والقبح والدّمامة والسواد والعاهات والعجز والمشايخ والمهور وخطب النكاح ووصايا الأولياء عند الهداء وسياسة النساء ومعاشرتهنّ والدخول بهنّ والجماع والولادات ومساويهن خلا أخبار عشّاق العرب فإني رأيت كتاب الشعراء أولى بها فلم أودع هذا الكتاب منها إلا شيئا يسيرا، وما جاء في ذلك من النوادر وأبيات الشعر المشاكلة لتلك الأخبار. فهذه أبواب الكتب جمعتها لك في صدر أوّلها لأعفيك من كدّ الطلب وتعب التصفّح وطول النظر عند حدوث الحاجة إلى بعض ما أودعتها ولتقصد فيما تريد حين تريد إلى موضعه فتستخرجه بعينه أو ما ينوب عنه ويكفيك منه، فإن هذه الأخبار والأشعار وإن كانت عيونا مختارة أكثر من أن يحاط بها أو يوقف من ورائها أو تنتهي حتى ينتهى عنها. وقد خفّفت وإن كنت أكثرت، واختصرت وإن كنت أطلت، وتوقيت في هذه النوادر والمضاحك ما يتوقّاه من رضي من الغنيمة فيها بالسلامة ومن بعد الشّقة بالإياب، ولم أجد بدّا من مقدار ما أودعته الكتاب منها لتتممّ به الأبواب، ونحن نسأل الله أن يمحو ببعض بعضا ويغفر بخير شرّا وبجدّ هزلا ثم يعود علينا بعد ذلك بفضله ويتغمدنا بعفوه ويعيذنا بعد طول الأمل فيه وحسن الظنّ به والرجاء له من الخيبة والحرمان.

كتاب السلطان

كتاب السلطان محل السلطان وسيرته وسياسته حدّثنا محمد بن خالد بن خداش قال: حدّثنا سلم بن قتيبة عن ابن أبي ذئب عن المقبريّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة يوم القيامة فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة «1» . حدّثني محمد بن زياد الزيادي قال: حدّثنا عبد العزيز الدّاروردي قال: حدّثنا شريك عن عطاء بن يسار أن رجلا قال عند النبي صلى الله عليه وسلم: بئس الشيء الأمارة «2» . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقّها وحلّها» . حدّثني زيد بن أخزم الطائي قال: حدّثنا ابن قتيبة قال: حدّثنا أبو المنهال عن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما مات كسرى قيل ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «من استخلفوا؟» فقالوا: ابنته بوران، قال: «لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» . حدّثني زيد بن أخزم قال: حدّثنا وهب بن جرير قال: حدّثنا أبي قال: سمعت أيّوب يحدّث عن عكرمة عن ابن عباس أنه قدم المدينة زمن الحرّة «3»

فقال: من استعمل القوم؟ قالوا: على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن الراهب فقال: أميران! هلك والله القوم. حدّثنا محمد بن عبيد قال: حدّثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحق عن هشام بن حسّان قال: كان الحسن يقول: «أربعة من الإسلام إلى السلطان الحكم والفيء والجمعة والجهاد» . وحدّثني محمد قال: حدّثنا أبو سلمة عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة قال: قال كعب: «مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد، فالفسطاط الإسلام، والعمود السلطان، والأطناب والأوتاد الناس، لا يصلح بعضه إلا ببعض» . حدّثني سهل بن محمد قال: حدّثني الأصمعي قال: قال أبو حازم لسليمان بن عبد الملك: «السلطان سوق فما نفق عنده أتي به» . وقرأت في كتاب لابن المقفّع: «الناس على دين السلطان إلا القليل فليكن للبرّ والمروءة عنده نفاق فسيكسد بذلك الفجور والدناءة في آفاق الأرض» . وقرأت فيه أيضا: «الملك ثلاثة: ملك دين وملك حزم وملك هوى، فأما ملك الدين فإنه إذا أقام لأهله دينهم فكان دينهم هو الذي يعطيهم مالهم ويلحق بهم ما عليهم، أرضاهم ذلك وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم. وأما ملك الحزم فإنه تقوم به الأمور ولا يسلم من الطعن والتسخّط ولن يضرّه طعن الضعيف مع حزم القوي. وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر» . حدّثني يزيد بن عمرو عن عصمة بن صقير الباهليّ قال: حدّثنا اسحق ابن نجيح عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله حرّاسا فحرّاسه في السماء الملائكة وحرّاسه في الأرض الذين يأخذون الدّيوان» .

حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثني سعيد بن سلم الباهلي قال: أخبرني شعبة عن شرقيّ عن عكرمة في قول الله عز وجل: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ » قال: «الجلاوزة «2» يحفظون الأمراء» . وقال الشاعر: [طويل] ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... خليّا من اسم الله والبركات يعني باسم الله، وفيه قول الله يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمر الله. وقرأت في كتاب من كتب الهند: «شرّ المال ما لا ينفق منه وشرّ الإخوان الخاذل وشرّ السلطان من خافه البريء وشر البلاد ما ليس فيه خصب ولا أمن» . وقرأت فيه: «خير السلطان من أشبه النّسر حوله الجيف لا من أشبه الجيفة حولها النسور» وهذا معنى لطيف وأشبه الأشياء به قول بعضهم: «سلطان تخافه الرعيّة خير للرعية من سلطان يخافها» . حدّثني شيخ لنا عن أبي الأحوص عن ابن عمّ لأبي وائل عن أبي وائل قال: قال عبد الله بن مسعود: «إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائرا فعليه الوزر وعليك الصبر» . وأخبرني أيضا عن أبي قدامة عن عليّ بن زيد قال: قال عمر بن

الخطاب رضي الله عنه: «ثلاث من الفواقر «1» .: جار مقامة «2» إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة أذاعها، وامرأة إن دخلت عليها لسنتك «3» وإن غبت عنها لم تأمنها، وسلطان إن أحسنت لم يحمدك وإن أسأت قتلك» . وقرأت في اليتيمة: «مثل قليل مضارّ السلطان في جنب منافعه مثل الغيث الذي هو سقيا الله وبركات السماء وحياة الأرض ومن عليها، وقد يتأذّى به السّفر «4» ويتداعى له البنيان وتكون فيه الصواعق وتدرّ سيوله فيهلك الناس والدّوابّ وتموج له البحار فتشتدّ البليّة منه على أهله فلا يمنع الناس، إذا نظروا إلى آثار رحمة الله في الأرض التي أحيا والنبات الذي أخرج والرزق الذي بسط والرحمة التي نشر، أن يعظّموا نعمة ربهم ويشكروها ويلغوا ذكر خواصّ البلايا التي دخلت على خواصّ الخلق. ومثل الرياح التي يرسلها الله نشرا بين يدي رحمته فيسوق بها السّحاب ويجعلها لقاحا للثمرات وأرواحا للعباد يتنسّمون منها ويتقلّبون فيها وتجري بها مياههم وتقد بها نيرانهم وتسير بها أفلاكهم وقد تضرّ بكثير من الناس في برّهم وبحرهم ويخلص ذلك إلى أنفسهم وأموالهم فيشكوها منهم الشاكون ويتأذّى بها المتأذّون ولا يزيلها ذلك عن منزلتها التي جعلها الله بها وأمرها الذي سخّرها له من قوام عباده وتمام نعمته. ومثل الشتاء والصيف اللذين جعل الله حرّهما وبردهما صلاحا للحرث والنّسل ونتاجا للحبّ والثمر، يجمعها البرد بإذن الله ويحملها ويخرجها الحرّ بإذن الله وينضجها مع سائر ما يعرف من منافعها وقد يكون الأذى والضرّ في حرّهما وبردهما وسمائمهما وزمهريرهما وهما مع ذلك لا ينسبان إلا إلى الخير

والصلاح. ومن ذلك الليل الذي جعله الله سكنا ولباسا وقد يستوحش له أخو القفر وينازع فيه ذو البليّة والرّيبة وتعدو فيه السّباع وتنساب فيه الهوامّ «1» ويغتنمه أهل السّرق والسّلّة «2» ولا يزري صغير ضرره بكثير نفعه ولا يلحق به ذمّا ولا يضع عن الناس الحقّ في الشكر لله على ما منّ به عليهم منه. ومثل النهار الذي جعله الله ضياء ونشورا وقد يكون على الناس أذى الحرّ في قيظهم وتصبّحهم فيه الحروب والغارات ويكون فيه النّصب والشخوص وكثير مما يشكوه الناس ويستريحون فيه إلى الليل وسكونه. ولو أن الدنيا كان شيء من سرّائها يعمّ عامة أهلها بغير ضرر على بعضهم وكانت نعماؤها بغير كدر وميسورها من غير معسور كانت الدنيا إذا هي الجنة التي لا يشوب مسرّتها مكروه ولا فرحها ترح والتي ليس فيها نصب ولا لغوب «3» ، فكلّ جسيم من أمر الدنيا يكون ضرّه خاصة فهو نعمة عامة وكل شيء منه يكون نفعه خاصا فهو بلاء عام. وكان يقال: «السلطان والدين أخوان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر» . وقرأت في التاج لبعض الملوك: «هموم الناس صغار وهموم الملوك كبار وألباب الملوك مشغولة بكل شيء يجلّ وألباب السّوق «4» مشغولة بأيسر الشيء، فالجاهل منهم يعذر نفسه بدعة ما هو عليه من الرّسلة «5» ولا يعذر سلطانه مع شدّة ما هو فيه من المؤنة «6» ، ومن هناك يعزّر الله سلطانه ويرشده وينصره.» . سمع زياد رجلا يسبّ الزمان فقال: «لو كان يدري ما الزمان لعاقبته،

إنما الزمان هو السلطان» . وكانت الحكماء تقول: «عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان» . وروى الهيثم عن ابن عيّاش عن الشّعبي قال: «أقبل معاوية ذات يوم على بني هاشم فقال: يا بني هاشم، ألا تحدّثوني عن ادعائكم الخلافة دون قريش بم تكون لكم أبالرضا بكم أم بالاجتماع عليكم دون القرابة أم بالقرابة دون الجماعة أم بهما جميعا؟ فإن كان هذا الأمر بالرضا والجماعة دون القرابة فلا أرى القرابة أثبتت حقا ولا أسّست ملكا، وإن كان بالقرابة دون الجماعة والرضا فما منع العباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ووارثه وساقي الحجيج وضامن الأيتام أن يطلبها وقد ضمن له أبو سفيان بني عبد مناف، وإن كانت الخلافة بالرضا والجماعة والقرابة جميعا فإن القرابة خصلة من خصال الإمامة لا تكون الإمامة بها وحدها وأنتم تدّعونها بها وحدها، ولكنا نقول: أحقّ قريش بها من بسط الناس أيديهم إليه بالبيعة عليها ونقلوا أقدامهم إليه للرغبة وطارت إليه أهواؤهم للثقة وقاتل عنها بحقها فأدركها من وجهها. إنّ أمركم لأمر تضيق بها الصدور، إذا سئلتم عمّن اجتمع عليه من غيركم قلتم حقّ. فإن كانوا اجتمعوا على حق فقد أخرجكم الحقّ من دعواكم. أنظروا: فإن كان القوم أخذوا حقكم فاطلبوهم، وإن كانوا أخذوا حقّهم فسلّموا إليهم فإنه لا ينفعكم أن تروا لأنفسكم ما لا يراه الناس لكم. فقال ابن عباس: ندّعي هذا الأمر بحقّ من لولا حقّه لم تقعد مقعدك هذا، ونقول كان ترك الناس أن يرضوا بنا ويجتمعوا علينا حقّا ضيّعوه وحظّ حرموه، وقد اجتمعوا على ذي فضل لم يخطىء الورد والصّدر، ولا ينقص فضل ذي فضل فضل غيره عليه. قال الله عز وجل وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ «1» فأما الذي منعنا من طلب هذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهد منه إلينا

قبلنا فيه قوله ودنّا بتأويله ولو أمرنا أن نأخذه على الوجه الذي نهانا عنه لأخذناه أو أعذرنا فيه، ولا يعاب أحد على ترك حقه إنما المعيب من يطلب ما ليس له، وكل صواب نافع وليس كل خطأ ضارّا، انتهت القضية إلى داود وسليمان فلم يفهّمها داود وفهّمها سليمان ولم يضرّ داود. فأما القرابة فقد نفعت المشرك وهي للمؤمن أنفع؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت عمّي وصنو أبي ومن أبغض العباس فقد أبغضني وهجرتك آخر الهجرة كما أن نبوّتي أخر النبوّة» . وقال لأبي طالب عند موته: «يا عمّ، قل لا إله إلا الله أشفع لك بها غدا وليس ذاك لأحد من الناس. قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «1» . حدّثنا الرياشي عن أحمد بن سلّام مولى ذفيف عن مولى يزيد بن حاتم عن شيخ له قال: قال كسرى: «لا تنزل ببلد ليس فيه خمسة أشياء: سلطان قاهر، وقاض عادل، وسوق قائمة، وطبيب عالم، ونهر جار» . وحدّثنا الرياشي قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا القاسم بن الفضل قال: حدّثنا ابن اخت العجاج عن العجاج قال: «قال لي أبو هريرة: ممن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق. قال: يوشك أن يأتيك بقعان «2» الشام

فيأخذوا صدقتك فإذا أتوك فتلقّهم بها فإذا دخلوها فكن في أقاصيها وخلّ عنهم وعنها، وإياك وأن تسبّهم فإنك إن سببتهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك وإن صبرت جاءتك في ميزانك يوم القيامة» . وفي رواية أخرى أنه قال: «إذا أتاك المصدّق فقل: خذ الحقّ ودع الباطل، فإن أبى فلا تمنعه إذا أقبل ولا تلعنه إذا أدبر فتكون عاصيا خفّف عن ظالم» . وكان يقال: «طاعة السلطان على أربعة أوجه: على الرغبة، والرهبة، والمحبة، والديانة» . وقرأت في بعض كتب العجم كتابا لأردشير بن بابك إلى الرعية، نسخته: «من أردشير الموبذ «1» ذي البهاء ملك الملوك ووارث العظماء، إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين، والأساورة الذين هم حفظة البيضة «2» ، والكتّاب الذين هم زينة المملكة، وذوي الحرث الذين هم عمرة البلاد. السلام عليكم، فإنا بحمد الله صالحون وقد وضعنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا إتاوتها الموظّفة عليها. ونحن مع ذلك كاتبون اليكم بوصية: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدوّ، ولا تحتكروا فيشملكم القحط، وتزوّجوا في القرابين فإنه أمسّ للرّحم وأثبت للنّسب، ولا تعدّو هذه الدنيا شيئا فإنها لا تبقي على أحد ولا ترفضوها مع ذلك فإن الآخرة لا تنال إلا بها.

وقرأت كتابا من أرسطاطاليس «1» إلى الاسكندر وفيه: «املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها فإن طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطّها إلى القلوب بالمعروف، واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول، قدرت على أن تفعل، فاجهد ألا تقول تسلم من أن تفعل» . وقرأت في كتاب الآيين «2» أن بعض ملوك العجم قال في خطبة له: «إني إنما أملك الأجساد لا النيات وأحكم بالعدل لا بالرضا وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر» . ونحوه قول العجم: «أسوس الملوك من قاد أبدان الرعية إلى طاعته بقلوبها» . وقالوا: «لا ينبغي للوالي أن يرغب في الكرامة التي ينالها من العامة كرها ولكن في التي يستحقها بحسن الأثر وصواب الرأي والتدبير» . حدّثنا الرياشي عن أحمد بن سلّام عن شيخ له قال: «كان أنو شروان إذا ولّى رجلا أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع أربعة أسطر ليوقّع فيه بخطه فإذا أوتي بالعهد وقّع فيه: سس خيار الناس بالمحبة وامزج للعامة الرغبة بالرهبة وسس سفلة الناس بالإخافة» .

قال المدائني: «قدم قادم على معاووية بن أبي سفيان فقال له معاوية: هل من مغرّبة خبر؟ قال: نعم، نزلت بماء من مياه الأعراب فبينا أنا عليه أورد أعرابي إبله فلما شربت ضرب على جنوبها وقال: عليك زيادا. فقلت له: ما أردت بهذا؟ قال: هي سدى، ما قام لي بها راع مذ ولي زياد. فسرّ ذلك معاوية وكتب به إلى زياد» . قال عبد الملك بن مروان: «أنصفونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر! ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر! نسأل الله أن يعين كلّا على كل» . قال عمر بن الخطاب: «إن هذا الأمر لا يصلح له إلا الليّن في غير ضعف والقويّ في غير عنف» . وقال عمر بن عبد العزيز: «إني لأجمع أن أخرج للمسلمين أمرا من العدل فأخاف أن لا تحتمله قلوبهم فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من هذا سكنت إلى هذا» . قال معاوية: «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنت إذا مدّوها خلّيتها وإذا خلّوها مددتها» . ونحو هذا قول الشّعبي فيه: «كان معاوية كالجمل الطّبّ «1» ، إذا سكت عنه تقدّم وإذا ردّ تأخر» . وقول عمر فيه: «احذروا آدم قريش وابن كريمها، من لا ينام إلا على الرضا ويضحك في الغضب ويأخذ ما فوقه من تحته» .

وأغلظ له رجل فحلم عنه فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: «إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا» . كان يقال: «لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل وحسن سياسة» . قال زياد: «أحسنوا إلى المزارعين فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا» . وكتب الوليد إلى الحجاج يأمره أن يكتب إليه بسيرته فكتب إليه: «إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السّيّد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلّدت الخراج الموفّر لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسما يعطيه حظّا من نظري ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النّطف «1» المسيء، والثواب إلى المحسن البريء فخاف المريب صولة العقاب، وتمسّك المحسن بحظه من الثواب» . وكان يقول لأهل الشام: «إنما أنا لكم كالظّليم «2» الرائح عن فراخه ينفي عنها القذر «3» ويباعد عنها الحجر ويكنّها «4» من المطر ويحميها من الضّباب «5» ويحرسها من الذئاب. يا أهل الشام أنتم الجنّة «6» والرّداء وأنتم العدّة والحذاء» . فخر سليم مولى زياد بزياد عند معاوية فقال معاوية: «أسكت، ما أدرك صاحبك شيئا قطّ بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني» .

وقال الوليد لعبد الملك: يا ابت، ما السياسة؟ قال: «هيبة الخاصّة مع صدق مودّتها واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها واحتمال هفوات الصنّائع» . وفي كتب العجم: «قلوب الرعيّة خزائن ملوكها فما أودعتها من شيء فلتعلم أنه فيها» . ووصف بعض الملوك سياسته فقال: «لم أهزل في وعد ولا وعيد ولا أمر ولا نهي ولا عاقبت للغضب واستكفيت على الجزاء وأثبتّ على العناء لا للهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت وودّا لم تشبه جرأة وعمّمت بالقوت ومنعت الفضول» . وقرأت في كتاب التاج: «قال أبرويز «1» لابنه شيرويه وهو في حبسه: «لا توسعنّ على جندك فيستغنوا عنك ولا تضيقنّ عليهم فيضجّوا منك، أعطهم عطاء قصدا وامنعهم منعا جميلا ووسّع عليهم في الرجاء ولا توسّع عليهم في العطاء» . ونحوه قول المنصور في مجلسه لقوّاده: صدق الأعرابي حيث يقول: أجع كلبك يتبعك. فقام أبو العباس الطّوسي فقال: يا أمير المؤمنين أخشى أن يلوّح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: «أما بعد، فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء «2» مجهولة وضغائن محمولة، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمران: أحدهما لله، والآخر للدنيا فآثر نصيبك من الله فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وأخيفوا الفسّاق واجعلوهم يدا يدا ورجلا رجلا، وعد «3» مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وانتح لهم

بابك وباشر أمورهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملا، وقد بلغني أنه قد فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرّت بواد خصيب فلم يكن لها همّ إلا السّمن وإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيّته، وأشقى من شقي الناس به والسلام» . هشام بن عروة قال: «صلى يوما عبد الله بن الزّبير فوجم بعد الصلاة ساعة فقال الناس: «لقد حدّث نفسه. ثم التفت إلينا فقال: لا يبعدنّ ابن هند! إن كانت فيه لمخارج لانجدها في أحد بعده أبدا، والله إن كنا لنفرّقه، وما الليث الحرب «1» على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا. وإن كنا لنخدعه، وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا، والله لوددت أنّا متّعنا به ما دام في هذا حجر (وأشار إلى أبي قبيس) لا يتخوّن له عقل ولا تنتقص له قوّة، قلنا: أوحش والله الرجل. قال: وكان يصل بهذا الحديث: كان والله كما قال العذري «2» : [متقارب] ركوب المنابر وثّابها ... معنّ بخطبته مجهر تريع إليه هوادي الكلام ... إذا خطل النّثر المهمر «3» حدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعي قال: حدّثنا جدّ سران وسران عمّ الأصمعي قال: «كلّم الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلّم عمر بن الخطاب في أن يلين لهم فإنه قد أخافهم حتى إنه قد أخاف الأبكار في

خدورهنّ. فقال عمر: إني لا أجد لهم إلا ذلك، إنهم لو يعلمون مالهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي» . قال: وتقدمت إليه امرأة فقالت: «يا أبا حفص، الله لك، فقال: ما لك أعقرت؟» فقالت: صلعت فرقتك «2» . قال أشجع السّلميّ «3» في إبراهيم بن عثمان: [كامل] لا يصلح السلطان إلا شدّة ... تغشى البريء بفضل ذنب المجرم ومن الولاة مقحّم لا يتّقى ... والسيف تقطر شفرتاه من الدم منعت مهابتك النفوس حديثها ... بالأمر تكرهه وإن لم تعلم كان يقال: «شرّ الأمراء أبعدهم من القرّاء وشرّ القرّاء أقربهم من الأمراء» . كتب عامل لعمر بن عبد العزيز على حمص إلى عمر: «إن مدينة حمص قد تهدّم حصنها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إصلاحه» فكتب إليه عمر «أمّا بعد، فحصّنها بالعدل، والسلام» . ذكر أعرابي أميرا فقال: «كان إذا ولي لم يطابق بين جفونه وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم شاهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف» . كان جعفر بن يحيى يقول: «الخراج عمود الملك وما استغزر بمثل العدل ولا استنزر بمثل الظلم» .

وفي كتاب من كتب العجم أنّ أردشير قال لابنه: «يا بنيّ، إن الملك والدين أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالدين أسّ والملك حارس، وما لم يكن له أس فمهدوم وما لم يكن له حارس فضائع، يا بني، إجعل حديثك مع أهل المراتب وعطيتك لأهل الجهاد وبشرك لأهل الدين وسرّك لمن عناه ما عناك من أرباب العقول» . وكان يقال: «مهما كان في الملك فلا ينبغي أن تكون فيه خصال خمس: لا ينبغي أن يكون كذابا فإنه إذا كان كذابا فوعد خيرا لم يرج أو أوعد بشرّ لم يخف، ولا ينبغي أن يكون بخيلا فإنه إذا كان بخيلا لم يناصحه أحد ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة ولا ينبغي أن يكون حديدا فإنه إذا كان حديدا مع القدرة هلكت الرعية ولا ينبغي أن يكون حسودا فإنه إذا كان حسودا لم يشرّف أحدا ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم، ولا ينبغي أن يكون جبانا فإنه إذا كان جبانا ضاعت ثغوره واجترأ عليه عدوه» . وقدم معاوية المدينة فدخل دار عثمان فقالت عائشة بنت عثمان: واأبتاه، وبكت، فقال معاوية: «يا ابنة أخي إنّ الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا وأظهرنا لهم حلما تحته وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره فإن نكثنا بهم نكثوا بنا ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني بنت عمّ أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين» . كتب عبد الله بن عباس إلى الحسن بن علي: «إنّ المسلمين ولّوك أمرهم بعد عليّ فشمّر للحرب وجاهد عدّوك ودار أصحابك واشتر من الظّنين «1»

اختيار العمال

دينه بما لا يثلم دينك وولّ أهل البيوتات والشرف تستصلح بهم عشائرهم حتى تكون الجماعة فإن بعض ما يكره الناس، ما لم يتعدّ الحق وكانت عواقبه تؤدي إلى ظهور العدل وعز الدين، خير من كثير مما يحبون إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور ووهن الدين» . حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن الأعمش عن إبراهيم قال: «كان عمر إذا قدم عليه الوفد سألهم عن حالهم وأسعارهم وعمن يعرف من أهل البلاد وعن أميرهم هل يدخل عليه الضعيف؟ وهل يعود المريض؟ فإن قالوا نعم، حمد الله تعالى، وإن قالوا لا، كتب إليه: أقبل» . اختيار العمال روي أن أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه لمّا حضرته الوفاة كتب عهدا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله عند آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتّقي فيها الفاجر: إني استعملت عمر بن الخطاب فإن برّ وعدل فذلك علمي به وإن جار وبدّل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «1» » . وفي التاج أن أبرويز كتب إلى ابنه شيرويه من الحبس: «ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة فرفعته، أو ذا شرف وجدته مهتضما فاصطنعته، ولا تجعله امرأ أصبته بعقوبة فاتّضع عنها ولا امرأ أطاعك بعد ما أذللته ولا أحدا ممن يقع في خلدك أنّ إزالة سلطانك أحبّ له من ثبوته، وإياك

أن تستعمله ضرعا غمرا كثر إعجابه بنفسه وقلّت تجاربه في غيره، ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السّنّ من جسمه» . وقال لقيط «1» في هذا المعنى: [بسيط] فقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا ما زال يحلب درّ الدهر أشطره ... يكون متّبعا يوما ومتّبعا حتى استمرّت على شزر مريرته ... مستحكم السّنّ لا قحما ولا ضرعا «2» ويقال في مثل: «رأي الشيخ خير من مشهد الغلام» ومن أمثال العرب أيضا في المجرّب «العوان لا تعلّم الخمرة» «3» . قال بعض الخلفاء: دلّوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمّني. قالوا: كيف تريده؟ قال: «إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم» قالوا: لا نعلمه إلا الربيع بن زياد الحارثي. قال صدقتم، هو لها. وروى الهيثم عن مجالد عن الشّعبي قال: قال الحجّاج: دلّوني على

رجل للشّرط «1» فقيل: أيّ الرجال تريد؟ فقال: «أريده دائم العبوس طويل الجلوس سمين الأمانة أعجف الخيانة لا يحنق في الحق على جرّة «2» يهون عليه سبال الأشراف في الشفاعة» فقيل له: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي. فأرسل إليه يستعمله، فقال له: لست أقبلها إلا أن تكفيني عيالك، وولدك وحاشيتك. قال: يا غلام، ناد في الناس: من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت منه الذمّة. قال الشعبي: فوالله ما رأيت صاحب شرطة قطّ مثله، كان لا يحبس إلا في دين، وكان إذا أتي برجل قد نقب على قوم وضع منقبته «3» في بطنه حتى تخرج من ظهره، وإذا أتي بنبّاش حفر له قبرا فدفنه فيه، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شهر سلاحا قطع يده، وإذا أتي برجل قد أحرق على قوم منزلهم أحرقه، وإذا أتي برجل يشكّ فيه وقد قيل إنه لص ولم يكن منه شيء ضربه ثلاثمائة سوط. قال: فكان ربما أقام أربعين ليلة لا يؤتى بأحد فضم إليه الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة. وقرأت في كتاب أبرويز إلى ابنه شيرويه: «إنتخب لخراجك أحد ثلاثة: إما رجلا يظهر زهدا في المال ويدّعي ورعا في الدين فإنّ من كان كذلك عدل على الضعيف وأنصف من الشريف ووفّر الخراج واجتهد في العمارة، فإن هو لم يرع ولم يعفّ إبقاء على دينه ونظرا لأمانته كان حريّا أن يخون قليلا ويوفّر كثيرا استسرارا بالرياء واكتتاما بالخيانة، فإن ظهرت «4» على ذلك منه عاقبته

على ما خان ولم تحمده على ما وفّر، وإن هو جلّح «1» في الخيانة وبارز بالرياء نكّلت به في العذاب واستنظفت ماله مع الحبس. أو رجلا عالما بالخراج غنيّا في المال مأمونا في العقل فيدعوه علمه بالخراج إلى الاقتصاد في الحلب والعمارة للأرضين «2» والرفق بالرعيّة، ويدعوه غناه إلى العفة ويدعوه عقله إلى الرغبة فيما ينفعه والرهبة مما يضره. أو رجلا عالما بالخراج مأمونا بالأمانة مقترا من المال فتوسّع عليه في الرزق فيغتنم لحاجته الرزق ويستكثر لفاقته اليسير، ويزجي «3» بعلمه الخراج، ويعفّ بأمانته عن الخيانة» . استشار عمر بن عبد العزيز في قوم يستعملهم، فقال له بعض أصحابه: عليك بأهل العذر. قال: ومن هم؟ قال: الذين إن عدلوا فهو ما رجوت منهم وإن قصّروا قال الناس: قد اجتهد عمر. قال عديّ بن أرّطاة «4» لإياس بن معاوية: دلّني على قوم من القرّاء أولّهم. فقال له: القرّاء ضربان: ضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك، وضرب يعملون للدّنيا، فما ظنّك بهم إذا أنت ولّيتهم فمكّنتهم منها؟ قال: فما أصنع؟ قال: عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولّهم. أحضر الرشيد رجلا ليولّيه القضاء فقال له: إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه. قال الرشيد: فيك ثلاث خلال: لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة. ولك حلم يمنعك من العجلة، ومن لم يعجل قلّ خطؤه. وأنت رجل

تشاور في أمرك ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فسينضم إليك من تتفقّه به. فولي فما وجدوا فيه مطعنا. حدّثني سهل بن محمد قال: حدّثنا الأصمعي قال: حدّثني صالح بن رستم أبو عامر الخزّاز قال: قال لي إياس بن معاوية المزنيّ: أرسل إليّ عمر ابن هبيرة فأتيته فساكتني فسكتّ، فلما أطلت قال: إيه. قلت: سل عما بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت نعم. قال: هل تفرض الفرائض؟ قلت نعم. قال: فهل تعرف من أيام العرب شيئا؟ قلت نعم. قال: فهل تعرف من أيام العجم شيئا؟ قلت: أنا بها أعلم. قال: إني أريد أن أستعين بك. قلت: إن فيّ ثلاثا لا أصلح معهن للعمل. قال: ما هن؟ قلت: أنا ذميم كما ترى، وأنا حديد، وأنا عيّ «1» . قال: أما الدمامة فإني لا أريد أن أحاسن بك الناس، وأمّا العيّ فإني أراك تعبّر عن نفسك، وأمّا سوء الخلق فيقوّمك السّوط. قم، قد وليتك. قال: فولّاني وأعطاني ألفي درهم فهما أول مال تموّلته. قرأت في كتاب للهند: «السلطان الحازم ربما أحبّ الرجل فأقصاه واطّرحه مخافة ضرّه، فعل الذي تلسع الحية إصبعه فيقطعها لئلا ينتشر سمّها في جسده، وربما أبغض الرجل فأكره نفسه على توليته وتقريبه لغناء يجده عنده كتكاره المرء على الدواء البشع لنفعه» . حدّثني المعلّى بن أيوب قال سمعت المأمون يقول: «من مدح لنا رجلا فقد تضمّن عيبه» .

باب صحبة السلطان وآدابها وتغير السلطان وتلونه

باب صحبة السلطان وآدابها وتغير السلطان وتلوّنه حدّثني محمد بن عبيد قال: حدثنا أبو أسامة عن مجالد عن الشّعبي عن عبد الله بن عباس قال: قال لي أبي: «يا بنيّ إني أرى أمير المؤمنين يستخليك «1» ويستشيرك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أوصيك بخلال أربع: لا تفشينّ له سرا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تغتابنّ عنده أحدا، ولا تطو عنه نصيحة» قال الشّعبي: قلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف. قال: إي والله ومن عشرة آلاف. كان يقال: «إذا جعلك السلطان أخا فاجعله أبا، وإن زادك فزده» . قال زياد لابنه: «إذا دخلت على أمير المؤمنين فادع له ثم اصفح صفحا جميلا، ولا يرينّ منك تهالكا عليه ولا انقباضا عنه» . قال مسلم بن عمرو: «ينبغي لمن خدم السلاطين ألا يغترّ بهم إذا رضوا عنه ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه ولا يستثقل ما حمّلوه ولا يلحف في مسألتهم «2» » . وقرأت في كتاب للهند: «صحبة السلطان على ما فيها من العز والثروة

عظيمة الخطار، وإنما تشبّه بالجبل الوعر فيه الثمار الطيبة والسّباع العادية، فالإرتقاء إليه شديد والمقام فيه أشدّ، وليس يتكافأ خير السلطان وشره لأنّ خير السلطان لا يعدو مزيد الحال، وشر السلطان قد يزيل الحال ويتلف النفوس التي لها طلب المزيد، ولا خير في الشيء الذي في سلامته مال وجاه وفي نكبته الجائحة «1» والتلف» . وقرأت فيه: «من لزم باب السلطان بصبر جميل وكظم للغيظ واطّراح للأنفة، وصل إلى حاجته» . وقرأت فيه: «السلطان لا يتوخّى بكرامته الأفضل فالأفضل ولكن الأدنى فالأدنى كالكرم لا يتعلق بأكرم الشجر ولكن بأدناها منه» . وكانت العرب تقول: «إذا لم تكن من قربان الأمير فكن من بعدانه» . وقرأت في آداب ابن المقفع: «لا تكوننّ صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك وموافقتهم فيما خالفك وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، فإن كنت حافظا إذا ولّوك، حذرا إذا قربوك، أمينا إذا ائتمنوك، تعلّمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدّبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكر لهم ولا تكلّفهم الشكر، ذليلا إن صرموك، راضيا إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كلّ البعد والحذر منهم كلّ الحذر. وإن وجدت عن السلطان وصحبته غنى فاستغن به فإنه من يخدم السلطان بحقّه يحل بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومن يخدمه بغير حقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة» . وقال: «إذا صحبت السلطان فعليك بطول الملازمة في غير طول

المعاتبة، وإذا نزلت منه منزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق ولا تكثرنّ له في الدعاء إلا أن تكلمه على رؤوس الناس ولا يكوننّ طلبك ما عنده بالمسألة ولا تستبطئنّه إن أبطأ. أطلبه بالاستحقاق ولا تخبرنّه أنّ لك عليه حقا وأنك تعتدّ عليه ببلاء. وإن استطعت ألا ينسى حقّك وبلاءك بتجديد النّصح والاجتهاد فافعل. ولا تعطينّه المجهود كله في أوّل صحبتك له فلا تجد موضعا للمزيد ولكن دع للمزيد موضعا. وإذا سأل غيرك فلا تكن المجيب. واعلم أن استلابك للكلام خفّة بك واستخفاف منك بالسائل والمسؤول. فما أنت قائل إن قال لك السائل: ما إياك سألت، وقال لك المسؤول: أجب أيها المعجب بنفسه المستخفّ بسلطانه؟» . وقال: «مثل صاحب السلطان مثل راكب الأسد يهابه الناس وهو لمركبه أهيب» . وقال عبد الملك بن صالح لمؤدّب ولده بعد أن اختصّه لمجالسته ومحادثته: «كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام فإنهم قالوا: إذا أعجبك الكلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم. يا عبد الرحمن، لا تساعدني على ما يقبّح ولا تردّنّ عليّ الخطأ في مجلسي ولا تكلّفني جواب التشميت والتهنئة ولا جواب السؤال والتعزية ودع عنك كيف أصبح الأمير وأمسى. وكلّمني بقدر ما استنطقتك واجعل بدل التقريظ لي حسن الاستماع مني. واعلم أن صواب الاستماع أقل من صواب القول. وإذا سمعتني أتحدّث فأرني فهمك في طرفك وتوقّفك ولا تجهد نفسك في تطرية صوابي ولا تستدع الزيادة من كلامي بما تظهر من استحسان ما يكون مني، فمن أسوأ حالا ممن يستكدّ الملوك بالباطل فيدلّ على تهاونه، وما ظنك بالملك وقد أحلك محلّ المعجب بما تسمع منه وقد أحللته محل من لا يسمع

منه؟ وأقل من هذا يحبط إحسانك ويسقط حقّ حرمة إن كانت لك. إني جعلتك مؤدّبا بعد أن كنت معلّما وجعلتك جليسا مقرّبا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا. ومتى لم يعرف نقصان ما خرجت منه لم تعرف رجحان ما دخلت فيه، ومن لم يعرف سوء ما يولى لم يرعف حسن ما يبلى» . دخل أبو مسلم على أبي العباس وعنده أبو جعفر فسلّم على أبي العباس فقال له: يا أبا مسلم، وهذا أبو جعفر! فقال: يا أمير المؤمنين، هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك. قال الفضل بن الربيع: «مسأله الملوك عن أحوالهم من تحيات النّوكى «1» ، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير، فقل: صبّح الله الأمير بالكرامة. وإذا أردت أن تقول: كيف يجد الأمير نفسه، فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة، فإن المسألة توجب الجواب فإن لم يجبك اشتدّ عليك وإن أجابك اشتدّ عليه» . وقرأت في آداب ابن المقفع: «جانب المسخوط عليه والظّنين عند السلطان ولا يجمعنّك وإياه مجلس ولا منزل ولا تظهرنّ له عذرا ولا تثن عليه عند أحد، فإذا رأيته قد بلغ في الانتقام ما ترجو أن يلين بعده فاعمل في رضاه عنك برفق وتلطّف، ولا تسارّ «2» في مجلس السلطان أحدا ولا تومىء إليه بجفنك وعينك فإن السّرار يخيّل إلى كل من رآه من ذي سلطان وغيره أنه المراد به، وإذا كلّمك فاصغ إلى كلامه ولا تشغل طرفك عنه بنظر ولا قلبك بحديث نفس» .

وقرأت في كتاب للهند أنه أهدي لملك الهند ثياب وحلي فدعا بامرأتين له وخيّر أحظاهما عنده بين اللباس والحلية، وكان وزيره حاضرا، فنظرت المرأة إليه كالمستشيرة له فغمزها باللباس تغضينا بعينه، ولحظه الملك، فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة، ومكث الوزير أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقرّ تلك في نفس الملك وليظنّ أنها عادة أو خلقة وصار اللباس للأخرى فلما حضرت الملك الوفاة قال لولده: توصّ بالوزير خيرا فإنه اعتذر من شيء يسير أربعين سنة. قال شبيب بن شيبة: «ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي إذا أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج إلى أن يلتفت، ويكون من ناحية إن التفت لم تستقبله الشمس، وإن سار بين يديه أن يحيد عن سنن الريح التي تؤدّي الغبار إلى وجهه. قال رجل من النّسّاك لآخر: «إن ابتليت بأن تدخل إلى السلطان مع الناس فأخذوا في الثناء فعليك بالدعاء» . قال ثمامة: كان يحيى بن أكثم يماشي المؤمون يوما في بستان موسى والشمس عن يسار يحيى والمأمون في الظل وقد وضع يده على عاتق يحيى وهما يتحادثان حتى بلغ حيث أراد ثم كرّ راجعا في الطريق التي بدأ فيها فقال ليحيى: كانت الشمس عليك لأنك كنت عن يساري وقد نالت منك فكن الآن حيث كنت وأتحوّل أنا إلى حيث كنت. فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين لو أمكنني أن أقيك هول المطلع بنفسي لفعلت. فقال المأمون: لا والله ما بدّ من أن تأخذ الشمس مني مثل ما أخذت منك. فتحوّل يحيى وأخذ من الظل مثل الذي أخذ منه المأمون. وقال المأمون: «أوّل العدل أن يعدل الرجل على بطانته ثم على الذين

يلونهم حتى يبلغ العدل الطبقة السفلى. المدائني قال: قال الأحنف: «لا تنقبضوا عن السلطان ولا تهالكوا عليه فإنه من أشرف للسلطان أذراه ومن تضرّع له أحظاه» . حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدثني محمد بن عمرو الرومي قال: حدّثنا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع قال: قال حذيفة بن اليمان: «ما مشى قوم قطّ إلى سلطان الله في الأرض ليذلّوه إلا أذلّهم الله قبل أن يموتوا» . وفي أخبار خالد بن صفوان أنه قال: دخلت على هشام بن عبد الملك فاستدناني حتى كنت أقرب الناس منه فتنفّس ثم قال: يا خالد، لربّ خالد قعد مقعدك هذا أشهى إليّ حديثا منك فعلمت. أنه يعني خالد بن عبد الله. فقلت: يا أمير المؤمنين، أفلا تعيده؟ فقال: إن خالدا أدلّ فأملّ وأوجف فأعجف ولم يدع لراجع مرجعا، على أنه ما سألني حاجة. فقلت: يا أمير المؤمنين، ذاك أحرى، فقال: هيهات [طويل] إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل حدّثنا الفضل بن محمد بن منصور بمعنى هذا الحديث، وببعضه نهيك: اعتلّ يحيى بن خالد «1» فبعث إلى منكة «2» الهندي فقال له: ما ترى في

هذه العلة؟ فقال منكة: داؤك كبير ودواؤه يسير وأيسر منه الشكر، وكان متفننا، فقال له يحيى: ربما ثقل على السمع خطرة الحقّ به، فإذا كان ذلك كانت الهجرة له ألزم من المفاوضة فيه. قال منكة: صدقت، ولكني أرى في الطوالع أثرا والأمد فيه قريب وأنت قسيم في المعرفة وقد نبّهت، وربما كانت صورة الحركة للكوكب عقيمة ليست بذات نتاج ولكنّ الأخذ بالحزم أوفر حظ الطالبين. قال يحيى: للأمور منصرف إلى العواقب وما حتم لا بدّ من أن يقع، والمنعة بمسالمة الأيام نهزة فاقصد لما دعوتك له من هذا الأثر الموجود بالمزاج. قال منكة: هي الصفراء مازجتها مائية من البلغم فحدث لها بذلك ما يحدث للهب عند مماسّته رطوبة المادة من الإشتعال فخذ ماء رمّانتين فدقّهما بإهليلجة «1» سوداء تنهضك مجلسا أو مجلسين وتسكّن ذلك التوقّد الذي تجد «2» إن شاء الله. فلما كان من حديثهم الذي كان، تلّطف منكة حتى دخل على يحيى في الحبس فوجده جالسا على لبد «3» ووجد الفضل بين يديه يمهن أي يخدم فاستعبر منكة وقال: قد كنت ناديت لو أعرت الإجابة. قال له يحيى: أتراك علمت من ذلك شيئا جهلته؟ كلا ولكنه كان الرجاء للسلامة بالبراءة من الذنب أغلب من الشّفق وكان مزايلة القدر الخطير عبئا قلّما تنهض به الهمة. وبعد فقد كانت نعم أرجو أن يكون أوّلها شكرا وآخرها أجرا. فما تقول في هذا الداء؟ قال له منكة: ما أرى له دواء أنجع من الصبر، ولو كان يفدى بمال أو مفارقة عضو كان ذلك مما يجب لك. قال يحيى: قد شكرت لك ما ذكرت فإن أمكنك تعهّدنا فافعل. قال منكة: لو أمكنني تخليف الروح عندك ما بخلت بذلك، فإنما كانت الأيام تحسن لي بسلامتك. قال الفضل:

كان يحيى يقول: دخلنا في الدنيا دخولا أخرجنا منها. وقرأت في كتاب للهند: «إنما مثل السلطان في قلة وفائه للأصحاب وسخاء نفسه عمن فقد منهم مثل البغيّ والمكتّب «1» ، كلما ذهب واحد جاء آخر» . والعرب تقول: «السلطان ذو عدوان «2» وذو بدوان وذو تدرإ» يريدون أنه سريع الإنصراف كثير البدوات هجوم على الأمور. قال معاذ بن مسلم: رأيت أبا جعفر وأبا مسلم دخلا الكعبة فنزع أبو جعفر نعله فلما أراد الخروج قال: يا عبد الرحمن، هات نعلي. فجاء بها، فقال: يا معاذ ضعها في رجلي. فألبسته إياها فحقد ذلك أبو مسلم، ووجّه أبو جعفر يقطين «3» بن موسى إلى أبي مسلم لإحصاء الأموال فقال أبو مسلم: أفعلها ابن سلامة الفاعلة؟ لا يكنّي. فقال يقطين. عجّلت أيها الأمير، قال: وكيف؟ قال: أمرني أن أحصي الأموال ثم أسلّمها إليك لتعمل فيها برأيك. ثم قدم يقطين على المنصور فأخبره. فلما قدم أبو مسلم المدائن في اليوم الذي قتل فيه جعل يضرب بالسّوط معرفة برذونه «4» ويقول بالفارسية كلاما معناه: ما تغني المعرفة إذا لم يقدر على دفع المحتوم. ثم قال: جارّة ذيلها، تدعو يا ويلها، بدجلة أو حولها، كأنا بعد ساعة، قد صرنا في دجلة.

قال المنصور: «ثلاث كنّ في صدري شفى الله منها: كتاب أبي مسلم إليّ وأنا خليفة: عافانا الله وإياك من السوء، ودخول رسوله علينا وقوله: أيّكم ابن الحارثيّة؟. وضرب سليمان بن حبيب ظهري بالسياط» . قال المنصور لسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم؟ فقال سلم: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فقال حسبك يا أبا أميّة. قال أبو دلامة «1» : [طويل] أبا مسلم ما غيّر الله نعمة ... على عبده حتى يغيّرها العبد أفي دولة المهديّ حاولت غدرة ... ألا إنّ أهل الغدر آباؤك الكرد أبا مسلم خوّفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوّفتني الأسد الورد» قال مروان «3» بن محمد لعبد الحميد حين أيقن بزوال ملكه: «قد احتجت إلى أن تصير مع عدوّي وتظهر الغدر بي، فإنّ إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك تدعوهم إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز عن حفظ حرمتي بعد وفاتي» فقال عبد الحميد: إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي وما عندي إلا الصبر حتى يفتح الله لك أو أقتل معك. وقال: [طويل]

المشاورة والرأي

أسرّ وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره المشاورة والرأي حدّثنا الزّياديّ قال: حدثنا حماد بن زيد عن هشام عن الحسن قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستشير حتى المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به» . وقرأت في التاج أن بعض ملوك العجم استشار وزراءه، فقال أحدهم: «لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحدا إلا خاليا به، فإنه أموت للسر وأحزم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض، فإن إفشاء السرّ إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى آثنين، وإفشاءه إلى ثلاث كإفشائه إلى العامّة لأن الواحد رهن بما أفشي إليه والثاني يطلق عنه ذلك الرهن والثالث علاوة فيه، وإذا كان سر الرجل عند واحد كان أحرى ألا يظهره رهبة منه ورغبة إليه، وإذا كان عند اثنين دخلت على الملك الشبهة واتسعت على الرجلين المعاريض، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئا بجناية مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له عن الآخر ولا حجة معه» . وقرأت في كتاب للهند أن ملكا استشار وزراء له، فقال أحدهم: «الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بموادّه من الأنهار، وينال بالحزم والرأي ما لا يناله بالقوّة والجنود، وللأسرار منازل: منها ما يدخل الرهط فيه، ومنها ما يستعان فيه بقوم، ومنها ما يستغنى فيه بواحد. وفي تحصين السر الظّفر بالحاجة والسلامة من الخلل. والمستشير وإن كان أفضل رأيا من المشير، فإنه يزداد برأيه رأيا كما تزداد النار بالسّليط ضوءا. وإذا كان

الملك محصّنا لسره بعيدا من أن يعرف ما في نفسه متخيّرا للوزراء مهيبا في أنفس العامة كافيا بحسن البلاء لا يخافه البريء ولا يأمنه المريب مقدّرا لما يفيد وينفق، كان خليقا لبقاء ملكه. ولا يصلح لسرّنا هذا إلا لسانان وأربع آذان. ثم خلا به» . قال أبو محمد: كتبت إلى بعض السلاطين كتابا وفي فصل منه: «لم يزل حزمة الرجال يستحلون مرارة قول النصحاء ويستهدون العيوب ويستثير صواب الرأي من كلّ حتى الأمة الوكعاء، ومن احتاج إلى إقامة دليل على ما يدّعيه من مودّته ونقاء طويّته فقد أغناني الله عن ذلك بما أوجبه الاضطرار إذ كنت أرجو بدوام نعمتك وارتفاع درجتك وانبساط جاهك ويدك زيادة الحال» . وفي فصل آخر: «وقد تحملت في هذا الكتاب بعض العتب وخالفت ما أعلم إذ عرضت بالرأي ولم أستشر وأحللت نفسي محل الخواصّ ولم أحلّ ونزعت بي النفس، حين جاشت وضاقت بما تسمع، عن طريق الصواب لها إلى طريق الصواب لك، وحين رأيت لسان عدوّك منبسطا بما يدّعيه عليك وسهامه نافذة فيك، ورأيت وليّك معكوما عن الاحتجاج إذ لا يجد العذر ورأيت عوامّ الناس يخوضون بضروب الأقاويل في أمرك، ولا شيء أضرّ على السلطان في حال ولا أنفع في حال منهم. وبما يجريه الله على ألسنتهم تسير الركبان وتبقى الأخبار ويخلد الذكر على الدهر وتشرف الأعقاب، وظاهر الخبر عندهم أعدل من شهادة العدول الثقات» . وفي فصل منه: «وسائس الناس ومدبر أمورهم يحتاج إلى سعة الصدر واستشعار الصبر واحتمال سوء أدب العامّة وإفهام الجاهل وإرضاء المحكوم عليه والممنوع مما يسأل بتعريفه من أين منع، والناس لا يجمعون على الرضا إذا جمع بهم كل أسباب الرضا فكيف إذا منعوا بعضها، ولا يعذرون بالعذر

الواضح فكيف بالعذر الملتبس، وأخوك من صدقك وارتمض لك لا من تابعك على هواك ثم غاب عنك بغير ما أحضرك» . قال زياد لرجل يشاوره: «لكل مستشير ثقة ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدعت بهم خصلتان: إضاعة السر، وإخراج النصيحة. وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثواب الله، أو رجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون به حسبه، وقد عجمتهما لك» . وكتب بعض الكتاب: «إعلم أن الناصح لك المشفق عليك من طالع لك ما وراء العواقب برؤيته ونظره، ومثّل لك الأحوال المخوفة عليك، وخلط لك الوعر بالسهل من كلامه ومشورته ليكون خوفك كفئا لرجائك وشكرك إزاء النعمة عليك. وأن الغاشّ لك الحاطب عليك من مدّ لك في الاغترار ووطّأ لك مهاد الظلم وجرى معك في عنانك منقادا لهواك» . وفي فصل: «إني وإن كنت ظنينا عندك في هذه الحال ففي تدبرك صفحات هذه المشورة ما دلك على أن مخرجها عن صدق وإخلاص» . إبراهيم بن المنذر قال: استشار زياد بن عبيد الله الحارثي عبيد الله بن عمر في أخيه أبي بكر أن يولّيه القضاء، فأشار عليه به، فبعث إلى أبي بكر فامتنع عليه، فبعث زياد إلى عبيد الله يستعين به على أبي بكر، فقال أبو بكر لعبيد الله: أنشدك بالله أترى لي أن ألي القضاء؟ قال: اللهم لا. قال زياد: سبحان الله! استشرتك فأشرت عليّ به ثم أسمعك تنهاه! قال: أيها الأمير، استشرتني فاجتهدت لك رأيي ونصحتك، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته. كان نصر بن مالك على شرط أبي مسلم، فلما جاءه إذن أبي جعفر في القدوم عليه استشاره فنهاه عن ذلك وقال: لا آمنه عليك. قال له أبو جعفر لما

صار اليه: إستشارك أبو مسلم في القدوم عليّ فنهيته؟ قال نعم: قال وكيف ذاك؟ قال: سمعت أخاك إبراهيم الإمام يحدّث عن أبيه محمد بن عليّ قال: «لا يزال الرجل يزاد في رأيه ما نصح لمن استشاره» وكنت له كذلك وأنا اليوم لك كما كنت له. قال معاوية: «لقد كنت ألقى الرجل من العرب أعلم أن في قلبه عليّ ضغنا فأستشيره، فيثير إليّ منه بقدر ما يجده في نفسه فلا يزال يوسعني شتما وأوسعه حلما حتى يرجع صديقا أستعين به فيعينني وأستنجده فينجدني» . وقرأت في كتاب إبرويز إلى ابنه شيرويه وهو في حبسه: «عليك بالمشاورة فإنك واجد في الرجال من ينضج لك الكيّ ويحسم عنك الداء ويخرج لك المستكنّ ولا يدع لك في عدوّك فرصة إلا انتهزها ولا لعدوّك فيك فرصة إلا حصّنها، ولا يمنعك شدّة رأيك في ظنك ولا علوّ مكانك في نفسك من أن تجمع إلى رأيك رأي غيرك فإن أحمدت اجتنيت وإن أذممت نفيت، فإن في ذلك خصالا: منها أنه إن وافق رأيك ازداد رأيك شدّة عندك، وإن خالف رأيك عرضته على نظرك، فإن رأيته معتليا لما رأيت قبلت، وإن رأيته متضعا عنه استغنيت، ومنها أنه يجدّد لك النصيحة ممن شاورت وإن أخطأ لك مودّته وإن قصّر» . وفي كتاب للهند: «من التمس من الإخوان الرخصة عند المشورة ومن الأطباء عند المرض ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ الرأي وازداد مرضا وحمل الوزر» . وفي آداب ابن المقفع: «لا يقذفنّ في روعك «1» أنك إن استشرت

الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فيقطعك ذاك عن المشاورة، فإنك لا تريد الرأي للفخر به ولكن للانتفاع به. ولو أنك أردت الذّكر كان أحسن الذكر عند الألبّاء أن يقال: لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوانه» . قال عمر بن الخطاب: «الرأي الفرد كالخيط السّحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار «1» لا يكاد ينتقض» . وقال أشجع «2» : [بسيط] رأي سرى وعيون الناس هاجعة ... ما أخّر الحزم رأي قدّم الحذرا كتب الحجاج إلى المهلّب يستعجله في حرب الأزارقة، فكتب إليه المهلب: «إنّ من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره» . وقيل لعبد الله بن وهب الراسيّ يوم عقدت له الخوارج: تكلم. فقال: ما أنا والرأي الفطير والكلام القضيب. وقال أيضا: خمير الرأي خير من فطيره، وربّ شيء غابّه خير من طريّه، وتأخيره خير من تقديمه. وقيل لآخر: تكلم. فقال: ما أشتهي الخبز إلا بائتا. كان ابن هبيرة يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من صحبة من غايته خاصة نفسه والانحطاط في هوى مستشيره، وممن لا يلتمس خالص مودّتك إلا بالتأتّي لموافقة شهوتك، ومن يساعدك على سرور ساعتك ولا يفكر في حوادث غدك» . وكان يقال: «من أعطي أربعا لم يمنع أربعا: من أعطي الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة» . وكان يقال: لا تستشر معلّما ولا راعي الغنم ولا كثير القعود مع النساء. وكان يقال:

لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها ولا جائعا ولا حاقن بول وقالوا «لا رأي لحاقن ولا لحازق» «1» وهو الذي ضغطه الخفّ «ولا لحاقب» وهو الذي يجد رزّا في بطنه. وقالوا أيضا: لا تشاور من لا دقيق عنده. وكان بعض ملوك العجم إذا شاور مرازبته «2» فقصّروا في الرأي دعا الموكّلين بأرزاقهم فعاقبهم، فيقولون: تخطىء مرازبتك وتعاقبنا! فيقول نعم، إنهم لم يخطئوا إلا لتعلّق قلوبهم بأرزاقهم وإذا اهتموا أخطأوا. وكان يقال: إنّ النفس إذا أحرزت قوتها ورزقها اطمأنّت. وقال كعب: لا تستشيروا الحاكة فإن الله سلبهم عقولهم ونزع البركة من كسبهم. قال الشاعر: [طويل] وأنفع من شاورت من كان ناصحا ... شفيقا فأبصر بعدها من تشاور وليس بشافيك الشفيق ورأيه ... عزيب «3» ولا ذوا الرأي والصّدر واغر ويقال: علامة الرشد أن تكون النفس مشتاقة. وقال آخر [طويل] إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم ولا تحسب الشّورى عليك غضاضة ... فإنّ الخوافي «4» رافدات القوادم

وخلّ الهوينا للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإنّ الحزم ليس بنائم وأدن من القربى المقرّب نفسه ... ولا تشهد الشّورى امرا غير كاتم وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم فإنك لن تستطرد الهمّ بالمنى ... ولن تبلغ العليا بغير المكارم قال أعرابي: ما غبنت قطّ حتى يغبن قومي. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. وقيل لرجل من بني عبس: ما أكثر صوابكم! فقال: نحن ألف رجل وفينا حازم واحد ونحن نطيعه، فكأنا ألف حازم. ويقال: «ليس بين الملك وبين أن يملك رعيته أو تملكه إلا حزم أو توان» . وقال القطامي «1» في معصية الناصح: [وافر] ومعصية الشفيق عليك مما ... يزيدك مرّة منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتباعا كذاك وما رأيت الناس إلا ... إلى ما جرّ غاويهم سراعا تراهم يغمزون من استركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا وقال آخر، أنشدنيه الرّياشي: [طويل] ومولى عصاني واستبد برأيه ... كما لم يطع بالبقّتين قصير «2»

فلمّا رأى أن غبّ أمري وأمره ... وولّت بأعجاز الأمور صدور تمنّى نئيشا «1» أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور وقال سبيع لأهل اليمامة «يا بني حنيفة، بعدا كما بعدت عاد وثمود «2» ، أما والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه كأني أسمع جرسه وأبصر غيبه ولكنّكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندم، وأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق ومن تهمتي الندامة، وأصبح في يدي من هلاككم البكاء ومن ذلّكم الجزع، وأصبح ما فات غير مردود وما بقي غير مأمون. وإني لمّا رأيتكم تتّهمون النصيح وتسفّهون الحليم استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم الله التوبة ولا أخذكم على غرّة ولقد أمهلكم حتى ملّ الواعظ وهن الموعوظ وكنتم كأنما يعنى بما أنتم فيه غيركم» . وأشار رجل على صديق له برأي، فقال له: «قد قلت ما يقول الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمرّه وحزنه «3» بسهله ويحرّك الإشفاق منه ما هو

ساكن من غيره؛ وقد وعيت النصح فيه وقبلته إذ كان مصدره من عند من لا يشكّ في مودته وصافي غيبه، وما زلت بحمد الله إلى كل خير طريقا منهجا ومهيعا «1» واضحا» . وكتب عثمان إلى عليّ حين أحيط به: «أما بعد، فإنه قد جاوز الماء الزّبى وبلغ الحزام الطّبيين «2» وقد تجاوز الأمر بي قدره: [طويل] فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولمّا أمزّق» وقال أوس «3» بن حجر: [طويل] وقد أعتب ابن العم إن كنت ظالما ... وأغفر عنه الجهل إن كان أجهلا وإن قال لي ماذا ترى؟ يستشيرني ... يجدني ابن عمّ مخلط الأمر مزيلا «4» أقيم بدار الحزم ما دام حزمها ... وأحري إذا حالت بأن أتحوّلا وأستبدل الأمر القويّ بغيره ... إذا عقد مأفون «5» الرجال تحلّلا وكان يقال: «أناة في عواقبها درك، خير من معاجلة في عواقبها فوت» . وأنشدني الرياشي: [بسيط]

الإصابة بالظن والرأي

وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا «1» وكان يقال: «روّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم» . الإصابة بالظن والرأي كان ابن الزبير يقول: «لا عاش بخير من لم ير برأيه ما لم ير بعينه» . وسئل بعض الحكماء: ما العقل؟ فقال: «الإصابة بالظن ومعرفة ما لم يكن بما كان» . وكان يقال: «كفى مخبرا عما مضى ما بقي، وكفى عبرا لأولي الألباب ما جرّبوا» . وكان يقال: «كل شيء محتاج إلى العقل، والعقل محتاج إلى التجارب» . ويقال: «من لم ينفعك ظنه لم ينفعك يقينه» . وقال أوس بن حجر: [منسرح] الألمعيّ الذي يظنّ بك الظ ... نّ كأن قد رأى وقد سمعا وقال آخر: [طويل] وأبغي صواب الظنّ أعلم أنه ... إذا طاش ظنّ المرء طاشت مقادره وقال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في عبد الله بن عباس: «إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق» . ويقال: «ظنّ الرجل قطعة من عقله» . ويقال: «الظنون مفاتيح اليقين» . وقال بعض الكتاب: [وافر] أصونك أن أظنّ عليك ظنّا ... لأنّ الظنّ مفتاح اليقين

وقال الكميت «1» : [بسيط] مثل التدبّر في الأمر ائتنافكه ... والمرء يعجز في الإقدام لا الحيل «2» وقال آخر: [طويل] وكنت متى تهزز لخطب تغشّه ... ضرائب أمضى من رقاق المضارب «3» تجلّلته بالرأي حتى أريته ... به ملء عينيه مكان العواقب وقال آخر يصف عاقلا: [طويل] بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يرى بصواب الرأي ما هو واقع وقال آخر في مثله: [طويل] عليم بأعقاب الأمور برأيه ... كأنّ له في اليوم عينا على الغد وقال آخر يصف عاقلا: [طويل] بصير بأعقاب الأمور كأنّما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه وقال جثّامة بن قيس «4» يهجو قوما: [بسيط] أنتم أناس عظام لا قلوب لكم ... لا تعلمون أجاء الرّشد أم غابا؟

وتبصرون رؤوس الأمر مقبلة ... ولا ترون وقد ولّين أذنابا وقلّما يفجأ المكروه صاحبه ... إذا رأى لوجوه الشر أسبابا وقال آخر: [طويل] فلا يحذرون الشرّ حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبّرا «1» ويقال: «ظن العاقل كهانة» . وفي كتاب للهند: «الناس حازمان وعاجز، فأحد الحازمين الذي إذا نزل به البلاء لم يبطر وتلقّاه بحيلته ورأيه حتى يخرج منه، وأحزم منه العارف بالأمر إذا أقبل فيدفعه قبل وقوعه، والعاجز في تردّد وتثنّ حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا» . وقال الشاعر: [طويل] وإني لأرجو الله حتى كأنّني ... أرى بجميل الظن ما الله صانع وقال آخر: [وافر] وغرّة مرّة من فعل غرّ «2» ... وغرّة مرّتين فعال موق فلا تفرح بأمر قد تدنّى ... ولا تأيس من الأمر السّحيق فإن القرب يبعد بعد قرب ... ويدنو البعد بالقدر المسوق ومن لم يتق الضّحضاح «3» زلّت ... به قدماه في البحر العميق

اتباع الهوى

وما اكتسب المحامد طالبوها ... بمثل البشر والوجه الطّليق وقال مروان بن الحكم لحبيش بن دلجة: أظنك أحمق. قال: «أحمق ما يكون الشيخ إذا عمل بظنّه» . ونقش رجل على خاتمه: «الخاتم خير من الظن» . ومثله: «طينة خير من ظنّة» . اتباع الهوى كان يقال: الهوى شريك العمى. وقال عامر بن الظّرب: الرأي نائم والهوى يقظان، ولذلك يغلب الرأي الهوى. وقال ابن عباس: «الهوى إله معبود» وقرأ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «1» . وقال هشام بن عبد الملك، ولم يقل غيره: [طويل] إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال وقال بزرجمهر «2» : «إذا اشتبه عليك أمران فلم تدر في أيهما الصواب، فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه» . كان عمرو بن العاص صاحب عمارة بن الوليد إلى بلاد الحبشة ومع عمرو امرأته فوقعت في نفس عمارة فدفع عمرا في البحر فتعلق بالسفينة وخرج، فلما ورد بلاد الحبشة سعى عمرو بعمارة إلى النّجاشيّ وأخبره أنه يخالف إلى بعض نسائه فدعا النّجاشي بالسواحر فنفخن في إحليله فهام مع الوحش، وقال عمرو في ذلك: [طويل] تعلّم عمارا أنّ من شرّ شيمة ... لمثلك أن يدعى ابن عمّ له ابنما

وإن كنت ذابردين أحوى مرجّلا ... فلست براء لابن عمك محرما إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ... ولم يعص قلبا غاويا حيث يمّما قضى وطرا «1» منه يسيرا وأصبحت ... إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما وقال حاتم طيّ «2» في مثله: [طويل] وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذمّ أجمعا وقال آخر: [طويل] جار الجنيد عليّ محتكما ... جهلا ولست بموضع الظّلم «3» أكل الهوى حججي وربّ هوى ... مما سيأكل حجّة الخصم وقال أعرابي: «الهوى هوان «4» ، ولكن غلط باسمه» . وقال الزبير بن عبد المطّلب «5» : [وافر] وأجتنب المقاذع حيث كانت ... وأترك ما هويت لما خشيت وقال البريق «6» الهذلي: [وافر] أبن لي ما ترى والمرء تأبى ... عزيمته ويغلبه هواه فيعمى ما يرى فيه عليه ... ويحسب ما يراه لا يراه

السر وكتمانه وإعلانه

وكان يقال: «أخوك من صدقك وأتاك من جهة عقلك لا من جهة هواك» . السرّ وكتمانه وإعلانه حدّثنى أحمد بن الخليل قال: حدثنا محمد بن الحصيب قال: حدّثني أوس بن عبد الله بن بريدة عن أخيه سهل عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على الحوائج بالكتمان فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» . وكانت الحكماء تقول: «سرّك من دمك» . والعرب تقول: «من ارتاد لسره موضعا فقد أذاعه» . حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب عن عمّه الأصمعي قال: أخبرني بعض أصحابنا قال: دخل ابن أبي محجن «1» الثقفي على معاوية، فقال له معاوية: أبوك الذي يقول: [طويل] إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمة ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني ... أخاف وراء الموت أن لا أذوقها فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره. فقال معاوية: وما ذاك؟ قال قوله: [بسيط] لا تسألي القوم مالي وما حسبي ... وسائلي القوم ما حزمي وما خلقي القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرّعديدة الفرق «2» أعطي السّنان غداة الرّوع حصّته ... وعامل الرّمح أرويه من العلق «3» قد أركب الهول مسدولا عساكره ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق

وأنشدني للصّلتان العبدي «1» : [متقارب] وسرّك ما كان عند امرىء ... وسرّ الثلاثة غير الخفي وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتمثّل بهذين البيتين: [متقارب] ولا تفش سرّك إلّا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا فإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا وقال الشاعر: [كامل] ومراقبين تكاتما بهواهما ... جعلا القلوب لما تجنّ قبورا يتلاحظان تلاحظا فكأنما ... يتناسخان من الجفون سطورا «2» وقال مسكين الدّارمي «3» : [طويل] أواخي رجالا لست اطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أني جماعها يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم ... إلى صخرة أعيا الرّجال انصداعها وقال آخر: [بسيط] ولو قدرت على نسيان ما اشتملت ... مني الضّلوع من الأسرار والخبر

لكنت أوّل من ينسى سرائره ... إذ كنت من نشرها يوما على خطر أسرّ رجل إلى صديق له حديثا فلما استقصاه قال له: أفهمت؟ قال: لا، بل نسيت. قيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: «ما قلبي له إلا قبر» . وقيل لمزيد: أيّ شيء تحت حضنك؟ فقال: يا أحمق، لم خبّأته. وقال الشاعر: [وافر] إذا ما ضاق صدرك عن حديث ... فأفشته الرجال فمن تلوم؟ إذا عاتبت من أفشى حديثي ... وسرّي عنده فأنا الظّلوم وإني حين أسأم حمل سرّي ... وقد ضمّنته صدري، سؤوم قيل لرجل: كيف كتمانك للسر؟ قال: «أجحد المخبر وأحلف للمستخبر» . وكان يقال: «من وهي الأمر إعلانه قبل إحكامه» . وقال الشاعر: [طويل] إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شرّ مسند وقال عمرو بن العاص: «ما استودعت رجلا سرّا فأفشاه فلمته، لأني كنت أضيق صدرا حين استودعته» . وقال: [طويل] إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها ... فسرّك عند الناس أفشى وأضيع وكان يقال: «من ضاق قلبه اتسع لسانه» . وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إن أمير المؤمنين أسرّ إليّ حديثا ولا أراه يطوى عنك ما يبسطه لغيرك، أفلا أحدّثك به؟ قال: لا يا بنيّ «إنه من كتم سرّه كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، فلا تكوننّ مملوكا بعد أن كنت مالكا» قال: قبلت: وإنّ هذا ليجري بين الرجل وأبيه؟ قال: لا، ولكني

أكره أن تذلّل لسانك بأحاديث السر. فحدّثت به معاوية فقال: يا وليد، أعتقك أخي من رقّ الخطأ. وفي كتب العجم أن بعض ملوك فارس قال: «صونوا أسراركم فإنه لا سرّ لكم إلا في ثلاثة مواضع: مكيدة تحاول أو منزلة تزاول أو سريرة مدخولة تكتم، ولا حاجة بأحد منكم في ظهور شيء منها عنه» . وكان يقال: «ما كنت كاتمه من عدّوك فلا تظهر عليه صديقك» . وقال جميل بن معمر: [طويل] أموت وألقى الله يا بثن «1» لم أبح ... بسّرك والمستخبرون كثير وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي: [طويل] ولما تلاقينا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي جذوك النعل بالنعل فقالت وأرخت جانب السّتر إنما ... معي فتكلم غير ذي رقبة أهلي «2» فقلت لها ما بي لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي يريد أنه ليس يحمله أحد مثلي في صيانته وستره، أي فلا أبديه لأحد. وقال زهير «3» : [كامل] السّتر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر وقال آخر: [طويل] فسرّي كإعلاني وتلك خليقتي ... وظلمة ليلي مثل ضوء نهاريا وقال آخر لأخ له وحدّثه بحديث: إجعل هذا في وعاء غير سرب.

والسّرب السائل. وكان يقال: «للقائل على السامع جمع البال والكتمان وبسط العذر» . وكان يقال: «الرعاية خير من الاسترعاء» . أتى رجل عبيد الله بن زياد فأخبره أن عبد الله بن همّام السّلولي «1» سبّه، فأرسل اليه فأتاه فقال: يا ابن همّام، إن هذا يزعم أنك قلت: كذا وكذا. فقال ابن همّام: [طويل] فأنت امرؤ إمّا ائتمنتك خاليا ... فخنت، وإمّا قلت قولا بلا علم وإنك في الأمر الذي قد أتيته ... لفي منزل بين الخيانة والإثم وقال آخر: [خفيف] إخفض الصّوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل الكلام وقال بعض الأعراب: [طويل] ولا أكتم الأسرار لكن أنمّها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي وإنّ قليل العقل من بات ليله ... تقلّبه الأسرار جنبا إلى جنب وقال أبو الشّيص «2» : [بسيط] ولا تأمننّ على سرّي وسرّكم ... غيري وغيرك أو طيّ القراطيس أو طائر «3» سأحلّيه وأنعته ... مازال صاحب تنقير وتأسيس

الكتاب والكتابة

سود براثنه ميل ذوائبه ... صفر حمالقه في الحسن مغموس قد كان همّ سليمان ليذبحه ... لولا سعايته يوما ببلقيس «1» وقال أيضا: [كامل] أفضى أليك بسرّه قلم ... لو كان يعرفه بكى قلمه وقال مسلم بن الوليد «2» في الكتاب يأتيك فيه السر: [بسيط] الحزم تخريقه إن كنت ذا حذر ... وإنما الحزم سوء الظنّ بالناس إذا أتاك وقد أدّى أمانته ... فاجعل صيانته في بطن أرماس «3» وقال آخر: [طويل] سأكتمه سرّي وأحفظ سرّه ... ولا غرّني أني عليه كريم حليم فينسى أو جهول يشيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليم الكتّاب والكتابة حدّثنا إسحاق بن راهويه عن وهب بن جرير عن أبيه عن يونس بن عبيد

عن الحسن عن عمرو بن ثعلب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أشراط الساعة أن يفيض المال ويظهر القلم وتفشو التجار» قال عمرو: إن كنا لنلتمس في الحواء «1» العظيم الكاتب، ويبيع الرجل البيع فيقول: حتى أستأمن تاجر بني فلان. حدّثنا أحمد بن الخليل عن إسماعيل بن أبان عن عنبسة بن عبد الرحمن القرشيّ عن محمد بن زاذان عن أمّ سعد عن زيد بن ثابت قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي في بعض حوائجه فقال: «ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملي به» . وحدّثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب قال: «كان إدريس النبيّ عليه السلام أوّل من خطّ بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبسها، وكانوا من قبله يلبسون الجلود» . حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عياض بن أبي موسى أنّ عمر بن الخطّاب قال لأبي موسى: ادع لي كاتبك ليقرأ لنا صحفا جاءت من الشام. فقال أبو موسى: إنه لا يدخل المسجد: قال عمر: أبه جنابة؟ قال: لا، ولكنّه نصراني. قال: فرفع يده، فضرب فخذه حتى كاد يكسرها ثم قال: ما لك! قاتلك الله! أما سمعت قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «2» ! ألا اتخذت رجلا حنيفيا؟ فقال أبو موسى: له دينه ولي كتابته. فقال عمر: «لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزّهم إذ أذلّهم ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله» .

حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا عيس بن يونس قال: حدّثنا أبو حيّان التّيمي عن أبي زنباع عن أبي الدّهقانة قال: ذكر لعمر بن الخطّاب غلام كاتب حافظ من أهل الحيرة وكان نصرانيا، فقيل له: لو اتخذته كاتبا. فقال: «لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين» . حدّثني أبو حاتم قال: مرامر بن مروة «1» من أهل الأنبار وهو الذي وضع كتابة العربية، ومن الأنبار انتشرت فى الناس. حدّثني أبو سهل عن الطّنافسي عن المنكدر بن محمد عن أبيه محمد ابن المنكدر قال: جاء الزّبير بن العوّام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أصبحت؟ جعلني الله فداك! قال: «ما تركت أعرابيّتك بعد» . قال عبد الملك بن مروان لأخيه عبد العزيز حين وجّهه إلى مصر: «تفقّد كاتبك وحاجبك وجليسك، فإنّ الغائب يخبّره عنك كاتبك، والمتوسّم يعرّفك بحاجبك، والداخل عليك يعرفك بجليسك» . ابن أبي الزّناد عن أبيه قال: كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز فكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب في المظالم فيراجعه، فكتب إليه: «إنه ليخيّل إليّ أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي: أضأن أم ماعز؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت: أذكر أم أنثى؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت: أصغير أم كبير؟ فإذا أتاك كتابي هذا فلا تراجعني في مظلمة» . وكتب أبو جعفر إلى سلم بن قتيبة يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم

وعقر نخلهم. فكتب إليه: بأي ذلك نبدأ أبالنخل أم بالدّور؟ فكتب إليه أبو جعفر: «أما بعد، فإني لو أمرتك بإفساد ثمرهم لكتبت إليّ تستأذن في أيّه تبدأ أبالبرنيّ أم بالشّهريز «1» ؟» وعزله، وولّى محمد بن سليمان. وكان يقول: «للكاتب على الملك ثلاثة، رفع الحجاب عنه، واتّهام الوشاة عليه، وإفشاء السرّ إليه» . كانت العجم تقول: «من لم يكن عالما بإجراء المياه وبحفر فرض الماء والمسارب وردم المهاوي ومجاري الأيام في الزيادة والنقصان واستهلال القمر وأفعاله ووزن الموازين وذرع المثلّث والمربّع والمختلف الزّوايا ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه وحال أدوات الصّنّاع ودقائق الحساب كان ناقصا في حال كتابته» . قال ميمون بن ميمون: «إذا كانت لك إلى كاتب حاجة فليكن رسولك إليه الطمع» . وقال: «إذا آخيت الوزير فلا تخش الأمير» . وفي كتاب للهند: «إذا كان الوزير يساوي الملك في المال والهيبة والطاعة من الناس فليصرعه الملك، وإن لم يفعل فليعلم أنه هو المصروع» . المدائني قال: خلا زياد يوما في أمر ينظر فيه وعنده كاتب له يكتب وابنه عبيد الله، فنعس زياد فقال لعبيد الله: تعهّد هذا لا يكتب شيئا. ونام، فوجد عبيد الله مسّا «2» من البول فكره أن يوقظ أباه وكره أن يخلّي الكاتب فشدّ إبهاميه بخيط وختمه وقام لحاجته.

وقال أبو عبّاد الكاتب: ما جلس أحد قطّ بين يديّ إلا تخيّل إليّ أني جالس بين يديه. وقرأت في التاج أن أبرويز قال لكاتبه: «أكتم السرّ واصدق الحديث واجتهد في النصيحة واحترس بالحذر، فإنّ لك عليّ أن لا أعجل بك حتى أستأني لك ولا أقبل عليك قولا حتى أستيقن ولا أطمع فيك أحدا فيغتالك. واعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطّنّها وفي ظل مملكة فلا تستزيلنّه، وقارب الناس مجاملة عن نفسك وباعد الناس مشايحة «1» من عدوّك واقصدّ إلى الجميل ادّراعا لغدك وتحصّن بالعفاف صونا لمروءتك وتحسّن عندي بما قدرت عليه من حسن ولا تشرعنّ الألسنة فيك ولا تقبّحنّ الأحدوثة عنك وصن نفسك صون الدّرّة الصافية وأخلصها إخلاص الفضّة البيضاء وعاتبها معاتبة الحذر المشفق وحصّنها تحصين المدينة المنيعة. لا تدعنّ أن ترفع إليّ الصغير، فإنه يدل على الكبير ولا تكتمنّ الكبير فإنه ليس شاغلي عن الصغير. هذّب أمورك ثم القني بها واحكم لسانك ثم راجعني به ولا تجترئنّ عليّ فأمتعض ولا تنقبض مني فأتّهم ولا تمرّضنّ ما تلقاني به ولا تخدجنّه. وإذا فكّرت فلا تعجل وإذا كتبت فلا تعذر، ولا تستعيننّ بالفضول فإنها علاوة على الكفاية ولا تقصرنّ عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة ولا تلبسنّ كلاما بكلام ولا تباعدنّ معنى عن معنى. أكرم كتابك عن ثلاث: خضوع يستخفّه، وانتشار يثبّجه، ومعان تقعد به، واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول، وليكن بسطة كتابك على السّوقة كبسطة ملك الملوك على الملوك، ولا يكن ما تملك عظيما وما تقول صغيرا فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك فاجعله عاليا كعلوّه وفائقا كفوقه. واعلم أن جمّاع الكلام كله خصال أربع: سؤالك

الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء فهذه الخلال دعائم المقالات إن التمس لها خامس لم يوجد وإن نقص منها رابع لم تتمّ، فإذا أمرت فاحكم وإذا سألت فاوضح وإذا طلبت فاسجح وإذا أخبرت فحقّق فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بحزامير «1» القول كله فلم يشتبه عليك وارده ولم يعجزك منه صادره. أثبت في دواوينك ما أدخلت واحص فيها ما أخرجت وتيقّظ لما تأخذ وتجرّد لما تعطي ولا يغلبنّك النّسيان عن الإحصاء ولا الأناة عن التقدّم ولا تخرجنّ وزن قيراط في غير حقّ ولا تعظّمنّ إخراج الكثير في الحق، وليكن ذلك كله عن مؤامرتي» . قال رجل لبنيه: «يا بنيّ، تزيّوا بزي الكتاب فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السّوقة» . قال الكسائي: «لقيت أعرابيا فجعلت أسأله عن الحرف بعد الحرف وعن الشيء بعد الشيء أقرنه بغيره فقال: يا لله! ما رأيت رجلا أقدر، على كلمة إلى جنب كلمة أشبه شيء بها وأبعد شيء منها، منك!» . وقال ابن الأعرابي: «رآني أعرابي وأنا أكتب الكلمة بعد الكلمة من ألفاظه فقال: إنك لحتف الكلمة الشرود» . وقال رجل من أهل المدينة: «جلست إلى قوم ببغداد فما رأيت أوزن من أحلامهم ولا أطيش من أقلامهم» . وكتب بعض الكتاب إلى صديق له: «وصل إليّ كتابك فما رأيت كتابا أسهل فنونا ولا أملس متونا ولا أكثر عيونا ولا أحسن مقاطع ومطالع ولا أشدّ

على كل مفصل حزّا منه. أنجزت فيه عدة الرأي وبشرى الفراسة وعاد الظنّ بك يقينا والأمل فيك مبلوغا» . ويقال: «عقول الرجال في أطراف أقلامها» . ويقال: «القلم أحد اللسانين وخفة العيال أحد اليسارين وتعجيل اليأس أحد الظّفرين وإملاك العجين أحد الرّيعين وحسن التقدير أحد الكاسبين والّلبن أحد اللّحمين» . وقد يقال: المرق أحد اللحمين. قيل لبعضهم: إن فلانا لا يكتب، فقال: تلك الزّمانة «1» الخفيّة. وقرأت في بعض كتب العجم أن موبذان موبذ وصف الكتّاب فقال: «كتّاب الملوك عيبتهم المصونة عندهم وآذانهم الواعية وألسنتهم الشاهدة، لأنه ليس أحد أعظم سعادة من وزراء الملوك إذا سعدت الملوك، ولا أقرب هلكة من وزراء الملوك إذا هلكت الملوك، فترفع التهمة عن الوزراء إذا صارت نصائحهم للملوك نصائحهم لأنفسهم، وتعظم الثقة بهم حين صار اجتهادهم للملوك اجتهادهم لأنفسهم فلا يتّهم روح على جسده ولا يتهم جسد على روحه لأن زوال ألفتهما زوال نعمتهما، وأنّ التئام ألفتهما صلاح خاصّتهما» . وقال: [بسيط] لئن ذهبت إلى الحجّاج يقتلني ... إني لأحمق من تخدي به العير «2» مستحقبا «3» صحفا تدمي طوابعها ... وفي الصحائف حيّات مناكير

وقال بعض الشعراء في القلم: [طويل] عجبت لذي سنّين في الماء نبته ... له أثر في كل مصر ومعمر وقال بعض المحدثين في القلم: [متقارب] ضئيل الرّواء كبير الغناء ... من البحر في المنصب الأخضر «1» كمثل أخي العشق في شخصه ... وفي لونه من بني الأصفر «2» يمرّ كهيئة مرّ الشّجا ... ع في دعص محنية أعفر «3» إذا رأسه صحّ لم ينبعث ... وجاز السبيل ولم يبصر وإن مدية صدعت رأسه ... جرى جري لا هائب مقصر «4» يقضّي مآربه مقبلا ... ويحسمها هيئة المدبر تجود بكفّ فتى كفّه ... تسوق الثّراء إلى المعسر وقال حبيب «5» الطائي يصف القلم: [طويل] لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى المفاصل «6»

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل «1» له ريقة طلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل إذا ما امتطى الخمس اللّطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل «2» تراه جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى وسمينا خطبه وهو ناحل وقال محمد «3» بن عبد الملك بن صالح الهاشمي يصف القلم: [طويل] وأسمر طاوي الكشح أخرس ناطق ... له ذملان في بطون المهارق «4» إذا استعجلته الكفّ أمطر خاله ... بلا صوت إرعاد ولا ضوء بارق «5» كأنّ اللآلي والزبرجد نطفه ... ونور الخزامي في بطون الحدائق «6» وقال بعض المحدثين يمدح كاتبا: [كامل] وإذا تألّق في النّديّ كلامه ال ... منظوم خلت لسانه من عضبه «7» وإذا دجت أقلامه ثم انتجت ... برقت مصابيح الدّجى في كتبه

باللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربه حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفّق وقليبها في قلبه «1» كالروض مؤتلف بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه وقال سعيد «2» بن حميد يصف العود: [بسيط] وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدي ضمير سواه في الكلام كما ... يبدي ضمير سواه منطق القلم بعث الطائي إلى الحسن بن وهب بدواة أبنوس «3» وكتب إليه [خفيف] قد بعثنا إليك أمّ المنايا ... والعطايا زنجيّة الأحساب في حشاها من غير حرب حراب ... هي أمضى من مرهفات الحراب وقال ابن أبي كريمة «4» يصف الدواة والقلم: [طويل] ومسودّة الأرجاء قد خضت ماءها ... وروّيت من قعر لها غير منبط «5» خميص «6» الحشا يروى على كل مشرب ... أمينا على سرّ الأمير المسلّط وقال بعض أهل الأدب: إنما قيل: ديوان لموضع الكتبة والحسّاب لأنه

يقال: للكتاب بالفارسية «ديوان» أي شياطين، لحذقهم بالأمور ولطفهم فسمّي موضعهم باسمهم. وقال آخر: إنما قيل لمدير الأمور عن الملك «وزير» من الوزر وهو الحمل يراد أنه يحمل عنه من الأمور مثل الأوزار وهي الأحمال، قال الله عز وجل: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ «1» أي أحمالا من حليهم، ولهذا قيل للإثم: وزر، شبّه بالحمل على الظهر، قال الله تبارك وتعالى: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ «2» . وكان الناس يستحسنون لأبي نواس قوله: [طويل] يا كاتبا، كتب الغداة يسبّني ... من ذا يطيق براعة الكتّاب؟ لم ترض بالإعجام حين سببتني ... حتى شكلت عليه بالإعراب وأردت إفهامي فقد أفهمتني ... وصدقت فيما قلت غير محابي «3» وقال آخر: [سريع] يا كاتبا تنثر أقلامه ... من كفّه درّا على الأسطر وقال عديّ «4» بن الرّقاع: [كامل] صلى الاله على امرىء ودّعته ... وأتمّ نعمته عليه وزادها

ومنه أخذ الكتّاب: وأتمّ نعمته عليك وزاد فيها عندك. وقال حاتم طيء في معنى قولهم: متّ قبلك: [طويل] إذا ما أتى يوم يفرّق بيننا ... يموت فكن أنت الذي تتأخّر وقال جرير في معناه: [بسيط] ردّي فؤادي وكوني لي بمنزلتي ... يا قبل نفسك لاقى نفسي التلف كتب بعض الملوك إلى بعض الكتّاب كتابا دعا له فيه «بأمتع الله بك» ، فكتب إليه ذلك الكاتب «1» : [منسرح] أحلت عما عهدت من أدبك ... أم نلت ملكا فتهت في كتبك؟ أم هل ترى أنّ في التواضع ل ... لإخوان نقصا عليك في حسبك؟ أم كان ما كان منك عن غضب ... فأيّ شيء أدناك من غضبك؟ إنّ جفاء كتاب ذي مقة «2» ... يكتب في صدره: وأمتع بك

وقال الأصمعي «1» في البرامكة: [متقارب] إذا ذكر الشّرك في مجلس ... أنارت وجوه بني برمك وإن تليت عندهم آية ... أتوا بالأحاديث عن مزدك «2» وقال آخر: [مجتث مجزوء] إن الفراغ دعاني ... إلى ابتناء المساجد وإنّ رأيي فيها ... كرأي يحيى بن خالد مرّ عبد الله بن المقفّع ببيت النار، فقال: [كامل]

خيانات العمال

يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل «1» وقال دعبل «2» في أبي عبّاد: [كامل] أولى الأمور بضيعة وفساد ... أمر يدبّره أبو عبّاد حنق على جلسائه بدواته ... فمرمّل ومضمّخ بمداد «3» وكأنه من دير هرقل مفلت ... حرد يجرّ سلاسل الأقياد خيانات العمال حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: ذكر لنا أن امرأة من قريش كان بينها وبين رجل خصومة فأراد أن يخاصمها إلى عمر فأهدت المرأة إلى عمر فخذ جزور ثم خاصمته إليه فوجّه القضاء عليها، فقال: يا أمير المؤمنين، إفصل القضاء بيننا كما يفصل فخذ الجزور «4» . فقضى عليها عمر وقال: إياكم والهدايا. وذكر القصة. قال إسحاق: كان الحجاج استعمل المغيرة بن عبد الله الثقفي على الكوفة فكان يقضي بين الناس، فأهدى إليه رجل سراجا من شبه «5» وبلغ ذلك خصمه فبعث إليه ببغلة. فلما اجتمعا عند المغيرة جعل يحمل على صاحب

السراج وجعل صاحب السراج يقول: إنّ أمري أضوأ من السراج. فلما أكثر عليه قال: ويحك إن البغلة رمحت «1» السراج فكسرته. حدّثنا إسحاق قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة عن الجريري عن أبي بصرة عن الربيع بن زياد الحارثي أنه وفد إلى عمر فأعجبته هيئته ونحوه، فشكا عمر طعاما غليظا يأكله. فقال الربيع: يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بمطعم طيّب وملبس ليّن ومركب وطيء لأنت. فضرب رأسه بجريدة وقال: والله ما أردت بهذا إلا مقاربتي، وإن كنت لأحسب أن فيك خيرا. ألا أخبرك بمثلي ومثل هؤلاء؟ إنما مثلنا كمثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم وقالوا أنفقها علينا. فهل له أن يستأثر عليهم بشيء؟ قال الربيع: لا. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال: لما أتي عمر بتاج كسرى وسواريه جعل يقلّبه بعود في يده ويقول: والله إن الذي أدّى إلينا هذا لأمين، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدّون إليك ما أدّيت إلى الله فإذا رتعت رتعوا. قال: صدقت. حدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعي قال: لما أتي علي عليه السلام بالمال أقعد بين يديه الوزّان والنقّاد فكوّم كومة من ذهب وكومة من فضة وقال: يا حمراء ويا بيضاء إحمرّي وابيضّي وغرّي غيري. وأنشد: [سريع] هذا جناي وخياره فيه ... إذ كلّ جان يده إلى فيه حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن

إسماعيل بن أبي خالد عن عاصم قال: كان عمر بن الخطاب إذا بعث عاملا يشترط عليه أربعا: ألّا يركب البراذين «1» ، ولا يلبس الرقيق، ولا يأكل «2» النّقيء، ولا يتخذ بوّابا. ومر ببناء يبني بحجارة وجصّ فقال: لمن هذا؟ فذكروا عاملا له على البحرين فقال: «أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها» وشاطره ماله. وكان يقول: «لي على كل خائن أمينان: الماء والطين» . حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: حدّثنا قريش بن انس عن سعيد عن قتادة قال: جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى واليه: أن دع لأهل الخراج من أهل الفرات ما يتختمون به الذهب ويلبسون الطيالسة ويركبون البراذين وخذ الفضل. حدّثنا محمد بن عبيد عن هوذة عن عوف عن ابن سيرين وإسحاق عن النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين بمعناه قال: لما قدم أبو هريرة «3» من البحرين قال له عمر: يا عدوّ الله وعدوّ كتابه، أسرقت مال الله؟ قال أبو هريرة: لست بعدوّ الله ولا عدوّ كتابه ولكني عدوّ من عاداهما ولم أسرق مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف درهم؟ قال: خيلي تناسلت وعطائي تلاحق وسهامي تتابعت فقبضتها منه. قال أبو هريرة: فلما صلّيت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين ثم قال لي عمر بعد ذلك: ألا تعمل؟ فقلت: لا. قال: قد عمل من هو خير منك، يوسف. فقلت: يوسف نبيّ ابن نبيّ وأنا

ابن أميمة «1» أخشى ثلاثا واثنتين. قال: فهلا قلت خمسا؟ قلت: أخشى أن أقول بغير علم، وأحكم بغير حلم، وأخشى أن يضرب ظهري، ويشتم عرضي، وينزع مالي. حدّثنا محمد بن داود عن نصر بن قديد عن إبراهيم بن المبارك عن مالك بن دينار أنه دخل على بلال بن أبي بردة وهو أمير البصرة فقال: أيها الأمير، إني قرأت في بعض الكتب: «من أحمق من السلطان ومن أجهل ممن عصاني ومن أعزّ ممن أعزّني. أيا راعي السوء، دفعت إليك غنما سمانا سحاحا «2» فأكلت اللحم وشربت اللبن وائتدمت «3» بالسّمن ولبست الصوف وتركتها عظاما تتقعقع «4» » . حدّثني محمد بن شبابة عن القاسم بن الحكم العرني القاضي قال: حدّثني اسماعيل بن عيّاش عن أبي محمد القرشي عن رجاء بن حيوة عن ابن مخرمة قال: إني لتحت منبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية حين قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، اقرئوا القرآن تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله. إنه لن يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله. ألا إنه لن يبعّد من رزق الله ولن يقرّب من أجل أن يقول المرء حقا وأن يذكّر بعظيم. ألا وإني ما وجدت صلاح ما ولّاني الله إلا بثلاث: أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله. ألا وإني ما وجدت صلاح هذا المال

إلا بثلاث: أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل. ألا وإنما أنا في مالكم هذا كوالي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرّم البهمة» «1» . بلغني عن محمد بن صالح عن بكر بن خنيس عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه قال: «كان زياد إذا ولّى رجلا قال له: خذ عهدك وسر إلى عملك واعلم أنك مصروف رأس سنتك وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك: إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك وسلّمتك من معرّتنا «2» أمانتك، وإن وجدناك خائنا قويا استهنّا بقوّتك وأحسنّا على خيانتك أدبك فأوجعنا ظهرك وأثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرّتين «3» ، وإن وجدناك أمينا قويا زدناك في عملك ورفعنا لك ذكرك وكثّرنا مالك وأوطأنا عقبك» . قال العتبي: بعث إلى عمر بحلل فقسّمها فأصاب كلّ رجل ثوب فصعد المنبر وعليه حلّة، والحلة ثوبان، فقال: أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سليمان: لا نسمع. قال: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: لأنك قسّمت علينا ثوبا ثوبا وعليك حلة. قال: لا تعجل يا أبا عبد الله. ثم نادى: يا عبد الله، فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد الله بن عمر. قال: لبّيك يا أمير المؤمنين. قال: نشدتك بالله. الثوب الذي ائتزرت به هو ثوبك؟ قال: اللهم نعم. فقال سليمان رضي الله عنه: أمّا الآن فقل نسمع.

بلغني عن حفص بن عمران الرازي عن الحسن بن عمارة عن المنهال ابن عمرو قال: قال معاوية لشداد بن عمرو بن أوس: قم فاذكر عليّا فتنقّصه فقام شدّاد فقال: «الحمد لله الذي افترض طاعته على عباده وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا غيره. على ذلك مضى أوّلهم وعليه يمضي آخرهم. أيها الناس، إن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر، وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، وإن السامع المطيع لا حجّة عليه وإن السامع العاصي لا حجة له. وإن الله، جل وعزّ، إذا أراد بالناس صلاحا عمّل عليهم صلحاءهم «1» وقضّى بينهم فقهاءهم وجعل المال في سمحائهم، وإذا أراد بالعباد شرا عمّل عليهم سفهاءهم وقضّى بينهم جهلاءهم وجعل المال عند بخلائهم. وإن من صلاح الولاة أن يصلح قرناؤها «2» . نصحك، يا معاوية، من أسخطك بالحق وغشّك من أرضاك بالباطل» فقال له معاوية: إجلس. وأمز له بمال، وقال: ألست من السّمحاء؟ فقال: إن كان مالك دون مال المسلمين تعمّدت جمعه مخافة تبعته فأصبته حلالا وأنفقته إفضالا، فنعم. وإن كان مما شاركك فيه المسلمون فاحتجنته «3» دونهم، أصبته اقترافا وأنفقته إسرافا، فإن الله، عز وجل، يقول: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً «4» . مرّ عمرو بن عبيد بجماعة عكوف «5» ، فقال: ما هذا؟ قالوا: سارق

يقطع. فقال: لا إله إلا الله، سارق السر يقطعه سارق العلانية!. ومر طارق صاحب شرطة خالد القسري بابن شبرمة، وطارق في موكبه فقال ابن شبرمة «1» : [طويل] أراها وإن كانت تحبّ كأنّها ... سحابة صيف عن قريب تقشّع «2» اللهم «3» ، لي ديني ولهم دنياهم. فاستعمل ابن شبرمة بعد ذلك على القضاء، فقال له ابنه: أتذكر يوم مرّ بك طارق في موكبه وقلت ما قلت؟ فقال: يا بنيّ، إنهم يجدون مثل أبيك ولا يجد مثلهم أبوك. إنّ أباك أكل من حلوائهم وحط في أهوائهم. ولي عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس المدينة سنتين فأحسن السيرة وعفّ عن أموال الناس ثم عزل فاجتمعوا إليه فأنشد لدرّاج الضّبابي «4» : [طويل] فلا السجن أبكاني ولا القيد شفّني ... ولا أنني من خشية الموت أجزع

ولكنّ أقواما أخاف عليهم ... إذا متّ أن يعطوا الذي كنت أمنع «1» ثم قال: والله ما أسفت على هذه الولاية ولكني أخشى أن يلي هذه الوجوه من لا يرعى لها حقها. ووجدت في كتاب لعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه إلى ابن عباس حين أخذ من مال البصرة ما أخذ: «إني أشركتك في أمانتي ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدوّ قد حرب «2» قلبت لابن عمك ظهر المجنّ «3» بقراقه مع المفارقين وخذلانه مع الخاذلين واختطفت ما قدرت عليه من أموال الأمّة اختطاف الذئب الأزلّ «4» دامية المعزى» وفي الكتاب: «ضحّ «5» رويدا فكأن قد بلغت المدى وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي به ينادي المغترّ بالحسرة ويتمنّى المضيعّ التوبة والظالم الرجعة» . وفي كتاب لعمر بن عبد العزيز إلى عديّ «6» بن أرطاة: «غرّني منك

مجالستك القرّاء وعمامتك السوداء فلما بلوناك وجدناك على خلاف ما أمّلناك، قاتلكم الله! أما تمشون بين القبور؟» . قال ابن أحمر «1» يذكر عمّال الصّدقة: [بسيط] إنّ العياب التي يخفون مشرجة ... فيها البيان ويلوى عندك الخبر فابعث إليهم فحاسبهم محاسبة ... لا تخف عين على عين ولا أثر هل في الثماني من السبعين مظلمة ... وربّها بكتاب الله مصطبر وقال عبد الله بن همّام السّلولي «2» : [طويل] أقلّي عليّ اللوم يا أم مالك ... وذمّي زمانا ساد فيه الفلاقس «3» وساع مع السلطان ليس بناصح ... ومحترس من مثله وهو حارس «4» قدم بعض عمال السلطان من عمل فدعا قوما فأطعمهم وجعل يحدّثهم بالكذب، فقال بعضهم: نحن كما قال الله عز وجل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «5» . قال بعض الشعراء: [بسيط] ما ظنّكم بأناس خير كسبهم ... مصرّح السّحت سمّوه الإصابات وقال أبو نواس في إسماعيل «6» بن صبيح: [طويل]

بنيت بما خنت الإمام سقاية ... فلا شربوا إلّا أمرّ من الصّبر «1» فما كنت إلّا مثل بائعة استها ... تعود على المرضى به طلب الأجر» يريد معنى الحديث أن امرأة كانت في بني إسرائيل تزني بحب الرمّان وتتصدّق به على المرضى. وقال فيه «3» أيضا لمحمد الأمين: [طويل] ألست أمين الله سيفك نقمة ... إذا ماق يوما في خلافك مائق «4» ؟ فكيف بإسماعيل يسلم مثله ... عليك ولم يسلم عليك منافق؟ أعيذك بالرحمن من شرّ كاتب ... له قلم زان وآخر سارق وقال فيه أيضا: [طويل] ألا قل لإسماعيل إنّك شارب ... بكأس بني ماهان ضربة لازم «5» أتسمن أولاد الطّريد «6» ورهطه ... بإهزال آل الله من نسل هاشم؟ وتخبر من لاقيت أنّك صائم ... وتغدو بفرج مفطر غير صائم؟ فإن يسر إسماعيل في فجراته ... فليس أمير المؤمنين بنائم

ولي حارثة «1» بن بدر «سرّق» فكتب إليه أنس الدّؤلي «2» : [طويل] أحار «3» بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق وبار تميما إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق «4» فإنّ جميع الناس إمّا مكذّب ... يقول بما يهوى وإمّا مصدّق يقولون أقوالا ولا يعلمونها ... وإن قيل: هاتوا حقّقوا، لم يحقّقوا ولا تحقرن، يا حار، شيئا أصبته ... فحظّك من ملك العراقين سرّق فلما بلغت حارثة قال: لا يعمى عليك الرشد. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن جويرية بن أسماء قال: قال فلان: «إن الرجل ليكون أمينا فإذا رأى الضّياع خان» . قرأت في كتاب أبرويز إلى ابنه شيرويه: «اجعل عقوبتك على اليسير من الخيانة كعقوبتك على الكثير منها، فإذا لم يطمع منك في الصغير لم يجترأ عليك في الكبير. وأبرد البريد في الدرهم ينقص من الخراج، ولا تعاقبنّ على شيء كعقوبتك على كسرة ولا ترزقنّ على شيء كرزقك على إزجائه «5» ، واجعل أعظم رزقك فيه وأحسن ثوابك عليه حقن دم المزجي

وتوفير ماله من غير أن يعلم أنك أحمدت أمره حين عفّ واعتصم من أن يهلك» . وقرأت في التاج أن أبرويز قال لصاحب بيت المال: «إني لا أحتملك على خيانة درهم ولا أحمدك على حفظ ألف ألف درهم، لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتعمر به أمانتك فإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا. واحترس من خصلتين: النقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطي. واعلم أني لم أجعل أحدا على ذخائر الملك وعمارة المملكة والعدّة إلا وأنت آمن عندي من موضعه الذي هو فيه وخواتيمه التي هي عليها، فحقّق ظني في اختياري إياك أحقق ظنّك في رجائك لي، ولا تتعوّض بخير شرا ولا برفعة ضعة ولا بسلامة ندامة ولا بأمانة خيانة» . وكان يقال: «كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة» . قدم معاذ من يمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه فقال له: إرفع حسابك. فقال: أحسابان، حساب من الله وحساب منكم؟ لا والله لا ألي لكم عملا أبدا. ذكر أعرابي رجلا خائنا فقال: إن الناس يأكلون أماناتهم لقما وإن فلانا يحسوها حسوا. قال بعض السلاطين لعامل له: «كل قليلا تعمل طويلا والزم العفاف يلزمك العمل، وأياك والرّشى «1» يشتد ظهرك عند الخصام» .

القضاء

القضاء حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا بشر بن المفضّل بن لاحق قال: حدّثنا المغيرة بن محمد عن عمر بن عبد العزيز قال: «لا ينبغي للرجل أن يكون قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: يكون عالما قبل أن يستعمل «1» ، مستشيرا لأهل العلم، ملقيا للرثّع «2» ، منصفا للخصم، محتملا للأئمة» . حدّثني علي بن محمد قال: حدّثنا إسماعيل بن إسحاق الأنصاري عن عبد الله بن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن علي عليه السلام أنه قال: «ذمّتي رهينة وأنا به زعيم لمن صرحت له العبر ألّا يهلك على التقوى زرع قوم ولا يظمأ على التقوى سنخ «3» أصل ألا وإن أبغض خلق الله إلى الله رجل قمش «4» جهلا غارّا بأغباش «5» الفتنة عميا بما في عقد الهدنة سماه أشباهه من الناس عالما ولم يغن في العلم يوما سالما. بكّر فاستكثر، ما قلّ منه فهو خير مما كثر حتى إذا ما ارتوى من اجن «6» واكتنز من غير طائل قعد بين الناس قاضيا لتخليص ما التبس على غيره، إن نزلت به إحدى المبهمات هيّا حشوا «7» رثّا من رأيه، فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت. لا يعلم إذا أخطأ، لأنه لا يعلم أأخطأ أم أصاب، خبّاط عشوات ركّاب جهالات «8» ، لا يعتذر مما

لا يعلم فيسلم ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع، يذرو الرواية ذرو الريح الهشيم، تبكي منه الدماء وتصرخ منه المواريث ويستحلّ بقضائه الفرج الحرام. لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه ولا أهل لما قرّظ به» . قال ابن شبرمة «1» : [كامل] ما في القضاء شفاعة لمخاصم ... عند اللبيب ولا الفقيه الحاكم أهون عليّ إذا قضيت بسنّة ... أو بالكتاب برغم أنف الراغم وقضيت فيما لم أجد أثرا به ... بنظائر معروفة ومعالم الهيثم عن ابن عيّاش عن الشّعبي قال: كان أوّل قاض قضى لعمر بن الخطاب بالعراق سلمان بن ربيعة الباهلي، ثم شهد القادسية وكان قاضيا بها، ثم قضى بالمدائن، ثم عزله عمر واستقضى شرحبيل على المدائن، ثم عزله واستقضى أبا قرّة الكندي فاختطّ الناس الكوفة وقاضيهم أبو قرّة. ثم استقضى شريح بن الحارث الكندي «2» فقضى خمسا وسبعين سنة إلا أن زيادا أخرجه مرة إلى البصرة واستقضى مكانه مسروق بن الأجدع سنة حتى قدم شريح فأعاده ولم يزل قاضيا حتى أدرك الفتنة في زمن ابن الزبير فقعد ولم يقض في الفتنة. فاستقضى عبد الله بن الزبير رجلا مكانه ثلاث سنين فلما قتل ابن الزبير أعيد شريح على القضاء فلقي رجل شريحا في الطريق فقال: يا أبا أمية، قضيت والله بجور، قال: وكيف ذاك؟ ويحك! قال: كبرت سنّك واختلط عقلك وارتشى ابنك، فقال شريح: لا جرم، لا يقولها أحد بعدك.

فأتى الحجاج فقال: والله لا أقضي بين اثنين. قال: والله لا أعفيك أو تبغيني رجلا. فقال شريح: عليك بالعفيف الشريف أبي بردة بن أبي موسى. فاستقضاه الحجاج وألزمه سعيد بن جبير كاتبا ووزيرا. وروى الثوري عن علقمة بن مرثد أنه لقي محارب بن دثار «1» وكان على القضاء فقال له: يا محارب، إلى كم تردّد الخصوم؟ فقال له: إني والخصوم كما قال الأعشى: [طويل] أرقت وما هذا السهاد المؤرّق ... وما بي من سقم وما بي معشق ولكن أراني لا أزال بحادث ... أغادى بما لم يمس عندي وأطرق حدّثني إسحق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن قريش بن أنس عن حبيب بن الشهيد قال: كنت جالسا عند إياس بن معاوية فأتاه رجل فسأله عن مسألة فطوّل فيها، فقال إياس: إن كنت تريد الفتيا فعليك بالحسن معلمي ومعلم أبي، وإن كنت تريد القضاء فعليك بعبد الملك بن يعلى- وكان على قضاء البصرة يومئذ- وإن كنت تريد الصلح فعليك بحميد «2» الطويل، وتدري ما يقول لك؟ يقول لك: حطّ شيئا، ويقول لصاحبك: زده شيئا حتى نصلح بينكما، وإن كنت تريد الشغب فعليك بصالح السّدوسي، وتدري ما يقول لك؟ يقول لك: إجحد ما عليك. ويقول لصاحبك: إدّع ما ليس لك وادّع بيّنة غيّبا. قرأت في الآيين: «ينبغي للحاكم أن يعرف القضاء الحقّ العدل

والقضاء العدل غير الحق والقضاء الحق غير العدل ويقايس بتثبّت ورويّة ويتحفّظ من الشبهة» . والقضاء الحق العدل عندهم قتل النفس بالنفس، والقضاء العدل غير الحق قتل الحر بالعبد، والقضاء الحق غير العدل الدية على العاقلة. حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أخي الأصمعي قال: حدثني عمي الأصمعي قال: قال أعرابي لقوم يتنازعون: هل لكم في الحق أو فيما هو خير من الحق؟ فقيل: وما يكون خيرا من الحق؟ قال: التحاطّ «1» والهضم، فإنّ أخذ الحق كله مرّ. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في شيء فحكّما رجلا له في المخطىء هوى، فقال للمخطىء: من يقول بقولك أكثر. الهيثم بن عدي قال: تقدّمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث وأخوها الوليد إلى عبد الملك بن عمير وهو قاضي الكوفة، وكان ابنه عمرو بن عبد الملك يرمى بها فقضى لها، فقال هذيل الأشجعي «2» : [طويل] أتاه رفيق بالشهود يسوقهم ... على ما ادّعت من صامت المال والخول «3» فأدلى وليد عند ذاك بحقّه ... وكان وليد ذا مراء وذا جدل ففتّنت القبطيّ حتى قضى لها ... بغير قضاء الله في السّور الطّول فلو كان من في القصر يعلم علمه ... لما استعمل القبطيّ فينا على عمل

له حين يقضي للنساء تخاوص «1» ... وكان وما منه التخاوص والحول إذا ذات دلّ كلّمته لحاجة ... فهمّ بأن يقضي تنحنح أو سعل وبرّق «2» عينيه ولاك «3» لسانه ... يرى كل شيء ما خلا شخصها جلل فكان عبد الملك بن عمير يقول: والله لربما جاءتني السعلة أو التنحنح وأنا في المتوضّأ فأكفّ عن ذلك. وقال ابن مناذر «4» في خالد بن طليق وكان قد ولي قضاء البصرة: [سريع] قل لأمير المؤمنين الذي ... من هاشم في سرّها واللّباب إن كنت للسّخطة عاقبتنا ... بخالد فهو أشدّ العقاب كان قضاة الناس فيما مضى ... من رحمة الله وهذا عذاب يا عجبا من خالد كيف لا ... يخطىء فتيا مرّة بالصواب وقال فيه: [مجزوء الرمل] جعل «5» الحاكم يا للن ... ناس من آل طليق ضحكة يحكم في النا ... س برأي الجاثليق «6»

أيّ قاض أنت في النّق ... ص وتعطيل الحقوق يا أبا الهيثم ما أن ... ت لهذا بخليق لا ولا أنت لما حم ... ملت منه بمطيق أراد عديّ بن أرطاة بكر بن عبد الله المزني على القضاء فقال له بكر: والله ما أحسن القضاء، فإن كنت كاذبا أو صادقا فما يحلّ لك أن توليني. وروى عبد الرزاق عن معمر قال: لما عزل ابن شبرمة عن القضاء قال له والي اليمن: اختر لنا رجلا نوليه القضاء. فقال له ابن شبرمة: ما أعرفه. فذكر له رجل من أهل صنعاء فأرسل إليه فجاء، فقال له ابن شبرمة: هل تدري لم دعيت؟ قال: لا. قال: إنك قد دعيت لأمر عظيم، للقضاء. قال: ما أيسر القضاء! فقال له ابن شبرمة: نسألك عن شيء يسير منه؟ قال: سل. قال له ابن شبرمة: ما تقول في رجل ضرب بطن شاة حامل «1» فألقت ما في بطنها؟ فسكت الرجل، فقال له ابن شبرمة: إنا بلوناك فما وجدنا عندك شيئا. فقيل له: ما القضاء فيها؟ قال ابن شبرمة: تقوّم حاملا وتقوّم حائلا ويغرم قدر ما بينهما. حدّثني عبد الله بن محمد الخلنجي قال: كان يحيى «2» بن أكثم يمتحن من يريدهم للقضاء، فقال لرجل: ما تقول في رجلين زوّج كل واحد منهما الآخر أمّه فولد لكل واحد من امرأته ولد، ما قرابة ما بين الوالدين؟ فلم يعرفها، فقال له يحيى: كل واحد من الولدين عمّ الآخر لأمه.

ودخل رجل من أهل الشام على عبد الملك بن مروان فقال: إني تزوجت امرأة وزوجت ابني أمّها ولا غنى بنا عن رفدك. فقال له عبد الملك: إن أخبرتني ما قرابة ما بين أولادكما إذا أولدتما، فعلت. قال: يا أمير المؤمنين، هذا حميد بن بحدل قد قلدته سيفك ووليته ماوراء بابك فسله عنها، فإن أصاب لزمني الحرمان، وإن أخطأ اتسع لي العذر. فدعا بالبحدلي فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك ما قدمتني على العلم بالأنساب ولكن على الطعن بالرّماح، أحدهما عمّ الآخر والآخر خاله. قال ابن سيرين: كنا عند أبي عبيدة بن أبي حذيفة في قبّة له وبين يديه كانون له فيه نار فجاءه رجل فجلس معه على فراشه فسارّه بشيء لا ندري ما هو، فقال له أبو عبيدة: ضع لي إصبعك في هذه النار. فقال له الرجل: سبحان الله! تأمرني أن أضع لك أصبعي في هذه النار! فقال له أبو عبيدة: أتبخل عليّ بأصبع من أصابعك في نار الدنيا وتسألني أن أضع لك جسدي كله في نار جهنم؟ قال: فظننا أنه دعاه إلى القضاء. كان يقال: «ثلاث إذا كنّ في القاضي فليس بكامل: إذا كره اللوائم، وأحبّ المحامد، وكره العزل. وثلاث إذا لم تكن فيه فليس بكامل: يشاور وإن كان عالما، ولا يسمع شكيّة من أحد حتى يكون معه خصمه، ويقضي إذا علم» . قالوا: «ويحتاج القاضي إلى العدل في لحظه ولفظه وقعود الخصوم بين يديه وألا يقضي وهو غضبان ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر» . قال الشعبي: حضرت شريحا ذات يوم وجاءته امرأة تخاصم زوجها

فأرسلت عينيها «1» فبكت فقلت: يا أبا أمية، ما أظنها إلا مظلومة. فقال: يا شعبي، إنّ إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون «2» . بلغني عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين الناس إلا صلحا أحل حراما أو حرّم حلالا، ولا يمنعنّك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق لا يبطله شيء. واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس فيه قرآن ولا سنّة، واعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور عند ذلك ثم اعمد لأحبّها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى. إجعل لمن ادّعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بيّنة أخذ بحقه وإلا استحللت عليه القضاء. والمسلمون عدول في الشهادة إلا مجلودا «3» في حدّ أو مجرّبا عليه شهادة زور أو ظنيّنا في ولاء أو قرابة. إن الله تولّى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبيّنات. وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن الذخر، فإنه من صلحت سريرته فيما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن

تزيّن للدنيا بغير ما يعلم الله منه شانه الله، والسلام» . وقال سلمة «1» بن الخرشب لسبيع التغلبي في شأن الرّهن التي وضعت على يديه في قتلى عبس وذبيان: [منسرح] أبلغ سبيعا وأنت سيدنا ... قدما وأوفى رجالنا ذمما أنّ بغيضا «2» وأنّ إخوتها ... ذبيان قد ضرّموا الذي اضطرما نبّئت أن حكّموك بينهم ... فلا تقولنّ بئس ما حكما إن كنت ذا عرفة بشأنهم ... تعرف ذا حقّهم ومن ظلما وتنزل الأمر في منازله ... حكما وعلما وتحضر الفهما فاحكم فأنت الحكيم بينهم ... لن يعدموا الحقّ باردا صتما «3» واصدع أديم السواء بينهم ... على رضا من رضي ومن رغما إن كان مالا فمثل عدّته ... مال بمال وإن دما فدما هذا وإن لم تطق حكومتهم ... فانبذ إليهم أمورهم سلما «4» وأنشد عمر بن الخطاب شعر زهير بن أبي سلمى، فلما بلغ قوله: [وافر] فإن الحقّ مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء جعل عمر يتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها ويقول: لا يخرج الحق من إحدى ثلاث إما يمين أو محاكمة أو حجّة.

وقال ابن أبي ليلى «1» الفقيه في عبد الله بن شبرمة «2» : [متقارب] وكيف ترجّى لفصل القضاء ... ولم تصب الحكم في نفسكا وتزعم أنك لابن الجلاح «3» ... وهيهات دعواك من أصلكا عبد الله بن صالح العجلي قال: خرج شريك «4» وهو على القضاء يتلقى الخيزران «5» وقد أقبلت تريد الحج، فأتى، شاهي «6» فأقام بها ثلاثا ولم تواف فخفّ زاده وما كان معه من الخبز فجعل يبلّه بالماء ويأكله بالملح، فقال العلاء بن المنهال «7» الغنوي: [الوافر] فإن كان الذي قد قلت حقّا ... بأن قد أكرهوك على القضاء فما لك موضعا في كل يوم ... تلقّى من يحجّ من النساء مقيما في قرى شاهي ثلاثا ... بلا زاد سوى كسر وماء يزيد الناس خيرا كلّ يوم ... فترجع يا شريك إلى وراء وقال فيه أيضا: [وافر] فليت أبا شريك كان حيّا ... فيقصر حين يبصره شريك

في الشهادات

ويترك من تدرّيه علينا ... إذا قلنا له: هذا أبوك «1» وأنشد لبعض الشعراء في بعض الحكام: [كامل] أبكي وأندب بهجة الإسلام ... إذ صرت تقعد مقعد الحكّام إن الحوادث ما علمت كثيرة ... وأراك بعض حوادث الأيام حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثني القاسم بن الفضل قال: حدّثني رجل من بني جرير أن رجلا منهم خاصم رجلا إلى سوّار بن عبد الله فقضى على الجريري، فمر سوّار ببني جرير فقام إليه الجريري فصرعه وخنقه وجعل يقول: [سريع] رأيت أحلاما فعبّرتها ... وكنت للأحلام عبّارا رأيتني أخنق ضبّا «2» على ... جحر وكان الضّبّ سوّارا في الشهادات حدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعي قال لي أيوب: إن من أصحابي من أرجو دعوته ولا أجيز شهادته. قال: وقال سوّار: ما أعلم أحدا أفضل من عطاء السّلمي، ولو شهد عندي على فلسين لم أجز شهادته. يذهب إلى أنه ضعيف الرأي ليس بالحازم إلّا أنه لا يطعن عليه في دينه وأمانته. قال: وشهد أبو عمرو بن العلاء عند سوّار على نسب فقال سوّار: وما يدريك أنه ابنه؟ قال: كما أعلم أنك سوّار بن عبد الله بن عنزة بن نقب. قال: وشهد

رجل عند سوّار في دار قد ادّعاها رجل قال: أشهد أنها له من الماء إلى السماء. وشهد آخر فقال للكاتب: أكتب شهادتهما. فقال: أيّ شيء أكتب؟ فقال: كلّ شيء يخرج الدار من يد هذا ويجعلها في ملك هذا فاكتبه. قال أبو حاتم: بلغني أنه إنما قيل شهادة عربية وما أشبهه. قال: وشهد رجل عند سوّار، فقال له: ما صناعتك؟ قال: أنا مؤدّب. قال: فإنّا لا نجيز شهادتك. قال ولم؟ قال؟ لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا. قال: وأنت تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا. قال: إني أكرهت على القضاء. قال: يا هذا، القضاء أكرهت عليه فهل أكرهت على أخذ الرزق؟ قال: هلمّ شهادتك. فأجازها. قال: وشهد الفرزدق عند بعض القضاة فقال: قد أجزنا شهادة أبي فراس، وزيدونا. فقيل له حين انصرف: إنه، والله، ما أجاز شهادتك. قال: وما يمنعه من ذلك وقد قذفت ألف محصنة. وجاء أبو دلامة «1» ليشهد عند ابن أبي ليلى فقال في مجلسه ذلك: [طويل] إن القوم غطّوني تغطّيت دونهم ... وإن يحثوا عني ففيهم مباحث وإن حفروا بئري حفرت بئارهم ... ليعلم ما تخفيه تلك النّبائث «2» فأجاز شهادته وحبس المشهود عليه عنده وأعطاه قيمة الشيء. أتى رجل ابن شبرمة بقوم يشهدون له على قراح فيه نخل، فشهدوا وكانوا عدولا فسألهم: كم في القراح من نخلة؟ قالوا: لا نعلم. فردّ شهادتهم. فقال له رجل منهم: أنت تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة، فأعلمنا: كم فيه من أسطوانة؟ فأجازهم.

وقال بعض الشعراء: [منسرح] والخصم لا يرتجى النجاة له ... يوما إذا كان خصمه القاضي قدّم رجل خصما له إلى زياد في حق له عليه، فقال: إن هذا الرجل يدلّ بخاصّة ذكر أنها له منك. قال: نعم. وسأخبرك بما ينفعه عندي من خاصّته: إن يكن الحقّ له عليك آخذك أخذا عنيفا، وأن يكن الحق لك عليه أقض عليه ثم أقض عنه. وقال أبو اليقظان: كان عبيد الله بن أبي بكرة «1» قاضيا وكان يميل في الحكم إلى إخوانه. فقيل له في ذلك. فقال: وما خير رجل لا يقطع من دينه لإخوانه؟ قال المدائني: كان بين طلحة بن عبيد الله والزبير مدارأة «2» في واد بالمدينة. قال: فقالا: نجعل بيننا عمرو بن العاص، فأتياه فقال لهما: أنتما في فضلكما وقديم سوابقكما ونعمة الله عليكما تختلفان! وقد سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما سمعت وحضرتما من قوله مثل الذي حضرت فيمن اقتطع شبرا من أرض أخيه بغير حق أنه يطوّقه «3» من سبع أرضين! والحكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه وذلك لأن الحكم إذا جار رزىء دينه والمحكوم عليه إذا جير عليه رزىء عرض الدنيا، إن شئتما فأدليا بحجتكما وإن شئتما فأصلحا ذات بينكما. فاصطلحا وأعطى كل واحد منهما صاحبه الرضا.

وكان السّنديّ بن شاهك لا يستحلف المكاري ولا الحائك ولا الملّاح ويجعل القول قول المدّعي مع يمينه، ويقول: اللهمّ، إني أستخيرك في الجمّال ومعلّم الصبيان. وقال أبو البيداء: سمعت شيخا من الأعراب يقول: نحن بالبادية لا نقبل شهادة العبد ولا شهادة العذيوط «1» ولا المغذّى ببوله. قال أبو البيداء: فضحكت والله حتى كدت أبول في ثوبي. وقيل لعبيد الله بن الحسن العنبري: أتجيز شهادة رجل عفيف تقيّ أحمق؟ قال: لا، وسأريكم. أدعوا لي أبا مودود حاجبي، فلما جاء قال له: أخرح حتى تنظر ما الريح؟ فخرج ثم رجع فقال: شمال يشوبها شيء من الجنوب. فقال: أتروني كنت مجيزا شهادة مثل هذا؟. قال الأعمش: قال لي محارب بن دثار «2» : وليت القضاء فبكى أهلي وعزلت عنه فبكوا، فما أدري مم ذاك؟ فقلت له: وليت القضاء فكرهته وجزعت منه فبكى أهلك، وعزلت عنه فكرهت العزل وجزعت منه فبكى أهلك. فقال: إنه لكما قلت. قدم إياس بن معاوية الشام وهو غلام فقدّم خصما له إلى قاض لعبد الملك بن مروان وكان خصمه شيخا كبيرا. فقال له القاضي: أتقدّم شيخا كبيرا؟ فقاله إياس: الحق أكبر منه. قال: اسكت. قال: فمن ينطق بحجتي؟ قال: ما أظنك تقول حقا حتى تقوم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره بالخبر فقال: اقض حاجته وأخرجه من الشام لا يفسد عليّ الناس.

باب الأحكام

قال أعرابي لخصم له: «ولله لئن هملجت «1» إلى الباطل إنك عن الحق لقطوف» . باب الأحكام حدّثني عبدة بن عبد الله قال: حدّثنا وهب بن جرير قال: حدّثنا أبي قال: سمعت الزبير بن الحارث يحدّث عن عكرمة عن أبي هريرة قال: «قضى رسول صلى الله عليه وسلم إذا اختلف الناس في الطرق أنها سبع أذرع» . حدّثني يزيد بن عمرو عن محمد بن موسى عن إبراهيم بن حنتم عن غزال بن مالك الغفاري عن أبيه عن جدّه قال: «كفل النبي عليه السلام رجلا في تهمة» . قال وحدّثني أيضا عن إبراهيم بن حنتم عن غزال بن مالك عن أبيه عن جدّه قال: قال أبو هريرة: «حبس النبي صلى الله عليه وسلم في التهمة حبسا يسيرا حتى استبرأ» . حدّثني يزيد قال: حدّثني الوليد عن جرير بن حازم عن الحسن: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلب رجلا على جبل يقال له: رباب» وقال لي رجل بالمدينة: هو ذو رباب. حدّثني أحمد بن الخليل عن سليمان بن حرب عن جرير عن يعلى بن حكيم عن أبيه عن ابن عباس قال: «أتى ماعز بن مالك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «إني زنيت يا رسول صلى الله عليه وسلم. فقال: لعلك مسست أو لمست أو غمزت. فقال: لا، بل زنيت. فأعادها عليه ثلاثا، فلما كان في الرابعة رجمه» .

حدّثني شبابة عن القاسم بن الحكم عن الثوري عن علي بن الأقمر عن يزيد بن أبي كبشة أن أبا الدرداء أتي بامرأة سرقت، فقال: أسرقت؟ قولي: لا. حدّثني سهل بن محمد قال: حدّثني الأصمعي قال: جاءوا زيادا بلصّ وعنده جماعة فيهم الأحنف، فانتهروه وقالوا: اصدق الأمير. فقال الأحنف: إن الصدق أحيانا معجزة. فأعجب ذلك زيادا وقال: جزاك الله خيرا. حدّثني شبابة عن القاسم بن الحكم عن إسماعيل بن عيّاش عمن حدّثه عن ابن عباس قال: «جزّ الرأس واللّحية لا يصلح في العقوبة لأن الله، عزّ وجل، جعل حلق الرأس نسكا لمرضاته» . حدّثني شبابة عن القاسم عن الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز قال: «إياكم والمثلة «1» في العقوبة جزّ الرأس واللحية» . حدّثني محمد بن خالد بن خداش قال: حدّثنا سلم بن قتيبة قال: حدّثنا يونس عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: كان مروان بن الحكم أمير المدينة فقضى في رجل فزّع رجلا فضرط بأربعين درهما. حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود قال: «لا يحلّ في هذه الأمة غلّ ولا صفد ولا تجريد ولا مدّ» . حدّثني عبد الرحمن عن الأصمعي قال: كان عامر بن الظّرب العدواني حكم العرب، فنزل به قوم يستفتونه في خنثى «2» له جارية يقال لها خصيلة.

وربما لامها في الإبطاء في الرعي وفي الشيء يجده عليها. فقال: يا خصيلة، لقد حبست هؤلاء القوم وريّثتهم حتى أسرعت في غنمي. قالت وما يكن عليك من ذلك؟ أتبعه مباله. فقال لها: «مسيّ خصيل بعدها أو روّحي» . قال: وأتي ابن زياد بإنسان له قبل وذكر ولا يدرى كيف يورّث «1» فقال: من لهذا؟ فقالوا: أرسل إلى جابر بن زيد. فأرسل إليه، فجاء يرسف في قيوده فقال: ما تقول في هذا؟ فقال: ألزقه بالجدار فإن بال عليه فهو ذكر، وإن بال في رجليه فهو أنثى. حدثني محمد بن خالد بن خداش قال: حدّثنا سلم بن قتيبة قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن أبي حصين أنّ رجلا كسر طنبورا لرجل فخاصمه إلى شريح «2» ، فقال شريح: لا أقضي في الطنبور بشيء. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن أبيه قال: قال لي أبو العجاج: يا ابن أصمع، والله لئن أقررت لألزمنّك. أي لا تقرّ. حدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن أبيه عن معمر قال: ردّ رجل على رجل جارية اشتراها منه، فخاصمه إلى إياس «3» بن معاوية، فقال له: بم تردّها؟ قال له: بالحمق. فقال لها إياس: أيّ رجليك أطول؟ فقالت: هذه. فقال: أتذكرين ليلة ولدت؟ قالت: نعم. فقال إياس: ردّ ردّ. حدّثني أبو الخطاب قال: حدّثنا أبو داود عن قيس عن أبي حصين قال:

الظلم

رأيت الشّعبيّ يقضي على جلد أسد. الظلم حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب قال: حدّثني الأصمعيّ قال: أخبرنا بعض أشياخ البصرة أن رجلا وامرأته اختصما إلى أمير من أمراء العراق وكانت المرأة حسنة المتنقّب قبيحة المسفر «1» ، وكان لها لسان فكأن العامل مال معها فقال: يعمد أحدكم إلى المرأة الكريمة فيتزوّجها ثم يسيء إليها! فأهوى زوجها إلى النّقاب فألقاه عن وجهها فقال العامل: عليك اللعنة! كلام مظلوم ووجه ظالم «2» . وأنشد الرياشيّ «3» في نحو هذا: [طويل] رأيت أبا الحجناء في الناس جائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم تراه على ما لاحه من سواده ... وإن كان مظلوما له وجه ظالم أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان رجل من العرب في الجاهلية إذا رأى رجلا يظلم ويعتدي يقول: فلان لا يموت «4» سويّا. فيرون ذلك حتى مات رجل ممن قال ذلك فيه فقيل له: مات فلان سويا. فلم يقبل حتى تتابعت الأخبار. فقال: إن كنتم صادقين: فإن لكم دارا سوى هذه تجازون فيها.

كتب رجل من الكتّاب إلى سلطان: «أعيذك بالله من أن تكون لاهيا عن الشكر محجوبا بالنعم صارفا فضل ما أوتيت من السلطان إلى ما تقلّ عائدته وتعظم تبعته من الظلم والعدوان، وأن يستزلّك الشيطان بخدعه وغروره وتسويله فيزيل عاجل الغبطة وينسيك مذموم العاقبة، فإن الحازم من يذكر في يومه المخوف من عواقب غده ولم يغرّه طول الأمل وتراخي الغاية ولم يضرب في غمرة من الباطل ولا يدري ما تتجلّى به مغبّتها. هذا إلى ما يتبع الظالم من سوء المنقلب وقبيح الذكر الذي لا يفنيه كرّ الجديدين «1» واختلاف العصرين» . حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثنا معاوية بن عمرو قال: حدّثنا أبو إبراهيم السقّاء عن ليث عن مجاهد قال: «يؤتى بمعلم الصبيان يوم القيامة فإن كان عدل بين الغلمان وإلا أقيم مع الظلمة» . وكان معاوية يقول: إني لأستحيي أن أظلم من لا يجد عليّ ناصرا إلا الله. وقال بلال: «إني لأستحيي أن أظلم وأحرج أن أظلم» . وكان يقال: إذا أراد الله أن يتحف عبدا قيّض له من يظلمه. كتب رجل إلى سلطان: «أحقّ الناس بالإحسان من أحسن الله إليه وأولاهم بالإنصاف من بسطت بالقدرة يداه» . ذكر الظلم في مجلس ابن عباس فقال كعب: إني لا أجد في كتاب الله المنزّل أنّ الظلم يخرب الديار. فقال ابن عباس: أنا أوجدكه في القرآن، قال الله، عزّ وجل: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا «2» . حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعي قال: كان فرعان وهو من بني

تميم لا يزال يغير على إبل الناس فيأخذ منها ثم يقاتلهم عليها إلى أن أغار على رجل فأصاب له جملا، فجاء الرجل فأخذ بشعره فجذبه فبرك، فقال الناس: كبرت والله يا فرعان. فقال: لا والله ولكن جذبني جذبة محقّ. وكان سديف بن ميمون مولى اللهبيين يقول: اللهمّ قد صار فيئنا دولة «1» بعد القسمة وإمارتنا غلبة بعد المشورة وعهدنا ميراثا بعد الاختيار للأمة. واشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة وحكّم في أبشار المسلمين أهل الذمة وتولى القيام بأمورهم فاسق كلّ محلّة. اللهمّ وقد استحصد زرع الباطل وبلغ نهايته واجتمع طريده. اللهمّ فأتح له يدا من الحق حاصدة تبدد شمله وتفرّق أمره ليظهر الحقّ في أحسن صوره وأتم نوره. ولي أعرابي بعض النواحي فجمع اليهود في عمله وسألهم عن المسيح فقالوا: قتلناه وصلبناه. فقال: فهل أديتم ديته؟ قالوا: لا. قال: فوالله لا تخرجون أو تؤدّوها. فلم يبرحوا حتى أدّوها. كان أبو العاج على جوالى البصرة فأتي برجل من النصارى: فقال ما اسمك؟ فقال: بنداذ شهر بنداذ. فقال: اسم ثلاثة وجزية واحد! لا والله العظيم. قال: فأخذ منه ثلاث جزى. ولي أعرابي تبالة «2» فصعد المنبر فما حمد الله ولا أثنى عليه حتى قال: إن الأمير، أعزنا الله وإياه، ولّاني بلادكم هذه، وإني والله ما أعرف من الحق

موضع سوطي، ولن أوتى بظالم ولا مظلوم إلا أوجعتهما ضربا، فكانوا يتعاملون، بالحق بينهم ولا يرتفعون إليه. قال بعض الشعراء «1» : [طويل] بني عمّنا، لا تذكروا الشّعر بعد ما ... دفنتم بصحراء الغمير «2» القوافيا فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة ... فنقبل ضيما أو نحكّم قاضيا «3» ولكنّ حكم السيف فيكم مسلّط ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا فإن قلتم وإنّا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنّا أسأنا التقاضيا وقال آخر: [سريع] تفرح أن تغلبني ظالما ... والغالب المظلوم لو تعلم وكانوا يتوقّون ظلم السلطان إذا دخلوا عليه بأن يقولوا: «بسم الله إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا «4» اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «5» أخذت سمعك وبصرك بسمع الله وبصره. أخذت قوّتك بقوّة الله. بيني وبينك ستر النبوّة الذي كانت الأنبياء تستتر به من سطوات الفراعنة. جبريل عن يمينه وميكائيل عن يسارك ومحمد أمامك والله مطلع عليك ويحجرك عني ويمنعني منك» . وقال بعض الشعراء: [وافر] ونستعدي الأمير إذا ظلمنا ... فمن يعدي إذا ظلم الأمير؟

وقال آخر: [وافر] إذا كان الأمير عليك خصما ... فلا تكثر فقد غلب الأمير وكتب رجل إلى صديق له: قد كنت أستعديك ظالما على غيرك فتحكم لي وقد استعديتك عليك مظلوما فضاق عني عدلك، وذكّرني قول القائل: [خفيف] كنت من كربتي أفرّ إليهم ... فهم وكربتي فأين الفرار؟ ونحوه: [منسرح] والخصم لا يرتجى النجاح له ... يوما إذا كان خصمه القاضي «1» حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعيّ قال: كان يقال: ما أعطي أحد قطّ النّصف «2» فأباه إلا أخذ شرا منه. قال: وقال الأحنف: ما عرضت النّصفة قطّ على أحد فقبلها إلا دخلتني له هيبة ولا ردّها إلا اختبأتها في عقله. وقال البعيث «3» : [طويل] وإني لأعطي النّصف من لو ظلمته ... أقرّ وطابت نفسه لي بالظّلم وقال الطائي «4» : [طويل] يرى العلقم المأدوم بالعزّ أرية «5» ... يمانية والأري بالضيم علقما إذا فرشوه النّصف نامت شذاته ... وإن رتعوا في ظلمه كان أظلما

قولهم في الحبس

وقال العباس بن عبد المطلب «1» : [طويل] أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواطع في أيماننا تقطر الدّما تركناهم ولا يستخلّون بعدها ... لذي رحم يوما من الدهر محرما بلغنا عن ضمرة عن ثور بن يزيد قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمّاله: أمّا بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله عليك وفناء ما تؤتي إليهم وبقاء ما يؤتون إليك، والسلام. وسمع ابن سيرين رجلا يدعو على من ظلمه، فقال: أقصر يا هذا، لا يربح عليك ظالمك. قولهم في الحبس في الحديث المرفوع: «شكا يوسف عليه السلام إلى الله، عزّ وجلّ طول الحبس فأوحى الله إليه: من حبسك يا يوسف، أنت حبست نفسك حيث قلت: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ «2» ولو قلت: العافية أحبّ إليّ لعوفيت» . حدّثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب قال: «إن يوسف عليه السلام دعا لأهل السجن دعوة لم تزل تعرف لهم إلى اليوم، قال: اللهمّ، أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار» . فيقال: إنهم أعلم الناس بكل خبر في كل بلد.

وكتب على باب السجن: «هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وتجربة الصديق وشماتة الأعداء» . أنشدني الرياشيّ «1» : [بسيط] ما يدخل السّجن إنسان فتسأله ... ما بال سجنك إلا قال مظلوم وقال أعرابي: [طويل] ولمّا دخلت السجن كبّر أهله ... وقالوا: أبو ليلى الغداة حزين وفي الباب مكتوب على صفحاته ... بأنّك تنزو «2» ثمّ سوف تلين ويقال: إنّ قولهم «تنزو وتلين» رؤي مكتوبا على باب حبس فضربه الناس مثلا. وقال بعض المسجونين: [متقارب] وبتّ بأحصنها منزلا ... ثقيلا على عنق السالك «3» وليس بضيف ولا في كرا «4» ... ولا مستعير ولا مالك ولست بغضب ولا كالرّهون «5» ... ولا يشبه الوقف عن هالك ولي مسمعان فأدناهما ... يغنّي ويسمع في الحالك وأقصاهما ناظر في السما ... عمدا وأوسخ من عارك «6»

المسمع الأوّل قيده والثاني صاحب الحرس، ونحو قول الآخر: [متقارب] ولي مسمعان وزمّارة ... وظلّ مديد وحصن أمقّ «1» الزمّارة الغلّ، وأصل الزمّارة السّاجور. قال أبو عبيدة: اختصم خالد بن صفوان «2» مع رجل إلى بلال بن أبي بردة «3» ، فقضى للرجل على خالد، فقام خالد وهو يقول: [طويل] سحابة صيف عن قليل تقشّع «4» فقال بلال: أما إنها لا تقشّع حتى يصيبك منها شؤبوب برد. وأمر به إلى الحبس، فقال خالد: علام تحبسني؟ فوالله ما جنيت جناية ولا خنت خيانة. فقال بلال: يخبرك عن ذلك باب مصمت وأقياد ثقال وقيّم يقال له حفص. قال الحجاج للغضبان بن القبعثري ورآه سمينا: ما أسمنك؟ قال: القيد والرّتعة «5» ، ومن كان في ضيافة الأمير سمن.

كان خالد «1» بن عبد الله حبس الكميت «2» الشاعر فزارته امرأته في السجن فلبس ثيابها وخرج ولم يعرف فقال: [طويل] ولما أحلّوني بصلعاء صيلم ... بإحدى زبى ذي اللّبدتين أبي الشّبل «3» خرجت خروج القدح «4» قدح ابن مقبل «5» ... على رغم اناف النوابح والمشلي «6» عليّ ثياب الغانيات وتحتها ... عزيمة مرء أشبهت سلّة «7» النّصل وكان خالد بن عبد الله حبس الفرزدق فقال: [طويل] وإني لأرجو خالدا أن يفكّني ... ويطلق عني مقفلات الحدائد فإن يك قيدي ردّ همّي فربما ... تناولت أطراف الهموم الأباعد وما من بلاء غير كلّ عشية ... وكلّ صباح زائر غير عائد يقول لي الحداد هل أنت قائم؟ ... وما أنا إلّا مثل آخر قاعد وقال بعض الشعراء في خالد بن عبد الله القسريّ «8» حين حبس:

[طويل] لعمري لقد أعمرتم السجن خالدا ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل فإن تحبسوا القسريّ لا تحبسوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل وقال بعض المسجونين: [طويل] أسجن وقيد واغتراب وعسرة ... وفقد حبيب! إنّ ذا لعظيم وإنّ امرأ تبقى مواثيق عهده ... على كل هذا، إنه لكريم وقال آخر مثله: [طويل] إلى الله أشكو إنه موضع الشكوى ... وفي يده كشف المصيبة والبلوى خرجنا من الدنيا ونحن من اهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة ... عجبنا وقلّنا: جاء هذا من الدنيا وتعجبنا الرّؤيا فجلّ حديثنا ... إذا نحن أصبحنا، الحديث عن الرؤية فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطأت ... وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى وقال يزيد «1» بن المهلّب وهو في الحبس: يا لهفي على طلبة «2» بمائة ألف وفرج في جبهة أسد. ودخل الفرزدق على المهلّب وهو محبوس فقال:

الحجاب

[منسرح] أصبح في قيدك السماحة وال ... جود وحمل الدّيات والحسب «1» فقال له: أتمدحني على هذه الحال؟ فقال: أصبتك رخيصا فاشتريتك «2» . وحبس الرشيد أبا العتاهية فكتب إليه من الحبس بأبيات منها: [منسرح] تفديك نفسي من كل ما كرهت ... نفسك إن كنت مذنبا فاغفر يا ليت قلبي مصوّر لك ما ... فيه لتستيقن الذي أضمر فوقّع الرشيد في رقعته: لا بأس عليك. فأعاد عليه رقعة أخرى. فيها: [وافر] كأنّ الخلق ركّب فيه روح ... له جسد وأنت عليه رأس أمين الله، إن الحبس بأس ... وقد وقّعت «ليس عليك بأس» فأمر بإطلاقه. الحجاب أبو حاتم عن العتبي عن أبيه أن عبد «3» العزيز بن زرارة الكلابي وقف

على باب معاوية فقال: من يستأذن لي اليوم فأدخله غدا؟ وهو في شملتين، فلما دخل على معاوية قال: هززت ذوائب الرحال إليك إذ لم أجد معوّلا إلا عليك. أمتطي الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار. يقودني نحوك رجاء وتسوقني إليك بلوى، والنفس مستطئة والاجتهاد عاذر. فأكرمه وقرّبه. فقال في ذلك. [وافر] دخلت على معاوية بن حرب ... وذلك إذ يئست من الدخول وما نلت الدخول عليه حتّى ... حللت محلّة الرّجل الذليل وأغضيت الجفون على قذاها ... ولم أسمع إلى قال وقيل فأدركت الذي أمّلت فيه ... بمكث والخطا زاد العجول وقال غير العتبي: لما دخل عبد العزيز بن زرارة على معاوية قال له: «إني رحلت إليك بالأمل واحتملت جفوتك بالصبر، ورأيت ببابك أقواما قدّمهم الحظّ، وآخرين باعدهم الحرمان. وليس ينبغي للمتقدم أن يأمن ولا للمتأخر أن ييأس. وأول المعرفة الاختبار فابل واختبر» وفي حجّاب معاوية إياه يقول شاعر مضر «1» : [سريع] من يأذن اليوم لعبد العزيز ... يأذن له عبد عزيز غدا قال أبو اليقظان: كان عبد العزيز بن زرارة فتى العرب. استأذن أبو سفيان على عثمان فحجبه. فقيل له: حجبك أمير المؤمنين؟ فقال لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني. وحجب معاوية أبا الدرداء فقال

أبو الدرداء: من يغش سدد السلطان يقم ويقعد ومن صادف بابا عنه مغلقا وجد إلى جانبه بابا فتحا، إن دعا أجيب وإذا سأل أعطي. قال رجل لحاجبه: إنك عين أنظر بها وجنّة «1» أستنيم إليها، وقد ولّيتك بابي، فما تراك صانعا برعيتي؟ قال: أنظر إليهم بعينك وأحملهم على قدر منازلهم عندك وأضعهم في إبطائهم عن زيارتك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم وأرتّبهم حيث وضعهم ترتيبك وأحسن إبلاغك عنهم وإبلاغهم عنك. قال: قد وفّيت ما لك وما عليك إن صدّقته بفعل. وكان يقال: حاجب الرجل حارس عرضه. وقرأت في التاج أن أبرويز قال لحاجبه: «لا تقدّمنّ مستغيثا ولا تضعنّ ذا شرف بصعوبة حجاب ولا ترفعنّ ذا ضعة بسهولته. وضع الرجال مواضع أخطارهم، فمن كان مقدّما له الشرف ممن ازدرعه «2» ولم يهدمه من بعد بنائه فقدّمه على شرفه الأوّل وحسن رأيه الآخر، ومن كان له شرف مقدّم فلم يصن ذلك إبلاغا به ولم يزدرعه تثميرا له فألحق بآبائه مهلة سبقهم في خواصهم، وألحق به في خاصته ما ألحق بنفسه. لا تأذن له إلا دبرا ولا تأذن له إلا سرارا «3» . وإذا ورد عليك كتاب عامل من عمّالي فلا تحبسه عني طرفة عين إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إليّ فيها، وإن أتاك مدّع لنصيحة فاستكتبها سرّا ثم أدخله بعد أن تستأذن له. حتى إذا كان مني بحيث أراه فادفع إليّ كتابه، فإن أحمدت قبلت وإن كرهت رفضت، ولا ترفعنّ إليّ طلبة

طالب إن منعته بخّلني وإن أعطيته ازدراني، إلا بمؤامرة مني من غير أن تعلمه أنك قد أعلمتني وإن أتاك عالم يستأذن عليّ لعلم يزعم أنه عنده فاسأله: ما علمه ذلك؟ ثم استأذن له فإن العلم كاسمه، ولا تحجبنّ سخطة ولا تأذننّ رضا، أخصص بذلك الملك ولا تخصّ به نفسك» . الهيثم قال: قال خالد بن عبد الله لحاجبه: «لا تحجبنّ عنّي أحدا إذا أخذت مجلسي، فإن الوالي لا يحجب إلا عن ثلاث: عيّ يكره أن يطّلع عليه منه، أو ريبة، أو بخل فيكره أن يدخل عليه من يسأله» . ومنه أخذ ذلك محمود الورّاق «1» فقال: [طويل] إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه ... وردّ ذوي الحاجات دون حجابه ظننت به إحدى ثلاث وربّما ... نزعت بظنّ واقع بصوابه فقلت به مسّ من العيّ «2» ظاهر ... ففي إذنه للناس إظهار ما به فإن لم يكن عيّ اللسان فغالب ... من البخل يحمي ما له عن طلابه «3» فإن لم يكن هذا ولا ذا فريبة ... يصرّ عليها عند إغلاق بابه وقال بعض الشعراء: [مجزوء المديد] إعلمن إن كنت تعلمه ... أنّ عرض الملك حاجبه فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه وقال آخر: [سريع] كم من فتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار في ذمّته قد كثّر الحاجب أعداءه ... وسلّط الذّمّ على نعمته

حضر باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعة منهم سهيل بن عمرو وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس فخرج الآذن فقال: أين صهيب؟ أين عمّار؟ أين سلمان؟ فتمعّرت «1» وجوه القوم. فقال واحد منهم: لم تتمعّر وجوهكم؟ دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر. وقال بعض الشعراء: [طويل] سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يخفّ قليلا إذا لم نجد للإذن عندك موضعا ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا وقال آخر لحاجب: [طويل] سأترك بابا أنت تملك إذنه ... وإن كنت أعمى عن جميع المسالك فلو كنت بوّاب الجنان تركتها ... وحوّلت رحلي مسرعا نحو مالك وكتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف: [طويل] لئن عدت بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم متى ينجح الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم؟ وقال آخر: [متقارب] ولست بمتّخذ صاحبا ... يقيم على بابه حاجبا إذا جئت قال له: حاجة ... وإن عدت ألفيته غائبا ويلزم إخوانه حقّه ... وليس يرى حقّهم واجبا فلست بلاقيه حتى الممات ... إذا أنا لم ألقه راكبا

وقال عبد الله «1» بن سعيد في حاجب الحجّاج «2» وكان يحجبه دائما: [طويل] ألا ربّ نصح يغلق الباب دونه ... وغشّ إلى جنب السرير يقرّب وقال آخر: [سريع] ما ضاقت الأرض على راغب ... يطّلب الرزق ولا هارب بل ضاقت الأرض على طالب ... أصبح يشكو جفوة الحاجب وحجب رجل عن باب سلطان فكتب إليه: «نحن نعوذ بالله من المطامع الدنيّة والهمم القصيرة وابتذال الحرّية، فإن نفسي، والحمد لله، أبيّة ما سقطت وراء همّة ولا خذلها صبر عند نازلة ولا استرقّها طمع ولا طبعت على طبع وقد رأيتك ولّيت عرضك من لا يصونه ووصلت ببابك من يشينه وجعلت ترجمان عقلك من يكثر من أعدائك وينقص من أوليائك ويسيء العبارة عنك ويوجه وفد الذم إليك ويضغن قلوب إخوانك عليك إذ كان لا يعرف لشريف قدرا ولا لصديق منزلة، ويزيل المراتب عن جهل بها وبدرجاتها فيحطّ العليّ إلى مرتبة الوضيع ويرفع الدنيّ إلى مرتبة الرفيع ويحتقر الضعيف لضعفه وتنبو عينه عن ذي البذاذة «3» ويميل إلى ذي اللباس والزينة ويقدّم على الهوى ويقبل الرّشا» .

وقال بشار، وقيل هو لغيره: [كامل] تأبي خلائق خالد «1» وفعاله ... إلّا تجنّب كلّ أمر عائب فإذا أتيت الباب وقت غدائه ... أذن الغداء برغم أنف الحاجب وهذا ضدّ قول الآخر: [سريع] إذا تغدّى فرّ بوّابه ... وارتدّ من غير يد بابه ومات من شهوة ما يحتسي ... عياله طرّا وأصحابه وقال آخر: [خفيف] يا أميرا على جريب «2» من الأر ... ض له تسعة من الحجّاب قاعدا في الخراب يحجب عنه ... ما سمعنا بحاجب في خراب! وقال آخر «3» : [طويل] على أي باب أطلب الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه «4» وقال الطائي: [بسيط] يا أيها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب

وقال أيضا: [كامل] ومحجّب حاولته فوجدته ... نجما عن الرّكب العفاة شسوعا أعدمته لمّا عدمت نواله ... شكري فرحنا معدمين جميعا وقال آخر: [خفيف] قد أطلنا بالباب أمس القعودا ... وجفينا به جفاء شديدا وذممنا العبيد حتى إذا نح ... ن بلونا المولى عذرنا العبيدا وحجب رجل فكتب: [طويل] أبا جعفر، إن الولاية إن تكن ... منبّلة قوما فأنت لها نبل فلا ترتفع عنّا لشيء وليته ... كما لم يصغّر عندنا شأنك العزل وكتب رجل من الكتّاب في هذا المعنى إلى صديق له: «إن كان ذهولك «1» عنا لدنيا أخضلت «2» عليك سماؤها وأرتبت بك «3» ديمها فإن أكثر ما يجري في الظن بك بل في اليقين منك أنك أملك ما تكون لعنانك أن يجمح بك ولنفسك، أن تستعلي عليك إذا لانت لك أكنافها وانقاد في كفّك زمامها؛ لأنك لم تنل ما نلت خلسا ولا خطفا، ولا عن مقدار جرف إليك غير حقك وأمال نحوك سوى نصيبك. فإن ذهبت إلى أنّ حقك قد يحتمل في قوّته وسعته أن تضمّ إليه الجفوة والنّبوة فيتضاءل في جنبه ويصغر عن كبيره فغير مدفوع عن ذلك. وايم «4» الله لولا ما بليت به النفس من الظّنّ بك وأن مكانك منها لا

يسدّه غيرك لسخت عنك وذهلت عن إقبالك وإدبارك ولكان في جفائك ما يردّ من غرّتها ويبرّد من غلتها، ولكنه لما تكاملت النعمة لك تكاملت الرغبة فيك» . أبو حاتم عن العتبيّ قال: قال معاوية لحصين بن المنذر وكان يدخل عليه في أخريات الناس: يا أبا ساسان، كأنه لا يحسن إذنك. فأنشأ «1» يقول: [طويل] كلّ خفيف الشأن يسعى مشمّرا ... إذا فتح البوّاب بابك إصبعا ونحن الجلوس الماكثون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا وقال بعض الشعراء في بشر بن مروان: [طويل] بعيد مردّ العين ما ردّ طرفه ... حذار الغواشي «2» باب دار ولا ستر ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم «3» سود أو صقالبة حمر ولكنّ بشرا يسّر الباب للتي ... يكون له في غبّها الحمد والأجر وقال بشر: [طويل] فلا تبخلا بخل ابن قرعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين إذا جئته في العرف أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين؟

وقال ابن هرمة «1» يمدح: [كامل] هشّ إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدّب الخدّام وإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيّهما أخو الأرحام وكتب رجل إلى بعض الملوك: [وافر] إذا كان الجواد له حجاب ... فما فضل الجواد على البخيل فكتب إليه الآخر: [وافر] إذا كان الجواد قليل مال ... ولم يعذر تعلّل بالحجاب وقال عبيد الله «2» بن عكراش: [طويل] وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... على طمع عند اللئيم يطالبه وأرثي له من مجلس عند بابه ... كمرثيتي للطّرف «3» والعلج راكبه وكتب عبد الله بن أبي عيينة «4» إلى صديق له: [وافر] أتيتك زائرا لقضاء حق ... فحال السّتر دونك والحجاب ولست بساقط في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذّباب

أبو حاتم عن عبد الله بن مصعب الزبيري قال: كنا بباب الفضل «1» بن الربيع وهم يأذنون لذوي الهيئات والشارات وأعرابي يدنو فكلما دنا طرح. فقام ناحية وأنشأ يقول: [بسيط] رأيت آذننا يعتام «2» بزّتنا ... وليس للحسب الزاكي بمعتام ولو دعينا على الأحساب قدّمني ... مجد تليد وجدّ «3» راجح نامي متى رأيت الصقور الجدل يقدمها ... خلطان من رخم قرع ومن هام؟ دخل شريك الحارثي على معاوية فقال له معاوية: من أنت؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، ما رأيت لك هفوة قبل هذه، مثلك ينكر مثلي من رعيته! فقال له معاوية: إن معرفتك متفرقة، أعرف وجهك إذا حضرت في الوجوه، وأعرف اسمك في الأسماء إذا ذكرت، ولا أعلم أن ذلك الاسم هو هذا الوجه، فاذكر لي اسمك تجتمع معرفتك. إستأذن رجلان على معاوية فأذن لأحدهما وكان أشرف منزلة من الآخر، ثم أذن للآخر فدخل عليه فجلس فوق صاحبه. فقال معاوية: إن الله قد ألزمنا تأديبكم كما ألزمنا رعايتكم، وأنّا لم نأذن له قبلك ونحن نريد أن يكون مجلسه دونك. فقم لا أقام الله لك وزنا. دخل أبو مجلز «4» على عمر بن عبد العزيز حين أقدمه من خراسان، فلم

يقبل عليه. فلما خرج قال له بعض من حضر المجلس. هذا أبو مجلز. فردّه واعتذر إليه وقال: إني لم أعرفك. قال: يا أمير المؤمنين، فهلا أنكرتني؟. قال أشجع «1» السلمي يذكر باب محمد بن منصور بن زياد «2» : [مجزوء الهزج] على باب ابن منصور ... علامات من البذل جماعات وحسب البا ... ب فضلا كثرة الأهل وكانت العرب تتعوّذ بالله من قرع الفناء ومن قرع المراح. وقال بعض الشعراء: [كامل] مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأنّ بابك مجمع الأسواق أرجوك أم خافوك أم شاموا الحيا «3» ... بحراك «4» فانتجعوا من الآفاق وقال آخر: [سريع] يزدحم الناس على بابه ... والمشرب العذّب كثير الزحام وقال آخر: [رجز] إن النّدى حيث ترى الضّغاطا يعني الزحام. وقال بشار: [خفيف] ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ... ف ولكن يلذّ طعم العطاء

يسقط الطير حيث ينتثر الح ... بّ وتغشى منازل الكرماء دقّ رجل على عمر بن عبد العزيز الباب فقال عمر: من هذا؟ قال: أنا قال عمر: ما نعرف أحدا من إخواننا يسمّى أنا. خرج شبيب بن شيبة من دار الخلافة يوما فقال له قائل: كيف رأيت الناس؟ فقال: رأيت الداخل راجيا ورأيت الخارج راضيا. قال أبو العتاهية: [متقارب] إذا اشتدّ دوني حجاب امرىء ... كفيت المؤونة حجّابه حجب أعرابي على باب السلطان فقال: [طويل] أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها «1» وقال جرير: [كامل] قوم إذا حضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب «2» وقال آخر: [طويل] لما وردت الباب أيقنت أننا ... على الله والسلطان غير كرام «3» وقال أبو القمقام «4» الأسدي:

التلطف في مخاطبة السلطان وإلقاء النصيحة إليه

[بسيط] أبلغ أبا مالك عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام أدخلت قبلي قوما لم يكن لهم ... من قبل أن يلجوا الأبواب قدّامي لو عدّ بيت وبيت كنت أكرمهم ... بيتا وأبعدهم من منزل الذّام فقد جعلت إذا ما حاجتي نزلت ... بباب دارك أذلوها بأقوام التلطّف في مخاطبة السلطان وإلقاء النصيحة إليه العتبي قال: قال عمرو بن عتبة للوليد حين تنكّر له الناس: يا أمير المؤمنين، إنك تنطقني بالأنس بك وأنا أكفت ذلك بالهيبة لك. وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا أم اقول مشفقا؟ فقال: كلّ مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. ونعود فنقول؛ فقتل بعد أيام. وفي إلقاء النصيحة إليه: قرأت في كتاب للهند أن رجلا دخل على بعض ملوكهم فقال له: أيها الملك، نصيحتك واجبة في الحقير الصغير بله «1» الجليل الخطير ولولا الثقة بفضيلة رأيك واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع والقلوب في جنب صلاح العاقبة وتلافي الحادث قبل تفاقمه لكان خرقا مني أن أقول، وإن كنا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك وأنفسنا معلقة بنفسك لم أجد بدّا من أداء الحق إليك وإن أنت لم تسألني أو خفت ألّا تقبل مني، فإنه يقال: من كتم السلطان نصحه والأطباء مرضه والإخوان بثّه فقد خان نفسه.

الخفوت في طاعته

الخفوت في طاعته قال بعض الخلفاء لجرير بن يزيد: إني قد أعددتك لأمر. قال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعدّ لك منّي قلبا معقودا بنصيحتك ويدا مبسوطة بطاعتك وسيفا مشحوذا على عدّوك فإذا شئت فقل. وفي مثله: قال إسحاق بن إبراهيم قال لي جعفر بن يحيى اغد عليّ لكذا. فقلت: أنا والصبح كفرسي رهان. وفي مثله: أمر بعض الأمراء رجلا بأمر فقال له: أنا أطوع لك من اليد وأذلّ لك من النّعل. وقال آخر: أن أطوع لك من الرّداء وأذلّ لك من الحذاء. التلطّف في مدحه قال خالد بن عبد الله القسري «1» لعمر بن عبد العزيز: من كانت الخلافة زانته، فإنك قد زنتها، ومن كانت شرفته فإنك قد شرّفتها، فأنت كما قال القائل: [خفيف] وإذا الدّرّ زان حسن وجوه ... كان للدّر حسن وجهك زينا فقال عمر: أعطي صاحبكم مقولا ولم يعط معقولا. وكتب بعض الأدباء إلى بعض الوزراء: «إن أمير المؤمنين منذ استخلصك لنفسه فنظر بعينك وسمع بأذنك ونطق بلسانك وأخذ وأعطى بيدك وأورد وأصدر عن رأيك، وكان تفويضه إليك بعد امتحانك وتسليطه الرأي على الهوى فيك بعد أن ميّل بينك وبين الذين سموا لرتبتك وجروا إلى غايتك فأسقطهم مضمارك وخفّوا في ميزانك ولم يزدك رفعة إلا ازددت لله تواضعا، ولا بسطا وإيناسا إلا ازددت له هيبة وإجلالا، ولا تسليطا ونمكينا إلا ازددت

عن الدنيا عزوفا، ولا تقريبا إلا ازددت من العامة قربا. ولا يخرجك فرط النصح للسلطان عن النظر لرعيته، ولا إيثار حقّه عن الأخذ لها بحقّها عنده، ولا القيام بما هو له عن تضمّن ما عليه، ولا تشغلك جلائل الأمور عن التفقّد لصغارها، ولا الجذل بصلاحها واستقامتها عن استشعار الحذر وإمعان النظر في عواقبها» . وفي مدحه: دخل العماني الراجز على الرشيد لينشده وعليه قلنسوة طويلة وخفّ «1» ساذج، فقال له الرشيد: يا عماني، إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور «2» وخفّان دمالقان «3» فبكّر إليه من الغد وقد تزيّا بزيّ الأعراب ثم أنشده وقبّل يده وقال: يا أمير المؤمنين، قد، والله، أنشدت مروان ورأيت وجهه وقبّلت يده وأخذت جائزته ثم يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد ثم السفّاح ثم المنصور ثم المهدي. كلّ هؤلاء رأيت وجوههم وقبّلت أيديهم وأخذت جوائزهم، إلى كثير من أشباه الخلفاء وكبار الأمراء والسادة والرؤساء، والله ما رأيت فيهم أبهى منظرا ولا أحسن وجها ولا أنعم كفّا ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين. فأعظم له الجائزة على شعره وأضعف له على كلامه وأقبل عليه فبسطه حتى تمنّى جميع من حضر أنه قام ذلك المقام. وفي المديح: كتب الفضل بن سهل إلى أخيه الحسن بن سهل فقال: «إن الله قد جعل جدّك عاليا وجعلك في كل خير مقدما وإلى غاية كل فضل سابقا وصيّرك، وإن نأت بك الدار، من أمير المؤمنين وكرامته قريبا، وقد جدّد

لك من البرّ كيت وكيت. وكذا يحوز الله لك من الدين والدنيا والعز والشرف أكثره وأشرفه إن شاء الله» . وفي مدحه: قال الرشيد يوما لبعض الشعراء: هل أحدثت فينا شيئا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، المديح فيك دون قدرك والشعر فيك فوق قدري، ولكنّي أستحسن قول العتّابيّ «1» : [بسيط] ماذا يرى قائل يثني عليك وقد ... ناداك في الوحي تقديس وتطهير فتّ المدائح إلا أنّ ألسننا ... مستنطقات لما تخفي الضمائير في عترة لم تقم إلا بطاعتهم ... من الكتّاب ولم تقض المشاعير هذي يمينك في قرباك صائلة ... وصارم من سيوف الهند مأثور وفي مدحه: كتب بعض الكتّاب إلى بعض الأمراء: «إن من النعمة على المثني عليك أنه لا يخاف الإفراط ولا يأمن التقصير ولا يحذر أن تلحقه نقيصة الكذب ولا ينتهي به المدح إلى غاية إلا وجد في فضلك عونا على تجاوزها. ومن سعادة جدّك أن الداعي لك لا يعدم كثرة المشايعين ومساعدة النيّة على ظاهر القول» . وفي مثله كتب بعض الأدباء إلى الوزير: «مما يعين على شكرك كثرة المنصتين له، ومما يبسط لسان مادحك أمنه من تحمّل الإثم فيه وتكذيب السامعين له» . وفي مثل ذلك: لمّا عقد معاوية البيعة ليزيد قام الناس يخطبون فقال لعمرو بن سعيد: قم يا أبا أمية. فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما

بعد فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه وأجل تأمنونه، إن استضفتم إلى حلمه وسعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم، جذع قارح سوبق فسبق وموجد فمجد وقورع فخرج فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه» فقال معاوية: أوسعت يا أبا أمية فاجلس. وفي مثل ذلك: قال رجل للحسن بن سهل: «أيها الأمير، أسكتني عن وصفك تساوي أفعالك في السؤدد وحيّرني فيها كثرة عددها فليس إلى ذكر جميعها سبيل، وإن أردت ذكر واحدة اعترضت أختها إذ لم تكن الأولى أحق بالذكر منها، فلست أصفها إلا بإظهار العجز عن صفتها» . وفي مثل ذلك: كتب آخر إلى محمد بن عبد الملك «إن مما يطمعني في بقاء النعمة عليك، ويزيدني بصيرة في العلم بدوامها لديك أنك أخذتها بحقها واستوجبتها بما فيك من أسبابها، ومن شأن الأجناس أن تتواصل وشأن الأشكال أن تتقاوم، والشيء يتغلغل في معدنه ويحنّ إلى عنصره، فإذا صادف منبته ولزّ في مغرسه ضرب بعرقه وسمق بفرغه وتمكّن الإقامة وثبت ثبات الطبيعة» . وفي مثل ذلك: كتب آخر إلى بعض الوزراء: «رأيتني فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر الذي لا يخفى على ناظر، وأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك» . وفي مثله كتب العتّابي إلى خالد بن يزيد: «أنت، أيها الأمير، وارث سلفك وبقية أعلام أهل بيتك، المسدود بك ثلمهم والمجدّد بك قديم شرفهم

والمنبّه بك أيام صيتهم والمنبسط بك آمالنا والصائر بك أكالنا «1» والمأخوذ بك حظوظنا، فإنه لم يحمل من كنت وارثه، ولا درست آثار من كنت سالك سبيله ولا امّحت معاهد من خلفته في مرتبته» . وفي شكره: قرأت في التاج قال بعض الكتاب للملك: «الحمد لله الذي أعلقني سببا من أسباب الملك ورفع خسيستي بمخاطبته وعزّز ركني من الذّلة به وأظهر بسطتي في العامّة وزيّن مقاومتي في المشاهدة وفقأ عني عيون الحسدة وذلّل لي رقاب الجبابرة وأعظم لي رغبات الرعيّة وجعل لي به عقبا يوطأ وخطرا يعظّم ومزية تحسن، والذي حقّق فيّ رجاء من كان يأملني وظاهر به قوة من كان ينصرني وبسط به رغبة من كان يسترفدني، والذي أدخلني من ظلال الملك في جناح سترني، وجعلني من أكنافه في كنف اتسع عليّ» . وفي شكره وتعداد نعمه: قرأت في سير العجم أن أردشير لما استوثق له أمره جمع الناس وخطبهم خطبة بليغة حضّهم فيها على الألفة والطاعة وحذّرهم المعصية وصنّف الناس أربعة أصناف، فخّر القوم سجّدا وتكلّم متكلّمهم مجيبا فقال: «لا زلت أيها الملك محبوا من الله بعزّة النصر ودرك الأمل ودوام العافية وحسن المزيد، ولا زلت تتابع لديك النّعم وتسبغ عندك الكرامات والفضل حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها ولا تنقطع زهرتها في دار القرار التي أعدّها الله لنظرائك من أهل الزّلفى عنده والحظوة لديه، ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر زائدين زيادة البحور والأنهار حتى تستوي أقطار الأرض كلّها في علوّك عليها ونفاذ أمرك فيها، فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمّنا عموم ضياء الشمس ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما

اتصل بأنفسنا اتصال النسم، فجمعت الأيدي بعد افتراقها والكلمة بعد اختلافها وألّفت بين القلوب بعد تباغضها وأذهبت الإحن والحسائك بعد استعار نيرانها، وأصبح فضلك لا يدرك بوصف ولا يحدّ بتعداد، ثم لم ترض بما عمّمتنا به من هذه النّعم وظاهرت من هذه الأيادي حتى أحببت توطيدها والإستيثاق منها وعملت لنا في دوامها كعملك في إقامتها وكفلت من ذلك ما نرجو نفعه في الخلوف والأعقاب، وبلغت همّتك لنا فيه حيث لا تبلغ همم الآباء للأولاد، فجزاك الله الذي رضاه تحرّيت وفي موافقته سعيت أفضل ما التمست ونويت» . وفي مثله: قال خالد بن صفوان لوال دخل عليه: «قدمت فأعطيت كلّا بقسطه من نظرك ومجلسك وصلاتك وعدلك حتى كأنك من كل أحد أو كأنك لست من أحد» . وفي شكره: كتب بعض الكتّاب إلى الوزير يشكر له: «من شكر لك عن درجة رفعته إليها أو ثروة أفدته إياها فإن شكري إياك على مهجة أحييتها وحشاشة تبقّيتها ورمق أمسكت به وقمت بين التلف وبينه» . وفي شكره: قرأت في كتاب: «ولكل نعمة من نعم الدنيا حدّ تنتهي إليه ومدى توقف عنده وغاية في الشكر يسمو إليها الطّرف خلا هذه النعمة التي فاتت الوصف وطالت الشكر وتجاوزت كل قدر وأتت من وراء كل غاية وجمعت من أمير المؤمنين مننا جمّة أبقت للماضين مننا وللباقين فخر الأبد وردّت عنا كيد العدوّ وأرغمت عنا أنف الحسود وبسطت لنا عزا نتداوله ثم نخلفه للأعقاب فنحن نلجأ من أمير المؤمنين إلى ظلّ ظليل وكنف كريم وقلب عطوف ونظر رؤوف، فكيف يشكر الشاكر منا وأين يبلغ اجتهاد مجتهدنا ومتى نؤدّي ما يلزمنا ونقضي المفترض علينا؟ وهذا كتاب أمير المؤمنين الذي لو لم

التلطف في مسألة العفو

تكن له ولآبائه الراشدين عند من مضى لنا ومن غيرنا إلا ما ورد من صنوف كرامته وأياديه ولطيف ألفاظه ومخاطبته، لكان في ذلك ما يحسّن الشكر ويستفرغ المجهود» . التلطف في مسألة العفو قال كسر ليوشت «1» المغنيّ وقد قتل فهلوذ «2» حين فاقه وكان تلميذه: «كنت أستريح منه إليك ومنك إليه فأذهب شطر تمتّعي حسدك ونغل صدرك» ثم أمر أن يلقى تحت أرجل الفيلة فقال: أيها الملك، إذا قتلت أنا شطر طربك وأبطلته وقتلت أنت شطره الآخر وأبطلته، أليس تكون جنايتك على طربك كجنايتي عليه؟ قال كسرى: دعوه، ما دلّه على هذا الكلام إلا ما جعل له من طول المدّة. وفي العفو أيضا: قال رجل للمنصور: «الانتقام عدل والتجاوز فضل ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين» . وفي العفو: جلس الحجاج يقتل أصحاب عبد الرحمن، فقام إليه رجل منهم فقال: أيها الأمير، إنّ لي عليك حقا. قال: وما حقك عليّ؟ قال: سبّك عبد الرحمن يوما فرددت عنك. قال: ومن يعلم ذاك؟ فقال الرجل: أنشد الله رجلا سمع ذاك إلا شهد به. فقام رجل من الأسرى فقال: قد كان ذاك أيها الأمير. فقال: خلّوا عنه. ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر؟ قال: لقديم بغضي إياك. قال: ويخلّى هذا لصدقه.

وفي العفو: أسر معاوية يوم صفّين رجلا من أصحاب عليّ صلوات الله عليه، فلما أقيم بين يديه قال: الحمد لله الذي أمكن منك. قال: لا تقل ذاك فإنها مصيبة. قال: وأيّة نعمة أعظم من أن يكون الله أظفرني برجل قتل في ساعة واحدة جماعة من أصحابي. إضربا عنقه. فقال: اللهم أشهد أن معاوية لم يقتلني فيك ولا لأنك ترضى قتلي، ولكن قتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله. فقال: قاتلك الله! لقد سببت فأوجعت في السب ودعوت فأبلغت في الدعاء. خلّيا سبيله. وفي مثله. أخذ عبد الملك بن مروان سارقا فأمر بقطع يده فقال: [طويل] يدي، يا أمير المؤمنين، أعيذها ... بعفوك أن تلقى نكالا يشينها فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها فأبى إلّا قطعها، فدخلت عليه أمّه فقال: يا أمير المؤمنين، واحدي وكاسبي. فقال: بئس الكاسب! هذا حدّ من حدود الله. فقال: اجعله من الذنوب التي تستغفر الله منها. فعفا عنه. وفي مثله: أخذ عبد الله بن علي أسيرا من أصحاب مروان فأمر بضرب عنقه فلما رفع السيف ليضرب به ضرط الشامي فوقع العمود بين يدي الغلام ونفرت دابة عبد الله فضحك وقال: إذهب فأنت عتيق استك. فالتفت إليه وقال: أصلح الله الأمير! رأيت ضرطة قطّ أنجت من الموت غير هذه؟ قال:

لا، قال هذا والله الإدبار. قال: وكيف ذاك؟ قال: ما ظنك بنا وكنا ندفع الموت بأسنّتنا فصرنا ندفعه اليوم بأستاهنا. وفي مثله: خرج النعمان «1» بن المنذر في غبّ سماء فمرّ برجل من بني يشكر جالسا على غدير ماء، فقال له: أتعرف النعمان؟ قال اليشكري: أليس ابن سلمى؟ قال: نعم. قال: والله لربما أمررت يدي على فرجها. قال له: ويحك، النعمان بن المنذر! قال: قد خبرتك. فما انقضى كلامه حتى لحقته الخيل وحيّوه بتحية الملك. فقال له: كيف قلت؟ قال: أبيت اللعن، إنك، والله، ما رأيت شيخا أكذب ولا ألأم ولا أوضع ولا أعضّ ببظر أمه من شيخ بين يديك. فقال النعمان: دعوه، فأنشأ يقول: [مجزوء كامل] تعفو الملوك عن العظي ... م من الذنوب لفضلها ولقد تعاقب في اليسي ... ر وليس ذاك لجهلها إلا ليعرف فضلها ... ويخاف شدّة نكلها وفي مثله: لمّا أخذ المأمون إبراهيم بن المهدي استشار أبا إسحاق والعباس في قتله فأشارا به، فقال له المأمون: قد أشارا بقتلك. فقال إبراهيم: أما أن يكونا قد نصحا لك في عظم الخلافة وما جرت به عادة السياسة فقد فعلا، ولكنك تأبى أن تستجلب النصر إلا من حيث عوّدك الله. وكان في اعتذاره إليه أن قال: إنه وإن بلغ جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغانني عفوه ولي بعدهما شفعة الإقرار بالذنب وحقّ الأبوة

بعد الأب. فقال المأمون: لو لم يكن في حق سببك حقّ الصفح عن جرمك لبلّغك ما أمّلت حسن تنصّلك ولطف توصّلك. وكان إبراهيم يقول بعد ذلك: والله ما عفا عني المأمون صلة لرحمي ولا محبة لاستحيائي ولا قضاء لحق عمومتي، ولكن قامت له سوق في العفو فكره أن يفسدها بي. ومن أحسن ما قيل في مثله قول العتّابي «1» : [كامل] رحل الرجاء إليك مغتربا ... حشدت عليه نوائب الدهر ردّت إليك ندامتي أملي ... وثنى إليك عنانه شكري وجعلت عتبك عتب موعظة ... ورجاء عفوك منتهى عذري وقول علي «2» بن الجهم للمتوكل: [متقارب] عفا الله عنك ألا حرمة ... تعوذ بعفوك أن أبعدا لئن جلّ ذنب ولم أعتمده ... لأنت أجلّ وأعلى يدا ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشيدا هدى ومفسد أمر تلافيته ... فعاد فأصلح ما أفسدا؟ أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الردى وفي مثله. وجد بعض الأمراء على رجل فجفاه واطّرحه حينا ثم دعا به ليسأله عن شيء فرآه ناحلا شاحبا. فقال له: متى اعتللت؟ فقال: [سريع] ما مسّني سقم ولكنني ... جفوت نفسي إذ جفاني الأمير فعاد له.

وقال آخر: [طويل] ألا إنّ خير العفو عفو معجّل ... وشرّ العقاب ما يجاز به القدر وكان يقال: بحسب العقوبة أن تكون على مقدار الذنب. وفي العفو: قال بعضهم: إن عاقبت جازيت وإن عفوت أحسنت والعفو أقرب للتقوى. ونحوه: قال رجل لبعض الأمراء: أسألك بالذي أنت بين يديه أذلّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي إلّا نظرت في أمري نظر من برئي أحبّ إليه من سقمي وبراءتي أحبّ إليه من جرمي. ونحوه قول آخر: قديم الحرمة وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة. وفي مثله: أتى الأحنف بن قيس «1» مصعب بن «2» الزّبير فكلّمه في قوم حبسهم، فقال، أصلح الله الأمير: إن كانوا حبسوا في باطل فالحق يخرجهم، وإن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم، فخلّاهم. وفي مثله: أمر معاوية بعقوبة روح «3» بن زنباع فقال له روح: أنشدك الله، يا أمير المؤمنين، أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها أو تنقض مني مرّة «4»

أنت أبرمتها أو تشمت بي عدوا أنت وقمته «1» وإلّا أتى حلمك وعفوك على جهلي وإساءتي. فقال معاوية: خلّيا عنه. ثم أنشد: [طويل] إذا الله سنّى عقد أمر تيسّرا وفي مثله. أمر عمر بن عبد العزيز بعقوبة رجل قد كان نذر إن أمكنه الله منه ليفعلنّ به وليفعلن. فقال له رجاء «2» بن حيوة: قد فعل الله ما تحب من الظفر فافعل ما يحب الله من العفو. وفي مثله: قال ابن القرّيّة «3» للحجاج في كلام له: أقلني عثرتي وأسغني ريقي فإنه لا بد للجواد من كبوة ولا بد للسيف من نبوة ولا بد للحليم من هفوة. فقال الحجاج: كلّا، والله حتى أوردك جهنّم. ألست القائل برستقباذ «4» : تغدّوا الجدي قبل أن يتعشّاكم. وفي مثله: أمر عبد الملك بن مروان بقتل رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أعزّ ما تكون أحوج ما تكون إلى الله، فاعف له فإنك به تعان وإليه تعود. فخلّى سبيله. وفي مثله. قال خالد بن عبد الله لسليمان بعد أن عذبه بما عذّبه به: إن القدرة تذهب الحفيظة وقد جلّ قدرك عن العتاب ونحن مقرّون بالذنب، فإن

تعف فأهل العفو وإن تعاقب فبما كان منا. فقال: أمّا حتّى تأتي الشام راجلا فلا عفو. وفي مثله: ضرب الحجاج أعناق أسارى أتي بهم، فقال رجل منهم: والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في المكافأة. فقال الحجاج: أفّ لهذه الجيف! أما كان فيهم أحد يحسن مثل هذا! وكفّ عن القتل. وفي مثله: أخذ مصعب بن الزبير رجلا من أصحاب المختار فأمر بضرب عنقه. فقال: أيها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلّق بأطرافك وأقول: أي ربّ سل مصعبا فيم قتلني. قال: أطلقوه. قال: إجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض. قال: أعطوه مائة ألف. قال: بأبي أنت وأمي، أشهد الله أنّ لابن قيس «1» الرّقيّات منها خمسين ألفا. قال: ولم؟ قال: لقوله فيك: [خفيف] إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلّت عن وجهه الظّلماء ملكه ملك رحمة ليس فيه ... جبروت يخشى ولا كبرياء تتّقي الله في الأمور وقد أفل ... لح من كان همّه الإتقاء فضحك مصعب، وقال: أرى فيك موضعا للصنيعة، وأمره بلزومه وأحسن إليه فلم يزل معه حتى قتل. وفي مثله: قال عبد الله «2» بن الحجاج الثعلبي لعبد الملك بن مروان:

هربت إليك من العراق. قال: كذبت، ليس إلينا هربت، ولكنك هربت من دم الحسين وخفت على دمك فلجأت إلينا. ثم جاء يوما آخر فقال: [كامل] أدنوا لترحمني وترتق «1» خلّتي ... وأراك تدفعني فأين المدفع؟ ونحوه قول الآخر: [خفيف] كنت من كربتي أفرّ إليهم ... فهمو كربتي فأين الفرار «2» ؟ وفي مثله: قنّع الحجاج رجلا في مجلسه ثلاثين سوطا وهو في ذلك يقول: [طويل] وليس بتعزير الأمير خزاية ... عليّ إذا ما كنت غير مريّب «3» ونحوه: [طويل] وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر وفي مثله: مر الحسن البصري برجل يقاد منه. فقال للوليّ: يا عبد الله، إنك لا تدري لعل هذا قتل وليّك وهو لا يريد قتله، وأنت تقتله متعمدا، فانظر لنفسك. قال: قد تركته لله. وفي مثله: حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: رمي الحجاج فقال: أنظروا من هذا؟ فأومأ رجل بيده ليرمي. فأخذ فأدخل عليه وقد ذهبت روحه. قال عيسى بصوت ضعيف يحكي الحجاج: أنت الرّامينا منذ الليلة؟ قال: نعم أيها الأمير. قال، ما حملك على ذلك؟ قال:

الغيّ، والله، واللؤم. قال: خلّوا عنه. وكان إذا صدق انكسر. وفي مثله: حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن عثمان الشحّام قال: أتي الحجاج بالشّعبي فقال له: أخرجت علينا يا شعبي؟ قال: أجدب بنا الجناب وأحزن بنا المنزل واستحلسنا الخوف واكتحلنا السهر وأصابتنا خزية لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء. فقال الحجاج: لله أبوك. ثم أرسله. وفي مثله: أتي موسى بن المهدي برجل كان قد حبسه فجعل يقرّعه بذنوبه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إعتذاري مما تقرّعني به ردّ عليك وإقراري بما تعتدّه عليّ يلزمني ذنبا لم أجنه، ولكني أقول: [طويل] فإن كنت ترجو بالعقوبة راحة ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر وفي مثله: قال الحسن بن سهل لنعيم بن حازم وقد اعتذر إليه من ذنب عظّمه: على رسلك أيها الرجل، تقدّمت لك طاعة وتأخّرت لك توبة، وليس لذنب بينهما مكان، وما ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو. وفي الدعاء له: قال رجل لبعض الأمراء: «إني لو كنت أعرف كلاما يجوز ألقى به الأمير غير ما جرى على ألسن الناس، لأحببت أن أبلغ ذلك فيما أدعو به له وأعظّم من أمره، غير أن أسأل الله الذي لا يخفى عليه ما تحتجب به الغيوب من نيات القلوب أن يجعل ما يطّلع عليه مما تبلغه نيتي في إرادته للأمير أدنى ما يؤتيه إياه من عطاياه ومواهبه» . وفي الدعاء له: قرأت في كتاب رجل من الكتاب «لا زالت أيامك ممدودة بين أمل لك تبلغه وأمل فيك تحقّقه حتى تتملّى من الأعمار أطولها وترقى من الدرجات أفضلها» .

وفي الدعاء: دخل محمد بن عبد الملك «1» بن صالح على المأمون حين قبضت ضياعه فقال: السلام عليك أمير المؤمنين. محمد بن عبد الملك سليل نعمتك وابن دولتك وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن له في الكلام؟ قال: نعم. فتكلّم بعد حمد الله والثناء عليه. فقال: «نستمتع الله لحياطة ديننا ودنيانا ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك يا أمير المؤمنين ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا وفي أثرك من آثارنا ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا. هذا مقام العائذ بظلّك الهارب إلى كنفك وفضلك الفقير إلى رحمتك وعدلك» ثم تكلّم في حاجته. وفي شكر السلطان وفي حمده: قدم رجل على سليمان بن عبد الملك في خلافته فقال له: ما أقدمك عليّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما أقدمني عليك رغبة ولا رهبة. قال: وكيف ذاك؟ قال: أما الرغبة فقد وصلت إلينا وفاضت في رحالنا وتناولها الأقصى والأدنى منّا، وأما الرّهبة فقد أمنّا بعدلك، يا أمير المؤمنين، علينا وحسن سيرتك فينا من الظلم، فنحن وفد الشكر. وفي حمده: كتب بعض الكتّاب إلى وزير: «كلّ مدى يبلغه القائل بفضلك والواصف لأيامك والشاكر للنعمة الشاملة بك قصد أمم «2» عند الفضائل الموفورة لك والمواهب المقسومة للرعية بك، فواجب على من عرف قدر النعمة بك أن يشكرها وعلى من أظله عزّ أيامك أن يستديمه وعلى من حاطته دولتك أن يدعو الله ببقائها ونمائها، فقد جمع الله بك الشّتات وأصلح بها الفساد وقبض الأيدي الجائرة وعطف القلوب النافرة، فأمّنت سرب البريء وخفضت جأشه وأخفت سبل الجاني وأخذت عليه مذاهبه ومطالعه ووقفت

بالخاصّة والعامة على قصد من السيرة أمنوا بها من العثار والكبوة» . وفي حضّه على شكر الله، عز وجل، قال شبيب بن شيبة «1» للمهدي: إن الله، عزّ وجل، لم يرض أن يجعلك دون أحد من خلقه، فلا ترض بأن يكون أحد أشكر له منك والسلام. تم كتاب السلطان، ويتلوه كتاب الحرب

كتاب الحرب

كتاب الحرب اداب الحرب ومكايدها قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن هشام والأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنّوا لقاء العدوّ فعسى أن تبتلوا بهم ولكن قولوا: اللهمّ اكفنا وكفّ عنّا بأسهم، وإذا جاءوكم يعزفون ويزحفون ويصيحون فعليكم الأرض جلوسا، ثم قولوا: اللهمّ أنت ربّنا وربّهم، ونواصينا ونواصيهم بيدك، فإذا غشوكم فثوروا في وجوههم» . حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية عن أبي إسحاق عن سعيد بن عبد العزيز عمن حدّثه أنّ أبا الدّرداء قال: أيها الناس: عمل صالح قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم. حدّثنا القاسم بن الحسن عن الحسن بن الربيع عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بعث أمراء الجيوش أوصاهم بتقوى الله العظيم، ثم قال عند عقد الألوية: بسم الله وعلى عون الله وامضوا بتأييد الله بالنصر وبلزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. لا تجبنوا عند اللقاء ولا تمثّلوا عند القدرة ولا تسرفوا عند الظهور ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا.

وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزّحفان وعند حمّة النّهضات «1» وفي شنّ الغارات. ولا تغلّوا عند الغنائم ونزّهوا الجهاد عن عرض الدنيا وابشروا بالرّباح في البيع الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم. استشار قوم أكثم «2» بن صيفيّ في حرب قوم أرادوهم وسألوه أن يوصيهم فقال: أقلّوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصّياح من الفشل والمرء يعجز لا محالة. تثبّتوا فإن أحزم الفريقين الرّكين «3» ، وربّت عجلة تعقب ريثا «4» ، واتّزروا للحرب وادّرعوا الليل فإنه أخفى للويل، ولا جماعة لمن اختلف عليه. وقال بعض الحكماء: قد جمع الله لنا أدب الحرب في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا

اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ «1» . حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن الأوزاعيّ قال: قال عتبة بن ربيعة يوم بدر لأصحابه: ألا ترونهم- يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- جثيّا على الرّكب كأنهم خرس يتلمّظون تلمّظ الحيّات. قال: وسمعتهم عائشة يكبّرون يوم الجمل فقالت: لا تكثروا الصياح فإن كثرة التكبير عند اللقاء من الفشل. وذكر أبو حاتم عن العتبيّ عن أبي إبراهيم قال: أوصى أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين وجّهه إلى الشام فقال: يا يزيد، سر على بركة الله. فإذا دخلت بلاد العدوّ فكن بعيدا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد وسر بالأدلّاء ولا تقاتل بمجروح فإنّ بعضه ليس منه، واحترس من البيات «2» فإنّ في العرب غرّة، وأقلل من الكلام فإنما لك ما وعي عنك. وإذا أتاك كتابي فأنفذه فإنما أعمل على حسب إنفاذه. وإذا قدمت عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك وأسبغ عليهم النفقة وامنع الناس عن محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين. ولا تلحّنّ في عقوبة فإن أدناها وجع ولا تسرعنّ إليها وأنت تكتفي بغيرها. واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سرائرهم. ولا تجسّس عسكرك فتفضحه ولا تهمله فتفسده. وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.

قال أبو بكر لعكرمة حين وجهه إلى عمان: يا عكرمة، سر على بركة الله ولا تنزل على مستأمن ولا تؤمّننّ على حق مسلم وأهدر الكفر بعضه ببعض وقدّم النّذر «1» بين يديك. ومهما قلت إني فاعل فافعله ولا تجعل قولك لغوا في عقوبة ولا عفو، ولا ترج إذا أمّنت ولا تخافنّ إذا خوّفت ولكن انظر متى تقول وما تقول. ولا تعدنّ معصية بأكثر من عقوبتنا فإن فعلت أثمت وإن تركت كذبت. ولا تؤمّننّ شريفا دون أن يكفل بأهله ولا تكفلنّ ضعيفا أكثر من نفسه. واتق الله فإذا لقيت فاصبر. وأوصى عبد الملك بن صالح أمير سريّة إلى بلاد الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيّس «2» الذي إن وجد ربحا تجر، وإلا احتفظ برأس المال. ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة. وكن من احتيالك على عدوّك أشدّ حذرا من احتيال عدوّك عليك. وحدّثني محمد بن عبيد عن ابن عيينة قال: أخبرني رجل من أهل المدينة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن حارثة أو لعمرو بن العاص: «إذا بعثتك في سريّة فلا تتنقّهم واقتطعهم فإن الله ينصر القوم بأضعفهم» . حدّثني محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال: غزا نبيّ من الأنبياء أو غير نبي فقال: «لا يغزونّ معي رجل بنى بناء لم يكمله، ولا رجل تزوّج امرأة لم يبن بها، ولا رجل زرع زرعا ثم لم يحصده» . وذكر ابن عباس عليا فقال: ما رأيت رئيسا يوزن به، لرأيته يوم صفّين

وكأنّ عينيه سراجا سليط وهو يحمّس أصحابه إلى أن انتهى إليّ وأنا في كثف «1» فقال: معشر المسلمين، إستشعروا الخشية وعنّوا «2» الأصوات وتجلببوا السكينة وأكملوا اللّؤم وأخفّوا الخوذ «3» وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل السّلّة والحظوا الشّزر واطعنوا «4» النّبر ونافحوا بالظّبا وصلوا السيوف بالخطا والرماح بالنّبل وامشوا إلى الموت مشيا سجحا. وعليكم بهذا السواد الأعظم والرّواق المطنّب فاضربوا ثبجه «5» فإن الشيطان راكد في كسره نافج خصييه مفترش ذراعيه قد قدّم للوثبة يدا وأخّر للنّكوص رجلا. ولما ولّى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له: إن أباك كفى أخاه عظيما، وقد استكفيتك صغيرا فلا تتّكلنّ على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك. وإياك منّي قبل أن أقول إياي منك، فإنّ الظن إذا أخلف فيك أخلف منك. وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحنّ نفسك، وكن لنفسك تكن لك، واذكر في يومك أحاديث غدك ترشد إن شاء الله. قال الأصمعي قالت أم جبغويه ملك طخارستان لنصر بن سيّار الليثي: ينبغي للأمير أن تكون له ستة أشياء: وزير يثق به ويفشي إليه سرّه، وحصن يلجأ إليه إذا فزع فينجيه- يعني فرسا- وسيف إذا نازل به الأقران لم يخف خونه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة أخذها، وامرأة إذا دخل عليها

أذهبت همّه، وطبّاخ إذا لم يشته الطعام صنع له ما يشتهيه. وبلغني عن عبّاد بن كثير عن عقيل بن خالد عن الزّهري عن عبيد الله ابن عبد الله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف وما غلب قوم قطّ يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم» . وقال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم عن قلّة. وكانوا اثني عشر ألفا فهزم المسلمون يومئذ وأنزل الله عزّ وجل: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ «1» الآية. وقالوا كان يقال: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي، قال الله تعالى؛ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «2» والمكر، قال الله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «3» والنّكث، قال عزّ وجل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «4» . وقرأت في كتاب للهند: لا ظفر مع بغي، ولا صحّة مع نهم، ولا ثناء مع كبر، ولا صداقة مع خبّ «5» ، ولا شرف مع سوء أدب، ولا برّ مع شحّ، ولا اجتناب محرّم مع حرص، ولا محبة مع زهو، ولا ولاية حكم مع عدم فقه،

ولا عذر مع إصرار، ولا سلامة مع ريبة، ولا راحة قلب مع حسد، ولا سؤدد مع انتقام، ولا رياسة مع غرارة وعجب، ولا صواب مع ترك المشاورة، ولا ثبات ملك مع تهاون وجهالة وزراء. خرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمّه ذلك فقيل له: ما يهمّك منهم؟ وجّه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكهم. فقال: لا، إنّ وكيعا رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلّت مبالاته بعدوّه فلم يحترس منه فيجد عدوّه منه غرّة. وقرأت في بعض كتب العجم أنّ ملكا من ملوكهم سئل: أيّ مكايد الحرب أحزم؟ فقال: إذكاء العيون واستطلاع الأخبار وإفشاء الغلبة وإظهار السرور وأمانة الفرق والاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن يستنصح ولا استنصاح لمن يستغشّ ولا تحويل شيء عن شيء إلا بسدّ ناحية من المراتب وحسن مجاملة الظنون وإشغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره. وسئل عن وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدوّ عن الرّيف وإعداد العيون على الرّصد وإعطاء المبلّغين على الصدق ومعاقبة المتوصّلين بالكذب وألّا تحرج هاربا إلى قتال ولا تضيّق أمانا على مستأمن ولا تشبّ عن أصحابك للبغية ولا تشدهنّك الغنيمة عن المحاذرة. وقرأت في كتاب للهند: الحازم يحذر عدوّه على كل حال. يحذر المواثبة إن قرب، والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف، والاستطراد إن ولّى، والمكر إن رآه وحيدا. ويكره القتال ما وجد بدّا لأن النفقة فيه من الأنفس والنفقة في غيره من المال. وقرأت في الآيين: قد جرت السنة في المحاربة أن يوضع من كان من الجند أعسر في الميسرة ليكون لقاؤه يسرا ورميه شزرا وأن يكون اللقاء من

الفرسان قدما وترك ذلك على حال ممايلة أو مجانبة وأن يرتاد للقلب مكانا مشرفا ويلتمس وضعه فيه فإن أصحاب الميمنة والميسرة لا يقهرون ولا يغلبون وإن زالتا بعض الزوال ما ثبت الماذيان «1» فإن زالت الماذيان لم ينتفع بثبات الميمنة والميسرة. وإذا عيّ الجند فليناوش أهل الميمنة والماذيان فأما الميسرة فلا يشذّنّ منهم أحد إلّا أن يبادر إليهم من العدوّ من يخاف بائقته فيردّون عاديتهم مع أنّ أصحاب الميمنة والماذيان لا يقدرون على لقاء من يناوشهم والرجوع إلى أصحابهم عاطفين، وأصحاب الميسرة لا يقدرون على مناوشة إلّا مائلين ويعجزهم الرجوع عاطفين. ولا يألونّ صاحب الجيش على حال من الحال أن يستدبر جنده عين الشمس والريح، ولا يحاربنّ جندا إلا على أشدّ الضرورة وعلى حال لا يوجد معها من المحاربة بدّ، فإذا كان كذلك فليجهد صاحب الجيش أن يدافع بالحرب إلى آخر النهار. وينبغي على كل حال أن يخلّى بين المنهزمين وبين الذهاب ولا يحبسوا. وإن كان الجند قد نزلوا على ماء وأراد العدوّ أن ينالوا من الماء فليس من الرأي أن يحال بينهم وبينه لئلا يحرجوا إلى الجدّ في محاربتهم. وإن كان العدوّ قد نزلوا بماء وأراد الجند غلبتهم عليه فإن وقت طلب ذلك عند ريّ العدوّ من الماء وسقيهم دوابّهم منه وعند حاجة الجند إليه، فإنّ أسلس ما يكون الإنسان عن الشيء عند استغنائه عنه وأشدّ ما يكون طلبا للشيء عند حاجته إليه. ولتسر الطلائع في قرار من الأرض ويقفوا على التّلاع ولا يجوزوا أرضا لم يستقصوا خبرها. وليكمن الكمين في الخمر «2» والأماكن الخفية. وليطرح الحسك في المواضع

التي يتخوّف فيها البيات. وليحترس صاحب الجيش من انتشار الخبر عنه فإنّ في انتشاره فساد العسكر وانتقاضه. وإذا كان أكثر من في الجند من المقاتلة مجرّبين ذوي حنكة وبأس فبدار العدوّ الجند إلى الوقعة خير للجند. وإذا كان أكثرهم أغمارا ولم يكن من القتال بدّ فبدار الجند إلى مقاتلة العدوّ أفضل للجند. وليس ينبغي للجند أن يقاتلوا عدوّا إلا أن تكون عدّتهم أربعة أضعاف عدّة العدوّ أو ثلاثة أضعافهم، فإن غزاهم عدوّهم لزمهم أن يقاتلوهم بعد أن يزيدوا على عدّة العدوّ مثل نصف عدّتهم. وإن توسّط العدوّ بلادهم لزمهم أن يقاتلوهم وإن كانوا أقل منهم، وينبغي أن ينتخب للكمين من الجند أهل جرأة وشجاعة وتيقّظ وصرامة وليس بهم أنين ولا سعال ولا عطاس ويختار لهم من الدواب ما لا يصهل ولا ينهت «1» ، ويختار لكمونهم مواضع لا تغشى ولا تؤتى، قريبة من الماء حتى ينالوا منه إن طال مكثهم، وأن يكون إقدامهم بعد الرويّة والتشاور والثقة بإصابة الفرصة، ولا يخيفوا سباعا ولا طيرا ولا وحشا. وأن يكون إيقاعهم كضريم الحريق، وليجتنبوا الغنائم ولينهضوا من المكمن متفرقين إذا ترك العدوّ الحراسة وإقامة الرّمايا، وإذا أونس من طلائعهم توان وتفريط وإذا أمرجوا دوابّهم في الرعي، وأشدّ ما يكون البرد في الشتاء وأشدّ ما يكون الحر في الصيف. وأن يرفضّوا ويفترقوا إذا ثاروا من مكمنهم بعد أن يستخير بعضهم بعضا وأن يسرعوا الإيقاع بعدوّهم ويتركوا التلبّث والتلفّت. وينبغي للمبيّتين أن يفترصوا البيات إذا هبّت ريح أو أونس من نهر قريب منهم خرير فإنه أجدر ألا يسمع لهم حسّ. وأن يتوخّى بالوقعة نصف الليل أو أشدّ ما يكون إظلاما. وأن يصير جماعة من الجند وسط عسكر العدوّ وبقيتهم حوله، ويبدأ بالوقعة من يصير منهم في الوسط ليسمع بالضجّة والضوضاء من

ذلك الموضع لا من حوله، وأن يشرّد قبل الوقعة الأفره فالأفره من دوابّهم ويقطّع أرسانها وتهمز بالرماح في أعجازها حتى تتحيّر وتعير ويسمع لها ضوضاء، وأن يهتف هاتف ويقول: يا معشر أهل العسكر، النجاء النجاء فقد قتل قائدكم فلان وقتل خلق وهرب خلق. ويقول قائل: أيها الرجل، استحيني لله. ويقول آخر: العفو العفو. وآخر: أوّه أوّه، ونحو هذا من الكلام. وليعلم أنه إنما يحتاج في البيات «1» إلى تحيير العدوّ وإخافته وليجتنبوا التقاط الأمتعة واستياق الدوابّ وأخذ الغنائم. قال: وينبغي في محاصرة الحصون أن يستمال من يقدر على استمالته من أهل الحصن والمدينة ليظفر منهم بخصلتين: إحداهما استنباط أسرارهم، والأخرى إخافتهم وإفزاعهم بهم، وأن يدسّ منهم من يصغّر شأنهم ويؤيسهم من المدد ويخبرهم أنّ سرّهم منتشر في مكيدتهم، وأن يفاض حول الحصن ويشار إليه بالأيدي كأن فيه مواضع حصينة وأخر ذليلة ومواضع ينصب المجانيق «2» عليها ومواضع تهيّأ العرّادات «3» لها ومواضع تنقب نقبا ومواضع توضع السّلالم عليها ومواضع يتسوّر منها ومواضع يضرم النار فيها ليملأهم ذلك رعبا، ويكتب على نشّابة «4» : إياكم أهل الحصن والاغترار وإغفال الحراسة، عليكم بحفظ الأبواب فإن الزمان خبيث وأهله أهل غدر فقد خدع أكثر أهل الحصن واستميلوا، ويرمى بتلك النّشابة في الحصن ثم يدسّ لمخاطبتهم المنطيق «5» المصيب الدّهيّ الموارب المخاتل غير المهذار ولا المغفّل. وتؤخّر الحرب ما أمكن ذلك فإن في المحاربة جرأد منهم على من

حاربهم ودليلا على الحيلة والمكيدة، فإن كان لا بد من المحاربة فليحاربوا بأخفّ العدّة وأيسر الآلة. وينبغي أن يغلب العدوّ على الأرض ذات الخمر «1» والشجر والأنهار للمعسكر ومصافّ الجنود ويخلّى بين العدوّ وبين بساط الأرض ودكادكها «2» . وفي بعض كتب العجم أن بعض الحكماء سئل عن أشدّ الأمور تدريبا للجنود وشحذا لها، فقال: إستعادة القتال وكثرة الظّفر، وأن تكون لها موادّ من ورائها وغنيمة فيما أمامها؛ ثم الإكرام للجيش بعد الظّفر والإبلاغ بالمجتهدين بعد المناصبة، والتشريف للشجاع على رؤوس الناس. قال المدائني: قال نصر بن سيّار: كان عظماء الترك يقولون: القائد العظيم ينبغي أن تكون فيه خصال من أخلاق الحيوان: شجاعة الدّيك، وتحنّن الدجاجة، وقلب الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وختل الذئب. وكان يقال في صفة الرجل الجامع: له وثبة الأسد، وروغان الثعلب، وختل الذئب وجمع الذّرّة، وبكور الغراب. وكان يقال: أصلح الرجال للحرب المجرّب الشجاع الناصح. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي الأصمّ قال: قيل لعمرو بن معاوية العقيلي وكان صاحب صوائف: بم ضبطت الصوائف؟ أي الثغور قال: بسمانة الظهر وكثرة الكعك والقديد «3» . وفي كتاب الآيين: ليكن أوّل ما تحمله معك خبزا ثم خبزا. وإياك والمفارش والثياب. أبو اليقظان قال: قال شبيب الخارجي: الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع. وكان إذا أمسى قال

لأصحابه: أتاكم المدد، يعني الليل. وقيل لبعض الملوك: بيّت عدوّك. قال: أكره أن أجعل غلبتي سرقة. المدائني قال: لما اشتغل عبد الملك بمحاربة مصعب بن الزبير اجتمع وجوه الروم إلى ملكهم فقالوا: قد أمكنتك الفرصة من العرب بتشاغل بعضهم ببعض، فالرأي أن تغزوهم في بلادهم. فنهاهم عن ذلك وخطّأ رأيهم، ودعا بكلبين فأرّش «1» بينهما فاقتتلا قتالا شديدا، ثم دعا بثعلب فخلّاه بينهما، فلما رأى الكلبان الثعلب تركا ما كانا فيه وأقبلا على الثعلب حتى قتلاه، فقال لهم ملك الروم: هذا مثلنا ومثلهم. فعرفوا صدقه وحسن رأيه ورجعوا عن رأيهم. وأوصى بعض الحكماء ملكا فقال: لا يكن العدوّ الذي قد كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظّنين الذي يستتر لك بمخاتلته، فإنه ربما تخوّف الرجل السّمّ الذي هو أقتل الأشياء وقتله الماء الذي يحيي الأشياء، وربما تخوّف أن يقتله الملوك التي تملكه ثم قتلته العبيد التي يملكها. فلا تكن للعدوّ الذي تناصب بأحذر منك للطعام الذي تأكل. وأنا لكل أمر أخذت منه نذيرك وإن عظم آمن منّي من كل أمر عرّيته من نذيرك وإن صغر. واعلم أن مدينتك حرز من عدوّك، ولا مدينة تحرّز فيها من طعامك وشرابك ولباسك وطيبك، وليست من هذه الأربع واحدة إلا وقد تقتل بها الملوك. وذكر عبد الملك بن صالح الهاشمي أن خالد بن برمك، حين فصل مع قحطبة من خراسان، بينا هو على سطح بيت في قرية قد نزلاها وهم يتغدّون نظر إلى الصحراء فرأى أقاطيع ظباء قد أقبلت من جهة الصحارى حتى كادت تخالط العسكر، فقال لقحطبة: أيها الأمير ناد في الناس: يا خيل الله اركبي،

فإن العدوّ قد نهد إليك وحثّ، وغاية أصحابك أن يسرجوا ويلجموا قبل أن يروا سرعان الخيل، فقام قحطبة مذعورا فلم ير شيئا يروعه ولم يعاين غبارا، فقال لخالد: ما هذا الرأي؟ فقال خالد: أيها الأمير، لا تتشاغل بي وناد في الناس. أما ترى أقاطيع الوحش قد أقبلت وفارقت مواضعها حتى خالطت الناس؟ إن وراءها لجمعا كثيفا. قال: فوالله ما أسرجوا ولا ألجموا حتى رأوا ساطع الغبار فسلموا، ولولا ذلك لكان الجيش قد اصطلم. وقال بعض الحكماء لبعض الملوك: آمرك بالتقدّم والأمر ممكن، وبالإعداد لغد من قبل دخولك في غد كما تعدّ السلاح لمن تخاف أن يقاتلك وعسى ألا يقاتلك، وكما تأخذ عتاد البناء من قبل أن تصيبه السماء وأنت تدري لعلها لا تصيبه، بل كما تعدّ الطعام لعدد الأيام وأنت لا تدري لعلك لا تأكله. وكان يقال: كل شيء طلبته في وقته فقد مضى وقته. وقرأت في كتاب سير العجم أن فيروز بن يزدجرد بن بهرام لمّا ملك سار بجنوده نحو خراسان ليغزو اخشنوار ملك الهياطلة ببلخ، فلما انتهى إلى بلاده اشتدّ رعب اخشنوار منه وحذره له، فناظر أصحابه ووزراءه في أمره، فقال له رجل منهم: أعطني موثقا وعهدا تطمئن إليه نفسي أن تكفيني أهلي وولدي وتحسن إليهم وتخلفني فيهم، ثم اقطع يديّ ورجليّ وألقني على طريق فيروز حتى يمرّ بي هو وأصحابه فأكفيك مؤونتهم وشوكتهم وأورّطهم مورّطا تكون فيه هلكتهم. فقال له اخشنوار: وما الذي تنتفع به من سلامتنا وصلاح حالنا إذا أنت قد هلكت ولم تشركنا في ذلك؟ قال: إني قد بلغت ما كنت أحبّ أن أبلغه من الدنيا وأنا موقنّ بأن الموت لا بدّ منه وإن تأخّر أياما قلائل، فأحب أن أختم عمري بأفضل ما تختم به الأعمار من النصيحة لإخواني والنكاية في عدوّي فيشرف بذلك عقبى وأصيب سعادة ووحظوة فيما

أمامي، ففعل به ذلك وأمر به فألقي حيث وصف له. فلما مرّ به فيروز سأله عن أمره فأخبره أن اخشنوار فعل ذلك به وأنه احتال حتى حمل إلى ذلك الموضع ليدلّه على عورته وغرّته وقال: إني أدلك على طريق هو أقرب من هذا الذي تريدون سلوكه وأخفى، فلا يشعر اخشنوار حتى تهجموا عليه فينتقم الله لي منه بكم، وليس في هذا الطريق من المكروه إلا تفويز يومين ثم تفضون إلى كل ما تحبون. فقبل فيروز قوله بعد أن أشار عليه وزراؤه بالاتهام له والحذر منه وبغير ذلك، فخالفهم وسلك الطريق حتى انتهى بهم إلى موضع من المفازة لا صدر عنه ثم بيّن لهم أمره فتفرقوا في المفازة يمينا وشمالا يلتسمون الماء فقتل العطش أكثرهم ولم يخلص مع فيروز منهم إلا عدّة يسيرة فإنهم انطلقوا معه حتى أشرفوا على أعدائهم وهم مستعدّون لهم فواقعهم على تلك الحالة وعلى ما بهم من الضرّ والجهد فاستمكنوا منهم وأعظموا النكاية فيهم، ثم رغب فيروز إلى اخشنوار وسأله أن يمنّ عليه وعلى من بقي من أصحابه على أن يجعل لهم عهد الله وميثاقه ألا يغزوه أبدا فيما يستقبل من عمره وعلى أنه يحدّ فيما بينه وبين مملكته حدّا لا تجاوزه جنوده، فرضي اخشنوار بذلك وخلّى سبيله وانصرف إلى مملكته، فمكث فيروز برهة من دهره كئيبا ثم حمله الأنف على أن يعود لغزوه ودعا أصحابه إلى ذلك فردّوه عنه وقالوا: إنك قد عاهدته ونحن نتخوّف عليك عاقبة البغي والغدر مع ما في ذلك من العار وسوء المقالة. فقال لهم: إني إنما شرطت له ألّا أجوز الحجر الذي جعلته بيني وبينه فأنا آمر بالحجر ليحمل على عجلة أمامنا. فقالوا له: أيها الملك، إنّ العهود والمواثيق التي يتعاطاها الناس بينهم لا تحمل على ما يسرّ المعطي لها ولكن على ما يعلن المعطى، وإنك إنما جعلت له عهد الله وميثاقه على الأمر الذي عرفه لا على أمر لم يخطر بباله. فأبى

فيروز ومضى في غزاته حتى انتهى إلى الهياطلة وتصافّ الفريقان للقتال فأرسل اخشنوار إلى فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفيّهم ليكلمه، فخرج إليه فقال له اخشنوار قد ظننت أنه لم يدعك إلى غزونا إلّا الأنف مما أصابك. ولعمري لئن كنّا احتلنا لك بما رأيت، لقد كنت التمست منّا أعظم منه، وما ابتدأناك ببغي ولا ظلم ولا أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وعن حريمنا، ولقد كنت جديرا أن تكون، من سوء مكافأتنا بمنّنا عليك وعلى من معك من نقض العهد والميثاق الذي وكّدت على نفسك، أعظم أنفا وأشدّ امتعاضا مما نالك منّا، فإنّا أطلقناكم وأنتم أسرى ومننّا عليكم وأنتم مشرفون على الهلكه وحقنّا دماءكم وبنا قدرة على سفكها، وإنّا لم نجبرك على ما شرطت لنا بل كنت أنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه ففكّر في ذلك وميّل بين هذين الأمرين فانظر أيّهما أشدّ عارا وأقبح سماعا، إن طلب رجل أمرا فلم يتح له وسلك سبيلا فلم يظفر فيها ببغيته واستمكن منه عدوّه على حال جهد وضيعة منه وممن معه، فمنّ عليهم وأطلقهم على شرط شرطوه وأمر اصطلحوا عليه فاضطرّ لمكروه القضاء واستحيا من النّكث والغدر أن يقال امرؤ نكث العهد وختر «1» الميثاق. مع أني قد ظننت أنه يزيدك نجاحا ما تثق به من كثرة جنودك وما ترى من حسن عدّتهم وطاعتهم لك، وما أجدني أشكّ أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق ودعوتهم إلى ما يسخط الله، فهم في حربنا غير مستبصرين ونيّاتهم في مناصحتك اليوم مدخولة، فانظر ما قدر غناء من يقاتل على مثل هذه الحال، وما عسى أن تبلغ نكايته في عدوّه إذا كان عارفا بأنه. إن ظفر فمع عار وإن قتل

فإلى النار، فأنا أذكّرك الله الذي جعلته على نفسك كفيلا ونعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشفائكم على الممات، وأدعوك إلى ما فيه حظّك ورشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوه أو كرهوه، فأحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره، ومع ذلك إنك لست على ثقة من الظّفر بنا والبلوغ لنهمتك فينا وإنما تلتمس منا أمرا نلتمس منك مثله وتناويء عدوّا لعله يمنح النصر عليك فقد بالغت في الاحتجاج عليك وتقدّمت في الإعذار إليك ونحن نستظهر بالله الذي اعتززنا به ووثقنا بما جعلته لنا من عهده إذا استظهرت بكثرة جنودك وازدهتك عدّة أصحابك، فدونك هذه النصيحة فوالله. ما كان أحد من نصحائك ببالغ لك أكثر منها ولا زائد لك عليها، ولا يحرمنّك منفعتها مخرجها مني فإنّه لا يزري بالمنافع عند ذوي الرأي أن كانت من قبل الأعداء كما لا يحبّب المضارّ إليهم أن تكون على أيدي الأولياء. واعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مقالتي ضعف أحسّه من نفسي ولا قلة من جنودي، ولكني أحببت أن أزداد حجّة واستظهارا، وأزداد به من الله للنصر والمعونة استيجابا ولا أؤثر على العافية والسلامة شيئا ما وجدت إليهما سبيلا، فأبى فيروز إلا تعلّقا بحجّته في الحجر الذي جعله حدّا بينه وبينه وقال: لست ممن يردعه عن الأمر يهمّ به وعيد ولا يقتاده التهدّد والترهيب، ولو كنت أرى ما أطلبك غدرا مني ما كان أحد أنظر ولا أشدّ اتقاء منيّ على نفسي فلا يغرّنّك منّا الحال التي صادفتنا عليها في المرّة الأولى من القلّة والجهد والضعف. قال اخشنوار: لا يغرّنّك ما تخدع به نفسك من حملك الحجر أمامك، فإنّ الناس لو كانوا يعطون العهود على ما تصف من إسرار أمر وإعلان آخر، إذا ما كان ينبغي لأحد أن يغترّ بأمان ولا يثق بعهد، وإذا لما قبل الناس شيئا مما يعطونه من ذلك، ولكنّه وضع على العلانية وعلى نية من تعقد العهود والشروط له. فانصرفا يومهما ذلك فقال فيروز لأصحابه:

لقد كان اخشنوار حسن المحاورة. وما رأيت للفرس الذي كان تحته نظيرا في الدواب فإنه لم يزل قوائمه ولم يرفع حوافره عن موضعها ولا صهل ولا أحدث شيئا يقطع به المحاورة في طول ما تواقفنا. وقال اخشنوار لأصحابه: لقد واقفت فيروز كما علمتم وعليه السلاح كلّه فلم يحرّك رأسه ولم ينزع رجله من ركابه ولا حنا ظهره ولا التفت يمينا ولا شمالا، ولقد تورّكت أنا مرارا وتمطيت على فرسي وتلفّت إلى من خلفي ومددت بصري أمامي وهو منتصب ساكن على حاله، ولولا محاورته إياي لظننت أنه لا يبصرني. وإنما أرادا بما وصفا من ذلك أن ينتشر هذان الحديثان في أهل عسكريهما فيشغلوا بالإفاضة فيهما عن النظر فيما تذاكراه. فلما كان في اليوم الثاني أخرج اخشنوار الصحيفة التي كتبها لهم فيروز، فرفعها على رمح لينظر إليها أهل عسكر فيروز فيعرفون غدره وبغيه ويخرجون من متابعته، فانتقض عسكر فيروز واختلفوا وما لبثوا إلا يسيرا حتى انهزموا وقتل منهم خلق كثير وهلك فيروز، فقال اخشنوار: لقد صدق الذي قال: لا رادّ لما قدّر، ولا أشدّ إحالة لمنافع الرأي من الهوى واللّجاج، ولا أضيع من نصيحة يمنحها من لا يوطّن نفسه على قبولها والصبر على مكروهها، ولا أسرع عقوبة ولا أسوأ عاقبة من البغي والغدر، ولا أجلب لعظيم العار والفضوح من إفراط الفخر والأنفة. وقال أبو اليقظان: لما خرج شبيب «1» بن يزيد بن نعيم الخارجي بالموصل بعث إليه الحجّاج قائدا فقتله ثم قائدا فقتله كذلك حتى أتى على

الأوقات التي تختار للسفر والحرب

خمسة قوّاد قتلهم وهزم جيوشهم وكان أحد القوّاد موسى بن طلحة بن عبيد الله، ثم خرج شبيب من الموصل يريد الكوفة وخرج الحجّاج من البصرة يريد الكوفة فطمع شبيب أن يلقى الحجاج قبل أن يصل إلى الكوفة فأقحم الحجاج خيله فدخل الكوفة قبله، ومرّ شبيب بعتاب بن ورقاء فقتله ومرّ بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهرب منه، وقدم شبيب الكوفة وآلى ألّا يبرح عنها أو يلقى الحجاج فيقتله أو يقتل دونه؛ فخرج الحجاج إليه في خيله، فلما قرب منه عمد إلى سلاحه فألبسه أبا الورد مولاه وحمله على الدّابة التي كان عليها، فلما تواقفا قال شبيب: أروني الحجاج، فأومأ له إلى أبي الورد فحمل عليه فقتله، ثم خرج من الكوفة يريد الأهواز فغرق في دجيل وهو يقول: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «1» . الأوقات التي تختار للسفر والحرب حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهريّ قال: كان أحبّ الأيام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعقد فيه رايته يوم الخميس، وكان أحبّ الأيام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر فيه يوم الخميس. وقالت العجم: أخّر الحرب ما استطعت فإن لم تجد بدّا فاجعل ذلك آخر النهار. وحدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن ابن عون عن محمد بن سيرين أنّ النعمان بن مقرّن قال لأصحابه: إني لقيت مع

الدعاء عند اللقاء

رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من أحبّ ما يلقى فيه إذا لم يلق في أوّل النهار إذا زالت الشمس وحلّت الصلاة وهبّت الرياح ودعا المسلمون. ويروي قوم عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يكره الحجامة «1» والابتداء بعمل في محاق القمر وفي حلوله في برج العقرب. وقال بعضهم: كنت مع عمر بن عبد العزيز فوق سطح وهو يريد الركوب، فنظرت فإذا القمر بالدّبران «2» فقلت: أنظر إلى القمر ما أحسن استواءه! فرفع رأسه ثم نظر فرأى منزلته فضحك، وقال إنما أردت أن ننظر إلى منزلته، وإنّا لا نقيم لشمس ولا لقمر ولكنا نسير بالله الواحد القهّار. وكان يقال: يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم غرس وبناء، ويوم الإثنين يوم سفر وابتغاء رزق، ويوم الثلاثاء يوم حرب ودم، ويوم الأربعاء يوم الأخذ والإعطاء، ويوم الخميس يوم دخول على الأمراء وطلب الحوائج، ويوم الجمعة يوم خطب ونكاح. الدّعاء عند اللقاء حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا معاوية بن أبي إسحاق عن أبي رجاء قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول إذا اشتدّت حلقة البلاء وكانت الضّيقة: «تضيّقي تفرجي» ثم يرفع يديه فيقول: «بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم اللهمّ إياك نعبد وإياك نستعين اللهم كفّ عنا بأس الذين كفروا إنك أشدّ بأسا وأشدّ تنكيلا» فما يخفض يديه المباركتين حتى ينزل الله النصر. وحدّثني محمد بن عبيد عن معاوية عن أبي إسحاق عن موسى بن عقبة

الصبر وحض الناس يوم اللقاء عليه

عن سالم أبي النضر مولى عمرو بن عبيد الله وكان كاتبا له، قال: كتب عبد الله بن أبي أوفى حين خرج إلى الحروريّة «1» أنّ النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدوّ انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا واصبروا واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف» ثم قال: «اللهمّ منزّل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» وقال أبو النصر: وبلغنا أنه دعا في مثل ذلك فقال: «اللهمّ أنت ربّنا وربّهم وهم عبيدك ونحن عبيدك ونواصينا ونواصيهم بيدك فاهزمهم وانصرنا عليهم» . حدّثني محمد بن عبيد قال: لما صافّ قتيبة بن مسلم التّرك وهاله أمرهم سأل عن محمد بن واسع ما يصنع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سية «2» قوسه ينضنض «3» بإصبعه نحو السماء. فقال قتيبة: تلك الإصبع الفاردة أحبّ إليّ من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير. فلما فتح الله عليهم قال لمحمد: ما كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق. الصبر وحضّ الناس يوم اللّقاء عليه حدّثني سهل بن محمد قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: كان عاصم بن الحدثان رجلا من العرب عالما قديما وكان رأس الخوارج بالبصرة وربما جاءه

الرسول منهم من الجزيرة يسأله عن بعض الأمر يختصمون فيه فمرّ به الفرزدق فقال لابنه: أنشد أبا فراس، فأنشده: [كامل] وهموا إذا كسروا الجفون أكارم ... صبر وحين تحلّل الأزرار يغشون حومان المنون وإنها ... في الله عند نفوسهم لصغار يمشون في الخطّي «1» لا يثنيهم ... والقوم إذ ركبوا الرماح تجار فقال له الفرزدق: ويحك! أكتم هذا لا يسمعه النسّاجون فيخرجوا علينا بحفوفهم «2» . فقال عاصم: يا فرزدق، هذا شاعر المؤمنين وأنت شاعر الكافرين. حدّثنا سهل قال: حدّثنا الأصمعي قال: قال سليط بن سعد: قال بسطام ابن قيس لقومه: تردون على قوم آثارهم آثار نساء وأصواتهم أصوات صردان «3» ولكنهم صبر على الشرّ. يعني بني يربوع. وفي هؤلاء يقول معاوية: لو أنّ النجوم تناثرت لسقط قمرها في حجور بني يربوع. قال الأصمعيّ قلت لسليط: أكان عتيبة بن الحارث ضخما؟ قال: لا، ولا من قوم ضحام. يعني بني يربوع. وقال عمر بن الخطاب لبني عبس: كم كنتم يوم الهباءة «4» ؟ فقال: كنا مائة

كالذهب، لم نكثر فنتواكل ولم نقلّ فنذلّ. قال: فكيف كنتم تقهرون من ناوأكم ولستم بأكثر منهم عددا ولا مالا؟ قال: كنا نصبر بعد اللقاء هنيهة. قال: فلذلك إذا. قيل لعنترة العبسيّ: كم كنتم يوم الفروق؟ «1» قال: كنا مائة لم نكثر فنفشل ولم نقلّ فنذلّ. وكان يقال: النصر مع الصبر. ومن أحسن ما قيل في الصبر، قول نهشل «2» بن حرّي بن ضمرة: [طويل] ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم تكن نار قيام على الجمر صبرنا له حتى يبوخ وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصبر ومثله قول الآخر: [طويل] بكى صاحبي لمّا رأى الموت فوقنا ... مطلّا كإطلال السّحاب إذا اكفهر فقلت له لا تبك عينك إنما ... يكون غدا حسن الثناء لمن صبر فما أخّر الإحجام يوما معجّلا ... ولا عجّل الإقدام ما أخّر القدر فآسى على حال يقلّ بها الأسى ... وقاتل حتى استبهم الورد والصّدر وكرّ حفاظا خشية العار بعد ما ... رأى الموت معروضا على منهج المكر وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه لخالد بن الوليد حين وجهه: احرص على الموت توهب لك الحياة. وتقول العرب: الشجاع موقّى. وقالت الخنساء: [متقارب] نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أوقى لها

وقال يزيد «1» بن المهلّب: [طويل] تأخّرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدّما وقال قطريّ «2» بن الفجاءة: [وافر] وقولي كلّما جشأت وجاشت ... من الأبطال ويحك لا تراعي فإنّك لو سألت حياة يوم ... سوى الأجل الذي لك لم تطاعي» وقال معاوية بن أبي سفيان: شجّعني على عليّ بن أبي طالب قول عمرو «4» بن الإطنابة: [وافر] أبت لي عفّتي وأبى «5» بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الرّبيح وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي، كلّما جشأت، لنفسي ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح

أبت لي أن أقضّي في فعالي ... وأن أغضي على أمر قبيح وقال ربيعة «1» بن مقروم: [كامل] ودعوا نزال فكنت أوّل نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل؟ وكان خالد بن الوليد يسير في الصفوف يذمّر «2» الناس ويقول: يا أهل الإسلام، إنّ الصبر عزّ وإنّ الفشل عجز وإنّ النصر مع الصبر. وقال بعض أبطال العرب: [رجز] إنّ الشّواء والنّشيل «3» والرّغف ... والقينة الحسناء والكأس الأنف للضاربين الخيل والخيل قطف وقال أعرابي: الله يخلف ما أتلف الناس، والدهر يتلف ما جمعوا، وكم من ميتة علّتها طلب الحياة، وحياة سببها التعرّض للموت. ومثله قول أبي بكر الصديق لخالد: إحرص على الموت توهب لك الحياة. قدمت منهزمة الروم على هرقل وهو بأنطاكية، فدعا رجالا من عظمائهم فقال: ويحكم! أخبروني ما هؤلاء الذين تقاتلونهم؟ أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا: بلى. يعني العرب. قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا في كلّ موطن. قال: ويلكم! فما بالكم تنهزمون كلّما لقيتموهم؟ فسكتوا، فقال شيخ منهم: أنا أخبرك، أيها الملك، من أين تؤتون. قال: أخبرني.

