عون الحنان في شرح الأمثال في القرآن

على أحمد عبد العال الطهطاوى

المقدمة

المقدمة بسم الله الرّحمن الرّحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1]. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: أذكرك ونفسى عزيزى القارئ بقول النبى صلى الله عليه وسلم: «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». متفق عليه. 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسى دبر- بعد- كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» (¬1). 3 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه» (¬2). 4 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ عدلت له بربع القرآن، ومن قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عدلت له بثلث القرآن» (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح الجامع برقم 6464. (¬2) صحيح الجامع برقم 6465. (¬3) صحيح الجامع برقم 6466.

5 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس» (¬1). 6 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن قرأ بمائة آية فى ليلة كتب له قنوت ليلة» (¬2). 7 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (¬3). 8 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة (¬4) أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» (¬5). 9 - من قرأ سورة «الكهف» فى يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين (¬6). 9 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عشر مرات بنى الله له بيتا فى الجنة» (¬7). 10 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فكأنما قرأ ثلث القرآن» (¬8). 11 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا سورة البقرة فى بيوتكم (¬9)، فإن الشيطان لا يدخل بيتا يقرأ فيه سورة البقرة» (¬10). أيها القارئ الكريم هل ما زلت معى، كل الأحاديث التى سبقت لم يقل فيها النبى صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا ثم هبوا هذه القراءة للأموات؛ لأن القرآن منا لا يصل للميت، والنبى صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) صحيح الجامع برقم 6467. (¬2) صحيح الجامع برقم 6468. (¬3) صحيح الجامع برقم 6469. (¬4) قال: يوم الجمعة ولم يقول من يوم الجمعة ولم يقول قبل أذان الجمعة، وقال: من قرأ ولم يقول: من سمع أى أن الثواب لمن يقرأها والقراءة لها شروط: فى السر ولا يشوش على أحد، أما قراءة القرآن فى مكبرات الصوت فى المساجد قبل آذان الجمعة فبدعة وضلالة وفى النار، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن له مقرئ يقرأ القرآن قبل أذان الجمعة، فعلى أهل الضلال إن يتقوا الله ويتوبوا إليه. (¬5) صحيح الجامع برقم 6471. (¬6) صحيح الجامع برقم 6470. (¬7) صحيح الجامع برقم 6472. (¬8) صحيح الجامع برقم 6473. (¬9) قال: فى بيوتكم ولم يقول فى المقابر والأموات، يا أهل البدع والضلال يا ويلكم من الله تعالى. (¬10) صحيح الجامع برقم 1170.

لم يقرأ قرآنا للأموات أبدا (وأتحدى) أى مجرم على وجه الأرض أن يثبت لى بحديث صحيح من البخارى ومسلم: أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ووهبه للأموات، وعلى كل ضال مبتدع أن يضع لسانه فى فمه قبل أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالويل كل الويل للسادة العلماء إذا لم يستيقظوا من ثباتهم، ويبينوا للناس أن القرآن شريعة ودستور وقانون. من أجل ذلك عزيزى القارئ الفاضل أقدم لك كتابنا هذا «عون الحنّان فى شرح الأمثال فى القرآن». وجعلته فى ثلاثة فصول: الفصل الأول ويشمل: التمهيد. الفصل الثانى ويشمل: إلزام القرآن للماديين والمليين. الفصل الثالث ويشمل: الأمثال فى القرآن الكريم. واسمح لى عزيزى القارئ أن أحكى لك بعض المهازل والسفالات: 1 - رحل مجرم يدّعى أنه يعرف البخت والخط ويكشف السارق؟!! يأتى بمصحف كبير الحجم ويفتح عند سورة يس، ويضع مفتاح كبير ثم يكتف المصحف بخيط، ثم يضع المفتاح فى طرف سبابته، ثم يأمر أحد الناس بوضع الجانب الثانى للمفتاح فى طرف سبابته وبذلك يكون المصحف معلق بين إصبعى الحمارين البهيمين السافلين ثم يقول الشيخ للمصحف- على مشهد من الجاموس والبقر: أيها المصحف إذا كان فلان الفلانى هو السارق فعليك بالدوران لليمين، وإذا لم يكون هو السارق فعليك بالدوران إلى اليسار. 2 - شيخ- مجرم سفيه ضال مضل- يقوم بعمل (عدّية) يس، وهذه هى الطريقة: يحضر طشت ملئ بالماء ويضع على الماء (ماء ورد) ثم يأتى بلبنه (قالب طوب) أحمر ويشترط أن لا يكون سبق استعماله قبل ذلك، ثم يضعه فى الطشت، ثم يأتى بقماش بفته أبيض ويضع اللبنة فى القماش، ثم يضعه مرة ثانية فى الماء ثم يقرأ سورة (يس) أربعون مرة، ثم ينادى على صاحب المنزل- المسروق- ويقول له: خذ ادفن هذا الميت- ويشير على قالب الطوب- ادفنه ليلا، وقبل طلوع الشمس فإن السارق سوف يدفن مثل هذا؟

كنت أنا حاضرا على سبيل معرفة ما يجرى فى مصر من ضلال- فسألته عن ذلك فقال: إحنا غسّلنا قالب الطوب وكفّناه ودفنّاه، فإن السارق سوف يلحق به؟!! انظر عزيزى القارئ إلى هذه السفالات والضلالات، كل الدول تتقدم للأمام ونحن نتقهقر للخلف ونباهى الأمم أننا حضارة سبعة آلاف سنة، فلسطين محتله وتضرب بجميع أنواع الأسلحة الحديثة والعراق كذلك. ونحن ما زلنا فى سفالات، فهل من مدكر؟ فهل من عالم يتقى الله تعالى وينصح الأمة ويكشف الغمة؟ أين علمائك يا مصر؟!! أيها العلماء أفيقوا: يا من توجهون بالريموت كنترول أفيقوا! يا علماء العصر يا ملح البلد ... كيف يصلح الملح إذا الملح فسد؟ والله إنى أحبكم، وحبى لكم جعلنى أخاف عليكم من يوم التناد، ويوم الوقوف بين يدى الله تعالى، وتسألوا «وعن علمه ماذا عمل به»؟ عزيزى القارئ اقرأ وتدبر ولله الحمد المنة. الشيخ/ على أحمد عبد العال الطهطاوى رئيس جمعية أهل القرآن والسنة

الفصل الأول التمهيد القرآن الكريم وظيفته الأصلية، وكيف يتخذه المسلمون

الفصل الأول التمهيد القرآن الكريم وظيفته الأصلية، وكيف يتخذه المسلمون (¬1) يقولون: إذا كان الحى ينتفع بالقرآن فى حياته الدنيوية، فإن الميت كذلك لا يحرم من الانتفاع بالقرآن فى مماته، بدليل قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82]، فمثلا إذا قرأ إنسان الفاتحة أو آية من سور القرآن على روح ميت له، فهذا جائز، والميت ينتفع به كانتفاع الحى تماما. كما يوردون حديثا نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعون أنه يقول فيه: «خذ من القرآن ما شئت لما شئت»، ويتخذون هذا دليلا لعمل الأحجبة والأدوية لشفاء المرضى، ودليلا على جواز قراءة القرآن على الأموات. ونرد عليهم، فنقول: إن الله تعالى أنزل القرآن للأحياء، ليتخذوه هاديا لهم يهديهم إلى سعادة الدنيا وفلاح الآخرة إن هم آمنوا به، أو ليكون حجة عليهم إن هم ظلوا على باطلهم، كما يقول المولى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ [يس: 70]، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45]، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام: 19]. وقد أخطأ الناس فهم العبارة التى جاءت بالآية الكريمة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82]، فظنوا أو أفهمهم الشيوخ أن الرحمة هنا هى للموتى، كما أفهمهم تجار الأحجبة أن عبارة شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69] فى الآية هى خاصة بشفاء أمراض الأجسام، ولكن هذا التفسير للآية تحريف لمعناها، وإخراج لها عن مواضعها، فإن الرحمة والشفاء فى الآية هى للمؤمنين الأحياء. وفى آية أخرى يقول الله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]، ويقول الشيخ محمد رشيد رضا فى تفسير المنار فى تفسيره لهذه الآية: أى قد جاءكم كتاب جامع لكل ما ¬

_ (¬1) كتاب صراع بين الحق والباطل، وكتابنا الإبداعات فى مضار الابتداعات.

تحتاجون إليه من موعظة حسنة لإصلاح أخلاقكم وأعمالكم الظاهرة، وحكمة بالغة لإصلاح خفايا أنفسكم وشفاء أمراضها الباطنية، وهداية واضحة للصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، ورحمة خاصة للمؤمنين يتراحمون بها فيما بينهم. فمن هذا التفسير نعرف أن الآية خاصة بالأحياء، وليس للموتى نصيب فيها. ثم نرد أن نسأل هؤلاء: هل الآيات التى تأمرنا بتأدية الصلاة والزكاة والصوم، وتشرح لنا أصول مناسك الحج تنفع الميت بشيء؟ هل الآيات التى تبين لنا أحكام الوصية عند الموت، والتى تبين لنا المباحات والمحرمات من النساء فى الزواج، والتى تبين لنا أحكام الطلاق تفيد الميت بشيء؟ هل الآيات التى تتحدث عن عاقبة المفسدين والمنحرفين عن سبيل الله تفيد الميت بشيء؟ هل الآيات التى تبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة، وتبين مكانهم من نعيم الله، تفيد الميت بشيء؟ هل الآيات التى تخبرنا بقصص أقوام نوح، وعاد، وثمود، وكفار قريش، وهلاك أولئك الأقوام، وجاءت تحذرنا من اتباع سبل الانحراف والغواية التى سلكها هؤلاء الأقوام حتى استحقوا غضب الله ولعنته مثلهم، هل هذه الآيات تنفع الميت بشيء؟ هل الآيات التى تأمرنا بالإصلاح والتعاون والتآخى، وتحثنا على الصبر والجهاد فى سبيل الله تنفع الميت بشيء؟ بالطبع كل هذه الآيات وما حملت إلينا من معان وأحكام وعظات وإنذار لا تنفع الميت بشيء، ولو كتبت بماء الذهب على صحائف من ذهب وعلقت على قبر الميت. معنى سورة الفاتحة: وسورة الفاتحة شأنها شأن سور القرآن، لا تنفع الميت بشيء، وإلى القارئ الدليل على هذا من كتب السنة: روى مسلم، عن أبى هريرة، رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فصلاته خداج، خداج، خداج، غير تام»، فقيل لأبى هريرة: إنما نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها فى نفسك، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين، ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، قال الله تعالى: حمدنى عبدى، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قال تعالى: أثنى علىّ عبدى، وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قال الله تعالى: مجدنى عبدى، وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال الله تعالى: هذه بينى وبين عبدى، ولعبدى ما سأل ... » إلخ الحديث.

ومن هذا الحديث نفهم أن الفاتحة هى مناجاة بين الله وبين عبده، وليس للميت فيها شىء تفيده أو تضره. الميت لا ينفعه إلا عمله: أما الذى يفيد الميت وينفعه، هو أعماله وسعيه فى الدنيا، وذلك كما يقول المولى جل شأنه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم: 39 - 41]، كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران: 30]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]. فهذه كلها نصوص تشهد بأن الميت لن ينتفع إلا بعمله وسعيه فى الدنيا؛ لأنها دار عمل، وبموته انقطع عمله، وليس له من عمل سوى ما بينه حديث النبى صلى الله عليه وسلم. سوء استعمال القرآن: ولقد أساء كثير من المسلمين استعمال آيات القرآن، فهم يستأجرون المشايخ ليقرءونه فى المآتم، وعلى قبور الموتى؛ لجلب الرحمة والغفران لهم، ويضعون القرآن فى بيوتهم فى مجلد فاخر ليحفظ البيت من العفاريت، أو شبح الفقر، أو ليدفع عن العائلة شر الحاسدين، أو يعلقونه على أبواب المحلات التجارية أو الصناعية، أو بسيارتهم بقصد جلب الرزق ودفع الكساد عنهم، ويعلقونه فى شكل حجاب بجسم المريض ليشفيه، أو بجسم طفل وحيد أبويه ليحفظه من المرض، أو من عيون الحاسدين، أو ليطيل عمره؛ لأن من سبقوه من إخوته ماتوا أطفالا. على هذا النحو السيئ يستعمل أكثر المسلمين آيات القرآن الكريم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، مع أن الإسلام ينكر هذه العادات الذميمة، ويأمر بتركها، كما جاء فى كثير من الأحاديث النبوية. حديث: «خذ من القرآن ما شئت لما شئت»: أما هذا الحديث، فلا أصل له، وهو مبتدع، حتى أنه لم يرد له ذكر فى كتب المحققين الذين بينوا لنا الأحاديث الصحيحة والمكذوبة والموضوعة، ويكفى هذا دليلا دامغا قويّا على أن هذا الكلام المنسوب لرسولنا صلى الله عليه وسلم ابتدعه تجار القرآن؛ ليكون لهم مورد رزق ومصدر عيش؛ لأنهم وجدوا فى هذا العمل حياة سهلة وناعمة، لا عمل فيها، ولا جهد، ولا عرق.

انتفاع الموتى بقراءة القرآن

انتفاع الموتى بقراءة القرآن (¬1) يقرأ كثير من الناس القرآن ثم يهبه للميت، فهل ينفعه ذلك؟ آيات وأحاديث: تعرف هذه المسألة بمسألة إهداء ثواب العبادة للموتى، وقد اختلفت فيها آراء العلماء، ومنشأ الاختلاف أنه وجد فى القرآن آيات تبين سنة الله فى الثواب والعقاب، وفى تبديل السيئات بالحسنات، ووجدت أحاديث صحيحة صريحة فى أن الوالدين ينتفعان بصدقة ولدهما، أو صومه، أو حجه عنهما؛ فمن الآيات قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286]، وقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9، 10]، وقوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70]، وقوله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النجم: 33]، فهذه الآيات ونحوها ظاهرة فى أن الإنسان لا ينتفع إلا بسعيه وعمله الذى يزكى نفسه بالنية الطيبة والإخلاص لله. أما الأحاديث التى وردت فى الموضوع، فكلها تدور حول الجواب عن سؤال واحد، هو: هل ينتفع أبى وأمى إذا صمت أو تصدقت أو حججت عنهما؟ وكان الجواب: نعم ينفعه ذلك. اختلاف العلماء: وأمام هذه الآيات وتلك الأحاديث اختلفت آراء العلماء، فرأى فريق أن الآيات مقدمة فى العمل على الأحاديث، والأحاديث ليس لها قوة الحكم على الآيات، وبذلك قرروا أن الإنسان لا ينتفع بعمل غيره أيّا كان ذلك العمل، وكيفما كان ذلك الغير. ورأى فريق آخر أن الأحاديث صريحة فى انتفاع الوالدين بصدقة ولدهما أو حجه أو صومه عنهما، ثم قالوا: لا فرق بين الولد وغيره، وبذلك قرروا أن الإنسان ينتفع بعد موته بعمل غيره متى أهدى ثوابه إليه، وإن لم يكن من ولده، وقالوا: إن الثواب ملك للعامل، فله أن يتبرع به ويهديه إلى أخيه المسلم، ثم خرج هؤلاء الآيات تخريجا أوهن من موقفهم أمام المانعين، وكذلك كان موقفهم فى قياس غير الولد الذى لم يرد به نص، على الولد الذى ورد به نص مع وجود الفارق بينهما. أما الدعاء فهو عبادة مستقلة، ثوابها للداعى فقط، والمدعو له إنما ينتفع بالاستجابة إذا حصلت، والاستجابة ليست أثرا لإهداء الداعى ثواب دعائه للميت، وإنما هى شأن ¬

_ (¬1) الفتاوى للشيخ محمود شلتوت.

بدع حول القرآن

خاص بالله للأحياء والأموات، أما القول بملكية الثواب للعامل، فواضح أنه ليس ملكا بالمعنى المتعارف فى متاع الدنيا لصاحبه نقله وتحويله، فهو توجيه فاسد، وبهذا يتبين أن إطلاق القول بجواز إهداء ثواب العمل، أيا كان من العامل وكيفما كان، لا تنهض له حجة، ولا يستقيم له دليل. ولد الإنسان من سعيه: والرأى الذى أراه هو أن الآيات محكمة فى معناها، وأنها من شرع الله العام الذى لا يختص بقوم دون قوم، وأن الأحاديث الصحيحة التى أشرنا إليها خاصة بعمل الأبناء يهدون ثوابه للآباء، وقد صح فى الحديث أن ولد الإنسان من سعيه، وعمله من عمله، وبذلك كان انتفاع الوالدين بعمل ولدهما، وإهداء ثوابه إليهما مما تتناوله الآيات. أما ما جرت به العادات من قراءة الأجانب القرآن، وإهداء ثوابها للأموات، والاستئجار على القراءة والحج، وإسقاط الصلاة والصوم، فكل ذلك ليس له مستند شرعى سليم، وهو فوق ذلك يقوم على النيابة فى العبادات التى لم تشرع إلا لتهذيب النفوس، وتبديل سيئاتها حسنات، وهذا لا يكون إلا عن طريق العمل الشخصى، كيف وقد صرح الجميع بأن ما اعتاده الناس من ذلك شىء حدث بعد عهد السلف، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه عمل وأهدى لغير الوالدين، مع ظهور رغبتهم فى عمل الخير، ومحبتهم لإخوانهم الأحياء والأموات؟ والجدير بالمسلم أن يقف فى عبادته وفى شئون الثواب ومحو السيئات عند الحد الذى ورد، فبحسنات الإنسان تذهب سيئاته، وبتقواه تغفر ذنوبه، ولا شأن للإنسان فى الثواب يحوله، ولا فى السيئات يمحوها. بدع حول القرآن (¬1) فى أكثر من رسالة من الرسائل التى تلقيتها يسأل المواطنون من القراء عن حقيقة الأمر فى التداوى ببعض آيات القرآن الكريم أو الرقى بها، كما يسألون أيضا عن رقية المريض ببعض العبارات الخاصة المعتادة، وعن حكم الدين فى قراءة القرآن فى الطرقات العامة بقصد الارتزاق، مما نراه ونشاهده فى كثير من المدن والقرى، وما هو الرأى الصحيح فى قراءة القرآن على المقابر؟ وما الرأى فيما يذكر خاصا بفضل سور القرآن أو بعضها؟ ¬

_ (¬1) الفتاوى للشيخ محمود شلتوت.

الغاية من إنزال القرآن

تلك خلاصة جملة من الرسائل أعرب مرسلوها عن رغبتهم فى الإجابة على ما يسألون، وهى كلها تدور حول هذا المعنى. الغاية من إنزال القرآن (¬1) ليس من شك فى أن القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لغرض هو أسمى الأغراض وأنبلها، وهو هداية الناس إلى الحق عن طريقه، وإخراجهم مما هم فيه من الظلمات إلى النور، أنزله الله ليطهر القلوب من رجس الخضوع لغيره، ويرشد الناس إلى العقائد الصحيحة، وإلى العلوم النافعة، وإلى الأخلاق الفاضلة التى تحفظهم وتحفظ المجتمع من مزالق الهوى والشهوة، وأنزله أيضا ليرشد الناس إلى الأعمال الصالحة التى تسمو بالفرد والمجتمع إلى مكانة العزة والكرامة، وقد أرشد القرآن نفسه إلى هذه الغاية أو الغايات فى كثير من الآيات، فقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16]، وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]. وبذلك كان القرآن شافيا لأمراض القلب التى تفسد على الإنسان حياته، وأمراض الصدور جهل بالحق، وشبهة تضعف الإيمان، وشهوة تغرى بالفساد، وقد تضمن القرآن الكريم بنصوصه وإرشاداته ما يعالج البشرية من جهلها وشبهها وشهواتها. ولم يختلف المسلمون الأولون فى هذه الحقيقة، بل آمنوا بها وحددوا الغاية التى لأجلها نزل القرآن، فأقبلوا على حفظه ودرسه، يستخرجون نفائسه، ويتعرفون أحكامه، ثم أخذوا يعالجون به القلوب من رجس العقائد الباطلة، والأخلاق الفاسدة، ويدفعون به المجتمع إلى سبل الخير والفلاح. ومن هذا نعلم ما كان للقرآن الكريم من أثر وتوجيه فى حياة المسلمين الأولين، بيد أن المسلمين بعد ذلك ما لبثوا أن انحرفوا بالقرآن عما أنزل لأجله، واستخدم لأغراض لا تمت بأوهى الأسباب إليه، ولا هى مما ينبغى أن تستخدم أو تتخذ طريقا إليه. انحراف بالقرآن عن وجهته: انحرف المسلمون المتأخرون بالقرآن الكريم إلى جهة ¬

_ (¬1) الفتاوى للشيخ محمود شلتوت.