ذكر الحرب

قال: إذا حملنا عليهم صبروا وإذا حملوا علينا صدقوا، ونحمل عليهم فنكذب ويحملون علينا فلا نصبر. قال: ويلكم فما بالكم كما تصفون وهم كما تزعمون؟ قال الشيخ: ما كنت أراك إلا وقد علمت من أين هذا؟ قال له: من أين هو؟ قال: لأنّ القوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يظلمون أحدا ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنّا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام وننقض العهد ونغصب ونظلم ونأمر بما يسخط الله وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض. قال: صدقتني، والله لأخرجنّ من هذه القرية فما لي في صحبتكم خير وأنتم هكذا. قالوا: نشهدك الله، أيها الملك. تدع سورية وهي جنة الدنيا وحولك من الروم عدد الحصى والتراب ونجوم السماء ولم يؤت عليهم؟. ذكر الحرب قالت العرب: الحرب غشوم، لأنها تنال غير الجاني. وقال الكميت «1» : [بسيط] الناس في الحرب شتّى وهي مقبلة ... ويستوون إذا ما أدبر القبل كلّ بأمسيّها طبّ مولّية ... والعالمون بذي غدويّها قلل وقال عمر بن الخطاب رحمه الله لعمرو بن معد يكرب «2» : أخبرني عن الحرب. قال: مرّة المذاق إذا قلصت عن ساق، من صبر فيها عرف ومن

ضعف عنها تلف. وهي كما قال الشاعر: [كامل] الحرب أوّل ما تكون فتيّة ... تسعى بزينتها لكلّ جهول «1» حتى إذا استعرت وشبّ ضرامها ... عادت عجوزا غير ذات خليل شمطاء جزّت رأسها وتنكّرت ... مكروهة للّثم والتقبيل كان يزيد بن عمر بن هبيرة يحب أن يضع «2» من نصر بن سيّار «3» فكان لا يمدّه بالرجال ولا يرفع ما يرد عليه من أخبار خراسان، فلما كثر ذلك على نصر قال: [وافر] أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة «4» أم نيام ونحو قوله: «الحرب أوّلها الكلام» قول حذيفة: إنّ الفتنة تلقح بالنجوى وتنتج بالشكوى. العتبيّ عن أبيه قال: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسن: يا بنيّ لا تدعونّ أحدا إلى البراز، ولا يدعونّك أحد إليه إلا أجبته فإنه بغي.

في العدة والسلاح

في العدّة والسلاح حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد- فيما حفظت إن شاء الله- أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان عليه درعان يوم أحد. قيل لعبّاد بن الحصين وكان أشدّ رجال أهل البصرة: في أيّ عدّة تحبّ أن تلقى عدوك؟ قال: في أجل مستأخر. حدّثني زياد بن يحيى قال: حدّثنا بشر بن المفضّل قال: حدّثنا داود بن أبي هند عن عكرمة قال: لما كانت ليلة الأحزاب قالت الجنوب للشّمال: انطلقي بنا نمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال: إنّ الحرّة لا تسري بالليل، فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصّبا. حدّثني سهل بن محمد قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: حدّثنا ابن أبي الزّناد قال: ضرب الزبير بن العوّام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة فقطّه إلى القربوس «1» فقالوا: ما أجود سيفك! فغضب، يريد أنّ العمل ليده لا لسيفه. وقال الوليد بن عبيد البحتريّ يصف سيفا: [كامل] ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل متوقّد يفري بأوّل ضربة ... ما أدركت ولو انّها في يذبل «2»

وقال آخر: [طويل] وما السيف إلا بزّ «1» غاد لزينة ... إذا لم يكن أمضى من السيف حامله رئي الجرّاح بن عبد الله في بعض الحروب وقد ظاهر بين درعين، فقيل له في ذلك. فقال: إني لست أقي بدني وإنما أقي صبري. واشترى يزيد بن حاتم أدرعا وقال: إني لم أشتر أدراعا إنما اشتريت أعمارا. وقال حبيب بن المهلّب: ما رأيت رجلا في الحرب مستلئما إلا كان عندي رجلين، ولا رأيت حاسرين إلا كانا عندي واحدا. فسمع هذا الحديث بعض أهل المعرفة فقال: صدق، إنّ للسلاح فضيلة. أما تراهم ينادون عند الصّريخ: السلاح السلاح ولا ينادون: الرجال الرجال؟ قال المهلب لبنيه: يا بنيّ، لا يقعدنّ أحد منكم في السوق، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فإلى زرّاد أو سرّاج أو ورّاق. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب: أخبرني عن السلاح. قال: سل عمّا شئت منه. قال: الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك. قال النّبل؟ قال: منايا تخطىء وتصيب. قال: التّرس؟ قال: ذاك المجنّ وعليه تدور الدّوائر. قال: الدّرع؟ قال: مثقلة للراجل متعبة للفارس، وإنّها لحصن حصين. قال: السيف؟ قال: ثمّ، قارعتك أمّك عن الثّكل. قال عمر: بل أمّك. قال: الحمّى أضرعتني لك «2» . وقال الطائيّ «3» يصف الرّماح: [بسيط] مثقّفات سلبن الروم زرقتها ... العرب سمرتها والعاشق القضفا «4»

وقال دعبل «1» يصف الرّمح: [سريع] وأسمر في رأسه أزرق ... مثل لسان الحيّة الصادي «2» وقال الشاعر: [بسيط] تلمّظ السيف من شوق إلى أنس ... فالموت يلحظ والأقدار تنتظر أظلّه منك حتف قد تجلّله ... حتى يؤامر فيه رأيك القدر أمضى من السيف إلا عند قدرته ... وليس للسيف عفو حين يقتدر وقال آخر: [طويل] متى تلقني يعدو ببزّي «3» مقلّص ... كميت بهيم أو أغرّ محجّل تلاق امرأ إن تلقه فبسيفه ... تعلّمك الأيام ما كنت تجهل وقال عليّ رضي الله عنه: بقية السيف أبقى عددا وأكثر ولدا. وفي الحديث «بقيّة السيف مباركة» يعني أنّ من نجا من ضربة السيف ينمو عدده ويكثر ولده. وقال المهلّب: ليس شيء أنمى من سيف. ويقال: لا مجد أسرع من مجد سيف. وكانت درع عليّ رضي الله عنه صدرا لا ظهر لها فقيل لها في ذلك فقال: إذا استمكن عدوّي من ظهري فلا يبق. وقال أبو الشّيص «4» :

[خفيف] ختلته المنون «1» بعد اختيال ... بين صفّين من قنا ونصال في رداء من الصفيح صقيل ... وقميص من الحديد مذال «2» بلغ أبا الأغرّ أنّ أصحابه بالبادية قد وقع بينهم شرّ فبعث ابنه الأغرّ وقال: يا بنيّ، كن يدا لأصحابك على من قاتلهم، وإيّاك والسيف فإنه ظلّ الموت، واتق الرمح فإنه رشاء «3» المنيّة، ولا تقرب السّهام فإنها رسل لا تؤامر مرسلها. قال: فبماذا أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر: [طويل] جلاميد يملأن الأكفّ كأنّها ... رؤوس رجال حلّقت في المواسم وقال الخريمي «4» في بغداد أيام الفتنة: [منسرح] يا بؤس بغداد دار مملكة ... دارت على أهلها دوائرها أمهلها الله ثمّ عاقبها ... لمّا أحاطت بها كبائرها «5» رقّ بها الدّين واستخفّ بذي ال ... فضل وعزّ الرجال فاجرها

وصار ربّ الجيران فاسقهم ... وابتّز أمن الدروب شاطرها يحرق هذا وذا يهدّمها ... ويشتفي بالنّهاب داعرها والكرخ «1» أسواقها معطّلة ... يستنّ شذّابها وعائرها أخرجت الحرب من أساقطهم ... آساد غيل غلبا تساورها من البواري «2» تراسها ومن ال ... خوص إذا استلأمت مغافرها لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا ... يحشرها بالعناء حاشرها ونحوه قول عليّ «3» بن أمية: [متقارب] دهتنا أمور تشيب الوليد «4» ... ويخذل فيها الصدّيق الصدّيق فناء مبيد وذعر عتيد ... وجوع شديد وخوف وضيق وداعي الصباح بطول الصياح ال ... سلاح السلاح فما نستفيق فبالله نبلغ ما نرتجي ... وبالله ندفع ما لا نطيق جنى قوم من أهل اليمامة جناية فأرسل إليه السلطان جندا من بخاريّة «5» زياد، فقال رجل من أهل البادية يذمّر قومه: يا معشر العرب، ويا بني المحصنات، قاتلوا عن أحسابكم ونسائكم، والله لئن ظهر هؤلاء عليكم لا يدعون بها لبنة حمراء ولا نخلة خضراء إلا وضعهوها بالأرض ولاعتراكم من نشّاب معهم في جعاب كأنها أيور الفيلة ينزعون في قسيّ كأنها العتل «6» فتئطّ

آداب الفروسية

إحداهنّ أطيط الزّرنوق «1» يمغط أحدهم فيها حتى يتفرّق شعر إبطيه ثم يرسل نشّابة كأنها رشاء «2» منقطع فما بين أحدكم وبين أن تنفضخ عينه أو ينصدع قلبه منزلة، فخلع قلوب القوم فطاروا رعبا. آداب الفروسية حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن عاصم بن سليمان عن أبي عثمان قال: كتب عمر رضي الله عنه: ائتزروا وارتدوا وانتعلوا وألقوا الخفاف وارموا الأغراض وألقوا الرّكب وانزوا نزوا على الخيل وعليكم بالمعدّيّة، أو قال العربية. ودعوا التنعم وزيّ العجم ولا تلبسوا الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه إلا هكذا، ورفع إصبعيه. وقال أيضا: لن تخور قوى ما كان صاحبها ينزع وينزو. يعني ينزع في القوس وينزو على الخيل من غير استعانة بالرّكب. وقال العمري: كان عمر بن الخطاب يأخذ بيده اليمنى أذنه اليمنى وبيده اليسرى أذن فرسه اليسرى ثم يجمع جراميزه «3» ويثب فكأنما خلق على ظهر فرسه. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم صفّين: عضّوا على النّواجذ «4» من الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام. وأقاموا رجلا بين العقابين فقال له أبوه: طد رجلك وأصرّ إصرار الفرس واذكر أحاديث غد وإياك وذكر الله في هذا الموضع فإنه من الفشل. وقال غيره: طد رجليك إذا اعتصيت بالسيف والعصا وأنت مخيّر في رفعه ساعة المسالمة والموادعة.

وقرأت في الآيين أن من إجادة الرمي بالنّشّاب في حال التعلّم إمساك المتعلم القوس بيده اليسرى بقوّة عضده الأيسر والنّشّابة بيده اليمنى وقوّة عضده الأيمن وكفّه إلى صدره وإلقاؤه ببصره إلى معلم الرمي وإجادته نصب القوس بعد أن يطأطىء من سيتها «1» بعض الطّأطأة وضبطه إيّاها بثلاث أصابع وإحناؤه السبّابة على الوتر، وإمساكه بثلاثة وعشرين كأنها ثلاثة وستون وضمه الثلاثة ضما وتحويله ذقنه إلى منكبه الأيسر وإشرافه رأسه وإرخاؤه عنقه وميله مع القوس وإقامته ظهره وإدارته عضده ومغطه القوس مترافعا ونزعه الوتر إلى أذنه ورفعه بياض عينيه من غير تصريف لأسنانه وتحويل لعينه وارتعاش من جسده واستبانته موضع زججة «2» النّشاب. وقرأت في الآيين: من إجادة الضرب بالصّولجان أن يضرب الكرة قدما ضرب خلسة يدير فيه يده إلى أذنه ويميل صولجانه إلى أسفل من صدره ويكون ضربه متشازرا مترفّقا مترسّلا ولا يغفل الضرب ويرسل السّنان خاصة وهو الحامية لمجاز الكرة إلى غاية الغرض ثم الجرّ للكرة من موقعها، والتوخّي للضرب لها تحت محزم الدابة ومن قبل لبّتها «3» في رفق، وشدّة المزاولة والمجاحشة على تلك الحال والترك للاستعانة في ضرب الكرة بسوط والتأثير في الأرض بصولجان والكسر له جهلا باستعماله أو عقر قوائم الدابة، والاحتراس من إيذاء من جرى معه في ميدانه، وحسن الكف للدّابة في شدّة جريه، والتوقّي من الصّرعة والصّدمة على تلك الحال، والمجانبة للغضب والسّبّ، والاحتمال والملاهاة، والتحفّظ من إلقاء كرة على ظهر بيت وإن كان

المسير في الغزو والسفر

ستّ كرين «1» بدرهم، وترك طرد النّظّارة والجلوس على حيطان الميدان فإنّ عرض الميدان إنما جعل ستين ذراعا لئلا يحال ولا يصارّ من جلس على حائطه. وقال أبو مسلم صاحب الدّعوة لرجاله: أشعروا قلوبكم الجرأة عليهم فإنها سبب الظّفر، واذكروا الضغائن فإنها تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب. المسير في الغزو والسفر حدّثنا شبابة عن القاسم بن الحكم عن إسماعيل بن عيّاش عن معدان ابن حدير الحضرمي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل «2» يتقوّون به على عدوهم كمثل أمّ موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» . حدّثني محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزل النبيّ، صلى الله عليه وسلم، المعرّس أمر مناديا فنادى: لا تطرقوا النساء. فتعجّل رجلان فكلاهما وجد مع امرأته رجلا. وكانت العرب تقول: السّفر ميزان القوم «3» . وتأمر بالمحلّات وهي الدلو والفأس والسّفرة والقدر والقدّاحة، وإنما قيل لها محلّات لأن المسافر بها يحلّ حيث شاء ولا يبالي ألّا يكون بقربه أحد. حدّثني عبد الرحمن بن الحسين عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: قال لقمان لابنه: «يا بنيّ، إذا سافرت فلا تنم على دابتّك فإنّ كثرة

النوم سريع في دبرها، فإذا نزلت أرضا مكلئة فأعطها حظّها من الكلأ وابدأ بعلفها وسقيها قبل نفسك وإذا بعدت عليك المنازل فعليك بالدّلج «1» فإن الأرض تطوى بالليل. وإذا أردت النزول فلا تنزل على قارعة الطريق فإنها مأوى الحيّات والسباع ولكن عليك من بقاع الأرض بأحسنها لونا وألينها تربة وأكثرها كلأ فانزلها، وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس وقل: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «2» . وإذا أردت قضاء حاجة فأبعد المذهب في الأرض وعليك بالسّترة. وإذا ارتحلت من منزل فصلّ ركعتين وودّع الأرض التي ارتحلت عنها وسلّم عليها وعلى أهلها فإنّ لكل بقعة من الأرض أهلا من الملائكة. وإذا مررت ببقعة من الأرض أو واد أو جبل فأكثر من ذكر الله فإن الجبال والبقاع ينادي بعضها بعضا: هل مرّ بكنّ اليوم ذاكر لله؟ وإن استطعت ألا تطعم طعاما حتى تتصدّق منه فافعل. وعليك بذكر الله، جلّ وعزّ، ما دمت راكبا وبالتّسبيح ما دمت صائما وبالدعاء ما دمت خاليا. وإيّاك والسّير في أوّل الليل وعليك بالتّعريس والدّلجة من نصف الليل إلى آخره. وإياك ورفع الصوت في سيرك إلا بذكر الله، وسافر بسيفك وقوسك وجميع سلاحك وخفّك وعمامتك وإبرتك وخيوطك وتزوّد معك الأدوية تنتفع بها وتنفع من صحبك من المرضى والزّمنى «3» . وكن لأصحابك موافقا في كل شيء يقرّبك إلى الله ويباعدك من معصيته. وأكثر التبسّم في وجوههم وكن كريما على زادك بينهم وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوك فأعنهم وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم واجهد رأيك. وإذا رأيتهم يمشون فامش معهم أو يعملون فاعمل

معهم وإن تصدّقوا أو أعطوا فأعط. واسمع لمن هو أكبر منك. وإن تحيّرتم في طريق فانزلوا، وإن شككتم في القصد فتثبّتوا وتآمروا، وإن رأيتم خيالا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم فإن الشخص الواحد في الفلاة هو الذي حيّركم واحذروا الشخصين أيضا إلّا أن تروا ما لا أرى فإن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب وإن العاقل إذا أبصر شيئا بعينيه عرف الحق بقلبه. علّم أعرابي بنيه إتيان الغائط في السفر فقال لهم: اتّبعوا الخلاء وجانبوا الكلاء واعلوا الضّراء «1» وأفحجوا إفحاج النعامة وامسحوا بأشملكم. وقال عمرو بن العاص للحسن بن علي بن أبي طالب رحمهما الله: يا أبا محمد، هل تنعت الخراءة «2» ؟ فقال: نعم، تبعد المشي في الأرض الضّحضح حتى تتوارى من القوم، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولا تستنج بالرّوثة ولا العظم ولا تبل في الماء الراكد. أراد الحسن البصريّ الحجّ، فقال له ثابت: بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن نصطحب. فقال: ويحك! دعنا نتعايش بستر الله، إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. وفي الحديث المرفوع عن بقيّة عن الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «أما إنّك إن ترافق غير قومك يكن أحسن لخلقك وأحقّ أن يقتفى بك» . أتى رجل هشاما أخا ذي الرّمّة الشاعر فقال له: إني أريد السفر

فأوصني. قال: صلّ الصلاة لوقتها فإنك مصلّيها لا محالة فصلّها وهي تنفعك، وإياك وأن تكون كلب رفقتك فإن لكل رفقة كلبا ينبح دونهم، فإن كان خيرا شركوه فيه وإن كان عارا تقلّده دونهم. حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: إذا ضلّت لأحدكم ضالّة فليقل: اللهمّ ربّ الضالّة تهدي الضالّة وتردّ الضالّة اردد عليّ ضالتي، اللهمّ لا تبلنا بهلاكها ولا تتعبنا بطلبها، ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلا بالله. يا عباد الله الصالحين، ردّوا علينا ضالّتنا. وإذا أردت أن تحمل الحمل الثقيل فقل: يا عباد الله أعينونا. وقال أبو عمرو: إذا ضلّت لأحدكم ضالة فليتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلّي ركعتين ثم يتشهد ويقول: بسم الله، اللهمّ يا هادي الضّال ورادّ الضالّ، أردد عليّ ضالّتي بعزّتك وسلطانك فإنها من فضلك وعطائك. حدّثني محمد بن عبيد عن حمزة بن وعلة عن رجل من مراد يقال له أبو جعفر عن محمد بن علي عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ، أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا بسم الله الملك الرحمن. وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «1» بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2» .

حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية عن أبي إسحاق عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب قال: أراد عمر أن يغزي البحر جيشا، فكتب إليه عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود بين غرق وبرق «1» قال عمر: لا يسألني الله عن أحد حملته فيه. وحدّثني أيضا عن معاوية عن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد قال: كان ابن عمر يقول في السّفر إذا أسحر: سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا. ويقول: اللهمّ، صاحبنا فأفضل علينا ثلاثا، اللهمّ عائذ بك من النار ثلاثا لا حول ولا قوة إلا بالله. وعن الأوزاعي عن حسّان بن عطيّة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سفره حين هاجر: «الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا مذكورا، اللهمّ أعنّي على أهاويل الدنيا وبوائق الدهر ومصيبات الليالي والأيام واكفني شرّ ما يعمل الظالمون في الأرض، اللهمّ، في سفري فاصحبني، وفي أهلي فاخلفني، وفيما رزقتني فبارك ليد ولك في نفسي فذلّلني، وفي أعين الصالحين فعظّمني، وفي خلقي فقوّمني، وإليك ربّ فحبّبني، إلى من تكلني ربّ المستضعفين وأنت ربي» . وحدّثني أيضا عن معاوية عن أبي إسحاق عن عاصم عن عبد الله بن سرجس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول: اللهمّ، إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور ودعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل» . وزاد غيره: «اللهمّ اطو لنا الأرض وهوّن علينا السفر» . وقال مطرّف بن عبد الله لابنه: الحسنة بين السّيئتين وخير الأمور

أوساطها وشرّ السير الحقحقة. وفي الحديث «لا تحقحق فتنقطع ولا تباطأ فتسبق ولكن اقصد تبلغ» والحقحقة أشدّ السير. وفي حديث آخر «إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» وقال المرّار «1» : [وافر] تقطّع بالنزول الأرض عنّا ... وبعد الأرض يقطعه النزول الأصمعي قال: قيل لرجل أسرع في سيره: كيف كان مسيرك؟ قال: كنت آكل الوجبة وأعرّس إذا أسحرت وأرتحل إذا أسفرت وأسير الوضع وأجتنب الملع «2» فجئتكم لمسيء سبع. قال أبو اليقظان: من السير المذكور مسير ذكوان مولى آل عمر بن الخطاب، سار من مكة إلى المدينة في يوم وليلة، فقدم على أبي هريرة وهو خليفة مروان على المدينة فصلّى العتمة، فقال له أبو هريرة: حاجّ غير مقبول منه. قال له: ولم؟ قال: لأنك نفرت قبل الزوال. فأخرج كتاب مروان بعد الزوال وقال: [طويل] ألم ترني كلّفتهم سير ليلة ... من آل منى نصّا إلى آل يثرب فأقسمت لا تنفكّ، ما عشت، سيرتي ... حديثا لمن وافى بجمع المحصّب «3» ومن السير المذكور مسير حذيفة بن بدر، وكان أغار على هجائن النعمان بن المنذر بن ماء السماء وسار في ليلة مسيرة ثمان، فقال قيس «4» بن

الخطيم: [وافر] هممنا بالإقامة ثم سرنا ... كسير حذيفة الخير ابن بدر قال الشّرقيّ بن القطامي: خرجت من الموصل أريد الرّقّة فصحبني فتى من أهل الجزيرة وذكر أنه من ولد عمرو بن كلثوم ومعه مزود وركوة وعصا، ورأيته لا يفارقها مشاة كنّا أو ركبانا وهو يقول: إن الله جعل جماع أمر موسى وأعاجيبه وبراهينه ومآربه في عصاه، ويكثر من هذا وأنا أضحك متهاونا بما يقول، فتخلّف المكاري فكان حمار الفتى إذا وقف أكرهه بالعصا ويقف حماري ولا شيء في يدي فيسبقني إلى المنزل فيستريح ويريح ولا أقدر على البراح حتى يوافيني المكاري، فقلت: هذه واحدة. ثم خرجنا من غد مشاة فكان إذا أعيا توكّأ على العصا وربما أحضر ووضع طرفا على الأرض فاعتمد عليها ومرّ كأنه سهم زالج حتى انتهينا وقد تفسّخت من الكلال وإذا فيه فضل كثير، فقلت: وهذه أخرى. فلما كان في اليوم الثالث هجمنا على حيّة منكرة فسارت إلينا فأسلمته إليها وهربت عنها فضربها بالعصا حتى قتلها، فقلت: هذه ثالثة، وهي أعظمهنّ. وخرجنا في اليوم الرابع وبنا قرم «1» إلى اللحم فاعترضنا أرنب فحذفها بالعصا وأدركنا ذكاتها فقلت: هذه رابعة. فأقبلت عليه فقلت: لو أن عندنا نارا ما أخّرت أكلها إلى المنزل. فأخرج عويدا من مزوده ثم حكّه بالعصا فأورت إيراء المرخ والعفار «2» ، ثم جمع ما قدر عليه من الغثاء «3» والحشيش وأوقد نارا وألقى الأرنب في جوفها فأخرجناها وقد لزق بها من الرماد والتراب ما بغّضها إليّ فعلّقها بيده اليسرى ثم ضرب جنوبها بالعصا

وأعراضها ضربا رقيقا حتى انتثر كل شيء عليها فأكلناها وسكن القوم وطابت النفس، فقلت: هذه خامسة. ثم نزلنا بعض الخانات وإذا البيوت ملآنة روثا «1» وترابا فلم نجد موضعا نظلّ فيه فنظر إلى حديدة مطروحة في الدار فأخذها فجعل العصا نصابا لها ثم قام فجرف جميع ذلك الروث والتراب وجرد الأرض حتى أظهر بياضها وطابت ريحها فقلت: وهذه سادسة. ثم نزع العصا من الحديدة فأوتدها فيا لحائط وعلّق عليها ثيابه وثيابي فقلت: هذه سابعة. فلما صرنا إلى مفرق الطريقين وأردت مفارقته قال لي: لو عدلت معي فبتّ عندي! فعدلت معه فأدخلني منزلا يتصل ببيعة «2» فما زال يحدّثني ويطرفني الليل كلّه فلما كان السحر أخذ العصا بعينها وأخذ خشبة أخرى فقرع بها العصا فإذا ناقوس ليس في الدنيا مثله وإذا هو أحذق الناس به فقلت له: ويحك! أما أنت بمسلم؟ قال: بلى. قلت: فلم تضرب بالناقوس؟ قال: لأن أبي نصراني وهو شيخ كبير ضعيف فإذا شهدت بررته بالكفاية. وإذا شيطان مارد وأظرف الناس وأكثرهم أدبا فخبّرته بالذي أحصيت من خصال العصا فقال: والله لو حدّثتك عن مناقب العصا ليلة إلى الصباح ما استنفدتها. وروى يزيد عن هشام عن الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم في الخصب فأمكنوا الرّكاب أسنّتها ولا تغدوا المنازل وإذا كنتم في الجدب فاستنجوا «3» وعليكم بالدّلجة فإنّ الأرض تطوى بالليل وإذا تغوّلت لكم الغيلان فنادوا بالأذان ولا تصلّوا على جوادّ الطرق «4» ولا تنزلوا عليها فإنها

مأوى السّباع والحيات ولا تقضوا عليها الحوائج فإنها الملاعن» . وأراد أعرابي سفرا فقال لأمرأته: [كامل] عدّي السنين لغيبتي وتصبّري ... وذري الشّهور فإنهنّ قصار فأجابته: [كامل] أذكر صبابتنا إليك وشوقنا ... وارحم بناتك إنهنّ صغار فأقام وترك السفر. وقال إسحاق «1» بن إبراهيم الموصلي: [وافر] طربت إلى الأصيبية الصّغار ... وهاجك منهم قرب المزار وكلّ مسافر يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الديار وفي الحديث المرفوع قال ابن مسعود: كنّا يوم بدر ثلاثة على بعير فكان عليّ وأبو لبابة «2» زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا دارت عقبتهما قالا: يا رسول الله؛ اركب ونمشي عنك. فيقول: «ما أنتما بأقوى منّي وما أنا بأغنى عن الأجر منكما» . خطب قتيبة بن مسلم على منبر خراسان فقال في خطبته: إذا غزوتم فأطيلوا الأظفار وقصّروا الأشعار. وقالت عائشة رضي الله عنها: «لا سهر إلا لثلاثة: مصلّ أو عروس أو مسافر. وقال بعض الشعراء: [وافر] سررت بجعفر والقرب منه ... كما سرّ المسافر بالإياب وكنت بقربه إذ حلّ أرضي ... أميرا بالسّكينة والصّواب

التفويز

كممطور ببلدته فأضحى ... غنيّا عن مطالبة السحاب وقال آخر في معناه: [بسيط] وكنت فيهم كممطور ببلدته ... فسرّ أن جمع الأوطان والمطرا وقال آخر: [طويل] إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجت أمرا فخاب رجاؤها فأنفسنا خير الغنيمة انها ... تؤوب وفيها ماءها وحياؤها وقال آخر: [وافر] رجعنا سالمين كما بدأنا ... وما خابت غنيمة سالمينا وما تدرين أيّ الأمر خير ... أما تهوين أم ما تكرهينا وقال بعض المحدثين: [خفيف] قبّح الله آل برمك إني ... صرت من أجلهم أخا أسفار إن يكن ذو القرنين قد مسح الأر ... ض فإني موكّل بالعيار التفويز «1» حدّثني أبي، أحسبه عن الهيثم بن عديّ قال: لما كتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إلى الشام واليا مكان أبي عبيدة بن الجرّاح، أخذ على السّماوة «2» حتى انتهى إلى قراقر «3» ، وبين قراقر

وسوى «1» خمس ليال في مفازة، فلم يعرف الطريق، فدلّ على رافع بن عميرة الطائي وكان دليلا خرّيتا «2» فقال لخالد: خلّف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلا؛ فكره خالد أن يخلّف أحدا وقال: لا بد من أن نكون جميعا. فقال له رافع: والله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه وما يسلكها إلا مغرّر مخاطر بنفسه، فكيف أنت بمن معك؟ فقال: لا بدّ من ذلك. فقال الطائي لخالد: إبغني عشرين جزورا مسانّ «3» عظاما ففعل فظمّأهنّ ثم سقاهنّ حتى روين ثم قطع مشافرهنّ وكعمهنّ «4» لئلا تجترّ، ثم قال لخالد: سر بالخيول والأثقال فكلما نزلت منزلا نحرت من تلك الجزر أربعا ثم أخذت ما في بطونها من الماء فسقيته الخيل وشرب الناس مما تزوّدوا، ففعل. فلما صار إلى آخر المفازة انقطع ذلك وجهد الناس وعطشت دوابّهم، فقال له خالد: ويحك، ما عندك؟ قال: أدركت الريّ إن شاء الله، أنظروا هل تجدوا شجرة عوسج على ظهر الطريق؟ فنظروا فوجدوها فقال: إحفروا في أصلها، فحفروا فوجدوا عينا فشربوا منها وتزوّدوا، فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قطّ إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام. فقال راجز المسلمين في ذلك: [رجز] لله درّ رافع أنّى اهتدى ... فوّز من قراقر إلى سوى «5» أرضا إذا سار بها الجيش بكى ... ما سارها قبلك من إنس أوى

قال ولما مرّ خالد بموضع يقال له البشر طلع على قوم يشربون وبين أيديهم جفنة «1» وأحدهم يتغنّى: [طويل] ألا علّلاني قبل جيش أبي بكر ... لعلّ منايانا قريب وما ندري ألا علّلاني بالزّجاج وكرّرا ... عليّ كميت اللون صافية تجري أظنّ خيول المسلمين وخالدا ... سيطرقكم قبل الصباح من البشر فهل لكم في السير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر فما هو إلا أن فرغ من قوله شدّ عليه رجل من المسلمين بالسيف فضرب عنقه فإذا رأسه في الجفنة، ثم أقبل على أهل البشر فقتل منهم وأصاب من أموالهم. ابن الكلبي قال: أقبل قوم من أهل اليمن يريدون النبي، صلى الله عليه وسلم، فأضلّوا الطريق ووقعوا على غير ماء فمكثوا ثلاثا لا يقدرون على الماء فجعل الرجل منهم يستذري بفيء السّمر «2» والطّلح يأسا من الحياة، فبينا هم كذلك أقبل راكب على بعير فأنشد بعض القوم بيتين من شعر امرىء القيس: [طويل] لمّا رأت أنّ الشريعة همّها ... وأنّ البياض من فرائصها دامي تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظّل عرمضها «3» طامي فقال الراكب: من يقول هذا؟ قالوا: امرؤ القيس. قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم، وأشار إليه، فجثوا على الرّكب فإذا ماء غدق وإذا عليه

العرمض والظلّ يفيء عليه فشربوا منه ريّهم وسقوا وحملوا حتى بلغوا الماء، فأتوا النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبروه وقالوا: يا رسول الله، أحيانا بيتان من شعر امرىء القيس قال: «ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار» . حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب عن عمه الأصمعي عن رجل من بني سليم أن رفقة ماتت من العطش بالشّجي، فقال الحجاج: إني أظنهم قد دعوا الله حين بلغهم الجهد فاحفروا في مكانهم الذي ماتوا فيه لعل الله يسقي الناس. فقال رجل من جلسائه: أيها الأمير، قد قال الشاعر: [طويل] تراءت له بين اللّوى وعنيزة ... وبين الشّجى مما أحال على الوادي «1» والله ما تراءت له إلا وهي على ماء. فأمر الحجاج عبيدة السلمي أن يحفر بالشجى بئرا فحفر فأنبط «2» ، ويقال: إنه لم يمت قوم قطّ عطشا إلا وهم على ماء.

في الطيرة والفأل

قالت العرب: «أن ترد الماء بماء أكيس» «1» . ويقال في مثل: «برد غداة غرّ عبدا من ظمأ» «2» . في الطّيرة «3» والفأل حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان «4» فسمع حاديا يحدو خلفه وهو يقول: [رجز] لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي ميعة «5» مطّار أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام السّاري حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدّثني سعيد بن سلم بن قتيبة عن أبيه أنه كان يعجب ممن يصدّق بالطيرة ويعيبها أشدّ العيب وقال: فرقت لنا ناقة وأنا

بالطّفّ «1» فركبت في إثرها فلقيني هانىء بن عتبة «2» من بني وائل يركض وهو يقول: [منسرح] والشرّ يلقى مطالع الأكم ثم لقيني رجل آخر من الحي فقال وهو للبيد «3» : [مجزوء الكامل] ولئن بعثت لهم بغا ... ة ما البغاة بواجدينا ثم دفعت إلى غلام قد وقع في صغره في نار فأحرقته فقبح وجهه وفسد، فقلت له: هل ذكرت من ناقة فارق؟ قال: هنها أهل بيت من الأعراب فانظر. فوجدناها قد نتجت ومعها ولدها. يقال: ناقة فارق: قد ضربها الطّلق، وسحابة فارق: قد دنا هراقة مائها. قال المرقّش «4» : [مجزوء الكامل] ولقد غدوت، وكنت لا ... أغدو، على واق وحاتم «5» فإذا الأشائم كالأيا ... من، والأيامن كالأشائم «6»

وكذاك لا خير ولا ... شرّ على أحد بدائم وقال آخر: [طويل] وليس بهيّاب إذا شدّ رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم ولكنه يمضي على ذاك مقدما ... إذا صدّ عن تلك الهنات الخثارم «1» وقال آخر: [وافر] تعلّم أنه لا طير إلّا ... على متطيّر وهو الثّبور «2» بلى، شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير حدّثني الرياشي عن الأصمعي قال: سألت ابن عون «3» عن الفأل فقال: هو أن تكون مريضا فتسمع: يا سالم، أو باغيا فتسمع: يا واجد. وفي الحديث المرفوع «أصدق الطّيرة الفأل» . وفيه «الطّير تجري بقدر» . أراد أبو العالية أن يخرج من البصرة لعلّة كانت به فسمع مناديا ينادي: يا متوكل، فحطّ رحله وأقام. وقال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر. قال كعب لابن عباس: ما تقول في الطّيرة قال: وما عسيت أن أقول فيها؟ لا طير إلا طير الله ولا خير إلا خير الله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوّة

إلا بالله. قال كعب: إن هذه الكلمات في كتاب الله المنزل. يعني التوراة. حدّثني محمد بن يحيى القطعيّ «1» قال: حدّثني عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها فقالا: إن أبا هريرة يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما الطّيرة في المرأة والدار والدابة فطارت شفقا ثم قالت: كذب، والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم، من حدّث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان أهل الجاهلية يقولون إنّ الطّيرة في الدابة والدار والمرأة» ثم قرأت: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها «2» . كان عبد الله «3» بن زياد صوّر في دهليزه كلبا وأسدا وكبشا وقال: كلب نابح وكبش ناطح وأسد كالح. وأنشدني أبو حاتم عن الأصمعيّ: [رجز] يا أيّها المضمر همّا، لا تهمّ ... إنك إن تقدر لك الحمّى تحمّ ولو علوت شاهقا من العلم ... كيف توقّيك وقد جفّ القلم ولما أمر معاوية بقتل حجر بن عديّ الكنديّ في ثلاثة عشر رجلا معه قال حجر: دعوني أصلّ ركعتين، فتوضّأ وأحسن الوضوء، ثم صلى وطوّل فقيل له: أجزعت؟ فقال: ما توضّأت قطّ إلّا صليت، ولا صليت قط صلاة أخفّ منها. وإن أجزع فقد رأيت سيفا مشهورا وكفنا منشورا وقبرا محفورا.

فقيل له: مدّ عنقك، فقال: إن ذلك لدم ما كنت لأعين عليه. فقدّم فضربت عنقه. وكان معاوية بعث رجلا يقال له هدبة لقتلهم، وكان أعور، فنظر إليه رجل من خثعم فقال: إن صدقت الطّيرة قتل نصفنا، فلما قتل سبعة بعث معاوية رسولا آخر بعافيتهم فلم يقتل الباقون. خرج كثيّر عزّة «1» إلى مصر يريد عزّة، فلقيه أعرابيّ من نهد فقال: يا أبا صخر، أين تريد؟ فقال: أريد عزّة بمصر. قال: فهل رأيت في وجهك شيئا؟ قال: لا إلا أني رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ينتّف ريشه. فقال له: توافي مصر وقد ماتت عزة. فانتهره كثيّر ثم مضى فوافى مصر والناس ينصرفون عن جنازة عزة، فقال: [طويل] فما أعيف النّهديّ لا درّ درّه ... وأزجره للطير لا عزّ ناصره رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ... ينتّف أعلى ريشه ويطايره فأما غراب فاغتراب ووحشة ... وبان فبين من حبيب تعاشره وهوي بعد عزّة امرأة من قومه يقال لها: أمّ الحويرث. فخطبها فأبت وقالت: لا مال لك، ولكن اخرج فاطلب فإني حابسة نفسي عليك. فخرج يريد بعض بني مخزوم، فبينا هو يسير عنّ له ظبي فكره ذلك ومضى فإذا هو بغراب يحثوا التراب على وجهه فكرهه وتطيّر منه، فانتهى إلى بطن من الأزد يقال لهم بنو لهب، فقال: أفيكم زاجر؟ قالوا: نعم، فأرشدوه إلى شيخ منهم فأتاه فقصّ عليه القصة، فقال: قد ماتت أو خلف عليها رجل من بني عمها. فلما انصرف وجدها قد تزوّجت فقال:

تيممّت لهبا أطلب العلم عندهم ... وقد ردّ علم العائفين إلى لهب فقال جرى الطير السّنيح ببينها ... فدونك فاهمل جدّ منهمر سكب فإلّا تكن ماتت فقد حال دونها ... سواك خليل باطن من بني كعب حدّثني أبو سفيان الغنويّ قال: حدّثني خالد بن يزيد الصّفّار قال: حدّثنا همّام بن يحيى بن قتادة عن حضرميّ بن لاحق أو عن أبي سلمة أنّ النبي، صلى الله عليه وسلم، كتب إلى امرأته: «إذا أبردتم إليّ بريدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم» . خرج عمر إلى حرّة واقم «1» فلقي رجلا من جهينة فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب. قال: ابن من؟ قال: ابن جمرة. قال: وممن أنت؟ قال: من الحرقة. ثم قال: ممن؟ قال: من بني ضرام «2» . فقال له عمر: أدرك أهلك وما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا، فأتاهم وقد أحاطت النار بهم. خرج ابن عامر إلى المدينة فإذا هو في طريقه بنعامات خمس، فقال لأصحابه: قولوا في هذه. فقال بشر بن حسان: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة» ومن علم شيئا فليقله ولكني أقول: فتنة خمس سنين. قرأت في كتب العجم أنّ كسرى بعث وهرز إلى اليمن لقتال الحبشة

فلما اصطّفوا قال وهرز لغلام له: أخرج إليّ من الجعبة نشّابة وكان الأسوار «1» يكتب على كل نشّابة في جعبته، فمنها ما يكتب عليه اسم الملك، ومنها ما يكتب عليه اسم نفسه، ومنها ما يكتب عليه اسم ابنه، ومنها ما يكتب عليه اسم امرأته. فأدخل العبد يده فأخرج له نشابة عليها اسم امرأته فتطيّر وقال: أنت المرأة وعليك طائر السوء. ردّها وهات غيرها. فردّها وضرب بيده فأخرج تلك النشابة بعينها ففكر وهرز في طائره ثم انتبه فقال: زنان. وزنان بالفارسية: النساء. ثم قال: زن آن، فإذا ترجمتها: إضرب ذلك قال: نعم الطائر هذا. ثم وضعها في كبد قوسه ثم قال: صفوا لي ملكهم، فوصفوه بياقوتة بين عينيه. ثم إنه مغط في قوسه حتى إذا ملّأها سرّحها فأقبلت كأنها رشاء منقطع حتى فضّت الياقوتة فطار فضاضها ثم فلقت هامته وهزم القوم. وقال المعلوط «2» : [وافر] تنادى الطائران ببين سلمى ... على غصنين من غرب وبان فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير داني أخذ معناها أبو الشّيص «3» فقال: [متقارب] أشاقك والليل ملقي الجران «4» ... غراب ينوح على غصن بان أحصّ «5» الجناح شديد الصياح ... يبكّي بعينين ما تذرفان

وفي نعبات «1» الغراب اغتراب ... وفي البان بين بعيد التداني وقال الطائيّ: [كامل] أتضعضعت عبرات عينك أن دعت ... ورقاء «2» حين تضعضع الإظلام؟ لا تنشجنّ «3» لها فإنّ بكاءها ... ضحك وإنّ بكاءك استغرام هنّ الحمام فإن كسرت عيافة «4» ... من حائهنّ فإنهنّ حمام حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثني موسى بن مسعود عن عكرمة بن عمّار عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: جاء رجل منا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنّا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا ثم تحوّلنا منها إلى أخرى فقلّت فيها أموالنا وقلّ فيها عددنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذروها وهي ذميمة» . بلغني عن ابن كناسة عن مبارك بن سعيد أخي سفيان الثّوريّ قال: بلغنا أن أعرابيا أضاع ذودا له فخرج في الطلب حتى أدركه العطش، فمرّ بأعرابي يحتلب ناقة فنشده ضالّته فقال له: متى خرجت في الطلب؟ ادن مني حتى أسقيك لبنا وأرشدك. قال: قبل طلوع الفجر. قال: فما سمعت؟ قال: عواطيس حولي: ثغاء الشّاء ورغاء البعير ونباح الكلب وصياح الصبيّ. قال: عواطيس تنهاك عن الغدوّ. قال: فلما طلع الفجر عرض لي ذئب. قال: كسوب ذو ظفر. قال: فلما طلعت الشمس لقيت نعامة. قال: ذات ريش

مذاهب العجم في العيافة والاستدلال بها

واسمها حسن، هل تركت في أهلك مريضا؟ قال: نعم. قال: ارجع فإنك ستجد ضالتك في منزلك. حدّثني عبد الرحمن عن حفص بن عمر الخبطيّ قال: حدّثنا أبو زرعة يحيى بن أبي عمرو السّيباني عن يثيع عن كعب قال: كانت الشجرة تنبت في محراب سليمان النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمه بلسان ذلق «1» فتقول: أنا شجرة كذا وفيّ دواء كذا. فيأمر بها سليمان فيكتب اسمها ومنفعتها وصورتها وتقطع وترفع في الخزائن حتى كان آخر ما جاء منها الخرّوبة فقالت: أنا الخرّوبة. فقال سليمان: الآن نعيت إليّ نفسي وأذن في خراب بيت المقدس. قال الطائيّ يصف عمّوريّة «2» : [بسيط] بكر فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت إليها همّة النّوب جرى لها الفأل برحا يوم أنقرة ... إذ غودرت وحشة الساحات والرّحب لمّا رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب مذاهب العجم في العيافة والاستدلال بها قرأت في الآيين: كانت العجم تقول: إذا تحوّلت السّباع والطير الجبلية عن أماكنها ومواضعها دلّت بذلك على أن المشتى سيشتدّ ويتفاقم. وإذا نقلت

الجرذان برّا وشعيرا أو طعاما إلى رب بيت رزق الزيادة في ماله وولده، وإن هي قرضت ثيابه دلّت بذلك على نقص ماله وولده، فينبغي أن يقطع ذلك القرض ويصلح. وإذا شبّت النار شبوبا كالصّخب دلت على فرح شديد، وإذا شبّت شبوبا كالبكاء دلت على حزن، وأما النار التي تشتعل في أسفل القدور فإنها تدل على أمطار تكثر أو ضيف يحضر. وإذا فشا الموت في البقر وقع الموتان «1» في البشر، وإذا فشا الموت في الخنازير عمّ الناس السلامة والعافية، وإذا فشا الموت في السباع والوحوش أصاب الناس ضيقة، وإذا فشا الموت في الجرذان أخصب الناس. وإذا أكثرت الضفادع النّقيق دلّت على موتان يكون. وإذا أنّ ديك في دار فشا فيها مرض الرجال، وإذا أنّت دجاجة فشا فيها مرض النساء، وإذا صرخت ديوك صراخا كالبكاء فشا الموت في النساء، وإذا صرخ الدجاج مثل ذلك الصراخ فشا الموت في الرجال. وإذا نعب غراب أسود فجاوبته دجاجة دل ذلك على خراب يعمر. وإذا قوّقت دجاجة وجاوبها غراب دل على عمران يخرب. وإذا غطّ الرجل الحسيب في نومه بلغ سنا ورفعة، ومن نفخ في نومه أفسد ماله، ومن صرّت أسنانه في نومه دل ذلك منه على نميمة، وينبغي أن يضرب على فيه بخفّ متخرّق. ومن سقطت قدّامه حية من حجر أصابته معرّة ومضرّة. وإذا رئي في الهواء دخنة وظلمة من غير علة تخوّف على الناس الوباء والمرض. وإذا رئي في آفاق السماء في ليلة مصحية كاختلاف النيران غشي البلاد التي رئي ذلك فيها عدوّ، فإن رئي ذلك وفي البلاد عدوّ انكشف عنها. وإذا نبح كلب بعد هدأة نبحة بغتة دلّ على أن السّرّاق قد اجتمعوا بالغارة على بعض ما في تلك الدار أو ما جاورها. وإذا صفّق ديك بجناحيه ولم يصرخ دل على أن الخير محتبس عن صاحبه. وإذا

أكثر البوم الصراخ في دار برىء مريض إن كان فيها. وإذا سمع لبيت تنقّض شخص من فيه عنه، وإذا عوت ذئاب من جبال وجاوبتها كلاب من قرى تفاقم الأمر في التحارب وسفك الدماء. وإذا عوت كلاب وجاوبتها ذئاب كان وباء وموتان جارف، وإذا أكثرت الكلاب في البغتات الهرير دلّت بذلك على إتيان العدوّ البلاد التي هي فيها، وإذا صرخ ديك في دار قبل وقت صراخ الديوك كان ذلك محاولة لدفع بليّة قد شارفت تلك الدار؛ وإذا صرخت دجاجة في دار كصراخ ديك كان ذلك تحذيرا لمن فيها من آفة قد أشرفوا عليها. وإذا أكثر ديك النّزوان «1» على تكأة «2» رب الدار نال شرفا ونباهة، وإن فعلت ذلك دجاجة ناله خمول وضعة. وإذا ذرق «3» ديك على فراشه نال مالا رغيبا وخيرا كثيرا وذلك إذا كان من غير تضييع من حشمه لفراشه، فإن ذرقت دجاجة على فراشه نالت زوجته منه خيرا كثيرا، وكانوا يقولون: إن الموت من المريض الشبيه للصحيح قريب وإن الصحيح الشبيه بالمريض مستشعر للشر وينبغي مباعدته. وينبغي أن يعرف كنه من كان منطيقا «4» لعلّه لا يجيد العمل، وحال من كان سكّينا متزمّتا لعله بعيد الغور. وكانوا يكرهون استقبال المولود ساعة يوضع إلا أن يكون ناقص الخلق فإنّ بليته وآفته قد صارتا على نفسه، ويكرهون استقبال الزّمن «5» والكريه الاسم والجارية البكر والغلام الذاهب إلى المكتب، وكانوا يكرهون الثيران المقرونة بقران والحيوان الموثق والدابّة المقودة وحاملة الشراب والحطب والكلب، ويستحبّون الصحيح البدن الرضيّ

باب في الخيل

الاسم والمرأة الوسيمة الثيّب «1» والغلام المنصرف من المكتب والدواب التي عليها حمولة من طعام أو تبن أو زبل. وكانوا لا ينحّون عن سمع الملك ألحان المغنيات ونقيض الصواري وصهيل الخيل والبراذين ويتخذون في مبيته ديكا ودجاجة. وإذا أهديت له خيل سنح بها عليه من يساره إلى يمينه وكذلك الغنم والبقر، وأما الرقيق والسباع وما أشبهها فكان يبرح بها من يمينه إلى يساره. باب في الخيل حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة عن عروة البارقي «2» قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثني أشهل بن حاتم قال: حدّثني موسى ابن علي بن رباح اللّخمي عن أبيه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أعدّ فرسا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاشتره إذا أدهم أو كميتا أقرح أرثم «3» أو محجّلا مطلق اليمين» وفي حديث آخر «فإنها ميامين الخيل ثم اغز تسلم وتغنم إن شاء الله» . حدّثني سهل بن محمد قال: أخبرني أبو عبيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بإناث الخيل فإن ظهورها حرز وبطونها كنز» قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستحبّ من الدواب الشّقر ويقول: «لو جمعت خيل العرب كلها في صعيد

واحد ما سبقها إلا أشقر» . وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ المال خير؟ قال: «سكة مأبورة» يعني النخل «ومهرة مأمورة» يريد كثيرة النتاج. قال: وكان يكره الشّكال «1» في الخيل. قال أبو ذرّ: ما من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه ويقول: اللهمّ سخّرتني لابن آدم وجعلت رزقي بيده فاجعلني أحبّ إليه من أهله وماله، اللهمّ ارزقه وارزقني على يديه. سأل المهدي مطر بن درّاج: أيّ الخيل أفضل؟ قال: الذي إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استعرضته قلت زافر «2» ، وإذا استدبرته قلت زاخر «3» . قال: فأيّ البراذين «4» شر؟ قال: الغليظ الرقبة الكثير الجلبة الذي إذا أرسلته قال: أمسكني وإذا أمسكته قال: أرسلني. قال: فأيّ البراذين خير؟ قال: ما طرفه إمامه وسوطه عنانه. وصف رجل برذونا فقال: إن تركته نعس وإن حرّكته طار. وقال ابن أقيصر: خير الخيل الذي إذا استقبلته أقعى وإذا استدبرته جبّى وإذا استعرضته استوى وإذا مشى ردى وإذا عدا دحا «5» . محمد بن سلّام قال: أرسل مسلم بن عمرو بن عمّ له إلى الشام ومصر يشتري له خيلا فقال: لا علم لي بالخيل قال: ألست صاحب قنص؟ قال: بلى. قال: فانظر، كلّ شيء تستحسنه في الكلب فاطلبه في الفرس. فقدم بخيل لم يك في العرب مثلها. وقالوا: سمّيت خيلا لاختيالها.

وذكر أعرابي فرسا وسرعته فقال: لما خرجت الخيل جارى بشيطان في أشطان فلما أرسلت لمع لمعة سحاب فكان أقربها إليه الذي تقع عينه عليه. وسئل رجل من بني أسد: أتعرف الفرس الكريم؟ قال: أعرف الجواد المبرّ من المبطىء المقرف. أما الجواد المبرّ فالذي نهز نهز العير وأنّف تأنيف السّير، الذي إذا عدا اسلهبّ وإذا قيّد اجلعبّ وإذا انتصب اتلأبّ «1» . وأما المبطىء المقرف فالمدلوك الحجبة الضخم الأرنبة «2» الغليظ الرقبة الكثير الجلبة الذي إن أرسلته قال: أمسكني وإن أمسكته قال: أرسلني وأنشد الرّياشي» : [بسيط] كمهر سوء إذا سكّنت شرّته ... رام الجماح فإن رفّعته سكنا «4» حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله قال: حدّثني الأصمعي عن أبي عمرو ابن العلاء أن عمر بن الخطاب شكّ في العتاق والهجن «5» ، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي فأخبره، فأمر سلمان بطست فيه ماء فوضع في الأرض ثم قدّمت الخيل إليه فرسا فرسا فما ثنى منها سنبكه «6» فشرب هجّنه، وما شرب ولم يثن

سنبكه عرّبه. وذلك لأن في أعناق الهجن قصرا فهي لا تنال الماء على تلك الحال حتى تثني سنابكها وأعناق العتاق طوال. وحدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: ذكروا أن كسرى كان إذا أتاه سائسه فقال: الفرس يشتكي حافره، قال: المطبخ. وإذا قال: يشتكي ظهره، قال: البيطار. وأنشدني أبو حاتم لأبي ميمون العجليّ وهو النّضر «1» بن سلمة في شعر طويل له يصف الفرس، وقال قرأته على أبي عبيدة وعلى الأصمعيّ: [سريع] الخيل منّي أهل ما أن يدنين ... وأن يقرّبن وأن لا يقصّين وأن يبأبأن «2» وأن يفدّين ... وأن يكون المحض مما يسقين وأهل أن يعلين أو يغالين ... بالطّرف والتّلد وأن لا يجفين «3» وأهل ما صحبننا أن يقفين ... وأهل ما أعقبننا أن يجزين «4» أليس عزّ الناس فيما أبلين ... والحسب الزاكي إذا ما يقنين؟ والأجر والزّين إذا ريم الزّين ... كم من كريم جدّه قد أعلين وكم طريد خائف قد أنجين ... ومن فقير عائل قد أغنين وكم برأس في لبان «5» أجرين ... وجسد للعافيات أعرين وأهل حصن في امتناع أرذين ... وكم لها في الغنم من ذي سهمين «6»

يكون فيما اقتسموا كالرجلين ... وكم وكم أنكحن من ذي طمرين «1» بغير مهر عاجل ولا دين ... والخيل والخيرات في قرينين لا تشتكينّ عملا ما أنقين ... ما دام مخّ في سلامى أو عين «2» ما بلّل الصوفة «3» ماء البحرين وأنشدني أبو حاتم عن أبي عبيدة. قال: وقال: لي أبو عبيدة: لا أعرف قائل هذا الشعر وعروضه لا يخرّج. قال أبو حاتم: أحسبه لعبد الغفار «4» الخزاعي: [منسرح] ذاك وقد أذعر الوحوش بصل ... ت الخدّ رحب لبانه مجفر «5» طويل خمس قصير أربعة ... عريض ست مقلّص حشور «6» حدّت له تسعة «7» وقد عريت ... تسع ففيه لمن رأى منظر ثم له تسعة كسين وقد ... أرحب منه اللّبان والمنخر «8» بعيد عشر وقد قربن له ... عشر وخمس طالت ولم تقصر «9»

نقفيه بالمحض دون ولدتنا ... وعضّه في آريّه ينثر «1» نصبحه تارة ونغبقه ... ألبان كوم روائم أظؤر «2» حتى شتا بادنا يقال ألا ... يطوون من بدنه وقد أضمر «3» موثّق الخلق جرشع عتد ... منضرج الحضر حين يستحضر «4» خاظي الحماتين لحمه زيم ... نهد شديد الصّفاق والأبهر «5» رقيق خمس غليظ أربعة ... نائي المعدّين ليّن الأشعر «6» وقد فسّرت هذا الشعر في كتابي المؤلف في أبيات المعاني في خلق الفرس. أنشدنا أبو سعيد لبعض الضّبّيين في وصف فرس: [كامل] متقاذف عبل الشّوى شنج النّسا ... سبّاق أندية الجياد عميثل «7» وإذا تعلّل بالسّياط جيادها ... أعطاك نائله ولم يتعلّل قيل لما وضعت حرب صفّين أوزارها قال عمرو بن العاص: [رمل] شبّت الحرب فأعددت لها ... مفرع الحارك مرويّ الثّبج «8»

جرشعا أعظمه جفرته «1» ... فإذا ابتلّ من الماء حرج يصل الشّد بشدّ فإذا ... ونت الخيل من الشدّ معج «2» ووجدت في كتاب من كتب الروم أن من علامة فراهة «3» المهر الحولي صغر رأسه وشدّة سواد عينيه وأن يكون محدّد الأذنين أجرد باطنها كثيف العرف، في عرفه ميل من قبل يمين راكبه عريض الصدر مرتفع الهادي معتدل العضدين مكتنز الجنبين طويل الذنب عريض الكفل مستدير الحوافر صحيح باطنها، ومن علامة فراهة المهر ألا يكون نفور ولا يقف عند دابة إلا مع أمّه وإذا دفع إلى عين أو نهر ماء لم يقف لتجاوزه دابة فيسير بسيرها ولكنه يقطع ذلك النهر والعين. قالوا: ومما يسلم الله به الخيل من العين وأشباه ذلك أن يجعل في أعناقها خرزة من قرون الأيايل «4» . حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية عن أبي إسحاق عن سفيان عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن إساف وعن سحيم بن نوفل قالا: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود ونحن نعرض المصاحف، فجاءت جارية إلى سيّدها فقالت: ما يجلسك؟ قم فابتغ لنا راقيا فإن فلانا لقع «5» مهرك بعينه فتركته يدور كأنه فلك. فقال عبد الله: لا تبتغ راقيا ولكن اذهب فانفث في منخره الأيمن أربعا وفي الأيسر ثلاثا ثم قل: بسم الله لا باس لا باس أذهب الباس

ربّ النّاس واشف أنت الشافي لا يكشف الضراء إلا أنت. قال: فما قمنا حتى جاء الرجل فقال: قد فعلت الذي أمرتني به فبال وراث وأكل. حدّثني أبو حاتم عن أبي عبيدة أنه قال: إذا كان الفرس صلودا «1» لا يعرق سقيته ماء قد دفت «2» فيه خميرة أو علفته ضغثا «3» من هندباء فإن ذلك يكثر عرقه، فإن حمر «4» أدخلته الحمّام وأشمّه عذرة. فقلت لأبي عبيدة: ما يدريك أنّ هذا كذا؟ فقال: أخبرني به جلّ الهنديّ وكان بصيرا. قال: فإن أصابته مغلة وهي وجع البطن من أكل التراب أخذ له شيء من بورق فدقّ ونخل فجعل في ربع دورق من خمر فحقن به وبلّ تراب طيّب ببول «5» أتان حتى يصير طينا ثم لطخ به بطن الدابة. قال: ومما يذهب العرن «6» دماغ الأرنب. وقف الهيثم بن مطهّر على باب الخيزران على ظهر دابته، فبعث إليه الكاتب في دارها: انزل عن ظهر دابتك فقد جاء في الأثر: لا تجعلوا ظهور دوابّكم مجالس. فبعث إليه: إني رجل أعرج وإن خرج صاحبي خفت ألّا أدركه. فبعث إليه: إن لم تنزل أنزلناك. قال: هو حبيس إن أنزلتني عنه إن أقضمته شهرا فانظر أيّما خير له، راحة ساعة أو جوع شهر؟ فقال: هذا شيطان، اتركوه.

باب البغال والحمير

باب البغال والحمير قال مسلمة: ما ركب الناس مثل بغلة قصيرة العذار طويلة العنان. وكتب رجل إلى وكيله: ابغني بغلة حصّاء الذنب «1» طويلة العنق سوطها عنانها وهواها أمامها. عاتب الفضل بن الربيع بعض بني هاشم في ركوبه بغلة، فقال له: هذا مركب تطأطأ عن خيلاء الخيل وارتفع عن ذلّة الحمار وخير الأمور أوساطها. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء: قال دفع أبو سيّارة بأهل المزدلفة «2» أربعين سنة على حمار لا يعتلّ، فقالت العرب: «أصح من عير أبي سيارة» . قال رجل للفضل الرّقاشي وهو جدّ معتمر لأمّه: إنك لتؤثر الحمير على جميع المركوب، فلم ذلك؟ قال: لأنها أكثرها مرفقا. قال: وما ذاك؟ قال: لا تستبدل بالمكان على قدر اختلاف الزمان ثم هي أقلها داء وأيسرها دواء وأسلم صريعا وأسهل تصريفا وأخفض مهوى وأقل جماحا وأشهر فارها «3» وأقل نظيرا ويزهى راكبه وقد تواضع بركوبه، ويكون مقتصدا وقد أسرف في ثمنه. وقال خالد بن صفوان في وصف حمار: قد أركبه عيرا من بنات الكداد أصحر

باب في الإبل

السّربال محملج القوائم يحمل الرّجلة «1» ويبلغ العقبة ويمنعني أن يكون جبّارا عنيدا. وقال رجل لنخّاس «2» : أطلب لي حمارا ليس بالكثير المشتهر ولا القصير المحتقر ولا يقدم تقحّما ولا يحجم تبلّدا يتجنب بي الزحام والرّجام والإكام خفيف اللّجام، إذا ركبته هام، وإذا ركبه غيري قام، إن علقته شكر، وإن أجعته صبر. فقال له النخاس: إن مسخ الله القاضي زيادا حمارا رجوت أن أصيب لك حاجتك إن شاء الله. وقال رجل لآخر يوصيه: خذ من الحمار شكره وصبره ومن الكلب نصحه لأهله ومن الغراب كتمانه للسّفاد. جرير بن عبد الله عن أبيه قال: لا تركب حمارا فإنه إن كان فارها أتعب يديك وإن كان بليدا أتعب رجليك. باب في الإبل الهيثم قال قال ابن عياش: لا تشتر خمسة من خمسة: لا تشتر فرسا من أسديّ ولا جملا من نهديّ ولا عيرا من تميمي ولا عبدا من بجلي. ونسي الهيثم الخامس، يريد أن أهل هذه القبائل عظام الجدود في هذه الأشياء. قيل لبني عبس: أيّ الإبل أصبر عليكم في محاربتكم؟ قال الرّمك «3» الجعاد. قيل: فأيّ الخيل وجدتم أصبر؟ قالوا: الكمت «4» الحوّ. قيل: فأيّ النساء

وجدتم أصبر؟ قالوا: بنات العم. المدائني قال: قال شبّة بن عقال: أقبلت من اليمن أريد مكة وخفت أن يفوتني الحج، ومعي ثلاثة أجمال فمررت برجل من أهل اليمن على ناقة له فطويته فلما جزته قام بي بعير لي ثم آخر ثم قام الآخر فظننت أن الحج يفوتني فمرّ بي اليماني فقال: مررت بنا ولم تسلّم ولم تعرّض. فقلت: أجل يرحمك الله. قال: أتطيب نفسا عما أرى؟. قلت: نعم. فنزل فأرخى أنساع «1» رحله ثم قدّمه فكاد يضعه على عنقها ثم شدّه وقال لي: لولا أنك لا تضبط رأسها لقدّمتك. ثم قال لي: خذ حرّ متاعك إن لم تطب نفسا به ففعلت، ثم ارتدفت فجعلت تعوم عوما ثم انسلّت كأنها ثعبان يسيل سيلا كالماء فما شعرت حتى أراني الأعلام وقال: أتسمع؟ فسمعت أصوات الناس فإذا نحن بجمع «2» ، فقضيت حجّتي، وكان قال لي: حاجتي إليك ألّا تذكر هذا فإن هذه عندي أثر من ولاية العروض يعني مكة والمدينة، أدرك عليها الثأر وهي ثمال العيال وأصيد عليها الوحش وأوافي عليها الموسم في كل عام من صنعاء في أقل من غبّ الحمال فسألته: من أين هي؟ قال: بجاويّة من هوامي نتاج بدو بجيلة الأولى وهي من المهارى التي يذكر الناس. وكتب سليمان بن عبد الملك إلى عامله: أصب لي نجائب كراما. فقدم رجل على جمل «3» سباعيّ عظيم الهامة له خلق لم يروا مثله قطّ فساموا، فقال: لا أبيعه. قالوا: لا ندعك ولا نغصبك ولكنا نكتب إلى أمير المؤمنين

أخبار الجبناء

بسببه. قال: فهلا خيرا من هذا؟ قالوا: ما هو؟ قال: معكم نجائب كرام وخيل سابقة، فدعوني أركب جملي وأبعثه واتبعوني فإن لحقتموني فهو لكم بغير ثمن. قالوا: نعم. فدنا منه فصاح في أذنه ثم أثاره فوثب وثبة شديدة فكبا ثم انبعث واتبعوه فلم يدروا كيف أخذ، ولم يروا له أثرا فجعل أهل اليمن علما على وثبته يقال له: الكفلان. أخبار الجبناء حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله عن عمه الأصمعي قال: أرسل عبيد الله بن زياد رجلا في ألفين إلى مرداس «1» بن أديّة وهو في أربعين فهزمه مرداس فعنّفه ابن زياد وأغلظ له فقال: يشتمني الأمير وأنا حيّ أحبّ إليّ من أن يدعو لي وأنا ميت. فقال شاعر الخوارج «2» : [وافر] أألفا مؤمن منكم زعمتم ... ويهزمهم باسك «3» أربعونا؟ كذبتم ليس ذلكم كذاكم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا «4» حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية عن أبي إسحاق عن عون عن الحسن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما التقت فئتان قطّ إلا وكفّ الله بينهما فإذا أراد أن

يهزم إحدى الطائفتين أمال كفّه عليها» . ورفع معاوية ثندوته «1» بيده وقال: لقد علم الناس أن الخيل لا تجري بمثلي، فكيف قال النّجاشيّ «2» : [طويل] ونجّى ابن حرب سابق ذو علالة ... أجشّ هزيم والرماح دواني «3» ابن دأب قال: قال عمرو بن العاص لمعاوية: لقد أعياني أن أعلم أجبان أنت أم شجاع؟ فقال: [طويل] شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ... وإلّا تكن لي فرصة فجبان شهد أبو دلامة حربا مع روح بن حاتم فقال له: تقدّم فقاتل. فقال: [بسيط] إني أعوذ بروح أن يقدّمني ... إلى القتال فتخزى بي بنو أسد إن المهلّب «4» حبّ الموت ورّثكم ... ولم أورّث حبّ الموت عن أحد أبو المنذر قال: حدّثنا زيد بن وهب قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عجبا لابن النابغة! يزعم أني تلعابه أعافس وأمارس! أما وشرّ

القول أكذبه، إنه يسأل فيلحف «1» ويسأل فيبخل، فإذا كان عند البأس فإنه امرؤ زاجر ما لم تأخذ السيوف مأخذها من هام القوم، فإذا كان كذلك كان أكبر همّه أن يبرقط «2» ويمنح الناس استه. قبحه الله وترحه. وقال الفرّار «3» السّلمي: [كامل] وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت بها يدي «4» وتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين منجدل وآخر مسند «5» ما كان ينفعني مقال نسائهم ... وقتلت دون رجالهم: لا تبعد «6» وقال آخر: [بسيط] أصخت تشجّعني هند وقد علمت ... أن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي حجّت الأنصار كعبته ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب للحرب قوم أضلّ الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى حوبائها «7» وثبوا ولست منهم ولا أبغي فعالهم ... لا القتل يعجبني منها ولا السّلب وقال أيمن «8» بن خريم: [رمل] إنّ للفتنة ميطا «9» بيّنا ... فرويد الميط منها يعتدل

فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل إنما يسعرها جهّالها ... حطب النار فدعها تشتعل «1» وقال آخر: [متقارب] كملقي الأعنة من كفّه ... وقاد الجياد بأذنابها وقال جران «2» العود في الدّهش: [بسيط] يوم ارتحلت برحلي قبل تودعتي ... والقلب مستوهل بالبين مشغول ثم اغترزت «3» على نضوي لأدفعه ... إثر الحمول الغوادي وهو معقول كان خالد بن عبد الله من الجبناء خرج عليه المغيرة بن سعيد صاحب المغيريّة من الرافضة وهو من بجيلة فقال من الدّهش: أطعموني ماء. فذكّره بعضهم فقال: [بسيط] عاد الظلوم ظليما حين جدّ به ... واستطعم الماء لما جدّ في الهرب وقال عبيد الله بن زياد إما للكنة فيه أو لجبن أو دهشة: افتحوا سيوفكم. وقال ابن مفزّغ الحميري «4» :

[وافر] ويوم فتحت سيفك من بعيد ... أضعت وكلّ أمرك للضياع «1» وكان معاوية يتمثل بهذين البيتين كثيرا: [متقارب] أكان الجبان يرى أنه ... سيقتل قبل انقضاء الأجل فقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل وقال خالد بن الوليد: لقد لقيت كذا وكذا زحفا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة أو ضربة أو رمية ثم ها أنا أموت على فراشي حتف أنفي «2» ، فلا نامت أعين الجبناء. قيل لأعرابي: ألا تغزو فإن الله قد أنذرك. قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أمضي إليه ركضا؟ وقال قرواش «3» بن حوط وذكر رجلين: [كامل] ضبعا مجاهرة وليثا هدنة ... وثعيلبا خمر «4» إذا ما أظلما وقال عبد الملك بن مروان في أمية بن عبد الله «5» بن خالد:

إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد ونحوه قول الآخر «1» : [طويل] ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما «2» وقال الله جلّ وعزّ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ «3» . ومن أشعار الشّطّار في الجبان: [هزج] رأى في النوم إنسانا ... فوارى نفسه أشهر «4» قال ابن المقفع: الجبن مقتلة والحرص محرمة فانظر فيما رأيت وسمعت: من قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا؟ وانظر من يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحقّ أن تسخو نفسك له بالعطية أم من يطلب إليك بالشره والحرص؟ وقال حنش «5» بن عمرو: [طويل] وأنتم سماء يعجب الناس رزّها «6» ... لها زجل باق شديد وئيدها تقطّع أطناب البيوت بحاصب «7» ... وأكذب شيء برقها ورعودها

فويلمّها «1» خيلا تهاوى شرارها ... إذا لاقت الأعداء لولا صدودها وقال الفرزدق أو البيعث: [بسيط] سائل سليطا «2» إذا ما الحرب أفزعها ... ما بال خيلكمو قعسا هواديها لا يرفعون إلى داع أعنّتها ... وفي جواشنها داء يجافيها كان بالبصرة شيخ من بني نهشل يقال له عروة بن مرثد ويكنى أبا الأغرّ ينزل ببني أخت له في سكة بني مازن، وبنو أخته من قريش، فخرج رجالهم إلى ضياعهم في شهر رمضان وخرج النساء يصلّين في مسجدهم فلم يبق في الدار إلا الإماء «3» فدخل كلب يعتسّ «4» فرأى بيتا فدخله وانصفق الباب فسمع الحركة بعض الإماء فظنوا أن لصا دخل الدار فذهبت إحداهنّ إلى أبي الأغر فأخبرته، فقال أبو الأغر: ما يبتغي اللص؟ ثم أخذ عصاه وجاء، فوقف على باب البيت وقال: إيه، يا ملأمان «5» ، أما والله إنك بي لعارف فهل أنت إلا من لصوص بني مازن شربت حامضا خبيثا حتى إذا دارت القدوح في رأسك منّتك نفسك الأماني وقلت: أطرق ديار بني عمرو والرجال خلوف والنساء يصلّين في مسجدهم فأسرقهم؟ سوءة لك، والله ما يفعل هذا ولد الأحرار، وايم الله «6» لتخرجنّ أو لأهتفنّ هتفة مشؤومة يلتقي فيها الحيّان عمرو وحنظلة وتجيء سعد

بعدد الحصى وتسيل عليك الرجال من هاهنا ومن هاهنا ولئن فعلت لتكوننّ أشأم مولود. فلما رأى أنه لا يجيبه أحد أخذ باللين فقال: أخرج بأبي وأمي، أنت مستور، إني والله ما أراك تعرفني ولو عرفتني لقنعت بقولي واطمأننت إليّ. أنا- فديتك- أبو الأغر النّهشلي، وأنا خال القوم وجلدة بين أعينهم لا يعصونني، ولن تضارّ الليلة فاخرج فأنت في ذمتي وعندي قوصرّتان «1» أهداهما إليّ ابن أختي البارّ الوصول فخذ إحداهما فانتبذها حلالا من الله ورسوله. وكان الكلب إذا سمع الكلام أطرق وإذا سكت وثب يريغ المخرج، فتهاتف أبو الأغرّ ثم تضاحك وقال: يا ألأم الناس وأوضعهم، لا أرى إلا أني لك الليلة في واد وأنت لي في واد، أقلّب السوداء والبيضاء فتصيخ وتطرق، وإذا سكتّ عنك وثبت تريغ المخرج، والله لتخرجنّ أو لألجنّ عليك البيت. فلما طال وقوفه جاءت إحدى الإماء فقالت: أعرابي مجنون، والله ما أرى في البيت شيئا، فدفعت الباب فخرج الكلب شدّا وحاد عنه أبو الأغر ساقطا على قفاه، ثم قال: يا لله ما رأيت كالليلة! والله ما أراه إلا كلبا، أما والله لو علمت بحاله لولجت عليه. وشبيه بهذا حديث لأبي حية النّميري، وكان له سيف ليس بينه وبين الخشبة فرق، وكان يسميه لعاب المنيّة. قال جار له: أشرفت عليه ليلة وقد انتضاه وشمّر وهو يقول: أيها المغترّ بنا والمجترىء علينا، بئس والله ما أخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهور ضربته لا تخاف نبوته. أخرج بالعفو عنك وإلا دخلت بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيسا تملأ الأرض خيلا ورجلا. يا سبحان الله، ما

أكثرها وأطيبها! ثم فتح الباب فإذا كلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفاني حربا. وقرأت في كتاب كليلة ودمنة: يخاف غير المخوف طائر يرفع رجليه خشية السماء أن تسقط، وطائر يقوم على إحدى رجليه حذار الخسف إن قام عليهما، ودودة تأكل التراب فلا تشبع خوفا أن يفنى إن شبعت فتجوع، والخفافيش تستتر بالنهار خذار أن تصطاد لحسنها. بينا عبد الله بن خازم السّلمي عند عبيد الله بن زياد إذ دخل عليه بجرذ «1» أبيض فعجب منه وقال: يا أبا صالح، هل رأيت أعجب من هذا؟ وإذا عبد الله قد تضاءل حتى صار كأنه فرخ واصفّر حتى كأنه جرادة ذكر. فقال عبيد الله: أبو صالح يعصى الرحمن ويتهاون بالشيطان ويقبض على الثعبان ويمشي إلى الأسد الورد «2» ويلقى الرماح بوجهه قد اعتراه من هذا الجرذ ما ترون! إن الله على كل شيء قدير!. كان الحارث بن هشام أخو أبي جهل بن هشام شهد بدرا مع المشركين وانهزم، فقال فيه حسان «3» : [كامل] إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة «4» ولجام

فاعتذر الحارث من فراره وقال: [كامل] الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد وعلمت أنّي إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدويّ مشهدي فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد وأسلم يوم فتح مكة وحسن إسلامه، وخرج في زمن عمر من مكة إلى الشام بأهله وماله، فاتّبعه أهل مكة يبكون، فرقّ وبكى ثم قال: أما إنا لو كنا نستبدل دارا بدارنا وجارا بجارنا ما أردنا بكم بدلا، ولكنها النّقلة إلى الله، فلم يزل هنالك مجاهدا حتى مات. المدائني قال: رأى عمرو بن العاص معاوية يوما يضحك فقال له: مم تضحك يا أمير المؤمنين أضحك الله سنّك؟ قال: أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب، أما والله لقد وافقته منّانا كريما، ولو شاء أن يقتلك لقتلك. قال عمرو: يا أمير المؤمنين، أما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولّت عيناك وربا سحرك وبدا منك ما أكره ذكره لك فمن نفسك فاضحك أو دع. وقدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك فدخل وعليه درع وعمامة سوداء وقوس عربية وكنانة، فبعثت إليه أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت: من هذا الأعرابي المستلئم «1» في السلاح عندك وأنت في غلالة؟ فبعث إليها أنه الحجاج، فأعادت الرسول إليه، فقال: تقول لك والله لأن يخلو بك ملك الموت أحيانا أحبّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج، فأخبره بذلك الوليد وهو يمازحه، فقال: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف

القول فإنما المرأة ريحانة وليست قهرمانة «1» فلا تطلعها على سرك ومكايدة عدوّك. فلما دخل الوليد أخبرها بمقالة الحجاج فقالت: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تأمره غدا بأن يأتيني مستلئما، ففعل ذلك وأتاها الحجاج فحجبته فلم يزل قائما، ثم قالت: إيه يا حجاج، أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقتال ابن الزبير وابن الأشعث، أما والله لولا أنّ الله علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام ولا بقتل ابن ذات النّطاقين «2» أول مولود ولد في الإسلام، وأما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ لذّاته وأوطاره فإن كنّ ينفرجن عن مثله فغير قابل لقولك، أنا والله لقد نفض نساء أمير المؤمنين الطّيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من القرن قد أظلتك رماحهم وأثخنك كفاحهم وحين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم فأنجاك الله من عدوّ أمير المؤمنين بحبهم إياه، قاتل الله القائل حين نظر إليك وسنان غزالة «3» بين كتفيك: [كامل] أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء «4» تنفر من صفير الصافر هلّا كررت على غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جوانح طائر وغزالة امرأة شبيب الخارجي. ثم قالت: أخرج، فخرج.

وكان في بني ليث رجل جبان بخيل فخرج رهطه غازين وبلغ ذلك أناسا من بين سليم وكانوا أعداء لهم فلم يشعر الرجل إلا بخيل قد أحاطت بهم فذهب يفرّ فلم يجد مفرّا، ووجدهم قد أخذوا عليه كل وجه فلما رأى ذلك جلس ثم نثل كنانته وأخذ قوسه وقال «1» : [رجز] ما علّتي، وأنا جلد نابل «2» ... والقوس من نبع لها بلابل يرزّ فيها وتر عنابل ... إن لم أقاتلكم فأميّ هابل «3» أكلّ يوم أنا عنكم ناكل ... لا أطعم القوم ولا أقاتل الموت حقّ والحياة باطل ثم جعل يرميهم حتى ردّهم، وجاءهم الصريخ وقد منع الحيّ، فصار بعد ذلك شجاعا سمحا معروفا. ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير وجّه أخاه بشر بن مروان على الكوفة ووجّه معه روح بن زنباع الجذامي كالوزير، وكان روح رجلا عالما داهية غير أنه كان من أجبن الناس وأبخلهم، فلما رأى أهل الكوفة من بخله ما رأوا تخوّفوا أن يفسد عليهم أمرهم وكانوا قد عرفوا جبه فاحتالوا في إخراجه عنهم فكتبوا ليلا على بابه: [بسيط] إنّ ابن مروان قد حانت منيّته ... فاحتل لنفسك يا روح بن زنباع فلما أصبح ورأى ذلك لم يشكّ أنه مقتول فدخل على بشر فاستأذنه في الشخوص فأذن له وخرج حتى قدم على عبد الملك فقال له: ما أقدمك؟ قال: يا أمير المؤمنين، تركت أخاك مقتولا أو مخلوعا. قال: كيف عرفت

باب من أخبار الشجعاء والفرسان وأشعارهم

ذلك؟ فأخبره الخبر فضحك عبد الملك حتى فحص برجليه، ثم قال: إحتال لك أهل الكوفة حتى أخرجوك عنهم. كان أميّة بن عبد الله بن خالد بن أسيد وجّه إلى أبي فديك فانهزم وأتي الحجاج بدوابّ من دوابّ أمية قد وسم على أفخاذها «عدّة» فأمر الحجاج فكتب تحت ذلك: «للفرار» . وقال عمر رضي الله عنه: إنّ الشجاعة والجبن غرائز في الرجال، تجد الرجل يقاتل عمن لا يبالي ألا يؤوب إلى أهله، وتجد الرجل يفرّ عن أبيه وأمه، وتجد الرجل يقاتل ابتغاء وجه الله فذلك هو الشهيد. وقال الشاعر: [طويل] يفرّ الجبان عن أبيه وأمّه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه «1» باب من أخبار الشّجعاء «2» والفرسان وأشعارهم حدّثني أبو حاتم قال: حدّثني الأصمعي قال: سمعت الحرسيّ يقول: رأيت من الجبن والشجاعة عجبا. استثرنا من مزرعة في بلاد الشام رجلين يذريان حنطة، أحدهما أصيفر أحيمش «3» ، والآخر مثل الجمل عظما، فقاتلنا الأصيفر بالمذرى «4» لا تدنو منه دابة إلّا نخس أنفها وضربها حتى شقّ علينا فقتل، ولم نصل إلى الآخر حتى مات فرقا «5» فأمرت بهما فبقرت بطونهما فإذا

فؤاد الضخم يابس مثل الحشفة «1» ، وإذا فؤاد الأصيفر مثل فؤاد الجمل يتخضخض في مثل كوز من ماء. وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدّثنا أبو عمرو «2» الصّفّار قال: حاصر مسلمة حصنا فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد. فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الأذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلّا جاء. فجاء رجل فقال: إستأذن لي على الأمير. فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثا: ألّا تسوّدوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو. قال: فذاك له. قال: أنا هو. فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب. حدّثني محمد بن عمرو الجرجاني قال: كتب أنو شروان إلى مرازبته: عليكم بأهل الشجاعة والسخاء فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى. وذكر أعرابي قوما تحاربوا فقال: أقبلت الفحول تمشي مشي الوعول، فلما تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها. وذكر آخر قوما اتبعوا قوما أغاروا عليهم فقال: احتثّوا كلّ جماليّة عيرانة «3» فما زالوا يخصفون أخفاف المطيّ بحوافر الخيل حتى أدركوهم بعد ثالثة فجعلوا المرّان أرشية «4» الموت واستقوا بها أرواحهم. حدّثني عبد الرحمن عن عمه عن رجل من العرب قال: انهزمنا من قطريّ وأصحابه فأدركني رجل على فرس فسمعت حسّا منكرا خلفي،

فالتفتّ فإذا أنا بقطري فيئست من الحياة فلما عرفني قال: أشدد عنانها وأوجع خاصرتها قطع الله يديك. قال: ففعلت فنجوت منه. وحدّثني عبد الرحمن عن عمه قال: لما غرق شبيب قالت امرأة: الغرق يا أمير المؤمنين، قال ذلك تقدير العزيز العليم قال: فأخرج فشقّ بطنه وأخرج فؤاده فإذا مثل الكوز، فجعلوا يضربون به الأرض فينزو. حدّثنا الرياشي قال: حدّثنا الأصمعي قال: أخبرنا صاحب لنا عن أبي عمرو بن العلاء قال: لما كان يوم الكلاب «1» خرج رجل من بني تميم، أحسبه قال: سعديّ، فقال: لو طلبت رجلا له فداء! قال: فخرجت أطلبه، فإذا رجل عليه مقطّعة يمانيّة على فرس ذنوب، فقلت له: على يمينك. قال: على يساري أقصد لي. قلت: أيهات «2» منك اليمن. قال: العراق مني أبعد. قلت: وتالله لا ترى أهلك العام. قال لا والله أهلك لا أراهم. قال: فتركته ولما كان بعد أيام ونعتّ نعته بعد ذلك، فقيل لي: هو وعلة الجرميّ «3» . حدّثنا محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن هشام عن محمد بن سيرين قال: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأحنف بن قيس على جيش قبل خراسان فبيّتهم العدوّ ليلا وفرّقوا جيوشهم أربع فرق

واقبلوا معهم الطبل ففزع الناس وكان أوّل من ركب الأحنف فأخذ سيفه وتقلّده ثم مضى نحو الصوت وهو يقول: [رجز] إنّ على كل رئيس حقّا ... أن يخضب الصّعدة «1» أو تندقّا ثم حمل على صاحب الطبل فقتله، فلما فقد أصحاب الطبل الصوت انهزموا. ثم حمل على الكردوس «2» الآخر ففعل مثل ذلك وهو وحده، ثم جاء الناس وقد انهزم العدوّ فاتبعوهم يقتلونهم، ثم مضوا حتى فتحوا مدينة يقال لها مرو الرّوذ «3» . سأل ابن هبيرة عن مقتل عبد الله بن خازم، فقال رجل ممن حضر: سألنا وكيع بن الدّورقيّة كيف قتلته؟ قال: غلبته بفضل فتاء «4» كان لي عليه فصرعته وجلست على صدره وقلت له: يا لثارات دويلة. يعني أخاه من أبيه. فقال من تحتي: قتلك الله! تقتل كبش مضر «5» بأخيك وهو لا يساوي كفّ نوى! ثم تنخّم فملأ وجهي نخامة «6» ، فقال ابن هبيرة: هذه والله البسالة! استدلّ عليها بكثرة الريق في ذلك الوقت. قال هشام لمسلمة: يا أبا سعيد، هل دخلك ذعر قطّ لحرب أو عدوّ قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبّه على حيلة ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأيي. قال هشام: هذه البسالة.

خرج رهم «1» بن حزم الهلاليّ ومعه أهله وماله يريد النّقلة من بلد إلى بلد فلقيه ثلاثون رجلا من بني تغلب فعرفهم، فقال: يا بني تغلب، شأنكم بالمال وخلّوا الظعينة. فقالوا: رضينا إن ألقيت الرمح. قال: وإنّ رمحي لمعي. وحمل عليهم فقتل منهم رجلا وصرع آخر وقال: [رجز] ردّا على آخرها الأتاليا ... إن لها بالمشرفيّ حاديا ذكّرتني الطعن وكنت ناسيا قال الزّبيري: ما استحيا شجاع أن يفرّ من عبد الله بن خازم السّلمي وقطريّ بن الفجاءة. أبو اليقظان قال: كان حبيب بن عوف العبدي «2» فاتكا، فلقي رجلا من، أهل الشام قد بعثه زياد ومعه ستون ألفا يتّجر بها فسايره، فلما وجد غفلة قتله وأخذ المال فقال يوما وهو يشرب على لذته: [بسيط] يا صاحبيّ، أقلّا اللوم والعذلا ... ولا تقولا لشيء فات ما فعلا ردّا عليّ كميت «3» اللون صافية ... إني لقيت بأرض خاليا رجلا ضخم الفرائص لو أبصرت قمّته ... وسط الرجال إذن شبّهته جملا ضاحكته ساعة طورا وقلت له ... أنفقت بيعك إن ريثا وإن عجلا سايرته ساعة ما بي مخافته ... إلّا التّلفّت حولي هل أرى دغلا «4» غادرته بين آجام ومسبعة ... لم يدر غيري بعدي بعد ما فعلا يدعو زيادا وقد حانت منيّته ... ولا زياد لمن قد وافق الأجلا

المفضّل الضّبيّ: كان سليك بن سلكة التميمي من أشدّ فرسان العرب وأذكرهم وأدلّ الناس بالأرض وأجودهم عدوا على رجليه لا تعلق به الخيل وكانت أمّه سوداء وكان يقول: اللهمّ إنك تهيء ما شئت لما شئت إذا شئت، اللهمّ إني لو كنت ضعيفا كنت عبدا ولو كنت امرأة كنت أمة، اللهمّ إني أعوذ بك من الخيبة فأما الهيبة فلا هيبة. وأملق حتى لم يبق له شيء، فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرّة من بعض من يمرّ عليه فيذهب بإبله، حتى إذا أمسى في ليلة مقمرة واشتمل الصّمّاء «1» ونام، إذا برجل قد جثم على صدره وقال: إستأسر. فرفع سليك رأسه وقال: «إن الليل طويل وأنت مقمر» فجرى مثلا، وجعل الرجل يلهزه «2» ويقول: استأسر، يا خبيث، فلما آذاه ضمّه إليه ضمّة ضرط منها وهو فوقه، فقال له سليك: «أضرطا وأنت الأعلى» فجرى مثلا، ثم قال له: ما أنت؟ قال: أنا رجل افتقرت، فقلت: لأخرجنّ ولا أرجع حتى أستغنى. قال: فانطلق معي، فمضيا فوجدا رجلا قصته مثل قصتهما، فأتوا جوف مراد وهو واد باليمن فإذا فيه نعم كثيرة، فقال لهما سليك: كونا قريبا حتى آتي الرّعاء وأعلم لكما علم الحي أقريب هو أم بعيد، فإن كانوا قريبا رجعت إليكما، وإن كانوا بعيدا قلت لكما قولا أحي «3» به لكما فأغيرا. فانطلق حتى أتى الرّعاء، فجعل يستنطقهم حتى أخبروه بمكان الحي فإذا هم بعيد، فقال لهم سليك: ألا أغنّيكم؟ قالوا: بلى. فتغنّى بأعلى صوته ليسمع صاحبيه: [بسيط] يا صاحبيّ، ألا لا حيّ بالوادي ... إلا عبيد وآم «4» بين أذواد

أتنظران قليلا ريث غفلتهم ... أم تعدوان فإنّ الربح للعادي فلما سمعا ذلك أتيا السليك فأطردوا الإبل وذهبوا بها. حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعي قال: كان سليك يحضر «1» فتقع السهام من كنانته فترتنّ في الأرض من شدّة احضاره. وقال له بنو كنانة حين كبر: أرأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك؟ قال: نعم، إجمعوا لي أربعين شابا وابغوني درعا ثقيلة. فأخذها فلبسها وخرج بالشباب حتى إذا كان على رأس ميل أقبل يحضر فلاث العدو لوثا واهتبصوا «2» في جنبتيه فلم يصحبوه إلا قليلا فجاء يحضر منبترا من حيث لا يرونه وجاءت الدّرع تخفق في عنقه كأنها خرقة. قال سهل: حدّثني العتبي قال: حدّثني رجل من بني تميم عن بعض أشياخه من قومه قال: كنت عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة فأتى بأعرابي قد كان معروفا بالسّرق فقال له: أخبرني عن بعض عجائبك، قال: إنها لكثيرة، ومن أعجبها أنه كان لي بعير لا يسبق وكانت لي خيل لا تلحق، فكنت لا أخرج فأرجع خائبا فخرجت يوما فاحترشت ضبّا فعلّقته على قتبي «3» ثم مررت بخباء سّريّ ليس فيه إلّا عجوز، فقلت: أخلق بهذا الخباء أن يكون له رائحة من غنم وإبل، فلما أمسيت إذا بإبل مائة فيها شيخ عظيم البطن مثدّن «4» اللحم ومعه عبد أسود وغد، فلما رآني رحّب بي ثم قام إلى ناقة فاحتلبها وناولني العلبة فشربت ما يشرب الرجل فتناول الباقي فضرب به جبهته

ثم احتلب تسع أينق «1» فشرب ألبانهن ثم نحر حوارا «2» فطبخه ثم ألقى عظامه بيضا وحثا كومة من بطحاء وتوسّدها وغطّ غطيط البكر، فقلت: هذه والله الغنيمة. ثم قمت إلى فحل إبله «3» فخطمته ثم قرنته إلى بعيري وصحت به فأتبعني الفحل وأتبعته الإبل إربابا به، فصارت خلفي كأنها حبل ممدود، فمضيت أبادر ثنيّة بيني وبينها مسيرة ليلة للمسرع، فلم أزل أضرب بعيري بيدي مرّة وأقرعه برجلي أخرى حتى طلع الفجر، فأبصرت الثنيّة فإذا عليها سواد فلما دنوت إذا أنا بالشيخ قاعدا وقوسه في حجره فقال: أضيفنا؟ قلت: نعم. قال: أتسخوا نفسك عن هذه الإبل. قلت: لا. فأخرج سهما كأن نصله لسان كلب ثم قال: أبصر بين أذنيّ الضّبّ، ثم رماه فصدع عظمه عن دماغه، ثم قال: ما تقول؟ قلت: أنا على رأيي الأوّل. قال: أنظر هذا السهم الثاني في فقرة ظهره الوسطى. ثم رمى به فكأنما قدّره بيده ثم وضعه بإصبعه، ثم قال: أرأيت؟ قلت: إني أحب أن أستثبت. قال: أنظر هذا السهم الثالث في عكوة «4» ذنبه والرابع والله في بطنك. ثم رماه فلم يخطىء العكوة، فقلت: أنزل آمنا؟ قال: نعم. فنزلت فدفعت إليه خطام فحله وقلت: هذه إبلك لم يذهب منها وبرة وأنا أنتظر متى يرميني بسهم ينتظم به قلبي، فلما تنحّيت قال لي: أقبل. فأقبلت، والله، خوفا من شرّه لا طمعا في خيره، فقال: أي هذا، ما أحسبك جشمت «5» الليلة ما جشمت إلا من حاجة. قلت: أجل. قال: فاقرن من هذه الإبل بعيرين وامض لطيّتك، قلت: أما والله حتى أخبرك عن

نفسك قبلا. ثم قلت: والله ما رأيت أعرابيا قطّ أشدّ ضرسا ولا أعدى رجلا ولا أرمى يدا ولا أكرم عفوا ولا أسخى نفسا منك. وقرأت في كتاب سير العجم أن بهرام جور خرج ذات يوم إلى الصيد ومعه جارية له فعرضت له ظباء، فقال للجارية: في أيّ موضع تريدين أن أضع السهم من الوحش؟ فقالت أريد أن تشبّه ذكرانها بالإناث وإناثها بالذكران، فرمى تيسا من الظّباء بنشّابة ذات شعبتين فاقتلع قرنيه ورمى عنزا منها بنشّابتين فأثبتهما في موضع القرنين. ثم سألته أن يجمع أذن الظبي وظلفه بنشّابة واحدة فرمى أصل أذن الظبي ببندقة فلما أهوى بيده إلى أذنه ليحتكّ رماه بنشّابة فوصل ظلفه بأذنه ثم أهوى إلى القينة فضرب بها الأرض وقال: شدّ ما اشتططت عليّ وأردت إظهار عجزي!. وقرأت في كتبهم أن كسرى استعمل قرابة له على اليمن يقال له المروزان، فأقام بها حينا ثم خالفه أهل المصانع- والمصانع جبل باليمن ممتنع طويل ووراءه جبل آخر بينهما فصل إلا أنه متقارب ما بينهما- فسار إليهم المروزان فنظر إلى جبل لا يطمع أحد أن يدخله إلا من باب واحد يمنع ذلك الباب رجل واحد. فلما رأى أن لا سبيل إليهم صعد الجبل الذي هو وراء المصانع من حيث يحاذي حصنهم فنظر إلى أضيق مكان فيه تحته هواء لا يقدر قدره، فلم ير شيئا أقرب إلى افتتاح ذلك الحصن من ذلك الجبل، فأمر أصحابه أن يقوموا به صفّين ثم يصيحوا به صيحة واحدة ثم ضرب فرسه حتى إذا استجمع حضرا رمى به أمام الحصن وصاح به أصحابه فوثب الفرس الوادي فإذا هو على رأس الحصن، فلما نظرت إليه حمير قالوا: هذا أيم. والأيم بالحميرية شيطان، فانتهرهم بالفارسية وأمرهم أن يربط بعضهم بعضا ففعلوا واستنزلهم من حصنهم فقتل طائفة وسبى طائفة وكتب بما كان منه إلى

كسرى، فتعجّب كسرى وأمره بالاستخلاف على عمله والقدوم إليه وأراد أن يسامي به أساورته «1» ، فاستخلف المروزان ابنه ثم توجّه نحوه فلما صار ببعض بلاد العرب هلك فوضعوه في تابوت ثم حملوه حتى قدموا به على كسرى فأمر كسرى بذلك التابوت فوضع في خزانته فكان يخرج في كل عام إليه وإلى من عنده من أساورته فيقول: هذا الذي فعل كذا وكذا. وروى أبو سوقة التميمي عن أبيه عن جدّه عن أبي الأغرّ التميمي قال: بينا أنا واقف بصفّين مرّ بي العباس بن ربيعة مكفّرا بالسلاح وعيناه تبصّان من تحت المغفر كأنّهما عينا أرقم وبيده صفيحة له وهو على فرس له صعب يمنعه ويليّن من عريكته إذ هتف به هاتف من أهل الشام يقال له عرار بن أدهم: يا عباس، هلمّ إلى البراز. قال العباس: فالنزول إذا فإنه إياس من القفول. فنزل الشامي وهو يقول: [بسيط] إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل وثنى العباس وركه فنزل وهو يقول: [كامل] وتصدّ عنك مخيلة الرجل ال ... عرّيض موضحة عن العظم بحسام سيفك أو لسانك وال ... كلم الأصيل كأرغب الكلم «2» ثم غضّن فضلات درعه في حجزته ودفع قوسه إلى غلام له أسود يقال له: أسلم، كأني أنظر إلى فلائل شعره ثم دلف كلّ واحد منهما إلى صاحبه فذكرت بهما قول أبي ذؤيب «3» :

[كامل] فتنازلا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مخدّع وكف الناس أعنّة خيولهم ينتظرون ما يكون من الرجلين فتكافحا بينهما مليّا من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهيا في درع الشاميّ فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندؤته «1» ثم عاد لمجاولته وقد أصحر له مفتّق الدرع فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره وخرّ الشامي لوجهه وكبّر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض من تحتهم وانشام العباس في الناس وانساع أمره وإذا قائل يقول من ورائي قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «2» فالتفت وإذا أمير المؤمنين، رضي الله عنه، عليّ بن أبي طالب، فقال: يا أبا الأغر، من المنازل لعدوّنا؟ فقلت: هذا ابن أحيكم، هذا العباس بن ربيعة. فقال: إنه لهو، يا عباس، ألم أنهك وابن عباس أن تخلّا بمركزكما أو تباشرا حربا؟ قال: إن ذلك. يعني نعم. قال: فما عدا مما بدا؟ قال: فأدعى إلى البراز فلا أجيب؟ قال: نعم، طاعة إمامك أولى بك من إجابة عدوّك. ثم تغيّظ واستشاط حتى قلت: الساعة الساعة، ثم تطأمن وسكن ورفع يديه مبتهلا فقال: اللهمّ اشكر للعباس مقامه واغفر له ذنبه، اللهمّ إني قد غفرت له فاغفر

له. قال: وتأسّف معاوية على عرار وقال: متى ينطف فحل بمثله! أيطل دمه! لاها الله ذا. ألا لله رجل يشري نفسه يطلب بدم عرار؟ فانتدب له رجلان من لخم. فقال: اذهبا فأيّكما قتل العباس برازا فله كذا. فأتياه ودعواه إلى البراز فقال: إن لي سيدا أريد أن أؤامره. فأتى عليّا فأخبره الخبر، فقال عليّ: والله لودّ معاوية أنه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلّا طعن في نيطه «1» إطفاء لنور الله ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون، أما والله ليملكنّهم منا رجال، ورجال يسومونهم الخسف حتى يحفروا الآبار ويتكفّفوا الناس. ثم قال: يا عباس، ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله ووثب على فرس العباس وقصد اللخميين. فلم يشكّا أنه العباس فقالا له: أذن لك صاحبك؟ فخرج أن يقول نعم، فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «2» فبرز له أحدهما فضربه ضربة فكأنما أخطأه، ثم برز له الآخر فألحقه بالأوّل، ثم أقبل وهو يقول: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «3» ثم قال: يا عباس، خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن عاد لك أحد فعد إليّ، ونمي الخبر إلى معاوية فقال: قبح الله اللّجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلا خذلت. فقال عمرو ابن العاص: الخذول والله اللخميان لا أنت. قال معاوية: أسكت، أيها

الرجل، فليس هذه من ساعتك. قال: وإن لم تكن، رحم الله اللخميين وما أراه يفعل. قال: ذاك والله أخسر لصفقتك وأضيق لحجرك. قال: قد علمت ذلك ولولا مصر لركبت المنجاة منها. قال: هي أعمتك ولولا هي لألفيت بصيرا. وقال عمرو بن العاص لمعاوية: [طويل] معاوي، لا أعطيك ديني ولم أنل ... به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة ... أخذت بها شيخا يضرّ وينفع خرج الأخينس الجهنيّ فلقي الحصين العمريّ «1» ، وكانا جميعا فاتكين، فسارا حتى لقيا رجلا من كندة في تجارة أصابها من مسك وثياب وغير ذلك، فنزل تحت شجرة يأكل، فلما انتهيا إليه سلّما. قال الكنديّ: ألا تضحّيان؟ فنزلا. فبينما هم يأكلون مرّ ظليم فنظر إليه الكنديّ وأبّده «2» بصره فبدت له لبّته، فاغتره الحصين فضرب بطنه بالسيف فقتله، واقتسما ماله وركبا، فقال الأخينس: يا حصين، ما صعلة «3» وصعل؟ قال: يوم شرب وأكل. قال: فانعت لي هذه العقاب. فرفع رأسه لينظر إليها فوجأ بطنه بالسيف فقتله مثل قتله الأوّل. ثم إنّ أختا للحصين يقال لها صخرة لما أبطأ عليها خرجت تسأل عنه في جيران لها من مراح وجرم. فلما بلغ ذلك الأخينس قال: [وافر] وكم من فارس لا تزدريه ... إذا شخصت لموقفه العيون يذلّ له العزيز وكلّ ليث ... شديد الهصر مسكنه العرين علوت بياض مفرقه بعضب ... ينوء لوقعه الهام السّكون فأمست عرسه ولها عليه ... هدوء بعد ليلته أنين

كصخرة «1» إذ تسائل في مراح ... وفي جرم، وعلمهما ظنون تسائل عن حصين كلّ ركب ... وعند جهينة «2» الخبر اليقين فذهبت مثلا. خرج المهدّي وعليّ بن سليمان إلى الصيد ومعهما أبو دلامة «3» الشاعر، فسنحت لهم ظباء فرمى المهديّ ظبيا فأصابه، ورمى عليّ بن سليمان كلبا فعقره، فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قال في هذا، فقال: [مجزوء الرمل] ورمى المهديّ ظبيا ... شكّ بالسهم فؤاده وعليّ بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده فهنيئا لهما ك ... ل امرىء يأكل زاده «4» قال أبو دلامة: كنت في عسكر مروان أيام زحف إلي شبيب الخارجيّ، فلما التقى الزّحفان خرج منهم فارس ينادي: من يبارز؟ فجعل لا يخرج إليه إنسان إلا أعجله ولم ينهنهه، فغاظ ذلك مروان، فجعل يندب الناس على خمسمائة، فقتل أصحاب الخمسمائة، وزاد مروان على ندبته فبلغ بها ألفا، فما زال ذلك فعله حتى بلغ بالندبة خمسة آلاف درهم، وتحتي فرس لا أخاف خونه، فلما سمعت بالخمسة آلاف نزّقته «5» واقتحمت الصفّ. فلما نظر إليّ

الخارجيّ علم أن خرجت للطمع، فأقبل يتهيأ لي وإذا عليه فرو له قد أصابه المطر فارمعلّ «1» ثم أصابته الشمس فاقفعلّ «2» وعيناه تدرّان «3» كأنهما في وقبين «4» ، فدنا منّي وقال: [رجز] وخارج أخرجه حبّ الطمع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع من كان ينوي أهله فلا رجع «5» فلما وقرت في أذني انصرفت عنه هاربا، وجعل مروان يقول: من هذا الفاضح؟ ائتوني به. ودخلت في غمار الناس فنجوت. كان خالد بن جعفر نديما للنعمان، فبينا هو ذات يوم عنده وقد دعا النعمان بتمر وزبد فهما يأكلان منه إذ دخل عليهما الحارث بن ظالم. فقال النعمان: أدن، يا حارث، فكل، فدنا. فقال خالد: من ذا أبيت اللعن؟ قال: هذا سيد قومه وفارسهم الحارث بن ظالم. قال خالد: أما إنّ لي عنده يدا. قال الحارث: وما تلك اليد؟ قال: قتلت سيد قومك فتركتك سيدهم بعده. يعني زهير بن جذيمة، قال الحارث أما إني سأجزيك بتلك اليد. ثم أخذه الزّمع» وأرعدت يده، فأخذ يعبث بالتمر فقال له خالد: أيّتهنّ تريد فأناولكها؟ قال الحارث: أيّتهن تهمّك فأدعها؟ ثم نهض مغضبا، فقال النعمان لخالد: ما أردت بهذا وقد عرفت فتكه وسفهه؟ فقال: أبيت اللعن، وما

تتخوّف عليّ منه؟ فوالله لو كنت نائما ما أيقظني. فانصرف خالد فدخل قبّة له من أدم بعد هدأة من الليل وقام على بابها أخ له يحرسه. فلما نام الناس خرج الحارث حتى أتى القبة من مؤخّرها فشقّها ثم دخل فقتله، فقال عمرو «1» ابن الإطنابة: [خفيف] علّلاني وعلّلا صاحبيّا ... واسقياني من المروّق ريّا «2» إنّ فينا القيان يعزفن بالضّر ... ب لفتياننا وعيشا رخيّا يتناهين في النعيم ويضرب ... ن خلال القرون مسكا ذكيا أبلغا الحارث بن ظالم «3» الرّع ... ديد والناذر النّذور عليّا إنما تقتل النّيام ولا تق ... تل يقظان ذا سلاح كميّا وكان عمرو قد آلى ألا يدعوه رجل بليل إلا أجابه ولم يسأله عن اسمه. فأتاه الحارث ليلا فهتف به، فخرج إليه، فقال: ما تريد؟ قال أعنّي على أبل لبني فلان وهي منك غير بعيدة فإنها غنيمة باردة. فدعا عمرو بفرسه وأراد أن يركب حاسرا. فقال له: إلبس عليك سلاحك فإني لا امن امتناع القوم، فاستلأم وخرج معه، حتى إذا برزا قال له الحارث: أنا أبو ليلى فخذ حذرك، يا عمرو، فقال له: أمنن عليّ. فجزّ ناصيته. وقال الحارث: [خفيف] علّلاني بلذّتي قينتيّا ... قبل أن تبكي العيون عليّا قبل أن تذكر العواذل أني ... كنت قدما لأمرهنّ عصيّا

ما أبالي إذا أصطبحت ثلاثا ... أرشيدا دعوتني أم غويّا غير ألّا أسرّ إثما ... في حياتي ولا أخون صفيّا بلغتني مقالة المرء عمرو ... بلغتني وكان ذاك بديّا فخرجنا لموعد فالتقينا ... فوجدناه ذا سلاح كميّا غير ما نائم يروّع باللي ... ل معدّا بكفّه مشرفيّا «1» فرجعنا بالمنّ منّا عليه ... بعد ما كان منه منّا بديّا ووفد تميم «2» بن مرّ وبكر بن وائل «3» على بعض الملوك، وكانا ينادمانه فجرى بينهما تفاخر فقالا: أيها الملك، أعطنا سيفين، فأمر الملك بسيفين من عودين فنحتا وموّها بالفضة وأعطاهما إياهما، فجعلا يضطربان بهما مليّا من نهارهما، فقال بكر: [رجز] لو كان سيفانا حديدا قطعا وقال تميم: أو نحتا من جندل تصدّعا ففرّق الملك بينهما، فقال بكر لتميم: [وافر] أساجلك العداوة ما بقينا وقال تميم: وإن متنا نورّثها بنينا

فأورثاها بنيهما إلى اليوم. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن خلف الأحمر قال: كان أبو عروة «1» السباع يصيح بالسبع وقد احتمل الشاة فيسقط فيموت فيشقّ بطنه فيوجد فؤاده قد انخلع. وهو مثل في شدّة الصوت. قال الشاعر «2» في ذلك: [منسرح] زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يلتبسن بالغنم «3» قال: وأبو عطية عفيف النصريّ نادى في الحرب التي كانت بين ثقيف وبين بني نصر لما رأى الخيل بعقوته «4» : يا سوء صباحاه، أتيتم يا بني يربوع! فألقت الحبالى أولادها، فقيل في ذلك: [طويل] وأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيف لدن نادى بنصر فطرّبا في أخبار وهب بن منبه أن يهوذا قال ليوسف: لتكفنّ أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي حامل بمصر إلا ألقت ما في بطنها. محمد بن الضحاك عن أبيه قال: كان العباس بن عبد المطلب يقف على سلع فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم وذلك من آخر الليل. وبين الغابة وبين سلع ثمانية أميال، وسلع جبل وسط المدينة. وكان شبيب بن ربعيّ يتنحنح في داره فيسمع تنحنه بالكناسة «5» ، ويصيح براعيه فيسمع نداؤه

على فرسخ وكان هذا مؤذن سجاح «1» التي تنبّأت ذكر هذا خالد بن صفوان، وسمعه أبو المجيب النهديّ فقال: ما سمع له بصوت أبعد من صوته بآذانه فإنه كان مؤذنها يعني سجاح. ذم رجل الأشتر فقال له قائد: أسكت فإن حياته هزمت أهل الشام وإن موته هزم أهل العراق. المدائني قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل يستحمله، فقال له: خذ بعيرا من إبل الصدقة. فتناول ذنب بعير صعب فجذبه فاقتلعه، فعجب عمر وقال له: هل رأيت أشدّ منك؟ قال: نعم، خرجت بامرأة من أهلي أريد بها زوجها فنزلنا منزلا أهله خلوف فقربت من الحوض فبينا أنا كذلك إذ أقبل رجل ومعه ذود «2» والمرأة ناحية فسرّب ذوده إلى الحوض ومضى إلى المرأة فساورها ونادتني، فما انتهيت إليها حتى خالطها، فجئت لأدفعه عنها فأخذ برأسي فوضعه بين عضده وجنبه فما استطعت أن أتحرك حتى قضى ما أراد ثم استلقى. فقالت المرأة: أيّ فحل هذا! لو كانت لنا منه سخلة «3» ! وأمهلته حتى امتلأ نوما فقمت إليه بالسيف فضربت ساقه فأبنتها، فانتبه وتناول رجله فعلما فغلبه الدم فرماني برجله وأخطأني وأصاب عنق بعيري

فقتله. فقال عمر: ما فعلت المرأة؟ قال: هذا حديث الرجل. فكرر عليه مرارا لا يزيده على هذا، فظنّ أنه قد قتلها. حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثنا أشهل بن حاتم قال: حدّثنا ابن عون عن عمير بن إسحاق قال: كان سعد على ظهر بيت وهو شاك والمشركون يفعلون بالمؤمنين ويفعلون. وأبو محجن في الوثاق عند أم ولد لسعد فأنشأ يقول: [طويل] كفى حزنا أن تلتقي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا عليّ وثاقيا إذا شئت غنّاني الحديد وغلّقت ... مغاليق من دوني تصمّ المناديا فقالت له أم ولد سعد: أتجعل لي إن أنا أطلقتك أن ترجع إليّ حتى أعيدك في الوثائق؟ قال نعم، فأطلقته فركب فرسا بلقاء «1» لسعد وحمل على المشركين فجعل سعد يقول: لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي. فانكشف المشركون وجاء أبو محجن فأعادته في الوثاق وأتت سعدا فأخبرته، فأرسل إلى أبي محجن فأطلقه وقال: والله لاحبستك فيها أبدا. يعني الخمر، فقال أبو محجن: وأنا الله لا أشربها بعد اليوم أبدا. وقال الشاعر «2» : [طويل] سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... عليّ قضاء الله ما كان جالبا وأذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من باقي المذمّة حاجبا ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا فيا لرزام رشّحوا بي مقدّما ... إلى الموت خواضا إليه الكرائبا

إذا همّ لم يردع كريمة همّه ... ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا أخا غمرات لا يريد على الذي ... يهمّ به من مفظع الأمر صاحبا إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا عليكم بداري فاهدموها فإنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا «1» وقال رجل «2» من بني العنبر: [بسيط] لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الكريهة إن ذو لوثة لانا قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه «3» لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشرّ في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأنّ ربّك لم يخلق لخشيته ... سواهمو من جميع الناس إنسانا فليت لي بهمو قوما إذا ركبوا ... شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا لكن يطيرون أشتاتا إذا فزعوا ... وينفرون إلى الغارات وحدانا

وقال آخر: [مجزوء الكامل] ولئن عمرت لأشفين ... ن النفس من تلك المساعي ولأعلمنّ البطن أن ... ن الزاد ليس بمستطاع أمّا النهار فرأي أص ... حابي بمرقبة يفاع أثر الشجاع بها كسر ... د الخرز في سير الصّناع ترد السباع معي فأل ... فى كالمدلّ من السبّاع وقال آخر: [بسيط] إنّا محيّون يا سلمى فحيّينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا إنّا لنرخص يوم الرّوع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن أغلينا بيض مفارقنا تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا وقال المعلوط «1» : [وافر] ألم ترني خلقت أخا حروب ... إذا لم أجن كنت مجنّ جاني؟ وقال آخر «2» : [طويل] لعمري لقد نادى بأرفع صوته ... نعيّ سويد أنّ فارسكم هوى أجل صادقا والقائل الفاعل الذي ... إذا قال قولا أنبط «3» الماء في الثرى فتى قبل لم تعنس السّنّ وجهه ... سوى خلسة في الرأس كالبرق في الدّجى «4» أشارت له الحرب العوان فجاءها ... يقعقع بالأقراب أوّل من أتى

ولم يجنها لكن جناها وليّه ... فآسى فآداه فكان كمن جنى وقال بشامة «1» : [بسيط] إنا بني نهشل لا ندّعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا إن تبتدر غاية يوما لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلّينا إنا لمن معشر أفنى أوائلهم ... قيل الكماة ألا أين المحامونا لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس؟ خالهم إيّاه يعنونا وقال زهير «2» : [بسيط] يطعنهم ما ارتموا حتّى إذا اطّعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا وقالت امرأة من كندة: [طويل] أبوا أنّ يفرّوا والقنا في نحورهم ... ولم يرتقوا من خشية الموت سلّما ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزّة ... ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما وقال آخر: [طويل] بني عمّنا، ردّوا فضول دمائنا ... ينم ليلكم، أو لا تلمنا اللّوائم فإنا وإياكم وإن طال ترككم ... كذي الدّين ينأى ما نأى وهو غارم وقال أبو سعيد المخزوميّ «3» وكان شجاعا: [بسيط] وما يريد بنو الأعيار من رجل ... بالجمر مكتحل بالنّبل مشتمل لا يشرب الماء إلا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل

وقال عبد القدّوس بن عبد الواحد من ولد النعمان بن بشير: [طويل] ندى تحكم الآمال فيه، ونجدة ... تحكّم في الأعداء بالأسر والقتل وقال آخر: [طويل] ضربناكمو حتى إذا قام ميلكم ... ضربنا العدا عنكم بأبيض صارم تمثّل زيد بن علي يوم قتل بقول القائل: [متقارب] أذلّ الحياة وعزّ الممات ... وكلّا أراه طعاما وبيلا فإن كان لا بدّ من واحد ... فسيروا إلى الموت سيرا جميلا وقال قيس «1» بن الخطيم: [رجز] أبلج لا يهمّ بالفرار ... قد طاب نفسا بدخول النار وقال آخر «2» : [وافر] ومن تكن الحضارة أعجبته ... فأيّ رجال بادية ترانا ومن ربط الجحاش فإنّ فينا ... قنا سلبا وأفراسا حسانا وكنّ إذا أغرن على قبيل ... فأعوزهنّ كون حيث كانا أغرن من الضّباب على جلال «3» ... وضبّة إنه من حان حانا وأحيانا نكرّ على أخينا ... إذا ما لم نجد إلّا أخانا وقال الخنساء «4» : [متقارب] تعرّقني الدهر نهسا وحزّا ... وأوجعني الدهر قرعا وغمزا وأفني رجالي فبادوا معا ... فأصبح قلبي بهم مستفزّا

ومن ظنّ ممّن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا وفيها «1» تقول: [متقارب] ونلبس للحرب أثوابها ... ونلبس في الأمن خزّا وقزّا وهذا كقولهم: إلبس لكل حالة لبوسها. وقال عبد الله بن سبرة الحرشي «2» حين قطعت يده: [بسيط] ويلمّ «3» جار غداة الجسر فارقني ... أعزز عليّ به إذ بان فانصدعا يمنى يديّ غدت منيّ مفارقة ... لم أستطع يوم خلطاس لها تبعا وما ضننت عليها أن أصاحبها ... لقد حرصت على أن نستريح معا وقائل غاب عن شأني وقائلة ... ألا اجتنبت عدوّ الله إذ صرعا وكيف أتركه يمشي بمنصله ... نحوي وأجبن عنه بعدما وقعا ما كان ذلك يوم الرّوع من خلقي ... وإن تقارب مني الموت واكتنعا ويلمّه فارسا ولّت كتيبته ... حامى وقد ضيّعوا الأحساب فارتجعا يمشي إلى مستميت مثله بطل ... حتى إذا مكّنا سيفيهما امتصعا كلّ ينوء بماضي الحدّ ذي شطب ... جلّى الصّياقل عن درّيّه «4» الطّبعا حاسيته الموت حتى اشتفّ آخره ... فما استكان لما لاقى وما جزعا كأنّ لمّته هدّاب مخملة ... أحمّ «5» أزرق لم يشمط وقد صلعا فإن يكن أطربون الروم قطّعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا وإن يكن أطربون الروم قطّعها ... فإنّ فيها بحمد الله منتفعا

بنانتان وجذمور «1» أقيم بها ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا وقال بعض الشعراء: [رجز] إنّ لنا من قومنا ناصرة ... بيض الظّبا سمر القنا شهب اللّمم يستنفرون الموت من مجثمه ... ويبعثون الحرب من عقد السّلم أولاك قيس قومنا أكرم بهم ... قيس النّدى قيس العلا قيس الكرم وقال جعفر «2» بن علبة الحارثي: [طويل] ليهن عقيلا أنّني قد تركتها «3» ... ينوء بقتلاها الذّئاب الهوامل لهم صدر سيفي يوم برقة سحبل ... ولي منه ما ضمّت عليه الأنامل إذا القوم سدّوا مأزقا فرّجت لنا ... بأيماننا بيض جلتها الصّياقل وقال عمرو «4» بن معد يكرب: [وافر] أعاذل، شكّتي بزّي ورمحي ... وكلّ مقلّص سلس القياد أعاذل، إنما أفنى شبابي ... ركوب في الصّريخ إلى المنادي وقال أبو دلف «5» : [متقارب] لقد علمت وائل أننا ... نخوض الحتوف غداة الحتوف ولا نتّقيها بزحف الفرار ... إذا ما الصفوف انبرت للصفوف

باب الحيل في الحروب وغيرها

ويوم أفاءت لنا خيلنا ... لدى جبل الدّيلمي المنيف طوال الفتى بطوال القنا ... وبيض الوجوه ببيض السيوف وكلّ حصان بكل حصان ... أمين شظاه سليم الوظيف ألا نعّماني فما نعمتي ... برادعتي عن ركوب المخوف لي الصبر عند حلول البلا ... إذا نزلت بي إحدى الصّروف وإن تسألي تخبري أنني ... أقي حسبي بألوف الألوف وأحلم حتى يقولوا ضعيف ... وما أنا قد علموا بالضعيف خفيف على فرسي ما ركبت ... ولست على ظالمي بالخفيف باب الحيل في الحروب وغيرها قال ابن إسحاق: لما خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بدر، مرّ حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن محمد وقريش وما بلغه من خبر الفريقين. فقال الشيخ: لا أخبركم حتى تخبروني ممن أنتم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتنا أخبرناك» . فقال الشيخ: خبّرت أن قريشا خرجت من مكة وقت كذا، فإن كان الذي خبّرني صدق فهي اليوم بمكان كذا، للموضع الذي به قريش. وخبّرت أنّ محمدا خرج من المدينة وقت كذا، فإن كان الذي خبّرني صدق فهو اليوم بمكان كذا، للموضع الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: من أنتم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف. فجعل الشيخ يقول: نحن من ماء! من ماء العراق أو ماء كذا أو ماء كذا!. حدّثني سهل بن محمد قال: حدثني الأصمعي قال: حدّثني شيخ من بني العنبر قال: أسرت بنو شيبان رجلا من بني العنبر فقال لهم: أرسل إليّ أهلي ليفتدوني. قالوا: ولا تكلّم الرسول إلا بين أيدينا. فجاءوه برسول فقال

له: إئت قومي فقل لهم: إن الشجر قد أورق وإن النساء قد اشتكت. ثم قال له: أتعقل ما أقول لك؟ قال: نعم أعقل. قال: فما هذا؟ وأشار بيده. قال: هذا الليل. قال: أراك تعقل. إنطلق لأهلي فقل لهم: عرّوا جملي الأصهب واركبوا ناقتي الحمراء وسلوا حارثا عن أمري. فأتاهم الرسول فأخبرهم، فأرسلوا إلى حارث فقصّ عليه القصة، فلما خلا معهم قال لهم: أمّا قوله: «إن الشجر قد أورق» فإنه يريد أن القوم قد تسلّحوا. وقوله: «إن النساء قد اشتكت» فإنه يريد أنها قد اتخذت الشّكاء «1» للغزو، وهي أسقية، ويقال للسقاء الصغير شكوة. وقوله: «هذا الليل» يريد أنهم يأتونكم مثل الليل أو في الليل. وقوله: «عرّوا جملي الأصهب» يريد ارتحلوا عن الصّمّان. وقوله: «اركبوا ناقتي الحمراء» يريد اركبوا الدّهناء. قال: فلما قال لهم ذلك تحوّلوا من مكانهم، فأتاهم القوم فلم يجدوا منهم أحدا. أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبد الله بن عباس لما قدم البصرة فقال: ائت الزبير ولا تأت طلحة فإنّ الزبير ألين وأنت تجد طلحة كالثور عاقصا قرنه، يركب الصعوبة ويقول هي أسهل، فأقرئه السلام وقل له يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا ممّا بدا؟ قال ابن عباس: فأتيته فأبلغته. فقال قل له: بيننا وبينك عهد خليفة ودم خليفة، واجتماع ثلاثة وانفراد واحد، وأمّ مبرورة، ومشاورة العشرة، ونشر المصاحف، نحلّ ما أحللت ونحرّم ما حرمت. الهيثم بن عدي قال: مرّ شبيب الخارجي على غلام في الفرات يستنقع في الماء فقال له شبيب: أخرج إليّ أسائلك. قال: فأنا آمن حتى ألبس ثوبي؟ قال: نعم. قال: فوالله لا ألبسه.

قال الهيثم: أراد عمر رحمه الله قتل الهرمزان. فاستسقى فأتي بماء فأمسكه بيده واضطرب، فقال له عمر: لا بأس عليك، إني غير قاتلك حتى تشربه. فألقى القدح، من يده وأمر عمر بقتله، فقال: أو لم تؤمنّي؟ قال: كيف امنتك؟ قال: قلت: لا بأس عليك حتى تشربه، ولا بأس أمان، وأنا لم أشربه. فقال عمر: قاتله الله! أخذ أمانا ولم نشعر به. قال أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: صدق. العتبيّ: بعث يزيد بن معاوية عبيد الله بن عضاه الأشعري إلى ابن الزبير فقال له: إنّ أوّل أمرك كان حسنا فلا تفسده بآخره. فقال ابن الزبير: إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال عبيد الله: يا معشر قريش، قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم، وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة. المدائني قال: أقبل واصل بن عطاء في رفقة فلقيهم ناس من الخوارج فقالوا لهم: من أنتم؟ قال لهم واصل: مستجيرون حتى نسمع كلام الله، فأعرضوا علينا، فعرضوا عليهم فقال واصل: قد قبلنا. قالوا: فامضوا راشدين. قال واصل: ما ذلك لكم حتى تبلغونا مأمننا. قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ «1» فأبلغونا مأمننا. فجاءوا معهم حتى بلغوا مأمنهم. وقال معاوية: لا ينبغي أن يكون الهاشميّ غير جواد ولا الأمويّ غير حليم ولا الزّبيريّ، غير شجاع ولا المخزوميّ غير تيّاه. فبلغ ذلك الحسن بن علي فقال: قاتله الله! أراد أن يجود بنو هاشم فينفد ما بأيديهم، ويحلم بنو

أمية فيتحبّبوا إلى الناس، ويتشجّع آل الزبير فيفنوا، ويتيه بنو مخزوم فيبغضهم الناس. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: استقبل الخوارج بن عرباض اليهودي وهم بحرورى «1» فقال: هل خرج إليكم في اليهود شيء؟ قالوا: لا. قال: فأمضوا راشدين. المدائني قال: لما بلغ قتيبة بن مسلم أنّ سليمان يريد عزله عن خراسان واستعمال يزيد بن المهلّب كتب إليه ثلاثة صحائف، وقال للرسول: إدفع إليه هذه، فإن دفعها إلى يزيد فادفع إليه هذه، فإن شتمني عند قراءتها فادفع إليه الثالثة. فلما صار إليه الرسول دفع إليه الكتاب الأوّل وفيه: يا أمير المؤمنين، إن من بلائي في طاعة أبيك وطاعتك وطاعة أخيك كيت وكيت. فدفع كتابه إلى يزيد فأعطاه الرسول الكتاب الثاني وفيه: يا أمير المؤمنين، تأمن ابن دحمة على أسرارك ولم يكن أبوه يأمنه على أمهات أولاده! فشتم قتيبة، فدفع إليه الرسول الكتاب الثالث وفيه: من قتيبة بن مسلم إلى سليمان ابن عبد الملك، سلام على من اتّبع الهدى أما بعد، فوالله لأوثّقنّ لك آخيّة «2» لا ينزعها المهر الأرن «3» . قال سليمان: عجّلنا على قتيبة. يا غلام، جدّد له عهده على خراسان. لما صرف أهل مزّة الماء عن أهل دمشق ووجهوه إلى الصحارى كتب

إليهم أبو الهندام: إلى بني استها أهل مزّة، ليمسّيني الماء أو لتصبّحنكم الخيل. فوافاهم الماء قبل أن يعتموا فقال أبو الهندام: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» . ولما بايع الناس يزيد بن الوليد أتاه الخبر عن مروان ببعض التلكؤ والتربص، فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، فإني أراك تقدّم رجلا وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيتهما شئت، والسلام. ولما هزم أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد لم يدر الناس كيف يعزّونه، فدخل عليه عبد الله بن الأهتم فقال: مرحبا بالصابر المخذول، الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا، فقد تعرّضت للشهادة بجهدك إلّا أنّ الله علم حاجة الإسلام إليك فأبقاك له بخذلان من كان معك لك. فصدر الناس عن كلامه. وكتب الحارث بن خالد المخزومي- وكان عامل يزيد بن معاوية على مكة- إلى مسلم بن عقبة المرّيّ، فأتاه الكتاب وهو بآخر رمق، وفي الكتاب: أصلح الله الأمير، إنّ ابن الزبير أتاني بما لا قبل لي به فانحزت. فقال: يا غلام أكتب إليه: أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تذكر أنّ ابن الزبير أتاك بما لا قبل لك به فانحزت. وايم الله ما أبالي على أيّ جنبيك سقطت إلا أن شرهما لك أحبّهما إليّ، وبالله لئن بقيت لك لأنزلنّك حيث أنزلت نفسك والسلام. أبو حاتم قال: حدّثنا العتبي قال: حدّثنا إبراهيم قال: لما أسنّ معاوية اعتراه أرق فكان إذا هوّم أيقظته نواقيس الروم، فلما أصبح يوما ودخل عليه الناس قال: يا معشر العرب، هل فيكم فتى يفعل ما آمره وأعطيه ثلاث ديات أعجّلها له وديتين إذا رجع؟ فقام فتى من غسّان فقال: أنا يا أمير المؤمنين.

قال: تذهب بكتابي إلى ملك الروم، فإذا صرت على بساطه أذّنت. قال: ثم ماذا؟ قال: فقط. فقال: لقد كلّفت صغيرا وآتيت كبيرا. فكتب له وخرج، فلما صار على بساط قيصر أذّن، فتناجزت البطارقة واخترطوا سيوفهم فسبق إليه ملك الروم فجثا عليه وجعل يسألهم بحق عيسى وبحقهم عليه لمّا كفّوا، ثم ذهب به حتى صعد على سريره ثم جعله بين رجليه، ثم قال: يا معشر البطارقة، إن معاوية رجل قد أسنّ وقد أرق وقد آذته النواقيس، فأراد أن نقتل هذا على الأذان فيقتل من قبله منّا ببلاده على النواقيس، والله ليرجعنّ إليه بخلاف ما ظنّ. فكساه وحمله فلما رجع إلى معاوية قال: أوقد جئتني سالما؟ قال: نعم، أمّا من قبلك فلا. وكان يقال: ما ولي المسلمين أحد إلا ملك الروم مثله إن حازما وإن عاجزا. وكان الذي ملكهم على عهد عمر هو الذي دوّن لهم الدواوين ودوّخ لهم العدوّ، وكان ملكهم على عهد معاوية يشبه معاوية في حزمه وحلمه. وبهذا الإسناد قال: كانت القراطيس تدخل بلاد الروم من أرض العرب وتأتي من قبلهم الدنانير، وكان عبد الملك أوّل من كتب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1» وذكر النبي، صلى الله عليه وسلم، في الطّوامير «2» ، فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم في طواميركم شيئا من ذكر نبيكم نكرهه فانه عنه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكره ما تكرهون. فكبر ذلك في صدر عبد الملك وكره أن يدع شيئا من ذكر الله قد كان أمر به أو يأتيه في الدنانير من ذكر الرسول، صلى الله عليه وسلم، ما يكره، فأرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية فقال: يا أبا هاشم، إحدى بنات طبق «3» ، وأخبره

الخبر. فقال: ليفرخ روعك، حرّم دنانيرهم واضرب للناس سككا ولا تعفهم مما يكرهون. فقال عبد الملك: فرّجتها عنّي فرّج الله عنك. حدّثنا الرياشيّ قال: لما هدم الوليد بن عبد الملك كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك قد هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها فإن كان حقا فقد أخطأ أبوك، وإن كان باطلا فقد خالفته. فكتب إليه الوليد: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ «1» إلى آخر القصة. حدّثنا الزيادي محمد بن زياد قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعيد قال: حدّثنا عليّ بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: كتب قيصر إلى معاوية: سلام عليك، أمّا بعد، فأنبئني بأحبّ كلمة إلى الله وثانية وثالثة ورابعة وخامسة، ومن أكرم عباده إليه وأكرم إمائه، وعن أربعة أشياء فيهنّ الروح لم يرتكضن في رحم، وعن قبر يسير بصاحبه ومكان في الأرض لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة، والمجرّة ما موضعها من السماء، وقوس قزح وما بدء أمره؟. فلما قرأ كتابه قال: اللهم العنه! ما أدري ما هذا!. فأرسل إليّ يسألني فقلت: أمّا أحبّ كلمة إلى الله فلا إله إلا الله لا يقبل عملا إلا بها وهي المنجية، والثانية سبحان الله وهي صلاة الخلق، والثالثة الحمد لله كلمة الشكر، والرابعة الله أكبر فواتح الصلوات والركوع والسجود، والخامسة لا حول ولا قوّة إلا بالله. وأمّا أكرم عباد الله إليه فآدم خلقه بيده وعلّمه الأسماء كلّها، وأكرم إمائه عليه مريم التي أحصنت فرجها. والأربعة التي فيهنّ روح ولم يرتكضن في رحم فادم وحوّاء وعصا موسى والكبش. والموضع الذي لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة فالبحر حين انفلق لموسى وبني إسرائيل. والقبر الذي سار بساحبه فبطن الحوت الذي كان فيه يونس.

أبو حاتم عن العتبيّ عن أبيه قال: قدم معاوية من الشام وعمرو بن العاص من مصر على عمر فأقعدهما بين يديه وجعل يسألهما عن أعمالهما إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعليّ تعيب وإليّ تقصد؟ هلمّ حتى أخبر أمير المؤمنين عن عملك وتخبره عن عملي. قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله وأنّ عمر لا يدع أوّل هذا الحديث حتى يأتي على آخره، فأردت أن أفعل شيئا أقطع به ذلك فرفعت يدي فلطمت معاوية، فقال عمر: تالله ما رأيت رجلا أسفه منك، يا معاوية إلطمه. فقال معاوية: إنّ لي أميرا لا أقضي الأمور دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان فلما رآه ألقى له وساده ثم قال معتذرا: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ثمّ قصّ عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية فقال: ألهذا بعثت إليّ؟ أخوه وابن عمه وقد أتى غير كبير، قد وهبت له ذلك. أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال: ذكر بشر بن أرطاة عليا فنال منه فضرب زيد بن عمر- وأمّه ابنة عليّ بن أبي طالب- على رأسه بعصا فشجّه فبلغ ذلك معاوية فبعث إلى زيد بن عمر: أتدري ما صنعت؟ وثبت على بشر ابن أرطاة وهو شيخ أهل الشام فضربت رأسه بعصا، لقد أتيت عظيما. ثم بعث إلى بشر فقال: أتدري ما صنعت؟ وثبت على ابن الفاروق وابن علي بن أبي طالب تسبّه وسط الناس وتزدريه، لقد أتيت عظيما. ثم بعث إلى هذا بشيء وإلى هذا بشيء. المدائني قال: كان ابن المقفع محبوسا في خراج كان عليه وكان يعذّب، فما طال ذلك وخشي على نفسه تعيّن «1» من صاحب العذاب مائة ألف درهم فكان بعد ذلك يرفق به إبقاء على ماله.

حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال المختار: أدعوا إليّ المهديّ محمد بن الحنفية: فلما خشي أن يجيء قال: أما إنّ فيه علامة لا تخفى، يضربه رجل بالسيف ضربة لا تعمل فيه. قال الأصمعي عرّضه لأن مجرب به. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن عوانة بن الحكم الكلبي قال: ولّى عليّ، رضي الله عنه، الأشتر مصر فلما بلغ العريش أتى بطرا مصر فقال له مولىّ لعثمان: (وكان يقول: أنا مولى لآل عمر) : هل لك في شربة من سويق أجدحها «1» لك؟ قال: نعم. فجدح له بعسل وجعل فيها سمّا قاضيا فلما شربها يبس، فقال معاوية لما بلغه الخبر: يا بردها على الكبد! «إنّ لله جنودا منها العسل» . وقال عليّ: «لليدين وللفم» . حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن ابن أبي الزّناد قال: نظر عليّ إلى ولد عثمان كأنهم مستوحشون فسألهم فقالوا: نرمى بالليل، فقال: من أين يأتيكم الرّمي؟ قالوا: من ههنا. فصعد عليّ ولفّ رأسه ثم جعل يرمي وقال: إذا عاد فافعلوا مثل هذا فانقطع الرمي. قال محمد بن كعب القرظيّ: جاء رجل إلى سليمان النبي عليه السلام فقال يا نبيّ الله: إنّ لي جيرانا سرقوا إوزّتي فنادى: الصلاة جامعة. ثم خطبهم فقال في خطبته: وأحدكم يسرق إوزّة جاره ثم يدخل المسجد والريش على رأسه! فمسح رجل على رأسه، فقال سليمان: خذوه فهو صاحبكم. أخذ الحكم بن أيوب الثّقفي عامل الحجاج إياس بن معاوية في ظنّة «2» الخوارج، فقال له الحكم: إنك خارجي منافق وشتمه، ثم قال: ائتني بمن يكفل بك. قال: ما أجد أحدا أعرف بي منك. قال: وما علمي بك وأنا من

أهل الشام وأنت من أهل العراق. قال إياس: ففيم هذه الشهادة منذ اليوم. فضحك وخلّى سبيله. دخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان وكان زبيريّا، فقال له عبد الملك: أليس قد ردّك الله على عقبيك؟ قال: ومن ردّ عليك فقد ردّ على عقبيه؟ فسكت عبد الملك وعلم أنه قد أخطأ. وكان رجل من النصارى يختلف إلى الضّحّاك بن مزاحم فقال له يوما: لو أسلمت! قال: يمنعني من ذلك حبّي للخمر. قال فأسلم واشربها. فأسلم، فقال له الضحاك: إنك قد أسلمت فإن شربت الخمر حددناك وإن رجعت عن الإسلام قتلناك. فحسن إسلامه. دخلت أمّ أفعى العبدية على عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أمّ المؤمنين، ما تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيرا؟ قالت: وجبت لها النار. قالت: فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفا؟ قالت: خذوا بيد عدوّة الله. العتبيّ قال: كتب يزيد بن معاوية إلى المدينة: أمّا بعد، «فإنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم» «1» وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال. إني والله قد لبستكم فأخلفتكم ورقعت بكم فاخترقتكم ثم وضعتكم على رأسي ثم على عيني ثم على فمي ثم على بطني. وايم الله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنّكم وطأة أقلّ بها عددكم وأذلّ غابركم «2» وأترككم

أحاديث تنسخ بها أخباركم مع أخبار عاد وثمود. ثم تمثّل: [وافر] لعل الحلم دلّ عليّ قومي ... وقد يستضعف الرجل الحليم ومارست الرجال ومارسوني ... فمعوجّ عليّ ومستقيم أبو حاتم قال: حدّثنا أبو عبيدة قال: أخذ سراقة «1» بن مرداس البارقيّ أسيرا يوم جبّانة «2» السّبيع، فقدم في الأسرى فقال: [رجز] أمنن عليّ اليوم يا خير معدّ ... وخير من حلّ بصحراء الجند وخير من لبّى وصلّى وسجد «3» فعفا عنه المختار ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث عليه فجيء بسراقة أسيرا فقال له المختار: ألم أعف عنك؟ أما والله لاقتلنّك. قال: إنّ أبي أخبرني أن الشام ستفتح لك حتى تهدم مدينة دمشق حجرا حجرا وأنا معك فوالله لا تقتلني. ثم أنشده: [وافر] ألا أبلغ أبا إسحاق أنّا ... نزونا نزوة كانت علينا خرجنا لا نرى الضّعفاء شيئا ... وكان خروجنا بطرا وحينا «4» نراهم في مصفّهمو قليلا ... وهم مثل الدّبا لمّا التقينا فأسجح إن ملكت فلو قدرنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبّل توبة مني فإني ... سأشكر إن جعلت النّقد دينا فخلّى سبيله ثم خرج إسحاق عليه ومعه سراقة فأخذ أسيرا فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدوّ الله، فقال سراقة: ما هؤلاء الذين أخذوني! فأين

باب من أخبار الدولة والمنصور والطالبيين

هم؟ لا أراهم! إنا لما التقينا رأينا قوما عليهم ثياب بيض على خيل بلق تطير بين السماء والأرض. فقال المختار: خلّوا سبيله ليخبر الناس. ثم عاد لقتاله وقال: [وافر] ألا من مخبر المختار عنّي ... بأنّ البلق بض مصمتات «1» أري عينيّ ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالتّرّهات كفرت بدينكم وجعلت نذرا ... عليّ قتالكم حتى الممات «2» خرج المغيرة بن شعبة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته وكان له عنزة «3» يتوكأ عليها فربما أثقلته فيرمي بها قارعة الطريق فيمرّ بها المارّ فيأخذها، فإذا صار إلى المنزل عرفها فأخذها المغيرة ففطن له عليّ رضي الله عنه فقال: لأخبرنّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لئن أخبرته لا تردّ بعدها ضالة أبدا. فأمسك عليّ. باب من أخبار الدولة والمنصور والطالبيين حدّثني محمد بن عبيد قال: حدثنا أبو أسامة عن زائدة عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان إذا سمعهم يقولون: يكون في هذه الأمّة اثنا عشر خليفة، قال: ما أحمقكم! إنّ بعد الاثني عشر ثلاثة منا: السفاح والمنصور والمهدي يسلمها إلى الدجّال. قال أبو أسامة: تأويل هذا عندنا أن ولد المهديّ يكونون بعده إلى خروج الدجّال.

وقال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لرجال الدعوة حين اختارهم للدعوة وأراد توجيههم: أما الكوفة وسوادها فهناك شيعة عليّ بن أبي طالب. وأما البصرة فعثمانيّة تدين بالكفّ وتقول: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق النصارى. وأما أهل الشام فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، عداوة لنا راسخة وجهلا متراكما. وأما أهل مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وصدورا سليمة وقلوبا فارغة لم تتقسّمها الأهواء ولم تتوزّعها النّحل ولم تشغلها ديانة ولم يتقدّم فيها فساد وليست لهم اليوم همم العرب ولا فيهم كتحازب الأتباع بالسادات وكتحالف القبائل وعصبيّة العشائر، ولم يزالوا يذالون ويمتهنون ويظلمون ويكظمون ويتمنّون الفرج ويؤمّلون الدول وهم جند لهم أجسام وأبدان ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أفواه منكرة، وبعد فكأني أتفاّل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق. وقال سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي: كنت مع مروان بن محمد بالزّاب فقال لي: يا سعيد، من هذا الذي يقابلني؟ قلت: عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عباس. قال: أعرفه؟ قلت: نعم، أما تعرف رجلا دخل عليك حسن الوجه مصفرّا رقيق الذراعين حسن اللسان فوقع في عبد الله بن معاوية؟ فقال: بلى قد عرفته والله، يابن جعدة، ليت عليّ بن أبي طالب في الخيل يقابلني. إنّ عليّا وأولاده لا حظّ لهم في هذا الأمر، وهذا رجل من بني العباس ومعه ريح خراسان ونصر الشام، يابن جعدة أتدري لم عقدت لعبد الله ولعبيد الله وتركت عبد الملك وهو أكبر منهما؟ قلت: لا أدري. قال: لأني

وجدت الذي يلي هذا الأمر بعدي عبد الله أو عبيد الله، فكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك. وكتب مروان إلى عبد الله بن عليّ: إني لا أظن هذا الأمر إلا صائرا إليكم، فإذا كان ذلك فاعلم أنّ حرمنا حرمكم. فكتب إليه عبد الله: إنّ الحقّ لنا في دمك وإن الحق علينا في حرمك. سمر المنصور ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين فكانت هممهم من عظيم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله ومساخطه جهلا منهم باستدراج الله وأمنا لمكره، فسلبهم الله العزّ ونقل عنهم النعمة. فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين إن عبد الله بن مروان لما دخل أرض النّوبة هاربا فيمن معه سأل ملك النوبة عنهم فأخبر فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك. فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشته بها وأقمت ثلاثا، فأتاني ملك النوبة وقد خبّر أمرنا، فدخل عليّ رجل طوال أقنى حسن الوجه فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ قال: لأني ملك، وحقّ على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه. ثم قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرّمة عليكم؟ قلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا لأنّ الملك زال عنا. قال: فلم تطأون الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم؟ قلت: يفعل ذلك جهّالنا. قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وذلك محرّم عليكم؟ قلت: ذهب الملك منا وقلّ أنصارنا

فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا. قال: فأطرق مليّا وجعل يقلّب يديه وينكت في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا دخلوا في ديننا وزال الملك عنا! يردّده مرارا ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرّم عليكم وركبتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العزّ وألبسكم الذلّ بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها وأخاف أن يحلّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام فتزوّدوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي، ففعلت ذلك. ولما افتتح المنصور الشام وقتل مروان قال لأبي عون ومن معه من أهل خراسان: إن لي في بقية آل مروان تدبيرا فتأهّبوا يوم كذا وكذا في أكمل عدّة، ثم بعث إلى آل مروان في ذلك اليوم فجمعوا وأعلمهم أنه يفرض لهم في العطاء، فحضر منهم ثمانون رجلا فصاروا إلى بابه ومعهم رجل من كلب قد ولّدهم «1» ثم أذن لهم فدخلوا، فقال الآذن للكلبي: ممن أنت؟ قال: من كلب وقد ولّدتهم. قال: فانصرف ودع القوم. فأبى أن يفعل وقال: إني خالهم ومنهم. فلما استقرّ بهم المجلس خرج رسول المنصور وقال بأعلى صوته: أين حمزة بن عبد المطلب؟ ليدخل، فأيقن القوم بالهلكة، ثم خرج الثانية فنادى: أين الحسن بن عليّ؟ ليدخل، ثم خرج الثالثة فنادى: أين زيد ابن عليّ بن الحسين؟ ثم خرج الرابعة فقال: أين يحيى «2» بن زيد؟ ثم قيل: إئذنوا لهم. فدخلوا وفيهم الغمر «3» بن يزيد وكان له صديقا فأومأ إليه: أن ارتفع. فأجلسه معه على طنفسته «4» وقال للباقين: اجلسوا. وأهل خراسان قيام

بأيديهم العمد فقال: أين العبديّ «1» الشاعر؟ فقام وأخذ في قصيدته التي يقول فيها: [كامل] أما الدّعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أميّة من دعاة النار فلما أنشد أبياتا منها قال الغمر: يا ابن الزانية. فانقطع العبدي وأطرق عبد الله «2» ساعة ثم قال: إمض في نشيدك. فلما فرغ رمى إليه بصرّة فيها ثلاثمائة دينار، ثم تمثّل بقول القائل «3» : [خفيف] ولقد ساءني وساء سواي ... قربهم من منابر وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بدار الهوان والإتعاس لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... واقطعوا كلّ نخلة وغراس واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلا بجانب المهراس «4» ثم قال لأهل خراسان: دهيد «5» . فشدخوا بالعمد حتى سالت أدمغتهم وقال الكلبيّ فقال: أيها الأمير: أنا رجل من كلب لست منهم. فقال: [بسيط] ومدخل رأسه لم يدنه أحد ... بين القرينين حتى لزّه القرن «6» ثم قال: دهيد. فشدخ الكلبيّ معهم ثم التفت إلى الغمر فقال: لا خير

لك في الحياة بعدهم. قال: أجل، فقتل ثم دعا ببراذع «1» فألقاها عليهم وبسط عليها الأنطاع «2» ودعا بغدائه فأكل فوقهم وإنّ أنين بعضهم لم يهدأ، حتى فرغ ثم قال: ما تهنّأت بطعام منذ عقلت مقتل الحسين إلا يومي هذا. وقام فأمر بهم فجرّوا بأرجلهم وأغنم أهل خراسان أموالهم ثم صلبوا في بستانه. وكان يأكل يوما فأمر بفتح باب من الرّواق إلى البستان فإذا رائحة الجيف تملأ الأنوف، فقيل له: لو أمرت، أيها الأمير، بردّ هذا الباب! فقال: والله لرائحتها أحبّ إليّ وأطيب من رائحة المسك. ثم قال «3» : [كامل] حسبت أمية أن سترضى هاشم ... عنها ويذهب زيدها وحسينها كلّا وربّ محمد وإلهه ... حتى تباح سهولها وحزونها «4» وتذلّ ذلّ حليلة لحليلها ... بالمشرفيّ وتستردّ ديونها وأتي المهديّ برجل من بني أمية كان يطلبه فتمثل بقول سديف شاعرهم: [خفيف] جرّد السيف وارفع السّوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا لا يغرّنك ما ترى اليوم منهم ... إنّ تحت الضلوع داء دويّا «5» فقال الأموي: لكن شاعرنا يقول: [بسيط] شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا «6»

فقال المهديّ: قال شاعركم ما يشبهكم وقا شاعرنا ما يشبهنا. ثم أمر به فقتل. وقال رجل: كنا جلوسا مع عمرو بن عبيد في المسجد، فأتاه رجل بكتاب المنصور على لسان محمد بن عبد الله بن الحسن يدعوه إلى نفسه، فقرأه ثم وضعه فقال الرسول: الجواب. فقال: ليس له جواب، قل لصاحبك: دعنا نجلس في هذا الظل ونشرب من هذا الماء البارد حتى تأتينا آجالنا في عافية. وكان عمرو بن عبيد إذا رأى المنصور يطوف حول الكعبة في قرطين يقول: إن يرد الله بأمة محمّد خيرا يولّ أمرها هذا الشابّ من بني هاشم. وكان له صديقا فلما دخل عليه بعد الخلافة وكلمه وأراد الأنصراف، قال: يا أبا عثمان سل حاجتك. قال: حاجتي ألّا تبعث إليّ حتى آتيك ولا تعطيني حتى أسألك. ثم نهض فقال المنصور: [مجزوء الرمل] كلّكم ماشي رويد ... كلّكم خاتل صيد «1» غير عمرو بن عبيد فلما مات عمرو رثاه المنصور فقال: [كامل] صلّى الاله عليك من متوسّد ... قبرا مررت به على مرّان قبرا تضمّن مؤمنا متحنّفا ... صدق الاله ودان بالقرآن وإذا الرجال تنازعوا في سنّة ... فصل الحديث بحكمة وبيان فلو انّ هذا الدهر أبقى صالحا ... أبقى لنا حيّا أبا عثمان

قال الوضّاح بن حبيب: كنا إذا خرجنا- يعني أصحابه- من عند المنصور صرنا إلى المهديّ وهو يومئذ ولي عهده ففعلنا ذلك يوما فأبرز إليّ يده، ولم يكن ذلك من عادته، فأكببت عليها فقبّلتها وضرب بيدي إلى يده، ثم علمت أنه لم يفعل ذلك إلا لشيء في يده، فوضع في يدي كتابا صغيرا تستره الكفّ، فلما خرجت فتحته فإذا فيه: يا وضّاح، إذا قرأت كتابي فاستأذن إلى ضياعك بالرّيّ، فرجعت فقلت للربيع: استأذن لي. فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخلت فقلت: يا أمير المؤمنين، ضياعي بالري قد اختلّت وبي حاجة إلى مطالعتها فقال: لا، ولا كرامة، فخرجت. ثم عدت إليه اليوم الثاني والقوم معي فدخلنا فاستأذنته، فردّ إليّ مثل الجواب الأوّل. فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أريد إصلاحها إلّا لأقوى بها على خدمتك. فسرّي عنه، ثم قال: إذا شئت فودّع. فقلت: يا أمير المؤمنين، ولي حاجة أذكرها. قال: قل. قلت: أحتاج إلى خلوة. فنهض القوم وبقي الربيع قلت: أخلني. قال: ومن الربيع وبينكما ما بينكما! قلت: نعم. فتنحّى الربيع، فقال: قد خلوت فقل إن جدت لي بمالك ودمك. فقلت: يا أمير المؤمنين، وهل أنا ومالي إلا من نعمتك، حقنت دمي ودم أبي ورددت عليّ مالي وآثرتني بصحبتك. قال: إنه يهجس في نفسي أنّ جهورا «1» على خلع وليس على غيرك لما أعرفه بينكما، فأظهر إذا صرت إليه الوقيعة فيّ والتنقّص لي حتى تعرف ما عنده، وإن رأيته يهمّ بخلع فاكتب إليّ، ولا تكتبنّ على يد بريد ولا مع رسول ولا يفوتني خبرك في كل يوم فقد نصبت لك فلانا القطّان في دار القطن فهو يوصل كتبك في كل يوم إليّ. قال: فمضيت حتى أتيت الريّ فدخلت على جهور فقال: أفلتّ؟ فقلت: نعم والحمد لله. ثم أقبلت أؤانسه بالوقيعة فيه حتى أظهر ما

ظنّ به المنصور فكتبت إليه بذلك. دخل عبد الله بن الحسن الطالبيّ على المنصور وعنده إسحاق بن مسلم العقيلي وعبد الملك بن حميد الشامي الكاتب، فتكلم عبد الله بكلام أعجب إسحاق فغمّ ذلك المنصور، فلما خرج عبد الله قال: يا غلام، ردّه. فلما رجع قال: يا أبا محمد، إن إسحاق بن مسلم حدّثني أن رجلا هلك بدمشق وترك ناضّا «1» كثيرا وأرضا ورقيقا وزعم أنه مولاكم وأشهد على ذلك. قال: نعم يا أمير المؤمنين، ذلك مولانا قد كنت أعرفه وأكاتبه. فقال المنصور: يا إسحاق، أعجبك كلامه فأحببت أن تعرفه. أبو الحسين المدائني قال: لما بنى أبو العباس المدينة بالأنبار قال لعبد الله بن الحسن: يا أبا محمد، كيف ترى؟ فتمثل عبد الله فقال: [وافر] ألم تر حوشبا أمسى يبنّي ... قصورا نفعها لبني بقيله يؤمّل أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله ثم انتبه فقال: أقلني أقالك الله. قال: لا أقالني الله إن بتّ في عسكري، فأخرجه إلى المدينة. حنش بن المغيرة قال: جئت وأبو ذرّ آخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول: أنا أبو ذر الغفاري، من لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا» . حدّثنا خالد بن محمد الأزدي قال: حدّثنا شبابة بن سوّار عن يحيى بن إسماعيل بن سالم عن الشعبيّ قال: قيل لابن عمر: إن الحسين قد توجّه إلى

العراق، فلحقه على ثلاث ليال من المدينة وكان عند خروج الحسين غائبا في مال له فقال: أين تريد؟ قال: العراق. وأخرج إليه كتبا وطوامير «1» قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فناشده الله أن يرجع فأبى فقال: أما إني سأحدثك حديثا: إنّ جبريل، عليه السلام، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فخيّره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنكم بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم، والله لا تليها أنت ولا أحد من أهل بيتك وما صرفها الله عنكم إلا لما هو خير لكم فارجع. فأبى فاعتنقه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل. حدّثني القاسم بن الحسن عن علي بن محمد عن مسلمة بن محارب عن السّكن قال: كتب الحسين بن علي رضي الله عنهما إلى الأحنف يدعوه إلى نفسه فلم يردّ الجواب وقال: قد جرّبنا آل أبي الحسن فلم نجد عندهم إيالة ولا جمعا للمال ولا مكيدة في الحرب. وقال الشعبي: ما لقينا من آل أبي طالب؟ إن أحببناهم قتلونا، وإن أبغضناهم أدخلونا النار. ولما قتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة فأطاف بها أهل الكوفة فقالوا: أحسن الله صحابتك يا بنت رسول الله. فقال: والله لقد قتلتم جدّي وأبي وعمّي وزوجي مصعبا، أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة فلا عافاكم الله من أهل بلد ولا أحسن عليكم الخلافة. وقال بعض الشعراء: [منسرح] إبك حسينا ليوم مصرعه ... بالطّفّ بين الكتائب الخرس أضحت بنات النبيّ إذ قتلوا ... في مأتم والسّباع في عرس روى سنان بن حكيم عن أبيه قال: انتهب الناس ورسا في عسكر

الحسين بن علي يوم قتل فما تطيبت منه امرأة إلا برصت. ولما قتل حسين قالت بنت لعقيل بن أبي طالب: [بسيط] ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم أفضل الأمم بعترتي وبأهلي بعد منطلقي ... منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بدم ما كان هذا جزائي أن نصحت لكم ... أن تخلفوني بقتل في ذوي رحمي فما سمعها أحد إلا بكى. دخل زيد بن عليّ على هشام فقال: ما فعل أخوك البقرة؟ قال زيد: سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم باقرا وتسميه بقرة! لقد اختلفتما. أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا جابر، إنك ستعمّر بعدي حتى يولد لي مولود اسمه كاسمي يبقر العلم بقرا فإذا لقيته فأقرئه مني السلام» فكان جابر يتردّد في سكك المدينة بعد ذهاب بصره وهو ينادي: يا باقر، حتى قال الناس: قد جنّ جابر. فبينا هو ذات يوم بالبلاط إذ بصر بجارية يتورّكها صبيّ فقال لها: يا جارية، من هذا الصبي؟ قالت: هذا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقال: أدنيه مني فأدنته منه فقبّل بين عينيه وقال: يا حبيبي، رسول الله يقرئك السلام. ثم قال: نعيت إليّ نفسي وربّ الكعبة. ثم انصرف إلى منزله وأوصى فمات من ليلته. قال هشام لزيد بن علي: بلغني أنك تربّص نفسك للخلافة وتطمع فيها وأنت ابن أمة. قال له زيد: مهلا يا هشام، فلو أنّ الله علم في أولاد السّراريّ «1» تقصيرا عن بلوغ غاية ما أعطى إسماعيل ما أعطاه. ثم خرج زيد وبعث إليه بهذه الأبيات: [بسيط] مهلا بني عمّنا عن نحت أثلتنا «2» ... سيروا رويدا كما كنتم تسيرونا

ذكر الأمصار

لا تجمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا فالله يعلم أنّا لا نحبّكم ... ولا نلومكمو ألّا تحبّونا ثم إن زيدا أعطى الله عهدا ألا يلقى هشاما إلا في كتيبة بيضاء أو حمراء فدخل الكوفة فطبع بها السيوف وكان من أمره ما كان حتى قتل رحمه الله. ذكر الأمصار قالت الحكماء: المدائن لا تبنى إلا على ثلاثة أشياء: على الماء والكلأ والمحتطب. قال ابن شهاب: من قدم أرضا فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شربه عوفي من وبائها. وقال معاوية لقوم قدموا عليه: كلوا من فحا «1» أرضنا فقلّما أكل قوم من فحا أرض فضرّهم ماؤها. حدّثني الرياشيّ قال: حدثني الأصمعيّ قال: معاوية: أغبط الناس عندي سعد مولاي، وكان يلي أمواله بالحجاز، يتربّع جدّة ويتقيّظ الطائف ويتشتّى مكة. حدّثنا الرياشيّ قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: أربعة أشياء قد ملأت الدنيا لا تكون إلا باليمن: الخطر والكندر والعصب والورس. حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: اليهود لا تأكل من بقل سورا «2» وتقول: هي مغيض الطوفان. قال: وقال الأصمعي عن معمر «3» قال: سبع

محفوظات وسبع ملعونات، فمن المحفوظات نجران ومن الملعونات أثافت وبرذعة «1» . وأثافت باليمن. وقفت باليمن على قرية فقلت لامرأة: ما تسمى هذه القرية؟ فقالت ويحك! أما سمعت قول الشاعر: [متقارب] أجبّ أثافت عند القطاف ... وعند عصارة أعنابها قال الأصمعي: سواد البصرة الأهواز ودستميسان وفارس، وسواد الكوفة كسكر إلى التراب «2» إلى عمل حلوان إلى القادسية، وعمل العراق هيت إلى الصين والسّند والهند ثم كذلك إلى الريّ وخراسان إلى الديلم والجبال كلها، وأصبهان صرّة العراق افتتحها أبو موسى الأشعري، والجزيرة ما بين دجلة والفرات، والموصل من الجزيرة، ومكة من المدينة ومصر لا تدخل في عمل العراق. حدّثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: أوّل قرية بنيت بعد الطوفان قرية بقردى تسمى سوق ثمانين، كان نوح لما خرج من السفينة ابتناها وجعل فيها لكل رجل آمن معه بيتا وكانوا ثمانين فهي اليوم تسمى سوق ثمانين. قال: وحرّان سميت بهاران بن آزر أخي إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو لوط. قال النبي، صلى الله عليه وسلم لبريدة: «يا بريدة، إنه سيبعث بعدي بعوث فإذا بعثت فكن في أهل بعث المشرق ثم في بعث خراسان ثم في بعث أرض يقال لها: مرو، فإذا أتيتها فانزل مدينتها فإنه بناها ذو القرنين وصلّى فيها، غزيرة أنهارها تجري بالبركة، في كل نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عنها السوء إلى يوم القيامة» فقدمها بريدة فمات بها.

حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثني الأصمعي قال: أخبرني النّمر بن هلال الحبطي عن قتادة عن أبي جلدة قال: الدنيا كلها أربعة وعشرون ألف فرسخ فملك السودان اثنا عشر ألف فرسخ وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ وملك فارس ثلاث آلاف فرسخ وأرض العرب ألف فرسخ. وقال أبو صالح: كنا عند ابن عباس فأقبل رجل فجلس، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل خراسان، قال: من أيّ خراسان؟ قال: من هراة. قال: من أيّ هراة؟ قال: من بوشنج. ثم قال: ما فعل مسجدها؟ قال: عامر يصلّى فيه. قال ابن عباس: كان لإبراهيم مسجدان: المسجد الحرام ومسجد بوشنج. ثم قال: ما فعلت الشجرة التي عند المسجد؟ قال: بحالها. قال: أخبرني العباس أنه قال في ظلها. حدّثني محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن ميمون الحرّاني عن عوف بن أبي جميلة عن الحسن البصري قال: لما قدم عليّ، رضي الله عنه، البصرة آرتقى على منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل البصرة، يا بقايا ثمود ويا جند المرأة «1» ويا أتباع البهيمة، رغا فاتّبعتم وعقر فانهزمتم. أما إني لا أقول رغبة فيكم ولا رهبة منكم، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفتح أرض يقال لها البصرة أقوم الأرضين قبلة، قارئها أقرأ الناس، وعابدها أعبد الناس، وعالمها أعلم الناس، ومتصدّقها أعظم الناس صدقة. وتاجرها أعظم الناس تجارة. منها إلى قرية يقال لها الأبلّة «2» أربعة

فرسخ. يستشهد عند مسجد جامعها أربعون ألفا، الشهيد منهم يومئذ كالشهيد معي يوم بدر» . حدّثنا القاسم بن الحسن قال: حدّثنا أبو سلمة قال: أخبرني أبو المهزّم عن أبي هريرة قال: مثّلت الدنيا على مثال طائر، فالبصرة ومصر الجناحان فإذا خربتا وقع الأمر. وحدّثني أيضا عن هارون بن معروف عن ضمرة عن ابن شوذب عن خالد بن ميمون قال: البصرة أشدّ الأرض عذابا وشرها ترابا وأسرعها خرابا. قال: وقال ابن شوذب عن يزيد الرّشك «1» قست البصرة في ولاية خالد بن عبد الله القسري فوجدت طولها فرسخين غير دانق. وقال محمد بن سلام عن شعيب بن صخر: تذاكروا عند زياد البصرة والكوفة فقال زياد: لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلّني عليها. قال محمد بن سيرين: كان الرجل يقول: غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة، عزله عن البصرة واستعمله على الكوفة. وقال عليّ حين دخل البصرة: يا أتباع البهيمة ويا جند المرأة، رغا فأجبتم وعقر فانهزمتهم، ودينكم نفاق وأخلاقكم رقاق وماؤكم زعاق، يا أهل البصرة والبصيرة والسّبيخة والخريبة، أرضكم أبعد الأرض من السماء وأبعدها من الماء وأسرعها خرابا وغرقا. مرّ عتبة بن غزوان بموضع المربد فوجد فيها الكذّان «2» الغليظ فقال: هذه البصرة فانزلوا بسم الله. وقال أبو وائل: اختطّ الناس البصرة سنة سبع عشرة.

فخر ناس من بني الحارث بن كعب عند أبي العباس، فقال أبو العباس لخالد بن صفوان: ألا تكلّم يا خالد؟ قال: أخوال أمير المؤمنين وأهله. قال: فأنتم أعمام أمير المؤمنين وعصبته. قال خالد: ما عسى أن أقول لقوم بين ناسج برد ودابغ جلد وسائس قرد، دلّ عليهم هدهد وغرقتهم فأرة وملكتهم امرأة. سئل خالد عن الكوفة فقال: نحن منابتنا قصب، وأنهارنا عجب، وثمارنا رطب، وأرضنا ذهب. قال الأحنف: نحن أبعد منكم سريّة وأعظم منكم بحريّة وأعذى «1» منكم برّيّة. وقال أبو بكر الهذليّ: نحن أكثر منكم ساجا وعاجا وديباجا وخراجا ونهرا عجّاجا. وقال الخليل «2» في ظهر البصرة مما يلي قصر أوس من البصرة: [بسيط] زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بدّ من زورة عن غير ميعاد ترفا به السّفن والظّلمان واقفة ... والضّبّ والنّون والملّاح والحادي وقال ابن أبي عيينة» في مثل ذلك: [منسرح] يا جنّة فاتت الجنان فما ... تبلغها قيمة ولا ثمن ألفتها فاتّخذتها وطنا ... إنّ فؤادي لحبّها وطن زوّج حيتانها الضّباب بها ... فهذه كنّة وذا ختن فانظر وفكّر فيما نطقت به ... إنّ الأريب المفكّر الفطن

من سفن كالنّعام مقبلة ... ومن نعام كأنها سفن «1» أنشد محمد بن عمر عن ابن كناسة «2» في ظهر الكوفة: [طويل] وإنّ بها، لو تعلمين، أصائلا ... وليلا رقيقا مثل حاشية البرد بلغني عن إبراهيم بن مهدي عن إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم التّيمي قال: لما أمرت الأرض أن تغيض غاضت إلا أرض الكوفة فلعنت، فجميع الأرض تكرب على ثورين وأرض الكوفة تكرب على أربعة ثيران. وكان يقال: إذا كان علم الرجل حجازيا وسخاؤه كوفيا وطاعته شامية فقد كمل. لما احتوى المسلمون المدائن بعد ما نزلوا وآذاهم الغبار والذباب، كتب عمر إلى سعد في بعثة روّاد يرتادون منزلا برّيّا فإن العرب لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل والشاء. فسأل من قبله عن هذه الصفة فيما يليهم، فأشار عليه من رأى العراق من وجوه العرب باللسان. وظهر الكوفة يقال له اللسان، وهو فيما بين النهرين إلى عين بني الحدّاء وكانت العرب تقول: أدلع البرّ لسانه «3» في الرّيف، فما كان يلي الفرات منه فهو الملطاط وما كان يلي الظهر منه فهو النّجاف، فكتب إلى سعد يأمره به.

وقال النابغة «1» الجعدي يمدح الشام: [رمل] جاعلين الشام حمّا «2» لهم ... ولئن همّوا لنعم المتنقل موته أجر ومحياه غنى ... وإليه عن أذاه معتزل وقال أيضا: [طويل] ولكنّ قومي أصبحوا مثل خيبر ... بها داؤها ولا تضرّ الأعاديا قال الأصمعي: لم يولد بغدير خمّ مولود فعاش إلى أن يحتمل إلّا أن يتحوّل عنها. قال: وحرّة ليلى «3» ربما مرّ بها الطائر فيسقط ريشه. قال عمرو ابن بحر: يزعمون أنّ من دخل أرض تبّت لم يزل ضاحكا مسرورا من غير عجب حتى يخرج منها، ومن أقام بالموصل عاما ثم تفقّد قوّته وجد فيها فضلا، ومن أقام بالأهواز حولا فتفقّد عقله وجد النقصان فيه بيّنا. والناس يقولون: حمّى خيبر وطحال البحرين ودماميل الجزيرة وطواعين الشام. قالوا: من أطال الصوم بالمصّيصة «4» في الصيف خيف عليه الجنون. وأما قصبة الأهواز فتقلب كل من ينزلها من الأشراف إلى طبائع أهلها، ووباؤها وحمّاها يكون في وقت انكسار الوباء ونزوع الحمّى عن جميع البلدان، وكل محموم فإن حمّاه إذا أقلعت عنه فقد أخذ عند نفسه منها البراءة إلى أن تعود إلى التخليط وإلى أن يجتمع في جوفه الفساد إلا محموم الأهواز فإنها تعاود من فارقته

لغير علّة حدثت، ولذلك جمعت سوق الأهواز الأفاعي في جبلها المطلّ عليها والجرّارات «1» في بيوتها ومن ورائها سباخ ومناقع مياه غليظة وفيها أنهار تشقّها مسايل كنفهم ومياه أمطارهم فإذا طلعت الشمس وطال مقامها واستمرّت مقابلتها لذلك الجبل قبل الصخرية التي فيها الجرارات، فإذا امتلأت يبسا وحرّا وعادت جمرة واحدة قذفت ما قبلت من ذلك عليهم وقد بخرت تلك السباخ وتلك الأنهار، فإذا التقى عليهم ما بخرت به السباخ وما قذفه ذلك الجبل فسد الهواء وفسد بفساد الهواء كل ما يشتمل عليه الهواء. وقال إبراهيم بن العباس الكاتب: حدّثني مشايخ أهل الأهواز عن القوابل أنهنّ ربما قبلن الطفل فيجدنه في تلك الساعة محموما يعرفن ذلك ويتحدّثن به. قال: ومن قدم من شقّ العراق إلى بلد الزّنج لم يزل حزينا ما أقام بها فإنّ أكثر من شرب نبيذها وأكل النّارجيل «2» طمس الخمار «3» على عقله حتى لا يكون بينه وبين المعتوه إلا شيء يسير. قال: وفي عهد سجستان على العرب حين افتتحوها: ألّا يقتلوا قنفذا ولا يصيدوه؛ لأنها بلاد أفاع والقنافذ تأكلها ولولا ذلك ما كان لهم بها قرار. وقال ابن عيّاش لأبي بكر الهذلي يوم فاخره عند أبي العباس: إنما مثل الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء ببرده وعذوبته، والبصرة بمنزلة المثانة يأتيها الماء بعد تغيّره وفساده. وقال محمد بن عمير بن عطارد: إن الكوفة قد سفلت عن الشام ووبائها وارتفعت عن البصرة وعمقها فهي مريئة مريعة عذبة ثريّة، إذا أتتنا الشّمال

ذهبت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور، وإذا هبّت الجنوب جاءتنا بريح السّواد وورده وياسمينه وأترجّه، وماؤنا عذب وعيشنا خصب. وقال الحجاج: الكوفة بكر حسناء والبصرة عجوز بخراء «1» أوتيت من كل حلي وزينة. اجتمع أهل العراق ليلة في سمر يزيد بن عمر بن هبيرة، فقال يزيد: أيّ البلدين أطيب ثمرة: الكوفة أم البصرة؟ فقال خالد بن صفوان: بل ثمرتنا أيها الأمير منها الأزاذ والمعقليّ وكذا وكذا. فقال عبد الرحمن بن بشير العجلي: لست أشك أيها الأمير أنكم قد اخترتم لأمير المؤمنين ما تبعثون به إليه. قال: أجل، قال: قد رضينا باختيارك لنا وعلينا. قال: فأيّ الرّطب تحملون إليه؟ قال: المشان. قال: ليس بالبصرة منه واحدة. ثم أيّة؟ قال: السّابري. قال: ولا بالبصرة منه واحدة. قال خالد بن صفوان: بلى عندنا بالبصرة منه شيء يسير. قال: فأيّ التمر تحملون إليه؟ قال: النّرسيان. قال: ولا بالبصرة منه واحدة. قال: ثم أية؟ قال: الهيرون أزاذ. قال: ولا بالبصرة منه واحدة. قال: فأيّ القسب «2» تحملون إليه؟ قال: قسب العنبر. قال: ولا بالبصرة منه واحدة. قال ابن هبيرة لخالد: ادّعى عليك خمسا فشاركته في واحدة وسلّمت له أربعا، ما أراه إلا قد غلبك. دخل فتى من أهل المدينة البصرة ثم انصرف، فقال له أصحابه: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاد الله للجائع والعزب والمفلس: أما الجائع فيأكل خبز الأرز والصّحناء «3» لا ينفق في الشهر درهمين، وأما العزب فيتزوج بشق درهم، وأما المحتاج فلا عيلة عليه ما بقيت عليه استه يخرأ ويبيع.

أبو الحسن المدائني قال: قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة لمعاوية: أما والله لو كنا بمكة على السواء لعلمت. قال معاوية: إذا كنت أكون ابن أبي سفيان، منزلي الأبطح ينشقّ عنه سيله، وكنت ابن خالد، منزلك أجياد أعلاه مدرة وأسفله عذرة. رأى رجل من قريش رجلا له هيئة رثّة، فسأل عنه فقالوا: من بني تغلب. فوقف له وهو يطوف بالبيت، فقال له: أرى رجلين قلّما وطئتا البطحاء. قال له التغلبيّ: البطحاوات ثلاث: بطحاء الجزيرة وهي لي دونك، وبطحاء ذي قار وأنا أحق بها منك، وهذه البطحاء، وسواء العاكف فيه والبادي. وقال بعض الأعراب: اللهمّ، لا تنزلني ماء سوء فأكون امرأ سوء. قال خالد بن صفوان: ما رأينا أرضا مثل الأبلّة أقرب مسافة ولا أعذب نطفة ولا أوطأ مطيّة ولا أربح لتاجر ولا أخفى لعابد. وقال ابن أبي عيينة «1» يذكر قصر أنس «2» بالبصرة: [طويل] فيا حسن ذاك القصر قصرا ونزهة ... بأفيح سهل غير وعر ولا ضنك «3» بغرس كأبكار الجواري وتربة ... كأن ثراها ماء ورد على مسك كأن قصور الأرض ينظرن حوله ... إلى ملك موف على منبر الملك يدلّ عليها مستطيلا بحسنه ... ويضحك منها وهي مطرقة تبكي «4»

قال جعفر بن سليمان: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، ودارين عين المربد. وقالوا: من خصال الحرم أن المطر إذا أصاب الباب كان الخصب من شقّ العراق، وإذا أصاب المطر الناحية من شق الشام كان الخصب بالشام، وإذا عمّ جوانب البيت كان المطر عاما. قال: وذرع الكعبة أربعمائة وتسعون ذراعا. المدائني قال: قال الحجاج: لما تبوّأت الأمور منازلها قالت الطاعة: أنزل الشام، قال الطاعون: وأنا معك. وقال النفاق: أنزل العراق، قالت النعمة: وأنا معك. وقالت الصحة: أنزل البادية، قالت الشّقوة: وأنا معك. نجز كتاب الحرب ويتلوه كتاب السؤدد

كتاب السؤدد

كتاب السؤدد مخايل السؤدد وأسبابه ومخايل السوء قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رحمه الله: حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب عن عمه الأصمعي قال: أخبرنا جميع بن أبي غاضرة وكان شيخا مسنّا من أهل البادية وكان من ولد الزّبرقان بن بدر من قبل النساء، قال: كان الزبرقان يقول: أبغض صبياننا إليّ الأقيعس الذكر الذي كأنما يطّلع في حجره، وإن سأله القوم أين أبوك، هرّ في وجوههم وقال: ما تريدون من أبي. وأحبّ صبياننا إليّ الطويل الغرلة «1» ، السّبط الغرّة، العريض الورك، الأبله العقول الذي يطيع عمّع ويعصى أمه، وإن سأله القوم أين أبوك، قال: معكم. قال: وقال الأصمعي: قال معاوية: ثلاث من السؤدد: الصّلع، واندحاق البطن، وترك الإفراط في الغيرة. قال وقيل لأعرابي: بم تعرفون سؤدد الغلام فيكم؟ فقال: إذا كان سائل الغرّة طويل الغرلة ملتاث الإزرة وكانت فيه لوثة فلسنا نشكّ في سؤدده. وقيل لآخر: أيّ الغلمان أسود؟ قال: إذا رأيته أعنق أشدق أحمق فأقرب به من السؤدد. وكان يقال: إذا رأيت الغلام غائر العينين ضيّق الجبهة حديد الأرنبة كأنما جبينه صلاية «2» فلا ترجه، إلا أن يريد الله أمرا فيبلغه.

حدّثنا الرياشيّ عن الأصمعي قال: قريش تمدح بالصّلع. وأنشد: [رجز] إنّ سعيدا وسعيد فرع ... أصلع تنميه رجال صلع ونظر رجل إلى معاوية وهو غلام صغير فقال: إني أظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه. قال شبيب بن شيبة لبعض فرسان بني منقر: ما مطلت مطل الفرسان ولا فتقت فتق السادة. وقال آخر لسنان بن سلمة الهذليّ: ما أنت بأرسح «1» فتكون فارسا ولا بعظيم الرأس فتكون سيدا. وقال بعض الشعراء: [طويل] فقبّلت رأسا لم يكن رأس سيّد ... وكفّا ككفّ الضّبّ «2» أو هي أحقر وقال آخر: [طويل] دعا ابن مطيع للبياع فجئته ... إلى بيعة قلبي لها غير آلف فناولني خشناء لمّا لمستها ... بكفّي ليست من أكفّ الخلائف وقرأت في كتاب للهند أنه قد قيل في الفراسة والتّوسّم: إنه من صغرت عينه ودام اختلاجها وتتابع طرفها ومال أنفه إلى أيمن شقّيه وبعد ما بين حاجبيه وكانت منابت شعره ثلاثا ثلاثا وطال إكبابه إذا مشى، وتلفّت تارة بعد أخرى، غلبت عليه أخلاق السوء. كان يقال: أربع يسوّدن العبد: الأدب، والصّدق، والعفّة، والأمانة. وقال بعض الشعراء في النبي صلى الله عليه وسلم: [بسيط] لو لم تكن فيه آيات مبيّنة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر

وقال معاوية: إني لأكره البكاءة «1» في السيد وأحب أن يكون عاقلا متغافلا وقال الشاعر في هذا المعنى: [كامل] ليس الغبيّ بسيد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي ويقال في مثل: «ليس أمير القوم بالخبّ «2» الخدع» . وقال الفرزدق: [بسيط] لا خير في خبّ «3» من ترجى فواضله ... فاستمطروا من قريش كلّ منخدع كأنّ فيه إذا حاولته بلها ... عن ماله وهو وافي العقل والورع وقال إياس بن معاويه: لست بخبّ والخبّ لا يخدعني. وقال مالك بن أنس عن ابن شهاب: الكريم لمّا تحكمه التجارب. قال بعض الشعراء: [خفيف] غير أني أراك من أهل بيت ... ما على المرء أن يسودوه عار وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: السيد الجواد حين يسأل، الحليم حين يستجهل، البارّ بمن يعاشر. قال عديّ بن حاتم: السيد الذليل في نفسه، الأحمق في ماله، المطّرح لحقده، المعنيّ بأمر عامّته. سئل خالد بن صفوان عن الأحنف بم ساد، فقال: بفضل سلطانه على نفسه. وقيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ فقال: ببذل القرى وترك المرا «4» ونصرة المولى. وقال علي بن عبد الله بن عباس: سادة الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء. وقال سلم

ابن قتيبة لولده: إنكم لن تسودوا حتى تصبروا على سرار الشيوخ البخر. وقال: الدنيا هي العافية، والصحة هي الشباب، والمروءة الصبر على الرجال. قال عمرو بن هدّاب: كنا نعرف سؤدد سلم بن قتيبة بأنه كان يركب وحده ويرجع في خمسين. وقال رجل للأحنف وأراد عيبه: بم سدت قومك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك. وقال عبد الملك بن مروان لابن مطاع «1» العنزيّ: أخبرني عن مالك بن مسمع. فقال له: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف لا يسألونه في أيّ شيء غضب. فقال عبد الملك: هذا وأبيك السّؤدد، ولم يل شيئا قط. وكذلك أسماء بن خارجة لم يل شيئا قط. قيل لعرابة الأوسيّ: بم سدت قومك؟ فقال بأربع: أنخدع لهم عن مالي، وأذلّ لهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد رفيعهم. وقال المقنّع الكنديّ وهو محمد بن عميرة «2» : [طويل] ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وليسوا إلى نصري سراعا وإن هم ... دعوني إلى نصر أتيتهم شدّا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا يعيّرني بالدّين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا «3» وقال آخر: [بسيط] هينون «4» لينون أيسار ذوو يسر ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار

لا ينطقون على الفحشاء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري وقال آخر: [وافر] وإنّ سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلعها طويل وقال رجل من العرب: نحن لا نسوّد إلا من يوطّئنا رحله ويفرّشنا عرضه ويملّكنا ماله. وفي الحديث المرفوع: «من بذل معروفه وكفّ أذاه فذلك السيد» . ويقال: لا سؤدد مع انتقام. والعرب تقول: «سيد معمّم» يريدون أنّ كل جناية يجنيها أحد من عشيرته معصوبة برأسه. ويقال: بل السيد منهم كان يعتمّ بعمامة صفراء لا يعتمّ بها غيره. وإنما سمّى الزّبرقان بصفرة عمامته. يقال: زبرقت الشيء إذا صفّرته، وكان اسمه حصينا. قيل لابن هبيرة: من سيد الناس اليوم؟ قال: الفرزدق، هجاني ملكا ومدحني سوقة. وقال عامر «1» بن الطّفيل: [طويل] إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب «2» هذا نحو قول الآخر:

الكمال والتناهي في السؤدد

[رجز] نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما وصيّرته ملكا هماما وعصام عبد كان للنعمان بن المنذر. وله يقول النابغة [وافر] فإنّي لا ألوم على دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام؟ الكمال والتناهي في السّؤدد حدّثني أبو حمزة الأنصاريّ عن العتبيّ قال: قال قال الأحنف: الكامل من عدّت هفواته. وكتب معاوية إلى زياد: أنظر رجلا يصلح لثغر الهند فولّه، فكتب إليه إنّ قبلي رجلين يصلحان لذلك: الأحنف بن قيس، وسنان بن سلمة الهذلي. فكتب إليه معاوية: بأيّ يومي الأحنف نكافيه: أبخذلانه أمّ المؤمنين، أم بسعيه علينا يوم صفّين؟ فوجّه سنانا، فكتب إليه زياد: إن الأحنف قد بلغ من الشرف والحلم والسؤدد ما لا تنفعه الولاية ولا يضرّه العزل. وقال أبو نواس يمدح رجلا: [سريع] أوحده الله فما مثله ... لطالب ذاك ولا ناشد وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وقال أيضا في نحو هذا: [بسيط] يا ناق، لا تسأمي أو تبلغي رجلا ... تقبيل راحته والرّكن سيّان متى تحطّي إليه الرّحل سالمة ... تستجمعي الخلق في تمثال إنسان محمد «1» خير من يمشي على قدم ... ممن برا الله من إنس ومن جان

تنازع الأحمدان الشّبه فاشتبها ... خلقا وخلقا كما قدّ الشّراكان سيّان لا فرق في المعقول بينهما ... معناهما واحد والعدّة اثنان وقال الطائي: [بسيط] لو أنّ إجماعنا في فضل سؤدده ... في الدّين، لم يختلف في الملّة اثنان وقال أيضا: [وافر] فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطّباع وقال خالد بن صفوان: كان الأحنف يفرّ من الشرف والشرف يتبعه. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: وفد الأحنف والمنذر بن الجارود إلى معاوية، فتهيّأ المنذر وخرج الأحنف على قعود وعليه بتّ، فكلما مرّ المنذر قال الناس: هذا الأحنف، فقال المنذر: أراني تزيّنت لهذا الشيخ. وقالت بنو تميم للأحنف: ما أعظم منّتنا عليك! فضّلناك وسوّدناك، فقال: هذا شبل بن معبد، من سوّده وليس بالحضرة بجليّ غيره؟ أو قال بالبصرة. قال عبد الملك بن مروان لعبد الله بن عبد الأعلى الشاعر الشّيباني: من أكرم العرب أو من خير الناس؟ قال: من يحبّ الناس أن يكونوا منه، ولا يحب أن يكون من أحد، يعني بني هاشم. قال: من ألأم الناس؟ قال: من يحب أن يكون من غيره، ولا يحب غيره أن يكونوا منه. قال رجل من أشراف العجم لرجل من أشراف العرب: إن الشّرف نسب مفرد، فالشريف من كل قوم نسيب. وكان يقال: أكرم الصّفايا أشدّها ولها إلى أولادها، وأكرم الإبل أحنّها إلى أوطانها، وأكرم الأفلاء «1» أشدّها ملازمة لأمهاتها، وخير الناس آلف الناس للناس

السيادة والكمال في الحداثة

السّيادة والكمال في الحداثة قال الأحنف: السّؤدد مع السواد، يريد أنه يكون سيدا من أتته السيادة في حداثته وسواد رأسه ولحيته، وقد يذهب بمعناه إلى سواد الناس وعامّتهم يراد أن السّؤدد يكون بتسويد العامّة. وقال أبو اليقظان: ولّى الحجّاج محمد ابن القاسم بن محمد بن الحكم الثّقفيّ قتال الأكراد بفارس فأباد منهم، ثم ولّاه السّند فافتتح السند والهند وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، فقال فيه الشاعر: [كامل] إن السماحة والمروءة والنّدى ... لمحمد بن القاسم بن محمد «1» قاد الجيوش لسبع عشرة حجّة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد! ويروى: يا قرب ذلك سورة من مولد؛ السّورة المنزلة الرفيعة. قال أبو اليقظان: وهو جعل شيراز معسكرا ومنزلا لولاة فارس. وقال حمزة «2» بن بيض لمخلّد بن يزيد بن المهلّب: [متقارب] بلغت لعشر مضت من سني ... ك ما يبلغ السيّد الأشيب فهمّك فيها جسام الأمور ... وهمّ لداتك أن يلعبوا نظر الحطيئة إلى ابن عباس يتكلم في مجلس عمر، فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنّه وعلاهم في قوله! وقال ابن مسعود: لو بلغ أسناننا ما عشره منّا رجل «3» . ونظر رجل إلى أبي دلف في مجلس المأمون

فقال: إن همته ترمي به وراء سنه. وولي عبيد الله بن زياد خراسان وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وليها لمعاوية. قيل لزياد عند موته: استخلف عبيد الله، فقال: إن يك فيه خير فسيولّيه عمّه، فلما مات زياد شخص عبيد الله إلى عمه معاوية فقال له: ما منع أباك أن يولّيك؟ أما إنه لو فعل فعلت، فقال عبيد الله: يا أمير المؤمنين، لا يقولنّها أحد بعدك: ما منع أباه وعمه أن يكونا استعملاه، فرغب فيه فاستعمله على خراسان. وولى معاذ اليمن وهو ابن أقل من ثلاثين سنة. وحمل أبو مسلم أمر الدولة والدعوة وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وحمل الناس عن إبراهيم النّخعيّ وهو ابن ثماني عشرة سنة. وولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد مكة وهو ابن خمس وعشرين سنة. وسوّدت قريش أبا جهل ولم يطرّ شاربه فأدخلته مع الكهول دار النّدوة. قال الكميت «1» : [مجزوء الكامل] رفعت إليك، وما ثغر «2» ... ت، عيون مستمع وناظر ورأوا عليك ومنك في ال ... مهد النّهى ذات البصائر قال: قدم وفد على عمر بن عبد العزيز من العراق، فنظر إلى شاب منهم يتحوّز «3» يريد الكلام، فقال عمر: كبّروا كبّروا، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، إن الأمر ليس بالسن، ولو كان كذلك كان في المسلمين من هو أسنّ منك، قال صدقت فتكلّم. قال الشاعر في خلاف هذا المعنى: [خفيف] إنما الهلك أن يساسوا بغرّ ... لم تعره الأيام رأيا وثيقا «4»

الهمة والخطار بالنفس

وقال آخر: [طويل] ألا قالت الحسناء يوم لقيتها ... كبرت، ولم تجزع من الشيب مجزعا رأت ذا عصا يمشي عليها وشيبة ... تقنّع منها رأسه ما تقنّعا فقلت لها: لا تهزئي بى فقلّما ... يسود الفتى حتى يشيب ويصلعا وللقارح اليعبوب خير علالة ... من الجذع المجرى وأبعد منزعا رأى بكير «1» بن الأخنس المهلّب وهو غلام فقال: [طويل] خذوني به إن لم يسد سرواتهم ... ويبرع حتى لا يكون له مثل الهمّة والخطار بالنفس قال: أخبرنا خالد بن جويرية عن محمد بن ذؤيب الفقيميّ «2» وهو العمانيّ الراجز عن دكين الراجز قال: أتيت عمر بن عبد العزيز بعد ما استخلف أستنجز منه وعدا كان وعدنيه وهو والي المدينة، فقال لي: يا دكين، إن لي نفسا توّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة. وما رزأت من أموال المسلمين شيئا، وما عندي إلا ألفا درهم، فاختر أيّهما شئت، وهو يضحك. فقلت: يا أمير المؤمنين، قليلك خير من كثير غيرك، ويقال قليلك خير من كبير غيرك، فاختر لي أنت، فدفع إليّ ألفا وقال: خذها بارك الله لك فيها، فابتعت بها إبلا وسقتها إلى البادية، فرمى الله في أذنابها بالبركة بدعوته حتى رزقني الله ما ترون.

قال معاوية لعمرو بن العاص حين نظر معسكر عليّ عليه السلام: من طلب عظيما خاطر بعظيمته. وكان عمرو يقول: عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة. أي عليكم بجسام الأمور. وقال كعب «1» بن زهير: [طويل] وليس لمن لم يركب الهول بغية ... وليس لرحل حطّه الله حامل إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل وفي كتاب للهند: ثلاثة أشياء لا تنال إلا بارتفاع همّة وعظيم خطر: عمل السلطان، وتجارة البحر، ومناجزة العدوّ. وفيه أيضا: لا ينبغي أن يكون الفاضل من الرجال إلا مع الملوك مكرّما أو مع النّسّاك متبتّلا، كالفيل لا يحسن أن يرى إلا في موضعين: في البرّيّة وحشيّا أو للملوك مركبا وفيه أيضا: ذو الهمة إن حطّ فنفسه تأبى إلا علوّا كالشّعلة من النار يصوّبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا. وقال العتّابيّ «2» : [طويل] تلوم على ترك الغنى باهليّة ... طوى الدّهر عنها كلّ طرف وتالد «3» يسرّك أني نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد وأنّ أمير المؤمنين أغصّني ... مغصّهما بالمشرقات البوارد ذريني تجئني ميتتي مطمئنّة ... ولم أتقحّم هول تلك الموارد فإنّ كريمات المعالي مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود وقال الطائي: [طويل] وأخرى لحتني يوم لم أمنع النّوى ... قيادي ولم ينقض زماعي ناقض

أرادت بأن يحوي الغنى وهو وادع ... وهل يفرس اللّيث الطّلا «1» وهو رابض؟ وقال أيضا: [كامل] فاطلب هدوءا في التقلقل واستتر ... بالعيس من تحت السّهاد هجودا ما إن ترى الأحساب بيضا وضّحا ... إلا بحيث ترى المنايا سودا وقال آخر: [رجز] ما العزّ إلا تحت ثوب الكدّ «2» وقال آخر: [كامل] الذّلّ في دعة النفوس ولا أرى ... عزّ المعيشة دون أن يشقى لها وقال بعض المحدثين وأظنه البحتريّ: [خفيف] فاطلبا ثالثا سواي فإنّي ... رابع العيس والدّجى والبيد لست بالواهن المقيم ولا القا ... ئل يوما إن الغنى بالجدود وإذا استصعبت مقادة أمر ... سهّلتها أيدي المهارى القود وقال عبد الله بن أبي الشّيص «3» [وافر] أظنّ الدهر قد آلى فبرّا ... بأن لا يكسب الأموال حرّا لقد قعد الزمان بكل حرّ ... ونقّض من قواه المستمرّا كأنّ صفائح الأحرار أردت ... أباه فحارب الأحرار طرّا فأصبح كلّ ذي شرف ركوبا ... لأعناق الدجى برّا وبحرا فهتّك جيب درع الليل عنه ... إذا ما جيب درع الليل زرّا

يراقب للغنى وجها ضحوكا ... ووجها للمنيّة مكفهرّا ومن جعل الظلام له قعودا ... أصاب به الدجى خيرا وشرّا وكان يقال: من سرّه أن يعيش مسرورا فليقنع، ومن أراد الذكر فليجهد. قيل للعتّابيّ: فلان بعيد الهمة، قال: إذن لا يكون له غاية دون الجنة. وقيل لبعض الحكماء: من أسوأ الناس حالا؟ قال: من اتّسعت معرفته وضاقت مقدرته وبعدت همّته. وقال عديّ «1» بن الرّقاع: [كامل] والمرء يورث جوده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياء أبو اليقظان قال: كان أوّل عمل وليه الحجّاج تبالة، فسار إليها فلما قرب منها قال للدليل: أين هي وعلى أيّ سمت هي؟ قال: تسترها عنك هذه الأكمة. قال لا أراني أميرا إلّا على موضع تستر منه أكمة! أهون بها ولاية! وكرّ راجعا. فقيل في المثل: «أهون من تبالة على الحجّاج» . وقال الطائيّ: [طويل] وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد فإني رأيت الشمس زيدت محبّة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد وقال رجل لآخر: أبوك الذي جهل قدره وتعدّى طوره فشقّ العصا وفرّق الجماعة، لا جرم لقد هزم ثم أسر ثم قتل ثم صلب. قال الآخر: دعني من ذكر هزيمة أبي ومن صلبه، أبوك ما حدّث نفسه بشيء من هذا قطّ. قال حاتم طيء: [طويل] لحى الله صعلوكا مناه وهمّه ... من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما يرى الخمص «2» تعذيبا وإن يلق شعبة ... يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهما

ولله صعلوك يساور همّه ... ويمضي على الأهوال والدهر مقدما يرى قوسه أو رمحه ومجنّه ... وذا شطب لدن المهزّة مخذما «1» وأحناء سرج قاتر «2» ولجامه ... معدّا لدى الهيجا وطرفا مسوّما فذلك إن يهلك فحيّ ثناؤه ... وإن يحي لا يقعد لئيما مذمّما وقال آخر: [بسيط] لا يمنعنّك خفض العيش تطلبه ... نزاع شوق إلى أهل وأوطان تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وجيرانا بجيران ويقال: ليس بينك وبين البلدان نسب فخير البلاد ما حملك. وقال عروة ابن الورد «3» : [طويل] لحى الله صعلوكا إذا جنّ ليله ... مصافي المشاش «4» آلفا كلّ مجزر يعدّ الغنى من دهره كلّ ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسّر ينام عشاء ثم يصبح قاعدا ... يحتّ الحصا من جنبه المتعفّر يعين نساء الحيّ لا يستعنّه ... ويمسي طليحا كالبعير المحسّر ولله صعلوك صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنوّر مطلّ على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهّر وقال آخر: [طويل] تقول سليمى: لو أقمت بأرضنا! * ولم تدر أني للمقام أطوف

وقال الطائيّ في نحوه: [وافر] أآلفة النّحيب كم افتراق ... ألمّ فكان داعية اجتماع وما إن فرحة الأوبات إلا ... لموقوف على ترح الوداع نظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا في الشمس على باب المنصور فقال له: قد طال وقوفك في الشمس. فقال روح: ليطول مقامي في الظل. وقال خداش «1» بن زهير: [بسيط] ولن أكون كمن ألقى رحالته ... على الحمار وخلّى صهوة الفرس وقال آخر: [بسيط] لا أنت قصّرت عن مجد ولا أنا، إذ ... أسمو إليك بنفسي، قصّرت هممي قال عمر بن الخطاب: أشنعوا بالكنى فإنها منبّهة. دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان التيميّ على أبيه وهو يجود بنفسه فقال له: ألا أوصي بك الأمير؟ فقال عبيد الله: إذا لم يكن للحيّ إلّا وصيّة الميت فالحيّ هو الميت. وقال الشاعر في نحوه: [وافر] إذا ما الحيّ عاش بعظم ميت ... فذاك العظم حيّ وهو ميت وقال معاوية لعمرو بن سعيد وهو صبيّ: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: أوصى إليّ ولم يوص بي. نظر أبو الحارث حمير إلى برذون «2» يستقى عليه، فقال: المرء حيث يجعل نفسه، لو هملج «3» هذا لم يبل بما ترون. قال الطائي:

[طويل] وقلقل نابي من خراسان جاشها ... فقلت اطمئني أنضر الرّوض عازبه وركب كأطراف الأسنّة عرّسوا ... على مثلها، والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبه وقال آخر: [طويل] وعش ملكا أو مت كريما، وإن تمت ... وسيفك مشهور بكفك تعذر والمشهور في هذا قول امرىء القيس: [طويل] فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي وقوله: [طويل] بكى صاحبي لما رأى الدّرب دونه ... وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك، إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقال أبو نواس: [طويل] سأبغي الغنى إمّا جليس خليفة ... نقوم سواء، أو مخيف سبيل وقيل ليزيد بن المهلّب: ألا تبني دارا! فقال: منزلي دار الإمارة أو الحبس. والمشهور في سقوط الهمة قول الحطيئة «1» : [بسيط] دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وقال مالك «1» بن الرّيب: [طويل] فإن تنصفونا، آل مروان، نقترب ... إليكم وإلّا فأذنوا ببعاد فإنّ لنا عنكم مراحا ومرحلا ... بعيس إلى ريح الفلاة صوادي وفي الأرض عن دار المذلّة مذهب ... وكلّ بلاد أوطنت كبلادي فماذا عسى الحجّاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير «2» زياد فباست أبي الحجاج واست عجوزه ... عتيّد «3» بهم يرتعي بوهاد فلولا بنو مروان كان ابن يوسف «4» ... كما كان عبدا من عبيد إياد زمان هو المقري المقرّ «5» بذلّة ... يراوح غلمان القرى ويغادي بعث ينحاب خليفتها إلى ابن عائشة المحدّث وهو عبيد الله بن محمد ابن حفص التّيميّ، فأتاه في حلقته في المسجد فقال له: أبو من؟ قال: هلّا عرفت هذا قبل مجئيك؟ قال: أريد أن تخليني. قال: في حاجة لك أم في حاجة لي؟ قال: في حاجة لي. قال: فالقني في المنزل. قال: فإنّ الحاجة لك. قال: ما دون إخواني سرّ. وقال بعض لصوص همدان وهو مالك «6» بن حريم: [طويل] كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... مراغمة مادام للسّيف قائم

متى تجمع القلب الذكّي وصارما «1» ... وأنفا حميّا تجتنبك المظالم ومن يطلب المال الممنّع بالقنا ... يعش مثريا أو تخترمه المخارم وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم وقال أبو النّشناش «2» ، من اللصوص: [طويل] إذا المرء لم يسرح سواما «3» ولم يرح ... سواما ولم تعطف عليه أقاربه فللموت خير للفتى من حياته ... فقيرا ومن مولى تدبّ عقاربه وسائله بالغيب عنّي وسائل ... ومن يسأل الصّعلوك أين مذاهبه؟ وطامسة الأعلام ماثلة الصّوى «4» ... سرت بأبي النّشناش فيها ركائبه فلم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق صاحبه وقال آخر من اللصوص: [طويل] وإنّي لأستحيي من الله أن أرى ... أطوف بحبل «5» ليس فيه بعير وأن أسأل المرء اللئيم بعيره ... وبعران ربّي في البلاد كثير فللّيل، إن واراني الليل، حكمة ... وللشمس إن غابت عليّ تدور عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير رأى الله أنّى للأنيس لشانىء ... وتبغضهم لي مقلة وضمير

وقال النّمر «1» بن تولب: [كامل] خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إنّ الجلوس مع العيال قبيح فالمال فيه تجلّة ومهابة ... والفقر فيه مذلّة وقبوح وقال آخر: [طويل] تقول ابنتي: إنّ انطلاقك واحدا ... إلى الرّوع يوما تاركي لا أباليا ذريني من الإشفاق أو قدّمي لنا ... من الحدثان والمنيّة واقيا ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة ... ترى ساقيها يألمان التّراقيا وقال أوس «2» بن حجر: [طويل] ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كلّ مطرح ليبلي عذرا أو ليبلغ حاجة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح وقال آخر: [طويل] رمى الفقر بالأقوام حتى كأنّهم ... بأطرار آفاق البلاد نجوم قال كسرى: إحذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. وقال الشاعر: [طويل] خلقان لا أرضى اختلافهما ... تيه الغنى، ومذلّة الفقر فإذا غنيت فلا تكن بطرا ... وإذا افتقرت فته على الدّهر واصبر، فلست بواجد خلقا ... أدنى إلى فرج من الصّبر

الشرف والسؤدد بالمال وذم الفقر والحض على الكسب

كان أعرابيّ يمنع ابنه من التصرف إشفاقا عليه، فقال شعرا فيه: [طويل] إذا ما الفتى لم يبغ إلّا لباسه ... ومطعمه، فالخير منه بعيد يذكّرني خوف المنايا، ولم أكن ... لأهرب ممّا ليس منه محيد فلو كنت ذا مال لقرّب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت: أنت رشيد رأيت الغنى قد صار في الناس سؤددا ... وكان الفتى بالمكرمات يسوده وإن قلت لم يسمع مقالي وإنّني ... لمبدىء حقّ بينهم ومعيد فذرني أجوّل في البلاد لعلّه ... يسرّ صديق أو يساء حسود ألا ربّما كان الشّفيق مضرّة ... عليك من الإشفاق وهو ودود وقال أعرابيّ من باهلة: [طويل] سأعمل نصّ العيس «1» حتى يكفّني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان فللموت خير من حياة يرى لها ... على الحرّ بالإقلال وسم هوان متى يتكلّم يلغ حسن كلامه ... وإن لم يقل قالوا: عديم بيان كأنّ الغنى عن أهله- بورك الغنى-* بغير لسان ناطق بلسان الشرف والسّؤدد بالمال وذم الفقر والحض على الكسب أنشد ابن الأعرابيّ «2» : [طويل] ومن يفتقر في قومه يحمد الغنى ... وإن كان فيهم ماجد العمّ مخولا

يمنّون إن أعطوا ويبخل بعضهم ... ويحسب عجزا سكته إن تجمّلا ويزري بعقل المرء قلّة ماله ... وإن كان أقوى من رجال وأحولا وقرأت في كتاب للهند: ليس من خلّة يمدح بها الغنيّ إلا ذمّ بها الفقير، فإن كان شجاعا قيل أهوج، وإن كان وقورا قيل بليد، وإن كان لسنا قيل مهذار، وإن كان زمّيتا «1» قيل عييّ. وقال آخر: [بسيط] الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسوّد غير السّيد المال وأنشد ابن الأعرابيّ: [بسيط] رزقت لبّا ولم أرزق مروءته ... وما المروءة إلّا كثرة المال إذا أردت مساماة يقعّدني ... عما ينوّه باسمي رقّة الحال وقال آخر: [طويل] يغطّي عيوب المرء كثرة ماله ... يصدّق فيما قال وهو كذوب ويزري بعقل المرء قلّة ماله ... يحمّقه الأقوام وهو لبيب «2» وقال آخر: [منسرح] كم من لئيم الجدود سوّده ال ... مال، أبوه وأمّه الورق وكم كريم الجدود ليس له ... عيب سوى أنّ ثوبه خلق أدّبه سادة كرام فما ... ثوباه إلا العفاف والخلق وأنشد الرّياشيّ «3» :

[بسيط] غضبان يعلم أنّ المال ساق له ... ما لم يسقه له دين ولا خلق لولا ثلاثون ألفا سقتها بطرا ... إلى ثلاثين ألفا ضاقت الطّرق فمن يكن عن كرام الناس يسألني ... فأكرم الناس من كانت له ورق وقال أحيحة «1» بن الجلاح: [بسيط] إستغن أو مت ولا يغررك ذو نشب «2» ... من ابن عمّ ولا عمّ ولا خال يلوون ما عندهم من حق أقربهم ... وعن صديقهمو والمال بالوالي ولا أزال على الزّوراء «3» أعمرها، ... إنّ الكريم على الإخوان ذو المال كلّ النداء إذا ناديت يخذلني ... إلّا ندائي إذا ناديت يا مالي وقال حسّان «4» : [خفيف] ربّ حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطّى عليه النعيم وقال الهذليّ «5» : [وافر] رأيت معاشرا يثنى عليهم ... إذا شبعوا وأوجههم قباح

يظلّ المصرمون لهم سجودا ... ولو لم يسق عندهمو ضياح «1» ويروى يلف. وقال بعضهم: وددت أنّ لي مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشيء. قيل له: فما تصنع به؟ قال: لكثرة من يخدمني عليه. قال الصّلتان «2» : [متقارب] إذا قلت يوما لمن قد ترى: ... أروني السّريّ، أروك الغني وسرّك ما كان عند امرىء ... وسرّ الثلاثة غير الخفي «3» وقال آخر: [بسيط] لا تسألي النّاس: ما مجدي وما شرفي، ... الشأن في فضّتي والشأن في ذهبي لو لم يكن لي مال لم يطر أحد ... بأبي ولم يعرفوا مجدي ومجد أبي وقال آخر: [طويل] أجلّك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكلّ غنيّ في العيون جليل ولو كنت ذا عقل ولم تؤت ثروة ... ذللت لديهم والفقير ذليل إذا مالت الدنيا على المرء رغّبت ... إليه ومال الناس حيث يميل وليس الغنى إلّا غنى زيّن الفتى ... عشيّة يقري أو غداة ينيل وقال آخر: [طويل] وكلّ مقلّ حين يغدو لحاجة ... إلى كلّ من يعدو من الناس مذنب وكان بنو عمي يقولون مرحبا ... فلما رأوني معدما مات مرحب «4»

وقال آخر: [طويل] أبا مصلح أصلح، ولا تك مفسدا ... فإنّ صلاح المال خير من الفقر ألم تر أنّ المرء يزداد عزّة ... على قومه إن يعلموا أنه مثري وقال عروة «1» بن الورد: [وافر] ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت النّاس شرّهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير ويقصيه النّديّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير وتلفي ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جمّ ... ولكن للغنى ربّ غفور وقال زيد بن عمرو «2» بن نفيل: [خفيف] ويكأن من يكن له نشب «3» يح ... بب، ومن يفتقر يعش عيش ضرّ ويجنّب سرّ النّجيّ ولكن ... ن أخا المال محضر كلّ سرّ وقال آخر: [طويل] ألم تر بيت الفقر يهجر أهله ... وبيت الغنى يهدى له ويزار وقال آخر: [وافر] إذا ما قلّ مالك كنت فردا ... وأيّ الناس زوّار المقلّ؟

وقال عبد العزيز «1» بن زرارة: [وافر] وما لبّ اللبيب بغير حظّ ... بأغنى في المعيشة من فتيل رأيت الحظّ يستر عيب قوم ... وهيهات الحظوظ من العقول وقال الطائيّ: [بسيط] الصبر كاس وبطن الكف عارية ... والعقل عار إذا لم يكس بالنّشب ما أضيع العقل إن لم يرع ضيعته ... وفر، وأيّ رحى دارت بلا قطب؟ وقال آخر: [خفيف] عش بجدّ ولا يضرّك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود عش بجدّ وكن هبنّقة القي ... سيّ نوكا أو خالد بن يزيد «2» وقال الطائيّ: [طويل] ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدي الفتى في دهره وهو عالم ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذا من جهلهنّ البهائم وقال المرّار «3» : [طويل] إذا لم ترافد في الرّفاد ولم تسق ... عدوّا ولم تستغن فالموت أروح وقال ابن الدّمينة «4» الثقفيّ: [وافر] أطعت العرس «5» في الشهوات حتى ... أعادتني عسيفا عبد عبد

إذا ما جئتها قد بعت عذقا ... تعانق أو تقبّل أو تفدّي وقال الأسعر «1» الجعفيّ: [كامل] وخصاصة الجعفيّ ما داينته ... لا ينقضي أبدا وإن قيل انقضى إخوان صدق ما رأوك بغبطة ... فان افتقرت فقد هوى بك ما هوى وقال آخر: [طويل] إذا المرء لم يكسب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لاقى الصدّيق فأكثرا وصار على الأدنين كلّا وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرّا فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا وما طالب الحاجات من حيث تبتغى ... من الناس إلا من أجدّ وشمّرا فلا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا «2» ؟ وقال آخر: [رجز] من يجمع المال ولا يثب به ... ويترك العام لعام جذبه يهن على الناس هوان كلبه قال أبو اليقطان: ما ساد مملق قطّ إلا عتبة بن ربيعة. حدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعيّ عن حمّاد بن سلمة عن عبيد الله

ابن العيزار عن عبد الله بن عمرو أنه قال: احرث لدنياك كأنّك تعيش أبدا واحرث لآخرتك كأنّك تموت غدا. قال: حدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعيّ قال حدّثني أصحاب أيّوب عن أيّوب قال: كان أبو قلابة يحثّني على الإحتراف ويقول: إنّ الغنى من العافية. قال: وقال الأصمعيّ: سأل أعرابيّ عن رجل فقالوا: أحمق مرزوق، فقال: ذاك والله الرجل الكامل. وكان يقال: من حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين: الدّين والعرض. ويقال في بعض كتب الله: أطعني فيما آمرك ولا تعلمني بما ينفعك وامدد يدك لباب من العمل أفتح لك بابا من الرزق. وكان يقال: من غلى دماغه في الصيف غلت قدره في الشتاء. ويقال: حفظ المال أشدّ من جمعه. وقال الحسن: إذا أردتم أن تعلموا من أين أصاب المال فانظروا فيم ينفقه فإنّ الخبيث ينفق سرفا. ونحوه قولهم: من أصاب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر «1» . ويقال في مثل «الكدّ قبل المدّ» يراد الطلب قبل الحاجة والعجز. وقال لقيط «الغزو أدرّ للّقاح وأحدّ للسلاح» . وقال أبو المعافى «2» : [طويل] وإن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين زوّجها مهرا فراشا وطيئا ثم قال لها اتّكي ... قصاراهما لا بدّ أن يلدا الفقرا وقال زيد بن جبلة: لا فقير أفقر من غنيّ أمن الفقر. وروي عن علي بن

أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: ما دون أربعة آلاف درهم نفقة، وما فوقها كنز. ويقال: القبر ولا الفقر. ويقال: ما سبق عيال مالا قطّ إلا كان صاحبه فقيرا. وقيل لرجل من البصريين: مالك لا ينمي مالك؟ قال: لأني اتخذت العيال قبل المال واتخذ الناس المال قبل العيال. ويقال: العيال سوس المال. وقيل لمدينيّ: كيف حالك؟ قال: كيف يكون حال من ذهب ماله وبقيت عادته. ويقال: الغني في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة. حدّثني محمد بن يحيى بإسناد ذكره قال: شكا نبيّ من الأنبياء إلى الله شدة الفقر فأوحى الله إليه: هكذا جرى أمرك عندي أفتريد من أجلك أن أعيد الدنيا. قال أبو حاتم: حدّثنا العتبيّ قال: سمعت يونس بن حبيب يقول: ما أجدب أهل البادية قطّ حتى تسوّيهم السّنة ثم جاءهم الخصب إلا عاد الغنى إلى أهل الغنى. قال الأصمعيّ: رأيت أعرابية ذات جمال رائع تسأل بمنى فقلت: يا أمة الله، تسألين ولك هذا الجمال! قالت: قدّر الله فما أصنع؟ قلت: فمن أين معاشكم؟ قالت: هذا الحاجّ نتقمّمهم ونغسل ثيابهم. فقلت: فإذا ذهب الحاجّ فمن أين؟ فنظرت إليّ وقالت: يا صلب الجبين! لو كنا إنما نعيش من حيث نعلم لما عشنا. وقال الشاعر «1» : [خفيف] أتراني أرى من الدهر يوما ... لي فيه مطيّة غير رجلي وإذا كنت في جميع فقالوا ... قرّبوا للرحيل قدّمت نعلي حيثما كنت لا أخلّف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي

ذم الغنى ومدح الفقر

قيل لمدينيّ: ما عندك من آلة الحج؟ قال: التلبية. وقيل لآخر: ما عندك من آلة العصيدة «1» ؟ قال: الماء. وقيل لآخر: ما عندك من آلة القريس «2» ؟ قال: الشتاء. ذمّ الغنى ومدح الفقر قال شريح: الجدة كنية البهل «3» . وقال أكثم بن صيفيّ: ما يسرّني أني مكفيّ كلّ أمر الدنيا. قيل: وإن أسمنت وألبنت؟ قال: نعم، أكره عادة العجز. وكان يقال: عيب الغنى أنه يورث البله، وفضيلة الفقر أنه يورث الفكرة. وقال محمد بن حازم «4» الباهليّ: [منسرح] ما الفقر عار ولا الغنى شرف ... ولا سخاء في طاعة سرف ما لك إلّا شيء تقدّمه ... وكلّ شيء أخّرته تلف تركك مالا لوارث يته ... نّاه وتصلى بحرّه أسف وقال ابن مناذر «5» : [وافر] رضينا قسمة الرحمن فينا ... لنا علم وللثّقفيّ مال وما الثّقفيّ إن جادت كساه ... وراعك شخصه إلّا خيال وقال أنس بن مالك: لمّا خرج مروان من المدينة مرّ بماله بذي خشب «6»

فلما نظر إليه قال: ليس المال إلا ما أشرجت عليه المناطق. وروي عن المسيح أنّه قال: في المال ثلاث خصال، قالوا: وما هي يا روح الله: قال: لا يكسبه من حلّه قالوا: فإن فعل قال: يمنعه من حقّه، قالوا: فإن لم يفعل، قال: يشغله إصلاحه عن عبادة ربه. قيل لابن عمر: توفّي زيد بن حارثة وترك مائة ألف درهم، قال: لكنها لا تتركه. وقال المعلوط «1» . [طويل] ولا سوّد المال الدّنيّ ولا دنا ... لذاك ولكنّ الكريم يسود متى ما ير الناس الغنيّ وجاره ... فقيرا يقولوا عاجز وجليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسّمت وجدود فكم قد رأينا من غنيّ مذمّم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد وقال آخر: [منسرح] ولا تهين «2» الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه الأخفش قال: قال المبرّد: أريد النون الخفيفة في ولا تهين فأسقط التنوين لسكونه وسكون اللام. وقال آخر: [طويل] ولست بنظّار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر وإنّي لصبّار على ما ينوبني ... لأنّي رأيت الله أثنى على الصبر وقال أعرابيّ يمدح قوما: [طويل] إذا افتقروا عضّوا على الصبر حسبة ... وإن أيسروا عادوا سراعا إلى الفقر يقول: يعطون ما عندهم حتى يفتقروا. قال الحسن: عيّرت اليهود

عيسى بن مريم بالفقر فقال: من الغنى أتيتم، وقال: حسبك من شرف الفقر أنك لا ترى أحدا يعصي الله ليفتقر. أنشد ابن الأعرابيّ «1» : [بسيط] المال يغشى رجالا لا طباخ بهم ... كالسّيل يغشى أصول الدّندن البالي «2» وقال الطائيّ: [كامل] لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي «3» قال عمر بن الخطاب: من دخل على الأغنياء خرج وهو ساخط على الله. قال أعرابيّ: الغنيّ من كثرت حسناته والفقير من قلّ نصيبه منها. وقال ذو الأصبع «4» : [بسيط] لي ابن عمّ على ما كان من خلق ... مخالف لي أقليه ويقليني «5» أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني

وقال آخر: [كامل] إنّ الحرام غزيرة حلباته ... ووجدت حالبة الحلال مصورا «1» وقيل لأعرابي: إن فلانا أفاد مالا عظيما قال: فهل أفاد معه أياما ينفقه فيها؟. وفي كتاب للهند: ذو المروءة يكرم معدما كالأسد يهاب وإن كان رابضا، ومن لا مروءة له يهان وإن كان موسرا كالكلب وإن طوّق وحلّى. وقال خداش «2» بن زهير: [طويل] أعاذل، إنّ المال أعلم أنّه ... وجامعه للغائلات الغوائل متى تجعليني فوق نعشك تعلمي ... أيغني مكاني أبكري وأفائلي؟ وقال آخر: [طويل] إذا المرء أثرى ثمّ قال لقومه ... أنا السيّد المقضي إليه المعظّم ولم يعطهم خيرا أبوا أن يسودهم ... وهان عليهم رغمه وهو أظلم وقال زبّان «3» بن سيّار: [طويل] ولسنا كقوم محدثين سيادة ... يرى مالها ولا يحسّ فعالها مساعيهمو مقصورة في بيوتهم ... ومسعاتنا ذبيان طرّا عيالها وقال أبو عبيد الله الكاتب: الصبر على حقوق المروءة أشدّ من الصبر على ألم الحاجة، وذلّة الفقر مانعة من عزّ الصبر كما أنّ عزّ الغنى مانع من كرم الإنصاف. وقال بعض المتكلمين في ذمّ الغنى: ألم تر ذا الغنى ما أدوم نصبه، وأقلّ راحته، وأخسّ من ماله حظّه، وأشدّ من الأيام حذره، وأغرى

الدّهر بثلمه ونقضه، ثمّ هو بين سلطان يرعاه، وحقوق تسترثيه، وأكفاء يتنافسونه، وولد يودّون فراقه، قد بعث عليه الغنى من سلطانه العناء، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذمّ، ومن الولد الملامة، لا كذي البلغة قنع فدام له السرور، ورفض الدنيا فسلم له الجسد، ورضي بالكفاف فتنكّبته الحقوق. ضجر أعرابيّ بكثرة العيال والولد مع الفقر وبلغه أنّ الوباء بخيبر شديد فخرج إليها بعياله يعرّضهم للموت، وأنشأ يقول: [رجز] قلت لحمىّ خيبر استعدّي ... هاك عيالي واجهدي وجدّي وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذا الجند فأخذته الحمّى فمات هو وبقي عياله. وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: يا بنيّ، إتق الله، فإنه من اتّق الله وقاه، ومن توكّل عليه كفاه، ومن شكره زاده، فلتكن التقوى عماد عينيك وجلاء قلبك، واعلم أنه لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا مال لمن لا رفق له، ولا جديد لمن لا خلق له. وقال محمود الورّاق «1» : [سريع] يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكثر لو تعتبر من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى إن صحّ منك النظر أنك تعصي الله تبغي الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر وقال آخر: [مجزوء المديد] ليس لي مال سوى كرمي ... فيه لي أمن من العدم لا أقول الله أعدمني ... كيف أشكو غير متّهم

التجارة والبيع والشراء

قنعت نفسي بما رزقت ... وتمطّت بالعلى هممي وجعلت الصبر سابغة ... فهي من قرني إلى قدمي فإذا ما الدّهر عاتبني ... لم يجدني كافرا نعمي التجارة والبيع والشراء قال: حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن ابن إسحق عمّن حدّثه يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت مرغمة ومرحمة ولم أبعث تاجرا ولا زرّاعا وإنّ شرّ هذه الأمّة التّجار والزرّاعون إلّا من شحّ عن دينه» . وفي حديث آخر رواه أبو معاوية عن الأعمش عن وائل بن داود عن سعيد بن جبير: سئل النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أيّ الكسب أطيب قال: «عمل الرجل بيده وكلّ بيع مبرور» . حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثنا عون بن عمارة عن هشام بن حسّان عن الحسن أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من تجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب فيه فليتحوّل منه إلى غيره. وقال: فرّقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين ولا تلثّوا بدار معجزة «1» . وقال: إذا اشتريت بعيرا فاشتره عظيم الخلق فإن أخطأك خير لم يخطئك سوق. وقال: بع الحيوان أحسن ما يكون في عينك. وقال الحسن: الأسواق موائد الله في الأرض فمن أتاها أصاب منها. ابن المبارك عن معمر عن الزّبيري قال: مرّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، برجل يبيع شيئا، فقال: «عليك بالسّوم أوّل السوق فإن الرّباح مع السماح» . وكان يقال:

إسمح يسمح لك. وفي بعض الحديث المرفوع: «أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدّجاج» . وقيل للزّبير: بم بلغت ما بلغت من اليسار؟ قال: لم أردّ ربحا ولم أستر عيبا. دخل ناس على معاوية فسألهم عن صنائعهم، فقالوا: بيع الرقيق. قال: بئس التّجار ضمان نفس ومؤونة ضرس. باع رجل ضيعة فقال للمشتري: أما والله لقد أخذتها ثقيلة المؤنة قليلة المنفعة، فقال: وأنت والله لقد أخذتها بطيئة الاجتماع سريعة التفرّق. واشترى رجل من رجل دارا فقال له المشتري: لو صبرت لاشتريت منك الذراع بعشرة، فقال: وأنت لو صبرت بعتك الذراع بدرهم. حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ أنّ أبا سفيان بن العلاء باع غلاما له بثلاثين ألفا فقال عمر بن أبي زائدة: هذا أحمق، قالوا: كيف؟ قال: لأنّه لم يبلغ ثلاثين ألفا حتى أعطي قبل ذلك عشرون ألفا فكيف انتظر ولم يغتنمها. ورئي عبد الله بن جعفر يماكس «1» في درهم فقيل له: أتماكس في درهم وأنت تجود من المال بما تجود به؟ قال: ذلك مالي جدت به وهذا عقلي بخلت به. ابتاع ابن عمر شيئا فحثا له البائع على المكيال فقال له ابن عمر: أرسل يدك ولا تمسك على رأسه فإنّما لي ما يحمله المكيال. كان جرير بن عبد الله إذا اشترى شيئا قال لصاحبه: إن الذي أخذنا منك خير ممّا أعطيناك إذ أظنّ أنّه كذلك فأنت بالخيار. اشترى عمرو بن عبيد إزارا للحسن بستّة دراهم ونصف فأعطاه سبعة دراهم فقال الرجل: إنما بعته بستة دراهم ونصف، فقال عمرو: إني اشتريته لرجل لا يقاسم أخاه درهما.

قال: حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ عن أبي الزّناد قال: إذا عزب «1» المال قلّت فواضله، لا بلحة ولا بسرة ولا رطبة ولا كرنافة «2» . ونحوه قول بعض الحجازيّين: [طويل] سأبغيك مالا بالمدينة إنّني ... أرى عازب الأموال قلّت فواضله قال عمر بن عبد الرحمن بن عوف: قسم سهل بن حنيف بيننا أموالنا وقال لي: يا بن أختي، إني أو ترك بالقرابة، اعلم أنّه لا مال لأخرق ولا عيلة على مصلح، وخير المال ما أطعمك لا ما أطعمته، وإن الرقيق جمال وليس بمال. قال زياد: ليس لذي ضعف مثل أرض عشر وليس لذي جاه مثل خراج وليس لتاجر مثل صامت. قال رجل لآخر: بكم تبيع الشاة؟ قال: أخذتها بستة وهي خير من سبعة وقد أعطيت بها ثمانية فإن كانت من حاجتك بتسعة فزن عشرة. كان يقال: خير المال عين خرّارة، في أرض خوّارة، تفجّرها الفارة، تسهر إذا نمت، وتشهد إذا غبت، وتكون عقبا إذا متّ. عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ عن سعيد بن المسيّب قال: إن الله إذا أبغض عبدا جعل رزقه في الصيّاح. وقال الفضيل مثل ذلك وقال: أما سمعت إلى أهل دار البطّيخ والملّاحين ودويّهم. قال: حدّثنا أحمد بن الخليل قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الهجيميّ قال: حدّثنا المبارك بن سعيد عن برد بن سنان عن نافع عن ابن عمر أنّه كان لا يرى بالمكايسة والمماكسة في الشراء والبيع بأسا.

قال: حدثني محمد قال: حدّثني الأصبهانيّ عن يحيى بن أبي زائدة عن مجالد عن أبي بردة. قال: أتى عمر غلاما له يبيع الحلل، فقال له: إذا كان الثوب عاجزا فانشره وأنت جالس وإذا كان واسعا فانشره وأنت قائم. قال: فقلت له: الله الله يا عمر. قال: إنما هي السّوق. قال عبد الله بن الحسين: غلّة الدور مسكة وغلّة النخل كفاف وغلة الحبّ الغنى. قال أعرابيّ: [طويل] زيادة شيء تلحق النفس بالمنى ... وبعض الغلاء في التجارة أربح ولمّا بلغ عتبة بن غزوان أنّ أهل البصرة قد اتخذوا الضّياع وعمروا الأرضين كتب إليهم: لا تنهكوا وجه الأرض فإن شحمتها في وجهها. قال أعرابيّ: [طويل] وفي السّوق حاجات وفي النّقد قلّة ... وليس مقضي الحاج «1» غير الدّراهم قال ميمون بن ميمون: من اشترى الأشياء بنعت أهلها غبن حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعي قال: حدّثني شكر الحرشي قال: جاء الحسن بشاة فقال لي: بعها وابرأ من أنّها تقلب المعلف وتنزع الوتد من قبل البيع لئلا يقولوا ندم. قال الشاعر: [وافر] إذا ما تاجر لم يوف كيلا ... فصبّ على أنامله الجذام ابن الزيات «2» في الطائيّ: [طويل] رأيتك سهل البيع سمحا وإنما ... يغالي إذا ما ظنّ بالشيء بائعه هو الماء إن أحميته طاب شربه ... ويكدر يوما أن تباح مشارعه

الدين

حدّثت عن شيبان بن فرّوخ عن أبي الأشهب عن الحسن قال: كان رجل يتّجر في البحر ويحمل الخمر يأتي بها قوما، فعمد إليها فمزجها نصفين وأتاهم بها فباعها بحساب الصّرف واشترى قردا فحمله معه في السفينة، فلمّا لجّج في البحر لم يشعر إلّا وقد أخذ القرد الكيس وعلا على الصّاري وجعل يلقي دينارا في البحر ودينارا في السفينة حتى قسمه قسمين. قال رجل من الحاجّ: أتانا رجل من الأعراب بالرمل في طريق مكّة بغرارة «1» فيها كمأة، فقلنا له: بكم الغرارة؟ فقال: بدرهمين، فقلنا: لك ذلك، فأخذناها ودفعنا إليه الثمن، فلما نهض قال له رجل منا: في است المغبون عود، فقال: بل عودان وضرب الأرض برجله فإذا نحن على الكمأة قيام. قيل لأعرابيّ: ألا تشتري لابنك بطّيخة. فقال: لا، أو يبلغ من كساده أن يكون إذا تناول من بين يدي البقّال وأخذه وعدا رماه بأخرى ولم يعد خلفه. اشترى أعرابيّ غلاما فقال للبائع: هل فيه من عيب، فقال: لا، غير أنّه يبول في الفراش. فقال: ليس هذا بعيب، إن وجد فراشا فليبل فيه. الدّين قال ثابت قطنة: الدّين عقلة الشريف. وقال دليم «2» : [طويل] الله لقّى من عرابة بيعة ... على حين كاد النّقد يعسر عاجله «3» ولوى بنان الكفّ يحسب ربحه ... ولم يحسب المطل الذي أنا ماطله سيرضى من الرّبح الذي كان يرتجي ... برأس الذي أعطى وهل هو قابله؟ «4»

عبد الرزاق عن ابن جريج قال: رآني عمر وأنا متقنّع، فقال: يا أبا خالد، إنّ لقمان كان يقول: القناع بالليل ريبة وبالنهار مذلّة، فقلت: إنّ لقمان لم يكن عليه دين. كتب يعقوب بن داود إلى بعض العبّاد يسأله القدوم عليه، فأتى محمد بن النضر الحارثيّ فاستشاره وقال: لعلّ الله يقضي ديني، فقال محمد بن النضر: لأن تلقى الله وعليك دين ولك دين خير من أن تلقاه وقد قضيت دينك وذهب دينك،. قال عياض بن عبد الله: الدّين راية الله في أرضه فإذا أراد أن يذلّ عبدا جعلها طوقا في عنقه. دخل عتبة بن عمرو على خالد القسريّ. فقال خالد يعرّض به: إنّ ههنا رجالا يدّانون في أموالهم فإذا فنيت ادّانوا في أعراضهم. فقال عتبة: إن رجالا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم فيدّانون «1» على سعة ما عند الله، فخجل خالد وقال: إنّك منهم ما علمت. وقال أعرابيّ يذكر غرماء «2» له: [بسيط] جاءوا إليّ غضابا يلغطون معا ... يشفي أذاتهمو أن غاب أنصاري لما أبوا جهرة إلا ملازمتي ... أجمعت مكرا بهم في غير إنكار وقلت: إني سيأتيني غدا جلبي «3» ... وإنّ موعدكم دار ابن هبّار وما أواعدهم إلا لأربثهم «4» ... عني فيحرجني نقضي وإمراري وما جلبت إليهم غير راحلة ... تخدي برحلى وسيف جفنه عاري إن القضاء سيأتي دونه زمن ... فاطو الصحيفة واحفظها من الفار وقال آخر لغرمائه:

[وافر] ولو علّقتموني كلّ يوم ... برجلي أو يدي في المنجنيق «1» لما أعطيتكم إلا ترابا ... يطيّر في الخياشم والحلوق وقال آخر «2» : [وافر] إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم وأمّا بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبّح من غريم دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي. قال: جاء رجل من بني مخزوم إلى الحارث بن عبد الله بن نوفل وهو يقضي عن أخيه دينا فقال: إنّ لي على أخيك حقّا، قال: ثبّت حقّك تعطه. قال: أفمن ملاءة أخيك ووفائه ندّعي عليه ما ليس لنا؟ فقال: أمن صدقك وبرّك نقبل قولك بغير بينة؟. لزم سهل ابن هارون دين كثير، فقال أعرابي يوصيه بالتّواري عن غرمائه: [طويل] انزل أبا عمرو على حدّ قرية ... تربّع إلى سهل كثير السّلائق وخذ نفق اليربوع فاسلك طريقه ... ودع عنك إنّي ناطق وابن ناطق وكن كأبي قطب على كلّ رائع ... له باب دار ضيّق العرض سامق وأبو قطبة خنّاق كان بالكوفة مولى لكندة. حدّثني محمد بن عبيد. قال: حدّثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنّ رجلا كان يبايع الناس ويداينهم، وكان له كاتب ومتجر، فيأتيه المعسر والمستنظر فيقول لكاتبه: أكلىء واستنظر ليوم يتجاوز

الله عنا فيه، فمات لا يعمل عملا غيره فغفر الله له. قال شقران القضاعيّ «1» : [طويل] لو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... عليّ لإنسان من الناس درهما ولكنّني مولى قضاعة كلّها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما بلغني عن يحيى بن أيّوب عن الأعمش عن إبراهيم. قال: أرسل عمر إلى عبد الرحمن بن عوف يستسلفه أربعمائة درهم، فقال عبد الرحمن: أتستسلفني وعندك بيت المال، ألا تأخذ منه ثم تردّه؟ فقال عمر: إني أتخوّف أن يصيبني قدري، فتقول أنت وأصحابك: أتركوا هذا لأمير المؤمنين؟ حتى يؤخذ من ميزاني يوم القيامة، ولكني أتسلّفها منك لما أعلم من شحّك فإذا متّ جئت فاستوفيتها من ميراثي. كتب أبو عبّاد المهلّبي «2» إلى صديق له مكثر يستسلفه مالا، فاعتلّ عليه بالتعذّر وضيق الحال، فكتب إليه ابن عبّاد: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت ملوما فجعلك الله معذورا. أبو اليقظان قال: كان الفضل «3» بن العبّاس بن عتبة بن أبي لهب الشاعر يعيّن «4» الناس فإذا حلّت دراهمه ركب حمارا له يقال له شارب الريح فيقف على غرمائه ويقول: [طويل] بني عمّنا، ردّوا الدراهم إنما ... يفرّق بين الناس حبّ الدراهم

وكان رجل من بني الدّيل عسر القضاء فإذا تعلّق به غرماؤه فرّ منهم وقال: [وافر] فلو كنت الحديد لكسّروني ... ولكني أشدّ من الحديد فعيّنه الفضل فلما كان قبل المحلّ جاء فبنى معلفا على باب داره، وكان يقال للرجل عقرب فلقي كل واحد من صاحبه شدّة، فهجاه الفضل فقال. [سريع] قد تجرت في دارنا عقرب ... لا مرحبا بالعقرب التاجره إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النّعل لها حاضره كلّ عدوّ يتّقى مقبلا ... وعقرب تخشى من الدّابره إنّ عدوّا كيده في استه ... لغير ذي كيد ولا نائره قال بعضهم: ثلاثة من عازّهم عادت عزّته ذلّة: السلطان. والوالد، والغريم. وفي الحديث المرفوع: «لصاحب الحقّ اليد واللسان» . المدائني قال: ساير بعض خلفاء بني أمية رجلا وهو يحادثه ثم قطع حديثه واصفرّ لونه، فقال له الرجل: ما هذا الذي رأيت منك؟ قال: رأيت غريما لي، قال الشاعر: [طويل] إذا ما أخذت الدّين بالدّين لم يكن ... قضاء ولكن كان غرما على غرم وقال آخر: [وافر] أخذت الدّين أدفع عن تلادي ... وأخذ الدّين أهلك للتّلاد كان لرجل من يحصب على رجل من باهلة دين، فلما حل دينه هرب الباهليّ وأنشأ يقول: [طويل] إذا حلّ دين اليحصبيّ فقل له: ... تزوّد بزاد واستعن بدليل

اختلاف الهمم والشهوات والأماني

سيصبح فوقي أقتم الرأس واقعا ... بقالي قلا أو من وراء دبيل «1» قال المحدّث بهذا: فحدّثني من رآه بقالي قلا أو بدبيل وهو مصلوب وقد وقعت عليه عقاب. وقف أبو فرعون الأعرابيّ على باب قوم يسألهم، فحلفوا له: ما عندهم شيء يعطونه، فقال: استقرضوا لنا شيئا، فقالوا: ما يقرضنا أحد شيئا، فقال أبو فرعون: ذلك لأنكم تأخذون ولا تعطون، أو قال ولا تقضون. أتى قوم عباديّا فقالوا: نحبّ أن تسلف فلانا ألف درهم وتؤخره بها سنة، قال: هاتان حاجتان وسأقضي لكم إحداهما، وإذا أنا فعلت فقد أنصفت، أنا أؤخرّه ما شاء. كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل له عليه دين. قد آن للحقّ الذي عندك أن يرجع إلى أهله، وتستغفر الله تعالى من حبسه. اختلاف الهمم والشهوات والأماني اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزّبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنّوا فقالوا: إبدأ أنت. فقال: ولاية العراق وتزوّج سكينة ابنة الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فنال ذلك وأصدق كلّ واحدة خمسمائة ألف درهم وجهّزها بمثلها. وتمنى عروة بن الزّبير الفقه وأن يحمل عنه الحديث فنال ذلك. وتمنّى عبد الملك الخلافة فنالها. وتمنى عبد الله بن عمر الجنة. قال قتيبة بن مسلم لحصين بن المنذر: ما السّرور؟ قال: امرأة حسناء،

ودار قوراء «1» ، وفرس مرتبط بالفناء. وقيل لضرار بن الحسين: ما السّرور؟ قال: لواء منشور، وجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير. وقيل لعبد الملك «2» بن صالح: ما السّرور؟ فقال: [مجزوء الكامل] كلّ الكرامة نلتها ... إلّا التحية بالسلام يريد أنه لم يسلّم عليه بالخلافة. وأخذه من قول الآخر: [مجزوء الكامل] من كلّ ما نال الفتى ... قد نلته إلّا التحيّه يريد الملك. قيل لعبد الملك بن الأهتم: ما السّرور؟ فقال: رفع الأولياء، وحطّ الأعداء، وطول البقاء، مع القدرة والنماء. وقال آخر: [خفيف] أطيب الطيّبات قتل الأعادي ... واختيال على متون الجياد وأياد حبوتهنّ كريما ... إنّ عند الكريم تزكو الأيادي قيل للفضل بن سهل: ما السّرور؟ فقال: توقيع جائز وأمر نافذ. وقال يزيد بن أسد يوما: أيّ شيء أسرّ للقلوب؟ فقالوا: رجل هوي زمانا ثم قدر، فقال: إن هذا السّرور. وقال آخر: رجل طلب الولد زمانا فلم يولد له ثم بشّر بغلام، فقال يزيد: أسرّ من هذا كلّه قفلة على غفلة. قيل لبعض الحكماء: تمنّ، فقال: محادثة الإخوان، وكفاف من عيش يسدّ خلّتي ويستر عورتي، والانتقال من ظلّ إلى ظل. قيل لآخر: ما بقي من ملاذّك؛ قال: مناقلة الإخوان الحديث على التّلاع العفر في الليالي القمر. قيل لامرىء القيس: ما

أطيب عيش الدنيا؟ فقال: بيضاء رعبوبة «1» ، بالطّيب مشبوبة، بالشحم مكروبة. وقيل لطرفة مثل ذلك فقال: مطعم شهيّ وملبس دفيّ، ومركب وطيّ. وقيل للأعشى مثل ذلك، فقال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية «2» . وقال طرفة «3» : [طويل] ولولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي فمنهنّ سبقي العاذلات بشربة ... كميت «4» متى ما تعل بالماء تزبد وتقصير يوم الدّجن والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الطّراف المعمّد وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا نبّهته المتورّد وقال أبو نواس: [مجزوء الكامل] قلت بالقفص ليحيى ... ونداماي نيام يا رضيعي ثدي أمّ ... ليس لي عنه فطام إنّما العيش سماع ... ومدام وندام فإذا فاتك هذا ... فعلى العيش السلام وقال سحيم «5» : [منسرح] تقول حدراء: ليس فيك سوى ال ... خمر معاب يعيبه أحد فقلت: أخطأت، بل معاقرتي ال ... خمر وبذلي فيها الذي أجد

هو السّناء الذي سمعت به ... لا سبد محتدي ولا لبد «1» ويحك لولا الخمور لم أحفل ال ... عيش ولا أن يضمّني لحد هي الحيا والحياة واللهو لا ... أنت ولا ثروة ولا ولد وقال أبو الهنديّ «2» : [متقارب] تركت الخمور لأربابها ... وأصبحت أشرب ماء قراحا وقد كنت حينا بها معجبا ... كحبّ الغلام الفتاة الرّداحا وما كان تركي لها أنّني ... يخاف نديمي عليّ افتضاحا ولكنّ قولي له مرحبا ... وأهلا مع السّهل وانعم صباحا وقال آخر: [خفيف] اسقني بالكبير إنّي كبير ... إنّما يشرب الصغير الصغير لا يغرّنك يا عبيد خشوعي ... تحت هذا الخشوع فسق كثير كان ابن عائشة ينشد: [رجز] لمّا رأيت الحظّ حظّ الجاهل ... ولم أر المغبون غير العاقل رحّلت عنسا من كروم بابل ... فبتّ من عقلي على مراحل وقال آخر: [طويل] شربنا من الدّاذيّ «3» حتى كأننا ... ملوك لهم برّ العراقين والبحر فلمّا انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولّى الغنى عنّا وعاودنا الفقر

قال بعضهم: العيش كله في كثرة المال وصحة البدن وخمول الذكر. وكان يقال: ليس السّرور للنفس بالجدة، «1» إنما سرور النفس بالأمل. قال يزيد بن معاوية: ثلاث تخلق العقل وفيها دليل على الضّعف: سرعة الجواب؛ وطول التمنّي، والاستغراب في الضحك. وكان يقال: المنى والحلم أخوان. وسئل ابن أبي بكرة: أيّ شيء أدوم إمتاعا؟ فقال: المنى. وقال الشاعر: [بسيط] إذا تمنّيت بتّ الليل مغتبطا ... إنّ المنى رأس أموال المفاليس وقال آخر: [سريع] ما فاتني منك فإنّ المنى ... تدنيه منّي فكأنّا معا وقال آخر: [سريع] وإنّ لوّا ليس شيئا سوى ... تسلية اللّوماء بالباطل وقال بعض الأعراب: [طويل] منى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى ... وإلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا أمانيّ من سعدى عذابا كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا وقال بشّار: [طويل] كررنا أحاديث الزمان الذي مضى ... فلذّ لنا محمودها وذميمها وقال المجنون «2» : [طويل] أيا حرجات الحيّ حيث تحمّلوا ... بذي سلم، لا جادكنّ ربيع «3»

وخيماتك اللّاتي بمنعرج اللّوى ... بلين بلى لم تبلهنّ ربوع فقدتك من نفس شعاع فطالما ... نهيتك عن هذا وأنت جميع فقرّبت لي غير القريب وأشرفت ... إليك ثنايا ما لهنّ طلوع وقال ابن الدّمينة «1» : [بسيط] يا ليتنا فردا وحش ندور معا ... نرعى المتان ونخفى في نواحيها «2» أو ليت كدر القطا حلّقن بي وبها ... دون السماء فعشنا في خوافيها أكثرت من ليتنا لو كان ينفعني ... ومن منى النفس لو تعطى أمانيها وقال كثيّر «3» : [طويل] فيا ليتنا، يا عزّ «4» ، من غير ريبة ... بعيران نرعى في الفلاة ونعزب نكون لذي مال كثير يضيعنا ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب وقال جران «5» العود: [طويل] ألا ليتنا طارت عقاب لنا معا ... لها سبب عند المجرّة أو وكر وقال مالك «6» بن أسماء: [طويل] ولما نزلنا منزلا طلّه النّدى ... أنيقا وبستانا من النّور حاليا أجدّ لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا

وأنشدنا الرّياشيّ: [طويل] نهاري نهار الناس حتّى إذا دجا ... لي الليل ملّتني هناك المضاجع أقضّي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهمّ بالليل جامع «1» وأنشد أبو زيد: [طويل] كأنّي، إذ أسعى لأظفر، طائر ... مع النجم في جوّ السماء يطير فتى متلهّى بالمنى في خلائه ... وهنّ وإن حسّنتهنّ غرورا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: زعم شيخ من بني القحيف قال: تمنّيت دارا فمكثت أربعة أشهر مغتما للدّرجة أين أضعها. قال الوليد بن عبد الملك لبديح «2» المغني: خذ بنا في التمنّي فوالله لأغلبنّك. قال: والله لا تغلبني أبدا. قال: بلى. قال بديح: فإني أتمنّى كفلين من العذاب، وأن يلعنني الله لعنا كثيرا فخذ ضعفي ذلك. قال: غلبتني، لعنك الله. قيل لمزبد: أيسرّك أنّ هذه الجنة لك؟ قال: وأضرب عشرين سوطا. قالوا: ولم تقول هذا؟ قال: لأنه لا يكون شيء إلا بشيء. الأصمعيّ عن مبشّر بن بشير أن رجلا كان يطلبه الحجّاج فمرّ بساباط «3» فيه كلب بين حبّين «4» يقطر عليه ماؤهما. فقال: يا ليتني مثل هذا الكلب، فما لبث ساعة أن مرّ بالكلب في عنقه حبل، فسأل عنه، فقالوا: جاء كتاب

الحجّاج يأمر فيه بقتل الكلاب. قال مدينيّ لكوفيّ: ما بلغ من حبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وددت أنّى وقيته ولم يكن وصل إليه يوم أحد ولا غيره شيء من المكروه إلّا كان بي دونه. قال المدينيّ: وددت أن أبا طالب كان أسلم فسرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّي كافر. تمنّى ابن أبي عتيق أن يهدى له مسلوخ يتخذ منه طعاما، فسمعته جارة له فظنّت أنه قد أمر أن يشترى له، فانتظرت إلى وقت الطعام ثم جاءت تدقّ الباب، وقالت: شممت ريح قدوركم فجئت لتطعموني، فقال ابن أبي عتيق: جيراني يشمّون ريح الأماني. وفي كتاب للهند أن ناسكا كان له عسل وسمن في جرّة، ففكّر يوما فقال: أبيع الجرّة بعشرة دراهم، وأشتري خمسة أعنز فأولدهنّ في كلّ سنة مرتين؛ ويبلغ النتّاج في سنين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأصيب بذرا فأزرع، وينمى المال في يدي؛ فأتّخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل ويولد لي ابن فأسميه كذا وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه وكانت في يده عصا فرفعها حاكيا للضرب، فأصابت الجرّة فانكسرت، وانصبّ العسل والسمن على رأسه. ابن الكلبيّ قال: كان رجل من ولد عمر بن الخطاب إذا كان مسرورا قال: [خفيف] ليت أيّامنا ببرقة «1» خاخ ... ولياليك، يا طويل، تعود

التواضع

وإذا كان مغتمّا قال: [طويل] ترى الشيء مما تتّقي فتخافه ... وما لا ترى مما يقي الله أكثر الأصمعيّ عن أبيه قال: قال زياد: أيّ الناس أنعم؟ قالوا: معاوية. قال: فأين ما يلقى من الناس! قالوا: فأنت. قال: فأين ما ألقى من الثغور والخراج! قالوا: فمن؟ قال: شابّ له سداد من عيش، وامرأة قد رضيها ورضيته، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإن عرفناه أفسدنا عليه دينه ودنياه. التواضع قال: حدّثني محمد بن خالد بن خداش قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة عن شيخ من أهل المدينة قال: قال رجاء بن حيوة: قام عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فأصلح من السّراج فقلت: يا أمير المؤمنين، لم لا أمرتني بذلك، أو دعوت له من يصلحه؟ فقال: قمت وأنا عمر وعدت وأنا عمر. قال: حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: كتب محمد بن كعب فانتسب وقال: القرظيّ، فقيل له: أو الأنصاريّ. فقال: أكره أن أمنّ على الله بما لم أفعل. قال: حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن يعقوب بن حمّاد المدني عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب إذا سافر لا يقوم في الظلّ، وكان يراحلنا رحالنا ويرحّل رحله وحده. وقال ذات يوم: [سريع] لا يأخذ الليل عليك بالهمّ ... إذ البسن له القميص واعتمّ «1»

وكن شريك نافع وأسلم ... ثم اخدم الأقوام حتى تخدم وروى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأصابته رعدة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» «1» . قال: حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: جلس الأحنف على باب دار، فمرّت به ساقية فوضعت قربتها وقالت: يا شيخ، احفظ قربتي حتى أعود ومضت، فأتاه الآذن وقال: انهض. فقال: إن معي وديعة، وأقام حتى جاءت. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن جرير بن حازم عن الزّبير بن الحارث عن أبي لبيد، قال: مرّ بنا زياد وهو أمير البصرة ومعه رجل أو رجلان وهو على بغلة قد طوّق الحبل في عنقها تحت اللجام. الأصمعيّ قال: قال يحيى بن خالد: الشريف إذا نقّر «2» تواضع والوضيع إذا نقّر تكبّر. الأصمعيّ قال: لا أراه أخذه إلا من كيس غيره. حدّثنا حسين بن حسن المروزيّ قال؛ حدّثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن أيّوب عن عمارة بن غزيّة عن عبد الله بن عروة بن الزّبير قال: إلى الله أشكو حمدي ما لا آتي، وذمّي ما لا أترك. قال: حدّثني أحمد بن الخليل عن أبي نعيم عن مندل عن حميد عن أنس قال: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا في غلمان فسلم علينا. وحدّثني أحمد بن الخليل عن عمر بن عامر عن شعبة عن جابر عن طارق التّيميّ عن جرير بن عبد الله البجليّ قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسوة فسلّم عليهن.

قال: حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: أخبرني معمر قال: قلت لجار لعطاء السّلميّ: من كان يخدم عطاء؟ قال: مخنّثون كانوا في الدار يستقون له وضوءه. فقلت: أيوضّئه مخنّثون! فقال: هو كان يظنهم خيرا منه. الأصمعيّ عن رجل عن البتّي قال: آذى ابن لمحمد بن واسع رجلا، فقال له محمد: أتؤذيه وأنا أبوك وإنما اشتريت أمّك بمائة درهم. قال عامر بن الظّرب العدوانيّ: يا معشر عدوان، إن الخير ألوف عروف عزوف، وإنه لن يفارق صاحبه حتى يفارقه، وإني لم أكن حكيما حتى صحبت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبّدت لكم. قال عروة بن الزبير: التواضع أحد مصايد الشرف. كان يقال: اسمان متضادّان بمعنى واحد: التواضع والشرف. وقال بزرجمهر: ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة. وقال الوليد: خدمة الرجل أخاه شرف. وقال عبد الله «1» بن طاهر: [وافر] أميل مع الذّمام على ابن عمّي ... وأحتمل الصديق على الشقيق وإن ألفيتني ملكا مطاعا ... فإنك واجدي عبد الصديق أفرّق بين معروفي ومنّي ... وأجمع بين مالي والحقوق وقال آخر: [طويل] وإني لعبد الضّيف من غير ذلّة ... وما فيّ إلّا تلك من شيمة العبد «2»

ويقال: كلّ نعمة محسود عليها إلّا التواضع. قال المسيح عليه السلام لأصحابه: إذا اتّخذكم الناس رؤوسا فكونوا أذنابا. اعتمّ هشام بن عبد الملك فقام الأبرش ليسوّي عمامته، فقال هشام: مه إنا لا نتخذ الإخوان خولا. كان عمر بن الخطاب يلقط النّوى ويأخذ النّكث من الطريق، فإذا مرّ بدار رمى بها فيها وقال: انتفعوا بهذا. قال يوسف بن أسباط: يجزي قليل الورع من كثير العلم، ويجزي قليل التواضع من كثير الاجتهاد. وقال بكر بن عبد الله: إذا رأيت أكبر منك فقل: سبقني بالإسلام والعمل الصالح فهو خير منّي، وإذا رأيت أصغر منك فقل: سبقته بالذنوب والمعاصي فهو خير منّي، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك فقل: نعمة أحدثوها، وإذا رأيت منهم تقصيرا فقل: بذنب أحدثته. قال عبد الملك ابن مروان: أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوّة. قال ابن السّمّاك لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك خير لك من شرفك. وقال عبد الملك بن مروان: ثلاثة من أحسن شيء: جود لغير ثواب، ونصب «1» لغير دنيا، وتواضع لغير ذلّ. قال إبراهيم النّخعيّ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد ويركب الحمار ردفا. الأعمش عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السّنخة «2» فيجيب. قال غيره: وكان لا يأكل متّكئا ويأكل بالحضيض، ويقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد» قال أوس ابن الحدثان: رأيت أبا هبيرة وهو أمير المدينة راكبا على حمار عري يقول: الطريق الطريق، قد جاء الأمير. قال حفص بن غياث: رأيت الأعمش خارجا إلى العيد على حمار

مقطوع الذنب قد سدل رجليه من جانب. المدائنيّ قال: بينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر إذ أحسّ من نفسه بريح خرجت منه، فقال: أيها الناس إني قد ميّلت بين أن أخافكم في الله وبين أن أخاف الله فيكم، فكان أن أخاف الله فيكم أحبّ إليّ، ألا وإني قد فسوت، وهأنذا أنزل لأعيد الوضوء. كان يقال: من لم يستح من الحلال قلّت كبرياؤه وخفّت موازينه. قال معاوية: ما منا أحد إلا فتّش عن جائفة أو منقّلة «1» خلا عمر بن الخطاب. المنقّلة الشجة التي يخرج منها العظام، والجائفة التي تبلغ جوف الدماغ. يحيى بن آدم عن محمد بن طلحة عن أبي حمزة قال: قال إبراهيم: لقد تكلّمت ولو وجدت بدّا ما تكلمت، وإنّ زمانا تكلمت فيه لزمان سوء. كان رجل من خثعم ردي فقال في نفسه: [كامل] لو كنت أصعد في التكرّم والعلا ... كتحدّري أصبحت سيّد خثعم فباد أهل بيته حتى ساد فقال: [كامل] خلت الدّيار فسدت غير مسوّد ... ومن الشّقاء تفرّدي بالسؤّدد أنشدني أبو حاتم عن الأصمعيّ في مثله: [طويل] إنّ بقوم سوّدوك لحاجة ... إلى سيّد لو يظفرون بسيّد قال يحيى بن خالد: لست ترى أحدا تكبّر في إمارته إلّا وهو يعلم أن الذي نال فوق قدره، ولست ترى أحدا يضع نفسه في إمارة إلّا وهو في نفسه أكثر مما نال في سلطانه. ومثله، قيل لعبيد الله بن بسّام: فلان غيرّته الإمارة، فقال: إذا ولي الرجل ولاية فرآها أكثر منه تغيّر، وإذا ولي ولاية يرى أنه أكثر منها لم يتغيّر. ويقال: التواضع مع السخافة والبخل أحمد من السخاء والأدب مع الكبر، فأعظم بنعمة عفّت من صاحبها بسيّئتين، وأقبح بسيئة حرمت

صاحبها حسنتين. وفي بعض كتب العجم: علامة الأحرار، أن يلقوا بما يحبون ويحرموا أحبّ إليهم من أن يلقوا بما يكرهون ويعطوا؛ فانظر إلى خلّة أفسدت مثل الجود فاجتنبها، وانظر إلى خلّة عفّت مثل البخل فالزمها. كان يقال: الشرف في التواضع، والعزّ في التّقوى، والغنى في القناعة. أبو الحسن قال: خطب سلمان إلى عمر فأجمع على تزويجه، فشقّ ذلك على عبد الله ابن عمر وشكاه إلى عمرو بن العاص فقال: أنا أردّه عنك، فقال: إن رددته بما يكره أغضبت أمير المؤمنين، قال: عليّ أن أردّه عنك راضيا، فأتى سلمان فضرب بين كتفيه بيده، ثم قال: هنيئا لك أبا عبد الله، هذا أمير المؤمنين يتواضع بتزويجك، فالتفت إليه مغضبا وقال، أبي يتواضع! والله لا أتزوّجها أبدا. وقال المرّار بن منقذ العدويّ «1» : [بسيط] يا حبّذا، حين تمسي الريح باردة ... وادي أشيّ وفتيان به هضم «2» مخدّمون، كرام في مجالسهم، ... وفي الرحال، إذا لاقيتهم، خدم وما أصاحب قوما ثم أذكرهم ... إلّا يزيدهمو حبّا إليّ هم «3» ابن المبارك عن ذرّ عن الشعبيّ قال: ركب زيد بن ثابت، فدنا عبد الله

باب الكبر والعجب

ابن عباس ليأخذ بركابه، فقال: لا تفعل يا ابن عمّ رسول الله، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فقال زيد: أرني يدك، فأخرج يده فقبّلها زيد، ثم قال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبيّنا عليه السلام. قال عبد الله بن مسعود: رأس التواضع أن تبدأ من لقيت بالسّلام، وأن ترضى بالدّون من المجلس. ابن أبي الزّناد عن أبيه أن العبّاس بن عبد المطّلب لم يمرّ قطّ بعمر ولا بعثمان وهما راكبان إلّا ترجّلا حتى يجوزهما إجلالا له أن يمرّ وهما راكبان وهو يمشي. كان سلمان يتعوّذ بالله من الشيطان والسلطان والعلج «1» إذا استعرب. المدائنيّ قال؛ سلّم رجل على حسّان بن أبي سنان فدعا له، فقيل: أتدعو لمثل هذا! فقال: إن مما يفضلني به أن يرى أنّى خير منه. قال عبد الله بن شدّاد: أربع من كنّ فيه فقد برىء من الكبر: من اعتقل العنز، وركب الحمار «2» ، ولبس الصوف، وأجاب دعوة الرجل الدّون. باب الكبر والعجب حدّثني إبراهيم بن مسلم قال: حدّثنا أبو السّكين قال: حدّثني عمّ أبي زحر بن حصن قال: قال رجل للحجّاج: أصلح الله الأمير، كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال: خير منزل لو كان الله بلّغني أربعة فتقرّبت بدمائهم إليه. قال: ومن هم؟ قال: مقاتل بن مسمع، ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلمّا عزل دخل مسجد البصرة فبسط الناس له أرديتهم فمشى عليها، وقال لرجل يماشيه: لمثل هذا فليعمل العاملون. وعبيد الله بن زياد بن ظبيان

التميميّ، حزب أهل البصرة أمر فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من أعراض المسجد: أكثر الله فينا أمثالك. فقال: لقد كلّفتم الله شططا. ومعبد ابن زرارة، وكان ذات يوم جالسا في طريق، فمرّت به امرأة فقالت: يا عبد الله، كيف الطريق إلى موضع كذا، فقال: لهدّ عبد الله! أنا لهدّ؛ أراد: كفى بك أنا، يريد الفخر. وأبو سماك الأسديّ، أضلّ راحلته فالتمسها الناس فلم يجدوها، فقال: والله لئن لم يردد عليّ راحلتي لا صلّيت له أبدا، فالتمسها الناس حتى وجدوها، فقالوا: قد ردّ الله عليك راحلتك فصلّ، فقال: إن يمينى كانت صرّى «1» . قال أبو حاتم عن الأصمعيّ عن كردين المسمعيّ. قيل لرجل متكبّر: هل مرّت بك أحمرة؟ فقال للسائل: تلك دوّاب لا يراها عمّك. قال: وقال كردين: رآني ابن ميادة الشاعر فأعجبته لما رأى من جلدي وبياني. فقال: ممن أنت؟ قلت: من بكر بن وائل، فقال: وفي أيّ الأرض يكون بكر بن وائل؟. قال أبو اليقظان: جلس رافع بن جبير بن مطعم في حلقة العلاء بن عبد الرحمن الخرقيّ وهو يقرىء الناس. فلما فرغ قال: أتدرون لم جلست إليكم؟ قالوا: لتسمع، قال: لا، ولكن أردت التّواضع لله بالجلوس إليكم. قال: ومرّ محمد بن المنذر بن الزّبير بن العوّام في حاجة له، فانقطع قبال «2» نعله، فنزع الأخرى بقدمه ومضى وتركهما ولم يعرّج عليهما. قال بعض الشعراء: [طويل] وأعرض عن ذي المال حتى يقال لي ... قد احدث هذا نخوة وتعظّما وما بي كبر «3» عن صديق ولا أخ ... ولكنّه فعلي إذا كنت معدما

قيل لبعضهم: ما الكبر. قال: حمق لم يدر صاحبه أين يضعه. قال معاوية بن أبي سفيان: قدم علقمة بن وائل الحضرميّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني رسول الله أن أنطلق به إلى منزل رجل من الأنصار أنزله عليه، وكان منزله في أقصى المدينة، فانطلقت معه وهو على ناقة له وأنا أمشي في ساعة حارّة وليس عليّ حذاء، فقلت: إحملني با عمّ من هذا الحرّ فإنه ليس عليّ حذاء، فقال: لست من أرادف الملوك، قلت: إنّي ابن أبي سفيان، قال: قد سمعت رسول الله عليه السلام يذكر ذلك، قال قلت: فألق إليّ نعلك، قال: لا تقبلها قدماك ولكن امش في ظلّ ناقتي فكفاك بذلك شرفا، وإن الظلّ لك لكثير. قال معاوية: فما مرّ بي مثل ذلك اليوم قطّ ثم أدرك سلطاني فلم أؤاخذه بل أجلسته معي على سريري هذا. قال ابن يسار «1» : [متقارب] لو لحظ الأرض لي والد ... تطأطأت الأرض من لحظته وقال آخر: [طويل] أتيه على جنّ البلاد وإنسها ... ولو لم أجد خلقا لتهت على نفسي أتيه فما أدري من التّيه من أنا ... سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي فإن زعموا أنّي من الأنس مثلهم ... فما لي عيب غير أني من الأنس وكان عند الرّستميّ قوم من التّجار فحضرت الصلاة فنهض ليصلّي فنهضوا فقال: ما لكم ولهذا وما أنتم منه! الصّلاة ركوع وسجود وخضوع، وإنما فرض الله هذا يريد به المتكبّرين والمتجبّرين والملوك والأعاظم مثلي ومثل فرعون ذي الأوتاد ونمروذ وأنو شروان. وكان يقال: من رضي عن نفسه

كثر الساخطون عليه. قال الحسن: ليس بين العبد وبين ألّا يكون فيه خير إلّا أن يرى أن فيه خيرا. رأى رجل رجلا يختال في مشيته ويتلفّت في أعطافه، فقال: جعلني الله مثلك في نفسك ولا جعلني مثلك في نفسي. قيل لعبد الله ابن المبارك: رجل قتل رجلا فقلت إني خير منه، فقال: ذنبك أشدّ من ذنبه. قال الأحنف: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبّر. ابن عليّة عن صالح بن رستم عن رجل عن مطرّف، قال: لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحبّ إليّ من أن أبيت قائما وأصبح معجبا. وقال هشام بن حسان. سيئة تسوءك خير من حسنة تعجبك. قال أبو حازم: إن الرجل ليعمل السيئة ما عمل حسنة قطّ أنفع له منها وإنّه ليعمل الحسنة ما عمل سيئّة قط أضرّ عليه منها. قال الشاعر: [طويل] أمّا ابن فروة يونس فكأنّه ... من كبره أير الحمار القائم ما الناس عندك غير نفسك وحدها ... والناس عندك ما خلاك بهائم قال المسعوديّ: [طويل] مسّا تراب الأرض منها خلقتما ... وفيها المعاد والمصير إلى الحشر ولا تعجبا أن ترجعا فتسلّما ... فما خشي الأقوام شرّا من الكبر ولو شئت أدلى فيكما غير واحد ... علانية أو قال عندي في ستر فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلحّ ويستشري الأصمعي قال: قال رجل: ما رأيت ذا كبر قطّ إلا تحوّل داؤه فيّ، يريد أني أتكبّر عليه. وقال آخر: ماتاه أحد قطّ عليّ مرتين، يريد إذا تاه مرة لم أعاوده. قال الشاعر: [بسيط] يا مظهر الكبر إعجابا بصورته ... أنظر خلاءك إن النّتن تثريب

لو فكر الناس فيما في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبّان ولا شيب هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة ... وهو بخمس من الأقذار مضروب؟ أنف يسيل وأذن ريحها سهك ... والعين مرمصة والثغر ملعوب «1» يا ابن التراب ومأكول التراب غدا ... أقصر فإنك مأكول ومشروب دفع أردشير الملك إلى رجل كان يقوم على رأسه كتابا، وقال له: إذا رأتني قد اشتدّ غضبي فادفعه إليّ، وفي الكتاب: أمسك فلست بإله إنما أنت جسد يوشك أن يأكل بعضه بعضا ويصير عن قريب للدّود والتراب. كان للسّنديّ والي الجسر غلام صغير قد أمره بأن يقوم إليه إذا ضرب الناس بالسّياط فيقول له: ويلك يا سنديّ، أذكر القصاص. كتب إبراهيم «2» بن العباس إلى محمد بن عبد الملك «3» : [طويل] أبا جعفر، عرّج على خلطائكا ... وأقصر قليلا عن مدى غلوائكا فإن كنت قد أعطيت في اليوم رفعة ... فإنّ رجائي في غد كرجائكا «4» قال لي بعض أصحابنا وأحسبه محمد بن عمر: سمعت رجلا ينشد: [متقارب] ألا ربّ ذي أجل قد حضر ... طويل التمنّي قليل الفكر إذا هزّ في المشي أعطافه ... تبيّنت في منكبيه البطر

قال: فغدوت عليه لأكتب تمام القصيدة فوجدته قد مات. المدائنيّ قال: رأيت فلانا مولى باهلة يطوف بين الصفا والمروة على بغلة ثم رأيته بعد ذلك راجلا في سفر، فقلت له: أراجل في هذا الموضع؟ قال: نعم، إني ركبت حيث يمشي الناس فكان حقّا على الله أن يرجلني حيث يركب الناس. وقال أبو نواس في جعفر بن يحيى البرمكي: [طويل] وأعظم زهوا من ذباب على خرء ... وأبخل من كلب عقور على عرق ولو جاء غير البخل من عند جعفر ... لما وضعوه النّاس إلا على حمق وقال آخر: [متقارب] ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب «1» قيل لرجل من بني عبد الدار: ألا تأتي الخليفة، قال: أخشى ألّا يحمل الجسر شرفي. وقيل له: البس شيئا فإن البرد شديد، فقال: حسبي يدفئني. قال أبو اليقظان: كان الحجّاج استعمل بلالا الضّبيّ على جيش وأغزاه قلاع فارس، وكان يقال لذلك الجيش: بيبي «2» ، سمّى بذلك لأنه فرض فرضا من أهل البصرة فكان أهلوهم وأمهاتهم يأتونهم يقولون: بيبي. وفي جيشه قال الشاعر: [طويل] إلى الله أشكو أنّني بتّ حارسا ... فقام بلاليّ فبال على رجلي فقلت لأصحابي اقطعوها فإنني ... كريم وإنّي لن أبلّغها رحلي

مدّ أعرابي يده في الموقف وقال: اللهمّ إن كنت ترى يدا أكرم منها فاقطعها. قال نوح: سمعت الحجّاج بن أرطاة يقول: قتلني حبّ الشرف. وقيل له: ما لك لا تحضر الجماعة؟ قال: أكره أن يزحمني البقّالون. كان جذيمة الأبرش- وهو الوضّاح سمّي بذلك لبرص كان به- لا ينادم أحدا ذهابا بنفسه، وقال: أنا أعظم من أن أنادم إلا الفرقدين «1» ، فكان يشرب كأسا ويصبّ لكلّ واحد منهما في الأرض كأسا، فلما أتاه مالك «2» وعقيل بابن أخته الذي استهوته الشياطين قال لهما: إحتكما، فقالا له: منادمتك، فنادماه أربعين سنة يحادثانه فيها ما أعادا عليه حديثا. وفيهما يقول متمّم «3» بن نويرة: [طويل] وكنّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدّهر حتى قيل لن نتصدّعا «4» وقال الهذليّ: [طويل] ألم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل «5» قيل لإياس بن معاوية: ما فيك عيب إلا أنك معجب، قال: أفأعجبكم؟ قالوا: نعم قال: فأنا أحقّ أن أعجب بما يكون منّي. ويقال: للعادة سلطان

باب مدح الرجل نفسه وغيره

على كلّ شيء، وما استنبط الصواب مثل المشاورة، ولا حصّنت النّعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضة بمثل الكبر. باب مدح الرجل نفسه وغيره قال الله عزّ وجلّ حكاية عن يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «1» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» . وقال للأنصار: «والله ما علمتكم إلّا تقلّون عند الطمع وتكثرون عند الفزع» . وذكر أعرابيّ قوما فقال: والله ما نالوا بأطراف أناملهم شيئا إلا وقد وطئناه بأخامص أقدامنا، وإنّ أقصى مناهم لأدنى فعالنا. ابن إدريس عن إسمعيل بن أبي خالد، قال: كنت أمشي مع الشّعبيّ وأبي سلمة، فسأل الشّعبيّ أبا سلمة: من أعلم أهل المدينة؟ فقال: الذي يمشي بينكما، يعني نفسه. وقال الشّعبيّ: ما رأيت مثلي، وما أشاء أن ألقى رجلا أعلم منّي بشيء إلا لقيته. قال معاوية لرجل: من سيّد قومك؟ قال: أنا. قال: لو كنت كذلك لم تقل. الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن قال: ذمّ الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السرّ. كان يقال: من أظهر عيب نفسه فقد زكّاها. الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله قال: إذا أثنيت على الرجل بما فيه في وجهه لم تزكّه. قال عمر بن الخطاب: المدح ذبح. ويقال المدح وافد الكبر. وقال عليّ بن الحسين: لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشرّ ما لا يعلم، ولا يصطحب اثنان على غير طاعة الله إلا أوشكا أن يفترقا على غير طاعة الله. قال وهب بن منبّه: إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا.

قول الممدوح عند المدحة

تأمن أن يقول فيك من الشرّ ما ليس فيك. ويقال في بعض كتب الله عزّ وجلّ: عجبا لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح! ولمن قيل فيه الشرّ وليس فيه كيف يغضب! وأعجب من ذلك من أحبّ نفسه على اليقين وأبغض الناس على الظّنون!. وكان يقال: لا يغلبنّ جهل غيرك بك علمك بنفسك. وقال أعرابيّ: كفى جهلا أن يمدح المادح بخلاف ما يعرف الممدوح من نفسه، وإنّي والله ما رأيت أعشق للمعروف «1» منه. قال ابن المقفع: إيّاك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حبّ المدح والتزكية وأن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثّلم يقتحمون عليك منها، وبابا يفتتحونك منه، وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منك لها. واعلم أنّ قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبّه المدح هو الذي يحمله على ردّه، فإن الرادّ له ممدوح والقابل له معيب. وقال البعيث «2» : [طويل] ولست بمفراح إذا الدّهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب ولا أتمنّى الشرّ والشّرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب «3» ويعتدّه قوم كثير تجارة ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي فإنّ مسيري في البلاد ومنزلي ... لبالمنزل الأقصى إذا لم أقرّب قول الممدوح عند المدحة حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعيّ قال: كان أبو بكر يقول عند المدحة: اللهمّ أنت أعلم بي منّي بنفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون.

قال: حدّثنا الرّياشي عن الأصمعيّ عن حمّاد بن سلمة قال: أثنى رجل على علّي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في وجهه، وكان تهمة، فقال عليّ: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك. قيل لأعرابي: ما أحسن الثناء عليك! فقال: بلاء الله عندي أحسن من وصف المادحين وإن أحسنوا، وذنوبي إلى الله أكثر من عيب الذامّين وإن أكثروا، فيا أسفا على ما فرّطت ويا سوءتا ممّا قدّمت. كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يقبل الثناء إلا من مكافىء. ومن أحسن ما قيل في مدح الرجل نفسه قول أعشى «1» بني ربيعة: [طويل] ما أنا في أهلي ولا في عشيرتي ... بمهتضم حقّي ولا قارع سنّي ولا مسلم مولاي عند جناية ... ولا خائف مولاي من سوء ما أجني وإنّ فؤادا بين جنبيّ عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني وفضّلني في الشّعر واللّب أنّني ... أقول على علم وأعلم ما أعني فأصبحت إن فضّلت مروان وابنه ... على الناس قد فضّلت خير أب وابن «2» وقال آخر: [طويل] إذا المرء لم يمدحه حسن فعاله ... فمادحه يهذي وإن كان مفصحا وقال آخر: [طويل] لعمر أبيك الخير إنّي لخادم ... لصحبي وإنّي إن ركبت لفارس

باب الحياء

وقال آخر: [طويل] ونحن ضياء الأرض ما لم نسر بها ... غضابا، وإن نغضب فنحن ظلامها وأنشد الحسن البصريّ قول الشاعر: [رجز] لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيله قال الحسن: ما مدح رجل هجي قومه. وقال أبو الهندام «1» : [وافر] يقولون الحديد أشندّ شيء ... وقد ثني الحديد وما ثنيت تخرّ الأرض إن نوديت باسمي ... وتنهدّ الجبال إذا كنيت ومدح النفس في الشّعر كثير، وهو فيه أسهل منه في الكلام المنثور. باب الحياء حدّثني أبو مسعود الدّارميّ، قال: حدّثني جدّي خراش عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء شعبة من الإيمان» . وروى ابن نمير عن الأحوص ابن حكيم، قال: حدّثني أبو عون المدنيّ قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلّة الحياء كفر» . وروى جرير بن حازم عن يعلى ابن حكيم عن رجل عن ابن عمر، قال: الحياء والإيمان مقرونان جميعا فإذا رفع أحدهما ارتفع الآخر. وكان يقال: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه. ذكر أعرابيّ رجلا فقال: لا تراه الدّهر إلا وكأنه لا غنى به عنك وإن كنت إليه أحوج، فإن أذنبت غفر وكأنه المذنب، وإن أسأت إليه أحسن وكأنه المسيء. وقالت ليلى «2» الأخيليّة:

[كامل] ومخرّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما «1» حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس «2» زعيما ونحوه قول الآخر إلّا أنه في التواضع: [بسيط] يبدو فيبدو ضعيفا من تواضعه ... ويكفهرّ فيلفى الأسود اللّحما وقال أبو دهبل الجمحيّ «3» : [كامل] إنّ البيوت معادن فنجاره ... ذهب وكلّ جدوده ضخم «4» متهلّل بنعم للّاء مجانب ... سيّان منه الوفر والعدم نزر الكلام من الحياء تخاله ... ضمنا وليس بجسمه سقم عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إنّ النساء بمثله عقم حدّثنا أبو الخطاب قال: حدّثنا المعتمر، قال: سمعت ليث بن أبي سليم يحدّث عن واصل بن حيّان عن أبي وائل عن ابن مسعود، قال: كان آخر ما حفظ من كلام النّبوة «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» . قال الشاعر «5» : [طويل] تخالهمو للحلم صمّا عن الخنا ... وخرسا عن الفحشاء عند التهاجر

باب العقل

ومرضى إذا لوقوا حياء وعفّة ... وعند الحفاظ كاللّيوث الخوادر وقال آخر: [طويل] عليه من التقوى رداء سكينة ... وللحقّ نور بين عينيه ساطع وقال الشّعبي: تعايش الناس زمانا بالدّين والتّقوى، ثم رفع ذلك فتعايشوا بالحياء والتذمّم، ثم رفع ذلك فما يتعايش الناس إلا بالرغبة والرهبة، وأظنه سيجيء ما هو أشدّ من هذا. باب العقل حدّثني إسحاق بن إبراهيم الشّهيدي، قال: حدّثنا الحارث بن النّعمان، قال: حدّثنا خليد بن دعلج عن معاوية بن قرّة يرفعه، قال: «إن الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم يوم القيامة على قدر عقولهم» . مهديّ بن غيلان ابن جرير قال: سمعت مطرّفا يقول: عقول الناس على قدر زمانهم. حدّثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: وجدت في حكمة داود: ينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه عن أربع ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها هو وإخوانه والذين ينصحون له في دينه ويصدقونه عن عيوبه، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويحمد فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات وفضل بلغة «1» واستجمام للقلوب. وينبغي للعاقل أن لا يرى إلا في إحدى ثلاث خصال: تزوّد لمعاد، أو مرمّة لمعاش، أو لذّة، في غير محرّم. وينبغي للعاقل أن يكون عارفا بزمانه، حافظا للسانه، مقبلا على شانه. قال: حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا هلال بن حقّ قال: قال عمرو بن العاص:

ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشرّ ولكنه الذي يعرف خير الشّرين، وليس الواصل الذي يصل من يصله ولكنه الذي يصل من قطعه. وقال زياد: ليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع ولكنه الذي يحتال للأمر ألّا يقع فيه. قال معاوية لعمرو: ما بلغ من دهائك يا عمرو؟ قال عمرو: لم أدخل في أمر قطّ فكرهته إلا خرجت منه. قال معاوية: لكنّي لم أدخل في أمر قطّ فأردت الخروج منه. وقرأت في كتاب للهند: الناس حازمان وعاجز، فأحد الحازمين الذي إذا نزل به البلاء لم ينظر به وتلقّاه بحيلته ورأيه حتى يخرج منه، وأحزم منه العارف بالأمر إذا أقبل فيدفعه قبل وقوعه، والعاجز في تردّد وتثنّ حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا. وقال أعرابيّ: لو صوّر العقل لأظلمت معه الشّمس، ولو صوّر الحمق لأضاء معه اللّيل. قال بعض الحكماء: ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من العقل وما عصي الله بشيء أحبّ إليه من السّتر. أبو روق عن الضحّاك في قول الله عز وجل: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا «1» قال: من كان عاقلا. ذكر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب فقال: كان أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع. حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن قريش بن أنس عن حبيب بن الشهيد قال: قال إياس: لست بخبّ والخبّ لا يخدعني ولا يخدع ابن سيرين ويخدع أبي ويخدع الحسن. قال غيره: وكان كثيرا ما ينشد: [متقارب] أبى لي البلاء وأنّي امرؤ ... إذا ما تثبّتّ لم أرتب وفي كتاب كليلة ودمنة: الأدب يذهب عن العاقل السّكر ويزيد الأحمق سكرا، كما أن النهار يزيد كلّ ذي بصر بصرا ويزيد الخفافيش سوء بصر.

وفيه: ذو العقل لا تبطره المنزلة والعزّ كالجبل لا يتزعزع وإن اشتدّت عليه الريح، والسّخيف يبطره أدنى منزلة كالحشيش يحرّكه أضعف ريح. وقال تأبّط «1» شرّا في هذا المعنى: [طويل] ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب ولا أتمنّى الشرّ والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب «2» وفي كتاب كليلة: رأس العقل التمييز بين الكائن والممتنع، وحسن العزاء عما لا يستطاع. وفيه: العاقل يقلّ الكلام ويبالغ في العمل ويعترف بزلّة عقله ويستقيلها كالرجل يعثر بالأرض وبها ينتعش. ويقال: كلّ شيء محتاج إلى العقل، والعقل محتاج إلى التّجارب. قال يحيى بن خالد: ثلاثة أشياء تدلّ على عقول الرجال: الكتاب، والرسول، والهدية. وكان يقال: دلّ على عقل الرجل اختياره، وما تمّ دين أحد حتى يتمّ عقله، وأفضل الجهاد جهاد الهوى. سئل أنو شروان: ما الذي لا تعلّم له، وما الذي لا تغيّر له، وما الذي لا مدفع له، وما الذي لا حيلة له. فقال: تعلّم العقل، وتغيّر العنصر، ودفع القدر، وحيلة الموت. وكان يقال: كتابك عقلك تضع عليه خاتمك. وقالوا: كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع رأيه. كان الحسن إذا أخبر عن رجل بصلاح قال: كيف عقله. وفي الحديث أن جبريل عليه السلام أتى آدم عليه السلام فقال له: إني أتيتك بثلاث فاختر واحدة، قال: وما هي يا جبريل؟ قال: العقل والحياء والدين. قال: قد اخترت العقل فخرج جبريل إلى الحياء والدين فقال: إرجعا فقد اختار العقل عليكما، فقالا: أمرنا أن

باب الحلم والغضب

كون مع العقل حيث كان. كان يقال: العقل يظهر بالمعاملة وشيم الرجال تظهر بالولاية. ويقال: العاقل يقي ما له بسلطانه، ونفسه بماله، ودينه بنفسه. قال الحسن: لو كان للناس جميعا عقول لخربت الدنيا. خيّر رجل فأبى أن يختار وقال: أنا بحظّي أوثق منّي بعقلي فأقرعوا بيننا. باب الحلم والغضب قال: حدّثني الزّياديّ قال: حدّثنا حمّاد بن زيد عن هشام عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من منزله قال: اللهم، إنّي قد تصدّقت بعرضي على عبادك» . حدّثنا زياد بن يحيى قال: حدّثنا بشر بن المفضّل عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألم تروا إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه» «1» . قال: حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثني عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني، فقال: لا تغضب، ثم أعاد عليه فقال: لا تغضب، ثم أعاد عليه فقال: لا تغضب. قال: حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثني عبد الله بن نافع عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصّرعة «2» إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» . قال: حدّثنا حسين بن الحسن المروزيّ، قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: حدّثنا حبيب بن حجر القيسيّ قال: كان يقال: ما أحسن الإيمان يزينه العلم وما أحسن العلم يزينه

العمل وما أحسن العمل يزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى مقدرة. وكان يقال: من حلم ساد ومن تفهّم ازداد. والعرب تقول: أحلم تسد. وقال: سمّي الله يحيى سيدا بالحلم. وقال عبد الملك بن صالح: الحلم يحيا بحياة السّؤدد. أغلظ رجل لمعاوية فحلم عنه، فقيل له: تحلم عن هذا! فقال: إنّي لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. شتم رجل الأحنف وألحّ عليه، فلما فرغ قال له: يا ابن أخي، هل لك في الغداء؟ فإنك منذ اليوم تحدو بجمل ثفال «1» . حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر المزنيّ قال: جاء رجل فشتم الأحنف فسكت عنه، وأعاد فسكت، فقال: والهفاه! ما يمنعه من أن يردّ عليّ إلّا هواني عليه. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: أخبرنا عبد الله بن صالح من آل حارثة بن لأم، قال: نزلت برجل من بني تغلب فأتاني بقرى فانفلت منّي فقلت: [كامل] والتّغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا فانقبضت فقال: كل أيها الرجل فإنما قلت كلمة مقولة. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ، قال: أسمع رجل الشعبيّ كلاما فقال له الشعبيّ: إن كنت صادقا فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك. ومرّ بقوم ينتقصونه فقال: [طويل] هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

واستطال رجل على أبي معاوية الأسود فقال: أستغفر الله من الذنب الذي سلّطت به عليّ. قال معاوية: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أوزن من حلمي. وقال معاوية لأبي جهم «1» العدويّ: أنا أكبر أم أنت يا أبا جهم؟ قال: لقد أكلت في عرس أمك هند، قال: عند أيّ أزواجها؟ قال: عند حفص بن المغيرة، قال: يا أبا جهم، إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيّ ويعاقب عقوبة الأسد، وإنّ قليله يغلب كثير الناس. وأبو الجهم هذا هو القائل في معاوية: [وافر] نميل على جوانبه كأنّا ... إذا ملنا نميل على أبينا نقلّبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرما ولينا سمع الأحنف رجلا ينازع رجلا في أمر فقال له الأحنف: لا أحسبك إلا ضعيفا فيما تحاول، فقال الرجل: ما على ظنّك خرجت من عند أهلي، فقال الأحنف لأمر ما قيل: إحذروا الجواب. جعل رجل جعلا لرجل على أن يقوم إلى عمرو بن العاص يسأله عن أمّه، فقام إليه وهو يخطب على منبر تنّيس، فقال له: أيها الرجل أخبرنا من أمّك، فقال: كانت امرأة من عنزة أصيبت بأطراف الرّماح فوقعت في سهم الفاكه بن المغيرة فاشتراها أبي فوقع عليها، إنطلق وخذ ما جعل لك على هذا. قال الشاعر: [بسيط] قل ما بدا لك من زور ومن كذب ... حلمي أصمّ وأذني غير صمّاء نظر معاوية إلى ابنه يزيد وهو يضرب غلاما له، فقال له: أتفسد أدبك بأدبه فلم ير ضاربا غلاما له بعد ذلك. قيل ليحيى بن خالد: إنك لا تؤدّب

غلمانك ولا تضربهم، قال: هم أمناؤنا على أنفسنا فإذا نحن أخفناهم فكيف نأمنهم. وكان يقال: «الحليم مطيّة الجهول» . وذكر أعرابيّ رجلا فقال: كان أحلم من فرخ طائر. وفي الإنجيل: كونوا حلماء كالحيات وبلهاء كالحمام. قال بعض الشعراء: [بسيط] إني لأعرض عن أشياء أسمعها ... حتى يقول رجال إنّ بي حمقا أخشى جواب سفيه لا حياء له ... فسل «1» ، وظنّ أناس أنه صدقا قال الأحنف: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات وربّ غيظ قد تجرّعته مخافة ما هو أشدّ منه. قال أكثم بن صيفيّ: العزّ والغلبة للحلم. وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: أوّل عوض الحليم من حلمه أنّ الناس أنصاره على الجهول. وقال المنصور: عقوبة الحلماء التّعريض، وعقوبة السّفهاء التصريح. قال: حدّثني سهيل قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: بلغني أن رجلا قال لآخر: والله لئن قلت واحدة لتسمعنّ عشرا، فقال له الآخر: لكنك إن قلت عشرا لم تسمع واحدة. قال: وبلغني أن رجلا شتم عمر بن ذرّ فقال له: يا هذا، لا تغرق في شتمنا ودع للصلح موضعا، فإنّي أمتّ مشاتمة الرجال صغيرا ولن أحييها كبيرا، وإني لا أكافىء من عصى الله فيّ بأكثر من أن أطيع الله فيه. وقال بعض المحدثين: [وافر] وإنّ الله ذو حلم ولكن ... بقدر الحلم ينتقم الزّنيم «2» لقد ولّت بدولتك الليالي ... وأنت معلق فيها ذميم

وزالت لم يعش فيها كريم ... ولا استغنى بثروتها عديم فبعدا لا انقضاء له وسحقا ... فغير مصابك الحدث العظيم المدائني قال: كان شبيب بن شيبة يقول: من سمع كلمة يكرهها فسكت عنها انقطع عنه ما يكره، فإن أجاب عنها سمع أكثر مما يكره، وكان يتمثّل بهذا البيت: [طويل] وتجزع نفس المرء من وقع شتمة ... ويشتم ألفا بعدها ثم يصبر قاتل الأحنف في بعض المواطن قتالا شديدا، فقال له رجل: يا أبا بحر، أين الحلم قال: عند الحبى. وقال مسلم «1» بن الوليد: [طويل] حبى لا يطير الجهل في جنباتها ... إذا هي حلّت لم يفت حلّها ذحل أغضب زيد بن جبلة الأحنف، فوثب إليه فأخذ بعمامته وتناصبا، فقيل للأحنف: أين الحلم اليوم! فقال: لو كان مثلي أو دوني لم أفعل هذا به. كان يقال: آفة الحلم الضّعف. وقال الجعديّ «2» : [طويل] ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا وقال إياس بن قتادة: [طويل] تعاقب أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلّم وأنشد الرّياشيّ: [رجز] إني امرؤ يذبّ عن حريمي ... حلمي وتركي اللّوم للّئيم والعلم أحمى من يد الظّلوم

وقال الأحنف: أصبت الحلم أنصر لي من الرجال. قال أبو اليقظان: كان المتشمّس بن معاوية عمّ الأحنف يفضل في حلمه على الأحنف قبل، فأمره أبو موسى أن يقسم خيلا في بني تميم فقسمها، فقال رجل من بني سعد: ما منعك أن تعطيني فرسا ووثب عليه فمرش «1» وجهه، فقام إليه قوم ليأخذوه، فقال: دعوني وإياه، إني لا أعان على واحد، ثم انطلق به إلى أبي موسى، فلما رآه أبو موسى سأله عما بوجهه فقال: دع هذا ولكن ابن عمّي ساخط فاحمله على فرس، ففعل. قيل للأحنف: ما أحلمك قال: تعلّمت الحلم من قيس «2» بن عاصم المنقري، بينا هو قاعد بفنائه محتب بكسائه، أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف وقيل له: هذا ابنك قتله ابن أخيك، فوالله ما حلّ حبوته حتى فرغ من كلامه، ثم التفت إلى ابن له في المجلس، فقال له: قم فأطلق عن ابن عملك ووار أخاك واحمل إلى أمه مائة من الإبل فإنها غريبة، ثم أنشأ يقول: [طويل] إني امرؤ لا شائن حسبي ... دنس يغيّره ولا أفن من منقر في بيت مكرمة ... والغصن ينبت حوله الغصن خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه، أعفّة لسن لا يفطنون لعيب جارهم ... وهموا لحفظ جواره فطن «3» ثم أقبل على القاتل فقال: قتلت قرابتك، وقطعت رحمك، وأقللت

عددك، لا يبعد الله غيرك. وفي قيس بن عاصم يقول عبدة بن الطّبيب «1» ، إسلاميّ: [طويل] عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحّما تحيّة من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلّما وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما وقال الأحنف: لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه. شتم رجل الأحنف وجعل يتبعه حتى بلغ حيّه، فقال الأحنف: يا هذا، إن كان بقي في نفسك شيء فهاته وانصرف لا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره. شتم رجل الحسن وأربى عليه، فقال له: أمّا أنت فما أبقيت شيئا، وما يعلم الله أكثر. قال بعض الشعراء: [بسيط] لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتّى يذلّوا- وإن عزّوا- لأقوام ويشتموا فترى الألوان مشرقة ... لا صفح ذلّ ولكن صفح أحلام قال: حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: لا يكاد يجتمع عشرة إلا وفيهم مقاتل وأكثر، ويجتمع ألف ليس فيهم حليم. ابن عيينة قال: كان عروة ابن الزّبير إذا أسرع إليه رجل بشتم أو قول سيّء لم يجبه وقال: إنّي أتركك رفعا لنفسي عنك، فجرى بينه وبين عليّ بن عبد الله كلام، فأسرع إليه، فقال له عليّ: خفّض عليك أيها الرجل فإنّي أتركك اليوم لما كنت تترك له الناس. قال: حدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال رجل: لمثل هذا اليوم كنت أدع الفحش على الرجال، فقال له خصمه: فإنّي أدع الفحش عليك

اليوم لما تركته أنت له قبل اليوم. وأغلظ عبد لسيده، فقال: إني أصبر لهذا الغلام على ما ترون لأروض نفسي بذلك، فإذا صبرت للمملوك على المكروه كانت لغير المملوك أصبر. كلّم عمر بن عبد العزيز رجلا من بني أميّة وقد ولدته نساء بني مرّة فعاب عليه جفاء رآه منه، فقال: قبّح الله شبها غلب عليك من بنيّ مرّة، وبلغ ذلك عقيل بن علّفة المرّيّ وهو بجنفاء من المدينة على أميال في بلد بني مرّة، فركب حتى قدم على عمر وهو بدير سمعان، فقال: هيه يا أمير المؤمنين! بلغني أنك غضبت على فتى من بني أبيك، فقلت: قبح الله شبها غلب عليك من بني مرّة، وإني أقول: قبّح الله ألأم طرفيه، فقال عمر: دع، ويحك، هذا وهات حاجتك. فقال: والله ما لي حاجة غير حاجته، وولّى راجعا من حيث جاء، فقال عمر: يا سبحان الله! من رأى مثل هذا الشيخ؟ جاء من جنفاء ليس إلّا يشتمنا ثم انصرف! فقال له رجل من بني مرّة: إنه والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم إلا نفسه، نحن والله ألأم طرفيه. المدائني قال: لما عزل الحجاج أمية بن عبد الله عن خراسان أمر رجلا من بني تميم فعابه بخراسان وشنّع عليه، فلما قفل لقيه التميميّ فقال: أصلح الله الأمير لا تلمني فإني كنت مأمورا، فقال: يا أخا بني تميم أو حدّثتك نفسك أنّي وجدت عليك؟ قال: قد ظننت ذاك، قال: إن لنفسك عندك قدرا!. كان يقال: طيّروا دماء الشباب في وجوههم. ويقال: الغضب غول الحلم. ويقال: القدرة تذهب الحفيظة. وكتب كسرى أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: إن كلمة منك تسفك دما، وإنّ كلمة أخرى منك تحقن دما، وإن سخطك سيوف مسلولة على من سخطت عليه، وإنّ رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه، وإنّ نفاذ أمرك مع ظهور كلامك، فاحترس في غضبك

من قولك أن يخطىء ومن لونك أن يتغيّر ومن جسدك أن يخفّ، وإن الملوك تعاقب قدرة وحزما، وتعفو تفضّلا وحلما، ولا ينبغي للقادر أن يستخفّ ولا للحليم أن يزهو، وإذا رضيت فأبلغ بمن رضيت عنه يحرص من سواه على رضاك، وإذا سخطت فضع من سخطت عليه يهرب من سواه من سخطك، وإذا عاقبت فانهك «1» لئلا يتعرّض لعقوبتك، واعلم أنك تجلّ عن الغضب وأن غضبك يصغر عن ملكك، فقدّر لسخطك من العقاب كما تقدّر لرضاك من الثواب. قال محمد «2» بن وهيب: [طويل] لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج فمن رام تقويمي فإني مقوّم ... ومن رام تعويجي فإني معوّج وما كنت أرضى الجهل خدنا «3» وصاحبا ... ولكنني أرضى به حين أخرج ألا ربّما ضاق الفضاء بأهله ... وأمكن من بين الأسنّة مخرج وإن قال بعض الناس فيه سماجة ... فقد صدقوا، والذلّ بالحرّ أسمج وقال ابن المقفع: لا ينبغي للملك أن يغضب لأن القدرة من وراء حاجته، ولا يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، ولا يبخل لأنه لا يخاف الفقر، ولا يحقد لأن خطره قد جلّ عن المجازاة. قال سويد بن الصامت «4» :

[كامل] إني إذا ما الأمر بيّن شكّه ... وبدت بصائره لمن يتأمّل أدع التي هي أرفق الحالات بي ... عند الحفيظة للتي هي أجمل أتى عمر بن عبد العزيز رجل كان واجدا عليه، فقال: لولا أني غضبان لعاقبتك، وكان إذا أراد أن يعاقب رجلا حبسه ثلاثة أيام، فإذا أراد بعد ذلك أن يعاقبه عاقبه، كراهة أن يعجل عليه في أوّل غضبه. وأسمعه رجل كلاما فقال له: أردت أن يستفزّني الشيطان بعزّ السلطان فأنال منك اليوم ما تناله منّي غدا، انصرف رحمك الله. قال لقمان الحكيم: ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل الإيمان: من إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. وقال لابنه: إن أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه، فإن أنصفك في غضبه وإلّا فدعه. خطب معاوية يوما فقال له رجل: كذبت، فنزل مغضبا فدخل منزله، ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماء، فصعد المنبر فقال: أيها الناس، إنّ الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء، ثم أخذ في الموضع الذي بلغه من خطبته. وفي الحديث المرفوع: «إذا غضب أحدكم فإن كان قائما فليقعد وإن كان قاعدا فليضطجع» . وقال الشاعر: [بسيط] احذر مغايظ أقوام ذوي أنف ... إن المغيظ جهول السيف مجنون وقال عمر بن عبد العزيز: متى أشفي غيظي؟ أحين أقدر فيقال لي: لو عفوت، أو حين أعجز فيقال لي: لو صبرت؟. والعرب تقول: «إن الرّثيئة مما

يفثأ الغضب» «1» والرثيئة اللبن الحامض يصبّ عليه الحليب، وهو أطيب اللبن. كان المنصور ولّى سلم بن قتيبة البصرة وولى مولى له كور البصرة والأبلّة «2» ، فورد كتاب مولاه أنّ سلما ضربه بالسّياط، فاستشاط المنصور وقال: عليّ تجرّأ سلم! لأجعلنّه نكالا، فقال ابن عيّاش- وكان جريئا عليه-: يا أمير المؤمنين، إن سلما لم يضرب مولاك بقوّته ولا قوّة أبيه، ولكنك قلّدته سيفك وأصعدته منبرك، فأراد مولاك أن يطأطىء منه ما رفعت ويفسد ما صنعت، فلم يحتمل ذلك. يا أمير المؤمنين، إنّ غضب العربيّ في رأسه، فإذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه بلسان أو يد، وإن غضب النّبطي في استه، فإذا غضب وخرىء «3» ذهب غضبه، فضحك أبو جعفر وقال: فعل الله بك يا منتوف وفعل، فكفّ عن سلم. كان يقال: إياك وعزّة الغضب فإنها مصيّرتك إلى ذلّ الاعتذار. قال بعض الشعراء: [بسيط] الناس بعدك قد خفّت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصير أبو بكر بن عيّاش عن الأعمش قال: كنت مع رجل فوقع في إبراهيم. فأتيت إبراهيم فأخبرته وقلت: والله لهممت به، فقال: لعلّ الذي غضبت له لو سمعه لم يقل شيئا.

باب العز والذل والهيبة

باب العزّ والذلّ والهيبة أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا عمر بن السّكن قال: قال سليمان ابن عبد الملك ليزيد بن المهلّب: فيمن العزّ بالبصرة؟ فقال: فينا وفي حلفائنا من ربيعة، فقال عمر بن عبد العزيز: ينبغي أن يكون العزّ فيمن تحولف عليه يا أمير المؤمنين. قالت قريبة: إذا كنت في غير قومك فلا تنس نصيبك من الذّلّة. قال رجل من قريش لشيخ منهم: علّمني الحلم، قال: هو، يا ابن أخي، الذلّ، أفتصبر عليه؟. وقال الأحنف: ما يسرّني بنصيبي من الذلّ حمر النّعم، فقال له رجل: أنت أعزّ العرب، فقال: إن الناس يرون الحلم ذلا، فقلت ما قلت على ما يعلمون. وقرأت في كتاب للهند أن الريح العاصف تحطم دوح الشجر ومشيّد البنيان ويسلم عليها ضعيف النبت للينه وتثّنيه. ويقال في المثل: «تطأطأ لها تخطئك» ، وقال زيد «1» بن عليّ بن الحسين حين خرج من عند هشام مغضبا: ما أحبّ أحد قطّ الحياة إلا ذلّ؛ وتمثّل: [سريع] شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد منخرق الخفّين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو «2» حداد قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد وقال المتلمس «3» :

[بسيط] إن الهوان، حمار البيت يعرفه ... والمرء ينكره والجسرة الأجد «1» ولا يقيم بدار الذلّ يعرفها ... إلا الحمار حمار الأهل والوتد وقال الزّبير «2» بن عبد المطلب: [بسيط] ولا أقيم بدار لا أشدّ بها ... صوتي إذا ما اعترتني سورة الغضب وقال آخر: [طويل] إذا كنت في قوم عدا لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيّب وقال العباس «3» بن مرداس: [طويل] أبلغ، أبا سلم، رسولا نصيحة ... فإن معشر جادوا بعرضك فابخل وإن بوّؤوك منزلا غير طائل ... غليظا فلا تنزل به وتحوّل ولا تطعمن ما يعلفونك إنّهم ... أتوك على قربانهم بالمثمّل أراك إذن قد صرت للقوم ناضحا ... يقال له بالغرب أدبر وأقبل وقال آخر: [متقارب] فأبلغ لديك بني مالك ... على نأيها وسراة الرّباب بأنّ امرأ أنتمو حوله ... تحفّون قبّته بالقباب يهين سراتكمو عامدا ... ويقتلكم مثل قتل الكلاب فلو كنتمو إبلا أملحت «4» ... لقد نزعت للمياه العذاب

ولكنكم غنم تصطفى ... ويترك سائرها للذئاب وقال آخر: [بسيط] تالله لولا انكسار الرمح قد علموا ... ما وجدوني ذليلا كالذي أجد قد يحطم الفحل قسرا بعد عزّته ... وقد يردّ على مكروهه الأسد وقال بعض العبديين: [متقارب] ألا أبلغا خلّتي راشدا ... وصنوي قديما إذا ما اتّصل بأنّ الدّقيق يهيج الجليل ... وأنّ العزيز إذا شاء ذلّ وأنّ الحزامة أن تصرفوا ... لحيّ سوانا صدور الأسل فإن كنت سيّدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل وقال البعيث «1» : [وافر] ولو ترمى بلؤم بني كليب ... نجوم الليل ما وضحت لساري ولو لبس النهار بنو كليب ... لدنّس لؤمهم وضح النهار وما يغدو عزيز بني كليب ... ليطلب حاجة إلا بجار جاور ابن سيابة مولى بني أسد قوما فأزعجوه، فقال لهم: لم تزعجوني من جواركم؟ فقالوا: أنت مريب، فقال: فمن أذلّ من مريب ولا أحسن جوارا. أبو عبيدة عن عوانة قال: إذا كنت من مضر ففاخر بكنانة وكاثر بتميم وألق بقيس، وإذا كنت من قحطان فكاثر بقضاعة وفاخر بمذحج وألق بكلب، وإذا كنت من ربيعة ففاخر بشيبان وألق بشيبان وكاثر بشيبان. كان يقال: من أراد عزّا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذلّ معصية الله إلى عز طاعة

الله. قيل لرجل من العرب: من السيد عندكم؟ قال: الذي إذا أقبل هبناه وإذا أدبر اغتبناه. ونحوه قول مسلم «1» : [طويل] وكم من معدّ في الضمير لي الأذى ... رآني فألقى الرّعب ما كان أضمرا وقال أيضا: [بسيط] يا أيها الشاتميّ عرضي مسارقة ... أعلن به، أنت إن أعلنته الرجل ومن أحسن ما قيل في الهيبة: [بسيط] في كفّه خيزران ريحها عبق ... من كفّ أروع في عرنينه شمم يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم «2» وقال ابن هرمة «3» في المنصور: [طويل] له لحظات عن حفافي «4» سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل فأمّ الذي آمنت امنة الرّدى ... وأمّ الذي أوعدت بالثّكل ثاكل كريم له وجهان وجه لدى الرّضا ... أسيل، ووجه في الكريهة باسل «5» وليس بمعطي العفو عن غير قدرة ... ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل وقال آخر في العفو بعد القدرة: [مجزوء الكامل] أسد على أعدائه ... ما إن يلين ولا يهون فإذا تمكّن منهم ... فهناك أحلم ما يكون

باب المروءة

وقال آخر «1» في مالك بن أنس: [كامل] يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان هدي التّقّي وعزّ سلطان التّقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان وقال آخر «2» : [كامل] وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكس «3» الأبصار وقال أبو نواس: [سريع] أضمر في القلب عتابا له ... فإن بدا أنسيت من هيبته المدائني قال: قال ابن شبرمة القاضي لابنه: يا بنيّ، لا تمكّن الناس من نفسك، فإنّ أجرأ الناس على السباع أكثرهم لها معاينة. قيل لأعرابيّ: كيف تقول: استخذأت أو استخذيت؟ قال: لا أقوله، قيل: ولم؟ قال: لأن العرب لا تستخذي. وكان يقال: إصفح أو اذبح. باب المروءة في الحديث المرفوع: قام رجل من مجاشع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست أفضل قومي؟ فقال: «إن كان لك عقل فلك فضل، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك تقى فلك

دين» وفيه أيضا: «إن الله يحبّ معالي الأمور ويكره سفسافها» . روى كثير بن هشام عن الحكم بن هشام الثّقفيّ قال: سمعت عبد الملك بن عمير يقول: إن من مروءة الرجل جلوسه ببابه. قال الحسن: لا دين إلا بمروءة. قيل لابن هبيرة: ما المروءة؟ قال: إصلاح المال، والرّزانة في المجلس، والغداء والعشاء بالفناء. قال إبراهيم: ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق ولا سرعة المشي. ويقال: سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن. قال معاوية: المروءة ترك اللذة. وقال لعمرو: ما ألذّ الأشياء؟ فقال عمرو: مر أحداث قريش أن يقوموا، فلما قاموا قال: إسقاط المروءة. قال جعفر بن محمد عن أبيه: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورّوا لذوي المروءات عن عثراتهم، فوالذي نفسي بيده إنّ أحدهم ليعثر وإنّ يده لفي يد الله. كان عروة ابن الزبير يقول لولده: يا بنيّ، إلعبوا، فإنّ المروءة لا تكون إلا بعد اللعب. قيل للأحنف. ما المروءة؟ فقال: العفّة والحرفة. قال محمد بن عمران التّيمي: ما شيء حملا عليّ من المروءة، قيل: وأيّ شيء المروءة؟ قال: لا تعمل شيئا في السرّ تستحي منه في العلانية. وقال زهير في نحو هذا: [كامل] السّتر دون الفاحشات، ولا ... يلقاك دون الخير من ستر وقال آخر: [طويل] فسرّي كإعلاني، وتلك خليقتي ... وظلمة ليلي مثل ضوء نهاريا قال عمر بن الخطاب: تعلّموا العربية فإنها تزيد في المروءة، وتعلّموا النسب فربّ رحم مجهولة قد وصلت بنسبها. قال الأصمعيّ: ثلاثة تحكم

باب اللباس

لهم بالمروءة حتى يعرفوا: رجل رأيته راكبا، أو سمعته يعرب، أو شممت منه رائحة طيبة. وثلاثة تحكم عليهم بالدناءة حتى يعرفوا: رجل شممت منه رائحة نبيذ في محفل، أو سمعته يتكلم في مصر عربيّ بالفارسية، أو رأيته على ظهر الطريق ينازع في القدر. قال ميمون ابن ميمون: أوّل المروءة طلاقة الوجه، والثاني التودّد، والثالث قضاء الحوائج. وقال: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه. قال مسلمة بن عبد الملك: مروءتان ظاهرتان: الرّياسة والفصاحة. وقال عمر بن الخطاب: المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة. قالوا: كان الرجل إذا أراد أن يشين جاره طلب الحاجة إلى غيره. وقال بعض الشعراء: [بسيط] نوم الغداة وشرب بالعشيّات ... موكّلان بتهديم المروءات باب اللباس حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس، قال: كل ما شئت والبس ما شئت إذا ما أخطأك شيئان: سرف أو مخيلة. قال: حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثنا المنهال بن حمّاد عن خارجة ابن مصعب عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه، قال: كانت ملحفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يلبس في أهله مورّسة «1» حتى إنها لتردع «2» على جلده. حدّثني أبو الخطّاب قال: حدّثنا أبو عتّاب قال: حدّثنا المختار بن نافع عن إبراهيم التيميّ عن أبيه عن عليّ قال: رأيت لعمر بن الخطاب، رضي الله

عنه، إزارا فيه إحدى وعشرون رقعة من أدم ورقعة من ثيابنا. حدّثنا الزّياديّ قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعيد عن الجريريّ عن ابن عباس، قال: رأيت عمر بن الخطاب يطوف بالبيت وإزاره مرقوع بأدم. نظر معاوية إلى النخّار العذريّ الناسب في عباءة فازدراه في عباءة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلّمك وإنما يكلّمك من فيها. قال سحيم «1» بن وثيل: [طويل] ألا ليس زين الرّحل قطعا يمزّق ... ولكنّ زين الرّحل يا ميّ راكبه وقال آخر [منسرح] إيّاك أن تزدري الرجال فما ... يدريك ماذا يكنّه الصّدف نفس الجواد العتيق باقية ... يوما وإن مسّ جسمه العجف والحرّ حرّ وإن ألمّ به الض ... رّ وفيه العفاف والأنف وقال آخر من المحدثين: [بسيط] تعجّبت درّ من شيبي فقلت لها ... لا تعجبي قد يلوح الفجر في السّدف «2» وزادها عجبا أن رحت في سمل «3» ... وما درت درّ أنّ الدّرّ في الصّدف حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ أنّ ابن عون اشترى برنسا من عمر بن أنس بن سيرين فمرّ على معاذة العدويّة، فقال: أمثلك يلبس هذا! قال: فذكرت ذلك لابن سيرين فقال: ألا أخبرتها أن تميما الداريّ اشترى حلّة بألف يصلّي فيها؟ حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثنا مصعب بن عبد الله من ولد عبد

الله بن الزبير عن أبيه قال: أخبرني إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا علي بن عاصم قال: أخبرنا أبو إسحاق الشّيباني قال: رأيت محمد بن الحنفية واقفا بعرفات على برذون «1» عليه مطرف خزّ أصفر. حدّثني الريّاشيّ عن الأصمعيّ عن حفص بن الفرافصة قال: أدركت وجوه أهل البصرة، شقيق بن ثور فمن دونه وانيتهم في بيوتهم الجفان والعسسة فإذا قعدوا بأفنيتهم لبسوا الأكسية وإذا أتوا السلطان ركبوا ولبسوا المطارف. قدم حمّاد بن أبي سليمان البصرة فجاءه فرقد السّبخيّ وعليه ثياب صوف فقال حماد: ضع نصرانيتك هذه عنك، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم فيخرج علينا وعليه معصفرة ونحن نرى أن الميتة قد حلّت له. وروى زيد بن الحباب عن الثّوريّ عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان أن ابن عباس كان يرتدي رداء بألف. قال معمر: رأيت قميص أيوب يكاد يمسّ الأرض، فكلمته في ذلك فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في تذييل القميص وإنها اليوم في تشميره. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: أخبرني بعض أصحابنا قال: جاء سيّار أبو الحكم إلى مالك بن دينار في ثياب اشتهرها «2» مالك، فقال له مالك: ما هذه الشّهرة؟ فقال له سيّار: أتضعني عندك أم ترفعني؟ قال: بل تضعك، قال: أراك تنهاني عن التواضع، فنزل مالك فقعد بين يديه.

قال أبو يعقوب الخريميّ: أراد جعفر بن يحيى يوما حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعيّ فدفع إلى خادم كيسا فيه ألف دينار وقال: إني سأنزل في رجعتي إلى الأصمعيّ وسيحدّثني ويضحكني فإذا ضحكت فضع الكيس بين يديه، فلما رجع ودخل عليه رأى حبّا «1» مكسور الرأس وجرّة مكسورة العنق وقصعة مشعّبة وجفنة أعشارا ورآه على مصلّى بال وعليه برّكان «2» أجرد فغمز غلامه ألّا يضع الكيس بين يديه ولم يدع الأصمعيّ شيئا مما يضحك الثّكلان إلا أورده عليه فما تبسّم وخرج، فقال لرجل كان يسايره: «من استرعى الذئب ظلم» ، ومن زرع سبخة «3» حصد الفقر، فإني والله لو علمت أن هذا يكتم المعروف بالفعل لما حفلت نشره له باللسان، وأين يقع مدح اللسان من مدح آثار الغنى؛ لأن اللسان قد يكذب والحال لا تكذب. ولله درّ نصيب «4» حيث يقول: [طويل] فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «5» ثم قال له: أعلمت أن ناووس أبرويز أمدح لأبرويز من شعر زهير لآل سنان. قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: رأيت مشيخة بالمدينة في زيّ الفتيان لهم الغدائر وعليهم المورّد والمعصفر «6» وفي أيديهم المخاصر وبها أثر الحنّاء، ودين أحدهم أبعد من الثريّا إذا أريد دينه. ذمّ ابن التوءم رجلا فقال: رأيته

مشحّم النعل درن الجورب «1» مغضّن الخفّ دقيق الخزامة. أنشد ابن الأعرابي «2» : [طويل] فإن كنت قد أعطيت خزّا تجرّه ... تبدّلته من فروة وإهاب فلا تأيسن أن تملك الناس إنّني ... أرى أمّة قد أدبرت لذهاب قال أيوب: يقول الثوب: أطوني أجمّلك. هشام بن عروة عن أبيه قال: يقول المال: أرني صاحبي أعمّر، ويقول الثوب: أكرمني داخلا أكرمك خارجا. ويقال: لكل شيء راحة، فراحة البيت كنسه، وراحة الثوب طيّه. قيل لأعرابيّ: إنك تكثر لبس العمامة، فقال: إن عظما فيه السّمع والبصر لجدير أن يكنّ من الحرّ والقرّ. ويقال: حبى العرب حيطانها، وعمائمها تيجانها. وذكروا العمامة عند أبي الأسود الدؤلي فقال: جنّة في الحرب، ومكنّة في الحرّ والقرّ، وزيادة في القامة، وهي بعد عادة من عادات العرب. وقال طلحة ابن عبيد الله: الدّهن يذهب البؤس، والكسوة تظهر الغنى، والإحسان إلى الخادم مما يكبت الله به العدوّ. أبو حاتم قال: حدّثنا العتبيّ قال: سمعت أعرابيا يقول: لقد رأيت بالبصرة برودا كأنما نصحت «3» بأنوار الربيع وهي تروع، واللّابسوها أروع. قال يحيى بن خالد للعتّابيّ في لباسه- وكان لا يبالي ما لبس-: يا أبا عليّ، أخزى الله امرأ رضي أن يرفعه هيئتاه من جماله وماله، فإنما ذلك حظّ الأدنياء من الرجال والنساء، لا والله حتى يرفعه أكبراه: همّته ونفسه، وأصغراه: قلبه

ولسانه. وفي الحديث المرفوع: «إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن يرى أثرها عليه» . قال حبيب بن أبي ثابت: أن تعزّ في خصفة خير لك من أن تذلّ في مطرف «1» ، وما اقترضت من أحد خير من أن أقترض من نفسي. قال عمرو «2» بن معد يكرب: [مجزوء الكامل] ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن ردّيت «3» بردا إن الجمال معادن ... وموارث أورثن مجدا وقال ابن هرمة «4» [منسرح] لو كان حولي بنو أميّة لم ... ينطق رجال إذا هموا نطقوا إن جلسوا لم تضق مجالسهم ... أو ركبوا ضاق عنهم الأفق كم فيهمو من أخ وذي ثقة ... عن منكبيه القميص منخرق تجهّمن «5» عوّذ النساء إذا ... ما احمرّ تحت القوانس «6» الحدق فريحهم عند ذاك أندى من ال ... مسك وفيهم لخابط ورق قال: حدّثني أحمد بن إسماعيل قال: رأيت على أبي سعد المخزوميّ الشاعر كردوانيا مصبوغا بسواد، فقلت له: يا أبا سعد، هذا خزّ؟ فقال: لا، ولكنه دعيّ على دعيّ، وكان أبو سعد دعيّا في بني مخزوم، وفيه يقول أبو البرق:

[مجزوء الهزج] لما تاه على الناس ... شريف يا أبا سعد فته ما شئت إذ كنت ... بلا أصل ولا جدّ وإذا حظّك في النسب ... ة بين الحرّ والعبد وإذ قاذفك المفح ... ش في أمن من الحدّ قال عمر بن عبد العزيز لمؤدّبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدّبني؟ قال: أحسن طاعة، قال: فأطعني الآن كما كنت أطيعك، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن ثوبك حتى يبدو عقباك. وكيع قال: راح الأعمش إلى الجمعة وقد قلب فروة جلدها على جلده وصوفها إلى خارج، وعلى كتفيه منديل الخوان «1» مكان الرّداء. قال: حدّثني أبو الخطاب عن أبي داود عن قيس عن أبي حصين قال: رأيت الشعبي يقضي على جلد. قال الأحنف: استجيدوا النّعال فإنها خلاخيل الرجال. أبو الحسن المدائنيّ قال: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم في مدرعة صوف فقال له قتيبة: ما يدعوك إلى لبس هذه؟ فسكت، فقال له قتيبة: أكلّمك فلا تجيبني! قال: أكره أن أقول زهدا فأزكي نفسي، أو أقول فقرا فأشكو ربّي. قال ابن السّمّاك لأصحاب الصوف: والله إن كان لباسكم هذا موافقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطّلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لها فقد هلكتم. وقال بعض المحدثين يعتذر من أطمار عليه: [طويل] فما أنا إلا السّيف يأكل جفنه «2» ... له حلية من نفسه وهو عاطل

التختم

التّختّم قال: حدّثني أبو الخطاب زياد بن يحيى الحسّانيّ قال: حدّثنا عبد الله ابن ميمون قال: حدّثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم تختّم في يمينه. قال: حدّثنا أبو الخطّاب قال: حدّثنا سهل بن حماد قال: حدّثنا أبو خلدة خالد بن دينار قال: سألت أبا العالية ما كان نقش خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: «صدق الله» قال: فألحق الخلفاء بعد «صدق الله» «محمد رسول الله» . قال أبو الخطاب: حدّثنا أبو عتّاب «1» قال: حدّثنا سالم بن عبد الأعلى عن نافع عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر الشيء أوثق في خاتمة خيطا. حدّثني أبو الخطاب: قال حدّثنا عبد الله بن ميمون قال: حدّثنا جعفر ابن محمد عن أبيه أنّ خاتم عليّ كان من ورق نقشه «نعم القادر الله» كان على خاتم عليّ بن الحسين بن عليّ «علمت فاعمل» . كان نقش خاتم صالح بن عبيد الله بن عليّ «تبارك من فخري بأني له عبد» ونقش خاتم شريح «الخاتم خير من الظن» . ونقش خاتم طاهر «وضع الخدّ للحقّ عزّ» . وكان لأبي نواس خاتمان: أحدهما عقيق مربع وعليه: [طويل] تعاظمني ذنبي فلما عدلته ... بعفوك ربّي كان عفوك أعظما والآخر حديث صينيّ مكتوب عليه: «الحسن يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا» فأوصى عند موته أن يقلع الفصّ ويغسل ويجعل في فمه.

باب الطيب

باب الطّيب قال: حدّثنا محمد بن عبيد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النّهديّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه» . حدّثنا القطعيّ قال: حدّثنا بشر عن ابن لهيعة قال: حدّثني بكير عن نافع أن ابن عمر كان يستجمر بعود غير مطرّى ويجعل معه الكافور ويقول: هكذا كان رسول الله يستجمر. قال: حدّثنا زياد بن يحيى قال: حدّثنا زياد بن الربيع عن يونس قال: قال أبو قلابة: كان ابن مسعود إذا خرج إلى المسجد عرف جيرانه ذاك بطيب ريحه. حدّثني القومسيّ قال: حدّثنا أبو نعيم عن شقيق عن الأعمش قال: قال أبو الضّحى: رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي كان رأس مال. قال: حدّثني أبو الخطاب قال: حدّثنا أبو قتيبة وأبو داود عن الحسن بن زيد الهاشميّ عن أبيه قال: رأيت ابن عباس حين أحرم والغالية على صلعته كأنها «1» الرّب. قال: حدّثني أحمد بن الخليل عن عمرو بن عون عن خالد عن عمرو ابن يحيى عن محمد بن يحيى بن حبّان قال: كان عبد الله بن زيد يتخلّق بالخلوق «2» ثم يجلس في المجلس.

وحدّثني أيضا عن سويد بن سعيد عن ضمام بن إسماعيل عن عمار بن غزيّة قال: لما أولم عمر بن عبد العزيز بفاطمة بنت عبد الملك أسرج في مسارجه تلك الليلة الغالية. قال: وحدّثني عن أبي عبد الرحمن المقرىء عن سعيد بن أبي أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج قال: قال أبو هريرة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تردّوا الطّيب فإنه طيّب الريح خفيف المحمل» . قال: حدّثني زيد بن أخزم قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا أنس بن مالك قال: حدّثنا عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص «1» الطّيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. إبراهيم بن الحكم عن أبيه قال: قال عكرمة: كان ابن عباس يطلي جسده بالمسك فإذا مرّ بالطريق قال الناس: أمرّ ابن عباس أم مرّ المسك؟. قال المسيّب «2» بن علس يمدح بني شيبان: [متقارب] تبيت الملوك على عتبها ... وشيبان إن غضبت تعتب وكالشّهد بالراح أحلامهم ... وأحلامهم منهما أعذب وكالمسك ترب «3» مقاماتهم ... وترب قبورهمو أطيب أخذه العباس «4» بن الأحنف فقال: [متقارب] وأنت إذا ما وطئت الترا ... ب صار ترابك للناس طيبا

باب المجالس والجلساء والمحادثة

وقال كعب «1» بن زهير يمدح قوما: [بسيط] ألمطعمون إذا ما أزمة أزمت ... والطّيبون ثيابا كلّما عرقوا وأنشد ابن الأعرابي «2» : [طويل] خود «3» يكون بها القليل تمسّه ... من طيبها عبقا يطيب ويكثر شكر الكرامة جلدها فصفا لها ... إنّ القبيحة جلدها لا يشكر حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: ذكر لأيوب هؤلاء الذين يتقشّفون فقال: ما علمت أن القذر من الدّين. باب المجالس والجلساء والمحادثة قال: حدّثني أحمد بن الخليل عن حبّان بن موسى قال: حدّثنا ابن المبارك عن معمر عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل أحقّ بمجلسه إذا قام لحاجة ثم رجع» . وحدّثني أيضا عن سعيد بن سليمان عن إسحاق بن يحيى عن المسيّب ابن رافع عن عبد الله بن يزيد الخطميّ عن عبد الله بن الغسيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء أحقّ بصدر بيته وصدر دابتّه وصدر فراشه، وأحقّ أن يؤمّ في بيته» . قال: حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ألقي لعليّ وسادة فجلس عليها وقال: إنه لا يأبى الكرامة إلا حمار. وفي الحديث المرفوع عن أبي موسى قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح مثل الدّاريّ «1» إن لم يحذك «2» من طيبه علقك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل الكير «3» إن لم يحرقك بشرار ناره علقك من نتنه» . قال أبو إدريس الخولانيّ: المساجد مجالس الكرام. قال الأحنف: أطيب المجالس ما سافر فيه البصر واتّدع «4» فيه البدن، فأخذه عليّ ابن الجهم «5» فقال: [متقارب] صحون «6» تسافر فيها العيون ... وتحسر عن بعد أقطارها وقال المهلب: خير المجالس ما بعد فيه مدى الطّرف وكثرت فيه فائدة الجليس. قيل للأوسيّة: أيّ منظر أحسن؟ فقالت: قصور بيض في حدائق خضر. ونحوه قول عديّ «7» بن زيد: [خفيف] كدمى العاج في المحاريب أو كال ... بيض في الرّوض زهره مستنير حدّثنا سهل بن محمد قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: كان الأحنف إذا أتاه إنسان أوسع له، فإن لم يجد موضعا تحرّك ليريه أنه يوسع له. وكان آخر لا يوسع لأحد ويقول «ثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل» «8» .

قال ابن عباس: لجليسي عليّ ثلاثّ: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا تحدّث. وقال الأحنف: ما جلست مجلسا فخفت أن أقام عنه لغيري. وكان يقول: لأن أدعي من بعيد فأجيب أحبّ إليّ من أن أقصى من قريب. كان القعقاع بن شور إذا جالسه رجل فعرفه بالقصد إليه جعل له نصيبا في ماله، وأعانه على عدوّه، وشفع له في حاجته، وغدا إليه بعد المجالسة شاكرا. وقسم معاوية يوما آنية فضة ودفع إلى القعقاع حظّه منها، فآثر به القعقاع أقرب القوم إليه فقال: [وافر] وكنت جليس قعقاع «1» بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس ضحوك السنّ إن نطقوا بخير ... وعند الشرّ مطراق عبوس كان يقال: إياك وصدر المجلس فإنه مجلس قلعة. قيل لمحمد بن واسع: ألا تجلس متّكئا! فقال: تلك جلسة الآمنين. قال عمرو بن العاص: ثلاثة لا أملّهم: جليسي ما فهم عنّي، وثوبي ما سترني، ودابتي ما حملت رجلي. وزاد آخر: وامرأتي ما أحسنت عشرتي. ذكر رجل عبد الملك بن مروان فقال: إنه لآخذ بأربع، تارك لأربع: آخذ بأحسن الحديث إذا حدّث، وبأحسن الاستماع إذا حدّث، وبأحسن البشر إذا لقي، وبأيسر المؤونة إذا خولف. وكان تاركا لمحادثة اللئيم، ومنازعة اللّجوج، ومماراة السفيه، ومصاحبة المأبون. كان رجل من الأشراف إذا أتاه رجل عند انقضاء مجلسه قال: إنك

جلست إلينا على حين قيام منّا أفتأذن؟. قال الفضيل بن عياض للثوريّ: دلّني على من أجلس إليه، قال: تلك حالة لا توجد. قال مطرّف: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه، يريد: لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليك بوجهه. وقال سعيد بن سلم: إذا لم تكن المحدّث أو المحدّث فانهض. ونحوه قول ابن مسعود: حدّث القوم ما حدّجوك «1» بأبصارهم. قال زياد مولى عيّاش بن أبي ربيعة: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فلما رآني زحل عن مجلسه وقال: إذا دخل عليك رجل لا ترى لك عليه فضلا فلا تأخذ عليه شرف المجلس. وقال ابن عباس: ما أحد أكرم عليّ من جليسي، إن الذباب يقع عليه فيشقّ عليّ. ذكر الشّعبيّ قوما فقال: ما رأيت مثلهم أشدّ تناوبا في مجلس ولا أحسن فهما عن محدّث. قال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره «2» ووطئنا الحسناء ولبسنا اللين وأكلنا الطّيب حتى أجمنا «3» ، ما أنا اليوم إلى شيء أحوج منّي إلى جليس أضع عنّي مؤونة التحفّظ فيما بيني وبينه. روى ابن أبي ليلى عن حبيب بن أبي ثابت عن يحيى بن جعدة قال: قال عمر بن الخطاب: لولا أن أسير في سبيل الله أو أضع جبهتي في التراب لله أو أجالس قوما يلتقطون طيّب الحديث كما يلتقط طيّب الثمر لأحببت أن أكون قد لحقت بالله. قال عامر بن عبد قيس: ما اسى على شيء من العراق إلا على ظمأ الهواجر، وتجاوب المؤذنين، وإخوان لي منهم الأسود بن كلثوم. وقال آخر ما آسى من البصرة إلا على ثلاث: قصب السّكر، وليل الخرير، وحديث ابن

باب الثقلاء

أبي بكرة. وقال المغيرة: كان يجالس إبراهيم صيرفيّ ورجل متّهم برأي الخوارج، فكان يقول لنا: لا تذكروا الرّبا إذا حضر هذا، ولا الأهواء إذا حضر هذا. وكان إمام مسجد الحرام لا يقول: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ إلا عند ختم القرآن في شهر رمضان من أجل اللهبيّين. كان يقال: محادثة الرجال تلقح ألبابها. وكان بعض الملوك في مسير له ليلا فقال لمن حوله: إنه لا يقطع سرى الليل بمثل الحديث فيه فلينفض كل رجل منكم بناجوشا «1» منه. قال معاوية لعمرو بن العاص: ما بقي من لذة الدنيا تلذّه؟ قال: محادثة أهل العلم، وخبر صالح يأتيني من ضيعتي. قال أبو مسهر: ما حدّثت رجلا قطّ إلا حدّثني إصغاؤه: أفهم أم ضيّع. باب الثّقلاء قال إبراهيم: إذا علم الثقيل أنه ثقيل فليس بثقيل. كان يقال: من خاف أن يثقل لم يثقل. قيل لأيوب: ما لك لا تكتب عن طاووس؟ فقال: أتيته فوجدته بين ثقيلين: ليث بن أبي سليم، وعبد الكريم بن أبي أميّة. قال الحسن: قد ذكر الله الثقل في كتابه قال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا «2» . كان أبو هريرة إذا استثقل رجلا قال: اللهمّ اغفر له وأرحنا منه. وكتب رجل على خاتمه: أبرمت فقم، فكان إذا جلس إليه ثقيل ناوله إياه. قال بختيشوع «3» للمأمون: لا تجالس الثقلاء فإنا نجد في الطب: مجالسة الثقيل حمّى الروح. قال بعض الشعراء:

[مجزوء الكامل] إنّي أجالس معشرا ... نوكى «1» أخفّهمو ثقيل قوم إذا جالستهم ... صدئت بقربهم العقول لا يفهموني قولهم ... ويدقّ عنهم ما أقول فهمو كثير بي وأع ... لم أنّني بهمو قليل أخبرنا النّوشجانيّ عن عمر بن سعيد بن القرشي قال: حدّثني صدقة بن خالد قال: أتيت الكوفة فجلست إلى أبي حنيفة، فقام رجل من جلسائه فقال: [متقارب] فما الفيل تحمله ميّتا ... بأثقل من بعض جلّاسنا «2» فما حملت عنه شيئا. مرّ رجل بصديق له ومعه رجل ثقيل، فقال له: كيف حالك؟ فقال: [منسرح] وقائل كيف أنت؟ قلت له ... هذا لبسي فما ترى حالي؟ وقال بشّار «3» : [خفيف] ربّما يثقل الجليس وإن كا ... ن خفيفا في كفّة الميزان ولقد قلت حين وتّد في الأر ... ض ثقيل أربى على ثهلان «4»

كيف لم تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا سفيان! «1» ! وقال آخر: [منسرح] هل غربة الدار منك منجيتي ... إذا اغتدت بي قلائص ذمل «2» وما أظنّ الفلاة منجيتي ... منك ولا الفلك أيها الرجل ولو ركبت البراق «3» أدركني ... منك على نأي دارك الثّقل هل لك فيما ملكت نافلة ... تأخذه جملة وترتحل وقال أعرابيّ: [وافر] كأني عند حمزة في مقامي ... ألا حيّيت عنّا يا مدينا بلينا عنده حتى كأنّا ... ألا هبّي بصحنك فاصبحينا «4» وقال آخر: [متقارب] «5» ثقيل يطالعنا من أمم ... إذا سرّه رغم أنفي ألم لطلعته وخرة في الحشا ... كوخز المشارط في المحتجم أقول له إذ بدا طالعا ... ولا حملته إلينا قدم فقدت خيالك لا من عمى ... وأذني كلامك لا من صمم قال سهيل بن عبد العزيز: من ثقل عليك بنفسه وغمّك في سؤاله فألزمه

باب البناء والمنازل

أذنا صمّاء وعينا عمياء. وكتب بعض الكتّاب في فصل من كتابه: ما آمن نزغ مستميح حرمته، وطالب حاجة وددته، ومثابر ثقيل حجبته، أو منبسط ناب قبضته، ومقبل بعنانه عليّ لويت عنه، فقد فعلت هذا بمستحقين وبتعذر الحال، فتثبت رحمك الله، ولا تطع كلّ حلّاف مهين. وقال بعض المحدثين للخليل: [متقارب] خرجنا نريد غزاة لنا ... وفينا زياد أبو صعصعه فستّة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعه باب البناء والمنازل الهيثم بن عديّ عن مجالد عن الشّعبيّ قال: قال السائب بن الأقرع لرجل من العجم: أخبرني عن مكان من القرية لا يخرب حتى أستقطع ذلك الموضع، فقال له: ما بين الماء إلى دار الإمارة، فاختطّ لثقيف ذلك الموضع، قال الهيثم بن عديّ: فبتّ عندهم فإذا ليلهم بمنزلة النهار. وقال قائل في الدار: ليكن أوّل ما تبتاع وآخر ما تبيع. وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر حين اختط داره ليبنيها: هي قميصك فإن شئت فوسّعه، وإن شئت فضيّقه. وأتاه وهو يبني داره التي ببغداد بقرب الدور، وإذا هم يبيضون حيطانها فقال: إعلم أنك تغطّي الذهب بالفضة، فقال جعفر: ليس في كلّ مكان يكون الذهب أنفع من الفضة، ولكن هل ترى عيبا؟ قال: نعم، مخالطتها دور السّوقة. دخل ابن التوءم على بعض البصريين وهو يبني دارا كثيرة الذرع،

واسعة الصحن، رفيعة السّمك، عظيمة الأبواب، فقال: إعلم أنك قد ألزمت نفسك مؤنة لا تطاق، وعيالا لا يحتمل مثلهم، ولا بد لك من الخدم والسّتور والفرش على حسب ما ابتليت به نفسك، وإن لم تفعل هجّنت رأيك. وقرأت في كتاب الآيين أنه كان يستقبل بفراش الملك ومجلسه المشرق، أو يستقبل بهما مهبّ الصّبا، وذلك أن ناحية المشرق وناحية الصّبا يوصفان بالعلوّ والارتفاع، وناحية الدّبور وناحية المغرب يوصفان بالفضيلة والانخفاض، وكان يستقبل بصدور إيوانات الملك المشرق أو مهبّ الدبور، ويستقبل بصدور الخلاء وما فيه من المقاعد مهبّ الصّبا، لأنه يقال: إنّ استقبال الصبّا في موضع الخلاء آمن من سحر السّحرة ومن ريح الجنّة. وكان عمر يقول: على كلّ خائن أمينان: الماء والطين. ومرّ ببناء يبنى بآجرّ وجصّ فقال: لمن هذا؟ قالوا: لفلان، فقال: تأبى الدراهم إلا أن تخرج أعناقها، وشاطره ماله. أبو الحسن قال: لما بلغ عمر أنّ سعدا وأصحابه قد بنوا بالمدر «1» قال: قد كنت أكره لكم البنيان بالمدر، فأمّا إذ قد فعلتم فعرّضوا الحيطان، وأطيلوا السّمك، وقاربوا بين الخشب. وقيل ليزيد بن المهلب: لم لا تبني بالبصرة دارا؟ فقال: لأني لا أدخلها إلا أميرا أو أسيرا، فإن كنت أسيرا فالسجن داري، وإن كنت أميرا فدار الإمارة داري. وقال: الصواب أن تتّخذ الدّور بين الماء والسّوق، وأن تكون الدور شرقية والبساتين غربية. قال بعض الشعراء: [سريع] بنو عمير مجدهم دارهم ... وكلّ قوم لهمو مجد

وقال آخر لأبي محمد اليزيدي: [سريع] قومي خيار غير ما أنّهم ... صولتهم منهم على جارهم ليس لهم مجد سوى مسجد ... به تعدّوا فوق أطوارهم لو هدم المسجد لم يعرفوا ... يوما ولم يسمع بأخبارهم وقال رجل من خزاعة: [مجزوء الكامل] فخر المسيّب بالمناره ... ومناره برحا «1» عماره فإذا تفاخرت القبا ... ئل من تميم أو فزاره حفلت عليك شيوخ ضب ... بة بالمسيّب والمناره مرّ رجل من الخوارج بدار تبنى فقال: من هذا الذي يقيم كفيلا؟. وقالوا: كلّ مال لا يخرج بخروجك ولا يرجع برجوعك ولا ينتقل في الوجوه بانتقالك فهو كفيل. وقالت الحكماء من الروم: أصلح مواضع البنيان أن يكون على تلّ أو كبس «2» وثيق ليكون مطلّا، وأحقّ ما جعلت إليه أبواب المنازل وأفنيتها وكواؤها المشرق واستقبال الصّبا، فإن ذلك أصلح للأبدان لسرعة طلوع الشمس وضوئها عليهم. ومن حسن التشبيه في البناء قول عليّ بن الجهم: [متقارب] صحون تسافر فيها العيون ... وتحسر عن بعد أقطارها وقبّة ملك كأن النجو ... م تصغي إليها بأسرارها

وفوّارة ثأرها في السماء ... فليست تقصّر عن ثارها إذا أوقدت نارها بالعراق ... أضاء الحجاز سنا نارها تردّ على المزن ما أنزلت ... على الأرض من صوب أقطارها لها شرفات كأن الربيع ... كساها الرياض بأنوارها فهنّ كمصطحبات خرجن ... لفصح النصارى وإفطارها فمن بين عاقصة شعرها ... ومصلحة عقد زنّارها وقال الوليد بن كعب «1» : [طويل] بكت دار بشر شجوها أن تبدّلت ... هلال بن عياد ببشر بن غالب وما هي إلا مثل عرس «2» تنقّلت ... على رغمها من هاشم في محارب وقال آخر: [وافر] ألم تر حوشبا أمسى يبنّي ... قصورا نفعها لبني بقيله يؤمّل أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله «3» كان ملك بن أسماء يهوى جارية من بني أسد وكانت تنزل خصّا «4» وكانت دار مالك مبنية بآجرّ فقال: [كامل] يا ليت لي خصّا يجاورها ... بدلا بداري في بني أسد الخصّ فيه تقرّ أعيننا ... خير من الآجرّ والكمد حدّثنا محمد بن خالد بن خداش عن أبيه قال: حدّثنا إسحاق بن

باب المزاح والرخص فيه

الفرات قاضي مصر عن الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير قال: قال سليمان بن داود لابنه: يا بنيّ، إنّ من ضيق العيش شراء الخبز من السوق، والنقلة من منزل إلى منزل. بلغني أن رجلا من الزّهاد مرّ في زورق، فلما نظر إلى بناء المأمون وأبوابه صاح: واعمراه! فسمعه المأمون فدعا به فقال: ما قلت؟ قال: رأيت بناء الأكاسرة فقلت ما سمعت، قال المأمون: أرأيت لو تحوّلت من هذه المدينة إلى إيوان كسرى بالمدائن هل كان لك أن تعيب نزولي هناك؟ قال: لا، قال: فأراك إنما عبت إسرافي في النفقة، قال: نعم، قال: فلو وهبت قيمة هذا البناء لرجل أكنّت تعيب ذلك؟ قال: لا، قال: فلو بنى هذا الرجل بما كنت أهب له بناء أكنت تصيح به كما صحت بي؟ قال: لا، قال: فأراك إنما قصدتني لخاصّتي في نفسي لا لعلة هي في غيري، ثم قال له: هذا البناء ضرب من مكايدنا نبنيه ونتّخذ الجيوش ونعدّ السلاح والكراع وما بنا إلى أكثره حاجة، فلا تعودنّ إليّ فتمسّك عقوبتي، فإن الحفيظة ربما صرفت ذا الرأي إلى هواه، فاستعمله. باب المزاح والرّخص فيه قال: حدّثنا محمد بن عبيد عن معاوية عن أبي إسحاق عن هشام بن عروة عن أبي سلمة قال: أخبرتني عائشة أنها سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسبقته في سفر آخر فسبقها وقال: «هذه بتلك» . حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع قال: كان أبو هريرة على المدينة خليفة لمروان، فربما ركب حمارا قد شدّ عليه برذعة «1» وفي رأسه حلية فيلقى

الرجل فيقول: الطريق، قد جاء الأمير، وربما دعاني إلى عشائه بالليل فيقول: دع العراق «1» للأمير، فأنظر فإذا هو ثريد «2» لزيت؟؟؟. قال: حدّثني محمد بن مرزوق عن زاجر بن الصّلت الطاحى عن سعيد ابن عثمان قال: قال الشعبيّ لخياط مرّ به: عندنا حبّ مكسور تخيطه؟ فقال الخياط: إن كان عندك خيوط من ريح. حدّثني بهذا الإسناد قال: دخل رجل على الشعبيّ ومعه في البيت امرأة فقال: أيكم الشعبيّ؟ قال الشعبيّ: هذه. وسئل الشعبيّ عن لحم الشيطان فقال: نحن نرضى منه بالكفاف، قال: فما تقول في الذّبّان؟ قال: إن اشتهيته فكله. قال خالد بن صفوان للفرزدق وكان يمازحه: ما أنت يا أبا فراس بالذي لمّا رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن، قال: ولا أنت يا أبا صفوان بالذي قالت فيه الفتاة «3» لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ «4» . حماد بن زيد عن غالب أنه سأل ابن سيرين عن هشام بن حسان قال: توفّي البارحة، أما شعرت؟ فجزع واسترجع، فلما رأى ابن سيرين جزعه قرأ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «5»

مرّ بالشعبيّ حمّال على ظهر دنّ خلّ، فلما رآه وضع الدنّ وقال: ما كان اسم امرأة إبليس؟ فقال الشعبيّ: ذاك نكاح ما شهدناه. حدّثني محمد بن عبد العزيز عن الأصبهانيّ عن يحيى بن أبي زائدة عن الأعمش قال: عادني إبراهيم فنظر إلى منزلي فقال: أمّا أنت فتعرف في منزلك أنك لست من أهل القريتين عظيم. وروى وكيع عن ربيعة عن الزهريّ عن وهب بن عبد بن زمعة قال: قالت أم سلمة: خرج أبو بكر في تجارة ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكانا شهدا بدرا «1» ، وكان نعيمان على الزاد فقال له سويبط وكان مزّاحا: أطعمني، فقال: حتى يجيء أبو بكر، فقال: أما والله لأغيظنّك، فمرّوا بقوم فقال لهم سويبط: أتشترون مني عبدا لي؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم: إني حرّ، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا عليّ عبدي، فقالوا: بل نشتريه منك بعشر قلائص» ، ثم جاءوا فوضعوا في عنقه حبلا وعمامة واشتروه، فقال نعيمان: إن هذا يستهزىء بكم وإني حرّ، قالوا: قد أخبرنا بخبرك، وانطلقوا به، وجاء أبو بكر فأخبروه فأتبعهم فردّ

عليهم القلائص وأخذه، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه فضحك هو وأصحابه منهما حولا. حدّثني محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبيّ عن أبي عوانة عن قتادة أنّ عديّ بن أرطاة تزوّج بالكوفة وشرط لها دارها فأراد أن ينقلها فخاصمته إلى شريح، فقال: أين أنت أصلحك الله؟ قال: بينك وبين الحائط، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: بعيد سحيق، قال: إني تزوّجت امرأة، قال: بالرّفاء والبنين، قال: وولدت غلاما، قال: فليهنئك الفارس، قال: وشرطت لها دراها، قال: الشرط أملك، قال: إقض بيننا، قال: قد قضيت، قال: بمه؟ قال شريح: «حدّث امرأة حديثين فإن أبت فاربع «1» » قال لي المحدّث: فأربعة، وإنما هو فأربع أي كفّ وأمسك. وتقدّم رجلان إلى شريح في خصومة فأقرّ أحدهما بما يدّعي الآخر عليه وهو لا يعلم، فقضى عليه شريح، فقال الرجل: أتقضي عليّ بغير بينة؟ فقال: قد شهد عندي ثقة، قال: ومن هو؟ قال: ابن أخت خالتك. كان ابن سيرين ينشد: [بسيط] نبّئت أنّ فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطّول وقال أيضا: [طويل] لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت رمح استه لاستقرّت وكان ابن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه.

المدائني قال: قال عمرو بن العاص لمعاوية: إني رأيت البارحة في المنام كأن القيامة قد قامت ووضعت الموازين وأحضر الناس للحساب، فنظرت إليك وأنت واقف قد ألجمك العرق، وبين يديك صحف كأمثال الجبال، فقال معاوية: فهل رأيت شيئا من دنانير مصر؟. كان معن بن زائدة ظنينا في دينه، فبعث إلى ابن عيّاش المنتوف بألف دينار، وكتب إليه: قد بعثت إليك بألف دينار اشتريت بها دينك، فاقبض المال واكتب إليّ بالتسليم، فكتب إليه: قد قبضت الدنانير وبعتك بها ديني خلا التوحيد لما عرفت من زهدك فيه. قال الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء من ربيعة! فقال يزيد: أجل، ولكن منابرهم الجذوع. قال بلال بن أبي بردة لابن أبي علقمة: إنما دعوتك لأسخر منك، فقال له ابن أبي علقمة: لئن قلت ذاك لقد حكّم المسلمون رجلين سخر أحدهما من الآخر. كان يقال: السّباب مزاح النّوكى «1» . وقال الشاعر: [طويل] أخو الجدّ إن جاددت أرضاك جدّه ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله وقال مسعر «2» بن كدام لابنه: [كامل] ولقد حبوتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أب عليك شفيق

أمّا المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق ولقد بلوتهما فلم أحمدهما ... لمحاور جار ولا لرفيق وقال الكميت «1» : [طويل] وفي الناس أقذاع ملاهيج بالخنا ... متى يبلغ الجدّ الحفيظة يلعبوا ومما يقارب هذا قول بعض المحدثين: [طويل] أراني سأبدي عند أوّل سكرة ... هواي لفضل في خفاء وفي ستر فإن رضيت كان الرضا سبب الهوى ... وإن غضبت حمّلت ذنبي على السّكر وقال الراعي «2» - في نحو هذا يصف نساء-: [طويل] يناجيننا بالطّرف دون حديثنا ... ويقضين حاجات وهنّ موازح عرض بعض الأمراء على رجل عملين ليختار أحدهما فيوليه، فقال: «كلاهما وتمرا» ، فقال: أعندي تمزح! لا وليت لي عملا. وقال عمر بن الخطاب: من كثر ضحكه قلّت هيبته. وقال عليّ: إذا ضحك العالم ضحكة مجّ من العلم مجّة. وقال أكثم: «المزاحة تذهب المهابة» . الهيثم عن عوانة الكلبيّ قال: دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان وهو مغموم وعنده رجل كان يحسده الأخطل ويقارضه، فقال الأخطل: يا أمير المؤمنين، عهدي بأبي هذا الفتى وهو سيدنا معشر بني جشم، وشيخنا الذي نصدر عن رأيه، فاهتزّ لها الفتى وقال: يا أمير المؤمنين، هو أعلم بنا قديما

وحديثا، قال الأخطل: إن أباه أمرنا ذات يوم وقد نوّرت الرياض أن نخرج إلى روضة في ظهر بيوت الحيّ فنتحدّث فيها، فخرجنا وانبسطنا لعبا، وخرج الرجل منا بالبكرة الكوماء «1» وبالخروف والجدي، وقام الفتيان فاجتزروا واشتووا ودارت السّقاة علينا، فبينما نحن كذلك رعف أبوه فما تركنا في الحيّ روثة حمار إلا نشقناه إياها فلم يرقأ «2» دمه، فقال لنا شيخ: شدّوا خصي الشيخ عصبا، ففعلنا ذلك فرقأ الدم، فوالله ما دارت الكأس إلا دورة حتى أتانا الصريخ عن أمّه أنها قد رعفت، فبادرنا إليها، فوالله ما درينا ما نعصب منها حتى خرجت نفسها، وعبد الملك يفحص برجليه ضحكا، والفتى يقول: كذب والله، فقال عبد الملك: ألم تزعم أنه أعلم الناس بقديمكم وحديثكم!. حدّثني أحمد بن عمرو وقال: كان رجل من الفقهاء في طريق مكة، فرأى، وهو محرم، يربوعا «3» فرماه بعصا كانت في يده فقتله، فقال الجمّال: ألست محرما؟ قال: بلى وما كانت بي إلى رميه حاجة إلا أن تعلم أنّ إحرامي لا يمنعني من ضربك. قال: وكان الأعمش يقول: من تمام الحج ضرب الجمّال. المدائنيّ قال: كان نعيمان رجلا من الأنصار وشهد بدرا وجلده النبيّ عليه السلام في الخمر أربع مرات، فمرّ نعيمان بمخرمة بن نوفل وقد كفّ بصره فقال: ألا رجل يقودني حتى أبول، فأخذ بيده نعيمان، فلما بلغ مؤخّر المسجد قال: هاهنا

فبل، فبال فصيح به، فقال: من قادني؟ قيل: نعيمان، قال: لله عليّ أن أضربه بعصاي هذه، فبلغ نعيمان فأتاه فقال له: هل لك في نعيمان؟ فقال: نعم، فقال: قم، فقام معه فأتى به عثمان بن عفان وهو يصلي، فقال: دونك الرجل، فجمع يديه في العصا ثم ضربه، فقال الناس: أمير المؤمنين، فقال: من قادني؟ قالوا: نعيمان، قال: لا أعود إلى نعيمان أبدا. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن ابن أبي الزّناد عن أبيه قال: قلت لخارجة بن زيد: هل كان الغناء يقام في العرسات؟ «1» قال: قد كان ذاك، ولا يحضر بما يحضر اليوم من السّفه، دعانا أخوالنا بنو نبيط في مدعاة لهم فشهد المدعاة حسّان بن ثابت وابنه عبد الرحمن وأنا، وجاريتان تغنّيان: [منسرح] أنظر خليلي بباب جلّق «2» هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد؟ فبكى حسان وقد كفّ بصره، وجعل عبد الرحمن يومىء إليهما أن زيدا، فلا أدري ماذا يعجبه من أن تبكيا أباه، ثم جيء بالطعام، فقال حسان: أطعام يد أم طعام يدين؟ فقالوا: طعام يد، يريدون الثريد «3» فأكل، ثم أتي بطعام آخر فقال: أطعام يد أم طعام يدين؟ قالوا: طعام يدين، يعنون الشّواء فكفّ. حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: كان طويس يتغنّى في عرس،

فدخل النعمان ابن بشير العرس وطويس «1» يقول: [متقارب] أجدّ بعمرة «2» غنيانها ... فتهجر أم شأنها شانها وعمرة أم النعمان، فقيل له: أسكت أسكت، فقال النعمان: إنه لم يقل بأسا وإنما قال: [متقارب] وعمرة من سروات النّسا ... تنفح بالمسك أردانها «3» حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثنا الحجاج بن نصير قال: حدّثنا شعبة عن قتادة عن أبي العالية أنه كان مع ابن عباس وهو محرم، فقال ابن عباس: [رجز] وهنّ يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننل «4» لميسا فقالوا: تقول الرفث «5» وأنت محرم يا ابن عباس! فقال: إنما الرّفث عند النساء. قال جابر الجعفيّ: رأيت الشعبيّ خارجا من الكوفة فقلت له: أين؟ قال: انظر إلى الفيل. حدّثني أبو الخطاب قال: حدّثنا سلم بن قتيبة قال: حدّثنا شريك عن جابر الجعفيّ عن عكرمة فقال: ختن ابن عباس بنيه فأرسلني فدعوت اللعّابين فلعبو فأعطاهم أربعمائة درهم.

حدّثني شيخ لنا من أهل المدينة قال: ولي الأوقص المخزوميّ قضاء مكة فما رئي مثله في العفاف والنّبل، فبينا هو نائم ذات ليلة في جناح له مرّ به سكران يتغنّى، فأشرف عليه فقال له: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نوّاما، وغنّيت خطأ، خذ عني فأصلحه له. وقال الأوقص قالت لي أمي: يا بنيّ، إنك خلقت خلقة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان، إنك لا تكون مع أحد إلّا تخطّتك إليه العيون، فعليك بالدّين فإنه يرفع الخسيسة ويتمّ النقيصة، فنفعني الله بكلامها فبلغت القضاء. قال عبد الله بن جعفر لرجل: لو غنّتك فلانة جاريتي صوت كذا ما أدركت زكاتك «1» . حدّثني شيخ لنا عن سلم بن قتيبة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: مرّ بي عمر، وأنا وعاصم بن عمر نتغنّى غناء النّصب، فقال: أعيدا، فأعدنا، فقال: مثلكما مثل حماري العباديّ، قيل له: أيّ حماريك أشرّ؟ قال: هذا ثم هذا. وحدّثني أيضا عن ابن عاصم عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن القراءة على ألحان الغناء والحداء فقال: وما بأس، لقد حدّثني عبيد بن عمير الليثيّ قال: كانت لداود نبيّ الله معزفة يضرب بها إذا قرأ الزّبور، فكان إذا قرأ اجتمع إليه الإنس والجنّ والطير فبكى وأبكى من حوله. وقال لي غيره: ولهذا قيل: مزامير داود، كأنه أغاني داود. خرج أبو معاوية الضرير يوما على أصحابه فقال:

[مجزوء الرمل] وإذا المعدة جاشت ... فارمها بالمنجنيق بثلاث من نبيذ ... ليس بالحلو الرقيق النّوشجانيّ قال: حدّثني محمد بن سابق قال: حدّثنا مالك بن مغول عن أبي حصين قال: شرب الأسود فقال: لو سقيتموني آخر لغنّيت. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا أبو أسامة عن مجالد عن الشعبيّ عن عمه قال: صحبت ابن مسعود حولا من رمضان إلى رمضان لم يصم يوما واحدا، فأهمّني ذلك وسألت عنه، ولم أره صلّى الضّحى حتى خرج من بين أظهرنا. قال: حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم عن مهديّ ابن ميمون قال: كان أبو صادق لا يتطوّع من السّنة بصوم يوم، ولا يصلي ركعة سوى الفريضة قبلها ولا بعدها، وكان به من الورع شيء عجيب. حدّثني الزّياديّ قال: قال حماد بن زيد عن أيوب قال: دخلت على رجل من الفقهاء وهو يلعب بالشّطرنج. وحدّثني الزّياديّ قال: حدّثنا حماد بن زيد عن هشام بن حسان قال: سئل ابن سيرين عن اللّعب بالشّطرنج فقال: لا بأس به هو رفق. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن معتمر قال: قال أبي: ترون أن الشّطرنج «1» وضعت على أمر عظيم؟. قال: وحدّثنا الأصمعيّ عن ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد قال: كان قيس بن أبي حازم في مدعاة فقال لصاحب المنزل: طيّر.

حدّثني شبابة قال: حدّثني القاسم بن الحكم العرنيّ قال: حدّثني سليم مولى الشعبيّ أنّ الشعبيّ كان إذا اختضب غرض «1» لاعب ابنته بالنّرد حتى يعلق الخضاب. حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا النّضر بن شميل قال؛ حدّثنا شعبة عن عبد ربه قال: سمعت سعيد بن المسيب وسئل عن اللعب بالنّرد فقال: إذا لم يكن قمارا فلا يأس. حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا الفضل بن موسى عن رشدين بن كريب قال: رأيت عكرمة أقيم قائما على اللعب بالنّرد. قال إسحاق: إن كان لعبه على غير معنى القمار يريد به التعليم والمكايدة فهو مكروه، ولا يبلغ ذلك إسقاط شهادته. وروى عبد الملك بن عمير عن إبراهيم بن محمد قال: أخبرني أبي قال: رأيت أبا هريرة يلعب مع أبي بأربعة عشر على ظهر المسجد. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثني عليّ بن عاصم عن أبي إسحاق الشّيباني عن خوّات التميميّ عن الحارث بن سويد قال: أتى عبد الله بن مسعود رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنّ لي جارا يربي وما يتورّع من شيء أصابه، وإني أعسر فأستسلفه، ويدعوني فأجيبه، فقال: كل فلك مهنؤه وعليه وزره. كان أبو فضاله أسنّ وشقّت عليه الصلاة، فكان يقول: مشقية منصبة، مقيمة مقعدة، لا تزال بصاحبها حتى يضع أكرمه ويرفع أفحشه.

التوسط في الأشياء وما يكره من التقصير فيها والغلو. باب التوسط في الدين

قال عبد الله بن القعقاع «1» الأسديّ: [طويل] أتانا بها صفراء يزعم أنها ... زبيب، فصدّقناه وهو كذوب فهل هي إلا ليلة غاب نحسها ... أصلّي لربّي بعدها وأتوب؟ وقال آخر: [بسيط] من ذا يحرّم ماء المزن خالطه ... في جوف آنية ماء العناقيد إني لأكره تشديد الرّواة لنا ... فيها ويعجبني قول ابن مسعود وعيون الأخبار ومتخيّر الشعر في الشراب يقع في كتابي المؤلف في الأشربة، ولذلك تركت ذكرها. وكتب بعض الكتّاب إلى صديق له في فصل: ونحن نحمد الله إليك فإنّ عقدة الإسلام في قلوبنا صحيحة، وأواخيّه ثابتة، ولقد اجتهد قوم أن يدخلوا قلوبنا من مرض قلوبهم، وأن يلبسوا يقيننا بشكّهم، فمنعتنا عصمة الله منهم، وحال توفيقه دونهم، ولنا بعد مذهب في الدّعابة جميل، لا يشوبه أذى ولا قذى، يخرج إلى الأنس من العبوس، وإلى الاسترسال من القطوب، ويلحقنا بأحرار الناس وأشرافهم الذين ارتفعوا عن لبسة الرياء والتصنّع. التوسّط في الأشياء وما يكره من التقصير فيها والغلوّ. باب التوسط في الدّين حدّثني الزّياديّ قال: حدّثنا عبد العزيز الدّراورديّ قال: حدّثني محمد ابن طحلاء عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

«اكلفوا من العمل ما تطيقون فإنّ الله لا يملّ حتى تملّوا، وإنّ أفضل العمل أدومه وإن قلّ» . حدّثني محمد بن يحيى القطعيّ قال: حدّثنا محمد بن علي بن مقدّم عن معن الغفاريّ عن المقبريّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا الدّين يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا» . حدّثني القومسيّ عن أحمد بن يونس عن زهير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدّين الحسن والسّمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوّة» . حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن مسلم بن يسار أنّ رفقة من الأشعريين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: يا رسول الله، ليس أحد بعد رسول الله أفضل من فلان، يصوم النهار، فإذا نزلنا قام يصلّي حتى نرتحل، قال: «من كان يمهن له أو يكفيه أو يعمل له؟» قالوا: نحن، قال: «كلّكم أفضل منه» . وروى أبو معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن عليّ عليه السلام قال: خياركم كلّ مفتّن توّاب. وقال علي أيضا: خير هذه الأمة النّمط الأوسط، يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي. وروى وكيع عن محمد بن قيس عن عمرو بن مرّة قال: قال حذيفة: خياركم الذين يأخذون من دنياهم لآخرتهم، ومن آخرتهم لدنياهم. وكان يقال: دين الله بين المقصّر والغالي. وقال المطرّف لابنه: يا بنيّ، الحسنة بين

السيئتين، يعني بين الإفراط والتقصير، وخير الأمور أوساطها، وشرّ السّير الحقحقة «1» . وفي بعض الحديث المرفوع: ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» . وقال: «إنّ الله بعثني بالحنيفيّة السهلة، ولم يبعثني بالرّهبانية المبتدعة، سنّتي الصلاة والنّوم، والإفطار والصوم، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» . وفي الحديث: إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . وكان يقال: طالب العلم وعامل البرّ كآكل الطعام إن أخذ منه قوتا عصمه، وإن أسرف في الأخذ منه بشمه «2» ، وربما كانت فيه منيّته، وكآخذ الأدوية التي قصدها شفاء، ومجاوزة القدر فيها السّمّ المميت. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن سالم بن أبي حفصة أنّ ابن أبي نعم كان يهلّ من السنة إلى السنة ويقول في تلبيته: لبّيك «3» ، لو كان رياء لاضمحلّ. حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثنا موسى بن مسعود عن سفيان عن أبي إسحاق قال: قال عمر بن ميمون: لو أدرك أصحابنا محمد بن أبي نعم لرجموه، كان يواصل كذا وكذا يوما ويهلّ بالحج إذا رجع الناس من الحج. وقال سلمان: القصد والدوام وأنت السّابق الجواد. وفي بعض الحديث أنّ عيسى بن مريم لقي رجلا فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبّد. قال: من يعود عليك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك.

باب التوسط في المداراة والحلم

روح بن عبادة عن الحجاج بن الأسود قال: من يدلّني على رجل بكّاء بالليل بسّام بالنهار؟. وروى أبو أسامة عن حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد قال: قال مطرّف: أنظروا قوما إذا ذكروا ذكروا بالقراءة فلا تكونوا منهم، وانظروا قوما إذا ذكروا ذكروا بالفجور فلا تكونوا منهم. كونوا بين هؤلاء وهؤلاء. باب التوسّط في المداراة والحلم قرأت في كتاب للهند: بعض المقاربة حزم، وكلّ المقاربة عجز، كالخشبة المنصوبة في الشمس تمال فيزيد ظلّها، ويفرط في الإمالة فينقص الظلّ. ومن أمثال العرب في هذا: «لا تكن حلوا فتسترط «1» ولا مرّا فتلفظ» وأبو زيد يقول: ولا مرّا فتعقى «2» ، يقال: أعقى الشيء إذا اشتدّت مرارته. وقال الشاعر: [طويل] وإنّي لصعب الرأس غير جموح وقال آخر في صفة قوس: [رجز] في كفّه معطية منوع وقال آخر: [رجز] شريانة تمنع بعد اللّين وقال أبرويز لابنه: إجعل لاقتصادك السلطان على إفراطك، فإنك إذا

باب التوسط في العقل والرأي

قدّرت الأمور على ذلك وزنتها بميزان الحكمة وقوّمتها تقويم الثّقاف، ولم تجعل للندامة سلطانا على الحلم. وقال النابغة «1» الجعديّ: [طويل] ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا وقال آخر: [طويل] ولا خير في عرض امرىء لا يصونه ... ولا خير في حلم امرىء ذلّ جانبه وقال أكثم بن صيفيّ: الانقباض من الناس مكسبة للعداوة، وإفراط الأنس مكسبة لقرناء السّوء. باب التوسّط في العقل والرأي روي في الحديث أن زياد بن أبي سفيان كان كاتبا لأبي موسى الأشعري فعزله عمر عن ذلك، فقال له زياد: أعن عجز عزلتني يا أمير المؤمنين أم عن خيانة؟ فقال: لا عن ذاك ولا عن هذا، ولكنّي كرهت أن أحمل على العامّة فضل عقلك. ويقال: إفراط العقل مضرّ بالجدّ «2» . ومن الأمثال المبتذلة: إستأذن العقل على الجدّ فقال: إذهب لا حاجة بي إليك. وقال الشاعر: [وافر] فعش في جدّ أنوك حالفته ... مقادير يساعدها الصواب وقال آخر: [سريع] إنّ المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم «3»

باب ذم فضل الأدب والقول

وقال آخر: [طويل] أرى زمنا نوكاه أسعد أهله ... ولكنّه يشقى به كلّ عاقل وقال الحسن: تشبّه زياد بعمر وأفرط، وتشبّه الحجاج بزياد فأهلك الناس. وقال الحكماء: فضل الأدب في غير دين مهلكة. وفضل الرأي إذا لم يستعمل في رضوان الله ومنفعة الناس قائد إلى الذنوب، والحفظ الزاكي الواعي لغير العلم النافع مضرّ بالعمل الصالح، والعقل غير المورّع عن الذنوب خازن الشيطان. تنازع اثنان: أحدهما سلطانيّ والآخر سوقيّ، فضربه السلطانيّ فصاح: واعمراه! ورفع خبره إلى المأمون فأمر بإدخاله عليه، قال: من أين أنت؟ قال: من أهل فامية «1» ، إن عمر بن الخطاب كان يقول: من كان جاره نبطيا واحتاج إلى ثمنه فليبعه، فإن كنت تطلب سيرة عمر فهذا حكمه فيكم، وأمر له بألف درهم. باب ذمّ فضل الأدب والقول قيل لبعض الحكماء: متى يكون الأدب شرّا من عدمه؟ قال: إذا كبر الأدب ونقص العقل. وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله. ويقال: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه. وقال الشاعر: [متقارب] رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا

باب التوسط في الجدة

وقال سليمان بن عبد الملك: زيادة منطق على عقل خدعة، وزيادة عقل على منطق هجنة، وأحسن من ذاك ما زيّن بعضه بعضا. قال ضرار بن عمرو لابنته حين زوّجها: أمسكي عليك الفضلين: فضل الغلمة وفضل الكلام. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: رحم الله امرأ أمسك فضل القول وقدّم فضل العمل. نزل المنذر بن المنذر في كتيبة موضعا، فقال له رجل: أبيت «1» اللّعن إن ذبح رجل هاهنا، إلى أيّ موضع يبلغ دمه من هذه الرابية؟ فقال المنذر: المذبوح والله أنت، ولأنظرنّ أين يبلغ دمك، فقال رجل «2» ممن حضر: «ربّ كلمة تقول لصاحبها دعني» . قال زياد على المنبر: إن الرجل ليتكلّم بالكلمة لا يقطع بها ذنب عنز مصور ولو بلغت إمامه سفكت دمه. وقال أكثم بن صيفيّ: مقتل الرجل بين فكّيه. وقال الأحنف: حتف الرجل مخبوء تحت لسانه. باب التوسّط في الجدة كان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ إني أعوذ بك من غنى مبطر ومن فقر ملبّ أو مربّ «3» ، وكذلك اللهمّ لا غنى يطغي ولا فقرا ينسي. وقال أبو المعتمر السّلميّ: الناس ثلاثة أصناف: أغنياء وفقراء وأوساط،

باب الإقتصاد في الإنفاق والإعطاء

فالفقراء موتى إلا من أغناه الله بعزّ القناعة، والأغنياء سكارى إلا من عصمه الله بتوقّع الغير، وأكثر الخير مع أكثر الأوساط وأكثر الشرّ مع الفقراء والأغنياء لسخف الفقر وبطر الغنى. ومن أمثال العرب في هذا: «بين الممخّة «1» والعجفاء» . باب الإقتصاد في الإنفاق والإعطاء قال الله عز وجل: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «2» ، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً «3» . حدّثني أحمد بن الخليل عن مسلم بن إبراهيم عن سكين بن عبد العزيز عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عال «4» مقتصد. وحدّثني أيضا عن مسلم قال: حدّثنا أبو قدامة الحارث بن عبيد قال: حدّثنا برد بن سنان عن الزّهري قال: قال أبو الدّرداء: حسن التقدير في المعيشة أفضل من نصف الكسب، ولقط حبّا منثورا وقال: إنّ فقه الرجل رفقه في معيشته. قال أبو الأسود لولده: لا تجاودوا الله فإنه أجود وأمجد، وإنه لو شاء أن

أفعال من أفعال السادة والأشراف

يوسّع على الناس كلّهم حتى لا يكون محتاج لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسعة فتهلكوا هزلا. قيل لمحمد بن عمران قاضي المدينة- وهو من ولد طلحة بن عبيد الله-: إنك تنسب إلى البخل، فقال: والله إني لا أحمد في الحق ولا أذوب في الباطل. وكان يقال: لا تصن كثيرا عن حقّ ولا تنفق قليلا في باطل. ومن أمثال العرب في ذلك «لا وكس ولا شطط» «1» و «إذا جدّ السؤال جدّ المنع» . وقال الشاعر: [طويل] إلّا أكن كلّ الجواد فإنّني ... على الزاد في الظّلماء غير لئيم وإلّا أكن كلّ الشجاع فإنني ... أردّ سنان الرمح غير سليم وقد علمت عليا هوازن أنني ... فتاها وسفلى عامر وتميم قال معاوية: ما رأيت سرفا «2» قطّ إلا وإلى جانبه حقّ مضيّع. أفعال من أفعال السادة والأشراف حدّثني الرّياشيّ قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: حدّثنا ابن عمران قاضي المدينة أن طلحة كان يقال له: طلحة الخير، وطلحة الفيّاض، وطلحة الطّلحات وأنه فدى عشرة من أسارى بدر وجاء يمشي بينهم، وأنه سئل برحم فقال: ما سئلت بهذه الرحم قبل اليوم، وقد بعت حائطا لي بتسعمائة ألف درهم وأنا فيه بالخيار، فإن شئت ارتجعته وأعطيتكه، وإن شئت أعطيتك ثمنه.

حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعيّ قال: أخبرني شيخ من مشيختنا،- وربما قال: هارون الأعور- أن قتيبة بن مسلم قال: أرسلني أبي إلى ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة فقال: قل له قد كان في قومك دماء وجراح، وقد أحبّوا أن تحضر المسجد فيمن يحضر، قال: فأتيته فأبلغته فقال يا جارية: غدّيني، فجاءت بأرغفة خشن فثردتهنّ في مريس «1» ثم برقتهنّ «2» فأكل. قال قتيبة: فجعل شأنه يصغر في عيني ونفسي، ثم مسح يده وقال: الحمد لله، حنطة الأهواز وتمر الفرات وزيت الشام، ثم أخذ نعليه وارتدى، ثم انطلق معي وأتى المسجد الجامع فصلّى ركعتين ثم احتبى، فما رأته حلقة إلا تقوّضت إليه، فاجتمع الطالبون والمطلوبون فأكثروا الكلام، فقال: إلى ماذا صار أمرهم؟ قالوا: إلى كذا وكذا من إبل، قال: هي عليّ، ثم قام. الهيثم عن ابن عباس قال: كان معد يكرب بن أبرهة جالسا مع عبد العزيز بن مرون على سريره فأتي بفتيان قد شربوا الخمر، فقال: يا أعداء الله، أتشربون الخمر! فقال معد يكرب: أنشدك الله أن لا تفضح هؤلاء، فقال: إنّ الحق في هؤلاء وفي غيرهم واحد، فقال معديكرب: يا غلام صبّ من شرابهم في القدح، فصبّ له فشربه وقال: والله ما شرابنا في منازلنا إلا هذا. فقال عبد العزيز: خلّوا عنهم، فقيل له حين انصرفوا: شربت الخمر! فقال: أما والله إن الله ليعلم أنّي لم أشربها قطّ في سرّ ولا علانية، ولكنّي كرهت أن يفضح مثل هؤلاء بمحضري. وحدّثني شيخ لنا قال: مدح شاعر الحسن بن سهل فقال له: احتكم، وظنّ أنّ همّته قصيرة، فقال: ألف ناقة، فوجز الحسن ولم يمكنه، وكره أن

يفتضح وقال: يا هذا إنّ بلادنا ليست بلاد إبل، ولكن ما قال امرؤ القيس: [وافر] إذا ما لم يكن إبل فمعزى ... كأنّ قرون جلّتها العصيّ قد أمرت لك بألف شاة، فالق يحيى بن خاقان، فأعطاه بكلّ شاة دينارا. قال: وقدم زائر على أبي دلف فأمر له بألف دينار وكسوة ثم قال: [كامل] أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... قلّا ولو أمهلتنا لم يقلل فخذ القليل وكن كأنك لم تقل ... شيئا، ونحن كأننا لم نفعل وقال بعض الشعراء: [خفيف] ليس جود الفتيان من فضل مال ... إنما الجود للمقلّ المواسي وقال دعبل «1» في نحوه: [طويل] لئن كنت لا تولي يدا دون إمرة ... فلست بمول نائلا آخر الدّهر فأيّ إناء لم يفض عند ملئه! * وأيّ بخيل لم ينل ساعة الوفر! وليس الفتى المعطي على اليسر وحده ... ولكنه المعطي على العسر واليسر ابن الكلبيّ قال: أخبرني غير واحد من قريش قالوا: أراد عبد الله وعبيد الله ابنا العباس أن يقتسما ميراثهما من أبيهما بمكة، فدعي القاسم ليقسم، فلما مدّ الحبل قال له عبد الله: أقم المطمر «2» . فقال له عبيد الله: يا أخي، الدار دراك لا يمدّ والله فيها اليوم مطمر. وكان يقال: من أراد العلم

والسخاء والجمال فليأت دار العباس، كان عبد الله أعلم الناس، وعبيد الله أسخى الناس، والفضل أجمل الناس. باع عبد الله بن عتبة أرضا بثمانين ألفا، فقيل له: لو اتخذت لولدك من هذا المال ذخرا! فقال: أنا أجعل هذا المال ذخرا لي عند الله، وأجعل الله ذخرا لولدي، وقسم المال. ويقال: إنّ أوّل ما عرف به سؤدد خالد بن عبد الله القسري أنه مرّ في بعض طرق دمشق وهو غلام فأوطأ فرسه صبيّا فوقف عليه، فلما رآه لا يتحرّك أمر غلامه فحمله، ثم انتهى به أوّل مجلس مرّ به فقال: إن حدث بهذا الغلام حدث الموت فأنا صاحبه، أو طأته فرسي ولم أعلم. قال عديّ بن حاتم لابن له حدث: قم بالباب فامنع من لا تعرف وأذن لمن تعرف، فقال: لا والله، لا يكون أوّل شيء وليته من أمر الدنيا منع قوم من الطعام. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: ضاف بني زياد العبسيّين ضيف، فلم يشعروا إلا وقد احتضن أمّهم من خلفها، فرفع ذلك إلى ربيع بن زياد الكامل فقال: لا يضارّ الليلة عائذ أمّي، أنه عاذ بحقويها «1» . المدائنيّ قال: أحدث رجل في الصلاة خلف عمر بن الخطاب، فلما سلّم عمر قال: أعزم على صاحب الضرطة إلا قام فتوضأ وصلّى، فلم يقم أحد، فقال جرير بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إعزم على نفسك وعلينا أن نتوضّأ ثم نعيد الصلاة، فأمّا نحن فتصير لنا نافلة، وأما صاحبنا فيقضي

صلاته، فقال عمر: رحمك الله، إن كنت لشريفا في الجاهلية فقيها في الإسلام. كان عبد الله بن جدعان التيميّ حين كبر أخذ بنو تيم عليه ومنعوه أن يعطي شيئا من ماله، فكان الرجل إذا أتاه يطلب منه قال: أدن منّي، فإذا دنا منه لطمه ثم قال: إذهب فاطلب بلطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تيم من ماله. وفيه يقول ابن قيس «1» الرّقيّات: [خفيف] والذي إن أشار نحوك لطما ... تبع اللّطم نائل وعطاء وابن جدعان «2» هو القائل: [بسيط] إنّي وإن لم ينل مالي مدى خلقي ... وهّاب ما ملكت كفّي من المال لا أحبس المال إلّا ريث أتلفه ... ولا تغيّرني حال عن الحال الهيثم عن حمّاد الراوية عن مشايخ طيء قالوا: كانت عتبه «3» بنت عفيف أمّ حاتم لا تليق «4» شيئا سخاء وجودا، فمنعها إخوتها من ذلك فأبت، وكانت موسرة فحبسوها في بيت سنة يطعمونها قوتها رجاء أن تكفّ، ثم أخرجوها بعد سنة وظنّوا أنها قد أقصرت ودفعوا إليها صرمة «5» ، فأتتها امرأة من هوازن فسألتها فأعطتها الصّرمة وقالت: والله لقد مسّني من الجوع ما آليت معه ألّا أمنع سائلا شيئا. وقالت:

[طويل] لعمري لقدما عضّني الجوع عضّة ... فآليت ألّا أمنع الدّهر جائعا فقولا لهذا اللّائمي الآن أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعضّ الأصابعا فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا ولا ما ترون الدّهر إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا ابن أمّ الطبائعا «1» ابن الكلبيّ عن أبيه عن رجالات طيء قالوا: كان حاتم جوادا شاعرا، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان ظفرا إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا ضرب بالقداح سبق، وإذا أسر أطلق، وكان أقسم بالله: لا يقتل واحد أمّه. أبو اليقظان قال: أخذ عبيد الله بن زياد عروة «2» بن أديّة أخا أبي بلال فقطع يديه ورجليه وصلبه على باب داره، فقال لأهله: أنظروا هؤلاء الموكّلين بي فأحسنوا إليهم فإنهم أضيافكم. سفيان بن عيينة قال: كان سعيد بن العاص إذا أتاه سائل فلم يك عنده ما سأل قال: أكتب عليّ بمسألتك سجلّا إلى أيام يسري. باع أعرابيّ ناقة له من مالك بن أسماء، فلما صار الثمن في يده نظر إليها فذرفت عيناه، ثم قال: [طويل] وقد تنزع الحاجات يا أمّ معمر ... كرائم من ربّ بهنّ ضنين فقال له مالك: خذ ناقتك وقد سوّغتك الثمن. اشترى عبيد الله بن أبي

بكرة جارية نفيسة فطلبت دابة تحمل عليها فلم توجد، فجاء رجل بدابّة فحملها، فقال له عبيد الله: إذهب بالجارية إلى منزلك. باع ثابت بن عبيد الله ابن أبي بكرة دار الصّفاق «1» من مقاتل بن مسمع نسيئة ثم اقتضاه فلزمه في دار أبيه، فرآه عبيد الله فقال: ما لك؟ قال: حبسني ابنك. قال: بم؟ قال: بثمن دار الصّفاق، قال: يا ثابت، أما وجدت لغرمائك محبسا إلّا داري؟ إدفع إليه صكّه وأعوّضك. قيل لرجل: ما لك تنزل في الأطراف؟ فقال: منازل الأشراف في الأطراف يتناولون ما يريدون بالقدرة ويتناولهم من يريدهم بالحاجة. لمّا كبر عديّ بن حاتم آذاه برد الأرض وكان رجلا لحيما «2» فنهشت الأرض فخذيه فجمع قومه فقال: يا بني ثعل «3» ، إني لست بخيركم إلا أن تروا ذلك فقد كان أبي بمكان لم يكن به أحد من قومه، بنى لكم الشرف ونفى عنك العار فأصبح الطائيّ إذا فعل خيرا قال العرب: من حيّ لا يحمدون على الجود ولا يعذرون على البخل، وقد بلغت من السنّ ما ترون وآذاني برد الأرض فأذنوا لي في وطاء «4» فوالله ما أريده فخرا عليكم ولا احتقارا لكم، وسأخبركم: ما على من وضع طنفسة «5» وقعد حوله إلا أنّ الحقّ عليه أن يذلّ في عرضه وينخدع في ماله ولا يحسد شريفا ولا يحقر وضيعا، فقال القوم: دعنا اليوم، ثم غدوا عليه فقالوا: يا أبا طريف ضع الطّنفسة والبس التاج، فبلغ ابن دارة «6» الشاعر فأتاه

وقال: قد مدحتك، فقال: أمسك عليك حتى أنبئك بمالي فتمدحني على حسبه، لي ألف ضائنة «1» وألفا درهم وثلاثة أعبد، وفرسي هذا حبيس في سبيل الله، هات الآن فقال: [طويل] تحنّ قلوصي «2» في معدّ وإنما ... تلاقي الربيع في ديار بني ثعل وأبقى اللّيالي من عديّ بن حاتم ... حساما كلون الملح سلّ من الخلل أبوك جواد ما يشقّ غباره ... وإن جواد لست تعذر بالعلل فإن تفعلوا شرّا فمثلكم أتّقّى ... وإخ تفعلوا خيرا فمثلكمو فعل فقال: أمسك عليك، لا يبلغ مالي أكثر من هذا، وشاطره ما له. جاء رجل إلى معن فاستحمله عيرا فقال معن: يا غلام، أعطه عيرا «3» وبغلا وبرذونا وفرسا وبعيرا وجارية، ولو عرفت مركوبا غير هذا لأعطيتكه. وكان يقال: حدّث عن البحر ولا حرج وعن بني إسرائيل ولا حرج وعن معن ولا حرج. قال رجل من كلب للحكم بن عوانة وهو على السّند: إنما أنت عبد، فقال الحكم: والله لأعطينّك عطيّة لا يعطيها العبد فأعطاه مائة رأس من السّبي. وقرأت في بعض كتب العجم أن جامات «4» كسرى التي كان يأكل فيها كانت من ذهب، فسرق رجل من أصحابه جاما وكسرى ينظر إليه، فلما رفعت الموائد افتقد الطبّاخ الجام فرجع يطلبها، فقال له كسرى: لا تتعنّ فقد أخذها من لا يردّها ورآه من لا يفشي عليه، ثم دخل عليه الرجل بعد ذلك وقد حلّى سيفه ومنطقته ذهبا، فقال له كسرى بالفارسية: يا فلان، هذا، يعني السيف، من

ذاك قال: نعم وهذا، وأشار إلى منطقته. قالوا: لم يكن لخالد بن برمك أخ إلّا بنى له دارا على قدر كفايته ووقف على أولاد الإخوان ما يعيشهم أبدا ولم يكن لإخوانه ولد إلا من جارية هو وهبها له. بلغ ابن المقفع أن جارا له يبيع دارا له لدين ركبه وكان يجلس في ظلّ داره، فقال: ما قمت إدّا «1» بحرمة ظلّ داره إن باعها معدما وبتّ واجدا، فحمل إليه ثمن الدار وقال: لا تبع. قال أبو اليقظان: باع نهيك بن مالك بن معاوية إبله وانطلق بثمنها إلى منى فجعل ينهبه، والناس يقولون: مجنون، فقال: لست بمجنون ولكنّي سمح أنهبكم مالي إذا عزّ الفتح. قال: وأتى عبد الله بن جعفر قهرمانه بحسابه فكان في أوّله حبل بخمسين درهما، فقال عبد الله: لقد غلت الحبال، فقال القهرمان: إنه أبرق، فقال عبد الله: إن كان أبرق فأنا أجيزه، فهو الآن مثل مضروب بالمدينة. كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له: يا هذا، إنك قد اخترتني جارا فجناية يدك عليّ دونك، وإن جنت عليك يد فاحتكم عليّ حكم الصبيّ على أهله. وقال بعض الشعراء: [طويل] همو خلطوني بالنفوس ودافعوا ... ورائي بركن ذي مناكب مدفع وقالوا تعلّم أنّ مالك إن يصب ... يعدك وإن تحبس يردك ويشفع وروى عبد الله بن بكر السّهمي عن حاتم بن أبي صغيرة عن حبيب بن أبي ثابت أنّ الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعيّاش بن أبي ربيعة خرجوا يوم اليرموك حتى انبتّوا، فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه، فنظر إليه عكرمة فقال: ادفعه إلى عكرمة فنظر إليه عيّاش فقال عكرمة: إدفعه إلى

عيّاش، فما وصل إلى عيّاش حتى مات ولا عاد إليه حتى ماتوا، فسمّي هذا حديث الكرام وهذا الحديث عندي موضوع لأن أهل السّيرة يذكرون أنّ عكرمة قتل يوم أجنادين وعيّاش مات بمكة، والحارث مات بالشام في طاعون عمواس. أعطى رجل امرأة سألته مالا عظيما، فلاموه وقالوا: إنها لا تعرفك وإنما كان يرضيها اليسير، فقال: إن كانت ترضى باليسير فإنّي لا أرضى إلا بالكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي. قال بعض الشعراء: [طويل] وما خير مال لا يقي الذمّ ربّه ... ونفس امرئ في حقّها لا يهينا وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله «1» بن جعفر: [وافر] أرى نفسي تتوق إلى أمور ... ويقصر دون مبلغهنّ حالي فنفسي لا تطاوعني ببخل ... ومالي لا يبلّغني فعالي وقال أيضا: [بسيط] ولا أقول نعم يوما فأتبعها ... منعا ولو ذهبت بالمال والولد ولا اؤتمنت في سرّ فبحت به ... ولا مددت إلى غير الجميل يدي وقال كعب «2» بن سعد الغنويّ: [طويل] وذي ندب دامي الأظلّ «3» قسمته ... محافظة بيني وبين زميلي

وزاد رفعت الكفّ عنه تجمّلا ... لأوثر في زادي عليّ أكيلي وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول وقال زهير «1» : [طويل] وأبيض فيّاض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغبّ «2» نوافله «3» غدوت عليه غدوة فوجدته ... قعودا لديه بالصّريم عواذله فأعرضن منه عن كريم مرزّا ... جموع على الأمر الذي هو فاعله أخي «4» ثقة لا تذهب الخمر ماله ... ولكنه قد يذهب المال نائله تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله المدائنيّ قال: أضلّ فيروز بن حصين سوطه يوما، فأعطاه رجل سوطا فأمر له بألف درهم، ثم أتاه بعد حول فقال: من أنت؟ قال: صاحب السوط فأمر له بألف درهم، ثم أتاه بعد حول فقال: من أنت؟ قال: صاحب السوط، قال: أعطوه ألف درهم ومائة سوط فانقطع عنه. قال الشاعر: [بسيط] إنّي حمدت بني شيبان إذ خمدت ... نيران قومي فشبّت فيهم النار ومن تكرّمهم في المحل أنّهم ... لا يحسب الجار فيهم أنه جار وقال آخر: [طويل] نزلت على آل المهلّب شاتيا ... بعيدا قصيّ الدار في زمن محل فما زال بي إلطافهم وافتقادهم ... وإكرامهم حتى حسبتهمو أهلي

وقال آخر: [طويل] إذا كان لي شيئان يا أمّ مالك ... فإنّ لجاري منهما ما تخيّرا وقال عمرو «1» بن الأهتم: [طويل] ذريني فإنّ الشّحّ يا أمّ هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سروق ذريني وحطّي «2» في هواي فإنّني ... على الحسب العالي الرّفيع شفيق ومستمنح بعد الهدوء دعوته ... وقد كان من ساري الشتاء طروق فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مبيت صالح وصديق أضفت فلم أفحش عليه ولم أقل ... لأحرمه إنّ الفناء مضيق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكنّ أخلاق الرجال تضيق «3» كان يقال: للعباس بن عبد المطلب ثوب لعاري بني هاشم، وجفنة لجاره ومقطرة «4» لجاهلهم. قال بكر «5» بن النّطّاح: [طويل] لو خذلت أمواله جود كفّه ... لقاسم من يرجوه بعض حياته ولو لم يجد في العمر قسما لزائر ... لجاد له بالشّطر من حسناته وقال الفرزدق «6» : [كامل] إنّ المهالبة الكرام تحمّلوا ... دفع المكاره عن ذوي المكروه زانوا قديمهمو بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن وجوه

كان يقال: الشّرف في السّرف. قال عامر «1» بن الطّفيل: [طويل] إذا نزلت بالناس يوما ملمّة ... تسوق من الأيام داهية إدّا «2» دلفنا لها حتى نقوّم ميلها ... ولم نهد عنها بالأسنّة أو تهدا وكم مظهر بغضاءنا ودّ أنه ... إذا ما التقينا كان أخفى الذي أبدى مطاعيم في الّلأواء مطاعين في الوغى «3» ... شمائلنا تنكي وأيماننا تندى وقال حاتم طيء: [طويل] أكفّ يدي من أن تنال أكفّهم ... إذا ما مددناها وحاجتنا معا وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا وقال جابر «4» بن حيّان: [طويل] فإن يقتسم مالي بنيّ ونسوتي ... فلن يقسموا خلقي الكريم ولا فعلي وما وجد الأضياف فيما ينوبهم ... لهم عند علّات النفوس أبا مثلي أهين لهم مالي وأعلم أنّني ... سأورثه الأحياء سيرة من قبلي كان سعيد بن عمرو مؤاخيا ليزيد بن المهلب، فلما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد ومنع من الدخول عليه، أتاه سعيد فقال: يا أمير المؤمنين، لي

على يزيد خمسون ألف درهم وقد حلت بيني وبينه، فإن رأيت أن تأذن لي فأقتضيه؟ فإذن له فدخل عليه فسرّ به يزيد، وقال: كيف وصلت إليّ، فأخبره، فقال يزيد: والله لا تخرج إلا وهي معك فامتنع سعيد فحلف يزيد ليقبضنّها، فقال عديّ «1» بن الرّقاع: [طويل] لم أر محبوسا من الناس واحدا ... حبا «2» زائرا في السجن غير يزيد سعيد بن عمرو إذ أتاه أجازه ... بخمسين ألفا عجّلت لسعيد وقال بعض الشعراء: [طويل] وإنّي لحلّال بي الحقّ، أتّقي ... إذا نزل الأضياف أن أتجهّما إذا لم تذد ألبانها عن لحومها ... حلبنا لهم منها بأسيافنا دما دخل شاعر على المهديّ فامتدحه، فأمر له بمال فلما قبضه فرّقه على من حضر وقال: [طويل] لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى ... وما خلت أنّ الجود من كفّه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فبدّدت ما عندي أخبرني أبو الحسن علي بن هارون الهاشميّ قال: أخبرني وكيع قال: حدّثني أبو العيناء قال: كان بالبصرة لنا صديق يهوديّ وكان ذا مال وقد تأدّب وقال الشعر وعرف شيئا من العلوم وكان له ولد ذكور، فلما حضرته الوفاة جمع ماله وفرّقه على أهل العلم والأدب ولم يترك لولده ميراثا فعوتب على ذلك فقال:

[منسرح] رأيت مالي أبرّ من ولدي ... فاليوم لا نحلة ولا صدقه من كان منهم لها فأبعده اللّ ... هـ ومن كان صالحا رزقه وحدّثني الأخفش بهذا الخبر عن المبرّد عن الرّياشيّ والله أعلم. أنجز الجزء الأول ويتلوه الجزء الثاني.

الجزء الثانى

الجزء الثانى كتاب الطبائع والأخلاق المذمومة تشابه الناس في الطبائع وذمّهم حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا يحيى بن هشام الغسّانيّ عن إسماعيل بن أبي خالد عن مصعب بن سعد قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم. قال: وحدّثني حسين بن الحسن المروزيّ قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان قال: قال أبو الدّرداء: «وجدت الناس اخبر تقله» «1» . قال: حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا شريح بن النعمان عن المعافى ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بقوم يتبعون رجلا قد أخذ في ريبة فقال: لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشرّ. قال: وحدّثني محمد بن داود قال: حدّثنا الصّلت بن مسعود قال: حدّثنا عثّام بن عليّ عن الأعمش عن أبي إسحاق عن عبيدة أن الوليد السّوائيّ قال: لغط قوم عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله، لو نهيتهم! فقال: لو نهيتهم أن يأتوا الحجون «2» لأتاه بعضهم ولو لم تكن له حاجة.

قال: وحدّثنا عن عفّان عن مهديّ بن ميمون عن غيلان بن جرير قال: قال مطرّف: هم الناس وهم النّسناس «1» وناس غمسوا في ماء الناس. قال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا. وكان يقال: لو نهي الناس عن فتّ البعر لفتّوه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا وفيه شيء. وقال الشاعر: [وافر] ولما أن أتيت بني جوين ... جلوسا ليس بينهمو جليس يئست من التي أقبلت أبغي ... لديهمو، إنّني رجل يؤوس «2» إذا ما قلت أيّهمو لأيّ ... تشابهت المناكب والرؤوس ويقال: لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا «3» . وقال آخر: [رجز] الناس أسواء وشتّى في الشّيم ... وكلّهم يجمعهم بيت الأدم «4» وقال آخر: [طويل] سواء، كأسنان الحمار فلا ترى، ... لذي شيبة منهم على ناشيء، فضلا «5»

وقال آخر: «سواسية كأسنان الحمار» «1» وكان يقال: «المرء توّاق إلى ما لم ينل» «2» والعجم تقول: كلّ عزّ دخل تحت القدرة فهو ذليل. وقالوا: كلّ مقدور عليه مملول محقور. وقال الشاعر: [بسيط] وزاده كلفا بالحبّ أن منعت ... أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا «3» وقال آخر [طويل] ترى الناس أسواء إذا جلسوا معا ... وفي الناس زيف مثل زيف الدّراهم ويقال: الناس سيل وأسراب طير يتبع بعضها بعضا. وقال طرفة: [سريع] كلّ خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه كلّهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه اللّيلة بالبارحه

وقال آخر [وافر] فإنك لا يضرّك بعد حول ... أظبي كان أمّك أم حمار فقد لحق الأسافل بالأعالي ... وماج اللّؤم واختلط النّجار وعاد العبد مثل أبي قبيس ... وسيق مع المعلهجة العشار «1» يقول: سيقت الإبل الحوامل في مهر اللئيمة. قال أبو محمد: بلغني عن إسماعيل بن محمد بن جحادة عن أبيه قال: كنت عند الحسن فقال: أسمع حسيسا ولا أرى أنيسا، صبيان حيارى ما لهم تفاقدوا عقولهم وفراش نار وذبّان طمع. وقال أبو حاتم عن الأصمعيّ: لو قسمت في الناس مائة ألف درهم كان أكثر للائمتى من لو أخذتها منهم. ونحوه قول محمد بن الجهم: منع الجميع أرضى للجميع. وقال ابن بشير «2» (مجزوء المديد) سوءة للناس كلّهم ... أنا في هذا من أوّلهم لست تدري حين تنسبهم ... أين أدناهم من أفضلهم وقال نهار «3» بن توسعة (طويل) عتبت على سلم فلّما فقدته ... وجرّبت أقواما بكيت على سلم

رجوع المتخلق إلى طبعه

وهذا مثل قولهم: ما بكيت من زمان إلا بكيت عليه. وقال الأحنف «1» بن قيس (طويل) وما مرّ يوم أرتجي فيه راحة ... فأخبره إلّا بكيت على أمس وقال آخر (طويل) ونعتب أحيانا عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقي من الناس أعيبا وقال آخر (وافر) سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد قال: وحدّثني أبو حاتم قال: حدّثني الأصمعيّ عن ابن أبي الزّناد عن أبيه قال: لا يزال في الناس بقيّة ما تعجّب من العجب. رجوع المتخلّق إلى طبعه بلغني أن أعرابيا ربّى جرو ذئب حتى شبّ وظنّ أنه يكون أغنى عنه من الكلب وأقوى على الذبّ عن الماشية فلما قوي وثب على شاة فقتلها وأكل منها فقال الأعرابيّ (وافر) أكلت شويهتي وربيت فينا ... فما أدراك أنّ أباك ذيب ويروى «2» : ولدت بقفرة ونشأت عندي ... إذا كان الطّباع طباع سوء فليس بنافع فيها الأديب

وقال الخريميّ «1» [متقارب] يلام أبو الفضل في وجوده ... وهل يملك البحر ألّا يفيضا؟ وقال أبو الأسد «2» [طويل] ولائمة لامتك يا فيض في النّدى ... فقلت لها هل يقدح اللّوم في البحر؟ أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السّحاب عن القطر مواقع جود الفيض في كلّ بلدة ... مواقع ماء المزن في البلد القفر وقال كثيّر [طويل] ومن يبتدع ما ليس من سوس نفسه ... يدعه ويغلبه على النّفس خيمها «3» وقال زهير [طويل] ومهما تكن عند آمريء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وأنشدني ابن الأعرابيّ لذي الإصبع «4» العدوانيّ [بسيط] كلّ امرىء راجع لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقا إلى حين وقال آخر [بسيط] ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه «5» ... إنّ التخلّق يأبى دونه الخلق وقال كثيّر في خلاف هذا [طويل] وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك أهواء الفؤاد المتيّم

بصائر رشد للفتى مستبينة ... وأخلاق صدق علمها بالتعلّم ونحوه للمتلمّس «1» [طويل] تجاوز عن الأدنين «2» واستبق ودّهم ... ولن تستطيع الحلم حتّى تحلّما وقال الطائيّ [كامل] لبس الشّجاعة إنها كانت له ... قدما نشوعا في الصّبا ولدودا «3» بأسا قبيليّا وبأس تكرّم ... فينا وبأس قريحة مولودا وقال أبو جعفر الشّطرنجيّ مولى المهديّ في سوداء «4» [سريع] أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنّكما من طينة واحده «5» وقال أبو نواس [كامل] تلقى النّدى في غيره عرضا ... وتراه فيه طبيعة أصلا وإذا قرنت بعاقل أملا ... كانت نتيجة قوله فعلا وأنشدنا الرّياشيّ [منسرح] لا تصحبّن امرءا على حسب ... إنّي رأيت الأحساب قد دخلت مالك من أن يقال إنّ له ... أبا كريما في أمّة سلفت

باب الشيء يفرط فينتقل إلى غير طبعه

بل اصحبنه على طبائعه ... فكلّ نفس تجري كما طبعت وقال العباس بن مرداس «1» [متقارب] إنك لم تك كابن الشّريد ... ولكن أبوك أبو سالم حملت المئين وأثقالها ... على أذني قنفذ رازم «2» وأشبهت جدّك شرّ الجدو ... د والعرق يسري إلى النائم وقال بعض العبديين [طويل] وما يستوي المرءان هذا ابن حرّة ... وهذا ابن أخرى ظهرها متشرّك وأدركه خالاته فخذلته ... ألا إنّ عرق السّوء لا بدّ يدرك باب الشيء يفرط فينتقل إلى غير طبعه قرأت في كتاب للهند: لا ينبغي اللّجاج في إسقاط الهمّة والرأي وإذالته فإنه إمّا شرس الطبع كالحية إن وطئت فلم تلسع لم يغترّ بها فيعاد لوطئها، وإما سجح «3» الطبع كالصندل «4» البارد إن أفرط في حكّه عاد حارّا مؤذيا. وقال أبو نواس [منسرح] قل لزهير إذا حدا وشدا ... أقلل وأكثر فأنت مهذار سخنت من شدة البرودة حت ... ى صرت عندي كأنك النار لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثّلج بارد حار

باب الحسد

ويقال: إنما ملح القرد عند الناس لإفراط قبحه. قال الطائيّ [بسيط] أخرجتموه بكره من سجيّته ... والنار قد تنتضى من ناضر السّلم أمن عمى نزل الناس الرّبى فنجوا ... وأنتمو نصب سيل الفتنة العرم «1» أم ذاك من همم جاشت فكم ضعة ... حدا إليها غلوّ القوم في الهمم وكان يقال: من التوقّي ترك الإفراط في التوقّي. باب الحسد قال: حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يسلم منهن أحد الطّيرة والظّنّ والحسد قيل: فما المخرج منهنّ يا رسول الله؟ قال: إذا تطيّرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقّق وإذا حسدت فلا تبغ» . وقال بكر بن عبد الله: حصّتك من الباغي حسن المكاشرة، وذنبك إلى الحاسد دوام النعم من الله عليك. وقال روح بن زنباع الجذاميّ: كنت أرى قوما دوني في المنزلة عند السلطان يدخلون مداخل لا أدخلها فلما أذهبت عنيّ الحسد دخلت حيث دخلوا. وقال ابن حمام [طويل] تمنّى لي الموت المعجّل خالد ... ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده «2» وقال الطائيّ [كامل] وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود لولا التّخوّف للعواقب لم تزل ... للحاسد النّعمى على المحسود وقال عبد الملك للحجاج: إنه ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه فعب نفسك قال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال: لتفعلنّ. قال: أنا لجوج حقود حسود، قال عبد الملك: ما في الشيطان شرّ مما ذكرت. قال بعض الحكماء: الحسد من تعادي الطبائع واحتلاف التركيب وفساد مزاج البنية وضعف عقد العقل والحاسد طويل الحسرات. قال ابن المقفع: أقلّ ما لتارك الحسد في تركه أن يصرف عن نفسه عذابا ليس بمدرك به حظّا ولا غائظ به عدوّا، فإنا لم نر ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد، طول أسف ومحالفة كآبة وشدّة تحرّق، ولا يبرح زاريا على نعمة الله ولا يجد لها مزالا ويكدّر على نفسه ما به من النعمة فلا يجد لها طعما ولا يزال ساخطا على من لا يترضّاه ومتسخّطا لما لن ينال فوقه، فهو منغّص المعيشة دائم السّخطة محروم الطّلبة، لا بما قسم له يقنع ولا على ما لم يقسم له يغلب، والمحسود يتقلّب في فضل الله مباشرا للسّرور منتفعا به ممهّلا فيه إلى مدّة ولا يقدر الناس لها على قطع وانتقاص. قيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن أخاه؟ قال: لا أبا لك «1» ، أنسيت إخوة يوسف؟ وكان يقال: إذا أردت أن تسلم من الحاسد فعمّ عليه أمورك. ويقال: إذا أراد الله أن يسلّط على عبده عدوّا لا يرحمه سلّط عليه حاسدا. وقال العتبيّ «2» - وذكر ولده الذين ماتوا-[متقارب]

وحتّى بكى لي حسّادهم ... وقد أقرحوا بالدّموع العيونا وحسبك من حادث بامرىء ... يرى حاسديه له راحمينا قيل لسفيان بن معاوية: ما أسرع حسد الناس إلى قومك! فقال: [بسيط] إنّ العرانين تلقاها محسّدة ... ولا ترى للئام الناس حسّادا وقال آخر: [كامل] وترى اللبيب محسّدا لم يجترم ... شتم الرجال وعرضه مشتوم حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وظلما إنه لذميم وقال يحيى بن خالد: الحاسد عدو مهين لا يدرك وتره إلا بالتمنّي. قيل لبعضهم: أيّ الأعداء لا تحبّ أن يعود لك صديقا؟ قال: من سبب عداوته النعمة. وقال الأحنف: لا صديق لملول «1» ولا وفاء لكذوب، ولا راحة لحسود ولا مروءة لبخيل ولا سؤدد لسيّء الخلق. وقال معاوية: كلّ الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها. وقال الشاعر: [بسيط] كلّ العداوة قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد «2» وفي بعض الكتب يقول الله: «الحاسد عدوّ لنعمتي متسخّط لقضائي غير راض بقسمي بين عبادي» . وكان يقال: قد طلبك من لا يقصّر دون الظّفر

وحسدك من لا ينام دون الشّفاء. وخطب الحجاج يوما برستقباذ بقول سويد «1» ابن أبي كاهل [رمل] كيف يرجون سقاطي بعدما ... جلّل الرأس بياض وصلع ربّ من أنضجت غيظا صدره ... قد تمنّى لي موتا لم يطع ويراني كالشّجا في خلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع مزبدا يخطر ما لم يرني ... فإذا أسمعته صوتي انقمع لم يضرني غير أن يحسدني ... فهو يزقو مثل ما يزقو الضّوع «2» ويحيّيني إذا لا قيته ... وإذا يخلو له لحمي رتع قد كفاني الله ما في نفسه ... وإذا ما يكف شيئا لم يضع وقال آخر «3» [بسيط] إن تحسدوني فإنّي لا ألومكم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولكم ما بي وما بكم ... وما أكثرنا غيظا بما يجد أنا الذي تجدوني في حلوقكم ... لا أرتقي صعدا فيها ولا أرد وقال بعضهم: الحسد أوّل ذنب عصي الله به في السماء، يعني حسد إبليس آدم، وأوّل ذنب عصي الله به في الأرض، يعني حسد ابن آدم أخاه حتى قتله. وأنشدني شيخ لنا عن أبي زيد الأعرابيّ. [سريع]

لا تقبل الرّشد ولا ترعوي ... ثاني رأس كابن عوّاء «1» حسدتني حين أفدت الغنى ... ما كنت إلا كابن حوّاء غادى «2» أخاه محرما مسلما ... بطعنة في الصلب نجلاء وأنت تقليني «3» ولا ذنب لي ... لكنّني حمّال أعباء من يأخذ النار بأطرافه ... ينضح على النار من الماء مرّ قيس بن زهير ببلاد غطفان «4» فرأى ثروة وجماعات وعددا فكره ذلك، فقال له الربيع بن زياد: إنه يسوءك ما يسرّ الناس! فقال له: يا أخي، إنك لا تدري، إنّ مع الثروة والنعمة التحاسد والتخاذل، وإنّ مع القلّة التحاشد والتناصر. قال الأصمعيّ: رأيت أعرابيا قد أتت له مائة وعشرون سنة، فقلت له: ما أطول عمرك! فقال: تركت الحسد فبقيت. وقال زيد «5» بن الحكم الثقفيّ. [طويل] تمّلأت من غيظ عليّ فلم يزل ... بك الغيظ حتّى كدت بالغيظ تنشوي وما برحت نفس حسود حشيتها ... تذيبك حتى قيل هل أنت مكتوي وقال النّطاسيّون إنك مشعر ... سلالا ألا بل أنت من حسد جوي «6» بدا منك غشّ طالما قد كتمته ... كما كتمت داء ابنها أمّ مدّوي جمعت وفحشا غيبة ونميمة ... حلالا ثلاثا لست عنها بمرعوي

باب الغيبة والعيوب

وكان يقال: ستّة لا يخلون من الكآبة: رجل آفتقر بعد غنى، وغنيّ يخاف على ماله التّوى «1» ، وحقود، وحسود، وطالب مرتبة لا يبلغها قدره، ومخالط الأدباء بغير أدب. باب الغيبة والعيوب قال: حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثنا عبد الأعلى عن داود بن عطاء عن ابن خثيم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بشراركم «2» قالوا: بلى، قال: من شراركم المشّاؤون بالنّميمة المفسدون بين الأحبّة الباغون البرآء العنت» . قال: وحدّثني حسين بن الحسن المروزيّ قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا الأجلح عن الشّعبيّ قال: سمعت النعمان بن بشير يقول على المنبر: يا أيّها الناس خذوا على أيدي سفهائكم، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ قوما ركبوا البحر في سفينة، واقتسموها فأصاب كلّ واحد منهم مكان، فأخذ رجل منهم الفأس فنقر مكانه، فقالوا: ما تصنع؟ فقال: مكاني أصنع به ما شئت، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه غرقوا وغرق» . بلغني عن حمّاد بن زيد عن ابن عون قال: قال أبو الدرداء؛ ليس من يوم أصبح فيه لا يرميني الناس بداهية إلا كان نعمة من الله عليّ. وقال حسان: قلت شعرا لم أقل مثله [طويل] وإنّ امرءا أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد

وبلغني عن ابن عيينة قال: قال مسعر: ما نصحت أحدا قطّ إلّا وجدته يفتّش عن عيوبي. وقال بعضهم: من عاب سفلة «1» فقد رفعه، ومن عاب شريفا فقد وضع نفسه. وقال عمر بن الخطاب: أحبّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي. أحمد بن يونس عن الفضيل أنه سمعه يقول: إن الفاحشة لتشيع في الذين آمنوا حتى إذا صارت إلى الصالحين صاروا لها خزّانا. قال وسمعته يقول أيضا: حسناتك من عدوّك أكثر منها من صديقك، لأن عدوّك إذا ذكرت عنده يغتابك وإنما يدفع إليك المسكين حسناته. محمد بن عبد الله الأنصاريّ قال: حدّثنا ابن عون قال: مرّ ابن سيرين بقوم فقام إليه رجل فقال: يا أبا بكر، إنا قد نلنا منك فحلّلنا، فقال: إني لا أحلّ لك ما حرّم الله عليك، فأما ما كان إليّ فهو لك. محمد بن مسلم الطائفيّ قال: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: بلغني أنك نلت منّي، فقال: نفسي أعزّ عليّ من ذلك. الوليد بن مسلم عن الأوزاعيّ عن بلال بن سعد قال: أخ لك كلّما لقيك أخبرك بعيب فيك خير لك من أخ لك كلّما لقيك وضع في كفّك دينارا. شريك عن عقيل قال: قال الحسن: لا غيبة إلا لثلاثة: فاسق مجاهر بالفسق، وذي بدعة، وإمام جائر. وكان يقال: من اغتاب خرق ومن استغفر الله رفأ «2» وفي بعض الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عاب أحدكم أخاه

فليستغفر الله» . كان يقال: إياك وما يصمّ الأذن. العتبيّ قال: قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: كنت أساير أبي ورجل يقع في رجل، فالتفت إليّ أبي فقال: يا بنيّ نزّه سمعك عن استماع الخنى «1» كما تنزّه لسانك عن الكلام به، فإن المستمع شريك القائل، ولقد نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك، ولو ردّت كلمة جاهل في فيه لسعد رادّها كما شقي قائلها. فضيل بن عياض قال: حدّثنا عبد الله بن رجاء عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله بعبد خيرا زهّده في الدنيا وفقّهه في الدّين وبصّره عيوبه. قال فضيل: وربما قال الرجل: لا إله إلا الله؛ أو سبحان الله فأخشى عليه النار، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يغتاب بين يديه ويعجبه ذلك فيقول: لا إله إلا الله، وليس هذا موضعه، إنّما موضع هذا أن ينصح له في نفسه ويقول له: اتّق الله. في الحديث المرفوع أنّ امرأتين صامتا على عهد النبيّ عليه السلام وجعلتا تغتابان الناس، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «صامتا عمّا أحلّ لهما وأفطرتا على ما حرّم الله عليهما» ، وقال حمّاد بن سلمة: ما كنت تقوله للرجل وهو حاضر فقلته من خلفه فليس بغيبة. عاب رجل رجلا عند بعض الأشراف فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس، لأنّ الطالب للعيوب إنّما يطلبها بقدر ما فيه منها. قال بعض الشعراء. [وافر] وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب وأنشد ابن الأعرابيّ [سريع]

اسكت ولا تنطق فأنت خيّاب «1» ... كلّك ذو عيب وأنت عيّاب وأنشدني أيضا [سريع] ربّ غريب ناصح الجيب ... وابن أب متّهم الغيب «2» وكلّ عيّاب له منظر ... مشتمل الثّوب على العيب وكان عتبة بن عبد الرحمن يغتاب الناس ولا يصبر، ثم ترك ذلك، فقيل له: أتركتها؟ قال: نعم، على أنّي والله أحبّ أن أسمعها. أتى رجل عمرو بن مرثد فسأله أن يكّلم له أمير المؤمنين، فوعده أن يفعل، فلما قام قال بعض من حضر: إنه ليس مستحقا لما وعدته، فقال عمرو: إن كنت صدقت في وصفك إياه فقد كذبت في ادّعائك مودّتنا؛ لأنه إن كان مستحقّا كانت اليد موضعها، وإن لم يكن مستحقا فما زدت على أن أعلمتنا أنّ لنا بمغيبنا عنك مثل الذي حضرت به من غاب من إخواننا. وفي الحديث: «إنّ الغيبة أشدّ من الزنا. قيل: كيف ذلك؟ قال: لأنّ الرجل يزني فيتوب، فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبها» . قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنّي اغتبت رجلا وأريد أن أستحلّه، فقال له: لم يكفك أن اغتبته حتى أردت أن تبهته. إغتاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم فقال له قتيبة: أمسك أيها الرجل، فوالله لقد تلمّظت بمضغة طالما لفظها الكرام.

مرّ رجل بجارين له ومعه ريبة، فقال أحدهما لصاحبه: أفهمت ما معه من الرّيبة؟ فقال الآخر: غلامي حرّ لوجه الله شكرا له إذا لم يعرّفني من الشرّ ما عرّفك. شعبة عن يحيى بن الحصين عن طارق قال: دار بين سعد بن أبي وقّاص وبين خالد بن الوليد كلام، فذهب رجل ليقع في خالد عند سعد، فقال سعد: مه، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا. أي عداوة وشرّ. وقال الشاعر «1» [متقارب] ولست بذي نيرب في الكرام، ... ومنّاع خير، وسبّابها «2» ولا من إذا كان في جانب «3» ... أضاع العشيرة واغتابها ولكن أطاوع ساداتها ... ولا أتعلّم «4» ألقابها وقال آخر [بسيط] لا يأمل الجار خيرا من جوارهم ... ولا محالة من هزء وألقاب وقال الفرزدق [طويل] تصرّم منّي ودّ بكر بن وائل ... وما خلت عنّي ودّهم يتصرّم قوارص تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم «5»

أنشد أبو سعيد الضرير لبعض الضّبّيين [طويل] ألا ربّ من يغتابني ودّ أنّني ... أبوه الذي يدعى إليه وينسب على رشدة من أمه أو لغيّة ... فيغلبها فحل على النسل منجب فبالخير لا بالشرّ فاطلب مودّتي ... وأيّ امرىء يغتال منه التّرهّب وقال آخر في نحوه: [طويل] ولما عصيت العاذلين ولم أبل ... ملامتهم ألقوا على غاربي حبلي وهازئة منّي تودّ لو ابنها ... على شيمتي أو أنّ قيّمها مثلي قيل لبزر جمهر: هل من أحد ليس فيه عيب؟ قال: لا، إن الذي لا عيب فيه لا ينبغي أن يموت. وقال في مثل هذا موسى «1» شهوات [خفيف] ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه الناس غير أنك فاني أنت خير المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان وقال أبو الأسود «2» الدؤليّ: [كامل] وترى الشّقيّ إذا تكامل غيبه ... يرمى ويقرف «3» بالذي لم يفعل

لقي بكر بن عبد الله أخا له فقال: إذا أردت أن تلقى من النّعمة عليك أعظم منها عليه وهو أشكر للنّعمة لقيته، وإذا شئت أن تلقى من أنت أعظم منه جرما وهو أخوف لله منك لقيته. أرأيت لو صحبك رجلان: أحدهما مهتوك لك ستره ولا يذنب ذنبا إلا رأيته ولا يقول هجرا إلا سمعته فأنت تحبّه على ذلك وتوافقه وتكره أن تفارقه، والآخر مستور عنك أمره غير أنك تظنّ به السوء فأنت تبغضه، أعدلت بينهما؟ قال: لا؛ قال: فهل مثلي ومثلك ومثل من أنت راء من الناس إلا كذلك؟ إنا نعرف الحقّ في الغيب من أنفسنا فنحبّها على ذلك، ونتظنّن الظّنون على غيرنا فنبغضهم على ذلك. ثم قال: أنزل الناس منك ثلاث منازل، فاجعل من هو أكبر منك سنّا بمنزلة أبيك، ومن هو تربك بمنزلة أخيك، ومن هو دونك بمنزلة ولدك، ثم انظر أيّ هؤلاء تحبّ أن تهتك له سترا أو تبدي له عورة!. سعيد بن واقد المزنيّ قال: حدّثنا صالح بن الصّقر عن عبد الله بن زهير قال: وفد العلاء «1» بن الحضرميّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أتقرأ من القرآن شيئا؟ فقرأ عبس وزاد فيها من عنده؛ وهو الذي أخرج من الحبلى، نسمة تسعى، من بين شراسيف «2» وحشى؛ فصاح به النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال له: كفّ فإنّ السورة كافية» . ثم قال: هل تروي من الشّعر شيئا فأنشده: [طويل] حيّ ذوي الأضغان تسب قلوبهم ... تحيّتك القربى فقد ترقع النّعل وإن دحسوا «3» بالكره فاعف تكرّما ... وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل

فإنّ الذي يؤذيك منه سماعه ... وإنّ الذي قالوا وراءك لم يقل «1» فقال النبي عليه السلام: «إنّ من الشّعر حكما وإنّ من البيان سحرا» . وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ: قال: قال رجل لبكر بن محمد بن علقمة: بلغني أنك تقع فيّ؛ قال: أنت إذا أكرم عليّ من نفسي!. وقال بعض الشعراء: [بسيط] لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا ... فيكشف الله سترا عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا وقال أبو الدرداء: لا يحرز الإنسان من شرار الناس إلا قبره. قال عمر بن عبد العزيز لمزاحم مولاه: إن الولاة جعلوا العيون على العوامّ وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمعت منّي كلمة تربأ بي عنها أو فعالا لا تحبّه فعظني عنده وانهني عنه. العتبيّ قال: تنقّص ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ فقال له أبوه: لا تتنقّصه يا بنيّ، فإنّ بني مروان ما زالوا يشتمونه ستّين سنة فلم يزده الله إلا رفعة، وإن الدّين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، وإن الدنيا لم تبن شيئا إلا عادت على ما بنت فهدمته. وقال بعض الشعراء «2» : [كامل] إبدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك ويقبل التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك، إذا فعلت، عظيم «1» وقال آخر: [طويل] ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب وقال آخر: [طويل] لك الخير، لم نفسا عليك ذونوبها ... ودع لوم نفس ما عليك تليم «2» وكيف ترى في عين صاحبك القذى ... ويخفى قذى عينيك وهو عظيم كان رجل من المتزمّتين «3» لا يزال يعيب النبيذ وشرابه فإذا وجده سرّا شربه؛ فقال فيه بعض جيرانه: [طويل] وعيّابة للشّرب لو أنّ أمّه ... تبول نبيذا لم يزل يستبيلها قال رجل لعمرو بن عبيد: إني لأرحمك مما تقول الناس فيك؛ قال: أفتسمعني أقول فيهم شيئا؟ قال: لا؛ قال: إيّاهم فارحم. قال أعرابيّ لامرأته: [متقارب] وإمّا هلكت فلا تنكحي ... ظلوم العشيرة حسّادها يرى مجده ثلب أعراضها ... لديه ويبغض من سادها «4»

باب السعاية

باب السّعاية روى وكيع عن أبيه عن عطاء بن السائب قال: قدمت من مكة فلقيني الشعبيّ فقال: يا أبا زيد أطرفنا مما سمعت؛ قلت: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط يقول: لا يسكن مكّة سافك دم، ولا آكل ربا، ولا مشّاء «1» بنميم؛ فعجبت منه حين عدل النميمة بسفك الدماء وأكل الرّبا، فقال الشعبيّ: وما يعجبك من هذا؟ وهل تسفك الدّماء وتركب العظائم إلا بالنميمة؟ عاتب مصعب بن الزبير الأحنف بن قيس على شيء بلغه عنه، فاعتذر إليه الأحنف من ذلك ودفعه؛ فقال مصعب: أخبرني بذلك الثّقة؛ فقال الأحنف: كلّا أيها الأمير، إن الثقة لا يبلّغ. قال الأعشى: [طويل] ومن يطع الواشين لا يتركوا له ... صديقا وإن كان الحبيب المقرّبا وذكر السّعاة عند المأمون فقال رجل ممن حضر؛ يا أمير المؤمنين، لو لم يكن من عيبهم إلّا أنّهم أصدق ما يكونون، أبغض ما يكونون إلى الله لكفاهم. سعى رجل إلى بلال بن أبي بردة برجل؛ فقال له: إنصرف حتى أسأل عمّا ذكرت، وبعث في المسألة عن السّاعي فإذا هو لغير أبيه الذي يدعى له، فقال بلال: أخبرنا أبو عمرو قال: حدّثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السّاعي بالناس لغير رشدة» «2» . وقال الشاعر: [وافر] إذا الواشي نعى يوما صديقا ... فلا تدع الصّديق لقول واشي «3»

أتى رجل الوليد بن عبد الملك وهو على دمشق لأبيه، فقال: للأمير عندي نصيحة؛ فقال: إن كانت لنا فأظهرها، وإن كانت لغيرنا فلا حاجة لنا فيها؛ قال: جار لي عصى وفرّ من بعثه؛ قال: أمّا أنت فتخبر أنك جار سوء، فإن شئت أرسلنا معك، فإن كنت صادقا أقصيناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت تاركناك؛ قال: بل تاركني. وقال عبدة بن الطّبيب «1» : [كامل] واعصوا الذي يسدي النميمة بينكم ... متنصّحا وهو السمّام «2» المنقع يزجي عقاربه ليبعث بينكم ... حربا كما بعث العروق الأخدع «3» حرّان لا يشفي غليل فؤاده ... عسل بماء في الإناء مشعشع «4» لا تأمنوا قوما يشبّ صبيّهم ... بين القبائل بالعداوة ينسع «5» إن الذين ترونهم خلّانكم ... يشفي صداع رؤوسهم أن تصرعوا فضلت عداوتهم على أحلامهم ... وأبت ضباب «6» صدورهم لا تنزع قوم إذا دمس الظلام «7» عليهم ... حدجوا قنافذ بالنميمة تمزع

وقال أبو دهبل «1» الجمحيّ: [طويل] وقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج رأوا عورة فاستقبلوها بألبهم «2» ... فراحوا على ما لا نحبّ وأدلجوا وكانوا أناسا كنت آمن غيبهم ... فلم ينههم حلم ولم يتحرّجوا وقال بشّار: [خفيف] تشتهي قربك الرّباب وتخشى ... عين واش وتتّقي أسماعه أنت من قلبها محلّ شراب ... تشتهي شربه وتخشى صداعه وقال أبو نواس: [منسرح] كنت من الحبّ في ذرى نيق ... أرود منه مراد موموق «3» حتى ثناني عنه تخلّق وا ... ش كذبة لفّها بتزويق جبت قفا ما نمته معتذرا ... منه وقد فزت بعد تخريق كقول كسرى فيما تمثّله ... من فرص اللّصّ ضجّة السّوق وقرأت في كتاب للهند: قلّما يمنع القلب من القول إذا تردّد عليه، فإن الماء ألين من القول والحجر أصلب من القلب، وإذا انحدر عليه وطال ذلك أثّر فيه، وقد تقطع الشجرة بالفؤوس فتنبت ويقطع اللحم بالسيوف فيندمل واللسان لا يندمل جرحه، والنّصول تغيب في الجوف فتنزع والقول إذا وصل إلى القلب لم ينزع، ولكلّ حريق مطفىء: للنار الماء، وللسمّ الدواء، وللحزن الصبر، وللعشق الفرقة، ونار الحقد لا تخبو.

وقال طرفة بن العبد: [كامل] وتصدّ عنك مخيلة الرجل ال ... عرّيض «1» موضحة عن العظم بحسام سيفك أو لسانك وال ... كلم الأصيل كأوسع الكلم «2» ونحوه قوله: [بسيط] والقول ينفذ ما لا ينفذ الإبر وقال امرؤ القيس: [متقارب] وجرح اللّسان كجرح اليد سأل رجل عبد الملك بن مروان الخلوة؛ فقال لأصحابه: إذا شئتم تنحّوا؛ فلما تهيّأ الرجل للكلام قال له: إياك وأن تمدحني فإني أعرف بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأي لكذوب، أو تسعى بأحد إليّ، وإن شئت أن أقيلك أقلتك؛ قال: أقلني. وقال ذو الرياستين: قبول السّعاية شرّ من السّعاية، لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دلّ على شيء كمن قبل وأجاز، فامقت الساعي على سعايته وإن كان صادقا للؤمه في هتك العورة وإضاعة الحرمة، وعاقبة إن كان كاذبا لجمعه بين هتك العورة وإضاعة الحرمة مبارزة لله بقول البهتان والزور. وقال بعض المحدثين لعبد الصمد «3» بن المعذّل: [طويل] لعمرك ما سبّ الأمير عدوّه ... ولكنّما سبّ الأمير المبلّغ

وقال رجل للوليد بن عبد الملك: إنّ فلانا شتمك؛ فأكبّ ثم قال: أراه شتمك. وأتى رجل ابن عمر فقال له: إن فلانا شتمك؛ فقال له: إنّي وأخي عاصما لا نسابّ أحدا. عوانة قال: كان بين حاتم طيء وبين أوس «1» بن حارثة ألطف ما يكون بين اثنين؛ فقال النعمان بن المنذر لجلسائه: والله لأفسدنّ ما بينهما؛ قالوا: لا تقدر على ذلك؛ قال: بلى، فقلّما جرت الرجال في شيء إلا بلغته؛ فدخل عليه أوس؛ فقال: يا أوس، ما الذي يقول حاتم؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول إنه أفضل منك وأشرف؛ قال: أبيت اللّعن، صدق! والله لو كنت أنا وأهلي وولدي لحاتم لأنهبنا في مجلس واحد، ثم خرج وهو يقول «2» : [طويل] يقول لي النعمان لا من نصيحة ... أرى حاتما في قوله متطاولا له فوقنا باع كما قال حاتم ... وما النّصح فيما بيننا كان حاولا ثم دخل عليه حاتم فقال له مثل مقالته لأوس؛ قال: صدق، أين عسى أن أقع من أوس! له عشرة ذكور أخسّهم أفضل منّي، ثم خرج وهو يقول: [طويل] يسائلني النعمان كي يستزلّني ... وهيهات لي أن أستضام فأصرعا كفاني نقصا أن أضيم عشيرتي ... بقول أرى في غيره متوسّعا فقال النعمان: ما سمعت بأكرم من هذين الرجلين. ذكر يعقوب بن داود أيام كان مع المهديّ أنه وافاه في يوم واحد ثمانون

باب الكذب والقحة

رقعة كلّها سعاية، منها ستون لأهل البصرة، وعشرون لسائر البلاد. وشى واش برجل إلى الإسكندر؛ فقال له: أتحبّ أن أقبل منك ما قلت فيه على أن نقبل منه ما قال فيك؟ قال: لا؛ قال: فكفّ عن الشرّ يكفّ عنك الشّرّ. كتب بعض إحواننا من الكتّاب إلى عامل وكان سعي به إليه: لست أنفكّ فيما بيني وبينك من إحدى أربع: إما كنت محسنا وإنك لكذلك فاربب، أو مسيئا ولست به فأبق، أو أكون ذا ذنب ولم أتعمّد فتغمّد، أو مقروفا وقد تلحق به حيل الأشرار فتثبّت وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ «1» . باب الكذب والقحة «2» حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثنا سليمان بن داود عن مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند عن شهر بن حوشب عن الزّبرقان عن النّواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلح الكذب إلا في ثلاثة مواضع: الحرب فإنها خدعة والرجل يصلح بين اثنين والرجل يرضي امرأته» . حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا بربر بن هارون قال: أخبرنا سفيان ابن حسين عن الزهريّ عن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب من قال خيرا وأصلح بين اثنين» .

قال: حدّثني عبدة بن عبد الله قال: حدّثنا أبو داود عن عمران عن قتادة قال: قال أبو الأسود الدؤليّ: إذا سرّك أن تكذب صاحبك فلقّنه. حدّثني محمد بن داود عن سويد بن سعيد عن مالك عن صفوان بن سليم قال: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم قال: أفيكون بخيلا؟ قال: نعم قال: أفيكون كذّابا؟ قال: لا» . قال: حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعيّ قال: عاتب إنسان كذّابا على الكذب؛ فقال: يا ابن أخي، لو تغرغرت «1» به ما صبرت عنه. قال: وقيل لكذوب: أصدقت قطّ؟ قال: أكره أن أقول لا فأصدق. وقال ابن عبّاس: الحدث حدثان: حدث من فيك وحدث من فرجك. وقال مديني: من ثقل على صديقه خفّ على عدوّه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون. ومثله قول الشاعر: [سريع] ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل مقالة السّوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل بلغني عن وكيع عن أبيه عن منصور قال: قال مجاهد: كلّ ما أصاب الصائم شوى «2» ما خلا الغيبة والكذب. وقال سليمان بن سعد: لو صحبني رجل فقال: اشترط خصلة واحدة لا يزيد عليها، لقلت لا تكذبني. كان ابن عبّاس يقول: الكذب فجور، والنميمة سحر، فمن كذب فقد فجر، ومن نمّ فقد سحر. وكان يقال: أسرع الاستماع وأبطىء التحقيق. قال الأحنف: ما

خان شريف ولا كذب عاقل ولا اغتاب مؤمن. وكانوا يحلفون فيحنثون «1» ويقولون فلا يكذبون. ذمّ رجل رجلا فقال: اجتمع فيه ثلاثة: طبيعة العقعق «2» يعني السّرق، وروغان الثعلب يعني الخبّ، ولمعان البرق يعني الكذب. ويقال الأذّلاء أربعة: النّمام والكذّاب والمدين والفقير. قال ابن المقفّع: لا تهاوننّ بإرسال الكذبة في الهزل فإنها تسرع في إبطال الحقّ. وقال الأحنف: اثنان لا يجتمعان أبدا: الكذب والمروءة. وقالوا: من شرف الصّدق أنّ صاحبه يصدّق على عدوّه. وقال الأحنف لابنه: يا بنيّ، اتّخذ الكذب كنزا؛ أي لا تخرجه. وقيل لأعرابيّ كان يسهب في حديثه: أما لحديثك هذا آخر؟ فقال: إذا انقطع وصلته. وقال ابن عمر: زعموا زاملة «3» الكذب. كان يقال: علّة الكذوب أقبح علّة، وزلّة المتوقّي أشدّ زلّة. كان المهلّب كذّابا وكان يقال له: راح يكذب. وفيه يقول الشاعر «4» [وافر] تبدلت المنابر من قريش ... مزونيّا بفقحته «5» الصليب فأصبح قافلا كرم وجود «6» ... وأصبح قادما كذب وحوب قال رجل لأبي حنيفة: ما كذبت كذبة قطّ؛ قال: أمّا هذه فواحدة يشهد

بها عليك. قال ميمون بن ميمون: من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه. قال أبو حيّة النّميريّ- وكان كذّابا-: عنّ لي ظبي فرميته فراغ عن سهمي فعارضه والله السهم، فراغ فراوغه السهم حتى صرعه ببعض الخبارات «1» . وقال أيضا: رميت ظبية فلما نفذ السهم ذكرت بالظبية حبيبة لي فشددت وراء السهم حتى قبضت على قذذه «2» . وصف أعرابيّ امرأة فقيل: ما بلغ من شدّة حبّك لها؟ قال: إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها ريح المسك. أنشد الفرزدق سليمان بن عبد الملك: [وافر] ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وسادسة تميل إلى شمام «3» فبتن بجانبيّ مصرّعات ... وبتّ أفضّ أغلاق الختام كأنّ مفالق الرمّان فيها «4» ... وجمر غضا قعدن عليه حامي «5» فقال له سليمان: ويحك يا فرزدق، أحللت بنفسك العقوبة، أقررت عندي بالزنا وأنا إمام ولا بدّ لي من أن أحدّك؛ فقال الفرزدق: بأيّ شيء أوجبت عليّ ذلك؟ قال: بكتاب الله؛ قال: فإن كتاب الله هو الذي يدرأ عنّي الحدّ؛ قال: وأين؟ قال: في قوله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ «6» فأنا قلت: يا أمير المؤمنين،

ما لم أفعل؛ وقول الشاعر: [رجز] وإنما الشاعر مجنون كلب ... أكثر ما يأتي على فيه الكذب وقال الشاعر: [مجزوء الكامل] حسب الكذوب من البلي ... ية بعض ما يحكى عليه مهما سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه وقال بشّار: [كامل] ورضيت من طول العناء بيأسه ... واليأس أيسر من عدات «1» الكاذب والعرب تقول: «أكذب من سالئة «2» » وهي تكذب مخافة العين على سمنها. و «أكذب من مجرّب» لأنه يخاف أن يطلب من هنائه «3» . و «أكذب من يلمع» وهو السراب. منصور ابن سلمة الخزاعيّ قال: حدّثنا شبيب بن شيبة أبو معمر الخطيب قال: سمعت ابن سيرين يقول: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف. وقال في قول الله عزّ وجلّ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ «4» لم ينس ولكنها من

معاريض الكلام. وقال القينيّ: أصدق في صغار ما يضرّني لأصدّق في كبار ما ينفعني. وكان يقول: أنا رجل لا أبالي ما استقبلت به الأحرار. نافر رجل من جرم رجلا من الأنصار إلى رجل من قريش، فقال للجرميّ: أبالجاهليّة تفاخره أم بالإسلام؟ فقال: بالإسلام؛ فقال: كيف تفاخره وهم آووا رسول الله ونصروه حتى أظهر الله الإسلام؟ قال الجرميّ: فكيف تكون قلّة الحياء. وقال آخر: إنما قويت على خصومي بأنّي لم أستتر قطّ بشيء من القبيح. وذكر أعرابيّ رجلا فقال: لو دقّ وجهه بالحجارة لرضّها، ولو خلا بأستار الكعبة لسرقها. قيل لرجل من بني أسد: بأيّ شيء غلبت الناس؟ قال: أبهت الأحياء وأستشهد الموتى. وقال طريح «1» الثقفيّ يذمّ قوما: [بسيط] إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا ... شرّا أذيع وإن لم يعلموا كذبوا وكان يقال: اثنان لا يتّفقان أبدا: القناعة والحسد، واثنان لا يفترقان أبدا: الحرص والقحة، وقال الشاعر: [مجزوء الكامل] إن يبخلو أو يغدروا ... أو يفخروا لا يحفلوا يغدوا عليك مرجّلي «2» ... ن كأنّهم لم يفعلوا كأبي براقش «3» كلّ لو ... ن لونه يتخيّل هجا أبو الهول الحميريّ الفضل بن يحيى ثم أتاه راغبا إليه؛ فقال له

الفضل: ويلك بأيّ وجه تلقاني! قال: بالوجه الذي ألقى به ربّي وذنوبي إليه أكثر؛ فضحك ووصله. ومن أمثال العرب في الوقاح «رمتني بدائها وانسلّت» . وقال الشاعر: [طويل] أكول لأرزاق العباد إذا شتا ... صبور على سوء الثّناء «1» وقاح قال رجل لقوم يغتابون ويكذبون: توضّأوا فإنّ ما تقولون شرّ من الحدث. وبلغني عن حمّاد بن زيد عن هشام عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما يوجب الوضوء؟ قال: الحدث وأذى المسلم. روى الصّلت بن دينار عن عقبة عن أنس بن مالك قال: بعثني أبو موسى الأشعريّ من البصرة إلى عمر؛ فسألني عن أحوال الناس ثم قال: كيف يصلح أهل بلد جلّ أهله هذان الحيّان: بكر بن وائل وبنو تميم، كذب بكر وبخل تميم. ذكر بعض الحكماء أعاجيب البحر وتزيّد البحريّين فقال: البحر كثير العجائب، وأهله أصحاب تزيّد، فأفسدوا بقليل الكذب كثير الصّدق، وأدخلوا ما يكون فيما يكاد لا يكون، وجعلوا تصديق الناس لهم في غريب الأحاديث سلّما إلى ادّعاء المحال. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: كان يقال: الصّدق أحيانا محرّم. حدّثني شيخ لنا عن أبي معاوية قال: حدثنا أبو حنيفة عن معن بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال عبد الله بن مسعود: ما كذبت على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا كذبة واحدة، كنت أرحّل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الطائف فقلت: هذا يغلبني على الرّحال؛ أيّ الرّحال أحبّ إلى رسول الله؟ فقلت: الطائفيّة

باب سوء الخلق وسوء الجوار والسباب والشر

المكيّة، فرحّل بها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رحّل لنا هذا» فقالوا: الطائفيّ؛ فقال: «مروا عبد الله فليرحّل لنا» فعدت إلى الرّحال. باب سوء الخلق وسوء الجوار والسّباب والشرّ حدّثني زياد بن يحيى قال: حدّثنا أبو داود عن صدقة بن موسى عن مالك بن دينار عن عبد الله بن غالب عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن سوء الخلق والبخل» . قال: وحدّثني أحمد بن الخليل عن أزهر بن جميل عن إسماعيل بن حكيم عن الفضل بن عيسى عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قيل: يا رسول الله ما الشؤم؟ قال: «سوء الخلق» . قال: وحدّثني أبو الخطّاب قال: حدّثنا بشر بن المفضّل قال: حدّثنا يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المستبّان ما قالا فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم» . قال: وحدّثني سهل بن محمد عن الأصمعيّ قال: حدّثني شيخ بمنى قال: صحب أيوب رجل في طريق مكة فآذاه الرجل بسوء خلقه؛ فقال أيوب: إنّي لأرحمه لسوء خلقه. قال: وحدّثني عبد الرحمن عن الأصمعيّ قال: قال أبو الأسود: لو أطعنا المساكين في أموالنا كنّا أسوأ حالا منهم. وأوصى بنيه فقال: لا تجاودوا الله فإنه أمجد وأجود، ولو شاء أن يوسّع على الناس كلّهم حتى لا يكون محتاج لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسّع فتهلكوا هزلا. قال: وسمع رجلا يقول: من يعشّي الجائع؟ فقال: عليّ به، فعشاه ثم ذهب ليخرج؛ فقال: أين تريد؟؛ قال: أريد أهلي؛ قال: هيهات، عليّ ألّا تؤذي المسلمين

اللّيلة، ووضع في رجله الأدهم حتى أصبح. قال: وأكل أعرابيّ معه تمرا فسقطت من يد الأعرابيّ تمرة فأخذها وقال: لا أدعها للشيطان؛ فقال أبو الأسود: لا والله ولا لجبريل. نظر ابن «1» الزبير يوما إلى رجل وقد دقّ في صدور أهل الشام ثلاثة أرماح فقال: اعتزل حربنا فإنّ بيت المال لا يقوم لهذا، وذكر أبو عبيدة «2» أنه كان يأكل في كلّ سبعة أيام أكلة ويقول في خطبته: إنما بطني شبر في شبر وما عسى أن يكفيني. وقال أبو وجزة «3» مولى آل الزبير: [بسيط] لو كان بطنك شبرا قد شبعت وقد ... أفضلت فضلا «4» كثيرا للمساكين فإن تصبك من الأيّام جائحة «5» ... لانبك «6» منك على دنيا ولا دين وفيها يقول: [بسيط] ما زلت في سورة الأعراف تدرسها ... حتّى فؤادك مثل الحزّ في اللّين وفيها يقول: إنّ امرأ كنت مولاه فضيّعني ... يرجو الفلاح لعندي حقّ مغبون وفيه يقول آخر: [طويل] رأيت أبا بكر- وربّك غالب ... على أمره- يبغي الخلافة بالتّمر

هذا حين قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري. وقال بعض الشعراء: [كامل] من دون سيبك لون ليل مظلم ... وحفيف نافجة وكلب موسد «1» وأخوك محتمل عليك ضغينة ... ومسيف «2» قومك لائم لا يحمد والضّيف عندك مثل أسود سالخ «3» ... لا بل أحبهّما إليك الأسود ومدح أعرابيّ سعيد «4» بن سلم فقال: [طويل] أيا ساريا باللّيل لا تخش ضلّة ... سعيد بن سلم ضوء كلّ بلاد لنا سيّد أربى على كلّ سيّد ... جواد حثا في وجه كلّ جواد «5» فلم يعطه شيئا، فقال يهجوه: [طويل] لكلّ أخي مدح ثواب يعدّه ... وليس لمدح الباهليّ ثواب مدحت ابن سلم والمديح مهزّة ... فكان كصفوان عليه تراب «6» وقال فيهم الممزّق الحضرميّ «7» : [وافر] إذا ولدت حليلة باهليّ ... غلاما زيد في عدد اللّئام

وعرض الباهليّ وإن توقّى ... عليه مثل منديل الطّعام ولو كان الخليفة باهليّا ... لقصّر عن مساماة الكرام ودخل قدامة بن جعدة على قتيبة بن مسلم فقال: أصلح الله الأمير، بالباب ألأم العرب؛ قال: ومن ذاك؟ قال: سلوليّ رسول محاربيّ إلى باهليّ؛ فضحك قتيبة. وقال آخر [بسيط] قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج «1» الباب والدّار لا يقبس الجار منهم فضل نارهم ... ولا تكفّ يد عن حرمة الجار وقال عمر بن عبد العزيز الطائيّ من أهل حمص: [بسيط] سمت المديح رجالا دون قدرهم ... صدّ قبيح ولفظ ليس بالحسن فلم أفز منهمو إلا بما حملت ... رجل البعوضة من فخّارة اللّبن. وقال آخر: [طويل] ألام وأعطي والبخيل مجاوري ... إلى جنب بيتي لا يلام ولا يعطي ونحو هذا قولهم: منع الجميع أرضى للجميع. وقال بشّار: [كامل] أعطى البخيل فما انتفعت به ... وكذاك من يعطيك من كدره «2» قيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق فإنّ مالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه: قيل له: كأنك تأمل أن تعيش الدهر كلّه؟ قال: ولا أخاف «3» أن أموت في أوّله.

قال الجاحظ: قلت مرّة للحزاميّ: قد رضيت بقول الناس: عبد الله بخيل؛ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم؛ قلت: كيف؟ قال: لأنه لا يقال فلان بخيلا إلا وهو ذو مال، فسلّم لي المال وادعني بأيّ اسم شئت؛ قلت: ولا يقال سخيّ إلا وهو ذو مال، فقد جمع هذا الاسم المال والحمد وجمع هذا الاسم المال والذمّ؛ قال: بينهما فرق؛ قلت: هاته: قال: في قولهم بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه، وفي قولهم: سخيّ إخبار عن خروج المال عن ملكه، واسم البخل اسم فيه حزم وذمّ، واسم السخاء اسم فيه تضييع وحمد، والمال راهن «1» نافع ومكرم لأهله معزّ، والحمد ريح وسخرية واستماعه ضعف وفسولة «2» ، وما أقلّ، والله، غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعري جلده وضاع عياله وشمت عدوّه! وكان محمد بن الجهم يقول: من شأن من استغنى عنك ألّا يقيم عليك، ومن احتاج إليك ألّا يذهب عنك، فمن ضنّ بصديقه وأحبّ الاستكثار منه وأحب التمتع به احتال في دوام رغبته بأن يقيم له ما يقوته ويمنعه ما يغنيه عنه، فإنّ من الزهد فيه أن تغنيه عنك ومن الرغبة فيه أن تحوجه إليك؛ وإبقاؤك مع الضنّ به أكرم من إغنائك له مع الزهد فيه؛ وقيل في مثل: «أجع كلبك يتبعك» . فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر وقطع أسبابه من الشكر؛ والمعين على الغدر شريك الغادر، كما أن مزيّن الفجور شريك الفاجر. قال: وأوصى عند موته وقال في وصيّته: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث، والثلث كثير» ؛ وأنا أزعم أن ثلث الثلث كثير، والمساكين حقوقهم في بيت المال، إن طلبوا طلب الرجال أخذوه، وإن جلسوا جلوس النساء

منعوه، فلا يرغم الله إلا أنفهم ولا يرحم الله من يرحمهم. تقدّم رجلان من قريش إلى سوّار أحدهما ينازع مولى له في حدّ أرض أقطعها أبوه مولاه؛ فقال سوّار: أتنازع مولاك في حدّ أرض أقطعها أبوك إياه!؛ فقال: الشّحيح أعذر من الظالم؛ فرفع سوّار يده ثم قال: اللهمّ اردد على قريش أخطارها «1» . وقال الخزرجيّ «2» : [خفيف] إنّ جود المكّيّ جود حجازي ... ي وجود الحجاز فيه اقتصاد كيف ترجو النوال من كفّ معط ... قد غذته الأقراص والأمداد نظر سليمان بن مزاحم إلى درهم فقال: في شقّ «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وفي وجه آخر «الله لا إله إلا هو الحيّ القيّوم» ، ما ينبغي أن يكون هذا إلا معاذة وقذفه في الصّندوق. أنشدنا عبد الرحمن بن هانىء صاحب الأخفش عن الأخفش للخليل «3» : [متقارب] كفّاه لم تخلقا للنّدى ... ولم يك بخلهما بدعه فكفّ عن الخير مقبوضة ... كما نقصت مائة «4» تسعه

وكفّ ثلاثة آلافها ... وتسعمئيها لها شرعه «1» قل أبو عليّ الضرير «2» : [وافر] لعمر أبيك ما نسب المعلّى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكنّ البلاد إذا اقشعرّت ... وصوّح نبتها رعي الهشيم وقال آخر: [متقارب] أمن خوف فقر، تعجّلته ... وأخّرت إنفاق ما تجمع فصرت الفقير وأنت الغنيّ ... وهل كنت تعدو الذي تصنع؟ «3» خوّف رجل رجلا جوادا الفقر وأمره بالإبقاء على نفسه؛ فكتب إليه: إني أكره أن أترك أمرا قد وقع، لأمر لعله لا يقع. وقال أبو الشّمقمق «4» : [وافر] رأيت الخبز عزّ لديك حتى ... حسبت الخبز في جوّ السّحاب

وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مزرئة الذّباب «1» وقال دعبل: [بسيط] صدّق أليّته إذ قال مجتهدا ... لا والرغيف، فذاك البرّ من قسمه! قد كان يعجبني لو أنّ غيرته ... على جراذقه «2» كانت على حرمه فإن هممت به فافتك بخبزته ... فإنّ موقعها من لحمه ودمه «3» وقال الشاعر: [مجزوء الكامل] أرفق بحفص حين تأ ... كل يا معاوي من طعامه الموت أيسر عنده ... من مضغ ضيف والتقامه وتراه من خوف النزي ... ل به يروّع في منامه سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه لا تكسرنّ رغيفه ... إن كنت ترغب في كلامه وإذا مررت ببابه ... فاحفظ رغيفك من غلامه وقال أبو نواس «4» : [مجزوء الرمل] خبز إسماعيل كالوش ... ي إذا ما انشقّ يرفا «5»

باب الحمق

عجبا من أثر الصّنع ... عة فيه! كيف يخفى؟ إنّ رفّاءك هذا ... أحذق الأمّة كفّا فإذا قابل بالنّص ... ف من الجردق «1» نصفا أحكم الصّنعة حتّى ... لا ترى موضع «2» إشفى مثل ما جاء من التّن ... نور ما غادر حرفا وله في الماء أيضا ... عمل أبدع ظرفا مزجه العذب بماء ال ... بئر كي يزداد ضعفا فهو لا يشرب «3» منه ... مثل ما يشرب صرفا باب الحمق قال الشعبيّ لرجل استجهله: ما أحوجك إلى محدرج شديد الفتل جيّد الجلاز عظيم الثمرة لدن المهزّة يأخذ منك فيما بين عجب الذّنب «4» ومغرز العنق فتكثر له رقصاتك من غير جذل؛ فقال: وما هذا؟ فقال: بعض الأمر. قال: حدّثني القومسيّ عن محمد بن الصّلت الأسديّ عن أحمد بن بشير عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عطاء عن جابر قال: كان في بني إسرائيل رجل له حمار، فقال يا ربّ، لو كان لك حمار لعلفته مع حماري هذا؛ فهمّ به نبيّ، فأوحى الله إليه: إنما أثيب كلّ إنسان على قدر عقله.

حدّثني محمد بن خالد بن خداش عن أبيه عن حمّاد بن زيد عن هشام ابن حسّان عن محمد بن سيرين أنّ رجلا رأى في المنام أنّ له غنما وكأنه يعطى بها ثمانية ثمانية، ففتح عينه فلم ير شيئا، فغمّض عينه ومدّ يده وقال: هاتوا أربعة أربعة. مرّ رجل من العبّاد وعلى عنقه عصا في طرفيها زبيلان «1» قد كادا يحطمانه، في أحدهما برّ وفي الآخر تراب، فقيل له: ما هذا؟ قال: عدلت البرّ بهذا التراب، لأنه كان قد أمالني في أحد جانبيّ فأخذ رجل زبيل التراب فقلبه وجعل البرّ نصفين في الزبيلين وقال له: احمل الآن؛ فحمله، فلما رآه خفيفا قال: ما أعقلك من شيخ! حفر أعرابيّ لقوم قبرا في أيام الطاعون بدرهمين، فلما أعطوه الدرهمين قال: بأبي دعوهما عندكم حتى يجتمع لي ثمن ثوب. كانت أمّ عمرو بنت جندب بن عمرو بن جمعة السّدوسيّ عند عثمان بن عفّان، وكانت حمقاء تجعل الخنفساء في فيها ثم تقول: حاجيتك ما في فمي؟ وهي أمّ عمرو وأبان ابني عثمان. إبراهيم بن المنذر قال: حدّثنا زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جدّه قال: رأيت طارقا وهو وال لبعض الخلفاء من بني أميّة على المدينة يدعو بالغداء فيتغدّى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون فيه العظم الممخّ فينكته على رمّانة المنير فيأكله. قال أمّ غزوان الرّقاشيّ لابنها- ورأته يقرأ في المصحف-: يا غزوان،

أما تجد فيه بعيرا لنا ضلّ في الجاهليّة؟ فما كهرها «1» وقال: يا أمّه، أجد والله فيه وعدا حسنا ووعيدا شديدا. سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى قال: قال ابن أبي عتيق لرجل: ما اسمك؟ قال: وثّاب؛ قال: فما كان اسم كلبك؟ قال: عمرو؛ قال: واخلافاه! قال أبو الدّرداء: علامة الجاهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه. أغمي على رجل من الأزدفصاح النساء واجتمع الجيران وبعث أخوه إلى غاسل الموتى فجاء فوجده حيّا بعد: فقال أخوه: اغسله فإنك لا تفرغ من غسله حتى يقضي. وقال أردشير: بحسبكم دلالة على عيب الجهل أنّ كلّ إنسان ينتفي منه ويغضب إذا نسب إليه. وكان يقال: لا يغرّنّك من الجاهل قرابة ولا أخوّة ولا إلف فإنّ أحقّ الناس بتحريق النار أقربهم منها. قال عمر بن عبد العزيز: خصلتان لا تعدمانك من الجاهل: كثرة الإلتفات وسرعة الجواب. وقال عمر بن الخطاب: إيّاك ومؤاخاة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك. وقال بعضهم: لأن أزاول أحمق أحبّ إليّ من أن أزاول نصف أحمق، يعني الأحمق المتعاقل. وقال هشام بن عبد الملك: يعرف حمق الرجل بأربعة: بطول لحيته، وبشناعة كنيته، ونقش خاتمه، وإفراط شهوته؛ فدخل عليه ذات يوم شيخ طويل العثنون «2» ، فقال هشام: أمّا هذا فقد جاء بواحدة، فانظروا أين هو من الثلاث؛ فقيل له: ما كنيتك؟ فقال:

أبو الياقوت؛ وقالوا: ما نقش خاتمك؟ قال: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ «1» . وفي حكاية أخرى وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ «2» ؛ فقيل له: أيّ الطعام تشتهي؟ فقال: جلنجبين «3» ، وفي حكاية أخرى مصاصة «4» . سمع عمر بن عبد العزيز رجلا ينادي رجلا: يا أبا العمرين، فقال: لو كان له عقل كفاه أحدهما. وقال أبو العاج يوما لجلسائه- وكان يلي واسط-: إنّ الطويل لا يخلو من أن يكون فيه إحدى ثلاث: أن يفرق الكلاب، أو يكون في رجله قرحة، أو يكون أحمق، وما زلت وأنا صغير في رجلي قرحة، وما فرق الكلاب أحد فرقي، وأما الحمق فأنتم أعلم بواليكم. ويقال: الأحمق أعلم بشأنه من العاقل بشأن غيره. وقال بشّار: [طويل] خليليّ إن العسر سوف يفيق ... وإنّ يسارا في غد لخليق وما كنت إلا كالزمان إذا صحا ... صحوت وإن ماق الزمان أموق «5» ذريني أشب همّي براح فإنّني ... أرى الدهر فيه كربة ومضيق وقال رجل: فلان إلى من يداوي عقله أحوج منه إلى من يداوي بدنه. قيل لبعض الحكماء: متى يكون الأدب شرّا من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقص العقل.