أخرى لم يتجه بها أحد من المسلمين الأولين، والسبب فى هذا الانحراف هو ما منى به العلماء من التعصب المذهبى، إذ حملهم هذا على الاكتفاء بما وصل إلى أيديهم من ترك السابقين، وقالوا: إن السابقين كفونا مئونة البحث فى آى الذكر الحكيم استنباطا لحكم شرعى، أو تفسيرا لآية، وجعلوا بينهم وبين النظر فى الكتاب حجابا كثيفا من التقليد والتعصب للمجتهدين السابقين، اعتزازا بفضلهم، وتابعهم المسلمون فى فهمهم، واتجهوا بالقرآن الكريم وجهة أخرى، حتى إننا نرى المسلمين اليوم، إلا من عصمه الله وقليل ما هم، هجروا القرآن الكريم ككتاب هداية وإرشاد، وشاعت بينهم فكرة تقديسه من جهات أخرى هى: جهة التداوى به من أمراض الأبدان، وجهة استمطار الرحمة بقراءته على أرواح الموتى، وجهة تسول الفقراء به واستغلال عاطفة الإيمان عن طريقه، هذه البدع الثلاث، أو المنكرات الثلاثة، كانت أثرا لهجر المسلمين كتاب الله من الجهة التى أنزل لأجلها، وكانت فى الوقت نفسه عنوانا سيئا على إيمان المسلمين من حيث لا يشعرون بمكانة تلك المعجزة الخالدة، التى جعلها الله سبيلا لإنقاذ البشرية من الأوهام والخرافات، وكانت مع هذا وذاك عنوانا على الجهل بنظام الأسباب والمسببات، الذى نظم الله عليه العالم، وهدى الناس إلى السير فى سبيله: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50]، يجعل الله القرآن سبيلا لإنقاذ البشرية من الأوهام والخرافات، ويعكس نفر من المسلمين القضية، فيجعلونه سبيلا من سبل الأوهام، وعنوانا على الجهل بأسرار الله ونظام الله. الدين والعقل لا يقران هذا الانحراف: وإن تعجب فعجب أن تكتب الآية القرآنية الحكيمة فى إناء ثم تمحى بالماء، ثم يؤمر المريض بشربه، أو تكتب قطع صغيرة من الورق، ثم تلف كالبرشام، ويؤمر المريض بابتلاعها، أو تحرق تلك القطع ويبخر المريض بها على مرات، أو توضع فى خرقة وتعلق حجابا فى مكان معين من جسم المريض، وبهذا ونحوه اتخذ الدجالون القرآن الكريم وسيلة لكسب العيش من طريق يأباه الإيمان، ويصدقه كثير من المسلمين. وذلك فضلا عن أنه انحراف بالقرآن عما أنزل لأجله، فإن فيه إفسادا للعقول الضعيفة، وصرفا لأربابها عن طريق العلاج الصحيح، وتغييرا لسنة الله فى الأسباب والمسببات، واحتيالا على أكل أموال الناس بالباطل، وهذا تصرف لا يقره دين ولا يرضى به عقل سليم، فإذا تركنا هؤلاء الدجالين يعبثون فى القرى والمدن بالقرآن

وبالعقول الضعيفة على هذا النحو، وسرت فى شوارع القاهرة أو غيرها من المدن، فإنك ترى المتسولين وقد جلس أحدهم، رجلا أو امرأة، فى ملتقى الطرقات، أو مواقف المواصلات، أو على أبواب المساجد والأضرحة، يقرأ القرآن، باسطا كفه للغادين والرائحين بقصد التسول، ترى هذا المنظر المفجع بين الأحياء، فإذا ما ذهبت إلى المقابر رأيت ما هو أدهى وأمر، رأيت الفقراء من حملة القرآن يتسابقون إلى المقبرة، وقد اندسوا بين أفواج الزائرين والزائرات، يساومونهم على مقدار ما يقرءون، ومقدار ما يأخذون ثمنا لما يقرءون. وفى هذه المشاهد كلها لا تسمع قرآنا، وإنما تسمع هذرمة فى القراءة، وإخلالا بواجبها، وإخراجا للقرآن ذى الروعة والجمال إلى ذلك المنظر المزرى الذى يفزّز النفوس، ويجرح الصدور، ويبعده فى نظر السامعين عن أن يكون طريق الهداية والإرشاد من رب العالمين. القرآن ودواء الأمراض البدنية: إن الأمراض البدنية قد خلق الله لها عقاقير طبية فيها خاصة الشفاء، وأرشد إلى البحث عنها والتداوى بها، وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل على مريض يعوده، فلما رآه طلب من أهله أن يرسلوا إلى طبيب، فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: «نعم، إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء»، فعل النبى صلى الله عليه وسلم ذلك إرشادا لأمته إلى أن التداوى من الأمراض البدنية من طريق الطب البشرى الذى يعرف الدواء، أما القرآن فلم ينزله الله دواء لأمراض الأبدان، وإنما أنزله كما قال: دواء لأمراض القلوب وشفاء لما فى الصدور. وإذا كانت أمراض الأبدان أمراضا مادية، وشفاؤها بأدوية مادية، فأمراض القلوب أمراض معنوية، وشفاؤها بأدوية معنوية، والقرآن قد عالج مرض الجهل بالعلم، ومرض الشبهة بالبرهان، ومرض الشهوة بالحكمة، وما التداوى فى الأمراض البدنية بالقرآن إلا كقراءة الختمات للنصر على الأعداء فى ميدان القتال، وإلا كقراءة ما يسميه العامة عدية ياسين تحصيلا للرغبات، كلاهما وضع للعلاج المعنوى مكان العلاج المادى، وكلاهما قلب لنظام الله تعالى فى خلقه، وعروج بالقرآن الكريم عما أنزل لأجله. القراءة على الموتى (¬1): أما استمطار الرحمة على الموتى، فإنه لا يكون إلا بعمل مشروع، كالدعاء، والصدقة، بشرط أن يكون خالصا لوجه الله الكريم، أما ما لم يشرعه ¬

_ (¬1) الفتاوى للشيخ محمود شلتوت.

الله ولم يأذن به أو شرعه، ولكن فعله الإنسان بأجر يأخذه من أخيه الإنسان، فثوابه هو ذلك الأجر، ولا ثواب له عند الله، وإذا لم يكن للقراءة ثواب عند الله لا للقارئ؛ لأنه أخذ أجره ممن استأجره، ولا للمستاجر؛ لأنه لم يقرأ شيئا، فأى شىء يصل من هذه القراءة إلى الموتى؟ إن رحمة الله للموتى شأن من شئونه الغيبية استأثر بها، ومنه وحده تعرف سبلها، وقد بين تلك السبل فى كتابه الكريم، وكل ما يفعله المرء من تلقاء نفسه فى هذا الشأن هجوم منه على الغيب وتقول على الله بغير علم، وتحكم فيما لا يحكم فيه إلا الله. التسول بالقرآن: وإذا كان التسول بالوضع الذى نراه اليوم يمقته فى ذاته الشرع والدين، وتأباه الكرامة والخلق، ولا ترضاه لنفسها أمة تريد المجد، فما بالنا به إذا اتخذ القرآن الكريم وسيلة له، واعتراض به المارة فى الطرقات، والمصلين فى المساجد، والراكبين فى السيارات والقطارات. علينا أن نبذل قصارى جهدنا فى صيانة كتاب الله عن الابتذال، وأن نوجه الناس إلى جهة الانتفاع بالقرآن الكريم، وإلى ما يحفظ كرامتنا بين الأمم عن طريق الأسباب التى وضعها سبيلا للمجد والكرامة. فضل بعض السور: أما ما جاء عن فضل سور القرآن وتلاوتها، من درجات الثواب التى يحصل عليها قارئ هذه السورة أو تلك، مما رددته بعض كتب التفاسير، فالواقع أنى فى قراءتى لهذه التفاسير انتهيت إلى أن ما جاء فى ذلك من أحاديث إنما قصد به التناسب بينها وبين ما احتوت عليه هذه السورة أو السور، واعترانى شك من جهة أن سور القرآن البالغ عددها (114) سورة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن كل سورة منها بما يناسبها، والذى نعلمه أن الرسول ما كان يرتب الثواب على مجرد القراءة، وإنما كان يرتبه على الإيمان والعمل الصالح. والمسألة ليست مسألة مجرد قراءة فحسب، ولعلك تدرى الحكمة القائلة: كم من قارئ يقرأ القرآن والقرآن يلعنه. وقد دفعنى ما وقعت فيه من شك أن أبحث عن أصل الأحاديث، فوجدت أنها ترجع إلى أصل واحد، وأن الذى تحث بها وتكلم بها رجل يسمى نوح ابن مريم، وقد سئل فى هذا، فقال: إنى وجدت الناس قد شغلوا بتاريخ ابن إسحاق، وفقه أبى حنيفة عن القرآن، فأحببت أن ألفتهم إلى القرآن، فوضعت هذه الأحاديث، حسبة لله. الرّقية دعاء لا دواء: أما الرقى بالأدعية، فإنها تفسر على نوع من الدعاء، ولكنها لا تقبل على أنها دواء للمريض من الداء، فللأدواء علاجها مما خلق الله من العقاقير.

وجوب طاعة الله وطاعة رسوله، ووعيد المخالفين

بعد هذا البيان لا يسعنى إلا أن أدعو المسلمين إلى أن ينظروا للقرآن النظرة اللائقة بمكانته، وأن يضعوه فى المرتبة السامية التى وضعه فيها المسلمون الأولون، وأن يمحوا من أذهانهم أن آياته نزلت لدواء الأبدان، أو لشفاء العلل، وإنما هو هدى ورحمة وتشريع، وتنوير للبصائر، وسمو بالإنسانية، وتقويض للشرك، وهدم للباطل، ونصرة للحق، والله يهدينا سواء السبيل. وجوب طاعة الله وطاعة رسوله، ووعيد المخالفين وطاعة الله فى اتباع كتابه، وطاعة الرسول فى اتباع سنته، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]. وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 64، 65]. وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ [النساء: 13، 14]. وقال جل علاه: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً [الأحزاب: 36]. وقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الجن: 23]. وقال: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء: 115]. وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: 5].

الأمر بتدبر وتفهم القرآن

وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [المجادلة: 20]. وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 71]. وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النور: 52]. وقال: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54]. وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً [الفتح: 17]. وقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [التغابن: 12]. وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد: 33]. وقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الحشر: 7]. الأمر بتدبر وتفهم القرآن حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [فصلت: 1 - 4]. وقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29]. وقال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (¬1) [القمر: 17]. وقال: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: 49، 51]. وقال: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ [الجمعة: 5]. ¬

_ (¬1) أى يسرنا لفظه ومعناه فهل من متذكر منزجر به.

وعيد المعرضين عن القرآن

وقال: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: 179]. وقال لنبيه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ (¬1) وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (¬2) [فصلت: 44]. وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]. وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ (¬3) عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24]. وقال: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (¬4) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً (¬5) تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 66 - 68]. وعيد المعرضين عن القرآن قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه: 124 - 126]. وقال: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا [طه: 99 - 101]. وقال: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ (¬6) نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36]. ¬

_ (¬1) الوقر: الثقل فى الأذن. (¬2) أى كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون منه ما يقوله لهم «كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون». (¬3) أم: بمعنى بل، أى بل على قلوب أقفالها فهى مطبقة لا يصل إليها شىء من معانى. (¬4) النكوص: الإحجام عن الشيء والرجوع. (¬5) أى تسامرون ويقولون القول الفاحش فى النبى صلى الله عليه وسلم. (¬6) الإعشاء: عدم الإبصار بالنهار.

فضائل قراءة القرآن وفضائل بعض سورة وآياته

وقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الكهف: 57]. وقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22]. وقال: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الجن: 17]. فضائل قراءة القرآن وفضائل بعض سوره وآياته عن أبى أمامة، رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتى يوم القيامة شفيعا لأصحابه» رواه مسلم، رحمه الله. وعن النواس بن سمعان، رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به فى الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما» رواه مسلم. وعن عثمان بن عفان، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» رواه البخارى. وعن عائشة، رضى الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة (¬1) الكرام البررة، والذى يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» متفق عليه. وعن أبى موسى الأشعرى، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن مثل الأترجة (¬2) ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذى لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذى يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذى لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر» متفق عليه. وعن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما وو يضع به آخرين» رواه مسلم. ¬

_ (¬1) السفرة الملائكة، والبررة أى أخلاقهم حسنة وأفعالهم بارة. (¬2) الأترجة: فاكهة.

وعن ابن عمر، رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء (¬1) الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» متفق عليه. وعن البراء بن عازب، رضى الله عنه، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة بشطنين (¬2) فتغشته سحابة، فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبى صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: «تلك السكينة تنزلت للقرآن» متفق عليه. وعن ابن مسعود، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» رواه الترمذى، وقال: حديث حسن صحيح. وعن ابن عباس، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الذى ليس فى جوفه شىء من القرآن كالبيت الخرب» رواه الترمذى، وقال: حديث حسن صحيح. وعن عمرو بن العاص، رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أبو داود والترمذى، وقال: حسن صحيح. وعن أبى سعيد رافع بن المعلى، رضى الله عنه، قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك أعظم سورة فى القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟»، فأخذ بيدى، فلما أراد أن يخرج قلت: يا رسول الله، إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة فى القرآن، قال: «الحمد لله رب العالمين هى السبع المثانى والقرآن العظيم الذى أوتيته» رواه البخارى، رحمه الله. وعن أبى سعيد الخدرى، رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فى قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ: «والذى نفسى بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن». وفى رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن فى ليلة؟»، فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ثلث القرآن» رواه البخارى. وعنه أن رجلا سمع رجلا يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى ¬

_ (¬1) آناء: ساعات. (¬2) الشطن: الحبل.

بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» رواه البخارى. وعن أنس، رضى الله عنه، أن رجلا قال: يا رسول الله، إنى أحب هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قال: «إن حبها أدخلك الجنة». وعن عقبة بن عامر، رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق: 1]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» [الناس: 1] رواه مسلم. وعن أبى سعيد الخدرى، رضى الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلت أخذ بهما وترك ما سواهما. رواه الترمذى، وقال: حديث حسن. وعن أبى هريرة، رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1]» رواه أبو داود، والترمذى، وقال: حديث حسن. وفى رواية أبى داود «تشفع». وعن أبى مسعود البدرى، رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه» (¬1) متفق عليه. وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذى يقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم. وعن أبى بن كعب، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر، أتدري أى آية من كتاب الله معك أعظم؟»، قلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255]، فضرب فى صدرى، وقال: «ليهنك العلم أبا المنذر» رواه مسلم، وفى البخارى فى حديث آخر طويل: «من قرأ آية الكرسى عند نومه لم يقربه شيطان». وعن أبى الدرداء، رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال». وفى رواية: «من آخر سورة الكهف» رواه مسلم. وعن ابن عباس، رضى الله عنهما، قال: بينما جبريل، عليه السلام، قاعد عند النبى صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح ¬

_ (¬1) كفتاه ما أهمه.

قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين لم يؤتهما نبى من قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته» الحديث رواه مسلم فى صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة. وروى الحاكم فى المستدرك بإسناد صحيح، عن معقل بن يسار، رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا بالقرآن، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم فردوه إلى الله وإلى أولى العلم من بعدى كيما يخبروكم، وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور، وما أوتى النبيون من ربهم وليسلم القرآن وما فيه من البيان، فإنه أول شافع مشفع، وما حل (¬1) مصدق، وإنى أعطيت سورة البقرة من الذكر الاول (¬2) وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش». وروى الدرامي والترمذى، رحمه الله، عن أنس، رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لكل شىء قلبا، وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» ورمز فى الجامع لضعفه، وصححه شارحه، وقال الشوكانى فى التحفة: قال الترمذى: هذا حديث غريب. وأخرج النسائى، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، رحمهم الله، عن معقل بن يسار، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قلب القرآن يس، لا يقرأها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، اقرءوها على موتاكم» أى من حضر الموت. قال فى التحفة: وصححه ابن حبان والحاكم. وأخرج ابن حبان وابن السنى، عن جندب، رضى الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ يس فى ليلة القدر ابتغاء وجه الله غفر له»، وأخرجه الطبرانى، عن أبى هريرة، وفى إسناده غالب بن تميم، وهو ضعيف. وأما حديث: «من داوم على قراءة يس فى كل ليلة، ثم مات، مات شهيدا»، ففي إسناده سعيد بن موسى الأزدى، وهو كذاب. وروى البخارى، عن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أنزلت علىّ الليلة سورة لهى أحب إلى مما طلعت عليه الشمس»، ثم قرأ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1]. ¬

_ (¬1) أى خصم مجادل مصدق. أ. هـ نهاية. (¬2) وهو الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين.

وروى الترمذى، والحاكم، عن ابن عباس، رضى الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الزلزلة: 1] تعدل نصف القرآن، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ثلث القرآن، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] تعدل ربع القرآن» وصححه فى الجامع وشرحه، ولكن قال فى التحفة: قال الترمذى بعد إخراجه: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة الذى هو العنزى. قال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. وقال البخارى: منكر الحديث. وضعفه أبو زرعة، والدارقطنى. وقال ابن عدى: لا أرى به بأسا، فالعجب من الحاكم حيث صحح حديثه أ. هـ. وأخرج الحاكم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية فى كل يوم؟»، قالوا: ومن يستطيع ذلك؟ قال: «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» [التكاثر: 1]. أخرجه الحاكم، عن عقبة بن محمد، عن نافع عن ابن عمر. قال المنذرى: ورجال إسناده ثقات، إلا أن عقبة لا أعرفه. وعن أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: «هل تزوجت يا فلان؟»، قال: لا، والله يا رسول الله ما عندى ما أتزوج به، قال: «أليس معك قُلْ هُوَ اللَّهُ؟» قال: بلى، قال: «ثلث القرآن»، قال: «أليس معك إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟» [النصر: 1]، قال: بلى، قال: «ربع القرآن»، قال: «أليس معك: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ؟» [الكافرون: 1]، قال: بلى، قال: «ربع القرآن»، قال: «أليس معك إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ؟» [الزلزلة: 1]، قال: بلى، قال: «ربع القرآن، تزوج، تزوج» أى بما معك من القرآن». قال فى تحفة الذاكرين: قال الترمذى بعد إخراجه: هذا حديث حسن، وقد تكلم فى هذا الحديث مسلم فى كتاب التمييز، وهو من رواية سلمة بن وردان، عن أنس. قال أبو حاتم: ليس بقوى، عامة ما عنده عن أنس منكر. وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بذاك. أ. هـ. وفى الجامع وصححه: «من قرأ فى ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين». وفى الدرامى: «من قرأ مائتى آية فى ليلة كتب من القانتين»، و «من قرأ فى ليلة ثلاثمائة آية كتب له قنطار»، و «من قرأ ألف آية كتب له قنطار من الأجر، والقيراط من ذلك القنطار لا يفى به دنياكم». وفى رواية: «والقيراط من القنطار خير من الدنيا وما فيها واكتسب من الأجر ما شاء الله»، وهذه الأحاديث، وإن كان فيها مقال، فهى داخلة تحت عموم حديث: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها ... » الحديث، والقرآن كلام الله وفضائله لا تحصى.

تحزيب القرآن

تحزيب القرآن قال فى المغنى: يستحب أن يقرأ القرآن فى كل سبعة أيام ليكون له ختمة فى كل أسبوع. قال عبد الله بن أحمد: كان أبى يختم القرآن فى النهار فى كل سبعة، يقرأ فى كل يوم سبعا لا يتركه نظرا. وقال حنبل: كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة، وذلك ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمر: «اقرأ القرآن فى سبع، ولا تزيدن على ذلك» رواه أبو داود. وعن أوس بن حذيفة، قال: قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أبطأت عنا الليلة، قال: «إنه طرأ علىّ حزبى من القرآن، فكرهت أن أخرج حتى أتمه». قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث (¬1)، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده. رواه أبو داود. ويكره أن يؤخر القرآن أكثر من أربعين يوما؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم سأله عبد الله بن عمرو: كم تختم القرآن؟ قال: «فى أربعين يوما»، ثم قال: «فى شهر»، ثم قال: «فى عشرين يوما»، ثم قال: «فى خمس عشرة»، ثم قال: «فى عشر»، ثم قال: «فى سبع»، لم ينزل من سبع (¬2) أخرجه أبو داود. قال أحمد: أكثر ما سمعت أن يختم القرآن فى أربعين، ولأن تأخيره أكثر من ذلك يفضى إلى نسيان القرآن، والتهاون به، فكان ما ذكرنا أولى، وهذا إذا لم يكن عذر، فأما مع العذر فواسع له. أ. هـ. لا تعرض عن قراءة القرآن إذا عرفت فضل القرآن العظيم، وفضل بعض سوره وآياته، وعرفت وافر وجزيل أجر تلاوته، وعلمت كيفية تحزيب النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه للقرآن، وترتيبهم له على الأيام والليالى، حق لنا أن نقول لك أيها المسلم المتبع لأعظم رسول: لا تعرض عن قراءة كتاب ربك إلى قراءة أوراد المشايخ وأحزابهم، فإن الأجر كله، والثواب كله، والفضل العظيم كله، والنصح، والإرشاد، والوعظ، والهدى، والنور كله، والصراط المستقيم إنما هو فى تلاوة كتاب الله تعالى. ¬

_ (¬1) أى نقرأه فى ثلاث إلخ. (¬2) أى عن سبع.