وقرأت في كتاب للهند: من الحمق التماس الرجل الإخوان بغير وفاء، والأجر بالرياء، ومودّة النساء بالغلظة، ونفع نفسه بضرّ غيره، والعلم والفضل بالدّعة والخفض. وفيه: ثلاثة يهزأ بهم: مدّعي الحرب ولقاء الزّحوف وشدّة النّكاية في الأعداء وبدنه سليم لا أثر به، ومنتحل علم الدّين والاجتهاد في العبادة وهو غليظ الرقبة أسمن من الأثمة، والمرأة الخليّة تعيب ذات الزوج. وفيه: من يعمل بجهل خمسة: مستعمل الرّماد في جنّته بدلا من الزّبل، ومظهر مستور عورته، والرجل يتزيّا بزيّ المرأة والمرأة تتزيّا بزيّ الرجل، والمتمّلك في بيت مضيفه، والمتكلّم بما لا يعنيه ولا يسأل عنه. وفيه: الأدب يذهب عن العاقل السّكر ويزيد الأحمق سكرا، كما أن النهار يزيد كلّ ذي بصر بصرا ويزيد الخفافيش سوء بصر. وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله. قال الشاعر في جاهل: [منسرح] ما لي أرى الناس يأخذون ويع ... طون ويستمتعون بالنّشب «1» وأنت مثل الحمار أبهم لا ... تشكو جراحات ألسن العرب سمع الأحنف رجلا يقول: ما أبالي أمدحت أم هجيت، فقال الأحنف: إسترحت من حيث تعب الكرام. كان عامر بن كريز أبو عبد الله بن عامر من حمقى قريش، نظر إلى ابنه عبد الله وهو يخطب فأقبل على رجل إلى جانبه وقال: إنه والله خرج من هذا وأشار إلى ذكره «2» .

ومن حمقى قريش العاص بن هشام أخو أبي جهل وكان أبو لهب قامره فقمره ماله ثم داره ثم قليله وكثيره وأهله ونفسه فاتّخذه عبدا وأسلمه قينا، فلما كان يوم بدر بعث به عن نفسه فقتل ببدر كافرا، قتله عمر بن الخطاب، وكان خال عمر. ومن حمقى قريش الأحوص بن جعفر بن عمرو بن حريث، قال له يوما مجالسوه: ما بال وجهك أصفر! أتشتكي شيئا؟ وأعادوا عليه ذلك، فرجع إلى أهله يلومهم ويقول لهم: أنا شاك ولا تعلمونني! ألقوا عليّ الثياب وابعثوا إلى الطبيب. وتمارض مرة فعاده أصحابه وجعل لا يتكلم، فدخل شراعة بن عبيد الله بن الزّندبوذ وكان أملح أهل الكوفة، فعرف أنه متمارض فقال: يا فلان، كنا أمس بالحيرة فأخذنا الخمر ثلاثين قنّينة بدرهم، والخمر يومئذ ثلاث قنانيّ بدرهم، فرفع الأحوص رأسه وقال: كذا منيّ في كذا من أمّ الكاذب، واستوى جالسا، فنثر أهله على شراعة السكّر؛ فقال له شراعة: اجلس لا جلست وهات شرابك، فشربا يومهما. ومن حمقى قريش بكّار بن عبد الملك بن مروان، وكان أبو هـ ينهاه أن يجالس خالد بن يزيد بن معاوية لما يعرف من حمق ابنه، فجلس يوما إلى خالد، فقال بكّار: أنا والله كما قال الأوّل: [بسيط] مردّد في بني اللّخناء ترديدا وكان له باز فقال لصاحب الشّرطة: أغلق أبواب المدينة لئلا يخرج البازي. ومن حمقى قريش معاوية بن مروان أخو عبد الملك بن مروان. بينا هو واقف بباب دمشق ينتظر عبد الملك على باب طحّان نظر إلى حمار الطّحان بدوّر الرحا وفي عنقه جلجل، فقال للطحان: لم جعلت في عنق الحمار

جلجلا؟ فقال: ربما أدركتني سامة أو نعسة فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه قام فصحت به؛ فقال معاوية: أرأيت إن قام وحرّك رأسه ما علمك أنّه قائم؟ قال الطحان: ومن لحماري بمثل عقل الأمير!. وقال معاوية هذا لأبي امرأته؛ ملأتنا ابنتك البارحة بالدم؛ فقال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن. وقال له أيضا يوما آخر: لقد نكحت ابنتك بعصبة ما رأت مثلها قطّ؛ قال: لو كنت عنّينا ما زوّجناك. ومن حمقى قريش سليمان بن يزيد بن عبد الملك، قال يوما لعن الله الوليد أخي فإنه كان فاجرا، والله لقد أرادني على أن يفعل بي؛ فقال له قائل: أسكت فوالله لئن كان همّ لقد فعل. خطب سعيد بن العاص عائشة بنت عثمان على أخيه، فقالت: هو أحمق لا أتزوّجه أبدا، له برذونان «1» أشهبان فهو يحتمل مؤونة اثنين وهما عند الناس واحد. وأخبرني رجل أنه كان له صديق له برذونان في شية «2» واحدة فكنا لا نظنّ إلا أنّ له برذونا واحدا، وغلامان يسمّيان جميعا بفتح، وكان إذا دعا واحدا قال: يا فتح الكبير، وإذا دعا الآخر قال: يا فتح الصغير. قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل «3» بن لجيم فرسا له في حلبة فجاء سابقا، فقال لأبيه: يا أبت، بأيّ شيء أسمّيه؟ فقال: إفقأ إحدى عينيه وسمّه الأعور. وقال الشاعر: [طويل] رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأيّ عباد الله أنوك من عجل!

أليس أبوهم عار عين جواده ... فأضحت به الأمثال تضرب في الجهل «1» ومن عجل دغة «2» التي يضرب بها المثل في الجهل، فيقال: هي دغة بنت مغنج؛ ويقال: دغة لقب، واسمها مارية بنت زمعة. قال أبو اليقظان: ومن عجل حيّان بن غضبان ورث نصف دار أبيه فقال: أريد أن أبيع حصّتي من الدار وأشتري النصف الباقي فتصير كلّها لي. ومن القبائل المشهور فيها الحمق الأزد. قال رجل منهم في المهلّب بن أبي صفرة: [رجز] نعم أمير الرّفقة المهلّب ... أبيض وضّاح كتيس الحلّب «3» ينقضّ بالقوم انقضاض الكوكب فلما أنشده المهلّب قال: حسبك رحمك الله!. ومن أشعارهم: [بسيط]

يا ربّ جارية في الحيّ حالية ... كأنها عومة «1» في جوف راقود وقال آخر منهم: [طويل] زياد بن عمرو عينه تحت حاجبه ... وأسنانه بيض وقد طرّ «2» شاربه وقال عمر بن لجإ «3» يصف إبلا: تصطكّ ألحيها على دلائها «4» ... تلاطم الأزد على عطائها وقال أبو حيّة النّميري: [كامل] وكأن غلى دنانهم في دورهم ... لغط العتيك «5» على خوان زياد كتب مسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلّب: والله ما أنت بصاحب هذا الأمر، صاحب هذا الأمر مغمور موتور وأنت مشهور غير موتور؛ فقام إليه رجل من الأزد فقال: قدّم ابنك مخلدا حتى يقتل فتصير موتورا. قام رجل من الأزد إلى عبيد الله بن زياد فقال: أصلح الله الأمير، إنّ امرأتي هلكت وأردت أن أتزوّج أمّها وأزوّج ابني ابنتها وهذا عريفي «6» ، فأعنّي في الصّداق؛ فقال: في كم أنت من العطاء؟ قال: في سبعمائة؛ قال: حطّا عنه أربعمائة، يكفيك ثلاثمائة. ومن حمقى الأزد قبيصة بن المهلّب، رأى جرادا يطير فقال: لا يهولنّكم

ما ترون فإنّ عامّتها موتى. وقال يوما: رأيت غرفة فوق بيت. وقال لغلامه: اذهب إلى بيّاض الملاء. ومن حمقى العرب كلاب بن صعصعة، خرج إخوته يشترون خيلا وخرج معهم كلاب فجاء بعجل يقوده؛ فقال له إخوته: ما هذا؟ قال: فرس اشتريته؛ قالوا: يا مائق، هذه بقرة أما ترى قرنيها! فرجع إلى بيته فقطع قرنيها، فأولاده يدعون «بني فارس البقرة» . قال الكميت «1» : [طويل] ولولا أمير المؤمنين وذبّه ... بخيل عن العجل المبرقع» ما صهل وكان شذرة بن الزّبرقان من الحمقى، دخل يوم الجمعة المسجد فأخذ بعضادتي «3» الباب ثم قال: السلام عليكم، أيلج شذرة؟ فقالوا له: هذا يوم لا يستأذن فيه؛ قال: أفيلج مثلي على جماعة مثل هؤلاء ولا يعرف مكانه؟ عوانة قال: استعمل معاوية رجلا من كلب؛ فذكر المجوس يوما فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أعطيت عشرة آلاف ما نكحت أمّي؛ فبلغ ذلك معاوية، فقال: قبّحه الله! أترونه لو زادوه فعل! وعزله. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: سأل القوم الحارث بن جران أن يعينهم في تأسيس مسجد؛ فقال: قيّروه وعليّ الودع. خطب والي اليمامة فقال: إن الله لا يقارّ على المعاصي عباده، وقد أهلك أمّة عظيمة في ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم؛ فسمّي مقوّم الناقة. شرد بعير لهبنّقة، واسمه يزيد بن ثروان، فقال: من وجد بعيري فهو

له؛ فقيل له: وما ينفعك من هذا؟ قال: إنكم لا تدرون ما حلاوة الوجدان. وقال المنصور للرّبيع: كيف تعرف الريح؟ قال: أنظر إلى خاتمي فإن كان سلسا فهي شمال وإلّا فهي جنوب؛ فسأل القاسم بن محمد الطّلحيّ عن ذلك؛ فقال: أضرب بيدي إلى خصيتيّ فإن كانتا قد قلصتا فهي شمال وإن كانتا متدلّيتين فهي جنوب. قال أبو كعب القاصّ في قصصه: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في كبد حمزة: ما قد علمتم فادعوا الله أن يطعمنا من كبد حمزة. وكان يقول في قصصه: ليس فيّ خير ولا فيكم، فتبلّغوا بي حتى تجدوا خيرا منّي. وقال هو أو غيره في قصصه: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا؛ قالوا: فإنّ يوسف لم يأكله الذئب؛ قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف. حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله عن عمّه قال: كان قاصّ يقصّ في المسجد فيقول: مثل الكافر مثل قصر الإسكاف خارجه حسن وداخله مخرأة، ومثل المؤمن مثل قصر زربيّ «1» جداره كالح وداخله زهرة. ويقول: وما الدنيا! أخزى الله الدنيا! إنما مثلها مثل أير حمار، بينا هو قد أنعظ «2» إذ طفىء. وقال: المؤمن غذاؤه فلقة وسمكته شلقة ودواؤه علقة ومرقته سلقة «3» . أصابت داود المصاب مصيبة فاغتمّ؛ فقال له صاحب له: لا تتّهم الله

في قضائه؛ فقال داود: أقول لك شيئا وتكتمه؟ قال: نعم: قال: والله ما صاحبي غيره. واستشاره رجل في حمل أمّه إلى البصرة، وقال: إن حملتها في البرّ خفت عليها اللّصوص، وإن حملتها في الماء خفت عليها الغرق؛ فقال: خذ بها سفتجة «1» . دعا بعض السلاطين مجنونين ليضحك منهما، فأسمعاه فغضب فدعا بالسيف؛ فقال أحدهما للآخر: كنّا اثنين وقد صرنا ثلاثة. قال رجل لابن سيابة مولى بني أسد: ما أراك تعرف الله؛ قال: أتراني لا أعرف من أجاعني وأعراني وأخزاني. قيل لأعرابيّ: كيف برّك بأمّك؟ قال: ما قرعتها سوطا قطّ. وقيل لآخر وهو يضرب أمّه: ويحك! تضرب أمّك! فقال: أحبّ أن تنشأ على أدبي. وقال بعض الشعراء: [طويل] جنونك مجنون ولست بواجد ... طبيبا يداوي من جنون جنون وقال آخر: [طويل] وكيف يفيق الدّهر كعب بن ناشب ... وشيطانه بين الأهلّة يصرع وقال أعرابيّ وذكر الله عزّ وجلّ: [كامل] خلق السماء وأهلها في جمعة ... وأبوك يمدر حوضه «2» في عام كان أبو العاج والي واسط، وأتاه صاحب شرطته بقوّادة فقال: أصلح الله الأمير، هذه قوادة؛ قال: وأيّ شيء تصنع؟ قال: تجمع بين الرجال

والنساء؛ قال: لماذا؟ قال: للزنا؛ قال: وإنما أتيتني بها لتعرّفها منزلي! خلّ عنها لعنك الله. وأتاه يوما بمخنّث؛ فقال له: ما هذا؟ قال: مخنّث؛ قال: وما يصنع؟ قال: ينكح كما تنكح المرأة؛ قال: يبذل هذا استه وأحظر أنا عليه! اذهب يا ابن أخي فارتد لها. خطب وكيع بن أبي سود بخراسان فقال: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر؛ فقيل له: إنها ستّة أيام؛ فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلّها. تغدّى رجل عند سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ وليّ عهد وقدّامة جدي، فقال له سليمان: كل من كليته فإنها تزيد في الدّماغ؛ فقال: لو كان هذا هكذا كان رأس الأمير مثل رأس البغل. أبو عبيدة: أجريت الخيل فطلع منها فرس سابق فجعل رجل من النّظّارة يكبّر ويثب من الفرح؛ فقال له رجل إلى جانبه: يا فتى، هذا الفرس فرسك؟ قال: لا ولكنّ اللّجام لي. دخل أبو عتّاب على عمرو بن هدّاب وقد كفّ بصره والناس يعزّونه، فقال: يا أبا زيد، لا يسوءنّك ذهابهما، فإنك لو رأيت ثوابهما في ميزانك تمنّيت أنّ الله قطع يديك ورجليك ودقّ ظهرك. كان رجل يقود أعمى بكراء، فكان الأعمى ربما عثر فيقول: اللهم أبدلني به قائدا خيرا منه؛ ويقول القائد: اللهم أبدلني أعمى خيرا منه. ادّعى أبو بكر الشّيبانيّ إلى العرب ذات ليلة فأصبح من الغد على الشمس فقعد فيها فثارت به مرّة، فجعل يحكّ جسده بأظفاره خمشا ويقول: إنما نحن إبل؛ فقال له قائل: والله إنك تشبه العرب؛ فغضب وقال: أيقال لي

هذا! إنا والله حرباء تنضبة «1» ، يشهد لي سواد لوني وغؤور «2» عينيّ وحبيّ للشمس. قيل لأبي السّفّاح عند موته: أوصه؛ فقال: إنّا لكرام قوم طخفة «3» ؛ قالوا: قل خيرا يا أبا السفّاح؛ فقال: إن أحبّت امرأتي فأعطوها بعيرا؛ قالوا: قل خيرا؛ قال: إذا مات غلامي فهو حرّ. وقيل لرجل عند موته: قل لا إله إلا الله، فأعرض، فأعادوا عليه مرارا، فقال: أخبروني عن أبي طالب أقالها عند موته؟ قالوا: وما أنت وأبو طالب! قال: لا أرغب بنفسي عنه. ولما احتضر العجير السّلوليّ قال لقوم عنده: أنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأوّل يوم من أيام الآخرة، والله لئن وجدت لي عند الله موضعا لأكلمنّه فيكم. وقيل لأوس ابن حارثة عند موته: قل لا إله إلا الله، فقال: لم يأن لها بعد. وقيل لآخر عند موته: ألا توصي؟ قال: أنا مغفور لي؛ قالوا: قل إن شاء الله، قال: قد شاء الله ذلك، قالوا: لا تدع الوصيّة، فقال لبني أخيه: [رجز] بني حريث ارفعا وسادي ... واحتفظا بالجلّة الجلاد فإنما حولكما الأعادي قال سهل بن هارون: ثلاثة من المجانين وإن كانوا عقلاء: الغضبان

والغيران والسكران؛ قالوا: فما تقول في المنعظ «1» ؟ فضحك وقال: [وافر] وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا «2» قال الوليد: ألا إنّ أمير المؤمنين عبد الملك كان يقول: إنّ الحجّاج جلدة ما بين عينيّ، ألا وإن الحجاج جلدة وجهي كلّه. خطب عتّاب «3» بن ورقاء فحثّ على الجهاد وقال: هذا كما قال الله تعالى: [خفيف] كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول وقال آخر في الرّبيع والي اليمامة: [طويل] شهدت بأن الله حقّ لقاؤه ... وأنّ الربيع العامريّ رقيع أقاد لنا كلبا بكلب ولم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع دخل شابّ على المنصور فسأله عن وفاة أبيه، فقال: مات رحمه الله يوم كذا وكذا، وكان مرضه رضي الله عنه كذا وكذا، وترك عفا الله عنه من المال كذا وكذا؛ فانتهره الربيع وقال: أبين يدي أمير المؤمنين توالي الدعاء لأبيك؟ فقال الشابّ: لا ألومك، إنك لم تعرف حلاوة الآباء؛ فما علم أنّ المنصور ضحك مثل ضحكه يومئذ. وكان الربيع لقيطا. دخل رجل من بني هاشم على المنصور فاستجلسه ودعا بغدائه فقال للفتى: أدنه؛ فقال: قد تغدّيت؛ فلما خرج استخفّ به الربيع ودفع في قفاه،

وقال: هذا كان يسلّم من بعيد وينصرف، فلمّا استدناه أمير المؤمنين وأمره بالجلوس ودعاه إلى طعامه تبذّل بين يديه فبلغ من جهل بفضيلة المنزلة التي صيّره فيها أن قال: قد تغدّيت، وإذا ليس عنده لمن تغدّى مع أمير المؤمنين إلا سدّ خلّة الجوع. يونس الهجريّ قال: مات رجل من جند أهل الشام فحضر الحجّاج جنازته، وكان عظيم القدر، فصلّى وجلس على قبره وقال: لينزل قبره بعض إخوانه؛ فنزل نفر منهم، فقال أحدهم وهو يسوّي عليه: رحمك الله أبا فلان! إن كنت ما علمتك لتجيد الغناء وتسرع ربّ الكأس، ولقد وقعت في موقع سوء لا تخرج منه إلى الدّكّة «1» ؛ فما تمالك الحجّاج أن ضحك فأكثر، وكان لا يكثر الضحك في جدّ ولا هزل، ثم قال له: لا أمّ لك! هذا موضع هذا! قال: أصلح الله الأمير، فرسي حبيس لو سمعه يتغنّى: [مديد] يا لبيني أوقدي النارا «2» لانتشر الأمير على سعنة «3» ، وكان الميّت يلقّب سعنة، وكان من أوحش خلق الله صورة وأدّمهم؛ فقال الحجاج: إنا لله! أخرجوه عن القبر، ثم قال: ما أبين حجّة أهل العراق في جهلكم يا أهل الشام. ولم يبق أحد حضر القبر إلا استفرغ ضحكا تبع داود بن المعتمر امرأة ظنّ أنها من الفواسد، فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيما الخير لم أتبعك؛ فضحكت المرأة وأسندت ظهرها إلى الحائط

ثم قالت: إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير، فإذا صار سيما الخير هو الدالّ لمثلك على مثلي فالله المستعان. كان بهلول المجنون يتغنّى بقيراط ولا يسكت إلا بدانق «1» . وكان رجل يهوى جارية تختلف في حوائج أهلها، وكانت إذا خرجت إلى السوق ولم يعلم بخروجها ثم رجعت فرآها قال وهو يسمعها: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ «2» ، وإن وعدته شيئا فأخلفت قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ «3» ، فإن تغضّبت لشيء بلغها عنه قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «4» . مرّ بعض الحمقى بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي، فرقّ لها وقال: من هذا الميّت؟ قالت: زوجي؛ قال: فما كان عمله؟ قالت: يحفر القبور؛ قال: أبعده الله أما علم أن من حفر حفرة وقع فيها! أحدث رجل من الحمقى ليلة على باب رجل، فلما خرج الرجل زلق ووقع على ذراعه فانكسرت، واجتمع الجيران وجعلوا يختصمون ويوقعون الظنون وهو ناحية يسمع كلامهم، فلما أكثروا قال: [وافر] رأيت الحرب يجنيها رجال ... ويصلى حرّها قوم براء فأخذوه وقالوا: أنت صاحبنا. قال داود المصاب: رأيت رؤيا نصفها حقّ ونصفها باطل، رأيت كأنّ على عنقي بدرة «5» فمن ثقلها أحدثت فاستيقظت فرأيت الحدث ولم أر البدرة. رئي أعرابيّ يبكي بكاء شديدا، فسئل عن سبب

بكائه فقال: بلغني أنّ جالوت قتل مظلوما. رأى رجل أحمق شيخا في الحمّام أعكن «1» البطن، فقال له: يا عمّ، إني أشتهي أن أضع هذا- يعني ذكره- في سرّتك؛ فقال له الشيخ: يا ابن أخي، فأين يكون استك حينئذ. نزل يهوديّ على أعرابيّ فمات عنده، فقام الأعربيّ يصلّي عليه فقال: اللهم إنه ضيف وحقّ الضيف ما قد علمت، فأمهلنا إلى أن نقضي ذمامه ثم شأنك والكلب. وحدّثني عبد الرحمن عن الأصمعيّ قال: كان بين اثنين عبد فقام أحدهما فجعل يضربه؛ فقال له الآخر شريكه: ما تصنع! قال: إنما أضرب حصّتي. قال أعرابيّ لرجل: ما اسمك؟ قال: عبد الله، قال: ابن من؟ قال: ابن عبيد الله، قال: أبو من؟ قال: أبو عبد الرحمن، قال: أشهد إنك لتلوذ بالله لواذ يتيم جبان. قال بعضهم: رأيت رجلين بالبصرة على باب مويس يتنازعان في العنب النيروزيّ والرازقيّ: أيّهما أطيب، فجرى بينهما كلام إلى أن تواثبا، فقطع الكوفيّ إصبع البصريّ وفقأ البصريّ عين الكوفيّ، ثم لم ألبث إلا يسيرا حتى رأيتهما متصافيين متنادمين. قال: وقال ثمامة: مررت في غبّ سماء والأرض ندية والسّماء متغيّمة والريح شمال وإذا شيخ أصفر كأنه جرادة، وقد قعد على قارعة الطريق وحجّام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب وقد مصّ دمه حتى كاد يستفرغه؛ فوقفت وقلت: يا شيخ لم تحتجم؟ قال: لمكان الصّفار الذي بي. أتى الطّمحان قوما يعود عليلا لهم فعزّاهم به؛ قالوا: إنه لم يمت؛ فرجع وهو يقول: يموت إن شاء الله، يموت إن شاء الله. أبو حاتم عن الأصمعيّ عن نافع قال: كان الغاضريّ من أحمق الناس؛

فقيل له: ما حمقه؟ فجعل يتربّث «1» ، فلما أكثر عليه قال: قال لي مرّة: البحر من حفره؟ وها حفر فأين نبيثته «2» ؟ أترى أمير المؤمنين يقدر على أن يحفر مثله في ثلاثة أيام؟ دخل رجل من الحمقى من الشعراء على رجل من الأشراف يقال في نسبه، فقال: إني قد امتدحتك بشعر لم تمدح قطّ بأنفع لك منه؛ قال: ما أحوجني إلى المنفعة فهاته؛ فقال: [سريع] سألت عن أصلك فيما مضى ... أبناء سبعين وقد نيّفوا فكلّهم يخبرني أنّه ... مهذّب جوهره يعرق فقال له: قم في لعنة الله وفي سخطه! لعنك الله ولعن من سألت ومن أجابك. وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: جاء رجل من الأعراب إلى عمّه فقال: يا عمّ إنّ ولد جارية آل فلان منّي فافتده، ففعل؛ ثم جاءه مرّة أخرى فقال له مثل ذلك؛ فقال له عمّه؛ لو عزلت! قال: بلغني أن العزل مكروه. قال: وحدّثنا الأصمعيّ قال: بلغني عن شيخ جزع على ميت جزعا شديدا؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: نحن قوم لم نتعوّد الموت. أبو الحسن الجعفريّ قال: قيل لكردم السّدوسيّ: كل؛ قال: ما أريد؛ قيل: ولم؟ قال: أكلت قليل أرز «3» فأكثرت منه. ضلّ بعير لأعرابيّ فجعل ينشده إلى أن دخل الإمارة فأخذ منها بعيرا؛ فقيل له: إنّ بعيرك كان أعرابيّا؛ قال: إنه لما أكل من مال الإمارة تبخّت «4» .

الهيثم عن ابن عبّاس قال: لما ولي مروان وجّه جيش حبيش بن دلجة القينيّ إلى المدينة وكان يصعد المنبر ومعه الكتلة من التمر فيأكلها ثم يلقي النّوى على وجوه أهل المدينة يمينا وشمالا، ثم يقول: يا أهل المدينة، إني لأعلم أنّ هذا المكان في حرمته وموضعه ليس موضع أكل ولا شرب، ولكني أحبّ أن أريكم هوانكم. قيل لمعلّم بن معلّم: مالك أحمق؟ قال: لو لم أكن أحمق كنت ولد زنا. قال بعض الشعراء [طويل] فإن كنت قد بايعت مروان طائعا ... فصرت إذا بعد المشيب معلّما وقال آخر: [طويل] وكيف ترجّي العقل والرأي عند من ... يروح على أنثى ويغدو على طفل ابن المدائنيّ قال: تحوّل أبو عبد الله الكرخيّ إلى الخريبة «1» فادّعى الفقه وظنّ أنّ ذلك يجوز لمكان لحيته وسمته، فألقى على باب داره البواري «2» وجلس فجلس إليه قوم فقال له رجل منهم: يا أبا عبد الله، رجل في الصلاة أدخل إصبعه في أنفه فخرج عليها دم، أي شيء يصنع؟ قال: يحتجم رحمك الله؛ فقال له السائل: ظننت أنّك فقيه ولم أدر أنك طبيب. قال رجل للشّعبيّ: إني أجد في قفاي حكّة فترى لي أن أحتجم؟ فقال الشعبيّ: الحمد الله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة. وقال له آخر: رجل استمنى في يوم من شهر رمضان هل يؤجر؟ قال: أوما يرضى أن يفلت رأسا برأس. نازع التيميّ رجل من بني عمّه في حائط بينهما فبعث إلى قوم يشهدهم، فأتاه جماعة من القبائل، فوقف بهم على ذلك الحائط وقال: أشهدكم جميعا أنّ

نصف هذا الحائط لي. وقدّم آخر رجلا إلى القاضي في شيء يدّعيه عليه، فأنكر الرجل، فقال: أيها القاضي، أكتب إنكاره؛ فقال القاضي: الإنكار في يدك متى شئت. قال مسعدة بن طارق الذّرّاع: إنّا لوقوف على حدود دار لنقسمها ونحن في خصومة، إذ أقبل سيّد بني تميم وموسرهم والمصلّي على جنائزهم، فأمسكنا عن الكلام؛ فقال: حدّثوني عن هذه الدار هل ضمّ منها بعضنا إلى بعض أحدا؟ قال مسعدة: فأنا منذ ستين سنة أفكّر في كلامه فما أدري ما عنى. أتت جارية أبا ضمضم فقال: إنّ هذا قبّلني؛ فقال: يا فتى، أذعن لها بحقّها، قبّليه عافاك الله كما قبّلك، فإن الله يقول: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ «1» . حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: ألقيت على رجل فريضة فاشتدّت عليه فجعل يحسب غيرها؛ فقالوا له في ذلك؛ فقال: عسى أن يكون ترك غير ما ذكروا، حدّثني محمد بن عمر عن ابن كناسة قال: قال بعض الطالبيّين لأشعب: لو رويت الحديث وتركت النوادر كان أنبل لك؛ قال: والله قد سمعت الحديث ورويته؛ قال: فحدّثنا؛ قال: حدّثني نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلّتان من كانتا فيه كان من خالصة الله» ؛ قال: هذا حديث حسن فما هما؟ قال: نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى. وكان بالبصرة ثلاثة إخوة من ولد عتّاب بن أسيد كان أحدهم يحجّ عن حمزة ويقول: أستشهد قبل أن يحجّ، وكان الآخر يضحّي عن أبي بكر وعمر ويقول أخص؟؟؟ لسنة في ترك الأضحية، وكان الآخر يفطر عن عائشة أيام

التشريق ويقول: غلطت في صومها أيام العيد، فمن صام عن أبيه وأمّه فأنا أفطر عن أمّي عائشة. قال ثمامة: كنّا في منزل رجل من الدّهاقين «1» وفينا شيخ منهم، فأتى ربّ البيت بدهن طيب فدهن بعضنا رأسه وبعضنا لحيته ومسح بعضنا شاربه وبعضنا يديه، فقال أحدهم: ادهنوا أستاهكم «2» تأمنوا الحزاز «3» ، وأمرّوها على وجوهكم؛ فأخذ شيخ منهم بطرف إصبعه فأدخله في أنفه ومسح حاجبيه، فعمد الشيخ إلى بقية الدّهن فصبّه في أذنه؛ فقلنا له: ويحك! هل رأيت أحدا أتي بدهن طيب فصبّه في أذنه؟ قال: إنه مع هذا يضرّني. قال عبد الله بن المبارك: كان عندنا رجل يكنى أبا خارجة، فقلت له: لم كنوك أبا خارجة؟ قال: لأني ولدت يوم دخل سليمان بن عليّ البصرة. قال عمرو بن بحر: ذكر لي ذاكر عن شيخ من الإباضيّة أنه جرى ذكر الشيعة عنده فأنكر ذلك واشتد غضبه؛ فقلت له: ما أنكرت؟ قال: أنكر مكان الشّين في أوّل الكلمة لأني لم أجدها قطّ إلا في مسخوط عليه مثل شؤم وشرّ وشيطان وشحّ وشغب وشيب وشكّ وشرك وشتم وشيعة وشطرنج وشاكي وشانىء وشجج وشوصة «4» وشابشتى وشكوى؛ فقلت: ما تقوم بهؤلاء قائمة أبدا. قال: وسمعت رجلا يقول: عجبت لمن يأخذه النوم وهو لا يزعم أنّ الاستطاعة مع الفعل؛ فقلت له: ما الدليل على ذلك؟ فقال: سبحان الله! الأشعار الصّحاح؛ قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل قول رؤبة «5» : [رجز] ما إن يقعن الأرض إلا وفقا

وقوله «1» : [رجز] يهوين شتّى ويقعن وفقا «2» وقوله: [طويل] مكرّ مقر مقبل مدبر معا «3» وقولهم في المثل: «وقعا كعكمي «4» عير» ثم قال: هل في هذا مقنع؟ قلت: بلى وفي دون هذا. وعد رجل رجلا من الحمقى أن يهدي له من مكة نعلا، فطال عليه الإنتظار، فأخذ قارورة فبال فيها ثم أتى بها الطبيب ثم قال: أنظر في هذا الماء هل يهدي لي بعض إخواني نعلا حضرمية؟. وقال الزّياديّ: مرّ أشعب برجل يعمل طبقا وقال له: زد فيه طوقا؛ قال: ولم؟ قال: لعلّه يهدي لي فيه شيء. أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا إبراهيم بن القعقاع قال: رأيت أشعب بسوق المدينة معه قطيفة قد ذهب خملها وهو يقول: من يشتري منّي

الرّمدة «1» ؟ فأتاه رجل فساومه؛ قال: أبرأ إليك من عيب فيها؛ قال: وما هو؟ قال: تحترق إن أنت لبستها. سقط أعرابيّ من بعير له، فانكسرت ضلع من أضلاعه فأتى الجابر يستوصفه؛ فقال: خذ تمرا جيّدا فانزع أقماعه ونواه واعجنه بسمن ثم اضمده عليه؛ قال: أي بأبي أنت من داخل أم من خارج؟ قال: من خارج؛ قال: لا أبا لشانئك هو من داخل أنفع لي؛ قال: ضعه حيث تعلم أنّه أنفع. مات ابن صغير لأعرابيّ، فقيل له: نرجو أن يكون لك شفيعا؛ فقال: لا وكلنا الله إلى شفاعته، حسبه المسكين أن يقوم بأمر نفسه. جاء أعرابيّ إلى المسجد والإمام يخطب، فقال لبعض القوم: ما هذا؟ قال: يدعون الناس إلى الطعام؛ قال: فما يقول صاحب المنبر؟ قال: يقول ما يرضى الأعراب أن يأكلوا حتى يحملوا معهم؛ فتخطّى الأعرابيّ الناس حتى دنا من الوالي فقال: يا هذا، إن الذين يفعلون ما تقول سفهاؤنا. أخذ الحجاج لصّا أعرابيّا فضربه سبعمائة سوط فكلّما قرعه بسوط قال: اللهم شكرا؛ فأتاه ابن عمّ له فقال: والله ما دعا الحجّاج إلى التمادي في ضربك إلا كثرة شكرك، لأن الله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «2» ؛ فقال: إنّ هذا في كتاب الله؟ فقال: اللهمّ نعم؛ فأنشأ الأعرابيّ يقول: [رجز] يا ربّ، لا شكر فلا تزدني ... أسرفت في شكرك فاعف عنّي باعد ثواب الشاكرين منّي فبلغ الحجاج فخلّي سبيله. جاء أعرابيّ إلى صيرفيّ بدرهم؛ قال: هذا

ستّوق «1» ؛ فقال الأعرابيّ: وما هو السّتّوق بأبي أنت؟ قال: داخله نحاس وخارجه فضّة؛ قال: ليس كذلك؛ قال: أكسره فإن كان كذلك فأنا منه بريء؟ قال: نعم؛ فكسره فلما رأى النحاس قال: بأبي أنت، متى أموت؟ فأنا أشهد أنك تعلم الغيب. لما حضرت الحطيئة الوفاة قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم قطّ فلعلي أن أبقى، ثم تمثّل: [طويل] لكلّ جديد لذّة غير أنّني ... رأيت جديد الموت غير لذيذ المدائنيّ قال: دعا رجل بمكة لأمّه؛ فقال له قائل: فما بال أبيك؟ قال: هو رجل يحتال لنفسه. قيل لأشعب: أرأيت أحدا قطّ أطمع منك؟ قال: نعم خرجت إلى الشام فنزلت أنا ورفيق لي بدير فيه راهب، فتلاحينا في أمر فقلت: الكاذب منّا كذا من الراهب في كذا من أمّه، فأتى الراهب وقد أنعظ «2» وهو يقول: بأبي من الكاذب منكما؟. مرّ إسحاق بن سليمان بن عليّ الهاشميّ بقاصّ وهو يقرأ: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ «3» فتنفّس ثم قال: اللهمّ اجعلنا ممن يتجرّعه ويسيغه. الأصمعيّ عن أبيه: قلت لأعرابيّ: أفيكم زنا؟ قال: بالحرائر؟ ذاك عند الله عظيم، ولكن مساعاة بهذه الإماء. موسى بن طلحة قال: جاءنا عليّ بن أبي طالب رحمه الله ونحن في المسجد شباب من شباب قريش، فنحّينا له عن الأسطوانة وقلنا: هاهنا يا عمّ؛ فقال: يا بني أخي، أنتم لشيوخكم خير

من مهرة «1» فإنه إذا كبر الشيخ فيهم شدّوه عقالا ثم يقال له: ثب فيه، فإن وثب خلّوا سبيله وقالوا: فيه بقيّة من علالة، وإن لم يثب قدّموه فضربوا علاوته «2» وقالوا: لا يصيبك عندنا بلاء. قيل لبحر بن الأحنف: ما يمنعك أن تكون مثل أبيك؟ قال: الكسل. وقال يوما لزبراء جارية أبيه: يا زانية؛ فقالت: لو كنت كذلك جئت أباك بمثلك. أبو الحسن قال: جاء قوم إلى رجل من الوجوه فقالوا له: مات جارك فلان فمر لنا بكفن؛ فقال: ما عندنا اليوم شيء ولكن تعودون؛ قالوا: أفنملي إلى أن يتيسر عندك شيء!. وأتى رجل رجلا فقال له: أصلحك الله، تعيرنا ثوبا نكفّن فيه ميتا؟. قال قاسم التّمار في كلام له: بينهما كما بين السماء إلى قريب من الأرض. وقال أيضا: رأيت إيوان كسرى فإذا هو كأنما رفعت اليد عنه أوّل من أمس. كان عبد الملك بن هلال الهينابيّ له زبيل «3» مملوء حصا للتسبيح، فكان يسبّح بواحدة واحدة، فإذا ملّ طرح ثنتين ثنتين ثم ثلاثا ثلاثا، فإذا زاد ملاله طرحه قبضة قبضة وقال: سبحان الله عددك، فإذا ضجر أخذ بعرى الزّبيل وقال: الحمد لله بعدد هذا كلّه. دخل قوم منزل الرّستميّ لأمر وقع، فحضر وقت صلاة الظهر فقالوا: كيف القبلة في دارك هذه؟ فقال: إنما نزلناها منذ شهر. المدائنيّ عن عليّ بن مجاهد عن حميد بن أبي البختريّ أن الشعبيّ

قال: مرضت فلقيت ابن الحرّ فأمرني أن أمشي كل يوم إلى الثّويّة، فكنت أغدو كلّ يوم إليها، فانصرفت ذات يوم فلّما كنت في جهينة الظاهرة إذا شيخ منهم قاعد على طنفسة «1» متّكيء على وسادة، فسلّمت ثم ألقيت نفسي على الرمل؛ فقال: لقد جلست جلسة عاجز أو ضعيف؛ قلت: قد جمعتهما؛ قال: أدام الله لك ذلك. ثم قال: إنّ أهلي كانوا يتخوّفون عليّ ثلاثا؛ نقصان البصر وترك النساء والقطاف في المشي، فوالله إنهم ليرون الشخص واحدا وأراه اثنين، ولقد تركت النساء فما لي فيهن من حاجة، وإني لأمشي فأهملج «2» ؛ قلت: أدام الله لك ذلك. قال المدائنيّ: ركب يزيد بن نهشل النهشليّ بعيرا وقال: اللهم إنّك قلت: وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ «3» وإنّي لبعيري هذا لمقرن؛ فنفر به فطرحه وبقيت رجله في الغرز، فجعل يضرب برأسه كلّ حجر ومدر «4» حتى مات. حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: اختصمت الطّفاوة وبنو راسب «5» في رجل يدّعيه الفريقان إلى ابن عرباض، فقال: الحكم بينكم أبين من ذلك، يلقى في النهر فإن طفا فهو لطفاوة، وإن رسب فهو لبني راسب. المدائنيّ قال: لما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له: أوص؛ قال: بم أوصي! مالي للذكور دون الإناث؛ فقالوا: إن الله لم يأمر بهذا؛ فقال: لكني

آمر به، ثم قال: ويل للشعر من راوية الشعر؛ فقيل له: أوص يا أبا مليكة للمساكين بشيء؛ قال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا فإنها تجارة لن تبور. قيل: أعتق عبد يسارا؛ قال: اشهدوا أنه عبد ما بقي. قيل: فلان اليتيم ما توصي فيه؟ قال: أوصي أن تأكلوا ماله وتنيكوا أمّه؛ قالوا: ليس إلا هذا! قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم لعليّ أنجو؛ ومات مكانه. لمّا حضرت سعد بن زيد الوفاة جمع ولده وقال: يا بنيّ، أوصيكم بالناس شرّا كلّموهم نزرا، وانظروا إليهم شزرا، ولا تقبلوا لهم عذرا؛ قصّروا الأعنّة، واشحذوا الأسنّة، تأكلوا القريب، ويرهبكم البعيد. ولمّا حضرت وكيعا الوفاة دعا بنيه فقال: يا بني، إنّي لأعلم أن قوما سيأتونكم قد أقرحوا جباههم وعرّضوا لحاهم يدّعون أنّ لهم على أبيكم دينا فلا تقضوهم، فإنّ أباكم قد حمل من الذّنوب ما إن غفر الله له لم تضرره، وإلّا فهي مع ما تقدّم. تقدّم رجل من بني العنبر إلى سوّار فقال: إنّ أبي مات وتركني وأخا لي، وخطّ خطّين ناحية، ثم قال: وهجينا لنا، ثم خط خطّا آخر ناحية، ثم قال: كيف ينقسم المال بيننا؟ فقال: المال بينكم أثلاثا إن لم يكن وارث غيركم؛ فقال له: لا أحسبك فهمت، إنه تركني وأخي وهجينا لنا؛ فقال سوّار: المال بينكم سواء؛ فقال الأعرابيّ أيأخذ الهجين كما آخذ ويأخذ أخي؟ قال أجل! فغضب الأعرابيّ وقال: تعلم والله أنك قليل الخالات بالدّهناء «1» ؛ فقال سوّار: إذا لا يضرّني ذلك عند الله شيئا.

طبائع الإنسان

قال بعض العمّال الأعرابيّ: ما أحسبك تدري كم تصلّي في كلّ يوم وليلة؛ فقال: أرأيت إن أنبأتك بذلك تجعل لي عليك مسألة؟ قال: نعم: قال الأعرابيّ: [رجز] إن الصّلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع ثم صلاة الفجر لا تضيّع قال: قد صدقت، فسل؛ قال: كم فقار ظهرك؟ قال: لا أدري؛ قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟. أخبرني رجل حضر مجلس محمد بن الجهم البرمكيّ أنه دخل عليه رجل يكتب في حوائج له؛ فقرأها ووعده قضاءها؛ فنهض وهو يدعو له وقال: أبقاك الله وحفظك وأتمّ نعمته عليك؛ فقال له محمد بن الجهم: كتابي إليك وأنا في عافية. طبائع الإنسان حدّثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبّه أنه وجد في التّوراة: إنّي حين خلقت آدم ركّبت جسده من أربعة أشياء ثم جعلتها وراثة في ولده تنمي في أجسادهم وينمون عليها إلى يوم القيامة: رطب ويابس وسخن وبارد، وذلك لأني خلقته من تراب وماء ثم جعلت فيه نفسا وروحا، فيبوسة كلّ جسد من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، ثم خلقت الجسد بعد هذا الخلق الأوّل أربعة أنواع من الخلق الآخر وهي معلاك الجسد بإذني وقوامه، لا يقوم

الجسد إلا بهنّ ولا تقوم واحدة إلا بهنّ، المرّة الصفراء والمرّة السوداء والدّم والبلغم، ثم أسكنت بعض هذه الخلق في بعض فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء ومسكن الرطوبة في الدم ومسكن البرودة في البلغم ومسكن الحرارة في المرّة الصفراء، فأيّما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع فكانت كلّ واحدة منهنّ ربعا لا يزيد ولا ينقص كملت صحتّه واعتدل بنيانه، وإن زادت واحدة منهنّ غلبتهنّ وقهرتهنّ ومالت بهن ودخل على أخواتها السّقم من ناحيتها بقدر ما زادت وإذا كانت ناقصة تقلّ عنهنّ ملن بها وعلونها وأدخلن عليها السّقم من نواحيهنّ لقلّتها عنهنّ حتى تضعف عن طاقتهن وتعجز عن مقاومتهن. قال وهب: وجعل عقله في دماغه وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، وصرامته في قلبه، ورعبه في رئته، وضحكه في طحاله وحزنه وفرحه في وجهه، وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا. قال: حدّثني زيد بن أخزم قال: حدّثنا بشر بن عمر عن أبي الزّناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ ابن آدم تأكل الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركّب» . وقالت الحكماء: الخنث يعتري الأعراب والأكراد والزّنج والمجانين وكلّ صنف إلا الخصيان فإنه لا يكون خصيّ مخنّث. وقالوا: كلّ ذي ريح منتنة وذفر كالتيس وما أشبهه، إذا خصي نقص نتنه وذهب صنانه «1» غير الإنسان فإنّ نتنه يشتدّ وصنانه يحدّ وعرقه يخبث وريحه. وكلّ شيء من الحيوان يخصى فإنّ عظمه يدقّ، فإذا دقّ عظمه استرخى لحمه وتبرّأ من عظمه خلا الإنسان فإنه إذا خصي طال عظمه وعرض. وقالوا: الخصيّ والمرأة لا يصلعان، والخصيّ تطول قدمه وتعظم. وبلغني أنه كان لمحمد بن الجهم برذون رقيق الحافر فخصاه فجاد حافره، اعتبر ذلك

بالإنسان إذا خصي عظمت رجله. قالوا: والخصيّ يشتدّ وقع رجله لأن معاقد عصبه تسترخي، ويعتريه الاعوجاج والفدع «1» في أصابعه، وتسرع دمعته، ويتخدّد «2» جلده، ويسرع غضبه ورضاه، ويضيق صدره عن كتمان السرّ. ويزعم قوم أنّ أعمارهم تطول لترك الجماع، قالوا: وتلك علّة طول عمر البغل. وقالوا: علّة قصر عمر العصفور كثرة سفاده «3» . قالوا: وشأن الغريق إذا كان رجلا ثم ظهر على الماء أن يظهر على قفاه، وإن كان امرأة أن تظهر على وجهها. والرجل إذا ضربت عنقه سقط على وجهه ثم يقلبه ذكره إذا انتفخ. قالوا: وفي الغلمان من لا يحتلم أبدا، وفي النساء من لا تحيض أبدا، وذلك عيب. وفي الناس من لا يسقط ثغره ولا يستبدل منه، منهم عبد الصّمد بن عليّ ذكروا أنه دخل قبره برواضعه «4» . والضّبّ لا تسقط له سنّ. وكذلك الخنزير لا يلقي شيئا من أسنانه. ولذلك تقول العرب في مثل لها: لا آتيك سنّ الحسل «5» يريدون لا آتيك أبدا. وتقول الأطبّاء: إنه ليس شيء من الحيوان يستطيع أن ينظر إلى أديم السماء الا الإنسان، وذلك لكرامته على الله. ويقول بعضهم؛ إن الجنين يغتذي دم الحيض يسيل إليه من السّرّة بغذائه؛ وقالوا: لذلك لا تحيض الحوامل. وقد رأينا من الحوامل من تحيض.

والعرب تقول: حملت فلانة سهوا، إذا حاضت على الحمل. قال الهذليّ «1» يمدح رجلا: [كامل] ومبّرإ من كلّ غبّر حيضة ... ورضاع مغيلة وداء معضل «2» فأعلمك أنها لم تر عليه دم حيض في حملها، ودلّ على أنه قد يكون. قالوا: فإذا خرج الجنين من الرّحمن دفعت الطبيعة ذلك الدم الذي كان يغتذيه إلى الثّديين، وهما عضوان ناهدان عصبيّان فغيّراه وجعلاه لبنا. يقول الله عزّ وجلّ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ «3» . قالوا: والإنسان يعيش حيث تحيا النار ويتلف حيث لا تبقى النار. وأصحاب المعادن والحفائر إذا هجموا على نفق في بطن الأرض أو مغارة قدّموا شمعة في طرف قناة فإن ثبتت النار وعاشت دخلوا في طلب ما يريدون وإلّا أمسكوا. والعرب تتشاءم ببكر ولد الرجل إذا كان ذكرا. وكان قيس بن زهير أزرق بكرا بين بكرين. حدّثني محمد بن عائشة عن حمّاد عن قتادة عن عبد الله بن الحارث بن

نوفل قال: بكر البكرين شيطان مخلّد لا يموت إلى يوم القيامة؛ يعني من الشياطين. قالوا: وابن المذكّرة من النساء والمؤنّث من الرجال أخبث ما يكون، لأنه يأخذ بأخبث خصال أبيه وخصال أمّه. والعرب تذكر أنّ الغيرى لا تنجب. قال عمرو «1» بن معد يكرب: [متقارب] ألست تصير إذا ما نسب ... ت بين المغارة «2» والأحمق وقال بعض الحكماء: كلّ امرأة أو دابّة تبطىء عن الحبل، إذا واقعها الفحل في الأيام التي يجري الماء في العود فإنها تحمل بإذن الله. قال عبيد الله بن الحسن: إذا أردت أن تذكر المرأة فأغضبها ثم قع عليها. وقال الحارث ابن كلدة: إذا أردت أن تحبل المرأة، فمشّها في عرضة الدار عشرة أشواط فإنّ رحمها ينزل فلا تكاد تخلف. والعرب تقول: إن المرأة إذا لقحت في قبل الطّهر «3» في أوّل الشهر عند تبلّج الفجر ثم أذكرت «4» جاءت به لا يطاق. قال الشاعر وجمع هذه المعاني: [خفيف] لقحت في الهلال عن قبل الطّه ... ر وقد لاح للصباح بشير ويقولون: إذا أكره الرجل المرأة وهي مذعورة ثم أذكرت أنجبت. قال أبو كبير الهذليّ: [كامل] حملت به في ليلة مزؤودة «5» ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل

فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا ... سهدا، إذا ما نام ليل الهوجل «1» ومبرّإ من كلّ غبّر حيضة ... ورضاع مغيلة وداء معضل «2» يقول: لم تر عليه في حملها دما باقيا من حيضة ولا حملته وهي ترضع ولا أرضعته وهي حامل؛ فكانت العرب تكره ذلك وتسبّ به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» : لقد هممت أن أنهى عن الغيلة «3» ثم ذكرت أن فارس والروم يفعلونه فلا يضرّهم» وفي حديث آخر: «إنه ليدرك الفارس فيدعثره» أي يطرحه. حدّثني إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا يحيى بن آدم عن الحسن قال: رأيت جدّة ابنة إحدى وعشرين سنة. قال: وأوّل أوقات حمل المرأة تسع سنين، وهو أوّل وقت الوطء. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي بنت تسع. وقال عبد الله بن صالح: حدّثني اللّيث عن ابن عجلان أنّ امرأته حملت له مرّة وأقامت خمس سنين حاملا ثم ولدت له، وحملت له مرّة أخرى ثلاث سنين ثم ولدت. قال اللّيث: وحملت مولاة لعمر بن عبد العزيز ثلاث سنين حتى خافت أن يكون في جوفها داء ثم ولدت غلاما، قال الليث: ورأيت أنا ذلك الغلام وكانت أمه تأتي أهلنا. وفي بعض الحديث أن عيسى بن مريم عليه السلام ولدته أمّه لثمانية أشهر، ولذلك لا يولد مولود لثمانية أشهر فيعيش. وروى زيد بن الحباب عن ابن سنان قال: حدّثني ثابت بن جابان العجليّ أن الضّحّاك بن مزاحم ولد وهو ابن ستة عشر شهرا. فأما يزيد بن هارون فإنه روى عن جويبر أن الضحّاك ولد لسنتين. وولد شعبة لسنتين.

حدّثنا الرياشيّ أو رجل عنه قال: حدّثنا أبو عاصم عن عبد الله بن مؤمّل عن ابن أبي مليكة أن عمر رحمه الله قال: يا بني السائب، إنكم قد أضويتم فانكحوا في النزائع «1» . قال: وقال الأصمعيّ: قال رجل: بنات العمّ أصبر، والغرائب أنجب، وما ضرب رؤوس الأبطال كابن عجميّة. والعرب تقول: اعتربوا لا تضووا، أي انكحوا في الغرائب فإنّ القرائب يضوين الأولاد. قال الشاعر: [رجز] إنّ بلالا لم تشنه أمّه ... لم يتناسب خاله وعمّه وقال آخر: [طويل] تنجّبتها للنّسل وهي غريبة ... فجاءت به كالبدر خرقا «2» معمّما فلو شاتم الفتيان في الحيّ ظالما ... لما وجدوا غير التكذّب مشتما «3» وكان يقال: أنجب النساء الفروك «4» ، لأن الرجل يغلبها على الشّبه لزهدها في الرجال. وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ أن المنجبة التي تنزع بولدها إلى أكرم الجدّين. أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا حرب بن قطن قال: يقال: إن الرجل يستفرغ ولد امرأتين، يولد له وهو ابن تسعين سنة. وقالت عائشة: لا تلد امرأة بعد خمسين سنة. قالت الحكماء: الزّنج شرار الخلق وأردؤهم تركيبا؛ لأنّ بلادهم سخنت فأحرقتهم الأرحام، وكذلك من بردت بلاده فلم

تطبخه الأرحام، وإنما فضل أهل بابل لعلّة الاعتدال؛ قالوا: والشمس شيّطت «1» شعورهم فقبّضتها، والشّعر إذا أدنيته إلى النار تجعّد، فإن زدته تفلفل، فإن زدته احترق وقالوا: أطيب الأمم أفواها الزّنج وإن لم تستنّ «2» ؛ وكل إنسان رطب الفم كثير الريق فهو طيّب الفم؛ وخلوف فم الصائم يكون لخثورة «3» الريق؛ وكذلك الخلوف في آخر الليل. وقالت الحكاء. كلّ الحيوان إذا ألقي في الماء سبح إلا الإنسان والقرد والفرس الأعسر «4» ، فإن هذه تغرق ولا تسبح إلا أن يتعلّم الإنسان السّباحة. قالوا: والرجل إذا ضربت عنقه فألقي في الماء قام في وسط الماء وانتصب ولم يلزم القعر جاريا كان الماء أو ساكنا، حتى إذا جيّف انقلب وظهر بدنه كلّه مستلقيا إلّا المرأة فإنها تظهر منكبّة على وجهها. وقالوا: كل من قطعت يداه لم يجد العدو، وكذلك الطائر إذا قطعت رجلاه لم يجد الطيران. قالوا: وليس في الأرض هارب من حرب أو غيرها يستعمل الحضر «5» إلّا أخذ عن يساره إلّا أن يترك عزمه أو سوم طبيعته. ولذلك قالوا: فجاءك على وحشيّة «6» ، وأنحى «7» على شؤمى يديه. وقالوا: كلّ ذي عين من ذوات الأربع من السباع والبهائم الوحشيّة والإنسية فإنما الأشفار لجفنه الأعلى إلا الإنسان فإنّ الأشفار- نعني الهدب- لجفنيه: الأعلى والأسفل. قالوا: ليس في الأرض إنسان إلا وهو يطرب من صوت نفسه ويعتريه الغلط في شعره وولده. قال الطائيّ: [كامل]

ويسيء بالإحسان ظنّا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون وقالوا: كلّ ذي جلد فإنّ جلده ينسلخ إلا جلد الإنسان؛ فإنه لا ينسلخ كما تنسلخ جلود الأنعام ولكن اللحم يتبعه. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن ابن أبي طرفة الهذليّ عن جندب بن شعيب قال: إذا رأيت المولود قبل أن يغتذي من لبن أمّه فعلى وجهه مصباح من البيان «1» ؛ يريد أن ألبان النساء تغيّره؛ ولذلك قولهم: اللبن يشتبه عليه؛ يراد أنه ينزع بالمولود في شبه الظّئر «2» . قال الشاعر: [بسيط] لم أرضع الدهر إلّا ثدي واحدة ... لواضح الوجه يحمي ساحة الدار. وحدّثني الزياديّ قال: حدّثنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن أنّ عمر أتي بامرأة ولدت لستة أشهر فهمّ بها؛ فقال له عليّ: قد يكون هذا، قال الله عزّ وجلّ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «3» وقال: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «4» . أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: اختصم رجلان في غلام كلاهما يدّعيه؛ فسأل عمر أمّه؛ فقالت: غشيني أحدهما ثم هرقت دما، ثم غشيني الآخر،

ما نقص خلقه من الحيوان

فدعا عمر قائفين «1» فسألهما؛ فقال أحدهما: أعلن أم أسرّ؛ قال: إشتركا فيه؛ فضربه عمر حتى اضطجع ثم سأل الآخر، فقال مثل قوله؛ فقال: ما كنت أرى أنّ مثل هذا يكون. وقد علمت أن الكلبة يسفدها «2» الكلاب فتؤدّي إلى كلّ فحل نجله. وركب الناس في أرجلهم وركب ذوات الأربع في أيديها، وكل طائر كفّه في رجليه. ما نقص خلقه من الحيوان حدّثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: الفرس لا طحال له، والبعير لا مرارة له، والظليم «3» لا مخّ لعظمه. قال زهير: [وافر] كأن الرّحل منها فوق صعل «4» ... من الظّلمان جؤجؤه «5» هواء وكذلك طير الماء وحيتان البحر لا ألسنة لها ولا أدمغة. وصفن «6» البعير لا بيضة فيه. والسّمكة لارئة لها ولذلك لا تتنفّس، وكل ذي رئة يتنفّس. المشتركات من الحيوان الراعي «7» بين الورشان «8» والحمامة. والبخاتيّ «9» من الإبل بين العراب «10»

المتعاديات

والفوالج «1» . والحمير الأخدريّة من الأخدر وهو فرس كان لأردشير توحّش فحمى عانات «2» من الحمير فضرب فيها، وأعمارها كأعمار الخيل. والزّرافة بين الناقة من نوق الوحوش وبين البقرة الوحشيّة وبين الضّبعان «3» ؛ واسمها اشتركا و پلنك «4» أي بين الجمل والكركند «5» ؛ وذلك أن الضّبعان ببلاد الحبشة يسفد الناقة فتجيء لولد خلقه بين الناقة والضّبع، فإن كان ولد الناقة ذكرا عرض للمهاة «6» فألقحها زرافة. وسمّيت زرافة لأنها جماعة وهي واحدة كأنها جمل وبقرة وضبع؛ والزّرافة في كلام العرب الجماعة. وقال صاحب المنطق: الكلاب تسفدها الذّئاب في أرض سلوقيّة «7» فيكون منها الكلام السّلوقيّة. المتعاديات بين البوم والغراب عداوة. وبين الفأرة والعقرب عداوة. وبين الغراب وابن عرس «8» عداوة. وبين الحدأة والغداف «9» عداوة. وبين العنكبوت وبين العظاءة «10» عداوة. وبين الحيّة وبين ابن عرس عداوة. وبين ابن آوى «11»

الأمثال المضروبة بالطبائع

والدّجاج عداوة. وبين السّنّور والحمام عداوة. وبين البوم وبين جميع الطير عداوة، لأن البومة رديّة البصر ذليلة بالنهار فإذا كان الليل لم يقو عليها شيء، والطير تعرف ذلك من حالها فهي بالنهار تضربها وتنتف ريشها، ولحرصها على ذلك صار الصائد ينصبها للطير. وبين الحمار وبين عصفور الشوك عداوة، ومتى نهق الحمار سقط بيض عصفور الشوك. وبين الحمار وبين الغراب عداوة. وبين الحيّة والخنزير عداوة. والغراب مصادق للثعلب. والثعلب مصادق للحيّة. والجمل يكره قرب الفرس أبدا ويقاتله. وبين الأسد وبين الفيل عداوة. ويقال: إنّ الأسد والنمر مختلفان، والأسد والببر «1» متّفقان. الأمثال المضروبة بالطبائع يقال: فلان «أسمع من قراد «2» » ؛ والقردان تكون عند الماء فإن قربت الإبل منها تحرّكت وانتعشت، فيستدلّون بذلك على إقبال الإبل. و «أسمع من فرس» . و «أحزم من فرخ العقاب» ، وذلك أنه يكون في عرض الجبل فلا يتحرّك فيسقط. و «أحلم من حيّة» . و «أهدى من قطاة وحمامة» . و «أخفّ رأسا من الذئب» . و «أنوم من فهد» . و «أظلم من حيّة» ، وذلك لأنها تدخل حجرة الحشرات وتخرجها. و «أحذر من غراب» . و «أصنع من تنوّط» ، وهو طائر يصنع عشّا مدلّى من الشجر. و «أصنع من سرفة» ، وهي دويبّة تعمل بيتا من قطع العيدان. و «أسرق من زبابة» ، وهي فأرة برّيّة. و «أسرق من كندش»

وهو العقعق؛ ويقال أيضا: «أحمق من عقعق» لأنه من الطير الذي يضيّع فراخه. و «أخرق من حمامة» ، وذلك لأنها لا تجيد عمل العشّ فربما وقع البيض فانكسر. قال عبيد بن الأبرص «1» : [مجزوء الكامل] عيّوا بأمر همو كما ... عيّت ببيضتها الحمامه جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه «2» يقول: قرنت النّشم بالثّمام وهو ضعيف فتكسّر ووقع البيض فانكسر. وفي الإنجيل أنّ المسيح عليه السلام قال للحواريّين: كونوا حلماء كالحيّات وبلها كالحمام. و «أعقّ من ضبّ» ، لأنه يأكل ولده من الجوع. و «أبرّ من هرّة» ، وهي تأكل ولدها من شدّة محبتّه. و «أروغ من ثعلب» . و «أموق من رخمة «3» » . و «أزهى من ذباب» لأنه يقع على أنف الملك وتاجه. و «أصنع من الدّبر» ، وهي النّحل. و «أسمح من لافظة» ، ويقال: هي العنز تسمح بالحلب، ويقال: الرّحا، لأنها تلفظ ما تطحنه لا تحبس منه شيئا. و «أصرد من عين حرباء «4» » . و «ألحّ من الخنفساء» . و «أخيل من مذالة» ، وهي الأمة تهان وهي تتبختر. و «أحلم من فرخ الطائر» . و «أكيس من قشّة» ، وهي القردة. و «أجبن من صافر «5» » ، وهو ما صفر من الطير، ويقال: هو الصّافر

الأنعام

بالمرأة للريبة. و «أنمّ من صبح» . و «أبعد من بيض الأنوق» ، والأنوق: الرّخمة تبيض في أعالي الجبال والشواهق حيث لا يبلغه سبع ولا طائر. و «أشجع من ليث عفرّين» «1» ، قال بعضهم: هو الأسد، كأنه قال: أشجع من ليث ليوث تعفر من نازعها وتصرعه، وقال الأصمعيّ: هو دابّة مثل الحرباء يتحدّى الراكب ويضربه بذنبه. و «أحنّ من شارف» ، وهي الناقة المسنّة. و «أسرع من عدوى الثّؤباء» «2» . و «أروى من النّقّاقة» ، وهي الضّفادع. و «أزنى من قرد» ، ويقول بعضهم: إنه رجل من هذيل كان كثير الزنّا. و «أخدع من ضبّ» . و «أشأم من الزّرقاء» «3» وهي ناقة. الأنعام حدّثني يزيد بن عمرو عن عبد العزيز الباهليّ عن الأسود بن عبد الرحمن عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما خلق الله دابّة أكرم عليه من النّعجة وذلك أنه ستر عورتها ولم يستر عورة غيرها» . وقال: حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن إهاب بن عمير قال: كان لنا جمل يعرف كشح الحامل من غير أن يشمّها. قيل لابنة الخسّ «4» : ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى؛ قيل: فمائة من الضأن؟ قالت: غنى؛ قيل:

فمائة من الإبل؟ قالت: منى. والعرب تضرب المثل في الصّرد بالمعزى فتقول: «أصرد من عنز جرباء» «1» . وسئل دغفل عن بني مخزوم، فقال: معزى مطيرة، عليها قشعريرة، إلا بني المغيرة؛ فإنّ فيهم تشادق الكلام، ومصاهرة الكرام. وقالت العرب فيما تقول على ألسنة البهائم: قالت المعزى: الاست جهوى «2» ، والذنب ألوى؛ والجلد رقاق، والشعر دقاق. قالوا: والضأن تضع مرة في السنة وتفرد ولا تتئم «3» ، والماعز قد تلد مرتين في السنة، تضع الثلاثة وأكثر وأقل، والنّماء والبركة والعدد في الضّأن؛ وكذلك الخنازير تضع الأنثى منها عشرين خنّوصا ولا نماء فيها. ويقال: الجواميس ضأن البقر، والبخت ضأن الإبل، والبراذين ضأن الخيل، والجرذان ضأن الفأر، والدّلدل ضأن القنافذ، والنمل ضأن الذّرّ. ويقول الأطبّاء في لحم الماعز: إنّه يورث الهمّ ويحرّك السّوداء ويورث النّسيان ويخبّل الأولاد ويفسد الدّم، ولحم الضأن يضرّ بمن يصرع من المرة «4» إضرارا شديدا حتى يصرعهم في غير أوان الصّرع. وأوان الصرع الأهلّة وأنصاف الشهور؛ وهذان الوقتان هما وقت مدّ البحر وزيادة الماء والدّم. ولزيادة القمر إلى أن يصير بدرا أثر في زيادة الدّم والدماغ وجميع الرّطوبات؛ قال الشاعر «5» : [وافر]

كأنّ القوم عشّوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم «1» وفي الماعزة: إنها ترتضع من خلفها «2» وهي محفّلة حتى تأتي على كلّ ما فيه؛ قال ابن أحمر: [بسيط] إني وجدت بني أعيا وجاملهم ... كالعنز تعطف روقيها فترتضع «3» وإذا رعت الضائنة والماعزة في قصير نبت لم ينبت ما تأكله الماعزة لأنّ الضائنة تقرضه بأسنانها والماعزة تقتلعه وتجذبه فتنثره من أصله. وإذا حمل على الماعزة فحملت أنزلت اللّبن في أوّل الحمل إلى الضّرع، والضائنة لا تنزل اللبن إلا عند الولاد، ولذلك تقول العرب: «رمّدت المعزى فرنّق رنّق» «4» و «رمّدت الضأن فربّق ربّق» «5» . وذكور كلّ شيء أحسن من إناثه إلّا التّيوس فإنها أقبح من الصّفايا.

وأصوات الذكور من كلّ شيء أجهر وأغلظ إلا إناث البقر فإنها أجهر أصواتا من ذكورها. قيل لأعرابيّ: بأيّ شيء تعرف حمل شاتك؟ قال: إذا ورم حياؤها ورجّت شعرتها واستفاضت خاصرتها. قال الأصمعيّ: لبني عقيل ماعزة لا ترد، تجترىء بالرّطب. وقرأت في كتاب من كتب الروم: إن أردت أن تعرف ما لون جنين النعجة فانظر إلى لسانها فإنّ الجنين يكون على لونه. وقرأت فيه أنّ الإبل تتحامى أمّهاتها وأخواتها فلا تسفدها. قالوا: وكلّ ثور أفطس «1» ، وكلّ بعير أعلم «2» ، وكل ذباب أقرح «3» . وقالوا: البعير إذا صعب وخافه الناس استعانوا عليه حتى يبرك ويعقل ثم يركبه فحل آخر فيذلّ. والعرب تعرف البعير المغدّ «4» بسقوط الذباب عليه. ويقولون: بعير مذبوب إذا عرض له داء يدعو الذباب إلى السقوط عليه. وقال بعض القصّاص: مما فضّل الله به الكبش أن جعله مستور العورة من قبل ومن دبر، ومما أهان به التّيس أن جعله مهتوك السّتر مكشوف القبل والدّبر. حدّثني عبد الرحمن بن عبد المنعم عن أميّة عن وهب بن منبّه أنه قال: كان في مناجاة عزير: اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن النبات الحبلة «5» ، ومن البيوت بكّة «6» وإيلياء، ومن إيلياء بيت

المقدس. وفي الحديث أنّ امرأة أتت النبي عليه السلام فقالت: يا رسول الله، صلى الله عليك، إني اتخذت غنما أبتغي نسلها ورسلها «1» وإنها لا تنمو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «ما ألوانها» ؛ قالت: سود، فقال: «غفّري» ، «وبعث إلى الرّعيان «من كانت له غنم سود فليخلطها بعفر فإنّ دم عفراء «2» أزكى من دم سوداوين» . وقال: «الغنم إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أقبلت. والإبل إذا أدبرت أدبرت وإذا أقبلت أدبرت ولا يأتي نفعها إلا من جانبها الأشأم» «3» . والأقط «4» قد يكون من المعزى؛ قال امرؤ القيس: [وافر] لنا غنم نسوّقها غزار ... كأنّ قرون جلّتها «5» عصيّ فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ «6» وقالوا: شقشقة البعير: لهاته يخرجها. ومن أحسن ما قيل في الغنم قول مخارق «7» بن شهاب في تيس غنمه. [طويل]

وراحت أصيلانا كأنّ ضروعها ... دلاء وفيها واتد القرن لبلب «1» له رعثات كالشّنوف وغرّة ... شديخ ولون كالوذيلة مذهب «2» وعينا أحمّ المقلتين وعصمة ... يواصلها دان من الظلف مكنب «3» إذا دوحة من مخرف الضّال أذبلت ... عطاها كما يعطو ذرى الضال قرهب «4» أبو الحور والغرّ اللواتي كأنّها ... من الحسن في الأعناق جزع مثقّب «5» ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وضيف ابن قيس جائع يتحوّب «6» فوفد ابن قيس هذا على النّعمان فقال: كيف المخارق فيكم؟ قال: سيّد كريم من رجل يمدح تيسه ويهجو ابن عمّه. قال العجّاج في وصف شاة: حمراء المقدّم شعراء المؤخّر إذا أقبلت حسبتها نافرا، وإذا أدبرت حسبتها ناثرا، أي كأنها تعطس، يريد من أيّ أقطارها رأيتها وجدتها مشرقة.

السباع وما شاكلها

قال الأصمعيّ: قال أعرابيّ يهزأ بصاحبه: اشتر لي شاة فقماء «1» كأنها تضحك، مندلقة «2» خاصرتاها، لها ضرع أرقط «3» كأنّه جيب؛ قال: فكيف العطل؟ قال: إنّي لهذا عطل! العطل: العنق. يقول: من سمنها يحسب أنه لا عنق لها. ومما تقوله العرب على ألسنة البهائم. قالت الضائنة: أولّد رخالا «4» وأجزّ جفالا وأحلب كثبا ثقالا ولم تر مثلي مالا حفالا «5» . تقول: أجزّ مرّة وذلك أنّ الضائنة إذا جزّت لم يسقط من صوفها شيء إلى الأرض حتى يؤتي عليه؛ والكثب جمع كثبة وهي الدّفعة من اللبن، تقول: أحلب دفعا ثقالا من اللبن، وذلك لأن لبنها أدسم وأخثر من لبن المعز فهو أثقل. السباع وما شاكلها يقال: إنه ليس شيء من السّباع أطيب أفواها من الكلام، ولا في الوحوش أطيب أفواها من الظّباء. ويقال: ليس شيء أشدّ بخرا من أسد وصقر، ولا في السباع أسبح من كلب. وليس في الأرض فحل من جميع أجناس الحيوان لذكره حجم ظاهر إلا الإنسان والكلب. والأسد لا يأكل الحاز ولا يدنو من النار ولا يأكل الحامض وكذلك أكثر السباع. وتقول الرّوم: إن الأسد يذعر بصوت الدّيك ولا يدنو من المرأة الطامث «6» . والأسد إذا بال شغر

كما يشغر الكلب «1» ؛ وهو قليل الشرب للماء، ونجوه «2» يشبه نجو الكلب، ودواء عضته دواء عضّة الكلب الكلب. وقالوا: العيون التي تضيء بالليل عيون الأسد والنّمور والسّنانير والأفاعيّ. والعرب تقول هو «أحمق من جهيزة» وهي الذّئبة لأنها تدع ولدها وترضع ولد الضّبع. ويقولون: الضّبع إذا صيدت أو قتلت عال الذئب أولادها وأتاها باللحم؛ قال الكميت: [طويل] كما خامرت في بيتها أمّ عامر ... لذي الحبل حتى عال أوس عيالها «3» أوس: الذئب. وقالوا: ثلاثة من الحيوان ترجع في قيئها: الأسد والكلب والسّنّور، ويقال الضّبّ أيضا. وأمراض الكلاب ثلاثة: الكلب وهو جنون، والذّبحة والنّقرس. والعرب تقول: دماء الملوك شفاء من عضّة الكلب والجنون والخبل؛ قال الفرزدق: [طويل] من الدارميّين الذين دماؤهم ... شفاء من الداء المجنّة والخبل وبلغني عن الخليل بن أحمد أنه قال: دواء عضّة الكلب الكلب الذّراريح «4» والعدس والشارب العتيق يصنع؛ وقد ذكر كيف صنعته وكم يشرب منه وكيف يتعالج به، والكلب الكلب إذا عضّ إنسانا فربما أحاله نباحا مثله ثم أحبله وألقحه بأجر «5» صغار تراها علقا في صور الكلاب. قال أبو اليقظان: كان الأسود بن أوس بن الحمّرة أتى النجاشيّ فعلّمه

دواء الكلب، فهو في ولده إلى اليوم. فمن ولده المحلّ، وقد داوى المحلّ عتيبة بن مرداس فأخرج منه مثل جراء الكلاب علقا، قال ابن فسوة «1» حين برأ: [طويل] ولولا دواء ابن المحلّ وعلمه ... هررت إذا ما الناس هرّ كليبها وأخرج بعد الله أولاد زارع ... مولّعة أكتافها وجنوبها «2» الكليب: جمع كلب على غير قياس مثل عبد وعبيد. وعضّ رجلا من بني العنبر كلب كلب فبال علقا في صور الكلاب، فقالت امرأته: [طويل] أبالك أدراصا «3» وأولاد زارع ... وتلك لعمري نهية المتعجّب ويزعمون أنه يطلب الماء أشدّ طلب، فإذا أتوه به صاح عند معاينته: لا أريد لا أريد، أو شيئا في معنى ذلك. قالوا: وتمام حمل الكلبة ستّون يوما، فإن وضعت في أقلّ من ذلك لم تكد أولادها تعيش. وإناث الكلاب تحيض في كل سبعة أيام؛ وعلامة ذلك أن يرم ثفر «4» الكلبة ولا تريد السّفاد في ذلك الوقت. وذكور السّلوقيّة تعيش عشرين سنة، والإناث تعيش اثنتي عشرة سنة. وليس يلقى الكلب شيئا من أسنانه سوى النابين. قالوا: وعلامة سرعة الكلب أن يطول ما بين يديه ورجليه ويكون قصير الظهر. ويوصف الكلب بصغر الرأس وطول العنق وغلظها وإفراط الغضف «5»

وزرق العينين وعظم المقلتين وطول الخطم «1» مع اللطافة وسعة الشّدقين ونتوء الحدقة ونتوء الجبهة وعرضها، وأن يكون الشّعر الذي تحت حنكه طاقة طاقة ويكون غليظا، وكذلك شعر خدّيه، ويكون قصير اليدين طويل الرجلين عريض الظهر طويل الصدر، في ركبته انحناء. ويكره للذكور طول الأذناب. ومن علامة الفراهة التي لا تكاد تخلّف أن يكون على ساقيه أو على أحدهما أو على رأس الذنب مخلب، وينبغي أن يقطع من الساقين. وسود الكلاب أعقرها. ولذلك أمر بقتلها. قالوا: وإذا هرم الكلب أطعم السّمن مرارا فإنه يعود كالشابّ، وإذا حفي «2» دهنت استه وأجمّ «3» ومسح على يديه ورجليه القطران. وإذا بلغ أن يشغر فقد بلغ الإلقاح. والكلب من الحيوان الذي يحتلم. قالوا في الكلبة: إنه يسفدها كلب أسود وكلب أبيض وكلب أصفر فتؤدّي إلى كلّ سافد شكله وشبهه. قعد جماعة من أصحابنا يعدّون ما جاء في الكلب من الأمثال فحفظت منه: «ألأم من كلب على عرق» «4» و «أجع كلبك يتبعك» و «نعيم كلب في بؤس أهله» «5» و «أسمن كلبك يأكلك» و «أحرص من كلب على عقي «6» صبيّ»

الذئب

و «أجوع من كلبة حومل» «1» و «أبول من كلب» و «جلس فلان مزجر الكلب» و «الكلاب على البقر» «2» و «الكلب أحبّ أهله إليه الظاعن» و «هو كالكلب في الأذى لا يعتلف ولا يدع الدابّة تعتلف» . الذئب الذئب إذا سفد الذئبة فالتحم الفرجان وهجم عليهما هاجم قتلهما كيف شاء، إلا أنهما لا يكادان يوجدان كذلك، لأن الذئب إذا أراد السّفاد توخّى موضعا لا يطؤه أنيس خوفا على نفسه. وتقول الروم: إن الذئب إذا نهش شاة ثم أفلتت منه طاب لحمها وخفّ وسلمت من القردان. قالوا: والذئب إذا رأى إنسانا قبل أن يراه الإنسان أبحّ الذئب صوت ذلك الإنسان. وقالوا: في طبع الذئب محبّة الدّم، ويبلغ به طبعه أنّه يرى الذئب مثله قد دمي فيثب عليه فيمزّقه؛ قال الشاعر «3» : [طويل] وكنت كذئب السّوء لمّا رأى دما ... بصاحبه يوما أحال «4» على الدّم قالوا: والفرس إذا وطىء أثر الذئب ثقلت قائمته التي وطىء بها. وفي كتاب عليّ رضي الله عنه إلى ابن عبّاس: لمّا رأيت العدوّ على ابن عمّك قد

الفيل

حرب، والزمان قد كلب، قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ بفراقه مع المفارقين، وخذلانه مع الخاذلين، واختطفت ما قدرت عليه من الأموال اختطاف الذئب الأزلّ «1» دامية المعزى. ويقولون؛ إنّ الذئب ربما نام بإحدى عينيه وفتح الأخرى؛ وقال حميد بن ثور «2» : [طويل] ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى المنايا، فهو يقظان هاجع والذئب أشدّ السّباع مطالبة، وإذا عجز عوى عواء استغاثة فتسامعت الذّئاب فأقبلت حتى تجتمع على الإنسان فتأكله؛ وليس شيء من السّباع يفعل ذلك. الفيل قالوا: لسان الفيل مقلوب طرفه إلى داخل. والهند تقول: لولا أن لسانه مقلوب لتكلّم. والفيل إذا ساء خلقه وصعب عصبوا رجليه فسكن. وليس في جميع الحيوان شيء لذكوره ثدي في صدره إلا الإنسان والفيل. والفيل المغتلم إن سمع صوت خنّوص «3» من الخنازير ارتاع ونفر. والفيل يفزع من السّنّور. وتزعم الهند أن نابي الفيل هما قرناه يخرجان مستبطنين حتى يخرقا الحنك ويخرجا أعقفين. وقال صاحب المنطق: ظهر فيل عاش أربعمائة سنة. وقال: حدّثني شيخ لنا قال: رأيت فيلا أيام أبي جعفر قيل: إنه سجد لسابور

الفهد

ذي الاكتاف ولأبي جعفر، والفيلة تضع في سبع سنين. الفهد قالوا: السّباع تشتهي رائحة الفهد، فإذا سمن الفهد عرف أنّه مطلوب وأنّ حركته قد ثقلت فأخفى نفسه حتى ينقضي الزمان الذي تسمن فيه الفهود. ويعتري الفهد داء يقال له خانقة الفهود، فإذا اعتراه أكل العذرة «1» فبرأ. والوحشيّ المسنّ منها في الصيد أنفع من الجرو المربّب «2» . الأرنب قالوا: الأرنب تحيض ولا تسمن إلا بزيادة اللحم. وقضيب الذّكر من الأرانب ربما كان من عظم، وكذلك قضيب الثعلب. والأرنب تنام مفتوحة العين. وإنفحة «3» الأرنب إذا شربتها المرأة من بعد أن تطهر من المحيض منعت من الحبل. والكلف «4» إن طلي بدم الأرنب أذهبه. القرد والدّبّ قال: حدّثني محمد بن خالد بن خداش قال: حدّثني سلم بن قتيبة عن هشام عن حصين وأبي بلج عن عمرو بن ميمون قال: زنت قردة في الجاهليّة فرجمها القرود ورجمتها معهم. قالوا: وليس شيء يجتمع فيه الزواج والغيرة

مصايد السباع العادية

إلا الإنسان والقرد؟ قالوا: والدّيسم جرو الدّبّ تضعه أمّه وهو كفدرة «1» لحم فتهرب به في المواضع العالية من الذّرّ والنّمل حتى تشتدّ أعضاؤه. مصايد السباع العادية السباع العادية: تصطاد بالزّبى والمغوّيات «2» وهي آبار تحفر في أنشاز «3» الأرض، فلذلك يقال: قد «بلغ السيل الزّبى» «4» ، قال صاحب الفلاحة: ومما تصاد به السباع العادية أن يؤخذ سمك من سمك البحر الكبار السّمان فتقطع قطعا ثم تشرّح ثم تكتّل كتلا ثم تؤجّج نار في غائط «5» من الأرض يقرب فيه السباع ثم تقذف تلك الكتل في النار واحدة بعد واحدة حتى ينتشر دخان تلك النار وقتار «6» تلك الكتل في تلك الأرض ثم تطرح حول تلك النار قطع من لحم قد جعل فيها الحربق «7» الأسود والأفيون وتكون تلك النار في موضع لا ترى فيه حتى تقبل السباع لريح القتار وهي آمنة فتأكل من قطع اللحم ويغشى عليها فيصيدها الكامنون لها كيف شاءوا. النّعام قالوا في الظّليم: إن الصيف إذا أقبل وابتدأ البسر «8» في الحمرة ابتداء

لون وظيفيه» بالحمرة ولا يزالان يتلوّنان ويزدادان حمرة إلى أن تنتهي حمرة البسر، ولذلك قيل له: خاضب. وفي الظليم: إنّ كل ذي رجلين إذا انكسرت إحدى رجليه قام على الأخرى وتحامل على ظلع غيره فإنه إذا انكسرت إحدى رجليه جثم، ولذلك قال الشاعر في نفسه وأخيه: [طويل] فإنّي وإيّاه كرجلي نعامة ... على ما بنا من ذي غنى وفقير يقول: لا غنى بواحد منّا عن الآخر. وقال آخر: [طويل] إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا باستها حبوا «2» قالوا: وعلّة ذلك أنه لا مخّ له في ساقيه، وكلّ عظم فهو ينجبر إلا عظما لا مخّ فيه؛ وزماخر «3» الشّاء لا تنجبر؛ قال الشاعر: [طويل] أجدّك لم تظلع برجل نعامة ... ولست بنهّاض وعظمك زمخر أي أجوف لا مخّ فيه. والظليم يغتذي المرو «4» والصّحر فتذيبه قانصته «5» بطبعها حتى يصير كالماء؛ قال ذو الرمّة يذكره: [بسيط]

ألهاه آء وتنّوم وعقبته ... من لائح المرو والمرعى له عقب «1» قال أبو النجم «2» : [رجز] والمرو يلقيه إلى أمعائه ... في سرطم «3» هاد على التوائه والظليم يبتلع الجمرة وربما ألقي الحجر في النار حتى إذا صار كأنّه جمرة قذف به بين يديه فيبتلعه وربما ابتلع أوزان الحديد. وفي النعامة إنها أخذت من البعير المنسم والوظيف والعنق والخزامة؛ ومن الطائر الرّيش والجناحين والمنقاعر فهو لا بعير ولا طائر؛ وقال أوس «4» بن حجر: [طويل] وتنهى ذوي الأحلام عنيّ حلومهم ... وأرفع صوتي للنّعام المخزّم جعله مخزّما للخرقين اللذين في عرض أنفه في موضع الخزامة من البعير. قال يحيى بن نوفل «5» : [وافر] ومثل نعامة تدعى بعيرا ... تعاصينا إذا ما قيل طيري فإن قيل احملي قالت فإني ... من الطير المربّة «6» في الوكور وتقول العرب في المثل: هذا «أموق من نعامة» وذلك أنها ربما خرجت

لطلب الطّعم فمرّت ببيض نعامة أخرى فحضنته وتركت بيضها؛ ولذلك قال الشاعر وهو ابن هرمة «1» : [متقارب] وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا «2» وقال سهم بن حنظلة «3» : [متقارب] إذا ما لقيت بني عامر ... رأيت جفاء ونوكا «4» كبيرا نعام تمدّ بأعناقها ... ويمنعها نوكها أن تطيرا ويضرب بها المثل في الشّراد والنّفار؛ قال بشر بن أبي خازم «5» : [متقارب] وأمّا بنو عامر بالنّسار «6» ... فكانوا غداة لقونا نعاما يريد: مرّوا منهزمين. وربما حضنت النعامة أربعين بيضة أو نحوها وأخرجت ثلاثين رألا؛ قال ذو الرمّة: [بسيط]

كأنه خاضب بالسّيّ «1» مرتعه ... أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب والبواقي من بيضها الذي لا تنقفه «2» يقال لها: التّرائك. وأشدّ ما يكون الظليم عدوا إذا استقبل الريح لأنه يضع عنقه على ظهره ثم يخرق الريح وإذا استدبرها كبته من خلفه. والنعامة تضع بيضها طولا ثم تغطّيها كلّ بيضة بما يصيبها من الحضن؛ قال ابن أحمر «3» : [وافر] وضعن وكلّهنّ على غرار وقال آخر: [رجز] على غرار كاستواء المطمر والمطمر خيط البنّاء، إلا أن ثعلبة بن صعير «4» خالف ذلك فقال يذكر الظليم والنعامة: [كامل] فتذكّرا ثقلا رثيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر «5» والرثيد: المنضود بعضه على بعض. قالوا: الوحش في الفلوات ما لم تعرف الإنسان ولم تره ولا تنفر منه إذا رأته خلا النعام فإنه شارد أبدا؛ قال ذو الرمّة: [طويل] وكلّ أحمّ المقلتين كأنّه ... أخو الإنس من طول الخلاء المغفّل «6»

الطير

يريد: أنه لا ينفر من الناس لأنه في خلاء ولم ير أحدا قبل ذلك. وقال الأحيمر السعديّ: كنت حين خلعني قومي وأطلّ السلطان دمي وهربت وتردّدت في البوادي ظننت أني قد جزت نخل وبار أو قريب منها، وذلك أني كنت أرى النّوى في رجع الذئاب وكنت أغشى الظباء وغيرها من بهائم الوحش فلا تنفر منيّ؛ لأنها لم تر أحدا قبلي وكنت أمشي إلى الظبي السّمين فآخذه، وعلى ذلك رأيت جميع تلك الوحوش إلا النعام فإنه لم أره قطّ إلا نافرا فزعا. الطير قال: حدّثني زياد بن يحيى قال: حدّثنا أبو عتّاب قال: حدّثنا طلحة بن يزيد الشاميّ عن بقيّة بن الوليد عن عبد الله بن أبي كبشة عن أبيه قال: كان النبيّ عليه السلام يعجبه أن ينظر إلى الأترجّ وإلى الحمام الأحمر. حدّثني الرياشيّ قال: ليس شيء يغيب أذناه إلا وهو يبيض؛ وليس شيء يظهر أذناه إلا وهو يلد، وروى ذلك عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن ابن جريح قال ابن شهاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع لا يقتلن: النملة والنحلة والهدهد والصّرد» «1» . بلغني عن مكحول قال: كان من دعاء داود النبيّ عليه السلام: يا رازق النّعّاب في عشّه. وذلك أن الغراب إذا فقص عن فراخه خرجت بيضا فإذا رآها كذلك نفر عنها فتفتح أفواهها ويرسل الله لها ذبابا

فيدخل في أجوافها فيكون غذاءها حتى تسودّ، وإذا اسودّت عاد الغراب فغذّاها ويرفع الله عنها الذباب. قال: حدّثني أحمد بن الخليل عن محمد بن عباد عن الوليد بن كثير عن عبد الملك بن يحيى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطرقوا الطير في أوكارها فإنّ الليل أمان الله» . حدّثني أبو سفيان الغنويّ عن معاوية بن عمرو عن طلحة بن زيد عن الأحوص بن حكيم عن خالد بن معدان عن رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» الدّيك الأبيض صديقي وصديق صديقي وعدوّ عدوّ الله يحرس دار صاحبه وسبع أدور، وكان النبيّ عليه السلام يبيته معه في البيت» . قالوا: الطير ثلاثة أضرب، بهائم الطير وهو ما لقط الحبوب والبزور؛ وسباع الطير وهي التي تغتذي اللحم؛ والمشترك وهو مثل العصفور يشارك بهائم الطير في أنه ليس بذي مخلب ولا منسر «1» وإذا سقط على عود قدّم أصابعه الثلاث وأخر الدّابرة. وسباع الطير تقدّم إصبعين وتؤخّر إصبعين ويشارك سباع الطير بأنه يلقم فراخه ولا يزقّ وأنه يأكل اللحم ويصطاد الجراد والنمل. قالوا: والعصفور شديد الوطء، والفيل خفيف الوطء، والورشان يصرع في كلّ شهر مرة. قالوا: وأسوأ الطير هداية الأسود، والأبيض لا يجيء من الغاية «2» لضعف قوّته وأجودها هداية الغبر والنّمر. قال صاحب الفلاحة: الحمام يعجب بالكمّون ويألف الموضع الذي يكون فيه الكمّون، وكذلك العدس ولا سيما إذا أنقعا في عصير حلو. ومما

يصلحن عليه ويكثرن أن تدخّن بيوتهن بالعلك؛ وأسلم مواضعها وأصلحها أن يبنى لها بيت على أساطين خشب ويجعل فيه ثلاث كوى: كوّة في سمك البيت وكوّة من قبل المشرق وكوّة من قبل المغرب، وبابان من قبل مهبّ الجنوب. قال: والسّذاب «1» ، إذا ألقي في البرج تحامته السّنانير البرّية. حدّثني ابن أبي سعد عن عليّ بن الصّبّاح عن أبي المنذر هشام بن محمد قال: حدّثني الكلبي أن أسماء كنائن «2» نوح إذا كتبن في زوايا بيت حمام نمت الفروخ وسلمت من الآفات. قال هشام: قد جرّبته أنا وغيري فوجدته كما قال أبي. قال: واسم امرأة سام بن نوح «محلث محو» ، واسم امرأة حام «أذنف نشا» ، واسم امرأة يافث «زدقت نبث» «3» . قالوا: وأمراض الحمام أربعة: الكباد «4» والخنان والسّل والقمّل، فدواء الكباد الزعفران والسكّر «5» الطّبرزذ وماء الهندباء يجعل في سكرّجة «6» ثم يمجّ في حلقه قبل أن يلتقط شيئا ودواء الخنان أن يليّن لسانه يوما أو اثنين بدهن البنفسج ثم بالرّماد والملح ويدلك بهما حتى تنسلخ الجلدة العليا التي غشيت

لسانه ثم يطلى بعسل ودهن ورد حتى يبرأ. ودواء السّلّ أن يطعم الماش «1» المقشور ويمجّ في حلقه لبن حليب ويقطع من وظيفيه عرقان ظاهران في أسفل ذلك مما يلي المفصل. ودواء القمّل أن تطلى أصول ريشه بالزّنبق «2» المخلوط بدهن البنفسج، يفعل به ذلك مرارا حتى يسقط قمله، ويكنس مكانه الذي يكون فيه كنسا نظيفا. قالوا: والطير الذي يخرج من وكره بالليل البومة والصّدى والهامة والضّوع «3» والوطواط والخفّاش وغراب الليل. قالوا: إذا خرج فرخ الحمامة نفخ أبواه في حلقه الريح لتتسع الحوصلة من بعد التحامها وتنبثق، فإذا اتسعت زقّاه عند ذلك اللعاب ثم زقّاه سورج «4» أصول الحيطان ليدبغا به الحوصلة، ثم زقّاه بعد الحبّ. قال المثنّى بن زهير: لم أر شيئا قطّ في رجل وامرأة إلا وقد رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها، ورأيت حمامة لا تمنع شيئا من الذكور، ورأيت حمامة لا تزيف «5» إلا بعد شدّة طلب، ورأيت حمامة تزيف للذكر ساعة يطلبها، ورأيت حمامة وهي تمكّن آخر ما تعدوه، ورأيت حمامة تقمط حمامة، ورأيت حمامة تقمط الذكر، ورأيت ذكرا يقمط الذكر، ورأيت الذكر يقمط ما لقي ولا يزاوج، ورأيت ذكرا له أنثيان يحضن مع هذه وهذه ويزقّ مع هذه وهذه.

البيض

البيض قالوا: والبيض يكون من أربعة أشياء: منه ما يكون من السّفاد؛ ومنه ما يكون من التراب؛ ومنه ما يكون من نسيم الريح يصل إلى أرحامها؛ ومنه شيء يعتري الحجل «1» وما شاكله في الطبيعة، فإنّ الأنثى منه ربما كانت على سفالة الريح التي تهبّ من شقّ الذكر في بعض الزمان فتحتشي من ذلك بيضا، وكذلك النخلة تكون بجنب الفحّال «2» وتحت ريحه فتلقح بتلك الريحة وتكتفي بذلك، والدّجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها محّ، وإذا لم يكن للبيضة محّ لم يخلق فيها فرخ، لأنه لا يكون له طعم يغذوه؛ والفرخ والفرّوج يخلقان من البياض وغذاؤهما الصّفرة، وإذا باضت الدجاجة بيضتين في اليوم كان ذلك من علامات موتها؛ والطائر إذا نتف ريشه احتبس بيضه وإذا سمع صوت الرعد الشديد. الخفّاش «3» قالوا: عجائب الخفّاش أنه لا يبصر في الضوء الشديد ولا في الظلمة الشديدة وتحبل وتلد وتحيض وترضع وتطير بلا ريش، وتحمل الأنثى ولدها تحت جناحها وربما قبضت عليه بفيها خوفا عليه، وربما ولدت وهي تطير. ولها أذنان وأسنان وجناحان متصلان برجليها، وأبصارها تصحّ على طول العمر، وإنما يظهر في القمر منها المسنّات؛ وقال بعض الحكماء: الخفّاش فأر يطير.

الخطاف والزرزور

الخطّاف والزّرزور «1» قالوا: الخطّاف والزّرزور يتبع الربيع حيث كان. قالوا: وتقلع إحدى عينيه فترجع. والزّرزور لا يمشي ومتى وقع بالأرض لم يستقلّ «2» وأخذ، وإنما يعشّش في الأماكن المرتفعة فإذا أراد الطيران رمى بنفسه في الهواء فطار، وإذا أراد أن يشرب الماء انقضّ عليه فشرب منه اختلاسا من غير أن يسقط بالأرض. العقاب والحدأة قالوا: العقاب تبيض ثلاث بيضات في أكثر حالاتها فإذا فرّخت غذّت، اثنين وباعدت عنها واحدا فيتعهد فرخها طائر يقال له: كاسر العظام «3» ، ويغذوه حتى يكبر ويقوى. وقال صاحب الفلاحة: العقاب والحدأة «4» يتبدّلان فتصير العقاب حدأة والحدأة عقابا، قال: وكذلك الأرانب تتبدّل فيصير الذكر منها أنثى وتصير الأنثى ذكرا. قال صاحب المنطق: العقاب إذا اشتكت كبدها من رفعها الثعلب والأرنب في الهواء وحطّها لذلك وأشباهه تعالجت بأكل الأكباد حتى تبرأ.

الغراب

الغراب الغربان لا تقرب النخل المواقير «1» وإنما تسقط على النخل المصرومة «2» فتلقط ما يسقط من التمر في القلبة «3» وأصول الكرب «4» . وعلى إناث الغربان الحضن وعلى الذكور أن تأتي الإناث بالطّعم والإوزّة دون الذكر «5» والعربان أكتم شيء للسّفاد. القطا قالوا: والقطا لا تضع بيضها أبدا إلا أفرادا؛ قال أبو وجزة «6» : [بسيط] وهنّ ينسبن وهنا كلّ صادقة ... باتت تباشر عرما «7» غير أزواج الحيوان الذي لا يصلح شأنه إلا برئيس أو رقيب: الناس، والغرانيق «8» ، والكراكي والنحل؛ فأما الإبل والبقر والحمير فتتخذ رئيسا من غير رقيب. باب مصايد الطير قال صاحب الفلاحة: من أراد أن يحتال للطير والدّجاج حتى يتحيّرن ويغشى عليهنّ حتى يصيدهنّ عمد إلى الحلتيت «9» فدافه بالماء ثم جعل في

الحشرات

ذلك الماء شيئا من عسل ثم أنقع فيه برّا يوما وليلة ثم ألقى ذلك البرّ للطير فإنها إذا التقطته تحيرّت وغشي عليها فلم تقدر على الطيران إلا أن تسقى لبنا خالطه سمن. قال: وإن عمد إلى طحين برّ غير منخول فعجن بخمر ثم طرح للطير والحجل فأكلن منه تحيرن. وإن جعل خمر في إناء وجعل فيه بنج فشربن منه غشي عليهنّ. قال: ومما يصاد به الكراكي وغيرها من الطير أن يوضع لهنّ في مواقعهن إناء فيه خمر وقد جعل فيه خربق «1» أسود وأنقع فيه شعير فإذا أكلن منه أخذهنّ الصائد كيف شاء. قال غيره: ومما تصاد به العصافير بأسهل حيلة أن تؤخذ شبكة في صورة المحبرة اليهودية المنكوسة وتجعل في جوفها عصفور فتنقضّ عليه العصافير ويدخلن عليه وما دخل منها لم يقدر على الخروج فيصيد الرجل في اليوم الواحد مائتين وهو وادع. قال: ويصاد طير الماء بالقرعة وذلك أن تؤخذ قرعة يابسة صحيحة فيرمى بها في الماء فإنها تتحرّك فإذا أبصرها الطير تتحرّك فزع فإذا كثر ذلك عليه أنس حتى لربما سقط عليها، ثم تؤخذ قرعة فيقطع رأسها ويخرق فيها موضع عينين ثم يدخل الصائد رأسه فيها ويدخل الماء فيمشي إليها مشيا رويدا فكلّما دنا من طائر أدخل يده في الماء فقبض على رجليه ثم غمسه في الماء ثم دقّ جناحه وخلّاه فبقي طافيا فوق الماء يسبح برجله ولا يطيق الطيران، وسائر الطير لا يمكن انغماسه فإذا فرغ من صيد ما يريد رمى بالقرعة ثم يلتقطها ويحملها. الحشرات حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثنا عبد الله بن الربيع قال: أخبرنا هشام

ابن عبد الله عن قتادة عن عبد الله بن عمرو أنه قال: الفأرة يهودية ولو سقيتها ألبان الإبل وما شربتها، والفأر أصناف: منهنّ الزّباب «1» وهو أصمّ؛ قال الحارث «2» بن حلّزة: [مجزوء الكامل] وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا «3» والخلد وهو أعمى؛ وتقول العرب: هو «أسرق من زبابة» ، وفأرة البيش، والبيش سمّ قاتل؛ ويقال: هو قرون السّنبل، وله فأرة تغتذيه لا تأكل غيره، ومن غير هذا فأرة المسك وفأرة الإبل فاحت «4» أرواحها إذا عرقت. قالوا: ومن الحيات ما يقتل ولا يخطىء: الثّعبان والأفعى والهنديّة؛ فأما سوى هذه فإنما يقتل بما يمدّه من الفزع، لأنه إذا فزع تفتّحت منافسه فوغل السّم إلى مواضع الصّميم وعمق البدن، فإن نهشت النائم والمغمى عليه والطّفل الصغير والمجنون الذي لا يعقل لم تقتل. وأذناب الأفاعي تقطع فتنبت ونابها يقطع بالعكّاز «5» فينبت حتى يعود في ثلاث ليال؛ والحيّة إن نفث في فيها حمّاض الأترجّ وأطبق لحيها على الأعلى على الأسفل لم تقتل بعضّتها أياما صالحة. ومن الناس من يبصق في فم الحية فيقتلها بريقه، والحيّات تكره ريح السّذاب والشّيح، وتعجب باللّفّاح والبطّيخ والحرف والخردل الموخف «6» واللبن والخمر وليس في الأرض

حيوان أصبر على جوع من حية؛ ثم الضّبّ بعدها، فإذا هرمت صغرت في بدنها وأقنعها النسيم ولم تشته الطعام، ولذلك قال الراجز: [رجز] حارية «1» قد صغرت من الكبر وقال صاحب الفلاحة: إنّ الحية إن ضربتها بقصبة مرة أو هنتها القصبة في تلك الضربة وحيّرتها، فإن ألححت عليها بالضرب انسابت ولم تكترث. قال: ومن جيّد ما يعالج به الملسوع أن يشقّ بطن الضّفدع ثم يرفد به موضع لسعة العقرب. والضّفدع لا يصيح حتى يدخل حنكه الأسفل في الماء، فإذا صار في فيه بعض الماء صاح، ولذلك لا تسمع للضفادع نقيقا إذا خرجن من الماء، قال الراجز: [رجز] يدخل في الأشداق ماء ينصفه «2» ... حتى ينقّ والنقيق يتلفه يريد أن النقيق يدل عليه حية البحر، كما قال الآخر: [طويل] ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر وقال في السّبخ «3» : إنه إن انخرق فيه خرق بمقدار منخر الثور حتى تدخله الريح استحال ذلك السّبخ ضفادع. والضّفادع لا عظام لها، ويضرب بها المثل في الرّسح «4» ؛ فيقال: «أرسح من ضفدع» و «أجحظ عينا من ضفدع» .

قالوا: وكل شيء يأكل فهو يحرّك فكّه الأسفل إلا التمساح فإنه يحرّك فكه الأعلى. وبمصر سمك يقال له الرّعّاد، من صاد منه سمكة لم تزل يده ترعد وتنتفض مادام في شبكته أو شصّه «1» . والجعل «2» إذا دفنته في الورد سكنت حركته حتى يتوهّم من رآه أنه قد مات، فإذا أعدته إلى الروث تحرّك ورجع في حسّه. والبعير إذا ابتلع في علفه خنفساء قتله إن وصلت إلى جوفه حية. وأطول شيء ذماء «3» الخنفساء فإنها يسرج على ظهرها فتصبر وتمشي. والضبّ «4» يذبح فيمكث ليلة ثم يقرّب من النار فيتحرّك. والأفعى إذا ذبحت تبقى أياما تتحرّك وإن وطئها واطىء نهشته، ويقطع ثلثها الأسفل فتعيش وينبت ذلك المقطوع. والكلب والخنزير يجرحان الجرح القاتل فيعيشان. قالوا: وللضبّ «5» ذكران وللضبّة حران، خبّرني بذلك سهل عن الأصمعيّ أو غيره. قال: ويقال لذكره نزك وأنشد: [طويل] سبحل له نزكان كانا فضيلة ... على كلّ حاف في البلاد وناعل «6»

وكذلك الحرذون. «1» والذّبّان «2» لا تقرب قدرا فيها كمأة «3» . وسامّ أبرص لا يدخل بيتا فيه زعفران. ومن عضّه الكلب الكلب احتاج إلى أن يستر وجهه من الذّباب لئلا يسقط عليه. وخرطوم الذباب يده، ومنه يغنّي، وفيه يجري الصوت كما يجري الزامر الصوت في القصبة بالنفخ. قالوا: ليس شيء يذخر إلا الإنسان والنملة والفأرة. والذّرّة «4» تدّخر في الصيف للشتاء فإذا خافت العفن على الحبوب أخرجتها إلى ظاهر الأرض فشرّرتها «5» ، وأكثر ما تفعل ذلك ليلا في القمر. فإن خافت أن ينبت الحبّ نقرت وسط الحبة لئلا تنبت. والسّلحفاة إذا أكلت أفعى أكلت سعترا جبليا «6» . وابن عرس «7» إذا قاتل الحية أكل السّذاب. والكلاب إذا كان في أجوافها دود أكلت سنبل القمح. والأيّل إذا نهشته الحية أكل السّراطين «8» . قال ابن ماسويه: فلذلك يظنّ أن السراطين صالحة لمن نهش من الناس. والوزغ «9» يزاقّ الحيّات ويقاربها، ويكرع في اللبن والمرق ثم يمجّ في الإناء. وأهل

السجن يعملون من الوزغ سمّا أنفذ من سم البيش «1» ومن ريق الأفاعي، وذلك أنهم يدخلون الوزغة قارورة ثم يصبّون فيها من الزيت ما يغمرها ويضعونها في الشمس أربعين يوما حتى تتهرّأ «2» في الزيت، فإن مسحت على اللّقمة منه مسحة وأكله آكل مات من يومه. والجراد إذا طلع فعمد إلى التّرمس والحنظل فطبخا بماء ثم نضح ذلك الماء على زرع تنكّبه الجراد. وإذا زرع خردل في نواحر زرع نجا من الدبى «3» . وإذا أخذ المرداسنج «4» فعجن بعجين ثم طرح للفأر فأكلته موّتن عنه، وكذلك براية الحديد. وإذا أخذ الأفيون والشّونيز «5» والبارزذ «6» وقرن الأيّل وبابونج وظلف من أظلاف المعز فخلط ذلك جميعا ثم دقّ وعجن بخلّ عتيق ثم قطع قطعا فدخّن بقطعة منه نفرت لذلك الحيّات والهوامّ والنمل والعقارب، وإن أحرق منه شيء ودخّن به هرب ما وجد منها تلك الريح. والنمل تهرب من دخان أصول الحنظل. وإن عمد إلى كبريت وسذاب وخربق فدقّ ذلك جميعا وطرح في قرية النمل قتلها ومنعها ظهورهن من ذلك الموضع. والبعوض تهرب من دخان القلقديس «7» إذا دخّن به ومعه حبّ السوس «8» ، وتهرب من دخان الكبريت والعلك.

وقالت الأطباء: لحم ابن عرس نافع من الصّرع. ولحم القنفذ نافع من الجذام والسّلّ والتشنّج ووجع الكلى، يجفّف ويشرب ويطعمه العليل مطبوخا ومشويّا ويضمد به المتشنّج. والعقرب إذا شقّ بطنها ثم شدّ على موضع اللسعة نفعت. وقد تجعل في جوف فخّار مشدود الرأس مطيّن الجوانب ثم يوضع الفخّار في تنّور، فإذا صارت العقرب رمادا سقي من ذلك الرماد من به الحصاة مقدار نصف دانق وأكثر فيفتّت الحصاة من غير أن يضرّ بشيء من سائر الأعضاء والأخلاط «1» ، وقد تلسع العقرب من به حمّى عتيقة فتقلع؛ وتلسع المفلوج فيذهب عنه الفالج، وتلقى في الدّهن وتترك فيه حتى يأخذ الدّهن منها ويجتذب قواها فيكون ذلك الدّهن مفرّقا للأورام الغليظة. ومن طبع العقرب أنك إن ألقيتها في ماء غمر بقيت في وسط الماء لا تطفو ولا ترسب؛ وهي من الحيوان الذي لا يسبح. وعين الجرادة وعين الأفعى لا تدوران. وإنما تنسج من العناكب الأنثى، والذكر هو الخدرنق. وولد العنكبوت ينسج ساعة يولد. والقمل يخلق في الرؤوس على لون الشعر إن كان أسود أو أبيض أو مخضوبا بالحنّاء. الحلكاء «2» دويبّة تغوص في الرمل كما يغوص طائر الماء في الماء. وبنات النّقا كذلك، وهي التي يقال لها: شحمة الأرض. وأمّ حبين «3» لا تقيم بمكان تكون فيه السّرفة، والسّرفة «4» دويبّة يضرب بها المثل في الصّنعة فيقال: «أصنع من سرفة» .

ومن أحسن ما قيل في الأفعى قول امرأة من الأعراب: [كامل] خلقت لهازمه عزين، ورأسه ... كالقرص فرطح من دقيق شعير «1» وكأن ملقاه بكلّ تنوفة ... ملقاك كفّة منجل مأطور «2» ويدير عينا للوقاع، كأنها ... سمراء طاحت من نفيض برير «3» قيل لما سرجويه: نجد ملسوع العقرب يعالج بالاسفيوش» فينفعه، وآخر يعالج بالبندق فينفعه، وآخر يشرب الأنقاس «5» فتنفعه، وآخر يأكل التّفاح الحامض فينفعه، وآخر يطليه بالقلي «6» والخلّ فيحمده، وآخر يعصب عليه الثوم الحارّ المطبوخ، وآخر يدخل يده في مرجل حارّ لا ماء فيه فيحمده، وآخر يعالجه بالنّخالة الحارّة فيحمدها، وآخر يحجم ذلك الموضع فيحمده، ثم رأيناه يتعالج بعد بذلك الشيء للسعة أخرى فلا يحمده! فقال: لما اختلفت السّموم في أنفسها بالجنس والقدر والزمان، وباختلاف ما لاقاه اختلف الذي يوافقه على حسب اختلافه. قالوا: وأشدّ ما تكون لسعتها إذا خرج الإنسان من الحمّام، لتفتّح المنافس وسعة المجاري وسخونة البدن.

وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: قال أبو بكر البحريّ: ما من شيء يضرّ إلا وفيه منفعة. وقيل لبعض الأطباء: إنّ قائلا قال: أنا مثل العقرب أضرّ ولا أنفع. فقال؛ ما أقلّ علمه بها. إنها لتنفع إذا شقّ بطنها ثم شدّت على موضع اللّسعة؛ وقد تجعل في جوف فخّار مشدود الرأس مطيّن الجوانب ثم يوضع الفخّار في تنّور فإذا صارت العقرب رمادا سقي من ذلك الرماد مقدار نصف دانق أو أكثر قليلا من به الحصاة ففتّها من غير أن يضرّ بشيء من سائر الأعضاء والأخلاط. وقد تلسع العقرب من به الحمّى العتيقة فتقلع عنه. ولسعت العقرب رجلا مفلوجا فذهب عنه الفالج. وقد تلقى العقرب في الدهن وتترك فيه حتى يأخذ الدهن منها ويجتذب قواها فيكون ذلك الدّهن مفرّقا للأورام الغليظة. قال أبو عبيدة: ولسعت أعرابيا عقرب بالبصرة، وخيف عليه فاشتدّ جزعه، فقال بعض الناس له: ليس شيء خيرا من أن تغسل له خصية زنجيّ عرق ففعلوا، وكان ذاك في ليلة ومدة «1» ، فلما سقوه قطب؛ فقيل له: طعم ماذا تجد؟ قال: أجد طعم قربة جديدة. قال المأمون: قال لي بختيشوع وسلمويه وابن ماسويه: إن الذباب إذا دلك على موضع لسعة الزّنبور هدأ وسكن الألم، فلسعني زنبور فحككت على موضعه أكثر من عشرين ذبابة فما سكن الألم إلا في قدر الزمان الذي كان يسكن فيه من غير علاج، فلم يبق في يدي منهم إلا أن يقولوا: كان هذا الزّنبور حنقا غاضبا، ولولا ذلك العلاج قتلك. قالوا: ومما ينفع من اللسعة أن يصيروا على موضعها قطعة رصاص رقيقة وتشدّ عليه أياما. وقد يموّه بهذا قوم فيجعلونه خاتما فيدفعونه إلى الملسوع إذا نهش في إصبعه.

قال محمد بن الجهم: لا تتهاونوا بكثير مما ترون من علاج العجائز، فإنّ كثيرا منه وقع إليهن من قدماء الأطباء، كالذّبّان يلقي في الإثمد «1» فيسحق معه، فيزيد ذلك في نور البصر ونفاذ النظر وتشديد مراكز الشعر في حافات الجفون. قال: وفي أمّة من الأمم قوم يأكلون الذّبّان فلا يرمدون، وليس لذلك يأكلونه، ولكن كما يأكل غيرهم فراخ الزنابير. وقال ابن ماسويه: المجرّب للسع العقرب أن يسقى من الزّراوند «2» المدحرج ويشرب عليه ماء بارد، ويمضغ ويوضع على اللسعة. قال: وللسع الأفاعي والحيّات ورق الآس «3» الرطب يعصر ويسقى من مائه قدر نصف رطل، وكذلك ماء المرزنجوش «4» وماء ورق التفاح المدقوق والمعصور مع المطبوخ، ويضمد الموضع بورق التفاح المدقوق. وللأدوية والسموم القاتلة البندق والتين والسّذاب يطعم ذلك العليل. قال: والثّوم والملح وبعر الغنم نافع جدّا إذا وضع على موضع لسعة الحيّة إلا أن تكون أصلة «5» ، فإن الأصلة توضع على لسعها الكليتان جميعا بالزيت والعسل. والخطميّ «6» إذا أخذ ورقه فدقّ ثم وضع على لسع قملة «7» النّسر كان دواء له. وإن طلى أحد به يديه أو

النبات

جسده لم يلدغ ذلك الموضع منه زنبور. وإن لدغ أحدا زنبور فآذاه فشرب من مائه نفعه. والبشكول وهو الطرشقوق إن دقّ فضمد به لسعة العقرب نفع إذا أغلي أو شرب من عصيره. قالوا: وإن أخذ من حذر على نفسه السّموم القاتلة التين مع الشّونيز على الريق وقاه. النبات حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: حدّثنا قريش بن أنس عن كليب أبي وائل رجل من المطّوّعة قال: رأيت ببلاد الهند شجرا له ورد أحمر مكتوب فيه ببياض «محمد رسول الله» . والعرب تقول في مثل هذا هو: «أشكر من البروقة» «1» ، وهو نبت ضعيف ينبت بالغيم. ويزعم قوم أن النارجيل هو نخل المقل قلبه طباع البلد. وقال صاحب الفلاحة: بين الكرنب وبين الكرم عداوة، فإذا زرع الكرنب بحضرة الكرم ذبل أحدهما وتشنّج، ولذلك يبطىء السّكر عمن أكل منه ورقات على ريق النفس ثم شرب. وقضبان الرمّان إذا ضرب بها ظهر رجل اشتدّ عليه الألم. قالوا: وكلّ زهر ونور فإنه ينحرف مع الشمس ويحوّل إليها وجهه؛ ولذلك يقال: هو يضاحك الشمس. قال الأعشى: [بسيط] ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل «2» يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزّة بعميم النّبت مكتهل «3»

وقال آخر: [طويل] فنوّاره ميل إلى الشمس زاهره «1» والخبّازى «2» ينضمّ ورقه بالليل وينفتح بالنهار. والنّيلوفر «3» ينبت في الماء فيغيب الليل كلّه ويظهر إذا طلعت الشمس. وقالوا في الطّحلب «4» : إن أخذ فجفّف في الظلّ ثم سقط في النار لم يحترق. وذكروا أنّ قسّا راهن على صليب في عنقه من خشب أنه لا يحترق، وقال: هو من العود الذي صلب عليه المسيح، فكاد يفتن بذلك خلقا حتى فطن له بعض أهل النظر فأتاهم بقطعة عود تكون بكرمان فكان أبقى على النار من صليبه. والطّلق «5» كذلك لا يصير جمرا. وطلاء النفّاطين «6» طلق وخطميّ ومغرة. وقالوا: إذا أخذ بزر السّذاب البريّ وزرع وطال به ذلك تحوّل حرملا «7» ، والنّمام «8» إذا أعتق تحوّل

حبقا «1» . قالوا: والقسط «2» إنما هو جزر بحريّ. قالوا: بالسند نبت من الحشيش يسمّى تريّة، إذا أخذ فطبخ ثم صفّي ماؤه فجعل في وعاء لم يلبث إلا يسيرا حتى يشتدّ ويسكر شاربه إسكار الخمر. قال صاحب الفلاحة: من أراد أن يضرّ بمبقلة عمد إلى شيء من خرء البطّ فخلط به مثله من ملح ثم طرحا في ماء فديفا فيه فينضح ذلك الماء على البقل فإنه يفسد. قال: ومن أراد إفساد الرمّان الكثير ألقى في أضعافه نوى التمر والملح والجريش. ومن أراد قتل السمك في الماء القائم عمد إلى نبت يسمى «ما هى «3» زهرة» فدقّ وطرح في الماء فإنه يموت سمك ذلك الماء؛ والمازريون «4» يفعل ذلك. قال: ومما يجفّ له الشجر أن يعمد إلى مسمار من حديد فيحمى بالنار حتى تشتدّ حمرته ثم يدقّ في أصل الشجرة، وأن يعمد إلى وتد من طرفاء فيثقب أصل الشجرة بمثقب حديد ثم يجعل ذلك العود على قدر الثّقب في المثقب فتجفّ الشجرة إن كان غلظ العود على قدر الثّقب. قيل لما سرجويه: ما بال الأكرة «5» وسكّان البساتين مع أكلهم الكرّاث والتّمر وشربهم الماء الحارّ على السّمك المالح أقلّ عميانا وعورانا وعمشانا؟ قال: فكّرت في ذلك فلم أجد علّة إلا طول وقوع أبصارهم على الخضرة.

الحجارة

الحجارة قال أرسطا طاليس: حجر «1» سنقيلا إذا ربط على بطن صاحب الاستسقاء نشّف منه الماء، والدليل على ذلك أنه يوزن بعد أن كان على بطنه فيوجد قد زاد في وزنه؛ وذاكرت بهذا رجلا من علماء الأطبّاء فعرفه، وقال: هذا الحجر مذكور في التوراة. وحجر المغناطيس يجذب الحديد من بعد وإذا وضع عليه علقه، فإن دلك بالثّوم بطل عمله. قالوا: والرّماد والقلي «2» يدبّران فيستحيلان حجارة سودا تصلح للأرجاء. ومن الحجارة حصاة في صورة النواة تسبح في الخلّ كأنها سمكة. ومنها خرزة العقر «3» إن كانت في حقو «4» المرأة فلا تحبل. وحجر يوضع على حرف التنّور فيتساقط خبز التنّور كلّه. وبمصر حجر من قبض عليه بجميع كفّيه فأكل شيئا في جوفه فإن هو لم ينبذه من كفّه خيف عليه. ومن الحجارة النّشف «5» ، ليس شيء من الحجارة يطفو على الماء غيره وفيه حفر صغار. قالوا: الرصاص قد يدبّر فيستحيل مردا سنجا. وإقليمياء «6» النّحاس يدبّر فيصير توتياء. وحجر البازهر «7» يفرّق الأورام. وباليمن جبل يقطر منه ماء. فإذا صار إلى الأرض ويبس استحال وصار شبّا، وهو هذا الشبّ اليمانيّ.

الجن

حدّثنا الرياشيّ عن الأصمعيّ قال: أربعة أشياء قد ملأت الدنيا لا تكون إلا باليمن: الورس والكندر والخطر والعصب «1» . وبمصر حجر تحرّكه فتسمع في جوفه شيئا يتقلقل كالنواة. حدّثني شيخ لنا عن عليّ بن عاصم عن خالد الخذّاء عن محمد بن سيرين قال: إختصم رجلان إلى شريح، فقال أحدهما: إنّي استودعت هذا وديعة فأبى أن يردّها عليّ؛ فقال له شريح: ردّ على هذا الرجل وديعته؛ قال: يا أبا أميّة، إنه حجر إذا رأته الحبلى ألقت ولدها، وإذا وقع في الخلّ غلى، وإذا وضع في التنّور برد، فسكت شريح، ولم يقل شيئا حتى قاما. الجنّ قالوا: الشياطين مردة الجنّ، والجانّ ضعفة الجنّ، وبلغني عن يحيى بن آدم عن شريك عن ليث عن مجاهد قال قال- يعني إبليس عليه لعنة الله-: أعطينا أنّا نرى ولا نرى، وأنا ندخل تحت الثّرى، وأنّ شيخنا يردّفتى. حدّثنا عبد الرحمن عن عمّه قال: حدّثني يعلى بن عقبة- شيخ من أهل المدينة مولى لآل الزّبير-: أن عبد الله بن الزبير بات بالقفر، فقام ليرحل فوجد رجلا طوله شبران عظيم اللحية على الوليّة «2» ، فنفضها فوقع ثم وضعها على الراحلة، وجاء وهو بين الشّرخين «3» ، فنفض الرّحل ثم شدّه، وأخذ

السّوط ثم أتاه، فقال: من أنت؟ قال: أنا أزبّ قال: وما أزبّ؟ قال: رجل من الجنّ؛ قال: افتح فاك أنظر؛ ففتح فاه؛ قال: أهكذا حلوقكم! لقد شوّه حلوقكم! ثم قلب السوط فوضعه في رأس أربّ حتى شقّه. حدّثني خالد بن محمد الأزديّ قال: حدّثنا عمر بن يونس قال: حدّثنا عكرمة ابن عمّار قال: حدّثنا إسحاق بن أبي طلحة الأنصاريّ قال: حدّثني أنس بن مالك قال: كانت بنت عوف بن عفراء مضطجعة في بيتها قائلة إذ استيقظت وزنجيّ على صدرها آخذا بحلقها، قالت: فأمسكني ما شاء الله وأنا حينئذ قد حرمت عليّ الصلاة، فبينا أنا كذلك نظرت إلى سقف البيت ينفرج، حتى نظرت إلى السماء فإذا صحيفة صفراء تهوي بين السماء والأرض حتى وقعت على صدري، فنشرها وأرسل حلقي فقرأها، فإذا فيها: من ربّ لكيز إلى لكيز، إجتنب ابنة العبد الصالح إنه لا سبيل لك عليها، ثم ضرب بيده على ركبتي وقال: لولا هذه الصحيفة لكان دم، أي لذبحتك؛ فاسودّت ركبتي حتى صارت مثل رأس الشاة، فأتيت عائشة، فذكرت لها ذلك؛ فقالت لي: يا بنة أخي، إذا حضت فألزمي عليك ثيابك فإنه لا سبيل له عليك إن شاء الله. فحفظها الله بأبيها وكان استشهد يوم بدر. أبو يعقوب الثقفيّ عن عبد الملك بن عمير عن الشّعبيّ عن زياد بن النضر أنّ عجوزا سألت جنّيّا فقالت: إن بنتي عروس وقد تمّرط شعرها «1» من حمّى ربع بها، فهل عندك دواء؟ فقال: اعمدي إلى ذباب الماء الطويل القوائم الذي يكون بأفواه الأنهار فاجعليه في سبعة ألوان من العهن «2» : أصفر وأحمر وأخضر وأزرق وأبيض وأسود وأغبر، ثم اجعليه في وسطه وافتليه

بأصبعك هكذا ثم اعقديه على عضدها اليسرى؛ ففعلت فكأنّها أنشطت من عقال. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: أخبرني محمد بن مسلم الطائفيّ في حديث ذكره أنّ الشياطين لا تستطيع أن تغيّر خلقها ولكنها تسخّر. وقال الأصمعيّ: حدّثنا أبو عمرو بن العلاء قال: حدثنا النّهّاس بن قهم قال: دخلت مربدا لنا فإذا فيه شيء كالعجّول «1» له قرنان وله ريش ينظر إليّ كأنه شيطان. حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن عمه قال: سمع رجل بأرض ليس بها أحد قائلا من تحته يقول: من يحرّك شعيراتي؟ ذاك مقيلي، وظلّ مظلّي، حاشا الغزيل وعبد الملك وجمعه الأدم؛ وكانوا يرون أنّ الأصمعيّ سمع هذا، وذاك أنه كان في آخر عمره وقد أصابه مسّ ثم ذهب عنه. حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعيّ قال: أخبرنا عمر بن الهيثم عن عمير بن ضبيعة قال: بينا أنا أسير في فلاة أنا وابن ظبيان- أو رفيق له آخر ذكره- عرضت لنا عجوز- كذا سمعته يقول، إن شاء الله- أو شيخ- ورأيت في كتاب محمد ابنه- وصبيّ يبكي؛ فقال: إني منقطع بي في هذه الفلاة فلو تحمّلتماني! فقال صاحب عمير: لو أردفته! فحمله خلفه؛ فمكثنا ساعة فنظر في وجه عمير وتنفّس فخرج من فيه نار مثل نار الأتّون «2» فأخد له عمير السيف؛ فبكى وقال: ما تريد منّي؛ فكفّ عنه ولم يعلم صاحبه بما رأى؛ فمكث هنيهة ثم عاد، فأخذ له السيف؛ فبكى وقال ما تريد مني؟ وبكى؛ فتركه ولم يعلم صاحبه؛ ثم عاد الثالثة ففغر «3» في وجهه؛ فحمل عليه

بالسيف؛ فلما رأى الجدّ وثب وقال: قاتلك الله ما أشدّ قلبك! ما فعلته قطّ في وجه رجل إلا ذهب عقله. بلغني عن محمد بن عبد الله الأسديّ عن سفيان عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن عن أبي أيّوب الأنصاريّ أنه كان في سفرة له وكانت الغول تجيء، فشكاها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «إذا رأيتها فقل باسم الله أجيبي رسول الله» ؛ فجاءت فقال لها ذلك؛ فأخذها فقالت: لا أعود؛ فأرسلها؛ فقال له النبيّ عليه السلام: «ما فعل أسيرك» ؟ فأخبره؛ فقال: «إنها عائدة» ، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا، وقالت في آخرها: أرسلني وأعلّمك شيئا تقوله فلا يضرّك شيء: آية الكرسيّ؛ فأتى النبيّ عليه السلام فأخبره؛ فقال: «صدقت وهي كذوب» . حدّثني زيد بن أخزم قال: حدّثنا عبد الصمد عن همّام عن يحيى بن أبي كثيرة أن عامل عمان كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إنّا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت؛ فكتب إليه عمر: لسنا من الماء في شيء، إن قامت البينة وإلا فخلّ عنها. حدّثني يزيد بن عمرو قال: حدّثنا أبو عاصم قال: حدّثنا ابن جريج عن ابن أبي الحسين المكيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعمت الدّخنة اللّبان واللّبان دخنة الأنبياء ولن يدخل بيتا دخّن فيه بلبان ساحر ولا كاهن. حدّثني عبد الله بن أبي سعيد قال: حدّثني عبد الله بن مروان بن معاوية من ولد أسماء بن خارجة قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت أعرابية تقول: من يشتري منّي الحزأ؟ فقلت: وما الحزأ «1» ؟ قالت: يشتريه أكايس

النساء للطّشّة والخافية والإقلات؛ قال عبد الله سألت ابن مناذر فقال: الطّشّة: شيء يصيب الصبيان كالزّكام. والخافية: الجنّ. والإقلات قلة الولد. يريد أن المرأة إذا ولدت يموت أولادها فلا يبقى لها ولد؛ يقال: امرأة مقلات. بلغني عن شيخ من بني نمير أنه قال: أضللت أباعر لي بالشّريف «1» فخرجت في بغائها فدأبت أياما فأمسيت عشيّة بواد موحش وقد كددت راحلتي فاختليت «2» لها من الشجر وأصبت لها من الماء ثم قيّدتها واضطجعت مغموما، فلما جرى وسن النوم في عيني إذ همس قدم قريبا منّي، فانتبهت فزعا وإذا شيخ يتنحنح وهو يقول: لا ريعة «3» عليك! ثم سلّم وجلس؛ ثم جاء آخر وآخر حتى تألّفوا أربعة فقالوا: ما بك أيها المسلم؟ فقلت: أضللت أباعر «4» لي وأنا في طلبها منذ أيام؛ فقال لي الأوّل منهم: كنّ لك ما كنّ، وقد ودّعن فبنّ، وصرن حيث صرن، فلا تتعنّينّ؛ فاجترأت على المسألة فقلت: أمن الخافية أنتم نشدتكم بإلهكم؟ قالوا: نعم وإلهنا وإلهكم واحد؛ فقلت: علّموني مما علّمكم الله شيئا أنتفع به؛ قالوا: إذا أردت حفظ مالك فاقرأ عليه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ «5» إلى آخر ثلاث الآيات، وآية الكرسيّ، وإذا أمسيت في خلاء وحدك فاقرأ المعوّذتين، وإن أحببت ألّا يعبث بك ولا بأهلك وولدك عابث منّا فعليك بالديك الأبيض؛ واجعل في حجور صبيانك بريما، يعني خيطا من صوف

جاء بعد خاتمة الكتاب الرابع بعد النسخة الخطية التي تقل عنها الأصل الفتوغرافي ما يأتي:

أبيض وأسود، واحتشوا بالإذخر «1» ينشر في الصوف، فحدّثوني كحديثنا تلك الليلة، فلما أصبحت رجعت. قال المدائنيّ: كانت وفاة زياد بالعرفة «2» ظهرت في إصبعه، واشتدّ عليه الوجع فجمع الأطّباء فشاورهم في قطع إصبعه، فأشار عليه بعضهم بذلك، وقال له رجل منهم: أتجد الوجع في الإصبع أم تجده في قلبك والإصبع؟ قال: في قلبي وفي إصبعي؛ قال: عش سليمان ومت سليما، وأمره أن يغمسها في الخلّ، فكان ذلك يخفّف عنه بعض الوجع، فمكث بذلك سبعة عشر يوما ثم مات؛ وسمع أهل الحبس ليلة مات قائلا يقول: أنا النقاد الرّقية قد كفيتكم الرجل. والعرب تدعو الطاعون رماح الجنّ. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنه وخز من الجنّ يعني الطاعون» . والله أعلم. تمّ كتاب الطبائع وهو الكتاب الرابع من عيون الأخبار لابن قتيبة ويتلوه في الكتاب الخامس كتاب العلم. والحمد لله رب العالمين وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحابته وأهل بيته أجمعين. وكتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن علي الواعظ الجزري؛ وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة هجرية.. جاء بعد خاتمة الكتاب الرابع بعد النسخة الخطية التي تقل عنها الأصل الفتوغرافي ما يأتي: كان سديف مولى بني هاشم يقول: اللهمّ إنه قد صار فيئنا دولة بعد

القسمة، وإمارتنا غلبة بعد المشورة؛ وعهدنا ميراثا بعد الاختيار للأمة، واشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة؛ وحكم في أبشار «1» المسلمين أهل الذّمة وتولّى القيام بأمورهم فاسق كلّ محلّة. اللهمّ وقد استحصد زرع الباطل، وبلغ نهيته، واستجمع طريده، اللهم فافتح له من الحق يدا حاصدة تبدّد شمله، وتفرّق نامّته «2» ليظهر الحقّ في أحسن صوره، وأتمّ نوره. والسلام. وقيل «3» : كانوا يتوقّون ظلم السلطان إذا دخلوا عليه بأن يقولوا هذا الدعاء: «باسم الله، إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ أخذت سمعك وبصرك بسمع الله وبصره، وأخذت قوّتك بقوّة الله، بيني وبينك ستر النبوة الذي كانت الأنبياء تستتر به من سطوات الفراعنة؛ جبريل عن يمينك، وميكائيل عن شمالك، ومحمد أمامك، والله مطلّ عليك يحجزك مني ويمنعني منك. والسلام» . وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمّاله: «أما بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك. والسلام» . وقدم رجل من بعض النواحي فقيل له: كيف تركت الناس؟ قال: مظلوما لا ينتصر، وظالما لا ينتهر. والسلام.

في الحبس: [بسيط] ما يدخل السجن إنسان فتسأله ... ما بال سجنك إلّا قال مظلوم «1» وقال بعض المحدثين: [منسرح] إن الليالي التي شغفت بها ... غيّبها الدهر في تقلّبه لله أمري ما ملت قطّ إلى ... شيء بقلبي إلّا فجعت به عرفت حظّي من الزمان فلا ... ألوم خلقا على تجنّبه وكلّ سهم أعددته وقفت ... به الليالي حتى زميت به وحكي أن عبد الملك بن مروان أتوه برجل من الخوارج فأراد قتله، فأدخل على عبد الملك ابن له صغير وهو يبكي؛ فقال الخارجيّ: دعه يا عبد الملك، فإن ذلك أرحب لشدقه، وأصحّ لدماغه، وأذهب لصوته، وأجرى ألّا تأبى عليه عينه إذا حفزته طاعة الله فاستدعى عبرتها؛ فأعجب عبد الملك بقوله وقال له متعجّبا: أما يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟ فقال: ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء؛ فأمر عبد الملك بحبسه، وصفح عن قتله.

كتاب العلم والبيان

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب العلم والبيان العلم حدّثني الزياديّ قال: حدّثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعيّ عن عبد الله ابن سعد عن الصّنابحيّ عن معاوية بن أبي سفيان قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات، قال الأوزاعيّ: يعني صعاب المسائل «1» . حدّثني سهيل بن محمّد عن الأصمعيّ قال: سمعت عمران بن حدير يحدّث عن رجل من أهل الشام قد سمّاه، قال: قال كعب الأحبار لقوم من أهل الشام: كيف رأيكم في أبي مسلم الخولانيّ «2» ؟ فقالوا: ما أحسن رأينا فيه وأخذنا عنه! فقال: إنّ أزهد الناس في العالم أهله «3» ، وإنّ مثل ذلك مثل الحمّة «4» تكون في القوم فيرغب فيها الغرباء، ويزهد فيها القرباء، فبينا ذلك

غار ماؤها، وأصاب هؤلاء منفعتها، وبقي هؤلاء يتفكّنون، أي يتندّمون. وفي الإنجيل أنّ عيسى صلى الله عليه لمّا أراهم العجائب، وضرب لهم الأمثال والحكمة، وأظهر لهم هذه الآيات، قالوا: أليس هذا ابن النّجّار! أو ليست أمّه مريم وأخوه يعقوب ويوسف وشمعون ويهوذا وأخواته كلّهنّ عندنا! فقال لهم عيسى: إنّه لا يسبّ النبيّ ولا يحقّر إلّا في مدينته وبيئته. حدّثنا الرياشيّ قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: قيل لدغفل النسّابة: بم أدركت ما أدركت من العلم؟ فقال: بلسان سؤول وقلب عقول، وكنت إذا لقيت عالما أخذت منه وأعطيته. حدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: حدّثنا العلاء بن أسلم عن رؤبة بن العجّاج قال: أتيت النّسابة البكريّ فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا ابن العجاج، قال: قصّرت وعرّفت، لعلك من قوم إن سكتّ عنهم لم يسألوني، وإن تكلّمت لم يعوا عنّي، قلت: أرجو ألا أكون كذلك، قال: ما أعداء المروءة؟ قلت: تخبرني، قال: بنو عمّ السوء إن رأوا حسنا ستروه، وإن رأوا سيّئا أذاعوه، ثم قال: إن للعلم آفة وهجنة ونكدا، فآفته نسيانه، ونكده الكذب فيه، وهجنته نشره عند غير أهله. كان يقال: لا يزال المرء عالما ما طلب العلم فإذا ظن أن قد علم فقد جهل. حدّثني شيخ لنا عن محمّد بن عبيد عن الصّلت بن مهران عن رجل عن الشعبيّ عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلّم العلم لأربعة دخل النار ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يميل به وجوه الناس أو يأخذ به من الأمراء» .

وحدّثني عن أبي معاوية عن حجّاج عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يخلص العبادة لله أربعين يوما إلّا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» . وقرأت في حكم لقمان أنه قال لابنه: يا بنيّ، أغد عالما أو متعلّما أو مستمعا أو محبّا، ولا تكن الخامس فتهلك. حدّثني محمد بن داود عن سويد بن سعيد عن إسماعيل عن ابن عيّاش عن معاذ ابن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» . وروى أبو خالد بن الأحمر عن عمرو بن قيس عن أبي إسحاق قال: قال عليّ عليه السلام: كلمات لو رحّلتم المطيّ فيهنّ لا تصيبوهنّ قبل أن تدركوا مثلهن: لا يرجونّ عبد إلا ربّه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، ولا يستحيي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحيي إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول: الله أعلم. واعلموا أنّ منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان. وكان يقول: من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلّم على القوم عامّة وتخصّه بالتحية، وأن تجلس قدّامه ولا تشير بيدك، ولا تغمز بعينك، ولا تقول قال فلان خلافا لقوله، ولا تغتاب عنده أحدا، ولا تسارّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلحّ عليه إذا كسل، ولا تغرض «1» من صحبته لك: فإنما هو بمنزلة النخلة لا يزال يسقط عليك منها شيء. وفيما قال عليّ عليه السلام: يا كميل «2» ، العلم خير من

المال، لأنّ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق. وقال: قيمة كلّ امرىء ما يحسن. ويقال إذا أرذل «1» الله عبدا حظر عليه العلم. وقال الشاعر: [طويل] يعدّ رفيع القوم من كان عالما «2» ... وإن لم يكن في قومه بحسيب وإن حلّ أرضا عاش فيها بعلمه ... وما «3» عالم في بلدة بغريب قال بزرجمهر: ما ورّثت الآباء الأبناء شيئا أفضل من الأدب، لأنها تكتسب المال بالأدب وبالجهل تتلفه فتقعد عدما منهما. قال رجل لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار، وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع عليّ النوم؟ قال: لأنّك حمار في مسلاخ» إنسان. خرج الوليد بن يزيد حاجّا ومعه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فكانا ببعض الطريق يلعبان بالشّطرنج فاستأذن عليه رجل من ثقيف فأذن له وستر الشّطرنج بمنديل، فلمّا دخل سلّم فسأله حاجته؛ فقال له الوليد: أقرأت القرآن؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين! شغلتني عنه أمور وهنات، قال: أفتعرف الفقه؟ قال: لا، قال: أفرويت من الشّعر شيئا؟ قال: لا، قال: أفعلمت من أيام العرب شيئا؟ قال: لا، قال: فكشف المنديل عن الشّطرنج وقال: شاهك، فقال له عبد الله بن معاوية: يا أمير المؤمنين! قال: اسكت فما معنا أحد. وفي كتاب للهند: العالم إذا اغترب فمعه من علمه كاف، كالأسد معه

قوّته التي يعيش بها حيث توجّه. وكان يقال: العلم أشرف الأحساب، والمودّة أشدّ الأسباب، قال الشاعر: [منسرح] الحلم والعلم خلّتا كرم ... للمرء زين إذا هما اجتمعا صنوان لا يستتمّ حسنهما ... إلا بجمع لذا وذاك معا كم من وضيع سما به العلم وال ... حلم فنال العلاء وارتفعا ومن رفيع البنا أضاعهما ... أخمله ما أضاع فاتّضعا قال الأحنف: كاد العلماء أن يكونوا أربابا، وكلّ عزّ لم يؤكّد بعلم فإلى ذلّ ما يصير. وقال ابن المقفّع: إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان فلا يعجبنّك ذلك، فإنّ زوال الكرامة بزوالهما، ولكن ليعجبك إن أكرموك لدين أو أدب. وفي بعض الحديث المرفوع: «مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء» . وكان يقال: إستدلّ على فضل العلم أنه ليس أحد يحبّ أنّ له بحظه منه خطرا. قال يونس بن حبيب: علمك من روحك، ومالك من بدنك. قال أبو الأسود: الملوك حكّام على الناس، والعلماء حكّام على الملوك. قيل لبزرجمهر: العلماء أفضل أم الأغنياء؟ فقال: العلماء، فقيل له: فما بال العلماء بأبواب الأغنياء أكثر من الأغنياء بأبواب العلماء؟ فقال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى وجهل الأغنياء بفضل العلم. وفي الحديث: «ليس الملق من أخلاق المؤمن إلّا في طلب العلم» . قال ابن عبّاس: دللت طالبا، فعزرت مطلوبا؛ وكان يقول: وجدت عامّة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحيّ من الأنصار، إن كنت لأقيل بباب أحدهم ولو شئت أذن لي، ولكن أبتغي بذلك طيب نفسه. وكان يقال: أوّل العلم الصّمت والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العقل، والخامس نشره. ويقال: إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. قال الحسن: من أحسن عبادة الله

في شبيبته لقاه الله الحكمة في سنّه، وذلك قوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ «1» قال بعض الحكماء من الصحابة: تقول الحكمة: من التمسني فلم يجدني فليفعل بأحسن ما يعلم، وليترك أقبح ما يعلم، فإذا فعل ذلك فأنا معه وإن لم يعرفني. وكان يقال: لا يكون الرجل عالما حتّى يكون فيه ثلاث: لا يحقر من دونه في العلم، ولا يحسد من فوقه، ولا يأخذ على علمه ثمنا. وقال ابن عيينة: يستحبّ للعالم إذا علّم ألّا يعنّف، وإذا علّم ألّا يأنف. وفي كلام لغيلان، لا تكن كعلماء زمن الهرج «2» إن علّموا أنفوا وإن علّموا عنفوا. وفي حكمة لقمان: إن العالم الحكيم يدعو الناس إلى علمه بالصّمت والوقار، وإن العالم الأخرق يطرد الناس عن علمه بالهذر والإكثار. قال إبراهيم بن المنصور: سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الأكياس. وأنشد ابن الأعرابيّ: [كامل] ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر فسل الفقيه تكن فقيها مثله ... من يسع في عمل بفقه يمهر وتدبّر الأمر الذي تعنى به ... لا خير في عمل بغير تدبّر فلقد يجدّ المرء وهو مقصّر ... ويخيب جدّ المرء غير مقصّر ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكلّ أمر منكر وبقيت في خلف يزيّن بعضهم ... بعضا ليدفع معور «3» عن معور

وقال الشاعر «1» : [طويل] شفاء العمى طول السؤال وإنّما ... تمام العمى طول السكوت على الجهل وقال بعضهم: خير خصال المرء السؤال. ويقال: إذا جلست إلى عالم فسل تفقّها ولا تسل تعنّتا. قال الحسن. من استتر عن الطلب بالحياء لبس للجهل سرباله، فقطّعوا سرابيل الحياء، فإنّه من رقّ وجهه رق علمه؛ وقال: إنّي وجدت العلم بين الحياء والستر. وقال الخليل؛ منزلة الجهل بين الحياء والأنفة. وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والحكمة ضالّة المؤمن فليطلبها ولو في يدي أهل الشّرك. وقال عروة بن الزّبير لبنيه: تعلّموا العلم فإن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبار قوم آخرين، فيا سوءتا ماذا أقبّح من جهل بشيخ! وكان يقال: علّم علمك من يجهل، وتعلّم ممّن يعلم، فإنّك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت وحفظت ما علمت. قيل لبزرجمهر: بم أدركت ما أدركت من العلم؟ فقال: ببكور كبكور الغراب، وحرص كحرص الخنزير، وصبر كصبر الحمار. وقال الحسن: طلب العلم في الصغر كالنّقش في الحجر، وطلب العلم في الكبر كالنقش على الماء. ويقال: التفقّه على غير علم كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح. وفي الحديث المرفوع «ارحموا عزيزا ذلّ ارحموا غنيّا افتقر ارحموا عالما ضاع بين جهّال» ويقال: أحقّ الناس بالرحمة عالم يجوز عليه حكم جاهل. قال المسيح عليه السلام: يا بني إسرائيل، لا تلقوا اللؤلؤ إلى الخنازير،

فإنّها لا تصنع به شيئا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها، فإنّ الحكمة أفضل من اللؤلؤ، ومن لا يريدها شرّ من الخنازير. قال ديمقراط: عالم معاند خير من منصف جاهل. وقال آخر: الجاهل لا يكون منصفا؛ وقد يكون العالم معاندا. قال سفيان: تعوّذوا بالله من فتنة العابد الجاهل، وفتنة العالم الفاجر. قيل للحسن: الحرفة في أهل العلم: ولغيرهم الثّروة، فقال: إنّك طلبت قليلا في قليل فأعجزك، طلبت المال وهو قليل في الناس، في أهل العلم وهم قليل من الناس. وقال الخريمي «1» : [بسيط] لا تنظرنّ إلى عقل ولا أدب ... إنّ الجدود قرينات الحماقات وقال آخر: [بسيط] ما ازددت من أدبي حرفا أسرّ به ... إلّا تزيّدت حرفا تحته شوم إنّ المقدّم في جذق بصنعته ... أنّى توجّه منها فهو محروم وقال الطائيّ لمحمد بن عبد الملك: [طويل] أبا جعفر، إنّ الجهالة أمّها ... ولود وأمّ العلم جذّاء حائل «2» قال الثّوريّ: من طلب الرّياسة بالعلم سريعا فاته علم كثير؛ وقال: يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلّا ارتحل. قال بعض أهل العلم: يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد. قال بلال بن أبي بردة: لا يمنعنّكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون. وقال الخليل بن أحمد «3» : [بسيط]

اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري كتب رجل إلى أخ له: إنّك قد أوتيت علما فلا تطفئنّ نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم. وقال بعض الحكماء: لولا العلم لم يطلب العمل، ولولا العمل لم يطلب العلم، ولأن أدع الحقّ جهلا به أحبّ إليّ من أن أدعه زهدا فيه. وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ القطر عن الصّفا. «1» ونحوه قول زياد: إذا خرج الكلام من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يجاوز الآذان. ويقال: العلماء إذا علموا كملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا. قال الحسن: ما أحسن الرجل ناطقا عالما ومستمعا واعيا وواعيا عاملا. وقال ابن مسعود: إني لأحسب الرّجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها. وقال ابن عبّاس: إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مقاتله. وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك: [متقارب] إذا ما تحدّثت في مجلس ... تناهى حديثي إلى ما علمت ولم أعد علمي إلى غيره ... وكان إذا ما تناهى قصرت وقال آخر «2» : [طويل] إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملى أم تناهى فأقصرا ويخبرني عن غائب المرء فعله ... كفى الفعل عما غيّب المرء مخبرا قال عمر بن الخطّاب: لا أدركت لا أنا ولا أنت زمانا يتغاير الناس فيه

على العلم كما يتغايرون على الأزواج. قال سلمان: علم لا يقال به ككنز لا ينفق منه. وفي الحديث المرفوع: «العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجّة الله على ابن آدم» قال عمر بن عبد العزيز: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة. قال أبو الدّرداء: من يزدد علما يزدد وجعا. قال أفلاطون: لولا أنّ في قول لا أعلم سببا لأنّي أعلم لقلت إنّي لا أعلم. وقال آخر: ليس معي من فضيلة العلم إلا علمي بأنّي لست أعلم. قال الخليل بن أحمد: الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنّه يدري فسلوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك ناس فذكّروه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فعلّموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه. كتب كسرى إلى بزرجمهر وهو في الحبس: كانت ثمرة علمك أن صرت بها أهلا للحبس والقتل، فكتب إليه بزرجمهر: أما ما كان معي الجدّ فقد كنت أنتفع بثمرة العلم فالآن إذ لا جدّ فقد صرت أنتفع بثمرة الصبر مع أني إن كنت فقدت كثير الخير فقد استرحت من كثير الشرّ. قال بزرجمهر: من صلح له العمر صلح له التعلّم. وقيل لبعض الحكماء: أيحسن بالرجل أن يتعلّم؟ فقال: إن كانت الجهالة تقبح به فإنّ العلم يحسن به. ويقال: التودّد زين العلم. قال عمر بن الخطّاب: ما من غاشية «1» أدوم أرقا، وأبطأ شبعا من عالم. قال مالك بن دينار: من طلب العلم لنفسه فالقليل منه يكفي، ومن طلبه

للناس فحوائج الناس كثيرة. قال إبّقراط: العلم كثير، والعمر قصير، والصنعة طويلة، والزمان جديد، والتجربة خطأ. قال المسيح عليه السلام: إلى متى تصفون الطرنف للمدلجين، وأنتم مقيمون مع المتحيّرين؟ إنما ينبغي من العلم القليل، ومن العمل الكثير. قال سلمان: لو حدّثت الناس بكلّ ما أعلم لقالوا رحم الله قاتل سلمان. كان يقال: لا تقل فيما لا تعلم فتتّهم فيما تعلم. وكان يقال: العلم قائد، والعمل سائق، والنّفس حرون، فإذا كان قائد بلا سائق بلدت وإذا كان سائق بلا قائد عدلت يمينا وشمالا، فإذا اجتمعا أنابت طوعا وكرها. قال أيّوب: لا يعرف الرجل خطأ معلّمه حتّى يعرف الاختلاف. ويقال: غريزة العقل أنثى وما يستفاد من العلم ذكر ولن يصلحا إلّا معا. قال المسيح عليه السلام: إن أبغض العلماء إلى الله رجل يحبّ الذّكر بالمغيب، ويوسّع له في المجالس، ويدعى إلى الطعام، وتفرغ له المزاود «1» ، بحقّ أقول لكم: إنّ أولئك قد أخذوا أجورهم في الدنيا، وإنّ الله يضاعف لهم العذاب يوم القيامة. لما دلّي زيد بن ثابت في قبره قال ابن عبّاس: من سرّه أن يرى كيف ذهب العلم فهكذا ذهاب العلم. ويقال: إذا أردت المحبة من الله فكن عالما كجاهل. وقال بعض الشعراء في تلاقي العلماء: [منسرح]

إذا تلاقى الفيول «1» وازدحمت ... فكيف حال البعوض في الوسط؟ وقال ابن الرّقاع: [كامل] ولقد أصبت من المعيشة لذّة ... ولقيت من شظف الخطوب شدادها وعلمت حتّى لست أسأل عالما ... عن حرف واحدة لكي أزدادها ويقال: أربع لا يأنف منهنّ الشريف: قيامه عن مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وقيامه على فرسه وإن كان له مائة عبد، وخدمته العالم ليأخذ من علمه. قيل لعطاء بن مصعب: كيف غلبت على البرمكة وعندهم من هو آدب منك؟ قال: ليس للقرباء ظرافة الغرباء، كنت بعيد الدار، غريب الاسم، عظيم الكبر، صغير الجرم، كثير الالتواء، شحيحا بالإملاء؛ فقرّبني إليهم تباعدي منهم، ورغّبهم فيّ رغبتي عنهم. قال أبو يعقوب الخريميّ «2» : تلقّاني سعيد بن وهب مع طلوع الشمس فقلت: أين تريد؟ قال: أدور لعلّي أسمع حديثا حسنا، ثم تلقّاني أنس بن أبي شيخ فقلت: أين تريد؟ قال: عندي حديث حسن فأنا أطلب له إنسانا حسن الفهم حسن الاستماع، قلت: حدّثني به، قال: أنت حسن الفهم سيّء الإستماع، وما أرى لهذا الحديث إلا إسماعيل بن غزوان. وقال الطائيّ في نحو هذا: [وافر] وكنت أعزّ عزّا من قنوع ... تعوّضه صفوح من ملول

فصرت أذلّ من معنى دقيق ... به فقر إلى فهم جليل كان يقال: إذا أردت أن تكون عالما فاقصد لفنّ من العلم، وإذا أردت أن تكون أديبا فخذ من كل شيء أحسنه. قال إبراهيم «1» بن المهديّ: [بسيط] قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرّزق من لم يؤت من تعب مع أنني واجد في الناس واحدة ... الرزق أروغ شيء عن ذوي الأدب وخلّة ليس فيها من يخالفني ... الرزق والنّوك مقرونان في سبب «2» يا ثابت العقل كم عاينت ذا حمق ... الرّزق أغرى به من لازم الجرب قال أنو شروان للموبذ «3» : ما رأس الأشياء؟ قال: الطبيعة النقيّة تكتفي من الأدب برائحته ومن العلم بالإشارة إليه، وكما يذهب البذر في السّباخ «4» ضائعا، كذلك الحكمة تموت بموت الطبيعة، وكما تغلب السّباخ طيّب البذر إلى العفن، كذلك الحكمة تفسد عند غير أهلها؛ قال كسرى؛ قد صدقت وبحق قلّدناك ما قلّدناك. قال بعض السلف: يكون في آخر الزمان علماء يزهّدون في الدنيا ولا يزهدون، ويرغّبون في الآخرة ولا يرغبون، ينهون عن غشيان الولاة ولا ينتهون، يقرّبون الأغنياء ويباعدون الفقراء، وينقبضون عند الحقراء، وينبسطون عند الكبراء: أولئك الجبّارون أعداء الرحمن.

الكتب والحفظ

نافع عن ابن عمر قال: العلم ثلاثة: كتاب ناطق؛ وسنة ماضية؛ ولا أدري. الكتب والحفظ حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثني قريش بن أنس قال: سمعت الخليل بن أحمد يقول: اسلم من الوحدة، فقيل له: قد جاء في الوحدة ما جاء، فقال: ما أفسدها للجاهل!. قال بعض الشعراء في قوم يجمعون الكتب ولا يعلمون: [طويل] زوامل «1» للأسفار لا علم عندهم ... بجيّدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري المطيّ إذا غدا ... بأحمالها أرواح ما في الغرائر «2» قال يحيى بن خالد: الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويتحدّثون بأحسن ما يحفظون. قال الشّعبيّ: لو أن رجلا حفظ ما نسيت كان عالما، ووصف رجل رجلا فقال: كان يغلط في علمه من وجوه أربعة: يسمع غير ما يقال له، ويحفظ غير ما يسمع، ويكتب غير ما يحفظ، ويحدّث بغير ما يكتب. قيل لأبي نواس: قد بعثوا إلى أبي عبيدة والأصمعيّ ليجمع بينهما، فقال: أمّا أبو عبيدة فإن أمكنوه من شقره «3» قرأ عليهم أساطير الأوّلين؛ وأما الأصمعيّ فبلبل في قفص يطربهم بنغماته.

القرآن

القرآن حدّثني الزّياديّ قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعيد عن الجريريّ عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون بيع المصاحف ويرونه عظيما، وكانوا يكرهون أن يأخذ المعلّم على تعليم الغلمان شيئا. حدّثني محمد بن عبد العزيز عن خالد الكاهليّ عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليّ عليه السلام قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجّة ريحها طيّب وطعمها طيّب؛ ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل النّمرة طعمها طيّب ولا ريح لها؛ ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن مثل الرّيحانة ريحها طيب وطعمها مرّ؛ ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريح لها. وحدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن إسماعيل بن أمية وليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوّ فإني أخاف أن يناله العدوّ. حدّثني أبو سفيان الغنويّ قال: حدّثنا عمير بن عمران العلّاف قال: حدّثنا خريمة ابن أسد المرّي قال: كان سعيد بن المسيّب يستفتح القراءة ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ويقول: إنها أوّل شيء كتب في المصحف، وأوّل الكتب، وأوّل ما كتب به سليمان بن داود إلى المرأة «1» . وحدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: حدّثنا رجل عن عمران بن حدير قال: قرأت على أعرابيّ آخر سورة «براءة» فقال: كان هذا من آخر

ما نزل. قالوا: كيف؟ قال: أرى أشياء تقضى وعهودا تنبذ. قال: وقرأت عليه سورة الأحزاب فقال: كأنها ليس بتامّة. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال ابن مسعود: (حم) ديباج القرآن، قال: وزاد فيه مسعر «1» ، قال عبد الله: إذا وقعت في آل (حم) وقعت في روضات دمثات «2» أتأنّق فيهنّ. حدّثني شيخ لنا عن المحاربيّ قال: حدّثنا بكر بن حنيس عن ضرار بن عمرو عن الحسن قال: قرّاء القرآن ثلاثة: رجل اتّخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر، يطلب به ما عند الناس؛ وقوم حفظوا حروفه، وضيّعوا حدوده، واستدرّوا به الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم- وقد كثّر الله هذا الضّرب في حملة القرآن لا كثّرهم الله- ورجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه، فسهر ليله وهملت عيناه، تسربلوا «3» الخشوع، وارتدوا بالحزن، وركدوا في محاريبهم، وجثوا في برانسهم «4» ، فبهم يسقي الله الغيث، وينزل النّصر، ويرفع البلاء، والله لهذا الضّرب في حملة القرآن أقلّ من الكبريت الأحمر. روى الحارث الأعور عن عليّ عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: كتاب الله فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا

الحديث

يخلق عن كثرة الردّ ولا تنقضي عجائبه، هو الذي من تركه من جبّار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، هو حبل الله المتين والذّكر الحكيم والصراط المستقيم خذها إليك يا أعور. المحاربيّ قال: حدّثنا مالك بن مغول عمّن أخبره عن المسيّب بن رافع عن عبد الله ابن مسعود قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون؛ وينبغي لحامل القرآن أن يكون عليما حكيما ليّنا مستكينا. وكيع عن أبي معشر المديني عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من تعظيم جلال الله إكرام ذي الشّيبة في الإسلام وإكرام الإمام العادل وإكرام حامل القرآن. قال بعض المفسرين في قول الله عزّ وجلّ: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ «1» أحرمهم فهم القرآن. سمع أعرابيّ ابن عباس وهو يقرأ: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها «2» فقال: والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يدخلهم فيها؛ فقال ابن عباس: خذها من غير فقيه. الحديث حدّثني إسحاق بن «3» إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد قال: حدّثنا محمد بن

فضيل عن الأعمش قال: كان إسماعيل بن رجاء يجمع صبيان الكتّاب فيحدّثهم كيلا ينسى حديثه. وحدّثني إسحاق الشّهيديّ قال: حدّثنا أبو بكر بن عيّاش عن الأعمش قال: قال لي حبيب بن أبي ثابت: لو أنّ رجلا حدّثني عنك بحديث ما باليت أن أرويه عنك. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن نافع عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: ألف عن ألف خير من واحد عن واحد إنّ فلانا عن فلان ينتزع السّنّة من أيديكم. حدّثني الرياشيّ قال: روي عن محمد بن إسماعيل عن معتمر قال: حدّثني منقذ عن أيّوب عن الحسن قال: ويح: رحمة. حدّثنا الرياشيّ قال: روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد؛ قال ربيعة: ثم ذاكرت سهيلا بهذا الحديث فلم يحفظه، فكان بعد ذلك يرويه عنّي عن نفسه عن أبيه عن أبي هريرة. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن شعبة قال: كان قتادة إذا حدّث بالحديث الجيّد ثم ذهب يجيء بالثاني غدوة. بلغني عن ابن مهديّ قال: سئل شعبة؛ من الذي يترك حديثه؟ فقال: الذي يتّهم بالكذب، ومن تكثّر بالغلط، ومن يخطىء في حديث مجمع عليه فلا يتّهم نفسه ويقيم على غلطه، ورجل روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون. وعن مالك أنه قال: لا يؤخذ العلم من أربعة: سفيه معلن بالسفه، وصاحب هوى، ورجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتّهمه في

الحديث، ورجل له فضل وتعفّف وصلاح لا يعرف ما يحدّث. حدّثني عبد الرحمن عن الأصمعيّ أنه رثى سفيان «1» بن عيينة فقال: [بسيط] فليبك سفيان باغي سنّة درست ... ومستبيت أثارات وآثار «2» ومبتغي قرب إسناد وموعظة ... وأفقيّون «3» من طار ومن طار أمست مجالسه وحشا معطّلة ... من قاطنين وحجّاج وعمّار من للحديث عن الزّهريّ حين ثوى ... أو للأحاديث عن عمرو بن دينار «4» لن يسمعوا بعده من قال حدّثنا ال ... زّهريّ من أهل بدو أو بإحضار لا يهنأ الشامت المسرور مصرعه ... من مارقين ومن جحّاد أقدار ومن زنادقة، جهم «5» يقودهم ... قودا إلى غضب الرحمن والنار وملحدين ومرتابين قد خلطوا ... بسنّة الله أهتارا بأهتار «6»

وقال آخر في مالك بن أنس الفقيه: [كامل] يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان هدي التقيّ وعزّ سلطان التّقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان «1» حدّثنا أبو الخطّاب قال: حدّثنا محمد بن سوّار قال: حدّثنا هشام بن حسّان قال: كان الحسن يحدّثنا اليوم بالحديث ويردّه الغد ويزيد فيه وينقص إلا أن المعنى واحد. حدّثني أبو الخطاب قال: حدّثنا ميمون قال: حدّثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال حذيفة بن اليمان: إنّا قوم عرب فنقدّم ونؤخّر ونزيد وننقص، ولا نريد بذلك كذبا. أبو معاوية قال: قال أبو إسحاق الشاميّ: لو كان هذا الحديث من الخبز نقص. أبو أسامة قال: قال مسعر: من أبغضني فجعله الله محدّثا. أبو معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: والله لأن أتصدّق بكسرة أحبّ إليّ من أن أتحدّث بستين حديثا. أبو أسامة قال: سمعت سفيان يقول لوددت أنها قطعت من هامتي، وأومأ إلى المنكب، وأني لم أسمع منه شيئا. قال ابن عيينة: ما أحبّ لمن أحبّ أن يكون أحفظ الناس للحديث. قال بعضهم: إنّي لأسمع الحديث عطلا فأشنّفه وأقرّطه وأقلّده فيحسن، وما زدت فيه معنى، ولا نقصت منه معنى. أبو أسامة قال: سأل حفص بن غياث الأعمش عن إسناد حديث فأخذ بحلقه وأسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده. وحدّث ابن السّمّاك بحديث فقال له رجل: ما إسناده؟ فقال: هو من

المرسلات عرفا. وحدّث الحسن بحديث فقال له رجل: يا أبا سعيد، عمّن قال وما يصنع بعمّن؟ أمّا أنت فقد نالتك موعظته، وقامت عليك حجّته. يعلى قال: قال الأعمش: إذا رأيت الشيخ لم يطلب الفقه أحببت أن أصفعه. ابن عيينة قال: قال الأعمش: لولا تعلّم هذه الأحاديث كنت كبعض بقّالي الكوفة. إزدحم الناس يوما على باب ابن عيينة أيام الموسم وبالقرب منه رجل من حاجّ خراسان قد حطّ بمجمله فديس وكسر ما كان معه وانتهب كعكه وسويقه، فقام يسير إلى سفيان يدعو ويقول: إني لا أحلّ لك ما صنعت؛ فقال سفيان: ما يقول؟ فقال: بعضهم: يقول لك: زدنا في السّماع رحمك الله. أنشدني أبو حاتم عن الأصمعيّ للعلاء بن المنهال الغنويّ في شريك «1» : [وافر] فليت أبا شريك كان حيّا ... فيقصر حين يبصره شريك ويترك من تدرّيه علينا ... إذا قلنا له هذا أبوك «2» وقال آخر: [طويل] تحرّز سفيان وفرّ بدينه ... وأمسى شريك مرصدا للدراهم وقال آخر «3» في شهر بن حوشب: [طويل]

لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهر؟ وذلك أنه كان دخل بيت المال فسرق خريطة، ورافق رجلا من أهل الشام فسرق عيبته. وقال ابن مناذر «1» : [وافر] ومن يبغ الوصاة «2» فإنّ عندي ... وصاة للكهول وللشّباب خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث ابن دأب «3» عبد العزيز بن أبان عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت قال: طلبنا هذا الأمر وما لنا فيه نيّة، ثم إنّ النّية جاءت بعد؛ فقال سفيان: قال زيد بن أسلم: رأيتم رجلا مدّ رجله فقال: اقطعوها سوف أجبرها. قيل لرقبة: ما أكثر شككّ! فقال: محاماة عن اليقين؛ وقال بعضهم: سأل شعبة أيّوب السّختيانيّ عن حديث فقال: أنا أشكّ، فيه فقال: شكّك أحبّ إليّ من يقين سبعة. حدّثني زيد بن أخزم قال: سمعت عبد الله بن داود يقول: رأيت الأعمش يضمّ كفّيه ثم يضرب بهما صدره ويقول: أسكن. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثني بعض الرّواة قال: قلت للشّرقي بن قطامي: ما كانت العرب تقول في صلاتها على موتاها؟ فقال: لا أدري، فأكذب له؟ فقلت: كانوا يقولون: [طويل]

ما كنت وكواكا ولا بزونّك ... رويدك حتّى يبعث الحقّ باعثه «1» وكواك: غليظ، وزونّك: قصير؛ قال: فإذت أنا به يحدّث به في المقصورة يوم الجمعة؛ قال أبو نواس: [منسرح] حدّثني الأزرق المحدّث عن ... عمرو بن شمر عن ابن مسعود لا يخلف الوعد غير كافرة «2» ... وكافر في الجحيم مصفود حدّثني مهيار قال: حدّثني هدبة بن عبد الوهاب عن شقيق البلخيّ أنه أطرى يوما أبا حنيفة رحمه الله بمرو فقال له عليّ بن إسحاق: لا تطره بمرو فإنهم لا يحتملون ذلك؛ فقال شقيق: قد مدحه مساور «3» الشاعر فقال: [وافر] إذا ما الناس يوما قايسونا ... بآبدة من الفتيا ظريفه «4» أتيناهم بمقياس صحيح ... تلاد «5» من طراز أبي حنيفه إذا سمع الفقيه بها وعاها ... وأثبتها بحبر في صحيفه فقال له: قد أجابه بعض أصحابنا: [وافر] إذا ذو الرّأي خاصم في قياس ... وجاء ببدعة هنة سخيفه أتيناهم بقول الله فيها ... وآثار مبرّزة شريفه فكم من فرج محصنة عفيف ... أحلّ حرامه بأبي حنيفه

الأهواء والكلام في الدين

أقال أبو حنيفة بنت صلب ... تكون من الزّنا عرسا صحيحه سمع رجل مناديا ينادي: من يدلّنا على شيخ ضلّ؟ فقال: ما سمعت كاليوم شيخ ينادى عليه؛ ثم جاء به إلى بشر المرّيسيّ فقال: هذا شيخ ضالّ فخذ بيده؛ وكان بشر يقول بخلق القرآن. الأهواء والكلام في الدّين قال المأمون يوما لعليّ بن موسى الرّضى عليهما السلام: بم تدّعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة عليّ من النبي صلى الله عليه وسلم، وبقرابة فاطمة رضي الله عنها؛ فقال المأمون: إن لم يكن هاهنا شيء إلا القرابة ففي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته من هو أقرب إليه من عليّ، ومن هو في القرابة مثله؛ وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله، فإنّ الحقّ بعد فاطمة للحسن والحسين وليس لعليّ في هذا الأمر حقّ وهما حيّان؛ وإذا كان الأمر على ذلك، فإنّ عليّا قد ابتزّهما جميعا وهما حيّان صحيحان، واستولى عليّ على ما لا يجب له؛ فما أحار «1» عليّ بن موسى نطقا. حدّثنا الرّياشيّ قال: سمعت الأصمعيّ ينشد: [طويل] وإنّي لأغنى الناس عن متكلّم ... يرى الناس ضلّالا وليس بمهتدي وأنشدني أيضا الرياشيّ: [بسيط] وعاجز الرّأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا «2»

وقال آخر: [طويل] إذا عيّروا قالوا مقادير قدّرت ... وما العار إلّا ما تجرّ المقادر وأنشدني سهل عن الأصمعيّ: [رجز] يا أيها المضمر همّا لا تهمّ ... إنّك إن نقدر لك الحمّى تحتمّ ولو غدوت شاهقا من العلم ... كيف توقّيك وقد جفّ القلم «1» وأنشدني غيره: [رجز] هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر قال أبو يوسف: من طلب الدّين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غرائب الحديث كذب. كان مسلم بن أبي مريم- وهو مولى لبعض أهل المدينة وقد حمل عنه الحديث- شديدا على القدريّة «2» ، عائبا لهم ولكلامهم، فانكسرت رجله فتركها ولم يجبرها، فكلّم في ذلك فقال: يكسرها هو وأجبرها أنا! لقد عاندته إذا. قال رجل لهشام بن الحكم: أترى الله عزّ وجلّ في فضله وكرمه وعدله كلّفنا ما لا نطيق ثم يعذّبنا؟ فقال هشام: قد، والله، فعل، ولكننا لا نستطيع أن نتكلّم. حدّثني رجل من أصحابنا قال: صاحب رجل من القدريّة مجوسيّا في

سفر فقال له القدريّ: يا مجوسيّ، مالك لا تسلم؟ قال: حتى يشاء الله! قال: قد شاء الله ذلك، ولكنّ الشيطان لا يدعك، قال المجوسيّ: فأنا مع أقواهما. اجتمع أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد فقال عمرو: إن الله وعد وعدا وأوعد إيعادا وإنه منجز وعده ووعيده. فقال له أبو عمرو: أنت أعجم! لا أقول إنّك أعجم اللسان، ولكنك أعجم القلب! أما تعلم، ويحك! أن العرب تعدّ إنجاز الوعد مكرمة، وترك إيقاع الوعيد مكرمة؟ ثم أنشده: [طويل] وإنّي وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي حبيب بن الشهيد قال: قال إياس «1» بن معاوية: ما كلّمت أحدا بعقلي كلّه إلا صاحب القدر؛ قلت: ما الظلم في كلام العرب؟ قال: هو أن يأخذ الرجل ما ليس له؛ قلت: فإن الله له كلّ شيء. وفي كتاب للهند: اليقين بالقدر لا يمنع الحازم توقّي المهالك، وليس على أحد النّظر في القدر المغيّب، ولكن عليه العمل بالحزم، ونحن نجمع تصديقا بالقدر وأخدا بالحزم. حدّثني خالد بن محمد الأزديّ قال: حدّثنا شبابة بن سوّار قال: سمعت رجلا من الرافضة «2» يقول: رحم الله أبا لؤلؤة! فقلت: تترحّم على رجل

مجوسيّ قتل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه! فقال: كانت طعنته لعمر إسلامه. حدّثني أحمد بن الخليل قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: أخبرني عاصم بن محمد العمريّ قال: كنت جالسا عند أمير من أمراء المدينة فأتي برجل شتم أبا بكر وعمر فأسلمه حجّاما حتى حذق. وقال بعض شعراء «1» الرافضة في محمد بن الحنفيّة «2» : [وفر] ألا قل للوصيّ «3» فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل «4» المقاما أضرّ بمعشر والوك منّا ... وسمّوك الخليفة والإماما وعادوا فيك أهل الأرض طرّا ... مقامك عنهم ستين عاما وما ذاق ابن خولة «5» طعم موت ... ولا وارت له أرض عظاما

لقد أمسى بمورق شعب رضوى ... تراجعه الملائكة الكلاما وقال كثيرّ «1» عزّة فيه وكان رافضيّا يقول بالرّجعة: [وافر] ألا إنّ الأئمّة من قريش ... ولاة «2» الحقّ أربعة سواء عليّ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء وسبط «3» لا يذوق الموت حتّى ... يقود الخيل يقدمها اللّواء تغّيب، لا يرى، عنهم زمانا ... برضوى عنده غسل وماء وهم يذكرون أنه دخل شعبا باليمن في أربعين من أصحابه فلم ير لهم أثر. قال طلحة بن مصرّف لرجل: لولا أني على وضوء لأخبرتك بما تقول الشّيعة. قال هارون «4» بن سعد العجليّ وكان رأس الزّيدية) [طويل] ألم تر أنّ الرافضين تفرّقوا ... فكلّهمو في جعفر «5» قال منكرا

فطائفة قالوا إله ومنهم ... طوائف سمّته النبيّ المطهّرا فإن كان يرضى ما يقولون جعفر ... فإنّي إلى ربّي أفارق جعفرا ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم «1» ... برئت إلى الرحمن ممن تجفّرا برئت إلى الرحمن من كل رافض ... بصير بباب الكفر، في الدين أعورا إذا كفّ أهل الحق عن بدعة مضى ... عليها وإن يمضوا على الحق قصّرا ولو قال إنّ الفيل ضبّ لصدّقوا ... ولو قال زنجيّ تحوّل أحمرا وأخلف من بول البعير فإنّه ... إذا هو للإقبال وجّه أدبرا فقبّح أقوام رموه بفرية «2» ... كما قال في عيسى الفرى من تنصّرا سمعت بعض أهل «3» الأدب يقول: ما أشبه تأويل الرافضة للقرآن بتأويل رجل للشّعر، فإنه قال يوما: ما سمعت بأكذب من بني تميم! زعموا أنّ قول القائل: [كامل] بيت زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل «4» إنما هو في رجال منهم؛ قيل له: ما تقول أنت؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة الحجر؛ قيل له: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء؛ قيل له: فأبو

الفوارس؟ قال: أبو قبيس؛ قيل: فنهشل؟ قال: نهشل أشدّ، وفكّر ساعة ثم قال: نعم، نهشل! مصباح الكعبة طويل أسود فذاك نهشل!. قال أعشى همدان «1» يذكر قتل الرافضة الناس: [طويل] إذا سرت في عجل فسر في صحابة ... وكندة فاحذرها حذارك للخسف وفي شيعة الأعمى زياد وغيلة «2» ... ولسب وإعمال لجندلة القذف الأعمى هو المغيرة. وزياد يعني الخنق. واللّسب: السمّ؛ وإعمال لجندلة القذف: يريد رضخهم رؤوس الناس بالحجارة. ثم قال: وكلّهمو شرّ على أنّ رأسهم ... حميدة «3» والميلاء «4» حاضنة الكسف والكسف هذا هو أبو منصور «5» ، سمّى بذلك لأنه قال لأصحابه: فيّ

نزل: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً «1» وكان يدين بخنق الناس وقتلهم. ثم قال: متى كنت في حيّى بجيلة فاستمع ... فإنّ لهم قصفا يدلّ على حتف كان المغيرة بجليّا مولى لهم. ثم قال: إذا اعتزموا يوما على قتل زائر ... تداعوا عليه بالنّباح وبالعزف «2» وكان ابن «3» عيينة ينشد: [هزج] إذا ما سرّك العيش ... فلا تأخذ «4» على كنده يريد أن الخنّاقين من المنصورية أكثرهم بالكوفة من كندة، منهم أبو قطنة «5» الخنّاق.

حدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعيّ عن ابن أبي زائدة قال: قال هشام بن القاسم: أخذ خالد «1» بن عبد الله المغيرة «2» فقتله وصلبه بواسط «3» عند منظرة «4» العاشر، فقال الشاعر: [كامل] طال التّجاور من بيان «5» واقفا ... ومن المغيرة عند جذع العاشر يا ليته قد شال جذعا نخلة ... بأبي حنيفة وابن قيس الناصر

وبيان هذا هو بيان التّبّان «1» وكان يقول: إليّ أشار الله إذ يقول: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ «2» وهو أوّل من قال بخلق القرآن. وأما المغيرة فكان مولى لبجيلة وكان سبائيّا «3» وصاحب نيرنجات «4» . قال الأعمش: قلت للمغيرة: هل كان عليّ يحيي الموتى؟ فقال: لو شاء لأحيا عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا. بلغني عن أبي عاصم عن إسماعيل بن مسلم المكّيّ قال: كنت بالكوفة فإذا قوم من جيراني يكثرون الدخول على رجل، فقلت من هذا الذي تدخلون عليه؟ فقالوا: هذا عليّ بن أبي طالب، فقلت: أدخلوني معكم فمضيت معهم وخبأت معي سوطا تحت ثيابي فدخلت فإذا شيخ أصلع بطين، فقلت له: أنت عليّ بن أبي طالب؟ فأومأ برأسه: أي نعم، فأخرجت السّوط فما زلت أقنّعه «5» ! وهو يقول: لتاوى لتاوى، فقلت لهم: يا فسقة! عليّ بن أبي

طالب نبطيّ «1» ! ثم قلت له: ويلك! ما قصّتك؟ قال: جعلت فداك، أنا رجل من أهل السّواد «2» أخذني هؤلاء فقالوا: أنت عليّ بن أبي طالب. حدّثني رجل من أصحاب الكلام قال: دخل هشام بن الحكم على بعض الولاة العباسيين فقال رجل للعباسي: أنا أقرّر هشاما بأنّ عليّا كان ظالما، فقال له: إن فعلت ذلك فلك كذا؛ فقال له: يا أبا محمّد، أما علمت أن عليّا نازع العبّاس إلى أبي بكر؟ قال: نعم، قال: فأيّهما كان الظالم لصاحبه؟ فتوقّف هشام وقال: إن قلت العباس خفت العباسيّ، وإن قلت عليّا ناقضت قولي، ثم قال: لم يكن فيهما ظالم، قال: فيختصم اثنان في أمر وهما محقّان جميعا؟ قال: نعم، اختصم الملكان «3» إلى داود وليس فيهما ظالم إنّما أرادا أن ينبّهاه على ظلمه، كذلك اختصم هذان إلى أبي بكر ليعرّفاه ظلمه فأسكت الرجل وأمر الخليفة لهشام بصلة «4» . قال حسّان بن ثابت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: [منسرح] ثلاثة برّزوا بسبقهم ... نضّرهم «5» ربّهم إذا نشروا عاشوا بلا فرقة حياتهم ... واجتمعوا في الممات إذ قبروا

فليس من مسلم له بصر ... ينكر من فضلهم إذا ذكروا «1» وقال أعرابيّ لعبد الله بن عمر: [طويل] إليك ابن خير الناس إلّا محمدا ... وإلّا أبا بكر نروح ونغتدي وقال أبو طالب في سهل بن بيضاء، وكان أسر فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء، لأنه كان مسلما مكرها على الخروج: [طويل] وهم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا ... وسرّ أبو بكر بها ومحمد وقال عبيد الله بن عمر: [رجز] أنا عبيد الله ينميني عمر ... خير قريش من مضى ومن غبر بعد رسول الله والشّيخ الأغرّ ... مهلا عبيد الله في ذلك نظر وقال حسّان بن ثابت يرثي أبا بكر رضي الله عنه: [بسيط] إذا تذكّرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البريّة أتقاها وأعدلها ... بعد النّبيّ وأوفاها بما حملا والثاني الصادق المحمود مشهده ... وأوّل الناس منهم صدّق الرّسلا وكان حبّ رسول الله قد علموا ... من البريّة لم يعدل به رجلا «2» حدّثني مهيار الرازيّ قال: قال جرير بن ثعلبة: حصرت شيطانا مرّة فقال: أرفق بي فإنّي من الشّيعة، فقلت: فمن تعرف من الشيعة؟ قال: الأعمش، فخلّيت سبيله. قال أبو هريرة «3» العجليّ لمحمد بن عليّ بن

الرد على الملحدين

الحسين عليهم السلام: [طويل] أبا جعفر أنت الوليّ أحبّه ... وأرضى بما ترضى به وأتابع أتتنا رجال يحملون عليكم ... أحاديث قد ضاقت بهنّ الأضالع أحاديث أفشاها المغيرة فيهم ... وشرّ الأمور المحدثات البدائع حدّثني هارون بن موسى عن الحسن بن موسى الأشيب عن حمّاد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقّل. قال: [بسيط] ما ضرّ من أصبح المأمون سائسه ... إن لم يسسه أبو بكر ولا عمر الردّ على الملحدين قال بعض الملحدين لبعض أصحاب الكلام: هل من دليل على حدوث العالم؟ قال: الحركة والسكون، فقال: الحركة والسّكون من العالم، فكأنّك إذا قلت: الدليل على حدوث العالم العالم؛ فقال له: وسؤالك إيّاي من العالم، فإذا جئت بمسألة من غير العالم جئتك بدليل من غير العالم. قال المأمون لثنويّ «1» يناظر عنده: أسألك عن حرفين قط، خبرّني: هل ندم مسيء قطّ على إساءته؟ قال: بلى؛ قال: فالنّدم على الإساءة إساءة أو إحسان؟ قال: بل إحسان؛ قال: فالذي ندم هو الذي أساء أو غيره؟ قال: بل

هو الذي أساء؛ قال: فأرى صاحب الخير هو صاحب الشرّ، وقد بطل قولكم، إنّ الذي ينظر نظر الوعيد هو الذي ينظر نظر الرحمة؛ قال: فإني أزعم أنّ الذي أساء غير الذي ندم؛ قال: فندم على شيء كان من غيره أو على شيء كان منه؟ فأسكته. دخل الموبذ «1» على هشام بن الحكم «2» فقال له: يا هشام، حول الدنياشيء؟ قال: لا، قال: فإن أخرجت يدي فثمّ شيء يردّها؟ قال هشام: ليس ثمّ شيء يردّك، ولا شيء يخرج يدك فيه؛ قال: فكيف أعرف هذا؛ قال له: يا موبذ؛ أنا وأنت على طرف الدنيا فقلت لك يا موبذ: إني لا أرى شيئا، فقلت لي: ولم لا ترى؟ فقلت لك: ليس ها هنا ظلام يمنعني، قلت لي أنت: يا هشام، إني لا أرى شيئا، فقلت لك: ولم لا ترى؟ قلت: ليس ضياء أنظر به؛ فهل تكافأت الملّتان في التناقض؟ قال: نعم، قال: فإذا تكافأتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شيء؟ فأشار الموبذ بيده أن أصبت «3» . ودخل عليه يوما آخر فقال: هما في القوّة سواء؟ قال: نعم؛ قال: فجوهرهما واحد؟ قال الموبذ لنفسه- ومن حضر يسمع- إن قلت: إنّ جوهرهما واحد عادا في نعت واحد، وإن قلت: مختلف اختلفا أيضا في الهمم والإرادات

ولم يتّفقا في الخلق، فإن أراد هذا قصيرا أراد هذا طويلا؛ قال هشام: فكيف لا تسلم! قال: هيهات!. وجاءه رجل ملحد فقال له: أنا أقول بالاثنين وقد عرفت إنصافك فلست أخاف مشاغبتك؛ فقال هشام وهو مشغول بثوب ينشره ولم يقبل عليه: حفظك الله، هل يقدر أحدهما أن يخلق شيئا لا يستعين بصاحبه عليه؟ قال: نعم؛ قال: هشام: فما ترجو من اثنين! واحد خلق كلّ شيء أصحّ لك! فقال: لم يكلّمني بهذا أحد قبلك. قال المأمون لمرتدّ إلى النصرانية: خبّرنا عن الشيء الذي أوحشك عن ديننا بعد أنسك به واستيحاشك ممّا كنت عليه؛ فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به، وإن أخطأ بك الشّفاء ونبا عن دائك الدّواء كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، وإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثّقة وتعلم أنّك لم تقصّر في اجتهاد ولم تفرّط في الدخول من باب الحزم؛ قال المرتدّ: أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم؛ قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الأذان، والتكبير في الجنائز، والتشهّد، وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، ووجوه الفتيا، وهذا ليس باختلاف، إنما هو تخيّر وسعة وتخفيف من المحنة، فمن أذّن مثنى وأقام مثى لم يخطّىء من أذّن مثنى وأقام فرادى، ولا يتعايرون بذلك ولا يتعايبون، والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متّفقا على تأويله كما يكون متّفقا على تنزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلاف في شيء من

الإعراب واللحن

التأويلات؛ وينبغي لك ألّا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها؛ ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنّا لم نر شيئا من الدّين والدّنيا دفع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بنى الله الدنيا. قال المرتدّ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن المسيح عبد، وأنّ محمدا صادق، وانك أمير المؤمنين حقّا. الإعراب واللحن حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: سمعت مولى لآل عمر بن الخطّاب يقول: أخذ عبد الملك بن مروان رجلا كان يرى رأي الخوارج رأي شبيب «1» ، فقال له: ألست القائل: [طويل] ومنّا سويد والبطين وقعنب «2» ... ومنّا أمير المؤمنين شبيب فقال: إنما قلت: «ومنا أمير المؤمنين شبيب» بالنصب، أي يا أمير المؤمنين فأمر بتخلية سبيله. حدّثني عبد الله بن حيّان قال: كتب رفيع «3» بن سلمة المعروف بدماذ إلى أبي عثمان النّحويّ: [متقارب] تفكّرت في النحو حتى مللت ... وأتعبت نفسي به والبدن وأتعبت بكرا «4» وأصحابه ... بطول المسائل في كلّ فنّ

فمن علمه ظاهر بيّن ... ومن علمه غامض قد بطن فكنت بظاهره عالما ... وكنت بباطنه ذا فطن خلا أنّ بابا عليه العفا ... ء للفاء يا ليته لم يكن وللواو باب إلى جنبه ... من المقت أحسبه قد لعن إذا قلت هاتوا لماذا يق ... ال لست بآتيك أو تأتين أجيبوا لما قيل هذا كذا ... على النّصب قالوا لإضمار أن وما إن رأيت لها موضعا ... فأعرف ما قيل إلا بظنّ «1» فقد خفت يا بكر من طول ما ... أفكّر في أمر «أن» أن أجن «2» قال ابن سيرين: ما رأيت على رجل أحسن من فصاحة، ولا على امرأة أحسن من شحم. وقال ابن شبرمة: إذا سرّك أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيرا، ويصغر في عينك من كان في عينك عظيما فتعلّم العربيّة، فإنها تجريك على المنطق وتدنيك من السّلطان. ويقال: النحو في العلم بمنزلة الملح في القدر والرّامك «3» في الطّيب. ويقال: الإعراب حلية الكلام ووشيه. وقال بعض الشعراء «4» : [كامل] النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه «5» إذا لم يلحن

وإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها «1» منها مقيم الألسن قال رجل لأعرابيّ: كيف أهلك بكسر اللام؟ - يريد كيف أهلك- فقال الأعرابيّ: صلبا «2» ؛ ظنّ أنه سأله عن هلكته كيف تكون. وقيل لأعرابيّ: أتهمز إسراييل؟ قال: إني إذا لرجل سوء؛ قيل له: أتجرّ فلسطين؟ قال: إني إذا لقويّ. وقيل لآخر: أتهمز الفارة؟ فقال: الهرّة تهمزها. وقيل: كان بشر المريسيّ يقول لأصحابه: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها «3» فقال قاسم التّمار «4» : هذا كما قال الشاعر: [منسرح] إنّ سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيء ما كان يرزؤها «5» سمع أعرابيّ مؤذّنا يقول: أشهد أنّ محمدا رسول الله بنصب رسول، فقال: ويحك! يفعل ماذا؟. قال مسلمة بن عبد الملك: اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه. وقال عبد الملك: اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس. قال أبو الأسود: إني لأجد للّحن غمزا كغمز اللحم. قال الخليل بن أحمد «6» : أنشدني أعرابيّ: [طويل]

وإنّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر فجعلت أعجب من قوله: عشر أبطن حين أنّث لأنه عنى القبيلة، فلما رأى عجبي من ذلك، قال: أليس هكذا قول الآخر: [طويل] فكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر «1» قال رجل من الصالحين: لئن أعربنا في كلامنا حتّى ما نلحن لقد لحنّا في أعمالنا حتى ما نعرب. دخل أعرابيّ السّوق فسمعهم يلحنون، فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون ونحن لا نلحن ولا نربح!. دخل رجل على زياد فقال له: إنّ أبينا هلك، وإنّ أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا «2» ؛ فقال زياد: ما ضيّعت من نفسك أكثر مما ضاع من مالك. قال الرّياشيّ عن محمد بن سلّام عن يونس قال: قال بلال لشبيب بن شيبة وهو يستعدي على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر قال: أحضرنيه،

قال: قد دعوته لكلّ ذلك يأبى؛ برفع كلّ؛ قال بلال؛ فالذنب لكلّ. قال بعض الشعراء: [بسيط] إمّا تريني وأثوابي مقاربة «1» ... ليست بخزّ ولا من نسج كتّان فإنّ في المجد همّاتي وفي لغتي ... علويّة ولساني غير لحّان وقال: فيل مولى «2» زياد لزياد: أهدوا لنا همار وهش «3» ، فقال: ما تقول؟ ويلك! فقال: أهدوا لنا أيرا «4» ؛ فقال زياد: الأوّل خير. سمع أعرابيّ واليا يخطب فلحن مرّة أو اثنتين، فقال: أشهد أنك ملكت بقدر. وسمع أعرابيّ إماما يقرأ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا «5» [بفتح تاء تنكحوا] فقال: سبحان الله! هذا قبل الإسلام قبيح فكيف بعده! فقيل له: إنه لحن، والقراءة وَلا تَنْكِحُوا فقال: قبّحه الله، لا تجعلوه بعدها إماما فإنّه يحلّ ما حرّم الله. قال الشاعر في جارية له: [رجز] أوّل ما أسمع منها في السّحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذّكر والسّوءة السّوءاء في ذكر القمر «6» قال الحجّاج لرجل من العجم نخّاس «7» : أتبيع الدّوابّ المعيبة من جند

التشادق والغريب

السلطان؟ فقال: «شريكاتنا في هوازها «1» وشريكاتنا في مداينها «2» وكما تجيء تكون» فقال الحجّاج: ما تقول؟ ففسّروا له ذلك؛ فضحك وكان لا يضحك. أمّ الحجّاج قوما فقرأ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً «3» وقرأ في آخرها «4» إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ «5» بنصب «6» أنّ، ثمّ تنبّه على اللام في لخبير وأنّ «إنّ» قبلها لا تكون إلا مكسورة فحذف الّلام من «لخبير» ، فقرأ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ. قال أبو زيد: قلت للخليل بن أحمد: لم قالوا في تصغير واصل أويصل ولم يقولوا وويصل؟ فقال: كرهوا أن يشبّه كلامهم بنبح الكلاب. التشادق والغريب حدّثني سهل عن الأصمعيّ قال: كان عيسى بن عمر لا يدع الإعراب لشيء. وخاصم إلى بلال بن أبي بردة في جارية اشتراها مصابة، فقال: لأن يذهب بعض حقّ هذا أحبّ إليه من أن يلحن؛ فقال له: ومن يعلم ما تقول؟ فقال: ابن طرنوبة. وضربه عمر بن هبيرة ضربا كثيرا في وديعة أودعها إياه إنسان فطلبها، فما كان يزيد على أن يقول: والله إن كانت إلا أثيّابا في

أسيفاط قبضها عشّاروك «1» . تبع أبو خالد النّميري صاحب الغريب جارية متنقّبة فكلّمها فلم تكلّمه، فقال: يا خريدة «2» ، لقد كنت عندي عروبا أنمقك وتشنئينا «3» ! وقال سهل بن هارون لجارية له روميّة أعجميّة: إنّ أقلّ ما ينطوي عليه ضميري من رسيس «4» حبّك لأجلّ من كلّ جليل، وأكثر من كلّ كثير. وقال مالك «5» بن أسماء في جارية له: [خفيف] أمغطىّ منيّ على بصري لل ... حبّ أم أنت أكمل الناس حسنا؟ وحديث ألذّه هو ممّا ... يشتهي الناعتون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا «6» قال ابن دريد: استثقل منها الإعراب. دخل أبو علقمة على أعين الطبيب فقال له: أمتع الله بك، إنّي أكلت من لحوم هذه الجوازل «7» فطسئت طسأة «8» ، فأصابني وجع ما بين الوابلة «9» إلى

دأية «1» العنق فلم يزل يربو وينمى حتى خالط الخلب «2» والشّراسيف «3» ، فهل عندك دواء؟ فقال أعين: نعم، خذ خربقا «4» وشلفقا وشبرقا فزهزقه وزقزقه «5» واغسله بماء روث «6» واشربه؛ فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك؛ فقال أعين: أفهمتك كما أفهمتني. وقال له يوما آخر: إني أجد معمعة في بطني وقرقرة؛ فقال له: أما المعمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة فهي ضراط لم ينضج «7» . أتى رجل الهيثم بن العريان بغريم له قد مطله حقّه فقال: أصلح الله الأمير، إنّ لي على هذا حقّا قد غلبني عليه؛ فقال له الآخر: أصلحك الله، إن هذا باعني عنجدا «8» واستنسأته «9» حولا وشرطت عليه أن أعطيه مشاهرة «10» فهو لا يلقاني في لقم «11» إلّا اقتضاني؛ فقال له الهيثم: أمن بني أميّة أنت؟

قال: لا؛ قال: فمن بني هاشم؟ قال: لا؛ قال: فمن أكفائهم من العرب؟ قال: لا؛ قال: ويلي عليك! انزع ثيابه يا جلواز «1» ، فلما أرادوا نزع ثيابه قال: أصلحك الله، إنّ إزاري مرعبل «2» ؛ قال: دعوه، فلو ترك الغريب في وقت لتركه في هذا الوقت. ومرّ أبو علقمة ببعض الطّرق بالبصرة فهاجت به مرّة «3» فسقط ووثب عليه قوم فأقبلوا يعصرون إبهامه ويؤذّنون في أذنه، فأفلت من أيديهم وقال: ما لكم تتكأكؤون «4» عليّ كما تتكأكؤون على ذي جنّة! إفرنقعوا «5» عنّي؛ فقال رجل منهم: دعوه فإنّ شيطانه هنديّ، أما تسمعونه يتكلّم بالهنديّة؟ وقال لحجّام «6» يحجمه: أنظر ما آمرك به فاصنعه، ولا تكن كمن أمر بأمر فضيّعه، أنق غسل المحاجم واشدد قضب الملازم «7» وأرهف ظبات المشارط «8» وأسرع الوضع وعجّل النّزع، وليكن شرطك وخزا، ومصّك نهزا، ولا تكرهنّ آبيا، ولا تردّن آتيا؛ فوضع الحجّام محاجمه في جونته «9» ومضى.

سمع أعربيّ أبا المكنون النحويّ في حلقته وهو يقول في دعاء الإستسقاء: اللهمّ ربّنا وإلهنا ومولانا، صلّ على محمد نبيّنا؛ اللهمّ ومن أراد بنا سوءا فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد على ترائب الولائد «1» ، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السّجّيل «2» ، على هام أصحاب الفيل؛ اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا مجلجلا «3» مسحنفرا هزجا سحّا سفوحا طبقا غدقا مثعنجرا؛ فقال الأعرابيّ: يا خليفة نوح، هذا الطوفان وربّ الكعبة، دعني آوي إلى جبل يعصمني من الماء «4» . أبو الحسن «5» قال: كان غلام يقعّر «6» في كلامه، فأتى أبا الأسود الدّؤليّ يلتمس ما عنده؛ فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ قال: أخذته الحمّى فطبخته طبخا وفضخته «7» فضخا وفنخته «8» فنخا فتركته فرخا «9» ؛ قال أبو الأسود: فما فعلت امرأته التي كانت تجارّه «10» وتشارّه وتزارّه وتهارّه؛ قال: طلّقها فتزوّجت غيره فرضيت وخظيت وبظيت، قال أبو الأسود: قد عرفنا حظيت،

فما بظيت «1» ؟ قال: حرف من الغريب لم يبلغك؛ قال أبو الأسود: يا ابن أخي، كلّ حرف من الغريب لم يبلغ عمّك فاستره كما تستر السّنّور خرأها. قال زيد بن كثيرة: أتيت باب كبير دار وهناك حدّاد «2» ، فأردت أن ألج الدار فدلظني «3» دلظة وازدحم «4» الناس ببابه، فوالله إن زلنا نظار نظار حتّى عقل الظّل «5» . وقال أيضا: أتيت باب كبير وإذا الرجال صتيتان «6» وإذا أرمداء «7» كثيرة وطهاة لا أحصيهم ولحام كأنّها آكام. وقال الطائي: [وافر] أيوسف «8» جئت بالعجب العجيب ... تركت الناس في شكّ مريب سمعت بكل داهية نآد «9» ... ولم أسمع بسرّاج أديب أما لو أنّ جهلك كان علما ... إذا لنفذت «10» في علم الغيوب فمالك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب قال رؤبة بن العجّاج: خرجت مع أبي، نريد سليمان بن عبد الملك،

وصايا المعلمين

فلّما صرنا في الطريق أهدي لنا جنب من لحم عليه كرافىء «1» الشّحم وخريطة من كمأة ووطب من لبن فطبخنا هذا بهذا، فما زال ذفرياي تنتحان «2» منه إلى أن رجعت. وصايا المعلّمين قال عتبة بن أبي سفيان لعبد الصمد مؤدّب ولده: ليكن إصلاحك بنيّ إصلاحك نفسك، فإنّ عيوبهم معقودة بعيبك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح ما استقبحت؛ وعلّمهم سير الحكماء، وأخلاق الأدباء، وتهدّدهم بي وأدّبهم دوني؛ وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء؛ ولا تتّكلنّ على عذر منّي، فإني قد اتّكلت على كفاية منك. قال الحجّاج لمؤدّب بنيه: علّمهم السّباحة قبل الكتابة، فإنهم يجدون من يكتب عنهم، ولا يجدون من يسبح عنهم. وقال عبد الملك لمؤدّب ولده: علّمهم الصدق كما تعلّمهم القرآن، وجنّبهم السّفلة فإنّهم أسوأ الناس رعة «3» وأقلّهم أدبا، وجنّبهم الحشم فإنّهم لهم مفسدة؛ وأحف «4» شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا؛ علّمهم الشّعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضا ويمصّوا الماء مصّا ولا يعبّوه عبّا؛ وإذا احتجت إلى أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في ستر لا يعلم به أحد

من الغاشية «1» فيهونوا عليه. وقال آخر لمؤدّب ولده: لا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإنّ اصطكاك العلم في السمع وازدحامه في الوهم مضلّة للفهم. وكان الشريح «2» ابن يلعب بالكلاب، فكتب شريح إلى معلّمه «3» : [كامل] ترك الصلاة لأكلب «4» يسعى بها ... طلب الهراش مع الغواة الرّجّس «5» فإذا خلوت فعضّه بملامة ... وعظنه وعظك للأريب الكيّس «6» وإذا هممت بضربه فبدرّة «7» ... وإذا بلغت بها ثلاثا فاحبس واعلم بأنّك ما فعلت فنفسه ... مع ما يجرّعني أعزّ الأنفس وقال آخر لرجل يلعب بالكلاب: [خفيف] أيها المبتلي بحبّ الكلاب ... لا يحبّ الكلاب إلا الكلاب لو تعرّيت وسطها كنت منها ... إنما فقتها بلبس الثّياب «8»

البيان

وقال آخر: [متقارب] لتبك أبا أحمد قردة ... وكلب هراش وديك صدوح وطير زجال وقمريّة «1» ... هتوق العشيّ وكبش نطوح بلغني عن أبي الحسن العكليّ عن عبد الله بن بكر بن عبد الله المزنيّ قال: سمعت أبي يقول: قال لقمان: ضرب الوالد ولده كالسّماد للزرع. حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن مكحول قال: كتب عمر إلى أهل الشام: علّموا أولادكم السّباحة والرّمي والفروسيّة. وكانت العرب تسمّي الرجل، إذا كان يكتب ويحسن الرّمي ويحسن العوم وهي السّباحة ويقول الشّعر، الكامل. البيان حدّثني عبدة بن عبد الله قال: حدّثنا يحيى بن آدم عن قيس عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من البيان سحرا فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطب. وقال العبّاس: يا رسول الله، فيم الجمال؟ قال: في اللسان. وكان يقال: عقل الرجل مدفون تحت لسانه. وقال يزيد بن المهلّب: أكره أن يكون عقل الرجل على طرف لسانه. يريد أنه لا يكون عقله إلا في الكلام. وقال الشاعر: [وافر]

كفى بالمرء عيبا أن تراه ... له وجه وليس له لسان وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن البيان وقال خالد بن صفوان لرجل: رحم الله أباك، فإنّه كان يقري العين جمالا، والأذن بيانا. وقال النّمر «1» بن تولب: [وافر] أعذني ربّ من حصر وعيّ «2» ... ومن نفس أعالجها علاجا ومن حاجات نفسي فاعصمنّي ... فإنّ لمضمرات النّفس حاجا «3» وصف أعرابيّ رجلا يتكلّم فيحسن فقال: [كامل] يضع الهناء مواضع النّقب «4» ومثله قولهم: فلان يجيد الحزّ، ويصيب المفصل؛ وربما قالوا: يقلّ «5» الحزّ. وقال معاوية في عبد الله بن عبّاس: [طويل] إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف ... لعيّ ولم يثن اللسان على هجر يصرّف بالقول اللسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر

وقال حسّان فيه: [طويل] إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا شفى وكفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة «1» في القول جدّا ولا هزلا سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا دنيّا ولا وغلا «2» ويقال: الصمت منام والكلام يقظة. ويقال: خير الكلام ما لم يحتج بعده إلى الكلام. ذكر العباس بن الحسن الطالبيّ رجلا فقال: ألفاظه قوالب معانيه. ومدح أعرابيّ رجلا فقال: كلامه الوبل على المحل «3» ، والعذب البارد على الظّمأ. وقال الحطيئة: [كامل] وأخذت أقطار الكلام فلم أدع ... ذمّا يضرّ ولا مديحا ينفع وكان الحطيئة يقول: إنما شعري حسب موضوع؛ فسمع ذلك عمرو بن عبيد فقال: كذب، ترّحه «4» الله، إنما ذلك التقوى. قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ فقال: ما بلّغك الجنّة، وعدل بك عن النار؛ قال السائل: ليس هذا أريد؛ قال: فما بصّرك مواقع رشدك، وعواقب غيّك؛ قال السائل: ليس هذا أريد؛ قال: من لم يحسن الاستماع لم يحسن القول؛ قال: ليس هذا أريد، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا معشر الأنبياء بكاء» «5»

وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله، قال: ليس هذا أريد قال: كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام ما لا يخافون فتنة السكون ومن سقطات الصّمت؛ قال: ليس هذا أريد؛ قال: فكأنّك إنما تريد تخيّر اللفظ في حسن إفهام قال: نعم؛ قال: إنك إن أردت تقرير حجّة الله في عقول المكلّفين، وتخفيف المؤونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الحسنة من الكتاب والسّنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت على الله جزيل الثواب. قال بعضهم: ما رأيت زيادا كاسرا إحدى عينيه واضعا إحدى رجليه على الأخرى يخاطب رجلا إلا رحمت المخاطب. وقال آخر: ما رأيت أحدا يتكلّم فيحسن إلّا أحببت أن يصمت خوفا من أن يسيء إلّا زيادا فإنّه كلّما زاد زاد حسنا، وقال «1» : [طويل] وقبلك ما أعييت «2» كاسر عينه ... زيادا فلم تقدر عليّ حبائله قال محمد بن سلّام: كان عمر بن الخطّاب إذا رأى رجلا يلجلج في كلامه قال: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد!. وتكلّم عمرو بن سعيد الأشدق، فقال عبد الملك: لقد رجوت عثرته لمّا تكلّم، فأحسن حتّى خشيت عثرته إن سكت. أبو الحسن قال: قال معاوية لصحار العبديّ: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ فقال: شيء تجيش به صدورنا ثم تقذقه على ألسنتنا؛ فقال رجل من

القوم: هؤلاء بالبسر «1» أبصر، فقال صحار: أجل، والله إنّا لنعلم أنّ الرّيح تلقحه وأنّ البرد يعقده «2» وأنّ القمر يصبغه وأنّ الحرّ ينضجه؛ فقال معاوية: ما تعدّون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز؛ قال: وما الإيجاز؟ قال: أن تجيب فلا تبطىء، وتقول فلا تخطىء، ثم قال: يا أمير المؤمنين، حسن الإيجاز ألّا تبطىء ولا تخطىء. أبو الحسن قال: وفد الحسن بن عليّ على معاوية الشام، فقال عمرو ابن العاص: إنّ الحسن رجل أفهّ «3» فلو حملته على المنبر فتكلّم فسمع الناس من كلامه عابوه؛ فأمره فصعد المنبر فتكلّم فأحسن؛ وكان في كلامه أن قال: أيّها الناس، لو طلبتم ابنا لنبيّكم ما بين جابرس إلى جابلق «4» لم تجدوه غيري وغير أخي وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين. فساء ذلك عمرا وأراد أن يقطع كلامه، فقال: يا أبا محمّد، هل تنعت الرّطب؟ «5» فقال: أجل، تلقحه الشّمال وتخرّجه الجنوب وينضجه برد الليل بحرّ النهار؛ قال يا أبا محمّد، هل تنعت الخراءة «6» ؟ قال: نعم، تبعد الممشى في الأرض الصّحصح «7» حتّى تتوارى من القوم، ولا تستقبل القبلة ولا تستد برها، ولا تستنجي بالرّوثة ولا العظم، ولا تبول في الماء الراكد؛ وأخذ في كلامه.

وكان يقال: كلّ شيء ثنيته يقصر ما خلا الكلام، فإنّك كلّما ثنيته طال. قال الحسن: الرجال ثلاثة: رجل بنفسه، ورجل بلسانه، ورجل بماله. تكلّم صعصعة بن صوحان عند معاوية فعرق؛ فقال معاوية: بهرك القول! فقال صعصعة: إنّ الجياد نضّاحة للماء. ويقال: أبلغ الكلام ما سابق معناه لفظه. وفي كتاب للهند: أوّل البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش «1» ، ساكن الجوارح قليل اللّحظ متخيّرا للفظ، لا يكلّم سيّد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السّوقة، ويكون في قواه فضل للتّصرّف في كلّ طبقة، ولا يدقّق المعاني كلّ التدقيق، ولا ينقّح الألفاظ كلّ التنقيح ولا يصفّيها كلّ التّصفية ولا يهذّبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك حتّى يصادف حكيما أو فيلسوفا عليما ويكون قد تعوّد حذف فضول الكلام وإسقاط مشتركات الألفاظ، قد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة لا على جهة الإعتراض والتصفّح. ونحو هذا قول جعفر بن يحيى البرمكيّ وقيل له: ما البيان؟ فقال: أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويحكي عن مغزاك، وتخرجه من الشركة ولا تستعين عليه بالفكرة والذي لا بدّ له منه أن يكون سليما من التكلّف، بعيدا من الصّنعة، بريئا من التعقّد، غنيّا عن التأويل. قال الأصمعيّ: البليغ من طبّق المفصل وأغناك عن المفسّر.

قال المدائني: كتب قتيبة بن مسلم إلى الحجّاج يشكو قلّة مرزئته «1» من الطعام وقلّة غشيانه النساء وحصره على المنبر؛ فكتب إليه: استكثر من الألوان لتصيب من كلّ صحفة «2» شيئا، واستكثر من الطّروقة «3» تجد بذلك قوّة على ما تريد، وأنزل الناس بمنزلة رجل واحد من أهل بيتك وخاصّتك، وارم ببصرك أمامك تبلغ حاجتك. قال بعض الشعراء: [بسيط] إن كان في العيّ آفات مقدّرة ... ففي البلاغة آفات تساويها تكلّم رجل عند معاوية فهذر «4» ، فلمّا أطال قال: أأسكت يا أمير المؤمنين؟ قال: وهل تكلّمت!. ويقال: أعيا العيّ بلاغة بعيّ، وأقبح اللّحن لحن بإعراب. وقال أعرابيّ: الحظّ للمرء في أذنه، والحظّ لغيره في لسانه «5» . ويقال: ربّ كلمة تقول: دعني. ويقال: الصّمت أبلغ من عيّ ببلاغة. ونحوه قول الشاعر: [متقارب] أرى الصّمت أدنى لبعض الصّواب ... وبعض التّكلّم أدنى لعيّ وقال جعفر البرمكيّ: إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا، وإذا كان الايجاز كافيا كان الإكثار عيّا. قال ابن السماك: العرب تقول: العيّ الناطق أعيا من العيّ الصامت.

قال أنو شروان لبزرجمهر: متى يكون العيّ بليغا؟ فقال: إذا وصف حبيبا. قال يونس بن حبيب: ليس لعيّ مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء، ولو بلغ يأفوخه أعنان «1» السّماء. قال بعض الشعراء: [طويل] عجبت لإدلال العيّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالحقّ أعلما وفي الصمت ستر للعيّ وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلّما قال سعيد بن العاص: موطنان لا أستحي من العيّ فيهما: إذا أنا خاطبت جاهلا، وإذا أنا سألت حاجة لنفسي. ذكر أعرابيّ رجلا يعيا فقال: رأيت عورات الناس بين أرجلهم، وعورة فلان بين فكّيه. وعاب آخر رجلا فقال: ذاك من يتامى المجلس، أبلغ ما يكون في نفسه أعيا ما يكون عند جلسائه. قال ربيعة الرّأي: الساكت بين النائم والأخرس. تذاكر قوم فضل الكلام على الصمت وفضل الصمت على الكلام، فقال أبو مسهر: كلّا! إنّ النّجم ليس كالقمر، إنّك تصف الصّمت بالكلام، ولا تصف الكلام بالصمت. وذّمّ قوم في مجلس سليمان بن عبد الملك الكلام، فقال سليمان: اللهمّ غفرا، إنّ من تكلّم فأحسن قدر أن يصمت فيحسن؛ وليس من صمت فأحسن قادرا على أن يتكلّم فيحسن.

قال بكر بن عبد الله طول الصّمت حبسة» . ونحوه قول عمر بن الخطّاب: ترك الحركة عقلة. وكان نوفل بن مساحق إذا دخل على امرأته صمت، وإذا خرج من عندها تكلّم؛ فقالت له: أمّا عندي فتطرق، وأمّا عند الناس فتنطق! فقال: أدقّ عن جليلك وتجلّين عن دقيقي. وفي حكمة لقمان: يا بنيّ، قد ندمت على الكلام ولم أندم على السكوت. قال ابن إسحاق: النّسناس خلق باليمن لأحدهم عين ويد ورجل يقفز بها، وأهل اليمن يصطادونهم؛ فخرج قوم في صيدهم فرأوا ثلاثة نفر منهم فأدركوا واحدا فعقروه وذبحوه وتوارى اثنان في الشّجر، فقال الذي ذبحه؛ إنه لسمين، فقال أحد الاثنين: إنه أكل ضروا «2» ، فأخذوه فذبحوه، فقال الذي ذبحه: ما أنفع الصمت! قال الثالث: فهأنا الصّمّيت فأخذوه وذبحوه. كان يقال: إذا فاتك الأدب فالزم الصّمت. وقال بعضهم: لا يجترىء على الكلام إلا فائق أو مائق «3» . وقال الشاعر يمدح رجلا: [طويل] صموت إذا ما الصّمت زيّن أهله ... وفتّاق أبكار الكلام المختّم «4»

قال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنّما جعل لك أذنان اثنتان وفم واحد، تسمع أكثر ممّا تقول. حضر قشيريّ مجلسا من مجالس العرب فأطال الصمت، فقال له بعضهم: بحقّ سمّيتم خرس العرب؛ فقال القشيريّ: يا أخي، إنّ حظّ الرجل في أذنه لنفسه، وحظّه في لسانه لغيره. وقال بعض الحكماء: أكثر الصمت ما لم تكن مسؤولا فإنّ فوت الصواب أيسر من خطل القول: وإذا نازعتك نفسك إلى مراتب القائلين المصيبين، فاذكر ما دون الصواب من وجل الخطأ وفضائح المقصّرين. تكلّم رجل في مجلس الهيثم بن صالح بخطأ، فقال له الهيثم: يا هذا، بكلام مثلك رزق أهل الصمت المحبة. وقال أبو نواس: [مجزوء الرمل] خلّ جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام مت بداء الصّمت خير ... لك من داء الكلام إنّما السالم من أل ... جم فاه بلجام وقال آخر: [متقارب] رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا «1» حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا صاحب لنا عن مالك بن دينار أنه قال: لو كانت الصحف من عندنا لأقللنا الكلام.

وقال الأصمعيّ: إذا تظرّف العربيّ كثر كلامه، وإذا تظرّف الفارسيّ كثر سكوته. قال حاتم طيء: إذا كان الشيء يكفيكه التّرك فاتركه. قال عبد الله بن الحسن لابنه: استعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى القول، فإنّ للقول ساعات يضرّ فيها الخطأ ولا ينفع فيها الصواب. وقال إياس بن قتادة: [طويل] تعاقب أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلّم «1» تكلم ابن السّمّاك يوما وجارية له تسمع كلامه، فلما دخل إليها قال: كيف رأيت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنّك تكثر ترداده! قال: أردّده حتّى يفهمه من لم يفهمه؛ قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه قد ملّه من فهمه!. قال عيسى بن مريم: من كان منطقه في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبار فقدسها، ومن كان صمته في غير فكر فقد لها. كان العباس بن زفر لا يكلّم أحدا حتى تنبسط الشمس، فإذا انفتل «2» عن صلاته ضرب الأعناق وقطع الأيدي والأرجل. وكان جرير لا يتكلّم حتى تبزغ الشمس، فإذا بزغت قذف المحصنات. قال قتادة: مكتوب في التّوراة: لا يعاد الحديث مرتين. قال الزّهريّ: إعادة الحديث أشدّ من وقع الصّخر.

وفي كتب العجم: أنّ أربعة من الملوك اجتمعوا فقالوا كلّهم كلمة واحدة كأنّها رمية بسهم: ملك فارس، وملك الهند، وملك الروم، وملك الصين. قال أحدهم: إذا تكلّمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها. وقال آخر: قد ندمت على ما قلت ولم أندم على ما لم أقل. وقال آخر: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر منّي على ردّ ما قلت. وقال آخر: ما حاجتي إلى أن أتكلّم بكلمة، إن وقعت عليّ ضرّتني، وإن لم تقع عليّ لم تنفعني. قال زبيد الياميّ «1» : أسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنّما يوبّخ نفسه. وفي كتاب كليلة ودمنة: ثلاثة يؤمرون بالسكوت: الراقي في جبل طويل، وآكل السمك، والمروّي «2» في الأمر الجسيم. قال بعض «3» الشعراء: [مخلع البسيط] قد أفلح السالم الصّموت ... كلام واعى الكلام قوت ما كلّ نطق له جواب ... جواب ما يكره السكوت يا عجبا لامرىء ظلوم ... مستيقن أنّه يموت بلغني عن أبي أسامة عن ابن عون عن الحسن قال: جلسوا عند معاوية فتكلّموا وصمت الأحنف؛ فقال معاوية: يا أبا بحر، مالك لا تتكلّم؟ قال: أخافكم إن صدقتكم، وأخاف الله إن كذبت. حدّثني محمد بن داود قال: حدّثنا الحميديّ قال: حدّثنا أبو الحكم

الاستدلال بالعين والإشارة والنصبة

مروان بن عبد الواحد عن موسى بن أبي درهم عن وهب بن منبّه قال: قال ابن عبّاس: كفى بك ظالما ألّا تزال مخاصما، وكفى بك آثما ألّا تزال مماريا، وكفى بك كاذبا ألّا تزال محدّثا بغير ذكر الله تعالى: وقال بعضهم: [طويل] يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرّجل فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرّجل تبرا على مهل «1» سئل بعض الحكماء عن البلاغة، فقال: من أخذ معاني كثيرة فأدّاها بألفاظ قليلة، أو أخذ معاني قليلة فولّد فيها ألفاظا كثيرة. بلغني عن أبي إسحاق الفزاريّ قال: كان إبراهيم يطيل السكوت، فإذا تكلّم انبسط، فقلت له ذات يوم: لو تكلّمت! فقال: الكلام على أربعة وجوه، فمنه كلام ترجو منفعته وتخشى عاقبته، فالفضل منه السلامة؛ ومنه كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته، فأقلّ مالك في تركه خفة المؤونة على بدنك ولسانك؛ ومنه كلام لا ترجو منفعته وتخشى عاقبته، وهذا هو الدّاء العضال؛ ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته، فهذا الذي يجب عليك نشره؛ قال: فإذا هو قد أسقط ثلاثة أرباع الكلام. الاستدلال بالعين والإشارة والنّصبة «2» يقال: ربّ طرف أفصح من لسان. قال أعرابيّ: [بسيط] إن كاتمونا القلى «3» نمّت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف

وقال آخر: [سريع] إذا قلوب أظهرت غير ما ... تضمره أنبتك عنها العيون «1» وقال آخر: [هزج] أما تبصر في عيني ... ي عنوان الذي أبدي «2» ؟ وقال ذو الرّمّة: [طويل] نعم هاجت الأطلال شوقا كفى به ... من الشّوق إلّا أنّه غير ظاهر فما زلت أطوي النفس حتّى كأنّها ... بذي الرّمث لم تخطر على بال ذاكر «3» حياء واشفاقا من الرّكب أن يروا ... دليلا على مستودعات الضمائر وقال الحارثيّ يذكر ميتا: [طويل] أتيناه زوّارا فأمجدنا قرى ... من البثّ والدّاء والدّخيل المخامر «4» وأوسعنا علما بردّ جوابنا ... فأعجب به من ناطق لم يحاور ومثل هذا قول القائل «5» : سل الأرض فقل لها: من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن تجبك حوارا «6» ، أجابتك اعتبارا، قال أبو العتاهية: [هزج] وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه

الشعر

وللناس من الناس ... مقاييس وأشباه «1» يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ما شاه وفي العين غنى للعي ... ن أن تنطق أفواه الشعر يقال: خير الشّعر ما روّاك نفسه. ويقال: خير الشعر الحوليّ المنقّح المحكّك. سمع أعرابيّ رجلا ينشد شعرا لنفسه، فقال: كيف ترى؟ قال: سكّر لا حلاوة له. قيل لبعض علماء اللغة؛ أرأيت الشاعرين يجتمعان على المعنى الواحد في لفظ واحد؟ فقال: عقول رجال توافت على ألسنتها. قال بشّار يصف نفسه: [منسرح] زور «2» ملوك عليه أبّهة ... يعرف من شعره ومن خطبه لله ما راح في جوانحه ... من لؤلؤ لا ينام عن طلبه يخرجن من فيه في النّديّ كما ... يخرج ضوء السّراج من لهبه ترنو إليه الحدّان غادية ... ولا تملّ الحديث من عجبه تلعابة «3» تعكف الملوك به ... تأخذ من جدّه ومن لعبه يزدحم الناس كلّ شارقة ... ببابه مسرعين في أدبه

وقال الطائيّ يذكر الشعر: [كامل] إنّ القوافي والمساعي لم تزل ... مثل النّظام إذا أصاب فريدا «1» هي جوهر نثر فإن ألّفته ... بالشعر صار قلائدا وعقودا من أجل ذلك كانت العرب الألى ... يدعون هذا سؤددا مجدودا وتندّ عندهم العلا إلّا علا ... جعلت لها مرر القريض قيودا «2» وقال أيضا: [طويل] ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه ... مغارم في الأقوام وهي مغانم وإنّ العلا ما لم تر الشعر بينها ... لكالأرض غفلا «3» ليس فيها معالم وما هو إلا القول يسري فيغتدي ... له غرر في أوجه ومواسم يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضى بما يقضي به وهو ظالم ولولا خلال سنّها الشعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم وقال عمر بن لجإ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك؛ قال: ولم ذاك؟ قال: لأنّي أقول البيت وأخاه، ولأنك تقول البيت وابن عمّه. قيل لعقيل بن علّفة: ألا تطيل الهجاء؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقال بعضهم: خير الشّعر المطمع. قيل لكثيّر: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال:

أطوف بالرّباع المخلية «1» والرّياض المعشبة، فيسهل عليّ أرصنه ويسرع إليّ أحسنه. ويقال: إنه لم يستدع شارد الشعر بمثل الماء الجاري، والشّرف العالى، والمكان الخضر الخالي «2» أو الحالي. وقال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهيّة: هل تقول الآن شعرا؟ قال: ما أشرب، ولا أطرب، ولا أغضب؛ وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه. وقيل لكثيّر: ما بقي من شعرك؟ فقال: ماتت عزّة فما أطرب، وذهب الشّباب فما أعجب، ومات ابن ليلى فما أرغب- يعني عبد العزيز بن مروان- وإنما الشعر بهذه الخلال. وقيل لبعضهم: من أشعر الناس؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب. وقيل للعجّاج: إنك لا تحسن الهجاء، فقال: إن لنا أحلاما تمنعنا من أن نظلم، وأحسابا تمنعنا من أن نظلم، وهل رأيت بانيا لا يحسن أن يهدم!. وقلت في وصف الشّعر: الشعر معدن علم العرب، وسفر حكمتها، وديوان أخبارها، ومستودع أيامها، والسّور المضروب على مآثرها، والخندق المحجوز على مفاخرها، والشاهد العدل يوم النّفار، والحجّة القاطعة عند الخصام، ومن لم يقم عندهم على شرفه وما يدّعيه لسلفه من المناقب

حسن التشبيه في الشعر

الكريمة والفعال الحميد بيت منه. شذّت مساعيه وإن كانت مشهورة، ودرست على مرور الأيّام وإن كانت جساما؛ ومن قيّدها بقوافي الشعر، وأوثقها بأوزانه، وأشهرها بالبيت النادر، والمثل السائر، والمعنى اللطيف، أخلدها على الدهر، وأخلصها من الجحد، ورفع عنها كيد العدوّ وغضّ عين الحسود. وما جاء في الشعر كثير. وقد أفردت للشعراء كتابا، وللشعر بابا طويلا في كتاب العرب. وذكرت هذه النّتفة في هذا الكتاب كراهية أن أخليه من فنّ من الفنون. حسن التشبيه في الشعّر من ذلك قول ابن الزّبير الأسديّ في الثّريّا: [طويل] وقد لاح في الغور الثّريّا كأنّما ... به راية بيضاء تخفق للطّعن «1» شبّه الثّريّا حين تدلّت للمغيب براية بيضاء خفقت للطعن. ومن ذلك قول عنترة في الذّباب: [كامل] وخلا الذّباب بها فليس بنازح ... هزجا كفعل الشارب المترنّم «2» غردا يحكّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزّناد الأجذم «3» شبّه حكّه يده بيده برجل مقطوع الكفّين يقدح النار بعودين.

ومن ذلك قول أعرابي في العنب: [كامل] يحملن أوعية السّلاف كأنّما ... يحملنها بأكارع «1» النّغران أوعية السّلاف: العنب، جعله ظرفا للخمر، وشبّه شعب العناقيد التي تحمل الحبّ بأرجل النّغران. وقال الآخر، وكان غشي عينيه بياض أو نزل فيهما ماء [طويل] يقولون ماء طيّب خان عينه ... وما ماء سوء خان عيني بطيب «2» ولكنّه أزمان أنظر طيّب ... بعيني غدافيّ علا فوق مرقب «3» كأنّ ابن جحل مدّ فضل جناحه ... على ماء إنسانيهما المتغيّب «4» شبّه ما علا الحدقة بجناح فرخ من فراخ الزنابير «5» قد مدّ على ناظره. ومن ذلك قول امرىء القيس وذكر العقاب: [طويل]

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي «1» شبّه الرّطب بالعنّاب، واليابس بالحشف. وشبّه شيئين بشيئين في بيت واحد. ومن ذلك قول أوس بن حجر وذكر السيف: [طويل] كأنّ مدبّ النمل يلتمس الرّبى ... ومدرج ذرّ «2» خاف بردا فأسهلا شبّه فرند السيف «3» بمدرج الذّرّ ومدبّ النمل. ومن ذلك قول أبي نواس في البازي: [سريع] ومنسر أكلف فيه شغا ... كأنّه عقد ثمانينا «4» ومن ذلك قول أعرابيّ في امرأة: [بسيط] قامت تصدّى له عمدا لتقتله ... فلم ير الناس وجدا مثل ما وجدا بجيد آدم «5» لم تعقد قلائده ... وناهد مثل قلب الظّبي ما نهدا فظّل كالحائم «6» الهيمان ليس له ... صبر ولا يأمن الأعداء إن وردا شبّه ثديها في نهوده بقلب الظبي في صلابته، ولا نعلم أحدا شبه الثّدي بقلب الظّبي غيره.

ومن ذلك قول جحدر «1» العكليّ في امرأة: [طويل] على قدم مكنونة اللون رخصة ... وكعب كذفرى جؤذر الرّمل أدرما «2» شبّه كعبها بأصل أذن الجؤذر، وهو الصغير من أولاد البقر. ومن ذلك قول حميد بن ثور «3» يصف فرخ القطاة: [طويل] كأنّ على أشداقه نور حنوة «4» ... إذا هو مدّ الجيد منه ليطعما ومن ذلك قول دعبل «5» يهجو امرأة: [متقارب] كأنّ الثآليل في وجهها ... إذا سفرت بدد الكشمش «6» لها شعر قرد إذا ازّيّنت ... ووجه كبيض القطا الأبرش «7» ومن ذلك قول أبي نواس في وصف البطّ: [رجز]

كأنّما يصفرن من ملاعق «1» ومن ذلك قول بعض الرّجّاز في جارية سوداء: [رجز] كأنّها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها «2» ومن ذلك قول الجعديّ في فرس: [منسرح] خيط على زفرة فتمّ ولم ... يرجع إلى دقّة ولا هضم «3» يقول هو منتفخ الجنبين، فكأنّه زفر فانتفخ جنباه ثم خيط على ذلك. ومن ذلك قول الطّرمّاح يصف الثّور: [كامل] يبدو وتضمره البلاد كأنّه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد ومن ذلك قول النابغة للنّعمان: [طويل] فإنّك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع ومن ذلك قوله في المرأة «4» : [كامل] نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجوه العوّد يقول: نظرت إليك ولم تقدر أن تتكلّم، كما ينظر المريض إلى وجوه عوّاده ولا يقدر أن يكلّمهم.

ومن ذلك قول طرفة: [طويل] لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى ... لكا لطّول «1» المرخى وثنياه باليد ومن ذلك قول بعض الضّبّيين يصف أباريق الشّراب: [طويل] كأنّ أباريق الشّمول عشيّة ... إوزّ بأعلى الطّفّ عوج الحناجر «2» ونحوه قول أبي الهنديّ «3» : [طويل] سيغني أبا الهنديّ عن وطب سالم ... أباريق لم يعلق بها وضر الزّبد «4» مفدّمة قزّا كأنّ رقابها ... رقاب بنات الماء تفزع للرّعد «5» ومن ذلك قول نصيب «6» في عبد العزيز بن مروان: [متقارب] وكلبك آنس بالمعتفين «7» ... من الأمّ بابنتها الزائره ومن ذلك قول عديّ «8» بن الرّقاع في الظبية: [كامل] تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها «9»

الأبيات التي لا مثل لها

ومن ذلك قول بشّار: [طويل] كأنّ مثار «1» النّقع فوق رؤوسهم ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ومن ذلك قوله: [وافر] جفت عيني عن التّغميض حتّى ... كأنّ جفونها عنها قصار ومن ذلك قول الآخر: [طويل] ومولى كأنّ الشمس بيني وبينه ... إذا ما التقينا ليس ممن أعاتبه» يقول: لا أقدر على النظر إليه من بغضه، فكأنّ الشمس بيني وبينه. ومن ذلك قول الآخر: [بسيط] كأنّ نيرانهم في كلّ منزلة ... مصبّغات على أرسان قصّار «3» الناس يستحسنون هذا، وأنا أرى أن أقول: الأولى أن يشبّه المصبّغات بالنيران، لا النيران بالمصبّغات. الأبيات التي لا مثل لها حدّثني أبو الخطاب قال: حدّثنا معتمر عن ليث عن طاوس عن ابن عبّاس قال: إنّها كلمة نبيّ: [طويل] ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد «4»

حدّثني الرياشيّ عن الأصمعيّ قال: أبرع بيت قالته العرب قول أبي «1» ذؤيب [كامل] والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع وأحسن ما قيل في الكبر قول حميد بن ثور «2» الهلاليّ: [طويل] أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما «3» وأحسن من ابتدأ مرثية أوس بن حجر «4» في قوله: [منسرح] أيتها النفس أجملي جزعا ... إنّ الذي تكرهين قد وقعا. وأغرب من ابتدأ قصيدة النابغة في قوله: [طويل] كليني لهمّ، يا أميمة، ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب حدّثني الخثعميّ الشاعر قال: أحسن بيت قيل في الجبن قول نهشل ابن حرّي «5» : [طويل] فلو كان لي نفسان كنت مقاتلا ... بإحداهما حتى تموت وأسلما قال: وبيت المخبّل في قساوة القلب: [بسيط]

يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل قال: وبيت عبيد «1» في الإستعفاف: [مخلع البسيط] من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب قال: وبيت منجوف بن مرّة السلمي في الإحتفاظ بالمال: [طويل] وأدفع عن مالي الحقوق وإنّه ... لجمّ فإنّ الدهر جمّ مصائبه قال: وبيت الحطيئة في إكرام النفس: [طويل] وأكرم نفسي اليوم عن سوء طعمة ... ويقنى الحياء المرء والرمح شاجره «2» قال: وقول كعب «3» في الإقدام: [كامل] نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق قال: وبيت عمرو «4» بن الإطنابة في الصبر: [وافر] وقولي كلّما جشأت «5» وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي وأحسن من هذا عندي قول قطريّ «6» : [وافر]

وقولي، كلما جشأت، لنفسي ... من الأبطال ويحك لا تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي قال: وبيت مسكين «1» الدارميّ في الجود: [طويل] طعامي طعام الضّيف والرّحل رحله ... ولم يلهني عنه الغزال المقنّع قال: وفي حسن الجوار قوله «2» : [كامل] ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر ما ضرّ جارا لي أجاوره ... ألّا يكون لبابه ستر قال: وممن رضي بالقليل جميل، قال: [طويل] أقلّب طرفي في السماء لعلّه ... يوافق طرفي طرفها حين تنظر وقول الآخر «3» : [وافر] أليس الليل يلبس أمّ عمرو ... وإيّانا، فذاك بنا تداني؟ ترى وضح النهار كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني قال: وبيت عمرو بن كلثوم في الجهل: [وافر] ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا قال: وبيت النابغة في ترك الإلحاح: [كامل]

فاستبق ودّك للصديق ولا تكن ... قتبا يعضّ بغارب ملحاحا «1» قال: وفي إدراك الثأر قول مهلهل: [بسيط] لقد قتلت بني بكر بربّهم ... حتى بكيت وما يبكي لهم أحد «2» قال: وبيت عروة بن الورد في تبليغ العذر في الطلب: [طويل] لتبلغ عذرا أو تفيد غنيمة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح قال: وبيت جميل في إنفاق المال والتوكل على الله تعالى: [طويل] كلوا اليوم من رزق الإله وأبشروا ... فإنّ على الرحمن رزقكمو غدا قال: وفي الشجاعة قول العباس «3» بن مرداس: [وافر] أشدّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها قال: وبيت المتلمّس في المال وتثميره: [وافر] قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفساد وأخبرنا دعبل بن عليّ الشاعر قال: أهجي بيت قيل قول الطّرمّاح «4» في تميم: [طويل] تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت

قال؛ وكذلك قول الأخطل: [بسيط] قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهمو بولي على النار «1» قال: وكذلك قول الحطيئة للزّبرقان «2» في قصر الهمّة: [بسيط] دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي «3» قال غيره: وقول الطّرمّاح في القلّة والخمول: [بسيط] لو كان يخفى على الرّحمن خافية ... من خلقه حفيت عنه بنو أسد ونحوه قول الآخر «4» : [متقارب] وأنت مليخ كلحم الحوا ... ر لا أنت حلو ولا أنت مرّ «5»

وكذلك قول جرير في التّيم «1» : [وافر] وإنّك لو رأيت عبيد تيم ... وتيما قلت أيّهما العبيد ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود «2» وأحسن ما قيل في الهيبة: [بسيط] يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلّا حين يبتسم وأغرب ما قيل في مضلوب قول محمد بن أبي حمزة مولى الأنصار: [طويل] لعمري لئن أصبحت فوق مشذّب «3» ... طويل تعفّيك الرياح مع القطر لقد عشت مبسوط اليدين مرزّأ» وعوفيت عند الموت من ضغطة القبر وأفلتّ من ضيق التّراب وغمّه ... ولم تفقد الدنيا فهل لك من شكر؟ وأغرب ما قيل في مجوسيّ قول أعرابيّ: [متقارب] شهدت عليك بطيب المشاش «5» ... وأنّك بحر جواد خضمّ

التلطف في الكلام والجواب وحسن التعريض

وأنّك سيّد أهل الجحيم ... إذا ما تردّيت فيمن ظلم ومن أغرب ما قيل في دعيّ قول إبراهيم بن إسماعيل البنوي: [بسيط] لو أنّ موتي تميم كلّها نشروا ... وأثبتوك لقيل الأمر مصنوع مثل الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبيّن الناس أنّ الثوب مرقوع ونحوه قول الآخر: [طويل] أجارتنا بان الخليط «1» فأبشري ... فما العيش إلا أن يبين خليط أعاتبه في عرضه ليصونه ... ولا علم لي أنّ الأمير لقيط «2» ونحوه قول دعبل «3» في مالك بن طوق: [بسيط] الناس كلّهمو يسعى لحاجته ... ما بين ذي فرح منهم ومهموم ومالك ظلّ مشغولا بنسبته ... يرمّ «4» منها خرابا غير مرموم يبني بيوتا خرابا لا أنيس بها ... ما بين طوق إلى عمرو بن كلثوم التلطّف في الكلام والجواب وحسن التعريض حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: ترك عقيل عليّا وذهب إلى معاوية؛ فقال معاوية: يا أهل الشام، ما ظنّكم برجل لم يصلح لأخيه؟ فقال عقيل: يا

أهل الشام، إنّ أخي خير لنفسه وشرّ لي، وإن معاوية شرّ لنفسه وخير لي. قال: وقال معاوية يوما: يا أهل الشام، إنّ عمّ هذا أبو لهب؛ فقال عقيل: يا أهل الشام، إن عمّة هذا حمّالة الحطب؛ وكانت أمّ جميل امرأة أبي لهب وهي بنت حرب. وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا أبو هلال عن قتادة قال: قال عبيد الله بن زياد لقيس بن عبّاد: ما تقول فيّ وفي الحسين؟ فقال: أعفني أعفاك الله! فقال: لتقولنّ؛ قال: يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له، ويجيء أبوك فيشفع لك؛ قال: قد علمت غشّك وخبثك، لئن فارقتني يوما لأضعنّ بالأرض أكثرك شعرا. قيل لميمون بن مهران: كيف رضاك عن عبد الأعلى «1» ؟ قال: نعم المرء عمرو بن ميمون. مرّ عمر بن الخطّاب بالصبيان وفيهم عبد الله بن الزبير، ففرّوا ووقف؛ فقال له عمر: ما لك لم تفرّ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أجرم فأخافك، ولم يكن بالطريق ضيق فأوسع لك. حدّثني الفضل بن محمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة قال: قال عبد الله بن طاهر ذات يوم لرجل أمره بعمل: إحذر أن تخطىء فأعاقبك بكذا. (لأمر عظيم) قلت له: أيها الأمير، من كانت هذه عقوبته على الخطأ فما ثوابه على الإصابة!. رأى رجل من قريش رجلا له هيئة رثّة، فسأل عنه، فقالوا: من تغلب، فوقف له وهو يطوف بالبيت، فقال له: أرى رجلين قلّما وطئتا البطحاء؛ فقال

له: البطحاوات ثلاث: بطحاء الجزيرة «1» ، وهي لي دونك؛ وبطحاء ذي قار «2» ، وأنا أحقّ بها منك؛ وهذه البطحاء «3» وسواء العاكف فيه والبادي. حدّثني سهل عن الأصمعيّ عن أبي عمرو بن العلاء أو غيره: أنّ معاوية عرض فرسا على عبد الرحمن بن حسّان فقال: كيف تراه؟ قال: أراه أجشّ هزيما «4» ، يريد قول النجاشيّ «5» : [طويل] ونجّى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرماح دواني حدّثني محمد بن عبد العزيز قال:؛ حدّثنا أبو سلمة عن حمّاد بن سلمة قال: أخبرنا داود بن أبي هند عن محمد بن عبّاد المخزوميّ أنّ قريشا قالت: قيّضوا «6» لأبي بكر رجلا يأخذه، فقيّضوا له طلحة بن عبيد الله؛ فأتاه وهو في القوم فقال: يا أبا بكر، قم إليّ؛ قال: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللّات والعزّى «7» ؛ قال أبو بكر: من اللّات؟ قال بنات الله، قال: فمن أمّهم؟ فسكت طلحة وقال لأصحابه: أجيبوا صاحبكم، فسكتوا؛ فقال طلحة: قم يا

أبا بكر، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله؛ فأخذ أبو بكر بيده فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلم. حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية عن أبي إسحاق عن عبيد الله بن عمر أنّ عمر قال: من يخبرنا عن قندابيل «1» ؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ماؤها وشل «2» ، وتمرها دقل «3» ، ولصّها بطل؛ إن كان بها الكثير جاعوا، وإن كان بها القليل ضاعوا؛ قال عمر: لا يسألني الله عن أحد بعثته إليها أبدا. حدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: مرض زياد فدخل عليه شريح، فلما خرج بعث إليه مسروق بن الأجدع يسأله: كيف تركت الأمير؟ قال: تركته يأمر وينهي، فقال مسروق: إنّ شريحا صاحب تعريض فسلوه فسألوه؛ قال: تركته يأمر بالوصيّة وينهي عن البكاء. ومات ابن لشريح ولم يشعر به أحد، فغدا عليه قوم يسألون به، وقالوا: كيف أصبح من تصل يا أبا أميّة؟ فقال: الآن سكن علزه «4» ورجاه أهله. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثني بعض الأعراب قال: هوي رجل امرأة ثم تزوّجها، فأهدى إليها ثلاثين شاة وزقّا من خمر، فشرب الرسول في الطريق بعض الخمر وذبح شاة؛ فقالت للرسول لمّا أراد الانصراف: اقرأ على مولاك السلام، وقل له إنّ شهرنا نقص يوما، وإنّ سحيما راعي شائنا أتانا

مرثوما «1» . فلما أتى مولاه فأخبره ضربه حتى أقرّ. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: خطب أعرابي إلى قوم، فقالوا: ما تبذل من الصّداق؟ وارتفع السّجف «2» فرأى شيئا كرهه، فقال والله ما عندي نقد، وإني لأكره أن يكون عليّ دين. حدّثني عبد الرحمن عن الأصمعي قال: قال سلم بن قتيبة للشّعبيّ: ما تشتهي؟ قال: أعزّ مفقود، وأهون موجود؛ قال: يا غلام، إسقه ماء. المدائني قال: كان لابن عون ابن عمّ يؤذيه، ولاحاه «3» يوما فقال له ابن عون لمّا بلغ منه: لتسكتنّ أو لأشتمنّ مسيلمة. فشهد بعد ذلك عند عبيد الله ابن الحسن، فردّ شهادته. المدائني: قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني أحد قطّ غير غلام من بلحارث بن كعب، فإني ذكرت امرأة منهم، فقال: أيها الأمير، لا خير لك فيها، إني رأيت رجلا قد خلا لها يقبّلها، ثم بلغني بعد أنه تزوّجها، فأرسلت إليه فقلت: ألم تعلمني أنك رأيت رجلا يقبلها؟ فقال: بلى! رأيت أباها يقبّلها. قال المدائني: أتى شريحا القاضي قوم برجل، فقالوا: إن هذا خطب إلينا: فسألناه عن حرفته فقال: أبيع الدوابّ؛ فلما زوّجناه، فإذا هو يبيع السنانير؛ قال: أفلا قلتم أيّ الدوابّ تبيع! وأجاز ذلك. المدائني قال: دخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شبرمة،

فقال له: أتعرفه؟ وكان رمي عنده بريبة قال: نعم، إنّ له بيتا وشرفا وقدما، فخلّى سبيله فلما خرج قال له أصحابه: أعرفته؟ قال: لا، ولكني أعلم أنّ له بيتا يأوي إليه، وشرفه أذناه ومنكباه، وقدمه هي قدمه التي يمشي عليها. المدائني قال: سئل الشعبيّ عن رجل، فقال: إنه لنافذ الطّعنة، ركين القعدة، يعني أنه خيّاط فأتوه فقالوا: غررتنا؛ فقال: ما فعلت! وإنه لكما وصفت. المدائني قال: أتي العريان بن الهيثم بشابّ سكران، فقال له: من أنت؟ فقال «1» : [طويل] أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود فظنّ أنه من بعض أشراف الكوفة فخلّاه، ثم ندم على ألّا يكون سأله من هو، فقال لبعض الشّرط: سل عن هذا، فسأل، فقالوا: هو ابن بيّاع الباقلّي. دخل حارثة بن بدر الغدانيّ على زياد، وكان حارثة صاحب شراب وبوجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر بوجهك؟ فقال حارثة: أصلح الله الأمير، ركبت فرسا لي أشقر فحملني حتى صدم بين الحائط، فقال زياد: أما إنك لو ركبت الأشهب لم يصبك مكروه؛ عنى زياد اللبن، وعنى حارثة النبيذ.

قعد قوم على نبيذ فسقط ذباب في قدح أحدهم، فقال رجل منهم: غطّ التميميّ، فقال آخر: غطّه فإن كان تميميّا رسب، وإن كان أزديّا طفا؛ قال ربّ المنزل: ما يسرّني أنه كان قال بعضكم حرفا. وإنما عنى أنّ أزد عمان ملّاحون. المدائني قال: رأى رجل في يد امرأة كانت تأتيه خاتم ذهب، فقال لها: إدفعي إليّ خاتمك أذكرك به، فقالت: إنه ذهب، وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود لعلك تعود. حدّثني الزياديّ قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مردفا أبا بكر شيخا يعرف، ورسول الله شابّ لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل؛ فيحسب السامع أنه يهديه الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. كان سنان «1» بن مكمّل النميريّ يشاير ابن هبيرة يوما وهو على بغلة، فقال له عمر بن هبيرة: غضّ من بغلتك؛ قال: كلا! إنها مكتوبة. أراد ابن هبيرة قول الشاعر «2» : [وافر]

فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا «1» وأراد سنان قول الآخر «2» : [بسيط] لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «3» حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: قال معاوية للأحنف: يا أحنف، ما الشيء الملّفف في البجاد «4» ؟ فقال: هو السّخينة «5» يا أمير المؤمنين. أراد معاوية قول الشاعر: [وافر] إذا ما مات ميت من تميم ... فسرّك أن يعيش فجيء بزاد بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفّف في البجاد «6»

وأراد الأحنف «1» أنّ قريشا تعيّر بأكل السخينة. المدائني قال: سأل الحرسيّ أبا يوسف القاضي عن السواد؛ فقال: النور في السواد. يعني نور العينين في سواد الناظر. المدائني قال: لقي شيطان الطّاق «2» خارجيّ فقال: ما أفارقك أو تبرأ من عليّ، فقال: أنا من عليّ ومن عثمان بريء. يريد أنه من عليّ، وبريء من عثمان. سمع عمر بن الخطّاب امرأة في الطّواف تقول: [طويل] فمنهنّ من تسقى بعذب مبرّد ... نقاخ «3» فتلكم عند ذلك قرّت ومنهنّ من تسقى بأخضر آجن ... أجاج ولولا خشية الله فرّت «4» فعلم ما تشكو، فبعث إلى زوجها فوجده متغيّر الفم، فخيّره بين خمسمائة درهم أو جارية من الفيء على أن يطلّقها فاختار خمسمائة، فأعطاه وطلّقها «5» . حدّثني أحمد بن محمد أبو نصر الكاتب قال: كنت واقفا بهذا المكان، وأقبلت امرأة من هذه الناحية، وغلام من الناحية الأخرى أبيض الوجه

رائعه، ونظرت إليه المرأة، فلما التقيا قالت له: ما اسمك يا فتى؟ قال: محمد؛ قالت: ابن من؟ قال: ابن زانة، وتبسّم عن ثغر أفلج «1» مختلف قبيح؛ فقالت: واحرباه على ما قال! فقلت لها: قد وقعت لك عليها؛ قالت: من أين؟ قلت: من كنية أبي الخير النصرانيّ كاتب سعيد الحاجب، أراد أن الياء إذا نقلت عن أبي الخير إلى زانة، صار هذا أبا الخر، وصار هذا ابن زانية. مر ابن أبي علقمة بمجلس بني ناجية «2» فكبا حماره لوجهه فضحكوا؛ فقال: ما يضحككم! إنه رأى وجوه قريش فسجد. قال عمرو «3» بن بحر: قال أبو الهذيل لمحمد بن الجهم وأنا عنده: يا أبا جعفر، إني رجل منخرق الكفّ لا أليق «4» درهما، ويدي هذه صناع في الكسب ولكنها في الإنفاق خرقاء، كم من مائة ألف درهم قسمتها على الإخوان في مجلس وأبو عثمان يعلم ذلك! أسألك بالله يا أبا عثمان، هل تعلم ذلك؟ قال: يا أبا الهذيل، ما أشك فيما تقول؛ قال: فلم يرض أن حضرت حتى استشهدني، ولم يرض إذ استشهدني حتى استحلفني. قال المدائنيّ: بعث يزيد بن قيس الأرحبيّ، وكان واليا لعليّ، إلى الحسن والحسين رضي الله عنهم بهدايا بعد انصرافه من الولاية وترك ابن الحنفيّة، فضرب عليّ- عليه السلام- على جنب ابن الحنفيّة وقال: [وافر]

وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الّذي لا تصبحينا «1» فرجع يزيد إلى منزله وبعث إلى ابن الحنفيّة بهديّة سنيّة. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدّثني موسى بن محمد قاضي المدينة، قال: مرّ رجل بأعرابي يوقد في أصل ميل، فقال: كم على الميل؟ فقال: لست أقرأ، ولكنّ كتابه فيه؛ قال: وما كتابه؟ قال: محجن وخلقه سمط وثلاثة أطباء وحلقة مذنّبة «2» (يغني صورة خمسة) . قال أبو اليقظان: إن عمرو بن مالك بن ضبيعة هو الذي قيل فيه: [طويل] لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلّا ليعلما وذلك أنّ سعد بن مالك كان عند بعض الملوك «3» ، فأراد الملك أن يبعث رائدا يرتاد له منزلا ينزله، فبعث بعمرو فأبطأ عليه، فآلى الملك لئن جاء ذامّا أو حامدا ليقتلنّه؛ فلما جاء عمرو وسعد عنده، قال سعد للملك؛ أتأذن لي فأكلّمه؟ قال: إذا أقطع لسانك؛ قال: فأشير إليه؛ قال: إذا أقطع يدك؛ قال: فأومىء إليه؛ قال: أقطع حنو «4» عينك؛ قال: فأقرع له العصا؛ قال: إقرع فأخذ العصا فضرب بها عن يمينه ثم ضرب بها عن شماله ثم هزّها بين

يديه، فلقن «1» عمرو، فقال: أبيت اللّعن! أتيتك من أرض زائرها واقف، وساكنها خائف، والشّبعى بها نائمة، والمهزولة ساهرة جائعة، ولم أر خصبا محلا، ولا جدبا هزلا. لما حكّم أبو موسى وقدم ليحّكم، دسّ معاوية إلى عمرو رجلا ليعلم علمه وينظر كيف رأيه؛ فأتاه الرجل فكلّمه بما أمره به، فعضّ عمرو على إبهامه ولم يجبه؛ فنهض الرجل فأتى معاوية فأخبره؛ فقال: قاتله الله! أراد أن يعلمني أني فررت قارحا «2» . حدّثني أبو حاتم قال: حدّثني الأصمعي قال: حدّثنا عيسى بن عمر قال: سأل الحجاج جبر بن حبيب عن رجل، وكره أن يعاقبه إن دلّ عليه، فقال: تركته والله جسدا يحرّك رأسه يصبّ في حلقه الماء، والله لئن حمل على سرير ليكوننّ عليه عورة؛ قال: فتركه. حدّثني القاسم بن الحسن عن خالد بن خداش عن حمّاد عن مجالد عن عمير بن روذى قال: خطبنا عليّ عليه السلام فقال: لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا أدخلها ولئن لم يدخل النار إلا من قتل عثمان لا أدخلها؛ فقيل له: ما صنعت! فرّقت الناس فخطبهم فقال: إنكم قد أكثرتم في قتل عثمان، ألا وإن الله قتله وأنا معه؛ قال: فحدّثنا خالد عن حمّاد عن حبيب بن الشّهيد عن محمد بن سيرين قال: كلمة عربيّة لها وجهان. أي وسيقتلني معه. سأل زياد رجلا بالبصرة: أين منزلك؟ فقال: واسط، قال: مالك من الولد؟ قال: تسعة. فلما قام، قيل لزياد: كذبك في كل ما سألته، ما له إلا

ابن واحد، وإن منزله بالبصرة، فلما عاد إليه، قال: ذكرت أن لك تسعة من الولد، وأن منزلك بواسط؟ قال: نعم؛ قال: خبّرت بغير ذلك؛ قال: صدقت وصدقوك، دفنت تسعة بنين فهم لي، ولي اليوم ابن واحد ولست أدري أيكون لي أم لا: وأما منزلي فإلى جانب الجبّان «1» بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، فأيّ منزل أوسط منه! قال: صدقت. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن عيسى بن عمر قال: قال المختار لجنده: يا شرطة الله، ليخرجنّ إلى قريب على الكعبة الحرام دابّة «2» له ستّ قوائم وله رأس بلا عنق، ثم التفت إلى رجل إلى جانبه فقال: أعني اليعسوب. كان إبراهيم إذا لم يعجبه الرجل قال: ما هو بأعجب الناس إليّ. بلغني عن معاوية بن حيّان عن المبارك بن فضالة عن عبد الله بن مسلم ابن يسار، قال: كان أبي إذا غضب على البهيمة، قال: أكلت سمّا قاضيا حدّثني زيد بن أخزم قال: حدّثنا أبو قتيبة قال: حدّثنا أبو المنهال البكراويّ قال: كان الحسن إذا أخذ من لحيته شيء، قال: لا يكن بك السوء. وقيل للحسن؛ أتى رجل صاحبا له في منزله وكان يصلي، فقال:

أدخل؟ فقال في صلاته: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ «1» ؛ فقال: لا بأس. كان محمد بن عليّ إذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة. وكان لا يسمع من داره يا سائل بورك فيك، ولا يا سائل خذ هذا؛ ويقول: سمّوهم بالحسن الجميل عباد الله، فتقولون: يا عبد الله، بورك فيك. قيل لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مستجابة. قيل: فكم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم (يعني للشمس) . كان رشم «2» عمر بن مهران الذي يرشم به على طعامه: اللهم احفظه ممن يخطفه. خرج رجل من بني أسد بإبل له يسقيها، ومعه ابنة له جميلة عاقلة، حتى دفع إلى ماء لبني فزارة، فسألهم أن يأذنوا له في سقي إبله؛ فقالوا: على ألا تجأجىء «3» بها، قال: فإذا لا تشرب شرب خير؛ قالوا: إن رضيت وإلّا فانصرف؛ فقالت له الجارية: أشرط لهم ما طلبوا وأنا أكفيك؛ فأخذ الدلو، وجعلت الجارية ترتجز وتقول: [رجز] جارية شبّت شباب العسلج ... ذات وشاحين وذات دملج «4» وذات ثغر أشنب مفلّج ... وذات خلق مستتبّ مدمج «5»

في أبيات كثيرة، فشربت الإبل حتى رويت من غير أن جأجأ بها. وتبايع أعرابيان على أن يشرب أحدهما لبنا حازرا «1» ولا يتنحنح، فلما شربه وتقطّع في حلقه؛ قال: كبش أملح؛ فقال صاحبه؛ فعلها وربّ الكعبة! فقال: من فعلها فلا أفلح. وكان ما تبايعا عليه كبشا. قال الأصمعي: قلت لأعرابي معه شاء: لمن هذه الشّاء؟ فقال: هي لله عندي. حدّثني أبو الخطّاب قال: حدّثنا أبو داود عن عمارة بن زاذان قال: حدّثنا أبو الصهباء قال: قال الحجّاج لسعيد بن جبير: اختر أيّ قتلة شئت؛ فقال له: بل اختر أنت لنفسك، فإن القصاص أمامك. ولي هرثمة الحرس مكان جعفر بن يحيى، فقال له جعفر: ما انتقلت عني نعمة صارت إليك. أمر الحجّاج ابن القرّيّة أن يأتي هند بنت أسماء فيطلقها بكلمتين، ويمتّعها بعشرة آلاف درهم؛ فأتاها فقال لها: إنّ الحجّاج يقول لك: كنت فبنت، وهذا عشرة آلاف متعة لك: فقالت: قل له: كنا فما حمدنا، وبنّا فما ندمنا؛ وهذه العشرة الآلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي. سئل سفيان بن عيينة عن قول طاوس في ذكاة السمك أو الجراد؛ فقال ابنه عنه: ذكاته صيده. اجتمع الناس عند معاوية وقام الخطباء لبيعة يزيد وأظهر قوم الكراهة،

فقام رجل من عذرة يقال له يزيد بن المقنّع، واخترط «1» من سيفه شبرا، ثم قال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، فإن يهلك فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أبي فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: أنت سيّد الخطباء. قال رجل من أهل الحجاز لابن شبرمة: من عندنا خرج العلم؛ قال ابن شبرمة: ثم لم يعد إليكم. قال المدائنيّ: قال معاوية لابن عبّاس؛ أنتم، يا بني هاشم، تصابون في أبصاركم؛ فقال ابن عباس؛ وأنتم، يا بني أمية، تصابون في بصائركم. وقال له معاوية: ما أبين الشّبق «2» في رجالكم! فقال: هو في نسائكم أبين. أبو اليقظان قال: قال ابن ظبيان التّيميّ لزرعة بن ضمرة: لقد طلبتك يوم الأهواز ولو ظفرت بك لقطعت منك طابقا سخنا؛ قال: أفلا أدلّك على طابق هو أسخن وأحوج إلى القطع؟ قال: بلى! قال: بظر بين إسكتي «3» أمّك. أبو اليقظان قال: بعث الحجّاج إلى الفضيل بن بزوان العدواني، وكان خيّرا من أهل الكوفة، فقال: إني أريد أن أولّيك، قال: أو يعفيني الأمير؟ فأبى وكتب عهده، فأخذه وخرج من عنده فرمى بالعهد وهرب، فأخذ به الحجّاج، فقال: يا عدوّ الله؛ فقال: لست لله ولا للأمير بعدوّ؛ قال: ألم أكرمك؟ قال: بل أردت أن تهينني؛ قال: ألم أستعملك؟ قال: بل أردت أن

تستعبدني؛ قال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» الآية؛ قال: ما استوجبت واحدة منهن؛ قال: كل ذلك قد استوجبت بخلافك. وأمر رجلا من أهل الشام أن يضرب عنقه. سليمان بن أبي شيخ قال: حدّثني حجر بن عبد الجبّار عن عبد الملك ابن عمير قال: كان في مجلس زياد، الذي يجلس فيه للناس بالكوفة، في أربع زواياه كتاب بقلم جليل: الوالي شديد في غير عنف، ليّن في غير ضعف؛ الأعطية لإبّانها «2» ، والأرزاق لأوقاتها؛ البعوث لا تجمّر «3» ؛ المحسن يجزى بإحسانه والمسيء يؤخذ على يديه كلما رفع رأسه إلى زاوية قرأ ما فيها. قال سليمان: وحدّثنا أبو سفيان الحميريّ قال: أبلى أبو جهم بن كنانة يوم الراوية، فقال له الحجاج: من أنت؟ قال: أنا أبو جهم بن كنانة، قال له الحجاج: قد زدناك في اسمك ألفا ولاما فأنت أبو الجهم، وزدنا في عطائك ألفا. العباس بن بكّار عن عبيد الله بن عمر الغسّانيّ عن الشعبيّ قال: قال معاوية لشدّاد بن أوس: يا شدّاد، أنا أفضل أم عليّ؟ وأينا أحبّ إليك؟ فقال: عليّ أقدم هجرة، وأكثر مع رسول الله إلى الخير سابقة، وأشجع منك قلبا، وأسلم منك نفسا، وأما الحبّ فقد مضى عليّ، فأنت اليوم عند الناس أرجى منه.

قال الأحنف لمعاوية في كلام: أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته، فلا تلقمه الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة. خطب «1» الحجّاج فشكا سوء طاعة أهل العراق؛ فقال جامع المحاربيّ «2» : أما إنهم لو أحبّوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع ما يباعدهم منك إلى ما يقرّبهم إليك، والتمس العافية فيمن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك؛ فقال الحجاج: والله ما أراني أردّ بني اللّكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف؛ فقال: أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار؛ قال الحجّاج: الخيار يومئذ لله؛ قال: أجل! ولكنك لا تدري لمن يجعله الله؛ فقال: يا هناه «3» ، إنك من محارب! فقال جامع: [طويل] وللحرب سمّينا وكنّا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطّعن أحمرا» فقال الحجاج «5» : والله لقد هممت أن أخلع لسانك فأضرب به وجهك؛ فقال له: يا حجّاج، إن صدقناك أغضبناك، وإن كذبناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله.

قال الأصمعيّ: أخبرنا شيخ من قضاعة قال: ضللنا مرة الطريق فاسترشدنا عجوزا؛ فقالت: استبطن الوادي وكن سيلا حتى تبلغ. ابن الكلبيّ قال: كتب معاوية إلى قيس بن سعد «1» : أما بعد، فإنما أنت يهوديّ ابن يهوديّ، إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك قتلك ونكلّ بك، وقد كان أبوك وترقوسه ورمى غرضه، فأكثر الحزّ وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه؛ ثم مات طريدا بحوران؛ والسلام. فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد، فإنما أنت وثن ابن وثن «2» ، دخلت في الإسلام كرها وخرجت منه طوعا، ولم يقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك، وقد كان أبي وتر قوسه ورمى غرضه، وشغّب «3» عليه من لم يبلغ كعبه ولم يشقّ غباره، ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي خرجت إليه؛ والسلام. قال يحيى بن سعيد الأمويّ: سمعت الأعمش يقول لخالد بن صفوان: شعرت أنّ منزلك لا يعرف إلا بي حتى يقال عند منزل الأعمش؛ فقال خالد: صدقت، مثل حمام عنترة، ويقال وردان وبيطار (حيان) . قال الربيع لشريك بين يدي المهديّ: بلغني أنك خنت أمير المؤمنين؛ فقال شريك: لو فعلنا ذلك لأتاك نصيبك. قال رجل من العرب: أريت البارحة في منامي كأني دخلت الجنة فرأيت

جميع ما فيها من القصور، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: للعرب؛ فقال رجل عنده من الموالي: أصعدت الغرف؟ قال: لا؛ قال: فتلك لنا. وكتب قتيبة بن مسلم إلى عبيد الله بن زياد بن ظبيان: أما بعد، فإن عشمشم أعشى الشجر. فكتب إليه ابن ظبيان: من ذلك الشجر كان بربط «1» أبيك. يعني مسلم بن عمرو، وكان مغنّيا ليزيد بن معاوية. قال بحر بن الأحنف لجارية أبيه زبراء: يا فاعلة: فقالت: لو كنت كما تقول أتيت أباك بمثلك. وقال رجل لابنه: يابن الفاعلة؛ فقال: والله لئن كنت صدقت ما فعلت حتى وجدتك فحل سوء. أتت ابنة الخسّ عكاظ، فأتاها رجل يمتحن عقلها ويمتحن جوابها، فقال لها: إني أريد أن أسألك؛ قالت: هات. قال: كاد؛ فقالت: المنتعل يكون راكبا. قال: كاد: قالت: الفقر يكون كفرا. قال: كاد؛ قالت: العروس تكون ملكا. قال: كاد؛ قالت: النّعامة تكون طائرا. قال: كاد؛ قالت: السّرار «2» يكون سحرا. ثم قالت للرجل: أسألك؟ قال: هاتي، قالت: عجبت؛ قال: للسّباخ لا ينبت كلؤها ولا يجف ثراها. قالت: عجبت؛ قال: للحجارة لا يكبر صغيرها ولا يهرم كبيرها. قالت: عجبت؛ قال: لشفرك «3» لا يدرك قعره ولا يملأ حفره.

المدائنيّ قال: كان عرام بن شتير عند عمر بن هبيرة، فألقى إليه ابن هبيرة خاتمة وفصّه أخضر، فعقد عرام في الخاتم سيرا. أراد عمر قول الشاعر: [طويل] لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كلّ ضبّيّ من اللّؤم أزرق «1» وأراد عرام: [بسيط] لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «2» قال جرير للأخطل: أرّقت نومك، واستهضمت قومك؛ قال الأخطل: قد أرّقت نومي، ولو نمت كان خيرا لك. أراد معاوية أن يخطب بصفّين فقال له عمرو بن العاص: دعني أتكلّم فإن أتيت على ما تريد وإلّا كنت من وراء ذلك، فأذن له؛ فتكلّم بكلمات، قال: قدّموا المستلئمة «3» وأخّروا الحسّر، كونوا مقصّ الشارب، أعيرونا أيديكم ساعة، قد بلغ الحقّ مفصله، إنما هو ظالم أو مظلوم. حدّثني «4» ابن أبي سعد عن محمد بن الحسن التميمي عن عبد الله بن أحمد بن الوضّاح، قال: دخل أعرابيّ على عبد الملك بن مروان؛ فقال له: يا أعرابيّ، صف الخمر فقال: [طويل]

مقطعات ألفاظ تقع في الكتاب والكلام

شمول إذا شجّت وفي الكأس مزّة ... لها في عظام الشاربين دبيب «1» تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب فقال: ويحك يا أعرابيّ! لقد اتّهمك عندي حسن صفتك لها: قال: يا أمير المؤمنين، واتهمك عندي معرفتك بحسن صفتي لها. مقطّعات ألفاظ تقع في الكتاب والكلام لو أخطأت سبيل إرشادك، لما أخطأت سبيل حسن النية فيما بيني وبينك. لو خطر ذلك ببالي من فعلك، ما عرّضت ستر الإخاء للهتك بيني وبينك. قد أحسنت في كذا قديما. وفعلك كذا إحدى الحسنيين بل ألطفهما موقعا. أنت رجل لسانك فوق عقلك وذكاؤك فوق حزمك. فقدّم على نفسك من قدّمك على نفسه. الله يعلم أنك ما خطرت ببالي في وقت من الأوقات إلا مثّل الذكر منك لي محاسن تزيدني صبابة إليك وضنّا بك واغتباطا بإخائك. لعل الأيام أن تسهّل لأخيك السبيل إلى ما تقتضيه نفسك من برّك ومعاوضتك ببعض ما سلف لك. ما هذا الغبا العجيب الذي إلى جانبه فطنة لطيفة. حكم الفلتات خلاف حكم الإصرار. من أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يؤخذ بالعين، كان حريّا أن يخطىء في

باطن دينه وفيما يؤخذ بالعقل. ومن أوّل ما أحبّ أن أوثرك به وأقضي فيه واجب حقّك، تنبيهك على عظيم ما لله عندك، وحثّك على الإزدياد مما يزيدك. من كان بمثل موضعك فجمع له حمد إخوانه ورضا معامليه والإستقصاء مع ذلك لمن استكفاه، فقد عظمت النعمة عليه، ولا أعلم بما أسمع فيك إلا أنك كذلك والحمد لله. ما أغنى الفقير عن الحمد، وأحوجه إلى ما يجد به طعم الحمد!. قد حسدك من لا ينام دون الشّفاء، وطلبك من لا يقصّر دون الظفر، فاشدد حيازيمك «1» وكن على حذر. أنت تتجنّى على مالك لتتلفه بأسباب العلل، كما يدفع عن ماله البخيل بوجوه الاعتلال. أنت طالب مغنم، وأنا دافع مغرم، فإن كنت شاكرا لما مضى، فاعذر فيما بقي. مكرك حاضر، ووفاؤك متأخّر. أنا راض بعفوك، باذل لمجهودي. نوائب الأيام رمت به ناحيتك، وإذا رأيته أنبأك ظاهره عن باطنه ودعاك إلى محبّته قبوله، وهو في الأدب بحيث المستغني عن النسب. قد آن أن تدع ما تسمع لما تعلم وإلّا يكون غيرك فيما يبلغك أوثق من نفسك فيما تعرفه. هذا فلان قد أتاك على رقّة من حاله وبعد من شقّته، فنشدتك الله أن

تقدّم شيئا على تصديق ظنّه وسدّ خلّته وبل ما يبّست هذه النكبة من أديمه، فإنه غذيّ نعمة وخدين «1» مروءة. أنا أسأل الله أن ينجز لي ما لم تزل الفراسة تعدنيه فيك. الحرّيّة نسب. فهمت ما اعتذرت به في تأخّرك، وغضضت به مني طرفا طامحا إليك ونفسا توّاقة إلى قربك. وصل كتابك فكان موقعه موقع الرّوح من البدن. فإنّ أمير المؤمنين يحب ألا يدع سبيلا من سبل البر وإن عفا ودثر إلا أناره وأوضح محجّته، ولا خلّة من خلال الخير لا أوّل لها إلا اهتبل «2» الفرصة في إنشائها، واختيار مكرمة ابتدائها، لتجب له مساهمة الفارط «3» في أجره، ويكون أسوة الغابر في ثوابه. لولا وجوب تقديم العذر لصاحب السلطان، في الذهول عن مواصلة من يجب عليه مواصلته، بما يستولي عليه من الشغل بعمله، إذا لكثر العتب. إنك لكل حسن أبليته، ومعروف أسديته، وجميل أتيته، وبلاء كان لك ربيته، أهل في الدين والحسب القديم. لك- أعزّك الله- عندي أياد تشفع لي إلى محبّتك، ومعروف يوجب عليك الرّبّ «4» والإتمام.

أفعال الأمير مختارة كالأماني، متّصلة عندنا كالأيام؛ ونحن نختار الشكر لكريم فعله، ونواصل الدعاء والذكر مواصلة برّه. أبدأ بذكر يدك التي أجارتني على صرف الزمان، ووقتني نوائب الأيام، وثمّرت لي بقية النعمة، وصانت وجهي عن استعباد منن الرجال، وبسطت لي الأمل في بلوغ ما ناله بك محن رفعت خسيسته ونوّهت بذكره، وأعانتني على اتباع مذهب الماضين من سلفي في الوفاء لكم، وحماية النعمة عليهم بكم عن أيدي غيركم، حتى خلصت لهم منكم فعزّوا، ولم يشغلوا شكرهم بغيركم حين شكروا، ولم يحتملوا صنيعة لسواكم لما اعتدّوا، ولم تتشعّبهم الدنيا عنكم إذا اضطرّوا. إنّ الله أحلك منا أهل البيت محلّا نراك به عوضا من الغائب، وخلفا من الهالك، ونجدك مخصوصا بضّرائنا إذ كنت وليّ سرّائنا، وكنا لك كالجوارح نألم لكل ما ألم منها. نحن نعوذ بالله من سخطك، ونستجير به من غضبك، ونسألك النظر فيما كتبنا به صادقين، كما سمعت قصص الكاذبين، فإنا على سلامة مما رقّوه «1» . كتبي- أعزك الله- تأتيك، في الوقت بعد الوقت، على حسب الدواعي، وإن كان حقّك يلزمني ألّا تغبّك، لولا ما أتذكر من زيادتها في شغلك. أنت الحامل لكل إخوانه، الناهض بأعباء أهل مودّته، الصابر على ما ناب من حقوقهم.

كنت أمس- أكرمك الله- عليلا، وركبت اليوم على ظلع «1» ظاهر ورقّة شديدة، فلما انصرفت أمرت بإغلاق الباب للمتودّع، ووافق ذلك من سوء نيتك وإرصادك صديقك بما يستدعي عتبك عليه وعتبه عليك ما وافق. لا أزال- أبقاك الله- أسأل الكتاب إليك في الحاجة، فأتوقف أحيانا توقف المبقي عليك من المؤونة، وأكتب أحيانا كتاب الراجع منك إلى الثقة والمعتمد منك على المقة؛ لا أعدمنا الله دوام عزك، ولا سلب الدنيا بهجتها بك، ولا أخلانا من الصّنع لله على يدك وفي كنفك، فإنا لا نعرف إلا نعمتك، ولا نجد للحياة طعما وندى إلا في ظلّك. إن كان هذا مما ترضاه لي، فلست ألتمس أكثر منه، وقوفا بنفسي عند الحظ الذي رضيته لي. أنا، والله، أراك في رتبة المنعم إجلالا، وبمحل الشقيق من القلب محبّة وإخلاصا. أما شكري فمقصور على سالف أياديك، وبه قصور عنه فكيف يتّسع لما جدّدته!. لله عندك نعم جسام تتقاضاك الشكر. وقاك الله شرّ نفسك، فإنها أقرب أعدائك إليك. ولم أزل وجلا من حادثة كذا عليك، إذ كان ما ينالك- لا أنالك الله سوءا- متّصلا بي ومدخلا الضرر عليّ في ركن منك أعتمد عليه، وكنف لك أستذري به.

وصل إليّ كتاب منك، فما رأيت كتابا أسهل فنونا، ولا أملس متونا، ولا أكثر عيونا، ولا أحسن مقاطع ومطالع، ولا أشدّ على كل مفصل حزّا منه؛ أنجزت فيه عدة الرأي وبشرى الفراسة، وعاد الظنّ بك يقينا، والأمل فيك مبلوغا. لا غيّبك الله عن مواطن العز والصنع، وأشهدك إياها بعلوّ يدك، وهبوب ريحك، واستقادة جميع أهلها بزمام طاعتك. قد رميت غرض الباطل بسهم الحق وحللت عقال الشر بيد الخير. كنت سالما إن سلمت من عتبك. أنا أتوسل إليك بحسن ظنّي بك، وأسألك بحق صبري على ظلمك لمّا سعفت بما سألتك. ليس ينبغي لك أن تستبطىء فهمي وقد أسأت إفهامي. من أبعد من البرء من مريض لا يؤتى من دائه إلا من جهة دوائه، ولا في علّته إلا من قبل حميته!. لست في حال يقيم عليها حرّ أو يرضى بها كريم، وليس يرضى بهذا الأمر إلا من لا ينبغي لك أن ترضى به. قد شخت في ذراك وهرمت في ظلّك، فإمّا رددت عليّ شبابي وأعدت إليّ قوّتي، وإما دفعت إليّ ما ينوب عن الشباب ويجبر الضعف، ولا بدّ من أحدهما، فاختر لنفسك واخرج إلينا من هذا الدّين؛ فقد أمسكنا عن التقاضي ما أمكن، وصبرنا على المواعيد ما صلح؛ ودعنا من الحوالة فإنّ الصنيعة لا تتمّ بالحوالة؛ وإن جاز أن تقيم لنا زعيما بالنعمة، جاز أن نقيم لك زعيما بالشكر؛ وإن جاز أن نؤمّلك ويحقّق آمالنا غيرك، جاز أن نشكر غير المنعم ونأمل غير المصطنع.

ما أستعظم أن تسبق إلى حسن بل أستعظم أن تسبق إليه وتغلب عليه. لئن كنت جاوزت بي قدري عندك لما بلغت بك أملي فيك. لا يقبضك عن الأنس بي تقصيرك في البرّ. بلغتني علّتك فنالني من ألمها، وغالني مما مسّك فيها حسب حقّك وما يخصّني من كل حال تصرّفت بك. أعتذر إليك من تأخر كتبي عنك بترامي النّقلة وتقاذف الغربة وعدم الطمأنينة، فإني منذ فارقتك كما قال القائل: [طويل] وكنت قذاة الأرض والأرض عينها ... تلجلج شخصي جانبا بعد جانب «1» إني- أعزّك الله- على تشوّقك متزيد، فما أحاشي بك أحدا، ولا أقف لك على حسنة يوما إلا أنستنيها لك فضلة غده. الحمد لله الذي جعل الأمير معقود النيّة بطاعته، مطويّ القلب على مناصحته، مشحوذ السيف على عدوّه؛ ثم وهب له الظفر، ودوّخ له البلاد، وشرّد به العدوّ، وخصّه بشرف الفتوح العظام شرقا وغربا، وبرّا وبحرا. إلى الله أشكو شدّة الوحشة لغيبتك، وفرط الجزع من فراقك، وظلمة الأيام بعدك؛ وأقول كما قال حبيب بن أوس «2» : [خفيف] بيّن البين فقدها، قلّما تع ... رف فقدا للشمس حتّى تغيبا ورد كتابك، فيا له واردا بالرّيّ على ذي ظمأ! ما أنقعه للغليل، وأعدل

شهادته لك بكرم العقد، وصدق الودّ، وحسن المغيب، ورعاية حق التحرّم، وبعد الشيمة من شيم أهل الزمان إلا من عصم الله، وقليل ما هم، ولله أبواك لقد أوجداك. قد أجلّ الله خطرك عن الاعتذار، وأغناك في القول عن الاعتلال، وأوجب علينا أن نقنع بما فعلت، ونرضى بما أتيت وصلت أو قطعت، إذ وثقنا بحسن نيّتك ونقاء طويّتك، وألزمنا أن نأخذ أنفسنا لك بما لا نحمّلك مثله، ولا نلتمس منك مقابلة به. ما أخرّ كتبي عنك إلا ما أنا عليه من إيثار التخفيف بقطع الكتب، إلا عند حقّ يقع فأقضيه، أو نعمة تحدث فأهنّىء بها، والقصد للزيادة في البرّ بالزيارة في الغبّ، واستدعاء دوام الوداد بانتهاز فرص الوصل. وكتبت إلى محمد بن عبد الله بن طاهر: أمّا شكري للأمير على سالف معروفه فقد غار وأنجد. وأمّا ابتهالي إلى الله في جزائه عنّي بالحسنى فإخلاص النيّة عند مظانّ القبول. وأمّا أملي فأحياه على بعد العهد بلاؤه عندي، إذ كان ما تقدّم منه شافعا في المزيد، وفسحة وعده إياي عند مفارقتي له، إذ كان مؤذنا بالإنجاز. وأما زللي في التأخّر عما أوجب الله عليّ له، فمقرون بالعقوبة فيما حرمته من عزّ رياسته، ونباهة صحبته، وعلوّ الدرجة به، وإن كنت سائر أيام انقطاعي عنه معتلقا بسبب لا خيار معه. مكاتبتك- أعزّك الله- وأنا مجاورك ببلد دون السعي إليك مجلّا لقدرك مما أكبر. لاقيك بكتابي هذا فلان، وله عليّ حقّان؛ حقّ عمّ المسلمين فلزمني بلزومه لهم، وحق خصّني بالحرمة والعشرة. فرأيك في كذا إن سهل السبيل إلى ذلك ورحب، وإن يعق عائق فلست على جميل رأي عندي بمتّهم.

للمتفضّل أن يخصّ بفضله من يشاء؛ ولله الحمد ثم له فيما أعطي، ولا حجّة عليه فيما منع. مستعفى السلطان أحد ثلاثة: رجل آثر الله وما عنده، وأسأل الله توفيقه؛ ورجل عجز عن عمله فخاف بعجزه عواقب تقصيره، وأستعين الله؛ ورجل سمت به نفسه عن قليل هو فيه إلى كثير أمله. وأعوذ بالله من أن أدنّس نعمة الله بك عليّ وعلى سلفي قبلي بالتصدّي لمن لا يشبه دهره يومك، ولا أكثر جهده في المعروف أقلّ عفوك. كن كيف شئت، فإنّي واحد أمري خالصة سريرتي، أرى ببقائل بقاء سروري، وبتمام النعمة عليك تمامها عندي، فإنه ليس من نعمة يجدّدها الله لأمير المؤمنين في نفسه خاصّة إلا اتصلت برعيّته عامّة، وشملت المسلمين كافّة، وعظم بلاء الله عندهم فيها، ووجب عليهم شكره عليها؛ لأنّ الله جعل بنعمته تمام نعمتهم، وبسلامته هدوءهم واستقامتهم، وبتدبيره صلاح أمورهم وأمنهم، وبذبّه عن دينهم حفظ حريمهم، وبحياطته حقن دمائهم وأمن سبلهم، وبرعيته اتّساقهم وانتظامهم؛ فأطال الله بقاء أمير المؤمنين مؤيّدا بالنصر، معزّا بالتمكين، موصول الطلب بالظفر، ومدّة البقاء بالنعيم المقيم. فهمت كتابك ولم تعد في وعدك ووعيدك سبيل الراغب في ربّ عارفته، المحامي على سالف بلائه، المؤثر لاستتمام صنيعته، وإني لأرجو أن أكون على غاية ما عليه ذو نيّة حسنة في شكر مصطنعه، وعناية بأداء ما يلزمه لوليّ نعمته، ومراقبة لرئيسه في سرّ أمره وعلانيته، وإيثار للقليل من جميل رأيه على كثير المنافع مع سخطه. وليس مذهبي فيما أشرحه من العذر وأطيل بذكره الكتب، مذهب من يموّه بالاحتجاج ويحتال في الاعتذار، ومن تطمعه نفسه في سلامة النعمة مع فساد النيّة، وفي محمود العاقبة مع شره النفس،

وفي زيادة الحال مع التفريط في العمل. ولو كنت ممن سوّلت له نفسه ذلك سائر دهره، لقد وجب إلى أن يضطرّني إلى النزوع عنه تأديبك وتقويمك. وإني لمجتهد أن يكون أثر فعلي هو المخبر عني دون قولي، وأن يكون ما أمتّ به إليك ظاهر كفايتي دون ذمامي. لولا ما أنا بسبيله من العمل، وما في الإخلال به من تعريضه للانتشار ودخول الخلل، وعلمي بأن طاعة السلطان مقرونة بطاعة الأمير، وأنه لا فرق عنده بين الجاني على السلطان وعليه، لكنت الجواب راجلا معظّما لأمره، مكبرا لسخطه؛ وإن كان الله قد جعل عند الأمير من إيثار الحق والعمل به، وتقديم الرويّة قبل الإيقاع، والاستثناء «1» بمن وضح ذنبه وظهر جرمه دون من وقعت الشبهة في أمره، ما أمّنني بادرة غضبه ونازل سطوته. لم أكن أحسبني أحلّ عندك محلّ من جهل حظّه، وعدم تمييزه، وغبي عمّا عليه وعمّا له؛ إذ توهّمت عليّ أنّي أبيع خطيرا من رضاك، ونفيسا من رأيك، وشرفا باقيا على الأيام بطاعتك، وعدّة للنوائب أستظهر بها من نصرتك، بالثمن البخس الحقير من كذا، أو أن أستبدل بما أنا ذو فاقة إليه من عزّ كنفك ومنيع ذراك، ما قد وهب الله الغنى عنه بحمده. كان ورودك وشخوصك في وقتين انظويا عني، وكان مقامك في حال شغل منك ومني، ولذلك فقدتني في القاضين لحقك والمثابرين على لقائك. ورد كتابك مضمّنا من برّك وتطوّلك ما حسّن شكري، وأثقل ظهري، وأرتج عن مضاهاتك بمثله قولي؛ فذكرت به- إذ تحيرّت دون تأمّله، وضعفت

ألفاظ تقع في كتب الأمان

عن تحمّله، وعجزت عن الشكر عليه عند تمحّله- قول القائل: [كامل] أنت آمرؤ أوليتني نعما ... أوهت قوى شكري، فقد ضعفا لا تحدثنّ إليّ عارفة ... حتّى أقوم بشكر ما سلفا «1» ألفاظ تقع في كتب الأمان هذا كتاب من فلان لفلان: إن أمّنتك على دمك ومالك ومواليك وأتباعك، لك ولهم ذمّة الله الموفى بها، وعهده المسكون إليه، ثم ذمّة الأنبياء الذين أرسلهم برسالته وأكرمهم بوحيه، ثم ذمم النجباء من خلائفه: بحقن دمك ومن دخل اسمه معك في هذا الكتاب، وسلامة مالك وأموالهم وكذا وكذا؛ فاقبلوا معروضه، واسكنوا إلى أمانه، وتعلّقوا بحبل ذمته، فإنه ليس بعدما وكّد من ذلك متوثّق لداخل في أمان إلا وقد اعتلقتم بأوثق عراه، ولجأتم إلى أحرز كهوفه، والسلام. وفي كتاب آخر: هذا كتاب من فلان: إن أمير المؤمنين، لما جعل الله عليه نيّته في إقالة العاثر واستصلاح الفاسد، رأى أن يتلافاك بعفوه، ويتغمد زلّاتك برحمه، ويبسط لك الأمان على ما خرجت إليه من الخلاف والمعصية: على دمك وشعرك وبشرك وأهلك وولدك ومالك وعقارك؛ فإن أنت أتيت وسمعت وأطعت، فأنت آمن بأمان الله على ما أمّنك عليه أمير المؤمنين، ولك بذلك

وفي كتاب آخر

ذمّة الله وذمّة رسوله، إلا ما كان من حق قائم بعينه لمسلم أو معاهد، والله بذلك راع وكفيل، وكفى بالله وكيلا. وفي كتاب آخر : إن فلانا استوهب أمير المؤمنين ذنبك، وسأله أن يقبل توبتك وإنابتك، ويؤمّنك على دمك وشعرك وبشرك وأهلك وولدك ومالك وعقاراتك، على أن تسمع وتطيع وتشايع، وتوالي أولياءه، وتعادي أعداءه؛ فأجابه أمير المؤمنين إلى ذلك، لرأيه في العفو والصفح وما يحتسب في ذلك من الثواب والأجر، فأنت آمن بأمان الله على كذا لا تؤخذ بشيء مما سلف من أحداثك، ولا تتبع فيه بمكروه ما أقمت على الوفاء ولم تحدث حدثا تفسخ به أمانك وتجعل به سبيلا على نفسك، والله لك بذلك راع كفيل؛ وكفى به شهيدا. ألفاظ تقع في كتب العهود أمره بتقوى الله فيما أسند إليه وجعله بسبيله، وأن يؤثر الله وطاعته آخذا ومعطيا، وأعلمه أنّ الله سائله عمّا عمل به وجاز عليه، وأنّه خارج من دنياه خروجه من بطن أمّه إمّا مغبوطا محمودا، وإمّا مذموما مسلوبا، فليعتبر بمن كان قبله من الولاة الذين ولوا مثل ما ولي، أين صار بهم مرّ الليل والنهار، وما انقلبوا به من أعمالهم إلى قبورهم! ويتزوّد لنفسه الزاد النافع الباقي: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً «1» .

وفي فصل آخر

وفي فصل آخر : وقد ولّاك أمير المؤمنين ما ولّاك من أمور رعيّته، وأشركك فيما أشركك فيه من أمانته، ثقة بك، ورجاء لمتابعتك وإيثارك الحقّ وأهله، ورفضك الباطل وأهله؛ وعهد إليك في ذلك بما إن أخذت به أعانك الله وسدّدك، وإن خالفته خذلك وعاقبك. وفي الحج : فإنّ أمير المؤمنين قد اختارك من إقامة الحج لوفد الله وزور بيته، للأمر العظيم قدره، الشريف منزلته؛ فعليك بتقوى الله؛ وإيثار مراقبته، ولزوم الهدى المحمود والطريقة المثلى والسّيرة الجميلة التي تشبه حالك. فصل- فإن الله نزّه الإسلام عن كل قبيحة، وأكرمه عن كل رذيلة، ورفعه عن كل دنيّة، وشرّفه بكل فضيلة، وجعل سيماء أهله الوقار والسكينة. فصل- وإن أحقّ الناس بالازدياد في طاعته ومناصحته وأداء الأمانة في عمله من عظم حقّ الأمير عليه في الخاصّة بفضل الصنيعة من الأمير عنده، مع حق الله عليه في العامّة بحقّ الولاية. فصل- وكنت سيفا من سيوف الله، ونكلا «1» من أنكاله لأهل الشقاق، وشجى لمن ابتغى غير سبيل المؤمنين، قد أحكمتك التجارب وضرّستك الأمور، وفررت عن الذكاء وحلبت «2» الدهر أشطره. فصل- أنت ابن الحرّية والمروّة، ومن لا يلحقه عار أبوّة ولا بنوّة.

فصل- قد التمست مواجهتك بشكرك ووصف ما أجنّ «1» لك وأخلص من ودّك وأجلّ من قدرك وأعتدّ من إحسانك، فلفتني عن ذلك تعذّر الخلوة مع انقباض وحشمة. فصل- قد أغنى الله بكرمك عن ذريعة إليك؛ وما تنازعني نفسي إلى استعانة عليك إلا أبى ذلك حسن الظنّ بالله فيك، وتأميل نجح الرغبة إليك دون الشفعاء عندك. فصل- مثلك تقرّب إلى الله بالتواضع لنعمته، والإغاثة لمستغيثه، والعائدة «2» على راجيه بفضله. فصل- تبّا لمن يأتي رأيك! وقبحا لعزوب «3» عقلك، وأفن «4» تدبيرك! ما أبعد مذهبك في الخطأ، وأسوأ أثرك على السلطاه، وأقصر باعك عن النهوض! جزالة تعقدك، ومهانة تضرعك، وزهو يعلوك، ونخوة يشمخ لها عرنينك. لقد انصرف رأي أمير المؤمنين عنك، ودعوت له عتبك، وكشفت له عن قناع سترك، واجتررت إليك سخطته وعطفت نحوك موجدته، وكنت على نصيبك منه والضنّ بمنزلتك عنده أولى تقدّما وأقرب رشدا. والله الغنيّ الحميد. أصحاب السلطان ثلاثة: رجل يجعل الدنيا نصب عينه، ينصب فيها للخاصّة مكايده، ويرفع عن مصلحة العامّة همّته، يذهله عن التقوى الهوى، وتنسيه أيام القدرة العثرة، حتى تنصرم مدّته وتنقضي دولته، لم يرتهن بدنياه

وفي كتاب

شكرا ولا قدّم بها إلى معاده ذخرا. ورجل لا يحفل «1» مع صلاح الخاصّة ما دخل من الخلل في أمور العامّة، ولا مع وفور حظه ما أدخل النقص في حظ رعيته. ورجل حاول في ولايته إرضاء من ولي له وعليه، وأعانته النّية وخذلته الكفاية. وقد جمع الله لك الثقة والرضا ممن فوقك، والانقياد والمحبة ممن دونك، وأعاد إلى الناس بك عهد السلف الماضي وعمّر بك آثارهم، حتى كأنهم بك أحياء لم تخترمهم منيّة، وجميع لم تنصدع بينهم فرقة، فليهنئك أنّ من تقدّمك من أهل الفضل في السّيرة غير متقدّم لك، ومن معك مقصّر عنك، ومن دونك مقتف لأثرك. فلا زالت الأيام لك، ولا زالت النعم عنك، ولا انتقلت عرى الأمور وأزمّتها عن يدك. فصل- أبى طبع الزمان أن يسمح لنا بك، كما أبى ذلك في مثلك، فلم يزل حتى اعترض بمكروهه دونك، وكم من نعمة ذهلت عنها النفس حين أدبرت بخيرك، فإنّ تعلّق القلب بك على قدرك في مواهب الله وقدرها عندك. فصل- ولم تأت في جميع ما عدّدت من أياديك شيئا، وإن كان متناهيا إلى الغاية، مختارا كالأمنيّة، متجاوزا للاستحقاق، إلا وأنت فوقه والمأمول للزيادة فيه. وفي كتاب - إن كان ما خبّرني به فلان عن هزل فقد أحوجنا هزلك إلى الجدّ، ووقفنا موقف المعتذرين من غير ذنب، وإن كان عن حقيقة فقد ظهر لنا من ظلمك وتحريفك ما دلّ على زهدك منا في مثل الذي رغبنا منك فيه. فصل في كتاب العيد - كتابي إلى الأمير يوم كذا بعد خروجي فيه ومن قبلي من المسلمين إلى المصلّى وقضائنا ما أوجب الله علينا من صلاة العيد،

فصل في كتاب بيعة

ونحن بخير حال اجتمع عليها فريق من المسلمين في عيد من أعيادهم ومجمع من مجامعهم؛ وكان مخرجنا إلى المصلّى أفضل مخرج، ومنصرفنا عنه أفضل منصرف، بما وهب الله من سكون العامّة وهدوئها وألفتها، واحتشاد الجند والشاكريّة «1» بأحسن الزّيّ والهيئة، وأظهر السلاح والعدّة. فالحمد لله على كذا، وهنأ الله الأمير كذا. فصل- القلب قرين وله حليف حيرة، أنظر بعين كليلة وأحضر بقلب غائب: إلى ورود كتابك بما تعتزمه. فأما النوم فلو مثل لعيني لنفرت إلفا للسّهاد. فصل في كتاب بيعة - فبايعوا لأمير المؤمنين ولفلان بعده على اسم الله وبركته وصنع الله وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة منبسطة لها أكفّكم، منشرحة بها صدوركم، سليمة فيها أهواؤكم، شاكرين لله على ما وفّق له أمير المؤمنين. عدّد معاوية على الأحنف ذنوبا؛ فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين، لم تردّ الأمور على أعقابها؟ أما والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، وإنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا؛ ولئن مددت لنا بشبر من غدر، لنمدّنّ إليك باعا من ختر «2» ، ولئن شئت لتستصفينّ كدر قلوبنا بصفو حلمك؛ قال معاوية: إنّي أفعل. تقدّم رجل إلى سوّار، وكان سوّار له مبغضا، فقال سوّار في بعض ما يكلمه به: يا ابن اللّخناء «3» ! فقال: ذاك خصمي؛ فقال له الخصم: أعدني

الخطب

عليه «1» ، فقال له الرجل: خذ له بحقه وخذ لي بحقي؛ ففهم، وسأله أن يغفر له ما فرط منه إليه، ففعل. الأوزاعيّ قال: دخل خريم بن فاتك على معاوية، فنظر إلى ساقيه فقال: أيّ ساقين، لو كانتا على جارية عاتق «2» ! فقال له خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. الخطب تتبّعت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت أوائل أكثرها: «الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» . ووجدت في بعضها: «أوصيكم، عباد الله، بتقوى الله وأحثّكم على طاعته» . ووجدت في خطبة له بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس، إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم؛ إن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه؛ فليأخذ العبد لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت؛ والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار، ووجدت كلّ خطبة مفتاحها الحمد إلا خطبة العيد فإن مفتاحها التكبير. وتكبير الإمام قبل أن ينزل عن المنبر أربع عشرة تكبيرة.

خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه

خطبة «1» لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حدّثني أبو سهل قال: حدّثني الطّنافسيّ عن محمد بن فضيل قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن إسحاق عن عبد الله القرشيّ عن عبد الله بن عكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحده وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، والإلحاف بالمسألة؛ فإنّ الله أثنى على زكريّا وأهل بيته فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً «2» . ثم اعلموا أن الله قد ارتهن بحقّه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي. هذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه ولا يطفأ نوره، فصدّقوه وانتصحوه واستضيئوا منه ليوم الظّلمة. ثم اعلموا أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيّب علمه عنكم، فإن استطعتم ألّا ينقضي إلا وأنتم في عمل لله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله. فسابقوا في مهل؛ فإنّ قوما جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم، والوحى الوحى «3» والنجاء النجاء! فإنّ من ورائكم طالبا حثيثا مرّه، سريعا سيره. وفي غير هذه الرواية: أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم! قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدّموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسّعادة فيما بعد الموت. أين الجبّارون الذين بنوا المدائن وحصّنوها بالحوائط! قد صاروا تحت

خطبة لأبي بكر أيضا رضي الله عنه

الصّخر والآكام. خطبة «1» لأبي بكر أيضا رضي الله عنه رواها إبراهيم بن محمد من ولد أبي زيد القارىء. حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: إنّ أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك. فرفع الناس رؤوسهم؛ فقال: ما لكم يا معشر الناس! إنّكم لطعّانون عجلون، إنّ الملك إذا ملك زهّده الله فيما في يده، ورغّبه فيما في يدي غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويتسخّط الكثير، ويسأم الرخاء، وتنقطع عنه لذّة البهاء «2» ، لا يستعمل العبرة ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم القسيّ «3» والسّراب الخادع، جذل الظاهر، حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحا ظلّه «4» ، حاسبه الله فأشدّ حسابه وأقلّ عفوه. ألا إنّ الفقراء هم المرحومون، وخير الملوك من آمن بالله، وحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم. وإنكم اليوم على خلافة نبوّة، ومفرق محجّة، وسترون بعدي ملكا عضوضا، وأمّة شعاعا، ودما مفاحا «5» . فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة؛ يعفو لها الأثر، وتموت السّنن، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة. وليكن الإبرام بعد التشاور، والصّفقة بعد طول التناظر، أي بلادكم «6» خرسة فإن

خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم سقيفة بني ساعدة

الله سيفتح عليكم أقصاها كما فتح أدناها. خطبة «1» أبي بكر رضي الله عنه يوم سقيفة بني ساعدة أراد عمر الكلام، فقال له أبو بكر: على رسلك. نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرمهم أحسابا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسّهم رحما برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم، وقدّمنا في القرآن عليكم «2» ، فأنتم إخواننا في الدّين، وشر كاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدوّ؛ آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرا؛ نحن الأمراء، وأنتم الوزراء؛ لا تدين العرب إلا لهذا الحيّ من قريش، وأنتم محقوقون ألّا تنفسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم. خطبة «3» لأبي بكر رضي الله عنه الهيثم عن مجالد عن الشّعبيّ قال: لما بويع أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، صعد المنبر فنزل مرقاة «4» من مقعد النبيّ صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني وليت أمركم ولست بخيركم، ولكنه نزل القرآن وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. اعلموا أيها الناس أنّ أكيس الكيس التّقى، وأنّ أحمق الحمق الفجور، وأنّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقّه، وأضعفكم عندي القويّ حتى آخذ منه الحقّ، إنما أنا متّبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت

خطبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

فقوّموني. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. خطبة «1» لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ولما ولي عمر صعد المنبر وقال: ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلا لمجلس أبي بكر، ثم نزل عن مجلسه مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله. إنه لم يبلغ حقّ ذي حقّ أن يطاع في معصية الله. ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم: إن استغنيت عففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف تقرّم البهمة الأعرابية. القضم لا الخصم «2» . خطبة «3» لعثمان بن عفّان رضي الله عنه قال: ولما ولي عثمان صعد المنبر فقال: رحمهما الله، لو جلسا هذا المجلس ما كان بذلك من بأس، فجلس على ذروة المنبر فرماه الناس بأبصارهم، فقال: إن أوّل مركب صعب، وإن مع اليوم أيّاما، وما كنّا خطباء، وإن نعش لكم تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله تعالى.

خطبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه

خطبة «1» لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه خطب فقال: أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت «2» بوداع، وإنّ الآخرة قد أقبلت فأشرفت باطّلاع، وإن المضمار «3» اليوم وغدا السّباق. ألا وإنكم في أيام أمل «4» من ورائه أجل، فمن قصّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله. ألا فاعملوا لله في الرّغبة كما تعملون له في الرّهبة «5» . ألا وإنّي لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها. ألا وإنه من لم ينفعه الحقّ ضرّه الباطل «6» ، ومن لم يستقم به الهدى جار به الضلال، ألا وإنكم قد أمرتم بالظّعن «7» ، ودللتم على الزاد «8» ؛ وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. خطبة «9» عليّ عليه السلام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه أيها الناس، كتاب الله وسنّة نبيكم. لا يدّعي مدّع إلّا على نفسه. شغل

خطبة أيضا لعلي رضي الله عنه

من الجنّة والنار أمامه «1» ساع «2» نجا، وطالب يرجو، ومقصّر في النار: ثلاثة؛ واثنان: ملك طار بجناحيه، وبنيّ أخذ الله بيديه، لا سادس. هلك من اقتحم، وردي من هوى. اليمين والشّمال مضلّة، والوسطى الجادّة «3» : منهج عليه باقي الكتاب وآثار النبوّة. إن الله أدّب هذه الأمّة بأدبين: السّوط والسيف؛ فلا هوادة فيهما عند الإمام. فاستتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم؛ والتوبة من ورائكم. من أبدى صفحته للحق هلك «4» . قد كانت أمور ملتم عليّ فيها ميلة لم تكونوا عندي محمودين ولا مصيبين. والله أن لو أشاء أن أقول لقلت. عفا الله عمّا سلف. أنظروا، فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فارووا. حقّ وباطل، ولكلّ أهل. والله لئن أمّر الباطل لقديما فعل؛ ولئن أمّر «5» الحقّ لربّ ولعلّ. ما أدبر شيء فأقبل. خطبة «6» أيضا لعليّ رضي الله عنه خطب عليّ حين قتل عامله بالأنبار فقال في خطبته:

يا عجبا من جدّ هؤلاء في باطلهم وفشلكم عن حقّكم! فقبحا لكم وترحا «1» حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون. إن أمرتكم بالمسير إليهم في الحرّ قلتم: حمارّة «2» القيظ، أمهلنا حتى ينسلخ الحرّ، وإن أمرتكم بالمسير إليهم في الشتاء قلتم: أمهلنا حتى ينسلخ الشتاء هذا أوان قرّ «3» ؛ كلّ هذا فرارا من الحرّ والقرّ، فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباه الرجال ولا رجال! أحلام الأطفال وعقول ربّات الحجال «4» ؛ أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم! هل منهم أحد أشدّ لها مراسا «5» وأطول تجربة منّي؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين فهأنا الآن قد نيّفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع.

خطبة لمعاوية رحمه الله

خطبة «1» لمعاوية رحمه الله بلغني عن شعيب بن صفوان قال: خطب معاوية فقال: أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يعدّ فيه المحسن مسيئا، ويزداد الظالم فيه عتوّا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عمّا جهلنا، ولا نتخوّف قارعة حتى تحلّ بنا. فالناس أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلال حدّه ونضيض وفره «2» ؛ ومنهم المصلت لسيفه والمجلب بخيله ورجله والمعلن بشرّه، قد أشرط «3» نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب «4» يقوده أو منبر يفرعه «5» ، ولبئس المتجران تراهما لنفسك ثمنا ومما عند الله عوضا. ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا قد طامن «6» من شخصه وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية. ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة «7» في نفسه وانقطاع من سببه، فقصّر به الحال عن أمله، فتحلّى باسم القناعة وتزيّن بلباس الزّهّاد، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر فهم بين شريد

خطبة ليزيد بن معاوية بعد موت معاوية

نادّ «1» ، وخائف منقمع «2» ، وساكت مكعوم «3» ، وداع مخلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقيّة، وشملتهم الذّلّة، فهم في بحر أجاج «4» ، أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملّوا، وقهروا حتى ذلّوا، وقتلوا حتى قلّوا. فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة «5» الجلم، واتّعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم. خطبة «6» ليزيد بن معاوية بعد موت معاوية خطب فقال: إن معاوية كان حبلا من حبال الله، مدّه ما شاء أن يمدّه، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه؛ وكان دون من قبله وهو خير ممن بعده، ولا أزكّيه عند ربه، وقد صار إليه فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبه فبذنبه، وقد وليت الأمر بعده، ولست أعتذر من جهل ولا أشتغل بطلب علم. وعلى رسلكم «7» ! إذا كره الله أمرا غيرّه.

خطبة لعتبة بن أبي سفيان

خطبة لعتبة بن أبي سفيان أبو حاتم عن العتبيّ قال: إحتبست كتب معاوية حتى أرجف «1» أهل مصر بموته ثم ورد كتابه بسلامته، فصعد عتبة المنبر والكتاب في يده فقال: يا أهل مصر، قال طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرّماح وظبات السيوف حتى صرنا شجي في لهواتكم «2» ما تسيغنا حلوقكم، وأقذاء في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم. فحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدا، واسترخت عقد الباطل منكم حلّا، أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين السلطان، وخضتم الحقّ إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديث! فاربحوا أنفسكم إذا خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السارّ عنه والعهد القريب منه. واعلموا أنّ سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم؛ فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن؛ وأظهروا خيرا وإن أسررتم شرّا؛ فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون. وعلى الله نتوكّل وبه نستعين. خطبة «3» لعتبة أيضا وبهذا الإسناد أنّ عتبة خطب أهل مصر حين هاجوا فقال. يا أهل مصر، خفّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذمّ الباطل وأنتم تأتونه، كالحمار يحمل أسفارا أثقله حملها ولم ينفعه علمها. وإني والله لا

خطبة لعبد الله بن الزبير

أداوي أدواءكم بالسيف ما اكتفيت بالسّوط، ولا أبلغ السوط ما كفتني الدّرّة «1» ، ولا أبطىء عن الأولى إن لم تصلحوا عن الأخرى، ناجزا يناجز، ومن حذّر كمن بشّر فدعوا قال ويقول من قبل أن يقال فعل ويفعل؛ فإن هذا اليوم ليس فيه عقاب، ولا بعده عتاب. خطبة «2» لعبد الله بن الزّبير خطب عبد الله بن الزّبير حين قتل أخوه مصعب «3» فقال: الحمد لله الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء. إنه لن يذلّ من كان الحقّ معه وإن كان فردا، ولن يعزّ من كان أولياء الشيطان حزبه وإن كان معه الأنام. أتانا خبر من قبل العراق أجزعنا وأفرحنا: قتل مصعب رحمه الله. فأما الذي أحزننا من ذلك فإنّ لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة به ثم يرعوي بعدها ذوو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء. وأما الذي أفرحنا من ذلك فعلمنا أنّ قتله شهادة، وأن ذلك لنا وله الخيرة. ألا إن أهل العراق أهل الشقاق والنفاق باعوه بأقلّ ثمن كانوا يأخذونه به. إنا والله ما نموت حبجا «4» ولا نموت إلا قتلا، قعصا «5» بالرماح تحت ظلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان؛

خطبة زياد البتراء

والله إن قتل رجل منهم في جاهليّة ولا إسلام. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يبيد ذكره ولا يذلّ سلطانه فإن تقبل عليّ لا آخذها أخذ البطر الأشر، وإن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر «1» . ثم نزل. خطبة زياد البتراء «2» حدّثني عبد الرحمن عن الأصمعيّ عن أبي بكر بن أبي عاصم ببعضها، وحدّثني أبي عن الهيثم بن عديّ، قال: لما قدم زياد أميرا على البصرة فنظر إلى أبياتها، قال: ربّ فرح بإمارتي لن تنفعه، وكاره لها لن تضرّه؛ فدخل وعليه قباء أبيض ورداء صغير، فصعد المنبر، فخطب الناس خطبة بتراء: لم يصلّ فيها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان أوّل من خطبها، ثم قال: أما بعد، فقد قال معاوية ما قد علمتم، وشهدت الشهود بما قد سمعتم، وإنما كنت امرأ حفظ الله منه ما ضيّع الناس، ووصل ما قطعوا. ألا وإنّا قد ولينا وولينا الوالون، وسسنا وساسنا السائسون، وإنا وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدّة في غير عنف، ولين في غير ضعف. وايم «3» الله ما من كذبة أكبر شاهدا من كذبة إمام على منبر؛ فإذا سمعتموها منّي فاغتمزوها فيّ، واعلموا أنّ عندي أمثالها، وإذا رأيتموني آمر فيكم بالأمر فأنفذوه على أذلاله «4» . وايم الله إنّ لي

وقال في خطبة له أخرى

فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كلّ امرىء منكم أن يكون من صرعاي. وايم الله لآخذنّ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حتى تستقيم لي قناتكم، وحتى يقول القائل: انج سعد، فقد قتل سعيد «1» . فقام إليه عبد الله بن الأهتم التميميّ، فقال: أيها الأمير، أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب؛ فقال له: كذبت، ذاك نبيّ الله داود. ثم قام إليه الأحنف، فقال: إنما المرء بجدّه، والسيف بحدّه، والجواد بشدّه؛ وقد بلّغك جدّك أيها الأمير ما ترى؛ وإنما الحمد بعد البلاء، والثناء بعد العطاء، وإنا لا نثني حتى نبتلي. ثم قام إليه مرداس بن أديّة، فقال: قد سمعنا مقالتك أيّها الأمير، وإنّ خليل الله إبراهيم عليه السلام أدّى عن الله غير الذي أدّيته، قال الله تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2» ؛ وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر؛ فقال له: أسكت، فوالله ما أجد إلى ما أريد سبيلا، إلا أن أخوض إليه الباطل خوضا. ثم نزل. وقال في خطبة له أخرى «3» : حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسوّيها بالأرض هدما وإحراقا. إيّاي

خطبة للحجاج حين دخل البصرة

ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وإيّاي ودعوى الجاهليّة، فإني لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثا، وأحدثنا لكل ذنب عقوبة؛ فمن غرّق قوما غرّقته، ومن أحرق قوما أحرقته، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنته فيه حيّا؛ فكفّوا أيديكم وألسنتكم أكفّ عنكم. وقد كانت بيني وبين أقوام منكم أشياء قد جعلتها دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد، ومن كان مسيئا فلينزع. إنّي لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السّلّ من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره؛ فأعينوا على أنفسكم واتنفوا أمركم. خطبة «1» للحجاج حين دخل البصرة دخل وهو متقلّد سيفا متنكّب قوسا عربية، فعلا المنبر فقال: [وافر] أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «2» إنّ أمير المؤمنين نكب «3» عيدانه بين يديه، فوجدني أمرّها عودا وأصلبها

خطبة للحجاج أيضا

مكسرا، فوجّهني إليكم. ألا فوالله لأعصبنّكم «1» عصب السّلمة، ولألحونّكم «2» لحو العود ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل «3» ، حتى تستقيم لي قناتكم، وحتى يقول القائل: انج، سعد، فقد قتل سعيد «4» . ألا وإياي وهذه الشّفعاء «5» والزّرافات، فإنّي أوتى بأحد من الجالسين في زرافة إلا ضربت عنقه. هكذا حدّثنيه أحمد بن سعيد عن أبي عبيد في كتاب غريب الحديث. وقال لي غيره: هو إيّاي وهذه الشّفعاء والزّرافات. وقد فسّرت الحديث في كتابي المؤلّف في غريب الحديث. خطبة «6» للحجاج أيضا أرجف الناس بموت الحجّاج، فخطب فقال: إنّ طائفة من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نزغ الشيطان بينهم، فقالوا: مات الحجاج ومات الحجاج! فمه! وهل يرجو الحجّاج الخير إلا بعد الموت! والله ما يسرّني ألّا أموت وأنّ لي الدنيا وما فيها! وما رأيت الله رضي بالتخليد إلا لأهون خلقه عليه إبليس. ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي «7» ، فأعطاه ذلك إلا البقاء.

خطبة أخرى للحجاج حين أراد الحج

فما عسى أن يكون أيها الرجل! وكلكم ذلك الرجل!. كأنّي والله بكلّ حيّ منكم ميّتا، وبكل رطب يابسا، ونقل في ثياب أكفانه إلى ثلاث أذرع طولا في ذراع عرضا، وأكلت الأرض لحمه ومصّت صديده، وانصرف الحبيب من ولده يقسم الخبيث من ماله؛ إن الذين يعقلون يعلمون ما أقول، ثم نزل. خطبة «1» أخرى للحجاج حين أراد الحج خطب فقال: أيها الناس إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني هذا «2» ، وأوصيته بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار؛ إن رسول الله أوصى أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم؛ وإني أمرته ألّا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم. ألا وإنكم ستقولون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي، ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصّحابة! ألا وإنيّ معجّل لكم الجواب: لا أحسن الله لكم الخلافة، ثم نزل. خطبة «3» للحجاج أيضا خطب فقال في خطبته: سوطي سيفي، فنجاده «4» في عنقي، وقائمه في يدي، وذبابه قلادة لمن اغترّ بي! فقال الحسن: بؤسا لهذا! ما أغرّه بالله!. وحلف رجل بالطلاق أنّ الحجاج في النار، ثم أتى امرأته فمنعته نفسها؛ فأتى ابن سيرين «5» يستفتيه؛ فقال: يا ابن أخي، امض فكن مع أهلك، فإنّ

خطبة لعمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه:

الحجّاج إن لم يكن في النار لم يضرّك أن تزني. خطبة «1» لعمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: حدّثني أبو سهل عن إسحاق بن سليمان عن شعيب بن صفوان عن رجل من آل سعيد بن العاص، قال: كان آخر «2» خطبة خطب بها عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإنّ لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم جنّة عرضها السموات والأرض. ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم وخاف، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان؟ ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستكون من بعدكم للباقين كذلك، حتى تردّ إلى خير الوارثين؟ ثم إنكم في كل يوم تشيّعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه، حتى تغيبّوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير موسّد ولا ممهّد، قد فارق الأحباب وباشر التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، غنيّ عما ترك فقير إلى ما قدّم. فاتّقوا الله قبل انقضاء مواقيته ونزول الموت بكم! أما إني أقول هذا وما أعلم أنّ عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه. ثم رفع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله. خطبة لخالد بن عبد الله يوم عيد خطب فذكر الله وجلاله ثم قال: كنت كذلك ما شئت أن تكون، لا يعلم

خطبة للحجاج

كيف أنت إلا أنت، ثم ارتأيت أن تخلق الخلق، فماذا جئت به من عجائب صنعك، والكبير والصغير من خلقك، والظاهر والباطن من ذرّك: من صنوف أفواجه وأفراده وأزواجه؟ كيف أدمجت قوائم الذّرّة والبعوضة إلى ما هو أعظم من ذلك من الأشباح التي امتزجت بالأرواح؟. وخطب «1» يوما فسقطت جرادة على ثوبه فقال: سبحان من الجرادة من خلقه، أدمج قوائمها، وطوّقها «2» جناحها، ووشّى جلدها، وسلّطها على ما هو أعظم منها. خطبة للحجاج خطب فقال: أيها الناس، احفظوا فروجكم، وخذوا الأنفس بضميرها، فإنها أسوك «3» شيء إذا أعطيت، وأعصى شيء إذا سئلت. وإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله. خطبة «4» سليمان بن عبد الملك خطب فقال: إنّ الدار دار غرور ومنزل باطل، تضحك باكيا وتبكي ضاحكا، وتخيف آمنا وتؤمّن خائفا، وتفقر مثريا وتثري مقترا، ميّالة غرّارة لعّابة بأهلها. عباد الله، اتّخذوا كتاب الله إماما، وارتضوا به حكما، واجعلوه لكم قائدا، فإنه ناسخ لما كان قبله ولم ينسخه كتاب بعده. اعلموا، عباد الله، أنّ هذا القرآن يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفّس ظلام الليل إذا عسعس «5» .

خطبة يزيد بن الوليد بعد قتله الوليد

خطبة «1» يزيد بن الوليد بعد قتله الوليد حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، والله ما خرجت أشرا ولا بطرا «2» ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، وإني لظلوم لها إن لم يرحمني الله، ولكن خرجت غضبا لله ودينه، داعيا إلى الله وإلى سنّة نبيّه، لمّا هدمت معالم الهدى، وأطفىء نور أهل التقوى، وظهر الجبّار «3» العنيد، المستحلّ لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، الكافر بيوم الحساب، وإنه لابن عمّي في النّسب وكفيئي «4» في الحسب؛ فلمّا رأيت ذلك استخرت الله في أمره وسألته ألّا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، حتى أراح الله منه العباد، وطهرّ منه البلاد، بحوله وقوّته لا بحولي وقوّتي. أيها الناس، إنّ لكم عليّ ألّا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري «5» نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أعطيه زوجا ولا ولدا، ولا أنقله من بلد إلى بلد حتى أسدّ فقر ذلك البلد وخصاصة «6» أهله، فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه. ولا أجمّركم «7» في بعوثكم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكّم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن

خطبة أبي حمزة الخارجي

بلادهم وأقطع به نسلهم. ولكم عليّ إدرار العطاء في كل سنة والرزق في كل شهر، حتى يستوي بكم الحال فيكون أفضلكم كأدناكم. فإن أنا وفيت لكم فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكانفة «1» ، وإن لم أف لكم فلكم أن تخلعوني إلا أن تستتيبوني، فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحدا يقوم مقامي ممن يعرف بالصّلاح يعطيكم من نفسه مثل الذي أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه، فأنا أوّل من بايعه ودخل في طاعته. أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. فلما بويع مروان نبشه وصلبه. وكانوا يقرؤون في الكتب: يا مبذّر الكنوز ويا سجّادا بالأسحار، كانت ولايتك لهم رحمة وعليهم حجّة، أخذوك فصلبوك. خطبة «2» أبي حمزة الخارجيّ خطب أبو حمزة الخارجيّ بمكة فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بما هم أهله، ثم قال: وولي عثمان فسار ستّ سنين بسيرة صاحبيه وكان دونهما، ثم سار في الستّ الأواخر بما أحبط به الأوائل، ثم مضى لسبيله. وولي عليّ فلم يبلغ من الحقّ قصدا ولم يرفع له منارا، ثم مضى لسبيله، ثم ولي معاوية لعين رسول الله وابن لعينه، اتّخذ عباد الله خولا «3» ، ومال الله دولا، ودينه دغلا، ثم مضى لسبيله، فالعنوه لعنه الله. ثم ولي يزيد بن معاوية، يزيد الخمور، ويزيد القرود، ويزيد الفهود، الفاسق في بطنه والمأبون

خطبة لقطري الخارجي

في فرجه. ثم اقتصّهم خليفة خليفة. فلما انتهى إلى عمر بن عبد العزيز أعرض عن ذكره. ثم ذكر يزيد بن عبد الملك فقال: يأكل الحرام، ويلبس الحلّة بألف دينار، قد ضربت فيها الأبشار، وهتكت الأستار، حبابة عن يمينه وسلامة «1» عن يساره تغنّيانه، حتى إذا أخذ الشراب فيه كلّ مأخذ قدّ ثوبه ثم التفت إلى إحداهما فقال: ألا أطير؟ نعم! طر إلى النار. ثم ذكر أصحابه فقال: شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر «2» ، ينظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وجباههم، واستقلّوا ذلك في جنب الله، حتى إذا رأوا السّهام قد فوّقت «3» ، والرماح قد أشرعت، والسيوف قد انتضيت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، مضى الشابّ منهم قدما، حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضّبت محاسن وجهه بالدماء، فأسرعت إليه سباع الأرض وانحطّت إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله! وكم من كفّ زايلت معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله! ثم قال: أوّه أوّه «4» وبكى ثم نزل. خطبة «5» لقطريّ الخارجيّ ذكر فيها الذين قالوا: من أشدّ منّا قوّة، فقال: حملوا إلى قبورهم فلا

وفي خطبة ليوسف بن عمر

يدعون ركبانا، وأنزلوا «1» فلا يدعون ضيفانا، وجعلوا لهم من الضّريح أجنانا «2» ، ومن التراب أكفانا، ومن الرّفات جيرانا؛ فهم جيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما، إن أخصبوا لم يفرحوا، أو أقحطوا لم يقنطوا؛ جميع أوحاد، وجيرة أبعاد، لا يزورون ولا يزارون «3» . فاحذروا ما حذّركم الله، وانتفعوا بمواعظه واعتصموا بحبله. وفي خطبة «4» ليوسف بن عمر : اتقوا الله عباد الله! فكم من مؤمّل أملا لا يبلغه، وجامع مالا لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حقّ منعه، أصابه حراما ورّثه عدوّا، إحتمل إصره «5» وباء بوزره، وورد على ربّه آسفا لاهفا، قد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وفي خطبة «6» للحجاج : قال مالك بن دينار: سمعته على المنبر يقول: امرأ «7» زوّر عمله، امرأ حاسب نفسه، امرأ فكّر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه، وامرأ كان عند

خطبة للمنصور

هواه زاجرا، وعند همّه آمرا، أخذ بعنان قلبه كما يأخذ بخطام «1» جمله، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفّه. خطبة للمنصور «2» خطب المنصور بمكة فقال: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده وتبصيره، وخازنه على فيئه أعمل فيه بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جعلني عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليها أقفلني. فارغبوا إلى الله واسألوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم في كتابه، إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «3» أن يوفّقني للصّواب والرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم. خطبة لداود بن عليّ خطب فقال: أحرز لسان رأسه، اتّعظ امرؤ بغيره، اعتبر عاقل قبل أن يعتبر به، فأمسك الفضل من قوله وقدّم الفضل من عمله: ثم أخذ بقائم سيفه فقال: إنّ بكم داء هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، وما بعد الوعيد إلّا الإيقاع.

خطبة لداود بن علي أيضا

خطبة لداود بن عليّ أيضا لما قام أبو العبّاس في أوّل خلافته على المنبر قام بوجه كورقة المصحف فاستحيا فلم يتكلّم؛ فنهض داود بن عليّ حتّى صعد المنبر، فقال المنصور: فقلت في شيخنا وكبيرنا ويدعو إلى نفسه فلا يختلف عليه اثنان، فانتضيت سيفي وغطّيت ثوبي وقلت: إن فعل ناجزته؛ فلما رقي عتبا استقبل الناس بوجهه دون أبي العباس، ثم قال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدّم قوله فعله، ولأثر الفعال عليكم أجدى من تشقيق «1» المقال، وحسبكم بكتاب الله ممتثلا فيكم، وابن عمّ رسول الله خليفة عليكم. والله قسما برّا لا أريد إلّا الله به ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله أحقّ به من عليّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا، فليظنّ ظانّكم وليهمس هامسكم. قال أبو جعفر: ثم نزل وشمت «2» سيفي. خطبة «3» لأعرابيّ أمّا بعد، فإن الدنيا دار بلاء والآخرة دار بقاء، فخذوا أيها الناس لمقرّكم من ممرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا يخفى عليه أسراركم، ففي الدنيا أحييتم ولغيرها خلقتم. أقول قولي هذا. والمستغفر الله، والمدعوّ له الخليفة ثم الأمير جعفر بن سليمان.

خطبة المأمون يوم الجمعة

خطبة «1» المأمون يوم الجمعة الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه، ومستوجبه على خلقه، أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون. أوصيكم عباد الله بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده، والتنجّز لوعده، والخوف لوعيده؛ فإنه لا يسلم إلا من اتّقاه ورجاه، وعمل له وأرضاه. فاتّقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم، وترحّلوا «2» فقد جدّ بكم «3» ، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم، وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا، وعلموا أنّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا؛ فإنّ الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى؛ ما بين أحدكم وبين الجنّة والنار إلا الموت أن ينزل به. وإنّ غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة الواحدة لجديرة بقصر المدّة، وإنّ غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار لحريّ «4» بسرعة الأوبة، وإنّ قادما يحلّ بالفوز أو بالشّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة، فاتّقى عبد ربّه، ونصح نفسه، وقدّم توبته، وغلب شهوته، فإنّ أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكّل به: يزيّن له المعصية ليركبها، ويمنّيه التوبة ليسوّفها، حتى تهجم عليه منيّته أغفل ما يكون عنها. فيا لها حسرة على ذي غفلة: أن يكون عمره عليه حجّة، أو تؤدّيه أيامه «5» إلى شقوة! نسأل الله أن

وفي خطبة المأمون يوم الأضحى بعد التكبير الأول:

يجعلنا وإيّاكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعته غفله، ولا تحلّ به بعد الموت فزعة؛ إنه سميع الدعاء، وبيده الخير، وإنه فعّال لما يريد. وفي خطبة «1» المأمون يوم الأضحى بعد التكبير الأوّل: إنّ يومكم هذا يوم أبان الله فضله، وأوجب تشريفه، وعظّم حرمته، ووفّق له من خلقه صفوته، وابتلى فيه خليله، وفدى فيه من الذّبح نبيّه، وجعله خاتم الأيام المعلومات من العشر، ومتقدّم الأيام المعدودات من النّفر «2» ؛ يوم حرام من أيّام عظام، في شهر حرام، يوم الحجّ الأكبر، يوم دعا الله إلى مشهده، ونزل القرآن بتعظيمه، قال الله جلّ وعزّ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ «3» الآيات؛ فتقرّبوا إلى الله في هذا اليوم بذبائحكم، وعظّموا شعائر الله واجعلوها من طيّب أموالكم وبصحّة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ «4» ، ثم التكبير والتحميد والصلاة على النبيّ والوصية بالتقوى، ثم قال بعد ذكر الجنة والنار: عظم قدر الدارين وارتفع جزاء العملين «5» وطالت مدّة الفريقين. الله الله! فوالله إنّه الجدّ لا اللّعب، وإنه الحقّ لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والقصاص والصّراط ثم العقاب والثّواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز،

وفي خطبة المأمون يوم الفطر بعد التكبير الأول:

ومن هوى يومئذ فقد خاب. الخير كلّه في الجنّة، والشرّ كله في النار. وفي خطبة «1» المأمون يوم الفطر بعد التكبير الأوّل: إنّ يومكم هذا يوم عيد وسنّة وابتهال ورغبة، يوم ختم الله به صيام شهر رمضان وافتتح به حجّ بيته الحرام، فجعله خاتمة الشهر وأوّل أيام شهور الحجّ، وجعله معقّبا لمفروض صيامكم ومتنفّل قيامكم، أحلّ فيه الطعام لكم وحرّم فيه الصيام عليكم؛ فاطلبوا إلى الله حوائجكم واستغفروه لتفريطكم، فإنه يقال، لا كبير مع استغفار، ولا صغير مع إصرار. ثم التكبير والتحميد وذكر النبيّ عليه السلام والوصيّة بالتقوى. ثم قال: فاتقوا الله عباد الله وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم، لم يحتضر «2» الشكّ فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقل بعده عثرة، ولا تحظر قبله توبة. واعملوا أنه لا شيء قبله إلا دونه ولا شيء بعده إلا فوقه. ولا يعين على جزعه وعلزه «3» وكربه، ولا يعين على القبر وظلمته وضيقه ووحشته وهول مطلعه ومسألة ملائكته، إلا العمل الصالح الذي أمر الله به. فمن زلّت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرّجعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يقبل منه. فالله الله عباد الله! وكونوا قوما سألوا الرّجعة فأعطوها إذ منعها الذين حذّركم الله، واتّقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم. فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به، وما يملّ «4» في صحيفته الحافظة لما عليه وله؛

كلام من أرتج عليه

فقد حكى الله لكم ما قال المفرّطون عندها إذ طال إعراضهم عنها، قال: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ «1» الآية. وقال: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ «2» . ولست أنهاكم عن الدنيا بأعظم مما نهتكم الدنيا عن نفسها، فإنه كلّ ما لها ينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها. وأعظم مما رأته أعينكم من عجائبها ذمّ كتاب الله لها ونهي الله عنها، فإنه يقول: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ «3» وقال: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ «4» الآية. فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلموا أنّ قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذروا مصارعها، وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها، فأدركوا الجنّة بما تركوا منها. كلام من أرتجّ عليه حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا عيسى بن عمر قال: خطب أمير مرّة فانقطع فخجل، فبعث إلى قوم من القبائل عابوا ذلك ولفّهم «5» وفيهم يربوعيّ جلد، فقال: اخطبوا؛ فقام واحد فمرّ في الخطبة، حتى إذا بلغ أما بعد قال: أما بعد أما بعد، ولم يدر ما يقول، ثم قال: فإنّ امرأتي طالق ثلاثا، لم أرد أن أجمع اليوم فمنعتني. وخطب آخر، فلما بلغ أما بعد بقي ونظر فإذا

إنسان ينظر إليه، فقال: لعنك الله! ترى ما أنا فيه وتلمحني ببصرك أيضا!. قال: وقال أحدهم: رأيت القراقير «1» من السّفن تجري بيني وبين الناس. قال: وصعد اليربوعيّ فخطب فقال: أمّا بعد، فوالله ما أدري ما أقول ولا فيم أقمتموني، أقول ماذا؟ فقال بعضهم: قل في الزيت؛ فقال: الزيت مبارك، فكلوا منه وادّهنوا. قال: فهو قول الشّطّار «2» اليوم إذا قيل: لم فعلت ذا، فقل في شأن الزيت وفي حال الزيت. ولما أتى يزيد بن أبي سفيان الشام واليا لأبي بكر رضي الله عنه، خطب فأرتج «3» عليه، فعاد إلى الحمد لله فأرتج عليه، فعاد إلى الحمد لله ثم أرتج عليه، فقال: يا أهل الشّام، عسى الله أن يجعل من بعد عسر يسرا، ومن بعد عيّ بيانا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل. ثم نزل. فبلغ ذلك عمرو بن العاص فاستحسنه. صعد ثابت قطنة «4» منبرا بسجستان فحمد الله ثم أرتج عليه، فنزل وهو يقول: [طويل] فإلّا أكن فيكم خطيبا فإنّني ... بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب فقيل له: لو قلتها على المنبر كنت أخطب الناس. وارتج على عبد الله بن عامر بالبصرة يوم أضحى، فمكث ساعة ثم

قال: والله ولا أجمع عليكم عيّا ولؤما، من أخذ شاة من السّوق فهي له وثمنها عليّ. وارتج على خالد بن عبد الله القسريّ فقال: إنّ هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب «1» أحيانا، وربما طلب فأبى وكوبر فعسا «2» ، فالتّأنّي لمجيّه، أيسر من التّعاطي لأبّيه؛ وقد يختلط من الجريء جنانه «3» ، وينقطع من الذّرب «4» لسانه، فلا يبطره ذلك ولا يكسره؛ وسأعود إن شاء الله. وارتج على معن بن زائدة فضرب المنبر برجله ثم قال: فتى حروب لا فتى منابر. وكان عبد ربّه اليشكريّ عاملا لعيس بن موسى على المدائن، فصعد المنبر فحمد الله وارتج عليه فسكت، ثم قال: والله إني لأكون في بيتي فتجيء على لساني ألف كلمة، فإذا قمت على أعوادكم هذه جاء الشيطان فمحاها من صدري، ولقد كنت وما في الأيّام يوم أحبّ إليّ من يوم الجمعة، فصرت وما في الأيام يوم أبغض إليّ من يوم الجمعة، وما ذلك إلّا لخطبتكم هذه. صعد روح بن حاتم المنبر، فلما رأى جمع الناس حصر «5» ، فقال: نكّسوا

المنابر

رؤوسكم وغضّوا أبصاركم، فإنّ أوّل مركب صعب، وإذا يسّر الله فتح قفل تيسّر. ودعي رجل ليخطب في نكاح فحصر، فقال: لقّنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله؛ فقالت امرأة حضرت: ألهذا دعوناك! أماتك الله!. قال عبيد الله بن زياد: نعم الشيء الإمارة لولا قعقعة البريد والتشرّف للخطب. قيل لعبد الملك: عجّل عليك الشّيب؛ فقال: كيف لا يعجّل عليّ وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرّة أو مرتين. وولي رجل من بني هاشم يعرف بالدّندان بحر اليمامة، فلمّا صعد المنبر أرتج عليه، فقال: حيّا الله هذه الوجوه وجعلني فداءها، إنّي قد أمرت طائفي بالليل ألّا يرى أحدا إلا أتاني به ولو كنت أنا إياه ثم نزل. المنابر قال بعض المفسّرين في قول الله جلّ وعزّ: وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ «1» إنّه المنبر، وقال: الشاعر: [بسيط] لنا المساجد نبنيها ونعمرها ... وفي المنابر قعدان لنا ذلل فلا نقيل عليها حين نركبها ... ولا لهنّ لنا من معشر بدل وقال الكميت يذكر بني أميّة: [طويل] مصيب على الأعواد يوم ركوبه ... لما قال فيها، مخطىء حين ينزل يشبّهها «2» الأشباه وهي نصيبه ... له مشرب منها حرام ومأكل

وقال بعض المحدثين [طويل] فما منبر دنّسته باست أفكل «1» ... بزاك ولو طهّرته بابن طاهر ومرّ الأقيشر «2» بمطر بن ناجية اليربوعيّ حين غلب على الكوفة في أيام الضّحّاك بن قيس الشّاري ومطر يخطب، فقال: [كامل] إبني تميم ما لمنبر ملككم ... لا يستمرّ قعوده يتمرمر «3» إنّ المنابر أنكرت أشباهكم ... فادعوا خزيمد يستقرّ المنبر خلعوا أمير المؤمنين وبايعوا ... مطرا لعمرك بيعة لا تظهر واستخلفوا مطرا فكان كقائل ... بدل بعمرك من أميّة أعور خطب «4» قتيبة بن مسلم على منبر خراسان فسقط القضيب من يده، فتفاءل له عدوّه بالشرّ واغتمّ صديقه، فعرف ذلك قتيبة فقال: ليس الأمر على ما ظنّ العدوّ وخاف الصديق، ولكنه كما قال الشاعر: [طويل] فألقت عصاها واستقرّ «5» بها النوّى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وقال واثلة بن خليفة السّدوسيّ يهجو عبد الملك بن المهلّب «6» : [طويل]

صورة ما كتبه الناسخ بخطه في آخر النسخة الفتوغرافية

لقد صبرت للذّلّ أعواد منبر ... تقوم عليها في يديك قضيب بكى المنبر الغربيّ إذ قمت فوقه ... وكادت مسامير الحديد تذوب تم كتاب العلم وهو الكتاب الخامس من عيون الأخبار لابن قتيبة رحمه الله، ويتلوه في الكتاب السادس كتاب الزهد. والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين. صورة ما كتبه الناسخ بخطه في آخر النسخة الفتوغرافية كتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن علي الواعظ الجزريّ، وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة. وقال بعضهم: بني الإسلام على خمسة؛ التواضع عند الدولة، والعفو عند القدرة، والسخاء مع القلّة، والعطيّة من غير منّة، والنصيحة للعامّة. وقال بعض الشعراء في الصبر: [كامل] وإذا ابتليت بمحنة فالبس لها ... ثوب السكوت فإنّ ذلك أسلم لا تشكونّ إلى العباد فإنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم ويروى للشافعيّ رضي الله عنه: [وافر] نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا

وقد نهجو الزمان بغير جرم ... ولو نطق الزمان بنا هجانا فدنيانا التّصنّع والترائي ... ونحن به نخادع من يرانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ... ويأكل بعضنا بعضا عيانا

كتاب الزهد

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الزهد ما أوحى الله جل وعز الى انبيائه عليهم السلام حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا خلف بن تميم عن أبي عصمة الشاميّ عن ابن أخت وهب بن منبّه عن وهب قال: أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرمياء حين ظهرت فيهم المعاصي: أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أنّ لهم قلوبا ولا يفقهون، وأعينا ولا يبصرون، وآذانا ولا يسمعون، وأنّي تذكرت صلاح آبائهم، فعطّفني ذلك على أبنائهم، سلهم كيف وجدوا غبّ طاعتي، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي، وهل شقي أحد ممن أطاعني بطاعتي! إنّ الدوابّ تذكر أوطانها فتنزع إليها، وإنّ هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم، والتمسوا الكرامة من غير وجهها. أما أحبارهم فأنكروا حقّي؛ وأما قرّاؤهم فعبدوا غيري؛ وأمّا نسّاكهم فلم ينتفعوا بما علّموا من حكمتي؛ وأمّا ولاتهم فكذبوا عليّ وكذّبوا رسلي، خزنوا المكر في قلوبهم، وعوّدوا الكذب ألسنتهم؛ وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيّجنّ عليهم جنودا لا يفقهون ألسنتهم، ولا يعرفون وجوههم، ولا يرحمون بكاءهم؛ ولأبتعثنّ فيهم ملكا جبّارا قاسيا، له عساكر كقطع السحاب، ومواكب كأمثال العجاج، كأنّ خفقان راياته طيران النسور، وكأنّ حمل فرسانه كرّ

العقبان، يعيدون العمران خرابا، ويتركون القرى وحشة. فياويل إيلياء «1» وسكانها! كيف أذلّلهم للقتل، وأسلّط عليهم السّباء، وأعيد بعد لجب الأعراس صراخ الهام، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد شرفات القصور مساكن السباع، وبعد ضوء الشّرج رهج العجاج. ولأبدلنّ رجالهم بتلاوة الكتاب انتهار الأرباب، وبالعزّ الذلّ، وبالنعمة العبوديّة. ولأبدلنّ نساءهم بالطّيب التراب، وبالمشي على الزّرابيّ الخبب «2» ؛ ولأجعلنّ أجسادهم زبلا للأرض، وعظامهم ضاحية للشمس. وفي رواية أخرى: ولأدوسنّهم بألوان العذاب، حتى لو كان الكائن خاتما في يميني لوصلت الحرب إليه؛ ثم لآمرنّ السماء فلتكوننّ طبقا من حديد، والأرض فلتكوننّ سبيكة من نحاس، فإن أمطرت السماء وأنبتت الأرض شيئا في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم، ثم أحبسه في زمن الزرع وأرسله في زمن الحصاد، فإن زرعوا خلال ذلك شيئا سلّطت عليه الآفة، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة، فإن دعوني لم أجبهم، وإن سألوا لم أعطهم، وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرّعوا صرفت وجهي عنهم. حدّثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب: أنّ الله، عزّ وجلّ، أوحى إلى موسى بن منسى بن يوسف أن قل لقومك: إني بريء ممن سحر أو سحر له، أو تكهّن أو تكهّن له، أو تطيّر أو تطيّر له؛ من آمن بي صادقا فليتوكّل عليّ صادقا، فكفى بي مثيبا؛ ومن عدل عنيّ ووثق بغيري فإني

خير شريك أردّ عليه ما توسّل به إليّ، وأكله إلى من توكل عليه؛ ومن وكلته إلى غيري فليستعدّ للفتنة والبلاء. وحدّثني بهذا الإسناد قال: أوحى الله إلى داود عليه السلام في الزّبور: يا عبدي الشكور، إني قد وهبت لك الزّبور، وأتبعته بنصح منّي من أعين السطور، ومن الوحي المحفوظ المحجوب من وراء الستور، فاعبدني به في الأيام والليالي والشهور؛ وأحببني من كلّ قلبك، وحبّبني إلى خلقي، وأبغض من عبادي كلّ منافق جهول، قال: يا ربّ كيف أحبّبك إلى خلقك؟ قال: تذكّرهم آلائي. وبهذا الإسناد قال: أنزل الله على إبراهيم عليه السلام عشرين صحيفة، وكانت صحفه أمثالا وعبرا وتسبيحا وتمجيدا وتهليلا، فكان فيها؛ أيها الملك المسلّط المغرور المبتلى، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولتبني المدائن والحصون، ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردّها ولو كانت من كافر. وبهذا الإسناد أن الله تعالى قال لشعيا: قم في قومك أوح على لسانك؛ فلما قام شعيا أنطق الله لسانه بالوحي، فقال: يا سماء استمعي، يا أرض أنصتي، فأنصتت الأرض واستمعت السماء؛ فقال: إن الله يقول لكم: إني استقبلت بني إسرائيل بالكرامة وهم كالغنم الضائعة لا راعي لها، فآويت شاذّتها، وجمعت ضالتها، وجبرت كسيرها، وداويت مريضها، وأسمنت مهزولها؛ فبطرت فتناطحت، فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير. إنّ الحمار مما يتذكر آريّه «1» الذي شبع عليه

فيراجعه، وإنّ الثور مما يتذكر مرجه الذي يمن فيه فينتابه، وإنّ البعير مما يتذكر وطنه الذي نتج فيه فينزع إليه، وإنّ هؤلاء القوم لا يذكرون أنّي جاءهم الخير وهم أهل الألباب وأهل العقول، ليسوا بإبل ولا بقر ولا حمير، وإني ضارب لهم مثلا فاسمعوه: قل لهم: كيف ترون في أرض كانت زمانا من زمانها خربة مواتا لا حرث فيها، وكان لها ربّ قويّ حليم، فأحاط عليها سياجا وشيّد فيها قصرا وأنبط فيها نهرا وصنّف فيها غراسا من الزيتون والرّمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار، وولّى ذلك ذا رأي وهمّة حفيظا قويّا أمينا؛ فلما جاء إبّان إثمارها أثمرت خرّوبا، ما كنتم قائلين له ومشيرين عليه؟ قالوا: كنا نقول: بئست الأرض أرضك، ونشير عليه أن يقلع سياجها، ويهدم قصرها، ويدفن نهرها، ويحرق غرسها حتى تعود خربة مواتا لا عمران فيها؛ قال الله تعالى: قل لهم، إن السياج ذمتي، وإنّ القصر شريعتي، وإن النهر كتابي، وإن القيم نبيّ، وإن الغرس مثل لهم، والخرّوب أعمالهم الخبيثة؛ وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، يتفزّبون إليّ بذبح الغنم والبقر وليس ينالني اللحم ولا آكله. ويدعون أن يتقرّبوا إليّ بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التي حرّمتها ويشيّدون لي البيوت ويزوّقون لي المساجد؛ وأيّ حاجة بي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وإلى تزويق المساجد ولست أدخلها؛ إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبّح، وينجّسون أنفسهم وعقولهم وقلوبهم ويخرّبونها، يقولون: لو كان يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان يقدر على أن يفقّه قلوبنا لفقّهها. فاعمد إلى عودين يابسين فاكتب فيهما كتابا ثمّ ائت ناديهم أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تعودا عودا واحدا؛ فقال لهما ذلك، فاختلطا فصارا عودا واحدا، وصار الكتاب في طرفي العود كتابا واحدا: يا معشر القبائل، إن الله يقول لكم: إني قدرت على أن أفقّه العيدان اليابسة وعلى أن أؤلّف بينها؛ فكيف لا أقدر على أن أجمع

ألفتكم إن شئت؟ أم كيف لا أقدر على أن أؤلّف قلوبكم؟ يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلّينا فلم تنوّر صلاتنا وزكّينا فلم تزك زكاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئاب، في كلّ ذلك كلا يسمع منّا ولا يستجاب لنا؛ قال الله تبارك وتعالى: سلهم لم ذلك؟ وما الذي منعني أن أجيبهم؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين؟ ألأنّ خزائني فنيت؟ كيف ويداي مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء؟ أم لأن ذات يدي قلّت؟ كيف ومفاتيح الخير بيدي لا يفتحها ولا يغلقها غيري؟ أم لأنّ رحمتي ضاقت؟ كيف ورحمتي وسعت كلّ شيء؟ وإنما يتراحم بفضلها المتراحمون! أم لأنّ البخل يعتريني؟ كيف وأنا النفاح بالخيرات أجود من أعطى وأكرم من سئل؟ ولكن كيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ويتقوّون عليه بطعمة الحرام؟ كيف أنوّر صلاتهم وقلوبهم صاغية إليّ من يحادّني وينتهك محارمي؟ أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والعمل من ذلك بعيد؟ أم كيف تزكو صدقاتهم وهي من أموال غيرهم؟ إنما أجزي عليها المغصوبين. وإنّ من علامة رضاي رضا المساكين. قال وهب: وفيما ناجى الله به موسى عليه السلام: لا تعجبكما زينة ولا ما متّع به، ولا تمدّا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين. ولو شئت أن أزيّنكما بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أنّ مقدرته تعجز عما أوتيتما فعلت، ولكنّي أرغب بكما عن ذلك وأزويه «1» عنكما؛ وكذلك أفعل بأوليائي، إني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وإني لأحميهم عيشها وسلوتها «2» كما يجنب الراعي الشفيق إبله مبارك العرّ «3» ، وما ذاك لهوانهم عليّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي

سالما موفّرا لم يكلمه الطمع ولم يطبّعه «1» الهوى. واعلم أنه لن يتزيّن العباد بزينة أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا، إنما هي زينة الأبرار عندي، وأنقى ما تزيّن به العباد في عيني عليهم منها، لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم النحول والسجود، أولئك أوليائي حقا. فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلّل لهم قلبك ولسانك. واعلم أنه من أهان لي وليّا أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرّضني لنفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظنّ الذي يحاربني فيهم أنهم يقوم لي؟ أم يظنّ الذي يعاديني فيهم أنه يعجزني؟ أم يظنّ الذي يبادرني إليهم أنه يسبقني أو يفوتني؟ كيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، لا أكل نصرهم إلى غيري؟ وفي التوراة: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام بطور سيناء: يا موسى بن عمران صاحب جبل لبنان، أنت عبدي وأنا إلهك الديّان؛ لا تستذلّ الفقير، ولا تغبط الغنيّ بشيء يسير؛ وكن عند ذكري خاشعا، وعند تلاوة وحيي طائعا؛ أسمعني لذاذة التوراة بصوت حزين. وفيما أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: أنزلني من نفسك كهمّك، واجعلني ذخرك في معادك، وتقرّب إليّ بالنوافل أدنك، وتوكّل عليّ أكفك، ولا تولّ غيري فأخذلك؛ اصبر على البلاء، وارض بالقضاء، وكن كمسرّتي فيك، فإنّ مسرّتي أن أطاع، وأحي ذكري بلسانك، وليكن ودّي في قلبك؛ تيقّظ لي في ساعات الغفلة، وكن راهبا لي وراغبا إليّ. أمت قلبك بالخشية؛ راع الليل لتحرّي مسرّتي، واظمأ لي نهارك لليوم الذي عندي؛ نافس في

الخيرات جهدك. قم في الخليقة بعدلي، واحكم فيهم بنصيحتي، فقد أنزلت عليك شفاء وساوس ما في الصدور من مرض الشيطان، وجلاء الأبصار من غشاء الكلال؛ ولا تكن حلسا «1» كأنك مقبور وأنت حيّ تتنفّس. إكحل عينيك بملمول «2» الحزن إذا ضحك البطّالون. إبك على نفسك أيّام الحياة بكاء من قد ودّع الأهل وقلى الدنيا، وترك اللذات لأهلها، وارتفعت رغبته فيما عند إلهه. طوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين! ترجّ من الدنيا يوما فيوما، وارض بالبلغة، وليكفك منها الخشن. تذّوق مذاقة ما قد خلا أين طعمه! وما لم يأت أين لذّته! لو رأت عيناك ما أعددت لأوليائي لذاب قلبك وزهقت نفسك شوقا إليه. وفيما قال للحواريّين: بحقّ أقول لكم: إنّ شجر الأرض بمطر السماء تعيش وتزكو، وكذلك القلوب بنور الحكمة تبصر وتهتدي؛ بحقّ أقول لكم: إنه من ليس عليه دين أروح وأقلّ همّا ممن عليه دين وإن حسن قضاؤه، وكذلك من لم يعمل الخطيئة أروح وأقلّ همّا ممن عمل بها وإن حسنت توبته. إنّ الدابة تزداد على كثرة الرياضة خيرا، وقلوبكم لا تزداد على كثرة الموعظة إلا قسوة. إنّ الجسد إذا صلح كفاه القليل من الطعام، وإنّ القلب إذا صحّ كفاه القليل من الحكمة. كم من سراج قد أطفأته الريح، وكم من عابد قد أفسده العجب. يا بني إسرائيل، استمعوا قولي، فإنّ مثل من يستمع قولي ثم يعمل به مثل رجل حكيم أسس بنيانه على الصّفا «3» ، فمطرت السماء وسالت الأودية وضربته الرياح فثبت بنيانه ولم يخرّ، ومثل الذي يستمع قولي

ثم لا يعمل به مثل رجل سفيه أسّس بنيانه على الرمل، فمطرت السماء وسالت الأودية وهاجت الريح فضربته فسقط بنيانه. يا بني إسرائيل، ما يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها! وما يغني عن العالم كثرة العلم وهو لا يعمل به!. بحقّ أقول لكم: إنّ قائل الحكمة وسامعها شريكان، وأولاهما بها من حقّقها بعمله. بحقّ أقول لكم: لو وجدتم سراجا يتوقّد بالقطران في ليلة مظلمة لاستضأتم بنوره ولم يمنعكم منه نتن قطرانه، فكذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها عنده. بلغني عن محمد بن فضيل عن عمران بن سليم قال: بلغني أنّ عيسى ابن مريم قال لأصحابه: إن كنتم إخواني وأصحابي فوطّنوا أنفسكم على العداوة والبغضاء من الناس؛ إنكم لا تدركون ما تطلبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون ما تحبّون إلا بالصبر على ما تكرهون. إياكم والنّظرة، فإنها تزرع في القلب الشهوة. طوبى لمن كان بصره في قلبه ولم يكن قلبه في بصره! قال: وبلغني أنّ عيسى خرج على أصحابه وعليه جبّة من صوف وكساء وتبّان «1» حافيا مجزوز الرأس والشاربين باكيا شعثا مصفرّ اللون من الجوع يابس الشّفتين من العطش، طويل شعر الصدر والذراعين والساقين؛ فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلها، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلائي «2» في الشتاء مشارق الشمس، وطعامي ما تيسّر، وفاكهتي وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف، وشعاري الخوف، وجلسائي الزّمني «3» والمساكين، أصبح

وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء، وأنا طيّب النفس غنيّ مكثر، فمن أغنى وأربح مني!. وقرأت في بعض الكتب: عبدي! ما يزال ملك كريم قد صعد إليّ منك بعمل قبيح؛ أتقرّب إليك بالنّعم، وتتمقّت إليّ بالمعاصي؛ خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد. وفي التوراة: لعلّك يا إسرائيل إذا أنت خرجت من البرّيّة فدخلت الأرض المقدّسة، أرض بني آبائك إبراهيم وإسحاق، فإنها تفيض برّا وشعيرا ولبنا وعسلا، فورثت بيوتا بناها غيرك وعصرت كروما غرسها غيرك، فأكلت وشربت وتنعّمت بشحم لباب القمح، ضرّبت بيدك إلى صدرك ورمحت كما ترمح الدابّة برجليها، وقلت: بشدّتي وبقوّتي وبأسي ورثت هذه الأرض وغلبت أهلها، ونسيت نعمتي عليك! فأقذف الرّعب في صدرك إذا أنت لقيت عدوّك، وإذا هبّت الريح فتقعقع لها ورق الشجر انهزمت، فأقلّ رجالك، وأرمّل نساءك، وأيتّم أبناءك، وأجعل السماء عليك نحاسا والأرض حديدا، فلا السماء تمطر ولا الأرض تنبت، وأقلّ لك البركة حتى تجتمع نسوة عشر يختبزن في تنوّر واحد. بلغني عن عبد الرحمن المحاربيّ عن جعفر بن برقان قال: بلغني عن وهب بن منبّه قال: أجد في الكتاب أنّ قوما يتدّينون لغير العبادة، ويختلون «1» الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون مسوك «2» الضأن على قلوب الذئاب، ألسنتهم

أحلى من العسل وأنفسهم أمرّ من الصبر، أبى يغترّون! أم إياي يخادعون! أقسمت لأبعثنّ عليهم فتنة يعود الحليم فيها حيران. وقرأت في الإنجيل: «لا تجعلوا كنوزكم في الأرض حيث يفسدها السّوس والدود وحيث ينقب السراق، ولكن اجعلوا كنوزكم في السماء فإنه حيث تكون كنوزكم تكون قلوبكم. إنّ العين هي سراج الجسد فإذا كانت عينك صحيحة فإن جسدك كلّه مضيء. وإنه لا يستطيع أحد أن يعمل لربّين اثنين إلا أن يحبّ أحدهما ويبغض الآخر، ويوقّر أحدهما ويهين الآخر، فكذلك لا تستطيعون أن تعملوا لله وللمال. ولا يهمّنّكم ما تأكلون وما تشربون وما تلبسون، أليست النفس أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ أنظروا إلى طير السماء فإنهنّ لا يزرعن ولا يحصدن ولا يجمعن في الأهراء «1» ، وأبوكم الذي في السماء هو الذي يرزقهنّ، أفلستم أفضل منهنّ؟ وأيّكم الذي إذا جهد قدر أن يزيد في طوله ذراعا واحدا! فلم تهتمون باللباس؟ اعتبروا بسوس «2» البرّيّة فإنه لا يعمل ولا يغزل، أنا أقول: إنّ سليمان بوقاره «3» لم يستطع أن يلبس كواحدة منه؛ فإذا كان الله يلبس عشب الأرض الذي ينبت اليوم ويلقى في النار غدا أفلستم يا قليلي الإيمان أفضل منه؟ ولا نهتمّوا فتقولوا: ماذا نأكل وماذا نشرب وماذا نلبس، فإنه إنما يهتمّ لذلك ابن الدنيا؛ وإنّ أباكم الذي في السماء يعلم أنّ ذلك ينبغي لكم؛ فابدأوا فالتمسوا ملكوت الله وصدّيقيّته «4» ، فإنكم سوف تكفون. ولا يهمّنّكم ما في غد، فإنّ غدا مكتف بهمه، وحسب اليوم شرّه. وكما تدينون تدانون، وبالمكيال الذي

تكيلون يكال لكم. وكيف تبصر القذاة في عين أخيك ولا تبصر السارية في عينك؟ لا تعطوا الكلاب القدس، ولا تلقوا لؤلؤكم للخنازير. سلوا تعطوا، وابتغوا تجدوا، واستفتحوا يفتح لكم، وانظروا الذي تحبّون أن يأتي الناس إليكم فاتوا إليهم مثله. أدخلوا الباب الضيّق، فإنّ الباب والطريق إلى الهلكة عريضان، والذين يسلكونهما كثير. وما أضيق الباب والطريق اللذين يبلّغان إلى الحياة! والذين يسلكونهما قليل» . وقال له رجل: أتبعك حيث ذهبت؛ فقال له عيسى: للثعالب جحرة، ولطير السماء كنان، وليس لابن الإنسان مكان يسند فيه رأسه. وقال له رجل من الحواريّين: أتأذن لي أن أدفن أبي؟ فقال له: دع الموتى يدفنون موتاهم واتبعني. وقال للحواريّين: لا تتزوّدوا شيئا، فإنّ العائل محقوق أن يطعم قوته، وإني أرسلكم كالخرفان بين الذئاب، فكونوا حلماء كالحيّات وبلها كالحمام. وإذا دخلتم البيت فسلّموا على البيت، فإن كان ذلك البيت أهلا لسلامكم فليصبهم، وإن لم يكن أهلا لسلامكم فإنه يرجع إليكم. ومن لم يؤوكم ويسمع لقولكم، فإذا خرجتم من قريته فانفضوا الغبار عن أرجلكم. حدّثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب قال: كان فيما ناجى به عزير «1» ربّه: اللهمّ فإنّ لك من كلّ خلق خلقته خيرة اخترتها، وإنك اخترت من النبات الحبلة «2» ، ومن المواشي الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن

البيوت بيت إيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس، ومن جميع الخلائق آدم، ومن ولد آدم نوحا، ومن ولد نوح إبراهيم، ومن ولد إبراهيم إسماعيل وإسحاق، ومن ولد إسحاق إسرائيل؛ اللهمّ فاصبحت خيرتك قد تمّت ونفذت في كلّ ما اخترت إلا ما كان من ولد خليلك إبراهيم، فإنّهم أصبحوا أعبدا لأهل معصيتك وخولا لأعدائك، فما الذي سلّط علينا ذلك؟ أمن أجل خطايانا؟ فالخاطئون ولدونا، أو من أجل ضعفنا؟ فمن ضعف خلقنا؛ قال: فجاءني الملك فكلّمني، فبينما أنا كذلك سمعت صوتا هالني فنظرت، فإذا امرأة حاسرة عن رأسها، ناشرة شعرها، شاقّة جيبها، تلطم وجهها. وتصرخ بأعلى صوتها، وتحثو التراب على رأسها، فأقبلت عليها وتركت ما كنت فيه، فقلت لها: ما بالك أيتّها المرأة وما الذي دهاك؟ أخبريني خبرك، فقد أصابت المصائب غيرك؛ قالت: إليك عنّي أيها الرجل، فإن ربّي هو الذي أبكاني، ومصيبتي أعظم مما ترى؛ فقلت: فإنّ في الله عزاء من كلّ مصيبة، وخلفا من كلّ هالك، وعوضا من كلّ فائت، فإياه فاستعيني، وإلى نظره لك فانظري؛ قالت: إني كنت امرأة كثيرا مالي، عظيما شرفي، وكنت عاقرا لا ولد لي، وكنت عند بعل له نسوة معي وكلّهن ولد له غيري، فملن به لحبّ الولد فصرف وجهه عنّي، فحزنت وحزن أهلي وصديقي، فلما رأيت هواني عليه وسقوط منزلتي عنده، رغبت إلى ربي ودعوته فأجابني، واستوهبته غلاما فوهبه لي، فقرّت به عيني، وفرح أهلي، وعطّف الله به زوجي، وقطع عنّي ألسنة ضرائري، فربّيت غلاما لم تحمل أنثى مثله حسنا وجمالا ونضرة وتماما، فلما بلغ أشدّه وكمل به سروري خطبت عليه عظيمة قومي، وبذلت دونه مالي، وخرجت من خلعتي «1» ، وجمعت رجال قومي، فخرج يمشي بينهم حتّى دخل

بيته، فلما قعد على سريره، خرّ منه فاندقّت عنقه فمات ابني وضلّ عملي وبطل نصيبي وتلف مالي، فخرجت إلى هذه البرّيّة أبكيه فيها لا أريد أن أرى أثرا من آثاره ولا أحدا من أصحابه، ولن أبرح أبكيه حتّى ألحق به. قال عزير: اذكري ربّك وراجعيه، فقد أصابت المصائب غيرك أما رأيت هلاك إيلياء وهي سيّدة المدائن وأمّ القرى؟ أو ما رأيت مصيبة أهلها وهم الرجال؟ قالت: إي، رحمك الله! إن هذا ليس لي بعزاء وليست لي بشيء منه أسوة، إنما تبكي مدينة خربت، ولو تعمر عادت كما كانت، وإنما تبغي قوما وعدهم الله الكرّة على عدوّهم، وأنا أبكي على أمر قد فات، وعلى مصيبة لا أستقيلها «1» ؛ قال عزير: فإنه خلق لما صار إليه، وكلّ شيء خلق للدنيا فلابدّ أن سيفنى، أما رأيت مدينتنا أصبحت خاوية على عروشها بعد عمارتها، وأوحشت بعد أنسها وأثاثها؟ أو ما رأيت مسجدنا كيف غيّر حسنه، وهدم حصنه، وأطفىء نوره؟ أو ما رأيت عزّ أهلها كيف ذلّ، وشرفهم كيف خمل، ومجدهم كيف سقط، وفخرهم كيف بطل؟ أو ما رأيت كتاب الله كيف أحرق، ووليّ الله كيف رفع، وتابوت السكينة «2» كيف سبي؟ أو ما رأيت نساء الملوك وبناتهم في بطون الأسواق حاسرات عن السّوق والوجوه والأشعار؟ أو ما رأيت الأشياخ الذين على وجوههم النور والسكينة مقرّنين في الحبال والقطار «3» ! أو ما رأيت

الأحبار والرهبان مصفّدين في الإسار؟ أو ما رأيت أبناء موسى وهارون تضرب عليهم السّهام ويقتسمهم الأشرار، وولدان الملوك خدما للكفّار؟ أو ما رأيت قتلانا لم يوار أحدا منهم قبر، ولم يعهد أحد منهم إلى ولد؟ فالحكماء مبهوتون، والعلماء يموجون، والحلماء متحيّرون، وأهل الرأي ملقون بأيديهم مستسلمون. قال: فبينا أنا أكلّمها غشّى وجهها نور مثل شعاع الشمس حال بيني وبين النظر إليها، فخمّرت من شدّته وجهي ورددت يدي على بصري، ثم كشفت وجهي فإذا أنا لا أحسّها ولا أرى مكانها، وإذا مدينة قد رفعت لي حصينة بسورها وأبوابها، فلما نظرت إلى ذلك خررت صعقا، فجاءني الملك فأخذ بضبعيّ ونعّشني «1» وقال لي: ما أضعفك يا عزير! وقد زعمت أنّ بك من القوّة ما تخاطب به ربّك وتدلي بالعذر عن الخاطئين من بني إسرائيل؛ قال له عزير: مثل الذي رأيت وعاينت أضعفني وأذهب روحي؛ قال الملك: فإنّ المرأة التي كلّمتك هي المدينة التي تبكي عليها، صورّها الله لك في صورة أنثى فكلّمتك، فافقه عنها: أما قولها: أنها عمّرت زمانا من دهرها عاقرا لا ولد لها، فكذلك كانت إيلياء صعيدا من الأرض خرابا لا عمران فيها أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وأمّا قولها: إنّ الله وهب لها غلاما عند اليأس، فذلك حين أقبل الله عليها بالعمران فابتعث الله منها أنبياءه وأنزل كتابه. وأما قولها: إنه هلك ولدها حين كمل في سرورها، فذلك حين غيّر أهلها نعم الله وبدّلوها ولم يزدادوا بالنعم عليهم إلا جرأة على الله وفسادا، فغيّر الله ما بهم وسلّط عليهم عدوّهم حتى أفناهم، وقد شفّعك الله في قومك وكتابك ومدينتك، وسيعيدها الله عامرة كما رأيت: عليها حيطانها وأبوابها، وفيها مساجدها وأنهارها

وأشجارها. وحدّثني بهذا الإسناد قال: لما أمر الله إبراهيم أن يذبح إسحاق عليهما السلام ويجعله قربانا، أسرّ ذلك إلى خليل له يقال له: العازر؛ فقال له الصديق: إن الله لا يبتلي بمثل هذا مثلك، ولكنّه يريد أن يجرّبك ويختبرك، وقد علمت أنه لم يبتلك بهذا ليفتنك ولا ليضلّك ولا ليعنتك ولا لينقص به بصيرتك وإيمانك ويقينك، ولا يروّعنّك هذا ولا تسوءنّ بالله ظنّك، وإنما رفع الله اسمك في البلاء على جميع أهل البلاء، حتى كنت أعظمهم في نفسك وولدك، ليرفعك بقدر ذلك عليهم في المنازل والدرجات والفضائل؛ فليس لأهل الصبر في فضيلة الصبر إلا فضل صبرك، وليس لأهل الثواب في فضيلة الثواب إلا فضل ثوابك، وليس لأهل البلاء في جسيم شرف البلاء إلا فضل شرفك. وليس هذا من وجوه البلاء الذي يبتلي الله به أولياءه، لأن الله أكرم في نفسه وأعدل في حكمه وأعدل في عباده من أن يجعل ذبح الولد الطيّب بيد الوالد النبيّ المصطفى؛ وأنا أعوذ بالله من أن يكون هذا منّي حتما على الله أو ردّا لأمره أو سخطا لحكمه على عباده، ولكن هذا الرجاء فيه والظنّ به. فإن عزم ربك على ذلك فكن عبدا أحسن علمه بك؛ فإني أعلم أنه لم يعرّضك لهذا البلاء العظيم إلا لحسن علمه بك وبصدقك وبصبرك، ليجعلك للناس إماما؛ ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وحدّثني بهذا الإسناد أنّ يوسف عليه السلام لمّا لبث في السجن سبع سنين أرسل الله عز وجلّ إليه جبريل عليه السلام بالبشارة بخروجه، فقال له: أتعرفني أيها الصّدّيق؟ قال له يوسف: أرى صورة ظاهرة وروحا طيّبا لا يشبه أرواح الخاطئين؛ قال جبريل: أنا الروح الأمين، رسول ربّ العالمين؛ قال يوسف: فما أدخلك مداخل المذنبين وأنت سيد المرسلين ورأس المقرّبين؟

قال جبريل: أو لم تعلم أيها الصدّيق أنّ الله يطهّر البيوت بطهر النبيّين، وأن البقعة التي يحلّون بها هي أطهر الأرضين، وأنه قد طهّر بك السجن وما حوله يا ابن الطاهرين؛ قال يوسف: كيف تشبّهني بالصالحين، وتسمّيني بأسماء الصدّيقين، وتعدّني مع آبائي المخلصين، وأنا أسير بين هؤلاء المجرمين! قال جبريل: لم يكلم قلبك الجزع، ولم يغيّر خلقك البلاء، ولم يتعاظمك السّجن، ولم تطأ فراش سيّدك، ولم ينسك بلاء الدنيا بلاء الآخرة، ولم تنسك نفسك أباك ولا أبوك ربّك؛ وهذا الزمان الذي يفكّ الله به عنوّك «1» . ويعتق به رقّك، ويبيّن للناس فيه حكمتك، ويصدّق رؤياك وينصفك ممن ظلمك، ويجمع إليك أحبّتك، ويهب لك ملك مصر: يملّكك ملوكها، ويعبّد لك جبابرتها، ويذلّ لك أعزّتها، ويصغّر لك عظماءها، ويخدمك سوقتها، ويخوّلك خولها، ويرحم بك مساكينها، ويلقي لك المودّة والهيبة في قلوبهم، ويجعل لك اليد العليا عليهم والأثر الصالح فيهم، ويرى فرعون حلما يفزع منه ويأخذه له كرب شديد حتى يسهره ويذهب نومه، ويعمّي عليه تفسيره وعلى السحرة والكهنة ويعلّمك تأويله. وفي بعض الكتب: أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء: إذا أردت أن تسكن معي غدا في حظيرة القدس فكن في الدنيا وحيدا فريدا مهموما حزينا، كالطائر الوحدانيّ يظلّ بأرض الفلاة ويرد ماء العيون ويأكل من أطراف الشجر، فإذا جنّ عليه الليل أوى وحده استيحاشا من الطير واستئناسا بربّه جلّ وعزّ. لمّا قتل عبد الله بن الزّبير وجد الحجّاج فيما ترك صندوقا عليه فقال

الدعاء

حديد، فتعجّب منه وقال: إنّ في هذا شيئا، ففتحه، فإذا صندوق آخر عليه قفل ففتحه فإذا سفط «1» فيه درج، ففتحه فإذا صحيفة فيها: إذا كان الحديث خلفا «2» ، والميعاد خلفا، والمقنب «3» ألفا، وكان الولد غيظا، والشتاء قيظا؛ وغاض الكرام غيضا، وفاض اللئام فيضا، فأعنز عفرة «4» ، في جبل وعر، خير من ملك بني النّضر. حدّثني بذلك كعب الحبر. الدعاء «5» حدّثني أبو مسعود الدارميّ قال: حدّثنا جرير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال ربّكم، عزّ وجلّ، ثلاثة: واحدة لي، وواحدة لك يا ابن آدم، وواحدة بيني وبينك، فأما التي لي فتخلص لي لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فأحوج ما تكون إلى عملك أوفّيكه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الإجابة» . حدّثني عبدة بن عبد الله قال: أخبرنا زيد بن الحباب قال: حدّثنا معاوية قال: حدّثني أزهر بن سعيد عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة رضي الله عنها، ما كان يفتتح به رسول الله صلى الله عليه وسلم به صلاته في قيام الليل؟ قالت: كان يكبّر عشرا ويحمّد عشرا ويسبّح عشرا ويهلّل عشرا ويستغفر الله عشرا، ثم

يقول: «اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني» ، ويتعوّذ من ضيق المقام يوم القيامة. حدّثنا حسين بن حسن المروزيّ قال: حدّثنا الحفاف عن أبي الورقاء عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والأمر والليل والنهار وما يسكن فيهما لله ربّ العالمين وحده لا شريك له. اللهمّ اجعل أوّل هذا النهار صلاحا وأوسطه فلاحا وآخره نجاحا. اللهمّ إني أسألك خير الدنيا وخير الآخرة يا أرحم الراحمين» . حدّثنا إسحاق بن راهويه «1» قال: أخبرنا حسين بن عليّ الجعفيّ عن إسرائيل عن الحسين أنه كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا سقيا واسعة وادعة عامة نافعة غير ضارّة تعمّ بها حاضرنا وبادينا وتزيد بها في رزقنا وشكرنا. اللهمّ اجعله رزق إيمان وعطاء إيمان إنّ عطاءك لم يكن محظورا. اللهمّ أنزل علينا في أرضنا سكنها «2» ، وأنبت فيها زينتها ومرعاها» . روى الكلبيّ عن أبي صالح أنّ العباس قال يوم استسقى عمر رضي الله عنه: «اللهم إنه لم ينزل بلاء إلّا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيّك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة، فاسقنا الغيث» . فأرخت السماء شآبيب مثل الجبال بديمة «3» مطبقة.

وروى سفيان بن عيينة عن أبي عبد الملك قال: سمعت عمر بن عبد العزيز عشية عرفة بعرفة وهو يقول: اللهمّ زد في إحسان محسنهم، وراجع بمسيئهم إلى التوبة، وحط من ورائهم بالرحمة» . حدّثنا حسين بن حسين قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يقوم من مجلس إلا دعا بهؤلاء الدعوات: «اللهمّ اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به إلى رحمتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا، واجعل ذلك الوارث منا، وانصرنا على من ظلمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنّا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا» . بلغني عن يونس عن الأوزاعيّ عن حسّان بن عطيّة قال: كان شدّاد بن أوس في سفر، فنزلنا منزلا فقال لغلامه: إئتنا بالسفرة نعبث بها؛ فأنكرت منه، فقال ما تكلمت بكلمة مذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمّها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها عني، واحفظوا عني ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضّة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهمّ إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة في الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علّام الغيوب» . بلغني عن الوليد بن مسلم قال: حدّثنا أبو سلمة الدوسيّ عن سالم بن عبد الله قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ ارزقني عينين هطّالتين

تبكيان بذروف الدموع وتشفيانني من خشيتك قبل أن تكون الدموع دما والأضراس جمرا» . حدّثني أبو سفيان الغنويّ قال: حدّثنا عمر بن عمران قال: حدّثني الحارث بن عنبة عن العلاء بن كثير عن أبي الأسقع: أنه كان يحفظ من دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا موضع كلّ شكوى ويا شاهد كلّ نجوى بكلّ سبيل أنت مقيم ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى» . حدّثنا عبد الرحمن «1» عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: كان دعاء عيسى الذي يدعو به للمرضى والزّمنى والعميان والمجانين وغيرهم: «اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء وجبّار من في الأرض لا جبّار فيهما غيرك، وأنت حكم من في السماء وحكم من في الأرض لا حكم فيهما غيرك، وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك؛ قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء؛ أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم، إنك على كلّ شيء قدير» . قال وهب: هذا يقرأ للفزع على المجنون ويكتب له ويغسل ويسقى، فيبرأ بإذن الله أيّ ذلك شاء فعل. وحدثني أيضا بهذا الإسناد قال: كان من دعاء المسيح حين أخذه اليهود ليصلبوه بزعمهم فرفعه الله إليه: «اللهمّ أنت القريب في علّوك، المتعالي في دنوّك الرفيع على كل شيء من خلقك؛ أنت الذي نفذ بصرك في خلقك، وحسرت الأبصار دون النظر إليك وعشيت دونك، وشمخ بك العلوّ في النور؛

أنت الذي جلّيت الظّلم بنورك فتباركت اللهمّ خالق الخلق بقدرتك، مقدّر الأمور بحكمتك، مبتدع الخلق بعظمتك، القاضي في كل شيء بعلمك؛ أنت الذي خلقت سبعا في الهواء بكلماتك، مستويات الطباق مذعنات لطاعتك، سما بهنّ العلوّ بسلطانك، فأجبن وهنّ دخان من خوفك، فأتين طائعات بأمرك، فيهنّ ملائكتك يسبّحون قدسك بتقديسك، وجعلت فيهنّ نورا يجلو الظلام، وضياء أضوأ من شمس النهار، وجعلت فيهنّ مصابيح يهتدى بها في ظلمات البحر والبر ورجوما للشياطين، فتباركت اللهمّ في مفطور سمواتك، وفيما دحوت «1» من أرضك، دحوتها على الماء، فأذللت لها الماء المتظاهر «2» فذلّ لطاعتك وأذعن لأمرك، وخضع لقوّتك أمواج البحار، ففجّرت فيها بعد البحار الأنهار، وبعد الأنهار العيون الغزار والينابيع؛ ثم أخرجت منها الأشجار بالثمار، ثم جعلت على ظهرها الجبال أوتادا فأطاعتك أطوادها، فتباركت اللهمّ في صنعك، فمن يبلغ صفة قدرتك ومن ينعت نعتك. تنزل الغيث وتشىء السحاب، وتفكّ الرقاب وتقضي الحقّ وأنت خير الفاصلين. لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن يستغفرك كلّ خاطىء. لا إله إلا أنت إنما يخشاك من عبادك العلماء الأكياس. أشهد أنك لست بإله استحدثناه، ولا ربّ يبيد ذكره، ولا كان لك شركاء يقضون معك فندعوهم وندعك، ولا أعانك أحد على خلقك فنشكّ فيك. أشهد أنك أحد صمد لم تلد ولم يكن لك كفوا أحد، ولم تتّخذ صاحبة ولا ولدا. إجعل لي من أمري فرجا ومخرجا» ؛ قال وهب: وهذا الدعاء عوذة للشقيقة وغيرها من قولك: أشهد أنك لست بإله استحدثناه، إلى آخره.

حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن ابن عباس قال: «الإخلاص هكذا، وبسط يده اليمنى وأشار فإصبعه من يده اليسرى، والدعاء هكذا، وأشار براحتيه إلى السماء، والإبتهال هكذا، ورفع يديه فوق رأسه ظهورهما إلى وجهه» . حدّثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: كان داود إذا دعا في جوف الليل قال: «اللهمّ نامت العيون وغارت النجوم وأنت حيّ قيّوم اغفر لي ذنبي العظيم إنك عظيم وإنما يغفر العظيم العظيم، إليك رفعت رأسي عامر السماء نظر العبيد إلى أربابها. اللهمّ تساقطت القرى وأبطل ذكرها وأنت ذائب الدهر معدّ كرسيّ القضاء» . قال: وكان من تحميده: الحمد لله عدد قطر المطر، وورق الشجر، وتسبيح الملائكة، وعدد ما في البرّ والبحر. والحمد لله عدد أنفاس الخلق ولفظهم وطرفهم وظلالهم، وعدد ما عن أيمانهم وشمائلهم، وعدد ما قهره ملكه، ووسعه حفظه، وأحاطت به قدرته، وأحصاه علمه. والحمد لله عدد ما تجري به الرياح، وتحمله السحاب، وعدد ما يختلف به الليل والنهار، وتسير به الشمس والقمر والنجوم. والحمد لله عدد كلّ شيء أدركه بصره، ونفذ فيه علمه، وبلغ فيه لطفه. والحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنت بطيئا حين يدعوني. والحمد لله الذي أسأله فيعطيني، وإن كنت بخيلا حين يستقرضني. والحمد لله الذي أستعفيه فيعافيني، وإن كنت متعرّضا لما يهلكني. والحمد لله الذي حلم في الذنوب عن عقوبتي حتى كأني لا ذنب لي، ولو يؤاخذني لم يظلمني سيّدي. والحمد لله الذي أرجوه أيام حياتي، وهو ذخري في آخرتي، ولو رجوت غيره لا نقطع رجائي. والحمد لله الذي تمسي أبواب الملوك مغلقة دوني، وبابه مفتوح لكلّ ما شئت من حاجاتي بغير شفيع

فيقضيها لي. والحمد لله الذي أخلو به في كل حاجاتي، وأضع عنده سرّي في أيّ ساعة شئت من ساعاتي. والحمد لله الذي يتحبّب إليّ وهو عنّي غنيّ فربّي أحمد شيء عندي وأحقّه بحمدي» . وكان من دعاء يوسف: «يا عدّتي عند كربتي، ويا صاحبي في وحدتي، ويا غياثي عند شدّتي، ومفزعي عند فاقتي، ورجائي إذا انقطعت حيلتي، يا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، اجعل لي فرجا ومخرجا واقض حاجتي» . وكان بكّاء بني إسرائيل يقول: «اللهمّ لا تؤدّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، ولا تؤاخذني بتقصيري عن رضاك، عظيم خطيئتي فاغفر، ويسير عملي فتقبّل، كما شئت تكون مشيئتك، وإذا عزمت يمضي عزمك؛ فلا الذي أحسن استغنى عنك وعن عونك، ولا الذي أساء استبدّ بشيء يخرج به من قدرتك، فكيف لي بالنجاة ولا توجد إلا من قبلك! إله الأنبياء، ووليّ الأنبياء، وبديع مرتبة الكرامة، جديد لا يبلى، حفيظ لا ينسى؛ دائم لا يبيد، حيّ لا يموت، يقظان لا ينام؛ بل عرفتك، وبك اهتديت إليك، ولولا أنت لم أدر ما أنت؛ فتباركت وتعاليت» . قال الأزديّ حدّثت عن محمّد بن النضر الحارثيّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطعوا الشهادة على أهل القبلة فإنه من يقطع الشهادة عليهم فأنا منه بريء إنّ الله كتمنا ما يصنع بأهل القبلة» . وقال: «من علّم آية من كتاب الله أو كلمة من سنّة في دين الله حثا «1» الله له من الثواب حثوا» . قال: وقال الأوزاعيّ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إني أسألك

التوفيق لمحابّك من الأعمال وحسن الظنّ بك وصدق التوكل عليك» . محمد بن بشر العبدي قال: حدثنا بعض أشياخنا قال: اعتمر عليّ عليه السلام فرأى رجلا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه «1» المسائل، ولا يبرمه «2» إلحاح الملّحين؛ أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك؛ فقال عليّ: والذي نفسي بيده، لو قلتها وعليك ملء السموات والأرضين ذنوبا لغفر لك. دعا أعرابيّ عند الملتزم «3» فقال: اللهمّ إنّ لك عليّ حقوقا فتصدّق بها عليّ، وللناس قبلي تبعات فتحملها عنّي، وقد أوجبت لكلّ ضيف قرى، وأنا ضيفك فاجعل قراي الليلة الجنة. وقال آخر: اللهمّ إليك خرجت، وما عندك طلبت، فلا تحرمني خير ما عندك لشرّ ما عندي. اللهمّ وإن كنت لم ترحم نصبي وتعبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته. وقرأت في كتاب لشيخ لنا: اللهمّ إنه من تهيّأ أو تعبّأ، وأعدّ واستعدّ لوفادة مخلوق رجاء رفده وطلب نيله، فإن تهيّىء وتعبّىء وإعدادي واستعدادي لك رجاء رفدك وطلب نائلك الذي لا خطر «4» له ولا مثل. اللهمّ إني لم آتك بعمل صالح قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته، أتيتك مقرّا بالظّلم والإساءة على نفسي، أتيتك بأنّي لا حجّة لي، أرجو عظيم عفوك الذي عدت به على

الخطائين، ثم لم يمنعك عكوفهم على عظيم الجرم أن جدت لهم بالمغفرة. فيا من رحمته واسعة، وفضله عظيم اغفر الذنب العظيم. ابن عائشة قال: قال الفضل بن عيسى الرّقاشيّ: اللهمّ لا تدخلنا النار بعد إذا أسكنت قلوبنا توحيدك؛ وإني لأرجو ألّا تفعل، ولئن فعلت لتجمعنّ بيننا وبين قوم عاديناهم فيك. بلغني عن ابن عيينة عن أبي حازم قال: لأنامن أن أمنع الدعاء أخوف منّي من أن أمنع الإجابة. أنشدنا محمد بن عمر لبعض الشعراء في وصف دعوة «1» : [طويل] وسارية لم تسر في الأرض تبتغي ... محلّا ولم يقطع بها البيد قاطع سرت حيث لم تسر الرّكاب ولم تنخ ... لورد ولم يقصر لها القيد مانع تحلّ «2» وراء الليل والليل ساقط ... بأرواقه «3» فيه سمير وهاجع تفتّح أبواب السماء ودونها «4» ... إذا قرع الأبواب منهنّ قارع إذا أوفدت لم يردد الله وفدها «5» ... على أهلها والله راء وسامع وإني لأرجو الله حتّى كأنني «6» ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع وقال آخر: [طويل] وإني لأدعو الله والأمر ضيّق ... عليّ فما ينفكّ أن يتفرّجا

وربّ فتى سدّت عليه وجوهه ... أصاب له في دعوة الله مخرجا ونحوه: [بسيط] إذا تضايق أمرّ فانتظر فرجا ... فأضيق الأمر أدناه من الفرج أخذ لرجل من العرب مال فكتب إلى آخذه: يا هذا، إنّ الرجل ينام على الثّكل، ولا ينام على الحرب «1» ؛ فإمّا رددته، وإمّا عرضت اسمك على الله تعالى كلّ يوم وليلة خمس مرّات. قال عبد الرحمن بن زياد: اشتكى أبي فكتب إلى بكر بن عبد الله يسأله أن يدعو له، فكتب إليه بكر: يحقّ لمن عمل ذنبا لا عذر له فيه، وتوقّع موتا لا بدّ له منه، أن يكون وجلا مشفقا، سأدعو لك، ولست أرجو أن يستجاب لي بقوّة في عمل، ولا براءة من ذنب، والسلام. خلف بن تميم عن عبد الجبّار بن كليب قال: قال لنا إبراهيم بن أدهم حين عرض لنا السّبع: قولوا: اللهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام، واجعلنا في كنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، لا نهلك وأنت رجاؤنا؛ قال خلف: فما زلت أقولها مذ سمعتها، فما عرض لي قطّ لصّ ولا غيره. قال أعرابيّ: من أقام بأرضنا فليكثر من الإستغفار، فإنّ مع الإستغفار القطار «2» . بلغني عن موسى بن مسعود النّهديّ عن سفيان الثوريّ عن قدامة بن حماطة الضّبيّ عن خالد بن منجاب عن زياد بن حدير الأسديّ أن العلاء بن

الحضرميّ عبر إلى أهل دارين «1» البحر بهذه الكلمات: يا حليم يا حكيم يا عليّ يا عظيم. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا يزيد بن هارون عن هشام الدّستوائيّ «2» عن حمّاد عن إبراهيم عن عبد الله في الرجل إذا أراد الحاجة صلّى ركعتين ثم قال: اللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتملك ولا أملك، وتعلم ولا أعلم، إن كان هذا الأمر الذي أريده- وتسمّيه- خيرا لي في ديني وخيرا لي في معيشتي وخيرا لي فيما أبتغي فيه الخيرة فيسّره لي وبارك لي فيه، وإن كان شرّا لي في ديني وشرّا في معيشتي وشرّا لي فيما أبتغي فيه الخير فاصرفه عنيّ ويسّر لي الخير حيث كان ثم رضّني به. ومن دعاء بعض الصالحين: اللهمّ إنّي أستغفرك من كلّ ذنب قوي عليه بدني بعافيتك، ونالته يدي بفضل نعمتك، وانبسطت إليه بسعة رزقك، واحتجبت فيه عن الناس بسترك، واتّكلت فيه على أناتك وحلمك، وعوّلت فيه على كريم عفوك. الأوزاعيّ قال: من قال: «اللهمّ إني أستغفرك لما تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك لما وعدتك من نفسي وأخلفتك، وأستغفرك لما أردت به وجهك فخالطه ما ليس لك، وأستغفرك للنّعم التي أنعمت بها عليّ فتقوّيت

بها على معصيتك، واستغفرك لكلّ ذنب أذنبته أو معصية ارتكبتها» غفر الله له ولو كانت ذنوبه عدد ورق الشجر، ورمل عالج «1» ، وقطر السماء. وكان مطرّف يقول: اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ السلطان، ومن شرّ ما تجري به أقلامهم، وأعوذ بك أن أقول قولا حقّا فيه رضاك ألتمس به أحدا سواك، وأعوذ بك أن أتزيّن للناس بشيء يشينني، وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك، وأعوذ بك أن يكون أحد من خلقك أسعد بما علمتني منّي، وأعوذ بك أن أستغيث بمعصية لك من ضرّ يصيبني. الأزديّ عن عبد الواحد بن زيد قال: شهدت مالك بن دينار يوما وقيل له: يا أبا يحيى، أدع الله أن يسقينا، قال: تستبطئون المطر! قالوا: نعم؛ قال: إنني والله أستبطىء الحجارة. قال أبو كعب: سمعت عطاء السّلميّ يقول: اللهمّ ارحم غربتي في الدنيا، ومصرعي عند الموت، ووحدتي في القبور، ومقامي بين يديك. حدّثني محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا زهير عن زبيد الياميّ «2» عن مرّة عن عبد الله قال: إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، إنّ الله يؤتي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يؤتي الإيمان إلا من يحب. فمن ضنّ بالمال أن ينفقه، وهاب العدوّ أن يجاهده، والليل أن يكابده فليكثر من سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» .

المناجاة

ومن جامع الدعاء: اللهمّ أغنني بالعلم، وزيّني بالحلم، وجمّلني بالعافية، وأكرمني بالتقوى. وكان من دعاء أبي المجيب: اللهمّ لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع، اللهمّ اجعل خير عملي ما قارب أجلي. ومن دعاء عمرو بن عبيد: اللهمّ أغنني بالإفتقار إليك، ولا تغنني بالإستغناء عنك. ابن عائشة عن سلّام بن أبي مطيع قال: سمعت ابن عون يقول: كانوا يستحبّون من الدعاء: اللهمّ عبدك وابن عبدك وابن أمتك لعبيدك وإمائك، أنا الذليل ولا أنتصر، وأنا الظالم، ولا أعتذر، عملت سوءا وظلمت نفسي وإلّا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين، فما أتّمها ابن عون حتى أجهش «1» بالبكاء. ومن دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اجعلني لك سكّارا، لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطيعا، إليك مخبتا، لك أوّاها منيبا، ربّ تقبّل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبّت حجّتي واهد قلبي وسدّد لساني» . المناجاة حدّثني عبد الله بن هارون عن سليم بن منصور عن أبيه قال: كنت بالكوفة فخرجت في بعض الليل لحاجة وأنا أظنّ أنّي قد أصبحت فإذا عليّ ليل فملت إلى بعض أبوابها أنتظر الصبح فسمعت من وراء الباب كلام رجل وهو يقول: فوعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ

عصيتك وأنا بنكالك جاهل، ولا بعقوبتك ولا بنظرك مستخفّ، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ، فعصيتك بجهل وخالفتك بجهل، فالآن من عذابك من يستنقذني وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي، فواسوأتاه من الوقوف بين يديك غدا! إذا قيل للمخفّين: جوزوا وللمثقلين: حطّوا؛ أفمع المثقلين أحطّ أم مع المخفّين أجوز؟ ويلي! كلّما كبرت سنّي كثرت ذنوبي؛ ويلي! كلّما طال عمري كثرت معاصيّ فمن كم أتوب! وفي كم أعود! أما آن لي أن أستحي من ربّي؟ بلغني عن الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة قال: كان داود النبيّ عليه السلام يقول في مناجاته: سبحانك إلهي! إذا ذكرت خطيئتي ضاقت عليّ الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدّ إليّ روحي، سبحانك إلهي! أتيت أطبّاء عبادك ليداووا لي خطيئتي فكلّهم عليك يدلّني. حدّثني بعض أشياخنا قال: كان داود الطائيّ يقول: همّك عطّل عليّ الهموم، وحالف بيني وبين السّهاد، وشدّة الشفق من لقائك أوبق «1» عليّ الشهوات، ومنعني اللذّات، فأنا في طلبك أيها الكريم مطلوب. وقال: تعبّد ضيعم قائما حتى أقعد، وقاعدا حتى استلقى، ومستلقيا حتى أفحم؛ فلما جهد رفع بصره إلى السماء وقال: سبحانك، عجبا للخليقة كيف أرادت بك بدلا؟ وسبحانك، عجبا للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر غيرك؟ وعجبا للخليقة كيف أنست بسواك؟ عتبة أبو الوليد قال: كانت امرأة من التابعين تقول: سبحانك، ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله! سبحانك ما أوحش

باب البكاء

الطريق على من لم تكن أنيسه!. أبو الحسن قال: كان عروة بن الزّبير يقول في مناجاته بعد أن قطعت رجله ومات ابنه: كانوا أربعة، يعني بنيه، فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، وكنّ أربعا يعني يديه ورجليه، فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثا، ليمنك «1» لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت. وفي حديث بني إسرائيل أنّ يونس عليه السلام قال لجبريل عليه السلام: دلّني على أعبد أهل الأرض فدلّه على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه، وذهب ببصره، فسمعه يقول: متّعتني ما شئت، وسلبتني حين شئت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بارّ يا وصول. ومن دعاء بعض الصالحين: اللهمّ اقطع حوائجي من الدنيا بالشوق إلى لقائك، واجعل قرّة عيني في عبادتك، وارزقني غمّ خوف الوعيد، وشوق رجاء الموعود، أللهمّ إنك تعلم ما يصلحني في دنياي وآخرتي فكن بي خفيّا «2» . باب البكاء حدّثني أبو مسعود الدارميّ قال: حدّثني جدّي عن أنس بن مالك قال: جاء فتى من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنّ أمّي تكثر البكاء وأخاف على بصرها أن يذهب؛ فلو أتيتها فوعظتها! فذهب معه فدخل فقال لها في ذلك؛ فقالت: يا رسول الله، أرأيت إن ذهب بصري في الدنيا ثم صرت إلى الجنة، أيبدلني الله خيرا منه؟ قال: «نعم» قالت: فإن ذهب بصري في الدنيا

ثم صرت إلى النار؛ أفيعيد الله بصري؟ فقال النبيّ عليه السلام للفتى: «إنّ أمّك صدّيقة» . حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن الأوزاعيّ عن ثابت بن سعيد قال: ثلاث أعين لا تمسّها النار؛ عين حرست في سبيل الله؛ وعين سهرت في كتاب الله؛ وعين بكت في سواد الليل من خشية الله. أبو حاتم عن العتبيّ قال: حدّثنا أبو إبراهيم قال: لا يكون البكاء إلا من فضل فإذا اشتدّ الحزن ذهب البكاء، وأنشد: [كامل] فلئن بكيناه يحقّ لنا ... ولئن تركنا ذاك للكبر فلمثله جرت العيون دما ... ولمثله جمدت فلم تجر بلغني عن أبي الحارث الليث بن سعد عن أبيه عن ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: دخل يحيى بن زكريّا بيت المقدس وهو ابن ثماني حجج، فنظر إلى عبّاد بيت المقدس قد لبسوا مدارع الشّعر، وبرانس الصوف، ونظر إلى متهجّديهم أو قال مجتهديهم قد خرقوا التراقي، وسلكوا فيها السلاسل، وشدّوها إلى حنايا بيت المقدس، فهاله ذلك؛ فرجع إلى أبويه فمرّ بصبيان يلعبون فقالوا: يا يحيى، هلمّ فلنلعب قال: إني لم أخلق للّعب، فذلك قول الله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «1» فأتى أبويه فسألهما أن يدرّعاه الشّعر ففعلا، ثم رجع إلى بيت المقدس فكان يخدمه نهارا ويصيح فيه ليلا، حتى أتت له خمس عشرة سنة، وأتاه الخوف فساح ولزم أطراف الأرض وغيران «2» الشّعاب، وخرج أبواه في طلبه فوجداه

حين نزلا من جبال التّيه على بحيرة الأردنّ وقد قعد على شفير البحيرة وأنقع قدميه في الماء، وقد كاد العطش يذبحه وهو يقول: وعزّتك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك! فسأله أبواه أن يأكل قرصا كان معهما من شعير، ويشرب من الماء ففعل وكفّر عن يمينه فمدح بالبرّ؛ قال الله عز وجل: وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا «1» وردّه أبواه إلى بيت المقدس، فكان إذا قام في صلاته بكى، ويبكي زكريّا لبكائه حتى يغمى عليه، فلم يزل كذلك حتى خرقت دموعه لحم خدّيه، وبدت أضراسه، فقالت له أمه: يا يحيى، لو أذنت لي اتخذت لك لبدا «2» ليواري إضراسك عن الناظرين؛ قال: أنت وذاك، فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خدّيه، فكان إذا بكى استنقعت دموعه في القطعتين فتقوم إليه أمّه فتعصرهما بيديها، فكان إذا نظر إلى دموعه تجري على ذراعي أمّه قال: اللهمّ، هذه دموعي وهذه أمّي وأنا عبدك وأنت أرحم الراحمين. بلغني عن أبي معاوية عن أبي إسحاق الخميسيّ قال: كان يزيد الرّقاشيّ يقول: ويحك يا يزيد! من يصوم عنك! من يصلّي عنك! ومن ذا يترضّى لك ربّك من بعدك! ثم يقول: يا معشر من الموت موعده، والقبر بيته ألا تبكون؟ قال: فكان يبكي حتى تسقط أشفار «3» عينيه. بلغني عن محمّد بن فضيل عن العلاء بن المسيّب عن الحسن قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيله وقطرة دمع في

جوف الليل من خشيته، وما من جرعة أحبّ إلى الله من جرعة مصيبة موجعة ردّها بصبر وحسن عزاؤه، وجرعة غيظ كظم عليها» . معتمر بن سليمان عن رجل قال: كان في وجنتي ابن عباس خطّان من أثر الدموع. حدّثني محمّد بن داود عن سعيد بن نصير قال: حدّثنا سيّار عن جعفر قال: كنت إذا أحسست من قلبي بقسوة أتيت محمد بن واسع فنظرت إليه نظرة: قال: وكنت إذا رأيت وجهه حسبته وجه ثكلى. وكان يقال: أخوك من وعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه. تكلّم الحسن يوما حتى أبكى من حوله فقال: عجيج «1» كعجيج النساء ولا عزم، وخدعة كخدعة إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون. أبو عاصم قال: فقد مالك بن دينار مصحفه في مجلسه؛ فنظر إليهم كلّهم يبكون؛ فقال: كلّكم يبكي! فمن سرق المصحف؟. قال عبد العزيز بن مرزوق: الكمد أبقى للحزن؛ وكانت له شعيرات في مقدّم صدغه فإذا رقّ نتفها أو مدّها إلى فوق فتقلّص دمعه. قيل لغالب بن عبيد الله: إنا نخاف على عينك العمى من طول البكاء؛ فقال: هو لها شهادة؛ قال بعض الشعراء: [طويل] سأبكيك حتى تنفد العين ماءها ... ويشفي منّي الدمع ما أتوجّع وقال بعض الكتّاب في مثله: [سريع] إبك فمن أنفع ما في البكا ... أنّه للأحزان تسهيل

وهو إذا أنت تأمّلته ... حزن على الخدّين محلول قيل لعفيرة العابدة: ألا تسأمين من طول البكاء؟ فبكت ثم قالت: كيف يسأم ذو داء من شيء يرجو أن يكون له فيه من دائه شفاء؟ قال ابن أبي الحواريّ: رأيت أبا سليمان الدارانيّ يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: إنما أبكي لذلك الغمّ الذي ليس فيه فرح، وذلك الأمد الذي ليس له انقطاع. قال بعضهم: أتيت الشام، فمررت بدير حرملة، وبه راهب كأنّ عينيه عدلا مزاد «1» ؛ فقلت؛ ما يبكيك؟ فقال: يا مسلم، أبكي على ما فرّطت فيه من عمري، وعلى يوم مضى من أجلي لم يتبيّن فيه عملي. قال: ثم مررت بعد ذلك فسألت عنه؛ فقالوا: أسلم وغزا فقتل في بلاد الروم. أشعث قال: دخلت على يزيد الرّقاشيّ فقال لي: يا أشعث، تعالى حتى نبكي على الماء البارد في يوم الظمأ، ثم قال: والهفاه! سبقني العابدون وقطع بي؛ وكان قد صام ثلاثين أو أربعين سنة. زيد الحميريّ قال: قلت لثوبان الراهب: أخبرني عن لبس النصارى هذا السواد، ما المعنى فيه؟ قال: هو أشبه بلباس أهل المصائب؛ قال: فقلت: وكلّكم معشر الرهبان قد أصيب بمصيبة؟ فقال: يرحمك الله! وأيّ مصيبة أعظم من مصائب الذنوب على أهلها؟ قال زيد: فلا أذكر قوله ذلك إلا أبكاني. ابن أبي الحواريّ قال: دخلت على أبي سليمان وهو يبكي؛ فقلت: ما

التهجد

يبكيك؟ قال: يا أحمد، إنه إذا جنّ الليل وهدأت العيون وأنس كلّ خليل بخليله، فرش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم يسمع لها وقع على أقدامهم، وقد أشرف الجليل عليهم فقال: بعيني من تلذّذ بكلامي واستراح إليّ، فما هذا البكاء الذي أراه منكم؟ هل أخبركم أحد أنّ حبيبا يعذّب أحباءه؟ أم كيف أبيّت قوما، وعند البيات أجدهم وقوفا يتملّقونني! فبي حلفت أن أكشف لهم يوم القيامة عن وجهي ينظرون إليّ. قالت خنساء: كنت أبكي لصخر من القتل، فأنا أبكي له اليوم من النار. قال عمر بن ذرّ لأبيه: يا أبت، مالك إذا تكلّمت أبكيت الناس، وإذا تكلّم غيرك لم يبكهم؟ فقال: يا بنيّ، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة. وفي بعض ما أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه: هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينك الدموع، وادعني، فإني قريب. وكان عمر يقول: استغزروا العيون بالتذكّر. التهجد حدّثنا حسين بن حسن المروزيّ قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرني معمر والأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير (1) عن أبي سلمة عن أبي زمعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت عند حجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فكنت أسمع، إذا قام من الليل، «سبحان الله ربّ العالمين» الهويّ «1» من الليل، ثم يقول:

«سبحان الله وبحمده» الهويّ. حدثنا حسين قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورّمت قدماه؛ فقيل: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؛ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا؟» . حدّثنا حسين قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا حمّاد بن سلمة عن ثابت البنانيّ عن مطرّف بن عبد الله عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي ولجوفه أزير كأزيز المرجل. بلغني عن رباح عن معتمر عن رجل قد سمّاه قال: قال يزيد الرّقاشيّ: إذا أنا نمت ثم استيقظت ثم نمت فلا نامت عيناي، وعلى الماء البارد السلام. يعني بالنهار. وروى جرير عن عطاء بن السائب قال: قال عبيدة بن هلال الثّقفي: لا يشهد عليّ ليل بنوم ولا شمس بإفطار؛ فبلغ ذلك عمر فأقسم عليه ليفطرنّ العيدين. وروى حمّاد بن سلمة عن أبي جعفر الخطميّ عن جدّه عمير بن حبيب قال: كان يقول لأهله: يآهلاه، الدّلجة الدّلجة، إنه من يسبق إلى الماء يظمأ؛ يآهلا، الدّلجة الدّلجة، إنه من يسبق إلى الظلّ يضحى. قال أبو سليمان الدارانيّ: أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء. خرج عيسى عليه السلام على الحواريّين، وعليهم العباء «1» وعلى

وجوههم النور، فقال: يا أبناء الآخرة، ما تنعّم المتنعّمون إلا بفضل نعيمكم. وقيل للحسن: ما بال المتهجّدين من أحسن الناس وجوها؟ فقال: إنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره. حصين بن عبد الرحمن عن إبراهيم قال: كان رجل يقال له همام يقول: اللهمّ اشفني من النوم باليسير، وارزقني سهرا في طاعتك. وكان يصبح وجمّته «1» مرجّلة؛ فيقول بعضهم لبعض: إن جمّة همام تخبركم أنه لم يتوسّدها الليلة. قال عبد الله بن داود: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه. وكان بعضهم يحيي الليل، فإذا نظر إلى الفجر قال: «عند الصباح يحمد القوم السّرى» «2» . حدّثنا حسين بن حسن قال: أخذ الفضيل بن عياض بيدي ثم قال: يا حسين، يقول الله: كذب من ادّعى محبتي وإذا أجنّه الليل نام عني، أليس كلّ حبيب يحبّ خلوة حبيبه؟ هأنذا مطّلع على أحبّائي، إذا أجنّهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثّلت نفسي بين أعينهم، فخاطبوني على المشاهدة وكلّموني على الحضور. الوليد بن مسلم قال: حدّثني عبد الرحمن بن يزيد قال: كنّا نقاريء «3» عطاء الخراسانيّ فكان يحيى الليل صلاة، فإذا مضى من الليل ثلثه أو أكثر نادانا ونحن في فسطاطنا: يا عبد الرحمن بن يزيد، ويا يزيد بن يزيد، ويا

هشام بن الغازي، قوموا فتوضّأوا وصلّوا. فإنّ قيام هذا الليل وصيام هذا النهار أيسر من شرب الصديد ومن مقطّعات الحديد؛ فالوحا الوحا ثم النجاء النجاء؛ ويقبل على صلاته. مالك بن مغول عن رجل من جعفيّ «1» عن السديّ عن أبي أراكة قال: صلّى عليّ الغداة ثم جلس حتى ارتفعت الشمس كأنّ عليه كآبة، ثم قال: والله، لقد رأيت أثرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى أحدا يشبههم، والله إن كانوا ليصبحون شعثا غبرا صفرا، بين أعينهم مثل ركب المعزى، قد باتوا يتلون كتاب الله، يراوحون بين أقدامهم وجباههم؛ إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم ريح، وانهملت أعينهم حتى تبلّ ثيابهم، وكأنهم، والله، باتوا غافلين. يريد أنهم يستقلّون ذلك. المحاربيّ عن الإفريقيّ قال: حدّثنا أبو علقمة عن أبي هريرة قال: إنّ أهل السماء ليرون بيوت أهل الذكر تضيء لهم كما تضيء الكواكب لأهل الأرض. يعلى بن عبيد عن محمّد بن عون عن إبراهيم بن عيسى عن عبد الله بن عيسى قال: كونوا ينا بيع العلم، مفاتيح الهدى، أحلاس «2» البيوت، جدد القلوب، خلقان الثياب، سرج الليل، تعرفوا في أهل السماء، وتخفوا في أهل الأرض.

الموت

حدّثني محمد بن داود قال: حدثنا أبو الربيع الزّهرانيّ قال: حدّثنا أبو عوانة عن المغيرة عن إبراهيم: في الرجل يرى الضوء بالليل؛ قال: هو من الشيطان، لو كان هذا فضلا لأوثر به أهل بدر. الموت حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثني عيسى بن ميمون عن محمد بن كعب قال: نظرت إلى عمر بن عبد العزيز فأدمت النظر إليه؛ قال: ما تنظر يا محمد؟ قلت: أنظر إلى ما ابيضّ من شعرك، ونحل من جسمك، وتغيّر من لونك؛ فقال: أما والله لو رأيتني في القبر بعد ثالثة؛ وقد سالت حدقتاي على وجنتيّ، وسال منخراي صديدا ودودا، لكنت أشدّ نكرة «1» . وقال الأصمعيّ: دخلت بعض الجبابين «2» ، فإذا أنا بجارية ما أحسبها أتت عليها عشر سنين، وهي تقول: [متقارب] عدمت الحياة ولا نلتها ... إذا كنت في القبر قد ألحدوكا وكيف أدوق لذيذ الكرى ... وأنت بيمناك قد وسّدوكا قال الأزديّ: بلغني أنّ داود الطائيّ مرّ بامرأة تبكي عند قبر وهي تقول: يا أخاه! ليت شعري: [سريع] بأيّ خدّيك تبدّى البلى ... وأيّ عينيك إذا سالا فصعق مكانه ثم تعبّد. حدّثني محمد بن مرزوق قال: حدّثنا محمد بن نصر المعلّم قال:

حدّثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار أنه قال: [متقارب] أتيت القبور فناديتهن ... ن أين المعظم والمحتقر؟ وأين المدلّ بسلطانه؟ ... وأين المزكّي إذا ما افتخر؟ قال: فنوديت من بينها ولا أرى أحدا: [متقارب] تفانوا جميعا فما مخبر ... وماتوا جميعا ومات الخبر تروح وتغدو بنات الثرى «1» ... فتمحو محاسن تلك الصّور فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك فيما ترى معتبر؟ قال: فرجعت وأنا أبكي. بلغني أنه قرىء على قبر بالشام: [بسيط] باتوا على قلل «2» الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم ... فأسكنوا حفرة يا بئس ما نزلوا ناداهم وصارخ من بعد ما دفنوا ... أين الأسرّة والتيجان والحلل؟ أين الوجوه التي كانت محجّبة ... من دونها تضرب الأستار والكلل «3» ؟ فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود تقتتل قد طال ما أكلوا دهرا وما نعموا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا وقال آخر: [رمل] ربّ قوم عبروا من عيشهم ... في نعيم وسرور وغدق سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق

نزل النّعمان ومعه عديّ بن زيد في ظلّ شجرة عظيمة ليلهوا؛ فقال له عدي بن زيد: أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: لا؛ قال تقول: [رمل] ربّ شرب «1» قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال وقال إبراهيم بن المهدي «2» : [بسيط] بالله ربّك كم بيت مررت به ... قد كان يعمر باللذّات والطرب طارت عقاب المنايا في سقائفه ... فصار من بعدها للويل والحرب «3» أنشدنا أبو عبد الرحمن صاحب الأخفش عن الأخفش للخليل بن أحمد العروضيّ: [كامل] كن كيف شئت فقصرك الموت ... لا مزحل عنه ولا فوت «4» بينا غنى بيت وبهجته ... زال الغنى وتقوّض البيت حدّثني يزداد بن أسد عن الطّنافسيّ قال: حدّثنا أبو محمد قال: كان مالك بن دينار يخرج إلى القبور كلّ خميس على حمار قوطرانيّ ويقول: [وافر] ألا حيّ القبور ومن بهنّه ... وجوه في القبور أحبهنّه

فلو أنّ القبور سمعن صوتي ... إذا لأجبنني من وجدهنّه ولكنّ القبور صمتن عنّي ... فأبت بحسرة من عندهنّه ثم يبكي ونبكي. قال معاوية بن أبي سفيان لعبيد بن شرية الجرهميّ: أخبرني بأعجب شيء رأيته في الجاهليّة؛ فقال: إني نزلت بحيّ من قضاعة فخرجوا بجنازة رجل من عذرة يقال له حريث وخرجت معهم، حتى إذا واروه في حفرته انتبذت جانبا عن القوم وعيناي تذرفان ثم تمثّلت بأبيات شعر كنت أرويها قبل ذلك بزمان طويل: [بسيط] تجري أمور ولا تدري أوائلها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير فاستقدر الله خيرا وارضينّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير وبينما المرء في الأحياء مغتبطا ... إذ صار في الرّمس «1» تعفوه الأعاصير يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور قال: وإلى جانبي رجل يسمع ما أقول، فقال لي: يا عبد الله، هل لك علم بقائل هذه الأبيات؟ قلت: لا والله؛ إلا أنّي أرويها منذ زمان؛ فقال: والذي تحلف به إنّ قائلها لصاحبنا الذي دفنّاه آنفا، وهذا الذي ترى ذو قرابته أسرّ الناس بموته، وإنك لغريب وتبكي عليه كما وصفت؛ فعجبت لما ذكره في شعره وما صار إليه من أمره وقوله، كأنه ينظر إلى مكاني من جنازته، فقلت: «إنّ البلاء موكّل بالقول» ؛ فذهبت مثلا. قال أعرابيّ: خير من الحياة ما أذا فقدته أبغضت لفقده الحياة، وشرّ من الموت ما إذا نزل بك أحببت لنزوله الموت.

وقال أبو زبيد «1» : [خفيف] يملك المرء بالرجاء ويضحي ... غرضا للمنون نصب العود كلّ يوم ترميه منها برشق ... فمصيب أوصاف غير بعيد «2» وقال أبو العتاهية: [مجزوء الكامل] وعظتك إجداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت وتكلّمت عن أوجه ... تبلى وعن صور شتت وأرتك قبرك في القبو ... ر وأنت حيّ لم تمت وقال أعرابيّ: أبعد سفر أوّل منقلة «3» منه الموت. وقيل لأعرابيّ: مات فلان أصحّ ما كان؛ فقال: أو صحيح من الموت في عنقه؟ وقال بعض المحدثين: [سريع] اسمع فقد أسمعك الصوت ... إن لم تبادر فهو الفوت بل كل إذا شئت وعش ناعما ... آخر هذا كلّه الموت وكان صالح المرّيّ يقول في قصصه: [متقارب] مؤمّل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمّل قبل الأمل وبات يروّي أصول الفسيل «4» ... فعاش الفسيل ومات الرجل وقال مسلم بن الوليد: [رمل]

كم رأينا من أناس هلكوا ... وبكى أحبابهم ثم بكوا تركوا الدنيا لمن بعدهم ... ودّهم لو قدّموا ما تركوا كم رأينا من ملوك سوقة ... ورأينا سوقة قد ملكوا قلب الدهر عليهم وركا ... فاستداروا حيث دار الفلك حدّثني أبي عن أبي العتاهية أنه قرىء له بيتان على جدار من جدر كنيسة القسطنطينية: [منسرح] ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل السلطان عن ملك ... كان يحبّ الدنيا إلى ملك وقال آخر: [منسرح] ما أنزل الموت حقّ منزله ... من عدّ يوما لم يأت من أجله والصّدق والصّبر يبلغان بمن ... كانا قرينيه منتهى أمله عليك صدق اللسان مجتهدا ... فإنّ جلّ الهلاك في زلله وقال الطّرمّاح «1» : [طويل] فيا ربّ لا تجعل وفاتي إن أتت ... على شرجع «2» يعلى بركن «3» المطارف ولكن أجز يومي شهيدا وعصبة ... يصابون في فجّ من الأرض خائف «4»

عصائب من شتّى يؤلّف بينهم ... هدى الله نزّالون عند المواقف إذا فارقوا دنياهمو فارقوا الأذى ... وصاروا إلى «1» موعودها في المصاحف فأقتل قعصا ثم يرمى بأعظمي ... كضغث الخلا بين الرياح العواصف «2» ويصبح لحمي بطن طير «3» مقيله ... دوين السماء في نسور عوائف «4» وهيب بن الورد قال: اتّخذ نوح بيتا من خصّ «5» ، فقيل له: لو بنيت بيتا؟ فقال: هذا لمن يموت كثير. بلغني عن إسماعيل بن عيّاش عن شرحبيل بن مسلم أن أبا الدّرداء كان إذا رأى جنازة قال: إغدي فإنّا رائحون، أو قال: روحي فإنا غادون. وهذا مثل قول لبيد «6» : [طويل] وإنا وإخوانا لنا قد تتابعوا ... لكالمغتدي والرائح المتهجّر بلغني عن وكيع عن شريك عن منصور عن هلال بن إساف قال: ما من

مولود يولد إلا وفي سرّته من تربة الأرض التي يموت فيها. قال الأصمعيّ: أوّل شعر قيل في ذمّ الدنيا قول ابن خذّاق «1» : [بسيط] هل للفتى من بنات الدهر «2» من راقي ... أم هل له من حمام الموت من واقي؟ قد رجّلوني وما رجّلت من شعث ... وألبسوني ثيابا غير أخلاق «3» وطيّبوني وقالوا إيّما رجل ... وأدرجوني كأنّي طيّ مخراق «4» هوّن عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي محمد بن فضيل عن عبيد الله بن عمير قال: جاء رجل إلى النبيّ عليه السلام فقال: يا نبيّ الله، مالي لا أحبّ الموت؟ فقال له: «هل لك مال» ؟ قال: نعم، قال: «قدّمه بين يديك» ؛ قال: لا أطيق ذلك؛ قال: فقال النبيّ عليه السلام: «إنّ المرء مع ماله إن قدّمه أحبّ أن يلحق به وإن أخّره أحبّ أن يتخلّف معه» . المحاربيّ عن عبد الملك بن عمير قال: قيل للربيع بن خيثم في مرضه: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: أنظروني؛ ثم فكر فقال: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «5» قد كانت فيهم أطباء، فما أرى المداوي بقي ولا المداوى؛ هلك الناعت والمنعوت له، لا تدعوا لي طبيبا.

إسحاق بن سليمان عن أبي أحمد قال: كان عمر بن عبد العزيز ليس له هجّيري «1» إلا أن يقول: [طويل] تسرّ بما يبلى وتفرح بالمنى ... كما اغترّ باللذّات في النوم حالم نهارك، يا مغرور، سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم وسعيك فيما سوف تكره غبّه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم كم من مستقبل يوما ليس بمستكمله، ومنتظر غدا ليس من أجله؛ لو رأيتم الأجل ومسيره، وبغضتم الأمل وغروره «2» . [كامل] لا يلبث القرناء أن يتفرّقوا ... ليل يكرّ عليهمو ونهار يحيى بن آدم عن عبد الله بن المبارك عن عبد الوهاب بن ورد عن سالم ابن بشير بن حجل عن أبي هريرة: أنه بكى في مرضه فقال: أما إنّي لا أبكي على دنياكم ولكنّي أبكي على بعد سفري وقلّة زادي، وأني أمسيت في صعود مهبطه على جنة أو نار، ولا أدري على أيّهما يؤخذ بي!. أبو جناب قال: لما احتضر معاذ قال لجاريته: ويحك! هل أصبحنا؟ قالت: لا؛ ثم تركها ساعة ثم قال لها: أنظري! فقالت: نعم؛ فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار! ثم قال: مرحبا بالموت، مرحبا بزائر جاء على فاقة، لا أفلح من ندم! اللهمّ إنك تعلم أنّي لم أكن أحبّ البقاء في الدنيا لكري «3» الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحبّ البقاء لمكابدة الليل الطويل ولظمأ الهواجر في الحرّ الشديد ولمزاحمة العلماء بالرّكب في حلق الذّكر

أبو اليقظان قال: لما احتضر عمرو بن العاص جعل يده في موضع الغل من عنقه ثم قال: اللهمّ إنك أمرتنا ففرّطنا، ونهيتنا فركبنا، اللهمّ إنه لا يسعنا إلا رحمتك؛ فلم يزل ذلك هجّيراه حتى قبض. قيل لآزاذ مرد بن الهزبذ حين احتضر؛ ما حالك؟ فقال: ما حال من يريد سفرا بعيدا بلا زاد، وينزل حفرة من الأرض موحشة بلا مؤنس، ويقدم على ملك جبّار قد قدّم إليه العذر بلا حجّة! حدّثني عبدة الصفّار قال: حدّثني العلاء بن الفضل قال: حدّثني محمد ابن إسماعيل عن أبيه عن جدّه عن جدّ أبيه قال: سمعت أميّة بن أبي الصّلت عند وفاته وأغمي عليه طويلا ثم أفاق، ورفع رأسه إلى سقف البيت وقال: لبيّكما لبيّكما، ها أنذا لديكما، لا عشيرتي تحميني، ولا مالي يفديني، ثم أغمي عليه طويلا ثم أفاق فقال: [خفيف] كلّ عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرّة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا ثم فاضت نفسه. الحكم بن عثمان قال: قال المنصور عند موته: اللهمّ إن كنت تعلم أني قد ارتكبت الأمور العظام جرأة منّي عليك، فإنك تعلم أني قد أطعتك في أحبّ الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا أنت، منّا منك لا منّا عليك. وكان سبب إحرامه من الخضراء «1» أنه كان يوما نائما، فأتاه آت في منامه فقال: [طويل] كأنّي بهذا القصر قد باد أهله ... وعرّي منه أهله ومنازله

وصار عميد القوم من بعد نعمة ... إلى جذث تبنى عليه جنادله فلم يبق إلا رسمه وحديثه ... تبكيّ عليه معولات حلائله فاستيقظ مرعوبا ثم نام فأتاه لآتي فقال: [طويل] أبا جعفر، حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بدّ واقع فهل كاهن أعددته أو منجّم ... أبا جعفر عنك المنية دافع فقال: يا ربيع، ائتني بطهوري، فقام واغتسل وصلّى ولبّى وتجهّز للحجّ، فلما صار في الثلث الأوّل اشتدّت علّته، فجعل يقول: يا ربيع، ألقني في حرم الله، فمات ببئر ميمون «1» . حدّثني محمد بن داود عن سعيد بن نصير عن العباس بن طالب قال: قال الربيع بن بزّة: كنت بالشام فسمعت رجلا وهو في الموت يقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: اشرب واسقني. ورأيت رجلا بالأهواز قيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: ده يا دده، وده دوازده «2» . وقيل لرجل بالبصرة: قل لا إله إلا الله؛ قال: [بسيط] يا ربّ قائلة يوما وقد لغبت ... كيف الطريق إلى حمّام منجاب «3» حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن معمر عن أبيه قال: لقّن ميّتك، فإذا قاله فدعه يتكلّم بغيرها من أمر الدنيا ولا تضجره.

قال مالك بن ضيغم: لما احتضر أبي قلنا له: ألا توصي؟ قال: بلى، أوصيكم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1» وأوصيكم بصلة الرحم وحسن الجوار وفعل ما استطعتم من المعروف، وادفنوني مع المساكين. وقال عمر بن عبد العزيز لابنه: كيف تجدك؟ قال: في الموت؛ قال: لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك، قال: وأنا والله لأن يكون ما تحبّ أحبّ إليّ من أن يكون ما أحبّ. احتضر سيبويه النحويّ فوضع رأسه في حجر أخيه فقطرت قطرة من دموع أخيه على خدّه، فأفاق من غشيته وقال: [طويل] أخيّين كنّا فرّق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهرا؟ أبو أسامة عن سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال: قيل لهرم بن حبّان: أوص؛ فقال: قد صدقتني نفسي في الحياة، ما لي شيء أوصي فيه، ولكن أوصيكم بخواتيم سورة النحل. قال الشاعر: [منسرح] ما ارتدّ طرف امرىء بلحظته ... إلّا وشيء يموت من جسده وقال آخر: [بسيط] المرء يشقى بما يسعى لوارثه ... والقبر وارث ما يسعى له الرجل حدثني محمد بن عبيد عن معاوية عن عمرو عن أبي إسحاق عن أبي حيّان التيميّ عن أبيه قال: أوصى الربيع بن خيثم وأشهد على نفسه وكفى بالله

شهيدا وجازيا لعباده الصالحين ومثيبا: إني رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، وأوصي نفسي، ومن أطاعني أن يعبد الله في العابدين ويحمده في الحامدين وينصح لجماعة المسلمين؛ وأوصى أهله: ألّا تشعروا بي أحدا وسلّوني إلى ربّي سلّا. حدّثني محمد بن أحمد بن يونس قال: سمعت عمر بن جرير المهاجريّ يقول: لما مات ذرّ بن عمر بن ذرّ قال لأصحابه: الآن يضيع الشيخ (لأنه كان به بارّا) ؛ فسمعها الشيخ فقال: أنّي أضيع والله حيّ لا يموت؟ فلما واراه التراب وقف على قبره وقال: رحمك الله يا ذرّ! ما علينا بعدك من خصاصة وما بنا إلى أحد مع الله حاجة، وما يسرّني أنّي كنت المقدّم قبلك، ولولا هول المطّلع لتمنّيت أن أكون مكانك، لقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، فيا ليت شعري ماذا قلت وما قيل لك! ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهمّ إنّي قد وهبت حقّي فيما بيني وبينه له، فهب حقّك فيما بينك وبينه له. ثم قال عند انصرافه: مضينا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا شريح بن النعمان عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الواحد بن أبي عون عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها «1» ، إشرأبّ النفاق بالمدينة وارتدّت العرب، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وغنائها في الإسلام» . وكانت مع هذا تقول: «من رأى عمر بن الخطاب عرف أنه خلق غناء للإسلام، كان، والله، أحوزيّا «2» نسيج وحده، قد أعدّ للأمور أقرانها» . وقالت عند قبره:

«رحمك الله يا أبت! لقد قمت بالدين حين وهي شعبه «1» وتفاقم صدعه ورجفت جوانبه؛ انقبضت مما أصغوا إليه «2» ، وشمّرت «3» فيما ونوا فيه واستخففت من دنياك ما استوطنوا وصغّرت منها ما عظّموا ورعيت دينك فيما أغفلوا، أطالوا عنان الأمن واقتعدت مطيّ الحذر، ولم تهضم دينك ولم تشن غدك ففاز عند المساهمة قدحك وخفّ مما استوزروا ظهرك» . وقالت أيضا عند قبره: «نضّر الله وجهك يا أبت! فلقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها؛ ولئن كان أجلّ الرزايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رزؤك وأكبر المصائب فقدك، إنّ كتاب الله ليعد بجميل العزاء عند أحسن العوض منك، فأنا أتنجّز من الله موعوده فيك بالصبر عليك، واستعيضه منك بالاستغفار لك؛ عليك سلام الله ورحمته، توديع غير قالية لحياتك ولا زارية على القضاء فيك» . قال الحسين بن عليّ عند قبر أخيه الحسن: «رحمك الله أبا محمد! إن كنت لتباصر الحقّ مظانّة، وتؤثر الله عند مداحض «4» الباطل في مواطن التقيّة بحسن الرويّة، وتستشفّ جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتفيض عليها يدا ظاهرة الأطراف نقيّة الأسرّة «5» ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك؛ ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوّة ورضيع لبان الحكمة؛ فإلى روح وريحان وجنّة نعيم؛ أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السّلوة

وحسن الأسى «1» عنه» . حدّثني عبد الرحمن بن الحسين السعيديّ عن محمد بن مصعب أنّ ابن السمّاك قال يوم مات داود الطائيّ في كلام له: إن داود رحمه الله نظر بقلبه إلى ما بين يديه من آخرته، فأعشى بصر القلب بصر العين، فكان كأنه لا ينظر إلى ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون وهو منكم يعجب، فلما رآكم راغبين مذهولين مغرورين قد أذهلت الدنيا عقولكم وأماتت بحبّها قلوبكم استوحش منكم، فكنت إذا نظرت إليه نظرت إلى حيّ وسط أموات. يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها، وإنما تريد راحتها، أخشنت المطعم وإنما تريد طيبه وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمتّ نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذّبتها ولمّا تعذّب، وأغنيتها عن الدنيا لكيلا تذكر، رغبت نفسك عن الدنيا فلم ترها لك قدرا إلى الآخرة، فما أظنّك إلا وقد ظفرت بما طالبت؛ كان سيماك في سرّك ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقّهت في دينك وتركت الناس يغنّون، وسمعت الحديث وتركتهم يحدّثون، وخرست عن القول وتركتهم ينطقون، لا تحسد الأخيار، ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطيّة، ولا من الإخوان هدّية؛ آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس؛ فمن سمع بمثلك وصبر صبرك وعزم عزمك! لا أحسبك إلا وقد أتعبت العابدين بعدك، سجنت نفسك في بيتك فلا محدّث لك ولا جليس معك ولا فراش تحتك ولا ستر على بابك ولا قلّة يبرّد فيها ماؤك ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك، مطهرتك قلبك

وقصعتك تورك «1» . داود، ما كنت تشتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيّبه ولا من اللباس ليّنه، بلى! ولكن زهدت فيه لما بين يديك؛ فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت في جنب ما أمّلت، فلما متّ شهرك ربّك بموتك، وألبسك رداء عملك، وأكثر تبعك، فلو رأيت من حضرك عرفت أنّ ربّك قد أكرمك وشرّفك، فلتتكلّم اليوم عشيرتك بكلّ ألسنتها، فقد أوضح ربّك فضلها بك، ووالله لو لم يدع عبدا إلى خير بعمله إلا حسن هذا النّشر من كثرة هذا التّبع، لقد كان حقيقا بالإجتهاد والجهد لمن لا يضيع مطيعا ولا ينسى صنيعا شاكرا ومثيبا. وقف محمد بن سليمان على قبر ابنه فقال: اللهمّ إني أرجوك له وأخافك عليه، فحقق رجائي وآمن خوفي. مات ابن لأنس بن مالك فقال أنس عند قبره: اللهمّ عبدك وولد عبدك وقد ردّ إليك، فارأف به وارحمه، وجاف الأرض عن بدنه، وافتح أبواب السماء لروحه وتقبّله بقول حسن. ثم رجع فأكل وشرب وادّهن وأصاب من أهله. وقال جرير في امرأته: [كامل] لا يلبث القرناء أن يتفرّقوا ... ليل يكرّ عليهمو ونهار «2» صلّى الملائكة الذين تخيّروا ... والطيّبون عليك والأبرار وقفت أعرابيّة على قبر ابنها فقالت: والله ما كان مالك لعرسك، ولا همّك لنفسك، وما كنت إلا كما قال القائل: [طويل] رحيب الذراع بالتي لا تشينه ... وإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعا «3»

حدّثني محمد بن داود عن الصّلت بن مسعود قال: كان سفيان بن عيينة يستحسن شعر عديّ بن زيد «1» : [خفيف] أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود؟ بينما هم على الأسرّة والأن ... ماط أفضت إلى التراب الخدود ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذال الوعد كلّه والوعيد وأطبّاء بعدهم لحقوهم ... ضلّ عنهم سعوطهم واللّدود «2» وصحيح أضحى يعود مريضا ... وهو أدنى للموت ممن يعود أخذه عليّ بن الجهم «3» فقال: [كامل] كم من عليل قد تخطّاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوّد حدّثني عبدة بن عبد الله قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الملك بن عمير عن ربعيّ بن حراش قال: أتيت أهلي فقيل لي: مات أخوك، فوجدت أخي مسجّى عليه بثوب، فأنا عند رأسه أترحّم عليه وأدعو له إذ كشف الثوب عن وجهه فقال: السلام عليكم، فقلنا: وعليك السلام، سبحان الله! بعد الموت! فقال: إني تلقّيت بروح وريحان وربّ غير غضبان، وكساني ثيابا من سندس واستبرق «4» ، وإني وجدت الأمر

أيسر مما تظنّون ولا تتّكلوا؛ إني استأذنت ربيّ أن أخبركم وأبشّركم، احملوني إلى رسول الله، فقد عهد إليّ ألّا أبرح حتى ألقاه ثم طفىء «1» . حدّثني أبو سهل عن عليّ بن محمد عن إسحاق بن منصور عن عمارة ابن زاذان عن ثابت أنّ مطرّفا كان يغدو على دابّته بين المقام فأغفى فإذا أهل القبور جلوس على أشفاء «2» قبورهم يقولون: هذا مطرّف يروح إلى الجمعة؛ قلت: هل تعرفون يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، وما تقول الطير في جوف السماء، يقولون: سلام، يوم صالح. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزّبير عن جابر قال: لما أراد معاوية أن تجري العين التي حفرها- قال سفيان: تسمّى عين أبي زياد- نادوا بالمدينة: من كان له قتيل فليأت قتيله؛ قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم رطابا يتثنّون، وأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانفطرت «3» دما. قال أبو سعيد الخدريّ: لا ينكر بعد هذا منكر أبدا. حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال: أهل القبور يتوكّفون «4» الأخبار فإذا أتاهم الميت سألوه: ما فعل فلان؟ فيقول: ألم يأتكم! فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، سلك به غير سبيلنا. حدّثني عبد الرحمن العبديّ عن جعفر بن أبي جعفر قال: حدّثنا أبو جعفر السائح عن الربيع بن صبيح قال: شهدت ثابتا البنانيّ يوم مات وشهده

الكبر والمشيب

أهل البصرة، فدخلت قبره أنا وحميد الطويل وأبو جعفر حسن مما يلي رأسه فلما ذهبت أسوّي عليه اللّبنة سقطت من يدي فلم أر في اللحد أحدا، وأصغى إليّ حميد أن اختطف صاحبنا وضجّ الناس فسوّينا على اللحد وحثونا التراب؛ فلم يكن لحميد همّة حتى أتى سليمان بن عليّ وهو أمير على البصرة فأخبره، فقال: ما ينكر لله قدرة! إلا أني أنكر أن يكون أحد من أهل زماننا يفعل هذا به، فهل علم به أحد سواك؟ قال: نعم، الربيع بن صبيح وحسن؛ قال: عدلان مرضيّان، فبعث أمناء جيرانه فنبشوا عنه فلم يجدوه في قبره. وحدّثني أيضا عن أعرابيّة كان يقال لها أمّ غسّان مكفوفة وكانت تعيش بمغزلها وتقول: الحمد لله على ما قضى وارتضى، رضيت من الله ما رضي لي، وأستعين الله على بيت ضيّق الفناء قليل الكواء «1» وأستعين الله على ما يطالع من نواحيه. وماتت جارة لها فقيل لها: ما فعلت جارتك؟ فقالت: [متقارب] تقسّم جاراتها بيتها ... وصارت إلى بيتها الأتلد «2» وقالت يوما: إن تقبّل الله مني صلاة لم يعذّبني، فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: لأنّ الله، عزّ وجلّ، لا يثني في رحمته وحلمه، قال: وكنت سمعت حديث معاذ «من كتبت له حسنة دخل الجنّة» ولم أدر ما تفسيره حتى سمعت أمّ غسان تقول هذا، فعرفت تأويله. الكبر والمشيب حدّثني أبو الخطاب قال: حدّثنا أبو داود عن عبد الجليل بن عطيّة عن

شهر بن حوشب عن عمرو بن عنبسة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة ما لم يخضبها أو ينتفها» . أبو حاتم عن الأصمعيّ عن شيخ من بني فزارة قال: مررت بالبادية وإذا شيخ قاعد على شفير قبر، وإذا في القبور رجال كأنهم الرّماح يدفنون رجلا والشيخ يقول: [رجز] أحثوا على الدّيسم من برد الثّرى ... قدما أبى ربّك إلا ما ترى «1» فقلت له: من الميت؟ فقال: إبني، فقلت له: من الذين يدفنونه؟ قال: بنوه. حدّثنا أبو عبد الرحمن قال: دخل يونس بن حبيب المسجد يهادى «2» بين اثنين من الكبر فقال له رجل كان يتّهمه على مودّته: بلغت ما أرى يا أبا عبد الرحمن! قال: هو ما ترى فلا بلغته. ونحوه قول الشاعر: [مخلع البسيط] يا عائب الشيب لا بلغته ويقال في الزبور: «من بلغ السبعين اشتكى من غير علّة» . وقال محمد ابن حسّان النبطيّ: لا تسأل نفسك العام ما أعطتك في العام الماضي. رأى ضرار بن عمرو الضبيّ له ثلاثة عشر ذكرا قد بلغوا فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه. قال ابن أبي فنن: [بسيط]

من عاش أخلقت الأيام جدّته ... وخانه الثّقتان السّمع والبصر قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إنّ الشباب جنون برؤه «1» الكبر أبو عبيدة قال: قيل لشيخ: ما بقي منك؟ قال: يسبقني من بين يديّ، ويدركني من خلفي، وأنسى الحديث، وأذكر القديم، وأنعس في الملا، وأسهر في الخلا، وإذا قمت قربت الأرض منّي، وإذا قعدت تباعدت عنّي؛ قال الشاعر: [بسيط] قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إنّ الشباب جنون برؤه الكبر «2» قال عبد الملك بن مروان للعريان «3» بن الهيثم: كيف تجدك؟ «4» قال: أجدني قد ابيضّ منّي ما كنت أحبّ أن يسودّ واسودّ منّي ما كنت أحبّ أن يبيضّ واشتدّ منّي ما أحبّ أن يلين ولان منّي ما أحبّ أن يشتدّ وقال: [رجز] سلني أنبّئك بآيات الكبر ... نوم العشاء وسعال بالسّحر وقلّة النوم إذا الليل اعتكر ... وقلّة الطعم إذا الزاد حضر وسرعة الطرف وتحميج النظر ... وتركك الحسناء في قبل الطّهر «5» والناس يبلون كما تبلى الشّجر وقال حميد بن ثور «6» : [طويل]

أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما وقال الكميت «1» : [منسرح] لا تغبط المرء أن يقال له ... أمسى فلان لسنّه حكما إن سرّه طول عمره فلقد ... أضحى على الوجه طول ما سلما وقال النّمر بن تولب «2» : [طويل] يودّ الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول السلامة يفعل؟ وقال آخر: [كامل] كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربّي بالسلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السّلامة داء «3» وقال أبو العتاهية: [رجز] أسرع في نقص امرىء تمامه «4» وقال عبد الحميد الكاتب «5» : [متقارب]

ترحّل ما ليس بالقافل ... وأعقب ما ليس بالآئل فلهفي من الخلف النازل ... ولهفي على السّلف الراحل أبكّي على ذا وأبكي لذا ... بكاء المولّهة الثاكل تبكّي من ابن لها قاطع ... وتبكي على ابن لها واصل تقضّت غوايات سكر الصبا ... وردّ التّقى عند الباطل محمد بن سلّام الجمحيّ عن عبد القاهر بن السريّ قال: كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم: إني نظرت في سنّك فوجدتك لدتي «1» وقد بلغت الخمسين وإنّ امرأ سار إلى منهل خمسين عاما لقريب منه. فسمع به الحجاج ابن يوسف التيميّ فقال: [طويل] إذا كانت السبعون سنّك لم يكن ... لدائك إلا أن تموت طبيب وإنّ امرأ قد سار سبعين حجّة ... إلى منهل من ورده لقريب إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب إذا ما انقضى القرن الذي أنت منهم ... وخلّفت في قرن فأنت غريب وقال لبيد «2» ؛ [طويل] أليس ورائي إن تراخت منيّتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أخبّر أخبار القرون التي مضت «3» ... أدبّ «4» كأني كلّما قمت راكع وقال آخرون مثله: [وافر] حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاثل يدنو لصيد

وقيل لرجل من الحكماء: مالك تدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض؟ فقال: لأذكر أني مسافر؛ قال الشاعر: [طويل] حملت العصالا الضعف أوجب حملها ... عليّ ولا أني تحنّيت من كبر ولكنّني ألزمت نفسي حملها ... لأعلمها أنّ المقيم على سفر ومرّ شيخ من العرب بغلام فقال له الغلام: أحصدت «1» يا عمّاه فقال: يا بنيّ، وتختضرون «2» . قال الحسن في موعظة له: يا معشر الشيوخ، الزرع إذا بلغ ما يصنع به؟ قالوا: يحصد قال: يا معشر الشباب، كم من زرع لم يبلغ أدركته آفة، قال الشاعر: [كامل] الدّهر أبلاني وما أبليته ... والدّهر غيّرني وما يتغيّر والدّهر قيّدني بخيط مبرم ... فمشيت فيه وكلّ يوم يقصر وقال عمارة «3» بن عقيل: [طويل] وأدركت ملء الأرض ناسا فأصبحوا ... كأهل الدّيار قوّضوا فتحمّلوا وما نحن إلا رفقة قد ترحّلت ... وأخرى تقضّي حاجها وترحّل «4» ذكر أعرابيّ الشّيب فقال: والله لقد كنت أنكر الشعرة البيضاء فقد صرت أنكر السوداء، فيا خير بدل ويا شرّ مبدول. وقال بعض الشعراء: [خفيف]

شاب رأسي وما رأيت مشيب الر ... أس إلّا من فضل شيب الفؤاد وكذاك القلوب في كلّ بؤس ... ونعيم طلائع الأجساد طال إنكاري البياض فإن ع ... مرت شيئا أنكرت لون السواد رأى إياس بن قتادة شعرة بيضاء في لحيته، فقال: أرى الموت يطلبني وأراني لا أفوته، أعوذ بك يا ربّ من فجاءات الأمور، يا بني سعد، قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبتي، ولزم بيته. قال قيس بن عاصم: الشيب خطام «1» المنيّة. قال آخر: الشيب بريد الحمام. قال آخر: الشيب توأم الموت. قال آخر: الشيب تاريخ الموت. قال آخر: الشيب أوّل مراحل الموت. قال آخر: الشّيب تمهيد الحمام. قال آخر: الشيب عنوان الكبر. قال عبيد «2» بن الأبرص: [مخلع البسيط] والشّيب شين لمن يشيب ويقال: شيب الشّعر موت الشّعر، وموت الشعر علّة موت البشر. قال الشاعر: [طويل] وكان الشباب الغضّ لي فيه لذة ... فوقّرني عنه المشيب وأدّبا فسقيا ورعيا للشباب الذي مضى ... وأهلا وسهلا بالمشيب ومرحبا

وقال أعرابيّ- ويقال هي لأبي دلف «1» -: [بسيط] في كل يوم من الأيام نابتة ... كأنما نبتت فيه على بصري لئن قرضتك بالمقراض عن بصري ... لما قرضتك عن همّي ولا فكري وقال أعرابيّ: [طويل] أرى الشّيب مذ جاوزت خمسين دائبا ... يدبّ دبيب الصبح في غسق الظّلم هو السّمّ إلا أنه غير مؤلم ... ولم أر مثل الشيب سمّا بلا ألم وقال آخر «2» : [كامل] قصر الحوادث «3» خطوه فتدانى ... وحنين صدر «4» قناته فتحانى صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه شدّة وليانا ما بال شيخ «5» قد تخدّد لحمه ... أنضى «6» ثلاث عمائم ألوانا سوداء داجية «7» وسحن مفوّف ... وأجدّ أخرى «8» بعد ذاك هجانا ثم الممات وراء ذلك كلّه ... وكأنما يعنى بذاك سوانا «9»

وقال آخر يذكر الشباب: [بسيط] لما مضى ظاعنا «1» عنا فودّعنا ... وكان كالميت لم يترك له عقبا عدنا إلى حالة لا نستطيع لها ... وصل الغوانى وعاب الشيب من لعبا وقال محمود الورّاق «2» : [مجزوء المتقارب] بكيت لقرب الأجل ... وبعد فوات الأمل ووافد شيب طرا «3» ... بعقب شباب رحل شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل طواك بشير البقا «4» ... وجاء بشير الأجل طوى صاحب صاحبا ... كذاك انتقال الدّول «5» وقال أبو الأسود «6» يذمّ الشباب: [طويل] غدا منك أسباب الشباب فأسرعا ... وكان كجار بان يوما فودّعا فقلت له فاذهب ذميما فليتني ... قتلتك علما قبل أن تتصدّعا جنيت عليّ الذنب ثم خذلتني ... عليه فبئس الخلّتان هما معا وكنت سرابا ما ضحا «7» إذ تركتني ... رهينة ما أجني من الشرّ أجمعا وقال آخر: [كامل] استنكرت شيبي فقلت لها ... ليس المشيب بناقص عمري

الدنيا

وتنفّست بي همّة وصلت ... أملي بكلّ رفيعة الذّكر روى عبد الله بن حفص الطاحي عن زكريا بن يحيى بن نافع الأزديّ عن أبيه أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اخضبوا بالسّواد، فإنه أنس للنساء وهيبة للعدوّ. قال عمر بن المبارك «1» الخزاعيّ: [مجزوء الرمل] من لأذني بملام ... ولكفّي بمدام دقّ عظم الجهل منّى ... وانثنى سنّ عرامي «2» وتمشّى الفدّ من شي ... بي إلى الشّيب التّؤام «3» نظمك الدّرّ إلى الدّ ... رّة في سلك النّظام وقال أبو العتاهية: [متقارب] نعى لك ظلّ الشباب المشيب ... ونادتك باسم سواك الخطوب فكن مستعدّا لداعي المنون ... فكلّ الذي هو آت قريب وقبلك داوى المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطبيب يخاف على نفسه من يتوب ... فكيف ترى حال من لا يتوب؟ محمد بن سلّام قال: سمعت يونس بن حبيب يقول: لا يأمن من قطع في خمسة دراهم خير عضو منك أن يكون عقابه هكذا غدا. الدنيا حدّثني أبو مسعود الدارميّ قال: حدّثني جدّي خراش عن أنس بن

مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبحت الدنيا همّه وسدمه «1» نزع الله الغنى من قلبه، وصيّر الفقر بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبحت الآخرة همّه وسدمه نزع الله الفقر من قلبه وصيّر الغنى بين عينيه وأتته الدنيا وهي راغمة» . حدّثني محمد بن داود قال؛ حدّثنا أبو الربيع عن حمّاد عن عليّ بن زيد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للضحاك بن سفيان: «ما طعامك؟» قال: اللحم واللبن، قال: «ثم يصير إلى ماذا؟» قال: ثم يصير إلى ما قد علمت، قال: «فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدّنيا» قال: وكان بشير بن كعب يقول لأصحابه إذا فرغ من حديثه: انطلقوا حتى أريكم الدّنيا، فيجي فيقف بهم على السّوق، وهي يومئذ مزبلة، فيقول: انظروا إلى عسلهم وسمنهم وإلى دجاجهم وبطّهم صار إلى ما ترون. حدّثني هارون بن موسى قال: حدّثنا محمد بن سعيد القزويني عن عمر ابن أبي قيس عن هارون بن عنترة عن عمرو بن مرّة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «2» فقال: «إذا دخل النور القلب وانفسح شرح لذلك الصدر» ؛ قالوا: يا نبيّ الله، هل لذلك آية يعرف بها؟ قال: «نعم الإنابة إلى دار الخلود والتّجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» . بلغني عن العتبيّ عن حبيب العدويّ عن وهب بن منبّه قال: رأينا ورقة يهفو بها الريح فأرسلنا بعض الفتيان فأتانا بها فإذا فيها: الدنيا دار لا يسلم منها

إلا فيها، ما أخذ أهلها منها لها خرجوا منه ثم حوسبوا به، وما أخذ منها أهلها لغيرها خرجوا منه ثم أقاموا فيه، وكأن قوما من أهل الدنيا ليسوا من أهلها، هم فيها كمن ليس فيها، عملوا بما يبصرون وبادروا ما يحذرون، تتقلّب أجسادهم بين ظهراني أهل الدنيا، وتتقلّب قلوبهم بين ظهراني أهل الآخرة، يرون الناس يعظّمون وفاة أجسامهم وهم أشدّ تعظيما لموت قلوب أحيائهم. فسألت عن الكلام فلم أجد من يعرفه. وقال المسيح عليه السلام: «الدّنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها» وفي بعض الكتب: أن الله تعالى أوحى إلى الدنيا «من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه» . قال بعض العابدين يذكر الدنيا: [طويل] لقد غرّت الدنيا رجالا فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحوّل «1» فساخط أمر لا يبدّل غيره ... وراض بأمر غيره سيبدّل وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومختلج «2» من دون ما كان يأمل وقال آخر يذكر الدنيا: [بسيط] حتوفها رصد وعيشها رنق ... وكرّها نكد وملكها دول «3» وقال آخر «4» : [طويل]

نراع لذكر الموت ساعة ذكره ... وتعترض الدنيا فنلهو ونلعب «1» ونحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها ... وما كنت منه فهو شيء محّبب وقال يحيى بن خالد: دخلنا في الدنيا دخولا أخرجنا منها. ذمّ رجل الدنيا عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال عليّ عليه السلام: الدنيا دار صدق لمن صدّقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، مهبط وحي الله، ومصلّى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا منها الرحمة واحتسبوا فيها الجنة؛ فمن ذا يذمّها وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها وشبّهت بسرورها السّرور وببلائها البلاء ترغيبا وترهيبا؛ فيأيها الذامّ الدنيا المعلّل نفسه، متى خدّعتك الدنيا أم متى استذمّت «2» إليك؟ أبمصارع آبائك في البلى أم بمضاجع أمهاتك فى الثّرى؟ كم مرّضت بيديك، وعلّلت بكفّيك، تطلب له الشفاء، وتستوصف له الأطباء، غداة لا يغنى عنه دواؤك، ولا ينفعك بكاؤك. كان إبراهيم «3» بن أدهم العجليّ يقول: [طويل] نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع «4» قال أبو حازم: وما الدنيا! أمّا ما مضى فحلم وأمّا ما بقي فأمانيّ. قال سفيان:

أوحى الله تعالى إلى نبيّ من الأنبياء «اتّخذ الدنيا ظئرا «1» والآخرة أمّا» . قال الشعبي: «2» ما أعلم لنا وللدنيا مثلا إلا ما قال كثيّر. [طويل] أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلّية إن تقلّت «3» قال بكر بن عبد الله: المستغني عن الدنيا بالدنيا كالمطفىء النار بالتّبن. قال ابن مسعود: الدنيا كلّها غموم، فما كان فيها من سرور فهو ربح. قال محمد بن الحنفية: من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا. وقال بعض الحكماء: مثل الدنيا والآخرة مثل رجل له ضرّتان إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى. قال سفيان: ترك لكم الملوك الحكمة فاتركوا لهم الدنيا. وقال آخر: إن الدنيا قد استودقت وأنعظ الناس «4» . قال وهيب بن الورد: من أراد الدنيا فليتهيّأ للذلّ. قيل لمحمد بن واسع: إنك لترضى بالدّون؛ فقال: إنما رضي بالدّون من رضي بالدنيا. قيل لعليّ بن الحسين: من أعظم الناس خطرا؟ فقال: من لم ير الدنيا خطرا لنفسه. كان يقال: لأن تطلب الدنيا بأقبح ما تطلب به الدنيا أحسن من أن تطلب بأحسن ما تطلب به الآخرة.

قالت امرأة لبعلها ورأته مهموما: ممّ همّك؟ أبالدّنيا فقد فرغ الله منها أم بالآخرة فزادك الله همّا!. الثوريّ قال: قال المسيح: «حبّ الدنيا أصل كلّ خطيئة والمال فيها داء كثير؛ قيل: ما داؤه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الفخر والكبر؛ قيل: وإن سلم؟ قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله» . بلغني عن محمد بن فضيل قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن أبي الدرداء قال: يأهل حمص، مالي أراكم تجمعون كثيرا، وتبنون شديدا، وتأملون بعيدا؟ إنّ من قبلكم جمعوا كثيرا وبنوا شديدا وأملوا بعيدا فصار جمعهم بورا وصارت مساكنهم قبورا وأملهم غرورا. وفي رواية أخرى: يأهل دمشق، مالكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون؟ ألا إن عادا وثمود كانوا قد ملؤا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا ونعما، فمن يشتري منّي ما تركوا بدرهمين؟ بلغني «1» عن داود بن المحبّر عن عبد الواحد بن الخطّاب قال: أقبلنا قافلين من بلاد الروم نريد البصرة، حتى إذا كنا بين الرّصافة وحمص، سمعنا «2» صائحا يصيح من بين تلك الرمال- سمعته الآذان ولم تره العيون- يقول: يا مستور يا محفوظ، اعقل «3» في ستر من أنت! فإن كنت لا تعقل من أنت في ستره فاتّق الدنيا فإنها حمى الله؛ فإن كنت لا تعقل كيف تتّقيها فصيّرها شوكا ثم انظر أين تضع قدميك منها!.