فيا متبع الرسول الأعظم، إياك ثم إياك وما ابتدع، فإنه ضلالة، واعلم أنه لا يجوز لك أن تقرأ دعاء البسملة، ولا ورد الجلالة ودعاءها للجيلانى؛ لأنه يصدك عن القرآن، ولا يجوز لك أن تقرأ مسبعات، ولا منظومة الدردير، ولا ورد السحر، والميمية، والمنهجة الكبرى، بل اقرأ بدل هذا أحزابا من القرآن تنفعك قراءتها يوم لقاء ربك، ولا سيما قراءة التدبر والتفقه. أيها العاقل، هل حزب البر، والبحر، والنصر، وحزب الرفاعى الكبير والصغير، وحزب الدسوقى الكبير والصغير أيضا، وحزب النووى والبيومى، وحزب الوقاية المسمى بالدور الأعلى، بل وجميع مجموع الأوراد، خير أو حزب واحد، أو سورة واحدة من القرآن العظيم؟! لا بل آية واحدة، بل حرف واحد من كتاب الله، لا شك أنك تعترف أنه أعظم وأجل ألف مرة، بل لا مناسبة بالكلية، وأنت تشهد وتقر معى بذلك، ولا أظنك تنكره، إن جميع ما فى مجموع الأذكار الطيبة للطرق السبعة، وجميع ما فى كتاب مجموع أوراد الخلوتية والمرغنية، وأوراد الخليلية، وحرز الجوشنى، وحرز الغاسلة، والجلجلوتية، والبرهتية، لا شك أنه من عند غير الله، ولا شك أنه شرع لم يشرعه الله ولا رسوله، فصار بدعة، وكل بدعة ضلالة. ولعلك تقول: إن هذه الأحزاب والأوراد لا تخلو من آيات قرآنية فيها، فنقول لك: القرآن كاللبن النقى الخالص، وأحزابكم وأورادكم كاللبن المخلوط بالدم، أو كاللبن الاصطناعى، فأيهما ترتضيه لنفسك؟ الأول لا شك، بل ما فى القرآن من الموعظة، والشفاء، والرحمة، والتذكير، والهداية، والعبرة، والأمر، والنهى، والترغيب، والترهيب، وذكر عظمة الله وكبريائه، وتعريفك برسول الله، ورسوله، وقصص الأنبياء وأتباعهم، وما فعل الله بالطاغين والعاصين، وما أعده لأهل طاعته من النعيم المقيم، وغير ذلك مما لا يمكننا عده، ولا حصر بعضه، وليس يوجد من ذلك حرف واحد فى أورادكم ولا أحزابكم، فما هى إلا عبادات مخترعات. وشىء آخر هو أنك لا تقرأ بحرف واحد من كتاب الله إلا أوتيت أجره، كما فى الحديث الصحيح: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، والله يضاعف لمن يشاء»، فما هو ثواب من قرأ حزب الجيلانى كله من أوله إلى آخره ألف مرة، وما ثواب من يقرأ حزب الكبرى، بل وما ثواب من يقرأ جميع مجاميع الأوراد كلها حرفا حرفا؟ لا يمكنكم أصلا أن تقدروا لقارئها ثوابا كثواب قراءة أصغر سورة فى القرآن، بل ولا آية،

ولا حرف واحد، فإن قدرتم وقلتم فظن وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: 36]، بل إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12]، بل يكون افتراء وكذبا على الله، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ [الصف: 7]. فيها أيها المسلمون اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23]، وقص عليكم أحسن القصص فى كتابه، فلا تعدلوا عنه وتتبعوا هؤلاء، فإنهم قد هوكوا وتهوكوا (¬1)، يا قوم «كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتاب ربهم الذى أنزل على نبيهم»، كذا فى الحديث، يا قوم حذار حذار من الإعراض عن كتاب الله، فإن الله يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: 124]، ويقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (¬2) [الزخرف: 36]، ويقول لنبيه: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا [طه: 99 - 101]، ويقول: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (¬3) [الجن: 17]. يا قوم، إنى أقول والحق أقول: إنه لا يرغب عن كتاب ربه إلى مخترعات الشيوخ إلا من سفه نفسه، وضل سعيه، وزين له الشيطان عمله، فصده عن السبيل، فحزبوا وجزءوا القرآن، وقسموه على أيامكم ولياليكم، وحلوا وارتحلوا فيه من أوله إلى آخره، واجعلوا المصحف فى جيوبكم دائما وأبدا، بدل المجموع، ولكن أكبر ما تمعنون فيه النظر بعد القرآن أحاديث الرسول، والتعبد بالأدعية والأذكار المروية عنه فى الكتب التى ذكرناها لكم، وهذا فيه الغنية التامة، والكفاية العظمى عن جميع ما تقرءونه من الأوراد، والأحزاب، والدلائل، والتوسلات التى لم يتعبد بحرف واحد منها أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة الدين، أسأل الله لى ولكم الهداية والاعتصام بكتابه وسنة نبيه، آمين. ¬

_ (¬1) التهوك: كالتهور وهو الوقوع فى الأمر بغير روية، وقيل: هو التحير. اه. نهاية. (¬2) قرين: أى صاحب ملازم له. (¬3) صعدا: أى متزايدا؟.

بدعية جمع القراءات فى سورة أو آية واحدة

بدعية جمع القراءات فى سورة أو آية واحدة سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، عن جمع القراءات السبعة، هل هو سنة أم بدعة؟ وهل جمعت على عهد رسول الله أم لا؟ وهل لجامعها مزية ثواب على من قرأ برواية أم لا؟ فأجاب بقوله: الحمد لله، أما نفس معرفة القراءة وحفظها فسنة، فإن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول، فمعرفة القراءات التى كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، أو يقرهم على القراءة بها، أو يأذن لهم وقد أقرئوا بها سنة، والعارف بالقراءات الحافظ لها، له مزية على من لم يعرف ذلك، ولا يعرف إلا قراءة واحدة، وأما جمعها فى الصلاة أو فى التلاوة، فهو بدعة مكروهة، وأما جمعها لأجل الحفظ والدرس، فهو من الاجتهاد الذى فعله طوائف فى القراءة، وأما الصحابة والتابعون، فلم يكونوا يجمعون، والله أعلم. وقال فى موضع آخر: وأما الجمع فى كل القراءة المشروعة المأمور بها، فغير مشروع باتفاق المسلمين، بل يخير بين تلك الحروف، وإذا قرأ بهذه تارة وبهذه تارة كان حسنا. وقال بعد حديث الصحاح وهو: «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف، فاقرءوا بما تيسر»، ومعلوم أن المشروع فى ذلك أن يقرأ أحدها أو هذا تارة وهذا تارة لا الجمع بينهما، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين هذه الألفاظ فى آن واحد، بل قال هذا تارة وهذا تارة. أ. هـ. بدع وضلالات متعلقة بالقرآن العظيم فمن ذلك أخذ الفأل والبخت من المصحف، ولا أدرى ماذا يصنع صاحب البخت إن وقف على آية: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: 279]، أو: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [العلق: 15]، أو: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق: 16]، أو: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] مثلا. وفى كتاب أدب الدنيا والدين، أن الوليد بن يزيد تفاءل يوما فى المصحف، فخرج له قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم: 15]، فمزق المصحف وأنشأ يقول: أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقنى الوليد فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، فنعوذ بالله.

وهذا فعل مذموم جدا يجب تركه ومحاربته، وكذا قولهم: إن النبى صلى الله عليه وسلم يحزن ويتألم من قراءة سورة: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] لأجل عمه، فلا تقرأ ولا يصلى بها، وكيف ذلك وقد أنزل الله: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] الآية، واعتقادهم أن من حلف على المصحف يصاب بالعمى والكساح هو من خرافاتهم وجهالاتهم المضحكة، وإنما هو يمين يكفر عنها إن رأى أن غيرها خير منها على بعض المذاهب، وإلا فهو يمين غموس، أى يغمس صاحبه فى النار، وقراءتهم سورة يس أربعين مرة بدعائها المخترع المحدث لإهلاك شخص، أو فك مسجون، أو قضاء حاجة، جهل أيضا وبعد عن اتباع الحقائق الشرعية. وحديث: «يس لما قرئت له». قال الحافظ السخاوى: لا أصل له، وكذا حديث: «خذ من القرآن ما شئت لما شئت»، فتشت عنه كثيرا فى الكتب، فلم أجد له أصلا، وفى آخر تفسير سورة يس من البيضاوى والنسفى أحاديث موضوعة فى فضلها، فينبغى أن لا يعول عليها، وجمع آى سجدات القرآن والسجود عند كل آية بدعة تقدم الكلام عليها، وجمع تهليلات القرآن كما فى حزب البيومى، ابتداع فى الدين، واختراع لا يرضى، وقراءة النساء القرآن على الرجال فى المحافل وغيرها ممنوع شرعا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا نابتكم نائبة فى صلاتكم فسبحوا، إنما جعل التصفيق للنساء»، كذا فى الصحيح، أينها هن الرسول عن التلفظ بسبحان الله فى الصلاة ونجلسهن بيننا للتغنى بالقرآن على مقعد خاص فى محافل الرجال؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5]، وكتب آيات السلام ك سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: 79] بدعة ضلالة أيضا. وجعلهم المصحف حجابا يعلقونه على أنفسهم، وعلى مواشيهم جهل شنيع وبدعة، وحمل النساء له أيام حيضهن، ونفاسهن، ووقت جنابتهن، ضلال كبير، وامتهان لكتاب الله القدير، وخبر نزول دم عثمان عند قتله على كتاب الله على لفظ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137] باطل لا أصل له، كما فى أسنى المطالب، وحديث شمهورش قاضى الجن الذى فيه: حدثنى سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم قال: «حدثنى جبريل، قال: حدثنى إسرافيل عن رب العزة أن من قرأ سورة الفاتحة فى نفس واحد لقضاء حاجة قضيت»، هذا باطل معارض بما عرف من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يقف على رءوس الآى ويمدها، ثم لماذا وما فائدة قراءتها فى نفس واحد؟ إن هذا لمن أفرى الفرى على الله ورسوله، ولو كان صحيحا لثبت فى الصحاح والسنن، واشتهر على

ألسنة الصحابة والتابعين، ولم تقتصر روايته على شمهورش الجنى. وإننى لأعجب كيف يروج هذا على عقول العلماء؟ وكيف يقبلونه؟ وكيف يحفظونه ويقرءونه على الناس، وفى مصنفاتهم يكتبونه؟ وقد سمعت هذا الحديث من شيخ أزهرى يقال له: عالم، وقرأته على ظهر كتاب لشيخ من المتأخرين، فيا للأسف على فساد عقول رؤساء الدين، ورواج الأباطيل والأضاليل والترهات على من اشتهر من بين الناس بأنهم كبار المسلمين، وعلى عدم معرفتهم بين الصحيح والمكذوب على الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم. وإننى والله لا أثق أبدا بعلم ولا دين هؤلاء ما داموا لا يفرقون بين الحق والباطل، والصحيح والموضوع، ولا بين الأنوار الربانية المحمدية، والظلمات الشيطانية. والدعاء الذى فى آخر المصاحف لا يجوز التعبد به قطعا، بل هو مذموم وممنوع شرعا؛ لأنه مخترع وليس مأثورا، بل كله بدع ضلالات، وتوسلات موضوعات، فلا تحل قراءته، بل ولا كتابته فى آخر المصاحف، والقرآن والسنة كافيان شافيان، قال الله تعالى مسفها وعائبا أحلام من لم يكتفوا بكتاب الله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51]، وفى الحديث: «كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتاب نبيهم أنزل على نبى غير نبيهم» رواه أبو داود فى مراسيله. فكيف بكم وقد أصبحت جل عباداتكم لا هى عن نبى من أنبياء الله المتقدمين، ولا هى عن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، بل أوحى بها الشيطان على بعض المتعالين، فحذار من التعبد بما لم ينزل على نبيكم، ولا فعله أصحاب نبيكم، إذ المتعبد به بدعى، جاهل، غبى. وقراءة الختمات التى يعملونها للأموات ويجتمع لها القراء ويفرقون على بعضهم أجزاء الأربعة- المصحف- ثم يستفتحون القراءة ويختمونها جميعا فى ساعة، ثم يهدون ثواب ما قرءوه للمتوفى، بدعة ضلالة فاعلها غاية الجهالة، ولو عاشوا عمر نوح يبحثون فى الشريعة الغراء على دليل يدل على ذلك لما وجدوه، وهؤلاء لو أن الداعى لهم أخرج لهم الغداء أو العشاء قليلا، أو أعطاهم قروشا قليلة، لفضحوه وسبوه ولعنوه لعنا كبيرا، فنعوذ بالله من الجهل والشقاء والخيبة. والقارئ، الفقى، الراتب فى البيوت دائما وفى رمضان بدعة، ودخولهم على النساء

حال غياب الرجال مفسدة ودياثة، وشحذ القراء بالقرآن فى الشوارع والطرقات ضلال كبير، وشر خطير، ولو استغنوا بتجارة أو صناعة لغناهم الله قطعا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4]، وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا» رواه الإمام أحمد، والترمذى، وابن ماجة، والحاكم، عن عمر بسند صحيح كما فى الجامع، فاتقوا الله أيها القراء، وتوكلوا على الله وتحرفوا لدنياكم، «فإن الله يحب العبد المؤمن المحترف، واعرفوا ربكم وادعوه، فإنكم لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال» وذكرهما فى الجامع. وقراءة الفاتحة زيادة فى شرف النبى صلى الله عليه وسلم بدعة لا أصل لها، وقد قال تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، ولم يقل: اقرءوا عليه، وقراءة الفاتحة بنية قضاء الحاجات، وتفريح الكربات، وهلاك الأعداء، بدعة لم يأذن بها الدين، وقراءة الفاتحة بالسماح كما يفعله الفقراء بدعة، وقراءة الفاتحة عند شرط خطبة الزواج واعتقادهم أن قراءتها عهد لا ينقض بدعة واعتقاد فاسد وجهل. وقراءة سورة الفيل إلى كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] ثم تكرير كَعَصْفٍ مرات لأجل إسكات الكلاب عن النباح، واعتقادهم أنها تمنع الكلب عن عض الإنسان، وأنه إذا قرأ لفظة مَأْكُولٍ عضه الكلب، هذا هو كلام واعتقاد من لا عقل له ولا دين. والمسبعات: الفاتحة، والمعوذتان والإخلاص، والكافرون سبعا سبعا بدعة، لم يرد فيها ولا حديث ضعيف، ولم يتعبد بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا أصحابه، فما هى إلا منام رآه إبراهيم التيمى، وليست المنامات شريعة يتعبد بها. والفائدة التى يعملونها لجلب الرزق، ويصومون عن أكل كل ذى روح أياما، ويحتجبون عن الناس فى الخلوة فى مكان مظلم، ويكررون عقب كل صلاة مئات المرات آية: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 72] هى باطلة قطعا، ولا تعود على صاحبها بأدنى فائدة، بل بالخيبة الدائمة، والذى يجلب الرزق حقا، ويفتح لك بركات السماء والأرض، إنما هو تقوى الله، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96].

وقولهم: كان السيوطى إذا أراد أن يفسر القرآن، خرج إلى الجبل ففسره هناك خوفا من الخطأ فى التفسير، فإنه ينزل الغضب على أهل البلد، كلام باطل لا أصل له البتة، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان، ليصدهم به عن سبيل الله، وقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]، أى متذكر ومتعظ به، وقال تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [فصلت: 1 - 4]، وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29]. ولهذا الجهل الفاشى بينهم، ترى الناس جميعا، حتى حملة القرآن، يتحاملون عن التكلم فى معنى آية من كتاب الله، وإن كان أحدهم حافظا لمعناها، وإن كان سمع تفسيرها عشرين مرة، وإن كان قرأها فى التفسير مائة مرة، فتراهم يتناهون بحدة وشدة، يقولون: ارجع ارجع أحسن تنزل علينا الغضب، ما لك وما للتفسير، خلى التفسير لأصحابه يا عم. ومن هنا عم فينا الجهل وطم، وساءت أخلاقنا، وسفهت أحلامنا، وقسمت قلوبنا، فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74]، وعصى الله ورسوله جهارا، وبعدنا عن كل فضيلة، ووقعنا فى كل رذيلة، حتى صرنا أذل وأحقر الأمم بعد أن كانت العزة والسلطان لنا، وكل هذا بسبب هجرنا وبعدنا من تعاليم القرآن السامية، وعدم اعتناقنا لأوامره ونواهيه، وإعراضنا عن فهمه وتدبر معانيه، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: 124]، وقوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36] وقوله: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الجن: 17]، وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الكهف: 57]. واعتقادهم كفر من غلط، أو لحن فى قراءة سورة الكافرين اعتقاد باطل فظيع شنيع، ومتى يتعلم الإنسان دينه، وكتاب ربه، إذا كان بغلطة ينزل عليه وعلى أهل بلدته المقت والغضب، وبلحنه يكفر ويخرج من الدين؟ نعوذ بالله من ضلال المضلين، ومن الشيطان الرجيم، لما علم الشيطان عظم أجر هذه السورة ألقى هذا بين الناس. فقد روى الطبرانى، والحاكم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ تعدل ربع القرآن» حديث صحيح، كما فى الجامع، وقد تقدم فى الحديث المتفق عليه أن: «الذى يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له

ذكر أسباب إعراض الناس عن القرآن

أجران»، وورد: «من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه، فله بكل حرف حسنة» وصححه ابن قدامة. وكتاب الدر النظيم فى خواص القرآن العظيم لا تجوز قراءته، ولا العمل بما فيه، وليس فيه جملة نافعة، ولا فائدة صادقة، بل كل فوائده وجمله كاذبة خاطئة، ومثله كتاب الفوائد فى الصلات والعوائد، إلا أن هذا خلط، فجمع بعضا من الصحيح، والضعيف، وبقيته أكاذيب، وخرافات، وأباطيل، وترهات، وأضاليل، وتمويهات، أعاذ الله منها المسلمين والمسلمات. وقولهم لقارئ القرآن: الله الله، كمان، كمان يا أستاذ، هيه هيه، الله يفتح عليك، حرمه الله بقول: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]، والحق أنهم لم يلتذوا بألفاظ القرآن؛ لأنهم لم يفقهوا لها معنى، بل ما كانت لذتهم إلا من حسن نغمة القارئ، والدليل على ذلك أنه لو قرأ قارئ ليس حسن الصوت، السورة بعينها، التى كانت تتلى عليهم لانفضوا من حوله، سابين لاعنين له ولمن جاء به، قائلين: جايب لنا فقى حسه زى حس الوابور. ولقد وصف الله المؤمنين من عباده بأنهم: إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2]، وقال فيهم أيضا: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23]. ذكر أسباب إعراض الناس عن القرآن هذه الأسباب كثيرة جدا، وليس منها ما يعد عذرا مقبولا عند الله تعالى، وسنبين لك هذا إن شاء الله، فنقول: المعرضون طوائف: الطائفة الأولى: العلماء، ولإعراضهم عن القرآن سببان: السبب الأول: أن الكتب التى يقرءونها ويتدارسونها لم توصلهم إلى إدراك حقائق هدايته، ولم تكشف لهم أنواره الربانية، وأسراره الصمدانية، ومواعظه الرحمانية، وإرشاداته المؤثرة، وترغيبه وترهيبه، وقصصه، وعجائبه، ومحاسنه، وغير ذلك مما لو أنزله الله: عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21]، ذلك لأنها مشحونة بالمسائل المنطقية والبيانية والفلسفية، وإظهار وجوه الإعراب والصرف،

ولذلك كانت الهداية والدلالة بها على الله ودينه قليلة جدا، ولذا نرى كثيرا منهم يتركون الصلاة، وينقرونها نقرا، مخلين بها، ويرتكبون الكبائر من المحرمات، فقطعا هم لم يذوقوا طعم القرآن، والله لو ذاقوا طعمه وحلاوته ولذة مناجاته تعالى لما وقعوا فى محارم الله، ولأداهم ذلك إلى الجهاد فى سبيله ليلا ونهارا، سرا وجهارا، وخصوصا فى عصرنا هذا الذى سالت فيه سيول الفتن والأضاليل، وكادت عواصف الملحدين والزائغين والمبتدعين تنسف أنوار الهداية المحمدية نسفا. وهذا هو مقتضى القرآن والإيمان، فإن الله تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، فليس صادقا فى إيمانه من لم يجاهد فى سبيل الله بماله ونفسه، وأى جهاد أعظم من دعوة الناس جميعا إلى الاستمساك بالقرآن ونواهيه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإلا فبالعنف والشدة، كما قال تعالى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] الآية. فلما لا تظهرون للناس عجائب القرآن السامية، ومعجزاته الهادية، وعلومه العالية، وقصصه الوعظية، وسياسته الاجتماعية، وإدارته المدنية بأساليب الإقناع العصرية، التى انتهجها أخوكم صاحب المنار فى تفسيره، وفى كتابه الوحى المحمدى، الذى أظهر فيه علوم القرآن ومعجزاته ما يحتاج إليه العالم الإنسانى، فتضاربون بأعاجيب كتاب ربكم، وسنن نبيكم، وحلاوة فصاحتكم، وعذوبة بلاغتكم، أعاجيب السينمات والتياترات واللونباركات ومسارح الرقص والغناء، إنكم لما أعرضتم عن تعليم وإرشاد وجهاد أبنائكم وإخوانكم، أعرضوا عنكم وانصرفوا إلى ملاذهم وشهواتهم، فاللوم عليكم. ثم لماذا لا تكاتبون حكومتكم الإسلامية بذلك؟ لماذا لا تتخذون رؤساء الحكومة إخوانا لكم، فترغبون فى القرآن والإيمان ورضاء الرحمن؟ وجنة عالية قطوفها دانية؟ وترهبونهم من ترك القرآن ومعصية الرحمن، ومن نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 11] ومن سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة: 42 - 44]، إنكم لو فعلتم ذلك لوجدتم وفاقا، واتفاقا، وألفة، ومحبة، ومودة بين سائر المسلمين، فلما لم تفعلوا أحل بنا ما حل، فأنتم المسئولون بين يدى ربكم عن ضياع هذه الأمة بسبب إعراضكم عن كتاب الله. السبب الثانى: مرتباتهم الضخمة، وجراياتهم الكثيرة، فإن الذين يأخذون خمسين وستين جنيها، إلى تسعين ومائة، إلى خمسمائة وستمائة، مرغمون ومضطرون إلى تنميق

مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومناكحهم، ومساكنهم، وأتومبيلاتهم، وجراجاتهم، واستثمار أموالهم، وتكثير أطيانهم وعزبهم، وقصورهم، وبنائهم، وتشييدهم، وتجديدهم، وتصليحهم، لكل ذلك وهذا وغيره يحتاج ضرورة إلى ضياع أكثر الأوقات. ثم اعلم أنا لا نقول لهم: ألقوا بأموالكم فى البحر، أو بددوها، أو وزعوها على الناس، كلا كلا، بل نحن نعلم أن عزة الإسلام والمسلمين لا تكون إلا بالأموال، ولكنا نقول لهم: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 41]، انشروا علوم الإسلام على المسلمين، وافتحوا لهم فى البلاد المدارس، وقرروا فيها حفظ القرآن، وتدريس التفاسير وكتب السنة والتوحيد، ووظفوا فيها العلماء العاملين، ورتبوا لهم المرتبات، واحبسوا عليها الأوقاف، فإن خريجى الأزهر يكثرون عاما بعد عام، ولا يجدون كسبا يعيشون به كما تعيشون، بل هم عالة على أهليهم وأقاربهم وعلى الناس، يعلمون كل الوسائل للحصول على وظيفة بمسجد يتعيشون منها، ويجلسون ينتظرون السنين العديدة حتى يبيعوا كتبهم ويخرجوا إلى بلاد الأرياف كى يسهر الواحد منهم فى رمضان عند رجل بجنيه واحد، وبعضهم يعظون فى المساجد، وبعد الوعظ يقول الواحد للناس: إننى عالم مسافر إلى بلدى، وليس معى ما يوصلنى فساعدونى، وبعضهم يبكى ويقول: احترق منزلى أو ثيابى، أو يقول: سرقنى النشال، وهم كاذبون. وإنما أوقعهم فى الكذب شدة ما هم فيه من الفقر والفاقة، فهلا كفيتم هؤلاء المساكين ذل السؤال؟ هلا سافرتم إلى البلاد ففتشتم على بلد ليس فيه علم فأسستم فيه مسجدا ورتبتم فيه عالما؟ هلا أرسلتم على نفقاتكم وعاظا يجوبون البلاد، ويعلمون العباد، وينشرون الإصلاح، ويخمدون نار الإفساد؟ كلا بل ألهتكم أموالكم عن تبيان أوامر الله ونواهيه، وهلا تدبرتم قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159]، وقوله: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [التوبة: 24]. الطائفة الثانية: جماعة الأغنياء البخلاء، أطغتهم الأموال، وألهتهم الآمال، فكانوا ممن أو كمن قال الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إبراهيم: 28]، منعوا الزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة والمندوبة، فعشوا عن