قال المأمون «1» : لو سئلت الدنيا عن نفسها ما أحسنت أن تصف نفسها صفة أبي نواس في هذا البيت: [طويل] إذا اختبر الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق قال المسيح عليه السلام: «أنا الذي كفأت الدنيا على وجهها، فليست لي زوجة تموت ولا بيت يخرب» . قال أبو العتاهية: [بسيط] يا من ترفّع للدّنيا وزينتها ... ليس الترفّع رفع الطّين بالطين إذا أردت شريف الناس كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين وقال آخر وذكر الدنيا: [متقارب] إذا تمّ أمر دنا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تمّ وقال آخر: [سريع] لا تبك للدّنيا ولا أهلها ... وابك ليوم تسكن الحافره «2» وابك إذا صيح بأهل الثرى ... فاجتمعوا في ساحة السّاهرة «3»

مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك

ويلك يا دنيا لقد قصّرت ... آمال من يسكنك الآخرة مقامات الزّهّاد عند الخلفاء والملوك مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهديّ قام «1» فقال: إنه لمّا سهل علينا ما توعّر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنّهي عند انقطاع عذر الكتمان، ولا سيّما حتى اتّسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحقّ على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص ليتمّ مؤدّينا على موعود الأداء وقابلنا على موعود القبول، أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السرّ والعلانية، ويحلّينا حلية الكذّابين، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من «2» حجب الله عنه العلم عذّبه على الجهل، وأشدّ منه عذابا من أقبل إليه العلم وأدبر عنه، ومن أهد الله إليه علما فلم يعمل به فقد رغب عن هديّة الله وقصّر بها، فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يعدمك منّا إعلام لما تجهل أو مواطأة على ما تعلم أو تذكير من غفلة؛ فقد وطّن الله عزّ وجلّ نبيّه عليه السلام على نزولها تعزية عما فات وتحصينا من التمادي ودلالة على المخرج، فقال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ

مقام رجل من الزهاد بين يدي المنصور

عَلِيمٌ «1» ؛ فأطلع الله على قلبك بما ينوّره من إيثار الحقّ ومنابدة «2» الأهواء. ولا حول ولا قوّة إلا بالله. مقام رجل من الزهّاد «3» بين يدي المنصور بينما المنصور يطوف «4» ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهمّ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحقّ وأهله من الطمع. فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه. فصلّى الرجل ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلّم عليه بالخلافة، فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي «5» والفساد في الأرض وما يحول بين الحقّ وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني «6» : قال «7» : يا أمير المؤمنين، إن أمّنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزت منك واقتصرت على نفسي ففيها «8» لي شاغل، فقال: أنت آمن

على نفسك فقل؛ فقال «1» : إنّ الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنت؛ قال: ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي؟ قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إنّ الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجصّ والآجرّ وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها عنهم، وبعثت عمّالك في جباية الأموال وجمعها وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكراع «2» ، وأمرت بألّا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سمّيتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري ولا الضعيف الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حقّ، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيّتك وأمرت ألّا يحجبوا عنك، تجبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما بالنا لا نخونه وقد سجن لنا نفسه؟ فأتمروا بألّا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا قصبوه «3» عندك ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس وهابوهم، فكان أوّل من صانعهم عمّالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيّتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلّم حيل بينه وبين دخول مدينتك، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل

فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم ألّا يرفع مظلمته إليك، فإنّ المتظلّم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفا منهم؛ فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتلّ عليه، فإذا أجهد وأحرج وظهرت، صرخ بين يديك، فضرب ضربا مبرّحا، ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصّين فقدمتها مرّة وقد أصيب ملكها بسمعه، فبكى يوما بكاء شديدا فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أمّا إني لست أبكي للبليّة النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ ولا أسمع صوته ثم قال: أمّا إذ ذهب سمعي فإنّ بصري لم يذهب نادوا في الناس ألّا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلّم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره، وينظر هل يرى مظلوما. فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين شحّ نفسه، وأنت مؤمن بالله ثم من أهل بيت نبيه لا تغلب رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرا في الطّفل يسقط من بطن أمه وماله على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطي بل الله يعطي من يشاء ما يشاء، وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وأعدّوا من الرجال والسلاح والكراع حتى أراد الله بكم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأشدّ من القتل؟ قال المنصور: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خوّلك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل؟ ولكن بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقد

مقام آخر والمنصور يخطب

عليه قلبك وعملته جوارحك ونظر إليه بصرك واجترحته يداك ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب؟ فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخلق! ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسدّدوك، قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك ولكن افتح بابك وسهّل حجابك وانصر المظلوم واقمع الظالم وخذ الفيء والصدقات مما حلّ وطاب واقسمه بالحقّ والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة. وجاء المؤذنون فسلموا عليه فضلى وعاد إلى مجلسه وطلب الرجل فلم يوجد. مقام آخر والمنصور يخطب خطب المنصور بحمد الله ومضى في كلامه، فلما انتهى إلى أشهد أن لا إله إلا الله وثب رجل من أقصى المسجد فقال أذكّرك من تذكر، فقال المنصور: سمعا لمن فهم عن الله وذكّر به وأعوذ بالله أن أكون جبّارا عصيّا وأن تأخذني العزة بالإثم لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، وأنت والله أيها القائل ما أردت بها الله ولكن حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بقائلها لو هممت، فاهتبلها «1» ويلك إذ عفوت؛ وآياكم معشر الناس وأختها؛ فإن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا انبثّت فردّوا الأمر إلى أهله يصدروه كما أوردوه؛ ثم رجع إلى خطبته فقال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

مقام عمرو بن عبيد بين يدي المنصور

مقام «1» عمرو بن عبيد بين يدي المنصور قال للمنصور «2» : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تمخّض عن يوم لا ليلة بعده؛ فوجم أبو جعفر من قوله؛ فقال له الربيع: يا عمرو، غممت أمير المؤمنين؛ فقال عمرو: إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير لك عليه أن ينصحك يوما واحدا وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سنّة نبيّه؛ قال أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلت لك: خاتمي في يديك فتعال وأصحابك فاكفني؛ قال عمرو: أدعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك؛ ببابك ألف مظلمة اردد منها شيئا نعلم أنك صادق. مقام «3» أعرابيّ بين يدي سليمان قام فقال: إني مكلّمك يا أمير المؤمنين بكلام فيه بعض الغلظة فاحتمله إن كرهته، فإنّ وراءه ما تحبّه إن قبلته؛ قال: هات يا أعرابيّ؛ قال: فإني سأطلق لساني بما حرست عنه الألسن من عظتك تأدية لحقّ الله وحقّ إمامتك، إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، فابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربّهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنّهم لن يألوا الأمانة تضييعا والأمة عسفا وخسفا، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما

مقام أعرابي بين يدي هشام

اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإنّ أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره. قال سليمان: أمّا أنت يا أعرابيّ فقد سللت لسانك، وهو أقطع سيفيك؛ فقال: أجل، لك لا عليك. مقام أعرابيّ بين يدي هشام قال: أتت على الناس سنون، أما الأولى فلحت «1» اللحم، وأما الثانية فأكلت الشّحم، وأما الثالثة فهاضت «2» العظم، وعندكم فضول أموال، فإن كانت لله فاقسموها بين عباده، وإن كانت لهم ففيم تحظر عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدّقوا عليهم بها فإنّ الله يجزي المتصدّقين؛ فأمر هشام بمال فقسم بين الناس وأمر للأعرابيّ بمال؛ فقال: أكلّ المسلمين له مثل هذا؟ قالوا: لا ولا يقوم بذلك بيت مال المسلمين؛ قال: فلا حاجة لي فيما يبعث لائمة الناس على أمير المؤمنين. مقام «3» الأوزاعيّ بين يدي المنصور ذكره «4» عبد الله بن المبارك عن رجل من أهل الشام قال: دخلت عليه فقال: ما الذي بطّأ بك عنّي؟ قلت: يا أمير المؤمنين، وما الذي تريد مني؟ فقال: الاقتباس منك؛ قلت: انظر ما تقول، فإنّ مكحولا حدّثني عن عطيّة بن بشير «5» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بلغه عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من

الله سيقت إليه، فإن قبلها من الله بشكر وإلّا كانت حجّة من الله عليه، ليزداد إثما وليزداد الله عليه غضبا، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط، ومن كرهه فقد كره الله، لأنّ الله هو الحق المبين «1» » ، فلا تجهلنّ؛ قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمع. قال الأوزاعيّ: فسلّ عليّ الربيع السيف وقال: تقول لأمير المؤمنين هذا! فانتهره المنصور وقال: أمسك. ثم كلّمه الأوزاعيّ، وكان في كلامه أن قال: إنك قد أصبحت من هذه الخلافة بالذي أصبحت به، والله سائلك عن صغيرها وكبيرها وفتيلها ونقيرها، ولقد حدّثني عروة بن رويم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من راع يبيت غاشّا لرعيّته إلا حرّم الله عليه رائحة الجنة» ، فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرا، ولما استطاع من عوراتهم ساترا، وبالقسط فيما بينهم قائما، لا يتخوّف محسنهم منه رهقا ولا مسيئهم عدوانا؛ فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويردع عنه المنافقين؛ فأتاه جبريل فقال: «يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك؟ إقذفها لا تملأ قلوبهم رعبا» . فكيف من سفك دماءهم وشقّق أبشارهم وأنهب أموالهم؟ يا أمير المؤمنين، إنّ المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيّا لم يتعمّده، فهبط جبريل فقال: «يا محمد، إن الله لم يبعثك جبّارا تكسر قرون أمتك» . واعلم أنّ كلّ ما في يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة ولا ثمرة من ثمارها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقاب قوس أحدكم من الجنة أو قذّة «2» خير له من الدنيا بأسرها» . إنّ الدنيا تنقطع ويزول نعيمها، ولو بقي الملك لمن قبلك

لم يصل إليك. يا أمير المؤمنين، ولو أنّ ثوبا من ثياب أهل النار علّق بين السماء والأرض لاذاهم فكيف من يتقمّصه؟ ولو أن ذنوبا «1» من صديد أهل النار صبّ على ماء الأرض لآجنه «2» فكيف بمن يتجرّعه؟ ولو أنّ حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف من سلك فيها ويردّ فضلها على عاتقه! وقد قال عمر بن الخطاب: «لا يقوّم أمر الناس إلا حصيف العقدة، بعيد العزّة، لا يطّلع الناس منه على عورة، ولا يحنق في الحقّ على جرّة «3» ، ولا تأخذه في الله لومة لائم» . واعلم أنّ السلطان أربعة: أمير يظلف «4» نفسه وعمّاله، فذلك له أجر المجاهد في سبيل الله وصلاته سبعون ألف صلاة ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف؛ وأمير رتع ورتع عمّاله. فذاك يحمل أثقاله وأثقالا مع أثقاله؛ وأمير يظلف نفسه ويرتع عمّاله، فذاك الذي باع آخرته بدنيا غيره؛ وأمير يرتع ويظلف عمّاله، فذاك شرّ الأكياس. واعلم يا أمير المؤمنين أنك قد ابتليت بأمر عظيم عرض على السّموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وأشفقن منه؛ وقد جاء عن جدّك في تفسير قول الله عز وجل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «5» : أنّ الصغيرة التّبسّم، والكبيرة الضّحك، وقال: فما ظنكم بالكلام وما عملته الأيدي؟

مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام

فأعيذك بالله أن يخيّل إليك أنّ قرابتك برسول الله صلى الله عليه وسلم تنفع مع المخالفة لأمره؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا صفية عمّة محمد ويا فاطمة بنت محمد، استوهبا أنفسكما من الله إني لا أغني عنكما من الله شيئا» . وكان جدّك الأكبر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة؛ فقال: «أي عمّ نفس تحييها خير لك من إمارة لا تحصيها» ، نظرا لعمه وشفقة عليه أن يلي فيجور عن سنته جناج بعوضة، فلا يستطيع له نفعا ولا عنه دفعا. هذه نصيحتي إن قبلتها فلنفسك عملت، وإن رددتها فنفسك بخست، والله الموفق للخير والمعين عليه؛ قال بلى! نقبلها ونشكر عليها، وبالله نستعين. مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام قال خالد: وفدت عليه فوجدته قد بدأ يشرب الدّهن، وذلك في عام باكر وسميّه وتتابع وليّه «1» وأخذت الأرض زخرفها، فهي كالزّرابيّ المبثوثة والقباطيّ «2» المنشورة، وثراها كالكافور لو وضعت به بضعة «3» ولم تترّب، وقد ضربت له سرادقات حبر «4» بعث بها إليه يوسف بن عمر من اليمن تتلألأ كالعقيان، فأرسل إليّ فدخلت عليه، ولم أزل واقفا، ثم نظر إليّ كالمستنطق لي؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، أتمّ الله عليك نعمه ودفع عنك نقمه؛ هذا مقام زيّن الله به ذكري وأطاب به نشري، إذ أراني وجه أمير

المؤمنين، ولا أرى لمقامي هذا شيئا هو أفضل من أن أنبّه أمير المؤمنين لفضل نعمة الله عليه ليحمد الله علي ما أعطاه، ولا شيء أحضر من حديث سلف لملك من ملوك العجم إن أذن لي فيه حدّثته به؛ قال: هات؛ قلت: كان رجل من ملوك الأعاجم جمع له فتاء «1» السّنّ وصحّة الطّباع وسعة الملك وكثرة المال، وذلك بالخورنق «2» ، فأشرف يوما فنظر ما حوله فقال لمن حضره: هل علمتم أحدا أوتي مثل الذي أوتيت؟ فقال رجل من بقايا حملة الحجة: إن أذنت لي تكلّمت؛ فقال: قلّ، فقال: أرأيت ما جمع لك؟ أشيء هو لك لم يزل ولا يزول، أم هو شيء كان لمن قبلك زال عنه وصار إليك وكذلك يزول عنك؟ قال: لا! بل شيء كان لمن قبلي فزال عنه وصار إليّ وكذلك يزول عنّي؛ قال: فسررت بشيء تذهب لذته وتبقى تبعته، تكون فيه قليلا وترتهن به طويلا؛ فبكى وقال: أين المهرب؟ قال: إلى أحد أمرين: إما أن تقيم في ملكك فتعمل فيه بطاعة ربّك وإما أن تلقي عليك أمساحا «3» ثم تلحق بجبل تعبد فيه ربك حتى يأتي عليك أجلك؛ قال: فمالي إذا أنا فعلت ذلك؟ قال: حياة لا تموت وشباب لا يهرم وصحّة لا تسقم وملك جديد لا يبلى؛ فأتى جبلا فكان فيه حتى مات. وأنشده قول عديّ بن زيد: وتفكّر ربّ الخورنق إذ أص ... بح يوما وللهدى تفكير سرّه حاله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسّدير «4»

مقام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز

فارعوى قلبه فقال وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير فبكى هشام وقام ودخل؛ فقال لي حاجبه: لقد كسبت نفسك شرّا، دعاك أمير المؤمنين لتحدّثه وتلهيه وقد عرفت علّته فما زدت على أن نعيت إليه نفسه. فأقمت أياما أتوقّع الشرّ، ثم أتاني حاجبه فقال: قد أمر لك بجائزة وأن لك في الانصراف. مقام محمد بن كعب القرظيّ بين يدي عمر بن عبد العزيز قال: إنما الدنيا سوق من الأسواق، فمنها خرج الناس بما ينفعهم وبما يضرّهم، وكم من قوم قد غرهم مثل الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت فاستوعبهم فخرجوا من الدنيا مرملين «1» لم يأخذوا لما أحبّوا من الآخرة عدّة ولا لما كرهوا جنّة «2» ، واقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم. فانظر الذي تحبّ أن يكون معك إذا قدمت، فقدّمه بين يديك حتى تخرج إليه؛ وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت، فابتغ به البدل حيث يجوز البدل؛ ولا تذهبنّ إلى سلعة قد بارت على غيرك ترجو جوازها عنك. يا أمير المؤمنين، افتح الأبواب، وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم.

مقام الحسن عند عمر بن هبيرة

مقام الحسن عند عمر بن هبيرة كتب ابن هبيرة إلى الحسن وابن سيرين والشعبيّ فقدم بهم عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يكتب إليّ في الأمر، إن فعلته خفت على ديني، وإن لم أفعله خفت على نفسي؛ فقال له ابن سيرين والشعبيّ قولا رقّقا فيه، وقال له الحسن: يا بن هبيرة، إن الله يمنعك من يزيد، وإنّ يزيد لا يمنعك من الله. يا بن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا بن هبيرة، إنه يوشك أن يبعث الله إليك ملكا فينزلك عن سريرك إلى سعة قصرك، ثم يخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلّا عملك. يابن هبيرة، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فأمر له بأربعة آلاف درهم وأمر لابن سيرين والشعبيّ بألفين؛ فقالا: رفّقنا فرقّق لنا. باب من المواعظ كلام للحسن قال في كلام له: أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم، وقد أسرع، بخياركم فماذا تنتظرون! المعاينة؟ فكأن قد. هيهات هيهات! ذهبت الدنيا بحال بمالها، وبقيت الأعمال أطواقا في أعناق بني آدم؛ فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة! إنه والله لا أمّة بعد أمتكم، ولا نبيّ بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم؛ أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم؛ وإنما ينتظر بأوّلكم أن يلحق آخركم. من رأى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد رآه غاديا رائحا لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمّر إليه؛ فالوحى الوحى «1» ، والنجاء النجاء. علام تعرجون؟ أسرع بخياركم وأنتم كلّ يوم ترذلون «2» . لقد

كلام لبعض الزهاد

صحبت أقواما كانت صحبتهم قرّة العين وجلاء الصدور، وكانوا من حسناتهم أن تردّ عليهم أشفق منكم من سيئاتكم أن تعذّبوا عليها، وكانوا فيما أحلّ الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرّم الله عليكم. إني أسمع حسيسا «1» ، ولا أرى أنيسا؛ ذهب الناس، وبقيت في النّسناس؛ لو تكاشفتم ما تدافنتم؛ تهاديتم الأطباق ولم تهادوا النصائح. يا بن آدم، إنّ دين الله ليس بالتحلّي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. كلام لبعض الزّهّاد لا تغترّنّ بطول السلامة مع تضييع الشكر، ولا تعملنّ نعمة الله في معصيته؛ فإنّ أقلّ ما يجب لمهديها ألا تجعلها ذريعة إلى مخالفته. واستدع شارد النّعم بالتوبة، واستدم الراهن منها بكرم الجوار، واستفتح باب المزيد بحسن التوكّل. أو ما علمت أنّ المستشعر لذلّ الخطيئة المخرج نفسه من كلف الطاعة نطف الثّناء، زمر «2» المروءة، قصيّ المجلس، لا يشاور وهو ذو بزلاء «3» ، ولا يصدّر وهو جميل الرّواء، غامض الشّخص ضئيل الصوت نزر الكلام يتوقّع الإسكات عند كلّ كلمة، وهو يرى فضل مزيّته وصريج لبّه وحسن تفضيله، ولكن قطعه سوء ما جنى على نفسه، ولو لم تطّلع عليه عيون الخليقة لهجست العقول بإدهانه «4» . وكيف يمتنع من سقوط القدر وظنّ المتفرّس من عرّي من حلية التقوى وسلب طبائع الهدى؟ ولو لم يتفشّ ثوب سريرته وقبيح ما أجنّ من مخالفة ربه لقطعه العلم بقبيح ما قارف عن اقتدار

كلام لغيلان

ذوي الطهارة في الكلام وإدلال أهل البراءة في النديّ. كلام لغيلان إن التراجع في المواعظ يوشك أن يذهب يومها ويأتي يوم الصاخّة «1» ، كلّ الخلق يومئذ مصيخ يستمع ما يقال له ويقضي عليه، وخشعت الأصوات للرّحمن فلا تسمع إلا همسا. فاصمت اليوم عما يصمتك يومئذ، وتعلّم ذلك حتى تعلمه، وابتغه حتى تجده، وبادر قبل أن تفجأك دعوة الموت؛ فإنها عنيفة إلا بمن رحم الله، فيقحمك في دار تسمع فيها الأصوات بالحسرة والويل والثّبور، ثم لا يقالون ولا يستعتبون. إني رأيت قلوب العباد في الدنيا تخشع لأيسر من هذا وتقسو عند هذا، فانظر إلى نفسك أعبد الله أنت أم عدوّه؟ فيا ربّ متعبّد لله بلسانه، معاد له بفعله ذلول في الانسياق إلى عذاب السعير «2» في أمنيّة أضغاث أحلام يعبرها بالأماني والظّنون. فاعرف نفسك وسل عنها الكتاب المنير، سؤال من يحبّ أن يعلم، وعلم من يحب أن يعمل، فإنّ الربّ جلّ ثناؤه لا يعذر بالتعذير والتغرير، ولكن يعذر بالجدّ والتشمير. اكتس نصيحتي؛ فإنها كسوة تقوى ودليل على مفاتح الخير، ولا تكن كعلماء زمن الهرج إن وعظوا أنفوا، وإن وعظوا عنفوا. والله المستعان. كتاب رجل إلى بعض الزهّاد كتب إليه: إنّ لي نفسا تحبّ الدّعة، وقلبا يألف اللذات، وهمة تستثقل الطاعة؛ وقد وهّمت نفسي الآفات، وحذّرت قلبي الموت، وزجرت همّتي عن

وكتب رجل من العباد إلى صديق له:

التقصير؛ فلم أرض ما رجع إليّ منهنّ، فأهد لي- رحمك الله- ما أستعين به على ما شكوت إليك؛ فقد خفت الموت قبل الاستعداد. فكتب إليه: كثر تعجّبي من قلب يألف الذنب، ونفس تطمئنّ إلى البقاء، والساعات تنقلنا والأيام تطوي أعمارنا؛ فكيف يألف قلب ما لاثبات له؟ وكيف تنام عين لا تدري؟ لعلها لا تطرف بعد رقدتها إلا بين يدي الله! والسلام. وكتب رجل من العبّاد إلى صديق له: إني لمّا رأيت الناس في اليقين متفقين، وفي العمل متفاوتين، ورأيت الحجة واجبة، فلم أر في يقين قصّر بصاحبه عن عمل حجة، ولا في عمل كان بغير يقين منفعة؛ ورأيت من تقصير أنفسنا في السعي لمرجوّ ما وعدت والهرب من مخوف ما حذّرت، حتى أسلمها ذلك إلى أن ضعفت منها النيّة وقلّ التحفّظ واستولى عليها السّقط «1» والإغفال واشتعلت منها الشّهوة، ودعاها ذلك إلى التمرّغ في فضائح اللذّات، وهي تعلم أن عاقبتها الندم، وثمرتها العقوبة، ومصيرها إلى النار إن لم يعف الله- عجبت لعمل امرىء كيف لا يشبه يقينه، ولعلم موقن كيف لا يرتبط رجاءه وخوفه على ربه، حتى لا تكون الرغبة منه إلا إليه والرهبة منه إلا له. وزادني عجبا أنّني رأيت طالب الدنيا أجدّ من طالب الآخرة، وخائفها أتعب من خائف الآخرة، وهو يعلم يقينا أنه ربّ مطلوب في الدنيا قد صار حين نيل حتفا لطالبه، وأنه ربّ مخوف فيها قد لحق كرها بالهارب منه فصار حظّا له، وأن المطلوب إليه من أهلها ضعيف عن نفسه محتاج إلى ربه مملوك عليه ماله مخزونة عنه قدرته. واعلم أن جماع ما

يسعى له الطالب ويهرب منه الهارب أمران: أحدهما أجله، والآخر رزقه، وكلاهما بعينه شاهد على أنه لا يملكه إلا الذي خلقه. فلم أدر حين صار هذا اليقين في موضع الإيمان يقينا لا شكّ فيه، كيف صار في موضع العمل شبيها بالشك الذي لا يقين فيه! وكيف، حين اختلف في أمر الآخرة، لم يختلف في أمر الدنيا، فيكون خائف الآخرة لربه كخائف الدنيا لسلطانه صبرا له على تجشّم المكروه، وتجرّعا منه لغصص الغيظ، واحتمالا منه لفادح النّصب، وعملا له بالسخرة، وتحفّظا من أن يضمر له غشّ أو يهمّ له بخلاف؛ ولو فعل ذلك ما علمه منه حتى يظهر له بقول أو فعل؛ ولو علمه منا قدر له على قطع أجل لم يفن ورزق لم ينفد؛ فإن ابتلي بالسّخط من سلطانه فكيف حزنه ووحشته، وإن أنس منه رضا عنه فكيف سروره واختياله؟ فإن قارف ذنبا إليه فكيف تضعضعه واستخذاؤه «1» ؟ فإن ندبه لأمر فكيف خفّته ونشاطه؟ وإن نهاه عنه فكيف حذره واتّعاظه؟ وهو يعلم أن خالقه ورازقه يعلم سرّه وجهره، ويراه في متقلّبه ومثواه، ويعاينه في فضائحه وعورته، فلم يزعه عنها حياء منه ولا تقيّة له، قد أمره فلم يأتمر، وزجره فلم يزدجر، وحذّره فلم يحذر، ووعده فلم يرغب، وأعطاه فلم يشكر، وستره فلم يزدد بالستر إلا تعرّضا للفضائح، وكفاه فلم يقنع بالكفاية، وضمن له في رزقه ما هو في طلبه مشيح «2» ، ويقّظه من أجله لما هو عنه لاه، وفرّغه من العمل لما هو عنه بغيره مشغول؛ فسبحان من وسع ذلك حمله وتغمّده من عباده عفوه؛ ولو شاء ما فعلوه: ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فأجابه: إني رأيت الله تبارك وتعالى جعل اليقين بأعظم المواضع في

أمر الدنيا والدين، فهو غاية علم العالم وبصر البصير وفهم السامع، ليس كسائر الأشياء التي تدخلها الشبهات ويجرحها الإغفال ويشوبها الوهن؛ وذلك أنّ الله تعالى جعل مغرسه القلب؛ وأغصانه العمل، وثمرته الثواب. وإنما جعل القلب لليقين مغرسا، لأنه جعل الخمس الجوالب لعلم الأشياء كلّها إلى القلب: السمع والبصر والمجسّة والمذاقة والاسترواح. فإذا صارت الأشياء إليه ميّز بينها العقل، ثم صارت بأجمعها إلى اليقين، فكان هو المثبت لها والموجّه كلّ واحدة منهن جهتها. ولولا معرفة القلب بالعقل الذي جعله الله لذلك، لم يفرق سمع بين صوتين مختلفين، ولا بصر بين صورتين متقاربتين، ولا مجسّة بين شيئين غير متشابهين. ولليقين بعد ذلك منزلة يعرف بها حال الضارّ والنافع في العاقبة عند الله تعالى. فلما صار اليقين في التشبيه كالشجرة النابتة في القلب، أغصانها العمل وثمرتها الثواب، أخبر ذلك أنه قد تكون الشجرة نابتة الأصل بلا أغصان كما قد يكون اليقين نابتا بلا عمل؛ وأنه كما لا تكون الأغصان نابتة بلا أصل، فكذلك لا يكون العمل نافعا إلا بيقين؛ وكما أنه لا تخلف الثمرة في الطيب والكثرة إذا كان الأصل نابتا والأغصان ملتفّة، فكذلك يكون الثواب لمن صح يقينه وحسن عمله. وقد تعرض للأعمال عوارض من العلل؛ منهنّ الأمل المثبّط «1» ، والنفس الأمّارة بالسوء، والهوى المزيّن للباطل، والشيطان الجاري من ابن آدم مجرى الدم، يضررن بالعمل والثواب، ولا يبلغ ضررهن اليقين، فيكون ذلك كبعض ما يعرض للشجرة من عوارض الآفات فتذوي أغصانها وتنثر ورقها وتمنع ثمرتها والأصل ثابت؛ فإذا تجلّت الآفة عادت إلى حال صلاحها. فإذا يعجبك من عمل امرىء لا يشبه يقينه وأنّ يقينه لا يرتبط رجاءه وخوفه على ربه؟ فإنما العجب

من خلاف ذلك! ولعمري لو أشبه عمل امرىء يقينه فكان في خوفه ورجائه كالمعاين لما يعاينه بقلبه من الوقوف بين يدي الله والنظر إلى ما وعد وأوعد، لكان ما يعتلج على قلبه من خطرات الخوف شاغلا له عن الرجاء، حتى يأتي على نفسه أوّل لحظة ينظر بها إلى النار خوفا لها أو إلى الجنة أسفا عليها إذا حرمها، وإذا لكان الموقن بالبعث بقلبه كالمعاين له يوم القيامة. وكيف يستطيع من كان كذلك أن يعقل فضلا عن أن يعمل؟ وأما قولك: «كيف لم يكن خائف الآخرة لربه كخائف الدنيا لسلطانه؟» ، فإن الله عزّ وجلّ خلق الإنسان ضعيفا وجعله عجولا، فهو لضعفه موكّل بخوف الأقرب فالأقرب مما يكره، وهو بعجلته موكل بحبّ الأعجل فالأعجل مما يشتهي؛ وزاده حرصا على المخلص من المكروه وطلبا للمحبوب حاجته إلى الاستمتاع بمتاع الدنيا الذي لولا ما طبع عليه القلب من حبّه وسهل على المخلوقين من طلبه، لما انتفع بالدنيا منتفع ولا عاش فيها عائش. ومع ذلك إنّ مكاره الدنيا ومحابّها عند ابن آدم على وجهين، إما المكروه فيقول فيه: عسى أن أكون ابتليت به لذنب سلف منّي، وإما المحبوب فيقول فيه: عسى أن أكون رزقته بحسنة كانت مني فهو ثواب عجّل؛ وهو مع هذا يعلم أن حلوم المخلوقين إلى الضّيق، وأن قلوب أكثر مسلّطيهم إلى القسوة، وأن العيب عنهم مستور، فليس يلتمس ملتمسهم إلا علم الظاهر ولا يضع إلا به، ولا يلتفت من امرىء إلى صلاح سريرته دون صلاح علانيته. ومن طباع الإنسان اللؤم، فليس يرضى إذا خيف إلا بأن يذلّ، ولا إذا رجي إلا بأن يتعب، ولا إذا غضب إلا بأن يخضع له، ولا إذا أمر إلا بأن ينفّذ أمره، ولا ينتفع المتشفع بإحسانه عنده إذا أساء ولا المطيع بكثرة طاعته في المعصية الواحدة إذا عصى، ولا يرى الثواب لازما له ولا العقاب محجورا عليه، فإن عاقب لم يستبق، وإن غضب

موعظة مستعملة

لم يثبّت، وإن أساء لم يعتذر، وإن أذنب إليه مذنب لم يغفر؛ واللطيف الخبير يعلم السريرة فيغفر بها العلانية، ويمحو بالحسنة عشرا من السيئات، ويصفح بتوبة الساعة عن ذنوب مائة عام، إن دعي أجاب، وإن استغفر غفر، وإن أطيع شكر، وإن عصي عفا، ومن وراء عبده بعد هذا كله ثلاث: رحمته التي وسعت كلّ شيء، وشهادة الحق التي لا يزكو إلا بها عمل، وشفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهذا كله مثبت لليقين باسط للأمل مثبّط عن العمل إلا من شاء الله وقليل ما هم فلا تحمل نطف «1» عملك على صحة يقينك فتوهن إيمانك، ولا ترخّص لنفسك في مقارفة الذنوب، فيكون يقينك خصما لك وحجّة عليك؛ وكذّب أملك وجاهد شهوتك، فإنهما داءاك المخوفان على دينك المعتونان «2» على هلكتك. وأسأل الله الغنيمة لنا ولك. موعظة مستعملة وكيع عن مسعر عن زيد العمّيّ عن عون بن عبد الله قال: كان أهل الخير يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: من ملّ «3» لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله له علانيته. موعظة لعمرو بن عتبة العتبيّ عن أبيه عن أبي خالد عن أبيه عن عمرو بن عتبة قال:

صفات الزهاد

كان أبونا لا يرفع المواعظ عن أسماعنا، أراد مرّة سفرا فقال: يا بنيّ تألّفوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد فيها بالشكر عليها، واعلموا أنّ النفوس أقبل شيء لما أعطيت وأعطى شيء لما سئلت، فاحملوها على مطيّة لا تبطىء إذا ركبت، ولا تسبق وإن تقدّمت، عليها نجا من هرب من النار، وأدرك من سابق إلى الجنة؛ فقال الأصاغر: يا أبانا، ما هذه المطيّة؟ قال: التوبة. صفات الزّهّاد حدّثني عبد الرحمن العبديّ عن يحيى بن سعد السعديّ قال: سأل الحواريّون عيسى عليه السلام فقالوا: يا روح الله، من أولياء الله؟ قال: هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنا، فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفيعها بغير الحقّ وضعوه، فهم أعداء ما سالم الناس وسلم ما عادوا، خلقت «1» الدنيا عندهم فليسوا يعمرونها، وماتت في قلوبهم فليسوا يحبونها، يهدمونها ويبنونها بها آخرتهم، ويبيعونها ويشترون بها ما يبقى لهم؛ ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت منهم المثلات «2» فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، بهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتب وبه عملوا، لا يرون نائلا مع ما نالوا ولا أمنا دون ما يرجون، ولا خوفا دون ما يحذرون.

وحدّثني أيضا عن أنس بن مصلح عن أبي سعيد المصّيصي: إن قوما دخلوا على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرض، فإذا فيهم شابّ ذابل ناحل، فقال له عمر: يا فتى، ما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمراض وأسقام، فقال عمر: لتصدقنّني؛ قال: يا أمير المؤمنين، ذقت حلاوة الدنيا فوجدتها مرّة فصغر في عيني زهرتها وحلاوتها، واستوى عندي حجرها وذهبها، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإلى الناس يساقون إلى الجنة وإلى النار، فأظمأت لذلك نهاري وأسهرت له ليلي، وقليل حقير كل ما أنا فيه في جنب ثواب الله وجنب عقابه. بلغني عن إسحاق بن سليمان عن أخيه عن الفياض عن زبيد الياميّ «1» عن معاذ بن جبل. أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة» . وعن وكيع عن عمرو بن منبّه عن أوفى بن دلهم قال: قال عليّ عليه السلام: تعلّموا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه يأتي من بعدكم زمان ينكر فيه الحقّ تسعة أعشرائهم «2» لا ينجو فيه إلا كلّ نومة؛ يعني الميّت الذكر، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم ليسوا بالعجل المذاييع البذر» . وقال عليّ عليه السلام أيضا: إنّ الدنيا قد ارتحلت

مدبرة وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا. ألا من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات. ألا إنّ لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلّدين وأهل النار في النار معذّبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة لعقبى راحة طويلة؛ أمّا بالليل فصافّو أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله: ربّنا ربّنا يطلبون فكاك رقابهم؛ وأما بالنهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنّهم القداح ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول: خولطوا، ولقد خالط القوم أمر عظيم. حدّثنا إسحاق المعروف بابن راهوية أنّ عون بن عبد الله بن عتبة كان يقول: يا بنيّ ممّن نأى به عمّن نأى عنه يقين ونزاهة، ودنا به ممن دنا منه لين رحمة، ليس نأيه تكبرا ولا عظمة، ولا دنوّة بخدع ولا خلابة، يقتدي بمن قبله، وهو إمام من بعده، لا يعجل فيمن رابه «1» ويعفو إذا تبين له، ينقص في الذي له ويزيد في الذي عليه، لا يعزب حلمه ولا يحضر جهله، الخير منه مأمول والشرّ منه مأمون، إن رجي خاف ما يقولون واستغفر لما لا يعلمون، إن عصته نفسه فيما كرهت لم يطعها فيما أحبت، يصمت ليسلم ويخلو ليغنم وينطق ليفهم ويخالط ليعلم. ولا تكن يا بنيّ ممن يعجب باليقين من نفسه فيما ذهب وينسى اليقين فيما رجا وطلب، يقول فيما ذهب: لو قدّر شيء كان، ويقول فيما بقي: ابتغ أيها الإنسان؛ تغلبه نفسه على ما يظنّ ولا يغلبها

على ما يستيقن، طال عليه الأمل ففتر، وطال عليه الأمد فاغترّ؛ وأعذر إليه فيما عمّر وليس فيما عمّر بمعذر «1» ، عمّر فيما يتذكر فيه من تذكّر، فهو من الذنب والنعمة موقر، إن أعطي لم يشكر، وإن منع لم يعذر، يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم ويبغض المسيئين وهو أحدهم، يرجو الأجر في البغض على ظنّه ولا يخشى اليقين من نفسه، يخشى الخلق في ربه ولا يخشى الربّ في خلقه، يعوذ بالله ممن هو فوقه، ولا يريد أن يعيذ الله منه من هو تحته، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ويرجو لنفسه بأيسر من عمله، يبصر العورة من غيره ويغفلها من نفسه، إن صلّى اعترض «2» ، وإن ركع ربض، وإن سجد نقر، وإن جلس شعر، وإن سأل الحف، وإن سئل سوّف، وإن حدّث أخلف «3» . وإن وعظ كلح «4» ، وإن مدح فرح، يحسد أن يفضل، ويزهد أن يفضل، إن أفيض في الخير برم «5» وضعف واستسلم وقال: الصمت حكم «6» ، وهذا ما ليس لي به علم؛ وإن أفيض في الشرّ قال: يحسب بي عيّ، فتكلّم يجمع بين الأراوي «7» والنعام وبين الخال والعمّ ولاءم ما لا يتلاءم؛ يتعلّم للمراء، ويتفقّه للرياء، ويبادر ما يفنى، ويواكل ما يبقى. حدّثني محمد بن داود عن أبي شريح الحوارزمي قال: سمعت أبا الرّبيع الأعرج عمرو بن سليمان يقول:

قال الحسن بن عليّ: ألا أخبركم عن صديق كان لي من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه فلا يتشهّى ما لا يحلّ ولا يكنز إذا وجد، وكان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمدّ يدا إلا على ثقة لمنفعة، كان لا يتشكّى ولا يتبرّم، كان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بذّ القائلين، كان ضعيفا مستضعفا فإذا جاء الجدّ فهو الليث عاديا، كان إذا جامع العلماء على أن يسمع أحرص منه على أن يقول، كان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، كان لا يقول ما يفعل ويفعل ما لا يقول، كان إذا عرض له أمران لا يدري أيّهما أقرب إلى الحق نظر أقربهما من هواه فخالفه، كان لا يلوم أحدا على ما قد يقع العذر في مثله. زادني غيره: كان لا يقول حتى يرى قاضيا عدلا وشهودا عدولا. وفي كلام علي رضي الله عنه لكميل حين ذكر حجج الله في الأرض فقال: هجم بهم العلم على حقائق الأمور، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى؛ هاه «1» شوقا إلى رؤيتهم. قال رجل ليونس بن عبيد: تعلم أحدا يعمل بعمل الحسن؟ قال: والله ما أعرف أحدا يقول بقوله فكيف يعمل بعمله! قيل: فصفه لنا؛ قال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلّا له. حدّثنا حسين بن حسن المروزيّ قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا معمر عن الأعمش عن شقيق بن سلمة قال: ما مثل قرّاء هذا الزمان

إلا كمثل غنم ضوائن «1» ذات صوف عجاف أكلت من الحمض «2» وشربت من الماء حتى انتفخت خواصرها، فمرّت برجل فأعجبته، فقام إليها فعبط منها شاة فإذا هي لا تنقي «3» ، ثم عبط أخرى فإذا هي كذلك، فقال: أفّ لك، سائر اليوم. حدّثنا حسين قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: إذا شئت لقيته أبيض بضّا «4» حديد النظر ميت القلب والعمل، أنت أبصر به من نفسه؛ ترى أبدانا ولا قلوب، وتسمع الصوت ولا أنس، أخصب ألسنة وأجدب قلوب. حدّثني أبو سهل عن علي بن محمد عن وكيع قال: قال سفيان: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس الغليظ. قال: وقال يوسف بن أسباط: لو أنّ رجلا في ترك الدنيا مثل أبي ذرّ وأبي الدّرداء وسلمان، ما قلنا له: إنك زاهد، لأن الزهد لا يكون إلا على ترك الحلال المحض، والحلال المحض لا نعرفه اليوم، وإنما الدنيا حلال وحرام وشبهات؛ فالحلال حساب، والحرام عذاب، والشبهات عتاب؛ فأنزل الدنيا منزلة الميتة خذ منها ما يقيمك، فإن كان ذلك حلالا كنت زاهدا فيها،

وإن كان حراما لم تكن أخذت منها إلا ما يقيمك كما يأخذ المضطرّ من الميتة، وإن كان عتاب كان العتاب يسيرا. ومثله قول بعضهم: ليس الزهد بترك كلّ الدنيا، ولكن الزهد التهاون بها وأخذ البلاغ منها. قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ «1» ، فأخبر أنهم زهدوا فيه وقد أخذوا له ثمنا. قال أبو سليمان الدارانيّ: الرضا عن الله والرحمة للخلق درجة المرسلين، وما تعرف الملائكة المقرّبون حدّ الرضا. وقال: أرجو أن أكون قد نلت من الرضا طرفا، لو أنه تبارك وتعالى أدخلني النار كنت بذلك راضيا. قال: وليس الحمد له أن تحمده بلسانك وقلبك مقتصر على المصيبة، ولكن هو أن تحمده بلسانك وقلبك مسلّم راض. وقال أبو أبي الحواريّ: قلت لأبي سليمان: بلغني في قول الله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «2» أنه الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد غيره؛ فبكى وقال: ما سمعت مذ ثلاثين سنة أحسن من هذا. وقال: كلّ قلب فيه شرك فهو ساقط. قال: وما في الأرض أحد أجد له محبّة ولكن رحمة. وقال: ينبغي للخوف أن يكون أغلب على الرجاء، فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب. وقال الفضيل بن عياض: أصل الزهد الرضا عن الله.

كلام من كلام الزهاد

الحسين بن علي عن عبد الملك بن أبجر: أنّ رجلا يكنى أبا سعيد كان يقول: والله ما رأيت قرّاء زمان قطّ أغلظ رقابا ولا أدقّ ثبابا ولا آكل لمخّ العيش منكم. أبو أسامة عن حمّاد بن زيد عن إسحاق بن سويد قال. قال مطرّف: انظروا قوما إذا ذكروا بالقراءة فلا تكونوا منهم، وقوما إذا ذكروا ذكروا بالفجور فلا تكونوا منهم، كونوا بين هؤلاء وبين هؤلاء. أوصى ابن محيريز رجلا فقال: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتسأل ولا تسأل وتمشي ولا يمشى إليك، فافعل. قال أيّوب: ما أحبّ الله عبدا إلّا أحبّ ألّا يشعر به. إسحاق بن سليمان عن جرير بن عثمان قال: جاء شريح بن عبيد إلى أبي عائذ الأزدي فقال: يا أبا عبد الله، لو أحييت سنّة قد تركها الناس: إرخاء طرف العمامة من الجانب الأيسر! قال: يا بن أخي، ما كان أحسنها! تركها الناس فتركناها، ما أحبّ أن أعرف في خير ولا شرّ. كلام من كلام الزّهّاد حدّثنا حسين بن حسن المروزيّ قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا عبد الله بن عبد العزيز قال: قال عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية لرجل: يا فلان، هل أنت على حال أنت فيها مستعدّ للموت؟ قال: لا؛ قال: فهل أنت مجمع «1» على التحوّل إلى حال ترضى بها؟ قال: ما شخصت نفسي لذلك؛ قال: فهل بعد

الموت دار فيها مستعتب؟ «1» قال: لا، قال: فهل تأمن الموت أن يأتيك؟ قال: لا؛ قال فهل رضي بمثل هذا الحال عاقل؟. حدثنا حسين قال: حدّثنا عبد الله بن مبارك قال: حدّثني غير واحد عن معاوية بن قرّة قال: قال أبو الدرداء: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أراض الله عنه أم ساخط عليه. وأبكاني فراق الأحبّة: محمد وحزبه، وهول المطّلع، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السرائر، ثم لا أدري إلى الجنة أو إلى النار. كان عبد الله بن ثعلبة الحنفيّ يقول: تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من القصّار «2» . قال: وقال الفضيل: أصل الزهد الرضا عن الله، وقال: ألا تراه كيف يزويها عنه ويمرمرها «3» عليه بالعري مرة وبالجوع مرة وبالحاجة مرة، كما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها: تسقيه مرّة صبرا «4» ومرة حضضا «5» ، وإنما تريد بذلك ما هو خير له. وقال السريّ: ليس من أعلام الحبّ أن تحبّ ما يبغضه حبيبك. أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء: أمّا زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة لنفسك، وأمّا انقطاعك إليّ فتعزّزك بي، ولكن هل عاديت لي عدوّا أو واليت لي وليّا؟

قال مالك بن دينار: بلغنا أن حبرا من أحبار بني إسرائيل كان يغشاه الرجال والنساء، فغمز بعض بنيه النساء، فرآهم فقال: مهلا يا بنيّ مهلا! قال: فسقط عن سريره فانقطع نخاعه «1» وأسقطت امرأته وقتل بنوه في الجيوش. وقيل له: ما يكون من جنسك حبر أبدا، ما كان غضبك لي إلا أن قلت يا بنيّ مهلا يا بنيّ مهلا. ضمرة بن ربيعة قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ارض بالله صاحبا ودع الناس جانبا. كان بشر بن الحارث يقول: أربعة رفعهم الله بغير كبير عمل في الظّاهر إلا بطيب المطعم: إبراهيم بن أدهم وسالم الخوّاص ووهيب المكّي ويوسف ابن أسباط. وحدّثني أبو حاتم أو غيره عن العتبيّ قال: سمعت ابن عيينة يقول: أربع ليس عليك في واحدة منهنّ حساب: سدّ الجوعة، وبرد العطشة، وستر العورة، والاستكنان؛ ثم تلا: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى «2» . بلغني عن يعلى عن سفيان: قال عليّ عليه السلام لرجل: كيف أنتم؟ قال: نرجو ونخاف؛ قال: من رجا شيئا طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما يخاف؟ وما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصبر عليه لما يرجو؟. بلغني عن عيسى بن يونس عن الأوزاعيّ عن مكحول قال: إن كان

الفضل في الجماعة فإن السلامة في العزلة. وبلغ الفضيل هذا فقال: سمعتم كلاما أحسن منه! قال ابن المبارك: ركبت مع محمد بن النّضر الحارثيّ السفينة فقلت: بأيّ شيء أستخرج منه الكلام؟ فقلت: ما تقول في الصوم في السفر؟ فقال: إنما هي المبادرة؛ فجاءني والله بفتوى غير فتوى إبراهيم والشّعبيّ. حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله عن الأصمعيّ قال: قيل لأبي حازم: ما مالك؟ فقال: الثقة بما في يد الله واليأس مما في أيدي الناس. وقال أبو حازم: إنه ليس شيء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلكم، فآثر نفسك أيها المرء بالنصيحة على ولدك، واعلم إنما تخلف مالك في يد أحد رجلين: عامل فيه بمعصيه الله فتشقى بما جمعت له، وعامل فيه بطاعة الله فتسعد بما شقيت له؛ فارج لمن قدّمت منهم رحمة الله، وثق لمن خلّقت منهم برزق الله. وقال أبو حازم: إن كنت إنما تريد من الدنيا ما يكفيك ففي أدناها ما يكفيك، وإن كنت لا ترضى منها بما يكفيك فليس فيها شيء يغنيك. ونظر أبو حازم إلى الفاكهة في السوق فقال: موعدك الجنّة. ومرّ بالجزّارين فقال له رجل منهم: يا أبا حازم، هذا سمين فاشتر منه؛ قال: ليس عندي ثمنه؛ قال: أنا أنظرك؛ ففكّر ساعة ثم قال: أنا أنظر نفسي. قال سفيان: حلف أبو حازم لجلسائه: إني لأرضى أن يبقى أحدكم على دينه كما يبقى على نعله. حدّثني محمد بن زياد الزياديّ قال: حدّثنا عيسى بن يونس عن عبد الله ابن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصحّة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس» .

حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا أبو ربيعة فهد بن عون عن حمّاد بن سلمة عن يعقوب قال: سمعت الحسن يقول: ابن آدم، إنما أنت عدد، فإذا مضى يوم فقد مضى بعضك. وروى عبد الله بن بكر بن حبيب السّهميّ عن الحسن بن ذكوان رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوصاني ربّي بتسع خصال وإني موصيكم بها: بالإخلاص في السرّ والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعفو عمّن ظلمني، وأصل من قطعني وأعطي من حرمني، وأن يكون صمتي تفكّرا، ومنطقي ذكرا، ونظري عبرا» . مسلم بن إبراهيم عن حمّاد بن سلمة عن حميد قال: كان ابن عمر يقول: البرّ شيء هيّن: وجه طليق وكلام ليّن. جعفر بن سليمان قال: سمعت مالكا يقول: اتّقوا السّحّارة، فإنها تسحر قلوب العلماء. قال: وسمعته يقول: وددت أنّ رزقي في حصاة أمصّها حتى أموت، ولقد اختلفت إلى الخلاء حتى استحييت من ربّي. بشر بن مصلح عن أبي سعيد المصّيصيّ عن أسد بن موسى قال: في الجوع ثلاث خلال: حياة القلب، ومذلّة النفس، ويورث العقل الدقيق السماويّ. سالم بن سالم البلخيّ عن السريّ بن يحيى قال: كان الحسن إذا عاد مريضا لم ننتفع به يوما وليلة، وإذا شيّع جنازة لم ينتفع به أهله وولده وإخوانه ثلاثا. خلف بن تميم قال: قال رجل لإبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق، أحبّ أن تقبل مني هذه الجبّة كسوة؛ قال إبراهيم: إن كنت غنيّا قبلتها منك، وإن

كنت فقيرا لم أقبلها؛ قال: فإني غنيّ؛ قال: كم عندك؟ قال: ألفان؛ قال: فيسرّك أن تكون أربعة آلاف؟ قال: نعم؛ قال: أنت فقير، لا أقبلها» . قال عبيد الله بن عمر: دخلت أنا ويحيى بن سليمان على الفضيل نعوده؛ فقال: زوّجك وخوّلك وصرف وجوه الناس إليك وأنت تشغلك عنه من أنت وما أنت! ثم شهق شهقة، وأضجعه رجل كان عنده وغطّى عليه ثوبا وهو لا يعقل، ونزلنا. بكّار بن عبد الله عن إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: قال أبو حازم: السّرّ أملك بالعلانية من العلانية بالسرّ، والفعل أملك بالقول من القول بالفعل، فإذا كنت في زمان يرضى فيه من الفعل بالقول ومن العمل بالعلم، فأنت في شرّ زمان وشرّ أناس. ابن أبي الحواريّ قال: ذكرت لأبي سليمان امرأتي والشغل بها، فقال: إن علم الله من قلبك أنك تريد الفراغ له فرّغك، وإن كنت إنما تريد الراحة منها لتستبدل بها، فهذه حماقة. قال: ورأيته حين أراد الإحرام فلم يلبّ حتى سرنا مليّا وأخذه كالغشي وجعل رأسه عند ركبته فجعل محمله يخفّ ومحملي يثقل حتى سرنا هويّا «1» ، ثم أفاق فقال: يا أحمد، بلغني أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام «يا موسى مر ظلمة بني إسرائيل أن يقلّوا من ذكري، فإني أذكر من ذكرني منهم بلعنة حتى يسكت» . ويحك يا أحمد بلغني أنه من حجّ من غير حلّه ثم لبّى، قال له تبارك وتعالى: لا لبّيك ولا سعديك حتى تردّ ما في يديك؛ فما يؤمّننا أن يقال لنا ذلك. قال: وقال أبو سليمان:

يجيئك وأنت في شيء من الخير فيشير لك إلى شيء من الخير دونه ليربح عليك شعيرة؛ يعني إبليس. قال المسيح لأصحابه: بحق أقول لكم، إنّ من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم في المزابل مع الكلاب كثير. مسلم بن إبراهيم عن عمرو بن حمزة عن داود بن أبي هند عن مكحول قال: كنا أجنّة في بطون أمّهاتنا فسقط من سقط وكنا فيمن بقي، ثم كنا مراضع «1» فهلك منا من هلك وبقي من بقي، وكنا أيفاعا، وذكر مثل ذلك، ثم صرنا شبّانا، وذكر مثل ذلك، ثم صرنا شيوخا لا أبا لك فما ننتظر وما نريد! وهل بقيت حالة ننتقل إليها. قال: وقال مكحول: الجنين في بطن أمّه لا يطلب ولا يحزن ولا يغتمّ، فيأتيه الله برزقه من قبل سرّته، وغذاؤه في بطن أمه في دم حيضها، فمن ثمّ لا تحيض الحامل، فإذا سقط استهلّ استهلالة إنكارا لمكانه، وقطعت سرّته وحوّل الله رزقه إلى ثدي أمه ثم حوّله إلى الشيء يصنع له ويتناوله بكفّه، حتى إذا اشتدّ وعقل قال: أين لي بالرزق؟ يا ويحك! أنت في بطن أمك وفي حجرها ترزق حتى إذا عقلت وشببت قلت: هو الموت أو القتل وأين لي بالرزق؟ ثم قرأ: يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ «2» . عبد الملك بن عبد العزيز قال: كان محمد بن النّضر الحارثيّ إذا لم يكن في صلاة استقبل القبلة، فقعدنا إليه بعد العصر فقال: بلغني أنه من

قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، ألف مرة في دبر صلاة العصر، رفع له عمل نبيّ؛ ثم قال: قد أكثرت الكلام. وقال سعيد بن عمر الكنديّ: دخل رجل على داود وهو يأكل خبزا يابسا قد بلّه في الماء بملح جريش «1» ، فقال له: كيف تشتهي هذا؟ قال: أدعه حتّى أشتهيه. ونحو هذا قول هشام بن عبد الملك لسالم: ما أدمك «2» ؟ قال: الزيت؛ قال: أما تأجمه «3» ؟ قال: إذا أجمته تركته حتى أشتهيه. قال: وكان ماء داود في دنّ مقيّر «4» في الصّيف والشتاء، فقال له بعض أصحابه: لو برّدت الماء! فقال داود: إذا أصبت في مثل هذا اليوم ماء باردا فمتى تحبّ الموت؟. سعيد بن عمرو عن رجل قال: قال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما جلس إليّ منكم اثنان. وقال محمد بن واسع: لا يطيب المال إلا من أربع: سهم في فيء المسلمين، أو عطيّة عن ظهر يد، أو إرث بكتاب الله، أو تجارة من حلال؛ ولا يقتل مسلم إلا بهذه الخصال: كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قتل فيقتل، أو حارب الله ورسوله وقطع الطريق. قال سليمان بن المغير: سمعت ثابتا يقول: والله لحمل الكارات أهون من العبادة. قال: ولا يسمّى الرجل عابدا وإن كانت فيه خصلة من كلّ خير حتى يكون فيه الصوم والصلاة، فإنهما من لحمه ودمه.

أبو نعيم عن الأعمش عن يزيد بن حيّان قال: كان عيسى بن عقبة يسجد حتى أنّ العصافير ليقعن على ظهره وينزلن، ما يحسبنه إلّا جرم حائط. حدّثني محمد بن داود عن عبد الصمد بن يزيد قال: شكا أهل مكة إلى الفضيل القحط؛ فقال: أمدبّرا غير الله تريدون؟. قال: وسمعته يقول: استخيروا الله ولا تخيّروا عليه، فكم من عبد تخيّر لنفسه أمرا كان هلاكه فيه! أما رأيتموه سأل ربّه طرسوس «1» فأعطيها فأسر فصار نصرانيا؟. وحدثني أيضا عن سعيد بن نصير قال: قال وكيع: أبو يونس، ومن أبو يونس؟ بكى حتى عمي، وطاف حتى أقعد، وصلّى حتى حدب. حدّثني محمد بن عبيد قال: محمد بن عبد الله الأنصاريّ عن بهز بن حكيم قال: صلّى بنا زرارة بن أوفى الغداة، فقرأ الإمام: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ «2» ، فخر مغشيّا عليه، فحملناه ميتّا. ابن أبي الحواريّ قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: الصلاة تبلّغك نصف الطريق، والصوم يبلّغك باب الملك، والصّدقة تدخلك عليه. ذكر أبو حنيفة رحمه الله أيوب فقال: رحمه الله- ثلاثا- لقد قدم المدينة

مرّة وأنا بها، فقلت: لأقعدنّ له، لعليّ أتعلّق عليه بسقطة، فقام من القبر مقاما ما ذكرته قطّ إلا اقشعرّ جلدي. روى ابن عيّاش عن سعيد بن أبي عروبة قال: حجّ الحجّاج فنزل بعض المياه ودعا بالغداء، فقال لحاجبه: انظر من يتغدّى معي واسأله عن بعض الأمر؛ فنظر الحاجب فإذا هو بأعرابيّ بين شملتين من شعر نائم، فضربه برجله وقال: ائت الأمير فأتاه؛ فقال له الحجاج: اغسل يدك وتغدّ معي؛ قال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته؛ فقال له الحجاج: من الذي دعاك؟. قال: الله تعالى دعاني إلى الصوم فصمت؛ قال: في هذا اليوم الحارّ؟ قال: نعم، صمت ليوم أحرّ منه؛ قال: فأفطر وتصوم غدا؛ قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد؛ قال: ليس ذاك إليّ؛ قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه؛ قال: إنه طعام طيّب؛ قال: إنك لم تطيّبه ولا الخبّاز، ولكن طيّبته العافية. ونحو هذا حدّث الأصمعيّ عن شبيب بن شيبة قال: كنّا في طريق مكة فجاء أعرابيّ في يوم صائف شديد الحرّ ومعه جارية سوداء وصحيفة، فقال: أفيكم كاتب؟ قلنا: نعم؛ وحضر غداؤنا فقلنا: لو دخلت أصبت من الطعام! قال: إني صائم؛ قلنا: في الحرّ وشدّته وجفاء البادية؟ فقال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، ولا أحبّ أن أغبن أيّامي، ثم نبذ إلينا الصحيفة، وقال: اكتب ولا تزيدنّ على ما أقول حرفا: هذا ما أعتق عبد الله ابن عقيل الكلابيّ، أعتق جارية له سوداء يقال لها لؤلؤة، ابتغاء وجه الله تعالى وجواز العقبة، وإنه لا سبيل له عليها إلا سبيل الولاء، المنّة لله عليها وعليه واحدة. قال الأصمعيّ: فحدّثت بها الرشيد، فأمر أن يعتق عنه ألف نسمة أو مائة نسمة، ويكتب لهم هذا الكتاب.

قال خالد بن صفوان: بتّ أتمنّى ليلتي كلّها، فكبست البحر الأخضر بالذهب الأحمر، فإذا الذي يكفيني من ذاك رغيفان وكوزان وطمران!. رأى رجل رجلا من ولد معاوية يعمل على بعير له، فقال: هذا بعد ما كنتم فيه من الدنيا! فقال: رحمك الله، ما فقدنا إلا الفضول. سمعت بعض العبّاد يقول: علامة التّوبة الخروج من الجهل، والنّدم على الذنب، والتّجافي عن الشهوة، واعتقاد مقت نفسك المسوّلة، وإخراج المظلمة، وإصلاح الكسرة، وترك الكذب، وقطع الغيبة، والانتهاء عن خدن «1» السّوء. لقي زاهد زاهدا فقال له: يا أخي، إني لأحبّك في الله؛ قال الآخر: لو علمت منّي ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله؛ قال له الأوّل: لو علمت منك ما تعلم من نفسك، لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك. كان الثّوريّ مستخفيا بالبصرة، فورد عليه كتاب من أهله، وفيه: قد بلغ بنا الجهد إلى أن نأخذ النّوى فنرضّه ثم نخلطه مع التبن فنأكله؛ فحرّك ذلك من قلبه، ورمى بالكتاب إلى أخ له؛ فقرأه فدمعت عينه، ثم قال: يا أبا عبد الله، لو أنّك حدّثت الناس اتّسعت واتّسع هؤلاء! فأطرق مليّا ثم رفع رأسه وقال: اسمع حديثا أحدّثك به ثم لا أكلّمك بعده سنة؛ رئي نور في الجنّة تجدّد، فقيل: ما هذا النور؟ فقيل: حوراء ضحكت في وجه زوجها فبدت ثناياها؛ فترى لي أن أغرّر بتلك وأصير إلى ما تقول!. أراد قوم سفرا فحادوا عن الطريق وانتهوا إلى راهب منفرد في ناحية،

فنادوه فأشرف عليهم، فقالوا: إنا قد ضللنا فكيف الطريق؟ قال لهم: ها هنا، وأومأ إلى السماء، فعلموا الذي أراد، فقالوا: إنا سائلوك، أفتجيبنا أنت؟ قال: سلوا ولا تكثروا، فإنّ النهار لن يرجع والعمر لن يعود والطالب حثيث في طلبه ذو اجتهاد؛ قالوا: ما الخلق عليه غدا عند مليكهم؟ فقال: على نيّاتهم؛ فقالوا: فإلام الموئل؟ قال: إلى المقدّم؛ قالوا: أوصنا؛ قال: تزوّدوا على قدر سفركم، فإنّ خير الزاد ما بلّغ المحلّ؛ ثم أرشدهم إلى المحجّة وانقمع «1» . وقال آخر: قلت لراهب: عظني عظة نافعة؛ فقال: جميع المواعظ منتظمة في حرف واحد؛ قلت: ما هو؟ قال: تجمع على طاعته، فإذا أنت قد حويت المواعظ والأذكار. الأصمعيّ: قيل لأعرابيّ معه ماشية: لمن هذه الماشية؟ قال: لله عندي. كان ابن السماك يقول في كلامه: لقد أمهلكم حتى كأنه أهملكم، أما تستحيون من الله من طول ما لا تستحيون؟. قال بكر بن عبد الله: اجتهدوا في العمل، فإن قصّر بكم ضعف فكفّوا عن المعاصي. كان مالك بن دينار يقول في قصصه: ما أشدّ فطام الكبير «2» ! وينشد: [كامل] وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم «3»

كان أعرابيّ يسرق الإبل يسمّى يزيد، ثم تاب وقال: [طويل] ألا قل لرعيان المخائض «1» أهملوا ... فقد تاب، مما تعلمون، يزيد وإنّ امرأ ينجو من النار بعد ما ... تزوّد من أعمالها لسعيد «2» وقال نصيح الأسديّ: [طويل] كفى نطفا «3» بالمرء يا أمّ صالح ... ركوب المعاصي عامدا واحتقارها كان خالد بن معدان «4» يقول: [طويل] إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن البذر قال منصور بن عمّار: ما أرى إساءة تكبر عن عفو الله فلا تأيس، ربما أخذ الله على الصغير فلا تأمن. وروى وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل عن عتيبة بن سمعان عن مسيكة عن عائشة رضي الله عنها أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفحة فيها خبز شعير

وقطعة من الكرش، فقالت: يا رسول الله، ذبحنا اليوم شاة فما أمسكنا منها إلا هذا؛ قال: بل كلّها أمسكتم إلا هذا. استقبل عامر بن عبد قيس رجل في يوم حلبة، فقال: من سبق يا شيخ؟ فقال: المقرّبون. وأتي به عثمان أقعد في دهليزه، فلما خرج رأى شيخا ثطا «1» في عباءة، فأنكر مكانه، فقال: يا أعرابيّ، أين ربّك؟ قال: بالمرصاد. قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: ما بالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. قال الحسن نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه، وذنوب ابن آدم أكثر من أن يسلم منها إلا ما عفا الله عنه. وقال الحسن: تتفق دينك في شهوتك سرفا، وتمنع في حق الله درهما، ستعلم يا لكع «2» . خرج المسيح من بيت مومسة، فقيل له: يا روح الله، ما تصنع عند هذه؟ فقال: إنما يأتي الطبيب إلى المرضى. ومرّ بقوم شتموه فقال خيرا، ومرّ بآخرين شتموه فقال خيرا؛ فقال رجل من الحواريّين: كلما زادوك شرّا زدت خيرا، كأنك تغريهم بنفسك! فقال: كل إنسان يعطي مما عنده. أخبر أبو حازم سليمان بن عبد الملك بوعيد الله للمذنبين؛ فقال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين.

قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب: عظني: فقال: لا أرضى نفسي لك، إني لأصلّي بين الغنيّ والفقير، فأميل على الفقير وأوسّع للغنيّ. نظرت امرأة إلى أخرى وحولها عشرة من ولدها كأنهم الصقور، فقالت: لقد ولدت أمّكم حزنا طويلا. أحتضر فتى كان فيه زهو، فرفع رأسه فإذا أبواه يبكيان، فقال لهما: ما يبكيكما؟ قالا: الخوف عليك لإسرافك على نفسك؛ فقال: لا تبكيا، فوالله ما يسرّني أنّ الذي بيد الله من الرحمة بأيديكما. قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: يا ابن آدم، لا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، فإن يك من أجلك يأت فيه رزقك، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك. قال النابغة في نحوه: [وافر] ولست بحابس لغد طعاما ... حذار غد لكلّ غد طعام تذاكر حذيفة وسلمان أمر الدّنيا، فقال سلمان: ومن أعجب ما تذاكرنا صعود غنيمات الغامديّ «1» سرير كسرى، وكان أعرابيّ من غامد يرعى شويهات «2» له، فإذا كان الليل صيّرها إلى عرصة إيوان كسرى، وفي العرصه سرير رخام كان يجلس عليه كسرى، فتصعد غنيمات الغامديّ إلى ذلك السرير. دخل أبو حازم المسجد فوسوس إليه الشيطان: إنك قد أحدثت بعد

وضوئك، فقال: وقد بلغ هذا من نصحك!. قال الزبير: يكفينا «1» من خضمكم القضم، ومن نصّكم العنق. قال رجل لأمّ الدّرداء: إني لأجد في قلبي داء لا أجد له دواء، أجد قسوة شديدة وأملا بعيدا؛ قال: اطلع في القبور واشهد الموتى. قيل للربيع بن خيثم: لو أرحت نفسك! قال: راحتها أريد. قال رجل من الصالحين: لو أنزل الله كتابا أنه معذّب رجلا واحدا لخفت أن أكونه، أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه، أو أنه معذّبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهادا لئلا أرجع على نفسي بلائمة. أثنى قوم على عوف بن أبي جميلة، فقال لهم: دعونا من الثّناء، وأمدّونا بالدعاء. قيل لبعض العبّاد: من شرّ الناس؟ قال: من لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. قال المسور بن مخرمة: لقد وارت الأرض أقواما لو رأوني معكم لاستحييت منهم. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: عجبت لمن يهلك والنجاة معه؛ قيل: وما هي؟ قال: الإستغفار. كان فتى يجالس سفيان الثوريّ ولا يتكلّم، وكان سفيان يحب أن يتكلم ليسمع كلامه، فمرّ به يوما فقال له: يا فتى، إنّ من كان قبلنا مرّوا على خيل

وبقينا على حمير دبرة؛ فقال الفتى: يا أبا عبد الله، إن كنّا على الطريق فما أسرع لحقوقنا بالقوم!. قال الحسن: إن خفق النعال خلف الرجال قلّ ما تلبث الحمقى. وذكر عنده الذين يلبسون الصوف، فقال: ما لهم تفاقدوا «1» ! - ثلاثا- أكنّوا الكبر في قلوبهم وأظهروا التواضع في لباسهم، والله لأحدهم أشدّ عجبا بكسائه من صاحب المطرف بمطرفه. ودخل عليه رجل فوجد عنده ريح قدر طيّبة، فقال: يا أبا سعيد، إنّ قدرك لطيّبة؛ قال: نعم لا رغيفي مالك وصحناه فرقد. طلب أبو قلابة للقضاء فلحق بالشام هربا، فأقام حينا ثم قدم البصرة؛ قال أيّوب؛ فقلت له: لو أنك وليت القضاء وعدلت بين الناس رجوت لك في ذلك أجرا؛ قال لي: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر فكم عسى أن يسبح؟. قالت امرأة أبي حازم يوما له: يا أبا حازم، هذا الشتاء قد هجم ولا بدّ لنا مما يصلحنا فيه، فذكرت الثياب والطعام والحطب؛ فقال: من هذا كله بدّ، ولكن خذي ما لا بدّ منه: الموت ثم البعث ثم الوقوف بين يدي الله تعالى ثم الجنّة أو النار. قال أبو العتاهية: [مجزوء الرمل] أطع الله بجهدك ... عامدا أو دون جهدك أعط مولاك كما تط ... لب من طاعة عبدك وقال أيضا: [بسيط]

أرى أناسا بأدنى الدّين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدّون فاستغن بالدّين عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدّين وقال محمد بن حازم «1» : [منسرح] ما الفقر عار ولا الغنى شرف ... ولا سخاء في طاعة سرف ما لك إلّا شيء تقدّمه ... وكلّ شيء أخّرته تلف تركك مالا لوارث يتهن ... ناه وتصلى بحرّه أسف وقال أبو العتاهية: [طويل] ألا إنما التّقوى هي العزّ والكرم ... وحبّك للدنيا هو الذّلّ والندم وليس على عبد تقيّ نقيصة ... إذا صحّح التقوى وإن حاك أو حجم قال عليّ بن الحسين: الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين. قيل لابن سيرين: ما أشدّ الورع! قال: ما أيسره! إذا شككت في شيء فدعه. قال رجل لحذيفة: أخشى أن أكون منافقا؛ فقال لو كنت منافقا لم تخش. وقال محمود «2» الورّاق: [كامل] يا ناظرا «3» يرنو بعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفوز العابد ونسيت أنّ الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد

وقال وضّاح «1» اليمن: [منسرح] مالك، وضّاح، دائم الغزل ... ألست تخشى تقارب الأجل يا موت، ما إن تزال معترضا ... لآمل دون منتهى الأمل تنال كفّاك كلّ مسهلة ... وحوت بحر ومعقل الوعل صلّ لذي العرش واتّخذ قدما ... تنجيك بعد العثار والزّلل قيل ليوسف عليه السلام: مالك تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. وقال أميّة بن أبي الصّلت «2» : [منسرح] هما طريقان فائز دخل ال ... جنّة حفّت به حدائقها وفرقة في الجحيم مع فرق الشّ ... يطان يشقى بها مرافقها تعرف هذا القلوب حقّا إذا ... همّت بخير فما عوائقها وصدّها للشقاء عن طلب ال ... جنّة دنيا والله ما حقها عبد دعا نفسه فعاتبها ... يعلم أنّ البصير رامقها إقترب الوعد والقلوب إلى ... الّلهو وحبّ الحياة سائقها ما رغبة النفس في البقاء وأن ... تحيا قليلا والموت لا حقها

أمامها قائد إليه ويح ... دوها حثيثا إليه سائقها قد أيقنت أنها تصير كما ... كان يراها بالأمس خالقها وأنّ ما جمّعت وأعجبها ... من عيشة مرّة مفارقها من لم يمت عبطة «1» يمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها قال بعض الزهّاد: إنّ صفاء الزهد في الدنيا وكماله ألّا تأخذ من الدنيا شيئا ولا تتركه إلا لله، فإذا كنت كذلك كان أخذك تركا ومعاملتك لله فيها ربحا، وإنّ صفاء الرغبة في الدنيا وكمالها ألّا تأخذ منها شيئا ولا تتركه إلا لها، فإذا كنت كذلك كان تركك أخذا وفوت ما فات عليك منها حسرة. حبس بعض الملوك رجلا ثم غفل عنه إلى أن مضى عليه زمان؛ فقال للموكّل به: قل له: إنّ كلّ يوم يمضي من نعيمك يمضي من بؤسي، والأمر قريب والحكم الله عزّ وجلّ. والسلام. جاء في آخر النسخة الفتوغرافية ما نصه: تم كتاب الزهد، وهو الكتاب السادس من عيون الأخبار لابن قتيبة رحمه الله، ويتلوه في الكتاب السابع كتاب الإخوان. والحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاما على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين. كتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن علي الواعظ الجزريّ، وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة. يوجد في النسخة الفتوغرافية عقب هذا الكتاب (كتاب الزهد) بعض قطع شعرية ونثرية في نحو ست صفحات منقول جلها عن العقد، وليست من تأليف ابن قتيبة.

الجزء الثالث

الجزء الثالث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب الإخوان الحث على اتخاذ الاخوان واختيارهم حدّثنا سهل بن محمد قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: أخبرنا العجليّ قال بعض الأدباء لابنه: يا بنيّ، إذا دخلت المصر فاستكثر من الصديق فأمّا العدوّ فلا يهمنّك؛ وإياك والخطب فإنها مشوار «1» كثير العثار «2» . قال: وبلغني عن الأوزاعيّ «3» عن يحيى بن كثير: أنّ داود النبيّ عليه السلام قال لابنه سليمان عليه السلام: يا بنيّ، لا تستبدلنّ بأخ لك قديم أخا مستفادا ما استقام لك، ولا تستقلّنّ أن يكون لك عدوّ واحد، ولا تستكثرنّ أن يكون لك ألف صديق. وكان يقال: أعجز الناس من فرّط في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم. وفي الحديث المرفوع: «المرء كثير بأخيه» . وأنشد ابن الأعرابيّ «4» :

لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكنّ إخوان الثقات الذخائر وقال أبو الجرّاح العقيلي: وجدت أعراض الدّنيا «1» وذخائرها بعرض المتالف «2» إلّا ذخيرة الأدب وعقيلة الخلّة، فاستكثروا من الإخوان واستعصموا بعرا الأدب. وكان يقال: الرجل بلا إخوان كاليمين بلا شمال. وقال الشاعر: [من طويل] إذا لم يكن للقوم عزّ ولم يكن ... لهم رجل عند الإمام مكين فكانوا كأيد أوهن الله بطشها ... ترى أشملا ليست لهنّ يمين قال أيوب السّختيانيّ: إذا بلغني موت أخ لي فكأنّما سقط عضو منّي. وقال القطاميّ «3» : [من الكامل] وإذا يصيبك- والحوادث جمّة-* حدث حداك إلى أخيك الأوثق «4» وقال آخر «5» : [من الطويل] أخاك أخاك إنّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح «6» وإنّ ابن عمّ المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح

وقال الثّقفيّ «1» : [من الطويل] من كان ذا عضد يدرك ظلامته ... إنّ الذليل الذي ليست له عضد تنبو يداه إذا ما قلّ ناصره ... ويأنف الضّيم إن أثرى له عدد «2» وقال آخر: [من الوافر] وبغضاء التقيّ أقلّ ضيرا ... وأسلم من مودّة ذي الفسوق «3» ولن تنفكّ تحسد أو تعادى ... فأكثر ما استطعت من الصّديق وكتب الفضل بن سيّار إلى الفضل بن سهل «4» : [من الرّمل] يا أبا العباس إني ناصح ... لك والنصح لذي الودّ كبير لا تعدّنّ ليوم صالح ... إنّ إخوانك في الخير كثير وليكن للشرّ ما أعددتهم ... إنّ يوم الشرّ صعب قمطرير «5» هذه السّوق التي آملها ... يا أبا العباس والعمر قصير قال المأمون: الإخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء لا يحتاج إليه إلّا أحيانا، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا. قال حدّثني سعيد بن سليمان قال: حدّثنا إسماعيل بن زكريا عن سعيد ابن طريف عن عمير بن المأمون قال: سمعت الحسن بن عليّ يقول: من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آية محكمة، وأخا مستفادا،

وعلما مستطرفا، ورحمة منتظرة، وكلمة تدلّه على هدى أو تردعه عن ردى، وترك الذنوب حياء أو خشية. قال وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن أبيه قال: كان يقال: الصاحب رقعة في قميص الرجل، فلينظر أحدكم بم يرقع قميصه. وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن أبيه أنه قال: كان يقال: ما وجدنا شيئا أبلغ في خير أو شرّ من صاحب. وحدّثني الرياشيّ عن الأصمعيّ قال حدّثنا سليمان بن المغيرة قال: قال يونس «1» : اثنان ما في الأرض أقلّ منهما ولا يزدادان إلا قلّة: درهم يوضع في حقّ «2» ، وأخ يسكن إليه في الله. وحدّثني شيخ لنا عن محمد بن مناذر عن سفيان بن عيينة «3» قال: قال علقمة بن لبيد العطارديّ لابنه: يا بنيّ، إذا نزغتك «4» إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب منهم من إن تحبّه زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك «5» ؛ وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك «6» ؛ وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها؛ وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه آبتداك، وإن نزلت بك إحدى الملمّات آساك؛ من لا يأتيك منه

البوائق «1» ، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق؛ وإن حاول حويلا آمرك «2» ، وإن تنازعتما منفسا «3» آثرك. قال محمد بن كعب القرظيّ لعمر بن عبد العزيز: إنّ فيك عقلا وإنّ فيك جهلا، فداو بعض ما فيك ببعض، وآخ من الإخوان من كان ذا معلاة «4» في الدّين ونيّة في الحقّ، ولا تؤاخ منهم من تكون منزلتك عنده على قدر حاجته إليك، فإذا قضى حاجته منك ذهب ما بينك وبينه. وإذا غرست غراسا من المعروف فلا تبقين «5» أن تحسن تربيته. وقال الأحنف بن قيس «6» : خير الإخوان من إن استغنيت عنه لم يزدك في المودّة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها، وإن عثرت عضدك، وإن احتجت إلى مؤونته رفدك. وقال الشاعر: [من الرجز] إنّ أخاك الصّدق من لن يدعك ... ومن يضرّ نفسه لينفعك ومن إذا ريب زمان صدعك «7» ... شتّت شمل نفسه ليجمعك وإن رآك ظالما سعى معك

وقال حجيّة بن المضرّب «1» : [من الطويل] أخوك الذي إن تدعه لملمّة ... يجبك وإن تغضب إلى السّيف يغضب وكتب رجلّ إلى صديق له: أنت كما قال أعشى باهلة «2» : [من البسيط] من ليس في خيره منّ فيفسده ... على الصّديق ولا في صفوه كدر «3» وليس فيه إذا استنظرته عجل ... وليس فيه إذا ياسرته عسر «4» وقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: [من الطويل] أخوك الذي إن أحوجتك ملمّة ... من الدّهر لم يبرح لها الدّهر واجما «5» وليس أخوك الحقّ من إن تشعّبت ... عليك أمور ظلّ يلحاك لائما «6» وقال آخر: [من الطويل] إذا كان إخوان الرجال حرارة ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب لنا جانب منه دميث وجانب ... إذا رامه الأعداء مركبه صعب «7» وتأخذه عند المكارم هزّة ... كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرطب «8» وقال آخر: [من البسيط] أبكي أخا يتلقّاني بنائله ... قبل السؤال ويلقى السّيف من دوني «9»

إنّ المنايا أصابتني مصائبها ... فاستعجلت بأخ قد كان يكفيني وقرأت في كتاب للهند: رأس المودّة الاسترسال «1» . وقال أكثم بن صيفيّ «2» : من تراخى تألّف «3» ، ومن تشدّد نفّر، والشرف التغافل. وقال حاتم: العاقل فطن متغافل. وقرأت في كتاب للهند: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا ولعدوّ صديقه عدوّا. قال العتّابيّ في ذلك «4» : [من الطويل] تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني ... صديقك، إنّ الرأي عنك لعازب «5» وليس أخي من ودّني رأي عينه ... ولكن أخي من صدّقته المغايب «6» قيل لبزرجمهر: أخوك أحبّ إليك أم صديقك؟ قال: إنما أحبّ أخي إذا كان صديقا. وقال بعضهم: إنّ أحبّ إخواني إليّ، من كثرت أياديه عليّ. وقال رجل في أخ له: [من الوافر] وكنت إذا الشدائد أرهقتني ... يقوم لها وأقعد لا أقوم

المودة بالتشاكل

وقال آخر: [المتقارب] أخ طالما سرّني ذكره ... فأصبحت أشجى لدى ذكره «1» وقد كنت أغدو إلى قصره ... فأصبحت أغدو إلى قبره وكنت أراني غنيّا به ... عن الناس لو مدّ في عمره إذا جئته طالبا حاجة ... فأمري يجوز على أمره «2» وصف أعرابيّ رجلا قال: كان والله يتحسّى مرارة الإخوان ويسقيهم عذبه. وقال أعرابي «3» : [من الوافر] أخ لك ما تراه الدّهر إلّا ... على العلّات بسّاما جوادا «4» سألناه الجزيل فما تلكّا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا «5» فأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا مرارا لا أعود إليه إلّا ... تبسّم ضاحكا وثنى الوسادا «6» المودّة بالتشاكل «7» بلغني عن ابن عيينة أنه قال: قال ابن عباس: القرابة تقطع والمعروف يكفر، ولم ير كتقارب القلوب.

قال رجل للعرجيّ «1» : جئتك أخطب إليك مودّتك؛ فقال: لا حاجة بك إلى الخطبة، قد جاءتك زنا فهو ألذّ وأحلى. وقال الكميت بن معروف «2» : [من الطويل] وما أنا بالنّكس الدّنيء ولا الذي ... إذا صدّ عنه ذو المودّة يقرب «3» ولكنّه إن دام دمت وإن يكن ... له مذهب عني فلي عنه مذهب «4» ألا إنّ خير الودّ ودّ تطوّعت ... به النفس لا ودّ أتى وهو متعب وقال الطائي «5» : [من البسيط] ذو الودّ منّي وذو القربى بمنزلة ... وإخوتي أسوة عندي وإخواني عصابة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرّقوا في الأرض جيراني أرواحنا في مكان واحد وغدت ... أبداننا بشام أو خراسان وقال عبد الله بن عبد الله بن عتبة لعمر بن عبد العزيز: [من الطويل] أبن لي فكن مثلي أو ابتغ صاحبا ... كمثلك إنّي مبتغ صاحبا مثلي عزيز إخائي، لا ينال مودّتي ... من القوم إلا مسلم كامل العقل وما يلبث الإخوان أن يتفرّقوا ... إذا لم يؤلّف روح شكل إلى شكل

وقال الطائي: [من الطويل] ولن تنظم العقد الكعاب لزينة ... كما ينظم الشمل الشّتيت الشمائل «1» كتب بعض الكتّاب إلى صديق له: إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمام «2» ، لأن النفس يتبع بعضها بعضا. قال حدّثني محمد بن داود قال حدّثنا يزيد بن خلف عن يعقوب بن كعب عن بقيّة عن صفوان بن عمرو عن شريح عن أبي عبيد قال: كتب أبو الدرداء إلى سلمان «3» : إن تكن الدار من الدار بعيدة فإنّ الرّوح من الرّوح قريب، وطير السماء على إلفه من الأرض يقع. وقال أبو العتاهية: [من الهزج] يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هوّ ما شاه وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه وللشّكل على الشّكل ... مقاييس وأشباه وفي العين غنى للعي ... ن أن تنطق أفواه وقال المساحقيّ: [من الطويل] يزهّدني في ودّك ابن مساحق ... مودّتك الأرذال دون ذوي الفضل وأنّ شرار النّاس سادوا خيارهم ... زمانك، إنّ الرّذل للزّمن الرّذل

باب المحبة

باب المحبّة قال حدّثني أحمد بن الخليل عن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد عن ثور بن يزيد عن حبيب بن عبيد عن المقدام بن معد يكرب «1» ، وكان أدرك النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إذا أحبّ أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبّه» . وحدّثني محمد بن داود عن أبي الرّبيع عن حمّاد بن زيد عن ليث عن مجاهد «2» قال: ثلاث يصفين لك ودّ أخيك: أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحبّ أسمائه إليه. وثلاث من العيّ «3» : أن تعيب على الناس ما تأتي، وأن ترى من الناس ما يخفى عليك من نفسك، وأن تؤذي جليسك فيما لا يعنيك. وكان يقال: لا يكن حبّك كلفا ولا بغضك تلفا. أي لا تسرف في حبك وبغضك. ونحوه قول الحسن: أحبّوا هونا «4» فإنّ أقواما أفرطوا في حب قوم فهلكوا. وكان يقال: من وجد دون أخيه سترا فلا يهتكه. وقال عمر بن أبي ربيعة: [من الطويل] أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا فارغا فتمكّنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لطليحة الأسديّ: قتلت عكّاشة بن محصن! لا يحبّك قلبي! قال: فمعاشرة جميلة يا أمير المؤمنين، فإنّ الناس يتعاشرون على البغضاء.

وكتب رجل إلى صديق له: الشوق إليك وإلى عهد أيامك- التي حسنت بك كأنها أعياد، وقصرت بك حتى كأنها ساعات- يفوت الصفات؛ ومما جدّد الشوق وكثّر دواعيه تصاقب الدار، وقرب الجوار؛ تمم الله لنا النعمة المتجدّدة فيك بالنظر إلى الغرّة المباركة التي لا وحشة معها ولا أنس بعدها. قال الحسن «1» : المؤمن لا يحيف «2» على من يبغض ولا يأثم فيمن يحبّ. وقرأت في بعض الكتب: إنه ليبلغ من حسن شفاعة المحبة أنّ الحبيب يسيء فيظنّ به الغلط ويذنب فيحتجّ له بالدّالّة «3» ، وذنبه لا يحتمل التأويل ولا مخرج له في جواز العقول. وفيه: كلّ ذنب إذا شئت أن تنساه نسيته وإن شئت أن تذكره ذكرته، فليس بمخوف. وليس الصغير من الذنب ما صغّره الحبّ، وإنما الصغير ما صغّره العدل. وليس الذنب إلا ما لا يصلح معه القلب ولا يزال حاضرا الدهر، وإلا ما كان من نتاج اللؤم ومن نصيب المعاندة، فأما ما كان من غير ذلك فإنّ الغفران يتغمّده والحرمة تشفع فيه. وكتب رجل إلى صديق له في فصل من كتاب: لساني رطب بذكرك، ومكانك من قلبي معمور بمحبّتك. ونحوه قول معقل أخي أبى دلف لمخارق:

[من الطويل] لعمري لئن قرّت بقربك أعين ... لقد سخنت بالبين منك عيون «1» فسر وأقم، وقف عليك مودّتي ... مكانك من قلبي عليك مصون وقال رجل لشبيب بن شيبة: والله أحبّك، قال: وما يمنعك من ذلك وما أنت لي بجار ولا أخ ولا قرابة «2» ! يريد أن الحسد موكّل بالأدنى فالأدنى. قال رجل لشهر بن حوشب «3» ؛ إني لأحبّك قال: ولم لا تحبني وأنا أخوك في كتاب الله ووزيرك على دين الله ومؤنتي على غيرك! قال بشار: [من البسيط] هل تعلمين وراء الحبّ منزلة ... تدني إليك فإنّ الحبّ أقصاني وقال غيره: [متقارب] أحبّك حبّين لي واحد ... وحبّ لأنك أهل لذاكا فأمّا الذي أنت أهل له ... فحسن فضلت به من سواكا وأمّا الذي في ضمير الحشا ... فلست أرى الحسن حتى أراكا وليس لي المنّ في واحد ... ولكن لك المنّ في ذا وذاكا وقال المسيّب بن علس «4» : [من الوافر] وعين السّخط تبصر كلّ عيب ... وعين أخي الرّضنا عن ذاك تعمى

ونحوه لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: [من الطويل] فلست براء عيب ذي الودّ كلّه ... ولا بغض ما فيه إذا كنت راضيا وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ... ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا «1» وقال بعض الخلفاء لرجل: إني لأبغضك؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنما يجزع من فقد الحبّ المرأة، ولكن عدل وإنصاف. وقال شريح «2» : [من الطويل] خذي العفو منّي تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب «3» فإنّي رأيت الحبّ في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب وقال أعرابيّ: إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع، ولا يظهر الودّ السليم إلا من القلب المستقيم. وقال آخر: من جمع لك مع المودّة الصادقة رأيا حازما، فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة. قال اليزيديّ: رأيت الخليل بن أحمد فوجدته قاعدا على طنفسة «4» ، فأوسع لي فكرهت التضييق عليه؛ فقال: إنه لا يضيق سمّ الخياط «5» على متحابّين ولا تسع الدنيا متباغضين. وقال أبو زبيد «6» للوليد بن عقبة:

[من الخفيف] من يخنك الصفاء أو يتبدّل ... أو يزل مثلما تزول الظلال فاعلمن أنّني أخوك أخو العه ... د حياتي حتى تزول الجبال ليس بخل عليك منّي بمال ... أبدا ما استقلّ سيفا حمال «1» فلك النّصر باللسان وبالك ... فّ إذا كان لليدين مصال «2» كلّ شيء يحتال فيه الرجال ... غير أن ليس للمنايا احتيال وقال المنخّل اليشكريّ «3» : [من مجزوء الكامل المرفّل] وأحبّها وتجبّني ... ويحبّ ناقتها بعيري وذكر أعرابيّ رجلا فقال: والله لكأنّ القلوب والألسن ريضت «4» له، فما تعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلا بحمده قال عبد الله بن الزّبير ذات يوم: والله لوددت أنّ لي بكلّ عشرة من أهل العراق رجلا من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم؛ فقال أبو حاضر: مثلنا ومثلك كما قال الأعشى: [من البسيط] علّقتها عرضا وعلّقت رجلا ... غيري وعلّق أخرى غيرها الرجل «5» أحبّك أهل العراق وأحببت أهل الشّام وأحبّ أهل الشآم عبد الملك ابن مروان.

وقال عمر لأبي مريم السّلولي: والله لا أحبّك حتى تحبّ الأرض الدّم؛ قال: فتمنعني لذلك حقّا؟ قال: لا؛ قال: فلا ضير. وقال عمر أيضا لرجل همّ بطلاق امرأته: لم تطلّقها؟ قال: لا أحبّها؛ قال: أو كلّ البيوت بنيت على الحبّ! وأين الرعاية «1» والتذمّم!. قال أعرابيّ: [من الطويل] أحبّك حبّا ببعضه ... أصابك من وجد عليّ جنون «2» لطيف مع الأحشاء أمّا نهاره ... فسبت وأما ليله فأنين «3» وكتب رجل إلى صديق له: الله يعلم أنّني أحبّك لنفسك فوق محبتّي إياك لنفسي، ولو أني خيّرت بين أمرين: أحدهما لي وعليك والآخر لك وعليّ، لأثرت المروءة وحسن الأحدوثة بإيثار حظّك على حظّي؛ وإنّي أحبّ وأبغض لك، وأوالي وأعادي فيك. وقال بعضهم: هوّن «4» فقد يفرط «5» الحبّ فيقتل ويفرط الغمّ فيقتل ويفرط السرور فيقتل؛ وينفتح القلب للسرور، ويضيق وينضمّ للحزن والحبّ. وقالوا: العشق اسم لما فضل عن المحبة. وقال بعضهم: العشق مرض قلب ضعف. وقال بعض الشعراء «6» : [من الطويل] فتمّ على معشوقة لا يزيدها ... إليه بلاء السّوء إلّا تحبّبا «7»

ما يجب للصديق على صديقه

ما يجب للصديق على صديقه حدّثنا أحمد بن الخليل قال حدّثنا عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن ابن إسحاق عن الحارث عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «للمسلم على المسلم خصال ستّ: يسلّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمّته إذا عطس «1» ، ويعوده إذا مرض، ويحضر جنازته إذا مات، ويحبّ له ما يحبّ لنفسه» . قال حدّثني شبابة قال حدّثنا القاسم بن الحكم عن إسماعيل بن عيّاش عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعن أخاك ظالما أو مظلوما، إن كان مظلوما فخذ له بحقه وإن كان ظالما فخذ له من نفسه» . وحدّثني القومسيّ «2» قال: حدّثنا أبو بكر الطبريّ عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن بكير قال قال معاذ بن جبل: إذا آخيت أخا فلا تماره ولا تشاره «3» ولا تسأل عنه، فعسى أن توافق عدوّا فيخبرك بما ليس فيه فيفرّق بينكما. وقال النّمر بن تولب «4» في هذا المعنى: [من الطويل] جزى الله عنّا حمزة بنة نوفل ... جزاء مغلّ بالأمانة كاذب «5» بما سألت عنّي الوشاة ليكذبوا ... عليّ وقد واليتها في النوائب «6»

قال حدّثني محمد بن داود قال حدّثني سعد بن منصور عن جرير عن عبد الحميد عن عنبسة قال قال ابن سيرين «1» : لا تكرم أخاك بما يكره، ولا تحملنّ كتابا إلى أمير حتى تعلم ما فيه. وكان يقال: يستحسن الصبر عن كلّ أحد إلّا عن الصديق. وقال بعض الشعراء: [من الوافر] إذا ضيّقت أمرا ضاق جدّا ... وإن هوّنت ما قد عزّ هانا فلا تهلك بشيء فات يأسا ... فكم أمر تصعّب ثم لانا سأصبر عن رفيقي إن جفاني ... على كلّ الأذى إلّا الهوانا «2» وقال ابن المقفّع: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامّة بشرك وتحيّتك، ولعدوّك عدلك، وضن «3» بدينك وعرضك عن كلّ أحد. قال أبو اليقظان: ولي خالد بن عبد الله بن أبي بكرة قضاء البصرة فجعل يحابي «4» ، فقيل له في ذلك؛ فقال: وما خير رجل لا يقطع لأخيه قطعة من دينه!. قالوا: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على عجوز، فقال: «إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان» . قال إبراهيم النّخعيّ «5» : إنّ المعرفة لتنفع عند الأسد الهصور والكلب

العقور فكيف عند الكريم الحسيب!. وقال الخليل بن أحمد: [من البسيط] وفّيت كلّ صديق ودّني ثمنا ... إلا المؤمّل دولاتي وأيامي «1» وقال عمر بن أبي ربيعة في مساعدة الصّديق: [من الوافر] وخلّ كنت عين النّصح منه ... إذا نظرت ومستمعا سميعا أطاف بغيّة فنهيت عنها ... وقلت له أرى أمرا شنيعا «2» أردت رشاده جهدي فلمّا ... أبى وعصى أتيناها جميعا وقال بعض الكوفيين: [من الوافر] فإن يشرب أبو فرّوخ أشرب ... وإن كانت معتّقة عقارا «3» وإن يأكل أبو فرّوخ آكل ... وإن كانت خنانيصا صغارا «4» وقال رجل من الأعراب لأخ له: أما والله، ربّ يوم كتنّور الطّاهي رقّاص بشراره، قد رميت بنفسي في أجيج لهيبه فأحتمل منه ما أكره لما تحبّ. وأنشد ابن الأعرابيّ: [من الوافر] أغمّض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق وقال كثّير «5» : [من الطويل] ومن لا يغمّض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبّع جاهدا كلّ عثرة «1» ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب وقال آخر: [من الطويل] إذا ما صديقي رابني سوء فعله ... ولم يك عمّا ساءني بمفيق صبرت على أشياء منه تريبني ... مخافة أن أبقى بغير صديق «2» ومن المشهور في هذا قول النابغة: [من الطويل] ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب «3» وكان يقال: من لك بأخيك كلّه. وأنشدني الرّياشيّ: [من مجزوء الكامل المرفل] اقبل أخاك ببعضه ... قد يقبل المعروف نزرا «4» واقبل أخاك فإنّه ... إن ساء عصرا سرّ عصرا ونحوه قول الآخر: [من الطويل] أخ لي كأيام الحياة إخاؤه ... تلوّن ألوانا علّى خطوبها إذا عبت منه خلّة فهجرته ... دعتني إليه خلّة لا أعيبها وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: [منسرح] اصبر إذا عضّك الزمان، ومن ... أصبر عند الزمان من رجله ولا تهن للصّديق تكرمه ... نفسك حتى تعدّ من خوله «5» يحمل أثقاله عليك كما ... يحمل أثقاله على جمله ولست مستبقيا أخا لك لا ... تصفح عما يكون من زلله

الإنصاف في المودة

ليس الفتى بالذي يحول عن ال ... عهد ويؤتى الصديق من قبله «1» وقيل لخالد بن صفوان: أيّ إخوانك أحبّ إليك؟ قال: الذي يغفر زللي، ويقبل عللي «2» ويسدّ خللي «3» . وقال بشار: [من الطويل] إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه «4» وقال الخريمي «5» لأبي دلف: [من المتقارب] تملّك إن كنت ذا إربة ... من العالمين لشيخ وصيف «6» الإنصاف في المودّة كان يقال: لا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له. وقال جرير: [من الطويل] وإنّي لأستحيي أخي أن أرى له ... عليّ من الحق الذي لا يرى ليا «7» وله أيضا: [من الطويل] إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل «8»

ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك، فانظر أيّ كفّ تبدّل وقال آخر «1» : [من الكامل] يا ضمر أخبرني ولست بمخبري ... وأخوك نافعك الذي لا يكذب هل في القضيّة إن إذا استغنيتم ... وأمنتم فأنا البعيد الأجنب وإذا الشدائد بالشدائد مرّة ... أشجينكم فأنا المحبّ الأقرب عجبا لتلك قضيّة وإقامتي ... فيكم على تلك القضية أعجب ولما لكم طيب البلاد ورعيها ... ولي الثّماد ورعيهن المجدب «2» وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب «3» هذا لعمركم الصّغار بعينه ... لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب «4» وقال ابن عيينة: سئل عليّ كرم الله وجهه عن قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ «5» ، فقال: العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضّل. وقال الشاعر: [من الكامل] صبغت أميّة في الدماء رماحنا ... وطوت أميّة دوننا دنياها ويقال: من سنّ سنة فليرض أن يحكم عليه بها، ومن سأل مسئلة فليرض بأن يعطى بقدر بذله. وقال أبو العتاهية: [من الوافر] إذا ما لم يكن لك حسن فهم ... أسأت إجابة وأسأت سمعا

ولست الدّهر متّسعا بفضل ... إذا ما ضقت بالإنصاف ذرعا وقال حمّاد عجرد «1» : [مجزوء الرّمل] ليت شعري أيّ حكم ... قد أراكم تحكمونا أن تكونوا غير معط ... ين وأنتم تأخذونا وقال آخر: [من الطويل] إذا كنت تأتي المرء تعرف حقّه ... ويجهل منك الحقّ فالترك أجمل وفي العيس منجاة وفي الهجر راحة ... وفي الأرض عمّن لا يؤاتيك مرحل «2» وقال بشار: [من السّريع] إن كنت حاولت هوانا فما ... هنت وما في الهون لي من مقام «3» في الناس أبدال ولي مرحل ... عن منزل ناء ومرعى وخام «4» لا نائل منك ولا موعد ... ولا رسول، فعليك السلام وقال آخر «5» : [من الوافر] له حقّ وليس عليه حقّ ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول وقال أكثم بن صيفيّ: أحقّ من يشركك في النّعم شركاؤك في المكاره. أخذه دعبل «6» فقال: [من البسيط]

مداراة الناس وحسن الخلق والجوار

وإنّ أولى البرايا أن تواسيه ... عند السرور لمن آساك في الحزن إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن «1» وانشد ابن الأعرابيّ: [من الطويل] فإن آثرت بالودّ أهل بلادها ... على نازح من أهلها لا ألومها «2» فلا يستوي من لا ترى غير لمّة ... ومن هو ثاو عندها لا يريمها «3» وقال رجل لبعض السلطان: أحقّ الناس بالإحسان من أحسن الله إليه، وأولاهم بالإنصاف من بسطت القدرة بين يديه؛ فاستدم ما أوتيت من النعم بتأدية ما عليك من الحق. قال المستهلّ بن الكميت لبني العباس: [من الطويل] إذا نحن خفنا في زمان عدوّكم ... وخفناكم إنّ البلاء لراكد «4» مداراة الناس وحسن الخلق والجوار قال حدّثنا الحسين بن الحسن قال حدّثنا عبد الله بن المبارك عن وهيب قال: جاء رجل إلى وهب بن منبّه «5» فقال: إنّ الناس قد وقعوا فيما وقعوا فيه، وقد حدّثت نفسي ألّا أخالطهم؛ فقال له وهب: لا تفعل، فإنه لا بدّ للناس منك ولا بدّ لك منهم؛ لهم إليك حوائج، ولك إليهم حوائج، ولكن كن فيهم أصمّ سميعا، وأعمى بصيرا، وسكوتا نطوقا.

قال وحدّثنا حسين بن الحسن قال حدّثنا عبد الله بن المبارك «1» عن موسى بن عليّ بن رباح قال: سمعت أبي يحدّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أربع خلال إن أعطيتهنّ فلا يضرّك ما عدل به عنك من الدّنيا: حسن خليقة، وعفاف طعمة «2» ، وصدق حديث، وحفظ أمانة. قال: وبلغني عن وكيع عن مسعر عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله ابن باباه قال: قال عبد الله بن مسعود: خالطوا الناس وزايلوهم «3» . عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن ميمون قال: قال صعصعة بن صوحان لابن أخيه: إذا لقيت المؤمن فخالطه، وإذا لقيت الفاجر فخالفه، ودينك فلا تكلمنّه «4» . قال المسيح صلّى الله عليه: كن وسطا وامش جانبا. وروى أبو معاوية عن الأحوص بن حكيم عن أبي الزاهريّة قال: قال أبو الدّرداء: إنّا لنكشر «5» في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتلعنهم. ودخل لبيدة العجليّ على عمر رضي الله عنه، فقال له عمر: أقتلت زيدا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد قتلت رجلا يسمّى زيدا، فإن يكن أخاك فهو الذي أكرمه الله بيدي ولم يهنّي به؛ ثم لم ير من عمر بعد ذلك مكروها. قال محمد بن أبي الفضل الهاشميّ: قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان

وقد عرفت عداوته؟ فقال: أخبى «1» نارا وأقدح عن ود. وقال المهاجر بن عبد الله الكلابىّ «2» : [من الطويل] وإنّي لأقصي المرء من غير بغضة ... وأدنى أخا البغضاء منّي على عمد ليحدث ودّا بعد بغضاء أو أرى ... له مصرعا يردي به الله من يردي «3» وقال عقال بن شبّة: كنت رديف أبي، فلقيه جرير على بغل فحيّاه أبي وألطفه؛ فلمّا مضى قلت: أبعد ما قال لنا ما قال! قال: يا بنيّ، أفأوسّع جرحي!. قال ابن الحنفيّة: قد يدفع باحتمال مكروه ما هو أعظم منه. قال الحسن: حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل، والقصد في المعيشة نصف المؤونة. مدح ابن شهاب شاعر فأعطاه، وقال: من ابتغى الخير اتقى الشرّ. وفي الحديث المرفوع: «أوّل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن» . وقال: «إنّ حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار» . وقال: «من حسّن الله خلقه وخلقه كان من أهل الجنة» . قال الشاعر: [من الرّجز] فتى إذا نبّهته لم يغضب ... أبيض بسّام وإن لم يعجب

موكّل النفس بحفظ الغيّب ... أقصى رفيقيه له كالأجنب «1» وقرأت في كتب العجم: حسن الخلق خير قرين، والأدب خير ميراث، والتّوفيق خير قائد. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما تبالي المرأة إذا نزلت بين بيتن من الأنصار صالحين ألّا تنزل من أبويها. وقال جعفر بن محمد: حسن الجوار عمارة للدار، وصدقة السرّ مثراة للمال. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ثلاثة من قريش أحسنها أخلاقا وأصبحها وجوها وأشدّها حياء، إن حدّثوك لم يكذبوك، وإن حدّثتهم بحقّ أو باطل لم يكذّبوك: أبو بكر الصدّيق، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وعثمان بن عفّان رضي الله عنهم. وقال يزيد بن الطّثريّة «2» : [من الطويل] وأبيض مثل السيف خادم رفقة ... أشمّ ترى سربا له قد تقدّدا «3» كريم على علّاته لو تسبّه ... لفدّاك رسلا لا تراه مربّدا «4» يجيب بلبّيه إذا ما دعوته ... ويحسب ما يدعى له الدهر أرشدا «5» وقرأت في كتاب للهند: من تزوّد خمسا بلّغته وآنسته: كفّ الأذى، وحسن الخلق، ومجانبة الرّيب، والنبل في العمل، وحسن الأدب.

التلاقي والزيارة

وقال المرّار «1» في مداراة القرابة: [من الطويل] ألا إنّما المولى كعظم جبرته ... فلا يخرق المولى ولا جابر العظم «2» وقال آخر في مداراة الناس: [من الطويل] وأنزلني طول النّوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرا لا أشاكله «3» فحامقته حتى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله «4» وقال بشار: [من الطويل] خليليّ إنّ العسر سوف يفيق ... وإنّ يسارا في غد لخليق وما أنا إلّا كالزمان إذا صحا ... صحوت وإن ماق الزّمان أموق «5» التلاقي والزيارة حدّثنا محمد بن عبيد قال حدّثنا الفضل بن دكين عن طلحة بن عمر عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «زر غبّا تزدد حبّا» «6» . وقال الأصمعيّ: دخل حبيب بن سويد على جعفر بن سليمان بالمدينة؛ فقال جعفر: حبيب بن سويد وادّ الصّديق، حسن الثّناء، يكره الزيارة المملّة، والقعدة المنسيّة. وقرأت في كتاب للهند: ثلاثة أشياء تزيد في الأنس والثّقة: الزيارة في الرّحل «7» ، والمؤاكلة، ومعرفة الأهل والحشم.

وقال الطائيّ: [من الوافر] وحظّك لقية في كلّ عام ... موافقة على ظهر الطريق قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الصّواف عن موسى بن يعقوب السّدوسيّ عن أبي السّنان عن عثمان بن أبي سودة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من عاد مريضا أو زار أخا ناداه مناد من السماء: أن طبت وطاب ممشاك تبوّأت من الجنة منزلا» . كتب رجل إلى صديق له: مثلنا، أعزّك الله، في قرب تجاوزنا وبعد تزاورنا ما قال الأوّل: [من المنسرح] ما أقرب الدار والجوار وما ... أبعد مع قربنا تلاقينا وكلّ غفلة منك محتملة، وكل جفوة مغفورة، للشّغف بك، والثّقة بحسن نيّتك، وسآخذ بقول أبي قيس «1» : [من الطويل] ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن إتيانهنّ فتعذر «2» وقال أعرابية: [من الطويل] فلا تحمدوني في الزّيارة إنّني ... أزوركم إذا لم أجد متعلّلا وكتب رجل إلى صديق له يستزيره: طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند التلاقي، وقد جعلك الله للسّرور نظاما، وللأنس تماما، وجعل المشاهد موحشة إذا خلت منك. وقال سهل بن هارون «3» : [من الطويل]

وما العيش إلّا أن تطول بنائل ... وإلّا لقاء المرء ذي الخلق العالي وقال بشار: [من الخفيف] تسقط الطير حيث تلتقط الح ... بّ وتغشى منازل الكرماء قال رجل لصديق له: قد تصدّيت للقائك غير مرّة فلم يقض ذلك، فقال له الآخر: كلّ برّ تأتيه فأنت تأتي عليه. قال ابن الأعرابيّ: [من الطويل] وأرمي إلى الأرض التي من ورائكم ... لترجعني يوما عليك الرواجع «1» وقال آخر: [من الطويل] رأيت أخا الدنيا وإن بات آمنا ... على سفر يسرى به وهو لا يدري تثاقلت إلّا عن يد أستفيدها ... وزورة ذي ودّ أشدّ به أزري «2» وقال آخر: [من الوافر] أزور محمدا وإذا التقينا ... تكلمت الضمائر في الصدور فأرجع لم ألمه ولم يلمني ... وقد رضي الضمير عن الضمير كان سفيان بن عيينة يقول: لا تعفّروا «3» الأقدام إلا إلى أقدارها؛ وأنشد: [من الكامل] نضع الزيارة حيث لا يزري بنا ... شرف الملوك ولا تخيب الزّور وكان يقال: امش ميلا وعد مريضا، وامش ميلين واصلح بين اثنين، وامش ثلاثة أميال وزر أخا في الله.

وقال بعض المحدثين: [من الطويل] إذا شئت أن تقلى فرز متتابعا ... وإن شئت أن تزداد حبّا فزر غبّا «1» وقال آخر: [مجزوء الكامل المرفّل] أقلل زيارتك الصّدي ... ق يراك كالثوب استجدّه «2» إنّ الصديق يملّه ... ألّا يزال يراك عنده قال رجل لصديق له: ما أخلو وإن كان اللقاء قليلا من سؤال أو مطالعة لك، فقلبي يقوم مقام العيان «3» . وقال آخر لصديق له: قد جمعتنا وإياك أحوال لا يزري بها بعد اللقاء ولا يخلّ بها تنازح الديار «4» . وقال آخر: لولا ما في بديه اللقاء من الحيرة والتعرّض به قبل معرفة العين للجفوة، لم أتوقّف على مطالعة حتى أصير إليك. وقال الشاعر: [من الطويل] ومالي وجه في اللئام ولا يد ... ولكنّ وجهي في الكرام عريض أصحّ إذا لاقيتهم وكأنّني ... إذا أنا لاقيت اللئام مريض وقال عليّ بن الجهم «5» : [من البسيط] أبلغ أخا ما تولّى الله صحبتنا ... أنّي وإن كنت لا ألقاه ألقاه وأنّ طرفي موصول برؤيته ... وإن تباعد عن مثواي مثواه

المعاتبة والتجني

الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف أذكره إذ لست أنساه المعاتبة والتجنّي قال حدّثنا محمد بن داود عن المضاء عن فرج بن فضالة عن لقمان بن عامر قال قال أبو الدّرداء: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كلّه!. وكان يقال: التجنّي وافد الصّرم «1» . وقرأت في الإنجيل: إن ظلمك أخوك فاذهب فعاتبه فيما بينك وبينه، فإن أطاعك فقد ربحت أخاك وإن هو لم يطعك فاستتبع رجلا أو رجلين يشهدان ذلك الكلام، فإن لم يستمع فأنه أمره إلى أهل البيعة «2» ، فإن لم يستمع من أهل البيعة فليكن عندك كصاحب المكس «3» . وقال ابن أبي فنن «4» : [من المتقارب] إذا كنت تغضب من غير ذنب ... وتعتب من غير جرم عليّا طلبت رضاك فإن عزّني ... عددتك ميتا وإن كنت حيّا قنعت وإن كنت ذا حاجة ... فأصبحت من أكثر الناس شيّا فلا تعجبنّ بما في يديك ... فأكثر منه الذي في يديّا وقال أبو نهشل «5» يعاتب صديقا له: [من الوافر] عدلت عن الرّحاب إلى المضيق ... وزرت البيت من غير الطريق

وتظلم عند طاعتك الموالي ... وليس الظلم من فعل الصديق تجود بفضل عدلك للأقاصي ... وتمنعه من الخلّ الشفيق أما والراقصات بذات عرق ... وربّ البيت والرّكن الوثيق «1» لقد أطلقت لي تهما أراها ... ستحملني على مضض العقوق «2» وقال آخر: [من مجزوء الكامل المرفّل] فدع العتاب فربّ شرّ هاج أوّله العتاب وقال الجعديّ «3» : [من المتقارب] وكان الخليل إذا رابني ... فعاتبته ثم لم يعتب «4» هواي له وهوى قلبه ... سواي وما ذاك بالأصوب فإنّي جرىء على صرمه ... إذا ما القرينة لم تصحب «5» قال رجل لصديق له يعاتبه: ما أشكوك إلّا إليك، ولا استبطئك إلّا لك، ولا أستزيدك إلّا بك، فأنا منتظر واحدة من اثنتين: عتبى تكون منك، أو عقبى الغنى عنك. وقال آخر: قد حميت جانب الأمل فيك وقطعت الرجاء لك، وقد أسلمني اليأس منك إلى العزاء عنك، فإن نزعت من الآن فصفح لا تثريب فيه «6» ، وإن تماديت فهجر لا وصل بعده.

وقال بعض الشعراء: [من الطويل] ولا خير في قربى لغيرك نفعها ... ولا في صديق لا تزال تعاتبه يخونك ذو القربى مرارا وربّما ... وفى لك عند الجهد من لا تناسبه وقال آخر وهو أوس بن حجر: [من الطويل] وقد اعتب ابن العمّ إن كان ظالما ... وأغفر عنه الجهل إن كان أجهلا وكتب رجل إلى صديق له: الحال بيننا تحتمل الدّالّة «1» ، وتوجب الأنس والثّقة، وتبسط اللسان بالاستزادة. وكتب رجل آخر إلى صديق له: قد جعلك الله ممن يحتمل الدّالّة الكبيرة لذي الحرمة اليسيرة، ورفعك عن أن تبلغ استزادة المستزيد بعنف الحميّة. والعرب تقول لمن عوتب فلم يعتب «لك العتبى بأن لا رضيت» «2» . ونحوه قول بشر بن أبي خازم «3» : [من الكامل] غضبت تميم أن تقتّل عامر ... يوم النّسار فأعتبوا بالصّيلم «4» وقال أوس بن حارثة لابنه: العتاب قبل العقاب. وهذا نحو قول الآخر: ليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.

وقال إياس بن معاوية «1» : خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب، فلمّا كان ببعض المناهل لقيه ابن عمّ له فتعانقا وتعاتبا وإلى جانبهما شيخ من الحيّ، فقال لهما الشيخ: أنعما عيشا، إنّ المعاتبة تبعث التجنّي، والتجنّي يبعث المخاصمة، والمخاصمة تبعث العداوة، ولا خير في شيء ثمرته العداوة، فقلت للشيخ: من أنت؟ قال: أنا ابن تجربة الدهر ومن بلا تلوّنه «2» ، فقلت له: ما أفادك الدّهر؟ قال: العلم به، قلت: فماذا رأيت أحمد؟ قال: أن يبقي المرء أحدوثة حسنة بعده، قال: فلم أبرح ذلك الماء حتى هلك الشيخ وصلّيت عليه. وقال رجل لصديق له: أنا أبقي على موّدتك من عارض «3» يغيّره وعتاب يقدح فيه، وأؤمّل نائيا من رأيك يغني عن اقتضائك. وقرأت في كتاب العتابيّ «4» : تأنينا إفاقتك من سكر غفلتك، وترقّبنا انتباهك من وسن رقدتك، وصبرنا على تجرّع الغيظ فيك حتى بان لنا اليأس من خيرك، وكشف لنا الصبر عن وجه الغلط فيك، فها نحن قد عرفناك حقّ معرفتك في تعدّيك لطويل حقّ من غلط في اختيارك. وقال الشاعر: [من الطويل] فأيّهما يا ليل إن تفعلي بنا ... فآخر مهجور وأوّل معتب وكتب محمد بن عبد الملك إلى الحسن بن وهب «5» : يجب على

باب الوداع

المرءوس إذا تجاوز به الرئيس حقّ مرتبته بعمله، وكان تفضيله إنما وقع له بخفته على القلب ومحلّه من الأدب، أن يقابل ذلك بمثله إن كان محاميا على محلّه، وإلا لن يؤمن عليه معنى بيت شريح: [من الطويل] فإنّي رأيت الحبّ في الصّدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب باب الوداع قال حدّثني محمد بن خالد بن خداش قال حدّثنا مسلم حدّثنا سلم بن قتيبة عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن يزيد بن أمية عن نافع عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول «إذا ودّع رجلا أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم «1» عملك وآخر عمرك» . قال وحدّثني محمد بن عبد العزيز قال حدثنا مسلم بن إبراهيم عن سعيد بن ابى كعب الأزديّ عن موسى بن ميسرة عن أنس بن مالك: أن رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: إني أريد سفزا غدا فقال: «في حفظ الله وكنفه زوّدك الله التقوى وغفر ذنبك ووجّهك للخير حيث كنت» . المعتمر عن إياس بن دغفل قال: رأيت الحسن ودّع رجلا وعيناه تهملان وهو يقول: [من الطويل] وما الدّهر إلا هكذا فاصطبر له ... رزيئة مال أو فراق حبيب قال وودّع رجل صديقا له وهو يقول: [من المتقارب]

وداعك مثل وداع الربيع ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم «1» عليك السلام فكم من وفاء ... نفارقه منك أو من كرم وقال الطائي: [من الخفيف] بيّن البين فقدها، قلّما تع ... رف فقدا للشمس حتى تغيبا «2» وقال جرير: [من الكامل] يا أخت ناجية السّلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذّل لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل أو كنت أرهب وشك بين عاجل ... لقنعت أو لسألت ما لم يسأل وبلغني عن بكر المازنيّ أنه قال: دخلت على الواثق حين أمر بحملي، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: بكر، قال: من خلّفت وراءك؟، قلت: بنيّة، قال: ما قالت عند وداعك؟ قلت: قالت: [من المتقارب] إذا غبت عنّا وخلّفتنا ... فإنّا سواء ومن قد يتم «3» أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم «4» أبانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منّا الرّحم «5» قال: فما قلت لها أنت؟ قال: قلت ما قال جرير: [من الوافر] ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح كان لبني عقيل عبد رضيع بلبان بعضهم فباعوه، فقال حين شخص به مواليه شعرا: [من الطويل]

أشوقا ولمّا يمض بي غير ليلة ... فكيف إذا سار المطيّ بنا شهرا وقال مسلم بن الوليد: [من الطويل] وإني وإسماعيل عند وداعه ... لكالغمد يوم الرّوع زايله النّصل «1» فإن أغش قوما بعدهم وأزورهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل «2» وقال آخر عند توديعه: [من الطويل] عجبت لتطويح النّوى من نحبّه ... وتدنو بمن لا يستلذّ له قرب «3» وقال آخر: [من البسيط] مالت تودّعني والقلب يغلبها ... كما يميل نسيم الريح بالغصن ثم استمرت وقالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي إيّاك لم تكن وقال آخر لرجل ودّعه: بقي علينا أن نكفّ من غرب الشّؤون «4» ، ونستعين على فرقة الوحشة بالكتب، فإنها ألسن ناطقة، وعيون رامقة «5» . وقال البحتريّ: [من مجزوء الكامل المرفّل] الله جارك في انطلاقك ... تلقاء شامك أو عراقك لا تعذلنّي في مسي ... ري يوم سرت ولم ألاقك

الهدايا

إنّي خشيت مواقفا ... للبين تسفح غرب ماقك «1» وعلمت ما يلقى المو ... دّع عند ضمّك واعتناقك فتركت ذاك تعمّدا ... وخرجت أهرب من فراقك الهدايا قال حدّثنا يزيد بن عمرو قال حدّثنا عمير بن عمران قال حدّثنا الحارث ابن عتبة عن العلاء بن كثير عن مكحول قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تصافحوا فإنّ المصافحة تذهب غلّ الصدور، وتهادوا فإنّ الهديّة تذهب بالسّخيمة» «2» . وحدّثني أبو الخطاب قال حدّثنا بشر بن المفضّل عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو أهديت لي ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع «3» لأجبت» . وفي حديث آخر: «تهادوا تحابّوا فإن الهدية تفتح الباب المصمت «4» وتسلّ سخيمة القلب» . قال حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن الأصمعيّ قال: سمعت نافعا يحدث قال: كان ابن عمر يقول: الهدايا من أمراء الفتنة. وروى الزّبير بن بكّار عن عمه قال: كان الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة يجلس وعمرو بن عبيد الله بن صفوان، ما يكادان يفترقان، وكان عمرو يبعث إلى الحارث في كلّ يوم بقربة من ألبان إبله، فاختلف ما بينهما فأتى

عمرو أهله فقال: لا تبعثوا للحارث باللبن فإنا لا نأمن أن يردّه علينا؛ وانقلب الحارث إلى أهله فقال: هل أتاكم اللبن؟ قالوا: لا؛ فلما راح الحارث بعمرو قال: يا هذا لا تجمعنّ علينا الهجر وحبس اللبن؛ فقال: أمّا إذا قلت هذا فلا يحملها إليك غيري، فحملها من ردم «1» بني جمح إلى أجياد «2» . وبعث النضر بن الحارث إلى صديق له يسكن عبّادان بنعلين مخصوفتين وكتب إليه: بعثت إليك بهما وأنا أعلم أنّ بك عنهما غنى، ولكني أحببت أن تعلم أنك مني على ذكر. وقال بعض الشعراء: [من مجزوء الكامل المرفّل] إنّ الهديّة حلوة ... كالسّحر تجتلب القلوبا تدني البغيض من الهوى ... حتى تصيّره قريبا وتعيد مضطغن العدا ... وة بعد نفرته حبيبا «3» أهدى رجل إلى صديق له عبدا أسود؛ فكتب إليه: أمّا بعد، فلو علمت عددا أقلّ من واحد أو لونا شرّا من الأسود لبعثت به إليّ. وهذا نظير قول الآخر وقد سئل كم لك من الولد؟ قال: خبيث قليل؛ قيل: وكيف؟ فقال: لا أقلّ من واحد ولا أخبث من بنت. أهدى رجل إلى بعض الأمراء هدية، فكتب إليه الأمير: قد قبلتها بالموقع ورددتها بالإبقاء.

وكان ابن عباس يقول: من أهديت إليه هديّة وعنده قوم فهم شركاؤه فيها؛ فأهدى إليه صديق ثيابا من ثياب مصر وعنده أقوام فأمر برفعها، فقال له رجل: ألم تخبرنا أنّ من أهديت له هديّة وعنده قوم فهم شركاؤه فيها! فقال: إنّما ذلك فيما يؤكل ويشّرب ويشم، فأمّا في ثياب مصر فلا. وقال خلف الأحمر «1» : [من الطويل] أتاني أخ من غيبة كان غابها ... وكنت إذا ما غاب أنشده ركبا «2» فجاء بمعروف كثير فدسّه ... كما دسّ راعي السّوء في حضنه الوطبا «3» فقلت له هل جئتني بهديّة ... فقال بنفسي قلت أتحف بها الكلبا هي النفس لا أرثى لها من بليّة ... ولا أتمنّى أن رأيت لها قربا أهدى رجل إلى صديق له وكتب إليه: الأنس سهّل سبيل الملاطفة، فأهديت هديّة من لا يحتشم، إلى من لا يغتنم. وحدّثنا أحمد بن الخليل قال حدّثنا أبو سلمة عن حبابة بنت عجلان عن أمّها أم حفص عن صفيّة بنت جرير عن أم حكيم بنت وداع الخزاعيّة قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم: ما جزاء الغنيّ من الفقير؟ قال؛ «النصيحة والدعاء قلت: يكره ردّ اللّطف؟ «4» . قال: ما أقبحه، لو أهديت إليّ ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت، تهادوا فإنه يضعف الحبّ «5» ويذهب بغوائل القلوب» «6» .

وحدّثني محمد بن سلّام الجمحيّ «1» قال حدّثني خلّاد بن يزيد الباهليّ قال: أهديت ليزيد بن عمر بن هبيرة في يوم المهرجان هدايا وهو أمير العراق فصفّت بين يديه؛ فقال خلف بن خليفة وكان حاضرا: [من المتقارب] كأنّ شماميس في بيعة ... تسبّح في بعض عيداتها «2» وقد حضرت رسل المهرجا ... ن وصفّوا كريم هديّاتها علوت برأسي فوق الرءوس ... ، فأشخصته فوق هاماتها «3» لأكسب صاحبتي صحفة ... تغيظ بها بعض جاراتها فأمر له بجام «4» من ذهب، ثم أقبل يفرّق بين جلسائه تلك الهدايا وينشد: [من البسيط] لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسّرف «5» فإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف كتب رجل من أصحاب السلطان إلى بعض العلماء يستهديه مهارة «6» من ناحية عمله. فكتب إليه العامل: أمّا المهارة فإن أهل عملنا يصونونها صيانة الأعراض، ويسترونها ستر الحرم، ويسومون «7» بها مهور العقائل «8» ؛ وأنا مستخلص لك منها ما يكون زين المربط وحملان «9» الصديق، إن شاء الله.

وقال بعضهم: الهدّية إذا كانت من الصغير إلى الكبير، فكلّما لطفت ودقّت كان أبهى لها، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير، فكلّما عظمت وجلّت كان أوقع لها وأنجع. وكتب أبو السّمط «1» : [من الوافر] بدولة جعفر حسن الزمان ... لنا بك كلّ يوم مهرجان ليوم المهرجان بك اختيال ... وإشراق ونور يستبان جعلت هديّتي لك فيه وشيا ... وخير الوشي ما نسج اللسان «2» أهدى حسام بن مصكّ إلى قتادة نعلا رقيقة، فجعل قتادة يزنها بيده، وقال: إنك تعرف سخف عقل الرجل في سخف هديّته. وقال الشاعر: [من الوافر] سقى حجّاجنا نوء الثريّا ... على ما كان من بخل ومطل «3» هم جمعوا النعال وأحرزوها ... وسدّوا دونها بابفا بقفل فإن أهديت فاكهة وجديا ... وعشر دجائج بعثوا بنعل ومسواكين طولهما ذراع ... وعشر من ردىء المقل حسل «4» فإن أهديت ذاك ليحملوني ... على نعل فدقّ الله رجلي أناس تائهون لهم رواء ... تغيم سماؤهم من غير وبل «5» إذا انتسبوا ففرع من قريش ... ولكنّ الفعال فعال عكل «6»

كتب رجل إلى صديق له: لولا أنّ البضاعة قصّرت بي عن بلوغ الهمة لأتعبت المسابقين إلى برّك. وكرهت أن تطوى صحيفة البرّ، وليس لي فيها ذكر، فبعثت إليك بالمبتدأ بيمنه وبركته، والمختوم بطيبه ورائحته: جراب ملح، وجراب أشنان «1» . أهدى الطائيّ إلى الحسن بن وهب قلما وكتب إليه: [من الخفيف] قد بعثنا إليك أكرمك الل ... هـ بشيء فكن له ذا قبول لا تقسه إلى ندى كفّك الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل «2» واغتفر قلّة الهديّة منّي ... إنّ جهد المقلّ غير قليل وبعث أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع بنعل وكتب معها: [من لكامل] نعل بعثت بها لتلبسها ... تسعى بها قدم إلى المجد لو كان يمكن أن أشرّكها ... جلدي جعلت شراكها خدّي «3» وقال بعض الشعراء في نحو ذلك: [من الكامل] أو ما رأيت الورد أتحفنا به ... إتحاف من خطر الصديق بباله لو كان يهدى لامرىء ما لا يرى ... يهدى لعظم فراقه وزياله «4» لرددت تحفته عليه وإن علت ... عن ذاك واستهديت بعض خصاله وقال المهديّ «5» : [من السّريع] تفّاحة من عند تفّاحة ... جاءت فماذا صنعت بالفؤاد

والله ما أدري أأبصرتها ... يقظان أم أبصرتها في الرّقاد قال: وكتب بعض العمال إلى صديق له: إنّي تصفّحت أحوال الأتباع الذين يجب عليهم الهدايا إلى السّادة في مثل هذا اليوم والتأسّي بهم في الإهداء، وإن قصّرت الحال عن قدرك، فرأيتني إن أهديت نفسي فهي ملك لك لا حظّ فيها لغيرك، ورميت بطرفي إلى كرائم مالي فوجدت أكثرها منك، فكنت إن أهديت شيئا منه كالمهدي مالك إليك ومنفق نفقتك عليك؛ وفزعت إلى مودّتي وشكري فوجدتهما خالصين لك قديمين غير مستحدثين، ورأيت إن أنا جعلتهما هديّتي لم أجدّد لهذا اليوم الجديد برّا ولا لطفا. ولم أقس منزلة من شكري بمنزلة من نعمتك إلّا كان الشكر مقصّرا عن الحق، وكانت النعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة؛ ولم أسلك سبيلا ألتمس بها برّا أعتدّ به أو لطفا أتوصّل إليه، إلا وجدت رضاك قد سبقني إليه، فجعلت الإعتراف بالتقصير عن حقّلك هدّية إليك؛ وقد قلت في ذلك: [من السّريع] إن أهد نفسي فهي من ملكه ... أو أهد مالي فهو من ماله لمّا قدم معاوية المدينة منصرفا من مكة، بعث إلى الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير وعبد الله بن صفوان ابن أميّة بهدايا من كسى وطيب وصلات من المال، ثم قال لرسله: ليحفظ كلّ رجل منكم ما يرى ويسمع من الردّ. فلما خرج الرّسل من عنده، قال لمن حضر: إن شئتم أنبأناكم بما يكون من القوم؛ قالوا: أخبرنا يا أمير المؤمنين؛ قال: أمّا الحسن فلعله ينيل نساءه شيئا من الطّيب وينهب «1» ما بقي من حضره ولا ينتظر غائبا. وأما الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصفّين،

فإن بقي شيء نحر به الجز وسقى به اللبن. وأما عبد الله بن جعفر فيقول: يا بديح «1» ! أقض به ديني، فإن بقي شيء فأنفذ به عداتي «2» . وأما عبد الله بن عمر فيبدأ بفقراء عديّ بن كعب، فإن بقي شيء ادّخره لنفسه ومان «3» به عياله. وأما عبد الله بن الزبير فيأتيه رسولي وهو يسبّح فلا يلتفت إليه ثم يعاوده الرسول فيقول لبعض كفاته «4» : خذوا من رسول معاوية ما بعث به، وصله الله وجزاه خيرا، لا يلتفت إليها وهي أعظم في عينه من أحد، ثم ينصرف إلى أهله فيعرضها على عينه ويقول: ارفعوا، لعلّي أن أعود على ابن هند يوما ما. وأما عبد الله بن صفوان فيقول: قليل من كثير، وما كلّ رجل من قريش وصل إليه هكذا، ردّوا عليه؛ فإن ردّ قبلناها. فرجع رسله من عندهم بنحو ممّا قال معاوية؛ فقال معاوية: أنا بن هند! أعلم بقريش من قريش. قال يونس بن عبيد: أتيت ابن سيرين «5» فدعوت الجارية، فسمعته يقول: قولوا له: إنّي نائم- يريد: سأنام-؛ فقلت: معي خبيص «6» ؛ فقال: مكانك حتى أخرج إليك. قال رجل لأبي الدّرداء: إن فلانا يقرئك السلام؛ فقال: هدّية حسنة ومحمل خفيف. وبعث رجل إلى جارية يقال لها «راح» براح «7» ، وكتب إليها:

[من مجزوء الخفيف] قل لمن يملك الملو ... ك وإن كان قد ملك قد شربناك فاشربي ... وبعثنا إليك بك أهدى رجل إلى عبيد بن الأخطل شاة مهزولة «1» ، فكتب إليه عبيد: [من المتقارب] وهبت لنا يا أخا منقر ... وعجل وأكرمها أوّلا «2» عجوزا أضرّ بها دهرها ... وأنزلها الذّلّ دار البلى سلوحا حسبت بأن الرّعاء ... سقوها الغريقون والحنظلا «3» وأجدب من ثور زرّاعة ... أصاب على جوعه سنبلا «4» وأزهد من جيفة لم تدع ... لها الشمس من مفصل مفصلا فأهوت يميني إلى جنبها ... فخلت حراقيقها جندلا «5» وأهوت يساري لعرقوبها ... فخلت عراقيبها مغزلا «6» فقلت أبيع فلا مشربا ... تؤدّى إليّ ولا مأكلا أم اجعل من جلدها حنبلا ... فأقذر بحنبلها حنبلا «7» إذا هي مرّت على مجلس ... من العجب كبّر أو هلّلا رأوا آية خلفها سائق ... يحثّ وإن هرولت هرولا

فكنت أمرت بها ضخمة ... بشحم ولحم قد استكملا ولكنّ روحا عدا طوره ... وما كنت أحسب أن يفعلا «1» فعضّ الذي خانني حاجتي ... بإست امّه بظرها الا غرلا «2» فلولا مكانك خضّبتها ... وعلّقت في جيدها جلجلا «3» فجاءت لكيما ترى حالها ... فتعلم أنّي بها مبتلى سألتك لحما لصبياننا ... فقد زدتني فيهم عيّلا «4» فخذها وأنت بها محسن ... وما زلت بي محسنا مجملا وبعث رجل إلى دعبل بأضحيّة «5» ، فكتب إليه: [متقارب] بعثت إليّ بأضحيّة ... وكنت حريّا بأن تفعلا ولكنّها خرجت غثّة ... كأنك أرعيتها حرملا «6» فإن قبل الله قربانها ... فسبحان ربّك ما أعدلا قيل لرجل قدم من مكة: كيف أثمان النّعال بمكة؟ قال: أثمان الجداء «7» بالعراق. وقال مسلم بن الوليد: [طويل] جزى الله من أهدى التّرنج تحية ... ومنّ بما يهوى عليه وعجّلا «8»

العيادة

أتتنا هدايا منه أشبهن ريحه ... وأشبه في الحسن الغزال المكحّلا ولو أنّه أهدى إليّ وصاله ... لكان إلى قلبي ألذّ وأوصلا وكتب رجل إلى صديق له شرب دواء: [وافر] تأنّق في الهديّة كلّ قوم ... إليك غداة شربك للدواء فلمّا أن هممت به مدلا ... لموضع حرمتي بك والإخاء رأيت كثير ما أهدي قليلا ... لعبدك فاقتصرت على الدّعاء وكتب رجل إلى صديق له: وجدت المودّة منقطعة ما كانت الحشمة عليها متسلّطة، وليس يزيل سلطان الحشمة إلا المؤانسة، ولا تقع المؤانسة إلا بالبرّ والملاطفة. العيادة قال حدّثنا يزيد بن عمرو قال حدّثنا يزيد بن هارون قال حدّثنا شريك عن أبي نصير عن أنس بن مالك، قال: عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار من رمد كان بعينه. ومن حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يعادون صاحب الدّمّل والرمد والضرس» . وحدّثني القاسم بن الحسن عن ابن الأصبهانيّ عن إسماعيل بن عيّاش عن أرطأة بن المنذر: أن أبا الدرداء عاد جارا له نصرانيا. قال الشّعبيّ «1» : عيادة النّوكى «2» أشدّ على المريض من وجعه.

وعن شيبان عن أبي هديّة عن أبي هلال قال: قال بكر بن عبد الله لقوم عادوه فأطالوا عنده: المريض يعاد، والصحيح يزار. عاد قوم عليلا فأطالوا عنده، فقال لهم: إن كان لكم في الدار حقّ فخذوه وانصرفوا. عاد رجل رقبة، فنعى رجالا اعتلّوا مثل علّته، فقال له رقبة: إذا دخلت على مريض فلا تنع إليه الموتى، وإذا خرجت من عندنا فلا تعد إلينا. عاد أعرابيّ أعرابيّا فقال: بأبي أنت! بلغني أنك مريض، فضاق والله عليّ الأمر العريض، وأردت إتيانك فلم يكن بي نهوض؛ فلما حملتني رجلان، وليستا تحملان؛ أتيتك بجرزة «1» شيح ما مسّها عرنين قطّ «2» ، فاشممها واذكر نجدا، فهو الشفاء بإذن الله. قال كثيّر: [متقارب] ألا تلك عزّة قد أقبلت ... تقلّب للبين طرفا غضيضا «3» تقول مرضت وما عدتنا ... فقلت لها لا أطيق النهوضا كلانا مريضان في بلدة ... وكيف يعود مريض مريضا «4» وقال آخر «5» : [بسيط] إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر

وقال بشّار: [سريع] لو كانت الفدية مقبولة ... لقلت بي لا بك حمّاكا «1» وكتب آخر إلى عليل: [بسيط] نبّئت أنّك معتلّ فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كلّ محذور يا ليت علّته بي غير أنّ له ... أجر العليل وأني غير مأجور وكتب آخر إلى عليل: [طويل] أقول بحقّ واجب لك لازم ... وإخلاص شكر لا يغيّره الدهر بي السوء والمكروه لا بك كلّما ... أراداك كانا بي وكان لك الأجر وقال آخر في مثله: [طويل] فإن تك حمّى الغبّ شفّك وردها ... فعقباك منها أن يطول لك العمر «2» وقيناك! لو نعطى المنى فيك والهوى ... لكان بي الشكوى وكان لك الأجر وفي الحديث المرفوع «حصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا البلايا بالدعاء» . وفي آخر أنه صلّى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: «من أصبح منكم صائما؟ قال عمر: أنا، قال: فمن شيّع جنازة؟ قال عمر: أنا؛ قال: فمن عاد مريضا؟ قال عمر: أنا؛ قال: فمن فيكم تصدّق بصدقة؟ قال عمر: أنا؛ فقال صلّى الله عليه وسلم: «وجبت وجبت وجبت» . وفي حديث آخر: أنه صلّى الله عليه وسلم قال: إتمام عيادتكم المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته أو على رأسه، أو يده، «في يده ويسأله كيف هو، وتمام تحياتكم المصافحة» .

وقال الشاعر: [طويل] إن كنت في ترك العيادة تاركا ... حظّي فإني في الدّعاء لجاهد فلربما ترك العيادة مشفق ... وأتى على غلّ الضمير الحاسد «1» أبو حاتم قال حدّثنا العتبيّ عن أبيه قال: كان يقال: إذا اشتكى الرجل ثم عوفي ولم يحدث خيرا ولم يكفّ عن سوء، لقيت الملائكة بعضها بعضا وقالت: إن فلانا داويناه فلم ينفعه الدواء. وقال أبو حاتم «2» حدّثنا القحذميّ قال: أطلع «3» معاوية في بئر بالأبواء «4» فأصابته لقوة «5» ، فاعتمّ بعمامة سوداء وسدلها على الشقّ الذي أصيب فيه، ثم أذن للناس فقال: أيّها الناس؛ إنّ ابن آدم بعرض بلاء: إمّا معاتب ليعتب، وإمّا معاقب بذنب، أو مبتلى ليؤجر، فإن عوتبت فقد عوتب الصالحون قبلي، وإنّي لأرجو أن أكون منهم؛ وإن عوقبت فقد عوقب الخطّاءون قبلي، وما آمن أن أكون منهم؛ وإن مرض عضو منّي فما أحصي صحيحي ولما عوفيت أكثر، ولو أن أمري إلى ما كان لي على ربّي أكثر مما أعطاني. وإنّي وإن كنت عاتبا على خاصّ منكم فإنّي حدب «6» على جماعتكم، أحبّ صلاحكم. وقد أصبت بما ترون، فرحم الله امرأ دعا لي بعافية! فرفعوا أصواتهم بالبكاء والدعاء.

مرض أبو عمرو بن العلاء «1» مرضة، فأتاه أصحابه وأبطأ عنده رجل منهم؛ فقال: ما يبطىء بك؟ قال: أريد أن أساهرك؛ قال: أنت معافى وأنا مبتلى، فالعافية لا تدعك تسهر والمرض لا يدعني أنام، فاسأل الله أن يسوق إلى أهل العافية الشكر، وإلى أهل البلاء الصبر والأجر. حدّثني عبد الرحمن عن الأصمعيّ قال: اشتكى رجل من الأعراب، فجعل الناس يدخلون عليه فيقولون: كيف أصبحت وكيف كنت؟ فلما أكثروا عليه قال: كما قلت لصاحبك. قال: وقع رجل من أهل المدينة فوثئت «2» رجلاه، فجعل الناس يدخلون عليه ويسألونه، فلما أكثروا عليه وأضجر كتب قصّته في رقعة، فكان إذا دخل عليه عائد وسأله دفع إليه الرقعة. الهيثم بن عديّ قال: كان رجل من أهل السّواد محدودا «3» لا يقصد في شيء إلا انصرف عنه، فغاب مرّة فأطال، فلما قدم أتاه الناس فجعلوا يسألونه عن حاله وما كان فيه، وكان فيه برم «4» ، فأخذ رقعة فكتب فيها: [متقارب] وما زلت أقطع عرض الفلاة ... من المشرقين إلى المغربين وأطوي الفيافي أرضا فأرضا ... وأستمطر الجدي والفرقدين «5» وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفّي حنين «6»

فقيرا وقيرا أخا عسرة ... بعدا من الخير صفر اليدين «1» كئيب الصّديق بهيج العدوّ ... طويل الشّقا زاني الوالدين وطرحها في مجلسه، فكلّ من سأله عن حاله دفع إليه الرقعة. قال حدّثنا عبد الرحمن عن عمه أن نبطيّا «2» وقع من موضع عال، فدخلوا يسألونه، كيف وقعت؟ فلما أكثروا عليه أخذ جرّة وألقاها من يده وقال: هكذا وقعت. أبو الخطاب قال: كان عندنا رجل أحدب فسقط في بئر فذهبت حدبته فصار آدر «3» ، فدخلوا يسألونه ويهنئونه بذهاب حدبته، فجعل يقول: الذي جاء شرّ من الذي ذهب. المدائنيّ قال: سقط ابن شبرمة القاضي عن دابّته فوثئت رجله، فدخل يحيى بن نوفل الحميريّ عليه فقال: [متقارب] أقول غداة أتاني الخبير ... فدسّ أحاديثه الهينمه «4» لك الويل من مخبر ما تقول؟ ... أبن لي وعدّ عن الجمجمه «5» فقال خرجت وقاضي القضا ... ة مثقلة رجله مؤلمه فقلت وضاقت عليّ البلاد ... وخفت المجلّلة المعظمه فغزوان حرّ وأمّ الوليد ... إن الله عافى أبا شبرمه جزاء لمعروفه عندنا ... وما عتق عبد له أو أمه؟

قال: وفي المجلس جار ليحيى بن نوفل يعرف منزله، فلما خرج تبعه وقال: يا أبا معمر، من غزوان وأم الوليد؟ فضحك وقال: أو ما تعرفهما؟ هما سنّوران في البيت. قال حدّثنا الرّياشيّ عن أبي زيد قال دخلنا على أبي الدّقيش وهو شاك «1» ، فقلنا له: كيف تجدك؟ قال: أجدني أجد ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجد، ولقد أصبحت في شرّ زمان وشرّ أناس: من جاد لم يجد ومن وجد لم يجد. قيل: لعمرو بن العاص وقد مرض مرة: كيف تجدك؟ قال أجدني أذوب ولا أثوب، وأجد نجوي «2» أكثر من رزئي «3» ، فما بقاء الشيخ على هذا!. سئل عليل عن حاله فقال: أنا مبلّ «4» غير مستقلّ، ومتماثل غير متحامل. وقيل لآخر: كيف تجدك؟ قال أجدني لم أرض حياتي لموتي. وقيل لرجل من العجم: ما حالكم؟ قال: ما حال من يريد سفرا طويلا بلا زاد! وينزل منزلا موحشا بلا أنيس! ويقدم على جبّار قد قدّم العذر بلا حجّة!. قيل لعكرمة: كيف حالك؟ قال: بشرّ، أصبحت أجرب مبسورا «5» . حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: قيل لشيخ من العبّاد: كيف أنت، وكيف أحوالك؟ فقال: ما كلّها كما أشتهي.

قيل لآخر: ما تشتكي؟ قال: تمام العدّة وانقضاء المدّة. وبلغني عن معاوية بن قرّة قال: مرض أبو الدّرداء، فعاده صديق له فقال: أيّ شيء تشتكي؟ قال: ذنوبي؛ قال: فأيّ شيء تشتهي؟ قال: الجنّة؛ قال: فندعو لك بالطبيب؟ قال: هو أمرضني. سئل رجل عن حاله فقال: [رجز] كنّا إذا نحن أردنا لم نجد ... حتى إذا نحن وجدنا لم نرد أرجف «1» الناس بعلّة معاوية وضعفه، فدخل عليه مصقلة بن هبيرة، فأخذ معاوية بيده ثم قال يا مصقل: [مجزوء الكامل المرفّل] أبقى الحوادث من خلي ... لك مثل جندلة المراجم «2» قد رامني الأقوام قب ... لك فامتنعت من المظالم فقال مصقلة: أمّا قول أمير المؤمنين: «أبقى الحوادث من خليللك» ، فقد أبقى الله منك جبلا راسيا وكلا مرعيا لصديقك وسمّا ناقعا لعدوّك. وأمّا قولك: «قد رامني الأقوام قبلك» ، فمن ذا يرومك أو يظلم! فقد كان الناس مشركين فكان أبو سفيان سيّدهم، وأصبح الناس مسلمين وأصبحت أميرهم؛ فأعطاه معاوية فخرج؛ فسئل عنه فقال: والله لغمزني غمزة «3» كاد يكسر منها يدي وأنتم تزعمونه مريضا. وقال المدائنيّ: دخل كثيّر عزّة على عبد الملك بن مروان، فقال: يا أمير المؤمنين، لولا أنّ سرورك لا يتمّ بأن تسلم وأسقم لدعوت الله أن يصرف

ما بك إليّ، ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية ولي في كنفك النعمة؛ فضحك وأمر له بمال؛ فقال: [كامل] ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا ... ليت التّشكّي كان بالعوّاد لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي «1» وقال آخر: [منسرح] لا تشكون دهرا صحت به ... إنّ الغنى في صحة الجسم هبك الخليفة، كنت منتفعا ... بلذاذة الدنيا مع السّقم؟ إعتلّ المسور «2» فجاءه ابن عباس يعوده نصف النهار؛ فقال المسور: يا أبا عباس «3» هلّا ساعة غير هذه! قال ابن عباس: إنّ أحبّ الساعات إليّ أن أؤدّي فيها الحقّ أشقّها عليّ. وكتب رجل إلى صديق له: كيف أنت؟ بنفسي أنت! وكيف كنت؟ لا زلت! وكيف قوتك ونشاطك؟ لا عدمتهما ولا عدمناهما منك، وأعادك الله إلى أحسن ما عوّدك! لولا عوائق يوجب العذر بها تفضّلك لم أدع تعرّف خبرك بالعين، فإنها أشفى للقلب وأنقع للغليل «4» وأشدّ تسكينا للأعج الشوق «5» . وقرأت فصلا في كتاب: لئن تخلّفت عن عيادتك بالعذر الواضح من العلّة لما أغفل قلبي ذكرك ولا لساني فحصا عن خبرك في ممساك ومصبحك

التعازي وما يتمثل به فيها

وتنقّل الحال بك تبعث من تقسم جوارحه وصبك «1» وزاد في ألمها ألمك ومن تتصّل بك أحواله في السراء والضراء. ولما بلغتني إفاقتك كتبت مهنئا بالعافية مخبرا بالعذر، معفيا من الجواب إلا بخبر السلامة إرسالا. وقال عبد بني الحسحاس «2» : [طويل] تجمّعن من شتّى ثلاث وأربع ... وواحدة حتّى بلغن ثمانيا سليمى وسلمى والرّباب وزينب ... وهند ودعد والمنى وقطاميا وأقبلن من بعض الخيام يعدنني ... ألا إنّ بعض العائدات دوائيا وقال عبد الله بن مصعب الزّبيريّ: [كامل] ما لي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود فسمّي «عائد الكلب» وولده الآن يسمّون «بني عائد الكلب» . التعازي وما يتمثّل به فيها وحدّثني محمد بن داود عن غسّان بن الفضل قال قال عبد الوهاب الثّقفيّ: أتاني ابن جريج بمكة يعزّيني عن بعض أهلي، فقال: إنه من لم يسل «3» أهله إيمانا واحتسابا سلا كما تسلوا البهائم. كتب إبراهيم بن يحيى الأسلميّ «4» إلى المهديّ يعزّيه عن ابنته: أما بعد، فإن أحقّ من عرف حقّ الله فيما أخذ منه من عظّم حقّ الله عليه فيما

ابقى له. واعلم أنّ الماضي قبلك هو الباقي بعدك، وأنّ أجر الصابرين فيما يصابون به أعظم عليهم من النعمة فيما يعافون منه. ونحوه قول سهل بن هارون: التهنئة على آجل الثواب، أولى من التّعزية على عاجل المصيبة. وقال بعض الشعراء: [كامل] كم من يد لا يستقلّ بشكرها ... لله في ظلّ المكاره كامنه وسقطت مقاديم فم معاوية فشقّ ذلك عليه، فقال له يزيد بن معمر السّلميّ: والله يا أمير المؤمنين، ما بلغ أحد سنّك إلا أبغض بعضه بعضا، ففوك أهون علينا من سمعك وبصرك. وقال صالح المرّي «1» لرجل يعزّيه: إن لم تكن مصيبتك أحدثت في نفسك موعظة فمصيبتك بنفسك أعظم. ونحوه: شرّ من المرزئة سوء الخلف عنها. ومثله قول الشاعر: [خفيف] إن يكن ما به أصبت جليلا ... فلفقد العزاء فيه أجلّ عزى شبيب بن شيبة المهديّ عن بانوقة «2» ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما عند الله خير لها مما عندك، وثواب الله خير لك منها. عزّى رجل عبد الله بن طاهر «3» عن ابنته فقال: أيها الأمير، ممّ تجزع؟: [بسيط]

الموت أكرم نزّال على الحرم وقال جرير: [طويل] وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء من أصحابه من تقنّعا وقال آخر: [من الوافر] ولم أر نعمة شملت كريما ... كنعمة عورة سترت بقبر وعزّى رجل رجلا فقال: لا أراك الله بعد هذه المصيبة ما ينسيكها. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: [طويل] تعزّ أمير المؤمنين فإنّه ... لما قد ترى يغذى الصغير ويولد هل ابنك إلّا من سلالة آدم ... لكلّ على حوض المنّية مورد عزّى أبو بكر عمر رضي الله عنهما عن طفل أصيب به، فقال: عوّضك الله منه ما عوّضه منك. وقال محمود الوراق «1» : [متقارب] يمثّل ذو اللبّ في نفسه ... مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعه ... لما كان في نفسه مثّلا رأى الهمّ يفضي إلى آخر ... فصيّر آخره أوّلا وذو الجهل يأمن أيامه ... وينسى مصارع من قد خلا «2» فإن بدهته صروف الزمان ... ببعض مصائبه أعولا «3» ولو قدّم الحزم في أمره ... لعلّمه الصبر عند البلا عزّى موسى بن المهديّ سليمان بن أبي جعفر عن ابن له، فقال: أيسرّك وهو بليّة وفتنة، ويحزنك وهو صلاة ورحمة!.

وعزّى رجل موسى بن المهديّ عن ابن له فقال: كان لك من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات. توفّي سهيل بن عبد العزيز بن مروان، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عمّاله وأطنب في كتابه؛ فكتب إليه عمر: [طويل] حسبي حياة الله من كلّ ميّت ... وحسبي بقاء الله من كلّ هالك إذا ما لقيت الله عني راضيا ... فإنّ شفاء النفس فيما هنالك كتب ابن السّمّاك «1» إلى الرشيد يعزّيه بابن له: أما بعد، فإن استطعت أن يكون شكرك لله حين قبضه أكثر من شكرك له حين وهبه، فإنّه حين قبضه أحرز لك هبته، ولو سلم لم تسلم من فتنته؛ أرأيت حزنك على ذهابه وتلهّفك لفراقه! أرضيت الدار لنفسك فترضاها لابنك! أمّا هو فقد خلص من الكدر، وبقيت أنت معلّقا بالخطر. واعلم أن المصيبة مصيبتان إن جزعت، وإنما هي واحدة إن صبرت، فلا تجمع الأمرين على نفسك. كتب عبد الله بن طاهر إلى أبي دلف «2» : المصائب حالّة لا بدّ منها، فمنها ما يكون رحمة من الله ولطفا بعبده، وآية ذلك أن يوفّقه للصبر ويلهمه الرضا ويبسط أمله فيما عنده من الثواب الآجل والخلف العاجل. ومنها ما يكون سخطا وانتقاما، أوّله حزن وأوسطه قنوط وآخره ندامة، وهي المصيبة حقّا الجامعة لخسران الدنيا والآخرة. ولم تزل عادة الله عندك الإخلاف والإتلاف. وإن يك ما نالك الآن أعظم مما أتى عليك في مواضي الأيام،

فالأجر المأمول على قدر ذلك. وكتب أبو دلف إليه: إن تكن المصيبة جلّت، فإنّ فيما أكرمني الله به من جميل رأي الأمير وما وضح للناس من فضل عنايته وابتدائه إيّاى بكتبه، ما عجّل العوض من المفقود. وفي كتاب آخر: لئن كانت المصيبة جلّت، إن فيما أبقى الله ببقاء الأمير عوضا وافيا وخلفا كافيا. وحقيق بمن عظمت النعمة عليه فيما أبقى الله أن يحسن عزاؤه عما أخذ منه. وأحقّ ما صبر عليه ما لا يستطاع دفعه. وقرأت في كتاب لبعض الكتّاب في تعزية: أسأل الله أن يسدّ بك ما ثلمت «1» الأيام من مكانه، ويعمّر ما أخلت من مشاهده وأوطانه حتى لا يعفو الداثر «2» ، وأن يستقبل لكم أيّامكم بأحسن ما أمضاها لمن مضى منكم، فيجعلكم الخلف الذي لا وحشة معه ولا وحشة عليه، ويتولّاكم ويتولانا فيكم بما هو أهله ووليّه. وقرأت في كتاب تعزية: لا لوم على دمعة لا تملك أن تسفحها «3» ، ولا على ألم في القلب لا يدفع أن يظهر فيك، ولا عذر في سواهما مما أحبط أجرك وأشمت عدوّك وضعّف رأيك، ولم يرجع إليك فائتا ولا إلى شقيقك بمكانه روحا ولا إلى من خلّف حفظا. واعلم أن فرق ما بين ذي العقل وذي الجهل في مصيبتيهما تعجّل العاقل من الصبر ما يتأجّل الجاهل. وقرأت في كتاب تعزية: لو كانت النوائب مدفوعة عن أحد بكثرة من يقيه ذلك من إخوانه ويفديه منه بالأخصّ من أعزّته والأنفس من ماله، سلمت

من ملمّها، وكان سبقي إلى ذلك أبرز سبق، وحظّي بالتقدّم فيه أوفر حظّ. وقرأت في كتاب: مصيبتك لي مصيبة، وما نالك من ألمها لي موجع. ولو كان في الوسع أن أعلم كنه ما خامر قلبك من ألمها لحملت مثله على نفسي، فإني أحبّ أن أكون أسوتك في كل سارّ وغامّ، وألّا أتمتّع بأيام غمومك، ولا أقصّر فيها عن مقدار حالك. وقرأت في كتاب: نسأل الله حسن الاستعداد لما نتوكّفه «1» ونتوقّع حلوله، وألّا يشغلنا بما يقلّ الانتفاع به وتعظم التّبعة فيه عمّا نحتاج إليه يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا، وأن يجعل ما وهب لنا من الصبر والعزاء إيمانا وإيقانا، ولا يجعله ذهولا ونسيانا. قال أسماء بن خارجة إذا قدمت المصيبة تركت التعزية، وإذا قدم الإخاء قبح الثناء. قيل لأعرابية مات ابنها: ما أحسن عزاءك! فقالت: إن فقدي إياه أمّنني من المصيبة بعده. ونحوه قول الشاعر «2» : [طويل] وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر ومثله: [طويل] وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإن سرّني الأجر وقال أبو العتاهية: [كامل]

وكما تبلى وجوه في الثّرى ... فكذا يبلى عليهنّ الحزن وفي الحديث: «من يرد الله به خيرا «1» يصب منه» . ويقال: المصيبة الموجعة تدرّ «2» ذكر الله في قلب المؤمن. قال الأصمعيّ: مررت بأعرابيّة وبين يديها فتى في السّياق «3» ، ثم رجعت ورأيت في يدها قدح سويق «4» تشربه، فقلت لها: ما فعل الشابّ؟ فقالت: واريناه؛ فقلت: فما هذا السّويق؟ فقالت: [طويل] على كلّ حال يأكل القوم زادهم ... على البؤس والبلوى وفي الحدثان قيل لأعرابيّ: كيف حزنك اليوم على ولدك؟ فقال: ما ترك حبّ الغداء والعشاء لي حزنا. وقال عمر بن عبد العزيز: إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت فاله عمّا أصابك. اشتكى بعض أهل محمد بن عليّ بن الحسين فجزع عليه، ثم أخبر بموته فسرّي «5» عنه؛ فقيل له في ذلك، فقال: ندعو الله فيما نحبّ، فإذا وقع ما نكره لم نخالف الله فيما أحبّ. لما مات عتبة بن مسعود قال عبد الله: إذا ما قضى الله فيه ما قضى فما أحبّ أني دعوته فأجابني. قال رجل من طيّء: [طويل]

فلولا الأسى «1» ما عشت في الناس ساعة ... ولكن إذا ما شئت أسعدني مثلي وقال آخر: [طويل] إذا أنت لم تسل اصطبارا وحسبة ... سلوت على الأيام مثل البهائم «2» عزّى محمد بن الوليد بن عتبة الوليد بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ليشغلك ما أقبل من الموت إليك، عمّن هو في شغل مما دخل عليك، وأعدد لنزوله عدّة تكون لك حجابا من الجزع وسترا من النار. فقال يا محمد، أرجو ألا تكون رأيت غفلة تنبّه عليها ولا جزعا يستتر منه، وما توفيقي إلا بالله. فقال محمد: يا أمير المؤمنين، إنه لو استغنى أحد عن موعظة بفضل لكنته، ولكنّ الله يقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «3» . وقال الطائي: [طويل] ويفرح بالشيء المعار بقاؤه ... ويحزن لمّا صار وهو له ذخر عليك بثوب الصبر إذ فيه ملبس ... فإنّ ابنك المحمود بعد ابنك الصّبر وقال أيضا: [طويل] أمالك إنّ الحزن أحلام نائم ... ومهما يدم فالوجد ليس بدائم تأمّل رويدا هل تعدّنّ سالما ... إلى آدم أم هل تعدّ ابن سالم وقال آخر: [كامل] اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد ... واعلم بأن الدهر غير مخلّد أو ما ترى أنّ الحوادث جمّة ... وترى المنية للعباد بمرصد وإذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبيّ محمّد

عزّى رجل الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، كان لك الأجر لا بك، وكان العزاء منك لا عنك. يعزّى أهل نجران بعضهم بعضا بهذا الكلام: لا يحزنكم الله ولا يفتنكم، أثابكم الله ثواب المتّقين وأوجب لكم الصلاة والرحمة. عزّى بعض الزّبيريّين رجلا فقال: لا يصفر ربعك «1» ، ولا يوحش بيتك، ولا يضع أجرك، رحم الله متوفّاك، وأحسن الخلافة عليك. قال بعض الشعراء: [طويل] أسكّان بطن الأرض لو يقبل الفدى ... فدينا وأعطينا بكم ساكن الظهر «2» فيا ليت من فيها عليها وليت من ... عليها ثوى فيها مقيما إلى الحشر وقاسمني دهري بنيّ بشطره ... فلما توفّى شطره مال في شطري «3» فصاروا ديونا للمنايا ومن يكن ... عليه لها دين قضاه على عسر كأنّهم لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر على قبر وقد كنت حيّ الخوف قبل وفاتهم ... فلما توفّوا مات خوفي من الدهر «4» فلله ما أعطى ولله ما جزى ... وليس لأيام الرّزيّة كالصبر فحسبك منهم موحشا فقد برّهم ... وحسبك منهم مسليا طلب الأجر عزّى شبيب بن شيبة «5» رجلا من اليهود فقال: أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدا من أهل ملّتك.

وقال العتبيّ: [منسرح] ما عالج الحزن والحرارة في ال ... أحشاء من لم يمت له ولد «1» فجعت با بنيّ ليس بينهما ... إلّا ليال ليست لها عدد «2» وكلّ حزن يبلى على قدم ال ... دّهر وحزني يجدّه الأبد «3» وقال أيضا: [متقارب] لا يزجر الدهر عنا المنونا ... يبقّي البنات ويفني البنينا «4» وأنحى علّي بلا رحمة ... فلم يبق لي في جفوني جفونا «5» وكنت أبا سبعة كالبدور ... أفقّي بهم أعين الحاسدينا فمرّوا على حادثات الزمان ... كمرّ الدراهم بالناقدينا فأفنتهم واحدا واحدا ... إلى أن أبادتهم أجمعينا وألقين ذاك إلى ضارح «6» ... وألقين هذا إلى دافنينا وما زال ذلك دأب الزما ... ن يفني الأوائل فالأولينا وحتّى بكى لي حسّادهم ... فقد أقرحوا بالدموع الجفونا وحسبك من حادث بامرىء ... ترى حاسديه له راحمينا وكانوا على ظهرها أنجما ... فأضحوا إلى بطنها ينقلونا فمن كان يسليه مرّ السنين ... فحزني يجدّده لي السّنونا وممّا يسكّن وجدي بهم ... بأنّ المنون ستلقى المنونا كان أبو بكر رضي الله عنه إذا عزّى رجلا قال: ليس مع العزاء مصيبة

ولا مع الجزع فائدة؛ الموت أهون مما قبله وأشدّ مما بعد؛ اذكروا فقد رسول الله صلّى الله عليه وسلم تصغر مصيبتكم؛ وعظّم الله أجركم. وكان علي رضي الله عنه إذا عزّى رجلا يقول: إن تجزع فأهل ذلك الرّحم، وإن تصبر ففي الله عوض من كل فائب؛ وصلّى الله على محمد، وعظّم الله أجركم. وقال أعرابيّ: [طويل] أيغسل رأسي أو تطيب مشاربي ... ووجهك معفور وأنت سليب نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن وارى التراب نسيب وإني لأستحيي أخي وهو ميّت ... كما كنت أستحييه وهو قريب وقال أعرابيّ: [طويل] وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلا بعدهم وتقدّموا وقال آخر: [طويل] وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإن سرّني الأجر وأجزع أن ينأى به بين ليلة ... فكيف ببين صار ميعاده الحشر وقال آخر: [طويل] وإنّا وإخوانا لنا قد تتابعوا ... لكالمغتدي والرائح المتهجّر «1» وقال سليمان الأعجميّ: [مديد] ربّ مغروس يعاش به ... عدمته كفّ مغترسه «2»

وكذاك الدّهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه وتمثّل معاوية بن أبي سفيان يوما فقال: [طويل] إذا سار من خلف امرىء وأمامه ... وأوحش من جيرانه فهو سائر وقال آخر: [خفيف] وإذا قيل مات يوما فلان ... راعنا ذاك ساعة ما نحير «1» نذكر الموت عند ذاك وننسا ... إذا غيّبته عنّا القبور وقال آخر: [وافر] نراع من الجنائز قابلتنا ... ونلهو حين تخفى ذاهبات كروعة ثلّة لمغار سبع ... فلما غاب ظلّت راتعات «2» وقال أبو نواس: [مجزوء الخفيف] سبقونا إلى الرّحي ... ل وإنّا لبالأثر وكتب رجل إلى بعض الأمراء في تعزية: الأمير أذكر لله من أي يذكّر به، وأعلم بما قضاه على خلقه من أن يدلّ عليه، وأسلك لسبيل الراشدين في التسليم لأمره والصبر على قدره والتنجّز لوعده، من أن ينبّه من ذلك على حظّه، أو أن يحتاج معزّيه عند حادث المصيبة إلى أكثر من الدعاء في قضاء حقّه. فزاده الله توفيقا إلى توفيقه، وأحضره رشده، وسدّد للصواب غرضه، وتولّاه بالحسنى في جميع أموره، إنه سميع قريب. وقد كان من حادث قضاء الله في المتوفّى ما أنقض وأرمض «3» ، وفجع وأوجع، علما بما دخل على الأمير

من النقص، وعلى سروره من اللوعة، وعلى أنسه من الوحشة، إلى ما خصّني منه بماسّ الرّحم وأوشج القرابة. فأعظم الله للأمير الأجر، وأجزل له الذّخر، وعصمه باليقين، وأنجز له ما وعد الصابرين؛ ورحم المتوفّى ولقّاه الأمن والرّوح، وفسح له في المضجع، وجمعه وإيّاه بعد العمر الطويل في الدار التي لا خوف عليهم فيها ولا هم يحزنون. وفي كتاب: نحن نحمد الله أيّها الأمير إذ أخذ على ما أبقى منك، وإذ سلب على ما وهب بك؛ فأنت العوض من كل فائت، والجابر لكلّ مصيبة، والمؤنس من وحشة كلّ فقد؛ وحقّ لمن كنت له وليّا وعضدا أن يشغله حمد الله على النعمة بك عن الجزع على غيرك. وكتب سعيد بن حميد إلى محمد بن عبد الله: ليس المعزّى على سلوك السبيل التي سلكها الناس قبله والمضيّ على السنّة التي سنّها صالحوا السلف له؛ وقد بلغني ما حدث من قضاء الله في أمّ الأمير، فنالني من ألم الرّزيّة وفاجع المصيبة ما ينال خدمه الذين يخصّهم ما خصّه من النعم، ويتصرفون معه فيما تناوله الله به من المخن. فأعظم الله للأمير الأجر، وأجزل له المثوبة والذخر، ولا أراه في نعمة عنده نقصا، ووفّقه عند النعم للشكر الموجب للمزيد، وعند المحن للصبر المحرز للثواب، إنه هو الكريم الوهاب. ورحم الله الماضية رحمة من رضى سعيه وجازاه بأحسن عمله. ولو كانت السبيل إلى الشخوص «1» إلى باب الأمير سهلة، لكان الله قد أجلّ الأمير عن أن يعزّيه مثلي بالرسول دون اللقاء، وبالكتاب دون الشّفاه، ولكن الكتاب لقاء من لا سبيل له إلى الحركة، وقبول العذر عمّن حيل بينه وبين الواجب. ولابن مكرم: وممّا حرّكني للكتاب تعزيتك بمن لا ترميك الأيام بمثل

الحادث فيه، ولا تعتاض ممّا كان الله جمعه لك عنده من الميل إليك والصبر على مكروه جفائك، مع ما كان الله أعاره من قوّة العقل وأصالة الرأي، ومدّ له من عنانه «1» إلى قصوى الغايات، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أفاتتنا الأيام منه حين تمّ واستوى، وغالى في المروءة وتناهى، وعند الله يحتسب المصاب به؛ وعظّم الله لك فيه الأجر، ومهّل «2» لك في العمر، وأجزل لك العوض والذّخر. فكلّ ماض من أهل فأنت سداد ثلمته «3» وجابر رزيّته. وقد خلّف من أنت أحقّ الناس به من عجوز وليت تربيتك وحياطتك في طبقات سنّك، وولد ربوا في حجرك ونبتوا بين يديك، ليس لهم بعد الله مرجع سواك، ولا مقيل «4» إلا في ذراك؛ فأنشدك الله فيهم فإنه أخرب أحوالهم بعمارة مروءته، وقطعهم بصلة فضله، والله يجزيه بجميل أثره ويخلفه فيهم بما هو أهله. وفي فصل من كتاب: وقد جرى قضاء الله في هذه النازلة «5» ما نطق عمّا نالك وأبقى عندك، وهو حقّ مثلها وقدر ملمّها «6» . وفي فصل آخر: لو كان ما يمسّك من أذى يشترى أو يفتدى، رجوت أن أكون غير باخل بما تضنّ به النفوس، وأن أكون سترا بينك وبين كل ملمّ ومحذور. فأعظم الله أجرك، وأجزل ذخرك، ولا خذل صبرك ولا فتنك؛ ولا جعل للشيطان حظّا فيك ولا سبيلا عليك. المدائني قال: قدم رجل من عبس، ضرير محطوم الوجه «7» ، على

الوليد؛ فسأله عن سبب ضرّه، فقال: بتّ ليلة في بطن واد ولا أعلم على الأرض عبسيّا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فأذهب ما كان لي من أهل ومال وولد إلا صبيا رضيعا وبعيرا صعبا، فندّ «1» البعير والصبيّ معي فوضعته واتّبعت البعير لأحبسه، فما جاوزت إلّا ورأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته وأتبعت البعير، فاستدار فرمحني رمحة حطم بها وجهي وأذهب عيني، فأصبحت لا ذا مال ولا ذا ولد. فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أنّ في الناس من هو أعظم بلاء منه؛ وكان عروة بن الزّبير أصيب بابن له وأصابه الداء الخبيث في إحدى رجليه فقطعها، فكان يقول: كانوا أربعة- يعني بنيه- فأبقيت ثلاثة وأخذت واحدا، وكنّ أربعا- يعني يديه ورجليه- فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثا. أحمدك، لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت أبقيت لقد عافيت. وشخص إلى المدينة فأتاه الناس يبكون ويتوجّعون؛ فقال: إن كنتم تعدّونني للسّباق والصّراع فقد أودى «2» ، وإن كنتم تعدّونني للّسان والجاه فقد أبقى الله خيرا كثيرا. وقال عليّ بن الجهم: [سريع] من سبق السّلوة بالصبر ... فاز بفضل الحمد والأجر يا عجبا من هلع جازع ... يصبح بين الذمّ والوزر مصيبة الإنسان في دينه ... أعظم من جائحة الدهر «3» وقال بعض الشعراء «4» : [مجزوء الرمل] ليت شعري ضلّة ... أيّ شيء قتلك «5»

والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك كلّ شيء قاتل ... حين تلقى أجلك ليت نفسي قدّمت ... للمنايا بدلك أيّ شيء حسن ... للفتى لم يك لك وقال آخر: [مجزوء الكامل المرفّل] غرّ امرؤ منّته نف ... س أن تدوم له السلامه هيهات! أعيا الأوّلي ... ن دواء دائك يا دعامه وقالت صفيّة الباهليّة في أخيها: [بسيط] كنّا كغصنين في جرثومة سموا ... حينا بأحسن ما تسمو له الشجر «1» حتّى إذا قيل قد طالت فرزعهما ... وطاب قنواهما واستنظر الثمر «2» أخنى على واحدي ريب الزمان ولا ... يبقي الزمان على شيء ولا يذر «3» كنّا كأنجم ليل وسطنا قمر ... يجلو الدّجى فهوى من بيننا القمر ومن هذا أخذ الطائيّ قوله: [طويل] كأنّ بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر وقال آخر: [طويل] لكلّ أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد «4» وما إن يزال رسم دار قد اخلقت ... وبيت لميت بالفناء جديد هم جيرة الأحياء أمّا جوارهم ... فدان وأمّا الملتقى فبعيد

وقال آخر: [بسيط] لا يبعد الله أقواما لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد نمدّهم كلّ يوم من بقيّتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد «1» وقال النابغة: [بسيط] حسب الخليلين أنّ الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بالي وقال آخر: [طويل] وقد كنت أرجو أن أملّاك حقبة ... فحال قضاء الله دون رجائيا «2» ألا ليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا وقال آخر: [طويل] لعمرك ما وارى التراب فعاله ... ولكنه وارى ثيابا وأعظما «3» فضالة بن شريك: [وافر] رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بفادحة سمدن لها سمودا «4» فردّ شعورهنّ السود بيضا ... وردّ وجوههن البيض سودا وقال آخر: [كامل] أمّا القبور فإنّهنّ أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور عمّت مصيبته فعمّ هلاكه ... فالناس فيه كلّهم مأجور ردّت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور «5»

التهاني

منصور النّمري «1» : [طويل] فإن يك أفنته الليالي فأوشكت ... فإنّ له ذكرا سيفني اللياليا وقال طفيل «2» يذكر الموت: [طويل] مضوا سلفا قصد السبيل عليهم ... وصرف المنايا بالرجال تقلّب وقال هشام أخو ذي الرّمّة: [طويل] تعزّيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاء وجفن العين ملآن مترع «3» ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع «4» وفي فصل من كتاب لبعض الكتّاب: لست أحتاج مع علمك بما في الصبر عند نازل المصيبة من الفضيلة، وما في الشكر عن حادث النعمة من الحظ، إلى أكثر من الدعاء في قضاء الحقّين، ولا إلى إخبارك عمّا أنا عليه من الارتماض «5» لضرّائك والجذل «6» بسرائك، لمعرفتك بشركتي لك واتصال حالك بى في الأمرين. التهاني حدّثني زيد بن أخزم قال حدّثنا أبو قتيبة قال حدّثنا ميمون قال حدّثنا أبو عبد الله النّاجي قال: كنت عند الحسن، فقال رجل: ليهنئك الفارس؛ فقال:

لعله يكون بغّالا «1» ، ولكن قال: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ أشدّه، ورزقت برّه. قال مجاهد: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا دعا لمتزوّج قال: «على اليمن والسعادة والطير الصالح والرزق الواسع والموّدة عند الرحمن» . قال أبو الأسود لرجل يهنّئه بتزويج: باليمن والبركة، وشدّة الحركة، والظفر في المعركة. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى أن يقال: «بالرّفاء والبنين» «2» . وكان يقال: إن أوّل من هنّأ وعزّى في مقام واحد عطاء بن أبي صيفىّ الثّقفيّ، عزّى يزيد بن معاوية بأبيه وهنّأه بالخلافة، ففتح للناس باب الكلام، فقال: أصبحت زرئت خليفة وأعطيت خلافة الله. قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه؛ ووليت الرياسة، وكنت أحقّ بالسياسة؛ فاحتسب عند الله أعظم الرزيّ، واشكر الله على أعظم العطيّة. وعظّم الله في أمير المؤمنين أجرك، وأحسن على الخلافة عونك. وقالت أعرابيّة للمنصور في طريق مكة بعد وفاة أبي العبّاس: أعظم الله أجرك في أخيك؛ لا مصيبة على الأمة أعظم من مصيبتك، ولا عوض لها أعظم من خلافتك. قال الحجّاج لأيّوب بن القرّيّة: اخطب عليّ هند بنت أسماء، ولا تزد على ثلاث كلمات. فأتاهم فقال: أتيتكم من عند من تعلمون، والأمير معطيكم ما تسألون، أفتنكحون أم تردّون؟ قالوا: بل أنكحنا وأنعمنا. فرجع

ابن القرّيّة إلى الحجّاج فقال: أقرّ الله عينك، وجمع شملك، وأنبت ريعك؛ على الثبات والنبات، والغنى حتى الممات؛ جعلها الله ودودا ولودا، وجمع بينكما على البركة والخير. كتب بعض الكتّاب إلى رجل يهنئه بدار انتقل إليها: بخير منتقل، وعلى أيمن طائر، ولأحسن إبّان «1» ، أنزلك الله عاجلا وآجلا خير منازل المفلحين. وقال ابن الرّقاع «2» لمتزوّج: [كامل] قمر السماء وشمسها اجتمعا ... بالسّعد ما غابا وما طلعا ما ورات الأستار مثلهما ... فيمن رأيناه ومن سمعا دام السّرور له بها ولها ... وتهنّا طول الحياة معا وكتب رجل إلى صديق له يهنئه بالدخول على أهله: قد بلغني ما هيّأ الله لك من اجتماع الشّمل، بضمّ الأهل؛ فشركتك في النعمة، وكنت أسوتك في السرور، وشاهدك بقلبي، ومثّلت ما أنت فيه لعيني، فحللت بذلك محلّ المعاين للحال وزينتها، فهنيئا هنأك الله ما قسم لك، وبالرّفاء والبنين، وعلى طول التعمير والسنين. وكتب آخر من الكتّاب إلى عامل: نحن من السرور، بما قد استفاض من جميل أثرك فيما تلي من أعمالك، وخطمك «3» وزمّك إيّاها بحزمك وعزمك، وانتياشك أهلها من جور من وليهم قبلك، وسرورهم بتطاول

أيّامك والكون في ظلّ جناحك، في غاية من تخصّه وتعمّه نعمك، وتجول به الحال حيث جالت بك. فالحمد لله الذي جعل العاقبة لك، ولم يردد علينا آمالنا منكوسة فيك، كما ردّها على غيرنا في غيرك. وهنيئا هنأك الله نعمه خاصّها وعامّها، وأوزعك شكرها، وأوجب لك بالشكر أحسن المزيد فيها. وكتب رجل من الكتّاب إلى نصرانيّ قد أسلم يهنئه: الحمد لله الذي أرشد أمرك، وخصّ بالتوفيق عزمك، وأوضح فضيلة عقلك، ورجاحة رأيك؛ فما كانت الآداب التي حويتها، والمعرفة التي أوتيتها؛ لتدوم بك على غواية وديانة شائنة «1» لا تليق بلبّك، ولا يبرح ذوو الحجا من موجبي حقّك ينكرون إبطاءك عن حظّك وتركك البدار «2» إلى الدّين القيّم الذي لا يقبل الله غيره ولا يثيب إلا به، فقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «3» ، وقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «4» . والحمد لله الذي جعلك في سابق علمه ممن هداه لدينه، وجعله من أهل ولايته، وشرّفه بولاء خليفته. وهنأك الله نعمته، وأعانك على شكره؛ فقد أصبحت لنا أخا ندين بمودّته وموالاته بعد التأثّم من خلطتك «5» ومخالفة الحقّ بمشايعتك؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ «6» . وكتب رجل من الكتّاب تهنئة بحجّ: الحمد لله على تمام مهاجرك، وسلامة بدأتك ورجعتك، وإعظامه المنّة بأوبتك؛ وشكر الله سعيك،

وبرّحجّك، وتقبّل نسكك؛ وجعلك ممّن قلبه مفلحا منجحا، قد ربحت صفقته، ولم تبر تجارته «1» ، ولا أعدمك نية تفضل عملك، وتوفيقا يحوط دينك، وشكرا يرتبط نعمتك؛ فهنأكم الله النعمة، وجمعكم في دار الخلافة، وجعلكم ساسة الأمّة والمتقدّمين عند الإمام- أيده الله بالطاعة والنصيحة- فإنّكم زين السلطان، وعمدة الإخوان، وأضداد أكثر أهل الزمان. وكتب إلى رجل عن صديق له يهنّئه بفطام مولود: أنا- أعزّك الله- لما حمّلني الله من أياديك، وأودعني من إحسانك، وألزمني من شكرك، آخذ نفسي بمراعاة أمورك، وتفقّد أحوالك، وتعرّف كلّ ما يحدثه الله عندك، لأقابله بما يلزمني، وأقضي الحقّ فيه عنّي بمبلغ الوسع ومقدار الطاقة، وإن كانا لا يبلغان واجبك، ولا يستقلّان بثقل عارفتك. وكلّ ما نقّل الله الفتى وبلّغه من أحوال البلوغ ورقّاه فيه من درجات النموّ، فنعمة من الله حادثة تلزم الشكر، وحقّ يجب قضاؤه بالتهنئة. وكتب إليّ وكيلي المقيم ببابك يذكر ما وهبه الله من سلامته عند الفطام، وصلاح جسمه عند الطعام، وسلوته عن أوّل الغذاء، وسرورك ومن يليك بما وهب الله في هذه الحال من عافيته وحسن المدافعة عنه؛ فأكثرت لله الحمد، وأسهبت «2» في الدعاء والرغبة، وتصدّقت عنه بما أرجو أن يتقبّله؛ وكتبت مهنّئا بتجدّد النعمة عندكم فيه. فالحمد لله المتطوّل «3» علينا قبله بما هو أهله، والمجري لنا فيما يوليك على حسن عادته. وهنأك الله النعم، وصانها عندك من الغير «4» ، وحرسها بالشكر، وبلغ

بالفتى أقصى مبالغ الشرف، وجعلك من الأمل فيه والرجاء له على العيان واليقين، بمنّه وفضله. وكتب بعض الكتّاب تهنئة بحجّ إلى صاحبه: الحقّ للسادة عند ما يجدّده الله لهم من نعمه في الدعاء، من جلائل حقوقهم على أوليائهم. وقد خصّ الله حقّك بما لا يسعني معه ادّخار مجهود في تعظيمه وشكره. ولولا أنّ الطاعة من حدوده، لم أنتظر إذنك لي في تلقّيك راجلا بالأوبة، إذ كان الكتاب بها دون السعير بأبلغ نصيب من التقصير. وأنا أسأل الله الذي أوفدك إلى بيته الحرام، وعمر بك مشاهده العظام؛ وأوردك حرمه سالما، وأصدرك «1» عنه غانما؛ ومنّ بك على أوليائك وخدمك، أن يهنئك بما أنعم به عليك في بدأتك ورجعتك؛ بتقبّل السعي ونجح الطّلبة وتعريف الإجابة. وكتب بعض الكتّاب تهنئة بولاية: فإنه ليس من نعمة يجدّدها الله عندك، والصنع الجميل تحدثه لك الأيّام، إلّا كان ارتياحي له واستبشاري به واعتدادي بما يهب الله لك من ذلك، حسب حقّك الذي توجبه، وبرّك الذي أشكره، وإخائك الذي يعزّ ويجلّ عندي موقعه؛ فجعل الله ذلك فيه وله، ووصله بتقواه وطاعته. وبلغني خبر الولاية التي وليتها، فكنت شريكك في السرور وعديلك «2» في الارتياح، فسألت الله أن يعرّفك يمنها وبركتها، ويرزقك خيرها وعادتها، ويحسن معونتك على صالح نيّتك في الإحسان إلى أهل عملك والتألّف لهم، واستعمال العدل فيهم، ويرزقك محبتهم وطاعتك، ويجعلهم خير رعيّة. وكتب رجل إلى معزول: فإنّ أكثر الخير فيما يقع بكره العباد، لقول الله

عزّ وجلّ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ «1» . وقال أيضا: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً «2» . وعندك بحمد الله من المعرفة بتصاريف الأمور، والاستدلال بما كان منها على ما يكون، مغنى عن الإكثار في القول. وقد بلغني انصرافك عن العمل على الحال التي انصرفت عليها من رضا رعيّتك ومحبّتهم وحسن ثنائهم وقولهم، لما بقيت من الأثر الجميل عند صغيرهم وكبيرهم، وخلّفت من عدلك وحسن سيرتك في الداني منهم والقاصي من بلدهم؛ فكانت نعمة الله عليك في ذلك علينا، نعمة جلّ قدرها ووجب شكرها. فالحمد لله على ما أعطاك، ومنح فيك أولياءك وأرغم به أعداك، ومكّن لك من الحال عند من ولّاك؛ فقد أصبحنا نعتدّ صرفك عن عملك منحا مجدّدا، يجب به تهنئتك، كما يجب التوجّع لغيرك. وكتب رجل من الكتاب في تهنئة بحجّ: لولا أنّ عوائق أشغال يوجب العذر بها تفضّلك ويبسطه احتمالك، لكنت مكان كتابي هذا مهنّئا لك بالأوبة، ومجدّدا بك عهدا، ومحييا نفسي بالنظر إليك. وأنا أسأل الله أن يشكر سعيك، ويتقبّل حجّك، ويثبت في علّيين أثرك، ولا يجعله من الوفادة «3» إليه آخر عهدك. وكتب بعض الكتّاب: لا مهنّىء أولى ما يكون مهنّئا، تعظيما لنعمه فيما جدّد الله لك يا مولاي بالولاية، منّي؛ إذ كنت أرجو بها انضمام نشري، وتلافي الله بعنايتك المتشتّت من أمري. فهنأك الله تجدّد النعم، وبارك لك

باب شرار الإخوان

في الولاية، وافتتحها لك بالصّنع الجميل، وختمها لك بالسلامة، إنه سميع قريب. باب شرار الإخوان ذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبة فقال: ذاك رجل ليس له صديق في السرّ ولا عدوّ في العلانية. وقال الشاعر: [طويل] وإنّ من الخلّان من تشحط النّوى ... به وهو داع للوصال أمين «1» ومنهم صديق العين أمّا لقاؤه ... فحلو وأمّا غيبه فظنون «2» أقبل عيينة بن حصن إلى المدينة قبل إسلامه، فلقيه ركب خارجون منها؛ فقال: أخبروني عن هذا الرجل (يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم) ، فقالوا: الناس فيه ثلاثة رجال: رجل أسلم فهو معه يقاتل قريشا وأفناء العرب «3» ، ورجل لم يسلم فهو يقاتله، ورجل يظهر الإسلام إذا لقي أصحابه ويظهر لقريش أنه معهم إذا لقيهم؛ فقال: ما يسمّى هؤلاء؟ قالوا: المنافقون؛ قال: فاشهدوا أنّي منهم، فما فيمن وصفتم أحزم من هؤلاء. وكان رجل يدعو فيقول: اللهم اكفني بوائق «4» الثقات، واحفظني من الصّديق. وكتب رجل على باب داره: جزى الله من لا يعرفنا ولا نعرفه خيرا، فأمّا

أصدقاءنا فلا جزوا ذلك، فإنا لم نؤت قطّ إلا منهم «1» . وكتب إبراهيم بن العبّاس «2» إلى محمد بن عبد الملك الزّيات: [متقارب] وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حربا عوانا «3» وقد كنت أشكو إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذمّ الزمانا وكنت أعدّك للنائيات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وقال محمد بن مهديّ: [منسرح] كان صديقي وكان خالصتي ... أيّام نجري مجاري السّوق حتى إذا راح والملوك معا ... عدّ اطّراحي من صالح الخلق «4» خلّيت ثوب الفراق في يده ... وقلت هذا الوداع فانطلق لبسته لبسة الجديد على ال ... قرّ وفارق فرقة الخلق «5» وقال آخر: [بسيط] إذا ما رأيت امرأ في حال عسرته ... مواصلا لك ما في ودّه خلل «6» فلا تمنّ له أن يستفيد غنى ... فإنه بانتقال الحال ينتقل وكتب رجل إلى صديق أعرض عنه: لولا أني أشفقت من أشتات ظنّي في إجابتك إلى ما يعلم الله براءتي منه فيك ولك لمعجبك «7» ولكفيتك مؤنتي،

ثقة بأنّ ازديادك من معرفة الناس ستردّك إليّ؛ فإن رجعت قبلت وتمسّكت واغتبطت، وإن أصررت لم أتبع مولّيا، ولم آس «1» على مدبر، ولم أسامح نفسي على تعلّقها بك، ولم أساعدها على نزاعها إليك. فكم من زمان تركتك فيه وسومك «2» ثم أبى قلبي ذلك، فكررت وعطفت أسى على أيّامي معك وما توكّد بيني وبينك. وما من كرّة لي إليك إلا وهي داعية إلى ما أكرهه من استخفافك ونفورك. ولو فهمت ما استحققت به عليك ما أشكوه لخفّ محمل ما يكون منك عليّ ولأجبت في عتباك ورضاك. وفي جواب كتاب: وقد وزعني «3» ما ضربته لي من الأمثال في كتابك عن استبطائك. على أنّي لا أستزيد إلا من أحتاج إلى صلاحه وأرغب في بقيّته؛ وقد قيل: [سريع] يأبين إلّا جفوة وظلما ... من كثرة الوصل تجنّى الجرما «4» وفي كلّ ما أجبتني ظلمت في معارضتي عن مسخي جوابك بإيحاشي «5» ، وفي اعتدادك عليّ بما أنت جانيه وعليك الحجة فيه. وما أنكر الخلاف بين الأب وابنه والأخ وشقيقه إذا وقعت المعاملة، ولذلك سبب لا أعرفه بيني وبينك قطّ، فإني لم أخالفك ولم أشاححك «6» ولم أنازعك ولم أعارض نعمك بلا ولا أمرك بنهي.

وقال الحسن بن وهب: [طويل] سأكرم نفسي عنك حسب إهانتي ... لها فيك إذ قرّت وكفّ نزاعها «1» هي النّفس ما كلّفتها قطّ خطّة ... من الأمر إلّا قلّ منه امتناعها صدقت لعمري أنت أكبر همّها ... فأجهدها إذ قلّ منك انتفاعها هب انّي أعمى فأتت الشمس طرفه ... وغيّب عنه نورها وشعاعها وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: [طويل] رأيت فضيلا كان شيئا ملفّفا ... فكشّفه التمحيص حتى بدا ليا «2» فأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا فلا زاد ما بيني وبينك بعد ما ... بلوتك في الحاجات إلّا تماديّا فلست براء عيب ذي الودّ كلّه ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ... ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا وكتب أيضا إلى بعض إخوانه: أما بعد: فقد عاقني الشكّ فيك عن عزيمة الرأي في أمرك؛ ابتدأتني بلطف عن غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب، فأطمعني أوّلك في إخائك، وآيسني «3» آخرك من وفائك؛ فلا أنا في غير الرجاء مجمع لك اطّراحا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة؛ فسبحان من وشاء كشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف. وكتب رجل إلى صديق له: نحن نستكثرك باعتزالك، ونستديم صلتك،

بجفائك، ونرى الزيادة في الغمّ أدوم لجميل رأيك. ومثله قول كثيّر: [الطويل] وإن سحطت يوما بكيت وإن دنت ... تدلّلت واستكثرتها باعتزالها «1» ونحوه قول الكميت «2» : وقد يخذل المولى دعائي ويجتذي ... أذاتي وإن يعدل به الضيم أغضب فأونس من بعض الصّديق ملالة ال ... دنوّ- فأستبقيهم- بالتجنّب «3» وقال آخر: [السريع] إنّك ما أعلم ذو ملّة ... يذهلك الأدنى عن الأقدم وقال عبد الرحمن بن حسّان «4» : [البسيط] لا خير في الودّ ممّن لا تزال له ... مستشعرا أبدا من خيفة وجلا «5» إذا تغيّب لم تبرح تسيء به ... ظنّا وتسأل عمّا قال أو فعلا وقال مرّة بن محكان «6» : [متقارب] ترى بيننا خلقا ظاهرا ... وصدرا وعدوّا ووجها طليقا ونحوه قول المرّار: [الطويل] كذب تخرّصه عليّ لقومه ... سلم اللسان محارب الإسرار «7»

وحثّني أبو حمزة الأنصاريّ قال: حدّثنا العتبيّ قال: قالت أعرابية لابنها: يا بنيّ، إياك وصحبة من مودّته بشره فإنه بمنزلة الريح. وكان يقال: الإخوان ثلاثة؛ أخ يخلص لك ودّه، ويبلغ في محبتك جهده. وأخ ذونيّة يقتصر بك على حسن نيّته، دون رفده ومعونته. وأخ يلهوق لك لسانه «1» ، ويتشاغل عنك بشأنه، ويوسعك من كذبه وأيمانه. وقال المثقبّ العبدي «2» : [الوافر] فإمّا أن تكون أخي بصدق ... فأعرف منك غثّى من ثميني «3» وإلّا فاجتنبني واتّخذني ... عدوّا أتّقيك وتتّقيني وقال أوس بن حجر: [الطويل] وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يسوءك إن ولّى ويرضيك مقبلا ولكنّ أخوك النائيّ ما دمت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا «4» وقال آخر: [الطويل] لعمرك ما ودّ اللسان بنافع ... إذا لم يكن أصل المودّة في القلب وقال أبو حارثة المدييّ: ليس لمملول صديق، ولا لحسود غنّى، والنظر في العواقب تلقيح العقول.

قال العباس بن الأحنف «1» : [بسيط] أشكو الذي أذاقوني مودّتهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا واستنهضوني فلمّا قمت منتهضا ... بثقل ما حمّلوني في الهوى قعدوا ونحوه قول المجنون «2» : [طويل] وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح «3» تجافيت عنّي حين لا لي حيلة ... وخلّفت ما خلّفت بين الجوانح «4» وقال آخر: [طويل] ولا خير في ودّ إذا لم يكن له ... على طول مرّ الحادثات بقاء وأنشد ابن الأعرابيّ: [طويل] لحا الله من لا ينفع الودّ عنده ... ومن حبله إن مدّ غير متين «5» ومن هو إن يحدث له الغير نظرة ... يقطّع بها أسباب كلّ قرين «6» ويقال: صاحب السوء جذوة من النار. وقال عليّ عليه السلام: لا تؤاخ الفاجر فإنه يزيّن لك فعله ويحبّ لو

أنك مثله ويزيّن لك أسوأ خصاله، ومدخله عليك ومخرجه من عندك شين «1» وعار. ولا الأحمق فإنه يجتهد، بنفسه لك ولا ينفعك وربما أراد أن ينفعك فيضرّك، فسكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه، وموته خير من حياته. ولا الكذّاب فإنّه لا ينفعك معه عيش، ينقل حديثك وينقل الحديث إليك حتى إنه ليحدّث بالصدق فما يصدّق. قال أبو قبيل: أسرت ببلاد الروم فأصبت على ركن من أركانها: [هزج] ولا تصحب أخا الجهل ... وإيّاك وإيّاه فكم من جاهل أردى ... حليما حين آخاه يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه وللشيء على الشيء ... مقاييس وأشباه وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه «2» وقال عديّ بن زيد «3» : [طويل] عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإنّ القرين بالمقارن مقتدى وأنشد الرّياشيّ «4» : [سريع] إن كنت لا تصحب إلا فتى ... مثلك لم تؤت بأمثالكا

إنّ لك الفضل على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرّامكا «1» هبني امرأ جئت أريد الهدى ... فجد على ضعفي بإسلامكا وكتب يحيى بن خالد: أحبّ أن تكون على يقين أنّي بك ضنين، أريدك ما أردتني، وأريدك أن تنوب عنّي ما كان ذلك بي وبك جميلا يحسن عند إخواننا، وإن وقعت المقادير بخلاف ذلك لم أعد ما يجب. والذي هاجني على الكتاب أنّ أبا نوح معروف بن راشد سألني أن أبوح له بما عندي، والله يعلم أنّي ما تبدّلت وما حلت عن عهد، فجمعنا الله وإيّاك على طاعته ومحبّة خليفته. وقرأت في كتاب للهند: ثق بذي العقل والكرم واطمئنّ إليه؛ وواصل العاقل غير ذي الكرم، واحترس من سيّء أخلاقه وانتفع بعقله؛ وواصل الكريم غير ذي العقل وانتفع بكرمه وانفعه بعقلك؛ واهرب من اللئيم الأحمق. وقال حمّاد عجرد «2» : [طويل] كم من أخ لك لست تنكره ... ما دمت من دنياك في يسر متصنّع لك في مودّته ... يلقاك بالتّرحيب والبشر يطرى الوفاء وذا الوفاء ويل ... حى الغدر مجتهدا وذا الغدر «3» فإذا عدا، والدهر ذو غير، ... دهر عليك عدا مع الدهر «4» فارفض بإجمال أخوّة من ... يقلي المقلّ ويعشق المثري «5»

وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إمّا كنت واليسر لا تخلطنّهم بغيرهم ... من يخلط العقيان بالصّفر! «1» وقال سويد بن الصامت «2» : [كامل] ألا ربّ من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري «3» مقالته كالشّحم ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النّحر تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الضّغن والشّحناء بالنّظر الشّزر «4» فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري «5» وقال آخر: [منسرح] وصاحب كان لي وكنت له ... أشفق من والد على ولد كنّا كساق تسعى بها قدم ... أو كذراع نيطت إلى عضد «6» حتى إذا دانت الحوادث من ... خطوي وحلّ الزمان من عقدي «7» احولّ عنّي وكان ينظر من ... عيني ويرمي بساعدي ويدي وكان لي مؤنسا وكنت له ... ليست بنا وحشة إلى أحد حتى إذا استرفدت يدي يده ... كنت كمسترفد يد الأسد وقال بعض الأعراب: [منسرح]

إخوان هذا الزّمان كلّهم ... إخوان غدر عليه قد جبلوا طووا ثياب الوفاء بينهم ... وصار ثوب الرّياء يبتذل «1» أخوهم المستحقّ وصلهم ... من شربوا عنده ومن أكلوا وليس فيما علمت بينهم ... وبين من كان معدما عمل قال رجل لآخر: بلغني عنك أمر قبيح، فقال: يا هذا، إنّ صحبة الأشرار ربما أورثت سوء ظنّ بالأخيار. وقال دعبل: [طويل] أبا مسلم كنّا حليفي مودّة ... هوانا وقلبانا جميعا معا معا أحوطك بالودّ الذي لا تحوطني ... وأرأب منك الشّعب أو يتصدّعا «2» فلا تلحينّي لم أجد فيك حيلة ... تخرّفت حتى لم أجد فيك مرقعا «3» فهبك يميني استأكلت فاحتسبتها ... وجشّمت قلبي قطعها فتخشّعا «4» وقال يزيد بن الحكم الثّقفيّ «5» : [طويل] تكاشرني كرها كأنّك ناصح ... وعينك تبدي أنّ قلبك لي دوي «6» لسانك ما ذيّ وقلبك علقم ... وشرك مبسوط وخيرك منطوي «7»

عدوّك يخشى صولتي إن لقيته ... وأنت عدوّي ليس ذاك بمستوي «1» أراك إذا لم أهو أمرا هويته ... وليست لما أهوى من الأمر بالهوي «2» أراك اجتويت الخير منّي وأجتوي ... أذاك فكلّ يجتوي قرب مجتوي «3» وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النّيق منهوي «4» ويقال: إيّاك ومن مودّته على قدر حاجته فعند ذهاب الحاجة ذهاب المودّة وقال الحكيم: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم إلّا عند الغضب، ولا الشجاع إلّا في الحرب، ولا الأخ إلّا عند الحاجة إليه. قال جرير: [طويل] فأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا تعرّضت فاستمررت من دون حاجتي ... فحالك إنّي مستمرّ لحاليا وإنّي لمغرور أعلّل بالمنى ... ليالي أرجو أنّ ما لك ماليا بأيّ نجاد تحمل السيف بعدما ... نزعت سنانا من قناتك ماضيا «5» ألا لا تخافا نبوتي في ملمّة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا «6» وقال أبو العتاهية: [مجزوء الرّمل] أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدّهر أخوه

باب القرابات والولد

فإذا احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه «1» وقال آخر: [وافر] موالينا إذا افتقروا إلينا ... وإن أثروا فليس لنا موالي والعرب تقول فيمن شركك في النّعمة وخذلك عند النائبة: يربض حجرة «2» ويرتع وسطا. قال المدائنيّ: لحن الحجاج يوما، فقال الناس: لحن الأمير، فأخبره بعض من حضر، فتمثّل بشعر قعنب بن أمّ صاحب «3» : [بسيط] صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا «4» فطانة فطنوها لو تكون لهم ... مروءة أو تقى لله ما فطنوا «5» إن يسمعوا سيّئا طاروا به فرحا ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا باب القرابات والولد حدّثني زيد بن أخزم قال حدّثنا أبو داود قال حدّثنا إسحاق بن سعيد القرشي من ولد سعيد بن العاص قال أخبرني أبي قال: كنت عند ابن عبّاس، فأتاه رجل فمتّ إليه برحم بعيدة، فلان له وقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم فإنه لا قرب بالرّحم إذا قطعت وإن كانت قريبة ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة» .

حدّثني شبابة قال حدّثني القاسم بن الحكم عن إسماعيل بن عيّاش عن عبد الله بن دينار قال: احذروا ثلاثا، فإنهنّ معلّقات بالعرش: النعمة تقول يا ربّ كفرت، والأمانة تقول يا ربّ أكلت، والرّحم تقول يا ربّ قطعت. حدّثني الزّياديّ قال حدّثنا عيسى بن يونس قال قال محارب بن دثار: إنما سمّوا أبرارا لأنهم برّوا الآباء والأبناء، وكما أنّ لوالدك عليك حقّا، فكذلك لولدك عليك حقّ. حدّثني أبو سفيان الغنويّ عن عبد الله بن يزيد عن حيوة بن شريح عن الوليد بن أبي الوليد عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه» . حدّثني القومسيّ قال حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدّثنا كثير بن زيد عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ابن أخت القوم من أنفسهم ومولى القوم من أنفسهم وحليف القوم من أنفسهم» . وحدّثني أيضا عن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم: «الرّحم شجنة «1» من الرحمن قال لها من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» . حدّثني الزّياديّ قال حدّثنا حمّاد بن زيد عن حبيب عن ابن سيرين قال قال عثمان: كان عمر يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله، وأنا أعطي قراباتي لوجه الله، ولن يرى مثل عمر. حدّثني أحمد بن الخليل قال حدّثنا إبراهيم بن موسى قال حدّثنا محمد

ابن ثور عن معمر «1» عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن عليّ عليه السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سرّه أن يمدّ له في عمره ويوسّع له في رزقه فليصل رحمه» . حدّثني أحمد بن الخليل قال حدّثنا أبو نعيم قال حدّثنا سفيان عن عبد الله بن عيسى عن عبيد بن أبي الجعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزيد في العمر إلا البرّ ولا يردّ القدر إلّا الدعاء وإنّ الرجل ليحرم الرزق بالذّنب يصيبه» . حدّثني محمد بن يحيى القطعيّ قال حدّثنا عبد الأعلى قال حدّثنا سعيد عن مطر عن الحكم بن عتيبة عن النّخعي عن ابن عمر «2» قال: أتى رجل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ والدي يأخذ مني مالي وأنا كاره؛ فقال: «أو ما علمت أنّك وما لك لأبيك» . حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله عن الأصمعيّ قال: أخبرني بعض العرب: أن رجلا كان في زمن عبد الملك بن مروان، وكان له أب كبير، وكان الشابّ عاقّا بأبيه، وكان يقال للشابّ منازل «3» فقال الشيخ «4» : [طويل] جزت رحم بيني وبين منازل ... جزاء كما يستنجز الدّين طالبه تربّت حتى صار جعدا شمردلا ... إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه «5» تظلّمني مالي كذا ولوى يدي ... لوى يده الله الذي لا يغالبه

وإنّي لداع دعوة لو دعوتها ... على جبل الرّيّان لا نقضّ جانبه «1» فبلغ ذلك أميرا كان عليهم، فأرسل إلى الفتى ليأخذه، فقال له الشيخ: اخرج من خلف البيت، فسبق رسل الأمير، ثم ابتلي الفتى بابن عقّه في آخر عمره فقال: [طويل] تظلّمني مالي خليج وعقّني ... على حين كانت كالحنيّ عظامي «2» تخيّرته وازددته ليزيدني ... وما بعض ما يزداد غير عرام «3» وقال يحيى بن سعيد مولى تيم كوفيّ لابنه: [طويل] غذوتك مولودا وعلتك يافعا ... تعلّ بما أجني عليك وتنهل «4» إذا ليلة نالتك بالشكو لم أبت ... لشكواك إلّا ساهرا أتململ كأنّي أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل فلمّا بلغت الوقت في العدّة التي ... إليها جرى ما أبتغيه وآمل جعلت جزائي منك جبها وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتفضّل «5» فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي ... كما يفعل الجار المجاور تفعل «6» قال القاسم بن محمد: قد جعل الله في الصديق البارّ عوضا من الرّحم المدبرة.

كتب عمر إلى أبي موسى: مر ذوي القرابات أنّ يتزاوروا ولا يتجاوروا. وقال أكثم بن ضيفيّ: تباعدوا في الدّيار تقاربوا في المودّة. قيل لأعرابيّ: ما تقول في ابن عمك؟ قال: عدوّك وعدوّ عدوّك. وقال قيس بن زهير: [وافر] شفيت النّفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني قتلت بإخوتي سادات قومي ... وقد كانوا لنا حلي الزّمان «1» فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلّا بناني قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، حين تصفّح القتلى يوم الجمل: شفيت نفسي وجدعت أنفي. وفي مثل ذلك قول القائل «2» : [كامل] قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي ولئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن قرعت لأوهنن عظمي «3» قتل رجل من العرب ابن أخيه فدفع إليه ليقيده «4» ، فلمّا أهوى بالسيف أرعدت يداه، فألقي السيف من يده وعفا عنه وقال: [بسيط] أقول للنّفس تأساء وتعزية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي وقال بعضهم: [وافر] بكره سراتنا يا آل عمرو ... نفاديكم بمرهفة النّصال فنبكي حين نذكركم عليكم ... ونقتلكم كأنّا لا نبالي

وقال عديّ بن زيد: [طويل] وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد «1» وقال غيره «2» : [طويل] سآخذ منكم آل حزن لحوشب ... وإن كان مولاي وكنتم بني أبي إذا كنت لا أرمى وترمى عشيرتي ... تصب جائحات النّبل كشحي ومنكبي «3» وقال حدّثنا أبو الخطاب قال حدّثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن السائب البكريّ عن سعيد بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حقّ كبير الإخوة على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده» . والعرب تقول في العطف على القرابة وإن لم يكن وادّا: أنفك منك وإن ذنّ «4» . ومثله: عيصك «5» منك وإن كان أشبا. وقال النّمر بن تولب «6» : [طويل] إذا كنت من سعد وأمّك فيهم ... غريبا فلا يغررك خالك من سعد فإن ابن أخت القوم مصغى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأب جلد «7»

وقال أميّة بن أبي عائذ «1» لإياس بن سهم: [طويل] أبلغ إياسا أنّ عرض ابن اختكم ... رداؤك فاصطن حسنه أو تبدّل «2» فإن تك ذا طول فإني ابن أختكم ... وكلّ ابن أخت من مدى الخال معتلي «3» فكن أسدا أو ثعلبا أو شبيهه ... فمهما تكن أنسب إليك وأشكل «4» وما ثعلب إلا ابن أخت ثعالب ... وإن ابن أخت اللّيث رئبال أشبل «5» وكتب بشر بن المغيرة بن أبي صفرة إلى عمّه بهذه الأبيات: [طويل] جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يزيد لي قد أزورّ جانبه «6» وكلّهم قد نال شبعا لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه فيا عمّ مهلا واتّخذني لنوبة ... تنوب، فإنّ الدّهر جمّ عجائبه «7» أنا السيف إلّا أنّ للسيف نبوة ... ومثلي لا تنبوا عليك مضاربه «8» دخل رجل من أشراف العرب على بعض الملوك، فسأله عن أخيه، فأوقع به يعيبه ويشتمه، وفي المجلس رجل يشنؤه «9» فشرع معه في القول؛ فقال له: مهلا! إنّي لآكل لحمي ولا أدعه لآكل.

ويقال: القرابة محتاجة إلى المودّة، والمودّة أقرب الأنساب. والبيت المشهور في هذا: فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودّة أقرب الأنساب وقيل لبزرجمهر: أخوك أحبّ إليك أم صديقك؟ فقال: إنما أحبّ أخي إذا كان صديقا. وقال خداش بن زهير «1» : [طويل] رأيت ابن عمّي باديا لي ضغنه ... وواغره في الصدر ليس بذاهب «2» وأنشدنا الريّاشيّ: [طويل] حياة أبي السّيار خير لقومه ... لمن كان قد ساس الأمور وجرّبا ونعتب أحيانا عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقي من الناس أعتبا وقال الشاعر: [طويل] ولم أر عزّا لامرىء كعشيره ... ولم أر ذلّا مثل نأي عن الأهل «3» ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للرّذل ولم أر من عدم أضرّ على الفتى ... إذا عاش وسط الناس من عدم العقل كان مهلهل «4» صار إلى قبيلة من اليمن يقال لهم جنب، فخطبوا إليه فزوّجهم وهو كاره لاغترابه عن قومه، ومهروا ابنته أدما «5» ؛ فقال: [منسرح]

أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم «1» لو بأبانين جاء يخطبها ... رمّل ما أنف خاطب بدم «2» وقال الأعشى: [طويل] ومن يغترب عن قومع لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا «3» وتدفن منه الصالحات وإن يسيء ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا» وربّ يقيع لو هتفت بجوّه ... أتاني كريم ينغض الرأس مغضبا «5» وقال رجل من غطفان: [طويل] إذا أنت لم تستبق ودّ صحابة ... على دخن أكثرت بثّ المعاتب «6» وإنّي لأستبقي امرأ السّوء عدّة ... لعدوة عرّيض من الناس عائب «7» أخاف كلاب الأبعدين ونبحها ... إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب قال رجل لعبيد الله بن أبي بكرة: ما تقول في موت الوالد؟ قال: ملك حادث؛ قال: فموت الزوج؟ قال: عرس جديد؛ قال: فموت الأخ؟ قال: قصّ الجناح؛ قال: فموت الولد؟ قال: صدع في الفؤاد لا يجبر. وكان يقال: العقوق ثكل من لم يثكل.

شكا عثمان عليّا إلى العباس رضي الله عنهم؛ فقال: أنا منه كأبي العاق، إن عاش عقّه وإن مات فجعه. وقال رجل لأبيه: يا أبت، إن عظيم حقّك عليّ لا يذهب صغير حقّي عليك، والذي تمتّ به إليّ أمتّ بمثله إليك، ولست أزعم أنّا على سواء. وقال زيد بن علي بن الحسن لابنه يحيى: إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فلم يوصني بك. غضب معاوية على يزيد ابنه فهجره؛ فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، فإن غضبوا فأرضهم، وإن سألوا فأعطهم، ولا تكن عليهم قفلا «1» فيملّوا حيتك ويتمنّوا موتك. قيل لأعرابيّ: كيف ابنك؟ - وكان عاقّا- فقال: عذاب رعف «2» به الدّهر، فليتني قد أودعته القبر، فإنه بلاء لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب فيها الشكر. قيل لبعضهم: أيّ ولدك أحبّ إليك؟ قال: صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يقدم. ناول عمر بن الخطاب رجلا شيئا؛ فقال له: خدمك بنوك؛ فقال عمر: بل أغنانا الله عنهم. وولد للحسن غلام، فقال له بعض جلسائه: بارك الله لك في هبته، وزادك من أحسن نعمته؛ فقال الحسن: الحمد لله على كلّ حسنة، ونسأل الله

الزيادة في كل نعمة، ولا مرحبا بمن إن كنت عائلا أنصبني «1» ، وإن كنت غنيا أذهلني، لا أرضى بسعيي له سعيا، ولا بكدّي له في الحياة كدّا، حتى أشفق له من الفاقة «2» بعد وفاتي، وأنا في حال لا يصل إليّ من غمّه حزن ولا من فرحه سرور. قال الأصمعيّ: عاتب أعرابيّ ابنه في شرب النبيذ، فلم يعتب «3» وقال: [طويل] أمن شربة من ماء كرم شربتها ... غضبت عليّ! الآن طاب لي الخمر سأشرب فاغضب لا رضيت، كلاهما ... إليّ لذيذ: أن أعقّك والسّكر وقال الطّرمّاح «4» لابنه صمصامة: [طويل] أصمصام إن تشفع لأمّك تلقها ... لها شافع في الصدر لم يتبّرح «5» هل الحبّ إلّا أنّها لو تعرّضت ... لذبحك يا صمصام قلت لها اذبحي أحاذر يا صمصام إن متّ أن يلي ... تراثي وإيّاك امرؤ غير مصلح إذا صكّ وسط القوم رأسك صكّة ... يقول له الناهي ملكت فأسجح «6» وأنشد ابن الأعرابيّ: [وافر] أحبّ بنيّتي ووددت أني ... دفنت بنيّتي في قعر لحد وما بي أن تهون عليّ لكن ... مخافة أن تذوق البؤس بعدي

ونحوه قول الآخر: [بسيط] لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظّلم «1» وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذلّ اليتيمة يجفوها ذوو الرّحم أحاذر الفقر يوما أن يلمّ بها ... فيهتك السّتر من لحم على وضم «2» تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم وقال أعرابيّ في ابنته: [بسيط] يا شقّة النفس إنّ النفس والهة ... حرّى عليك ودمع العين منسجم «3» قد كنت أخشى عليها أن تقدّمني ... إلى الحمام فيبدي وجهها العدم «4» فالآن نمت فلا همّ يؤرّقني ... تهدا العيون إذا ما أودت الحرم وقال أعشى سليم «5» : [متقارب] نفسي فداؤك من وافد ... إذا ما البيوت لبسن الجليدا كفيت الذي كنت أرجي له ... فصرت أبا لي وصرت الوليدا وقال أعشى همدان «6» في خالد بن عتّاب بن ورقاء: [طويل] فإن يك عتّاب مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثل خالد

وفي الحديث المرفوع: «ريح الولد من ريح الجنّة. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأحد ابني بنته: «إنّكم لتجبّنون وإنكم لتبخّلون وإنكم لمن ريحان الله» . وقالت أعرابية: [مجزوء الرّجز] يا حبّذا ريح الولد ... ريح الخزامى بالبلد «1» حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: هذا يدلّك على تفضيلهم الخزامى. وكان يقال: ابنك ريحانك سبعا، وخادمك سبعا، ثم عدوّ أو صديق. مرّ أعرابيّ ينشد «2» ابنا له بقوم، فقالوا: صفه؛ فقال: دنينير، قالوا: لم نره؛ فلم يلبث القوم أن جاء على عنقه بجعل «3» ؛ فقالوا؛ ما وجدت ابنك يا أعرابيّ؟ قال: نعم هو هذا؛ قالوا: لو سألت عن هذا لأخبرناك، ما زال منذ اليوم بين أيدينا. قال الشاعر في امرأة: [منسرح] نعم ضجيع الفتى إذا برد ال ... ليل سحيرا وقرقف الصّرد «4» زيّنها الله في العيون كما ... زيّن في عين والد ولد وفي الحديث: «من كان له صبيّ فليستصب له» . وقال الزبير وهو يرقّص ابنا له: [رجز] أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصدّيق ألذّه كما ألذّ ريقي

وقال أعرابي: [سريع] لولا بنيّات كزغب القطا ... حططن من بعض إلى بعض «1» لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطّول والعرض وإنّما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض لو هبّت الريح على بعضهم ... لامتنعت عيني من الغمض أنزلني الدهر على حكمه ... من مرقب عال إلى خفض «2» وابتزّني الدهر ثياب الغنى ... فليس لي مال سوى عرضي قال بعض النّسّابين: إنما قيل: سعد العشيرة، لأنه كان يركب في عشرة من ولده، فكأنهم عشيرة. وقال ضرار بن عمرو الصّبيّ، وقد رئى له ثلاثة عشر ذكرا قد بلغوا: من سرّه بنو ساءته نفسه. قال بشر بن أبي حازم «3» : [طويل] إذا ما علوا قالوا أبونا وأمّنا ... وليس لهم عالين أمّ ولا أب «4» وقال آخر: [بسيط] أنا ابن عمّك إن نابتك نائبة ... وليس منك إذا ما كعبك اعتدلا «5» وأنشدنا الرّياشيّ: [سريع] الرّحم بلّها بخير البلّان ... فإن فيها للدّيار العمران «6»

وأمر المال وبنت الصّغران ... وإنّما اشتقّت من اسم الرحمن «1» وقال المعلوط: [طويل] ومن يلق ما ألقى وإن كان سيّدا ... ويخش الذي أخشى يسر سير هارب مخافة سلطان عليّ أظنّه ... ورهطي، وما عاداك مثل الأقارب «2» دخل عثمان بن عفّان على ابنته وهي عند عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال: يا بنيّة: ما لي أراك مهزولة؟ لعلّ بعلك يغيرك «3» ؛ فقالت: لا، ما يغيرني؛ فقال لزوجها: لعلّك تغيرها! قال: فأفعل، فلغلام يزيده الله في بني أميّة أحبّ إليّ منها. قال النعمان بن بشير «4» : [طويل] وإني لأعطي المال من ليس سائلا ... وأدرك للمولى المعاند بالظلم وإني متى ما يلقني صارما له ... فما بيننا عند الشدائد من صرم «5» فلا تعدد المولى شريكك في الغنى ... ولكنما شريكك في العدم «6» إذا متّ ذو القربى إليك برحمه ... وغشّك واستغنى فليس بذي رحم ولكنّ ذا القربى الذي يستخفّه ... أذاك ومن يرمي العدوّ الذي ترمي وقال بعض الشعراء: [وافر] لقد زاد الحياة إليّ حبّا ... بناتي أنّهن من الضّعاف

مخافة أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صافي «1» وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف «2» قيل لعليّ بن الحسين: أنت من أبرّ الناس ولا نراك تؤاكل أمّك؛ قال: أخاف أن تسير يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها. قيل لعمر بن ذرّ: كيف كان برّ ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقي سطلحا وأنا تحته. حدّثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عطاء بن السائب عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند عمر فأتاه رجل فأنشده: [وافر] تركت أباك مرعشة يداه ... وأمّك ما تسيغ لها شرابا «3» إذا غنّت حمامة بطن وجّ ... على بيضاتها ذكرت كلابا «4» فقال عمر: ممّ ذاك؟ قال: هاجر إلى الشام وترك أبوين له كبيرين، فبكى عمر وكتب إلى يزيد بن أبي سفيان في أن يرحّله، فقدم عليه، فقال: برّ أبويك وكن معهما حتى يموتا. قال أبو اليقظان: مربّعة كلاب بالبصرة إليه تنسب، والعوامّ تقول مربّعة الكلاب.

قال أبو عليّ الضّرير «1» : [متقارب] أتيتك جذلان مستبشرا ... لبشراك لما أتاني الخبر أتاني البشير بأن قد رزقت ... غلاما فأبهجني ما ذكر وأنّك، والرشد فيما فعل ... ت، أسميته باسم خير البشر وطهّرته يوم أسبوعه ... ومن قبل في الذّكر ما قد طهر «2» فعمّرك الله حتى ترا ... هـ قد قارب الخطو منه الكبر وحتى ترى حوله من بنيه ... وإخوته وبنيهم زمر «3» وحتى يروم الأمور الجسام ... ويرجى لنفع ويخشى لضرّ وأوزعك الله شكر العطاء ... فإن المزيد لعبد شكر «4» وصلّى على السّلف الصالحي ... ن منكم وبارك فيمن غبر «5» وهذا قد وقع في باب التهانىء أيضا. قال المأمون: لم أر أحدا أبرّ من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من برّه به أن يحيى كان لا يتوضّأ إلا بماء مسخّن وهما في السجن، فمنعهما السجّان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقم «6» كان يسخّن فيه الماء، فملأه ثم أدناه من منار المصباح، فلم يزل قائما وهو في يده حتى أصبح.

الاعتذار

رقّص أعرابيّ ابنه وقال: [رجز] أحبّه حبّ الشّحيح ما له ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله إذا يريد بذله بدا له دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه تفّاحة القلب؛ فقال: انبذها عنك «1» ؛ قال: ولم؟ قال: لأنهنّ يلدن الأعداء، ويقرّبن البعداء، ويورثن الضغائن؛ فقال: لا تقل ذاك يا عمرو، فو الله ما مرّض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالا قد نفعه بنو أخته؛ فقال له عمرو: ما أعلمك إلا حبّبتهنّ إليّ. الاعتذار كان يقال: الاعتراف يهدم الاقتراف. كتب بعض الكتّاب إلى بعض العمال: لو قابلت حقّك عليّ بمتقدّم المودّة ومؤكّد الحرمة إلى ما جدّده الله لك بالسلطان والولاية، لم أرض في قضائه بالكتاب دون تجسّم الرّحلة ومعاناة السفر إليك، لا سيما مع قرب الدار منك؛ غير أن الشغل بما ألفيت عليه أموري من الانتشار وعلائق الخراج وغير ذلك مما لا خيار معه، أحلّني في الظاهر محلّ المقصّرين؛ وإن وهب الله فرجة من الشغل وسهّل سبيلا إليك، لم أتخلّف عمّا لي فيه الحظّ من مجاورتك والتنسّم بريحك والتيمّن بالنظر إليك، غاديا ورائحا عليك، إن شاء الله تعالى. كتب ابن الجهم «2» إلى نجاح من الحبس: [منسرح]

إن تعف عن عبدك المسيء ففي ... فضلك مأوى للصّفح والمنن أتيت ما استحقّ من خطأ ... فعد لما تستحقّ من حسن وكتب الحسن بن وهب «1» : [سريع] ما أحسن العفو من القادر ... لا سيّما عن غير ذي ناصر إن كان لي ذنب، ولا ذنب لي، ... فما له غيرك من غافر أعوذ بالودّ الذي بيننا ... أن يفسد الأوّل بالآخر كتب رجل إلى جعفر بن يحيى يستبطئه، فوقّع في ظهر كتابه: أحتجّ عليك بغالب القضاء، وأعتذر إليك بصادق النيّة. قال بعض الشعراء: [متقارب] وتعذر نفسك إمّا أساءت ... وغيرك بالعذر لا تعذر وتبصر في العين منه القذى ... وفي عينك الجذع لا تبصر «2» وقال بعض الشعراء: [كامل] يا ذا المميّز للإخاء ولل ... إخوان في التفضيل والقدر لا يقبضنّك عن معاشرتي ... بالأنس أن قصّرت في برّي إني إذا ضاق امرؤ بجدا ... عنّي استعنت عليه بالعذر «3» وفي الحديث المرفوع: «من لم يقبل من معتذر صادقا كان أو كاذبا لم يرد عليّ الحوض. وفيه: أقيلوا ذوي الهنات عثراتهم» «4» .

اعتذر رجل إلى أبي عبيد الله الكاتب فقال: ما رأيت عذرا أشبه باستئناف ذنب من عذرك. وكان يقال: أعجل الذنوب عقوبة العذر، واليمين الفاجرة، وردّ التائب وهو يسأل العفو خائبا. وقال مطرّف «1» : المعاذر مكاذب «2» . اعتذر رجل إلى إبراهيم «3» فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب. ويقال. ما اعتذر مذنب إلا ازداد ذنبا. وقال الشاعر: [مجزوء الكامل المرفّل] لا ترج رجعة مذنب ... خلط احتجاجا باعتذار اعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة «4» ، فقبل منه وقال: لا يدعونّك أمر تخلّصت منه إلى أمر لعلك لا تتخلص منه. وقال الشاعر: [طويل] فلا تعذراني في الإساءة إنّه ... شرار الرجال من يسيء فيعذر وقال ابن الطّثرية: [طويل] هبيني امرأ إمّا بريئا ظلمته ... وإما مسيئا تاب بعد وأعتبا «5»

وكنت كذي داء تبغّى لدائه ... طبيبا فلما لم يجده تطبّبا «1» كتب بعض الكتّاب معتذرا: توهّمت، أعزك الله، نفرتك عند نظرتك إلى عنوان كتابي هذا باسمي، لما تضمّنته من السّخيمة «2» عليّ، فأخليته منه؛ وانتظرت باستعطافك من طويّتك فيّ عاقبة امتداد العهد، وأمنت اضطغانك لنفي الدّين الحقد، واختصرت من الاحتجاج المنتسب إلى الإصرار، والاعتذار المتعاود بين النّظراء، والإقرار المثبّت للأقدام، الاستسلام لك. على أنك إن حرمتني رضاك اتّسعت بعفوك، وإن أعدمنيهما توغّر صدرك «3» لم تضق من الرّقة عليّ من مصيبة الحرمان؛ وإن قسوت رجعت بك عواطف من أياديك عندي نازعة «4» بك إلى استتمامها لديّ. ومن حدود فضائل الرؤساء مقابلة سوء من خوّلوا بالإحسان. ولا نعمة على مجرم إليه أجزل من الظفر، ولا عقوبة لمجرم أبلغ من الندم؛ وقد ظفرت وندمت. كتبت وأنا على ما تحبّ بشرا إن تغمّدت زلّتي، وكما تحب ضرّا إن تركت إقالتي «5» ، وبخير في كلتا الحالتين ما بقيت. وكتبت في كتاب اعتذار واستعطاف: وكم عسى أن يكون تماديك في عتبك؛ لولا أني مضطرّ إلى وصلك وأنت مطبوع على هجري. لقد استحييت واستحييت من ذليّ وعزّك، وخفضي جناحي ونأي بجانبك. وفي كتاب آخر: قد أودعني الله من نعمك ما بسطني في القول مدلّا به

عليك، ووكّد من حرمتي بك ما شفع لي في الذنوب إليك، وأعلقني من أسبابك ما لا أخاف معه نبوات الزمان عليّ فيك، وأمّنتني بحلمك وأناتك بادرة غضبك؛ فأقدمت ثقة بإقالتك إن عثرت، وبتقويمك إن زغت. وبأخذك بالفضل إن زللت. وفي كتاب اعتذار: أنا عليل منذ فارقتك؛ فإن تجمع عليّ العلّة وعتبك أفدح «1» . على أن ألم الشوق قد بلغ بك في عقوبتي؛ وحضرني هذا البيت على ارتجال فوصلت به قولي: [طويل] لك الحقّ إن تعتب عليّ لأنّني ... جفوت وإمّا تغتفر فلك الفضل أنهيت عذري لأنتهي إلى تفضّلك بقبوله «2» وإن قبولك «3» يمح إفراطي في البرّ بك تفريطي فيه، وإلى ذلك ما أسألك تعريفي خيرك لأراح إليه، وأستزيد الله في أجره «4» لك. وفي فصل آخر: أنا المقرّ بقصوري عن حقّك، واستحقاقي جفاءك؛ وبفضلك من عذلك أعوذ، فو الله لئن تأخّر كتابي عنك، ما أستزيد نفسي في شكر مودّتك، ولطيف عنايتك. وكيف يسلاك أو ينساك أخ مغرم بك يراك زينة مشهده ومغيبه!: [بسيط]

وكيف أنساك لا أيديك واحدة ... عندي ولا بالذي أوليت من نعم «1» وفي آخر الكتاب: [وافر] إذا اعتذر الصّديق إليك يوما ... من التقصير عذر أخ مقرّ فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإن الصفح شيمة كلّ حرّ وقال الخليل بن أحمد: [بسيط] لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما تقول عدلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا قيل لبزرجمهر: ما بالكم لا تعاتبون الجهلة، قال: لأنا لا نريد من العميان أن يبصروا. وقال ابن الدّمينة «2» : [طويل] بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به ضعفة حتى يقال مريب «3» وكتب رجل إلى صديق له يعتذر: أنا من لا يحاجّك عن نفسه، ولا يغالطك عن جرمه، ولا يلتمس رضاك إلّا من جهته، ولا يستعطفك إلّا بالإقرار بالذنب، ولا يستمليك إلّا بالاعتراف بالزّلّة. وقرأت في كتاب: لست أدري بأيّ استجزت تصديق ظنّك حتى أنفذت عليّ به حكم قطيعتك، فو الله ما صدق عليّ ولا كاد، ولا استجزت ما توهّمته

فيمن لا يلزمني حقّه. وأعيذك بالله من بدار «1» إلى حكم يوجب الاعتذار، فإنّ الأناة «2» سبيل أهل التّقى والنّهى؛ والظنّ والإسراع إلى ذوي الإخاء ينتجان الجفاء، ويميلان عن الوفاء إلى اللّفاء «3» . قال إسماعيل بن عبد الله وهو يعتذر إلى رجل في آخر يوم من شعبان: والله فإنّي في غبّر «4» يوم عظيم، وتلقاء ليلة تفترّ «5» عن أيام عظام، ما كان ما بلغك. وقرأت في كتاب معتذر: إنك تحسن مجاورتك للنعمة، واستدامتك لها، واجتلابك ما بعد منها بشكر ما قرب، واستعمالك الصفح لما في عاقبته من جميل عادة الله عندك؛ ستقبل العذر على معرفة منك بشناعة الذنب، وتقيل العثرة «6» وإن لم تكن على يقين من صدق النيّة، وتدفع السيئة بالتي هي أحسن. اعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى البرمكي، فقال له جعفر: قد أغناك الله بالعذر منّا عن الاعتذار، وأغنانا بالمودّة لك عن سوء الظن بك. وقال بعض الشعراء: [طويل] إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبا ... إليك فلم تغفر له فلك الذنب كان الحسن بن زيد بن الحسن واليا للمنصور على المدينة، فهجاه ورد

ابن عاصم المبرسم فقال: [وافر] له حقّ وليس عليه حقّ ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لأهلها وهو الرسول فطلبه الحسن فهرب منه، ثم لم يشعر إلا وهو ماثل بين يديه يقول: [وافر] سيأتي عذري الحسن بن زيد ... وتشهد لي بصفّين القبور قبور لو بأحمد أو عليّ ... يلوذ مجيرها حفظ المجير هما أبواك من وضعا تضعه ... وأنت برفع ما رفعا جدير فاسخفّ الحسن كرمه، فقام إليه فبسط له رداءه وأجلسه عليه. وفي كتاب لمعتذر: علوّ الرّتبة واتّساع القدرة وانبساط اليد بالسّطوة، ربما أنست ذا الحنق المحفظ «1» من الأحرار فضيلة العفو وعائدة الصّفح وما في إقالة المذنب واستبقائه من حسن السماع وجميل الأحدوثة، فبعثته على شفاء غيظه، وحرّكته، على تبريد غلّته، وأسرعت به إلى مجانبة طباعه وركوب ما ليس من عادته. وهمّتك تجلّ عن دناءة الحقد، وترتفع عن لؤم الظّفر. وفي فصل: نبت «2» بي عنك غرّة الحداثة «3» فردّتني إليك الحنكة، وباعدتني عنك الثقة بالأيام فأدنتني إليك الضرورة، ثقة بإسراعك إليّ وإن كنت أبطأت منك، وقبولك العذر وإن كانت ذنوبي قد سدّت عليك مسالك الصّفح؛ فأيّ موقف هو أدنى من هذا الموقف لولا أن المخاطبة فيه لك! وأيّ خطّة هي أودى بصاحبها من خطّة أنا راكبها لولا أنها في رضا لك!. أوقع «4» الحجّاج يوما بخالد بن يزيد يعيبه وينتقصه وعنده عمرو بن عتبة:

فقال عمرو: إن خالدا أدرك من قبله وأتعب من بعده بقديم غلب عليه وحديث لم يسبق إليه؛ فقال الحجّاج معتذرا: يا بن عتبة، إنا لنسترضيكم بأن نغضب عليكم، ونستعطفكم بأن ننال منكم، وقد غلبتم على الحلم، فوثقنا لكم به، وعلمنا أنكم تحبون أن تحلموا، فتعرّضنا للذي تحبّون. قال المنصور لرجل أتاه نائبا معتذرا من ذنب: عهدي بك خطيبا فما هذا السكوت! فقال: يا أمير المؤمنين؛ لسنا وفد مباهاة «1» وإنما نحن وفد توبة، والتوبة تتلقّى بالاستكانة «2» . وقع بين أبي مسلم وبين قائد له كلام، فأربى «3» عليه القائد إلى أن قال له: يا لقيط! فأطرق أبو مسلم، فلما سكتت عنه فورة الغضب ندم وعلم أنه قد أخطأ واعتذر وقال: أيها الأمير، والله ما انبسطت حتى بسطتني ولا نطقت حتى أنطقتني فاغفر لي؛ قال: قد فعلت؛ فقال: إني أحبّ أن أستوثق لنفسي؛ فقال أبو مسلم: سبحان الله! كنت تسيء وأحسن، فلما أحسنت أسي!. قال الطّائي: [طويل] وكم ناكث للعهد قد نكثت به ... أمانيه واستخذى بحقّك باطله «4» فحاط له الإقرار بالذنب روحه ... وجثمانه إذ لم تحطه قبائله «5»

عتب الإخوان والتباغض والعداوة

وقال آخر: [منسرح] وقال آخر: [منسرح] حتى متى لا تزال معتذرا ... من زلّة منك ما تجانبها لا تتّقي عيبها عليك ولا ... ينهاك عن مثلها عواقبها لتركك الذنب لا تقارفه ... أيسر من توبة تقاربها «1» قال أعرابيّ لابن عمّ له: سأتخطى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على يقين ومن الآخر على شك؛ ليتمّ المعروف منّي إليك، ولتقوم الحجّة منّي عليك. عتب الإخوان والتباغض والعداوة حدّثني الزّياديّ قال حدّثنا عبد الوارث عن يزيد بن القاسم عن معاذة أنها سمعت هشام بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يحلّ لمسلم أن يصارم «2» مسلما فوق ثلاث، وأيّهما فعل فإنهما ناكثان «3» عن الحقّ ما داما على صرمهما وإن ماتا لم يدخلا الجنة» . قال بعض الشعراء: [بسيط] سنّ الضّغائن آباء لنا سلفوا ... فلن تبيد وللآباء أبناء هذا مثل قول أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه: العداوة تتوارث. وقرأت في كتاب للهند: إذا كانت الموجدة عن علّة كان الرضا مرجوّا، وإذا كانت عن غير علة كان الرضا معدوما. ومن العجب أن يطلب الرجل رضا أخيه فلا يرضى، وأعجب من ذلك أن يسخطه عليه طلبه رضاه.

قال بعض المحدثين: [متقارب] فلا تله عن كسب ودّ العدوّ ... ولا تجعلنّ صديقا عدوّا ولا تغترر بهدوّ امرىء ... إذا هيج فارق ذاك الهدوّا وقال آخر: [من مجزوء الكامل المرفّل] احذر مودّة ما ذق ... شاب المرارة بالحلاوه «1» يحصي العيوب عليك أي ... ام الصداقة والعداوه وقال أبو الأسود الدّؤليّ: [طويل] إذا المرء ذو القربى وذو الضّغن أجحفت ... به سنة حلّت مصيبته حقدي «2» وقال محمد بن أبان اللاحقي «3» لأخيه إسماعيل: [وافر] تلوم على القطيعة من أتاها ... وأنت سننتها في الناس قبلي وقال آخر: [طويل] وروّعت حتى ما أراع من النّوى ... وإن بان جيرانّ عليّ كرام فقد جعلت نفسي على اليأس تنطوي ... وعيني على هجر الصديق تنام قال أحمد بن يوسف «4» الكاتب: [خفيف] ما على ذا كنّا افترقنا بسندا ... دولا بيننا عقدنا الإخاء «5»

نطعن الناس بالمثقّفة السّم ... ر على غدرهم وننسى الوفاء «1» قيل لأفلاطون: بماذا ينتقم الإنسان من عدوّه؟ قال: بأن يزداد فضلا في نفسه. وكان يقال: احذر معاداة الذليل، فربما شرق «2» بالذّباب العزيز. كتب رجل من الكتّاب إلى صديق له تجنّى عليه: [متقارب] عتبت عليّ ولا ذنب لي ... بما الذنب فيه ولا شكّ لك وحاذرت لومي فبادرتني ... إلى اللوم من قبل أن أبدرك فكنّا كما قيل فيما مضى ... خذ اللّصّ من قبل أن يأخذك وقال آخر: [طويل] رأيتك لمّا نلت مالا، ومسّنا ... زمان ترى في حدّ أنيابه شغبا «3» جعلت لنا ذنبا لتمنع نائلا ... فأمسك ولا تجعل غناك لنا ذنبا وقال آخر: [طويل] تريدين أن أرضى وأنت بخيلة ... ومن ذا الذي يرضي الأخلّاء بالبخل وجدّك لا يرضى إذا كان عاتبا ... خليلك إلّا بالمودّة والبذل متى تجمعي منّا كثيرا ونائلا ... قليلا يقطّع ذاك باقية الوصل كتب رجل إلى صديق له: [طويل]

لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك «1» وقال آخر: [بسيط] إذا رأيت ازورارا من أخي ثقة ... ضاقت عليّ برحب الأرض أوطاني فإن صددت بوجهي كي أكافئه ... فالعين غضبى وقلبي غير غضبان وقال إبراهيم بن العباس «2» : [بسيط] وقد غضبت فما باليتم غضبي ... حتى انصرفت بقلب ساخط راضي وقال زهير «3» : [وافر] وما يك في عدوّ أو صديق ... تخبّرك العيون عن القلوب وقال دريد «4» : [وافر] وما تخفى الضغينة حيث كانت ... ولا النظر الصحيح من السقيم وقال ابن أبي خازم: [من مجزوء الخفيف] خذ من الدهر ما كفى ... ومن العيش ما صفا لا تلحّنّ بالبكاء ... على منزل عفا «5» خلّ عنك العتاب إن ... خان ذو الودّ أو هفا عين من لا يحبّ وص ... لك تبدي لك الحفا وقال أعرابيّ يذكر أعداء: [بسيط]

يزمّلون جنين الضّغن بينهم ... والضّغن أشوه أو في وجهه كلف «1» إن كاتمونا القلى نمّت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف «2» وقال ابن أبي أميّة «3» : [سريع] كم فرحة كانت وكم ترحة ... تخرّصتها لي فيك الظنون «4» إذا قلوب أظهرت غير ما ... تضمره أنبتك عنها العيون وقال آخر: [هزج] أما تبصر في عين ... يّ عنوان الذي أبدي وقال آخر: [طويل] ومولى كأنّ الشمس بيني وبينه ... إذا ما التقينا ليس ممّن أعاتبه يقول: لا أقدر أن أنظر إليه، فكأن الشمس بيني وبينه. ومثله: [وافر] إذا أبصرتني أعرضت عنّي ... كأنّ الشمس من قبلي تدور وقال النّمر بن تولب في الإعراض «5» : [طويل] فصدّت كأنّ الشمس تحت قناعها ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب أخذه أبو نواس فقال: [سريع] يا قمرا للنّصف من شهره ... أبدى ضياء لثمان بقين

يريد أنه أعرض بوجهه فبدا له نصفه. وقال آخر في الضغينة: [طويل] وفينا وإن قيل اصطلحنا تضاغن ... كما طرّ أوبار الجراب على النّشر «1» وقال آخر في نحوه «2» : [طويل] وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا «3» وقال الأخطل: [بسيط] إنّ الضغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ يكمن حينا ثم ينتشر «4» شمس العداوة حتى يستفاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا «5» وقرأت في كتاب للهند: ليس بين عداوة الجوهريّة صلح إلا ريثما ينتكث، كالماء إن أطيل إسخانه فإنه لا يمتنع من إطفاء النار إذا صبّ عليها. قال سعد بن أبي وقّاص لعمّار بن ياسر: إن كنا لنعدّك من أكابر أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، حتى إذا لم يبق من عمر إلا ظمء «6» الحمار فعلت

وفعلت؛ قال: أيّما أحبّ إليك: مودّة على دخل «1» أو مصارمة جميلة؟ قال: مصارمة جميلة؛ قال: لله عليّ ألّا أكلّمك أبدا. وقال بعض الشعراء في صديق له تغيّر: [منسرح] إحولّ عنّي وكان ينظر من ... عيني ويرمي بساعدي ويدي «2» . وقال المثتقّب العبدي «3» : [وافر] ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمرّ بها رياح الصيف دوني فإني لو تعاندني شمالي ... عنادك ما وصلت بها يميني إذا لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني «4» وقال الكميت: [طويل] ولكنّ صبرا عن أخ عنك صابر ... عزاء إذا ما النفس حنّ طروبها «5» رأيت عذاب الماء إن حيل دونها ... كفاك لما لا بدّ منه شروبها «6» وإن لم يكن إلا الأسنّة مركب ... فلا رأي للمجهود إلا ركوبها «7» وقرأت في كتاب للهند: العدوّ إذا أحدث صداقة لعلة ألجأته إليها فمع ذهاب العلة رجوع العداوة، كالماء يسخن فإذا رفع عاد باردا. وقال محمد بن يزداد الكاتب: إذا لم تستطع أن تقطع يد عدوّك فقبّلها. قال الشاعر: [طويل]

لقد زادني حبّا لنفسي أنني ... بغيضّ إلى كلّ امرىء غير طائل إذا ما رآني قطّع الطرف دونه ... ودوني فعل العارف المتجاهل ملأت عليه الأرض حتّى كأنّها ... من الضّيق في عينيه كفّة حابل «1» قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اعتزل عدوّك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله. الهيثم عن ابن عيّاش قال: أخبرني رجل من الأزد قال: كنا مع أسد بن عبد الله بخراسان، فبينا نحن نسير معه وقد مدّ نهرفجاء «2» بأمر عظيم لا يوصف، وإذا رجل بضربه الموج وهو ينادي: الغريق الغريق! فوقف أسد وقال: هل من سابح؟ فقلت: نعم، فقال: ويحك! الحق الرجل! فوثبت عن فرسي وألقيت عنّي ثيابي ثم رميت بنفسي في الماء، فما زلت أسبح حتى إذا كنت قريبا منه قلت: ممن الرجل؟ قال: من بني تميم؟ قلت: إمض راشدا، فو الله ما تأخّرت عنه ذراعا حتى غرق: فقال ابن عياش: فقلت له: ويحك! أما اتقيت الله! غرّقت رجلا مسلما! فقال: والله لو كانت معي لبنة لضربت بها رأسه. طاف رجل من الأزد بالبيت «3» وجعل يدعو لأبيه؛ فقيل له: ألا تدعو لأمّك؟ فقال: إنها تميميّة. وقرأت في كتاب للهند: جانب الموتور وكن أحذر ما تكون له ألطف ما يكون بك، فإنّ السلامة بين الأعداء توحّش بعضهم من بعض، ومن الأنس والثقة حضور آجالهم.

شماتة الأعداء

أراد الملك قتل بزرجمهر وأن يتزوّج ابنته بعد قتله؛ فقال: لو كان ملككم حازما ما جعل بينه وبين شعاره موتورة «1» . قال أبو حازم: لا تناصبنّ رجلا حتى تنظر إلى سريرته؛ فإن تكن له سريرة حسنة فإن الله لم يكن يخذله بعداوتك إياه، وإن كانت سريرته رديئة فقد كفاك مساويه، لو أردت أن تعمل بأكثر من معاصي الله لم تقدر. قال رجل: إني لأغتنم في عدوّي أن ألقي عليه النملة وهو لا يشعر لتؤذيه. وقال الأفوه الأوديّ «2» : [وافر] بلوت الناس قرنا بعد قرن ... فلم أر غير خلّاب وقالي «3» وذقت مرارة الأشياء جمعا ... فما طعم أمرّ من السؤال ولم أر في الخطوب أشدّ هولا ... وأصعب من معاداة الرجال وقال آخر: [وافر] بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون شماتة الأعداء بلع عمرو بن عتبة شماتة قوم به في مصائب؛ فقال: والله، لئن عظم

مصابنا بموت رجالنا لقد عظمت النعمة علينا بما أبقى الله لنا: شبّانا يشبّون «1» الحروب، وسادة يسدون المعروف، وما خلقنا ومن شمت بنا إلا للموت. قيل لأيوب النبيّ عليه السلام: أيّ شيء كان أشدّ عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء. إشتكى يزيد بن عبد الملك شكاة شديدة وبلغه أنّ هشاما سرّ بذلك، فكتب إلى هشام يعاتبه، وكتب في آخر الكتاب: [طويل] تمنّى رجال أن أموت، وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد وقد علموا، لو ينفع العلم عندهم، ... متى متّ ما الداعي عليّ بمخلد منيّته تجري لوقت وحتفه ... يصادفه يوما على غير موعد فقال للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيّأ لأخرى مثلها فكأن قد «2» وقال الفرزدق: [وافر] إذا ما الدّهر جرّ على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا أغير على رجل من الأعراب فذهب بإبله فقال: [وافر] لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوي إحن «3» ما سرّني أنّ إبلي في مباركها ... وأنّ شيئا قضاه الله لم يكن وقال عديّ بن زيد العباديّ: [خفيف] أرواح مودّع أم بكور ... لك فانظر لأيّ حال تصير

وابيضاض السواد من نذر المو ... ت فهل بعده لإنس نذير أيّها الشامت المعيّر بالدّه ... ر أأنت المبرّأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام أم أنت جاهل مغرور من رأيت المنون خلّدن أم من ... ذا عليه من أن يضام مجير أين كسرى كسرى الملوك أنو شر ... وان أم أين قبله سابور «1» وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور «2» شاده مرمرفا وجلّله كل ... سا فللطّير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور وتبيّن ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما وللهدى تفكير «3» سرّه حاله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسّدير «4» فارعوى قلبه فقال وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير «5» ثم بعد الفلاح والملك والنّع ... مة وارتهم هناك القبور ثم أضحوا كأنهم ورق جفّ ... فألوت به الصبّا والدّبور «6» قال ابن الكلبي «7» : لما قبض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمع بموته نساء من كندة وحضر موت فخضبن أيديهنّ وضربن بالدفوف، فقال رجل منهم: [كامل]

أبلغ أبا بكر إذا ما جئته ... أنّ البغايا رمن أيّ مرام أظهرن من موت النبيّ شماتة ... وخضبن أيديهنّ بالعلّام «1» فاقطع، هديت، كفّهنّ بصارم ... كالبرق أومض من متون غمام «2» فكتب أبو بكر إلى المهاجر عامله، فأخذهنّ وقطّع أيديهنّ. وقرأت في كتاب ذكر فيه عدوّ: فإنه يتربّص بك الدوائر، ويتمنّى لك الغوائل، ولا يؤمّل صلاحا إلا في فسادك، ولا رفعة إلا في سقوط حالك والسلام. وجد بالأصل في آخر هذا الكتاب ما نصّه: آخر كتاب الإخوان، وهو الكتاب السابع من عيون الأخبار، تأليف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوريّ رحمة الله عليه. وكتبه الفقير إلى الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن علي الواعظ الجزريّ، وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة. وصلّى الله على سيدنا محمد النبيّ وآله الطاهرين. وفي هذه الصفحة عينها وجد ما يأتي- وهو من زيادة الناسخ-: قيل قدم المهديّ أمير المؤمنين، وقيل الرشيد «3» ، فتلقّاه الناس، وتلقّاه أبو دلامة «4» في جملة الناس، فأنشده: [كامل]

إنّي نذرت لئن رأيتك سالما ... بقرى العراق وأنت ذو وفّر لتصلّينّ على النبيّ محمد ... ولتملأن دراهما حجرى فقال له أمير المؤمنين: أما الأولى فنعم. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وأما الأخرى فلست أفعل، فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين ما نذرت إلا الاثنين، فضحك وأمر حتى ملؤا حجره دراهم. وقال شاعر «1» : [كامل] ولقد تنسّمت الرياح لحاجتي ... فإذا لها من راحتيك نسيم ولربّما استيأست ثم أقول لا ... إنّ الذي ضمن النجاح كريم

كتاب الحوائج

كتاب الحوائج استنجاح الحوائج حدّثني أحمد بن الخليل قال حدّثنا محمد بن الخصيب قال حدّثني أوس ابن عبد الله بن بريدة عن أخيه سهل بن عبد الله بن بريدة عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استعينوا على الحوائج بالكتمان فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» . قال خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها إلى غير أهلها، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء. قال شبيب بن شيبة: إني لأعرف أمرا لا يتلاقى به اثنان إلّا وجب النّجح بينهما؛ فقال له خالد بن صفوان: ما هو؟ قال: العقل، فإنّ العاقل لا يسأل ما لا يجوز ولا يردّ عما يمكن، فقال له خالد: نعيت إليّ نفسي! إنّا أهل بيت لا يموت منا أحد حتى يرى خلفه. أبو اليقظان قال: كان بنو ربيعة- وهم من بين عسل بن عمرو بن يربوع- يوصون أولادهم فيقولون: استعينوا على الناس في حوائجكم بالتثقيل عليهم، فذاك أنجح لكم. قال الشاعر: [مديد] هيبة الإخوان مقطعة ... لأخي الحاجات عن طلبه

فإذا ما هبن ذا أمل ... مات ما أمّلت من سببه وقال أبو نواس: [طويل] وما طالب الحاجات ممّن يرومها ... من الناس إلا المصبحون على رجل تأنّ مواعيد الكرام فربّما ... أصبت من الإلحاح سمحا على بخل والبيت المشهور في هذا: [بسيط] إنّ الأمور إذا انسدّت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كلّ ما ارتتجا «1» أخلق بذي الصبر أن يحظي بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا «2» لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنن بصبر أن ترى فرجا وقال آخر: [بسيط] إنّي رأيت، وللأيّام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر وقلّ من جدّ في أمر يطالبه ... واستصحب الصبر إلّا فاز بالظّفر والعرب تقول: «ربّ عجلة تهب ريثا» . يريدون أن الرجل قد يخرق ويعجل في حاجته فتتأخّر أو تبطل بذلك. وتقول: «الرّشف أنقع» . يريدون أن الشراب الذي يترشّف رويدا رويدا أقطع للعطش وإن طال على صاحبه. وقال عامر بن خالد بن جعفر ليزيد بن الصّعق: [رجز] إنّك إن كلّفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرّك منّي من خلق وكانوا يستنجحون حوائجهم بركعتين يقولون بعدهما: اللهم إنّي بك أستفتح، وبك أستنجح، وبمحمّد نبيك إليك أتوجّه، اللهم ذلّ لي صعوبته،

وسهّل لي حزونته «1» ، وارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عنّي من الشرّ أكثر مما أخاف. وقال القطاميّ: [بسيط] قد يدرك المتأنّي بعض جاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل «2» عمرو بن بحر «3» عن إبراهيم بن السّنديّ قال: قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجل من وجوهها، كان لا يجفّ لبده ولا يستريح قلمه ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال وإدخال المرافق على الضعفاء وكان رجلا مفوّها، خبّرني عن الشيء الذي هوّن عليك النّصب وقوّاك على التعب ما هو؟ قال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار، في أفنان الأشجار؛ وسمعت خفق أوطار العيدان، وترجيع أصوات القيان الحسان؛ ما طربت من صوت قطّ طربى من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن، ومن شكر حرّ لمنعم حرّ، ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر. قال إبراهيم: فقلت: لله أبوك لقد حشيت كرما فزادك الله كرما، فبأيّ شيء سهلت عليك المعاودة والطلب؟ قال: لأني لا أبلغ المجهود ولا أسأل ما لا يجوز، وليس صدق العذر أكره إليّ من إنجاز الوعد، ولست لإكداء «4» السائل أكره منّي للإجحاف «5» بالمسؤول، ولا أرى الراغب أوجب عليّ حقّا للذي قدمّ من حسن ظنه من المرغوب إليه الذي احتمل من كلّه «6» . قال إبراهيم: ما سمعت كلاما قطّ أشدّ موافقة

الاستنجاح بالرشوة والهدية

لموضعه ولا أليق بمكانه من هذا الكلام. وقال مصعب: [كامل] في القوم معتصم بقوّة أمره ... ومقصّر أودى به التقصير لا ترض منزلة الذليل ولا تقم ... في دار معجزة وأنت خبير وإذا هممت فأمض همّك إنما ... طلب الحوائج كلّه تغرير «1» وكان يقال: إذا أحببت أن تطاع، فلا تسأل ما لا يستطاع. ويقال: الحوائج تطلب بالرجاء، وتدرك بالقضاء. الاستنجاح بالرّشوة والهديّة حدّثني زيد بن أخزم عن عبد الله بن داود قال: سمعت سفيان الثوريّ يقول: إذا أردت أن تتزوّج فأهد للأمّ. والعرب تقول: «من صانع «2» لم يحتشم من طلب الحاجة» . قال ميمون بن ميمون: إذا كانت حاجتك إلى كاتب فليكن رسولك الطمع. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: نعم الشيء الهديّة أمام الحاجة. وقال رؤبة «3» : [رجز] لما رأيت الشّفعاء بلّدوا ... وسألوا أميرهم فأنكدوا «4»

الاستنجاح بلطيف الكلام

نامستهم برشوة فأقردوا ... وسهّل الله بها ما شدّدوا «1» وقال آخر «2» : [طويل] وكنت إذا خاصمت خصما كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم فلما تنازعنا الخصومة غلّبت ... عليّ وقالوا قم فإنك ظالم والعرب تقول في مثل هذا المعنى: «من يخطب الحسناء يعط مهرا» يريدون من طلب حاجة مهمّة بذل فيها. وقال بعض المحدثين: [بسيط] ما من صديق وإن تمّت صداقته ... يوما بأنجح في الحاجات من طبق «3» إذا تلثّم بالمنديل منطلقا ... لم يخش نبوة بوّاب ولا غلق لا تكذبنّ فإنّ الناس مذ خلقوا ... لرغبة يكرمون الناس أو فرق «4» وقال آخر: [سريع] ما أرسل الأقوام في حاجة ... أمضى ولا أنجح من درهم يأتيك عفوا بالذي تشتهي ... نعم رسول الرجل المسلم الاستنجاح بلطيف الكلام حدّثني سهل بن محمد عن الأصمعيّ «5» : دخل أبو بكر الهجريّ على

المنصور فقال: يا أمير المؤمنين نغض فمي «1» وأنتم أهل بيت بركة، فلو أذنت لي فقبّلت رأسك لعل الله يشدّد لي منه! فقال أبو جعفر: اختر منها ومن الجائزة؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألّا تبقى في فمي حاكّة «2» . قال أبو حاتم: وحدّثنا الأصمعيّ عن خلف قال: كنت أرى أنّه ليس في الدنيا رقية إلا رقية الحيّات، فإذا رقية الخبز أسهل. يعني ما يتكلّفه الناس من الكلام لطلب الحيلة. قال رجل للفضل بن سهل يسأله: الأجل آفة الأمل، والمعروف ذخيرة الأبد، والبرّ غنيمة الحازم، والتفريط مصيبة أخي القدرة؛ فأمر وهبا كاتبه أن يكتب الكلمات. ورفع إليه رقعة فيها: يا حافظ من يضيّع نفسه عنده، ويا ذاكر من ينسى نصيبه منه، ليس كتابي إذا كتبت استبطاء، ولا إمساكي إذا أمسكت استغناء؛ لكنّ كتابي إذا كتبت تذكرة لك، وإمساكي إذا أمسكت ثقة بك. وقال رجل لآخر: ما قصّرت بي همّة صيّرتني إليك، ولا أخّرني ارتياد دلّني عليك، ولا قعد بي رجاء حداني إلى بابك. وبحسب معتصم بك ظفر بفائدة وغنيمة، ولجء إلى موئل وسند. دخل الهذيل بن زفر «3» على يزيد بن المهلّب «4» في حمالات «5» لزمته،

فقال له: قد عظم شأنك عن أن يستعان بك أو يستعان عليك، ولست تصنع شيئا من المعروف إلّا وأنت أكثر منه، وليس العجب أن تفعل، وإنما العجب من ألّا تفعل. قال الحمدوني «1» في الحسين بن أيوب والي البصرة: [بسيط] قل لابن أيّوب قد أصبحت مأمولا ... لا زال بابك مغشيّا ومأهولا إن كنت في عطلة فالعذر متّصل ... وصل إذا كنت بالسلطان موصولا شرّ الأخلّاء من ولّى قفاه إذا ... كان المولّى وأعطى البشر معزولا من لم يسمّن جوادا كان يركبه ... في الخصب قام به في الجدب مهزولا افرغ لحاجاتنا ما دمت مشغولا ... لو قد فرغت لقد ألفيت مبذولا وقال آخر: [طويل] ولا تعتذر بالشّغل عنّا فإنما ... تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل وأتى رجل بعض الولاة، وكان صديقه، فتشاغل عنه، فتراءى له يوما؛ فقال: اعذرني فإنّي مشغول؛ فقال: لولا الشغل ما أتيتك. وكتب رجل إلى صديق له: قد عرضت قبلك حاجة، فإن نجحت بك فالفاني منها حظّي والباقي حظّك، وإن تعتذر فالخير مظنون بك والعذر مقدّم لك. وفي فصل آخر: قد عذرك الشّغل في إغفال الحاجة وعذرني في إنكارك.

وفي فصل آخر: قد كان يجب ألّا أشكو حالي مع علمك بها، ولا أقتضيك عمارتها بأكثر من قدرتك عليها؛ فلربّما نيل الغنى على يدي من هو دونك بأدنى من حرمتي. وما أستصغر ما كان منك إلا عنك، ولا أستقلّه إلا لك. وقال آخر: إن رأيت أن تصفّد يدا «1» بصنيعة باق ذكرها جميل في الدهر أثرها، تغتنم غرّة الزمان «2» فيها وتبادر فوت الإمكان بها، فافعل. قدم على زياد «3» نفر من الأعراب فقام خطيبهم فقال: أصلح الله الأمير! نحن، وإن كانت نزعت بنا أنفسنا إليك وأنضينا «4» ركائبنا نحوك التماسا لفضل عطائك، عالمون بأنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع؛ وإنما أنت ايّها الأمير خازن ونحن رائدون، فإن أذن لك فأعطيت حمدنا الله وشكرناك، وإن لم يؤذن لك فمنعت حمدنا الله وعذرناك، ثم جلس؛ فقال زياد لجلسائه: تالله ما رأيت كلاما أبلغ ولا أوجز ولا أنفع عاجلة منه، ثم أمر لهم بما يصلحهم. دخل العتّابيّ على المأمون، فقال له المأمون: خبّرت بوفاتك فغمّتني، ثم جاءتني وفادتك فسرتني؛ فقال العتابيّ: لو قسمت هذه الكلمات على أهل الأرض لوسعتهم؛ وذلك أنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك؛ قال: سلني، قال: يداك بالعطيّة أطلق من لساني.

قال نصيب «1» لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، كبرت سنّي ورقّ عظمي، وبليت ببنيّات نفضت عليهنّ من لوني فكسدن عليّ؛ فرقّ له عمر ووصله. سأل رجل أسد بن عبد الله فاعتلّ عليه؛ فقال: إني سألت الأمر من غير حاجة؛ قال: وما حملك على ذلك؟ قال: رأيتك تحبّ من لك عنده حسن بلاء، فأحببت أن أتعلّق منك بحبل مودّة. لزم بعض الحكماء باب بعض ملوك العجم دهرا فلم يصل إليه، فتلطّف للحاجب في إيصال رقعة ففعل، وكان فيها أربعة أسطر: السطر الأوّل الأمل والضّرورة أقدماني عليك. والسطر الثاني والعدم لا يكون معه صبر على المطالبة. والسطر الثالث الانصراف بلا فائدة شماتة للأعداء. والسطر الرابع فإمّا نعم مثمرة، وإمّا لا مريحة. فلما قرأها وقّع في كلّ سطر: زه «2» ؛ فأعطي ستّة عشر ألف مثقال فضّة. دخل محمد بن واسع «3» على قتيبة بن مسلم «4» ، فقال له: أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك، فإن تقضها حمدنا الله وشكرناك، وإن لم تقضها حمدنا الله وعذرناك؛ فأمر له بحاجته. وقال له أيضا في حاجة أخرى: إنّي

أتيتك في حاجة، فإن شئت قضيتها وكنّا جميعا كريمين، وإن شئت منعتها وكنّا جميعا لئيمين. أتى رجل خالد بن عبد الله في حاجة، فقال له: أتكلّم بجرأة اليأس أم بهيبة الأمل؟ قال: بل بهيبة الأمل؛ فسأله حاجته فقضاها. وقال أبو سمّاك لرجل: لم أصن وجهي عن الطّلب إليك، فصن وجهك عن ردّي، وضعني من كرمك بحيث وضعت نفسي من رجائك. قال المنصور لرجل: ما بالك؟ قال: ما يكفّ وجهي ويعجز عن برّ الصّديق فقال: لقد تلطّفت للسؤال، ووصله. وقال المنصور لرجل أحمد منه أمرا: سل حاجتك فقال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين؛ قال: سل، فليس يمكنك ذلك في كلّ وقت؛ فقال: ولم يا أمير المؤمنين! فوالله لا أستقصر عمرك ولا أرهب بخلك ولا أغتنم ما لك وإنّ سؤالك لزين، وإنّ عطاءك لشرف، وما على أحد بذل وجهه إليك نقص ولا شين، فأمر حتّى مليء فوه درّا. قال أبو العبّاس لأبي دلامة: سل حاجتك. قال: كلب؛ قال: لك كلب. قال: ودابّة أتصيد عليها؛ قال: ودابة. قال: وغلام يركب الدابّة ويصيد؛ قا: وغلام. قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه؛ قال: وجارية. قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء عيال ولا بدّ من دار؛ قال: ودار. قال: ولا بدّ من ضيعة لهؤلاء؛ قال: قد أقطعتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وأيّ شيء الغامرة؟ قال: ليس فيها نبات. قال: فأنا أقطعك ألفا وخمسمائة جريب من فيافى بني أسد؛ قال: قد جعلتها كلّها لك عامرة. قال: أقبلّ يدك؛ قال: أمّا هذه فدعها. قال: ما منعت عيالي شيئا أهون عليهم فقدا منها.

قال عبد الملك لرجل: ما لي أراك واجما «1» لا تنطق؟ قال: أشكو إليك ثقل الشّرف؛ قال: أعينوه على حمله. رأى زياد على مائدته رجلا قبيح الوجه كثير الأكل، فقال له: كم عيالك؟ قال: تسع بنات؛ قال: أين هنّ منك؟ قال: أنا أجمل منهنّ وهنّ آكل منّي؛ قال: ما أحسن ما تلطّفت في السؤال وفرض له وأعطاه. وقفت عجوز على قيس بن سعد فقال: أشكو إليك قلّة الجرذان؛ قال: ما أحسن هذه الكناية! املؤا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا. وقال بعض القصّاص في قصصه: اللهم أقلّ صبياننا وأكثر جرذاننا. كان سليمان بن عبد الملك يأخذ الوليّ بالوليّ والجار بالجار؛ فدخل عليه رجل وعلى رأسه وصيفة روقة «2» ، فنظر إليها: فقال سليمان: أأعجبتك؟ قال: بارك الله لأمير المؤمنين فيها! قال: هات سبعة أمثال في الاست وخذها؛ فقال: «صرّ عليه الغزو استه» «3» . قال: واحد. قال: «است البائن أعلم» «4» ؛ قال اثنان. قال: «است لم تعوّد المجمر تحترق» «5» ؛ قال: ثلاثة.

قال: الحرّ يعطي والعبد يبجع باسته» «1» ؛ قال: أربعة. قال: «استي أخبثى» «2» » ! قال: خمسة. قال: «عاد سلاها في استها» «3» ؛ قال: ستة. قال: «لا ماءك أبقيت ولا حرك أنقيت» «4» ؛ قال: ليس هذا من ذاك؛ قال: أخذت الجار بالجار كما يفعل أمير المؤمنين! قال: خذها. قال يزيد بن المهلّب لسليمان في حمالة «5» كلّمه فيها: يا أمير المؤمنين، والله لحمدها خير منها، ولذكرها أحسن من جمعها، ويدي مبسوطة بيدك فابسطها لسؤالها. قطع عبد الملك بن مروان عن آل أبي سفيان أشياء كان يجريها عليهم، لتباعد كان بينه وبين خالد بن يزيد بن معاوية؛ فدخل عليه عمرو بن عتبة فقال: يا أمير المؤمنين، أدنى حقّك متعب وتقصّيه فادح، ولنا مع حقّك علينا حقّ عليك، لقرابتنا منك وإكرام سلفنا لك؛ فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليك، وضعنا بحيث وضعتنا الرّحم منك، وزدنا بقدر ما زادك الله؛ فقال: أفعل، وإنما يستحقّ عطيّتي من استعطاها، فأمّا من ظنّ أنه يستغني بنفسه فسنكله إليها «6» ، يعرّض بخالد؛ فبلغ ذلك خالدا، فقال: أمّا عمرو فقد أعطى

من نفسه أكثر مما أخذ، أو بالحرمان يتهدّدني! يد الله فوق يده مانعة، وعطاؤه دونه مبذول. أتى رجل يزيد بن أبي مسلم برقعة يسأله أن يرفعها إلى الحجّاج؛ فنظر فيها يزيد فقال: ليست هذه من الحوائج التي ترفع إلى الأمير؛ فقال له الرجل: فإني أسألك أن ترفعها، فلعلّها توافق قدرا فيقضيها وهو كاره؛ فأدخلها وأخبره بمقالة الرجل؛ فنظر الحجاج في الرّقعة، وقال ليزيد: قل للرجل: إنها وافقت قدرا وقد قضيناها ونحن كارهون. دخل بعض الشعراء «1» على بشر بن مروان فأنشده: [كامل] أغفيت عند الصّبح نوم مسهّد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها فرأيت أنك رعتني بوليدة ... مغنوجة حسن عليّ قيامها وببدرة حملت إليّ وبغلة ... دهماء مشرفة يصلّ لجامها «2» فدعوت ربي أن يثيبك جنّة ... عوضا يصيبك بردها وسلامها فقال له بشر: في كل شيء أصبت إلا في البغلة فإني لا أملك إلّا شهباء «3» : فقال: إني والله ما رأيت إلّا شهباء. قال رجل لمعاوية: أقطعني البحرين، قال: إني لا أصل إلى ذلك. قال: فاستعملني على البصرة؛ قال: ما أريد عزل عاملها. قال: تأمر لي بألفين؛ قال: ذاك لك. فقيل له: ويحك! أرضيت بعد الأوليين بهذا! قال: اسكتوا لولا الأوليان ما أعطيت هذه. جاء أعرابيّ إلى بعض الكتّاب فسأله. فأمر الكاتب غلامه بيمينه أن

يعطيه عشرة دراهم وقميصا من قمصه؛ فقال لأعرابيّ: [خفيف] حوّل العقد بالشمال أبا الأص ... بغ واضمم إلى القميص قميصا إن عقد اليمين يقصر عنّي ... وأرى في قميصكم تقليصا يقول: حوّل عقد اليمين وهو عشرة إلى عقد الشمال وهو مائة «1» . سأل أعرابيّ فقال في مسألته: لقد جعت حتى أكلت النّوى المحرق ولقد مشيت حتى انتعلت الدّم وحتى سقط من رجلي بتخص «2» لحم وحتى تمنّيت أنّ وجهي حذاء لقدمي، فهل من أخ يرحمنا؟. وسأل آخر قوما فقال: رحم الله امرأ لم تمجج أذناه كلامي، وقدّم لنفسه معاذا من سوء مقامي، فإنّ البلاد مجدبة، والحال مصعبة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والعدم عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء أحد الصدقتين فرحم الله امرأ أمر بمير «3» ، ودعا بخير، فقال له رجل من القوم: ممّن الرجل؟ فقال: اللهم غفرا ممن لا تضرّك جهالته، ولا تنفعك معرفته؛ ذلّ الإكتساب، يمنع من عزّ الانتساب. سأل أعرابيّ رجلا فحرمه؛ فقال: علام تحرمني! فو الله ما زلت قبلة لأملي لا تلقتني عنك المطامع، فإن قلت: قد أحسنت بدءا، فما ينكر لمثلك أن يحسن عودا!.

من يعتمد في الحاجة ويستسعى فيها

قال ابن أبي عتيق «1» : دخلت على أشعب وعنده متاع حسن وأثاث، فقلت له: ويحك! أما تستحي أن تسأل وعندك ما أرى! فقال: يا فديتك! معي والله من لطيف السؤال ما لا تطيب نفسي بتركه. قال الصّلتان العبديّ «2» : [متقارب] نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا ننقضي تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي إذا ليلة هرّمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي وقال آخر: [بسيط] وحاجة دون أخرى قد سنحت بها ... جعلتها للّتي أخفيت عنوانا «3» كتب دعبل إلى بعض الأمراء: [منسرح] جئتك مستشفعا بلا سبب ... إليك إلّا بحرمة الأدب فاقض ذمامي فإنّني رجل ... غير ملحّ عليك في الطلب من يعتمد في الحاجة ويستسعى فيها روى هشيم عن عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مصعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اطلبوا الحوائح إلى حسان الوجوه» .

وفي حديث آخر: «اعتمد لحوائجك الصّباح الوجوه، فإنّ حسن الصورة أوّل نعمة تتلقّاك من الرجل» . قالت امرأة من ولد حسّان بن ثابت: [طويل] سل الخير أهل الخير قدما ولا تسل ... فتى ذاق طعم العيش منذ قريب «1» ومن المشهور قول بعض المحدثني: [خفيف] حسن ظنّ إليك أكرمك الل ... هـ دعاني فلا عدمت الصّلاحا ودعاني إليك قول رسول الل ... هـ إذا قال مفصحا إفصاحا إن أردتم حوائجا عند قوم ... فتنقّوا لها الوجوه الصّباحا «2» وقال آخر: [كامل] إنّا سألنا قومنا فخيارهم ... من كان أفضلهم أبوه الأوّل أعطى الذي أعطى أبوه قبله ... وتبخّلت أبناء من يتبخّل وقال خالد بن صفوان: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشدّ من المصيبة سوء الخلف «3» منها. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: مسلم بن قتيبة: لا تطلبنّ حاجتك إلى كذّاب فإنه يقرّبها وهي بعيد ويبعّدها وهي قريب» ، ولا إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، ولا إلى رجل له عند من تسأله الحاجة مأكلة «5» ، فإنه لا يؤثرك على نفسه.

أنشدنا الرّياشيّ لأبي عون: [وافر] ولست بسائل الأعراب شيئا ... حمدت الله إذ لم يأكلوني وقال ميمون بن ميمون: لا تطلبنّ إلى لئيم حاجة، فإن طلبت فأجّله حتى يروض نفسه. هارون بن معروف عن ضمرة عن عثمان بن عطاء، قال: عطاء الحوائج عند الشباب أسهل منها عند الشيوخ؛ ثم قرأ قول يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ «1» وقول يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «2» . وقال بشار: [متقارب] إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبّه لها عمرا ثم نم فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم «3» يلذّ العطاء وسفك الدّماء ... فيغدو على نعم أو نقم وقال أبو عبّاد الكاتب: لا تنزل مهمّ حوائجك بالجيّد اللسان، ولا المتسرّع إلى الضمان، فإنّ العجز مقصور على المتسرّع؛ ومن وعد ما يعجز عنه فقد ظلم نفسه وأساء إلى غيره؛ ومن وثق بجودة لسانه ظنّ أنّ في فصل بيانه ما ينوب عن عذره وأن وعده يقوم مقام إنجازه. وقال أيضا: عليك بذي الحصر البكيّ «4» ، وبذي الخيم «5» الرضيّ، فإنّ مثقالا من شدّة الحياء والعيّ،

أنفع في الحاجة من قنطار من لسان سليط ذكيّ، وعليك بالشّهم النّدب «1» الذي إن عجز أيأسك، وإن قدر أطعمك. قال بعض الشعراء: [كامل] لا تطلبنّ إلى لئيم حاجة ... واقعد فإنك قائما كالقاعد يا خادع البخلاء عن أموالهم ... هيهات! تضرب في حديد بارد وقال آخر: [طويل] إذا الشافع استقصى لك الجهد كلّه ... وإن لم تنل نجحا فقد وجب الشّكر وقال آخر «2» : [كامل] وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنّها من ماله «3» ذكر أعرابيّ رجلا، فقال: كان والله إذا نزلت به الحوائج قام إليها ثم قام بها، ولم تقعد به علّات النفوس «4» . قال الشاعر: [بسيط] ما إن مدحتك إلّا قلت تخدعني ... ولا استنتك إلا قلت مشغول ابن عائشة «5» قال: كان شبيب بن شيبة رجلا شريفا يفزع إليه أهل البصرة في حوائجهم، فكان إذا أراد الركوب تناول من الطعام شيئا ثم ركب؛ فقيل له. إنك تباكر الغداء! فقال: أجل! أطفىء به فورة جوعي، وأقطع به

الإجابة إلى الحاجة والرد عنها

خلوف «1» فمي، وأبلع به قضاء حوائجي، فخذ من الطعام ما يذهب عنك النّهم؛ ويداوي من الخوى «2» . قال بعض المحدثين: [طويل] لعمرك ما أخلقت وجها بذلته ... إليك ولا عرّضته للمعاير «3» فتى وفرت أيدي المحامد عرضه ... وخلّت لديه ماله غير وافر وقال آخر: [طويل] أتيتك لا أدلي بقربى ولا يد ... إليك سوى أنّي بجودك واثق فإن تولني عرفا أكن لك شاكرا ... وإن قلت لي عذرا أقل أنت صادق «4» وقال رجل لآخر في كلامه: أيدينا ممدودة إليك بالرغبة، وأعناقنا خاضعة لك بالذّلّة، وأبصارنا شاخصة إليك بالشكر؛ فافعل في أمورنا حسب أملنا فيك، والسلامه. الإجابة إلى الحاجة والردّ عنها قال رجل للعبّاس بن محمد: إنّي أتيتك في حاجة صغيرة؛ قال: اطلب لها رجلا صغيرا. وهذا خلاف قول عليّ بن عبد الله بن العبّاس لرجل قال له: إني أتيتك في حاجة صغيرة، فقال له عليّ بن عبد الله: هاتها، إنّ الرجل لا يصغر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره.

قال رجل للأحنف «1» : أتيتك في حاجة لا تنكيك ولا ترزؤك «2» ، قال: إذا لا تقضى! أمثلي يؤتى في حاجة لا تنكي ولا ترزأ!. جاء قوم إلى رجل يكلّمونه في حاجة لهم ومعهم رقبة، فقال لرقبة: تضمنونها؟ فقال له رقبة: جئناك نطلب منك فضل التوسّع «3» فأدخلت علينا همّ الضّمان. أتى عمرو بن عبيد حفص بن سالم، فلم يسأله أحد من حشمه شيئا إلا قال: لا؛ فقال عمرو: أقلّ من قول: «لا» فإن لا ليست في الجنة. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سئل ما يجد أعطى، وإذا سئل ما لا يجد قال: «يصنع الله» . قال عمر بن أبي ربيعة: [خفيف] إنّ لي حاجة إليك فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد أي قد تضمّنته لك فهو في عنقي. سأل رجل قوما؛ فقال له رجل منهم: اللهمّ هذا سائلنا ونحن سؤّالك، وأنت بالمغفرة أجود منّا بالعطاء: ثم أعطاه. سأل رجل رجلا حاجة؛ فقال: اذهب بسلام؛ قال السائل: أنصفنا من ردّنا في حوائجنا إلى الله عزّ وجلّ. قال رجل لثمامة: إن لي إليك حاجة؛ قال ثمامة: ولي إليك حاجة؛

قال: وما هي؟ قال: لا أذكرها حتى تتضمّن قضائها؛ قال: قد فعلت؛ قال: حاجتي ألّا تسألني هذه الحاجة؛ قال: رجعت عما أعطيتك؛ قال ثمامة «1» : لكنّي لا أردّ ما أخذت. قال الجاحظ: تمشّى قوم إلى الأصمعيّ مع رجل اشترى منه ثمرة نخله، فناله فيها خسران وسألوه حسن النظر له؛ فقال الأصمعيّ: أسمعتم بالقسمة الضّيزى «2» ! هي ما تريدون شيخكم عليه، اشترى منّي على أن يكون الخسران عليّ والربح له! اذهبوا فاشتروا لي طعام السّواد «3» على هذا الوجه والشرط. ثم قال: هاهنا واحدة هي لكن دوني، ولا بدّ من الاحتمال لكن إذا لم تحتملوا لي، هذا ما مشيتم معه إلا وأنتم توجبون حقّه وتحبّون رفده، ولو كنت أوجب له مثل الذي توجبون لقد كنت أغنيته عنكم، ولكن لا أعرفه ولا يضرّنني بحقّ؛ فهلمّ فلنتوزّع هذا الخسران بيننا بالسوء؛ فقاموا ولم يعدوا، وأيس التاجر فخرج له من حقّه. قال يزيد بن عمير الأسيّدي لبنيه: يا بنيّ، تعلّموا الردّ فإنه أشدّ من الإعطاء، ولأن يعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها فيهم، ولأن يقال لأحدكم: بخيل وهو غني خير له من أن يقال: سخيّ وهو فقير.

وقال إسحاق بن إبراهيم «1» : [كامل] النصر يقرئك السلام وإنّما ... أهدى السلام تعرّضا للمطمع فاقطع لبانته بيأس عاجل ... وأرح فؤادك من تقاضي الأضلع «2» ذكر ثمامة محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحدا قطّ في ماله إلا ليشغله بالطمع فيه عن غيره، ولا شفع لصديق ولا تكلّم في حاجة متحرّم به، إلا ليلقّن المسؤول حجّة منع، وليفتح على السائل باب حرمان. كتب سهل بن هارون «3» إلى موسى بن عمران: [كامل] إنّ الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي «4» فامنعه روح اليأس ثم امدد له ... حبل الرجاء لمخلف الوعد وألن له كنفا ليحسن ظنه ... في غير منفعة ولا رفد حتى إذا طالت شقاوة جدّه ... وعناؤه فاجبهه بالردّ «5» قيل لحبّي المدينيّة: ما الجرج الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يردّه. قيل لها: فما الذلّ؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل: فما الشرف؟ قالت: اعتقاذ المنن في رقاب الرجال. قال معن بن زائدة «6» : ما سألني قطّ أحد حاجة فرددته إلا رأيت الغنى

في قفاه. روى عليّ بن مسهر عن هشام عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أعلمتم أن الطمع فقر، وأن اليأس غنى، وأن المرء إذا يئس من شيء استغنى عنه. وقال آخر في كلام له: كلّ ممنوع مستغنى عنه بغيره، وكلّ مانع ما عنده ففي الأرض غنى عنه. وقد قيل: أرخص ما يكون الشيء عند غلائه. وقال بشار: والدرّ يترك من غلائه. قال شريح «1» : من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرقّ، فإن قضاها المسؤول استعبده بها، وإن ردّه عنها رجع حرّا وهما ذليلان: هذا بذلّ البخل، وهذا بذلّ الردّ. وقال بعضهم: من سألك لم يكرم وجهه عن مسألتك، فأكرم وجهك عن ردّه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يردّ ذا حاجة إلا بها أو بميسور من القول» . وقال أسماء بن خارجة: ما أحبّ أن أردّ أحدا عن حاجة؛ فإنه لا يخلوا من أن يكون كريما فأصونه، أو لئيما فأصون منه نفسي. وقال أعرابيّ سأل حاجة فردّ عنها: [بسيط] ما يمنع الناس شيئا كنت أطلبه ... إلّا أرى الله يكفي فقد ما منعوا

أتى رجل الحسن بن عليّ رضي الله عنهما يسأله؛ فقال الحسن: إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة؛ فقال الرجل: ما جئت إلا في إحداهنّ، فأمر له بمائة دينار، ثم أتى الرجل الحسين ابن علي رضي الله عنهما فسأله، فقال له مثل مقالة أخيه، فردّ عليه كما ردّ على الحسن؛ فقال: كم أعطاك؟ قال مائة دينار، فنقصه دينارا. كره أن يساوي أخاه. ثم أتى الرجل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسأله فأعطاه سبعة دنانير ولم يسأله عن شيء؛ فقال الرجل له: إني أتيت الحسن والحسين، واقتصّ كلامهما عليه وفعلهما به؛ فقال عبد الله: ويحك! وأنّي تجعلني مثلهما! إنهما غرّا العلم غرّا المال «1» . حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: جاء شيخ من بني عقيل إلى عمر ابن هبيرة، فمتّ بقرابة وسأله فلم يعطه شيئا؛ فعاد إليه بعد أيام فقال: أنا العقيليّ الذي سألك منذ أيام؛ فقال عمر: وأنا الفزاريّ الذي منعك منذ أيام؛ فقال: معذرة إلى الله! إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربيّ؛ فقال: ذاك الأم لك، وأهون بك عليّ، نشأ في قومك مثلي ولم تعلم به، ومات مثل يزيد ولا تعلم به! يا حرسيّ اسفع «2» بيده. أتى عبد الله بن الزبير أعرابيّ «3» يسأله، فشكا إليه نقب» ناقته واستحمله «5» ؛ فقال له ابن الزبير: ارقعها بسبت «6» واخصفها بهلب «7» وافعل

وافعل ... ؛ فقال الأعرابيّ: إني أتيتك مستوصلا «1» ولم آتك مستوصفا، فلا حملت ناقة حملتني إليك! فقال: إنّ «2» وصاحبها. والعرب تقول لمن جاء خائبا ولم يظفر بحاجته: «جاء على غيراء الظهر» «3» . وتقول هي والعوامّ: «جاء بخفّى حنين» و «جاء على حاجبه صوفه» . وقال أبو عطاء السّنديّ «4» في عمر بن هبيرة: [وافر] ثلاث حكتهنّ لقرم قيس ... طلبت بها الأخوة والثناء «5» رجعن على حواجبهن صوف ... فعند الله أحتسب الجزاء والأصل في قولهم: «جاء بخقّى حنين» أن إسكافا من أهل الحيرة ساومه أعرابيّ بخفّين، فاختلفا حتى أغضبه، فازداد غيظ الأعرابيّ؛ فلما ارتحل أخذ حنين أحد خفّيه فألقاه على طريقه ثم ألقى الآخر في موضع آخر؛ فلما مرّ الأعرابيّ بأحدهما قال: ما أشبه هذا بخفّ حنين! ولو كان معه الآخر لأخذته، ومضى؛ فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأوّل، وأناح راحلته فأخذه ورجع إلى الأوّل، وقد كمن له حنين فعمد إلى راحلته وما عليها فذهب به؛ وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير الخفّين؛ فقال له قومه: ما الذي أتيت به؟ قال: بخفي حنين. قالوا: فإن جاء وقد قضيت حاجته قيل: «جاء ثانيا من عنانه» . فإن جاء

ولمّا تقض حاجته وقد أصيب ببعض ما معه، قالوا: «ذهب يبتغى قرنا فلم يرجع بأذنين» . يقول بشار: [سريع] فكنت كالعير غدا يبتغي ... قرنا فلم يرجع بأذنين «1» سأل أعرابيّ قوما، فقيل له: بورك فيك! فقال: وكلكم الله إلى دعوة لا تحضرها نيّة. أرسل الوليد خيلا في حلبة، فأرسل أعرابيّ فرسا له فسبقت الخيل؛ فقال له الوليد: احملني عليها؛ فقال: إنّ لها حرمة، ولكني أحمل على مهر لها سبق الخيل عام أوّل وهو ريّض «2» . وتقول العرب فيمن يشغله شأنه عن الحاجة يسألها: «شغل الحلى أهله أن يعارا» بنحصب الحلى، ويعار: من العارية. فأمّا قولهم: «أحقّ الخيل بالركض المعار» . فإنّ المعار «3» : المنتوف الذّنب وهو المهلوب؛ يريدون أنه أخفّ من الذيّال الذنب «4» ، يقال: أعرت الفرس إذا نتفته. وتقول العرب لمن سئل وهو لا يقدر فردّ: «بيتي يبخل لا أنا» ؛ يريدون أنه ليس عنده ما يعطي. ووعد رجل رجلا فلم يقدر على الوفاء بما وعده؛ فقال له: كذبتني؛ قال: لا، ولكن كذبك مالي. وتقول العرب فيمن اعتذر بالمنع بالعدم وعنده ما سئل: «أبى الحقين

العذرة» «1» . قال أبو زيد: وأصله أن رجلا ضاف قوما فاستسقاهم لبنا، وعندهم لبن قد حقنوه في وطب «2» ، فاعتذروا أنه لا لبن عندهم؛ فقال: أبى الحقين العذرة. ويقال: العذرة طرف البخل» . وقال الطائي يذكر المطل «3» : [وافر] وكان المطل في بدء وعود ... دخانا للصنيعة وهي نار نسيب البخل مذ كانا وإن لم ... يكن نسب فبينهما جوار لذلك قيل بعض المنع أدنى ... إلى جود وبعض الجود عار قال إسماعيل القراطيسيّ «4» في الفضل بن الربيع: [هزج] لئن أخطأت في مدح ... ك ما أخطأت في منعي لقد أحللت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع غزا المنذر بن الزّبير في البحر ومعه ثلاثون رجلا من بني أسد بن عبد العزّى؛ فقال له حكيم بن حزام «5» : يا بن أخي، إني قد جعلت طائفة من مالي لله عزّ وجلّ، وإني قد صنعت أمرا ودعوتكم له، فأقسمت عليك لا يردّه عليّ أحد منكم؛ فقال المنذر: لاها الله إذا «6» ، بل نأخذ ما تعطي، فإن نحتج إليه

نستعن به ولا نكره أن يأجرك الله، وإن نستغن عنه نعطه من يأجرنا الله فيه كما أجرك. سأل أعرابيّ رجلا يقال له: الغمر فأعطاه درهمين، فردّهما وقال: [طويل] جعلت لغمر درهميه ولم يكن ... ليغني عنّي فاقتي درهما غمر «1» وقلت لغمر خذهما فاصطرفهما ... سريعين في نقض المروءة والأجر أتمنع سؤّال العشيرة بعد ما ... تسمّيت غمرا واكتنيت أبا بحر «2» اختلف أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع في حاجة له زمانا فلم يقضها له، فكتب: [منسرح] أكلّ طول الزّمان أنت إذا ... جئتك في حاجة تقول غدا! لا جعل الله لي إليك ولا ... عندك ما عشت حاجة أبدا! وقال آخر: [بسيط] إن كنت لم تنو فيما قلت لي صلة ... فما انتفاعك من حبسي وترديدي فالمنع أجمله ما كان أعجله ... والمطل من غير عسر آفة الجود وقال آخر: [طويل] بسطت لساني ثم أوثقت نصفه ... فنصف لساني في امتداحك مطلق

المواعيد وتنجزها

فإن أنت لم تنجز عداتي تركتني ... وباقي لسان الشكر باليأس موثق «1» وقال آخر: [خفيف] يا جواد اللسان من غير فعل ... ليت جود اللسان في راحتيكا المواعيد وتنجّزها ذكر جبّار بن سلمى عامر بن الطّفيل «2» فقال: كان والله إذا وعد الخير وفى، وإذا أوعد بالشرّ أخلف وعفا. وأنشد أبو عمرو بن العلاء في مثل هذا المعنى: [طويل] ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتي ... ويأمن منّي صولة المتهدّد وإنّي إن أوعدته أو وعدته ... ليكذب إيعادي ويصدق موعدي «3» وكان يقال: وعد الكريم نقد، ووعد اللئيم تسويف «4» . وقال عبد الصّمد بن الفضل الرّقاشي (أبو الفضل والعباس الرّقاشيّين البغداديين) لخالد بن ديسم عامل الرّيّ: [طويل] أخالد إنّ الرّيّ قد أجحفت بنا ... وضاق علينا رحبها ومعاشها وقد أطعمتنا منك يوما سحابة ... أضاء لنا برق وكفّ رشاشخا «5» فلا غيمها يصحو فيؤيس طامع ... ولا ماؤها يأتي فتروى عطاشها

وقال رجل في الحجاج: [طويل] كأنّ فؤادي بين أظفار طائر ... من الخوف في جوّ السماء محلّق حذار امرىء قد كنت أعلم أنّه ... متى ما يعد من نفسه الشرّ يصدق قال عمر بن الحارث: كنت متى شئت أجد من يعد وينجز، فقد أعياني من يعد ولا ينجز. قال: وكانوا يفعلون ولا يقولون، فقد صاروا يقولون ويفعلون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون. قال بشار: [بسيط] وعدتني ثم لم توفي بموعدتي ... فكنت كالمزن لم يمطر وقد رعدا هذا مثل قول العرب لمن يعد ولا يفي: «برق خلّب» «1» . وقال آخر: [مجزوء الرمل] قد بلوناك بحمد الل ... هـ إن أغنى البلاء فإذا جلّ مواعي ... دك والجحد سواء وقال آخر: [طويل] لها كلّ عام موعد غير ناجز ... ووقت إذا ما رأس حول تجرّما «2» فإن أوعدت شرّا أتى دون وقته ... وإن وعدت خيرا أراث وأعتما «3» وعد عبد الله بن عمر رجلا من قريش أن يزوّجه ابنته؛ فلما كان عند موته أرسل إليه فزوّجه إياها، وقال كرهت أن ألقى الله عز وجلّ بثلث اتّفاق. وقال الطائيّ: [بسيط]

تقول قول الذي ليس الوفاء له ... خلقا وتنجز إنجاز الذي حلفا وأثنى الله تبارك وتعالى على نبيّه إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم فقال: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا «1» . وقال بشّار يمدح: [متقارب] إذا قال تمّ على قوله ... ومات العناء بلا أو نعم وبعض الرجال بموعوده ... قريب وبالفعل تحت الرّجم «2» كجاري السّراب ترى لمعه ... ولست بواجده عندكم «3» وقال العبّاس بن الأحنف: [كامل] ما ضرّ من قطع الرجاء ببخله ... لو كان علّلني بوعد كاذب وقال آخر: [طويل] عسى منك خير من نعم ألف مرّة ... من آخر غال الصّدق منه غوائله وقال نصيب: [وافر] يقول فيحسن القول ابن ليلى ... ويفعل فوق أحسن ما يقول وقال زياد الأعجم» : [مجزوء الكامل] لله درّك من فتى ... لو كنت تفعل ما تقول لا خير في كذب الجوا ... د وحبّذا صدق البخيل

والعرب تضرب المثل في الخلف بعرقوب. قال ابن الكلبيّ «1» عن أبيه: كان عرقوب رجلا من العماليق؛ فأتاه أخ له فسأله شيئا؛ فقال له عرقوب: إذا أطلع نخلي «2» . فلما أطلع أتاه. قال: إذا أبلح. فلما أبلح أتاه، فقال: إذا أزهى «3» . فلما أزهى أتاه، قال: إذا أرطب «4» . فلما أرطب أتاه، قال: إذا صار تمرا. فلما صار تمرا جدّه «5» من الليل ولم يعط أخاه شيئا. قال كعب بن زهير: [بسيط] كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلّا الأباطيل وقال الأشجعيّ «6» : [طويل] وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب «7» هكذا قرأته على البصريين في كتاب سيبويه بالتاء وفتح الراء. وقال الشاعر: [طويل] متى ما أقل يوما لطالب حاجة ... نعم، أقضها قدما وذلك من شكلي وإن قلت لا، بيّنتها من مكانها ... ولم أوذه منها بجرّ ولا مطل وللبخلة الأولى أقلّ ملامة ... من الجود بدءا ثم يتبع بالبخل

وقال أبو نواس لامرأة: [بسيط] أنضيت أحرف لا ممّا لهجت بها ... فحوّلي رحلها عنها إلى نعم «1» أو حوّليها إلى «لا» فهي تعدلها ... إن كنت حاولت في ذا قلّة الكلم فستم علينا فعارضنا قياسكم ... يا من تناهى إليه غاية الكرم وفي هذا معنا لطيف. كتب رجل إلى صديق له: قد أفردتك برجائي بعد الله، وتعجّلت راحة اليأس ممن يجود بالوعد ويضنّ بالإنجاز، ويحسد أن يفضل، ويزهد أن يفضل، ويعيب الكذب ولا يصدق. وقال آخر: [وافر] وذي ثقة تبدّل حين أثرى ... ومن شيمي مراقبة الثّقات فقلت له عتبت عليّ إثما ... فرارا من مؤونات العدات فعد لمودّتي وعليّ نذر ... سألتك حاجة حتّى الممات «2» وقال آخر في أصحاب النبيذ: [طويل] مواعيدهم ربح لمن يعدونه ... بها قطعوا برد الشتاء وقاطوا «3» وقال مسلم «4» : [طويل] لسانك أحلى من جنى النحل موعدا ... وكفّك بالمعروف أضيق من قفل تمنّي الذي يأتيك حتّى إذا انتهى ... إلى أجل ناولته طرف الحبل وسأل خلف بن خليفة أبان بن الوليد أن يهب له جارية، فوعده وأبطأ

عليه؛ فكتب إليه: [طويل] أرى حاجتي عند الأمير كأنّما ... تهمّ زمانا عنده بمقام وأحصر من إذكاره إن لقيته ... وصدق الحياء ملجم بلجام «1» أراها إذا كان النهار نسيئة ... وبالليل تقضى عند كلّ منام «2» فيا ربّ أخرجها فإنك مخرج ... من الميت حيّا مفصحا بكلام فتعلم ما شكري إذا ما قضيتها ... وكيف صلاتي عندها وصيامي وإن حاجتي من بعد هذا تأخرّت ... خشيت لما بي أن أزور غلامي والعرب تقول: «أنجز حرّ ما وعد» . وقال أميّة بن أبي الصّلت لعبد الله بن جدعان: [وافر] أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء «3» وقال الطائيّ: [خفيف] وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التّقاضي وقال الزّهريّ: حقيق على من أورق بوعد، أن يثمر بفعل. وقال المغيرة: من أخرّ حاجة رجل فقد تضمّن قضاءها. وقال الشاعر: [وافر] كفاك مذّكّرا وجهي بأمري ... وحسبي أن أراك وأن تراني وكيف أحثّ من يعنى بشأني ... ويعرف حاجتي ويرى مكاني

وقال الشاعر: [مجزوء الكامل المرفّل] يا صاح قل في حاجتي ... أذكرتها فيما ذكرتا إنّ السّراح من النجا ... ح إذا شقيت بما طلبتا «1» وقال آخر: [خفيف] في تصدّيك للمطالب إذكا ... ر بوعد جرى به المقدار وكتب بعض الكتاب إلى صديق له: إن من العجب إذكار معنيّ، وحث متيقّظ، واستبطاء ذاكر، إلّا أن ذا الحاجة لا يدع أن يقول في حاجته، حلّ بذلك منها أو عقل. وكتابي تذكرة والسلام. وقال الطّرمّاح: [كامل] ألحسن منزلتي تؤخّر حاجتي ... أم ليس عندك لي بخير مطمع وقال حمزة بن بيض «2» لمخلد بن يزيد بن المهلّب: [متقارب] أتيناك في حاجة فاقضها ... وقل مرحبا يجب المرح ولا تكلنا إلى معشر ... متى يعدوا عدة يكذبوا وقال بعض المحدثين: [منسرح] حوائج الناس كلّها قضيت ... وحاجتي لا أراك تقضيها أناقة الله حاجتي عقرت ... أم نبت الحرف في نواحيها «3»

وقال جرير لعمر بن عبد العزيز: [بسيط] أأذكر الضّرّ والبلوى التي نزلت ... أم تكتفي بالذي بلّغت من خبري وقال آخر: [طويل] أروع لتسليم عليك وأغتدي ... وحسبك بالتّسليم منّي تقاضيا كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء وباليأس المصرّح ناهيا «1» وقال آخر: [كامل] ما أنت بالسّبب الضّعيف وإنما ... نجح الأمور بقوّة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك وإنّما ... يدعى الطبيب لكثرة الأوصاب «2» كتب بعض الكتّاب إلى بعض السلطان: أنا أنزّهك عن التجمّل لي بوعد يطول به المدى ويعتزله الوفاء، وأحبّ أن يتقرّر عندك أن أملي فيك أبعد من أن أختلس الأمور منك اختلاس من يرى في عاجلك عوضا من آجلك، وفي الراهن من يومك بدلا من المأمول في غدك، وألّا تكون منزلتي في نفسك منزلة من يصرف الطرف «3» عنه وتستكره النفس عليه ويتكلّف ما فوق العفو له، وأن تختار بين العذر والشكر؛ فالله يعلم أنّ آثر الحظّين عندي أحقّهما عليك، وأصوبهما لحالي عندك. وفي كتاب: ذو الحرمة ملوم على فرط الدّالّة، كما أنّ المتحرّم به مذموم على التناسي والإزالة. ومن مذهبي الوقوف بنفسي دون الغاية التي يقدّمني إليها حقّي، لأمرين: أحدهما ألّا أرضى بدون الحقّ أزيد في الحقّ.

حال المسؤول عند السؤال

والثاني أن أرى النفيس من الحظّ زهيدا إذا أتى من جهة الإرهاق. ولي ذمام المودّة الصادقة التي كلّ حرمة تبع لها، وحق الشكر الذي جعله الله وفاء بالنعم وإن جلّ قدرها؛ وأنت مراعي المعالي وحافظ بقيّة الكرم؛ فأيّ سبيل للعذر، بل أيّ موضع للإكداء بين حرمتي ورعايتك، وذمامي وكرمك!. قال أحمد بن يوسف: أوّل المعروف مستخفّ، وآخره مستثقل؛ يكاد أوّله يكون اللهوى دون الرأي، وآخره للرأي دون الهوى. ولذلك قيل: ربّ «1» الصّنيعة أشدّ من ابتدائها. قال أبو عطاء السّنديّ في يزيد بن عمر بن هبيرة: [وافر] ثلاث حكتهنّ لقرم قيس ... رجعن إليّ صفرا خائبات «2» أقام على الفرات يزيد شهرا ... فقال الناس أيّهما الفرات «3» فيا عجبا لبحر فاض يسقي ... جميع الناس لم يبلل لهاتي «4» حال المسؤول عند السؤال قال الشاعر «5» : [وافر] سألناه الجزيل فما تلكّا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا «6» مرارا ما أعود إليه إلّا ... تبسّم ضاحكا وثنى الوسادا وقال آخر: [كامل]

قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه ربّ صواهل وقيان «1» وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدّوا شعاع الشمس بالفرسان لا ينقرون الأرض عند سؤالهم ... لتلمّس العلّات بالعيدان «2» بل يبسطون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان «3» وقال آخر: [مديد] يجعل المعروف والبرّ ذخرا ... ويعدّ الحمد خير التّجاره وإذا ما جئته تجتديه ... خلته بشّرته ببشاره «4» فترى في الطّرف منه حياء ... وترى في الوجه منه استناره وقال آخر: [سريع] إذا غدا المهديّ في جنده ... أو راح في آل الرسول الغضاب بدا لك المعروف في وجهه ... كالضوء يجري في ثنايا الكعاب «5» وأنشدني العتبيّ: [طويل] له في ذرى المعروف نعمى كأنها ... مواقع ماء المزن في البلد القفر إذا ما أتاه السائلون توقّدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشر والمشهور في هذا قول زهير: [كامل] تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله

وسأل رجل من الأعراب» رجلا فلم يعطه شيئا؛ فقال: [طويل] كدحت بأظفاري وأعملت معولي ... فصادفت جلمودا من الصّخر أملسا تشاغل لما جئت في وجه حاجتي ... وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى وأجمعت أن أنعاه حين رأيته ... يفوق فواق الموت ثم تنفّسا فقلت له لا بأس، لست بعائذ ... فأفرخ تعلوه الكآبة مبلسا «2» وقال مسلم: [منسرح] أطرق لما أتيت ممتدحا ... فلم يقل لا فضلا على نعم فخفت إن مات أن أقاد به ... فقمت أبغى النّجاء من أمم «3» لو أنّ كنز البلاد في يده ... لم يدع الإعتدلال بالعدم «4» وقال الحارث الكنديّ: [وافر] فلما أن أتيناه وقلنا ... بحاجتنا تلوّن لون ورس «5» وآض بكفّه يحتكّ ضرسا ... يرينا أنّه وجع بضرس «6» فقلت لصاحبي أبه كزاز ... وقلت أسرّه أتراه يمسي «7» وقمنا هاربين معا جميعا ... نحاذر أن مزنّ بقتل نفس «8» قال الأصمعيّ: دخل أعرابيّ على المساور الضّبّيّ وهو بندار الرّيّ «9» ، فسأله فلم يعطه

شيئا، فأنشأ يقول: أتيت المساور في حاجة ... فما زال يسعل حتى ضرط وحكّ قفاه بكر سوعه ... ومسّح عثنونه وامتخط «1» فأمسكت عن حاجتي خيفة ... لأخرى تقطّع شرج السّفط «2» فأقسم لو عدت في حاجتي ... للطّخ بالسّلح وشي النّمط «3» وقال غلطنا حساب الخراج ... فقلت من الضّرط جاء الغلط قال: فكان العامل كلّما ركب صاح به الصّبيان: «من الضرط جاء الغلط فهرب من غير عزل إلى بلاد أصبهان. وقال نهار بن توسعة «4» في قتيبة بن مسلم: [بسيط] كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكلّ باب من الخيرات مفتوح فبدّلت بعده قردا نطيف به ... كأنّما وجهه بالخلّ منضوح «5» وقال جرير: [طويل] يزيد يغضّ الطّرف دوني كأنّما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم «6» فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم وقال آخر: [منسرح] لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر

العادة من المعروف تقطع

حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن الأبج عن التتّيّ قال قال محمد بن واسع: إنك لتعرف فجور الفاجر في وجهه. قال أبو العتاهية: [متقارب] مالي أرى النّاس قد أبرقوا ... بلؤم الفعال وقد أرعدوا «1» إذا جئت أفضلهم للسلا ... م ردّ وأحشاؤه ترعد كأنّك، من خشية للسّؤا ... ل، في عينه الحيّة الأسود وقال آخر: [وافر] إذا ما الرّزق أحجم عن كريم ... فألجأه الزمان إلى زياد «2» تلقّاه بوجه مكفهرّ ... كأنّ عليه أرزاق العباد وقال آخر: [منسرح] ولي خليل ما مسّني عدم ... مذ نظرت عينه إلى عدمي بشّرني بالغنى تهلّله ... وقبل هذا تهلّل الخدم ومحنة الزائرين بيّنة ... تعرف قبل اللقاء في الحشم العادة من المعروف تقطع كان يقال: انتزاع العادة ذنب محسوب. وقال أبو الأسود الدّؤلي: [مديد] ليت شعري عن أميري ما الذي ... غاله في الودّ حتى ودّعه «3» لا تهنّي بعد إذ أكرمتني ... وشديد عادة منتزعه

اذكر البلوى التي أبليتني ... وكلاما قلته في المجمعه «1» لا يكن برقك برقا خلّبا ... إنّ خير البرق ما الغيث معه والمشهور في هذا قول الأعشى: [كامل] عوّدت كندة عادة فاصبر لها ... واغفر لجاهلها وروّ سجالها «2» سأل أعرابيّ قوما، فرقّ له رجل منهم فضمّه إليه وأجرى له رزقا أياما ثم قطع عنه؛ فقال الأعرابيّ: [طويل] تسرّى فلمّا حاسب المرء نفسه ... رأى أنّه لا يستقيم له السّرو «3» وقدم أبو زياد الكلابيّ مع أعراب سنة القحمة «4» ، فأجرى عليهم رجل رغيفا لكل رجل ثم قطعه؛ فقال أبو زياد: [طويل] إن يقطع العبّاس عنّا رغيفه ... فما يأتيني من نعمة أكثر «5» والحكماء تقول: «العادة طبيعة ثانية» . وفي الحديث: «الخير عادة والشّرّ لجاجة» «6» . وقال بعض الشعراء لرجل من الأشراف: [كامل] ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحدا سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتك التي عوّدتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب وتقول العرب فيمن اصطنع معروفا ثم أفسده بالمنّ أو قطعه حين كاد

الشكر والثناء

يتمّ: «شوى أخوك حتى إذا أنضج رمّد» «1» . قال أبو كعب القاصّ: كان رجل يجري عليّ رغيفا في كلّ يوم، وكان يقول إذا أتاه الرغيف: لعنك الله ولعن من بعث بك، ولعنني إن تركتك حتى أصيب خيرا منك. والعرب تقول في مثل هذا: «خذ من الرّضفة ما عليها» «2» . وقال الشاعر: [كامل] وخذ القليل من اللئيم وذمّه ... إنّ اللئيم بما أتى معذور ومعذور: موسوم في موضع العذار، وليس هو من العذر. الشكر والثناء حدّثني شيخ لنا عن وكيع عن سفيان عن منصور عن هلال بن أساف «3» قال قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا صلّى أحدكم فليدن عليه من ستر بيته فإنّ الله عزّ وجلّ يقسم الثناء كما يقسم الرزق» . وحدّثني أيضا عن وكيع عن سعيد عن أبي عمران الجوني عن عبد الله ابن الصّامت قال قال أبو ذرّ: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: الرجل يعمل العمل ويحبّه الناس؟ قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند الله فانظروا ماذا يتبعه من الثّناء» .

حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: كان يقال: الثناء يضاعف كما تضاعف الحسنات؛ يكون الرجل سخيّا فيزيد الله في سخائه، ويكون شجاعا فيزيد الله في شجاعته. وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن العمريّ قال: قال رجل لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه: إنّ فلانا رجل صدق؛ قال: سافرت معه؟ قال لا. قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا. قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا. قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!. قال بعض الحكماء: إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر. وقال آخر: حقّ النّعمة أن تحسن لباسها، وتنسبها إلى وليّها، وتذكر ما تناسى عندك منها. وقال بعض الحارثيين: [بسيط] عثمان يعلم أنّ الحمد ذو ثمن ... لكنّه يشتهي حمدا بمجّان «1» والناس أكيس من أن يحمدوا أحدا ... حتى يروا قبله آثار إحسان وقال حمّاد عجرد: [بسيط] قد ينقضي كلّ ما أوليت من حسن ... إذا أتى دون ما أوليت يومان تنأى بودّك ما استغنيت عن أحد ... وإن طمعت فأنت الواصل الدّاني الشّهد أنت إذا ما حاجة عرضت ... وحنظل كلّما استغنيت خطبان «2»

وقال عمران بن حطّان «1» : [طويل] وقد عرضت لي حاجة وأظنّني ... بأنّي إذا أنزلتها بك منجح فإن أك في أخذ العطيّة مربحا ... فإنك في بذل العطيّة أربح لأنّ لك العقبى من الأجر خالصا ... وشكري في الدنيا، فحظّك أرجح وقال معاوية بن أبي سفيان يعاتب قريشا: [طويل] إذا أنا أعطيت القليل شكوتم ... وإن أنا أعطيت الكثير فلا شكر وما لمت نفسي في قضاء حقوقكم ... وقد كان لي فيما اعتذرت به عذر وأمنحكم ما لي وتكفر نعمتي ... وتشتم عرضي في مجالسها فهر «2» إذا العذر لم يقبل ولم ينفع الأسى ... وضاقت قلوب منهم حشوها الغمر «3» فيكف أداوي داءكم ... يزيدكم غيّا! فقد عظم الأمر سأحرمكم حتى يذلّ صعابكم، ... وأبلغ شيء في صلاحكم الفقر وقال طريح الثّقفيّ» : [طويل] سعيت ابتغاء الشكر فيما صنعت بي ... فقصّرت مغلوبا وإنّي لشاكر ومثله قول الخريميّ «5» : [طويل] لأنك تعطيني الجزيل بداهة ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر

ومثله قوله أيضا: [رمل] زاد معروفك عظما ... أنّه عندك محقور صغير تتناسه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير قال رجل لبعض السلطان: المواجهة بالشكر ضرب من الملق «1» ، منسوب من عرف بها إلى التخلّق «2» ؛ وأنت تمنعني من ذلك وترفع الحال بيننا عنه، ولذلك تركت لقاءك به. غير أنّي من الاعتراف بمعروفك ونشر ما تطوي منه والإشادة بذكره عند إخوانك والانتساب إلى التقصير مع الإطناب في وصفه، على ما أرجو أن أكون قد بلغت به حال المحتمل للصّنيعة، الناهض بحقّ النعمة. قال ابن عنقاء الفزاريّ «3» : [طويل] رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ما له حالي أسرّ كما جهر دعاني فآساني ولو صدّ لم ألم ... على حين لا بدو يرجّى ولا حضر فقلت له خيرا وأثنيت فعله ... وأوفاك ما أسديت من ذمّ أو شكر «4» وقال آخر «5» : [طويل] سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذ النعل زلّت رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلّت «6»

وقرأت في كتاب للهند: أربعة ليست لأعمالهم ثمرة: مسارّ الأصمّ، والباذر في السّبخة «1» ، والمسرج في الشمس، وواضع المعروف عند من لا شكر له. وقال بعض الشعراء المحدثين، وقيل: إنه للبحتريّ. فبعثت إليه أسأله عنه فأعلمني أنه ليس له: [متقارب] فلو كان للشكر شخص يبين ... إذا ما تأمّله النّاظر لبيّنته لك حتّى تراه ... فتعلم أنّي امرؤ شاكر ولكنه ساكن في الضمير ... يحرّكه الكلم السائر وقال آخر: [طويل] فلو كان يستغني عن الشّكر سيّد ... لعزّة ملك أو علوّ مكان لما أمر الله الجليل بشكره ... فقال اشكروني أيّها الثّقلان «2» وقال آخر: [طويل] فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بإحساننا إنّ الثناء هو الخلد وقال رجل من غنيّ «3» : [كامل] فإذا بلغتم أهلكم فتحدّثوا ... ومن الثناء مهالك وخلود وكانت عائشة رضي الله عنها تتمثّل بقول الشاعر: يجزيك أو يثني عليك وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جرى وقال الحارث بن شدّاد في عليّ بن الربيع الحارثيّ: [بسيط]

النّاس تحتك أقدام وأنت لهم ... رأس وكيف يسوّى الرأس والقدم فحسبنا من ثناء المادحين إذا ... أثنوا عليك بأن يثنوا بما علموا «1» وقال آخر: [وافر] بأيّ الخصلتين عليك أثني ... فإنّي عند منصرفي مسول «2» أبى الحسنى وليس لها ضياء ... عليّ فمن يصدّق ما أقول أم الأخرى ولست لها بأهل ... وأنت البحر من ذهب يسيل وقال بشّار: [بسيط] أثني عليك ولي حال تكذّبني ... فيما أقول فأستحيي من الناس قد قلت إنّ أبا حفص لأكرم من ... يمشي فخاصمني في ذاك إفلاسي وكتب بعض الكتّاب إلى وزير: لست تشبه حالنا في الحرمة، ولا نشبه حالك في الجاه والقدرة، ولا ظاهر ما نحن عليه الباطن. وليس بعد حرمتي حرمة، ولا فوق سببي سبب، ولا بعد حالك حال يرتجى، ولا بعد منزلتك منزلة تتمنّى، ولا تنتظر شيئا ولا أنتظره؛ ولا أتوقّع حقّا أزيده في حقوقي، ولا تتوقّع فائدة تزيدها في ذات يدك. وكم تحتال بالألفاظ، وتموّه «3» بالمعاني، والناس يحتجّون بالعمل ويقضون بالعيان. وقال بعض الشعراء: [طويل] وزهّدني في كلّ خير صنعته ... إلى الناس ما جرّبت من قلّة الشكر وقال أبو الهول في أبي المراء عتبة بن عاصم: [طويل]

إذا فاخرتنا من معدّ عصابة ... فخرنا عليها بابن عتبة عاصم «1» يجرّ رياط الحمد في دار قومه ... ويختال في عرض من الذمّ سالم «2» وقال رجل لبعض السلطان: مثلك اوجب حقّا لا يجب عليه، وسمح بحقّ يجب له، وقبل واضح العذر، واستكثر قليل الشكر. لا زالت أياديك فوق شكر أوليائك، ونعمة الله عليك فوق آمالهم فيك. وكتب آخر: ما أنتهي إلى غاية من شكرك، إلا وجدت وراءها غاية من معروفك يحسروني «3» بلوغها. وما عجز الناس عنه فالله من ورائه. فلا زالت أيامك ممدودة بين أمل لك تبلغه، وأمل فيك تحقّقه، حتى تتملّى من الأعمار أطولها، وتنال من الهبات أفضلها. ونحو هذا قول آخر: كان لي فيك أملان: أحدهما لك، والآخر بك. فأمّا الأمل لك فقد بلغته، وأمّا الأمل بك فأرجو أن يحقّقه الله ويوشكه. وفي كتاب آخر: أيّام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليل، والمعروف وإن أسدي إلى من يكفره مشكور بلسان غيره. وفي كتاب بعض الكتّاب: وما ذكرت- أعزّك الله- من ذلك قديما ولا جدّدت منه حديثا، إلّا

وأصغر أملي فيك فوقه وإن كان استحقاقي دونه. فإن أقض واجب حقّ الله علىّ في شكر نعمك فبتوفقه وعونه، وإن أقصّر عن كنهه فعن غير تقصير في بلوغ الجهد فيه. وفي هذا الكتاب: أمّا ما بذل الأمير من ماله، فذلك ما قد سبق الرجاء بل اليقين إليه، معرفة منّي بطوله وكرمه، وليس ينكر أياديه ولا بدع صنائعه. وما يرشدني أملي بعد الله إلّا إليه، ولا أفزع «1» لحادثة إلى غيره، ولا أتضاءل لنائبة معه. ولو عجزت عن النّهضة لما حاولت الإستقلال والانتعاش إلّا به. ومال الأمير الكثير المذخور عند انقطاع الحيل، لا معنّف طالبه، ولا مخوّف على الردّ عنه واهبه، ولا عائق منع دونه، ولا تنغيص من ورائه؛ ولا كنز أولى بالصون وأن يجعل وقفا على النوائب والعواقب من كنز من هذه حاله. قالت بنو تميم لسلامة بن جندل «2» : مجّدنا بشعرك؛ فقال: افعلوا حتّى أثني. ونحوه قول عمرو بن معد يكرب «3» : [طويل] فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكنّ الرّماح أجرّت «4» قال رجل من قريش لأشعب: والله ما شكرت معروفي عندك؛ فقال: إنّ معروفك كان من غير محتسب، فوقع عند غير شاكر.

وقال أبو نواس: [كامل] أنت امرؤ أوليتني نعما ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا «1» فإليك بعد اليوم تقدمة ... والتك بالتصريح منكشفا «2» لا تحدثنّ إليّ عارفة ... حتّى أقوم بشكر ما سلفا «3» وقال أبو نخيلة «4» : [طويل] شكرتك إنّ الشكر حبل من التّقى ... وما كلّ من أقرضته نعمة يقضى فأحييت من ذكري وما كان ميّتا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض آخر: [طويل] لأشكرنّك معروفا هممت به ... إنّ اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف وقال رجل لسعيد بن جبير: المجوسيّ يوليني خيرا فأشكره، ويسلّم عليّ فأردّ عليه؛ فقال سعيد: سألت ابن عبّاس عن نحو هذا، فقال لي: لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه مثله. أنشد ابن الأعرابيّ: [رمل] أهلكتني بفلان ثقتي ... وظنون بفلان حسنه ليس يستوجب شكرا رجل ... نلت خيرا منه من بعد سنه

وقال بعضهم: لا تثق بشكر من تعطيه حتى تمنعه؛ فإنّ الصابر هو الشاكر، والجازع هو الكافر «1» . وقال أوس بن حجر «2» : [طويل] سأجزيك أو يجزيك عنّي مثوّب ... وقصدك أن يثنى عليك وتحمدي والعرب تقول: فلان أشكر من البروق وهو نبت ضعيف ينبت بالسحاب إذا نشأ وبأدنى مطر. وقال الشاعر: [طويل] لئن طبت نفسا عن ثنائي فإنّني ... لأطيب نفسا عن نذاك على عسري فلست إلى جدواك أعظم حاجة ... على شدّة الإعسار منك إلى شكري «3» وقال آخر: [كامل] حسب امرىء إن فاتني غرض ... من برّه أن فاته شكري إنّي إذا ضاق امرؤ بجدا ... عنّي اتّسعت عليه بالعذر «4» وقال الطائيّ لإسحاق بن إبراهيم: [كامل] ومحجّب حاولته فوجدته ... نجما عن الركب العفاة شسوعا «5» أعدمته لمّا عدمت نواله ... شكري فرحنا معدمين جميعا

وقال: [طويل] فإن يك أربى عفو شكري على ندى ... أناس فقد أربى نداه على جهدي «1» وقال: وكيف يجور عن قصد لساني ... وقلبي رائح برضاك غادي وممّا كانت العلماء قالت ... لسان المرء من خدم الفؤاد وقال: أبا سعيد وما وصفي بمتّهم ... على الثّناء وما شكري بمخترم «2» لئن جحدتك ما أوليت من نعم ... إنّي لفي الشّكر أحظى منك في النّعم» أنسى ابتسامك والألوان كاسفة ... تبسّم الصّبح في داج من الظّلم «4» رددت رونق وجهي في صفيحته ... ردّ الصّقال بهاء الصّارم الخذم «5» وما أبالي، وخير القول أصدقه، ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي وقال: [وافر] فلا تكدر حياضك لي فأني ... أمتّ إليك آمالا طوالا «6» وفرجاهي عليّ فإنّ جاهي ... إذا ما غبّ يوم كان مالا «7» وقال: [بسيط] يا منّة لك لولا أخفّفها ... به من الشكر لم تحمل ولم تطق

بالله أدفع عنّي ثقل فادحها ... فإنني خائف منه على عنقي «1» وقال بشار في عمر بن العلاء: [متقارب] دعاني إلى عمر جوده ... وقول العشيرة بحر خضمّ ولولا الذي زعموا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شمّ ويقال: الشكر ثلاث منازل: لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإفضال عليه. قال إبراهيم بن المهديّ «2» يشكر المأمون: [بسيط] رددت ما لي ولم تمنن عليّ به ... وقبل ردّك ما لي قد حقنت دمي فأبت منك وقد جلّلتني نعما ... هي الحياتان من موت ومن عدم فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسلّ النعل من قدمي ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم «3» وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم وقال آخر، وبلغني أنه الخثعميّ «4» : [خفيف] فاذهبا بي إن لم يكن لكما عق ... ر إلى جنب قبره فاعقراني «5» وانضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان «6»

وفد رجل على سليمان بن عبد الملك في خلافته؛ فقال له: ما أقدمك؟ قال: ما أقدمني عليك رغبة؛ قال: وكيف ذاك؟ قال: أما الرّغبة فقد وصلت إلينا وفاضت في رحالنا وتناولها الأقصى والأدنى منّا، وأما الرّهبة فقد أمنّا بعدل أمير المؤمنين علينا وحسن سيرته فينا من الظلم، فنحن وفد الشكر. وقال الفرزدق في عمرو بن عتبة: [بسيط] لولا ابن عتبة عمرو والرّجاء له ... ما كانت البصرة الحمقاء لي وطنا أعطاني المال حتى قلت يودعني ... أو قلت أودع لي مالا رآه لنا فجوده متعب شكري ومنّته ... وكلّما زدت شكرا زادني مننا يرمي بهمّته أقصى مسافتها ... ولا يريد على معروفه ثمنا هذا مثل قول الأعرابيّ: ما زال فلان يعطيني حتى ظننت أنه يودعني ماله. وما ضاع مال أورث المحامد. ويقال: خمسة أشياء ضائعة: سراج يوقد في شمس، ومطر جود في سبخة «1» ، وحسناء تزفّ إلى عنّين «2» ، وطعام استجيد وقدّم إلى سكران، ومعروف صنع إلى من لا شكر له. وكان يقال: الشكر زيادة في النّعم وأمان من الغير. وقال أسماء بن خارجة «3» : إذا قدمت المصيبة تركت التّعزية، وإذا قدم الإخاء قبح الثناء. بعث روح بن حاتم «4» إلى كاتب له بثلاثين ألف درهم، وكتب إليه: قد

بعثت بها إليك، ولا أقلّلها تكبّرا، ولا أكثّرها تمنّنا، ولا أستثيبك عليها ثناء، ولا أقطع عنك بها رجاء. وفي كتاب للهند: لا ثناء مع كبر. وفيه: ستّة أشياء لا ثبات لها: ظلّ الغمام، وخلّة الأشرار، وعشق النساء، والمال الكثير، والسّلطان الجائر، والثناء الكاذب. والعرب تقول: «لا تهرف قبل أن تعرف» أي لا تطنبنّ في الثّناء قبل الاختبار. وكتب أبو نواس من الحبس إلى الفضل بن الربيع: [كامل] ما من يد في الناس واحدة ... كيد أبو العباس مولاها نام الثّقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله فعفوت عنّي عفو مقتدر ... وجبت له نقم فألغاها والبيت المشهور في هذا قول النّجاشيّ «1» : [بسيط] لا تحمدنّ امرأ حتى تجرّبه ... ولا تذمّنّ من لم يبله الخبر «2» وقال آخر في الاختبار: [كامل] إنّ الرجال إذا اختبرت طباعهم ... ألفيتهم شتّى على الأخبار لا تعجلنّ إلى شريعة مورد ... حتى تبيّن خطّة الإصدار «3» وقال الرّياشيّ: أنشدني أبو العالية «4» : [طويل]

إذا أنا لم أشكر على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما «1» ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما قال ابن التّوءم: كلّ من كان، جوده يرجع إليه؛ ولولا رجوعه إليه لما جاد عليك، ولو تهيّأ له ذلك المعنى في سواك لما قصد إليك، فليس يجب له عليك شكر. وإنما يوصف بالجود في الحقيقة ويشكر على النفع في حجّة العقل، الذي إن جاد عليك فلك جاد، ونفعك أراد، من غير أن يرجع إليه جوده بشيء من المنافع على جهة من الجهات، وهو الله وحده لا شريك له. فإن شكرنا الناس على بعض ما جرى لنا على أيديهم، فلأمرين: أحدهما التعبّد؛ وقد أمر الله تعالى بتعظيم الوالدين وإن كانا شيطانين وتعظيم من هو أسنّ منّا وإن كنّا أفضل منه. والآخر: لأن النفس ما لا تحصّل الأمور وتميّز المعاني، فالسابق إليها حبّ من جرى لها على يديه الخير وإن كان لم يردها ولم يقصد إليها. ألا ترى أنّ عطيّة الرجل صاحبه لا تخلو أن تكون لله أو لغير الله؛ فإن كانت لله فثوابه على الله؛ وكيف يجب في حجّة العقل شكره وهو لو صادف ابن سبيل غيري لما أعطاني؛ وإما أن يكون إعطاؤه إياي للذكر؛ فإن كان كذلك فإنما جعلني سلّما إلى حاجته وسببا إلى بغيته؛ أو يكون إعطاؤه إياي طلبا للمكافأة؛ فإنما ذلك تجارة؛ أو يكون إعطاؤه لخوف يدي أو لساني أو اجترار معونتي ونصرتي، وسبيل هذا معروف؛ أو يكون إعطاؤه للرحمة والرّقة ولما يجد في فؤاده من العصر «2» والألم، فإنّما داوى بتلك العطيّة من دائه ورفّه من خناقه «3» .

وكان محمد بن الجهم يقول: نحو هذا قول الشاعر: [متقارب] لعمرك ما النّاس أثنوا عليك ... ولا عظّموك ولا عظّموا ولا شايعوك على ما بلغ ... ت من الصالحات ولا قدّموا ولو وجدوا لهم مطعنا ... إلى أن يعيبوك ما جمجموا «1» ولكن صبرت لما ألزموك ... وجدت بما لم يكن يلزم وكان قراك إذا ما لقوك ... لسانا بما سرّهم ينعم «2» وخفض الجناح ووشك النجاح ... وتصغير ما عظّم المنعم «3» فأنت بفضلك ألجاتهم ... إلى أن يجلّوا وأن ينعموا وقال خلف بن خليفة الأقطع «4» : [طويل] وفي اليأس من أن تسأل الناس راحة ... تميت بها عسرا وتحيي بها يسرا وليس يد أوليتها بغنيمة ... إذا كنت تبغي أن يعدّ شكرا غنى النفس يكفي النفس ما سدّ فاقة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا قال ابن عائشة: بلغني أنّ عبد الرحمن بن حسّان سأل بعض الولاة حاجة فلم يقضيها له، فسألها آخر فقضاها له؛ فقال: [طويل] ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولّى سواكم أجرها واصطناعها

أبى لك كسب الحمد رأيّ مقصّر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها «1» إذا هي حثّته على الخير مرّة ... عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها وقال ابن عائشة: قال رجل يوما لابن عيينة: ما شيء تحدثونه يا أبا محمد؟ قال: ما هو؟ قال: يقولون إن الله تعالى يقول: أيّما عبد كانت له إليّ حاجة فشغله الثناء عليّ عن سؤال حاجته، أعطيته فوق أمنيّته؛ فقال له: يابن أخي، وما تنكر من هذا! أما سمعت قول أميّة بن أبي الصّلت في عبد الله بن جدعان: [وافر] إذا أثنى عليه المرء يوما ... كافه من تعرّضه الثناء فكيف بأكرم الأكرمين!. وكان يقال: في طلب الرجل الحاجة إلى أخيه فتنة: إن هو أعطاه حمد غير الذي أعطاه، وإن منعه ذمّ غير الذي منعه. حدّثنا الرّياشيّ قال: أنشدنا كيسان لدكين الراجز «2» : [طويل] إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل «3» إذا المرء لم يصرع عن اللؤم نفسه ... فليس إلى حسن الثناء سبيل «4» وكان يقال: أوّل منازل الحمد السلامة من الذمّ.

الترغيب في قضاء الحاجة واصطناع المعروف

قال عروة بن أذينة اللّيثيّ «1» : [منسرح] لا تتركن، إن صنيعة سلفت ... منك وإن كنت لا تصغّرها إلى امرىء، إن تقول إن ذكرت ... عندك في الجدّ لست أذكرها فإنّ إحياءها إماتتها ... وإنّ منّا بها يكدّرها وإن تولّى امرؤ بشكر يد ... فالله يجزي بها ويشكرها ويقال: أحيوا المعروف بإماتته. أبو سفيان الحميريّ قال: كان مسعدة الكاتب أبو عمرو بن مسعدة مولى لخالد القسريّ، وكان في ديوان الرسائل بواسط، وكان موجزا في كتبه، فكتب إلى صديق له: أما بعد، فإنه لن يعدمك من معروفك عندنا أمران: أجر من الله وشكر منّا. وخير مواضع المعروف ما جمع الأجر والشكر. والسلام. وكتب بعض الكتّاب إلى بعض العمّال: وما أتأمّل في وقت من الأوقات ولا يوم من الأيّام آثار أياديك لديّ، ومواقع معروفك عندي، إلّا نبّهني التأمّل على ما يحسر «2» الشكر ويثقل الظهر، لأنك أنعشت من عثرة، وأنهضت من سقطة، وتلافيت نعمة كانت على شفا زوال ودروس» ، وتلقّيت ما ألقيت عليك من الكلّ بوجه طليق وباع رحيب. والسلام. الترغيب في قضاء الحاجة واصطناع المعروف حدّثني محمد بن عبيد قال حدّثنا داود بن المحبّر عن محمد بن الحسن الهمداني عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليّ بن أبي

طالب رضوان الله عليه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك معونة أخيه المسلم والسّعي معه في حاجته قضيت أو لم تقض كلّف أن يسعى في حاجة من لا يؤجر في حاجته. ومن ترك الحجّ لحاجة عرضت له لم تقض حاجته حتى يرى رءوس المحلّقين» . حدّثني محمد بن عبيد قال حدّثنا ابن عيينة عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه عن جدّه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشفعوا «1» إليّ ويقضي الله على لسان نبيّكم ما شاء» . بلغني عن جعفر بن أبي جعفر المازنيّ عن ابن أبي السّريّ عن إبراهيم بن أدهم عن منصور بن المعتمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحببت أن يحبّك الله فازهد في الدنيا وإن أحببت أن يحبّك الناس فلا يقع في يدك من حطامها شيء إلا نبذته إليهم» «2» . حدّثني محمد بن داود عن محمد بن جابر قال: قال ابن عيينة: ليس أقول لكم إلّا ما سمعت: قيل لابن المنكدر: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن. وقيل: أيّ الدنيا أحبّ إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان. حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا زرير العطارديّ قال: صلّى بنا أبو رجاء العطارديّ العتمة ثم أوى إلى فراشه، فأتته امرأة فقالت: أبا

رجاء، إنّ لطارق الليل حقّا، وإنّ بني فلان خرجوا إلى سفوان «1» وتركوا كتبهم وشيئا من متاعهم؛ فانتعل أبو رجاء وأخذ الكتب وأدّاها وصلّى بنا الفجر، وهو مسيرة ليلة للإبل، والناس يقولون: إنها أربعة فراسخ. حدّثني أحمد بن الخليل عن محمد بن سعيد قال حدّثنا ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال: لأن أقضي حاجة لأخ أحبّ إليّ من أن أعتكف سنة. قال ابن عائشة: كان عمرو بن معاوية العقيليّ يقول: اللهم بلّغني عثرات الكرام. قال المأمون لمحمد بن عبّاد المهلّبيّ: أنت متلاف؛ فقال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود سوء ظنّ بالله، يقول الله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «2» . وكان ابن عبّاس يقول: صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متّكأ. هذا نحو قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «المعروف يقي مصارع السّوء» . وكان ابن عبّاس يقول أيضا: ما رأيت رجلا أوليته معروفا إلّا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت رجلا أوليته سوءا إلّا أظلم ما بيني وبينه. قال جعفر بن محمد: إنّ الحاجة تعرض للرجل قبلي فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها أو تأتيه وقد استبطأها فلا يكون لها عنده موقع. وقال الشاعر: [طويل] وبادر بسلطان إذا كنت قادرا ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب «3»

وقال آخر في مثله: [متقارب] بدا حين أثرى بإخوانه ... ففكّك عنهم شباة العدم «1» وذكّره الحزم غبّ الأمور ... فبادر قبل انتقال النّعم «2» وقرأت في كتاب للهند: من صنع المعروف لعاجل الجزاء، فهو كملقي الحبّ ليصيد به الطير لا لينفعه. قال ابن عباس: ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسّع لي في المجلس، ورجل اغبرّت قدماه في المشي إليّ إرادة التسليم عليّ؛ فأما الرابع فلا يكافئه عنّي إلا الله جلّ وعزّ؛ قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكّر بمن ينزله، ثم رآني أهلا لحاجته فأنزلها بي. وقال سلّم بن قتيبة: ربّ المعروف أشدّ من ابتدائه «3» . ويقال: الابتداء بالمعروف نافلة، وربّه فريضة. قيل لبزرجمهر: هل يستطيع أحد أن يفعل المعروف من غير أن يرزأ «4» شيئا؟ قال: نعم، من أحببت له الخير وبذلت له الودّ، فقد أصاب نصيبا من معروفك. قال جعفر بن محمد: ما توسّل إليّ أحد بوسيلة هي أقرب به إلى ما يحبّ من يد سلفت منّي إليه، أتبعتها أختها لأحسن ربّها وحفظها؛ لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.

قال رجل من مجلس خالد بن عبد الله القسريّ؛ فقال خالد: إني لأبغض هذا الرجل وما له إليّ ذنب، فقال رجل من القوم: أوله أيّها الأمير معروفا ففعل، فما لبث أن خفّ على قلبه وصار أحد جلسائه. قال ابن عباس: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث: تعجيله وتصغيره وستره، فإنه إذا عجّله هنّأه، وإذا صغّره عظّمه وإذا ستره تمّمه. وقال الخريميّ في نحو هذا: [رمل] زاد معروفك عندي عظما ... أنّه عندك محقور صغير تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير وقال الطائيّ: [كامل] جود مشيت به الضّراء تواضعا ... وعظمت عن ذكراه وهو عظيم «1» أخفيته فخفيته وطويته ... فنشرته والشخص منه عميم «2» وكان يقال: ستر رجل ما أولى، ونشر رجل ما أولي. وقال رجل لبنيه: إذا اتخذتم عند رجل يدا فانسوها. وقالوا: المنّة تهدم الصنيعة. قال الشاعر: [بسيط] أفسدت بالمنّ ما أسديت من حسن ... ليس الكريم إذا أسدى بمنّان قال رجل لابن شبرمة (3) : فعلت بفلان كذا وفعلت به كذا؛ فقال: لا خير في المعروف إذا أحصي. وفي بعض الحديث: كلّ معروف صدقة وما أنفق الرجل على أهله ونفسه وولده صدقة وما وقى «3» المرء به عرضه فهو صدقة وكلّ نفقة «4» أنفقها فعلى

الله خلفها مثلها إلا في معصية أو بنيان. وفي الحديث المرفوع «فضل جاهك تعود به على أخيك صدقة منك عليه ولسانك تعبّر به عن أخيك صدقة منك عليه وإماطتك «1» الأذى عن الطريق صدقة منك على أهله. وكان يقال: بذل الجاه زكاة الشرف. وقال بعض الشعراء: [طويل] وليس فتى الفتيان من راح واغتدى ... لشرب صبوح أو لشرب غبوق «2» ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوّ أو لنفع صديق قال ابن عباس: لا يزهّدنّك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه. وقال حمّاد عجرد: [بسيط] إنّ الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنيّا وهو مجهود «3» إذا تكرّمت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود أورق بخير ترجي للنوال فما ... ترجى الثّمار إذا لم يورق العود «4» بثّ النوال ولا تمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود «5» والعرب تقول: من حقر حرم. حدّثني عبد الرحمن عن عمه قال: قال سلّم بن قتيبة «6» : أحدهم يحقر

الشيء فيأتي ما هو شرّ منه، يعني المنع. وقال الشاعر: [بسيط] وما أبالي إذا ضيف تضيّفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي جهد المقلّ إذا أعطاك مصطبرا ... ومكثر من غنى سيّان في الجود وفي الحديث المرفوع «أفضل الصّدقة جهد المقلّ» . وقال البريق الهذليّ «1» : [متقارب] أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه وكان خالد بن عبد الله يقول على المنبر: أيها الناس عليكم بالمعروف، فإنّ فاعل المعروف لا يعدم جوازيه «2» ، وما ضعف الناس عن أدائه قوي الله على جوازيه، والبيت المشهور في هذا قول الحطيئة: [بسيط] من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس «3» ويقال: إنه في بعض كتب الله عزّ وجلّ. قال وهب بن منبّه: إن أحسن الناس عيشا من حسن عيش الناس في عيشه، وإنّ من ألّذ اللّذّة الإفضال على الإخوان وفي الحديث المرفوع «إنّما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت «4» وما سوى ذلك فهو ملك الوارث» . وقال بشار: [رمل] أنفق المال ولا تشق به ... خير ديناريك دينار نفق «5»

قال بزرجمهر: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنها لا تبقى. أخذه بعض المحدثين فقال: فأنفق إذا أنفقت إن كنت موسرا ... وأنفق على ما خيّلت حين تعسر «1» فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر وفي كتاب كليلة: لا يعدّ عائشا من لا يشارك في غناه. مرّ الحسن برجل يقلّب درهما؛ فقال له: أتحبّ درهمك هذا؟ قال: نعم، قال: أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك. قال الربيع بن خيثم لأخ له: كن وصيّ نفسك ولا تجعل أوصياءك الرجال. وقال بعض الشعراء: [متقارب] سأحبس مالي على حاجتي ... وأوثر نفسي على الوارث أعاذل عاجل ما أشتهي ... أحبّ من المبطيء الرّائث «2» قال عبيد الله بن عكراش: زمن خؤون «3» ، ووارث شفون «4» ؛ فلا تأمن الخؤون وكن وارث الشّفون. وقال أبو ذرّ: لك في مالك شريكان إذا جاءا أخذا ولم يؤامراك: الحدثان «5» والقدر، كلاهما يمرّ على الغثّ والسمين، والورثة ينتظرون متى

تموت فيأخذون ما تحت يديك وأنت لم تقدّم لنفسك؛ فإن استطعت ألّا تكون أخسّ الثلاثة نصيبا فافعل. وقال سعيد بن العاص في خطبة له: من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به فإنه إنما يترك لأحد رجلين: إمّا مصلح فلا يقلّ عليه شيء، وإمّا مفسد فلا يبقي له شيء. فقال معاوية: جمع أبو عثمان طرفي الكلام. وقال حطائط بن يعفر: [طويل] ذريني أكن للمال ربّا ولا يكن ... لي المال ربّا تحمدي غبّه غدا «1» أريني جوادا مات هزلا لعلّتي ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا وقلت ولم أعي الجواب تبيّني ... أكان الهزال حتف زيد وأربدا «2» قال أعرابيّ: الدراهم ميسم تسم حمدا أو ذمّا؛ فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له، وما كلّ من أعطي مالا أعطي حمدا، ولا كلّ عديم ذميم. وقال بعض المحدثين: [رمل] أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك حدّثني يزيد بن عمرو عن يزيد بن مروان قال: حدّثنا النعمان بن هلال عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تنزل المعونة على قدر الموونة» . قال معاوية لوردان مولى عمرو بن العاص: ما بقي من الدنيا تلذّه؟ قال: العريض الطويل؛ قال: وما هو؟ قال: الحديث الحسن أو ألقى أخا قد

نكبه الدهر فأجبره» ؛ قال: نحن أحقّ بهما منك؛ قال: إن أحقّ بهما منك من سبقك إليهما. وقال اعرابيّ: [طويل] وما هذه الأيام إلّا معارة ... فما استطعت من معروفها فتزوّد «2» فإنك لا تدري بأيّة بلدة ... تموت ولا ما يحدث الله في غد يقولون لا تبعد، ومن يك بعده ... ذراعين من قرب الأحبّة يبعد وقال آخر: [سريع] إن كنت لا تبذل أو تسأل ... أفسدت ما تعطي بما تفعل قال بعضهم: مضى لنا سلف أهل تواصل، اعتقدوا مننا، واتّخذوا أيادي ذخيرة لمن بعدهم: كانوا يرون اصطناع المعروف عليهم فرضا، وإظهار البرّ حقّا واجبا، ثم حال الزمان بنشء اتخذوا مننهم صناعة، وبرّهم مرابحة، وأياديهم تجارة واصطناع المعروف مقارضة كنقد السّوق خذ منّي وهات. قال العتبيّ: وقع ميراث بين ناس من آل أبي سفيان وبني مروان، فتشاحّوا «3» فيه، فلما انصرفوا أقبل عمرو بن عتبة على ولده، فقال لهم: إن لقريش درجا تزلق «4» عنها أقدام الرجال، وأفعالا تخشع لها رقاب الأموال، وألسنا تكل معها الشّفار «5» المشحوذة، وغايات تقصر عنها الجياد المنسوبة؛

القناعة والاستعفاف

ولو كانت الدنيا لهم ضاقت عن سعة أحلامهم، ولو احتفلت ما تزيّنت إلا بهم. ثم إنّ ناسا منهم تخلّقوا بأخلاق العوامّ، فصار لهم رفق باللؤم وخرق «1» في الحرص، لو أمكنهم قاسموا الطير أرزاقها، إن خافوا مكروها تعجّلوا له الفقر، وإن عجّلت لهم نعمة أخّروا عليها الشكر، أولئك أنضاء «2» فكر الفقر وعجزة حملة الشكر. قال بعض الحجازيّين: [متقارب] فلو كنت تطلب شأو الكرام ... فعلت كفعل أبي البختري «3» تتّبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكبثر القناعة والاستعفاف حدّثني شيخ لنا عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن محمد بن قيس عن عبد الرحمن ابن يزيد عن ثوبان «4» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يتقبّل لي بواحدة وأتقبّل له بالجنة فقال ثوبان: أنا يا رسول الله، قال: لا تسأل الناس شيئا فكان ثوبان إذا سقط سوطه من يده نزل فأخذه ولم يسأل أحدا أن يناوله إياه. وحدّثني أيضا عن عبد الرحمن المحاربيّ عن الأعمش عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله عنه: ليس من عبد إلا وبينه وبين رزقه حجاب، فإن اقتصد أتاه رزقه وإن اقتحم هتك الحجاب ولم يزد في رزقه.

وحدّثني أيضا عن وكيع عن سفيان عن أسامة بن زيد عن أبي معن الإسكندرانيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الصّفا الزّلّال «1» الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع» . وقال عليه السلام: «إن روح القدس نفث في روعي «2» أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا «3» في الطلب» . قال ابن حازم: [بسيط] للنّاس مال ولي مالان ما لهما ... إذا تحارس أهل المال أحراس ما لي الرضا بالذي أصبحت أملكه ... وما لي اليأس ممّا يملك الناس أخذ هذا من قول أبي حازم المدنيّ، وقال له بعض الملوك: ما مالك؟ قال: الرضا عن الله، والغنى عن الناس. وقال بشّار بن بشر «4» : [طويل] وإنّي لعفّ عن فكاهة جارتي ... وإني لمشنوء إليّ اغتيابها «5» إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها ... زءورا ولم تأنس إليّ كلابها «6» ولم أك طلّابا أحاديث سرّها ... ولا عالما من أيّ حوك ثيابها وإنّ قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءآت الأمور اجتنابها إذا سدّ باب عنك من دون حاجة ... فذرها لأخرى ليّن لك بابها وقال ابن أبي حازم: [مخلع البسيط]

أوجع من وخزة السّنان ... لذي الحجا وخزة اللسان «1» فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان وإن نبا منزل بحرّ ... فمن مكان إلى مكان «2» لا يثبت الحرّ في مكان ... ينسب فيه إلى الهوان الحرّ حرّ وإن تعدّت ... عليه يوما يد الزّمان حدّثني محمد بن داود عن جابر بن عثمان الحنفيّ عن يوسف بن عطية قال حدّثني المعلّى بن زياد القردوسي: أن عامر بن عبد قيس العنبريّ كان يقول: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهنّ مساء لم أبال على ما أمسي، وإذا تلوتهنّ صباحا لم أبال على ما أصبح: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ «3» . وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «4» . وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «5» . سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً «6» . حدّثني عبد الرحمن عن بشر بن مصلح قال قال إبراهيم بن أدهم «7» : لا تجعل بينك وبين الله منعما عليك، وعدّ النّعم منه عليك مغرما «8» . حدّثني الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال: أبرع بيت قالته العرب بيت أبى

ذؤيب الهذليّ «1» : [كامل] والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع قال أبو حاتم عن الأصمعيّ قال حدّثنا أبو عمرو الصّفّار عن الحجاج بن الأسود قال: احتاجت عجوز من العجز القدم، قال: فجزعت إلى المسألة، ولو صبرت لكان خيرا لها. ولقد بلغني أن الإنسان يسأل فيمنع، ويسأل فيمنع، والصّبر منتبذ ناحية يقول: لو صرت إليّ لكفيتك. وكان يقال: أنت أخو العزّ ما التحفت القناعة، ويقال: اليأس حرّ والرّجاء عبد. وقال بعض المفسّرين في قول الله عزّ وجلّ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «2» قال: بالقناعة. وقال سعد بن أبي وقّاص لابنه عمر: يا بنيّ إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإن لم تكن لك قناعة فليس يغنيك مال. وقال عروة بن أذينة «3» : [بسيط] لقد علمت- وما الإسراف في طمع-* أنّ الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني «4» وقال أبو العتاهية: [رجز] إن كان لا يغنيك ما يكفيكا ... فكلّ ما في الأرض لا يغنيكا

وقال بعضهم: الغنى والفقر يجولان في طلب القناعة فإذا وجداها قطناها «1» . حجّت أعرابية على ناقة لها، فقيل لها: أين زادك؛ قلت: ما معي إلا ما في ضرعها. وقال الشاعر: [كامل] يا روح من حسمت قناعته ... سبب المطامع من غد وغد من لم يكن لله متّهما ... لم يمس محتاجا إلى أحد وقال أردشير: خير الشّيم القناعة، ونماء العقل بالتعلّم. وقال النّمر بن تولب: [كامل] ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذي يهب الرّغائب فارغب لا تغضبنّ على امرىء في ماله ... وعلى كرائم صلب مالك فاغضب «2» وقال أبو الأسود: [طويل] ولا تطمعن في مال جار لقربه ... فكلّ قريب لا ينال بعيد وقال كعب بن زهير «3» . [بسيط] قد يعوز الحازم المحمود نيّته ... بعد الثّراء ويثري العاجز الحمق فلا تخافي علينا الفقر وانتظري ... فضل الذي بالغنى من فضله نثق وشكا رجل إلى قوم ضيقا فقال له بعضهم: شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.

وقال هشام بن عبد الملك لسالم بن عبد الله ودخلا الكعبة: سلني حاجتك، قال: أكره أن أسأل في بيت الله غير الله. ورأى رجلا يسأل في الموقف فقال: أفي مثل هذا الموضع تسأل غير الله عز وجلّ!. وقال ابن المعذّل «1» : [طويل] تكلّفني إذلال نفسي لعزّها ... وهان عليها أن أهان لتكرما تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت سليه ربّ يحيى بن أكثما «2» وقال ابن عباس: المساكين لا يعودون مريضا ولا يشهدون جنازة، وإذا سأل الناس الله سألوا الناس. وكان الحسن يطرد السّؤّال يوم الجمعة، ولا يرى لهم جمعة. وقال بعض الشعراء: [بسيط] حبّ الرياسة داء لا دواء له ... وقلّ ما تجد الراضين بالقسم» وقال محمود الورّاق: [كامل] شاد الملوك قصورهم وتحصّنوا ... عن كلّ طالب حاجة أو راغب غالوا بأبواب الحديد لعزّها ... وتنوّقوا في قبح وجه الحاجب «4» وإذا تلطّف للدّخول إليهم ... راج تلقّوه بوعد كاذب فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضّراعة طالبا من طالب

وجد على ميل «1» في طريق مكّة: [هزج] ألا يا طالب الدّنيا ... دع الدنيا لشانيكا إلى كم تطلب الدنيا ... وظلّ الميل يكفيكا «2» قال مطرّف بن عبد الله لابن أخيه: إذا كانت لك إليّ حاجة فاكتب بها رقعة فإني أضنّ بوجهك عن ذلّ السؤال. وقال أبو الأسود: وإنّ أحقّ الناس إن كنت مادحا ... بمدحك من أعطاك والوجه وافر «3» وكان معاوية يتمثّل بهذين البيتين: [مجزوء الكامل المرفّل] وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خالي أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال وقال آخر: [طويل] أبا مالك لا تسأل الناس والتمس ... بكفّيك سيب الله فالله أوسع «4» فلو تسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قلت هاتوا أن يميلوا فيمنعوا والمشهور في هذا قول عبيد «5» : [مخلع البسيط] من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب قال سليمان لأبي حازم: سل حوائجك؛ فقال: قد رفعتها إلى من لا

تخذل الحوائج دونه. قال بعض المفسّرين في قول الله عزّ وجلّ: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «1» أي المخلوق يرزق فإذا سخط قطع رزقه، والله عزّ وجل يسخط ولا يقطع. وقال الشاعر: [بسيط] لا تضرعنّ لمخلوق على طمع ... فإنّ ذلك وهن منك بالدّين «2» واسترزق الله رزقا من خزائنه ... فإنّما هو بين الكاف والنون «3» وقال الخليل بن أحمد «4» : [بسيط] أبلغ سليمان أنّي عنه في سعة ... وفي غنى غير أنى لست ذا مال «5» شحّا بنفسي، إنّي لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال «6» فالرزق عن قدر لا الضّعف يمنعه ... ولا يزيدك فيه حول محتال «7» وقال المعلوط: [طويل] متى ما ير الناس الغنيّ وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد «8» وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن حظوظ قسّمت وجدود «9» وقال آخر: [طويل]

يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه وقال أبو الأسود «1» : [منسرح] ليتك آذنتني بواحدة ... تجعلها منك سائر الأبد تحلف ألّا تبرّني أبدا ... فإنّ فيها بردا على كبدي إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حيّة على رصد «2» وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: حرفة يقال فيها خير من مسألة الناس. وقال سعيد بن العاص: موطنان لا أستحيي من العيّ «3» فيهما: عند مخاطبتي جاهلا، وعند مسألتي حاجة لنفسي. حدّثني محمد بن عبيد عن أبي عبد الله عن محمد بن عبد الله بن واصل قال: جاء رجل إلى شريح يستقرض دراهم؛ فقال له شريح: حاجتك عندنا فأت منزلك فإنّها ستأتيك، إنّي لأكره أن يلحقك ذلّها. حدّثني الرّياشيّ عن الأصمعيّ عن حكيم بن قيس بن عاصم عن أبيه أنه أوصى بنيه عند موته فقال: إيّاكم والمسألة، فإنها آخر كسب الرجل. وقال بعض المحدثين: [طويل] عوّدت نفسي الضّيق حتى ألفته ... وأحرجني حسن العزاء إلى الصّبر ووسّع قلبي للأذى الأنس بالأذى ... وقد كنت أحيانا يضيق به صدري وصيّرني يأسي من الناس راجيا ... لسرعة لطف الله من حيث لا أدري

الحرص والإلحاح

وقال آخر: [مجزوء الرجز] حسبي بعلمي لو نفع ... ما الذّلّ إلّا في الطّمع من راقب الله نزع ... عن قبح ما كان صنع «1» ما طار شيء فارتفع ... إلّا كما طار وقع الحرص والإلحاح لما قتل كسرى بزرجمهر وجد في منطقته كتابا: إذا كان القدر حقّا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طباعا فالثّقة بكلّ أحد عجز، وإذا كان الموت لكل أحد راصدا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق. وقال بعض الشعراء: [كامل] من عفّ خفّ على الصّديق لقاؤه ... وأخو الحوائج وجهه مملول وفي كتاب للهند: لا يكثر الرجل على أخيه الحوائج؛ فإنّ العجل إذا أفرط في مصّ أمه نطحته ونحّته. وقال عديّ بن زيد: [سريع] قد يدرك المبطىء من حظّه ... والرزق قد يسبق جهد الحريص وقال ابن المقفّع: الحرص محرمة، والجبن مقتلة، فانظر فيما رأيت وسمعت أمن قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا، وانظر من يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحقّ أن تسخو نفسك له بالعطيّة أم من يطلب ذلك

بالشّره «1» والحرص. وقال الشاعر: [بسيط] كم من حريص على شيء ليدركه ... وعلّ إدراكه يدني إلى عطبه «2» وقال آخر: [متقارب] وربّ ملحّ على بغية ... وفيها منيّته لو شعر «3» والعرب تقول في الرجل الملحّ في الحوائج الذي لا تنقضي له حاجة إلا سأل أخرى: [بسيط] لا يرسل السّاق إلّا ممسكا ساقا وأصل المثل في الحرباء، إذا اشتدّ عليه حرّ الشمس لجأ إلى شجرة ثم توقّى في أغصانها، فلا يرسل غصنا حتّى يقبض على آخر. وقال الشاعر: [بسيط] أنّى أتيح له حرباء تنضبة ... لا يرسل الساق إلّا ممسكا ساقا «4» وفي كتاب كليلة: لا فقر ولا بلاء كالحرص والشّره، ولا غنى كالرّضا والقناعة، ولا عقل كالتّدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق. قال ابن المقفع: الحرص والحسد بكرا الذنوب «5» وأصل المهالك؛ أمّا الحسد فأهلك إبليس، وأما الحرص فأخرج آدم من الجنّة.

وفي كتاب كليلة: خمسة حرصاء، المال أحبّ إليهم من أنفسهم: المقاتل بالأجرة، وحفّار القنيّ «1» والأسراب، والتّاجر يركب البحر، والحاوي يلسع يده الحيّة، والمخاطر على شرب السمّ. دخل مالك بن دينار على رجل محبوس قد أخذ بمال عليه وقيّد، فقال له: يا أبا يحيى، أما ترى ما نحن فيه من هذه القيود! فرفع مالك رأسه فرأى سلّة، فقال: لمن هذه؟ قال: لي، قال: فأمر بها أن تنزل، فأنزلت فوضعت بين يديه، فإذا دجاج وأخبصة «2» ، فقال مالك: هذه وضعت القيود في رجلك. كان أشعب يقول: أنا أطمع وأمّي تيقن «3» فقلّ ما يفوتنا. وقال النابغة «4» : [كامل] واليأس عمّا فات يعقب راحة ... ولربّ مطعمة تعود ذباحا «5» وقال أبو عليّ الضرير: [وافر] فإنّي قد بلوتكم جميعا ... فما منكم على شكري حريص وأرخصت الثّناء فعفتموه ... وربّتما غلا الشيء الرّخيص فعفت نوالكم ورغبت عنه ... وشرّ الزاد ما عاف الخصيص «6» وقال أعرابيّ: [خفيف] أيّها الدّائب الحريص المعنّى ... لك رزق وسوف تستوفيه

قبح الله نائلا ترتجيه ... من يدي من تريد أن تقتضيه إنّما الجود والسّماح لمن يع ... طيك عفوا وماء وجهك فيه «1» لا ينال الحريص شيئا فيكفي ... هـ وإن كان فوق ما يكفيه فسل الله وحده ودع النا ... س وأسخطهم بما يرضيه لا ترى معطيا لما منع الل ... هـ ولا مانعا لما يعطيه وجد بالأصل بآخر هذا الجزء ما يأتي: آخر كتاب الحوائج، وهو الكتاب الثامن من عيون الأخبار لابن قتيبة رحمة الله عليه. وكتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد ابن عليّ الواعظ الجزريّ وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة. والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته وسلامه على سيّدنا محمد النبيّ وآله أجمعين. ويتلوه الكتاب التاسع وهو كتاب الطعام، والله الموفّق للصّواب. وفيه كذلك- وهو من زيادات النسّاخ-: في الاستعفاف: [سريع] عليك باليأس من الناس ... إنّ غنى نفسك في اليأس كم صاحب قد كان لي وامقا ... إذ كان في حالة إفلاس» أقول لو قد نال هذا الغنى ... صيّرني منه على الرّاس حتى إذا ما صار فيما اشتهي ... وعدّه النّاس من النّاس قطّع بالصدّ حبال الصّفا ... منّي ولمّا يرض بالقاسي «3» وقال آخر وقد أحسن «4» : [مجزوء الرّمل]

إنّ للمعروف أهلا ... وقليل فاعلوه أهنأ المعروف ما لم ... تبتذل فيه الوجوه أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدّهر أخوه فإذا احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه إنما يعرف الفض ... ل من الناس ذووه لو رأى الناس نبيّا ... سائلا ما وصلوه وكتب أبو العيناء «1» إلى أبي القاسم بن عبيد الله بن سليمان رقعة يقول فيها: أنا- أعزّك الله- وولدي وعيالي زرع من زرعك، إن سقيته راع «2» وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى. وقد مسّني منك جفاء بعد برّ وإغفال بعد تعهّد، فشمت عدوّ، وتكلّم حاسد، ولعبت بي ظنون؛ وانتزاع العادة شديد. ثم كتب في آخرها: [رمل] لا تهنّي بعد إكرامك لي ... فشديد عادة منتزعه وقال آخر: [بسيط] ما لي معاش سوى ضدّ المعاش فلا ... أغدو إلى عمل إلّا بلا أمل وليس لي شغل يجدي عليّ إذا ... فكرت فيه وما أنفكّ من شغل كلّ امرىء رائح غاد إلى عمل ... وما أروح ولا أغدو إلى عمل ولست في الناس موجودا كبعضهم ... وإنّما أنا بعض الناس في المثل وقال آخر: [سريع] المرء بعد الموت أحدوثة ... يفنى وتبقى منه آثاره

يطويه من أيّامه ما طوى ... لكنّه تنشر أسراره وأحسن الحالات حال امرىء ... تطيب بعد الموت أخباره يفنى ويبقى ذكره بعده ... إذا خلت من شخصه داره وقال حبيب الطائي: [بسيط] وما ابن آدم إلّا ذكر صالحة ... أو ذكر سيّئة يسري بها الكلم أما سمعت بدهر باد أمّته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم في البخل: [متقارب] طرقت أناسا على غرّة ... فذقت من العيش جهد البلاء «1» فأمّا القديد وأشباهه ... فذاك مفاتيحه في السماء «2» وأما السّويق ففي عيبة ... يشمّ ويدعى له بالبقاء «3» ومن حاول الخبز قالوا له ... أتذكر شيئا خبي للدّواء «4»

كتاب الطعام

كتاب الطعام صنوف الأطعمة قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوريّ رحمة الله عليه: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للأحنف: أيّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: الزّبد والكماة «1» ؛ فقال عمر: ما هما بأحبّ الأطعمة إليه، ولكنه يحبّ الخصب للمسلمين. قال الأصمعيّ: قال رجل في مجلس الأحنف: ليس شيء أبغض إليّ من التمر والزّبد: فقال الأحنف: ربّ ملوم لا ذنب له. عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال الحجّاج لجلسائه: ليكتب كلّ رجل في رقعة أحبّ الطعام إليه ويجعلها تحت مصلّاى؛ فإذا في الرّقاع كلّها الزّبد والتمر. عن الأصمعيّ قال قال مدنيّ: الكبادات «2» أربع: العصيدة «3» والهريسة والحيسة «4» والسّميذة «5» .

عن الأصمعيّ عن حزم قال: قال مالك بن حقبة لحسّان بن الفريعة: ما تزوّدت إلينا؟ قال: الحيس؛ قال: ثلاثة أسقية في وعاء. قال الأصمعيّ: قال بعض الأعراب: أشتهي ثريدة «1» دكناء من الفلفل، رقطاء «2» ، من الحمّص، ذات حفافين «3» من اللحم، لها جناحان من العراق «4» ، أضرب فيها ضرب وليّ السّوء في مال اليتيم. وقال ابن الأعرابيّ: يقال: أطيب اللحم عوّذه، أي أطيبه ما ولي العظم، كأنه عاذ به. عن أبي عبيدة قال: مرّ الفرزدق بيحيى بن الحصين بن المنذر الرّقاشيّ، فقال له: هل لك يا أبا فراس في جدي سمين ونبيذ زبيب جيّد؟ فقال الفرزدق: وهل يأبى هذا إلا ابن المراغة «5» ! يعني جريرا. وقال الأحوص «6» لجرير: ما تحبّ أن يعدّلك؟ قال: شواء وطلاء «7» وغناء؛ قال: قد أعدّت لك. وقال مدني لصديق له: والله أشتهي كشكيّة «8» ، ومدّ بها صوته فخرجت

منه ريح؛ فقال له: ما أسرع ما لفحتك يابن عمّ. وعن الأصمعيّ قال: قال شيخ من أهل المدينة: أتيت فلانا فأتاني بمرقة كان فيها مسقّى «1» ، فلم أر فيها إلا كبدا طافية، فغمست يدي فوجدت مضغة «2» ، فمددتها فلامتدّت حتى كأني أزمر في ناي. أدخل أعرابيّ على كسرى ليتعجّب من جفائه وجهله؛ فقال له: أيّ شيء أطيب لحما؟ قال: الجمل. قال: فأيّ شيء أبعد صوتا؟ قال: الجمل. قال: فأيّ شيء أنهض بالحمل الثقيل؟ قال: الجمل. قال كسرى: كيف يكون لحم الجمل أطيب من البطّ والدّجاج والفراخ والدّرّاج «3» والجداء؟ قال: يطبخ لحم الجمل بماء وملح، ويطبخ ما ذكرت بماء وملح حتى يعرف فضل ما بين الطعمين. قال: كيف يكون الجمل أبعد صوتا ونحن نسمع الصوت من الكركيّ «4» من كذا وكذا ميلا؟ قال الأعرابيّ: ضع الكركيّ في مكان الجمل وضع الجمل في مكان الكركيّ حتّى تعرف أيّهما أبعد صوتا. قال كسرى: كيف تزعم أنّ الجمل أحمل للحمل الثقيل والفيل يحمل كذا وكذا رطلا؟ قال: ليبرك الفيل ويبرك الجمل وليحمل على الفيل حمل الجمل، فإن نهض به فهو أحمل للأثقال. عن جعفر بن سليمان قال: شيئان لا يزيدهما كثرة النفقة طيبا: الطّيب والقدر، ولكن تطيّبهما إصابة القدر. وفيما أجاز لنا عمرو بن بحر الجاحظ من كتبه «5» قال: كان أبو عبد

الرحمن الثوريّ يعجب بالرءوس ويصفها ويسمّي الرأس عرسا لما تجمّع فيه من الألوان الطيّبة وكان يسميه مرّة الجامع ومرّة الكامل، ويقول: الرأس شيء واحد وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة، وكلّ قدر وكلّ شواء فإنما هو شيء واحد، والرأس فيه الدّماغ وطعمه مفرد، والعينان وطعمهما مفرد وفيه الشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها على حدة، على أنه هذه الشّحمة خاصّة أطيب من المخّ وأنعم من الزّبد وأدسم من السّلاء «1» ، ثم يعدّ أسقاطه «2» كلها. ويقول: الرأس سيّد البدن، وفيه الدّماغ وهو معدن العقل، ومنه يتفرّق العصب الذي فيه الحس، وبه قوام البدن، وإنما القلب باب العقل؛ كما أنّ النفس هي المدركة والعين هي باب الألوان، والنفس هي السامعة الذائقة وإنما الأنف والأذن بابان. ولولا أنّ العقل في الرأس لما ذهب العقل من الضربة تصيبه؛ وفي الرأس الحواسّ الخمس. وكان ينشد: همو ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمّ سائري «3» وكان لا يشتري الرأس إلا في زيادة الشهر لمكان زيادة الدماغ، ولا يشتريه إلا يوم السبت لأن الرءوس يوم السبت أكسد، للفضلات التي تبقى في منازل التجار عن يوم الجمعة. وكان إذا فرغ من غدائه يوم الرأس، عمد إلى القحف «4» والى اللّحيين «5» فوضعه قرب بيوت النمل والذرّ، فإذا اجتمعن عليه أخذه ونفضه في طست فيه ماء، ولا يزال يعيد ذلك على تلك المواضع حتى

يقلع النمل والذرّ من داره، فإذا فرغ من ذلك ألقاه من الحطب فاستوقده في التّنّور. الأصمعيّ قال: قال أبو صوّارة أو ابن دقّة: الأرز الأبيض بالسّمن المسليّ بالسكر الطّبرزد» ، ليس من طعام أهل الدنيا. قال: وقال أبو صوّارة أو ابن دقّة: أطول الليالي ثلاث: ليلة العقرب، وليلة الهريسة، وليلة جدّة إلى مكة. الأصمعيّ عن جعفر بن سليمان قال: قال أبو كامل مولي عليّ رضي الله عنه: أطعموني حفنة زبد ثم اختموا سراويلي ثلاثا. وقال رجل للثّوريّ في الحديث: إن الله يبغض البيت اللّحم؛ فقال: ليس هو الذي يؤكل فيه اللحم، وإنما هو الذي يؤكل فيه لحوم الناس. عن أبي الصّدّيق «2» الناجي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خير تمراتكم البرني «3» يذهب بالداء ولا داء فيه» . وعن ابن عمر عن عمر أنه قال: يا غلام أنضج العصيدة تذهب حرارة الزيت. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بيت ليس فيه تمر جياع أهله» . شيخ من أهل البادية قال: أضافنا فلان فأتانا بحنطة كأنها مناقير الغربان، وتمر كأنه أعناق الوزّ يوحل «4» فيه الضّرس.

الأصمعيّ قال: قال أعرابيّ: تمرنا جرد «1» فطس «2» يغيب فيه الضّرس، كأن نواه ألسن الطير، تضع التمرة في فيك فتجد حلاوتها في كعبيك. الأصمعيّ عن أبيه قال: أسر رجل رجلين في الجاهلية فخيّرهما بم بعشّيهما، فاختار أحدهما اللحم واختار الآخر التمر، فعشّيا وألقيا في الفناء وذلك في شتاء شديد، فأصبح صاحب اللحم خامدا وأصبح صاحب التمر تزرّ «3» عيناه. وقال غير الأصمعيّ: قيل لأعرابيّ: ما رأيك في أكل الجرّيّ «4» ؟ قال: تمرة نرسيانة «5» غرّاء الطّرف صفراء السائر عليها مثلها زبدا أحبّ إليّ منها، ثم أدركه الورع فقال: وما أحرّمهما. وقال بعض الأعراب: [طويل] ألا ليت لي خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرنيّ فرسانها الزّبد «6» قال: ورأى أعرابيّ دقيقا وتمرا فاشترى التمر؛ قيل له: كيف وسعر الدقيق والتمر واحد! قال: إنّ في التمر أدمه «7» وزيادة حلاوة. عن زياد النّميريّ قال: قالت عائشة: من أكل التمر وترا «8» لم يضرّه.

الأصمعيّ قال: حدّثني شيخ عالم قال: أطيب التمر صيحانيّة «1» مصلّبة. الأصمعي قال: حدثني رجل من آل حزم قال: كان يقال: من خلا «2» على التمر فالعجوة، ومن أكله على ثقل فالصّيحاني. الأصمعيّ قال: قال أعرابيّ يفضّل الرّطب على العسل: أتجعل عسلة في أخثاء «3» البقر كعسلة في جوّ السماء لها محارس من جريد «4» وذوائب «5» من زمرّد!. وقال الأصمعيّ: قيل لابن القدّاح: التمر أطيب؟ فدعا بأنواع التمر، فلمّا أكلوا قال: انظروا أيّ النوى أكثر؟ قالوا: نوى الصيحانيّ، قال: هو أطيب. وقال الأصمعيّ: العرب تقول للبخيل الأكول: أبرما قرونا «6» أي لا يخرج مع أصحابه شيئا ويأكل تمرتين تمرتين. وقال النابغة يصف تمرا: [طويل] صغار النوى مكنوزة ليس قشرها ... إذا طار قشر التمر عنها بطائر سمع الحسن رجلا يعيب الفالوذج «7» فقال: فتاب البرّ بلعاب النحل

بخالص السّمن! ما عاب هذا مسلم. وقال لفرقد السّبخيّ: يا أبا يعقوب، بلغني أنك لا تأكل الفالوذج؛ فقال: يا أبا سعيد، أخاف ألّا أؤدّي شكره؛ فقال: يا لكع «1» ! وهل تؤدّي شكر الماء البارد «2» في الصيف والحارّ في الشتاء! أما سمعت قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «3» . الأصمعيّ قال: اختصم روميّ وفارسيّ في الطعام، فحكّما بينهما شيخا قد أكل طعام الخلفاء، فقال: أمّا الروميّ فذهب بالحشو والأحشاء، وأما الفارسيّ فذهب بالبارد والحلواء. وعن الأصمعيّ قال: كنا عند الرشيد فقدّمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعيّ حدّثنا بحديث مزرّد، فقلت: إنّ مزرّدا أخا الشمّاخ «4» كان غلاما جشعا وكانت أمّه تؤثر عيالها بالطعام عليه وكان ذلك يحفظه «5» ، فخرجت أمّه ذات يوم تزور بعض أهلها، فدخل مزرّد الخيمة وعمد إلى صاعي دقيق وصاع من تمر وصاع من سمن فجمعه ثم جعل يأكله وهو يقول: [طويل] ولمّا غدت أمّي تمير بناتها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع «6»

لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتربّع «1» ودبّلت أمثال الأثافي كأنها ... رءوس نقاد قطّعت يوم تجمع «2» وقلت لبطني أبشر اليوم إنّه ... حمى أمّنا ممّا تحوز وترفع فإن كنت مصفورا فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثانا فذا يوم تشبع «3» فضحك الرشيد حتى استلقى على ظهره، ثم قال: كلوا باسم الله، هذا يوم تشبع (يا أصمعىّ) «4» . قال: وكتب الحجاج إلى عامله بفارس: ابعث إليّ عسلا من عسل خلّار «5» ، من النّحل الأبكار، من الدّستفشار «6» ، الذي لم تمسّه النار. وقال الأصمعيّ: كتب بعض الخلفاء إلى عامله بالطائف: أن أرسل إليّ بعسل أخضر في سقاء، أبيض في الإناء، من عسل النّدغ «7» والسّحاء «8» ، من حداب بني شبابة «9» . والعرب تصف العسل بالبرودة. وفي حديث ابن عباس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أفضل الشراب قال: «الحلواء البارد يعني العسل» . وقال الأعشى: [هزج] كما شيب بماء با ... رد من عسل النحل «10»

ويقال: أجود العسل الذهبيّ الذي قطرت منه قطرة على وجه الأرض أستدار كما يستدير الزئبق ولم ينفش ولم يختلط بالأرض والتراب. والروم تقول: أجوده ما يلطخ على فتيلة ثم تشعل فيه النار فيعلق. وسئل ديمقراطيس العالم عما يزيد في العمر فقال: من أدام أكل العسل ودهن جسمه به زاد الله بذلك في عمره. والعسل إن جعل فيه اللحم الطريّ بقي كهيئته حتى لا ينتن. ويقال: من كان به داء قديم فليأخذ درهما حلالا وليشتر به عسلا ثم يشربه بماء سواء فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. وكان الحسن يعجبه إذا استمشى «1» الرجل أن يشرب اللبن والعسل. ويزعم أصحاب الطبائع أن العسل إذا ديف «2» بالماء وخلط معه زيت أو دهن سمسم نافع لمن شرب السّموم والأدوية القاتلة يتقيّأ به. ميمون بن مهران عن ابن عبّاس قال- ولا أعلمه إلّا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم- أنه قال: «أكرموا الخبز فإنّ الله سخّر له السموات والأرض» . الأصمعيّ قال: كانت امرأة من بكر بن وائل تنزل الطّفاوة «3» وكانت قد أدركت بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وكان العبّاد يغشونها في منزلها؛ فعاب عائب عندها السّويق، فقالت: لا تفعل! إنه طعام المسافر، وطعام العجلان «4» ، وغذاء المبكّر، وبلغة المريض «5» ، ويشدّ فؤاد الحزين، ويردّ من

نفس الضّعيف؛ وهو جيّد في التّسمين ونقاوة البلغم، ومسمونه «1» يصفّي الدم، إن شئت كان ثريدا، وإن شئت كان خبيصا، وإن شئت كان خبزا. وكان غسّان بن عبد الحميد كاتب سليمان بن عليّ يقول لجاريته: خوّضي «2» لنا سيوقا فأخثريه «3» ، فإنّ الرجل لا يستحي أن يزداد ماء فيرقّقه، ويستحي أن يزداد سويقا فيخثره به. مرّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بعبد الحميد بن علّي وهو في مزرعته وقد عطش، فاستسقاه فخاض له سويق لوز فسقاه إياه؛ فقال عبد الله: [وافر] شربت طبرزذا «4» بغريض مزن ... ولكنّ الملاح بكم عذاب وما هو بالطّبرزذ طاب لكن ... بمسّك إنّه طاب الشراب وأنت إذا وطئت تراب أرض ... يطيب إذا مشيت به التراب لأن نداك ينفي المحل عنها ... وتحييها أياديك الرّطاب وقال الحسن: لا تسقوا نساءكم السّويق، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فاحفظوهنّ. وقال الرّقاشيّ: السّمنة للنّساء غلمة «5» وهي للرجال غفلة. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تردّ: اللّبن والسّواك «6» .

والدّهن» . الرّياشيّ قال: سمعت أبا يزيد يقول: رأيت رجلا كأنّ أسنانه الذّهب لشربه اللّبن حارا. الأصمعيّ عن ذي الرّمّة أنه قال: إذا قلت للرّجل: أيّ اللّبن أطيب؟ فإن قال: قارص «1» ، فقل: عبد من أنت «2» ؟ وإن قال: الحليب، فقل: ابن من أنت؟. مرّ رجل من قريش بامرأة من العرب في بادية، فقال: هل من لبن يباع؟ فقالت: إنك لئيم أو قريب عهد بقوم لئام وكان يقال: اللبن أحد اللّحمين. وقال بعض المدنيين: من تصبّح «3» بسبع موزات وبقدح من لبن إبل أوارك «4» تجشّأ «5» بخور الكعبة. وقف معاوية على امرأة فقال: هل من قرى؟ فقالت: نعم، قال: وما هو؟ قالت: خبز خمير ولبن فطير «6» وماء نمير «7» ، والعرب تقول: إنّ الرّثيئة تفثأ الغضب. والرّثيئة: اللبن الحامض يحلب عليه الحليب، وهو أطيب اللبن. قال بعض الأعراب: وإذا خشيت على الفؤاد لجاجة ... فاضرب عليه بجرعة من رائب

أخبار من أخبار العرب في مآكلهم ومشاربهم

وعن مطر الورّاق: أنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى الله تعالى الضعف، فأوحى الله إليه: أن اطبخ اللبن باللحم، فإنّ القوّة فيهما. وصف أعرابيّ خصب البادية فقال: كنت أشرب رثيئة «1» تجرّها الشّفتان جرّا، وقارصا إذا تجشّأت جدع أنفي، ورأيت الكمأة «2» تدوسها الإبل بمناسمها، وخلاصة «3» يشمّها الكلب فيعطس. وتقول الأطّباء: إنّ اللبن إذا سخّن بالنار وسيط «4» بعدود من عيدان شجر التّين راب من ساعته. وقالوا: وإن أراد صاحبه ألّا يروب وإن كان فيه روبة جعل فيه شيئا من الحبق، وهو الفوذنج «5» النهريّ، فإنه يبقى كهيئته. أخبار من أخبار العرب في مآكلهم ومشاربهم المعلّى الرّبعيّ قال: مكثت ثلاثا لا أذوق طعاما ولا أشرب فيهنّ شرابا فدعوت الله تعالى، وإذا دعا العبد الله بقلب صادق كانت معه من الله عين بصيرة، فدفعت إلى ذئبين في جفر «6» ، فرميتهما فقتلتهما، ثم أتيت جفرا فيه ماء فاستقيت، ثم أتيتهما وإذا هما على مهيد يتيهما «7» ، وإذا لهما نخفة- يعني شبه الزّفير- فاشتويت واحتذيت «8» وادّهنت.

قال ابن قرفة (شيخ من سليم) : أضافني رجل من الأعراب فجاءني بقدر جماع «1» ضخمة ليس فيها شيء من طعام إلا قطع لحم، فإذا بضعة «2» تنماتّ «3» في فمي، وبضعة كأنّها بضع ساق، وبضعة كأنها شحم زخم «4» ؛ فقلت: ما هذا؟ فقال: إني رجل صيّاد، جمعت بين ذئب وظبي وضبع. قال مدنيّ لأعرابيّ: ما تأكلون وما تدعون؟ قال: نأكل ما دبّ ودرج إلا أمّ حبين؛ فقال المدنيّ: ليهنىء أمّ حبين «5» العافية. قعد على مائدة الفضل بن يحيى «6» رجل من بني هلال بن عامر، فذكروا الضّبّ ومن يأكله، فأفرط الفضل في ذمّه وتابعه القوم، فغاظ الهلاليّ ما سمع منهم، ولم يكن على المائدة عربيّ غيره، ثم لم يلبث أن أتي الفضل بصحفة فيها فراخ الزّنابير، فلم يشكّ الأعرابيّ أنها ذبّان البيوت، فقال حين خرج: [طويل] وعلج يعاف الضبّ لؤما وبطنة ... وبعض إدام العلج هام ذباب «7» ولو أنّ ملكا في الملا ناك أمّه ... لقالوا لقد أوتيت فصل خطاب وقال أبو الهندي «8» (رجل من العرب] : [متقارب]

أكلت الضّباب فما عفتها ... وإنّي لاشهى قديد الغنم «1» ولحم الخروف حنيذا وقد ... أتيت به فاترا في الشّبم «2» فأمّا البهطّ وحيتانكم ... فما زلت منها كثير السّقم «3» وقد نلت منها كما نلتم ... فلم أر فيها كضبّ هرم ولا في البيوض كبيض الدّجاج ... وبيض الدجاج شفاء القرم «4» ومكن الضّباب طعام العريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم «5» وقال بعض الأعراب: [سريع] وأنت لو ذقت الكشى بالأكباد ... لما تركت الضّبّ يعدو بالواد «6» ونزل رجل من العرب برجل من الأعراب فقدّم إليه جرادا؛ فقال: لحى الله بيتا ضمّني بعد هجعة ... إليه دجوجيّ من الليل مظلم «7» فأبصرت شيخا قاعدا بفنائه ... هو العنز إلّا أنه يتكلّم أتانا ببرقان الدّبى في إنائه ... ولم يك برقان الدّبى لي مطعم «8» فقلت له غيّب إناءك واعتزل ... فهل ذاق هذا، لا أبالك، مسلم وقال بعض العباسيين: [خفيف]

ليت شعري متى تخبّ بي النا ... قة نحو العذيب فالصّنين «1» محقبا زكرة وخبز رقاق ... وجبينا وقطعة من نون «2» وقال بعض الأعراب: [طويل] أقول له يوما وقد راح صحبتي ... ترى أبتغي من صيده وأخاتله «3» فلما التقت كفّي على فضل ذيله ... وشالت شمالي زايل الضّبّ باطله «4» فأصبح محنوذا نضيجا وأصبحت ... تمشّى على القيزان حولا حلائله «5» شديد اصفرار الكشيتين كأنما ... تطلّى بورس بطنه وشواكله «6» فذلك أشهى عندنا من نتاجكم ... لحى الله شاريه وقبّح آكله «7» وبنو أسد تعيّر بأكل الكلاب؛ قال الفرزدق: [طويل] إذا أسديّ جاع يوما ببلدة ... وكان سمينا كلبه فهو آكله وتعيّر أيضا بأكل لحوم الناس، كما قال الشاعر «8» : [وافر] إذا ما ضفت ليلا فقعسيّا ... فلا تأكل له أبدا طعاما فإنّ اللحم إنسان فدعه ... وخير الزاد ما منع الحراما

قال رجل: كنت بالبادية، فرأيت ناسا حول نار، فسألت عنهم فقالوا: صادوا حيّات فهم يشتوونها ويأكلونها، فأتيتهم فرأيت رجلا منهم قد أخرج حيّة من الجمر ليأكلها فامتنعت عليه، فجعل يمدّها كما يمدّ عصيب «1» لم ينضج، فما صرفت بصري عنه حتّى لبج «2» به فمات، فسألت عن شأنه فقيل لي: عجل عليها قبل أن تنضج وتعمل في سمّها النار. قال رجل من الأعراب لولده: اشتروا لي لحما، فاشتروه فطبخه حتى تهرّى «3» ، وأكل منه حتى انتهت نفسه، وشرعت إليه عيون ولده فقال: ما أنا بمطعمه أحدا منكم إلا من أحسن وصف أكله: فقال الأكبر منهم: آكله يا أبت حتى لا أدع لذرّة فيه مقيلا؛ قال: لست بصاحبه. فقال الآخر: آكله حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أوّل؛ قال: لست بصاحبه. فقال الأصغر: أدقّه يا أبت دقا وأجعل إدامه المخّ؛ قال: أنت صاحبه، هو لك. بينا أعرابيّ يسير وهو يوضع «4» بعيره إذ سقط بعيره فنحره وأكله، فأنشأ يقول: [رجز] إنّ السّعيد من يموت جمله ... يشبع لحما ويقلّ عمله ومرّ رجل من سلول بفتيان يشربون فشرب معهم؛ فلما أخذ منه الشراب قام إلى بعيره فنحره، وقال: [رمل] علّلاني إنّما الدّنيا علل ... ودعاني من ملام وعذل وانشلا ما اغبرّ من قدريكما ... واسقياني أبعد الله الجمل «5»

آداب الأكل والطعام

آداب الأكل والطعام عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الأكل في السّوق دناءة» . وعن عبد الرحمن بن عراك قال: بلغني أنه من غسل يده قبل الطعام كان في سبعة من الرّزق حتى يموت. عن الحسن أنه قال: الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللّمم «1» . وعنه قال: قيل لسمرة بن جندب: إنّ أباك أكل طعاما كاد يقتله؛ قال: لو مات ما صلّيت عليه. وعن شرحبيل بن مسلم قال: قال أبو الدّرداء: بئس العون على الدّين قلب نخيب «2» ، وبطن رغيب «3» ، ونعظ شديد «4» . أكل الجارود «5» مع عمر طعاما، ثم قال: يا جارية هات الدّستورد «6» ؛ فقال عمر: امسح باستك أو ذر «7» . قال جعفر: كنّا نأتي فرقدا السّبخيّ ونحن شببة «8» فيعلّمنا: إنّ من

ورائكم زمانا شديا، فشدّوا الأزر «1» على أنصاف البطون، وصغّروا اللّقم، وشدّدوا المضغ، ومصّوا الماء مصّا. وإذا أكل أحدكم فلا يحلّنّ إزاره فتتّسع أمعاؤه. وإذا جلس أحدكم ليأكل فليقعد على أليتيه، وليلزق بطنه بفخذيه، وإذا فرغ فلا يقعد وليجىء وليذهب؛ واحتموا «2» فإنّ من ورائكم زمانا شديدا. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ساقي القوم آخرهم شربا» . وعن الجارود بن أبي سبرة قال: قال لي بلال بن أبي بردة: أتحضر طعام هذا الشيخ- يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر-؛ فقلت: إيها «3» والله؛ فقال: حدّثني عنه. فقلت: نأتيه وكان سكّيتا «4» ، إن حدّثنا أحسن الحديث، وإن حدّثناه أحسن الاستماع، فإذا حضر الغداء جاء خبّازه فمثل بين يديه؛ فيقول: ما عندك؟ فيقول: بطّة بكذا، ودجاجة بكذا وكذا. قال: وما يريد بذاك؟ قلت: كي يحبس «5» كلّ إنسان نفسه إلى ما يشتهي، فإذا وضع الخوان «6» خوّى «7» تخوية الظليم «8» فما له إلا موضع متّكئه فيجدّ ويهزل، حتى إذا رآهم قد فتروا وكلّوا «9» أكل معهم أكل الجائع المقرور «10» حتى ينشّطهم بأكله.

وكان يقال: إذا اجتمع للطعام أربع كمل: أن يكون حلالا، وأن تكثر عليه الأيدي، وأن يفتتح باسم الله، ويختتم بحمد الله. وكان يقال: سمّوا إذا أكلتم ودنّوا وسمّتوا «1» . قال أپرويز لصاحبي طعامه وشرابه: إني سلّطتكما على المعشية، وأشركتكما في الحياة، وجعلتكما أمينين على نفسي، وولّيتكما من طعامي وشرابي ما التوسعة فيه مروءة والتضييق فيه دناءة؛ فاجعلاه في فضله على ما سواه كفضلي على من سواي، وفي كثرته ككثرة من معي على من مع غيري. ولا يشهدنّ طعامي الذي آكل عين تراه ولا نفس تحسّه ولا يد تداوله خلا نفسا واحدة؛ وإنما أفردته بذلك لتستحكم الحجّة فيه على من أضاع، وتنقطع الشبهة فيه عمن غفل، ولأجعل صاحب ذاك رهنا بدم نفسه إن هو قصّر في صنعه أو أوقع بغائلة «2» . الأصمعيّ قال حدّثني ابراهيم بن صالح: أنه كان له جام «3» من حبّ رمّان مدقوق يسفّ منه بين كل لونين ملعقة حتى يعرف اختلاف الألوان. وفيما أجاز لنا عمرو بن بحر من كتبه قال: كان أبو عبد الرحمن الثّوريّ يقعد ابنه معه على خوانه يوم الرأس، ثم يقول: إياك ونهم الصبيان وأخلاق النوائح، ودع «4» عنك خبط الملّاحين والفعلة، ونهش الأعراب والمهنة، وكل من بين يديك؛ فإنّ حظّك الذي وقع وصار إليك. واعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف أو لقمة كريمة أو بضعة شهيّة «5» ، فإنما ذلك للشيخ

المعظّم والصبيّ المدلّل، ولست واحدا منهما. وأنت قد تأتي الدعوات، وتجيب الولائم، وتدخل منازل الإخوان، وعهدك باللحم قريب، وإخوانك أشدّ قرما «1» إليه منك، وإنما هو رأس واحد فلا عليك أن تتجافى عن بعض وتصيب بعضا. وأنا بعد أكره لك الموالاة بين اللحم؛ فإن الله يبغض أهل البيت اللّحمين «2» . وكان يقال: مدمن اللحم كمدمن الخمر. ورأى رجل رجلا يأكل لحما، فقال: لحم يأكل لحما، أفّ لهذا عملا!. وكان عمر يقول: إيّاكم وهذه المجازر، فإنّ لها ضرواة كضراوة الخمر «3» . يا بنيّ عوّد نفسك الأثرة «4» ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السّباع، ولا تخضم خضم البراذين «5» ، ولا تدمن الأكل إدمان النّعاج، ولا تلقم لقم الجمال؛ فإن الله تعالى جعلك إنسانا وفضّلك، فلا تجعل نفسك بهيمة ولا سبعا. واحذر سرعة الكظّة وسرف البطنة «6» . قال بعض الحكماء: إذا كنت بطينا فعدّ نفسك من الزّمني «7» . وقال الأعشى: [خفيف]

والبطنة ممّا تسفّه الأحلاما «1» واعلم أنّ الشّبع داعية البشم «2» ، وأنّ البشم داعية السّقم، وأنّ السقم داعية الموت، فمن مات بهذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، وهو مع هذا قاتل نفسه، وقاتل نفسه الأم من قاتل غيره. يا بنيّ، والله ما أدّى حقّ الركوع والسجود ذو كظّة، ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحّة، والوجبات «3» عيش الصالحين. أي بنيّ، لأمر مّا طالت أعمار الهند، وصحّت أبدان الأعراب. فلله درّ الحارث ابن كلدة «4» حيث يزعم أنّ الدواء هو الأزم «5» ، وأنّ الداء إدخال الطعام إثر الطعام. أي بنيّ، لم صفت أذهان الأعراب، وصحّت أبدان الرّهبان، مع طول الإقامة في الصوامع حتى لم تعرف النّقرس «6» ولا وجع المفاصل ولا الأورام، إلّا لقلّة الرّزء «7» وخفّة الزاد. وكيف لا ترغب في تدبير يجمع لك صحّة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح المعي» وكثرة المال، والقرب من عيش الملائكة!.

أي بنيّ، لم صار الضبّ أطول شيء ذماء «1» إلّا لأنّه يتبلّغ بالنسيم؛ ولما قال الرسول صلّى الله عليه وسلم «إنّ الصوم وجاء» «2» إلّا ليجعله حجازا «3» دون الشهوات. افهم تأديب الله، فإنه لم يقصد به إلّا إلى مثلك. أي بني، قد بلغت تسعين عاما نغض «4» لي سنّ، ولا انتشر «5» لي عصب ولا عرفت ذنين أنف «6» ، ولا سيلان عين، ولا سلس «7» بول؛ ما لذلك علّة إلّا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحبّ الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تريد الموت فار يبعد الله إلّا من ظلم نفسه. وقال أبو نهشل «8» : كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفّا كأنها طلعة «9» ، في ذراع كأنه جمّارة «10» ، فلا تقع عينها على أكلة نفيسة. إلّا خصّصتني بها، فزوّجتها وصرت أجلس معي على المائدة ابنا لي فيبرز كفّا كأنها كرنافة «11» ، في ذراع كأنه كربة «12» ، فو الله ما إن تسبق عيني إلى لقمة طيّبة إلّا سبقت يده إليها. وقال بعضهم: غلبت بطنتي فطنتي.

قال عمرو بن العاص لمعاوية يوم تحكّم الحكمان: أكثروا الطعام، فو الله ما بطن «1» قوم قطّ إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا. وكان يقال: أقلل طعاما تحمد مناما. الأصمعيّ قال: كان يقال: ليس لشبعة خير من جوعة تحفزها «2» . دعا عبد الملك بن مروان إلى الغداء رجلا فقال: ما فيّ فضل؛ فقال عبد الملك: ما أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا يبقى فيه فضل! فقال: يا أمير المؤمنين، عندي مستزاد، ولكن أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين. وقال لشيخ: ما أحسن أكلك؟ قال: عملي منذ ستين سنة. وقال الحسن: إنّ ابن آدم أسير الجوع، صريع الشبع. وسأل عبد الملك أبا الزعيرة فقال: هل اتّخمت قطّ؟ قال لا؛ قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دقّقنا، ولا نكظّ «3» المعدة ولا نخليها. وقال الأحنف: جنّبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصّافا لبطنه وفرجه، وإنّ من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه.

الأصمعيّ قال: بلغني أنّ أقواما لبسوا المطارف «1» العتاق، والعمائم الرّقاق؛ وأوسعوا دورهم، وضيقّوا قبورهم؛ وأسمنوا دوابّهم، وهزّلوا دينهم؛ طعام أحدهم غصب، وخادمه سخرة، يتّكىء على شماله، ويأكل من غير ماله؛ حتى إذا أدركته الكظّة قال: يا جارية هاتي حاطوما «2» ؛ ويلك! وهل تحطم إلا دينك! أين مساكينك! أين يتاماك! أين ما أمرك الله به! أين أين!. قال بعض الحكماء: مدار صلاح الأمور في أربع: الطعام لا يؤكل إلّا على شهوة، والمرأة لا تنظر إلا إلى زوجها، والملك لا يصلحه إلا الطاعة، والرعيّة لا يصلحها إلا العدل. وعن أبي هريرة قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلّم: «من أكل من سقط المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده وولد ولده من الحمق» . وقيل لأعرابيّ: أتحسن أن تأكل الرأى؟ قال: نعم، أبخص عينيه «3» ، وأسحي «4» ، خدّيه، وأفكّ لحييه، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحوج منّي إليه. وكانوا يكرهون أكل الدماغ؛ ولذلك يقول قائلهم: أنا من قبيلة تبقى المخّ في الجماجم. دعبل قال: يا بنيّ، لا تأكل ألية الشاة لأنها طبق الاست وقريب من الجواعر «5» . قال بعض الشعراء: [طويل] إذا لم أرى إلّا لآكل أكلة ... فلا رفعت يمنى يديّ طعامي فما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن جعتها بغرام «6»

عبد الملك بن عمير عن عمه عن الأصمعيّ قال: لا تخرج يا بنيّ من منزلك حتى تأخذ حلمك «1» . يعني حتى تتغذّى. وقال هلال بن جشم «2» : [طويل] وإنّ قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها وقرأت في الآيين «3» : أن رجلا من خدم دار المملكة أوصى ابنه فقال: إذا أكلت فضمّ شفتيك، ولا تتلفّتنّ يمينا وشمالا. ولا تتّخذنّ خلالك قصبا «4» . ولا تلقمنّ بسكين أبدا، وإذا كان في يدك سكّين وأردت التقاما فضعها على مائدتك ثم التقم. ولا تجلس فوق من هو أسنّ منك وأرفع منزلة. ولا تتخلّل بعود آس «5» . ولا تمسح بثياب بدنك. ولا ترق ماء وأنت قائم. ولا تحفر أرضا بأظفارك. ولا تجلس على حائط أو باب أو تكتب عليهما فتلعن، ولا تسترح على أسكفّة «6» فتجهّل، ولا تستنج بمدر «7» فيورثك البواسير، ولا تمتخط حيث يسمع امتخاطك، ولا تبصق في الأماكن المنظّفة. وأجلس معاوية على مائدته رجلا يؤاكله، فأبصر في لقمته شعرة، فقال: خذ الشعرة من لقمتك؛ فقال له الرجل: وإنك لتراعيني مراعاة من يبصر الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت معك أبدا ثم خرج الأعرابيّ وهو يقول: [طويل]

الجوع والصوم

وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وكان سعيد بن جبير إذا فرغ من طعامه قال: اللهمّ أشبعت وأرويت فهنئنا، وأكثرت وأطبت فزدنا. الجوع والصوم قيل لبعض الحكماء: أيّ الطعام أطيب؟ قال: الجوع أعلم. وكان يقال: نعم الإدام الجوع، ما ألقيت إليه قبله. قال لقمان لابنه: يا بنيّ، كل أطيب الطعام، ونم على أوطأ «1» الفراش. يقول: أكثر الصيام، وأطل بالليل القيام. اشتاق أعرابيّ بالبصرة إلى البادية فقال: [بسيط] أقول بالمصر لمّا ساءني شبعي ... ألا سبيل إلى أرض بها جوع ألا سبيل إلى أرض بها عرس ... جوع يصدّع منه الرأس برقوع «2» وقال آخر: [بسيط] وعادة الجوع فاعلم عصمة وغنى ... وقد يزيدك جوعا عادة الشّبع العتبيّ قال: قلت لرجل من أهل البادية: يا أخي، إني لأعجب من أن فقهاءكم أظرف من فقهائنا، وعوامّكم أظرف من عوامّنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا، قال: وما تدري لم ذاك؟ قلت لا؛ قال: من الجوع؛ ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لخلوّ جوفه!.

وقيل لبعض حكماء الرّوم: أيّ وقت الطعام فيه أطيب وأفضل؟ قال: أمّا لمن قدر فإذا جاع، وأمّا لمن لم يقدر فإذا وجد. ونظر أعرابيّ إلى قوم يلتمسون هلال شهر رمضان، فقال: أما والله لئن أثرتموه لتمسكنّ منه بذنابي عيش أغبر «1» . وقيل لآخر: ألا تصوم البيض من شعبان! فقال: بين يديها ثلاثون كأنها القباطيّ» . وقيل لمدني: بم تتسحّر الليلة؟ فقال: باليأس من فطور القابلة. الرّياشيّ قال: قيل لأعرابيّ: اشرب، فقال: إنى لا أشرب على ثميلة «3» . وقال: [طويل] إذا لم يكن قبل النبيذ ثريدة ... مبقّلة صفراء شحم جميعها «4» فإنّ نبيذ الصّرف إن كان وحده ... على غير شيء أوجع الكبد جوعها «5» قدم أعرابيّ على ابن عمّ له بالحضر، فأدركه شهر رمضان؛ فقيل له: أبا عمرو لقد أتاك شهر رمضان؛ قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام؛ قال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: لا، بل بالنهار؛ قال: أفيرضون بدلا من الشهر؟ قالوا: لا؛ قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تضرب وتحبس؛ فصام أياما فلم يصبر، فارتحل عنهم وجعل يقول: [طويل] يقول بنو عمّي وقد زرت مصرهم ... تهيّأ أبا عمرو لشهر صيام فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي ... سلام عليكم فاذهبوا بسلام «6»

أخبار من أخبار الأكلة

فبادرت أرضا ليس فيها مسيطر ... عليّ ولا منّاع أكل طعام وأدرك أعرابيّا شهر رمضان فلم يصم؛ فعذلته «1» امرأته في الصوم، فزجرها وأنشأ يقول: [طويل] أتأمرني بالصّوم لا درّ درّها ... وفي القبر صوم يا أميم طويل دعا عبد الله بن الزبير الحسين فحضر وأصحابه، فأكلوا ولم يأكل؛ فقيل له: ألا تأكل! فقال: إنّي صائم، ولكن تحفة الصائم «2» ؛ قيل: وما هي؟ قال: الدّهن والمجمر «3» . أخبار من أخبار الأكلة الأصمعيّ قال: قال رجل: أحبّ أن أرزق ضرسا طحونا، ومعدة هضوما، وسرما نثورا «4» . عن إسحاق بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: رأيت عمر يلقى إليه الصاع من التمر فيأكله حتى حشفه «5» . وقال بعض الشعراء: [بسيط] همّ الكريم كريم الفعل يفعله ... وهمّ سعد بما يلقي إلى المعده وقيل لرجل رئي سمينا: ما أسمنك؟ قال: أكلي الحارّ، وشربي القارّ «6» ، واتكائي على شمالي، وأكلي من غير مالي.

وقيل لآخر: ما أسمنك؟ قال: قلّة الفكرة، وطول الدّعة «1» ، والنّوم على الكظّة «2» . قال الحجّاج للغضبان بن القبعثري في حبسه: ما أسمنك؟ قال: القيد والدّعة «3» ، ومن كان في ضيافة الأمير سمن. وقال آخر لرجل رآه سمينا: أرى عليك قطيفة «4» من نسج أضراسك. وقيل لآخر: إنك لحسن الشّحمة ليّن البشرة؛ فقال: آكل لباب البرّ بصغار المعز، وأدّهن بدهن البنفسج، وألبس الكتّان. قيل لميسرة الأكول وأنا أسمع: كم تأكل في كلّ يوم؟ قال: من مالي أو من مال غيري؟ قالوا: من مالك؛ قال: دونان «5» ؛ قالوا: فمن مال غيرك؟ قال: اخبز واطرح. والعرب تقول: «العاشية تهيج الآبية» «6» . يريدون أنّ الذي لا يشتهي أن يأكل، إذا نظر إلى من يأكل هاجه ذلك على الأكل. قال جرير: [كامل] وبنو الهجيم سخيفة أحلامهم ... ثطّ اللّحى متشابهوا الألوان «7» لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أصبح جمعهم بعمان

متأبّطين بنيهم وبناتهم ... صعر الأنوف لريح كل دخان «1» قعد رجل على مائدة المغيرة، وكان منهوما، وجعل ينهش ويتعرّق؛ فقال المغيرة: ناولوه سكّينا؛ فقال الرجل: كلّ امرىء سكّينه في رأسه وقيل لأعرابيّ: ما لكم تأكلون اللحم وتدعون الثريد؟ فقال: لأن اللحم ظاعن «2» والثريد باق. وقيل لآخر: ما تسمّون المرق؟ قال: السّخين؛ قال: فإذا برد؟ قال: لا ندعه يبرد. قال أبو اليقظان «3» : كان هلال بن أسعر التّميميّ، من بني دارم بن مازن، شديدا أكولا؛ يزعمون أنه أكل جملا إلا ما حمل على ظهره منه. وأكل مرّة فصيلا «4» ، وأكلت امرأته فصيلا، فلما ضاجعها لم يصل إليها؛ فقالت: كيف تصل إليّ وبيننا بعيران!. الأصمعيّ قال: دعا عبّاد بن أخضر هلال بن أسعر إلى وليمة، فأكل مع الناس حتى فرغوا، ثم أكل ثلاث جفان تصنع كلّ جفنة لعشرة أنفس؛ فقال له: شبعت؟ قال لا؛ فأتوه بكل خبز في البيت فلم يشبع، فبعثوا إلى الجيران؛ فلمّا اختلفت ألوان الخبز علم أنه قد أضرّ بهم فأمسك؛ فقالوا: هل لك في تمر شهريز «5» بلبن؟ فأتوه به فأكل منه قواصر «6» ؛ فقالوا له: أشبعت؟ قال: لا؛

قالوا: فهل لك في السّويق؟ قال: نعم؛ فأتوه بجراب ضخّم مملوء؛ فقال: هل عندكم نبيذ؟ قالوا: نعم؛ قال: أعندكم تور «1» تغتسلون فيه من الجنابة؟ فأتي به فغسله وصبّ السّويق وصبّ عليه النبيذ، فما زال يفعل ذلك حتى فني. الشّمردلّ وكيل آل عمرو بن العاص قال: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف وقد عرفت شجاعته، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانا لعمرو؛ قال: فجال في البستان ساعة ثم قال: ناهيك بمالكم هذا مالا لولا جرار فيه! فقلت: يا أمير المؤمنين، إنها ليست بجرار ولكنها جرب الزّبيب؛ فجاء حتى ألقى صدره على غصن، ثم قال: ويلك يا شمردل! أما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله! إن عندي لجديا تغدو عليه بقرة وتروح أخرى؛ قال: اعجل به؛ فأتيته به كأنه عكّة «2» ، وتشمّر فأكل ولم يدع ابنه ولا عمر حتى أبقى فخذا. فقال: يا أبا حفص هلمّ؛ قال: إنّي صائم؛ ثم قال: ويلك يا شمردل! أما عندك شيء؟ فقلت: بلى والله! دجاجات ست كأنهنّ رئلان «3» النّعام، فأتيته بهنّ، فكان يأخذ رجل الدجاجة حتى يعري عظمها ثم يلقيها بفيه «4» حتى أتى عليهنّ. ثم قال: ويلك! أما عندك شيء؟ فقلت: بلى والله! إن عندي لحريرة كقراضة الذّهب «5» ، فقال: اعجل بها؛ فأتيته بعسّ «6» يغيب فيه الرأس، فجعل يتلقّمها «7» بيده ويشرب، فلما فرغ تجشّأ كأنه صاح في

جبّ «1» ؛ ثم قال: يا غلام، أفرغت من غدائنا؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: نيّف وثمانون قدرا؛ قال: فأتني بها قدرا قدرا؛ فأتاه بها وبقناع» عليه رقاق؛ فأكثر ما أكل من قدر ثلاث لقم وأقلّ ما أكل لقمة، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، وأذن للناس ووضعت الخوانات فجعل يأكل مع الناس. الخطّابيّ عن الدّيرانيّ أنه قال: إني لأعرف الطعام الذي يأكله سليمان؛ قال: لما استخلف سليمان «3» قال لي: تقطع عنّي ألطافك التي كنت تلطفني بها قبل أن أستخلف؛ فأتيته بزنبيلين أحدهما بيض والآخرتين؛ فقال: لقّمنيه، فجعلت أقشر البيضة وأقرنها بالتينة حتى أكل الزّنبيلين. العننيّ عن أبيه قال: كان عبيد الله بن زياد يأكل كلّ يوم أربع جرادق أصبهانية «4» وجبنا قبل غدائه. وعن سلّم بن قتيبة قال: عددت للحجاج أربعا وثمانين لقمة في كلّ لقمة رغيف من خبز «5» الماء فيه ملء كفّه سمك طريّ. وكان لعبد الرحمن بن أبي بكرة ابن أكول؛ فقال له معاوية «6» : ما فعل ابنك التّلقامة؟ قال «7» : اعتلّ؛ قال: مثله لا يعدم علّة.

أكل أبو الأسود الدؤليّ وأقعد معه أعرابيا فرأى له لقما منكرا؛ فقال له. ما اسمك؟ قال: لقمان؛ قال: صدق أهلك، إنك لقمان. ولد لابن أبي ليلى غلام فعمل الأخبصة للجيران، فلما أكلوا قام مساور الورّاق «1» فقال: [كامل] من لا يدسّم بالثريد سبالنا ... بعد الثّريد فلا هناه الفارس «2» وقال العجيف «3» في أمّه: [بسيط] يا ليتما أمّنا شالت نعامتها ... إمّا إلى جنّة إمّا إلى نار «4» ليست بشبعى وإن أسكنتها هجرا ... ولا بريّا ولو حلّت بذي قار «5» تلهّم الوسق مشدودا أشظّته ... كأنّما وجهها قد طلي بالقار «6» خرقاء في الخير لا تهدى لوجهته ... وهي صناع الأذى في الأهل والجار «7» رأى أبو الحارث جمّيز سلّة بين يدي رجل من الملوك، فقال له: جعلت فداك، أيّ شيء في تلك السّلّة؟ فقال: بظر أمّك، قال: فأعضّني «8» به.

قيل للحارثيّ: لم لا تؤاكل الناس؟ فقال: لو لم أترك مؤاكلتهم إلا لنزوعي عن الأسواريّ لتركتها، ما ظنّكم برجل نهش بضعة لحم بقر فانقلع ضرسه وهو لا يدري. وكان إذا أكل ذهب عقله وجحظت «1» عيناه وسكر وسدر «2» وتربّد «3» وجهه وغضب ولم يسمع ولم يبصر، فلما رأيته وما يعتريه ويعتري الطعام منه صرت لا آذن له إلا ونحن نأكل الجوز والتمر والباقلّى «4» ؛ ولم يفجأني قطّ وأنا آكل تمرا إلا استفّه «5» سفّا وزدا «6» به زودا، ولا وجده كنيزا «7» إلا وتناول القطعة منه كجمجمة الثّور كدمها «8» كدما، ونهشها طولا وعرضا، ورفعا وخفضا، حتى يأتي عليها؛ ثم لا يقع عضّه إلا على الأنصاف والأثلاث؛ ولا رمى بنوان قطّ، ولا نزع قمعا «9» ، ولا نفى عنه قشرا، ولا فتّشه مخافة السوس والدود. وقال بعض الشعراء: [وافر] تبيت تدهده القرّان حولي ... كأنّك عند رأسي عقربان «10» فلو أطعمتني حملا سمينا ... شكرتك والطعام له مكان وقال بعض الأعراب: [طويل] وإنّ طعاما ضمّ كفّي وكفّها ... لعمرك عندي في الحياة مبارك

فمن أجلها أستوعب الزاد كلّه ... ومن أجلها أهوي يدي فأدارك وقال آخر: [متقارب] عريض البطان جديد الخوان ... قريب المراث من المرتع «1» فنصف النهار لكرياسه ... ونصف لمأكله أجمع «2» الأصمعيّ قال: قيل لأعرابيّ: ما يعجبك من هذا القند «3» ؟ قال: يعجبني خضده وبرده. قال الأصمعيّ: الخضد: المضغ والأكل الشديد. قال خالد بن صفوان يوما لجاريته: يا جارية، أطعمينا جبنا، فإنه يشهّي الطعام ويهيج المعدة، وهو يعدّ من حمض العرب. قالت: ما عندنا منه شيء. قال: لأعلمك إنه والله، ما علمت، ليقدح في الأسنان ويستولي على البطن، وأنه من طعام أهل الذمّة. كان يقال: إذا كثرت المقدرة، ذهبت الشهوة. وقال بعض الظرفاء: [طويل] زرعنا فلمّا سلّم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل بحصاد بلينا بكوفيّ حليف مجاعة ... أضرّ علينا من دبى وجراد «4» عن نافع عن ابن عمر قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: من دخل على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» . عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا دعي أحدكم فجاء مع

الرسول فإنّ ذلك له إذن» . وعن مجاهد: أن ابن عمر كان إذا دعي إلى طعام وهو صائم يجيب، وكان يهيء اللقمة بيده ثم يقول: كلوا باسم الله فإني صائم. وعن أسماء بنت رفيد قالت: دخلنا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فأتي بطعام فعرض علينا فقلنا: لا نشتهيه، فقال: «لا تجمعنّ كذبا وجوعا» . دعا رجل عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى الطعام، فقال: نأتيك على ألّا تتكلّف ما ليس عندك، ولا تدّخر عنا ما عندك. وكان يقول: شرّ الإخوان من تكلّف له «1» . دعا رجل رجلا إلى الغداء ثم قال له: هذه بكر زيارة ولم نستعدد، فلعل تقصيرا فيما أحبّ بلوغه؛ فقال الآخر: حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكلّف. قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ «2» : أتاني الزبير بن دحمان يوما فسألته أن يقيم عندي، فقال: قد أرسل إليّ الفضل بن الربيع وليس يمكنني التخلّف عنه؛ فقلت له: [طويل] أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب ... ونله مع اللّاهين يوما ونطرب إذا ما رأيت اليوم قد جاء خيره ... فخذه بشكر واترك الفضل يغضب وقال بعض المحدثين: [خفيف] نحن قوم متى دعينا أجبنا ... ومتى ننس يدعنا التطفيل «3» ونقل علّنا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرسول

كان طفيل العرائس الذي ينسب اليه الطّفيليّون يوصي أصحابه فيقول لأحدهم: إذا دخلت عرسا فلا تتلفّت تلفّت المريب، وتخيّر المجالس، وأجد ثيابك، واعمل على أنها العقدة التي تستغل «1» . وإن كان العرس كثير الزحام فمر وانه «2» . ولا تنظر في عيون أهل المرأة ولا عيون أهل الرجل، فيظنّ هؤلاء أنك من هؤلاء وهؤلاء أنك من هؤلاء. وإن كان البوّاب غليظا وقاحا «3» فابدأ به ومره وانهه من غير أن تعنّف عليه، وعليك بكلام بين النصيحة والإدلال. عرض رجل على رقبة الغداء؛ فقال: إن أقسمت عليّ وإلّا فدعني. ومن أشعار الطّفيليّين: [سريع] دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدّعوه وقلت دا أحسن من موعد ... إخلافه يدعو إلى جفوه «4» وقال آخر: [طويل] إذا جاء ضيف جاء للضيف ضيفن ... فأودى بما تقرى الضيوف الضّيافن «5» وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلّي: [بسيط] نعم الصديق صديق لا يكلّفني ... ذبح الدّجاج ولا شيّ الفراريج يرضى بلونين من كشك ومن عدس ... وإن تشهّى فزيتون بطسّوج «6» كان سعيد بن أسعد الأنصاري إمام الجامع بالبصرة طفيليّا، فإذا كانت وليمة سبق الناس إليها، فربما بسط معهم البسط وخدم. فقيل له في ذلك

باب الضيافة وأخبار البخلاء على الطعام

فقال: إني أبادر برد الماء، وصفو القدور، ونشاط الخبّاز، وخلاء المكان، وغفلة الذّبّان، وجفاف المنديل. وقيل لبعض الطفيليّين: كم اثنان في اثنين قال: أربعة أرغفة. باب الضيافة وأخبار البخلاء على الطعام عن المقدام «1» أبي كريمة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أيّما مسلم ضافه قوم فأصبح الضيف محروما كان له على كلّ مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله» . روى ابن العجلان عن أبيه قال: قال أبو هريرة: إذا نزلت برجل ولم يقرك فقاتله. عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الخير أسرع إلى مطعم الطّعام من الشّفرة في سنام «2» البعير» . داود قال: قلت للحسن: إنك تنفق من هذه الأطعمة وتكثر، قال: ليس في الطعام سرف. وقال الثوريّ: ليس في الطعام ولا في النساء سرف. عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من السّنّة أن يمشي الرجل مع ضيفه إلى باب الدار» . عن عبد الرحمن بن عباس قال: رأيت ابن عباس في وليمة فأكل وألقى للخبّاز درهما. الأصمعيّ قال: سئل أقرى أهل اليمامة للضيف: كيف ضبطتم القرى؟ قال: بأنّا لا نتكلّف ما ليس عندنا.

عن بعض النّسّاك قال: قد أعياني أن أنزل على رجل يعلم أني لست آكل من رزقه شيئا. عن عون بن عبد الله قال: ضلّ رجل صائم في عام سنة «1» ، فابتلي برجل عند فطره وقد أتي بقرصين فألقى إليه أحدهما، ثم قال: ما هذا بمشبعه ولا بمشبعي، ولأن يشبع واحد خير من أن يجوع اثنان، وألقى إليه الآخر. فلما أوى إلى فراشه أتاه آت فقال: سل؛ فقال: أسأل المغفرة؛ قال: قد فعل ذلك بك؛ قال: فإني أسأل أن يغاث الناس. عن الحسن: أنّ رجلا جهده الجوع، ففطن له رجل من الأعيان، فلمّا أمسى أتى به رحله «2» ، فقال لامرأته: هل لك أن نطوي ليلتنا هذه لضيفنا؟ قالت: نعم قال: فإذا قدّمت الطعام فأدني إلى السراج كأنك تصلحينه فأطفئيه، ففعلت وجاءت بثريدة كأنها قطاة «3» فوضعتها بين أيديهما، ثم دنت إلى السراج كأنّها تصلحه فأطفأته، فجعل الأنصاريّ يضع يده في القصعة ثم يرفعها خالية؛ فأطلع على ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فلما أصبح الأنصاريّ صلّى مع الرسول صلّى الله عليه وسلم الفجر، فلما سلّم أقبل على الأنصاريّ وقال: «أنت صاحب الكلام الليلة؛ ففزع الأنصاريّ وقال: أيّ كلام يا رسول الله؟ قال: كذا وكذا: قوله لامرأته؛ قال كان ذاك يا رسول الله؛ قال: فو الله لقد عجب الله من صنعكما الليلة» . الأصمعيّ قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا قدم عليه بريد قال: هل رأيت في الناس العرسات؟ يعني الخصب للمسلمين.

وقيل لأعرابيّ كان في مجلس: فيم كنتم؟ قال: كنا في قدر تفور، وكأس تدور، وغناء يصور «1» ، وحديث لا يخور «2» . بلغني أن محمد بن خالد بن يزيد بن معاوية كان نازلا بحلب على الهيثم بن يزيد التّنوخيّ، فبعث إلى ضيف له من عذرة فقال: حدّث أبا عبد الله ما رأيت في حاضرة المسلمين من أعاجيب الأعراس؛ قال: نعم، رأيت أمورا معجبة: منها أني رأيت قرية عاصم بن بكر الهلاليّ، فإذا أنا بدور متباينة، وإذا أخصاص «3» منظّم بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون وعليهم ثياب حكوا بها ألوان الزّهر، فقلت لنفسي: هذا أحد العيدين الأضحى أو الفطر؛ ثم رجع إليّ ما عزب «4» عنّي من عقلي، فقلت: خرجت من أهلي في عقب صفر وقد مضى العيدان قبل ذلك؛ فبينما أنا واقف ومتعجّب أتاني رجل فأخذ بيدي فأدخلني دارا قوراء «5» وأدخلني بيتا قد نجّد «6» في وجهه فرش قد مهّدت وعليها شابّ ينال فروع شعره كتفيه، والناس حوله سماطان «7» ؛ فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي يحكى لنا جلوسه وجلوس الناس حوله، فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته؛ فجذب رجل بيدي وقال: اجلس فإن هذا ليس بالأمير؛ فقلت: ومن هو؟ قال: عروس؛ قلت؛ واثكل أمّاه! ربّ عروس رأيت بالبادية أهون على أصحابه من هن أمّه؛ فلم ألبث إذ دخلت الرجال عليها هنات «8» مدوّرات من

خشب وقضبان، أمّا ما خفّ فيحمل حملا، وأمّا ما ثقل فيدحرج، فوضعت أمامنا وتحلّق القوم حلقا حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثيابا وهممت عندها أن أسأل القوم خرقا أقطع منها قميصا، وذلك أني رأيت نسجا متلاحكا «1» لا تبين له سدى «2» ولا لحمة؛ فلما بسط القوم أيديهم إذا هو يتمزّق سريعا وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه. ثم أتينا بطعام كثير من حلو وحامض وحارّ وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعرف ما في عقبه من التّخم والبشم «3» . ثم أتينا بشراب أحمر في عساس «4» ، فلما نظرت إليه قلت: لا حاجة لي فيه، أخاف أن يقتلني. وكان في جانبي رجل ناصح لي- أحسن الله جزاءه- كان ينصح لي من بين أهل المجلس، فقال: يا أعرابيّ، إنك قد أكثرت من الطّعام، وإن شربت الماء انتفخ بطنك- فلما ذكر البطن تذكرت شيئا كان أوصاني به أبي والأشياخ من أهلي: قالوا: لا تزال حيّا ما دام شديدا (يعني البطن) فإذا اختلف فأوص- فلم أزل أتداوى به ولا أملّ من شربه، فتداخلني- نالك الخير- صلف «5» لا أعرفه من نفسي، وبكاء لا أعرف سببه ولا عهد لي بمثله، واقتدار على أمر أظن معه أني لو أردت نيل السقف لبلغته ولو ساورت «6» الأسد لقتلته، وجعلت ألتفت إلى الرجل الناصح لي فتحدّثني نفسي بهتم أسنانه «7» وهشم أنفه، وأهمّ أحيانا بأن أقول له: يابن

الزانية؛ فبينما نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة: أحدهم قد علّق في عنقه جعبة فارسية مشنّجة «1» الطرفين دقيقة الوسط قد شبحت «2» بالخيوط شبحا منكرا، وقد ألبست قطعة فرو كأنهم يخافون عليها القرّ. ثم بدر الثاني فاستخرج من كمّه هنة سوداء كفيشلة الحمار فوضع طرفها في فيه فضرط فيها فاستتمّ بها أمرهم، ثم حسب «3» على حجرة فيها فاستخرج منها صوتا ملائما مشاكلا بعضه بعضا كأنه- علم الله- ينطق. ثم بدر الثالث عليه قميص وسخ وقد غرق شعره بالدّهن ومعه مرآتان فجعل يمري «4» إحداهما على الأخرى مريا. ثم بدر الرابع عليه قميص قصير وسراويل قصير وخفّان أجذمان «5» لا ساقين لهما، فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب، ثم التبط بالأرض، فقلت: معتوه وربّ الكعبة! ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط «6» القوم عندي، ورأيت الناس يحذوفونه بالدارهم حذفا منكرا. ثم أرسلت إلينا النساء أن أمتعونا من لهوكم، فبعثوا بهم إليهن. وبقيت الأصوات تدور في آذاننا. وكان معنا في البيت شابّ لا آبه له، فعلت الأصوات له بالدعاء، فخرج فجاء بخشبة عينها في صدرها فيها خويطات أربعة، فاستخرج من جنبها عودا فوضعه على أذنه، ثم زمّ الخيوط الظاهرة، فلما أحكمها وعرك آذانها حرّكها بمجسّة «7» في يده، فنطقت وربّ الكعبة! وإذا هي أحسن قينة «8» رأيتها قطّ وغنّى عليها

فاستخفّني «1» في مجلسي حتى قمت فجلست بين يديه، فقلت: بأبي أنت وأمّي! ما هذه الدابّة؟ «2» فلست أعرفها للأعراب وما خلقت إلّا حديثا! فقال: يا أعرابيّ. هذا البربط «3» الذي سمعت به؛ فقلت: بأبي أنت وأمي! فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: زير؛ قلت: فما الذي يليه؟ قال: مثنى؛ قلت: فالثالث؟ قال: المثلث؛ قلت: فالرابع؟ قال البمّ؛ قلت: آمنت بالله أوّلا وبالبمّ ثانيا. وقال الخريميّ: [طويل] أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحلّ جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنّما وجه الكريم خصيب وقال أرطاة بن سهيّة «4» : [طويل] وإنّي لقوّام إلى الضيف موهنا ... إذا أغدف السّتر البخيل المواكل «5» دعا فأجابته كلاب كثيرة ... على ثقة منّي بما أنا فاعل وما دون ضيفي من تلاد تحوزه ... لي النفس إلا أن تصان الحلائل «6» وقال آخر «7» : [طويل] إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ... على الأهل حتى تستقلّ مراجله «8»

يقول: يسوّىء خلقه حتى يطعم أضيافه، لإعجاله إياهم ولخوف تقصير يكون منهم. وقال دعبل: [طويل] وإنّي لعبد الضيف من غير ذلّة ... وما فيّ إلّا تلك من شيمة العبد وقال آخر «1» : [طويل] لحافي لحاف الضّيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه الغزال المقنّع «2» أحدّثه، إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنّه سوف يهجع «3» وقال الفرزدق في العذافر: [طويل] لعمرك ما الأرزاق يوم اكتيالها ... بأكثر خيرا من خوان عذافر «4» ولو ضافه الدّجّال يلتمس القرى ... وحلّ على خبّازه بالعساكر «5» بعدّة يأجوج ومأجوج كلّهم ... لأشبعهم يوما غداء العذافر «6» وقال مسكين الدارميّ «7» : [كامل] ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر ما ضرّ جارا لي أجاوره ... ألّا يكون لبابه ستر

ضاف رجل من كلب أبا الرّمكاء الكلبيّ، ومع الرجل فضلة من حنطة، فراحت معزى أبي الرّمكاء، فحلب وشرب، ثم حلب وسقى ابنه، ثم حلب وسقى امرأته؛ فقال الرجل: ألا تسقون ضيفكم؟ فقال أبو الرّمكاء: ما فيها فضل؛ فاستخرج الرجل ما في عكمه «1» من طعام وقال: هل من رحى؟ فأسرعوا بها نحوه، فطحن وعجن وأوقد خبزته وأخرجها فنفضها، فإذا رسول أبي الرمكاء يقول: يقول لك أبو الرمكاء: لا عهد لنا بالخبز؛ فقال الرجل: ما فيها فضل، ثم أكل وارتحل، وقال: [طويل] وبات أبو الرّمكاء لم يسق ضيفه ... من المحض ما يطوي عليه فيرقد «2» فقمت إلى حنّانة فوق أختها ... ونار وباتت وهي تورى وتوقد فلما نفضت الخبز بالعود أقبلت ... رسائل تشكي الجوع والحيّ سهّد وقال أبو الرّمكاء بالخبز عهده ... قديم له حول كريب مطرّد «3» فقلت ألا لا فضل فيها لباخل ... ولا مطمع حتى يلوح لنا الغد فبات أبو الرّمكاء من فرط ريحها ... يئنّ كما أنّ السليم المسهّد «4» ذكر أعرابيّ قوما فقال: ألغوا من الصلاة الأذان، مخافة أن تسمعه الآذان، فيهلّ عليهم الضّيفان. وقال بعضهم في ذلك: [وافر] أقاموا الدّيدبان على يفاع ... وقالوا لا تنم للدّيدبان «5» فإن أبصرت شخصا من بعيد ... فصفّق بالبنان على البنان

تراهم خشية الأضياف خرسا ... يصلّون الصلاة بلا أذان وقال زياد الأعجم: [طويل] وتكعم كلب الحيّ من حشية القرى ... وقدرك كالعذراء من دونها ستر «1» وقال آخر: [طويل] وإنّي لأجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يضرى بنا فيعود «2» وقال آخر: [كامل] أعددت للضّيفان كلبا ضاريا ... عندي وفضل هراوة من أرزن «3» ومعاذرا كذبا ووجها باسرا ... متشكيّا عضّ الزمان الألزن «4» رأى رجل الحطيئة وبيده عصا؛ فقال: ما هذه؟ قال: عجراء «5» من سلم، قال: إنّي ضيف، قال: للضّيفان أعددتها. وقال آخر: [بسيط] وأبغض الضيف ما بي جلّ مأكله ... ألّا تنفّخه حولي إذا قعدا ما زال ينفخ جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعلّ الضيف قد ولدا «6» وقال حميد الأرقط «7» يذكر ضيفا: [طويل] إذا ما أتانا وراد المصر مرملا ... تأوّب ناري أصفر العقل قافل «8»

فقلت لعبديّ اعجلا بعشائه ... وخير عشاء الضيف ما هو عاجل فقال وقد ألقى المراسي للقرى ... أبن لي ما الحجّاج بالناس فاعل «1» فقلت لعمري ما لهذا طرقتنا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل تجهّز كفّاه فيحدر حلقه ... إلى الزّور ما ضمّت عليه الأنامل «2» أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل «3» فما زال منه اللّقم حتى كأنّه ... من العيّ لمّا أن تكلّم باقل «4» وقال أيضا في نحو ذلك: [بسيط] ومرملين على الأقتاب برّهم ... حقائب وعباء فيه بعرين «5» مقدمين أنوفا في عصائبهم ... هجنا، ألا جدعت تلك العرانين «6» يسطّرون لنا الأخبار إذ نزلوا ... وكلّ ما سطّروا للّقم تمكين باتوا وجلّتنا الصهباء بينهم ... كأنّ أظفارهم فيها سكاكين «7» فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم ... وليس كلّ النوى تلقي المساكين «8» وقال أيضا في نحو ذلك: [طويل]

وعاو عوى والليل مستحلس النّدى ... وقد ضجعت للغور تالية النجم «1» فسلّم تسليم الصّديق ولم يكن ... صديقا لنا إلا ليأنس باللّقم فقلت له والنار تأخذ صدره ... لقمت لسمت أو سريت على علم «2» وقال بعض الرّجّاز: برّح بالعينين خطّاب الكثب «3» ... يقول إنّي خاطب وقد كذب وإنّما يطلب عسّا من حلب «4» وقال آخر: [بسيط] إنّي لمثلكم من سوء فعلكم ... إن زرتكم أبدا إلّا معي زادي وقال حمّاد عجرد: [متقارب] حريث أبو الصّلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسده تخوّف تخمة أضيافه ... فعوّدهم أكلة واحده عن قتادة قال: قال زياد لغيلان بن خرشة «5» : أحبّ أن تحدّثني عن العرب وجهدها وضنك عيشها «6» ، لنحمد الله على النّعمة التي أصبحنا بها؛ فقال غيلان: حدّثني عمّي قال: توالت على العبر سنون تسع في الجاهليّة

حطمت كلّ شيء «1» ، فخرجت على بكر «2» لي في العرب. فمكثت سبعا لا أطعم شيئا إلا ما ينال منه بعيري أو من حشرات الأرض، حتى دفعت في اليوم السابع إلى حواء عظيم «3» ، فإذا بيت جحش «4» عن الحيّ، فملت إليه فخرجت إليّ امرأة طوالة حسّانة (5) ؛ فقالت: من؟ قلت: طارق ليل يلتمس القرى؛ فقالت: لو كان عندنا شيء لآثرناك به، والدّالّ على الخير كفاعله، حسّ «5» هذه البيوت ثم انظر إلى أعظمها، فإن يك في شيء منها خير ففيه؛ ففعلت حتى دفعت اليه، فرحّب بي صاحبه وقال: من؟ قلت: طارق ليل يلتمس القرى؛ فقال: يا فلان، فأجابه، فقال: هل عندك طعام؟ فقال لا؛ فو الله ما وقر «6» في أذني شيء كان أشدّ منه. قال: فهل عندك شراب؟ قال لا، ثم تأوّه فقال: بلي! قد بقّينا في ضرع الفلانة «7» شيئا لطارق إن طرقك، قال: فأت به، فأتى العطن فابتعثها «8» . فحدّثني عمي أنه شهد فتح أصبهان وتستر ومهرجان وكور الأهواز وفارس وجاهه عند السلطان وكثرة ماله وولده، قال: فما سمعت شيئا قطّ كان أشدّ من شخب «9» تيك الناقة في تلك العلبة؛ حتى إذا ملأها وفاضت من جوانبها وارتفعت عليها شمكرة «10» كجمّة الشيخ «11» ، أقبل بها

يهوي نحوي، فعثر بعود أو حجر، فسقطت العلبة من يده، فحدّثني أنه أصيب بأبيه وأمّه وولده وأهل بيته فما أصيب بمصيبة أعظم من ذهاب العلبة. فلما رأى ذلك ربّ البيت خرج شاهرا سيفه فبعث الإبل ثم نظر إلى أعظمها سناما ودفع إليه مدية وقال: يا عبد الله اصطل واحتمل «1» . قال: فجعلت أهوي بالبضعة إلى النار فإذا بلغت إناها «2» أكلتها، ثم مسحت ما في يدي من إهالتها «3» على جلدي وقد كان قحل «4» على عظمي حتى كأنّه شنّ «5» . ثم شربت شربة ماء وخررت مغشيّا عليّ فما أفقت إلى السّحر. وقطع زياد الحديث وقال: لا عليك ألّا تخبرنا بأكثر من هذا، فمن المنزول به؟ قلت: أبو عليّ عامر بن الطّفيل. قال بعض الشعراء يهجو قوما: [كامل] وتراهم قبل الغداء لضيفهم ... يتخلّلون صبابة للزّاد «6» وقال آخر «7» : [مجزوء الكامل المرفّل] استبق ودّ أبي المقا ... تل حين تأكل من طعامه سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه فتراه من خوف النزي ... ل به يروّع في منامه

فإذا مررت ببابه ... فاحفظ رغيفك من غلامه وقال آخر «1» : [بسيط] صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرغيف، فذاك البرّ من قسمه «2» قد كان يعجبني لو أنّ غيرته ... على جراذقه كانت على حرمه «3» إن رمت قتلته فافتك بخبزته ... فإنّ موقعها من لحمه ودمه قلت لرجل كان يأكل مع أبي دلف: كيف كان طعامه؟ قال: كان على مائدته رغيفان بينهما نقرة جوزة؛ وقال: [وافر] أبو دلف يضيّع ألف ألف ... ويضرب بالحسام على الرغيف أبو دلف لمطبخه قتار ... ولكن دونه ضرب السيوف «4» وقال أبو الشّمقمق «5» : [وافر] رأيت الخبز عزّ لديك حتّى ... حسبت الخبز في جوّ السحاب وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزئة الذّباب وقال دعبل: [خفيف] إنّ من ضنّ بالكنيف على الضي ... ف بغير الكنيف كيف يجود! «6» ما رأينا ولا سمعنا بحشّ ... قبل هذا لبابه إقليد «7»

إن يكن في الكنيف شيء تخبّا ... هـ فعندي إن شئت فيه مزيد ولهذا الشعر قصة قد ذكرتها في باب الشعراء «1» . قال أبو محمد: شوى لجعفر بن سليمان الهاشميّ دجاج ففقد فخذ من دجاجة، فأمر فنودي في داره: من هذا الذي تعاطى فعقر «2» والله لا أخبز في هذا التنّور شهرا أو يردّ! فقال ابنه الأكبر: أتؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا!. قال بعض الشعراء «3» : [سريع] يا تارك البيت على الضيف ... وهاربا منه من الخوف ضيفك قد جاء بخبز له ... فارجع فكن ضيفا على الضيف وقال أبو نواس «4» : [مجزوء الرّمل] خبز إسماعيل كلوش ... ي إذا ما شقّ يرفا «5» عجبا من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى إن رفّاءك هذا ... أحذق الأمة كفّا فإذا قابل بالنص ... ف من الجردق نصفا «6»

مثل ما جاء من التّن ... ور ما غادر حرفا أحكم الصنعة حتى ... لا يرى موضع إشفى «1» وله في الماء أيضا ... عمل أبدع ظرفا مزجه العذب بماء ال ... بئر كي يزداد ضعفا فهو لا يشرب منه ... مثل ما يشرب صرفا «2» عن عبد العزيز بن عمران قال: نزلت ببيت ابن هرمة فقلت: انحروا لنا جزورا؛ فقالت: والله ما هي عندنا؛ فبقرة، قالت لا؛ قلت: فشاة، قالت لا؛ قلت: فدجاجة، قالت لا، فأين قول أبيك: [منسرح] لأمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل «3» قالت: ذاك أفناها. فبلغ ابن هرمة ما قالت، قال: أشهد أنها ابنتي، وأشهد أن داري لها دون الذكور من أولادي. قال ابن أبي فنن «4» : [منسرح] لا أشتم الضيف ولكنّني ... أدعو له بالقرب من طوق «5» بقرب من إن زاره زائر ... مات إلى الخبز من الشوق دخل على ابن لرجل من الأشراف داخل وبين يديه فراريج، فغطّى الطبق بمنديله وأدخل رأسه في جيبه وقال للداخل عليه: كن في الحجرة الأخرى حتى أفرغ من بخوري.

وفيما أجاز لنا عمرو بن بحر من كتبه قال: دخل رجل على رجل قد تغذّى مع قوم ولم ترفع المائدة قال لهم: كلوا وأجهزوا على الجرحى. يريد: كلوا ما كسر ونيل منه ولا تعرضوا إلى الصحيح. قال: وقال لقوم يؤاكلونه: يزعمون أن خبزي صغار! أيّ ابن زانية يأكل من هذا رغيفين!. قال: ويقول لزائره إذا أطال عنده المكث: تغدّيت اليوم؟ فإن قال نعم، قال: لولا أنك تغدّيت لغدّيتك بطعام طيّب. وإن قال لا، قال: لو كنت تغدّيت لسقيتك خمسة أقداح. فلا يكون له على الوجهين لا قليل ولا كثير. وحكي عن أبي نواس أنه قال: قلت لرجل من أهل خراسان: لم تأكل وحدك؟ قال: ليس عليّ في هذا الموضع سؤال؛ إنما السؤال على من أكل مع الجماعة، لأن ذاك تكلّف وأكلي وحدي هو الأكل الأصليّ. وكنّا عند داود بن أبي داود بواسط أيام ولايته كسكر «1» ، فأتته من البصرة هدايا، وكان فيها زقاق دو شاب «2» ، فقسمها بيننا، فكلّنا أخذ ما أعطي، غير الحزاميّ، فأنكرنا ذلك وقلنا: إنما يجزع الحزاميّ من الإعطاء وهو عدوّه، فأما الأخذ فهو ضالّته وأمنيّته؛ فإنه لو أعطي أفاعي سجستان، وثعابين مصر، وجرّارات «3» الأهواز لأخذها، إذ كان اسم الأخذ واقعا عليها؛ فسألناه عن سبب ذلك، فتعسّر قليلا ثم باح بسرّه وقال: وضعته «4» أضعاف ربحه، وأخذه من أسباب الإدبار؛ قلت: أوّل وضائعه احتمال ثقل السّكر؛ قال: هذا لم يخطر

ببالي قطّ، ولكن أوّل ذاك كراء الحمّال «1» ، فإذا صار إلى المنزل صار سببا لطلب العصيدة والارزّة والستندفود «2» ، فإن بعته فرارا من هذا البلاء صيّرتموني شهرة «3» ، وإن أنا حبسته ذهب في العصائد وأشباهها، وجذب ذلك شراء السّمن، ثم جذب السمن غيره، وصار هذا الدّوشاب علينا أضرّ من العيال؛ وإن أنا جعلته نبيذا احتجت إلى كراء القدور وإلى شراء الحبّ «4» وإلى شراء الماء وإلى كراء من يوقد تحته؛ فإن ولّيت ذلك الخادم اسودّ ثوبها وغرّمتنا ثمن الأشنان «5» والصابون، وازدادت في الطّعم على قدر الزيادة في العمل؛ فإن فسد ذهبت النفقة باطلا ولم نستخلف «6» منها عوضا بوجه من الوجوه، لأن خلّ الدّاديّ «7» يخضب اللّحم ويغيّر الطّعم ويسوّد المرقة ولا يصلح إلا للاصطباغ. وإن سلم- وأعوذ بالله- وجاد وصفا لم نجد بدّا من شربه ولم تطب أنفسنا بتركه؛ فإن قعدت في البيت أشربه لم يمكن ذلك إلا بترك سلاف «8» الفارسيّ المعسّل، والدّجاج المسمّن، وجداء كسكر «9» وفاكهة الجبل والنّقل الهشّ والرّيحان الغضّ، عند من لا يغيض «10» ماله، ولا تنقطع مادّته، وعند من لا يبالي على أي قطريه «11» سقط مع فوت الحديث المؤنس والسّماع الحسن؛ وعلى أنّى إن جلست في البيت أشربه لم يكن بدّ من واحد، وذلك

الواحد لا بدّ له من لحم بدرهم، ونقل بطسّوج «1» ، وريحان بقيراط «2» ، ومن أبزار للقدر وحطب للوقود؛ وهذا كله غرم وشؤم وحرمان وحرفة «3» وخروج من العادة الحسنة. فإن كان النديم غير موافق فأهل السجن أحسن حالا مني، وإن كان موافقا فقد فتح الله على ما لي به بابا من التّلف، لأنه حينئذ يسير في مالي كسيري في مال غيري ممّن هو فوقي. فإذا علم الصديق أن عندي داذيّا «4» أو نبيذا دقّ على الباب دقّ المدلّ، فإن حجبناه فبلاء، وإن أدخلناه فشقاء. وإن بدا لي في استحسان حديث الناس كما يستحسنه مني من أكون عنده، فقد شاركت المسرفين، وفارقت إخواني الصالحين، وصرت من إخوان الشياطين؛ والله تقدّست أسماؤه يقول: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ «5» ؛ فإذا صرت كذلك فقد ذهب كسبي من مال غيري، وصار غيري يكتسب منّي؛ وأنا لو ابتليت بأحدهما لم أقم به فكيف إذا ابتليت بأن أعطي ولا آخذ، وبأن أوكّل ولا آكل! أعوذ بالله من الخذلان بعد العصمة، ومن الحور بعد الكور «6» ؛ ولو كان هذا في الحداثة كان أهون. هذا الدّوشاب دسيس من الحرفة، وكيد من الشيطان، وخدعة من الحسود، وهو الحلاوة التي تعقب المرارة. ما أخوفني أن يكون أبو سليمان قد ملّني فهو يحتال لي الحيل!. وحكي عن الحارثيّ أنه قال: الوحدة خير من جليس السوء، وجليس السوء خير من أكيل السوء؛ لأن كلّ أكيل جليس وليس كل جليس أكيلا؛ فإن

كان لا بدّ من المؤاكلة ولا بدّ من المشاركة فمع من لا يستأثر عليّ بالمخ، ولا ينتهز بيضة «1» البقيلة؛ ولا يلتقم كبد الدجاج، ولا يبادر إلى دماغ السّلّاءة «2» ، ولا يختطف كلية الجدي، ولا يزدرد قانصة الكركيّ «3» ، ولا ينتزع شاكلة «4» الحمل، ولا يبتلع سرّة السّمك، ولا يعرض لعيون الرءوس، ولا يستولى على صدور الدّرّاج «5» ، ولا يسابق إلى أسقاط الفراخ، ولا يتناول إلا ما بين يديه، ولا يلاحظ ما بين يدي غيره، ولا يمتحن الإخوان بالأمور الثمينة، ولا ينتهك أستار الناس بأن يشتهي ما عسى ألّا يكون موجودا؛ فكيف تصلح الدنيا ويطيب العيش بمن إذا رأى جزوريّة «6» التقط الأكباد والأسنمة «7» ، وإذا عاين بقريّة استولى على العراق «8» والقطنة «9» ، وإن عاين بطن سمكة اخترق كلّ شيء فيه، وإن أتوا بجنب شواء اكتسح ما عليه، ولا يرحم ذا سنّ لضعفه، ولا يرقّ على حدث لحدّة شهوته، ولا ينظر للعيال، ولا يبالي كيف دارت الحال. وأشدّ من كل ما وصفنا أنّ الطبّاخ ربّما أتى باللون الظريف الطّريف، والعادة في مثل ذلك اللون أن يكون لطيف الشخص صغير الحجم، فيقدّمه حارّا

ممتنعا، وربما كان من جوهر بطيء الفتور، وأصحابنا في سهول ازدراد الحارّ عليهم في طبائع النّعام، وأنا في شدّة الحارّ عليّ في طباع السّباع، فإن نظرت «1» إلى أن يمكن أتوا على آخره، وإن أنا بادرت مخافة الفوت وأردت أن أشاركهم في بعضه لم آمن ضرره؛ والحارّ بما قتل وربما أعقم وربما أبال الدم. قال: وعوتب على تركه إطعام الناس معه وهو يتخذ فيكثر، فقال: أنتم لهذا أترك مني، فإن زعمتم أنني أكثر مالا وأعدّ، عدّة، فليس بين حالي وحالكم من التفاوت أن أطعم أبدا وتأكلوا أبدا، فإذا أتيتم من أموالكم من البذل على قدر احتمالكم، علمت أنكم الخير أردتم، وإلى تزييني ذهبتم، وإلا فإنّكم إنّما تحلبون حلبا لكم شطره «2» . قال: كان أبو ثمامة أفطر ناسا وفتح بابه فكثر عليه الناس، فقال: إن الله لا يستحي من الحقّ، وكلّكم واجب الحق، ولو استطعنا أن نعمّكم بالبرّ كنتم فيه سواء ولم يكن بعضكم أولى به من بعض؛ كذلك أنتم إذا عجزنا أو بدا لنا، فليس بعضكم أحقّ بالحرمان والاعتذار إليه من بعض، ومتى قرّبت بعضكم وفتحت بابي لهم وباعدت الآخرين، لم يكن في إدخال البعض عذر، ولا في منع الآخرين حجّة؛ فانصرفوا ولم يعودوا. قال: وكان محمد بن أبي المؤمّل يقول: قاتل الله رجلا كنّا نؤاكلهم، ما رأيت قصعة رفعت من بين أيديهم إلا وفيها فضل، وكانوا يعلمون أن إحضار

الجدى إنما هو شيء من آيين «1» الموائد الرّفيعة، وإنما جعل كالقافية وكالخاتمة وكالعلامة لليسر والفراغ، ولم يحضر للتفريق والتخريب، وأن أهله لو أرادوا به سوءا لقدّموه لتقع الحدّة به؛ ولذلك قال أبو الحارث جمّيز «2» حين رآه لا يمسّ: هذا المدفوع عنه. ولقد كانوا يتحامون بيضة البقيلة «3» ، ويدعها كلّ واحد لصاحبه، وأنت اليوم إذا أردت أن تمتّع عينيك بنظرة واحدة منها ومن بيضة السّلّاءة «4» لم تقدر على ذلك. وكان يقول: الآدام أعداء الخبز، وأعداها له المالح؛ فلولا أن الله أعان عليها بالماء وطلب آكله له لأتى على الحرث والنّسل. وكان يقول: ما بال الرجل إذا قال: اسقني ماء أتاه بقلّة على قدر الرّيّ «5» أو أصغر، وإذا قال؛ أطعمني شيئا أو هات لفلان طعاما، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشّراب أخوان. أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز لما كلبوا «6» على الخبز وزهدوا في الماء؛ والناس أشدّ شيء تعظيما للمأكول إذا كثر ثمنه وكان قليلا في منبته وعنصره. هذا الجزر الصافي والباقلاء الأخضر أطيب من كمّثرى خراسان والموز البستاني، وهذا

الباذنجان أطيب من الكمأة، ولكنهم لقصر هممهم وأذهانهم في التقليد والعادة لا يشتهون إلّا على قدر الثمن. وكان يقول: لو شرب الناس الماء على طعامهم لما اتّخموا. وذلك أن الرجل لا يعرف مقدار ما أكل حتى ينال من الماء شيئا، لأنه ربما كان شبعان وهو لا يدري. وفي قول الناس: ماء دجلة أمرأ «1» من ماء الفرات، وماء مهران «2» أمرأ من ماء نهر بلخ «3» ؛ وفي قول العرب: هذا ماء نمير يصلح عليه المال دليل على أن الماء يمرىء؛ حتى قالوا: إن الماء الذي يكون عليه النّفاطات «4» أمرأ من الماء الذي تكون عليه القيّارات «5» . فعليكم بشرب الماء على الغداء فإنّ ذلك أمرأ «6» . قال وكان الثّوريّ يقول لعياله: لا تلقوا نوى التمر والرّطب وتعوّدوا ابتلاعه، فإن النوى يعقد الشحم في البطن، ويدفىء الكليتين بذلك الشّحم؛ واعتبروا ذلك ببطون الصّفايا «7» وجميع ما يعتلف النّوى. والله ما حملتم أنفسكم على قضم الشّعير واعتلاف القتّ «8» لوجدتموها سريعة القبول، وقد يأكل الناس القتّ قدّاحا «9» ، والشّعير فريكا «10» ، ونوى البسر الأخضر1» ، ونوى

العجوة «1» ؛ وإنما بقيت عليكم الآن عقبة؛ أنا أقدر أن أبتلع النوى وأعلفه الشّاء، ولكن أقول هذا بالنظر لكم. وكان يقول لهم: كلوا الباقلاء بقشوره، فإن الباقلاء يقول: من أكلني بقشوري فقد أكلني، ومن لم يأكلني بقشوري فأنا آكله؛ فما حاجتكم إلى أن تصيروا طعاما لطعامكم، وأكلا لما جعل أكلا لكم. قال: وحمّ هو وعياله فلم يقدروا على أكل الخبز، فربح أقواتهم في تلك الأيام؛ ففرح وقال: لو كان في منزل سوق الأهواز ونطاة «2» خيبر رجوت أن أستفضل في كلّ سنة مائة دينار. قال: ودعا موسى بن جناح جماعة من جيرانه ليفطروا عنده في [شهر رمضان] «3» ، فلما وضعت المائدة أقبل عليهم ثم قال لهم: لا تعجلوا، فإنّ العجلة من عمل الشيطان. ثم وقف وقفة ثم قال: وكيف لا تعجلون والله تعالى يقول: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «4» . اسمعوا ما أقول لكم، فإن فيه حسن المؤاكلة والتبعّد من الأثرة، والعاقبة الرشيدة، والسيرة المحمودة: إذا مدّ أحدكم يده ليستقي ماء فأمسكوا أيديكم حتى يفرغ، فإنكم تجمعون عليه خصالا: منها أنكم تنغّصون عليه في شربه، ومنها أنه إذا أراد اللّحاق بكم فلعلّه يتسرّع إلى لقمة حارّة فيموت، وأدنى ذلك أن تبعثوه على الحرص وعلى عظم اللقم. ولهذا قال بعضهم وقد قيل له: لم تبدأ بأكل اللحم؟ قال: لأن اللّحم ظاعن والثريد مقيم. وأنا وإن كان الطعام طعامي فإني كذلك أفعل؛

فإذا رأيتم فعلى يخالف قولي فلا طاعة لي عليكم. وقال بعضهم: فربما نسي بعضنا فمدّ يده وصاحبه يشرب، فيقول له: يدك يا ناسي، ولولا شيء لقلت لك: يا متغافل. قال: فأتانا بأرزّة «1» أحدنا أن يعدّ حباتها لعدّها، لتفرّقها، وقلّتها، وهي مقدار نصف سكرّجة «2» ؛ فوقعت في فمي قطعة، وكنت إلى جنبه، فسمع صوتا حين مضغتها، فقال: اجرش يا أبا كعب. قال: وكنا نسمع باللئيم الراضع، وهو الذي يرضع الحلب فلا يحلبه في الإناء لئلّا يسمع صوت الحلب- وقال بعضهم: لئلا يضيع من اللبن شيء- ثم رأيت أبا سعيد المدائني قد صنع أعظم من ذلك: ارتضع من دنّ خلّا حتى فني ولم يخرج منه شيء. قال: وكان الكنديّ لا يزال يقول للساكن من سكّاننا-[وربما قال] «3» للجار- إنّ في داري امرأة بها حبل، والوحمى «4» ربما أسقطت من ريح القدر الطيّبة، فإذا طبختم فردوا شهوتها بغرفة أو بلعقة فإن النفس يردّها اليسير، وإن لم تفعل ذلك وأسقطت فعليك غرّة «5» : عبد أو أمة. وقال بعضهم: نزلنا دارا بالكراء للكنديّ على شروط، فكان في شرطه

على السكّان أن يكون له روث الدابّة، وبعر الشاة، ونشوار «1» العلوقة؛ وألّا يخرجوا عظما ولا يخرجوا كناسة، وأن يكون له نوى التمر، وقشور الرمّان، والغرفة من كل قدر تطبخ للحبلى في بيته؛ وكان في ذلك يتنزّل «2» عليهم، فكانوا لطيبه وإفراط بخله يحتملون ذلك. وقال دعبل: أقمنا يوما عند سهل بن هارون، فأطلنا الحديث حتى اضطّره الجوع إلى أن دعا بغدائه، فأتي بصحفة عدمليّة «3» فيها مرق لحم ديل عاس «4» هرم ليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحزّ «5» فيه السكين، ولا تؤثّر فيه الأضراس، فاطّلع في القصعة وقلّب بصره فيها، فأخذ قطعة خبز يابس فقلب بها جميع ما في الصفحة ففقد الرأس، فبقي مطرقا ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس؟ قال: رميت به؛ قال: ولم؟ قال: ما ظننت أنك تأكله ولا تسأل عنه «6» ! قال: ولأيّ شيء ظننت ذلك؟ فو الله إني لأمقت «7» من يرمي برجله فيكف من يرمي برأسه! والرأس رئيس، وفيه الحواسّ الخمس، ومنه يصيح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه عرفه الذي يتبرّك به، وفيه عينه التي يضرب بها المثل فيقال: شراب كعين الديك «8» ودماغه عجب لوجع الكلية، ولن ترى عظما قطّ أهشّ من عظم رأسه؛ فإن كان من نبل أنك لا تأكله فإنّ عندنا من يأكله. أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق

ومن العنق!. انظر أين هو. قال: لا والله لا أدري أين هو، رميت به؛ قال: لكني أدري أنّك رميت به في بطنك، والله حسبك. وحكي عن رجل أنه قال: مررت ببعض طرقات الكوفة، فإذا رجل يخاصم جارا له فقلت: ما بالكما تختصمان؟ فقال أحدهما «1» : لا والله إلّا أنّ صديقا لي زارني فاشتهى عليّ رأسا، فاشتريته وتغدّينا به وأخذت عظامه فوضعتها على باب داري أتجمّل بها «2» عند جيراني، فجاء هذا فأخذها وتركها على باب داره يوهم أنه اشتراه. قال: وتناول رجل من بين يدي أمير من الأمراء بيضة وهو معه، فقال: خذها فإنها بيضة العقر «3» ولم يأذن له بعد ذلك. قال: وقدّمت مائدة لرجل عليها أرغفة على عدد الرءوس ورغيف زائد يوضع على الصّحاف، فلما أنفد القوم خبزهم التفت إلى رجل إلى جانبه فقال: اكسر هذا الرغيف وفرّقه بينهم، فتغافل، فأعاد عليه، فقال: يبتلى على يد غيري. قال المدائنيّ: كان للمغيرة بن عبد الله الثّقفيّ وهو على الكوفة جدي يوضع على مائدته بعد الطعام لا يمسّه وهو ولا غيره، فقدم أعرابيّ يوما فأكل لحمه وتعرّق «4» عظامه؛ فقال، يا هذا، أتطالب هذا البائس بذحل «5» ؟! هل نطحتك أمّه! قال: وأبيك إنك لشفيق عليه! هل أرضعتك أمّه!.

قال المدائني: كان لزياد بن عبد الله الحارثيّ جدي لا يمسّه أحد، فعشّى في شهر رمضان قوما فيهم أشعب، فعرض أشعب يوما للجدي من بين القوم، فقال زياد حين رفعت المائدة: أما لأهل السجن إمام يصلّي بهم؟ قالوا: لا؛ قال: فليصلّ بهم أشعب؛ قال أشعب: أو غير ذلك أيها الأمير؟ قال: وما هو؟ قال: لا آكل لحم جدي أبدا. قال: وكان المغيرة بن عبد الله الثّقفيّ يأكل وأصحابه تمرا فانطفأ السراج، وكانوا يلقون النّوى في طست، فسمع صوت نواتين؛ فقال: من ذا يلعب بالكعبتين؟ «1» . قال الأعشى «2» : [طويل] تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم سغب يبتن خمائصا «3» وقال آخر «4» [بسيط] وضيف عمرو وعمرو ساهران معا ... فذاك من كظّة والضيف من جوع «5» وقال آخر [بسيط] وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبلغنا ما تنضج النار وقال سماعة بن أشول: [طويل] نزلنا بسهم والسماء تلفّنا ... لحى الله سهما ما أدقّ وألأما «6»

فلما رأينا أنه عاتم القرى ... بخيل ذكرنا ليلة الهضب كردما «1» فقمنا وحمّلنا على الأين والوجى ... جلالا بأوصال الرّديفين مرجما «2» يدقّ خراطيم القنان كأنّما ... يدقّ بصوّان الجلاميد ختما «3» فجئنا وقد باض الكرى في عيوننا ... فتى من عيون المعرقين مسلّما «4» تناخ إليه هجمة واتكيّة ... رعت بالجواء البقل حولا مجرّما «5» كأنّ بأحقيها إذا ما تنغّمت ... مزادا سقا فيه المزوّة معصما «6» فبات رفيقي بعد ما ساء ظنّه ... بمنزلة من آخر الليل مكرما ولو أنها لم يدفع العيس زمّها ... رأى بعضها من بعض أنسائها دما «7» وقال حميد الأرقط: [طويل] ومستنبح بعد الهدوء وقد جرت ... له حرجف نكباء والليل عاتم «8» رفعت له مخلوطة فاهتدى بها ... يشبّ لها ضوء من النار جاحم «9» فأطعمته حتى غدا وكأنّما ... تنازعه في أخدعيه المحاجم «10»

كزمهان يفطو المشي لو جعلت له ... رعايا الحمى لم يلتفت وهو قائم «1» حريص على التسليم لو يستطيعه ... فلم يستطع لما غدا وهو عائم «2» وقال الأعشى «3» : [وافر] إذا حلّت معاوية بن عمرو ... على الأطواء خنّقت الكلابا «4» وقال آخر «5» : [طويل] أيا بنة عبد الله وابنة مالك ... ويابنة ذي البردين والفرس الورد «6» إذا ما عملت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني غير آكله وحدي بعيدا قصيّا أو قريبا فإنني ... أخاف مذمّا الأحاديث من بعدي وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد «7» وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وقال مرّة بن محكان السّعدي «8» [بسيط] فقلت لما غدوا أوصي قعيدتنا ... غدّي بنيك فلن تلفيهم حقبا «9» أدعى أباهم ولم أقرف بأمّهم ... وقد هجعت ولم أعرف لهم نسبا «10» وقال حمّاد عجرد: [سريع]

باب القدور والجفان

زرت امرأ في بيته مرّة ... له حياء وله خير «1» يكره أن يتخم إخوانه ... إنّ أذى التّخمة محذور ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصوم والصائم مأجور وقال بعض المحدثين: [وافر] أبو نوح نزلت عليه يوما ... فغدّاني برائحة الطعام وجاء بلحم لا شيء سمين ... فقدّمه على طبق الكلام فلما أن رفعت يدي سفاني ... مداما بعد ذاك بلا مدام فكان كمن سقى الظمآن آلا ... وكنت كمن تغدّى في المنام «2» وقال عروة بن الورد «3» : [كامل] إنّي امروؤ عافي إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد «4» أتهزأ منّي أن سمنت وأن ترى ... بجسمي مسّ الحقّ والحقّ جاهد «5» أقسّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد «6» باب القدور والجفان ذكر الفرزدق عقبة بن جبّار المنقري وقدره فقال [بسيط]

لو أن قدرا بكت من طول محبسها ... على الحفوف بكت قدر ابن جبّا «1» ما مسّها دسم مذ فضّ معدنها ... ولا رأت بعد نار القين من نار «2» وقال: [وافر] كأنّ تطلّع التّرغيب فيها ... عذار يطّلعن إلى عذار «3» وقال الكميت: [متقارب] كأنّ الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا «4» وقال آخر «5» : [طويل] وقدر كجوف الليل أحمشت غليها ... ترى الفيل فيها طافيا لم يفصّل «6» وقال ابن الزّبير «7» يمدح أسماء بن خارجة: [طويل] ترى البازل البختيّ فوق خوانه ... مقطّعة أعضاؤه ومفاصله «8» وقال الرّقاشيّ: [طويل]

لنا من عطاء دهماء جونة ... تناول بعد الأقربين الأقاصيا «1» جعلت ألالا والرّجام وطخفة ... لها فاستقلّت فوقهنّ الأثافيا «2» مؤدّية عنّا حقوق محمد ... إذا ما أتانا يابس الجنب طاويا أتى ابن يسير كي ينفّس كربه ... إذا لم يرح وافى مع الصبح غاديا فأجابه ابن يسير: [طويل] وثرماء ثلماء النّواحي ولا يرى ... بها أحد عيبا سوى ذاك باديا «3» إذا انقاض منها بعضها لم تجد لها ... رءوبا لما قد كان منها مدانيا «4» وإن حاولوا أن يشعبوها فإنها ... على الشّعب لا تزداد إلّا تداعيا «5» معوّذة الإرجال لم توف مرقبا ... ولم تمتط الجون الثلاث الأثافيا «6» ولا اجترعت من نحو مكة شقّة ... إلينا ولا جازت بها العيس واديا «7» ولكنّها في أصلها موصليّة ... مجاورة فيضا من البحر جاريا أتتنا تزجّيها المجاذيف نحونا ... وتعقب فيما بين ذاك المزاديا «8»

يقول لمن هذي القدور التي أرى ... تهيل عليها الرّيح تربا وسافيا «1» فقالوا ولن يخفى على كلّ ناظر ... قدور رقاش إن تأمّل دانيا فقلت متى باللحم عهد قدوركم ... فقالوا إذا ما لم يكنّ عواريا «2» من اضحى إلى أضحى وإلّا فإنها ... تكون بنسج العنكبوت كما هيا فلما استبان الجهد لي في وجوههم ... وشكواهم أدخلتهم في عياليا ينادي ببعض بعضهم عند طلعتي ... ألا أبشروا هذا اليسيريّ جائيا وقال أبو نواس: [طويل] ودهماء تثفيها رقاش إذا شتت ... مركّبة الآذان أمّ عيال «3» يغصّ بحيزوم البعوضة صدرها ... وتنزلها عفوا بغير جعال «4» لو جئتها ملأى عبيطا مجزّلا ... لأخرجت ما فيها بعود خلال «5» هي القدر قدر الشيخ بكر بن وائل ... ربيع اليتامى عام كلّ هزال «6» وقال أيضا: [طويل] رأيت قدور الناس سودا من الصّلى ... وقدر الرّقاشيّين زهراء كالبدر «7» ولو جئتها ملأى عبيطا مجزّلا ... لأحرجت ما فيها على طرف الظّفر يثبّتها للمعتفى بفنائهم ... ثلاث كحظّ الثاء من نقط الحبر «8»

تروح على حيّ الرّباب ودارم ... وسعد وتعروها قراضبة الفزر «1» وللحيّ عمرو نفحة من سجالها ... وتغلب والبيض اللهاميم من بكر «2» إذا ما بنادى بالرحيل سعى بها ... أمامهم الحوليّ من ولد الذّرّ «3» وقال أبو عبيدة: كان لعبد الله بن جدعان جفنة يأكل منها القائم والراكب. وذكر غيره أنه وقع فيها صبيّ فغرق. وقال الأشعر «4» : [متقارب] وأنت مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مرّ «5» وقد علم الضيف والطارقون ... بأنّك للضيف جوع وقرّ «6» سأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمّيزا عن طعام رجل، فقال: أما مائدته فمقنة «7» وأما صحافه فمنقورة من حبّ الخشخاش، وبين الرغيف والرغيف نقرة جوزة «8» ، وبين اللون واللون فترة نبيّ «9» . قال: فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون. قال: فيأكل معه أحد؟ قال: نعم، الذّباب. قال: فلهذا ثوبك مخرّق ولا يكسوك وأنت معه وبفنائه؟! قال أبو الحارث: جعلت فداءك، والله لو ملك بيتا من بغداد إلى الكوفة مملوءا إبرا، في كل إبرة

سياسة الأبدان بما يصلحها من الطعام وغيره

خيط، ثم جاءه جبريل وميكائيل معهما يعقوب يضمنان «1» عنه إبر يخيط بها قميص يوسف الذي قدّ من دبر «2» ، ما أعطاهم. وقال بعضهم [بسيط] ولو عليك اتّكالي في الغذاء إذا ... لكنت أوّل مدفون من الجوع سياسة الأبدان بما يصلحها من الطعام وغيره قال الحجّاج لتياذوق «3» متطبّبه: صف لي صفة آخذ بها في نفسي ولا أعدوها، قال تياذوق: لا تتزوّج من النساء إلّا شابّة، ولا تأكل من اللحم إلا فتيّا، ولا تأكله حتى ينعم طبخه، ولا تشربنّ دواء إلا من علّة، ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها، ولا تأكل طعاما إلا أجدت مضغه، وكل ما أحببت من الطعام واشرب عليه، وإذا شربت فلا تأكل عليه شيئا، ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فتمشّ ولو مائة خطوة. روى عبد العزيز بن عمران عن الحليس بن حيّان الأشجعيّ قال حدّثني أبي عن شيوخ من أشجع قال: سألمنا يهود خيبر: بم صححتم بخيبر؟ قالوا: بشرب الخمر، وأكل الفوم، وسكون اليفاع «4» ، وتجنّب بطون الأودية، والخروج من خيبر عند طلوع الفجر وسقوطه. قال الحجّاج للحكم بن المنذر بن الجارود: أخبرني عن صفاء لونك وغلظ قصرتك «5» ، أشرب اللبن فهو منه؟ قال: لا؛ قال: ولم؟ قال: لأنه منتنة

منفخة. قال: فما شرابك؟ قال: نبيذ الدّقل «1» في الصيف ونبيذ العسل في الشتاء. قال عبد الملك لأعرابي: إنك حسن الكدنة «2» : قال: إني أدفىء رجليّ في الشتاء، وأغفل غاشية الغمّ» ، وآكل عند الشهوة. عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: من ابتدأ غذاءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعا من البلاء. ومن أكل كلّ يوم سبع تمرات عجوة قتلت كلّ داء في بطنه. ومن أكل كلّ يوم إحدى وعشرين زبيبة حمراء لم ير في بدنه شيئا يكرهه. واللحم ينبت اللحم. والثريد طعام العرب. ولحم البقر داء «4» ، ولبنها شفاء، وسمنها دواء. والشّحم يخرج مثليه من داء. ولم يستشف الناس بشيء أفضل من الرّطب. والسّمك يذيب الجسد، وقراءة القرآن «5» والسواك يذهب البلغم. ومن أراد البقاء- ولا بقاء- فليباكر الغداء، وليقلّل غشيان النّساء، ويخفّف الرداء، وليلبس الحذاء. قيل: وما خفّة الرّداء في البقاء؟ قال: قلّة الدّين. قيل لرجل: إنك لحسن السّخنة «6» ؛ فقال: آكل لباب البرّ بصغار المعز، وأدّهن بحام «7» البنفسج، وألبس الكتّان.