القرآن الكريم، والذكر الحكيم، فسلط الله عليهم الشياطين، يدعونهم إلى الشر، ويأمرونهم بالمنكر، وينهونهم عن المعروف، ويجرونهم إلى السينمات، وحفلات الرقص والغناء، ويصدونهم عن الجمعة والجماعات، وسماع القرآن والخطب، فهم يجاهدون فى سبيل الشيطان بأموالهم وأنفسهم معرضون عن الحق، وقد قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36]، فيا أغنياء المسلمين وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: 16]. الطائفة الثالثة: القراء الذين لا يقرءون القرآن إلا لجمع حطام الدنيا، فيتلونه فى حفلات المآتم والختمات والليالى، وكثير منهم يتعلمون القراءات لأجل التعيش، ولأجل أن يرغبوا فيه أكثر من غيره، ولأجل أن يكتسب هو أكثر منهم، ولو سألتهم عن معنى كلمة واحدة من كتاب الله لعجزوا، ومن الناس من لا يحفظون أولادهم القرآن إلا لأجل إعفائهم به من القرعة العسكرية، ومنهم من يعلمونه أبناءهم وبناتهم العميان لأجل المعيشة والارتزاق، وما لهذا أنزل القرآن. الطائفة الرابعة: المتصوفة، والسبب فى إعراض هؤلاء الناس عن القرآن إنما هو اشتغالهم بأحزاب مشايخهم، وأورادهم، وبالبيارق، والبازات، والليالى، والختمات، والموالد، والحضرات، والمنامات، والتخمير بسانوريا مانوريا سبايبنيرا، والواجب على العلماء أن يحاربوا هؤلاء الأقوام. الطائفة الخامسة: جماعة المتفرنجين والصناع، وهؤلاء قد شغلوا بقراءة الجرائد السياسية، والمجلات الفكاهية والهزلية، وكتب الحكايات والروايات والقصص والأشعار، كالزير سالم، وأبو زيد، والمهلهل، فتراهم يحفظون الكثير من المسائل الطويلة السياسية، والحكايات والقصص والفكاهات والشعر وغير ذلك، ويحفظون قليلا ولا كثيرا من علوم الإسلام، بل يعدون المقبلين على فهمها والعمل بها مجانين، أو عقولهم متأخرة، وهؤلاء كل آية فى القرآن نزلت فيمن يعرضون عن ذكر ربهم تصفعهم هم على نواصيهم، قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الكهف: 57]، وقد وصف الله المعرضين عما ذكروا به بالحمر، فقال: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (¬1) [المدثر: 49، 51]. ¬

_ (¬1) أى أسد.

وقال فى أمثالهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ [الجمعة: 5]، وقال: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44]، وقال: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ (¬1) مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ (¬2) بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (¬3) [المؤمنون: 63 - 66] الطائفة السادسة: الجماعة الأميون، وهؤلاء يحفظ أحدهم مائة موال، ومائة حدوثة، وكثيرا من الأحراز والفوازير، ويذكر لك كل ما يسمعه من الحكايات، وكل ما يقرأ أمامه من قصة الظاهر بيبرس، أو عنترة، أو خليفة، ثم إذا خاطبته فى حفظ شىء من القرآن ليصحح به صلاته يعتذر لك بعدم القراءة والكتابة، ويقول لك: يا سيدى بعد ما شاب يودوه الكتاب، هذا جوابهم مع أنا نرى منهم من يخاطب الإفرنج بلغاتهم، وإننى لأعرف أناسا أميين يجيدون قراءة وكتابة اللغات الأجنبية، ولا يحسنون النطق بسمع الله لمن حمده، ولا بالفاتحة، فالمسألة راجعة إلى العناية والاجتهاد، فلو اجتهد رجل أمى فى حفظ ما يسمعه من أوامر الدين ونواهيه، ومن آيات القرآن وسنن النبى صلى الله عليه وسلم، كبعض محافظته على التعاليم الأجنبية لحفظ شيئا كثيرا، بل لو شاء حفظ القرآن كله، وألف حديث نبوى لكان ذلك سهلا عليه جدا، وجماعة العميان أكبر شاهد ودليل على ذلك، ولكنهم أعرضوا ونأوا ف وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، واذكروا قول ربكم لنبيه: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: 99 - 102]. الطائفة السابعة: جلاس حانات الخمور، وآلات اللهو والطرب، وجلاس المقاهى، ولاعبى النرد، والطاولة، والكتشينة، والضمنة، وأصحاب الحشيشة، والأفيونة، والكوكايين، والتبغ، والدخان، والتنباك، وغير ذلك، وهذه الأشياء الخبيثة الملعونة قد أضرب وأفسدت أخلاق كثير من الشبان، بل والشابات، وكم قد خربت من بيوتات كانت عامرات، فهى التى فتكت بكثير من العائلات، وإنه لا سبيل إلى الخلاص من ¬

_ (¬1) غفلة. (¬2) أغنياءهم ورؤساءهم. (¬3) يرجعون القهقرى ويتأخرون عن الإيمان.

حكم الجهر بقراءة سورة الكهف بالمسجد، وسماعها من المذياع فى المسجد

هذه الدواهى كلها والطوام والرزايا العظام إلا اتفاق العلماء جميعا على الدعوة إلى الله، وإلى الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، بالاجتهاد والمثابرة والصبر على الدعاية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتى هى أحسن مع أهل الزيغ والضلال، والمبتدعة الجهال. لكن لا يتم هذا العمل إلا بمساعدة الحكومة لهم، ولن تساعدهم الحكومة أبدا إلا بعد اتفاقهم التام مع رؤسائها، ولن يتفق معهم رؤساؤها إلا بعد تبيانهم لهم حقائق الدين ومحاسنه العالية الغالية، وعظمته، وأبهته، وجماله، وجلاله، وكماله، ورحمته، وعدله، وإحسانه، وفضله، وبعد أن يدخلوا نور القرآن والإيمان والعلم الصحيح فى قلوبهم، وبهذا يتم العمل، وينشر الدين، ويتحد المسلمون وينتصرون على عدوهم، وتكونون أنتم علماء عالمين مجاهدين فى سبيل الله، هذا وإلا فمن قومكم من استحب الكفر على الإيمان، ومنهم ألوف يسبون الدين بغير مبالاة، بل ومنهم من يسبون الله ويسبون رسول الله، ورأينا منهم من يرى أن العار الكبير فى الأذان والصلاة ويقف على باب بيته حيث يمنع ابنه من الخروج لأداء الصلاة، وقد سمعناهم جهارا يقولون: ليتنا خلقنا إنكليزا، أو يهودا، أو نصارى، حيث إن المسلمين اجتمع عليهم أشقى الشقاء، فقر الدنيا وعذاب الآخرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. حكم الجهر بقراءة سورة الكهف بالمسجد، وسماعها من المذياع فى المسجد س: سبق أن أديت فريضة الجمعة بأحد مساجد الوجه القبلى، فوجدت أهالى القرية يستعملون جهاز الراديو لتلاوة القرآن الكريم بدلا من المقرئ، فهل يجيز الشرع ذلك؟ الجواب: إن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة فى المسجد فى الوقت الذى اعتيد أن تقرأ فيه، وعلى الكيفية التى تقرأ بها، شىء حدث بعد العصور الأولى فى الإسلام، ولم يؤثر حتى عن عصر الأئمة أنها كانت تقرأ بتلك الكيفية، فهى من هذه الجهة تدخل فى دائرة البدع، وقراءتها تحدث تشويشا على المتنفلين والذين يؤدون تحية المسجد، فإذا فرضنا أنها لم تقرأ أصلا لكان خيرا. وسماعها عن طريق الراديو ليس إلا سماع قراءة جهرية لسورة الكهف بالكيفية المبتدعة، وحكمها حكم سماعها أو قراءتها من نفس القارئ، فمن شاء أن يترك سماعها عن طريق الراديو فليترك قراءتها عن طريق قراءة القارئ.

والعبارة مأثورة عن الشرع لا يصح الزيادة فيها بما لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم، وبخاصة إذا أحدث ذلك فى نفس الجمهور أنها عبادة مشروعة بهذه الكيفية فى ذلك الوقت. ومن هنا خاصة نرى الكف مطلقا عن قراءة سورة الكهف فى ذلك الوقت وبتلك الكيفية حتى لا يعتقد الناس أن غير المشروع مشروع (¬1). ¬

_ (¬1) الفتاوى للشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق.

الفصل الثانى إلزام القرآن للماديين والمليين

الفصل الثانى إلزام القرآن للماديين والمليّين 1 - معنى المادة والماديين كثر إطلاق المادة على مجموع الأجرام التى يتألف منها العالم المشاهد، وعلى ذلك فالماديون هم الذاهبون إلى نفى كل موجود سوى المادة المذكورة، وأن وصف الوجود مختص بما يدرك بالحواس الخمس، لا يتناول شيئا وراءه، ويقال لهم: الطبيعيون، وذلك أنهم سئلوا عن منشأ الاختلاف فى صور المواد وعوارضها، والتنوع الواقع فى آثارها، فنسبوه إلى طبيعة هذه الأشياء، ومن زعمهم أن المادة وجدت بنفسها، ويستحيل أن تكون من العدم، قالوا: لأن العقل لا يمكن أن يتصور مادة تتلاشى إلى درجة العدم، فكيف يحكم بوجودها فى زمن من الأزمان فى حالة لا يمكن أن تصير إليها، وزعموا أن العالم لم يزل ولا يزال لا يتغير ولا يضمحل، وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التى فيه، إلى آخر مفترياتهم وادعاءاتهم الفارغة. وقد بطل قولهم: أن العقل لا يمكن أن يتصور مادة تتلاشى إلى درجة العدم، بما ثبت فى هذه الأيام عن طريق الحس والتجربة من تحول المادة وتلاشيها إلى قوة صرفة، ومعنى محض. وبما أنهم قالوا بأزلية المادة، فقد أنكروا الخالق، وبما أنهم قالوا بعدم زوال هذا العالم، وأنه لا يضمحل أبدا، فقد أنكروا البعث، وبضرورة الحال ينكرون رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم. هذا وقد أبطل العلماء قدم المادة، حيث قالوا (¬1): ومما أحال قدم المادة، أن القديم لا بدّ من كونه كاملا، موجودا بذاته، لا يقبل تغيرا، هذه أخص أوصافه، وذلك لأنه لو كان غير كامل، للزم أن يتكامل بغيره متصاعدا، حتى يصل إلى كائن كامل فى ذاته، لا يفتقر إلى غيره، ولو كان غير موجود بذاته، للزم أن يكون له علة قد أوجدته، فلا يكون أزليا، ولو كان يقبل التغير، لتواردت عليه البدايات والنهايات، فكان غير قديم. ¬

_ (¬1) من كتاب دلائل التوحيد، للعلامة القاسمى، بتصرف.

وأوصاف القديم هذه لا تنطبق على المادة بوجه؛ لأن المادة ناقصة تتكامل دائما وأبدا، متعددة، ليس لها وجود من ذاتها، تتغير وضعا، وفعلا، واتصافا، إذ يتعلق الواحد فيها بالآخر، مما يجره إليها كل من التدافع والتجاذب، وحينئذ فلا تكون المادة قديمة، ومعنى ذلك أن المادة حدثت من العدم. فإن قال قائل: كيف تحدث المادة من العدم؟ قلنا: قال بعض المحققين: دعوى أن الحدوث من العدم محال، يقال عنها: إنها محال بنفسها، لا بفعل قادر أزلى، وعدم إدراكنا لذلك وكونه مما يفوق طور العقل لا ينفيه، إذا لا يلزم من جهل الأمر نفيه، وقد اعترف الماديون بتعذر معرفة أصل المادة، وكم من أشياء مشهورة يعسر على الإنسان إدراك حقيقتها، وكما أنه لا يحق لمن لا يبصر أمرا أن ينكر وجوده، فهكذا ليس لمن لم يفهم حقيقة الخلق أن ينكر وجوده، لا سيما وهى من غيب الغيوب، وأبطن البطون. وقال آخر: لا يخفى أن الاعتراض يرجع إلى هذا، وهو لا شىء يصير من لا شىء. فنقول: إن أريد به أنه لا موجود بدون موجد، فهو صحيح إجماعا، وأما إذا كان المراد به لا شىء، يمكن أن يصدر من لا مادة، ففيه تفصيل، فبالنظر إلى الأسباب المتناهية القوى التى تشاهد فى عالم الحس، لا خلاف فيه؛ لأن الخليفة أيا كانت لا تقدر أن تصنع من لا شىء شيئا. وأما بالنظر إلى الخالق جل وعلا، فباطل، إذ من شأن القوة غير المتناهية إلا تتقيد بشيء خارج عنها، فيمكنها أن توجد الشيء من العدم البحت، أى لا من مادة كيفما شاءت، ومتى شاءت، وإلا كانت متناهية محدودة، وذلك محال عليها، ولا يلزم من قدمه تعالى قدم المخلوقات، إذ هو تعالى فاعل مطلق، لا يضطره شىء، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]. أ. هـ. هذا موقف العقلاء من بيان فساد مذهب الماديين فى إنكارهم الخالق جل وعلا، والبعث، ونبوّة خاتم الأنبياء. أما موقف القرآن، فقد ألزم كل مكلف من إنس وجن، ذكر وأنثى، بهذه المطالب الثلاثة، وفى أوائل سورة البقرة بيان لها، ففي قوله سبحانه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، إيمان بالخالق وتوحيده، وفى قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4]، إيمان بنبوّة محمد والأنبياء جميعا، عليهم الصلاة والسلام، وفى قوله جل شأنه: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4]، إيمان بالبعث والمعاد.

وقد خص هذا بالذكر بعد دخوله فى قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، لمزيد العناية به، ورفعة شأنه، وقد بينت الآية بعد ذلك فى قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5]، أن هؤلاء المؤمنين بهذه المطالب الثلاثة، هم المتمكنون من الهدى الإلهى، وأنهم دون غيرهم المفلحون، الظافرون بكل محبوب، الناجون من كل مكروه. وقد سلك القرآن الكريم فى إثبات هذه المطالب عليهم، وإلزامهم بها، طريق النظر والفكر، فبه يتوصل إلى العلوم، ويهتدى إلى الحقيقة. قال جمال الدين الخوارزمى فيما نقله عنه العلامة القاسمى: النظر هو قانون الاستدلال فى الأمور، وقاضى الصدق، وبرهان الشريعة، وترجمان الإيمان، وحجة الأنبياء، ومحجة الأولياء، والسيف القاطع على الأعداء، وهو رأس السعادة فى الدين، فأساس التدبير، وصحة الاعتقاد، وخلاصة التوحيد فى ناصية النظر، كما أن أساس الكفر والشرك فى جانب التقليد. وما دام فى العالم حق وباطل، ولكل منهما مشايعون، فلا يتصور معرفة الحق من الباطل إلا بالنظر، والإنسان خلق كامل الرأى، عظيم الفكر، دراكا للمعانى، وأعطى الإدراك وهو العقل، فإذا استعمله على وجهه، وقع عنده العلم للمنظور فيه، كما يقع العلم بالمدركات عند الإدراك، فعند فتح الأجفان يبصر الأشياء، وعند الاستماع يسمع، وعند استعمال اللسان يتكلم، كذلك عند النظر يعلم. فنحن معشر المسلمين نعرف الحق من الباطل بالنظر، ونعرف الكفر من الإيمان بالنظر، ونعرف الله ورسوله بالنظر، ونعرف أن التقليد بلا برهان باطل، ولا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك بالنظر، وبالجملة فالناس من عهد آدم، عليه السلام، إلى منقرض العالم، إذا نزلت بهم نازلة يرجعون إلى النظر والفكر، سواء كان فى أمر الدين أو الدنيا، ويقول بعضهم لبعض: انظروا وتفكروا، فلولا أنه طريق واضح، ومنهج لائح، لما فزعوا إليه. أ. هـ. بتصرف. ونحن نسير مع القرآن الكريم فى إثبات وبيان هذه المطالب الإيمانية الثلاثة: المطلب الأول: وجود الصانع وتوحيده: الآيات فى هذا المطلب كثيرة جدا، فهى أكثر من أوراق الأشجار، كما أنها أجلى من ضياء النهار، وسوف نقتصر من هذه الكثرة على النذر اليسير؛ لاقتضاء المقام ذلك،

وسوف نجعلها تحت عناوين أربعة، وإن كان بعضها يتداخل فى البعض الآخر. أولا: آيات فى خلق الإنسان ونشأته. ثانيا: آيات فى إمداده بما يحتاج إليه من رزق وطعام. ثالثا: آيات فى بعض مظاهر الكون. رابعا: آيات فى مظاهر التدبير الإلهى فى أحوال الإنسان الخاصة. ثم بعد ذلك نذكر ما سبق به العلامة ابن رشد من الكشف عن المنهج القرآنى الذى سلكناه واخترناه، وهاك التفصيل: أولا: خلق الإنسان: الإنسان آدم أبو البشر، أول موجود على ظهر البسيطة، وأول نبى نزل عليه الوحى، كان خلقه من تراب، ولا يغيب عن البال ما قدمناه من إبطال أزلية المادة، وأنها لم توجد بنفسها، بل أوجدها الفاعل المختار، وعلى ذلك فآدم من تراب، والتراب مخلوق من العدم، ثم تحول التراب بعد صب الماء عليه إلى طين، فصار هذا الطين حمأ مسنونا، طينا متغيرا، ثم جف هذا الحمأ المسنون فصار صلصالا كالفخار، ثم سوى الله جل جلاله صورة آدم، عليه السلام، من هذا الفخار، ثم نفخ فيه من روحه، فكان إنسانا أصلا لأبنائه الموجودين عموما إلى أن تنتهى الدنيا. ولا نريد أن نذكر هذا للماديين، فهم لا يصدقونه؛ لأنه غيب، ولا يؤمن بالغيب إلا المؤمنون الصادقون، وإنما نريد أن نذكر لهم كيف كان خلق ذرية آدم من بعده، فذلك محسوس لهم ومشاهد، فتكون الدلالة فيه ألزم، والحجة فيه أقوى. وسوف لا نتعرض لتفسير الآيات المسوقة إلا بالقدر الذى يتضح به المراد، وتظهر عنده الحقيقة. كيفية خلق الذرية: قال الله تعالى فى سورة المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14]. إن الماديين لا يستطيعون أن ينكروا هذه الأطوار فى خلق الذرية بحال من الأحوال، ولا يمكنهم أن يدفعوا منها شيئا، اللهم إلا إذا أمكن أن تنكر الشمس وهى طالعة، وينكر سواد الليل وبياض النهار.

قال المفسرون فى بيان مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله تعالى أمر بالعبادات فى أول السورة، حيث قال جل ذكره: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2]، إلى قوله تعالى: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون: 11]، ولما كان الاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفته سبحانه، عقبها بذكر ما يدل على وجوده، واتصافه بعنوان الجلال والكمال، فذكر الاستدلال بتقلب الإنسان فى أدوار الخلقة، وأدوار الفطرة. فقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ، أى آدم مِنْ سُلالَةٍ، أى خلاصة مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] (¬1) ثُمَّ جَعَلْناهُ، أى نسله، فحذف المضاف، نُطْفَةً، أى منيا من الصلب والترائب فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون: 13]، وهو الرحم، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، أى صيرنا النطفة البيضاء علقة، أى قطعة دم حمراء، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، أى صيرنا قطعة الدم الحمراء قطعة لحم قدر ما يمضغ، لا شكل فيها ولا تخطيط، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، أى جعلناها عظاما من رأس ورجلين وما بينهما، يعنى أصبحت ذات شكل مخصوص، ووضع معين، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً، أى كسونا بما لنا من قوة الاختراع تلك العظام لحما بما ولدنا منها ترجيعا لحالها قبل كونها عظاما، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14]، مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أكمه، وأودع ظاهره وباطنه، بل كل عضو من أعضائه، وكل جزء من أجزائه، عجائب وغرائب لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح. وإذا كان لنا أن نتكلم عن تفاوت العطف بالفاء وثم، فإنا نقول: إن المعطوف بكلمة «ثم» مستبعد حصوله مما قبله، وهو المعطوف عليه، فجعل هذا الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخى والبعد الحسّى؛ لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب، وكذا جعل النطفة البيضاء دما أحمر، وهذا بخلاف جعل الدم لحما، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون: 14]، وبخلاف تصليب المضغة وجعلها عظاما المنبئ عنه قوله تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، وكذا مد اللحم على العظم ليستره، المصرح به فى قوله ¬

_ (¬1) من العلماء من يرى أن المراد بالإنسان بنو آدم، وخلقهم من سلالة من طين، أى خلاصة من الأغذية التى مصدرها التربة.

سبحانه: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون: 14]. فإن العطف فى هذه المواضع الثلاثة كان بالفاء؛ لأن المعطوف فيها ليس ببعيد ولا غريب عن المعطوف عليه، وحينئذ فلا يعترض بما قيل: إن مدة كل طور أربعون يوما، وذلك يقتضى عطف الجميع بكلمة «ثم» إن نظر لآخر المدة وأولها، أو يقتضى العطف بالفاء إن نظر لآخرها فقط. ووجه دفع الاعتراض ظاهر مما قدمنا، وهو أن المتعاطفات بكلمة «ثم» بينها غاية البعد العقلى، فنزل منزلة البعد الحسى الزمنى، وكان العطف ب «ثم» بخلاف المتعاطفات بالفاء، فلم يكن بينها هذا البعد العقلى، وإن كان بينها مطلق بعد، فجاءت الفاء على أصلها ووضعها للترتيب والتعقيب. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14]، أى تنزه عن كل شائبة ونقص، وحاز جميع صفات الكمال، والمراد بالخالقين المقدرين، أى الصانعين، يقال لمن صنع شيئا: خلقه، إذا الخلق معناه إيجاد الشيء بتقدير معين ووضع مخصوص، فيقال لصانع الباب أو الكرسى مثلا: إنه خلقه، أى أوجده على شكل مخصوص وهندسة معينة، فكلمة الخلق لا تنفى عن البشر بمعنى الصنع، وإنما هى منفية عنهم بمعنى الاختراع، والإيجاد من العدم، فليس ذلك إلا لله الواحد القهار. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، فلما بلغ قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14]، قال عمر، رضى الله عنه: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14]. وروى أن عبد الله بن سعد بن أبى السرح كان يكتب لرسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، فنطق بذلك قبل إملائه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «اكتب، هكذا نزلت»، فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه، فأنا نبى يوحى إلىّ، فلحق بمكة كافرا، ثم أسلم يوم الفتح (¬1). نظائر لهذه الآية: لهذه الآية فى إيرادها المعنى السابق أشباه ونظائر من آى القرآن الكريم، جاءت بهذا المعنى بأساليب مختلفة، وجميع هذه الأساليب فى أعلى درجات الإعجاز، وتلك خصيصة القرآن، يأتى بالمعنى الواحد فى عدة مواضع بأساليب مختلفة، ¬

_ (¬1) هذه الرواية ضعيفة؛ لأن السورة مكية.

والكل فى أعلى درجات البلاغة والإعجاز، وهذا ما تنقطع دونه الأعناق، من هذه الآية: 1 - قوله تعالى فى سورة النحل: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: 4]، تذكر هذه الآية مبدأ التطور فى خلق الإنسان، ثم نهايته، مع الإعراض عن المراحل والتطورات التى بينهما، والحكمة فى ذلك أن هذه السورة جاءت لتعديد نعم الله تعالى على خلقه، حتى سماها بعض المفسرين سورة النعم. من أجل ذلك ذكرت الآية المبدأ الأول لتصوير الإنسان وتخليقه، ثم طوت المراحل المترتبة على هذا المبدأ، وأتت بالنتيجة والغاية، وهو أنه خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: 4]، إذ أن ذلك فى باب تعداد النعم ظاهر، واضح، ومشاهد محسوس، ومما يدل على أن هناك وسائط وأطوارا فى الآية الكريمة، وجود فاء التعقيب، وإذا التى للمفاجأة، فإن كونه خصيما لا يعقب ولا يفاجئ كونه نطفة، والمعنى أنه قوى واشتد بتنقله فى هذه الأطوار، حتى أعقب ذلك وفاجأه أنه خصيم مبين، ومعنى أنه خصيم مبين، أى شديد الخصومة بينها يفصح عما فى نفسه بالنطق والبيان. 2 - قوله تعالى فى سورة الزمر: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6]، تتصل هذه الجملة الكريمة بأول الآية قبلها: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الزمر: 6]، فهى بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسى، إظهارا لما فيها من عجائب القدرة. ومعنى قوله تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: 6]، أى حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما، من بعد عظام عادية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. وأما قوله سبحانه: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6]، فقد قال أئمة التفسير إنها ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة التى هى غلاف الولد، وظلمة البطن. أما أهل التشريح، فقد قالوا ما قرب من هذا، فقد جاء فى مجلة لواء الإسلام، العدد الثانى، شوال سنة (1387 هـ) (15) فبراير سنة (1964 م)، للأستاذ صلاح أبو إسماعيل، ما نصه: ثم نرهف السمع إلى علم الأجنة لنسمعه يقرر أن الجنين فى بطن أمه يكون محاطا بثلاثة أغشية صماء، لا ينفذ منها الماء، ولا الضوء، ولا الحرارة، ونرى هذا يلقى ضوءا على قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6]. أ. هـ.

ولا نرى تفاوتا كبيرا بين الرأيين، فقد تكون المشيمة التى قال بها أئمة التفسير إحدى هذه الأغشية، ويعلوها الغشاءان الآخران. 3 - قوله جل شأنه فى سورة عبس: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ [عبس: 17 - 23]. قال البيضاوى عند هذه الآية: دعاء عليه بأشنع الدعوات، وتعجب من إفراطه فى الكفران، وهو مع قصره يدل على سخط عظيم، وذم بليغ. فإن قيل: الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز، فكيف يليق ذلك بالقادر سبحانه؟ والتعجب أيضا إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء، فكيف يليق ذلك بالعالم جل شأنه؟ فالجواب أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب؛ لبيان استحقاقه لأعظم العقاب، حيث أتى بأعظم القبائح، كقولهم إذا تعجبوا من شىء: قاتله الله ما أخبثه، وأخزاه الله ما أظلمه، وقيل: ما أكفره بالله ونعمه، مع معرفته بكثرة إحسانه إليه، وأيا ما كان فهو ذم وتقبيح للإنسان حيث أعرض عن النظر والتفكير. قوله سبحانه: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18]، شروع فى بيان ما أنعم به عليه بعد المبالغة فى وصفه بكفران نعم خالقه، والاستفهام فيه للتقرير، أى إيقاف الإنسان الكافر على حال شأنه وتعريفه بها، وهى حال حقيرة لا تستدعى أن يكون كافرا متكبرا. وذكر الجواب فى قوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ [عبس: 19]، لا يقتضى أن الاستفهام حقيقى؛ لأن المراد بهذا الجواب ما هو على صورته؛ لأنه بدل من قوله: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18]، فكأنه قيل بادئ ذى بدء: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ [عبس: 19]. وقوله جل شأنه: فَقَدَّرَهُ [عبس: 19]، أى علقة، ثم مضغة، إلى آخر خلقه، وقيل سواه، كقوله: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف: 37]، أى قدر كل عضو فى الكيفية والكمية، بالقدر اللائق لمصلحته، كقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2]، والفاء على هذه الأقوال للترتيب فى الذكر، لا فى الوجود الزمنى، إذ المعنى أنه خلقه مصاحبا للتقدير، وقوله سبحانه: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس: 20]،

يصح أن يكون المراد بالسبيل طريق خروجه من بطن أمه، فتكون «أل» عوضا عن الضمير، والمعنى: ثم سبيله، أى طريق خروج الإنسان من بطن أمه، يسره الله له، وسهل عليه خروجه، ويصح أن يكون المراد به أيضا السبيل العام، أى طريق الخير والشر، ويكون منصوبا على الاشتغال بفعل مقدر تقديره: ثم يسر السبيل يسره، فالضمير فى يسره للسبيل، أى سهل السبيل للإنسان، كقوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50]. وقوله جل وعلا: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس: 21] عد الإماتة من النعم؛ لأنها وصلته فى الجملة إلى الحياة الأبدية، والنعم المقيم، فَأَقْبَرَهُ أى جعله فى قبر يستره، وإنما لم يقل: فقبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر هو الله تعالى، يقال: قبر الميت، إذا دفنه، وأقبره، إذا أمر غيره أن يجعله فى قبر، وكان القبر إكراما للإنسان، حيث لم يكن كغيره من بقية الحيوانات يلقى على الأرض عند موته تأكله الطير، والهوام، وتنهشه السباع. وقد أشارت الآية إلى إيجاب المبادرة بتجهيز الميت من غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، بالفاء التى تفيد التعقيب من غير مهلة فى قوله: فَأَقْبَرَهُ. وقوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22]، أى أحياه بعد موته للبعث، ومفعول شاء محذوف، أى شاء إنشاره، وأنشره جواب إِذا، وعبر بكلمة إِذا؛ لأن وقت المشيئة غير معلوم، وأما سائر الأحوال المذكورة قبل، فتعلم أوقاتها من بعض الوجوه، ثم تفوض إلى المشيئة. وقوله: كَلَّا [عبس: 23]، ردع للإنسان عما هو عليه من الكبر، والترفع، والإصرار على إنكار التوحيد والبعث، وعلى هذا تكون متعلقة بما قبلها، والوقف عليها حسن، ويكون قوله سبحانه: لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ [عبس: 23]، سببا لهذا الردع، وهذا ما قاله الزمخشرى، وتبعه البيضاوى، وقيل: معناها حقا، وبه قال الجلال المحلى، وأبو السعود، وعليه تكون متعلقة بما بعدها، أعنى قوله: لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ [عبس: 23]، والوقف حينئذ قبيح. وقوله تعالى: لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ [عبس: 23]، أى لم يفعل الإنسان من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ما أمره الله به مما افترضه عليه، فالضمير فى يَقْضِ للإنسان

بمعنى العموم، ويصح أن يكون راجعا إلى الإنسان الكافر فى قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ [عبس: 17]، والمعنى عليه أن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به ربه من التأمل فى دلائل عجائب خلق الله تعالى (¬1). ثانيا: آيات فى إمداد الإنسان بما يحتاج إليه من رزق وطعام: قدمنا دلائل القرآن على الماديين فى إثبات وجود البارى بذكر خلق الإنسان، وتطوراته، وبيان نشأته، وهى وقائع محسوسة، وآيات ملموسة لا يتأتى لعاقل إنكارها، ولا يستطيع ذو فطرة سليمة أن يجحدها، اللهم إلا عند من خسر نفسه، وكفر بالضروريات والمشاهدات، وصدق الله إذ يقول: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان: 32]. ثم إن الله تعالى أمد الإنسان بإمدادات هى قوام حياته، وأصل غذائه ومعاشه، وأساس منافعه وحاجاته، هى أيضا براهين ودلائل على وجود الخالق سبحانه، منعما عظيما، وبرا رحيما، ومتفضلا دائم الفضل، عميم الكرم. ونسوق فيما يأتى بعض هذه الإمدادات، وتلك النعم، بيانا للضالين، وعظة وعبرة للمتقين. ¬

_ (¬1) قبل أن ندع الحديث عن خلق الإنسان، أحب أن أشير إلى رأى علمى ساقه الدكتور جمال الدين حسين مهران، بكلية الصيدلة، جامعة القاهرة، ونشر فى جريدة الأهرام (28/ 8/ 1981) بيانا للآية الكريمة: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ: يأمرنا الله أن ينظر الإنسان فى نشأته كى يحس بدلائل قدرة خالقه؛ ليستدل بذلك أن الذى أنشأه قادر على إعادة خلقه بعد موته. وقد خلق الإنسان من ماء متدفق يندفع من بين الصلب، وهو منطقة العمود الفقرى، والترائب وهى عظام الصدر. وقد أبانت دراسات علم الأجنة الحديثة أن نواة الجهاز التناسلى والجهاز البولى فى الجنين تظهر بين خلايا الطبقة الجرثومية الوسطى الموجودة بين المنطقة الصدرية والمنطقة القطنية أو البطنية للعمود الفقرى، وتبقى الكلى فى مكانها، وتنزل الخصية إلى مكانها المعروف فى الصفن عند الولادة، وعلى الرغم من انحدار الخصية إلى أسفل، فإن الشريان الذى يغذيها بالدم طيلة حياتها يتفرع من الأورطية بحذاء الشريان الكلوى. كما أن العصب الذى ينقل الإحساس إليها، ويساعدها على إنتاج الحيوانات المنوية، وما يصاحب ذلك من سوائل، متفرع من العصب الصدرى العاشر الذى يغادر النخاع الشوكى بين الضلعين العاشر والحادى عشر، مما يظهر أن الأعضاء التناسلية وما يغذيها من أعصاب وأوعية دموية تنشأ من موضع فى الجسم بين الصلب والترائب، أى بين المنطقة القطنية والمنطقة الصدرية للعمود الفقرى.

1 - قال الله تعالى فى سورة عبس: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 24 - 32]. تفسير إجمالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ، أى يوقع النظر التام بكل شىء يقدر عليه من بصر وبصيرة، إِلى طَعامِهِ [عبس: 24] الذى هو قوام حياته، كيف هيأ له أسباب المعاش ليستعد بها إلى المعاد. وقوله تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عبس: 25]، بفتح الهمزة على البدل من طَعامِهِ بدل اشتمال، بمعنى أن صب الماء سبب فى إخراج الطعام، فهو أى إخراج الطعام، مشتمل عليه، أو بمعنى أن هذه الأشياء، أعنى صب الماء وشق الأرض، مشتملة على الطعام؛ لأن معنى قوله تعالى: إِلى طَعامِهِ إلى حدوث طعامه، فالاشتمال على هذا من باب اشتمال الثانى على الأول؛ لأن النظر والاعتبار إنما هو فى الأشياء التى يتكون منها الطعام لا فى الطعام نفسه، وقوله سبحانه: ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 26]، أى بعد مهلة من إنزال الماء شققنا الأرض بالنبات، الذى هو فى غاية الضعف عن شق أضعف الأشياء، فكيف بالأرض الصلبة؟! ثم سبب عن هذا الشق ما هو كالتفسير له، فقال تعالى: فَأَنْبَتْنا بما لنا من القدرة التامة فِيها حَبًّا [عبس: 27]، جمع حبة، بفتح الحاء، هو ما يحصده الناس ويدخرونه، كالقمح، والشعير، وأما الحبة، بكسر الحاء، فهو كل ما ينبت من البذور لا يحفل به، ولا هو يدخر، وقدم الحب على غيره من المذكورات؛ لأنه كالأصل فى التغذية. وَعِنَباً ذكره بعد الحب؛ لأنه غذاء من جهة، وفاكهة من جهة، وَقَضْباً [عبس: 28]. قال ابن عباس، رضى الله عنهما: هو الرطب؛ لأنه يقتضب من النخل، أى يقطع، ورجحه بعضهم لذكره بعد العنب؛ لأنهما يقترنان كثيرا. وَزَيْتُوناً، وهو ما يعصر منه الزيت، وَنَخْلًا [عبس: 29]، جمع نخلة، فكل من هذه الأشجار مخالف للآخر فى الشكل والحمل، وغير ذلك، مع الموافقة فى الأرض، والسقى، فليتدبر هذا جيدا. وَحَدائِقَ غُلْباً [عبس: 30]، الحديقة الشجر الذى قد أحدق بجدار ونحوه،

وغُلْباً جمع أغلب وغلباء، كحمر فى أحمر وحمراء، والمراد بساتين كثيرة الشجر غلاظه، وَفاكِهَةً وهى ما تأكله الناس من ثمار الأشجار، كالتين والخوخ، فهو من عطف العام على الخاص، إذا قلنا: إنه معطوف على قوله: عِنَباً، وأما إذا عطف على حَدائِقَ كما هو المتبادر، فهو عطف خاص على عام. وقوله تعالى: وَأَبًّا [عبس: 31] مأخوذ من أبه إذا أمه، أى قصده؛ لأنه يؤب، أى يؤم، أو من أب لكذا، إذا تهيأ له؛ لأنه متهيأ للرعى. وفى المصباح: الأبّ المرعى الذى لم يزرعه الناس مما تأكله الدواب والأنعام. وقوله تعالى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 32] متاعا مفعول لأجله أو مطلق، والعامل فيه محذوف وتقديره فعل ذلك متاعا لكم أو متعكم كذلك تمتيعا، والمعنى تتمتعون به أنتم وأنعامكم، فابن آدم فى السبعة المذكورة، والأنعام فى الأب، وخصصت الأنعام بالذكر لكثرة الانتفاع بها، وإلا فغير الأنعام تنتفع بما تنتفع به الأنعام. 2 - قال تعالى فى سورة النبأ: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: 14 - 16]، ونرى فى هذه الآى سوق المعنى فى إيجاز بليغ، وأسلوب بديع، شأن القرآن الكريم فى تكرير المعنى على صور شتى من البلاغة الخارقة، والإعجاز المنقطع النظير. قوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً، المعصرات هى السحائب الماطرة، وهو مأخوذ من العصر؛ لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء، والعاصر لهذه السحب هو الريح، ومعنى الثجاج السريع الاندفاع، كما يندفع الدم من العروق فى الذبيحة، ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم وقد قيل له: ما أفضل الحج؟ فقال: «العج والثج»، أراد بالعج التضرع إلى الله تعالى بالدعاء الجهير، وبالثج ذبح الهدى. قوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ، أى الماء، حَبًّا، أى نجما (¬1) ذا حب مما يتقوّت به، كالحنطة، والشعير، والأرز، وَنَباتاً، أى ما يعتلف به كالتبن، والحشائش، كما قال تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54]. وَجَنَّاتٍ، أى بساتين تجمع أنواع الشجر والنبات، أَلْفافاً، أى ملتفة الأغصان والأوراق، جمع لفيف، كشريف وأشراف. ¬

_ (¬1) النجم من النبات: ما ليس له ساق.

3 - قال سبحانه فى سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزمر: 21]. تبين لنا هذه الآية أن ماء المطر قد يدخله الله تعالى فى الأرض فى أمكنة قريبة ينبع منها، بحيث لا يستعصى على الناس إخراجه، ولا يتعذر عليهم الحصول عليه عند ضرورياتهم وحاجتهم، رحمة منه بخلقه، ولطفا بعباده، وتدبيرا محكما لسد عوزهم، وإنجائهم من المهلكات، فالآية الكريمة توقف المخاطب على ما يشاهده من نزول الماء على هذه الصفة، وعلى هذا النحو الذى لا ينكر، وقوله: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ [الزمر: 21]، أى أدخله ينابيع فى الأرض، وهى عيون ومجار كائنة فيها، وكانت هذه العيون وتلك المجارى قريبة من سطح الأرض، ولم تكن بعيدة فى أسفلها جدا، بحيث يشق على الناس إخراج الماء منها. وقوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ [الزمر: 21]، المراد بالزرع جميع ما يستنبت من الأرض، ومعنى اختلاف ألوانه خضرته، وصفرته، وبياضه، إلى غير ذلك، ويشمل اختلاف الأصناف كذلك من برّ، وشعير، وسمسم، وغيرها. وقوله تعالى: ثُمَّ يَهِيجُ، أى ييبس، فَتَراهُ بعد الخضرة مثلا مصفرا من يبسه؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن ينفصل عن منابته، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتا، إِنَّ فِي ذلِكَ، التدبير لَذِكْرى تذكيرا وتنبيها لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزمر: 21]، أصحاب العقول الصافية، فيتذكرون هذه الأحوال فى النبات، فيعلمون أنه لا بدّ لها من صانع حكيم دبر أحوالها، وهيأها على هذا النحو العجيب. 4 - قال تعالى فى سورة المؤمنون: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون: 18]، أتت هذه الآية بالمعنى المتقدم، مع بيان أن إنزال الماء كان بميزان مضبوط يتمشى مع مصالح البلاد والعباد، وتحيا به الخلائق والكائنات، فليس فيه زيادة على المصلحة، فيكون الغرق والهلاك، وليس فيه نقص، فيكون القحط والجدب. ونريد أن نقف قليلا عند قوله سبحانه: بِقَدَرٍ [المؤمنون: 18]، فهذا يدل على أن نزول الماء لم يكن من طبيعة السماء، ولا من مادتها، ولا بحكم أنها سماء، وإلا لكان

إما زائدا عن المصلحة، وإما ناقصا عنها، وإما متمشيا، وفى حال تمشيه معها، لم يكن عن قصد أو تدبير، وإنما هو بالمصادفة، فليس إنزاله على تلك الضوابط العجيبة والموازين الدقيقة إلا للقادر المختار، الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى. كما أن فى قوله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون: 18]، ما يفيد هذا المعنى أيضا، فلم يكن وجود الماء فى الأرض من ذاتها أو طبيعتها، ولا بحكم أنها أرض، وإلا لبقى دائما أبدا لا يزول ولا يحول، وكم سمعنا ورأينا ذهاب الماء من أرض كان فى باطنها، وخلوها منه بعد أن كان متمكنا فيها. فقدرة الله سبحانه على إذهاب الماء من الأرض قدرة فائقة، لا يتعاظمها شىء، ولا يقف أمامها مانع، كما هو ظاهر من التعبير القرآنى، فما دام الموجد لهذا الماء والمخترع له هو الله الفاعل المختار، فهو كذلك القادر على رفعه، وإزالته، وزواله، فعلى العباد أن يستنبطوا النعمة فى الماء، ويقيدوها بالشكر الدائم. 5 - قال سبحانه فى سورة يس: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس: 33 - 36]. نرى فى هذا تصريحا بأن عملية إنزال الماء، وإخراج النبات به، وما إلى ذلك، دليل واضح، وبرهان ظاهر على توحيد الله تعالى وقدرته الباهرة. وإذا كان جل ذكره يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82]، ويقول: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: 29]، ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24]، فعلى المؤمن العاقل أن يتدبر هذه الآية التى نحن فيها وأمثالها مما قدمنا؛ لاستخراج ما فيها من المعانى الدالة على جلال الخالق سبحانه وكماله. ومن هنا أنشد الإمام القشيرى معنفا وموبخا من أهمل ذلك ولم يحفل به، يقول: يا من تصدر فى دست الإمامة فى ... مسائل الفقه إملاء وتدريسا (¬1) غفلت عن حجج التوحيد تحكمها ... شيدت فرعا وما مهدت تأسيسا ¬

_ (¬1) الدست: فارسى معرب، بمعنى اليد، يطلق على التمكن فى المناصب والصدارة.