ويقال: ثلاثة أشياء تورث الهزال: شرب الماء على الرّيق، والنوم على غير وطاء «1» ، وكثرة الكلام برفع الصوت. ويقال: أربع خصال يهدمن العمر وربما قتلن: دخول الحمّام على بطنة، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد «2» الجافّ، وشرب الماء البارد على الرّيق؛ وقيل: ومجامعة العجوز. وفي الحديث: «ثلاثة أشياء تورث النّسيان أكل التّفّاح الحامض وسؤر الفأرة «3» ونبذ القملة «4» . وفي حديث آخر والحجامة في النّقرة «5» والبول في الماء الراكد» . ويقال: أربعة أشياء تقصد إلى العقل بالإفساد: الإكثار من البصل، والباقلاء، والجماع، والخمار. وقال النّظّام: ثلاثة أشياء تخلق «6» العقل وتفسد الذّهن: طول النّظر في المرآة، والاستغراب في الضّحك، ودوام النّظر إلى البحر. وكان يقال: عشاء الليل يورث العشا «7» . ويروى في الحديث: «ترك العشاء مهرمة» . والعرب تقول: ترك العشاء يذهب بلحم الأليتين.

باب الحمية

باب الحمية قال الحارث بن كلدة طبيب العرب: الدواء هو الأزم. يعني الحمية قال آخر: الحمية إحدى العلّتين. وقيل لجالينوس: إنك تقلّ من الطّعام؛ قال: غرضي من الطّعام أن آكل لأحيا، وغرض غيري من الطعام أن يحيا ليأكل. وقال العمّيّ «1» : من احتمى فهو على يقين من المكروه، وفي شكّ مما يأمل من العافية. وكان يقال: ليس الطبيب من حمى الملك ومنعه الشهوات، إنّما الطبيب من خلّاه وما يريد وساس بدنه «2» . وقال بعض الشعراء: [طويل] وربّت حزم كان للسّقم علّة ... وعلّة برء الداء خبط المغفّل «3» ويقال: الحمية للصحيح ضارّة كما أنها للعليل نافعة. وفي الحديث: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى صهيبا يأكل تمرا وبه رمد، فقال له: «أتأكل التمر وبك رمد؛ فقال: يا رسول الله، إنما أمضغ بهذه» «4» . إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تكرهوا مرضاكم على الطّعام والشّراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم» .

باب شرب الدواء

باب شرب الدواء قال عبد الله بن بكر السّهميّ: حدّثنا بعض أصحابنا يرفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استقلّ «1» بدائه فلا يتداوينّ، فإنّه ربّ يورث الداء» . وكانت الحكماء تقول: إياك وشرب الدواء ما حملت صحّتك داءك. وقالوا: مثل شرب الدواء مثل الصابون للثوب ينقيه، ولكنه يخلقه ويبليه. عن يزيد بن الأصمّ قال: لقيت طبيب كسرى شيخا كبيرا قد أوثق حاجبيه بخرقة، وسألته عن دواء المشي «2» ؛ قال: سهم يرمى به في جوفك أخطأ أو أصاب. قال أبقراط: الدواء من فوق، والدواء من تحت، والدواء لا فوق ولا تحت. وفسّره المفسّر فقال: من كان داؤه في بطنه فوق سرّته سقي الدواء، ومن كان داؤه تحت سرّته حقن، ومن لم يكن به داء لا من فوق ولا من تحت لم يسق الدواء، فإن الدواء إذا لم يجد داء يعمل فيه وجد الصحّة فعمل فيها. قال أبو اليقظان: كان عبد العزّى بن عبد المطّلب «3» يشتكي عينه وهو مطرق أبدا؛ وكان يقول: ما بعيني بأس، ولكن كان أخي الحارث إذا اشتكت عينه يقول: اكحلوا عين عبد العزّى معي فيأمر من يكحلني معه ليرضيه بذلك فأمرض عيني. قال ابن أحمر «4» حين شفي بطنه: [طويل]

الحدث والحقنة والتخمة

شربت الشّكاعى والتددت ألدّة ... وأقبلت أفواه العروق المكاويا «1» شربنا وداوينا وما كان ضارنا ... إذا الله حمّ المرء أن لا تداويا وفي الحديث: «داووا مرضاكم بالصّدقة وحصّنوا أموالكم بالزّكاة واستقبلوا أنواع البلايا بالدعاء» . الحدث والحقنة والتّخمة عن وهب قال قال لقمان لابنه: إن طول الجلوس على الخلاء يرفع الحرارة إلى الرأس، ويورث الباسور وتيجع «2» له الكبد؛ فاجلس هوينى وقم هوينى. فكتبت حكمته على باب الحشّ «3» . وكان يقال: إذا خرج الطعام قبل ستّ ساعات فهو مكروه، وإذا بقي أكثر من أربع وعشرين ساعة فهو مرض. وكان أبو ذفافة الباهليّ اشتكى، فأشار عليه الأطبّاء بالحقنة فامتنع؛ فأنشأ أعرابيّ يقول: [طويل] لقد سرّني- والله وقّاك شرّها-* نفارك منها إذ أتاك يقودها كفى سوءة ألّا تزال مجبّيا ... على شكوة وفراء في استك عودها «4» وأشاروا على عبيد الله بن زياد بالحقنة فتفحّشها؛ فقالوا: إنما يتولّاها منك الطبيب؛ فقال: أنا بالصاحب آنس.

قال المدائنيّ: سأل الحجّاج جلساءه: ما أذهب الأشياء للإعياء؟ فقال بعضهم: أكل التّمر، وقال بعضهم: الحمام، وقال بعضهم: التّمريخ «1» . وقال فيروز: أذهب الأشياء للإعياء قضاء الحاجة. وحدّثني بعض الأطبّاء أن رجلا شرب خبث الحديد المعجون فبقي في جوفه، فاشتدّ عليه وجعه؛ فسحقت له قطعة من المغناطيس وسقي إيّاه، فتعلّق بالخبث وخرج مع الغائط. قال: وقال تياذوق طبيب الحجّاج للحجّاج: إن اللحم على اللحم يقتل السّباع في البرّية. ثم قال لي جعفر: قالت جارية لنا: كان لي ظبيّ فمرّ بعجين قد هيّء للخشكنان «2» ، فأكل منه فحفس- والحفس: الحبط وانتفاخ البطن- فسلخ فوجد قد شرق بالدم. وقال يونس (طبيب لنا) : هكذا يصاب الإنسان إذا بشم «3» . الأصمعيّ: قال بعض الأعراب: اللهمّ إني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة، وأكل بذجا «4» ، وشرب معسّلا «5» ، ونام في الشمس، فلقي الله شبعان ريّان دفآن. وقال آخر من الأعراب: اللهم اجعل التّخمة دائي وداء عيالي. قال ابن شبابة مولى بني أسد: من بال ولم يضرط كتبت استه من الكاظمين الغيظ.

باب القيء

باب القيء عن جعفر بن سليمان أنّه قال لإنسان أكول يقيء إذا أكل: لا تفعل، فإن المعدة تضفر «1» إلى القيء كما تضفر الدّابّة إلى العلف، فلا ينضج الطعام. وأخذ مزبّد شاربا فاستنكه «2» ، فأتي به الوالي فاستنكهوه، فقالوا نكهته لا تنبىء عنه، قال مزبّد: إن لم أقيء نبيذا فمن يضمن لي عشاء. رئي الجمّال يأكل فقيل له: ما تأكل؟ قال: قيء كلب في قحف «3» خنزير. النّكهة سئل تياذوق عن البخر» فقال: دواؤه الزبيب يعجن بسعتر «5» ثم يؤكل أسبوعين أو ثلاثة. فجرّب فذهب. وتقول الروم في الكرفس «6» : إنه يطيّب الفم ويذهب البخر؛ ويحتاج إلى أكله من يشاهد السلطان ومحافل الناس وكان أكثر كلامه السّرار «7» . قالت الأطباء: الجزر المشويّ والخبز المقلوّ بالزيت أو بالسمن إذا مضغ ورمي بثفله «8» قاطع لرائحة البصل من الفم. والفوم إن أكله آكل فأحبّ أن يقطع رائحته مضغ ورق الزيتون الطّريّ وتمضمض «9» بعده بالخلّ.

باب المياه والأشربة

والسّعد «1» قاطع لرائحة النبيذ من الفم. وحبّ الأترجّ «2» مطيّب للنّكهة. والبخر لا يكاد يكون في الملّاحين لأكلهم الملّاح «3» . وقرأت في الآيين «4» : أن رئيس الحرم أمر جواري الملك ألّا يأكلن الثّوم والبصل والكرّاث واللّفّاح «5» والحمّص الرّطب والمشمش؛ فإنه يورث البخر. باب المياه والأشربة قالت الأطبّاء: معرفة خفّة الماء بأن يكون سريع الغليان ويكون سريع البرد. وأحمد المياه ما كان قبالة المشرق ومجراه مجرى الشمال ومروره على الطين الأحمر وعلى الرمل. قالوا: وممّا يصفّي من الماء الكدر فيصفو سريعا أن يلقى فيه قطع من خشب السّاج «6» أو قطع من آجرّ جديد. قال بعض المحدثين: [مخلع البسيط] يمنع امّه بالشّمال ... وماؤها البارد الزّلال يصيح فيها وقايتونا ... يجري به الثلج في مثال «7»

وقال صاحب الفلاحة: من أراد أن يعذب له الماء الزّعاق «1» جعله في قدر جديدة من خزف وغطّى فاها بأسحال «2» ثم أوقد تحتها حتى تغلي ويحصل فيها نصف ذلك الماء ثم صفّاه وتركه، فإنه يجده شروبا «3» . وقالوا: ماء دجلة يقطع شهوة الرجال ويذهب بصهيل الخيل ونشاطها، ومن لم يأكل الدسم عليه انحلّ عظمه ويبس جلده، وهو مع هذا أهضم للطعام من غيره من المياه وأسرعها بردا. قال: والنّيل يستقبل الشّمال وينضب في وقت زيادة الأودية ويزيد في وقت نقصانها. وزيادة أوّله وآخره معها؛ ولا تكون التماسيح إلا فيه؛ قال الشاعر [بسيط] أضمرت للنّيل هجرانا ومقلية ... إذ قيل لي إنّما التمساح في النيل «4» فمن رأى النيل رأيا العين من كثب ... فما أرى النيل إلا في البواقيل «5» والسّقنقور «6» أيضا لا يخرج إلا منه. وروى في الحديث عن الضحّاك بن مزاحم أنه قال قذف الفرات في

باب اللحمان وما شاكلها

المدّ رمّانة كأنّها البعير البارك، وتحدّث أهل الكتاب أنها من الجنّة. «1» وقال ابن ماسويه: ينبغي للماء الغليظ الذي ليس يعذب أن يطبخ حتى يذهب منه نصفه، ثم يطرح فيه السّويق أو الطين الأحمر فإنه يلطّفه ويذهب غائلته «2» ويعذبه ويمنع كدره. قالت الأطباء: الفقّاع «3» المتّخذ من دقيق الشعير نافع من الجذام «4» . والجلّاب «5» قاطع لكثرة دم الحيض، والسّكنجبين «6» نافع من الذّبحة إذا كانت من حرارة، يشرب ويتغرغر به. باب اللّحمان وما شاكلها قالت الأطباء: لحم الماعز يورث الهمّ، ويحرّك السوداء «7» ، ويورث النسيان، ويخبل الأولاد «8» ، ويفسد الدم؛ وهو ضارّ لمن سكن البلاد الباردة. وأحمد اللّحمان ما خصي من المعز. والضأن نافع من المرّة السّوداء، إلا أن الممرورين الذين يصرعون، إذا أكلوا لحم الضأن اشتدّ بهم ذلك حتى يصرعوا في غير أوان الصّرع. وأوان الصّرع الأهلّة وأنصاف الشهور.

مضار الأطعمة ومنافعها

قال الشاعر «1» : [وافر] كأنّ القوم عشّوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم «2» قالوا: واللحم أقلّ الطعام نجوا «3» . ولحم الدّجاج الهرم شرّ اللّحمان وأغلظها. والبيض إن سلق بالخلّ ثم أكل بالسّمّاق «4» وحبّ الرمّان المفلّق والملح والمرّيّ «5» عقل الطبيعة. والزبد إن طلي على منابت أسنان الطفل كان معينا على نباتها وطلوعها، والمخّ والدّماغ يفعلان ذلك. مضارّ الأطعمة ومنافعها الكمأة» والفطر «7» - عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج عليهم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم يقول جدريّ «8» الأرض، فقال: «الكمأة من المنّ «9» وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنّة وهي شفاء من السّقم» .

الأصمعيّ عن بعض مشايخه قال: ثلاثة أشياء ربّما صرعت أهل البيت عن آخرهم: الجراد، ولحوم الإبل، والفطر. وتقول الأطبّاء: إنّ أردأ الفطر ما نبت تحت ظلال الشجر، وأردأ كلّه ما كان في ظلّ شجر الزيتون فإنّه قتّال. قالوا: والكمّثري إذا طبخ مع الفطر أذهب ضرره. قالوا: والفطر يورث الذّبحة «1» . قدم أعرابيّ المصر فأكل فطرا، فأصابته ذبحة، فقيل له: إن الطبيب بعث أن يحلب في فيك، فقال: ما زلت أسمع باللئيم الرّاضع «2» ولا والله لا أكونه؛ قالوا: فتموت إذا؛ قال: وإن متّ. وتقول الأطباء: إن أكل آكل الفطر فأضرّ به، سقي الكرنب «3» المعصور وسقي من خرء الدّجاج وزن درهمين مع خلّ وعسل مطبوخ وقيّء به. قالوا: والكمأة تورث وجع القولنج «4» والسّكتة والفالج ووجع المعدة. قالوا: والذباب لا يقرب قدرا فيه كمأة. ومن أراد اتخاذ الكمأة اليابسة جعلها في الطين الحرّ يوما وليلة ثم غسلها واستعملها. بلغني عن فتى من أهل الكتاب أنه قال: كنا في طريق مكّة بالخزيميّة «5» ، فأتانا أعرابيّ بكمأة في كساء قدر ما أطاق، فقلنا: بكم الكمأة؟

البصل والثوم

قال: بدرهمين، فاشتريناها منه ودفعنا الثمن إليه، فلما نهض قال له بعضنا: «في است المغبون عود» «1» ؛ قال: بل عودان، وضرب الأرض برجله، فإذا نحن على الكمأة. قال بعض الشعراء: [رجز] جنيتها تملأ كفّ الجاني ... سوداء ممّا قد سقى السّواني «2» كأنّها مدهونة بالبان «3» وهذه صفة أجود الكمأة وأقلّها أذى. البصل والثّوم دخل داخل على نصر بن سيّار وحوله بنون له صغار، فقال: هل تدرون ما ولدي هؤلاء؟ هؤلاء بنو البصل؛ وكان يأكله نيئا ومشويّا ومطبوخا. والأطبّاء تقول في البصل: إنه يشهّي إلى الطعام إن أكل مشويّا أو نيئا، ويشهّي إلى الجماع. وإن دقّ وشمّ عطّس وشهّى الطعام. وإن اكتحل بمائه مع العسل جلا البصر. وإن وضع مع الملح والسّذاب «4» على عضّة الكلب الذي ليس بكلب نفع. والإكثار منه يفسد العقل. والمسلوق منه يدرّ البول والدّمعة. العصافير إن أكلت بالزّنجبيل والبصل هيّجت شهوة الجماع وأكثرت المنيّ.

عن طارق بن شهاب قال: بعث سليمان النبيّ عليه السلام بعض عفاريته وبعث معه رجلا وقال: ردّه إليّ وانظر إلى صنيعه. فمرّ على أهل بيت يبكون فضحك، ودخل إلى السوق ونظر إلى الناس فرفع رأسه إلى السماء وهزّه، ونظر إلى الثّوم وهو يكال كيلا والفلفل وهو يوزن وزنا، فضحك. فلما ردّه إلى سليمان عليه السلام وأخبره بما جرى منه، قال: لم ضحكت من أهل البيت؟ ولم هززت رأسك حين نظرت إلى السوق؟ ولم ضحكت من الثّوم والفلفل؟ قال: أمّا أهل البيت فإنّ الله أدخل ميّتهم الجنّة وهم يبكون عليه؛ ونظرت إلى الناس في السّوق والملائكة من فوق رؤوسهم، والناس يملون والملائكة سراعا يكتبون، فهززت رأسي؛ ونظرت إلى الثّوم وهو شفاء يكال كيلا، وإلى الفلفل وهو داء يوزن وزنا. وعن وهب «1» : أنّ سليمان عليه السّلام قال: مم كنت تضحك؟ قال إنّي مررت برجل يشتري خفّين ويقول لصاحبهما: شرطي عليك أن ألبسهما عشر سنين لا يتخرّقان «2» ؛ فعجبت كيف شرط أمله ونسي أجله. ومررت بعجوز دهريّة «3» تتكهّن وتخبر الناس بما لا يعلمون، والّذي سخّر لك الريح وأذلّ لك الجنّ وعبّد الشياطين إنيّ لأعلم في بيتها تحت فراشها مطمورة «4» فيها قناطير من ذهب وفضّة وهي لا تدري ما تحتها، وقد ماتت هزلا «5» وجوعا وحاجة. ومررت بأخرى دهريّة تتطبّب وكان بها مرّة داء، فأكلت البصل فصادفت منه برءا، فظنّت أنه حسم داءها وشفاها، فهي تصفه للناس من كل داء، وقد كانت في ظهرها ريح حبست منذ زمان

فأكلت الثّوم أحدا وعشرين يوما فشفيت منه؛ فعجبت لها كيف تدع أن تصفه. ومررت برجل على شاطىء نهر يستقي منه في قلّة له ومعه بغلة، فلما سقى البغلة ملأ القلّة وربط البغلة بأذن القلّة وذهب لبعض حاجته، فنفرت البغلة وكسرت القلة؛ فجعل يلعن الشيطان، وبرّأ عقله ونسي فعله. ومررت بقوم يذكرون الله فاجتهدوا ونصبوا «1» وابتهلوا، فلما أظلّت الرحمة ملّة رجل منهم فقام، وجاء آخر لم ينصب معهم فجلس مجلسه، فنزلت الرحمة فدخل فيها معهم وحرمها الأوّل؛ فعجبت من سعادة هذا وشقاوة هذا. وتقول الأطبّاء: إنّ الثّوم إذا شوي بالنار ووضع على الضّرس المأكول ودلكت به الأسنان التي يعرض فيها الوجع من الرطوبة والريح، أذهب ما فيها بإذن الله من الوجع. قال: وهو ينفع من العطش الحادث من البلغم، ويقوم مقام التّرياق في لسع الهوامّ، والأمراض الباردة. وتقول الروم في الثّوم: إنه دواء لمن أصابه وجع السّقي «2» في بطنه. وإن أكله من ظهر فيه حرّة «3» من شرى «4» أو غيره أبرأه. وإن دقّ الثّوم يابسا فأغلي بسمن ولبن ثم جعله من يشتكي ضرسه في فيه سخنا فأمسكه ساعة، ذهب وجع ضرسه؛ وهو نافع لمن اجتوى «5» .

الكراث

الكرّاث قالت الأطباء: الكرّاث النّبطيّ إذا أدمن كانت فيه أحلام رديئة، وولّد بخارا في الرأس رديئا. وإن صبّ في مائه خلّ ودقاق كندر «1» واستعط «2» به سكّن الصّداع. وإن سلق أو طحن وأكل أو ضمّد به البواسير العارضة من الرطوبة نفع منها. وماء الكرّاث إذا خلط بمثله من ألبان النساء ودهن الورد والكندر وكحّل به عين من أصابته غشاوة في عينه فلم يبصر ليلا نفعه. وأكل البصل نافع لذلك أيضا. الكرنب والقنّبيط قالوا: الكرنب معين على الإكثار من النبيذ إذا أكل، وهو مدرّ للبول. وقالت الروم: بين الكرنب والكرم عداوة؛ ولا يكاد يصلح الكرم والكرنب إذا تجاورا. قالت الأطباء: إن احتملت المرأة بزر الكرنب بعد الحيض أسهل المنيّ وأفسده ولم يكن معه حمل، وشرب مائه مع الشّيح الأرمنيّ غير المطبوخ أو ماء التّرمس المنقع «3» مخرج لحبّ القرع «4» من البطن. والقسط «5» أيضا خاصّة بزره يفسد المنيّ إذا احتملته المرأة بعد طهرها؛ ومقدار ما يحتمل وزن درهمين. وتقول الروم: الكرنب إن طبخ وخلط ماؤه بالحندقوق «6» وسقي المرأة

السلجم والفجل

التي تأخّر حيضها حاضت لحينها. قالوا: وإذا خلط ماء الكرنب بالبنج «1» كان نافعا للسّعال. قال أبو محمد: سكوت إلى حنين الطبيب علّة كنت أجدها في حلقي لا أكاد أبتلع معها ريقي؛ فقال: هي بيّنة في عينك. فتغرغر بعقيد العنب مع خمير ثلاثة أيام في كل يوم ثلاث مرات؛ ففعلت ذلك يوما واحدا فذهب. قالوا: وإذا دقّ الكرنب وخلط به شيء من زاج «2» الأساكفة وشيء من خلّ، فأوجف «3» ذلك بالخطميّ» ، ثم طلي به برص أو جرب نفع بإذن الله تعالى. السّلجم «5» والفجل تقول الأطباء في الفجل: إنّه مهيّج للجماع زائد في المنيّ، وبزره نافع من السموم قالوا: والفجل هاضم للطعام، فإن أكل بزره بعسل كان دواء من السّعال والفواق «6» ؛ وإذا شدخت «7» قطعة فجل فطرحت على عقرب ماتت؛ وماؤه وبزره للسموم بمنزلة التّرياق «8» . وإذا طلى أحد يده بمائه ثم قبض على

الباذنجان

حيّة أو غيرها من الهوامّ لم يضارّ ذلك الموضع. قالوا: وإن دقّ بزره مع الكندر «1» وطلي به البهق الأسود «2» في الحمّام أذهبه. وإن شرب ماء ورقه نفع من الأرقان «3» الحادث من الطّحال. الباذنجان قالوا: والباذنجان مكلف «4» للوجه يورث داء السّرطان والأورام الصّلبة. وحدّثني أبي عن أبي الحارث جمّيز أنه سمعه يقول في الباذنجان: لا آكله، لون العقرب وشبه المحجمة. قيل له: فقد رأيناك تأكله على خوان فلان! قال: كان ميتة وأنا مضطرّ. الخيار والقثّاء قالوا؛ شمّ الخيار نافع لمن أصابه الغشي «5» من الحرارة. وبزر القثّاء إذا شربه من به حمّى الأسى «6» نفعه. وإن أصابت رضيعا حمّى فألزقت به خيارتين تمسّان جلده إحداهما عن يمينه والأخرى عن شماله، أقلعت الحمّى عنه. السّلق قالوا: والسّلق إن دقّ مع أصله وعصر ماؤه وغسل به الرأس ذهب بالأتربة وأطال الشعر.

الهليون

الهليون «1» قالوا: والهليون مدرّ للبول، نافع من القولنج. القرع قالوا: إذا شوي القرع بالنار ثم عصر فجعل من مائه في أذن من اشتكى أذنه نفعه. وإن دهنت منابت شعر اللّحية بدهن القرع المرّ، وقثّاء الحمار «2» مذابا فيه شيح أرمنيّ أسرع فيها نبات الشّعر. البقول قالوا: والجرجير زائد في الباه «3» والإنعاظ «4» مدرّ للبول. وتذكر الروم أنّ من أكل الجرجير ثم ضرب بالسياط هوّن عليه بعض ذلك الجلد. قالوا: وهو ينفع من ذفر الإبطين «5» إذا أكل على الريق وطلي الإبطان بمائه. وتزعم الروم أنّ ماءه ينفع من عضّة ابن عرس. وقال بعض الأطباء: إن ذرّ بزر الجرجير مدقوقا في البيض وحشي كان ذلك زائدا في الباه والإنعاظ زيادة بيّنة. قال أبو حاتم عن القحذميّ قال: أكله أعرابيّ فأنعظ شهرا، فقال الفرزدق يفخر به: [طويل] ومنّا التميميّ الذي قام أيره ... ثلاثين يوما ثم زادهم عشرا

قالوا: والسّذاب «1» قاطع لشهوة الجماع. وقالت الروم: إن أكلت امرأة حامل أربعة مثاقيل كلّ يوم بماء سخن أو نبيذ خمسة عشر يوما أسقطت ولدها. وقال بعض الشعراء: [مجتث] كم نعمة للسّذاب ... جليلة في الرّقاب الناس عنها غفول ... إلّا ذوي الألباب فالحمد لله شكرا ... لولا مكان السّذاب لغيّب الأرض نسل ال ... مغنّيات القحاب قالوا: والبقلة الحمقاء «2» إذا مضغت أذهبت الطّرش، وإذا أكلت أذهبت شهوة الجماع. والروم تقول: إن نظر ناظر عند رؤية الهلال إلى الهندباء فحلف بإله القمر ألّا يأكل هندباء ولا لحم فرس، سلّم في كلّ شهر يحلف فيه من وجع الضرس. قالت الأطباء: الخسّ إذا أكل على الريق نافع لتغيير الماء ومن يتأذّى باحتلام. وإذا شرب بزره بماء قطع شهوة الجماع. قالوا: والخردل إن أكثر من أكله أورث ضعفا في البصر، وهو مكثّر للّبن مدرّ للبول، وهو نافع من الصّرع. وإن اكتحل بمائه بعد أن يغلى عليه

ويصفّى جلا البصر الضعيف من الرطوبة. وتزعم الروم أن ماءه يصلح للأطفال من الحمّى إذا أصابتهم. وهو يفسد الذهن ويورث النّسيان ويضعف البصر. قالت الأطباء: النّعناع يسكّن القيء، وينفع من الفواق الحادث من البلغم إذا شرب مع النّمام «1» . وتقول الروم: الحبق «2» الذي على شطوط الأنهار نافع للرّمد إذا دقّ ونخل واكتحل به، وإن مضغه ماضغ ووضعه على عينه نفعه. وأما الفوذنج «3» النّهري- فإنه يدرّ الطّمث «4» . وإن أخذ من الفوذنج الجبليّ أوقيّة وطبخ بنصف رطل من ماء حتى يبقى الثلث ويشرب، سهّل السّوداء. وقالت الأطباء: الحندقوق «5» يورث وجع الحلق، ويذهب بضرره من يأكل بعده الكزبرة الرّطبة والبقلة الحمقاء والهندباء. والطّرخون «6» يؤكل مع الكرفس. قالوا: والراسن «7» ينفع من قطار البول إذا كان من برد، ويقوّي المثانة.

باب الحبوب والبزور

قالوا: والكشوث «1» يذهب بالأرقان. قالوا: وعنب الثعلب قاطع لدم الحيض إن شرب أو احتمل. وقالوا؛ الكرفس «2» إذا طبخ وشرب كان دواء من وجع الكليتين ومن الأسر «3» . باب الحبوب والبزور تقول الأطبّاء في حبّ الفلفل: إذا خلط بالسّمسم وعجن بعسل الطّبرزذ «4» يزيد في الجماع. والعرب تزعم أنّ الحبّة الخضراء وشرب ألبان الإيّل عليها تبعث الشّهوة. قال جرير: [طويل] أجعثن «5» قد لاقيت عمران شاربا ... على الحبّة الخضراء ألبان إيّل «6» والحمّص زائد في الجماع، مكثر للمنيّ، محسّن للّون، زائد في لبن المرضع، يدرّ دم الحيض، وإن خلط بالباقلاء أسمن. الأصمعيّ قال: قلت لابن أبي عطارد: بلغني أنّ أباك كان ذا منزلة من ابن سيرين، فما حفظت عنه؟ قال قال أبي: قال لي ابن سيرين: يا أبا عطارد، إن سويق العدس بارد وهو يدفع الدّم.

باب الفاكهة

قالت الأطبّاء: إنّ الخردل نافع من حمّى الرّبع «1» والحميات المتقادمة ووجع الأرحام ويجفّف من البلغم، وينزل الرطوبة من الرأس، وإن أكل مع السّلق المسلوق نفع من الصّرع، وإن طلي البرص به زال. وقالت الأطبّاء: الحرف «2» يخرج حبّ القرع من البطن، وينفع من عرق النّسا «3» ووجع الورك. وإن سخّن بالماء الحارّ وشرب منه وزن أربعة دراهم أو خمسة أسهل الطبيعة «4» ونفع من القولنج. وقال رجل من قدماء الأطبّاء في الباقلاء: إنه إذا أدمن أكلّ «5» البصر، وأحال الأحلام أضغاثا «6» لا ينتفع بها ولا يجد عابر الرؤيا إلى تأويلها سبيلا. ودهن الشّاهدانج «7» نافع لوجع الأذن العارض من البرد والعلل المتقادمة منها. باب الفاكهة عن معمر بن خثم عن جدّته قالت: سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إذا أكلتم الرّمّان فكلوه بشحمه فإنه دباغ للمعدة، وذلك يوم الجمعة على المنبر.

الأصمعيّ: قيل لأعرابيّ: لم تبغض الرمّان؟ قال: لأنه مبخرة مجفرة مجعرة «1» . قال: وقال يحيى بن خالد: شيئان يورثان القمل: التّين اليابس إذا أكل، وبخار اللّبان «2» إذا تبخّر به. وقالت الأطبّاء: ورق الخوخ وأقماعه إن دقّ وعصر وشرب أسهل حبّ القرع والدّيدان والحيّات المتولّدة في البطن، وإن صبّ ماء ورقه في الأذن أمات الدّيدان فيها، وإن تدلّك بورقه بعد النّورة «3» قطع ريحها. وحمّاض الأترجّ «4» إن لطخ به الكلف والقوب «5» أذهبه. وحبّ الأترجّ نافع من السّموم. وورق التّفّاح الغضّ إن دقّ بالرّفق أيّاما خمسة أو ستة ثم ضمد به الوشم «6» قلعه من غير أن يقرح موضعه. عن الزّهريّ قال: حدّثني رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من بات وفي بطنه جزرة أو جزرتان أو ثلاث أمن القولنج والدّبيلة «7» » . والفستق: إن دقّ وشرب بالمطبوخ الشديد نفع من لسع الهوامّ.

باب مصالح الطعام

واللّفّاح «1» : سمّ، وربما قتل آكله. وتدفع مضرّته بالقيء بالشّراب والعسل والإسهال وشمّ الفلفل والخردل والجندبادستر «2» والسّذاب والتّعطّس. قال وحدّثني شيخ من الدّهاقين «3» عالم بأيام العجم: أن بزرجمهر قال لأهل الحبس: سلوا الملك أن يرزقكم مكان الأدم الأترجّ، ليكون القشر لطيبكم، ولحمته لفاكهتكم، والحمّاض لصباغكم، والحبّ لدهنكم. فكان ذلك أوّل ما عرفت به حكمته. باب مصالح الطعام قال رئيس من رؤساء الطبّاخين: العجين يملك. وفي الحديث المرفوع: «أملكوا «4» العجين فإنه أحد الرّيعين» . السّويق: يغسل بالماء الحارّ مرّات ثم بالبارد ويشرب. والملح: يتقبّل به الطبيخ. والخلّ: ينضج العدس ويصلحه للأكل. الباقلي: ينقع ثم يطبخ. ولا يؤكل من الفاكهة إلا ما نضج على شجره، ويلقى ثفله وعجمه «5» ، ويؤكل على ريق النّفس. والعنب: يقطف ويمهل أيّاما ثم يؤكل. ولا يؤكل من القنّب «6» إلا لبّه.

ولا يؤكل من الرأس إلا أسنانه «1» وعيونه. الباذنجان: يشقّ ويحشى بالملح، ويترك ساعة في الماء البارد، ثم يصبّ عنه ويعاد إلى الماء مرارا، ثم يسلق بعد ذلك. الكبر «2» : يؤكل بالخلّ بعد غسله بالماء من الخلّ. الزيتون: يؤكل وسط الطعام ويصبّ في الخل. ويؤكل من الأشترغاز «3» خلّه ولا يعرض لجسمه. والكمأة: تنصّف ويقشر عنها قشرها، وتسلق بالماء والملح ثم تستعمل بالسّعتر «4» والفلفل، وتقلى بالزّيت الرّكابي «5» ، وكذلك الفطر. السّلق والكرنب: يسلقان بالماء والملح، ويصبّ ماؤها ثم يستعملان. والبقول: تمسح ثم تؤكل ولا تغسل بالماء. وأحمد التّمور الهيرون «6» . وأحمد البسور الجيسران «7» . وما اصفرّ أحمد مما اسودّ. وخير السّمك الشّبّوط والبنانيّ والميّاح «8» . ولا يؤكل السمك الطّريّ إلا

حارّا بالخردل في الشتاء، وفي الصيف بالخلّ وبالأبازير «1» . وأقلّ السّمك أذى الممقور «2» . وشرّ السمك كباره السماريس «3» . وخير السماريس البيض، وأكلها خير من أكل الحمر، وشرّها السّود. وخير البيض بيض الشّوابّ «4» من الدّجاج، ولا خير في بيض الهرمة. وأخفّ البيض الرقيق، وأثقله البيض الصلب. ولا يعرض من الرأس للدّماغ ولا للسان، ولا الغلصمة «5» ولا الخراطيم. ولحم العنق خفيف سريع الإنهضام. وفي الحديث المرفوع: «العنق هادية «6» الشاة وهي أبعدها من الأذى» . والفقّاع «7» : يشرب قبل الطّعام ولا يشرب بعده. واللّبن: لا يؤكل ولا يشرب إلا بعد وضع الشاة بشهر ونحوه. والباقليّ «8» ؛ يؤكل بعد الفوذنج «9» فإنه يذهب بنفخته. اللوبياء: يؤكل بعده الخردل الرّطب، ويشرب بعده ماء الرّمّان

والسّكنجبين «1» المعمول بالسّكر. الهريسة «2» : تؤكل بالفلفل الكثير والمرّيّ «3» ولا يجعل فيها السّمن. والمضيرة «4» : تطبخ بالفوذنج والسّذاب والكرفس. الزّيت الرّكابيّ: إذا خلط بالخلّ أو أغلي على النار ثم رفعت رغوته عاد كالمغسول. وفي الحديث: أن عمر رضي الله عنه قال: عليكم بالزّيت، فإن خفتم ضرره فأثخنوه بالماء فإنه يصير كالسّمن. عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالشّجرة التي نادى الله منها موسى عليه السلام زيت الزّيتون ادّهنوا به فإنه شفاء من الباسور» . الخردل: يعجن بالخلّ ويغسل بالماء ورماد البلّوط أو رماد الكرم مرارا بعد أن ينعم دقّه ونخله، ثم يغسل بالماء القراح ويرشّ بالماء حتى تخرج رغوته ويكثر خلّه، ويخلط معه اللّوز الحلو أو ماء الرّمان الحامض وماء الزّبيب. صورة ما جاء بخاتمة الجزء التاسع من النسخة الخطية التي نقل عنها الأصل الفتوغرافي. تمّ كتاب الطعام وهو الكتاب التاسع من عيون الأخبار لابن قتيبة، ويتلوه في الكتاب العاشر كتاب النساء. والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته على خير خلقه محمد وآله أجمعين. وكتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن عليّ

الجزريّ الواعظ، في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة هجرية. نجز كتاب الطعام ويتلوه في الجزء العاشر كتاب النساء. جاء بعد خاتمة الجزء التاسع من النسخة الخطية التي نقل عنه الأصل الفتوغرافي ما يأتي: قال الأصمعيّ: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه بدرة «1» ، فقال: يا أصمعيّ، إن حدّثتني بحديث في العجز «2» فأضحكتني وهبتك هذه البدرة؛ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ بينا أنا في صحارى الأعراب في يوم شديد البرد والرّيح وإذا بأعرابيّ قاعد على أجمة «3» وهو عريان، قد احتملت الرّيح كساءه، فألقته على الأجمة؛ فقلت له: يا أعرابيّ؛ ما أجلسك هاهنا على هذه الحالة؟ فقال: جارية وعدتها يقال لها سلمى، أنا منتظر لها؛ فقلت: وما يمنعك من أخذ كسائك؟ فقال: العجز يوقفني عن أخذه، فقلت له: فهل قلت في سلمى شيئا؟ فقال: نعم؛ فقلت: أسمعني لله أبوك! فقال: لا أسمعك حتى تأخذ كسائي وتلقيه عليّ؛ قال: فأخذته فألقيته عليه، فأنشأ يقول: [وافر] لعلّ الله أن يأتي بسلمى ... فيبطحها ويلقيني عليها ويأتي بعد ذاك سحاب مزن ... تطهّرنا ولا نسعى إليها «4» فضحك الرشيد حتى استلقى على ظهره، وقال: أعطوه البدرة، فأخذها الأصمعيّ وانصرف. ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لابن هرمة: إني لست

كمن باعك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمّك، فقد رزقني الله بولادة نبيّه عليه السلام الممادح وجنّبني المقابح، وإنّ من حقّه عليّ ألّا أغضي «1» على تقصير في حقّ ربّه. وأنا أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنّك حدّا للخمر وحدّا للسكر «2» ، ولأزيدنّ لموضع حرمتك بي. فليكن تركك لها لله تعن عليه، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم؛ فنهض ابن هرمة «3» وهو يقول: [وافر] نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدّبني بآداب الكرام «4» وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام وكيف تصبّري عنها وحبّي ... لها حبّ تمكّن في عظامي أرى طيب الحلال عليّ خبثا ... وطيب النفس في خبث الحرام ذكر هذا الخبر أبو العباس المبرّد في كتاب الكامل.

الجزء الرابع

الجزء الرابع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب النساء في أخلاقهن وخلقهن وما يختار منهن وما يكره عن مجاهد عن يحيى بن جعدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لدينها وحسبها وحسنها فعليك بذات الدّين تربت يداك» «1» ثم قال: «ما أفاد رجل بعد الإسلام خيرا من امرأة ذات دين تسرّه إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها وتحفظه في نفسها وماله إذا غاب عنها» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لا تدخل المرأة على زوجها في أقلّ من عشر سنين. قالت عائشة: وأدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا بنت تسع سنين. الأصمعيّ قال: أخبرنا شيخ من بني العنبر قال: كان يقال: النساء ثلاث: فهيّنة ليّنة عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وأخرى «غلّ قمل» «2» يضعه الله في عنق من يشاء

ويفكّه عمن يشاء. والرجال ثلاثة: فهيّن ليّن عفيف مسلم، يصدر الأمور مصادرها، ويوردها مواردها، وآخر ينتهي إلى رأي ذي الّلبّ والمقدرة فيأخذ بأمره، وينتهي إلى قوله، وآخر حائر بائر «1» ، لا يأتمر لرشد، ولا يطيع مرشدا. عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: خير نسائكم العفيفة في فرجها، الغلمة لزوجها «2» . وعن عروة بن الزّبير قال: ما رفع أحد نفسه بعد الإيمان بالله بمثل منكح صدق، ولا وضع نفسه بعد الكفر بمثل منكح. سوء. ثم قال: لعن الله فلانة، ألفت «3» بني فلان بيضا طوالا فقلبتهم سودا قصارا. قال بعض شعراء بني أسد: [طويل] وأوّل خبث الماء خبث ترابه ... وأوّل خبث القوم خبث المناكح قال الأصمعيّ قال ابن زبير؛ لا يمنعكم من تزوّج امرأة قصيرة قصرها، فإنّ الطويلة تلد القصير، والقصيرة تلد الطويل؛ وإيّاكم والمذكّرة «4» فإنها لا تنجب. أبو عمرو بن العلاء قال قال رجل: لا أتزوّج امرأة حتى أنظر إلى ولدي منها، قيل له: كيف ذاك؟ قال: أنظر إلى أبيها وأمّها فإنها تجرّ بأحدهما «5» . عن ابن أبي مليكة أنّ عمر قال: يا بني السائب، إنكم قد أضويتم «6»

فانكحوا في النزائع «1» . الأصمعيّ قال: قال رجل: بنات العمّ أصبر، والغرائب أنجب «2» ، وما ضرب رؤوس الأبطال كابن أعجميّة «3» . عن أوفى بن دلهم أنه كان يقول: النساء أربع، فمنهنّ معمع «4» لها شيئها أجمع، ومنهن تبع تضرّ ولا تنفع، ومنهنّ صدع «5» تفرّق ولا تجمع، ومنهن غيث همع «6» إذا وقع ببلد أمرع «7» . قال الأصمعيّ: فذكرت بعض هذا الحديث لأبي عوانة «8» . فقال: كان عبد الله بن عمير يزيد فيه: ومنهن القرثع «9» : وهي التي تلبس درعها مقلوبا، وتكحل إحدى عينيها وتدع الأخرى. عن عليّ بن زيد قال قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ثلاث من الفواقر «10» : جار مقامة، إن رأى حسنة سترها، وإن رأى سيئة أذاعها؛ وامرأة إن دخلت لسنتك «11» ، وإن غبت عنها لم تأمنها؛ وسلطان إن أحسنت لم يحمدك، وإن أسأت قتلك.

الأصمعيّ قال: حدّثنا جميع بن أبي غاضرة- وكان شيخا مسنّا من أهل البادية من ولد الزّبرقان بن بدر من قبل النساء- قال: كان الزبرقان يقول: احبّ كنائني «1» إليّ الذليلة في نفسها، العزيزة في رهطها، البرزة «2» الحيّية التي في بطنها غلام ويتبعها غلام. وأبغض كنائني إليّ الطّلعة الخبأة «3» ، التي تمشي الدّفّقى «4» وتجلس الهبنقعة «5» ، الذليلة في رهطها، العزيزة في نفسها، التي في بطنها جارية وتتبعها جارية. بلغني عن خالد بن صفوان أنه قال: من تزوّج امرأة فليتزوّجها عزيزة في قومها، ذليلة في نفسها، أدّبها الغنى وأذلّها الفقر. حصانا من جارها «6» ما جنة على زوجها «7» . وقال الفرزدق يصف نساء: [كامل] يأنسن عند بعولهنّ إذا خلوا ... وإذا هم خرجوا فهنّ خفار «8» وقال خالد بن صفوان لدلال «9» : اطلب لي بكرا كثيّب «10» أو ثيبّا كبكر، لا

ضرعا «1» صغيرة ولا عجوزا كبيرة لم تقرّ فتحنن ولم تفت فتمحن «2» ، قد عاشت في نعمة وأدركتها حاجة. فخلق النعمة معها وذلّ الحاجة فيها، حسبي من جمالها أن تكون ضخمة من بعيد، مليحة من قريب وحسبي من حسبها أن تكون واسطة في قومها، ترضى مني بالسّنّة، إن عشت أكرمتها وإن متّ ورّثتها. وقال رجل لصاحب له: ابغني امرأة بيضاء البياض، سوداء السواد، طويلة الطول، قصيرة القصر. يريد: كلّ شيء منها أبيض فهو شديد البياض، وكلّ شيء منها أسود فهو شديد السواد، وكذلك الطول والقصر. وقال آخر: ابغني امرأة لا تؤهّل دارا (أي لا تجعل دارها آهلة بدخول الناس عليها) ، ولا تؤنس جارا (أي لا تؤنس الجيران بدخولها عليهم) ، ولا تنفث نارا أي لا تنمّ وتغري بين الناس. قال الأصمعيّ قال أعرابيّ لابن عمّه: اطلب لي امرأة بيضاء، مديدة «3» فرعاء «4» . جعدة «5» ، تقوم فلا يصيب قميصها منها إلا مشاشة «6» منكبيها، وحلمتى ثدييها ورانفتي «7» أليتيها ورضاف «8» ركبتيها، إذا استلقت فرميت تحتها

بالأترجّة «1» العظيمة نفذت من الجانب الآخر، فقال له ابن عمه: وأنّى بمثل هذه إلّا في الجنان!. ونحو قوله في الأترجّة قول أمّ زرع: خرج أبو زرع والأوطاب «2» تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان تحت خصرها برمّانتين فطلقّني ونكحها. وقال آخر: ابغني امرأة شقّاء مقّاء «3» ، طويلة الإلقاء «4» ، منهوسة الفخذين «5» ، نافحة الصّقلين «6» . أنشد ابن الأعرابيّ: [طويل] إذا كنت تبغي أيّما بجهالة ... من الناس فانظر من أبوها وخالها «7» فإنّهما منها كما هي منهما ... كقدّك نعلا إن أريد مثالها فإنّ الذي ترجو من المال عندها ... سيأتي عليه شؤمها وخبالها «8» كان يقال: البكر كالذّرة تطحنها وتعجنها وتخبزها، والثّيّب عجالة «9» راكب تمر وسويق. وقال ابن الأعرابيّ: طلّق زياد امرأته حين وجدها لثغاء «10» ، وقال: أخاف

أن يجيء ولدي ألثغ، وقال: [رجز] لثغاء تأتي بحيفس ألثغ ... تميس في الموشي والمصبّغ» ويقال: المرأة غلّ فانظر ماذا تضع في عنقك؛ وهو من قول ابن المقفّع: الدّين رقّ، فانظر عند من تضع نفسك. أنشد ابن الأعرابيّ: [طويل] أحبّ الخلاويّ النزيه من الهوى ... وأكره أن أسقى على عطش فضلا «2» يقول: أكره المرأة التي أكثرت الأزواج وإن كنت مضطرّا إليها. وعن خالد الحذّاء قال: خطبت امرأة من بني أسد فجئت لأنظر إليها وبيني وبينها رواق يشفّ «3» ، فدعت بجفنة «4» مملوءة ثريدا مكلّلة باللحم فأتت على آخرها، وأتت بإناء مملوء لبنا أو نبيذا فشربته حتى كفأته «5» على وجهها، ثم قالت: يا جارية ارفعي السّجف «6» فإذا هي جالسة على جلد أسد وإذا شابة جميلة، فقالت: يا عبد الله: أنا أسدة من بني أسد على جلد أسد وهذا مطعمي ومشربي، فإن أحببت أن تتقدّم فافعل، فقلت: استخير الله وأنظر، فخرجت ولم أعد. وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمّ سليم تنظر إلى امرأة فقال: «شمّي

عوارضها «1» وانظري إلى عقبها» . وقال النابغة: [بسيط] ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بجنبي نخلة البرما «2» وقال الأصمعيّ: إذا اسودّ عقب المرأة اسودّ سائرها. تزوّج عليّ بن الحسين أمّ ولد لبعض الأنصار، فلامه عبد الملك في ذلك، فكتب إليه: إن الله قد رفع بالإسلام الخسيسة وأتمّ النقيصة، وأكرم به من اللؤم فلا عار على مسلم، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تزوّج أمته وامرأة عبده، فقال عبد الملك: إن عليّ بن الحسين يتشرّف من حيث يتّضع الناس. الأصمعيّ قال: كان أهل المدينة يكرهون اتّخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم عليّ بن الحسين والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر، ففاقوا أهل المدينة فقها وورعا فرغب الناس في السّراري «3» . وقال مسلمة بن عبد الملك: عجبنا من رجل أحفى «4» شعره ثم أعفاه، أو قصّر شاربه ثم أطاله، أو كان صاحب سراريّ فاتّخذ المهيرات «5» . قال رجل من أهل المدينة: لا تشتمنّ امرأ في أن تكون له ... أمّ من الروم أو سوداء عجماء

فإنما أمّهات الناس أوعية ... مستودعات وللأحساب آباء وربّ واضحة ليست بمنجبة ... وربما أنجبت للفحل سوداء «1» بلغني أن رجلا شاور حكيما في التّزوّج فقال له: افعل، وإيّاك والجمال الفائق، فإنه مرعى أنيق، فقال: ما نهيتني إلّا عما أطلب، فقال: أما سمعت قول القائل: [بسيط] ولن تصادف مرعى ممرعا أبدا ... إلا وجدت به آثار منتجع «2» وقال عمر بن الوليد للوليد بن يزيد: إنك لمعجب بالإماء، قال: وكيف لا أعجب بهنّ وهنّ يأتين بمثلك. ويروى عن أبي الدّرداء أنه قال: خير نسائكم التي تدخل قيسا وتخرج ميسا «3» وتملأ بيتها أقطا «4» وحيسا، وشرّ نسائكم السّلفعة «5» ، التي تسمع لأضراسها قعقعة «6» ، ولا تزال جارتها مفزّعة. وقد فسرت هذا في كتاب غريب الحديث. وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أيّ النساء أشهى؟ قال: المؤاتية لما تهوى، قال: فأيّ النساء أسوأ؟ قال: المجانبة لما ترضى؛ قال معاوية: هذا والله النّقد، قال عقيل؛ بالميزان العادل.

الأكفاء من الرجال

الأكفاء من الرجال عن أبي هريرة قال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جاءكم من ترضون خلقه وخلقه فزوّجوه إنكم إلّا تفعلوه تكن قتنة في الأرض وفساد عريض» . وعن الحسن عن سمرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: الحسب المال والكرم التقوى. وعن أنس قال: قالت أمّ حبيبة: يا رسول الله، المرأة منّا يكون لها الزوجان في الدنيا فتموت فلأيّهما تكون في الآخرة؟ قال: «لأحسنهما خلقا يا أمّ حبيبة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة» . عن عطيّة بن قيس قال: خطب معاوية أمّ الدّرداء فقالت: قال أبو الدرداء: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرأة لآخر زوجيها» فلست بمتزوّجة بعد أبي الدرداء حت أتزوّجه في الجنة إن شاء الله تعالى. ويقال: إنما حرم أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على من بعده لأنّهنّ أزواجه في الجنّة. عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح فإنّهنّ يحببن ما تحبّون. ابن الأعرابيّ قال: قيل لابنة الخسّ «1» : ألا تتزوّجين؟ فقالت: بلى، لا أريده أخا فلان ولا ابن فلان ولا الظريف المتظرّف ولا السمين الألحم «2» ، ولكن أريده كسوبا إذا غدا، ضحوكا إذا أتى. وكان أبوها قد كفّ بصره فقال: ما بال ناقتك؟ قالت: عينها «3» هاجّ وملؤها راج «4» وتمشي وتفاج «5» ؛ فقال: يا بنيّة اعقليها، فعقلتها. فقال: ما صنعت حتى اضطرمت «6» .

قيل لأعرابيّ: فلان يخطب فلانة، قال: أموسر من عقل ودين؟ قالوا: نعم، قال: فزوّجوه. عن عيسى بن عمر قال: قال رجل لأعرابيّ: أمنكحي أنت؟ قال: لا، قال: ولم؟ لأنك أصبح اللّحية «1» . وكان عقيل بن علّفة غيورا، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه «2» ، وكانت لعقيل إليه حوائج، فقال له: إن كنت لا بدّ فاعلا فجنّبني هجناءك «3» . وخطب إليه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل- وكان إبراهيم بن هشام والي المدينة وخال هشام بن عبد الملك- فردّه لأنه كان أبيض شديد البياض، فقال: [وافر] رددت صحيفة القرشيّ لمّا ... أبت أعراقه إلا احمرارا وقال رجل من الأعراب: [طويل] يسمّوننا الأعراب والعرب اسمنا ... واسماؤهم فينا رقاب المزاود «4» يعني العجم يسمّون الحمراء. ابن الأعرابيّ قال: قال عبد الملك بن مروان لامرأة من قريش تزوّجت

رجلا مغموصا عليه «1» : أتنكح الحرّة عبدها؟ فقالت: يا أمير المؤمنين: [رجز] إنّ المهور تنكح الأيامى ... النّسوة الأرامل اليتامى المرء لا تبغي له سلاما وقال ابن الأعرابيّ: خطب رجل إلى رجل فلم يرضه فأنشأ يقول: [بسيط] قل للّذين سعوا يبغون رخصتها ... ما رخّص الجوع عندي أمّ كلثوم الموت خير لها من بعل منقصة ... ساقت إليه أباها جلّة كوم «2» وكان عمر الخير نكّاحا فكان في عام سنة يقول: لعل الضّيّقة تحملهم على أن ينكحوا غير الأكفاء. وقال المساور «3» للمرّار: [بسيط] ما سرّني أنّ أمي من بني أسد ... وأنّ ربّي ينجيني من النّار وأنهم زوّجوني من بناتهم ... وأنّ لي كلّ يوم ألف دينار فأجابه المرّار: [بسيط] فلست للأمّ من عبس ومن أسد ... وإنما أنت دينار ابن دينار وإن تكن أنت من عبس وأمّهم ... فإن أمّكم من جارة الجار دينار ابن دينار: عبد ابن عبد. وجارة الجار: الاست، والجار: الفرج.

وقال بعض الأعراب: [طويل] أقول لها لما أتتني تدلّني ... على امرأة موصوفة بجمال أصبت لها والله بعلا كما اشتهت ... إن اغتفرت مني ثلاث خصال فمنهنّ فسق لا يبارى وليده ... ورقّة إسلام وقلّة مال وقال رجل لابن هبيرة: أنا ابن الذي خطب إلى معاوية؛ فقال ابن هبيرة: أفزوّجه؟ قال: لا؛ فقال: ما صنعت شيئا. أبو الحسن المدائنيّ قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة، فقالت له أمّها: حتى أسأل عنك، فانصرف فسأل عن أكرم الحيّ عليها، فدلّ على شيخ فيهم كان يحسن المحضر في الأمر يسأل عنه، فسأله أن يحسن عليه الثناء وانتسب له فعرفه؛ ثم إنّ العجوز شمّرت «1» فسألته عنه فقال: أنا ربّيته، قالت: كيف لسانه؟ قال: مدره قومه وخطيبهم «2» . قالت: كيف شجاعته؟ قال: حامي قومه وكهفهم. قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال «3» قومه وربيعهم «4» . فأقبل الفتى فقال الشيخ: ما أحسن والله ما أقبل! ما انثنى ولا انحنى. فدنا الفتى فقال الشيخ: ما أحسن والله ما سلّم! ما جار ولا خار «5» . ثم جلس، فقال: ما أحسن والله ما جلس! ما دنا ولا ثنى. فذهب الفتى ليتحرّك فضرط، فقال الشيخ: ما أحسن والله ما ضرط! ما أغنّها ولا أطنّها، ولا بربرها ولا فرفرها. فنهض الفتى خجلا فقال: ما أحسن والله ما نهض! ما انفتل ولا انحزل «6» .

فأسرع الفتى، فقال: ما أحسن والله ما خطا! ما ازورّ ولا اقطوطى «1» . قالت العجوز: وجّه إليه من يردّه، لو سلح لزوّجناه. خطب خالد بن صفوان امرأة فقال: أنا خالد بن صفوان؛ والحسب على ما قد علمته، وكثرة المال على ما قد بلغك، وفيّ خصال سأبيّنها لك فتقدمين عليّ أو تدعين؛ قالت: وما هي؟ قال: إن الحرّة إذا دنت منّي أملّتني، وإذا تباعدت عني أعلّتني، ولا سبيل إلى درهمي وديناري، ويأتي عليّ ساعة من الملال لو أنّ رأسي في يدي نبذته؛ فقالت: قد فهمنا مقالتك ووعينا ما ذكرت، وفيك بحمد الله خصال لا نرضاها لبنات إبليس، فانصرف رحمك الله. قال بعض الشعراء: [وافر] ألا يا ليل إن خيّرت فينا ... بعيشك فانظري أين الخيار فلا تستنكحي فدما غبيّا ... له ثأر وليس عليه ثار «2» وقال آخر لامرأته «3» : [متقارب] فإمّا هلكت فلا تنكحي ... ظلوم العشيرة حسّادها يرى مجده ثلب أعراضها ... لديه ويبغض من سادها «4» وقال آخر «5» : [طويل] فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا «6»

من القوم ذا لونين وسّع بطنه ... ولكن أذّيا حلمه ما توسّعا «1» ضروبا بلحييه على عظم زوره ... إذا القوم هشّوا للفعال تقنّعا «2» زوّج إبراهيم بن النعمان بن بشير يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفّان ابنته على عشرين ألف درهم، فعيّر فقال: [طويل] فما تركت عشرون ألفا لقائل ... مقالا فلا تحفل مقالة لائم فإن أك قد زوّجت مولى «3» فقد مضت ... به سنّة قبلي وحبّ الدّراهم ويحيى هذا جدّ مروان الشاعر، وكان يهوديّا فأسلم على يد عثمان. وتزوّج أيضا خولة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم سيّد أهل الوبر. فقال القلاخ «4» : [بسيط] نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك مما رجوت التّرب والحجر لله درّ جياد أنت سائسها ... برذنتها وبها التّحجيل والغرر «5» خطب رجل إلى ابن عبّاس يتيمة له؛ فقال ابن عبّاس: لا أرضاها لك؛ قال: ولم، وفي حجرك نشأت؟ قال: لأنها تتشوّف «6» وتنظر. قال: وما هذا!

فقال ابن عبّاس: الآن لا أرضاك لها. كتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه أمّ عثمان بنت سعيد وبعث إليه بمال كثير؛ فلما قرأ الكتاب أمر حاجبه بقبض المال والهدايا، فلما قبضها أمره يقسمها بين جلسائه؛ فقال الحاجب: إنها أكثر من ذلك؛ فقال: أنا أكثر منها، ففعل؛ ثم كتب إلى زياد: بسم الله الرحمن الرحيم. ف إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1» . خطب لقيط بن زرارة «2» إلى قيس بن خالد ذي الحدّين الشّيبانيّ؛ فقال له قيس: ومن أنت؟ قال: لقيط بن زرارة. قال: وما حملك أن تخطب إليّ علانية؟ فقال) لأنّي عرفت أنّي إن عالنتك لم أفصحك وإن ساررتك لم أخدعك؛ فقال: كفء كريم، لا تبيت والله عندي عزبا ولا غريبا. فزوّجه ابنته وساق عنه «3» . قال رجل للحسن: إن لي بنيّة وإنها تخطب، فممّن أزوّجها؟ فقال: زوّجها ممن يتقي الله، فإن أحبّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. قال أبو اليقظان: خطب عمر بن الخطّاب أمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة بعد أن مات عنها يزيد بن أبي سفيان، فقالت: لا يدخل إلا عابسا ولا يخرج إلّا عابسا، يغلق أبوابه ويقلّ خيره. ثم خطبها الزّبير، فقالت: يد له على قرونى «4» ويد له في السّوط. وخطبها عليّ، فقالت: ليس للنساء منه حظّ إلا

الحض على النكاح وذم التبتل

أن يقعد بين شعبهن الأربع لا يصبن منه غيره. وخطبها طلحة فأجابت فتزوّجها؛ فدخل عليها عليّ بن أبي طالب فقال لها: رددت من رددت منّا وتزوّجت ابن بنت الحضرميّ! فقالت: القضاء والقدر؛ فقال: أما إنك تزوّجت أجملنا مرآة وأجودنا كفّا وأكثرنا خيرا من أهله. الحضّ على النكاح وذمّ التبتّل «1» عن عكّاف بن وداعة الهلاليّ: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال له: «يا عكّاف ألك امرأة قال: لا، قال: فأنت إذا من أخوان الشياطين إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم وإن كنت منّا فمن سنّتنا النكاح» . عن طاوس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا زمام «2» ولا خزام ولا رهبانيّة في الإسلام ولا تبتّل ولا سياحة في الإسلام. عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحنّ أو لأقولنّ لك ما قال عمر لأبي الزوائد «3» : ما يمنعك عن النكاح إلا عجز أو فجور. عن إبراهيم قال: قال علقمة لامرأته: خذي أحسن زينتك ثم اجلسي عند رأسي، لعلّ الله أن يرزقك من بعض عوّادي خيرا. وفي بعض الأخبار: أربع من سنن المرسلين: التّعطر. والنّكاح، والسّواك، والختان.

باب الحسن والجمال

باب الحسن والجمال عن عائشة رضي الله عنها قالت: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة من كلب، فبعثني أنظر إليها؛ فقال لي: كيف رأيت؟ فقلت: ما رأيت طائلا؛ فقال: لقد رأيت خالا بخدّها اقشعرّ كل شعرة منك على حدة؛ فقالت: ما دونك سرّ. القحذميّ قال: دخل أبو الأسود على عبيد الله بن زياد فقال: أصبحت جميلا، فلو تعلّقت معاذة! «1» فظنّ أنّه يهزأ به فقال: [بسيط] أفنى الشّباب الذي أبليت جدّته ... مرّ الجديدين من آت ومنطلق «2» لم يبقيا لي في طول اختلافهما ... شيئا يخاف عليه لذعة الحدق «3» عن حيّان بن عمير قال: دخلت على قتادة بن ملحان، فمرّ رجل في أقصى الدار فرأيته في وجه قتادة، فقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح وجهه. عن عون بن عبد الله قال: كان يقال: من كان في صورة حسنة ومنصب لا يشينه ووسّع عليه في الرزق، كان من خالصة الله. وقال الحكم بن قنبر «4» : [مديد] ليس فيها ما يقال له ... كملت لو أن ذا كملا كلّ جزء من ملاحتها ... كائن من حسنها مثلا لو تمنّت في متاعتها ... لم ترد من نفسها بدلا «5»

وقال بعض المحدثين: [طويل] فلما رأوك العاذلون حججتهم ... بحسنك حتّى كلّهم لي عاذر «1» وقال أيضا: [متقارب] تحيّر من حسنه فهمه ... وتاه وحقّ له أن يتيها «2» رأى غيره ورأى نفسه ... فلم ير فيه لشيء شبيها وقال الأعشى في وصف امرأة: [متقارب] فأفضيت منها إلى جنّة ... تدلّت عليّ بأثمارها عن عائشة رضي الله عنها قالت: يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأصبحهم وجها. وقال جميل بن معمر: ما رأيت مصعبا يختال بالبلاط «3» إلا غرت على بثينة، وبينهما ثلاثة أيّام. عن الشّعبيّ قال: دخلت المسجد باكرا، وإذا بمصعب بن الزّبير والناس حوله، فلما أردت الانصراف قال لي: ادن، فدنوت منه حتى وضعت يدي على مرفقته «4» ؛ فقال: إذا أنا قمت فاتبعني؛ وجلس قليلا، ثم نهض فتوجّه نحو دار موسى بن طلحة فتتبّعته؛ فلما أمعن في الدار التفت إليّ وقال: ادخل، فدخلت معه ومضى نحو حجرته وتبعته؛ فالتفت إليّ فقال: ادخل، فدخلت معه فإذا حجلة «5» ، فطرحت لي وسادة فجلست عليها، ورفع سجف

القبّة «1» ، فإذا أجمل وجه رأيته قطّ؛ فقال: يا شعبيّ، هل تعرف هذه؟ قلت: نعم، هذه سيّدة نساء العالمين عائشة بنت طلحة؛ فقال: هذه ليلى، ثم تمثّل: [طويل] وما زلت من ليلى لدن طرّ شاربي ... إلى اليوم أخفي إحنة وأداجن «2» وأحمل في ليلى لقوم ضغينة ... وتحمل في ليلى عليّ الضغائن ثم قال: إذا شئت يا شعبيّ فقم فخرجت؛ فلما كان العشيّ رحت إلى المسجد فإذا مصعب بمكانه؛ فقال لي: ادن، فدنوت؛ فقال لي: هل رأيت مثل ذلك لإنسان قطّ؟ قلت: لا؛ قال: أتدري لم أدخلناك؟ قلت: لا؛ قال: لتحدّث بما رأيت. ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة فقال: أعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا. فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به؛ بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصّار «3» ، ونظري إلى عائشة. أبو الغصن الأعرابيّ قال: خرجت حاجّا، فلمّا مررت بقباء تداعى «4» أهله وقالوا: الصّقيل الصّقيل «5» ! فنظرت وإذا جارية كأنّ وجهها سيف صقيل، فلمّا رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها، فقلنا: إنّا سفر وفينا أجر،

فأمتعينا بوجهك؛ فانصاعت وأنا أعرف الضّحك في وجهها وهي تقول: [طويل] وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر «1» رأيت الذي لا كلّه أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر ومرّ رجل بناحية البادية فإذا فتاة كأحسن ما تكون؛ فوقف ينظر إليها، فقالت له عجوز من ناحية: ما يقيمك على الغزال النّجديّ ولا حظّ لك فيه، فقالت الجارية: يا عمّتاه، يظنّ كما قال ذو الرّمّة: [طويل] وإن لم يكن إلّا تعلّل ساعة ... قليلا فإنّي نافع لي قليلها «2» وقال بعض المحدثين: [كامل] الخال يقبح بالفتى في خدّه ... والخال في خدّ الفتاة مليح والشّيب يحسن بالفتى في رأسه ... والشيب في رأس الفتاة قبيح وقال جعفر بن محمد: الجمال مرحوم. رأى رجل شريحا يجول في بعض الطّرق فقال: ما غدا بك؟ فقال: عسيت أن أنظر إلى صورة حسنة. قالت امرأة خالد بن صفوان له يوما: ما أجملك! قال: ما تقولين ذاك وما لي عمود الجمال، ولا عليّ رداؤه ولا برنسه «3» ؛ قالت: ما عمود الجمال وما رداؤه وما برنسه؟ قال: أما عمود الجمال فطول القوام وفيّ قصر؛ وأمّا رداؤه

فالبياض ولست بأبيض؛ وأمّا برنسه فسواد الشعر وأنا أصلع، ولكن لو قلت: ما أحلاك وما أملحك. كان أولى. أبو اليقظان قال: كان يسمّى جيش ابن الأشعث جيش الطواويس، لكثرة من كان فيه من الفتيان المنعوتين بالجمال. قال: وقال أبو اليقظان: سمع عمر بن الخطاب قائلا بالمدينة يقول: [طويل] أعوذ بربّ الناس من شرّ معقل ... إذا معقل راح البقيع مرجّلا «1» يعني معقل بن سنان الأشجعيّ، وكان قدم المدينة؛ فقال له عمر: الحق بباديتك. وسمع امرأة ذات ليلة تقول: [بسيط] ألا سبيل الى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاج وهذا نصر بن حجّاج بن علاط البهزيّ، وكان من أجمل الناس، فدعا به عمر فسيّره إلى البصرة- فأتى مجاشع بن مسعود السّلميّ فدخل عليه يوما وعنده امرأته شميلة «2» وكان مجاشع أمّيّا، فكتب نصر على الأرض: أحبّك حبّا لو كان فوقك لأظلّك، أو تحتك لأقلّك «3» ؛ فكتبت هي: وأنا والله كذلك؛ فكبّ مجاشع على الكتابة إناء ثم أدخل كاتبا فقرأه، فأخرج نصرا وطلّقها- فقال نصر بن حجّاج: [طويل]

وما لي ذنب غير ظنّ ظننته ... وفي بعض تصديق الظنون أثام لعمري إن سيّرتني أو حرمتني ... وما نلت ذنبا إنّ ذا لحرام أإن غنّت الذّلفاء ليلا بمنية ... وبعض أمانيّ النساء غرام «1» ظننت بي الظنّ الذي ليس بعده ... بقاء ومالي في النّديّ كلام «2» فأصبحت منفيّا على غير يبة ... وقد كان لي بالمكّتين مقام ويمنعني ممّا تمنّت تكرّمي ... وآباء صدق سالفون كرام ويمنعها ممّا تمنّت حياؤها ... وحال لها مع عفّة وصيام وهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... وقد خفّ منّي كاهل وسنام «3» وأنا أحسب هذا الشعر مصنوعا. قال لقيط بن زرارة: [طويل] أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه «4» قال أبو الطّمحان القينيّ «5» : [طويل] يكاد الغمام الغرّ يرعد إن رأى ... وجوه بني لأم وينهلّ بارقه «6» وقال آخر «7» : [طويل]

وجوه لو انّ المعتفين اعتشوا بها ... صدعن الدّجى حتى ترى الليل ينجلي «1» قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنّا إذا سمعنا بكم شعرنا أحسنكم وجوها، وإذا اختبرناكم كانت الخبرة أولى بكم. قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: خصصنا بخمس: بصباحة، وفصاحة، وسماحة، ورجاحة، وحظوة (يعني عند النساء) . وسئل عن بني أميّة فقال: هم أغدر وأفجر وأمكر؛ ونحن أفصح وأصبح وأسمح. رأت امرأة الزبير فقالت: من هذا الذي هو أرقم يتلمّظ؟ «2» ورأت عليّا فقالت: من هذا الذي كأنّه كسر ثم جبر؟ ورأت طلحة فقالت: من هذا الذي كأنّه دينار هرقليّ؟ «3» . ألبست سكينة بنت الحسين ابنة لها درّا كثيرا وقالت: والله ما ألبستها إيّاه إلّا لتفضحه. وقال بعض الشعراء يذكر نساء جئن مع جارية: [كامل] أقبلن في رأد الضّحاء بها ... وسترت وجه الشمس بالشمس «4» ذكر بعض الأعراب امرأة قال: خلوت بها والقمر يرينيها، فلمّا غاب أرتنيه.

وقال بعض الشعراء «1» : [طويل] غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشقّ على البصر «2» كأنّ الثّريّا «3» علّقت في جبينه ... وفي أنفه الشّعرى وفي وجهه القمر ولمّا رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردّى بثوب واسع الذّيل وأتزر إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذلّ ولو شاء لانتصر «4» قال غلام من الأعراب لأمّه: [متقارب] نشدتك بالله هل تعلمين ... بأنّي طويل وأنّي حسن قالت: قبّحك الله! فكان ماذا؟ قال: [متقارب] وأنّي أقمّص بالدّارعين ... غداة الصّباح وأحمي الظّعن «5» قال عمّه: فهلّا كان ذا قبل!. قال الشاعر «6» : [كامل] بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم «7» فكأنّها فيه نهار ساطع ... وكأنّه ليل عليها مظلم

وقال الطائيّ: [كامل] بيضاء تبدو في الظلام فيكتسي ... نورا وتبدو في النهار فيظلم وصف أعرابيّ امرأة فقال: كاد الغزال يكونها، لولا ما تمّ منها ونقص منه. قال ابن الأعرابيّ: الحلاوة في العينين، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم. قال أعرابيّ يصف امرأة: [طويل] خزاعيّة الأطراف مرّيّة الحشا ... فزاريّة العينين طائيّة الفم كان المقنّع الكنديّ «1» من أجمل الناس وكان يتقنّع لأنه كان متى سفر لقع (أي أصيب بعين) ، وهو القائل: [بسيط] وفي الظّعائن والأحداج أملح من ... حلّ العراق وحلّ الشام واليمنا «2» جنّيّة من نساء الإنس أحسن من ... شمس النهار وبدر الليل لو قرنا الحكم بن صخر الثّقفيّ قال: خرجت حاجّا مختفيا، فلمّا كنت ببعض الطريق أتتني جاريتان من بني عقيل لم أر أحسن منهما وجوها، ولا أظرف ألسنة ولا أكثر علما وأدبا، فقصّرت بهما يومي فكسوتهما. ثم حججت من قابل ومعي أهلي، وقد أصابتني علّة فنصل لها خضابي «3» ، فلمّا صرت إلى ذلك الموضع فإذا أنا بإحداهما، فدخلت عليّ، فسألت مسألة منكر فقلت: فلانة! قالت: فدى لك أبي وأمي! تعرفني وأنكرك؟! قلت: أنا الحكم بن

صخر؛ قالت: إني رأيتك عام أوّل شابّا سوقة وأراك العام ملكا شيخا، وفي دون هذا ينكر المرء صاحبه؛ قلت: ما فعلت أختك؟ قالت: تزوجها ابن عمّ لها وخرج بها إلى نجد فذلك حيث يقول: [طويل] إذا ما قفلنا نحو نجد وأهله ... فحسبي من الدّنيا قفول إلى نجد فقلت: لو أدركتها لتزوّجتها؛ فقالت: ما يمنعك من شقيقتها في حسبها، ونظيرتها في جمالها؟ - تعني نفسها- قلت: يمنعني من ذلك ما قال كثيّر: [طويل] إذا وصلتنا خلّة كي تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل «1» فقالت: فكثير بيني وبينك، أليس هو القائل: [بسيط] هل وصل عزّة إلا وصل غانية ... في وصل غانية من وصلها خلف فسكت عيّا عن جوابها. قال أبو حازم المدنيّ «2» : بينا أنا أرمي الجمار رأيت امرأة سافرة من أحسن الناس وجها ترمى الجمار، فقلت: يا أمة الله، أما تتّقين الله! تسفرين في هذا الموضع فتفتنين الناس! قالت: أنا والله يا شيخ من اللواتي قال فيهنّ الشاعر: [طويل] من اللّاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفّلا «3» قلت: فإني أسأل الله ألّا يعذّب هذا الوجه بالنار.

قال أعرابيّ: [بسيط] يا زين من ولدت حوّاء من ولد ... لولاك لم تحسن الدنيا ولم تطب أنت التي من أراه الله صورتها ... نال الخلود فلم يهرم ولم يشب وقال أعرابيّ: [طويل] إذا هنّ أبدين الخدود وحسّرت ... ثغور عن الأفواه كي تتبسما «1» أجاد القضاة العادلون قضاءهم ... لهنّ بلا وهم وإن كنّ أظلما وقال عروة بن أذينة (2) : [كامل] إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها فإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلّها «2» بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها «3» وقال أعرابيّ يرقّص ابنا له: [سريع] يا ربّ ربّ مالك بارك فيه ... بارك لمن يحبّه ويدنيه ذكّرني لمّا نظرت في فيه ... أجزع نور غربت أواخيه «4» والوجه لما أشرقت نواحيه ... دينار عين بيد تبريه وقال ابن شبرمة: ما رأيت لباسا على رجل أزين من فصاحة، ولا رأيت لباسا على امرأة أزين من شحم. قيل لأعرابيّ: إنك لحسن الكدنة «5» فقال: ذلك عنوان نعمة الله عندي.

قال الحجّاج: لا يحسن نحر المرأة حتى يعظم ثدياها. وقال المرار العدويّ «1» : [رمل] صلتة الخدّ طويل جيدها ... ضخمة الثّدي ولمّا ينكسر «2» وقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: لا تحسن المرأة حتى تروي الرضيع، وتدفىء الضّجيع. عن رجل من بني أسد قال: أضللت إبلا لي، فخرجت في طلبهنّ، فهبطت واديا وإذا أنا بفتاة أعشى «3» نور وجها نور بصري؛ فقالت لي: يا فتى، مالي أراك مدلّها؟ «4» فقلت: أضللت إبلا لي فأنا في طلبها؛ قالت: أفأدلّك على من هي عنده وإن شاء أعطاكها؟ قلت: نعم ولك أفضلهنّ؛ قالت: الذي أعطاكهنّ أخذهنّ وإن شاء ردّهنّ، فسله عن طريق اليقين لا من طريق الاختبار؛ فأعجبني ما رأيت من جمالها وحسن كلامها، فقلت: ألك بعل؟ قالت: قد كان، ودعي فأجاب فأعيد إلى ما خلق منه. قلت: فما قولك في بعل تؤمن بوائقه «5» ، ولا تذمّ خلائقه؟ فرفعت رأسها وتنفّست وقالت: [بسيط] كنّا كغصنين في أصل غذاؤهما ... ماء الجداول في ورضات جنّات فاجتثّ خيرهما من جنب صاحبه ... دهر يكرّ بترحات وفرحات «6»

وكان عاهدني إن خانني زمن ... ألّا يضاجع أنثى بعد مثواتي وكنت عاهدته إن خانه زمن ... ألّا أبوء ببعل طول محياتي «1» فلم نزل هكذا والوصل شيمتنا ... حتى توفّي قريبا مذ سنيّات فاقبض عنانك عمّن ليس يردعه ... عن الوفاء خلاف بالتحيّات قال أبو اليقظان: دخل متمّم بن نويرة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: أرى في أصحابك مثلك! قال: يا أمير المؤمنين، أما والله إنّي مع ذلك لأركب الجمل الثّفال «2» ، وأعتقل الرّمح الشّطون «3» ، وألبس الشّملة الفلوت «4» . (ولقد أسرني بنو تغلب في الجاهليّة، فبلغ ذلك مالكا فجاء ليفتديني، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، وحدّثهم فأعجبهم حديثه، فأطلقوني له بغير فداء. كان يقال: المنظر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسّرور محتاج إلى الأمن، والقرابة محتاجة إلى المودّة، والمعرفة محتاجة إلى التّجارب، والشرف محتاج إلى التّواضع، والنجدة محتاجة إلى الجدّ. قال الحسن بن وهب: [مديد] ما لمن تمّت محاسنه ... أن يعادي طرف من نظرا لك أن تبدي لنا حسنا ... ولنا أن نعمل البصر

باب القبح والدمامة

باب القبح والدّمامة أخبرنا بعض أشياخ البصرة أنّ رجلا وامرأته اختصما إلى أمير من أمراء العراق، وكانت المرأة حسنة المنتقب «1» قبيحة المسفر «2» ، وكان لها لسان، فكأنّ العامل مال معها، فقال: يعمد أحدكم إلى المرأة الكريمة فيتزوّجها ثم يسيء إليها؛ فأهوى الزوج فألقى النّقاب عن وجهها، فقال العامل: عليك اللعنة، كلام مظلوم ووجه ظالم. قال أبو زياد الكلابيّ «3» : قدم رجل منّا البصرة فتزوّج امرأة، فلمّا دخل بها وأرخيت السّتور وأغلقت الأبواب عليه، ضجر الأعرابيّ وطالت ليلته، حتى إذا أصبح وأراد الخروج منع من ذلك وقيل له: لا ينبغي لك أن تخرج إلا بعد سبعة أيام؛ فقال: [طويل] أقول وقد شدّوا عليها حجابها ... ألا حبّذا الأرواح والبلد القفر ألا حبّذا سيفي ورحلي ونمرقى ... ولا حبّذا منها الوشاحان والشّذر «4» أتوني بها قبل المحاق بليلة ... فكان محاقا كلّه ذلك الشهر «5»

وما غرّني إلّا خضاب بكفّها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصّفر تسائلني عن نفسها هل أحبّها ... فقلت ألا لا والذي أمره الأمر تفوح رياح المسك والعطر عندها ... وأشهد عند الله ما ينفع العطر وقال آخر: [بسيط] أعوذ بالله من زلّاء فاحشة ... كأنّما نيط ثوباها على عود «1» لا يمسك الحبل حقواها إذا انتطقت ... وفي الذّنابى وفي العرقوب تحديد «2» أعوذ بالله من ساق لها حنب ... كأنّها من حديد القين سفّود «3» وقال آخر: [طويل] موتّرة العلباء محفوفة القفا ... لها ندب من حكّها غير دارس «4» إذا ضحكت غصون كأنها ... غباغب حرباء تحوّز شامس «5» كأنّ وريديها رشاء محالة ... مغاران من جلد من القدّ يابس «6» وقال آخر: [رجز] يا عجبا والدّهر ذو تعاجيب ... هل يصلح الخلخال في رجل الذيب اليابس الكعب الحديد العرقوب

وقال آخر: [طويل] لها جسم برغوث وساقا بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح وتبرق عيناها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضّجيع وتكلح «1» وتفتح- لا كانت- فما لو رأيته ... توهّمته بابا من النار يفتح فما ضحكت في النّاس إلّا ظننتها ... أمامهم كلبا يهرّ وينبح «2» إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوّذ منها حين يمسي ويصبح وقد أعجبتها نفسها فتملّحت ... بأيّ جمال ليت شعري تملّح رأى أعرابيّ امرأة في شارة وهيئة، فظنّ بها جمالا، فلما سفرت فإذا هي غول؛ فقال: [طويل] فأظهرها ربّي بمنّ وقدرة ... عليّ ولولا ذاك متّ من الكرب فلمّا بدت سبّحت من قبح وجهها ... وقلت لها السّاجور خير من الكلب «3» كان سعيد بن بيان التّغلبيّ سيّد بني تغلب، وكانت تحته برّة «4» وكانت من أجمل النساء، فقدم الأخطل الكوفة على بشر بن مروان، فدعاه سعيد بن بيان واحتفل ونجّد بيوته واستجاد طعامه وشرابه، فلما شرب الأخطل جعل ينظر إلى وجه برّة وجمالها، وإلى وجه سعيد وقبحه؛ فقال له سعيد: يا أبا مالك، أنت رجل تدخل على الخلفاء والملوك فأين ترى هيئتنا من هيئتهم! فقال الأخطل: ما لبيتك عيب غيرك؛ فقال سعيد: أنا والله أحمق منك يا نصرانيّ حين أدخلك منزلي، وطرده. فخرج الأخطل وهو يقول: [طويل]

وكيف يداويني الطبيب من الجوى ... وبرّة عند الأعور ابن بيان «1» فهلّا زجرت الطّير إذ جاء خاطبا ... بضيقة بين النّجم والدّبران «2» قال عبد بني الحسحاس يذكر قبحه «3» : [طويل] أتيت نساء الحارثيين غدوة ... بوجه براه الله غير جميل فشبّهنني كلبا ولست بفوقه ... ولا دونه إن كان غير قليل قال رجل للأحنف: «تسمع بالمعيديّ لا أن تراه» «4» ؛ فقال: ما ذممت منّي يا بن أخي؟ قال: الدّمامة وقصر القامة؛ قال: لقد عبت عليّ ما لم أؤامر فيه «5» . قال عبد الملك بن عمير: قدم علينا الأحنف الكوفة مع المصعب بن الزّبير، فما رأيت خصلة تذمّ إلا وقد رأيتها في الأحنف: كان صعل الرأس «6» ، متراكب الأسنان، أشدق «7» ، مائل الذّقن، ناتىء الوجه، غائر العين، خفيف العارض، أحنف الرّجل «8» ، ولكنه إذا تكلّم جلا عن نفسه. أبو اليقظان قال: كان المحارش قبيحا فقال فيه هبنّقة «9» : [طويل]

لو كان وجهي مثل وجه محارش ... إذا ما قربت الدّهر باب أمير قال: وأخذ محارش قذاة عن عبيد الله بن زياد؛ فقال: صرف عنك السّوء؛ فقال جلساؤه: إذا يصرف عنه وجهه. سئل مدنيّ عن حلية رجل، فقال: حليته محجمه. قال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني بيتا حسنا أولّك به كورة «1» ؛ فقال: [كامل] قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر فاستزاده، فأنشده: [طويل] أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر «2» فوّلاه الدّينور «3» وهمذان. قال أعرابيّ في امرأته: [طويل] ولا تستطيع الكحل من ضيق عينها ... فإن عالجته صار فوق المحاجر وفي حاجبيها حزّة لغزارة ... فإن حلقا كانا ثلاث غرائر «4» وثديان أمّا واحد فكموزة ... وآخر فيه قربة لمسافر وقال إسحاق الموصليّ: رأت قريبة بن سيابة مولى ابن أسد عندي، فقلت لها: يا أمّ البهلول كيف ترين هذا؟ قالت: ماله قبّحه الله عامّة! لو كان داء ما برىء منه.

وقال فاتك في سعيد بن سلم: [سريع] وإنّ من غاية حرص الفتى ... طلابه المعروف في باهله «1» كبيرهم وغد ومولودهم ... تلعنه من قبحه القابله قال الأسعر الجعفيّ «2» يهجو قوما: [متقارب] زعانف سود كخبث الحدي ... د يكفي الثلاثة شقّ الإزار «3» وقال أبو نواس يذكر امرأة: [وافر] وقائلة لها في وجه نصح ... علام قتلت هذا المستهاما فكان جوابها في حسن سرّ ... أأجمع وجه هذا والحراما كان المغيرة بن شعبة قبيحا أعور، فخطب امرأة، فأبت أن تتزوّجه، فبعث إليها: إن تزوجتني ملأت بيتك خيرا، ورحمك أيرا؛ فتزوّجت به. وسئلت عنه امرأة طلّقها فقالت: عسل يمانية في ظرف سوء «4» . أنشدنا دعبل: [متقارب]

بليت بزمّردة كالعصا ... ألصّ وأسرق من كندش «1» لها شعر قرد إذا ازّيّنت ... ووجه كبيض القطا الأبرش «2» كأنّ الثأليل في وجهها ... إذا سفرت بدد الكشمش «3» وقال أعرابيّ: [وافر] جزى الله البراقع من ثياب ... عن الفتيان شرّا ما بقينا يوارين الملاح فلا نراها ... ويزهين القباح فيزّهينا «4» وقال آخر: [وافر] رأوه فازدروه وهو حرّ ... وينفع أهله الرجل القبيح كان ذو الرّمة يشبّب بميّة، وكانت من أجمل النساء ولم تره قطّ، فجعلت لله عليها بدنة «5» حين تراه، فلما رأته رأته رجلا دميما أسود، فقالت: وا سوءتاه! وا بؤساه! فقال ذو الرّمة: [طويل] على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الشّين لو كان باديا «6» ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا إسحاق الموصليّ قال: دخلت أعرابية على حمدونة بنت الرشيد، فلما خرجت سئلت عنها، فقالت: وما حمدونة! والله لقد رأيتها وما رأيت طائلا،

كأنّ بطنها قربة، وكأنّ ثديها دبّة «1» ، وكأن استها رقعة، وكأن وجهها وجه ديك قد نفش غفريّته «2» يقاتل ديكا. ذكر أعرابيّ امرأة حسنة اللفظ قبيحة الوجه، فقال: ترخي ذيلها على عرقوبي نعامة، وتسدل خمارها على وجه كالجعالة (وهي الخرقة التي تنزل بها القدر عن النار) . وقال دعبل في كاتب: [كامل] تمّت مقابح وجهه فكأنّه ... طلل «3» تحمّل ساكنوه فأوحشا لو كان لاستك ضيق صدرك أو لصد ... رك رحب دبرك كنت أكمل من مشى كان بعض المعلّمين يقعد أبناء المياسير والحسان الوجوه في الظلّ، ويقعد الآخرين في الشّمس، ويقول: يا أهل الجنة، ابزقوا في وجوه أهل النار. وقال رجل من أبناء المهاجرين: أبناء هذه الأعاجم كأنهم نقبوا الجنّة وخرجوا منها، وأولادنا كأنهم مساجر التّنانير «4» . أبو المهلهل الحدائيّ «5» قال: ارتحلت إلى الرمل في طلب ميّ صاحبة ذي الرّمّة، فما زلت أطلب موضعها حتى أرشدت إليه، فإذا خيمة كبيرة على بابها عجوز هتماء «6» ، فسلّمت عليها ثم قلت: أين منزل ميّ؟ قالت: أنا ميّ؛

باب السواد

فتعجّبت وقلت: عجبا من ذي الرمّة وكثرة قوله فيك! قالت: لا تعجبنّ فإني سأقوم بعذره عنك، ثم قالت: يا فلانة، فخرجت من الخيمة جارية ناهدة عليها برقع فقالت: اسفري، فلما سفرت تحيّرت لما رأيت من جمالها وبراعتها؛ فقالت: علقني ذو الرمّة وأنا في سنّها؛ فقلت: عذره الله ورحمه، فاستنشدتها فجعلت تنشد وأنا أكتب. وقال أبو نواس في الرّقاشيّ: [سريع] قل للرّقاشيّ إذا جئته ... لو متّ يا أخرق لم أهجكا» دونك عرضي فاهجه راشدا ... لا تدنس الأعراض من شعركا والله لو كنت جريرا لما ... كنت بأهجى لك من وجهكا باب السّواد الأصمعيّ قال: قيل لمدنيّ: ما رغبتكم في السّواد؟ قال: لو وجدنا بيضاء لسفدناها «2» . وكان أبو حازم المدنيّ ينشد: [وافر] ومن يك معجبا ببنات كسرى ... فإنّي معجب ببنات حام «3» وقال أبو حنش «4» : [طويل]

رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم «1» تراه على ما لاحه من سواده ... وإن كان مظلوما له وجه ظالم «2» وقال آخر في وصف أسود: [رجز] كأنّما وجهك ظلّ من حجر «3» وقال آخر: [رجز] كأنّما قمّص من ليط جعل «4» وقال آخر في وصف سوداء: [رجز] كأنها والكحل في مرودها ... تكحل عينيها ببعض جلدها نظر رجل إلى سوداء عليها معصفر «5» ، فقال: بعرة عليها رعاف «6» . الأصمعيّ قال: قيل لرجل: أيّ الرجال أخفّ أرواحا؟ قال: الذين أعرقت «7» فيهم السّودان. وقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: من تزوّج سمراء فطلّقها فعليّ مهرها. يقال: قالت الخنفساء لأمّها: يا أمّاه، ما أمرّ بأحد إلا بزق عليّ؛ فقالت: يا بنيّة تعوّذين «8» .

وفد على عبد الملك وفد أهل الكوفة، فلما دخلوا عليه وكلمهم، رأى فيهم أدلم «1» عالي الجسم، فلما كلّمه راقه بيانه، فلما تولّى تمثّل عبد الملك بقول عمرو بن شأش «2» : [طويل] فإنّ عرارا إن يكن غير واضح ... فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم «3» فالتفت الأدلم إلى عبد الملك وضحك؛ فقال: عليّ به فلما جيء به قال: ما الذي أضحكك؟ فقال: أنا والله عرار من بني أثرى، فقدّمه وسامره حتى خرج. قال رجل من الشعراء في جارية سوداء: [سريع] أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده لا شكّ إذ لونكما واحد ... أنّكما من طينة واحده وقال جرير: [وافر] ترى التّيميّ يزحف كالقرنبى ... إلى تيميّة كعصا المليل «4» تشين الزعفران عروس تيم ... وتمشي مشية الجعل الدّحول «5» يقول المجتلون عروس تيم ... شوى أمّ الحبين ورأس فيل «6»

باب العجز والمشايخ

وقال آخر: [وافر] أحبّ لحبّها السّودان حتى ... أحبّ لحبّها سود الكلاب باب العجز والمشايخ الأصمعيّ قال: خاصم رجل امرأته إلى زياد، فكأن زيادا شدّد عليه، فقال الرجل: أصلح الله الأمير، إنّ خير نصفي الرجل آخرهما، يذهب جهله ويثوب حلمه ويجتمع رأيه، وإن شرّ نصفي المرأة آخرهما، يسوء خلقها ويحدّ لسانها وتعقم رحمها؛ فقال: اسفع بيدها «1» . وقال بعض الأعراب: [بسيط] لا تنكحنّ عجوزا إن دعوك لها ... وإن حبوك على تزويجها الذّهبا وإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإنّ أطيب نصفيها الذي ذهبا «2» الأصمعيّ قال: ضجر أعرابيّ بطول حياة امرأته، فقال: [طويل] ثلاثين حولا لا أرى منك راحة ... لهنّك في الدنيا لباقية العمر «3» فإن أنفلت من حبل صعبة مرّة ... أكن من نساء الناس في بيضة العقر «4» وقال أبو الأسود في امرأته أمّ عوف: [طويل] أبى القلب إلا أمّ عوف وحبّها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا يفنّد «5» كسحق اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد «6»

وقال آخر يشبّب بعجوز: [طويل] عجوز عليها كرّة وملاحة ... وقاتلتي يا للرّجال عجوز «1» عجوز لو ان الماء ملك يمينها ... لما تركتنا بالمياه نجوز كانت لرجل من الأعراب امرأة عجوز، وكانت تشتري العطر بالخبز؛ فقال: [طويل] عجوز ترجّي أن تكون فتيّة ... وقد غارت العينان واحدودب الظهر تدسّ إلى العطّار سلعة أهلها ... ولن يصلح العطّار ما أفسد الدّهر طلّق أبو الجنديّ امرأته؛ فقالت له: بعد صحبة خمسين سنة! فقال: مالك عندي ذنب غيره. وقال بعض الأعراب: [بسيط] لا بارك الله في ليل يقرّبني ... إلى مضاجعة كالدّلك بالمسد «2» لقد لمست معراها فما وقعت ... فيما لمست يدي إلا على وتد وكلّ عضو لها قرن تصلّ به ... جسم الضّجيع فيضحي واهي الجسد «3» وقال الطائي: [كامل] أحلى الرجال من النساء مواقعا ... من كان أشبههم بهنّ خدودا وقال امرؤ القيس: [طويل] أراهنّ لا يحببن من قلّ ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوّسا «4»

وقال علقمة بن عبدة «1» : [طويل] فإن تسألوني بالنساء فإنّني ... خبير بأدواء النساء طبيب إذا شاب راس المرء أو قلّ ماله ... فليس له في ودّهنّ نصيب يردن ثراء الماء حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهنّ عجيب «2» وقال آخر: [وافر] أرى شيب الرجال من الغواني ... كموضع شيبهنّ من الرجال وقال آخر: [طويل] أيا عجبا للخود يجري وشاحها ... تزفّ إلى شيخ من القوم تنبال «3» دعاها إليه أنّه ذو قرابة ... فويل الغواني من بني العمّ والخال وقال ذو الرّمّة بخلاف قول الأوّل: [طويل] وما الفقر أزرى عندهنّ بوصلنا ... ولكن جرت أخلاقهن على البخل وقال المرّار في مثله «4» : [طويل] وليس الغواني للجفاء ولا الذي ... له عن تقاضي دينهنّ هموم ولكنّما يستنجز الوعد تابع ... مناهنّ حلّاف لهنّ أثيم وما جعلت ألبابهنّ لذي الغنى ... فييأس من ألبابهنّ عديم» كان عثمان بن عفّان رضي الله عنه تزوّج نائلة بنت الفرافصة الكلبيّ-

والفرافصة يومئذ نصرانيّ- وكان وليّها مسلما وهو أخوها، فحملها الفرافصة. فلما قدمت على عثمان وضع لها سريرا وله آخر، فقال لها عثمان: إمّا أن تقومي إليّ وإمّا أن أقوم إليك؛ فقالت: ما تجشّمت إليك من عرض السّماوة «1» أبعد ممّا بيننا، بل أقوم أنا، فقامت حتى جلست معه على السرير، فوضع قلنسوته فإذا هو أصلع، فقال: يابنة الفرافصة، لا يهولنّك ما ترين من صلعتي، فإنّ وراء ذلك ما تحبّين؛ قالت: إني لمن نسوة أحبّ بعولتهنّ إليهنّ الكهول الصّلع؛ فقال: اطرحي درعك، ثم قال: اطرحي إزارك؛ قالت: ذاك اليك، ومسح رأسها ودعا لها بالبركة؛ فكانت أحبّ نسائه اليه، وولدت منه جارية يقال لها مريم. ابن الكلبيّ «2» قال: خطب دريد بن الصّمّة خنساء بنت عمرو، فبعثت جاريتها فقال: انظري إذا بال أيقعي أم يبعثر؟ «3» فقالت لها الجارية: هو يبعثر، فقالت: لا حاجة لي فيه. الأصمعيّ قال: تزوّج رجل امرأة بالمدينة فقالوا له: إنها شابّة طريّة، من أمرها ومن أمرها، ويدلّسون «4» له عجوزا، فلما دخل بها نزع نعليه، وهم يظنّون أنه يضربها، فقلّدها إياهما وقال: لبّيك اللهمّ لبّيك، هذه بدنة «5» ؛ فأسكتوه وافتدوا منه.

عن عبد الله بن محمد بن عمران القاضي عن أبيه قال: شباب المرأة من خمس عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وفيها من الثلاثين إلى الأربعين مستمتع، وإذا اقتحمت العقبة الأخرى حسلت «1» . تزوّج جهم امرأة من بني فقعس وباع إبلا له ومهرها، فلما دخل بها إذا هي عجوز، فقال: [طويل] وما لمت نفسي مذ فطمت بليحة ... كما لمت نفسي في عجوز بني شمس «2» وبنت ولم أغبن غداة اشتريتها ... وبعت تلاد المال بالثمن البخس «3» فإن مات جهم غيلة فاقتلوا به ... قمامة إنّ النفس تقتل بالنفس وقال بعض الشعراء: [بسيط] كفاك بالشّيب ذنبا عند غانية ... وبالشباب شفيعا أيّها الرجل خطب الحارث بن سليل الأسديّ إلى علّقمة بن خصفة الطائيّ، وكان شيخا، فقال لأمّ الجارية: أريدي ابنتك على نفسها فقالت: أي بنيّة. أيّ الرجال أحبّ إليك: الكهل الجحجاح «4» ، الواصل المنّاح «5» ، أم الفتى الوضّاح، الذّهول الطمّاح؟ قالت: يا أمّتاه [متقارب] إنّ الفتاة تحبّ الفتى ... كحبّ الرّعاء أنيق الكلا «6» فقالت: يا بنيّة، إن الشباب شديد الحجاب، كثير العتاب؛ قالت: يا

أمّتاه، أخشى من الشيخ أن يدنّس ثيابي، ويبلي شبابي، ويشمت بي أترابي؛ فلم تزل بها حتى غلبتها على رأيها؛ فتزوّج بها الحارث ثم رحل بها إلى قومه؛ فإنه لجالس ذات يوم بفناء مظلّته وهي إلى جانبه، إذ أقبل شباب من بني أسد يعتلجون «1» ، فتنفّست ثم بكت؛ فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ!؛ فقال: ثكلتك أمّك «تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها» «2» - فذهبت مثلا-. أما وأبيك لربّ غارة شهدتها، وسبيّة أردفتها، وخمرة شربتها؛ فالحقي بأهلك، لا حاجة لي فيك. الرّياشيّ قال: خرج رجل إلى الغزو فأصاب جارية وضيئة، وكان يغزو على فرسه ويرجع إليها، فوجد يوما فضلا من القول فقال: [طويل] ألا لا أبالي اليوم ما فعلت هند ... إذا بقيت عندي الحمامة والورد «3» شديد مناط المنكبين إذا جرى ... وبيضاء صنهاجيّة زانها العقد «4» فهذا لأيّام الحروب وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند فنمي الشعر اليها فقالت: [طويل] ألا أقره منّي السلام وقلّ له ... غنينا وأغنتنا غطارفة المرد «5» بحمد أمير المؤمنين أقرّهم ... شبابا وأغزاكم حواقلة الجند «6» إذا شئت غنّاني رفلّ مرجّل ... ونازعني في ماء معتصر ورد «7»

وإن شاء منهم ناشىء مدّ كفّه ... على كتد ملساء أو كفل نهد «1» فما كنتم تقضون حاجة أهلكم ... شهودا فتقضوها على النّأي والبعد «2» فلمّا بلغه الشعر أتاها، وقال: أكنت فاعلة؟ فقالت: الله أجلّ في عيني، وأنت أهون عليّ. قال أبو عمرو بن العلاء: ما بكت العرب شيئا ما بكت الشباب، وما بلغت ما هو أهله. كانت لبعض الأعراب امرأة لا تزال تشارّه «3» وقد كان أسنّ وامتنع من النكاح، فقال له رجل: ما يصلح بينكما أبدا؟ فقال: لا، إنه قد مات الذي كان يصلح بيننا (يعني ذكره) . قال رجل لصديق له: [متقارب] أعنّست نفسك حتى إذا ... أتيت على الخمس والأربعينا «4» تزوّجتها شارفا فخمة ... فلا بالرّفاء ولا بالبنينا «5» فلا ذات مال تزوّجتها ... ولا ولد ترتجي أن يكونا بها أبدا فالتمس غيرها ... لعلّك تعطى بغثّ سمينا «6» قال أنو شروان: كنت أخاف إذا أنا شخت لا تريدني النساء، فإذا أنا لا أريدهنّ.

قال أعرابيّ: [رجز] إنّ العجوز فارك ضجيعها ... تسيل من غير بكى دموعها «1» تمدّد الوجه فلا يطيعها ... كأنّ من يضيفها يضيعها وقال أبو النجم «2» : [رجز] قد زعمت أمّ الخيار أنّي ... شبت وحنّى ظهري المحنّي وأعرضت فعل الشّموس عنّي ... فقلت ما داؤك إلّا سنّي «3» لن تجمعي ودّي وأن تضنّي قال يزيد بن الحكم بن أبي العاص: [وافر] فما منك الشّباب ولست منه ... إذا سألتك لحيتك الخضابا وما يرجو الكبير من الغواني ... إذا ذهبت شبيبته وشابا وقال آخر: [وافر] فالغواني ... نوافر عن ملاحظة القتير «4» فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوّدا وجه النّذير كان سعد بن أبى وقّاص يخضب بالسّواد، ويقول: [طويل] أسوّد أعلاها وتأبى أصولها ... فيا ليت ما يسودّ منها هو الأصل

وقال أسود بن دهيم: [كامل] لمّا رأيت الشّيب عيب بياضه ... تشبّبت وابتعت الشّباب بدرهم «1» وقال محمود الورّاق: [مجزوء الكامل] يا خاضب الشيب الذي ... في كلّ ثالثة يعود إنّ النّصّول إذا بدا ... فكأنّه شيب جديد «2» وله بديهة روعة ... مكروهها أبدا عتيد «3» فدع المشيب كما أرا ... د فلن يعود كما تريد أنشد ابن الأعرابيّ: [كامل] ولقد أقول لشيبة أبصرتها ... في مفرقي فمنحتها إعراضي» عنّي إليك فلست من خير ولو ... عمّمت منك مفارقي ببياض ولقلّما أرتاع منك وإنني ... فيما ألذّ وإن فزعت لماضي فعليك ما اسطعت الظهور بلمّتي ... وعليّ أن ألقاك بالمقراض «5» وقال الفرزدق: [طويل] تفاريق شيب في السّواد لوامع ... وما خير ليل ليس فيه نجوم وقال غيلان بن سلمة «6» : [كامل] الشّيب إن يظهر فإن وراءه ... عمرا يكون خلاله متنفّس

باب الخلق

لم ينتقص منّي المشيب قلامة ... ولنحن حين بدا ألبّ وأكيس «1» وقال الطائي: [بسيط] أبدت أسى أن رأتني فخلس القصب ... وآل ما كان من عجب إلى عجب «2» لا تنكري منه تحديدا تخلّله ... فالسيف لا يزدرى إن كان ذا شطب «3» ولا يؤرّقك إيماض القتير به ... فإنّ ذاك ابتسام الرأي والأدب «4» وقال آخر: [طويل] يقولون هل بعد الثلاثين ملعب ... فلت وهل قبل الثلاثين ملعب لقد جلّ قدر الشّيب إن كان كلّما ... بدت شيبة يعرى من الهو مركب باب الخلق الطول والقصر عن عمرو بن شعيب: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا قصيرا- أو قال شديد القصر- فسجد. عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من رأى منكم مبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضّلني على كثير ممن خلقه تفضيلا عافاه الله من ذلك البلاء كائنا ما كان. وقال بعض الشعراء: [مجزوء الرمل] من تعاذر من يسامح ... من تطاول بزياد من تباراني نسيني ... ببعيد من إياد «5»

وقال إسحاق الموصليّ في غلامه: [وافر] ذهبت سماجة وذهبت طولا ... كأنك من فراسخ دير سعد «1» وقال أبو اليقظان: كان يعلى بن الحكم بن أبي العاص يعيّر أخاه يزيد بالقصر؛ فقال يزيد: [بسيط] همّ الرّجال العلا أخذا بذروتها ... وإنما همّ يعلى الطول والقصر وقال أبو حاتم: [طويل] يكاد خليلي من تقارب شخصه ... يعضّ القراد باسته وهو قائم «2» وقال آخر وكان قصيرا: [طويل] فإلّا يكن عظمي طويلا فإنّني ... له بالخصال الصالحات وصول وقال أوفى بن مولّة في مثل ذلك: [طويل] فإن أك قصدا في الرجال فإنّني ... إذا حلّ أمر ساحتي لجسيم وقال آخر: [طويل] ولمّا التقى الصّفّان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها «3» تبيّن لي أنّ القماءة ذلّة ... وأنّ أشدّاء الرّجال طوالها «4»

اللحى

وقال الغطمّش الضّبّيّ «1» : [طويل] ولو وجدوا نعل الغطمّش لاحتذوا ... لأرجلهم منها ثماني أنعل كان جرير بن عبد الله يثفل «2» إلى ذروة البعير من طوله، وكانت نعله ذراعا. الأصمعيّ قال: دخل المغيرة بن شعبة على معاوية، فقال معاوية: [طويل] إذا راح في قوهيّة متلبّسا ... تقل جعل يستنّ في لبن مخض «3» وأقسم لو خرّت من استك بيضة ... لما انكسرت من قرب بعضك من بعض «4» اللحى قال بعض الحكماء: لا تصافينّ من لا شعر على عارضيه وإن كانت الدنيا خرابا إلّا منه. كانت عائشة ربّما قالت: والّذي زيّن الرجال باللحى. وقال بعض المحدثين: [سريع] يا لحية طالت على نوكها ... كأنّها لحية جبريل «5» لو كان ما يقطر من دهنها ... ليلا لوفّى ألف قنديل

ولو تراها وهي قد سرّحت ... حسبتها بندا على الفيل «1» قال رجل لبعض مجانين الكوفة: ما هذه اللّحية؟ - وكانت كبيرة- فقال: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً «2» . وقال مروان بن أبي حفصة «3» : [وافر] لقد كانت مجالسنا فساحا ... فضيّقها بلحيته رباح «4» مبعثرة الأسافل والأعالي ... لها في كل زاوية جناح وقال آخر: [وافر] أنفّش لحية عرضت وطالت ... من الهدبات تملأ عرض صدري أكاد إذا قعدت أبول فيها ... إذا أنا لم أعقّصها بظفري «5» وقال أعرابيّ: [مجزوء الكامل] لا تفخرنّ بلحية ... عظمت جوانبها طويله تجري بمفرقها الريا ... ح كأنها ذنب الحسيله «6»

العيون

العيون قال إبراهيم النّخعيّ لسليمان الأعمش وأراد أن يماشيه: إن الناس إذا رأونا معا قالوا: أعور وأعمش، قال: ما عليك أن يأثموا ونؤجر، قال: ما عليك أن يسلموا ونسلم. وقال ابن عباس بعد ما كفّ بصره: [بسيط] أن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي فؤادي وسمعي منهما نور قلبي ذكيّ وعرضي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور «1» فأخذ الخريميّ هذا المعنى فقال: [متقارب] فإن تك عيني خبا نورها ... فكم قبلها نور عين خبا فلم يعم قلبي ولكنّما ... أرى نور عيني اليه سرى فأسرج فيه إلى ضوئه ... سراجا من العلم يشفي العمى وقال الخريميّ أيضا: [منسرج] أصغي إلى قائدي ليخبرني ... إذا التقينا عمّن يحيّيني أريد أن أعدل السّلام وأن ... أفصل بين الشّريف والدّون «2» أسمع ما لا أرى فأكره أن ... أخطىء والسّمع غير مأمون لله عيني التي فجعت بها ... لو أنّ دهرا بها يواتيني لو كنت خيّرت، ما أخذت بها ... تعمير نوح في ملك قارون وتماشى أعوران، فقال أحدهما: [وافر] ألم ترني وعمرا حين نمشي ... نريد السّوق ليس لنا نظير

أماشيه على يمنى يديه ... وفيما بيننا رجل ضرير «1» وقال قائل في طاهر بن الحسين «2» : [رجز] يا ذا اليمينين وعين واحده ... نقصان عين ويمين زائدة «3» وقال الأصمعيّ: جاءت رجلا أعور نشّابة فأصابت عينه الصحيحة، فقال: يا ربّ وأنا أيضا على محمل. اشترى أبو الأسود جارية حولاء فأغار امرأته أمّ عوف، وكانت ابنة عمّه وكانت تشارّه «4» في كلّ يوم وتقول: من يشتري حولاء؛ فلمّا أكثرت عليه قال: [طويل] يعيبونها عندي ولا عيب عندها ... سوى أنّ في العينين بعض التأخّر فإن يك في العينين سوء فإنها ... مهفهفة الأعلى رداح المؤخّر «5» أنشد أبو النجم هشام بن عبد الملك أرجوزته التي أوّلها: الحمد لله الوهوب المجزل فلم يزلّ هشام يصفق بيديه استحسانا لها، حتى إذا بلغ قوله في صفة الشمس: فهي في الأفق كعين الأحول ... صغواء قد كادت ولمّا تفعل «6»

أمر بوجء «1» رقبته وإخراجه. وكان هشام أحول. وقال آخر: [طويل] يقولون نصرانية أمّ خالد ... فقلت دعوها كلّ نفس ودينها فإن تك نصرانيّة أمّ خالد ... فقد صوّرت في صورة لا تشينها أحبّك أن قالوا بعينك زرقة ... كذاك عتاق الطير زرقا عيونها وقرأت في الآيين «2» أن الرجل إذا اجتمع فيه قصر وسبوطة «3» وحول وعسم «4» وشدق «5» ... «6» كان لا يستعمل في دار الملك، ويحال بينه وبين التصدير للملك، وكذلك المرأة البرشاء والبرصاء «7» . وقال بعض الشعراء في صحّة البصر مع الهرم: [منسرح] إنّ معاذ بن مسلم رجل ... ليس يقينا لعمره أمد «8» قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضجّ من طول عمرك الأبد قد شاب رأس الزمان واكتهل الدّهر وأثواب عمره جدد يا نسر لقمان كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد «9»

الأنوف

قد أصبحت دار آدم طللا ... وأنت فيها كأنّك الوتد تسأل غربانها إذا حجلت ... كيف يكون الصّداع والرّمد «1» الأنوف عن أبي زيد قال: رأيت أعرابيّا أنفه كأنه كور «2» من عظمه، فرآنا نضحك فقال: ما يضحككم! والله لقد كنا في قوم ما يسمّوننا إلّا الأفيطس «3» . عن الوليد بن بشّار أن امرأة عقيل بن أبي طالب، وهي بنت عتبة بن ربيعة، قالت: يا بني هاشم لا يحبّكم قلبي أبدا، إنّ أبي وابن عميّ أبو فلان ابن فلان كأنّ أعناقهم أباريق فضّة، ترد أنوفهم قبل شفاههم؛ فقال لها عقيل: إذا دخلت النار فخذي على يسارك. قال بعض الشعراء يذكر الكبر «4» : [متقارب] أرى شعرات على حاجبيّ بيضا نبتن جميعا تؤاما ظللت أهاهي بهنّ الكلا ... ب أحسبهنّ صيارا قياما «5»

البخر والنتن

وأحسب أنفي إذا ما مشي ... ت شخصا أمامي رآني فقاما وقال بعض المحدثين: [متقارب] إذا أنت أقبلت في حاجة ... اليه فكلّمه من خلفه فإن أنت واجهته في الكلا ... م لم يسمع الصوت من أنفه وقال آخر: [مجزوء الرمل] إنّ عيسى أنف أنفه ... أنفه ضعف لضعفه وهو لو يستنشق الثو ... ر بقرنيه وظلفه لثوى في منخر يس ... تغرق الخلق بنصفه لو تراه راكبا والتّ ... يه قد مال بعطفه لرأيت الأنف في السرّ ... ج وعيسى ردف أنفه «1» وقال قعنب «2» في الوليد بن عبد الملك: [متقارب] فقدت الوليد وأنفا له ... كمثل المعين أبي أن يبولا «3» أتيت الوليد فألفيته ... كما يعلم الناس وخما ثقيلا «4» البخر والنّتن قال أبو اليقظان: كان يقال لعبد الملك بن مروان: أبو الذّبّان لشدّة بخره. يريدون أنّ الذّباب يسقط إذا قارب فاه من شدّة رائحته. قال: ونبذ إلى امرأة له تفّاحة قد عضّها، فأخذت سكّينا؛ فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أميط عنها «5» الأذى، فطلّقها.

وقال مسلم: [خفيف] أنت تفسو إذا نطقت ومن سبّح من فسو فاك إثما وزورا وقال آخر «1» : [كامل] لا تدن فاك من الأمير ونحّه ... حتى يداوي ما بأنفك أهرن «2» إن كان للظّربان جحر منتن ... فلجحر أنفك يا محمد أنتن «3» وقال شقيق بن السّليك العامريّ لامرأته: [متقارب] إذا ما نكحت فلا بالرّفاء ... وإمّا أتيت فلا بالبنينا تزوّجت أصلع في غربة ... تجنّ الحليلة منه جنونا إذا ما نقلت إلى بيته ... أعدّ لجنبيك سوطا متينا كأنّ المساوك في شدقه ... إذا هنّ أكرهن يقلعن طينا «4» كأنّ توالي أضراسه ... وبين ثناياه غسلا لجينا «5» وقال الحكم بن عبدل لمحمد بن حسّان بن سعد: [وافر] فما يدنو إلى فمه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند «6» يرين حلاوة ويخفن موتا ... وشيكا إذ هممن له بورد «7»

البرص

وقال أعرابيّ: [رجز] كأنّ إبطيّ وقد طال المدى ... نفحة خرء من كواميخ القرى «1» وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عائشة: [خفيف] من يكن إبطه كآباط ذي الخل ... ق فإبطاي في عداد الفقاح «2» لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السّلاح أو بالسّلاح «3» فكأنّي من نتن هذا وهذا ... جالس بين مصعب وصباح يعني مصعب بن عبد الله بن مصعب، وصباح بن خاقان الأهتميّ. البرص كان بلعاء بن قيس أبرص؛ فقال له قائل: ما هذا بك يا بلعاء؟ فقال؛ سيف الله جلاه. وقال ابن حبناء «4» : [بسيط] «إنّي امرؤ حنظليّ حين تنسبني ... لا ملعتيك ولا أخوالي العوق «5» لا تحسبنّ بياضا فيّ منقصة ... إن اللهاميم في أقرابها بلق «6»

وقال أبو مسهر: [طويل) أيشتمني زيد بأن كنت أبرصا ... فكلّ كريم لا أبالك أبرص وقال بعض النّهشليّين: [رمل] نفرت سودة منّي إذ رأت ... صلع الرأس وفي الجلد وضح» قلت يا سودة هذا والّذي ... يفرج الكربة عنّا والكلح «2» هو زين لي في الوجه كما ... زيّن الطّرف تحاسين القزح «3» وقال آخر: [رجز] يا كأس لا تستنكري نحولي ... ووضحا أوفى على خصيلي «4» فإنّ نعت الفرس الرّحيل ... يكمل بالغرّة والتّحجيل «5» وقال آخر: [رجز] يا أخت سعد لا تعيبي بالزّرق ... لا يضرر الطرف تواليع البهق «6» إذا جرى في حلبة الخيل سبق لما أنشد لبيد «7» النعمان بن المنذر قوله في الرّبيع بن زياد العبسيّ: [رجز]

مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه ... إنّ استه من برص ملمّعه قال الربيع: أبيت اللعن! والله لقد نكت أمّه! فقال لبيد: إن كنت فعلت لقد كانت بتيمة في حجرك ربّيتها، وإلّا تكن فعلت ما قلت فما أولادك بالكذب! وإن كانت هي الفاعلة فإنها من نسوة فعّل لذلك. يعني أنّ نساء بني عس فواجر. وقال زياد الأعجم: [بسيط] ما إن يدبّح منهم خارىء أبدا ... إلا رأيت على باب استه القمرا «1» يعني أنهم برص الأستاه. وقال كثيّر في نحو ذلك: [طويل] ويحشر نور المسلمين أمامهم ... ويحشر في أستاه ضمرة نورها المدائنيّ «2» قال: كان أيمن بن خريم أبرص وكان أثيرا «3» عند عبد العزيز ابن مروان، فعتب عليه أيمن يوما فقال له: أنت طرف ملولة «4» ؛ فقال له: أنا ملولة وأنا أؤاكلك مذ كذا!. فلحق ببشر بن مروان فأكرمه واختصّه ولم يكن يؤاكله. فدخل عليه يوما وبين يديه لبن قد وضع؛ فقال له: قد حدّثت نفسي البارحة بالصوم، فلما أصبحت أتوني بهذا وهم لا يعلمون، ولا أرى أحدا أحقّ به منك، فدونكه. عن أبي جعدة قال: أصاب أبا عزّة الجمحيّ وضح، فكان لا يجالس، فأخذ شفرة وطعن في بطنه فمارت الشّفرة «5» وخرج ماء أصفر وبرىء، فقال:

العرج

[رجز] لا همّ ربّ وائل ونهد ... وربّ من يرعى بياض لحدي «1» أصبحت عبدا لك وابن عبد ... أبرأتني من وضح بجلدي مع ما طعنت اليوم في معدّي «2» العرج كان عبد الحميد «3» بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب أعرج وولي شرطة الكوفة، والقعقاع بن سويد كان أعرج، فقال بعض الشعراء وكان أعرج: [كامل] ألق العصا ودع التناوش والتمس ... عملا فهذي دولة العرجان «4» لأميرنا وأمير شرطتنا معا ... يا قومنا لكليهما رجلان وقال رجل من العرج: [طويل] وما بي من عيب الفتى غير أنّني ... ألفت قناتي حين أوجعني ظهري «5» وقال آخر: [طويل] وما بي من عيب الفتى غير أنني ... جعلت العصا رجلا أقيم بها رجلي

الأدر

وقال أبو زياد الكلابيّ «1» : [طويل] ألفت عصا الطّرفاء حتّى كأنّما ... أرى بعصا الطرفاء إحدى النّجائب «2» وقال أبو الخطاب النّهدليّ «3» : [رجز] قد صرت أمشي بثلاث أرجل وقال آخر: [بسيط] قد كنت أمشي على رجلين معتمدا ... فاليوم أمشي على أخرى من الشّجر وقال الأعشى: [متقارب] إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدر القناة أطاع الأميرا «4» الأدر «5» قال أبو الخطاب: كان عندنا رجل أحدب، فسقط في بئر فذهبت حدبته فصار آدر، فدخلوا يهنّئونه، فقال: الذي جاء شرّ من الذي ذهب. وقال طرفة: [طويل] فما ذنبنا في أن أداءت خصاكم ... وأن كنتم في قومكم معشرا أدرا «6» إذا جلسوا خيّلت تحت ثيابهم ... خرانق توفي بالضّغيب لها نذرا «7»

الجذام

وقال الجعديّ «1» : [وافر] كذي داء بإحدى خصيتيه ... وأخرى لم توجّع من سقام فضمّ ثبابه من غير برء ... على شعراء تنقض بالبهام «2» الجذام «3» عن أبي محيريز قال «4» : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فرّوا من المجذوم كالفرار من الأسد» وفي حديث آخر: «لا تديموا النظر إلى المجذومين فإذا كلّمتموهم فليكن بينكم وبينهم حجاب قيد رمح» . عن قتادة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ادّهن بدأ بحاجبه الأيمن ثم قال: باسم الله. وقال: «نبات الشّعر في الأنف أمان من الجذام» . وعن قتادة: أنّ مجذوما دخل على عبد الله بن الحارث فقال: أخرجوه، قالوا: ولم؟ قال: بلغني أنه ملعون. أبو الحسن قال: مرّ سليمان بن عبد الملك بالمجذومين في طريق مكة، فأمر بإحراقهم، وقال: لو كان الله يريد بهؤلاء خيرا ما ابتلاهم بهذا البلاء. عن إبراهيم قال: اشمأزّ رجل من رجل به بلاء، فما مات حتى ابتلي بمثل ذلك البلاء.

باب المهور

باب المهور إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: خطب جدّي أبو طلحة «1» أمّ سليم «2» ، فأبت أن تتزوّجه حتى يسلم، وكان مشركا، وقالت: إذا أسلم فهو صداقي؛ فأسلم فكان صداقها إسلامه. عن المطّلب «3» بن أبي وداعة السّهميّ قال: زوّج سعيد ابنته على درهمين. أخبرنا محمد بن عليّ بن أبي طالب أنّ عليّا أصدق فاطمة بنت النبيّ صلّى الله عليه وسلم «4» بدنا من حديد. قال محمد: وأخبرني ابن أبي نجيح قال: بلغني أن البدن الذي تزوّج عليه فاطمة كان ثمنه ثلاثمائة درهم. عن ابن أبي عيينة عن ابن أبي نجيح عن أبيه أنّ عليّا عليه السلام قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالدّرع فباعها بأربعمائة وثمانين درهما وزوّجني عليها. عن مجاهد عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «أعظم النّكاح بركة أيسره

مؤونة. وقال في الحديث الآخر: «اللهم أذهب ملك غسّان وضع «1» مهور كندة» . أخبرنا بعض أصحاب الأخبار قال: قالت جارية من العرب لبنات عمّ لها: السعيدة التي يتزوجها ابن عمّها فيمهرها بتيسين وكلبين وعيرين «2» ، فينبّ «3» التّيسان وينبح الكلبان وينهق العيران، والشقّية التي يتزوّجها الحضريّ فيطعمها الحمير، ويلبسها الحرير، ويحملها ليلة الزّفاف على عود (تعني إكافا «4» أو سرجا) . ويقال: جاء خاطب إلى قوم فقال: أنا فلان بن فلان، وأنتم لا تسألون عنّي أعلم بي منكم؛ قالوا: صدقت، فما تبذل؟ فأنشأ يقول: [وافر] ألا أبلغ لديك بني يزيد ... بأنّي لا أريد إلى النساء سوى ودّي لهنّ وأنّ عندي ... ثريدا بالغداة وبالعشاء فقال شيخ منهم: أقم كفيلا بالقصعتين وصل به «5» . فبقي عارا عليهم الى اليوم. قال بعض نقلة الأخبار: أصدق عمر بن الخطّاب أمّ كلثوم بنت عليّ أربعين ألفا، وأصدق عبد الله بن عمر ابنة أبي عبيد «6» أخت المختار عشرة آلاف درهم وأصدق محمد بن سيرين امرأته السّدوسيّة عشرة آلاف درهم.

أوقات عقد النكاح

قال أعرابيّ: [طويل] يقولون تزويج وأشهد أنه ... هو البيع إلّا أنّ من شاء يكذب أوقات عقد النكاح عن ضمرة بن حبيب أنه قال: كان أشياخنا يستحبّون النّكاح يوم الجمعة. وقال بعض العلماء: سمعت من يخبر عن اختيار الناس آخر النهار على أوّله في النّكاح، قال: ذهبوا الى تأويل القرآن واتّباع السنّة في الفأل، لأن الله سمّى الليل في كتابه سكنا وجعل النهار نشورا؛ وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الطّيرة «1» : «أصدقها الفأل؛ فآثر الناس استقبال الليل لعقدة النّكاح تيمنا بما فيه من الهدوء والاجتماع، على صدر النهار لما فيه من التفرّق والانتشار. قال: وأما كراهية الناس للنّكاح في شوّال، فإن أهل الجاهليّة كانوا يطّيّرون منه ويقولون: إنه يشول بالمرأة «2» ، فعلقه الجهّال منهم، وأبطله الله بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم، لأنه نكح عائشة رضي الله عنها في شوّال. خطب النكاح قال حدّثني محمد بن داود قال حدّثنا أبو غسّان مالك بن عبد الواحد عن معتمر عن خالد القسريّ «3» قال- وكان قد جمع الخطب فكان يستحسن هذه ويذكرها-:

ذكرتم أمرا حسنا جميلا، وعد الله فيه الغنى والسّعة، فلا خلف لموعود الله ولا رادّ لقضاء الله؛ اذا أراد جماع أمر فلا فرقة له؛ واذا أراد فرقة أمر فلا جماع له. عرضت كذا، فإذا قال: نعم، قال: قد نكحت. وخطب محمد بن الوليد بن عتبة الى عمر بن عبد العزيز أخته؛ فقال: الحمد لله ذي العزّة والكبرياء، وصلّى الله على محمد خاتم الأنبياء. أما بعد، فقد حسن ظنّ من أودعك حرمته واختارك ولم يختره عليك؛ وقد زوّجناك على ما في كتاب الله: إمساك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «1» . خطب بلال على أخيه امرأة من بني حسل من قريش؛ فقال: نحن من قد عرفتم، كنا عبدين فأعتقنا الله، وأنا أخطب على أخي خالد فلانة، فإن تنكحوه فالحمد لله، وإن تردّوه فالله أكبر، فأقبل بعضهم على بعض فقالوا: هو بلال؛ وليس مثله يدفع، فزوّجوا أخاه. فلما آنصرفا قال خالد لبلال: يغفر الله لك! ألا ذكرت سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم! قال بلال: مه «2» ! صدقت فأنكحك الصّدق. كان الحسن البصريّ يقول في خطبة النّكاح بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد، فإن الله جمع بهذا النّكاح الأرحام المنقطعة، والأسباب المتفرّقة، وجعل ذلك في سنّة من دينه، ومنهاج واضح من أمره؛ وقد خطب إليكم فلان وعليه من الله نعمة، وهو يبذل من الصّداق كذا، فاستخيروا الله وردّوا خيرا يرحمكم الله. قال الأصمعيّ: كان رجالات قريش من العرب تستحب من الخاطب

الإطالة ومن المخطوب إليه الإيجاز. وأتى رجل عمر بن عبد العزيز يخطب أخته، فتكلّم بكلام جاز الحفظ؛ فقال عمر: الحمد لله ذي الكبرياء وصلّى الله على خاتم الأنبياء؛ أما بعد، فإن الرّغبة منك دعت إلينا، والرغبة فيك أجابت منا؛ وقد زوّجناك على ما في كتاب الله: إمساك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. العتبيّ قال: لما زوّج شبيب «1» ابنه ابنة سوّار القاضي «2» قلنا: اليوم يعبّ عبابه، فلّما اجتمعوا تكلّم فقال: الحمد لله، وصلّى الله على رسول الله. أما بعد، فإنّ المعرفة منا ومنكم وبنا وبكم تمنعنا من الإكثار، وإنّ فلانا ذكر فلانة. العتبيّ قال حدّثني رجل قال: حضرت ابن الفقير يخطب على نفسه امرأة من باهلة «3» فقال: [طويل] فما حسن أن يمدح المرء نفسه ... ولكنّ أخلاقا تذمّ وتمدح وإن فلانة ذكرت لي. قال: وحدّثني أبو عثمان قال: مررت بحاضر «4» وقد اجتمع فيه، فسألت بعضهم: ما جمعهم؟ فقالوا: هذا سيّد الحيّ يريد أن يتزوّج منّا فتاة؛ فوقفت أنظر، فتكلّم الشيخ فقال: الحمد لله، وصلّى الله على رسول الله، أما بعد ذلك، ففي غير ملالة من ذكره والصلاة على رسوله؛ فإن الله جعل المناكحة

التي رضيها فعلا وأنزلها وحيا سببا للمناسبة. وإن فلانا ذكر فلانة وبذل لها الصّداق كذا، وقد زوّجته إيّاها، وأوصيته بوصيّة الله لها. ثم قال للفتيان على رأسه: هاتوا نثاركم «1» ، فقلبت على رؤوسنا غرائر التّمر. قال وقال شبّة بن عقّال: ما تمنّيت أنّ لي بقليل من كلامي كثيرا من كلام غيري إلا يوما واحدا، فإنّا خرجنا مع صاحب لنا نريد أن نزوّجه، فمررنا بأعرابيّ فأتبعنا، فتكلّم متكلّم القوم فجاء بخطبة فيها ذكر السموات والأرض والجبال؛ فلما فرغ قلنا: من يجيبه؟ قال الأعرابيّ: أنا، فجثا لركبته ثم أقبل على القوم فقال: والله ما أدري ما تحتاطك وتلصاقك «2» منذ اليوم! ثم قال: الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد خير المرسلين. أمّا بعد، فقد توسّلت بحرمة، وذكرت حقّا، وعظّمت عظيما، فحبلك موصول، وفرضك مقبول؛ وقد زوّجناها إيّاك، وسلّمناها لك؛ هاتو خبيصكم «3» . قال ابن عائشة: زوّج سلم بن قتيبة ابنته من يعقوب بن الفضل، فقال: الحمد لله، قد ملكت «4» باسم الله. حضر المأمون إملاكا وهو أمير، فسأله من حضر أن يخطب، فقال: المحمود الله، والمصطفى رسول الله، وخير ما عمل به كتاب الله؛ قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ «5» . ولم يكن في المناحكة آية منزّلة ولا سنة متّبعة إلا ما جعل الله في ذلك من تآلف

وصايا الأولياء للنساء عند الهداء

البعيد وبرّ القريب، وليسارع اليها الموفّق ويبادر اليها العاقل اللّبيب. وفلان من قد عرفتموه، في نسب لم تجهلوه؛ خطب إليكم فلانة فتاتكم، وقد بذل لها من الصّداق كذا، فشفّعوا شافعنا، وأنكحوا خاطبنا، وقولوا خيرا تحمدوا عليه وتؤجروا؛ أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصايا الأولياء للنساء عند الهداء «1» العتبيّ قال: حدّثنا إبراهيم العامريّ: زوّج عامر بن الظّرب «2» ابنته من ابن أخيه، فلما أراد تحويلها قال لأمّها: مري ابنتك ألّا تنزل مفازة «3» إلا ومعها ماء فإنه للأعلى جلاء وللأسفل نقاء؛ ولا تكثر مضاجعته، فإنه إذا ملّ البدن ملّ القلب؛ ولا تمنعه شهوته، فإن الحظوة في الموافقة. فلم تلبث إلا شهرا حتى جاءته مشجوجة «4» ؛ فقال لابن أخيه: يا بنيّ ارفع عصاك عن بكرتك، فإن كانت نفرت من غير أن تنفّر فذلك الداء الذي ليس له دواء، وإن لم يكن بينكما وفاق، ففراق الخلع «5» أحسن من الطلاق؛ ولن تترك مالك وأهلك. فردّ عليه صداقه وخلعها؛ فهو أوّل من خلع من العرب. قال الفرافصة الكلبيّ لابنته «6» حين جهّزها إلى عثمان رضي الله عنه: يا

باب سياسة النساء ومعاشرتهن

بنيّة إنك تقدمين على نساء قريش وهنّ أقدر على الطّيب منك، فلا تغلبي على خصلتين: الكحل والماء، تطهّري حتى يكون ريحك ريح شنّ «1» أصابه المطر. كان الزّبرقان بن بدر «2» إذا زوّج ابنة له دنا من خدرها وقال: أتسمعين؟ لا أعرّفنّ ما طلبت، كوني له أمة يكن لك عبدا. أبو الحسن: قالت امرأة لابنتها عند هدائها: اقلعي زجّ رمحه، فإن أقرّ «3» فاقلعي سنانه، فإن أقرّ فاكسري العظام بسيفه، فإن أقرّ فاقطعي اللّحم على ترسه، فإن أقرّ فضعي الإكاف «4» على ظهره فإنما هو حمار. قال أبو الأسود لابنته: إيّاك والغيرة فإنها مفتاح الطّلاق، وعليك بالزينة، وأزين الزينة الكحل؛ وعليك بالطّيب، وأطيب الطّيب إسباغ الوضوء «5» ؛ وكوني كما قلت لأمك في بعض الأحايين: [طويل] خذي العفو منّي تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب «6» فإنّي وجدت الحبّ في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب باب سياسة النّساء ومعاشرتهنّ عيسى بن يونس قال: حدّثنا شيخ لنا قال: سمعت سمرة بن جندب «7»

يقول على منبر البصرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما المرأة خلقت من ضلع عوجاء فإن تحرص على إقامتها تكسرها فدارها تعش بها» . وقال بعض الشعراء: [طويل] هي الضّلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إنّ تقويم الضلوع «1» انكسارها أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى ... أليس عجيبا ضعفها واقتدارها عن الحسن قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: النساء عورة فاستروها بالبيوت، وداووا ضعفهنّ بالسكوت. وفي حديث آخر لعمر: لا تسكنوا نساءكم الغرف، «2» ولا تعلّموهنّ الكتاب، واستعينوا عليهنّ بالعري «3» ، وأكثروا لهنّ من قول لا، فإنّ نعم تغريهنّ على المسألة. قال الأصمعيّ: قيل لعقيل بن علّفة وكان غيورا: من خلّفت في أهلك؟ فقال: الحافظين، العري والجوع. يعني أنه يجيعهنّ فلا يمزحن، ويعريهنّ فلا يمرحن. وقال كثيّر: [طويل] وكنت اذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأبدين منّي هيبة لا تجهّما يحاذرن منّي غيرة قد علمنها ... قديما فما يضحكن إلّا تبسّما تراهنّ إلّا أن يؤدّين نظرة ... بمؤخر عين أو يقلّبن معصما كواظم لا ينطقن إلّا محورة ... رجعية قول بعد أن تتفهمّا «4»

وكنّ اذا ما قلن شيئا يسرّه ... أسرّ الرّضا في نفسه وتحرّما «1» وقال ابن المقفّع: إيّاك ومشاورة النساء، فإنّ رأيهنّ إلى أفن «2» ، وعزمهنّ الى وهن «3» . واكفف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ، فإنّ شدّة الحجاب، خير لك من الارتياب. وليس خروجهنّ بأشدّ من دخول من لا تثق به عليهنّ، فإن استطعت ألّا يعرفن عليك فافعل. ولا تملّكنّ امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها؛ وأدوم لجمالها، وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة «4» ، فلا تعد بكرامتها نفسها، ولا تعطها أن تشفع عندك لغيرها. ولا تطل الخلوة مع النساء فيمللنك وتملهنّ؛ واستبق من نفسك بقيّة، فإنّ إمساكك عنهنّ وهنّ يردنك باقتدار، خير من أن يهجمن عليك على انكسار. وإيّاك والتغاير في غير موضع غيرة، فإنّ ذلك يدعو الصحيحة منهنّ الى السّقم. كان المأمون يقول: الغيرة بهيميّة. وقال أيضا: هي ضرب من البخل. أنشدني محمد بن عمر للخزيميّ: [السريع] ما أحسن الغيرة في حينها ... وأقبح الغيرة في غير حين من لم يزل متّهما عرسه ... متّبعا فيها لقول الظّنون «5» يوشك أن يغريها بالذي ... يخاف أن يبرزها للعيون حسبك من تحصينها وضعها ... منك الى عرض صحيح ودين لا يطلعن منك على ريبة ... فيتبع المقرون حبل القرين

وقال الشّنفرى: «1» [وافر] إذا أصبحت بين جبال قوّ ... وبيضان القرى لم تحذريني «2» وإمّا أن تؤدّيني وترعى ... أمانتكم وإمّا أن تخوني إذا ما جئت ما أنهاك عنه ... ولم أنكر عليك فطلّقيني فأنت البعل يومئذ فقومي ... بسوطك لا أبا لك فاضربني «3» أنشدني عبد الرحمن عن عمّه للرّخيم العبديّ: [كامل] كنّا ولا تعصي الحلية بعلها ... فاليوم تضربه إذا هو ما عصى ويقلن بعدا للشيوخ سفاهة ... والشيخ أجدر أن يهاب ويتّقى وقال آخر [طويل] وإنّي لأخلي للفتاة خباءها ... كثيرا فترعى نفسها أو تضيعها «4» وإنّي لعفّ عن مطاعم جمّة ... إذا زيّن الفحشاء للنفس جوعها قال جران العود: «5» [طويل] ولكن سمعن الشيخ قد قال قولة ... عليكم اذا ما ربنكم بالضّرائر «6»

ولا تأمنوا مكر النساء وأمسكوا ... عرى المال عن أبنائهن الأصاغر «1» فإنّك لم ينذرك أمر تخافه ... إذا كنت منه جاهلا مثل خابر «2» الأصمعيّ عن جعفر بن سليمان قال: منعني علمي بالنساء كثيرا منهنّ، فقد غشيت ألف امرأة. وإنّ الله لو أحلّ لرجل ابنته لم تنفعه أو تعزبه «3» . أبو الحسن قال: قيل للحجّاج: أيمازح الأمير أهله؟ قال: ما تروني إلا شيطانا! والله لربّما قبّلت أخمص «4» إحداهنّ. قيل لرجل من العرب كان يجمع الضّرائر: كيف تقدر على مجمعهنّ؟ قال: كان لنا شباب يصابرهنّ علينا، ثم كان لنا مال يصبّرهنّ لنا، ثم بقي لنا خلق حسن، فنحن نتعاشر به ونتعايش. عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، قال: «كلّ شيء يلهو به الرجل باطل إلا تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، وملاعبته أهله» . ويقال: العيال سوس المال «5» . عوتب الكسائيّ «6» في ترك التزوّج، فقال: وجدت مكابدة العزبة أيسر من مكابدة العيال. عن عمارة بن حمزة قال: يخبز في بيتي كلّ يوم ألف رغيف، كلّهم

محادثة النساء

يأكله حلالا غيري. وكان يأكل رغيفا واحدا. ويقولون: فلان ربّ البيت، وإنما هو كلب البيت. عن عيسى بن عليّ في مرض مرضه بمدينة السلام «1» للناس: إن في قصري الساعة لألف محمومة «2» . عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «دينار أعطيته مسكينا ودينار أعطيته في رقبة ودينار أعطيته في سبيل الله ودينار أنفقته على أهلك هو أعظم أجرا» . محادثة النساء قال بشّار: [خفيف] وحديث كأنّه قطع الرّو ... ض وفيه الصفراء والبيضاء وأنشد ابن الأعرابيّ: [كامل] وحديثها كالغيث يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا «3» فأصاخ مستمعا لدرّته ... ويقول من فرح هيا ربّا «4» وقال القطاميّ: «5» [بسيط] وهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة، الصادي «6»

وقال الأخطل: [بسيط] وقد تكون بها سلمى تحدّثني ... تساقط الحلي حاجاتي وأسراري شبّه كلامها بعقد انقطع فتساقط لؤلؤة. وقال جران العود: [طويل] حديث لو انّ اللّحم يصلّى بحرّه ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج «1» وقال بشّار وذكر امرأة: [وافر] كأن حديثها سكر الشّراب «2» . وقال أعرابيّ: [طويل] ونازعتنا خفيا كأنّه ... على المجتنى الريحان أمرع خاضله «3» بوحي لو ان العصم تسمع رجعه ... تقضّض من أعلى أبان عواقله» وقال بشّار: [مجزوء الكامل المرفّل]

وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا «1» وكأن رجع حديثها ... قطع الّرياض كسين زهرا وقال بعض الأعراب الحمقى: [طويل] حديثك أشهى حين آتيك طارقا ... من الماء والدّواب يمتزجان «2» كأنّ على عينيك تسعين جلّة ... كثيرا من البرنيّ والصّرفان «3» آخر: [طويل] كأنّ على فيها وما ذقت طعمه ... لبا نعجة سوّطته بدقيق «4» رمتني بسهم نصله قرويّة ... وفوقاه سمن والنّضيّ سويق «5» والحسن في هذا قول ذي الرّمّة: [طويل] ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع كففنا ماءها بالأصابع ونلنا سقاطا من حديث كأنّه ... جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع «6» وقال آخر [طويل] أنح فاختبز قرصا اذا اعترك الهوى ... بزيت لكي يكفيك فقد الحبائب

باب النظر

اذا اجتمع الجوع المبرّح والهوى ... نسيت وصال الغانيات الكواعب «1» فدع عنك تطلاب الغواني وحبّها ... وراجع تمر مع لباء ورائب «2» باب النظر قال المسيح عليه السلام: لا يزني فرجك ما غضضت بصرك. وقال رجل لأخيه: احتفظ من العين، فإنها أنمّ عليك من اللسان. وقال بشار: [متقارب] على النفس من عينها شاهد ... فكاتم حديثك أو نمّه وقال الفرزدق: [وافر] فلا تدخل بيوت بني كليب ... ولا تقرب لهم أبدا رحالا «3» فإنّ بها لوامع مبرقات ... يكدن ينكن بالحدق الرجالا «4» نظر أشعب يوما إلى ابنه هو يديم النظر إلى امرأة، فقال: يا بنيّ نظرك هذا يحبل. وقال بعض الشعراء في هذا المعنى: [طويل] ولي نظرة لو كان يحبل ناظر ... بنظرته أنثى لقد حبلت منّي

وقال ذو الرمّة- وذكر الظبية وخشفها «1» [طويل] وتهجره إلّا اختلاسا بطرفها ... وكم من محبّ رهبة العين هاجر مرّت أعرابيّة بقوم من بني نمير، فأداموا النظر إليها، فقالت: يا بني نمير، والله ما أخذتم بواحدة من اثنتين: لا بقول الله قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ «2» . ولا بقول جرير: [وافر] فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا فاستحيا القوم من كلامها وأطرقوا. وقال الطائيّ: [من مخلع البسيط] مربّب الحزن في القلوب ... وناصر العزم في الذنوب ما شئت من منطق أريب ... فيه ومن منظر عجيب «3» لمّا رأى رقبة الأعادي ... على معنّى به كئيب «4» جرّد من هواه طرفا ... صار رقيبا على الرقيب ويقال: ربّ طرف أفصح من لسان. وقال الشاعر: [كامل] ومراقبين يكتّمان هواهما ... جعلا الصدور لما تجنّ قبورا «5» يتلاحظان تلاحظا فكأنّما ... يتناسخان من الجفون سطورا وقال أعرابيّ: [بسيط]

إن كاتمونا القلى نمّت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف «1» وقال آخر في مثله: [سريع] إذا قلوب أظهرت غير ما ... تضمره أنبتك عنه العيون وقال آخر: [هزج] أما تبصر في عين ... يّ عنوان الذي أبدي وقالت أعرابيّة: [كامل] ومودّع يوم الفراق بلحظه ... شرق من العبرات ما يتكلّم «2» وقال أعرابيّ: [طويل] وما خاطبتها مقلتاي بنظرة ... فتفهم نجوانا العيون النواظر «3» ولكن جعلت الوهم بيني وبينها ... رسولا فأدّى ما تجنّ الضمائر ونحوه قول أبي العتاهية: [طويل] أما والذي لو شاء لم يخلق النوى ... لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي يوهّمنيك الشوق حتّى كأنني ... أناجيك عن قرب وما أنت في قربي وقال أحمد بن صالح بن أبي فنن: [طويل] دعا طرفه «4» طرفي فأقبل مسرعا ... فأثّر في خدّيه فاقتصّ من قلبي شكوت اليه ما ألاقي من الهوى ... فقال على رغم فتنت فما ذنبي

باب القيان والعيدان والغناء

كان يقال: أربع لا يشبعن من أربع: عين من نظر، وأنثى من ذكر، وأرض من مطر، وأذن من خبر. حدّثني إسحاق بن أحمد بن أبي نهيك قال: رأيت رجلا في طريق مكة وعديله «1» جارية في المحمل وقد شدّ عينيها وكشف الغطاء؛ فقلت له في ذلك؛ فقال: إنما أخاف عليها عينيها لا عيون الناس. وكان عند بعض القرشيين امرأة عربية، ودخل عليها خصيّ لزوجها وهي واضعة خمارها، فحلقت رأسها وقالت: ما كان ليصحبني شعر نظر اليه غير ذي محرم. باب القيان والعيدان والغناء قال إسحاق بن إبراهيم: كان رجل «2» من آل جعفر بن أبي طالب، يهوى جارية «3» ، فطال ذلك به، فقال للزّبيريّ: قد شغلتني هذه عن ضيعتي وعن كلّ أمري، فاذهب بنا حتى نكاشفها، فقد وجدت بعض السّلوّ، فأتيناها؛ فلما أتيناها قال لها الجعفريّ أتغنّين: [وافر] وكنت أحبّكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السلام فقالت: لا: ولكنّي أغنّي: [وافر]

تحمّل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء «1» فاستحيا وأطرق ساعة وازداد كلفا، ثم قال: أتغنّين: [طويل] وأخنع للعتبى إذا كنت ظالما ... وإن ظلمت كنت الذي أتنصّل «2» قالت: نعم، وأغنّي: [طويل] فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وإن تدبروا أدبر على حال باليا «3» فتقاطعا في بيتين، وتواصلا في بيتين، ولم يشعر بهما أحد. وقال أحمد بن صالح بن أبي فنن: [مخلع البسيط] أعددت للحرب شرب كأس ... وميل سمع إلى قيان تظلّ أوتارهنّ تحكي ... فصاحة منطق اللسان ما بين يمنى وبين يسرى ... وحي بنان إلى بنان ضمير قلب بقرع كفّ ... أبداه بمّان ناطقان «4» وقال بعض الكتّاب «5» وذكر العود: [بسيط] وناطق بلسان لا ضمير له ... كأنه فخذ نيطت إلى قدم يبدي ضمير سواه في الكلام كما ... يبدي ضمير سواه منطق لفم

وقال آخر يذكر مغنّية «1» : [طويل] ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا رجّعت في صوتها كيف تصنع «2» تمدّ نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل في حلقها يترجّع «3» وقال بعض المحدثين في القيان: [منسرح] اذا رأين القيان أحمق ذا ... مال يقلّبن نحوه الحدقا وبالتغنّي وبالتدلّل يس ... لبن فؤادا بحبّه علقا حتّى اذا ما سلخن جلدته ... سلخا رفيقا وبدّد الورقا «4» قلن ادخلوا، ذا الطّوير قد طرح الرّي ... ش، وشدّوا من دونه الغلقا» فبتن يرعين في دراهمه ... وبات يرعى الهموم والأرقا ذكر عند القاسم بن محمد الغناء والسلوّ عنه، فقال لهم: أخبروني، إذا ميّز أهل الحقّ وأهل الباطل ففي أيّ الفريقين يكون الغناء؟ قالوا: في فريق الباطل؛ قال: فلا حاجة لي فيه. قدمت سكينة بنة الحسين مكة، فأتاها الغريض «6» ومعبد «7» فغّنياها: [سريع] عوجي علينا ربّة الهودج ... إنّك إن لم تفعلي تحرجي «8»

فقالت: والله ما لكما مثل: إلا الجديين الحارّ والبارد لا يدري أيّهما أطيب. قال بعضهم: ليس يخلو أحد في بيته ولا في سفره إلا وهو يشدو، فإن هو أساء في ذلك ستر الله عليه، وإن هو أحسن فضحه الله. قال الهيثم: خرج شريح الى مكة فشيّعه قوم، فانصرف بعضهم من النّجف «1» بعد السّفرة، ومضى معه قوم، فلما أرادوا أن يودّعوه، قال: أما أصحاب النّجف فقد قضينا حقّهم بالطعام، وأما أنتم فأغنّيكم، ورفع عقيرته «2» وغنّى: [متقارب] إذا زينب زارها أهلها ... حشدت وأكرمت زوّارها «3» وإن هي زارتهم زرتها ... وإن لم يكن لي هوى دارها عن عليّ بن هشام قال: كان عندنا بمرو قاصّ يقصّ فيبكينا، ثم يخرج بعذ ذلك طنبرا صغيرا من كمّه فيضرب به ويغنّي ويقول: «با إين تيمار بايد أندكي شادي» معناه: ينبغي مع هذا الغمّ قليل فرح.

التقبيل

قدم ابن جامع «1» مكة بخير كثير؛ فقال ابن عيينة «2» : علام تعطيه الملوك هذه الأموال ويحبونه هذا الحباء «3» ؟ قالوا: يغنّيهم؛ قال: ما يقول؟ فاندفع رجل يحكيه وقال: [متقارب] أطوّف بالبيت فيمن يطوف ... وأرفع من مئزري المسبل «4» قال: أحسنت، هيه! فقال: [متقارب] وأسجد بالليل حتّى الصّبا ... ح أتلو من المحكم المنزل فقال: جزاه الله عن نفسه خيرا! هيه! فقال: [متقارب] عسى كاشف الكرب عن يوسف ... يسخّر لي ربّة المحمل فقال: آه! أمسك أمسك، قد علمت ما نحا الخبيث «5» ، اللهمّ لا تسخّرها له!. التقبيل عن ابن أسد قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم اذا اختلى مع نسائه أقعى «6» وقبّل. قالت أمّ «7» البنين لعزّة صاحبة كثيّر: أخبريني عن قول كثيّر: [طويل] قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها «8»

أخبريني ما ذلك الدّين؟ قالت: وعدته قبلة فخرجت «1» منها؛ قالت أمّ البنين: أنجزيها وعليّ إثمها. قال رجل لأعرابيّ: ما الزّنا عندكم؟ قال: القبلة والضّمّة؛ قال: ليس هذا زنا عندنا؛ قال: فما هو؟ قال: أن يجلس بين شعبها الأربع «2» ثم يجهد نفسه؛ فقال الأعرابيّ: ليس هذا زنا، هذا طالب ولد. وقال آخر «3» : [كامل] فدخلت مختفيا أصرّ ببيتها ... حتى ولجت على خفيّ المولج «4» قالها وعيش أخي ونعمة والدي ... لأنبّهنّ الحيّ إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسّمت ... فعلمت أنّ يمينها لم تحرج «5» فلثمت فاها قابضا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج «6» فتناولت رأسي لتعرف مسّه ... بمخضب الأطراف غير مشنّج «7» وقال بعض الشعراء: [طويل] وما نلت منها محرما غير أنّني ... أقبّل بسّاما من الثغر أبلجا «8» وألثم فاها تارة بعد تارة ... وأترك حاجات النفوس تحرّجا

الدخول بالنساء والجماع

وقال آخر: [طويل] لعمري إنّي ما صبوت وما صبت ... وإنّي اليها من صبا لحليم «1» سوى قبلة أستغفر الله ذنبها ... وأطعم مسكينا بها وأصوم وقال أبو نواس: [سريع] وعاشقين التفّ خدّاهما ... عند التثام الحجر الأسود فاشتفيا من غير أن يأثما ... كأنّما كانا على موعد لولا دفاع الناس إيّاهما ... لما استفاقا آخر المسند «2» قال المتوكّل، أو غيره من الخلفاء، لبختيشوع «3» : ما أخفّ النّقل «4» على النبيذ؟ فقالت له: نقل أبي نواس؛ فقال: ما هو؟ فأنشده: [منسرح] مالي في الناس كلّهم مثل ... مائي خمر ونقلي القبل وقال بعض المحدثين: [بسيط] غضبت من قبلة بالكره جدت بها ... فهاك قد جئت فاقتصّيه أضعافا لم يأمر الله إلّا بالقصاص فلا ... تستجوري ما رآه الله إنصافا الدخول بالنساء والجماع عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس: ما تقول في متعة النّساء؟ - قال: قد أكثر الناس فيها حتى قال الشاعر: [بسيط] قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عبّاس

هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواي حتى رجعة الناس «1» - قال: فنهاني عنها وكرها. الأصمعيّ: أن رجلا قعد من امرأة مقعد النّكاح ثم قال: أبكر أنت أم ثيّب؟ قالت: «أنت على المجرّب» «2» . قال الحجّاج لأكتل بن شمّاخ العكليّ «3» : ما عندك للنساء؟ قال إني لأطيل الظّمأ وأورد فلا أشرب. وقيل لمدنيّ: ما عندك في النكاح؟ قال: إن منعت غضبت، وإن تركت عجزت. قال الأحنف: إذا أردتم الحظوة عند النساء فأفحشوا في النّكاح وحسّنوا الأخلاق. قال معاوية: ما رأيت منهوما بالنساء إلا رأيت ذلك في منّته «4» قال آخر: لذّة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر محبّتها. دعا عيسى بن موسى بجارية له، فلم يقدر على غشيانها، فقال: القلب يطمع والأسباب عاجزة ... والنفس تهلك بين العجز والطّمع وقال مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم: [طويل] رأيت سحيما فاقد الله بينها ... تنيك بأيديها وتعيا أيورها «5»

وقال آخر: [طويل] ويبعث يوم الحشر أما لسانه ... فعيّ وأمّا أيره فخطيب وقال آخر: [متقارب] ويعجبني منك عند الجماع ... حياة اللسان وموت النّظر المدائنيّ قال أسرت عنزة «1» الحارث بن ظالم، فمرّت به امرأة منهم فرأت كمرة «2» سوداء، فقالت: احتفظوا بأسيركم فإنه ملك وخدن «3» ملك. قالوا: وكيف عرفت ذلك؟ قالت: رأيت حشفة سوداء من فروم النّساء «4» . والفرم: ما تضيّق المرأة به رحمها من رامك «5» أو عجم زبيب أو غيره. وكتب عبد الملك بن مروان الى الحجّاج: يابن المستفرمة بعجم «6» الزبيب. قال الهيثم: كان امرؤ القيس مفرّكا «7» ، فبينما هو يوما مع امرأة قالت له: قم يا خير الفتيان قد أصبحت؛ فلم يقم، فكرّرت عليه، فقام فوجد اللّيل بحاله، فرجع اليها فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: حملني عليه أنّك ثقيل الصّدر، خفيف العجز، سريع الإراقة «8» . قال أبو عبيدة «9» لجارية له: اصدقيني عمّا تكرهه النساء منّي؛ قالت:

يكرهن منك أنّك اذا عرقت فحت بريح كلب؛ قال: صدقتيني. إنّ أهلي كانوا أرضعوني بلبن كلبة. قال الأصمعيّ: غاضبت امرأة زوجها، فجال عليها يجامعها؛ فقالت: لعنك الله! كلّما وقع بيني وبينك شرّ جئتني بشفيع لا أقدر على ردّه!. الهيثم عن ابن عيّاش قال: كتب عبيد الله بن زياد إلى أسماء بن خارجة والي البصرة يخطب اليه هند بنت أسماء فزوّجه؛ فلقيه عمرو بن حارثة ومحمد ابن الأشعث بن قيس ومحمد بن عمير، فقالوا: خطب اليك وليس له عليك سلطان فزوّجته وقد عرفته! فقال: قد كان ما كان. فقال عقيبة الأسديّ «1» : [وافر] جزاك الله يا أسماء خيرا ... كما أرضيت فيشلة الأمير بصدع قد يفوح المسك منه ... عظيم مثل كركرة البعير «2» لقد زوّجتها حسناء بكرا ... تجيد الرّهز من فوق السّرير «3» فبلغ الخبر عبيد الله بن زياد، فلما استعمل على الكوفة تزوّج عائشة بنت محمد بن الأشعث، وزوّج أخاه سلم بن زياد بنت عمرو بن الحارث بن حريث، وزوّج أخاه عبد الله بن زياد ابنة محمد بن عمير. قال ابن عيّاش: فاشتركوا والله في اللّوم جميعا.

قال ابن المبارك «1» : ألستم تعلمون أنّي قد أرميت «2» على المائة! وينبغي لمن كان كذلك أن يكون في وهن الكرّة وموت الشّهوة وانقطاع ينبوع النّطفة، وأن قد يكون قد مال جبينه الى النساء وبفكره الى الغزل؛ قالوا: صدقت. قال: وينبغي أن يكون قد عوّد نفسه تركهن، وهذا والتخلي بهنّ دهرا أن تكون العادة وتمرين الطبيعة وتوطين النفس قد حطّ من ثقل منازعة الشهوة ودواعي الباه «3» ، وقد علمت أنّ العادة قد تستحكم ببعض عمن ترك ملابسة النساء؛ قالو: صدقت: وينبغي أن يكون لمن لم يذق طعم الخلوة بهنّ ولم يجالسهنّ متبذّلات ولم يسمع خلابتهن للقلوب واستمالتهن للأهواء، ولم يرهنّ متكشّفات ولا عاريات أن يكون اذا تقدّم له ذلك مع طول الترك ألّا يكون بقي معه من دواعيهنّ شيء؛ قالوا صدقت. قال: وينبغي لمن علم أنّه مجبوب «4» وأن سببه إلى خلاطهن محسوم أن يكون اليأس من أمتن أسبابه إلى الزهد والسّلوة وإلى موت الخاطر؛ قالوا: صدقت. قال: وينبغي لمن دعاه الزّهد في الدنيا الى أن خصى نفسه ولم يكرهه على ذلك أب ولا عدوّ ولا سباه ساب أن يكون مقدار ذلك الزّهد يميت الذّكر وينسي العزم؛ قالوا: صدقت. قال: وينبغي لمن سخت «5» نفسه عن الشكر وعن الولد وعن أن يكون مذكورا بالعاقب الصالح أن يكون قد نسي هذا الباب إن كان مرّة منه على ذكره، وأنتم تعلمون أنّي سملت «6» عيني يوم خصيت نفسي وقد نسيت كيفية الصّور؛ قالوا: صدقت.

قال: أو ليس لو لم أكن هرما ولم يكن ها هنا اجتناب وكانت الآلة قائمة- إلا أني لم أذق لحما منذ ثلاثين سنة ولم تمتلى عروقي من الشّراب مخافة الزيادة في الشّهوة- لكان في ذلك ما يقطع الدواعي ويسكّن حركة إن هاجت، قالوا: صدقت. قال: فإن بعد ما وصفت لكم لا أسمع نغمة لامرأد إلا أظنّ أنّ عقلي قد اختلس، ولربّما تراءى فؤادي عن ضحك إحداهن حتى أظنّ أنه قد خرج من فمي، فكيف ألوم عليهنّ غيري!. قال رجل لابن سيرين: اذا خلوت بأهلي أتكلّم بكلام أستحي منه؛ قال: أفحشته اللّذة. إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال: كان شراعة بن الزّندبوذ لا يأتي النّساء وكان يقال: إنه عنّين «1» ؛ فقال: [بسيط] قالوا شراعة عنّين فقلت لهم ... الله يعلم أنّي غير عنّين فإن ظننتم بي الظنّ الذي زعموا ... فقرّبوني الى بيت ابن رامين وكان ابن رامين صاحب قيان «2» ، وكانت الزرقاء جاريته. قال إسحاق: أنشدني ابن كناسة: [طويل] لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللّسرّ كتمان وللعين منظر قلت: ما بقي شيء؛ قال: فأين الموافقة!. الهيثم قال: قال لي صالح بن حسّان: من أفقه الناس؟ قلت: اختلف في ذلك؛ قال: أفقه الناس وضّاح اليمن «3» حيث يقول: [طويل]

اذا قلت هاتي نوّليني تبسّمت ... وقالت معاذ الله من فعل ما حرم فما ناولت حتى تضرّعت عندها ... وأنبأتها ما رخّص الله في اللّمم «1» قال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبيّ «2» : زوّجني امرأة من كلب، فزوّجه؛ فقال له ذات يوم يهزل معه: وتزوّجنا الى كلب فوجدنا في نسائهم سعة؛ فقال الأبرش: يا أمير المؤمنين، إن نساء كلب خلقن لرجال كلب. قال: وسمع رجل من كندة رجلا يقول: وجدنا في نساء كندة سعة، قال الكنديّ: إن نساء كندة مكاحل فقدت مراودها. «3» . تزوّج أعرابيّ امرأة، فلما دخل بها عابثها فضرطت فخرجت غضبى إلى أهلها، وقالت: لا أرجع حتى يفعل مثل ما فعلت، فقال لها: عودي لأفعل، فعادت ففعل؛ فبينما هو يداعبها اذ حبقت أخرى «4» ؛ فقال الأعرابيّ: [سريع] طالبتني دينا فلم أقضك ... والله حتى زدت في قرضك فلا تلوميني على مطلة ... إن كان ذا دأبك لم أقضك تزوّج رجل أعرابيّة فعجز عنها؛ فقيل لها في ذلك، فقالت: نحن لنا صدوع في صفا «5» ، ليس لعاجز فينا حظّ.

الهيثم عن ابن عياش قال: كانت صعبة «1» أمّ طلحة بن عبيد الله من بنات فارس، تزوّجها أبو سفيان بن حرب فلم تزل به هند حتى طلّقها، فتزوّج بها عبيد الله؛ وتتبّعتها نفس أبي سفيان فقال: [متقارب] وإنّا وصعبة فيما ترى ... بعيدان والودّ ودّ قريب فإلّا يكن نسب ثاقب ... فعند الفتاة جمال وطيب «2» لها عند سرّي بها نخرة ... يزول بها يذبل أو عسيب «3» فيا لقصيّ ألا فاعجبوا ... فللو برصار الغزال الربيب «4» جلس أعرابيّ الى أعرابيّة، وعلمت أنه إنما جلس لينظر ابنتها، فضربت بيدها على جنبها وقالت: [طويل] ومالك منها غير أنّك ناكح ... بعينيك عينيها فهل ذاك نافع وقال أيمن بن خريم [متقارب] لقيت من الغانيات العجابا ... لو ادرك منّي العذارى الشّبابا «5» ولكنّ جمع العذارى الحسان ... عناء شديد إذا المرء شابا يرضن بكلّ عصا رائض ... ويصبحن كلّ غداة صعابا «6» علام يكحّلن حور العيون ... ويحدثن بعد الخضاب الخضابا «7»

باب القيادة

ويبرزن إلّا لما تعلمون ... فلا تحرموا الغانيات الضّرابا «1» اذا لم يخالطن كلّ الخلا ... ط أصبحن مخرنطمات غضابا «2» يميت العباب خلاط النساء ... ويحيي اجتناب الخلاط العتابا واعد العرجيّ امرأة من الطائف، فجاء على حمار ومعه غلام، وجاءت المرأة على أتان ومعها جارية؛ فوثب العرجيّ على المرأة، والغلام على الجارية، والحمار على الأتان؛ فقال العرجيّ: هذا يوم غاب عذّاله. باب القيادة عن ابن الأشوع: أنه سئل عن الواصلة «3» فقال: إنك لمنقّر «4» ، قالت عائشة رضي الله عنها: ليست الواصلة بالتي تعنون، وما بأس اذا كانت المرأة زعراء «5» أن تصل شعرها، ولكن الواصلة أن تكون بغيّا في شبيبتها، فإذا أسنّت وصلته بالقيادة «6» . قالوا: كانت ظلمة «7» التي يضرب بها المثل في القيادة صبيّة في الكتّاب «8» ، فكانت تضرب دويّ الصّبيان وأقلامهم، فلما شبت زنت، فلما أسنت قادت، فلما قعدت اشترت تيسا تنزّيه «9» على العنز.

وذكر المدائنيّ: أنّ رجلا من السلطان كان لا يزال يأخذ قوّادة فيحبسها ثم يأتيه من يشفع فيها فيخرجها؛ فأمر صاحب شرطته فكتب في قصّتها: فلانة القوّادة تجمع بين الرجال والنساء لا يتكلّم فيها إلا زان؛ فكان إذا كلّم فيها قال: أخرجوا قصّتها، فاذا قرئت قام الشفيع مستحييا. قال جران العود: [طويل] يبلّغهنّ الحاج كلّ مكاتب ... طويل العصا أو مقعد يتزحّف «1» ومكمونة رمداء لا يحذرونها ... مكاتبة ترمي الكلاب وتحذف «2» رأت ورقا بيضا فشدّت حزيمها ... لها فهي أمضى من سليك وألطف «3» وقال الفرزدق: [وافر] يبلغهنّ وحي القول مني ... ويدخل رأسه تحت القرام «4» وقال حميد بن ثور: «5» [طويل] خليليّ إنّي أشتكي ما أصابني ... لتستيقنا ما قد لقيت وتعلما فلا تفشيا سرّي ولا تخذلا أخا ... أبثّكما منه الحديث المكتّما وقولا اذا جاوزتما أرض عامر ... وجاوزتما الحيّين نهدا وخثعما

نزيعان من جرم بن ربّان إنهم ... أبوا أن يريقوا في الهزاهز محجما «1» وخبّا على نضوين مكتفليهما ... ولا تحملا إلّا زنادا وأسهما «2» وزادا عريضا خفّفاه عليمكا ... ولا تبديا سرا ولا تحملا دما «3» وإن كان ليل فالويا نسبيكما ... وإن خفتما أن تعرفا فتلثّما «4» وقولا خرجنا تاجرين فأبطأت ... ركاب تركناها بتثليت قوّما «5» ولو قد أتانا بزّنا ودقيقنا ... تموّل منكم من رأيناه معدما «6» ومدّا لهم في السّوم حتى تمكّنا ... ولا تستلجّا صفق بيع فيلزما «7» فإن أنتما اطمأننتما ... وخلّيتما ما شئتما فتكلّما وقولا لها ما تأمرين بصاحب ... لنا قد تركت القلب منه متيمّا أبيني لنا إنّا رحلنا مطيّنا ... إليك وما نرجوك إلا توهّما وقال المأمون لرسول بعث به: [طويل] بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ... وأخلفتني حتى أسأت بك الظنّا «8» وناجيت من أهوى وكنت مقرّبا ... فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى وردّدت طرفا في محاسن وجهها ... ومتّعت باستمتاع نغمتها أذنا

باب الزنا والفسوق

أرى أثرا منها بعينيك لم يكن ... لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا وقال بعض المحدثين [مجزوء الكامل المرفّل] يا سوء منقلب الرّسو ... ل مخبّرا بخلاف ظنّي إنّي أعيذك أن تكو ... ن شغلتني وشغلت عنّي وقال زيد بن عمرو في أمته: [طويل] اذا طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهي أبدا يزنى بها وتقود «1» باب الزّنا والفسوق العتبيّ، قال: قيل لرجل في امرأته وكانت لا تردّ يد لامس: علام تحبسها مع ما تعرف منها؟ فقال: إنها جميلة فلا تفرك «2» ، وأمّ عيال فلا تترك. وقال بعض الأعراب: [طويل] ألمّا على دار لواسعة الحبل ... ألوف تسوّي صالح القوم بالرّذل «3» يبيت بها الحدّاث حتّى كأنّما ... يبيتون فيها من مدافع من نخل «4» ولو شهدت حجّاج مكة كلّهم ... لراحوا وكلّ القوم منها على وصل أنشد الفرزدق لسليمان بن عبد الملك القصيدة التي يقول فيها: [وافر]

ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وسادسة تميل إلى شمام «1» فبتن بجانبيّ مصرّعات ... وبتّ أفضّ أغلاق الختام كأنّ مفلق الرّمان فيها ... وجمر غضى قعدن عليه حامي فقال سليمان: أحللت نفسك يا فرزدق: أقررت عندي بالزنا وأنا إمام، ولا بدّ لي من إقامة الحدّ عليك؛ فقال: بم أوجبت ذلك عليّ يا أمير المؤمنين؟ فقال: بكتاب الله: قال: فإن كتاب الله يدرأ عنّي «2» ، قال الله جلّ ثناؤه: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ «3» ، فأنا قلت ما لم أفعل. قيل لأبي الطّمحان القينيّ: خبّرنا عن أدنى ذنوبك «4» ؛ قال: ليلة الدير؛ قالوا: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت على ديرانيّة «5» ، فأكلت طفيشلا «6» لها بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها ومضيت. وقال عمر بن أبي ربيعة: [خفيف] يقصد الناس احتسابا ... وذنوبي مجموعة في الطّواف وقال جرير في الفرزدق: [طويل] لقد ولدت أمّ الفرزدق فاجرا ... فجاءت بوزواز قصير القوائم «7» يوصّل حبليه إذا جنّ ليله ... ليرقى إلى جاراته بالسّلالم «8»

وما كان جار للفرزدق مسلم ... ليأمن قردا ليله غير نائم «1» أتيت حدود الله إذ كنت يافعا ... وشبت فما ينهاك شيب اللهازم «2» تتبّع في الماخور كلّ مريبة ... ولست بأهل المحصنات الكرائم «3» هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا ... مداخل رجس بالخبيثات عالم «4» لقد كان إخراج الفرزدق عنكم ... طهورا لما بين المصلّى وواقم «5» تدلّيت تزني من ثمانين قامة ... وقصّرت عن باع العلا والمكارم «6» وقال عمرو بن بحر: قرأ قارىء: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ «7» إلى قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ «8» ، قال إسماعيل بن غزوان: لا والله ما سمعت بأغزل من هذه الفاسقة. وسمع مراودتها يوسف عنها فقال إسماعيل: أما والله بي تمرست «9» . بات أعرابيّ ضيفا لبعض الحضر، فرأى امرأة فهمّ أن يخالف «10» إليها في أوّل الليل فمنعه الكلب، ثم أراد ذلك نصف الليل فمنعه ضوء القمر، ثم أراد ذلك في السّحر فإذا عجوز قائمة تصلّي، فقال: [بسيط]

لم يخلق الله شيئا كنت أكرهه ... غير العجوز وغير الكلب والقمر هذا نبوح وهذا يستضاء به ... وهذه شيخة قوّامة السّحر المنصور عن أبيه محمد بن عليّ، قال: حججت فرأيت امرأة من كلب شريفة قد حجّت فرآها عمر بن أبي ربيعة فجعل يكلّمها ويتبعها كلّ يوم، فقالت لزوجها ذات يوم: إني أحبّ أن أتوكأ عليك إذا رحت إلى المسجد، فراحت متوكئة على زوجها: فلما أبصرها عمر ولّى، فقالت: على رسلك «1» يا فتى!: [بسيط] تعدو الذّئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي مربض المستأسد الحامي الرّياشيّ قال: كان أبو ذؤيب يهوى امرأة من قومه، وكان رسوله إليها رجلا يقال له: خالد بن زهير، فخانه فيها، فقال أبو ذؤيب «2» : [طويل] تريدين كيما تجمعيني وخالدا ... وهل يجمع السّيفان ويحك في غمد أخالد ما راعيت منّي قرابة ... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي وكان أبو ذؤيب خان فيها ابن عمّ له يقال له: مالك بن عويمر، فأجابه خالد: [طويل] ولا تعجبن من سيرة أنت سرنها ... وأوّل راض سنّة من يسيرها ألم تتنقّذها من ابن عويمر ... وانت صفيّ نفسه ووزيرها «3» سألت امرأة زوجها الحجّ فإذن لها وبعث معها أخاه، فلما انصرفا عنه

سأله عنها، فقال: [بسيط] وما عملت لها عيبا أخبّره ... إلّا اتهامي فيها صاحب الإبل كنّا نهارا إذا ما السّير جدّ بنا ... يغيّران وما بالرحل من مثل «1» ويخلفون كثيرا في منازلنا ... فلا نزال نرى آثار مغتسل فالله أعلم ما كانت سرائرهم ... والله أعلم بالنيّات والعمل قال رجل للفرزدق: متى عهدك يا أبا فراس بالزّنا؟ فقال: مذ ماتت العجوز. رمي ببغداد في سوق يحيى قمطرة «2» فيها صبيّ وتحته مضرّبات «3» حرير، وعند رأسه كيس فيه مائة دينار ورقعة فيها: هذا الشقيّ ابن الشقيّة، ابن السّكباج والقلية «4» ، ابن القدح والرّطليّة «5» ؛ رحم الله من اشترى له بهذا الذهب جارية تربيه؛ وفي آخر الرّقعة: هذا جزاء من عضل ابنته «6» . ذكر أعرابيّ رجلا ماجنا فقال: لو أبصرت فلانا العيدان لتحرّكت أوتارها، ولو رأته مومسة لسقط خمارها. قال بعض الأعراب: [كامل]

ماذا يظنّ بليلى إذا ألمّ بها ... مرجّل الرأس ذو بردين مزّاح «1» حلو فكاهته خزّ عمامته ... في كفّه من رقى إبليس مفتاح «2» ذكر أعرابيّ رجلا ماجنا فقال: هو أكثر ذنوبا من الدّهر، تفد إليه مواكب الضّلالة، ويرجع من عنده مدوّن الأيّام. وذكر آخر قوما فقال: هم أقلّ الناس إلى أعدائهم، وأكثرهم تجرّما «3» على أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء. قال الأصمعيّ: قلت لأمة ظريفة: هل في يديك عمل؟ قالت: لا! ولكن في رجليّ «4» . قالت جوار من القيان لأبي نواس: ليتنا يا أبا نواس بناتك! فقال أبو نواس «5» : قال أبو المهند: [متقارب] وأفجر من راهب يدّعي ... بأنّ النساء عليه حرام «6» يحرّم بيضاء ممكورة ... ويغنيه في البضع عنها الغلام «7» إذا ما مشى غضّ من طرفه ... وفي اللّيل بالدّير منه عرام «8»

باب مساوىء النساء

ودير العذارى فضوح له ... وعند اللّصوص حديث الأنام هؤلاء لصوص نزلوا دير العذارى ليلا، فأخذوا القسّ فشدّوه وثاقا، ثم أخذ كلّ رجل منهم جارية، فوجدوهنّ مفتضّات قد افتضهنّ القسّ كلّهنّ. قال سهل بن هارون: [وافر] إذا نزل المخنّث في رباع ... تحرّك كل ذي خنث إليه «1» وصارت دونهم مأوى الخبايا ... وصار الرّبع مدلولا عليه وقال آخر: [طويل] أقول لها لما أتتني تدلّني ... على امرأة موصوفة بجمال أصبت لها والله زوجا كما اشتهت ... إن اغتفرت فيه ثلاث خصال فمنهنّ فسق لا ينادى وليده ... ورقّة إسلام وقلّة مال «2» قال الأصمعيّ: دخلت على ابن روح بن حاتم المهلّبيّ وحضر الإذن وهو عاكف على غلام، فقلت: له عمدت إلى الموضع الذي كان أبوك يضرب فيه الأعناق ويعطي فيه اللهى «3» ، تركب فيه ما تركب! فقال: [وافر] ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصّنيعا إذا الحسب الرفيع تواكلته ... بنات السّوء يوشك أن يضيعا باب مساوىء النساء عن وهب بن منبّه قال: عاقب الله المرأة بعشر خصال: شدّة النّفاس،

وبالحيض، وبالنجاسة في بطنها وفرجها، وجعل ميراث امرأتين ميراث رجل واحد، وشهادة امرأتين كشهادة رجل، وجعلها ناقصة العقل والدّين لا تصلّي أيّام حيضها، ولا يسلّم على النساء، وليس عليهنّ جمعة ولا جماعة، ولا يكون منهنّ نبيّ، ولا تسافر إلا بوليّ. وكان يقال: ما نهيت امرأة قطّ عن شيء إلّا أتته. وقال طفيل «1» في هذا المعنى: [بسيط] إنّ النّساء كأشجار نبتن معا ... منها المرار وبعض المرّ مأكول «2» إنّ النّساء متى ينهين عن خلق ... فإنّه واقع لا بدّ مفعول عن رجاء بن حيوة قال: قال معاذ: إنكم ابتليتم بفتنة الضّرّاء فصبرتم، وإني أخاف عليكم فتنة السّرّاء، وإن من أشدّ من ذلكم عندي النشاء، إذا تحلّين الذّهب ولبسن ريط «3» الشام وعصب «4» اليمن، فاتعبن الغنيّ، وكلّفن الفقير ما لا يجد. قال بعض الشعراء: [طويل] تمتّع بها ما ساعفتك ولا تكن ... عليك شجا يؤذيك حين تبين «5» وإن هي أعطتك اللّيان فإنّها ... لغيرك من خلّانها ستلين وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين «6»

أبو عليّ الأمويّ قال: كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، عند عبد الله بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وكانت قد غلبته في كثير من أمره؛ فقال له أبوه: طلّقها، فطلّقها وأنشأ يقول [طويل] لها خلق سهل وحسن ومنصب ... وخلق سويّ ما يعاب ومنطق فرمي يوم الطائف بسهم؛ فلما مات قالت ترثيه: [طويل] وآليت لا تنفكّ عيني سخينة ... عليك ولا ينفكّ جلدي أغبرا فلله عين ما رأت مثله فتى ... أعزّ وأحمى في الهياج وأصبرا إذا شرعت فيه الأسنّة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الرّمح أحمرا ثم خطبها عمر بن الخطّاب، فلمّا أولم قال عبد الرحمن بن أبي بكر: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أدخل رأسي على عاتكة؟ قال: نعم، يا عاتكة استتري؛ فأدخل رأسه فقال: [طويل] وآليت لا تنفكّ عيني قريرة ... عليك ولا ينفكّ جلدي أصفرا «1» فنشجت نشجا عاليا «2» ؛ فقال عمر: ما أردت إلى هذا! كلّ النساء يفعلن هذا! غفر الله لك. ثم تزوّجها الزّبير بعد عمر وقد خلا من سنّها «3» ، فكانت تخرج باللّيل إلى المسجد ولها عجيزة ضخمة «4» ؛ فقال لها الزّبير: لا تخرجي؛ فقالت: لا أزال أخرج أو تمنعني، وكان يكره أن يمنعها، لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله؛ فقعد لها الزّبير متنكّرا في ظلمة اللّيل، فلما

مرّت به قرص عجيزتها؛ فكانت لا تخرج بعد ذلك؛ فقال لها: مالك لا تخرجين؟ فقالت: كنت أخرج والناس ناس، وقد فسد الناس فبيتي أوسع لي. قال المدائييّ: احتضر رجل من العرب وله ابن يدبّ بين يديه؛ وأم الصّبيّ جالسة عند رأسه؛ واسم الصبيّ معمر فقال: [طويل] وإنّي لأخشى أن أموت فتنكحي ... ويقذف في أيدي المراضع معمر وترخى ستور دونه وقلائد ... ويشغلكم عنه خلوق ومجمر «1» فما لبث أن مات، ثم تزوجت ثم صار معمر إلى ما ذكر. عن الحسن: أنّ شابّين كانا متآخيين على عهد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فأغزى «2» أحدهما، فأوصى أخاه بأهله؛ فانطلق في ليلة ذات ريح وظلمة إلى أهل أخيه يتعهّدهم، فإذا سراج في البيت يزهر «3» ، وإذا يهوديّ في البيت مع أهله وهو يقول: [وافر] وأشعث غرّه الإسلام منّي ... خلوت بعرسه ليل التّمام «4» أبيت على ترائبها ويضحي ... على جرداء لاحقة الحزام «5» كأنّ مجامع الرّبلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام «6»

فرجع الشابّ إلى أهله، فاشتمل «1» السيف حتى دخل على أهل أخيه فقتله، ثم جرّه وألقاه في الطريق؛ فأصبح اليهود وصاحبهم قتيل لا يدرون من قتله، فأتوا عمر بن الخطّاب فدخلوا عليه وذكروا ذلك له، فنادى عمر في النّاس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنشد الله رجلا علم من هذا القتيل علما إلا أخبرني به؛ فقام الشابّ فأنشده الشعر وأخبره خبره؛ فقال عمر: لا يقطع الله يدك، وهدر دمه. كان ابن عبّاس يقول: مثل المرأة السّوء: كان قبلكم رجل صالح له امرأة سوء، فعرض له رجل فقال: إني رسول الله إليك بأنّه جعل لك ثلاث دعوات، فسل ما شئت من دنيا أو آخرة ثم نهض، فرجع الرجل إلى منزله؛ فقالت له امرأته: ما لي أراك مفكّرا محزونا؟ فأخبرها؛ فقالت: ألست امرأتك وفي صحبتك وبناتك منّي! فاجعل لي دعوة، فأبى. فأقبل عليه ولده وقلن: أمّنا، فلم يزلن به حتّى قال: لك دعوة؛ فقالت: اللهم اجعلني أحسن الناس وجها فصارت كذلك، وجعلت توطىء فراشها وهو يعظها فلا تتّعظ، فغضب يوما فقال: اللهمّ اجعلها خنزيرة، فتحوّلت كذلك؛ فلما رأين بناته ما نزل بأمّهن بكين وضربن وجوههن ونتفن شعورهن، فرقّ لهن قلبه فقال: اللهمّ أعدها كما كانت أوّلا؛ فذهبت دعواته الثلاث فيها. قال عبد الله بن عكرمة: دخلت على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ أعوده، فقلت: كيف تجدك؟ فقال: أجدني والله بالموت، وما موتي بأشدّ عليّ من تمتّع أمّ هشام، أخاف أن تتزوّج- يعني امرأته- فحلفت له وآلت ألّا تتزوّج بعده، فغشي وجهه نور، ثم قال: شأن الموت أن ينزل

متى شاء، ثم مات، فتزوّجت بعمر بن عبد العزيز؛ فقلت: فإن لقيت خيرا فلا يهنئنّها ... وإن تعست فلليدين وللفم «1» فبلغها، فكتبت إليّ: قد بلغني بيتك الذي تمثّلت به، وما مثلي ومثل أخيك إلّا كما قال الشاعر: [طويل] وهل كنت إلّا والها ذات ترحة ... قضت نحبها بعد الحنين المرجّع «2» متى تسل عنه تدّكر بعد طيّة ... من الأرض أو تقنع بإلف فتربع «3» فدع عنك من قد وارت الأرض شخصه ... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع فبلغ ذلك منّي كلّ غيظ، واحتسبت حسابها، وإذا هي قد أعجلت عدّتها، وقد بقي عليها أربعة أيّام، فدخلت على عمر فأخبرته بذلك، فنقض النّكاح وعزل عن المدينة. كان صخر بن الشريد أخو الخنساء خرج في غزوة فقاتل فيها قتالا شديدا، فأصابه جرح رغيب «4» ، فمرض فطال به مرضه وعاده قومه، فقال عائد من عوّاده يوما لامرأته سلمى «5» : كيف أصبح صخر اليوم؟ قالت: لا حيّا فيرجى ولا ميّتا فينسى، فسمع صخر كلامها فشقّ عليه، وقال لها: أنت القائلة كذا وكذا؟ قالت: نعم غير معتذرة إليك. ثم قال عائد آخر. لأمّه: كيف أصبح صخر اليوم؟ فقالت: أصبح بحمد الله صالحا ولا يزال بحمد الله بخير

ما رأيناه سواده «1» بيننا. فقال صخر: [طويل] أرى أمّ صخر ما تملّ عيادتي ... وملّت سليمى مضجعي ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان «2» فأيّ امرىء ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلّا في أذى وهوان أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان «3» لعمري لقد أنبهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان فلما أفاق عمد إلى سلمى فعلّقها بعمود الفسطاط حتى فاضت نفسها «4» ، ثم نكس «5» من طعنته فمات. وقرأت في سير العجم أنّ أردشير سار إلى الحضر «6» ، وكان ملك السّواد متحصّنا فيها، وكان من أعظم ملوك الطوائف «7» ، فحاصره فيها زمانا لا يجد إليه سبيلا، حتى رقيت ابنة ملك السّواد يوما، فرأت أردشير فعشقته فنزلت وأخذت نشّابة وكتبت عليها: إن أنت شرطت لي أن تتزوّجني دللتك على موضع تفتتح منه هذه المدينة بأيسر حيلة وأخف مؤونة، ثم رمت بالنّشابة نحو أردشير؛ فكتب الجواب في نشّابة: لك الوفاء بما سألت، ثم ألقاها إليها؛ فكتبت إليه تدلّه على الموضع؛ فأرسل إليه أردشير فافتتحه ودخل هو وجنوده،

وأهل المدينة غارّون «1» فقتلوا ملكها وأكثر مقاتلتها وتزوّجها؛ فبينما هي ذات ليلة على فراشه أنكرت مكانها حتى سهرت لذلك عامّة ليلتها، فنظروا في الفراش فوجدوا تحت المحبس» ورقة من ورق الآس قد أثّرت في جلدها، فسألها أردشير عند ذلك عما كان أبوها يغذوها به؛ فقالت: كان أكثر غذائي الشّهد والزّبد والمخّ؛ فقال أردشير: ما أحد ببالغ لك في الحباء والإكرام مبلغ أبيك، ولئن كان جزاؤه عندك على جهد إحسانه مع لطف قرابته وعظم حقّه جهد إساءتك، ما أنا بآمن لمثله منك؛ ثم أمر بأن تعقد قرونها بذنب فرس شديد المراح «3» جموح ثم يجرى؛ ففعل ذلك حتى تساقطت عضوا عضوا. العتبي: سمعت أبي يحدّث عن ناس من أهل الشام: أن أخوين كان لأحدهما زوجة، وكان يغيب ويخلفه الآخر في أهله، فهويته امرأة الغائب، فأرادته على نفسها فامتنع؛ فلما قدم أخوه سألها عن حالها، فقالت: ما حال امرأة تراود في كلّ حين! فقال: أخي وابن أمّي! وإني لا أفضحه! ولكن لله عليّ ألّا أكلّمه أبدا؛ ثم حجّ وحجّ أخوه والمرأة؛ فلما كانوا بوادي الدّوم «4» هلك الأخ ودفنوه وقضوا حجّهم ورجعوا؛ فمرّوا بذلك الوادي ليلا، فسمعوا هاتفا يقول: [طويل] أجدّك تمضي الدّوم ليلا ولا ترى ... عليك لأهل الدّوم أن تتكلّما «5» وبالدّوم ثاو لو ثويت مكانه ... ومرّ بوادي الدّوم حيّا لسلّما

فظنّت المرأة أنّ النّداء من السماء، فقالت لزوجها: هذا مقام العائذ، كان من أخيك ومنّي كيت وكيت؛ فقال: والله لو حلّ قتلك لوجدتني سريعا، ففارقها وضرب خيمة على قبر أخيه، وقال: [طويل] هجرتك في طول الحياة وأبتغي ... كلامك لما صرت رمسا وأعظما «1» ذكرت ذنوبا فيك كنت اجترمتها ... أنا منك فيها كنت أسوا وأظلما «2» ولم يزل مقيما حتى مات ودفن بجنب أخيه، فالقبران معروفان. وقال الأخطل: [كامل] المهديات لمن هوين مسبّة ... والمحسنات لمن قلين مقالا «3» يرعين عهدك ما رأينك شاهدا ... وإذا مذلت يكنّ عنك مذالا «4» وإذا وعدنك نائلا أخلفنه ... ووجدت دون عداتهنّ مطالا «5» وإذا دعونك عمّهنّ فإنّه ... نسب يزيدك عندهن خبالا «6» عن يحيى بن طفيل الجشميّ قال: كان عند رجل من قريش امرأة يحبّها، فسافر عنها، فقالت له: أشيّعك، فشيّعته ثلاث مراحل؛ فلما مضى قالت لخادمها: ناولني بعرة وروثة وحصاة، فناولها. فألقت الرّوثة وقالت: راث خبرك «7» ، وألقت البعرة وقالت: وعر سفرك، وألقت الحصاة وقالت: حصّ أثرك «8» ؛ فسمعها رجل على الماء فلحقه، فقال له: ما هذه منك؟ قال:

باب الولادة والولد

امرأتي وأعزّ الناس إليّ؛ فأخبره بالخبر، فقام على الماء، فلما أمسى أقبل نحو منزله فوجد معها رجلا، فقتلهما جميعا. باب الولادة والولد خاصمت أمّ عوف- امرأة أبي الأسود الدؤليّ- أبا الأسود إلى زياد في ولدها منه: قال أبو الأسود: أنا أحقّ بالولد منها، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه. فقالت أمّ عوف: وضعته شهوة ووضعته كرها، وحملته خفّا وحملته ثقلا؛ فقال زياد: صدقت، أنت أحقّ به، فدفعه إليها. أنشدنا الرّياشيّ: [خفيف] غلبت أمّه أباه عليه ... فهو كالكابليّ أشبه خاله «1» وقال آخر: [رجز] والله ما أشبهني عصام ... لا خلق منه ولا قوام نمت وعرق الخال لا ينام وقال بعض بني أسد- والقيافة «2» فيهم-: لا يخطىء الرجل من أبيه خلّة من ثلاث: رأسه، أو صوته، أو مشيته. قيل لرجل: ما أشبه ولدك بك!. قال: من ترك وأهله أشبهه ولده. قال رجل للجمان: ولدت امرأتي لستة أشهر؛ فقال الجمان: كان أبوها ضاربا.

باب الطلاق

عيّرت نوار- امرأة الفرزدق- الفرزدق بأنه لا ولد له؛ فقال الفرزدق: [طويل] وقالت أراه واحدا لا أخا له ... يورّثه في الوارثين الأباعد لعلّك يوما أن تريني كأنّما ... بنيّ حواليّ الأسود الحوارد «1» فإنّ تميما قبل أن يلد الحصى ... أقام زمانا وهو في الناس واحد «2» فولد بعد ذلك ولده: سبطة ولبطة وحبطة وغيرهم. بلغني عن الزّياديّ قال: كنت مئناثا «3» ، فقيل لي: استغفر إذا جامعت، فولد لي بضعة عشر ذكرا. عن ابن عبّاس قال: مرّ عيسى عليه السلام على بقرة قد اعترض ولدها في بطنها؛ فقالت: يا كلمة الله، ادع الله أن يخلّصني؛ فقال: يا خالق النّفس من النفس ويا مخرج النفس من النفس خلّصها؛ فألقت ما في بطنها. فإذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب لها: باسم الله، لا إله إلّا هو الكريم، سبحان الله ربّ العرش العظيم، والحمد لله ربّ العالمين، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها «4» ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «5» الآية. باب الطّلاق قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أبغض الحلال إلى لله الطّلاق» .

الأصمعيّ قال: كان بالمدينة قاض، يقال له: فلان «1» بن المطّلب بن حنطب المخزوميّ قد أدركته (وأمّ المطّلب: أخت مروان بن الحكم) ، خاصمت إليه امرأة زوجها، وكانت قالت: أجعتني وأسأت إليّ، والله ما تستطيع فئران بيتك أن يمشين من الجهد وما يقمن إلّا على الوطن! «2» فقال: أنت طالق إن كنّ ما يقمن إلّا على الوطن، فخبّرته بما قالت وقال؛ فقال ابن المطّلب يطلب له المعاذير: وربّك إنّ الإبل لتكون بالمكان الجديب الخسيس المرعى فتقيم به لحبّ الوطن؛ فقال الزوج حين رآه يحتال لئّلا يفرّق بينهما: كأنما أشكلت عليك، هي طالق عشرين. طلّق رجل امرأة عدد نجوم السماء؛ فقال ابن عبّاس: يكفيه من ذلك هقعة «3» الجوزاء. وطلّق رجل من الأعراب امرأة، وكان له منها ابن يقال له حمّاد، وندم فقال: [بسيط] فديت بالأم حمّادا وقلت له ... أنت ابن ذلفاء منّي فادن يا ولدي «4» لا يقربنّ ثلاثا منكم أحد ... إني وجدت ثلاثا أشأم العدد «5»

وقال عليّ بن منظور (1) : [مجزوء الكامل المرفّل] ما للطلاق فقدته ... وفقدت عاقبة الطّلاق «1» طلّقت خير خليلة ... تحت السموات الطّباق «2» كان الأصمعيّ طلّق امرأة ثم تبعتها نفسه؛ فكتب إليها: [سريع] وهل رأيتم بعدنا مثلنا ... فما رأينا بعدكم مثلكم نصيب من يعجبنا خلوة ... منه ولا نجمع ما عندكم قد اتخذنا بعدكم مبدعا ... لصونكم وليس من شكلكم إن شئتم لم نتخذه وكا ... ن الصون والبذل جميعا لكم وقال أعرابيّ لامرأته: [وافر] تمنّين الطلاق وأنت منّي ... بعيش مثل مشرقة الشّمال «3» وطلّق أعرابيّ امرأته وقال: [مجزوء الكامل المرفّل] رحلت أميمة بالطّلاق ... وعتقت من رقّ الوثاق «4» بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي لو لم أرح بطلاقها ... لأرحت نفسي بالإباق «5» ودواء ما لا تشتهي ... هـ النفس تعجيل الفراق والعيش ليس بطيب بي ... ن اثنين في غير اتفاق كانت لمحمد بن كناس امرأة يبغضها، فمرّ بمصلوب فقال: [طويل]

أيا جذع مصلوب أتى دون صلبه ... ثلاثون حولا كاملا هل تبادل وما أنت بالحمل الذي قد حملته ... بأضجر منّي بالذي أنا حامل وقال آخر «1» : [منسرح] بتّ بخسف في شرّ منزلة ... لا أنا في لذّة ولا فرسي «2» هذا على الخسف لا قضيم له ... وأنا ذا لا يسوغ لي نفسي «3» تجهّزي للطّلاق وارتحلي ... ذاك دواء الجوامح الشّمس» لليلتي حين بنت طالقة ... ألذّ عندي من ليلة العرس «5» عن عيسى بن عمر قال: شكا الفرزدق امرأته، فقال له شيخ من بني مضر كان أسنّ منه: أفلا تكسعها «6» بالمحرجات! (يعني الطلاق) ؛ فقال: قاتلك الله! ما أعلمك من شيخ!. قال خالد بن صفوان: ما بتّ ليلة أحبّ إليّ من ليلة طلّقت فيها نسائي، فأرجع والستور قد هتكت، ومتاع البيت قد نقل، فتبعث إليّ إحداهن بسليلة «7» مع بنتي فيها طعامي، وتبعث لي الأخرى بفراش أنام عليه. قيل لامرأة كانت تطلّق كثيرا: ما بالك تطلّقين؟ قالت: يريدون التّضييق علينا، ضيّق الله عليهم!.

باب العشاق سوى عشاق الشعراء

طلّق رجل امرأته؛ فقيل له: ما صنعت؟ قال: طلّقتها والأرض من ورائها. أي لا أقرب ناحية هي بها. وقال أعرابيّ لامرأته: [متقارب] أنوّهت باسمي في العالمين ... وأفنيت عمري عاما فعاما «1» فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما الأصمعيّ قال: أتى رجل أبا حازم فقال: إنّ الشيطان قد أولع بي يوسوس لي ويحدّثني أني قد طلّقت امرأتي؛ فقال له: وأنا أحدّثك أنك قد طلّقتها، أو ما فعلت؟ فقال: سبحان الله يا أبا حازم! أفتكذّبني وتصدّق الشيطان!. وقال أعرابيّ وقد طلّق امرأته: [طويل] وما أنا إذا فارقت أسماء طائعا ... بخير من السّكران رأيا ولا عقلا وما زال صرف الدهر حتى رأيتني ... أبيت بها ضيفا كأن لم أكن بعلا وقال آخر «2» : [طويل] لئن كان يهدي برد أنيابها العلا ... لأفقر منّي إنّني لفقير لقد كثر الأخبار أن قد تزوّجت ... فهل يأتينّي بالطّلاق بشير باب العشّاق سوى عشّاق الشعراء محمد بن قيس الأسديّ قال: وجّهني عامل المدينة إلى يزيد بن عبد

الملك وهو خليفة فخرجت، فلما قربت المدينة بليلتين أو ثلاث وإذا أنا بامرأة قاعدة على قارعة الطريق، وإذا رجل رأسه في حجرها كلّما سقط رأسه أسندته، فسلّمت فردّت ولم يردّ الشاب؛ ثم تأمّلتني فقالت: يا فتى، هل لك في أجر لا مرزئة فيه؟ قلت: سبحان الله! وما أحبّ الأجر إليّ وإن رزئت فيه!. فقالت: هذا ابني، وكان إلفا لابنة عمّ له تربّيا جميعا، ثم حجبت عنه، فكان يأتي الموضع والخباء، ثم خطبها إلى أبيها فأبى عليه أو يزوّجها؛ ونحن نرى عيبا أن تزوّج المرأة من رجل كان بها مغرما، وقد خطبها ابن عمّ لها وقد زوّجت منذ ثلاث، فهو على ما ترى لا يأكل ولا يشرب ولا يعقل، فلو نزلت إليه فوعظته! فنزلت إليه فوعظته؛ فأقبل عليّ وقال: [وافر] ألا ما للحبيبة لا تعود ... أبخل بالحبية أم صدود «1» مرضت فعادني قومي جميعا ... فما لك لم تري فيمن يعود فقدت حبيبتي فبليت وجدا ... وفقد الإلف يا سكني شديد وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولي من بني عمّي عديد فلو كنت السّقيمة جئت أسعى ... إليك ولم ينهنهني الوعيد «2» قال: ثم سكن عند آخر كلمته؛ فقالت العجوز: فاضت والله نفسه ثلاثا! فدخلني أمر لا يعلمه إلّا الله، فاغتممت وخفت موته لكلامي. فلما رأت العجوز ما بي قالت: هوّن عليك! مات بأجله واستراح ممّا كان فيه، وقدم على ربّ كريم؛ فهل لك في استكمال الأجر؟ هذه أبياتي منك غير بعيدة، تأتيهم فتنهاه إليهم وتسألهم حضورهم؛ فركبت فأتيت أبياتا منها على

قدر ميل، فنعيته إليهم وقد حفظت الشعر، فجعل الرجل يسترجع «1» . فبينما أنا أدور إذا امرأة قد خرجت من خبائها تجرّ رداءها ناشرة شعرها، فقالت: أيّها الناعي، بفيك الكثكث «2» ، بفيك الحجر! من تنعى؟ قلت: فلان بن فلان. فقالت: بالذي أرسل محمدا واصطفاه، هل مات؟ قلت: نعم؛ قالت: فماذا الذي قال قبل موته؟ فأنشدتها الشعر، فو الله ما تنهنهت «3» أن قالت: [وافر] عداني أن أزورك يا حبيبي ... معاشر كلّهم واش حسود «4» أشاعوا ما سمعت من الدّواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد «5» وأمّا (5) إذ ثويت اليوم لحدا ... فدور الناس كلّهم لحود فلا طابت لي الدنيا فواقا ... ولا لهم ولا أثرى العبيد «6» ثم مضت معي ومع القوم تولول حتى انتهينا إليه، فغسّلناه وكفّنّاه وصلّينا عليه، فأكبّت على قبره؛ وخرجت لطيّتي «7» حتى أتيت يزيد بن عبد الملك، وأوصلت إليه الكتاب؛ فسألني عن أمور الناس، قال: هل رأيت في طريقك شيئا؟ قلت: نعم، رأيت والله عجبا، وحدّثته الحديث؛ فاستوى جالسا، ثم قال: لله أنت يا محمد بن قيس! امض الساعة قبل أن تعرف جواب ما قدمت له، حتّى تمرّ بأهل الفتى وبني عمّه، وتمرّ بهم إلى عامل المدينة، وتأمره أن يثبتهم في شرف العطاء، وإن كان أصابها ما أصابه، فافعل ببني عمّها ما

فعلت ببني عمه، ثم ارجع إليّ حتى تخبرني بالخبر، وتأخذ جواب ما قدمت له. فمررت بموضع القبر، فرأيت إلى جانبه قبرا آخر، فسألت عنه فقيل: قبر المرأة، أكبّت على قبره، ولم تذق طعاما ولا شرابا، ولم ترفع عنه إلى ثلاثة أيام إلا ميتة؛ فجمعت بني عمّها وبني عمّه، وأثبتّهم في شرف العطاء جميعا. عن هاشم بن حسّان عن رجل من بني تميم قال: خرجت في طلب ناقة لي، حتى وردت على ماء من مياه طيء، فإذا أنا بعسكرين «1» بينهما دعوة «2» ، فإذا أنا بفتى شابّ وجارية في العسكر، وإذا هو قد سمع نبرة من كلامها وهو مريض، فرفع عقيرته «3» وقال: [وافر] ألا ما للمليحة لا تعود ... أبخل بالمليحة أم صدود فلو كنت المريضة كنت أسعى ... إليك ولم ينهنهني الوعيد فسمعت صوته فخرجت تعدو، فأمسكها النساء، وأبصرها فأقبل ينشد، فأمسكه الرجال، فأفلت وأفلتت، فاعتنقا وخرّا ميّتين؛ فخرج شيخ من تلك الأخبية حتى وقف عليهما. فاسترجع لهما، ثم قال: أما والله لئن كنتما لم تجتمعا حيّين لأجمعنّ بينكما ميّتين. قال: فقلت: من هذا؟ قال: هذا ابن أخي، وهذه ابنتي؛ فدفنهما في قبر واحد.

عن ابن سيرين قال: قال عبد الله بن عجلان «1» صاحب هند «2» التي عشقها وكانت تحبّه فطلّقها: [طويل] ألا إنّ هندا أصبحت لك محرما ... وأصبحت من أدنى حموّتها حما وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه ... يقلّب بالكفّين قوسا وأسهما «3» ومدّ بها صوته ثم مات. قال الأصمعيّ: فيه قال الشاعر: [هزج] إن متّ من الحبّ ... فقد مات ابن عجلان قيل لأعرابيّ من العذريّين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث «4» كما ينماث الملح في الماء! أما تجلّدون؟ «5» فقال: إننا ننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها. وقيل لأعرابيّ: ممّن أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبّوا ماتوا. فقالت جارية سمعته: عذريّ وربّ الكعبة!. عن عبد الملك بن عمير قال: كان أخوان من بني كنّة «6» من ثقيف، أحدهما ذو أهل، والآخر عزب، وكان ذو الأهل إذا غاب خلفه العزب في أهله؛ فغاب غيبة له، فجاء العزب يوما فطلعت عليه امرأة الأخ، وهي لا تعلم

بمكانه، وعليها درع يشفّ «1» ، فسترت وجهها بذراعيها، فوقعت في قلبه، وجعل يذوب حتى صار كأنه خيط؛ فقدم أخوه فقال: يا أخي، مالك؟ قال: لا أدري، واستحيا أن يذكر ما به؛ فانطلق أخوه إلى الحارث بن كلدة طبيب العرب، فوصفه له؛ فقال: احمله إليّ؛ فلما نظر إليه قال: أمّا العينان فصحيحتان، وأما الجسم فذائب، ولا أظن أخاك إلا عاشقا؛ قال: ترى أخي بالموت، وتزعم أنه عاشق! قال: هو ما أقول لك، فاسقه الشراب؛ فسقاه الخمر، فقال الشعر ولم يكن الشعر من شأنه، فقال: [هزج] ألمّا بي إلى الأبيا ... ت بالخيف أزرهنّه «2» غزال ما رأيت اليو ... م في دور بني كنّه غزال أكحل العين ... وفي منطقه غنّه «3» فقال أخوه: والله ما أراه إلّا كما قال، ولكن لا أدري من عنى؛ فسقاه شربة أخرى، فقال: [مجزوء الخفيف] أيّها الحيّ اسلموا ... اسلموا ثمّت اسلموا لا تولّوا وتعرضوا ... وأربعوا «4» كي تكلّموا خرجت مزنة من ال ... بحر ريّا تحمحم «5»

هي ما كنّتي وتز ... عم أنّي لها حم «1» قال: يا أخي هي طالق ثلاثا، فإن شئت فتزوّجها؛ قال: وهي طالق إن تزوّجتها. قال غيره: فلما أفاق ذهب على وجهه حياء ولم يرجع، فهو فقيد ثقيف. عن أبي مسكين قال: خرج أناس من بني حنيفة يتنزّهون إلى جبل لهم، فبصر فتى منهم يقال له عباس بجارية فهويها، وقال لأصحابه: والله لا أنصرف حتى أرسل إليها؛ فطلبوا إليه أن يكفّ وأن ينصرف معهم فأبى، وأقبل يراسل الجارية حتى وقع في نفسها، فأقبل في ليلة إضحيانة «2» متنكّبا «3» قوسه وهي بين إخوتها نائمة، فأيقظها؛ فقالت: انصرف وإلا أيقظت إخوتي فقتلوك! فقال: والله للموت أيسر ممّا أنا فيه، ولكن لله عليّ إن أعطيتيني يدك حتى أضعها على فؤادي أن أنصرف؛ فأمكنته من يدها، فوضعها على فؤاده ثم انصرف؛ فلمّا كان من القابلة أتاها وهي في مثل حالها، فقالت له مثل مقالتها، وردّ عليها وقال: إن أمكنتني من شفتيك أرشفهما انصرفت ثم لا أعود إليك، فأمكنته من شفيتها فرشفهما ثم انصرف؛ فوقع في قلبها منه مثل النار؛ ونذر» به الحيّ، فقالوا: ما لهذا الفاسق في هذا الجبل! انهضوا بنا إليه حتى نخرجه منه؛ فأرسلت إليه: إن القوم يأتونك الليلة فاحذر، فلما أمسى قعد على مرقب «5» ومعه قوسه وأسهمه، وأصاب الحي من آخر النهار

مطر وندى فلهوا عنه؛ فلما كان في آخر اللّيل وذهب السحاب وطلع القمر، خرجت وهي تريده وقد أصابها الطلّ، فنشرت شعرها وأعجبتها نفسها ومعها جارية من الحيّ، فقالت: هل لك في عبّاس؟ فخرجنا تمشيان، ونظر إليهما وهو على المرقب، فظنّ أنهما ممن يطلبه، فرمى بسهم فما أخطأ قلب الجارية ففلقه! وصاحت الأخرى، فانحدر من الجبل وإذا هو بالجارية في دمها؛ فقال: [مجزوء الكامل] نعب الغراب بما كره ... ت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها ... فاصبر وإلّا فانتحر ثم وجأ «1» في أوداجه بمشاقصه «2» ، وجاء الحيّ فوجدوهما مقتولين فدفنوهما!. قال خلّاد الأرقط: سمعت مشايخنا من أهل مكة يذكرون أن القسّ «3» ، وهو مولى لبني مخزوم، كان عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح، وأنه مرّ يوما بسلّامة «4» وهي تغنّي، فوقف يسمع؛ فرآه مولاها فدنا منه فقال: هل لك في أن تدخل وتستمع؟ فأبى، ولم يزل به فقال: أقعدك في موضع لا تراها ولا تراك، ففعل، ثم غنت فأعجبته؛ فقال: هل لك في أن أحوّلها إليك؟ فتأبّى. ثم أجاب، فلم يزل به حتى شغف بها وشغفت به، وعلم ذلك أهل مكة. فقالت له يوما وقد خلوا: أنا والله أحبّك؛ فقال: وأنا

والله أحبّك. قالت: فأنا أحبّ أن أضع فمي على فمك؛ قال: وأنا والله. قالت: وأنا والله أحبّ أن أضع صدري على صدرك؛ قال: وأنا والله. قالت: فما يمنعك؟ والله إن الموضع لخال! فأطرق ساعة، ثم قال: إني سمعت الله يقول: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «1» ، وأنا والله أكره أن تكون خلّة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة؛ ونهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها. وفيه قيل: [طويل] لقد فتنت ريّا وسلّامة القسّا ... ولم تتركا للقسّ عقلا ولا نفسا ومن شعره فيها: [وافر] أهابك أن أقول بذلت نفسي ... ولو أنّي أطيع القلب قالا حياء منك حتى شفّ جسمي ... وشقّ عليّ كتماني وطالا «2» وهو القائل: [كامل] قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيّام فاليوم أرحمهم وأعلم أنّما ... سبل الغواية والهدى أقسام وهو القائل: [طويل] ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا مرحت في صوتها كيف تصنع «3» تمدّ نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل في حلقها فترجّع «4» كتبت منية إلى قابوس: من سنّ سنّة فليرض بأن يحكم عليه بها. ومن سأل مسألة فليرض من العطيّة بقدر بذله. لكلّ عمل ثواب، ولكل فعل

جزاء. ومن بدأ بالظلم كان أظلم. ومن انتصر فقد أنصف. والعفو أقرب إلى العقل. وغير مسيء من أعتب. وغير مذنب من طوّل «1» مع المخض تبدو الزّبدة. عند تناهي البلاء يكون الفرج. كلّ ذي قرح يشتهي دواء قرحه. كلّ مطمع منتظر. كل آت قريب. مع كل فرحة ترحة. من خبث سنخه «2» غلظ كبده ونام حقده. الموت أروح من الهوى. اليأس أوّل سبب الراحة. السّحر أنفذ من الشعر. دواء كل محبّ حبيبه. مع اليوم غد. كما تدين تدان. استشف الله لما بك، واسأله المدافعة عنك. فأجابها: من الكرام تكون الرحمة، ومن اللئام تكون القسوة. من كرم أصله لان قلبه ورقّ وجهه. ومن عاقب بالذنوب ترك الفضل. ومن ترك الفضل أخطأ الحظّ. ومن لم يغفر لم يغفر له. ومن حقد واضطغن اكتسب الأعداء. أولى الناس بالرحمة من احتاج إليها فحرمها. لكل كرب فرج، ولكل عمر ثواب. من أحبّ رقّ لكلّ محبّ. لا داء أدوى «3» من الهوى، ولا أوهن منه لذي القوى. لا ملكة «4» أكرم من ملكة كريم، ولا قدرة ألأم من قدرة لئيم. ملكت فأسجحي «5» : قدرت فاعفي. ويل للشّجيّ من الخليّ «6» . من كان في نعمة لم يدر قدر البليّة. من سها عقله فسد عيشه، ومن فسد عيشه كان الموت راحته. الآمال مبسوطة، والآجال معدودة. والمتوقّع الموت. وحسرة الموت من مات

بغصّة. خير الخير أعجله. من أراد معروفا فلا يتطوّل «1» . الحبّ أثقل محمول. وكتب إليها أيضا: قلّ من حبيب كتاب، وعظم من محبّ مصاب. لكلّ آخر أوّل، مرقاة «2» إلى مرقاة. قد ينمو القليل فيكثر، ويضمحلّ الكثير فيذهب. من طلب وجد. ومن أدمن الاستفتاح فتحت له الأغلاق. أولى الأمور بالنجاح المواظبة. قد يتبع الظّفر البصر، ويتبع البصر التغير والاستثقال، ويتبع الاستثقال الاستبدال؛ ولن يدوم شيء على حال. ولكلّ همّ فرج. والعناء مقرون بالرجاء. قد يستخرج بالكلمة الحيّة، وتنشأ من الحبّة الشجرة. وفي اللقاء شفاء الغليل، وتنفّس الهموم. ارتاد امرؤ قبل حلوله، وتثبّت قبل إقدامه. مع العجلة تكون النّدامة، وفي التثبّت تكون السلامة. العاقل من ابتدأ عملا في غير حينه فبلغ في حين وقته. لا ينال بغير دواء شفاء. الصعب يمكن بعد منع. الرّفق سبب القدرة. الخرق «3» مفتاح الحرمان. من أسرّ «4» أسراره دامت له لذّاته. ربّ أكلة تمنع أكلات، ولقية تصدّ عن لقيات.

أبيات في الغزل حسان

أبيات في الغزل حسان [طويل] يقرّ بعيني أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأبرق المتقاود «1» وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى فقد ملّ السّرى كلّ واحد «2» وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطا بسمّ الأساود «3» قال أبو صخر الهذليّ «4» : [طويل] أما والّذي أبكى وأضحك والّذي ... أمات وأحيا والّذي أمره الأمر لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذّعر فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر ويا حبّها زدني جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيّام موعدك الحشر «5» وصلتك حتى قيل لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قلت ليس له صبر «6» عجبت لسعى الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر «7» إذا ذكرت يرتاح قلبي لذكرها ... كما انتفض الصعفور بلله القطر «8»

هل الوجد إلّا أنّ قلبي لو دنا ... من الجمر قيد الرّمح لاحترق الجمر وقال آخر «1» : [طويل] أيا خلّة النّفس التّي ليس دونها ... لنا من أخلّاء الصفاء خليل ويا من كتمنا حبّه لم يطع به ... عدوّ ولم يؤمن عليه دخيل أما من مقام أشتكي غربة النّوى ... وجور العدا فيه إليك سبيل وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علّاتي فأيش أقول «2» وما كلّ يوم لي بأرضك حاجة ... وما كلّ يوم لي إليك رسول وقال المجنون «3» : [طويل] وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعلّ خيالا منك يلقى خياليا «4» وأخرج من بين الجلوس لعلّني ... أحدّث عنك النفس في السّرّ خاليا وقال أيضا: فأدنيتني حتى إذا ما ملكتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح «5» تجافيت عنّي حين لا لي حيلة ... وخلّفت ما خلّفت بين الجوانح ونحوه قول العبّاس بن الأحنف: [بسيط] أشكو الذي أذاقوني مودّتهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا واستنهضوني فلمّا قمت منتهضا ... من ثقل ما حمّلوني في الهوى قعدوا

وقال بعض المحدثين: [مجتث] من كان يبكي لما بي ... من طول وجد رسيس «1» فالآن قبل وفاتي ... «لا عطر بعد عروس» «2» وقال العبّاس بن جرير من ولد خالد بن عبد الله: [مديد] ظلّت الأحزان تكحلني ... مضضا طالت له سنتي «3» من هوى ظبي كأنّ له ... أربا بالصدّ في ترتي «4» قد حمى عني محاسنه ... وحمى تقبيله شفتي شركت عيناه ظالمة ... في دمي من عظم ما جنت «5» وقال ابن الطّثريّة: [طويل] وإن كنتم ترجون أن يذهب الهوى ... يقينا وتروى بالشراب فننقعا «6» فردوا هبوب الريح أو غيّروا الجوى ... إذا حلّ ألواذ الحشا فتمنّعا «7» تلفّتّ نحو الحيّ حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا «8»

وقال ابن ميّادة «1» : [طويل] بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب ولم يعتذر عذر البريء ولم يزل ... له سكتة حتى يقال مريب وقال عليّ بن الجهم في رقعة أتته بخطّ جارية: [سريع] ما رقعة جاءتك مثنيّة ... كأنّها خدّ على خدّ «2» نبذ سواد في بياض كما ... ذرّ فتيت المسك في الورد «3» ساهمة الأسطر مصروفة ... عن ملح الهزل إلى الجدّ «4» يا كاتبا أسلمني عتبه ... إليه حسبي منك ما عندي وقال جرير: [طويل] أتجمع قلبا بالعراق فريقه ... ومنه بأظلال الأراك فريق «5» أوانس أمّا من أردن عناءه ... فعان ومن أطلقن فهو طليق دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهنّ صديق وقال آخر: [بسيط] لذّان تضنيهما للبين فرقته ... ولا يملّان طول الدّهر ما اجتمعا «6» مستقبلان بساه من شبابهما ... إذا دعا دعوة الدّاعي الهوى شمعا «7»

لا يعجبان لقول النّاس عن عرض ... بل يعجبان لما قالا وما سمعا «1» وقال أعرابيّ: [طويل] وقلن لها سرّا وقيناك لا يقم ... صحيحا فإن لم تقتليه فألممي فأذرت قناعا دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم «2» فراح وما أدري أفي طلعة الضّحى ... يروّح أم داج من الليل مظلم وقال آخر: [بسيط] يا أحسن الناس من قرن إلى قدم ... لم ألق مثلك في حلّ ولا حرم «3» يا من تلبّس حسن الغانيات به ... قد خطّ قبلك فيما خطّ بالقلم وقال ذو الرّمّة «4» : [طويل] وقد كنت أبكي والنّوى مطمئنّة ... بنا وبكم من علم ما البين صانع وأشفق من هجرانك ويشفّني ... مخافة وشك البين والشمل جامع «5» وأهجركم هجر البغيض وحبّكم ... على كبدي منه شؤون صوادع «6» وقال أيضا: [طويل] وقد كنت أخفي حبّ ميّ وذكرها ... رسيس الهوى حتى كأن لا أريدها فما زال يغلوا حبّ ميّة عندنا ... ويزداد حتى لم نجد ما يزيدها

وقال: [طويل] وما زلت أطوي النفس حتى كأنّها ... بذي الرّمث لم تخطر على بال ذاكر «1» حياء وإشفاقا من الركب أن يروا ... دليلا على مستودعات الضمائر وقال آخر: [خفيف] قل لحادي المطيّ روّح قليلا ... نجعل العيس سيرهنّ ذميلا «2» لا تقفها على السبيل ودعها ... يهدها شوق من عليها السّبيلا وقال آخر: [طويل] فإن يرتحل صحبى بجثمان أعظمي ... يقم قلبي المحزون في منزل الرّكب ونحوه: [مجزوء الكامل المرفّل] جسد مقيم في الدّيا ... ر وروحه في الظاعنين وقال آخر: [طويل] لعمر أبي المحضير أيّام نلتقي ... بما لا نلاقيها من الدّهر أكثر يعدّون يوما واحدا إن أتيتها ... وينسون ما كانت من الدهر تهجر وقال حميد بن ثور: [طويل] وقلن لها قومي فديناك فاركبي ... فأومت بلالا غير ما أن تكلّما «3» يهادينها حتى لوت بزمامه ... بنانا كهدّاب الدّمقس ومعصما «4» من البيض عاشت بين أمّ عزيزة ... وبين أب برّ أطاع وأكرما

منعّمة لو يصبح الذرّ ساريا ... على جلدها نضّت مدارجه دما «1» فما ركبت حتى تطاول يومها ... وكانت لها الأيدي إلى الحدب سلّما «2» فجرجر لما كان في الخدر نصفها ... ونصف على دأياته ما تحرّما «3» وما كاد لمّا أن علته يقلّها ... بنهضته حتى اطمأنّ وأعصما «4» وحتى تداعت بالنّقيض جباله ... وهمّت بواني زوره أن تحطّما «5» وأثّر في صمّ الصّفا نفثاته ... ورمّت سليمى أمره ثم صمّما «6» فسبّحن واستهللن لما رأينه ... بها ربذا سهل الأراجيح مرجما «7» من البيض مكسال إذا ما تلبّست ... بحبل امرىء لم ينج منها مسلّما «8» رقود الضّحى لا تقرب الجيرة القصى ... ولا الجيرة الأدنين إلّا تجشّما وليست من اللّاتي يكون حديثها ... أمام بيوت الحيّ إنّ وإنّما وقال قيس بن ذريح «9» : [طويل] تعلّق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنّا نطافا وفي المهد «10»

فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ... فليس وإن متنا بمنفصم العهد «1» ولكنّه باق على كلّ حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللّحد يكاد حباب الماء يخدش جلدها ... إذا اغتسلت بالماء من رقّة الجلد «2» ولو لبست ثوبا من الورد خالصا ... لخدّش منها جلدها ورق الورد يثقّلها لبس الحرير للينها ... وتشكو إلى جاراتها ثقل العقد وأرحم خدّيها إذا ما لحظتها ... حذارا للحظي أن يؤثّر في الخدّ تمّ كتاب النساء، وهو الكتاب العاشر من عيون الأخبار، لابن قتيبة رحمة الله عليه، وتمّ بتمامه كتاب عيون الأخبار. وكتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر ابن محمد بن عليّ الواعظ الجزريّ، في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة. والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خير خلقه ومظهر حقه محمد وآله أجمعين جاء في أوّل الجزء العاشر على ظهر الصفحة الأولى من النسخة الخطية التي نقل عنها الأصل الفتوغرافي ما يأتي: [خفيف] قال لي قائل وقد لاح في فو ... ديّ مستشرقا بياض القتير «3» لم يعاف البياض بيض الغواني ... قلت علمي وأنت عين الخبير ليس كره النساء للشّيب إلّا ... أنه منذر بنوم الأيور روي عن عليّ عليه السّلام أنه سئل عن صفة الجماع فقال: عورات تجتمع وحياء يرتفع، إذا ظهر للعيون كان أشبه شيء بالجنون. الإقامة عليه

هرم، والإفاقة منه ندم؛ ثمرة حلاله الولد، إن عاش أفتن «1» ، وإن مات أحزن: [طويل] إذا لم يكن في منزل المرء حرّة ... مدبّرة ضاعت مروءة داره وقيل: اجتمع جماعة من الشعراء عند عبد الملك بن مروان فتذاكروا بيت نصيب وهو قوله: [طويل] أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... أوكّل بدعد من يهيم بها بعدي فما في القوم إلا من عابه وأزرى على نصيب فيه، فقال عبد الملك: فما كنتم تقولون أنتم؟ فقال واحد منهم: كنت أقول يا أمير المؤمنين: أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي فقال له عبد الملك: أنت أسوأ رأيا من نصيب. فقالوا: فماذا كنت تقول أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أقول: أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي فقالوا: أنت والله أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين.

§1/1