ثالثا: آيات فى بعض مظاهر الكون: آية اختلاف الليل والنهار: وسوف نطيل الكلام فيها؛ لما لها من عموم النفع، وظهور دلالتها على المراد، فكل من الليل والنهار يتوارد على الآخر، فبينما النهار مضىء يجلى الأرض بنوره، ويعمها بضيائه، إذا بالليل يغشاه، فترى المعمورة وقد عمها الظلام الحالك، وسادها السكون القاطع للأعمال، والمريح للأبدان، فهذا التوارد، أعنى ذهاب إحداهما ومجىء الآخر مكانه دون توقف أو تغير، آية دالة على وجود الله سبحانه، وتوحيده، وعظيم قدرته، كما أن اختلافهما بالزيادة والنقصان دون أن يحصل لهذه الزيادة أو ذلك النقصان أدنى تغير على مر السنين والأعوام، لأقوى دليل على المراد. وقال بعض العلماء: وعندى فيه وجه ثالث، وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر فى الأزمنة، فهما يختلفان فى الأمكنة، فإن من يقول: إن الأرض كرة، فكل ساعة عينتها، فتلك فى موضع من الأرض صبح، وفى موضع آخر عصر، وفى آخر مغرب، وفى آخر عشاء، وهلم جرا، إذا اعتبرنا البلاد المختلفة فى الطول، أما البلاد المختلفة فى العرض، فكل بلد عرضه للشمال أكثر كانت أيامه الصيفية أقصر، وأيامه الشتوية بالضد من ذلك، فهذه الأحوال المختلفة فى الأيام والليالى بحسب أطوال البلاد وعرضها أمر عجيب. أ. هـ. يضاف إلى ما تقدم انتظار أحوال العباد فى معاشهم بالراحة فى الليل، والسعى فى النهار، مصداق قوله تعالى فى سورة القصص: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 71 - 73]. وما أبدع قوله سبحانه فى سورة الرعد فى التعبير عما فى الليل والنهار من آية بقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الرعد: 3]، وذلك أن قوله: يُغْشِي يفيد صراحة أن الليل بظلمته يستر النهار كله، فلم يبق هناك موضع للضوء أصلا، مع ما فيه من الاستعارة البديعة، وبيان ذلك أن الإغشاء إنما هو إلباس الشيء، ولما كان إلباس الليل النهار، وتغطية النهار به غير معقول؛ لأنهما متضادان لا يجتمعان، واللباس لا بدّ أن

يجتمع مع اللابس، كان لا بدّ من تقدير مضاف، أى يغشى الليل مكان النهار، ومكان النهار هو الجو، فيكون الجو هو الذى يلبس ظلمة الليل ويجتمع معها، ولا منافاة فى ذلك. أما الاستعارة، فهى أن يقال: شبه إحداث الظلمة فى الجو الذى هو مكان الضوء بإغشائها إياه، وتغطيته بها بجامع مطلق الستر فى كل، واستعير الإغشاء بمعنى إلباس الظلمة للجو، لإحداث الظلمة به، ثم اشتق منه يغشى بمعنى يلبس على طريق الاستعارة التبعية. وإنما لم يذكر عكسه: ويغشى النهار الليل؛ للعلم به من باب الاكتفاء بذكر أحد الضدين، كما فى قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81]، أى والبرد. وهذا الاكتفاء والحذف فى هذه الآية يشبه الاكتفاء والحذف فى سورة يس: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس: 37]، فإنه صرح بآية الليل دون آية النهار، مع أن السياق يرشد حتما إلى أن التقدير: والنهار نسلخ منه الليل، فإذا هم مبصرون. وفى نَسْلَخُ استعارة تصريحية تبعية، وذلك أنه شبه انكشاف ظلمة الليل بكشط الجلد من الشاة، والجامع ما يعقل من ترتب أحدهما على الآخر، واستعير كشط الجلد، أى سلخه، لانكشاف ظلمة الليل، واشتق منه نَسْلَخُ بمعنى نكشف، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. والعجيب فى أمر الليل والنهار أن كلا منهما فى مدته وما حدد له من زمن، لا يغلب أحدهما الآخر، فكل منهما مقهور فى خصائصه ومميزاته بإرادة الفاعل المختار، وقدرة القادر الذى لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء، وهذا ما يعطيه قوله جل جلاله فى سورة يس أيضا: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40]. فالشمس التى هى آية لا ينبغى لها، أى لا يسهل عليها، ما دام هذا الكون موجودا على ذلك الترتيب والنظام البديع، أن تدرك القمر فتجتمع معه فى الليل، فما النهار سابق الليل، ولا الليل سابق النهار، أى فلا يأتى أحدهما قبل انقضاء الآخر، فالآية من الاحتباك؛ لأنه نفى أولا إدراك الشمس للقمر، ففيه دليل على ما حذف من الثانى من

نفى إدراك القمر للشمس، أى فيلغيها، وإن كان يوجد فى النهار، لكن من غير سلطنة فيه بخلاف الشمس، فإنها لا تكون فى الليل أصلا، ونفى ثانيا سبق الليل النهار، وفيه دليل على حذف سبق النهار للّيل، وكل من الشمس والقمر فى فلك محيط به، وهو الجسم المستدير، أو السطح المستدير، أو الدائرة؛ لأن أهل اللغة على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها، وفلكة الخيمة هى الخشبة المسطحة المستديرة التى توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة. ولما ذكر لها فعل العقلاء من كونها على نظام محرر لا يختل، وسير مقدر لا يعوج، جمعها جمعهم بقوله سبحانه: يَسْبَحُونَ يعنى جمعها جمع العقلاء، لا أنها ذات عقل وحياة، بل لما تقدم من نظامها الدقيق، وسيرها العجيب، خلافا لما قال به بعض المنجمين من أن لها عقلا وحياة. قال الرازى: إن أردتم القدر الذى يصح به التسبيح فنقول به؛ لأنه ما من شىء من الأشياء إلا وهو يسبح بحمد الله، وإن أردتم شيئا آخر، فلم يثبت ذلك، والاستعمال لا يدل عليه، كما فى قوله تعالى فى حق الأصنام: ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ [الصافات: 92]، وقوله: ألا تنطقون (¬1). أ. هـ. ومما يزيد معنى اختلاف الليل والنهار وضوحا وتبيانا، قوله سبحانه فى سورة النور: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [النور: 44]، فالله الذى له الأمر كله يحول الظلام ضياء، والضياء ظلاما، ويزيد أحدهما تارة، وينقصه تارة أخرى، مع المطر تارة، والصحو أخرى، فينشأ من ذلك التقليب من الحر والبرد، وغير ذلك ما يبهر العقول، ولهذا قال سبحانه منبها على النتيجة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [النور: 44]، على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته. هذا وفى قوله سبحانه فى سورة الزمر ما يؤكد هذا المعنى، وهو قوله جل شأنه: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5]، والمعنى يدخل الليل على النهار، ويدخل النهار على الليل. وقيل: ينقص من الليل فيزيد فى النهار، وينقص من النهار فيزيد فى الليل، فما نقص من الليل دخل فى النهار، وما نقص من النهار دخل فى الليل. ¬

_ (¬1) انظر: التفسير الكبير (ج 26) (ص 77) طبعة دار الفكر.

قال البغوى: ومنتهى النقص تسع ساعات، ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة. وقال الرازى: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفى كل يوم يغلب هذا ذاك، وذاك هذا، وفى ذلك دلالة على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور، ولا بدّ من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره، وهو الله تعالى. رحم الله الرازى، وجزاه عن الإسلام والحقيقة خير الجزاء. دلائل من سورة الرعد: هذا وقد رأينا أن نسوق أوائل سورة الرعد، فقد جمعت ثمانية أدلة، منها اثنتان سماويتان، وستة أرضية، قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 2 - 4]. الدليل الأول: قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرعد: 2]: ذكرت هذه الآية عقب قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1]، برهانا قويا على التوحيد، ودليلا ساطعا على عظمة البارى وقدرته، ومعنى قوله: رَفَعَ السَّماواتِ [الرعد: 2]، أى أنشأها مرفوعة لا أنها كانت موضوعة فرفعها، ولكن جعلها فى الابتداء مرفوعة، ودلالة ذلك على التوحيد ظاهرة، فإنه لا يقدر على رفع ما فيه سعة وبعد بغير عمد إلا الله الواحد القهار. وتوضيح تلك الدلالة أن ارتفاعها على سائر الأجسام ليس مقتضى جسميتها، ولا مقتضى ذاتها أو ذات غيرها، وإلا كان كل جسم كذلك، ولا مقتضى خصوصيتها النوعية؛ لأنا ننقل الكلام إلى اختصاصها بتلك الخصوصية، فنقول: إن اختصاصها بها ليس لجسميتها، وإلا كان كل جسم كذلك، وليس اختصاصها بهذه الخصوصية لذاتها ولا لذات غيرها؛ لأن الأجسام والأحياز متساوية، فتعين أن يكون لارتفاعها مخصص خارجى ليس جسما ولا جسمانيا، وإلا لكان له حيز يشغله بذاته، أو بتبعية موضوعه، ولا بدّ أن يكون ذلك المخصص أيضا فاعلا مختارا يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته.

وقوله: بِغَيْرِ عَمَدٍ، أى رفعها خالية عن عمد مرئية، وانتفاء العمد المرئية يحتمل أن يكون لانتفاء العمد والرؤية جميعا، أى لا عمد لها فلا ترى، ويحتمل أن يكون الانتفاء للرؤية فقط بأن يكون لها عمد غير مرئى، وهو القدرة، فإنه تعالى يمسكها مرفوعة بقدرته، فكأنها عماد لها، فقوله: بِغَيْرِ عَمَدٍ معناه بغير عمد مرئية، فكلمة النفى وإن كانت متقدمة فى الذكر، فهى متأخرة فى المعنى، وكونها مرفوعة بعماد غير مرئى مثل كونها مرفوعة بغير عماد أصلا فى كون ذلك الرفع عجيبا خارجا عن دائرة العقل والخيال، فإنا لا نتعقل ارتفاع السقف الواسع الرفيع السميك بغير عمد مرئية، ونظير الآية فى الاحتمالين قولك: ما رأيت رجلا صالحا، فإن صدقه يحتمل أن يكون لانتفاء الرجل والصلاح جميعا أو لانتفاء الصلاح وحده. ويصح أن يكون قوله: تَرَوْنَها استئنافا، والضمير فيه يعود على السموات بعد أن كان راجعا إلى العمد فيما تقدم، والجملة لا محل لها من الإعراب، كأنه قيل: ما الدليل على أن السموات مرفوعة بغير عمد، فأجيب بأنكم ترونها غير معمودة، أو فاستشهد على كونها مرفوعة بغير عمد برؤية الناس لها كذلك. الدليل الثانى: قوله سبحانه: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد: 2]: والمعنى أنه سبحانه ذلل الشمس والقمر لمنافع خلقه مقهورين، يجريان على ما يريده سبحانه، كل منهما فى فلكه إلى وقت معلوم، وهو فناء الدنيا وزوالها، فعند ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات، وتبطل تلك التسخيرات، كما وصف الله تعالى ذلك فى قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: 1، 2]، وقوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1]، وقوله: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1]. ويصح أن يكون معنى الأجل المسمى هو المدة المعينة لكل منهما التى يتم فيها أدواره فى منازله المخصصة له، والتى ينجم عنها الشهر بالنسبة للقمر، والسنة بالنسبة للشمس، على ما يقوله أهل الفلك. ووجه الدلالة على المراد فى هذا الشأن أن اختصاصهما بالحركة الدائمة على وجه مخصوص من البطء والسرعة، ونسق معين، مع كون الأجسام متماثلة، لا بدّ له من مخصص، كما تقدم ذكره عند الدليل السابق. هذا ولما كان خلق السموات والأرض غيبا لتقدمه، وكان مقصودنا إلزام الماديين بما

يشاهدون بالحس ويرون بالعين، كان الاستدلال برفع السموات بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر، وغير ذلك بما سيأتى أدخل فى بيان المراد، والزام لهم مما لا يشاهدونه، وإن كان فى خلق السموات والأرض ذاته دليل من غير شك على وجود الصانع سبحانه لمن عنده عقل صحيح خال من الشوائب والكدورات. ولما ذكر تعالى دلائل وحدانيته، وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد، وأحوال الشمس والقمر، أردفها بذكر الدلائل الأرضية كما يأتى. الدليل الثالث: قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [الرعد: 3]: والمعنى أنه سبحانه بسط الأرض طولا وعرضا؛ لتثبت عليها الأقدام، ويتقلب عليها الحيوان، ووجه الاستدلال بامتداد الأرض أن كونها ممدودة، أى ذات امتداد من الطول والعرض والعمق على قدر معين، مع جواز كونها أزيد مقدارا مما هى عليه الآن، أو أنقض منه، لا بدّ له من مخصص كما تقدم، ومد الأرض لا ينافى كونها كرة؛ لأن الكرة إذا كانت فى غاية الكبر، كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح. الدليل الرابع: قوله جل شأنه: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ [الرعد: 3]: أى أنه سبحانه خلق فى الأرض جبالا ثوابت باقية فى حيزها، غير متنقلة، لا تتحرك ولا يتحرك ما هى راسية فيه، وهذا لا يكون إلا بتخليق القادر الحكيم، فضلا عن أن حصولها فى بعض جوانب الأرض دون البعض الآخر، مع أن طبيعة الأرض واحدة، لا بدّ أن يكون بتخصيص الفاعل المختار. الدليل الخامس: قوله سبحانه: وَأَنْهاراً [الرعد: 3]: أى وجعل فى الأرض أنهارا جارية لمنافع الخلق، والنهر هو المجرى الواسع من مجارى الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار؛ لاتساع ضوئه. فمن ذا الذى هيأها لهذا النفع الدائم المتواصل للخلائق كلهم من إنسان، وحيوان، ودواب، وهوام، إنه ليس إلا الله الذى خلق كل شىء فقدره تقديرا. ثم إن فوائد المجارى المائية كثيرة، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر: 12].

الدليل السادس: قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرعد: 3]: أى جعل فى الأرض من جميع أنواع الثمار صنفين اثنين، والاختلاف إما من حيث الطعم، كالحلو والحامض، أو اللون، كالأسود والأبيض، أو الحجم، كالصغير والكبير، أو الطبيعة، كالحار والبارد، وتوضيح ذلك وبيانه أن الحبة إذا وقعت فى الأرض نبتت وربت، وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة، وهذا من جانب العجائب؛ لأن طبيعة الحبة واحدة، وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد، ثم إنه خرج من أحد جانبى تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء، ومن الجانب الآخر جرم غائص فى الأرض، ومن المحال أن يتولد من طبيعة واحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم. ثم إن الشجرة النابتة يكون بعضها خشبا، وبعضها نورة (¬1)، وبعضها ثمرة، وتلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع، فالجوز مثلا له أربعة أنواع من القشور، قشره الأعلى، وتحته القشرة الخشبية، وتحته القشرة المحيطة باللب، وتحت هذه القشرة قشرة أخرى فى غاية الدقة تمتاز عما فوقها، وأيضا فقد يحصل من الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة، فالعنب مثلا قشره وعجمه باردان يابسان، ولحمه وماؤه حاران رطبان، فتولد هذه الطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوى تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بدّ وأن يكون بتدبير العليم الحكيم. الدليل السابع: قوله جل شأنه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الرعد: 3]: أى يغطى الليل بظلمته النهار، وكذلك يغطى النهار بضوئه الليل، فيستدل بفعلهما على ما قدره الله تعالى لهما فى السير من الزيادة والنقصان، وقد تقدم لذلك مزيد إيضاح فى آية الليل والنهار، ولما كان غشيان الليل النهار ظاهرة تظهر للناس على سطح الأرض وينتفعون بها فى معاشهم، عدت من الأدلة الأرضية. الدليل الثامن: قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرعد: 4]: ذكر تعالى دليلا آخر ظاهرا جدا، وهو أن الأرض التى أنتم سكانها قِطَعٌ بقاع ¬

_ (¬1) النورة: الزهرة.

مختلفة مُتَجاوِراتٌ، أى متقاربات يقرب بعضها من بعض، واحدة طينية، والأخرى سبخة لا تنبت، وأخرى صالحة للزرع لا للشجر، وأخرى بالعكس، وأخرى قليلة الريع، وأخرى كثيرة. ولولا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه، لم تكن كذلك؛ لاشتراك تلك القطع فى الطبيعة الأرضية، وما يلزمها ويعرض لها من الأسباب السماوية، فليست هذه القطع الأرضية فى خواصها وأحوالها مستندة إلى الاتصالات الفلكية والحركات الكونية؛ لأن قطع الأرض مختلفة فى صفاتها، مع اشتراكها فى الطبيعة الأرضية، وكونها متجاورة متقابلة، بحيث يكون تأثير الشمس وسائر الكواكب فيها على السوية. ثم قال سبحانه وتعالى: وَجَنَّاتٌ [الرعد: 4]، أى بساتين فيها أنواع الأشجار المختلفة، مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ [الرعد: 4]، جمع صنو، وهى النخلات، يجمعها أصل واحد، وتتشعب فروعها، وَغَيْرُ صِنْوانٍ [الرعد: 4]، أى متفرقات مختلفة الأصول. ولما كان الماء بمنزلة الأب، والأرض بمنزلة الأم، وكان الاختلاف مع اتحاد الأم والأب، أعجب وأدل على الإسناد إلى الواحد المسبب، قال تعالى: يُسْقى [الرعد: 4]، أى الجنات بما فيها، بِماءٍ واحِدٍ [الرعد: 4]، فتخرج أغصانها وثمراتها فى وقت معلوم، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد: 4]، أى فى الطعم ما بين حلو وحامض، وفى الشكل، والرائحة، والمنفعة ... إلخ. وذلك مما يدل على القادر الفاعل المختار، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4]. دلائل من سورة النحل: وننتقل إلى سورة النحل، فنأتى منها ما يقوى المراد، ويزيد فى إيضاحه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10، 11]. من المعلوم والمشاهد أن النبات نوعان: أحدهما: معد لرعى الأنعام، وقد ذكره تعالى بقوله: تُسِيمُونَ. وثانيهما: مخلوق لأن يكون غذاء للإنسان، وهو المراد بقوله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ.

وكان الظاهر أن يقدم ما يأكله الإنسان، إلا أن مرعى الحيوان يكون بنية الحيوان الذى هو غذاء حيوانى للإنسان، وهو أشرف من الأغذية النباتية، فبهذا الاعتبار يكون مرعى الحيوان أشرف مما يأكله الإنسان، فلذلك قدم الأول على الثانى. ثم إن الغذاء النباتى قسمان: حبوب، وفاكهة، فهو تعالى أشار إلى الحبوب بلفظ الزرع، وإلى الفواكه بقول: الزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ، ولا شك أن الحبوب أشرف فى الغذائية من الفواكه، وأشرف الفواكه من الزيتون والنخيل والأعناب، فلذلك خص هذه الفواكه بالذكر، وأشرف هذه الثلاث هو الزيتون؛ لأنه فاكهة من وجه، وإدام من وجه؛ لكثرة ما فيه من الدهن، ومنافع الأدهان كثيرة، حيث تصلح للأكل، والطلى، واشتعال السرج، وأشرف الباقين النخل، فلذلك قدم الزيتون على النخل، وقدم النخل على الأعناب، وكان ختم الآية بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، تنبيها على أنه لا بدّ من مزيد التفكير فيما حوته الآية، وما اشتملت عليه، حتى يحصل المقصود تاما كاملا. وذلك أن أحوال النبات، وإن كانت دالة على وجود الله تعالى، إلا أن دلالتها تحتاج إلى تأمل، فإنه لما ذكر تعالى أنه أنزل من السماء ماء، فأنبت به الزرع والزيتون ... إلخ، قد يتوهم أن الاختلاف فى الفصول الأربعة، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب هى الموجدة لهذه الأشياء، فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال، لا يكون الاستدلال بأحوال النبات وافيا بإفادة المطلوب، قاطعا للشكوك والريب، وهذا الختم فى هذه الآية نظير ما ختمت به آية الرعد السابقة: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرعد: 3]، وقد بينا هناك ما فيه التفكير بالنسبة للحبة التى توضع فى الأرض، فيخرج أعلاها فى الهواء شجرا يحمل زهورا، وثمارا، ويغوص أسفلها عروقا فى الأرض، لا تحمل زهرا ولا ثمرا، إلى غير ذلك مما بيناه. ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12]، فالتسخير مراد به هنا أنه جل جلاله هيأ هذه الأشياء وجعلها على أحوال وصفات وأوضاع، بحيث ينتفع بها الإنسان، وتنظيم بها أحواله، وكان قوله: مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إعلاما بأن تأثير هذه الكونيات فى حوادث العالم السفلى ليس مستندا إلى الحركات الفلكية، وإلا لاحتاجت تلك الحركات إلى أن تستند إلى حركات أخرى، ولا شك أن الحركات

الكوكبية لا يمكن استنادها إلى أفلاك وكواكب أخرى، وإلا لزم الدور أو التسلسل، وكلاهما محال (¬1). ولا يمكن استناد تلك الحركات والأوضاع إلى قوة الأفلاك من حيث إنها أجسام متماثلة فى الجسمية، فلو كان جسم معين من تلك الأجسام علة لصفة، ووضع معين فى هذا الجسم، لكان كل جسم واجب الاتصاف بذلك الوضع والصفة، ولامتنع اختلاف الصفات والأوضاع، أى لأن السبب واحد، وهو الجسمية، وهو موجود فى الكل، ولكن الاختلاف فى الصفات والأوضاع موجود لم يمتنع، فالجسمية ليست هى السبب، فثبت أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا لكونه جسما، وبقى أن يكون متحركا لغيره، وذلك الغير إما أن يكون قوة قائمة به، أو أمرا مباينا له. والأول باطل كما تقدم بأن يقال: لم اختص ذلك الجسم بعينه بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام، فتعين أن تكون تلك الحركة مستندة إلى أمر مباين عنه، وذلك المباين لا يخلو إما أن يكون موجبا بالذات إلى جميع الأجسام على السوية، فلا يكون بعض الأجسام بقبول بعض الصفات المعينة أولى من بعض، لكن ثبت أن بعض الأجسام أولى ببعض الصفات من بعض الأجسام الأخرى، فتعين أن ذلك المباين فاعل مختار، وأن الحركات الفلكية على تقدير استناد الحوادث السفلية إليها حادثة بتخليق الله تعالى وتقديره وتكوينه جل شأنه. ولما تم هذا الدليل فى هذا المقام، ختمت الآية بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. رابعا: آيات فى مظاهر التدبير الإلهى لأحوال الناس الخاصة: 1 - أعمار الناس وآجالهم: ضبط بعض الباحثين أعمار الإنسان فى أربعة مراتب: المرتبة الأولى: سن الطفولة والنمو، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاثة وثلاثين سنة، وهو غاية سن الشباب وبلوغ الأشد. المرتبة الثانية: سن الوقوف، وهو من ثلاثة وثلاثين سنة إلى الأربعين، وهو غاية القوة وكمال العقل. ¬

_ (¬1) الدور هو توقف معلول على علة توقفت عليه بمرتبة أو بمراتب، وهو باطل؛ لأنه يلزم تقدم الشيء على نفسه، وإن استمرت سلسلة العلل والمعلولات إلى غير نهاية، فهو التسلسل المحال ببراهين متعددة ذكرها العلماء.

المرتبة الثالثة: سن الكهولة، وهو من الأربعين إلى الستين، وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان فى النقص، لكنه نقص خفى قد لا يظهر. المرتبة الرابعة: سن الشيخوخة والانحطاط الظاهر، وتمامه عند الأطباء إلى مائة وعشرين سنة. فهذا الاختلاف فى الجسم الإنسانى بالتزايد، والنقص، والانحطاط الخفى والجلى، مع استواء أحوال التربية والتدبير الكائنين من قبل نفسه، يدل على أنه بتدبير الفاعل المختار، قال تعالى فى سورة النحل: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [النحل: 70]. فقوله: يَتَوَفَّاكُمْ، أى بآجال مختلفة، فلا يقدر الصغير أن يؤخر، ولا الكبير أن يقدم، فمنكم من يموت على حال قوته، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وقوله سبحانه فى آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، يعنى عليم بمقادير أعمارهم، يميت الشاب النشيط، ويبقى الهرم الفانى، وفى ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم، وعدل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبيعيون، لم يبلغ التفاوت بينهم هذا المبلغ. 2 - البر يلد الفاجر، والفاجر يلد البر: أما أن البرّ يلد الفاجر، فهو ما يصرح به قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وولده إسحاق، عليهما السلام: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 113]. قال صاحب الكشاف عند هذه الآية ما نصه: وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجرى أمرهما على العرق والعنصر، وهذا ما يهدم أمر الطبائع والعناصر. وأما أن الفاجر يلد البر، فهو ما يشير إليه قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74]، على أرجح الأقوال أنه أبوه لا عمه. ولا شك أن الماديين يرون هذه المخالفات بعقولهم، ويبصرونها بأعينهم، فبماذا يعللونها وقد انقطع أصلهم، وانهدم ركنهم بمثل هذه الوقائع وتلك المشاهدات. وإنا لا نأتى إليهم بمثل هذه الحقائق من حيث إن القرآن الكريم قالها، فهم قاتلهم الله لا يؤمنون به، وإنما نأتى إليهم من حيث إن القرآن ذكرها حقيقة محسوسة، وواقعة ملموسة

لا يستطيعون لها نكرانا. وما أجمل قول القائل: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه ... ومن عجب جادت يد الشوك بالورد وقد يخبث الفرع الذى طاب أصله ... ليظهر سر الله فى العكس والطرد 3 - الأحمق المرزوق: هو آية ظاهرة على تدبير الله تعالى، وحكمته، وتفرده بالملك والسلطان، فليس غنى هذا المكثر الأحمق من كياسته، ووفرة عقله، فهو خلو من ذلك، ولا بكثرة سعيه واجتهاده، فهو خامل غير مصيب فى رأيه، كما أن فقر العاقل ليس من بلادته، ونقصان عقله، وقلة سعيه، فإنك ترى أكيس الناس وأعقلهم يفنى عمره فى طلب القليل من الدنيا، ولا ينال ذلك، وترى أجهل الناس وأخسهم عقلا تنفتح عليه الدنيا، فلما رأينا الأعقل الأفضل أقل نصيبا، والآخر الأجهل أوفر نصيبا، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام الذى يفعل ما يشاء، كما قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: 32]. وما أجمل قول من قال: كم عالم يسكن بيتا بالكرى (¬1) ... وجاهل يملك دورا وقرى لما قرأنا قوله سبحانه ... نحن قسمنا بينهم زال المرا وهكذا تجاوب المؤمنون الصادقون مع هذا التدبير الإلهى العظيم، وهذا الوضع الربانى الحكيم. ومن ذلك قول الإمام الشافعى، رضى الله عنه: ومن الدليل على القضاء وحكمه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق وقول سفيان بن عيينة: كم من قوى قوى فى تقلبه ... مهذب الرأى عنه الرزق ينحرف وكم ضعيف ضعيف فى تقلبه ... كأنه من خليج البحر يغترف هذا دليل على أن الإله له ... فى الخلق سر ليس ينكشف أما من لم يفطن لهذه الحكمة، وغابت عنه تلك الدقيقة، فقد تبرموا وضجروا، حتى قال قائلهم: كم عالم ضاقت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذى ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا ¬

_ (¬1) بالإيجار.

ولو اهتدى هذا القائل بنور الحقيقة، واستضاء بنور الشريعة، لانقلب صديقا لا زنديقا، على نحو ما قدمنا عن الأئمة السابقين. 4 - الذكاء والبلادة، أو العلم والجهل: كم يؤسف العالم ويحزنه أن يرى ولده لا يأبه بالعلم، ولا ينهج نهجه، ولكن ما الحيلة أمام قضاء الله وتدبيره، فليس فى طرق الإنسان الحكيم أن يورث ولده الحكمة، أو أن يذيقه كأس المعرفة، وهنا يتجلى صدق الله فى قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [البقرة: 269]. وفى هذا المعنى يقول العالم الفاضل حنفى ناصف، رحمه الله تعالى: أتقضي معى إن حان حينى (¬1) تجاربى ... وما نلتها إلا بطول عنائى وأبذل جهدى فى اكتساب معارف ... ويفنى الذى حصلته بفنائى ويحزننى ألا أرى لى حيلة ... لإعطائها من يستحق عطائى إذا ورث الجهال أبناءهم ... غنى وجاها فما أشقى بنى الحكماء لكنه كما قلنا شىء خارج عن الطوق الإنسانى اقتضته حكمة العليم الحكيم، الذى أحاط بكل شىء علما، والذى دلنا بهذا التدبير على أنه ذو الجلال والإكرام. المنهج القرآنى فى الدلالة على وجود الصانع: كما يراه ابن رشد (¬2): إذا تصفحت آيات الكتاب العزيز، وجدتها تنحصر فى ثلاثة أنواع: إما آيات تتضمن التنبيه على العناية، أعنى كون الشيء على وضع معين وصفة معينة، وإما آيات تتضمن التنبيه على الاختراع لجوهر الأشياء، وإما آيات تجمع بين الأمرين جميعا. آيات العناية فقط: مثل قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: 6، 7]، إلى ¬

_ (¬1) الموت. (¬2) ابن رشد هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، ولد بقرطبة سنة 520 هـ، وهو أعلم أهل عصره بعلوم الفلسفة، والطب، والرياضة، وتولى منصب قاضى القضاة بقرطبة بعد خلو المنصب بوفاة والده، وأشهر مؤلفاته: تهافت التهافت، والكشف عن مناهج الأدلة فى عقائد الملة، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد فى الفقه، وقد توفى عام 595 هـ.

قوله: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: 16]. ومثل قوله سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان: 61]. ومثل قوله جل شأنه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عبس: 24] الآيات. ففي هذه ومثيلاتها عناية بالإنسان، وهذه العناية هى الدليل على وجود الصانع الحكيم، وذلك أن جميع الموجودات موافقة لوجود الإنسان، ومكملة لمصالحه، ومتممة لنظام حياته، وهذه الموافقة بالضرورة من فاعل قاصد، إذ لا يمكن أن تكون بالاتفاق، فمن أراد معرفة الله تعالى المعرفة التامة، فليبحث عن منافع الموجودات من أرض، وماء، ونار، وهواء، وتسخير للشمس والقمر، وتذليل الحيوان، وغير ذلك مما هو مشاهد وملموس، بل إن العناية لتظهر كذلك فى تكامل أعضاء الإنسان وأجزاء بدنه. آيات الاختراع فقط: مثل قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 5، 6]. ومثل قوله سبحانه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] الآيات. ومثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73]. ومن هذا قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم، عليه السلام: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79]. ففي هذه الآيات ومثيلاتها دلالة على وجود مخترع، وذلك أن المادة ليست أزلية كما قدمنا فى أول البحث، يعنى لم تخلق نفسها، وأن الله قادر على أن ينشئها من العدم، فهذه الموجودات مخترعة، وكل مخترع لا بدّ له من مخترع، وتدلنا دقة نظام هذه المخترعات، وانتظام سيرها، على أن هذا المخترع فاعل مختار، لهذا كان واجبا على أن من أراد معرفة الله حق معرفته، أن يعرف جواهر الأشياء؛ ليقف على الاختراع الحقيقى فى جميع الموجودات؛ لأن من لم يعرف حقيقة الشيء، لم يعرف حقيقة الاختراع، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف: 185]. آيات تجمع بين الدلالتين: وهى كثيرة مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ

قَبْلِكُمْ [البقرة: 21]، إلى قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22]، فإن قوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة: 22] تنبيه على دلالة العناية. ومثل هذا قوله سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33]، وقوله جل شأنه: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191]. فهذه الطريق هى الصراط المستقيم التى دعا الله الناس منها إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل فى فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المستقرة فى طباع البشر أشار بقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [الأعراف: 172]، ولذا قد يجب على من كانت رغبته طاعة الله، والإيمان به، وامتثال ما جاءت به رسله، أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية مع شهادته لنفسه وشهادة الملائكة، كما قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]. ومن الدلالات الموجودات من هاتين الجهتين وجود الأشياء مسبحة لله تعالى، المشار إليه بقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]، فالكائنات من حيث كونها موجودة، فيها دليل الاختراع، ومن حيث كونها خاضعة لله منقادة لما أراده منها، مثل دوران الأفلاك، وسيلان الماء، وهطول الأمطار، وما إلى ذلك، فيه دلالة الغاية والعناية. فقد بان من هذه الأدلة أن الدليل على وجود الصانع منحصر فى هذين الجنسين دلالة العناية ودلالة الاختراع، وأن هاتين الطريقتين بأعينهما طريقة الخواص، وأعنى بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين فى التفصيل، أعنى أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبينة على الحس، وأما العلماء فيزيدون على ذلك ما يدرك بالبرهان، حتى قال بعضهم: أن الذى أدركه العلماء من معرفة أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب من كذا

وكذا آلاف منفعة، وإذا كان هذا هكذا، فتلك هى الطريقة الشرعية والطبيعية التى جاء بها الرسل ونزلت بها الكتب. والعلماء ليس يفضلون الجمهور فى هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط، بل من قبل التعمق فى معرفة الشيء الواحد نفسه، فإن مثال الجمهور فى النظر إلى الموجودات مثالهم فى النظر إلى المصنوعات التى ليس عندهم علم بصنعتها، فإنهم يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعا موجودا، ومثال العلماء فى ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التى عنده علم ببعض صنعتها، وبوجه الحكمة فيها، ولا شك أن من حاله العلم بالمصنوعات هذه الحال هو أعلم بالصانع من الذى لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط (¬1). أ. هـ. وبعد: فهذه الأدلة وما أكثر نظائرها فى القرآن تدل على وجود الخالق جل وعلا، بل على وجوده أزلا وأبدا، وأنه واحد، له كل صفات الجلال والإكرام. أما عن أزليته، فنسوق دليل ابن رشد، وهو أن الموجودات الممكنة لا بد لها من علل تتقدم عليها، فإن كانت العلل ممكنة، لزم أن يكون لها علل، ويمرّ الأمر إلى غير نهاية، وذلك هو التسلسل المحال، وإن لم يكن هناك علة لزم وجود الممكن بلا علة، وذلك مستحيل، فلا بد من أن ينتهى الأمر إلى علة ضرورية، فإذا انتهى الأمر إلى علة ضرورية، لم تخل هذه العلة الضرورية أن تكون ضرورية بسبب أو بغير سبب، فإن كانت بسبب، سئل أيضا فى ذلك السبب، فأما أن تمر الأسباب إلى غير نهاية، فيلزم أن يوجد بغير سبب ما وضع أنه موجود لسبب، وذلك محال، فلا بد أن ينتهى الأمر إلى سبب ضرورى بلا سبب، أى بنفسه، وهذا هو واجب الوجوب ضرورة. أ. هـ. وقوله: فيلزم أن يوجد بغير سبب ... إلخ، وذلك لأن التسلسل محال، يعنى فلا وجود له، فقد تبين أن ما فرض أنه بسبب وهو العلة الضرورية فى وجود الممكنات أصبح بلا سبب، وهذا خلاف الفرض، وهو محال. وأما عن كونه أبديا، فإنا نقول: ثبت فى أصول التوحيد وقواعد المنطق أن ما ثبت قدمه استحال عدمه. أما عن كونه واحدا، فإننا نسوق الدليل المتعين على كل طالب علم أن يعرفه، فهذه ¬

_ (¬1) انظر: مناهج الأدلة لابن راشد، تحقيق د. محمود قاسم (ص 151 - 155) بتصرف.

الممكنات لا بدّ لها من موجد قادر حكيم يوجد على ما تقتضيه حكمته ومشيئته، متعاليا عن معارضة غيره، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه، فإما أن يتفقا وإما أن يختلفا. فإن اختلفا بأن أراد أحدهما إيجاد العالم والآخر إعدامه، فإما أن ينفذ مرادهما، فيلزم عليه وجود العالم وعدم وجوده، وهو جمع بين النقيضين، وهو محال، وإما ألا ينفذ مرادهما، فيلزم عجزهما وعدم وجود العالم، وهو باطل بالمشاهدة، وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، فيكون الآخر عاجزا فلا يكون إلها، والأول غير إله لمماثلته للثانى فرضا، وهذا يسمى برهان التمانع، وإن اتفقا فلا جائز أن يوجداه معا بالاستقلال فى آن واحد لما يلزم عليه من اجتماع مؤثرين على أثر واحد، وهو باطل، ولا جائز أن يوجداه مرتبا بأن يوجده أحدهما ثم يوجده الآخر بعده، لما يلزم عليه من تحصيل الحاصل وهو باطل، ولا جائز أن يوجداه على سبيل المعاونة لما يلزم عليه من عجز كل منهما فلا يوجد العالم. ولا جائز أن يوجد أحدهما بعض العالم، والآخر البعض الثانى، للزوم عجزهما؛ لأن كلا منهما عاجز عن التصرف فيما تصرف فيه الآخر، وهذا يسمى برهان التوارد. قال الله تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون: 91]. وقال جل شأنه: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: 42]. وقال سبحانه: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22]. وبعد: هذا هو التوحيد، أحد مطالب الإيمان الثلاثة التى أنكرها الماديون، قد ثبت بما لا يقبل الشك على ما تقدم بيانه وإيضاحه، وبقى الأمران الآخران: البعث والرسالة، إلا أنه لا يفوتنا الآن أن نذكر أن إثبات التوحيد يستلزم المطلبين الآخرين، وذلك أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة فى جميع الأجسام، فكان الاعتراف بأنها كلها لله تعالى وتحت تصرفه وقدرته سبحانه، كان ذلك لازما على كل عاقل لا سبيل إلى إنكاره. والاعتراف بذلك يستلزم الاعتراف بوحدانيته سبحانه كما تقدم، والاعتراف به يستلزم الاعتراف بصحة الإعادة؛ لأن من قدر على الإبداء، فهو أقدر على الإعادة، كما سيأتى، كذلك يستلزم الاعتراف بحقيقة الرسالة وبعثه الرسل؛ لأن الصانع الحكيم

لا يصدر عنه مثل هذه المصنوعات العجيبة، إلا لحكمة وعاقبة حميدة، كما قال تعالى: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ [آل عمران: 191]. وذلك يستدعى أن يبتلى عباده ويكلفهم بأوامره ونواهيه، حتى يظهر المطيع من العاصى، ويجازى كل واحد منهم على حسب استحقاقه، وهذا التكليف لا يكون إلا بمبلّغ الأحكام، فدلّ ذلك على إن إرسال الرسل مما تقتضيه الحكمة. فالاعتراف بأن ما فى السموات والأرض لله، يستلزم الاعتراف بحقية هذه المطالب الثلاثة. المطلب الثانى: البعث: نسوق ثلاثة مواضع من القرآن الكريم تحث هؤلاء المنكرين على النظر والاستدلال. الموضع الأول من سورة النحل: قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 38 - 40]. ادعى هؤلاء البديهة فى إنكار البعث، فقالوا: إن الإنسان ليس إلا هذه البنية المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه، وبطل المزاج والاعتدال، امتنع عوده بعينه؛ لأن الشيء إذا عدم فنى، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه، فالذى يعود يجب أن يكون شيئا مغايرا للأول. وأشاروا إلى ادعائهم ضرورة ذلك الإنكار بالإقسام واليمين، وهذا هو ما حكاه الله تعالى عنهم فى سورة يس، عن أبىّ بن خلف حين أخذ عظما قد رمّ وبلى، ففتته بيده، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: أترى أن الله يحيى هذه؟ قال: «نعم، ويبعثك ويدخلك النار»، وذلك فى قوله تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78، 79] الآيات. وقد رد الله تعالى عليهم أبلغ رد، فقال: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا، أى يبعثهم بعد الموت، فإن لفظة بَلى إثبات لما بعد النفى. ثم قال: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا

يَعْلَمُونَ [النحل: 38]، أنهم يبعثون، إما لعدم علمهم بأن البعث من مواجب الحكمة التى جرت عليها عادته سبحانه بمراعاتها، وإما لقصر نظرهم على المألوف حين يشاهدون الميت يمكث مدة مديدة، وأحقابا طويلة لا تطرأ عليه حياة، فيتوهمون امتناع البعث، ثم بين سبحانه الحكمة فى البعث بقوله: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ [النحل: 39]، وذكر سبحانه إمكانه، وأن مألوفهم وما يشاهدون من عدم طريان الحياة على الميت فى أزمان متطاولة أمر عادى لا يتنافى مع قدرة القادر، وذلك فى قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40]. وإيضاح ذلك وتفصيله كما يلى: حكمة البعث: إن الحياة كما هو مشاهد تجمع بين الحق والباطل، والعدل والظلم، والإنصاف والجور، فإذا لم يكن للمغلوب أمل يحتمى به، ويعيش عليه، فى أنه سينتصر يوما، وأنه سيأخذ حقه حتما، كان ذلك قضاء على وجوده، وقتلا لحياته، وهذا ما يأباه المنطق الصحيح والعقل السليم، فضلا عن الحكمة الإلهية. وإذا لم يكن لذوى الحق والخير وأولى الفضيلة والكرم أمل فى أن يحسب لهم هذا ويجازون عليه، انعدم الحافز على الخير، وبطل الداعى إلى المعروف، وكانت حياة تعسة مرذولة تأباها الحيوانية المحضة، فضلا عن الإنسانية الكاملة، وإذن فلا بد من يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30]. فعلى الماديين أن ينظروا فى هذا نظر استدلال واعتبار، وأن يتأملوا عن فكر واسترشاد. إمكان البعث: وهو كما تقدم ذكره: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40]، فالمقصود كما قرره العلماء بيان سهولة خلق الإنسان عليه سبحانه، وأنه متى أراد الشيء كان، فمثل الله تعالى تكوينه للمكونات بمجرد تعلق إرادته من غير توقف وامتناع، بأمر الآمر المطاع إذا أمر المأمور المطيع المسارع فى الامتثال، فعبر عن سرعة تكوينه على الوجه المذكور بالأمر المستلزم للامتثال، فإنه تعالى لو أراد خلق الدنيا والآخرة بما فيهما فى قدر لمحة بصر ما عاقه شىء. والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذى هو أهون من الإبداء بالنسبة إلى عقولنا.

الموضع الثانى من سورة الحج: قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5]. ساق الله تعالى خلق الإنسان هنا دليلا على البعث، وفى سورة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1]، ساقه سبحانه دليلا على وجوده، فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12]، إلى قوله: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14]. فخلق الإنسان فى أطواره المذكورة كما يصلح دليلا على وجود الخالق وتوحيده، يصلح أيضا دليلا على البعث كما يأتى: فالآية تقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الحج: 5]، أى شك وتهمة وحاجة إلى البيان، فتفكروا فى خلقتكم الأولى، لتعلموا أن القادر على خلقكم أولا قادر على خلقكم ثانيا. ثم إنه ذكر مراتب الخلقة الأولى أمورا سبعة هى: المرتبة الأولى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5]، أى أنشأناكم بقدرتنا التى لا يتعاظهما شىء، مِنْ تُرابٍ لم يسبق له اتصاف بالحياة. وفى الخلق من تراب وجهان: أحدهما: إنا خلقنا أصلكم، وهو آدم، عليه السلام، من تراب، كما قال الله تعالى: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59]. الثانى: من الأغذية، والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية، وغذاء الحيوان ينتهى إلى النبات قطعا للتسلسل، والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5]. المرتبة الثانية: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الحج: 5]، وحالها أبعد شىء عن حال التراب، فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية، كما قال تعالى: مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 6].

المرتبة الثالثة: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج: 5]، أى قطعة دم حمراء جامدة ليس فيها أهلية للسيلان، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة. المرتبة الرابعة: ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، أى قطعة لحم صغيرة، وهى فى الأصل قدر ما يمضغ، قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ، أى مسوّاة لا نقض فيها ولا عيب، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج: 5]، أى غير مسوّاة، فكأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة، منها ما هو كامل الخلقة وأملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، ويتبع هذا التفاوت تفاوت الناس فى خلقهم، وصورهم، وطولهم، وقصرهم ... إلخ. وقيل فى معنى المخلّقة غير ذلك، والذى اخترناه أوفق لوجود بناء تفضيل التخليق الدال على تكثير الخلق، فإن الإنسان ذو أعضاء متباينة، وقوى متفاوتة، فإذا أكمل فيه جميع ما يتم به خلقة النوع، فقد كثر فيه الخلق. وقوله تعالى: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج: 5]، معناه إنا فعلنا لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا، وأن من قدر على خلق البشر من التراب والماء، ثم من نطفة ثانيا، ولا تناسب بينهما، وقدر على أن يجعل النطفة علقة، وفيها تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاما، من قدر على ذلك قدر على إعادة ما بدأه، بل هو أدخل فى القدرة وأهون فى القياس. وأما قوله: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الحج: 5]، فهو معطوف على (نبين) فى إحدى القراءتين، ومعناه إنا خلقناكم من حال إلى حال، ومن خلق إلى خلق، لأمرين اثنين: أحدهما: تبيين قدرتنا على الإعادة، كما تقدم آنفا. وثانيهما: الإقرار فى الرحم لغاية التمام، ثم الخروج طفلا حتى يبلغ الأشد، أى حد التكليف، فيكلفوا معرفة الله وتوحيده وطاعته، فينالوا سعادة الآخرة. المرتبة الخامسة: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5]، أى تولدوا فى حالة الطفولة، من صغر الجثة، وضعف البدن، والسمع، والبصر، وجميع الحواس، لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم. المرتبة السادسة: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ [الحج: 5]، وقد دخلت اللام هنا تأكيدا لها،

كما فى لِنُبَيِّنَ اعتناء ببلوغ الأشد، حيث يكون عنده التكليف، إذ هو المقصود من الإقرار فى الرحم، والمعنى: نمد أجلكم لتصلوا بهذا الانتقال إلى كمالكم فى القوة والعقل. المرتبة السابعة: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج: 5]، أى ومنكم من يتوفّى عند بلوغ الأشد أو قبله، ومنكم من يرد بالشيخوخة إلى أخس العمر، وهو سن الهرم، فتنقص جميع قواه، ويعود كهيئته الأولى فى أوان الطفولة من سخافة العقل وقلة الفهم، فينسى ما علمه وينكر من عرفه، فما أعظم هذه الدلالات على المراد، وما أوضح هذه الحالات على المقصود، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]. ولما تم هذا الدليل بأحكم المقدمات وأصح النتائج، وكان أول الإيجاد فيه غير مشاهد، وهو قوله تعالى: خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5]، ذكر سبحانه دليلا آخر على البعث مشاهدا فى كل أحواله وملابساته، وهو قوله جل شأنه: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، أى ساكنة يابسة، فَإِذا أَنْزَلْنا بما لنا من القدرة، عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت وتأهلت لإخراج النبات وَرَبَتْ أى ارتفعت، وذلك أول ما يظهر منها للعين، ونمت بما يخرج منها من النبات الناشئ من التراب والماء وَأَنْبَتَتْ فيه مجاز؛ لأن الله تعالى هو المنبت، وأضيف إلى الأرض توسعا، مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ [الحج: 5] حسن المنظر، نضير باختلاف الألوان، والطعوم، والروائح، والأشكال، والمنافع، والمقادير. الموضع الثالث من سورة الروم: قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: 8]. قوله تعالى: فِي أَنْفُسِهِمْ، إما أن يكون ظرفا للتفكير، والمعنى: أو لم يشغلوا قلوبهم الفارغة عن الفكر بالفكرة الصالحة، والتفكير وإن كان محله القلب، إلا أنه زيد قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ لزيادة تصوير حال المتفكرين، كما يقال: أبصره بعينه وأضمره فى نفسه، وعلى هذا يكون المتفكر فيه هو قوله: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على ما هما عليه من النظام المحكم، والقانون المتقن، فيعلموا أن الله تعالى لم يخلقهما

عبثا ولا جزافا، ولكن ليعتبر بها عباده، وليستدلوا بها على وحدانيته سبحانه، وكمال قدرته، وأنه إنما خلقها لمنافع العباد، بلاغا لهم فى دار التكليف، وعونا لهم على اكتساب ما يسعدهم فى دار الجزاء، وهو معنى قوله: بِالْحَقِّ والباء فيه إما سببية، أو حالية، أى ما خلقهما إلا للحق، أو ملتبسة بالحق مقرونة به، لا باطلا، ولا عبثا خاليا عن حكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مؤجلة بأجل مسمى، بعده يكون البعث، وفى قوله: وَما بَيْنَهُما ما يفيد أن هناك مخلوقات بين السماء والأرض بها كمال المنافع، وتمام النظام. وإما أن يكون قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ هو متعلق التفكير وموضوعه، والمعنى عليه: هلا تفكروا فى أمر أنفسهم التى هى أقرب المخلوقات إليهم، وهم أعلم بأحوالها، حتى يتضح لهم كمال قدرة الله تعالى، فإن من تفكر فى تشريح بدن الإنسان، وما أودع فيه من غرائب التدبير الإلهى، حصل له العلم القطعى بأن الله تعالى فاعل مختار، كامل العلم والقدرة، منزه عن الشركاء والأنداد، وحصل له كذلك العلم بحقيقة البعث والجزاء؛ لأنه إذا تفكر فى نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال، وأجزاءه ماثلة إلى الانحلال، فيقطع، بأنه سيفنى عن قريب، فلو لم يكن له حياة أخرى، لكان خلقه على هذا النحو عبثا، كما أشير إليه بقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، وهذا ظاهر؛ لأن من بالغ فى تدبير شىء سيفنى عن قريب بالكلية، وصوره أحسن تصوير، واعتنى فى انتظام أحواله أبلغ ما يمكن من الاعتناء، مع علمه بأنه يصير عن قريب كأن لم يكن شيئا مذكورا، لا شك أن يضحك منه ويتعجب من سفاهته، فمن تفكر فى شأن نفسه على هذا الوجه علم أنه تعالى خلقه للبقاء، ولا بقاء إلا بالحشر، فظهر أن تفكر الإنسان فى أمر نفسه يؤديه إلى القطع بأن العالم كله له، إله واحد قادر على الإبداء والإعادة، ويكون قوله تعالى: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: 8]، جملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها، ذكرت بعد إقامة دليل الأنفس استدلالا بدليل الآفاق. وبعد، فهذه براهين يقينية قطعية على إمكان البعث وجوازه، وأما تحقق الوقوع، فليس له إلا إخبار الصادق المصدوق الذى قامت المعجزة القاهرة على صدقه، وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يستدعينا أن نتكلم عن المطلب الثالث الذى أنكره الماديون، وهو إثبات رسالة محمد، صلوات الله وسلامه عليه.

المطلب الثالث: إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: يضطرنا إثبات هذا المطلب، أن نبين فى وجازة ضرورة النبوّات للبشر. قال ابن سينا، كما نقله العلامة القاسمى فى كتابه دلائل التوحيد: من المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع وشركة فى ضروريات حاجاته، مكفيا بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضا مكتفيا به، ولا تتم الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما، يفرغ كل واحد منهما صاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير، ولا بد فى المعاملة من سنة وعدل، ولا بدّ من سان معدل، ولا بدّ من أن يكون إنسانا، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم فى ذلك فيختلفون، ويرى كل واحد منهم ما له عدلا وما عليه جورا وظلما، فالحاجة إلى هذا الإنسان فى بقاء النوع الإنسانى أشد من الحاجة إلى إثبات الشعر على الأشفار والحاجبين، فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضى هذه وتدع تلك التى هى أثبتها، فلا بد إذن من نبى هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند الله، يدعوهم إلى التوحيد، ويمنعهم من الشرك، ويسنّ لهم الشرائع والأحكام، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن التباغض والتحاسد، ويرغبهم فى الآخرة وثوابها، ثم يكرر عليهم العبادات ليحصل لهم تذكر المعبود بالتكرير، واستفادة ملكة الالتفات إلى الحق والإعراض عن الباطل. وفى هذا المطلب أيضا يسلك القرآن الكريم بالجاحدين والمنكرين مسلك الحث على النظر والاستدلال، وذلك فيما لابسه من أحوال شريفة، وما اتصف به من خلال كريمة. قال الله تعالى فى سورة يونس: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: 16]، جاءت هذه الآية الكريمة ردا على اقتراح المنكرين فى الآية السابقة: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15]، وفى هذا الاقتراح منهم رمز وإشارة بأنه إنما أتى بهذا الكتاب من عنده لا من جهة الوحى. وبيان ذلك أن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما، ولم يشاهد عالما، ولم ينشئ قريضا ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتابا بذت فصاحته كل منطق، وعلا على كل منثور ومنظوم، واحتوى على قواعد علمى الأصول والفروع، وأعرب عن

أقاصيص الأولين، وأحاديث الآخرين على ما هى عليه، علم أنه معلم به من الله تعالى. وما أبدع قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: 16]، أى أفلا تستعملون عقولكم لتعلموا أن مثل هذا الكتاب العظيم ممن لم يتعلم ولم يتتلمذ، ولم يطالع كتابا، ولم يمارس مجادلة، إنه لا يكون إلا على سبيل الوحى. والآية فى فحواها ومعناها جواب عما دسوه تحت قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15] من إضافة الافتراء إليه صلى الله عليه وسلم، فهذا محمد قد انقضى شبابه وولى، وأشرف على نهاية العقد الرابع من عمره، دون أن يبدو من أمره شىء خارق، أو يند عن المألوف فى قومه إلا اشتهاره بالصدق والأمانة. وفجأة، وفى هذه الفجاءة السر كل السر، إذا هذا الرجل الذى قطع ثلثى عمره هادئا ساكنا، يصبح داعية حق، فيقذف بالحق الإلهى على الباطل الجاهلى فيدمغه، آخذا بيد قومه إلى حيث نور الحقيقة الكبرى. ثم لم يلبث أن اتصل صلى الله عليه وسلم بملوك الأرض وأباطرتها عن طريق الكتب والرسائل، يدعوهم إلى الهدى والرشاد، منذرا لهم بعذاب أليم، إن هم صموا آذانهم عن سماع دعوته، واعدا إياهم جنة النعيم إن هم آمنوا برسالته، ثم أتبع القول العمل، فسيّر جيوشه فى غزوة تبوك إلى حدود الشام. وإن هو إلا وقت يسير بعد وفاته، حتى قام خلفاؤه الذين استقوا من نبعه واهتدوا بهديه يكتسحون الدنيا شرقا وغربا، وما هى إلا ثمانون سنة على ما قدره المؤرخون حتى كان أكثر من مائة مليون من البشر يدينون بدين هذا الأمى العربى عن طواعية واختيار وحب وإكبار. واليوم بعد أربعة عشر قرنا من الزمان يزيد أتباعه عن ألف مليون من البشر، وهم فى ازدياد مستمر. وهذا أمر منقطع النظير، وحدث لم تشهد الدنيا له مثيلا بإجماع أهل الرواية والنقل الذين أنصفوا الحقيقة وصانوا لها حرمتها وقداستها. هذا بالنسبة لتأسيس الدولة وقيامها فى تلك المدة الوجيزة، أما ما احتوته الدعوة من حقائق ونظم وتشريع، فهو أمر فوق القدر، ولا يأتى به إلا خالق البشر، فلو نظرنا إلى ما فى القرآن من تشريع لوجدنا فيه من القوانين والمبادئ الأساسية لتنظيم حياة الفرد والجماعة فى حالتى السلم والحرب ما لا زيادة عليه لمستزيد، فالحرية، والإخاء، والمساواة، والشورى، والتعاون الفردى والجماعى، كل ذلك نبه عليه القرآن وجلاه منذ

أربعة عشر قرنا من الزمان، فالحاكم والمحكوم أمام قانون الشريعة سواء، يقام الحد على أعظم الملوك سلطانا، وعلى أقل الناس شأنا، وفى فرض الزكاة تعاون جماعى بين المسلمين وترابط قوى بينهم، يقيهم مصارع الهلكة، ومأساة البغى والحسد، كما أنه لا تفاضل فى الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بالنسب، والمنصب، والجاه، بل بالتقوى، أعنى معرفة الله وتوحيده وطاعته، وما أبدع قول من قال: لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه ... فلا تترك التقوى اتكالا على الحسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الكفر الحسيب أبا لهب وفى هذا المعنى يقول عمر فى شأن أبى بكر الذى أعتق بلالا، رضى الله عن الجميع: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، إلى غير ذلك مما تضيق به الصحائف، ولا يتسع له الوقت، فالحق أنا لا نجد تفسيرا لهذا الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه وحى من عند الله رب العالمين الذى أحاط بكل شىء علما. ونسوق كذلك بعض آيات من القرآن الكريم تضمنت شيئا من الأبحاث الكونية والطبيعية التى لا مفر للماديين من الاعتراف بها، وبذلك يكونون محجوجين ملزمين بأن ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وحى إلهى، وبالتالى أنه رسول حقا ويقينا. 1 - قال الله تعالى فى سورة يونس: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس: 5]. ففي قوله: ضِياءً إشارة إلى ما قرره الباحثون فى هذا الباب من أن القمر يستمد نوره من ضوء الشمس، حيث أن لفظ: ضِياءً يدل على معنى أجمع وأقوى من كلمة: «نور»، وفى قوله: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، إشارة إلى علم الهيئات الذى هو فرع مهم من فروع علم الفلك، تدور عليه مصالح الناس ومواقيتهم. 2 - قال تعالى فى سورة الحجر: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر: 19]، وقال بعد آية واحدة من نفس السورة: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21]. فالآيتان تشملان ما قاله الباحثون فى الطبيعيات، من أن العناصر الداخلة فى تركيب الأجسام تكون على نسب معينة، وموازين مقدرة، كما قال تعالى فى سورة

الرعد: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد: 8]، فالماء مثلا مركب من أوكسجين وهيدروجين بنسبة (1 - 2) وهكذا. 3 - قال الله سبحانه فى سورة الأنعام: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38]، وفى ذلك إشارة إلى علم التاريخ الطبيعى، فبين الإنسان وهذه الكائنات تشابه فى الأجهزة الهضمية والتنفسية ... إلخ. 4 - قال الله جل شأنه فى سورة الأعراف: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، ونلمح هنا مبدأ هاما من مبادئ علم الصحة الغذائى. 5 - قال تعالى فى سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة: 3]، وفى ذلك إشارة إلى ما يسمى بالطب الوقائى. 6 - قال سبحانه فى سورة النساء: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 110]. وفى ذلك إشارة إلى مبدأ هام من مبادئ الطب النفسى، ولقد عد علماء المسلمين اليأس من رحمة الله كبيرة من الكبائر، أخذا من قوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87]، كما عدوا الأمن من العقوبة كبيرة من الكبائر، إذ فى ذلك انتشار الفوضى، وانتهاك الحرمات، والجناية على الأنفس والأموال، ومن هنا قال القرآن الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فى صفة المؤمن الصادق: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر: 9]. 7 - يقول جل جلاله فى سورة مريم: يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28]. وفى ذلك إشارة إلى علم الوراثة وقوانينها، غير أنه لا يغيب عن البال ما قدمناه سابقا أثناء الكلام عن المطلب الأول عند الحديث عن مظاهر التدبير الإلهى، من أن عوامل الوراثة ليست ذاتية، بل هى سبب عادى يصح تخلفه.

2 - إلزام القرآن للمليين

2 - إلزام القرآن للمليين ويتضمن هذا القسم: بحث آيات القرآن التى تخص اليهود وحدهم بالخطاب، وتلزمهم الحجة والبرهان، وآيات تخص النصارى وحدهم، ثم آيات تجمع بينهم فى خطاب واحد، تدعو كلا من الفريقين إلى الإيمان والتوحيد على مقتضى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما رأينا بعض المعاصرين، وهو المحامى أحمد حسين، فى كتابه: فى الإيمان والإسلام، قد خالف صريح النص القرآنى الناطق بكفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، نبهنا على ذلك، ورددنا عليه بمقتضى الأصول والموازين الصادقة، وقد قدمنا بين يدى البحث تمهيدا نبين فيه ما يجب على المكلف اعتقاده كما وضحته الآيات القرآنية. كانت سورة البقرة من السور الطوال التى فصلت فيها الأصول، والأدلة، والأحكام، ولذلك وجدنا فيها المطالب الثلاثة التى تلزم كل مكلف، وتتحتم عليه مؤيدة بالدليل والبرهان، وهذه المطالب هى: 1 - التوحيد. 2 - نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. 3 - المعاد. أما الأول: وهو التوحيد: فقد ذكره الله تعالى فى قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة: 21]، إلى قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22]، فإنه لما ذكر فى أول السورة قبل ذلك فرق المكلفين من: المؤمنون، والكافرين، والمنافقين، وصفتهم وأحوالهم، وما اختصت به كل فرقة، أقبل عليهم بالخطاب ملتفتا عن الغيبة، فأمر ونهى، ودعا إلى عبادته وحده، ثم وصف نفسه بأوصاف دالة على وحدانيته من خلقهم وخلق من قبلهم أحياء قادرين، وخلق مفترشهم ومستقرهم الذى لا بدّ لهم منه، وخلق ما هو كالخيمة المضروبة على هذا المستقر، ومن ربط المظلة على المقلة بإنزال الماء، والإخراج به من بطنها فى أشباه النسل الناتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقا لبنى

أما الثانى: وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:

آدم تذكيرا لهم بأعظم نعمه؛ ليستدلوا به على وحدانية المنعم من حيث إنه لا يقدر عليه غيره، فإن تذكير النعمة يوجب المحبة، وترك المنازعة، وحصول الانقياد، ويدعو إلى مقابلتها بالشكر لمنعمها. وتخصيص نعمة الوجود، وما تتوقف عليه الحياة من المسكن والمعاش لكونها أدعى إلى التفكير فى أن هذه النعم المخلوقة لا يقدر على إيجاد شىء منها إلا خالق ليس كمثله شىء، حتى يتيقنوا بأن ربهم إله واحد منزه عن الشركاء والأنداد، ولا يجعلوا شيئا من المخلوقات ندا له، وهم يعلمون أن شيئا منها لا يقدر على نحو ما هو قادر عليه. أما الثانى: وهو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم: فقد أفصح له سبحانه بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23]، ففي هذه الآية الكريمة احتجاج قائم على نفى الريب عن القرآن، وهو يتضمن فى الوقت نفسه الاحتجاج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من النبوّة؛ لأن حقيقة القرآن تستلزم ذلك، فكانت هذه الآية من دلائل النبوّة بهذا الاعتبار. والآية تعلم الكافة بنبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من حيث القرآن المعجز بفصاحته وإفحامه من طولب بمعارضته، إلا أنهم لقصور نظرهم لم يتفطنوا لإعجازه، وقالوا: إنه مختلق مفترى، ويبعد كونه كلام الله تعالى؛ لأنه لو كان من عند الله تعالى، لأنزل جملة واحدة مخالفا ما يكون من عند الناس؛ لأن ما يوجد عندهم من الكلام المنظوم والمنثور إنما يوجد مفرقا منجما حينا بعد حين، شيئا بعد شىء، حسبما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة. فلما رأوا القرآن العظيم هكذا نجوما، سورة بعد سورة، وآيات بعد آيات، حسب النوازل، وكذا الحوادث، قالوا: هذا لا يشبه كلام الله تعالى، وإنا لفى شك منه مريب؛ لأنه لو كان كلام الله تعالى لأنزله جملة واحدة على خلاف عادة الناس، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32]، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ... [البقرة: 23] الآية، أى إن ارتبتم فى هذا الذى نزل على التدريج، فهاتوا أنتم نجما من نجومه، فإنه أيسر عليكم من أن ينزل دفعة، فيتحدى بالمجموع، فيكون التحدى حينئذ بكل القرآن لا ببعضه كما

هو الحال فى نزوله منجما، فقد جعل ما اتخذوه وسيلة إلى القدح وسيلة إلى تبكيتهم وإلزامهم، وهى غاية التبكيت والإلزام، فإنهم طولبوا مرة بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88]. ومرة بأن قيل لهم: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13]، فالحجة فى إثبات نبوّته، عليه الصلاة والسلام، هى القرآن، إلا أنهم لما ارتابوا فى حجته، وطعنوا فيه باحتمال كونه مفترى، أزال شبههم بهذه الآية التى بيّن بها إعجازه، فإنهم إذا عجزوا عن الإتيان بما يوازى أقصر سورة منه، ظهر كذبهم فى تجويز الاختلاق والافتراء، وتبين كونه من عند الله تعالى، كما يدعيه من نزل عليه، وقد عرفهم الله تعالى بهذه الآية ما يتعرفون به إعجازه وكونه نازلا من عند الله تعالى كما يدعيه من نزل عليه، وهو أن يمتحنوا أنفسهم ويجربوا طبائعهم هل يقدرون على إتيان ما يوازى أقصر سورة مما أتى به من لم يكتب، ولم يقرأ، ولم يخالط القراءة. فهو تعالى لما بين بهذه الآية ما هو الحجة على نبوّته، عليه الصلاة والسلام، بعد ذكره الحجة على وحدانيته، صارت الآيتان بمنزلة أن يقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأما الثالث: وهو ثبوت المعاد: فإن الله تعالى ذكر الدليل عليه بقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 24]، أى فاتقوا الفساد المستلزم له دخول النار، فاتقاء النار كناية عن اتقاء الفساد المستلزم له. وبيان ذلك وإيضاحه: أنه تعالى لما بيّن لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، وميز لهم الحق من الباطل، رتب عليه ما هو كالخلاصة والفذلكة له، وهو أنكم إذا اجتهدتم فى معارضته وعجزتم جميعا عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه، ظهر أنه معجز، والتصديق به واجب، فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب، وفى هذا إثبات للمعاد من حيث إنهم لن تكون منهم معارضة أبدا، وعليه فالواجب عقلا ومنطقا أن يصدقوا بالقرآن وبكل ما جاء فيه مما يعم الوعد والوعيد فى دار البقاء. ولا بدّ لنا من أن نبين، ونحن فى هذا المقام، كيف أفاد لفظ النَّاسُ فى الآية السابقة العموم، فنقول: استدل العلماء على أن الجموع المحلاة بالألف واللام نحو: الرجال، والنساء، وأسماء الجموع نحو: القوم، والرهط، والناس تفيد العموم والاستغراق بثلاثة أوجه:

الوجه الأول: صحة الاستثناء منها، وقد تقرر أن الاستثناء لا يكون إلا من العام؛ لأنه يخرج ما لولاه لدخل، فلو قلت: رأيت الناس، لصح استثناء كل واحد من أفراد الناس من الناس، ولو قلت: كلمت القوم، لصح استثناء كل واحد من أفراد القوم من القوم، قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [الحجر: 42]، فإنه استثنى من الجمع المضاف إلى المعرفة، فعلم أنه للعموم كالجمع المحلى بالألف واللام. الوجه الثانى: أنه يصح تأكيدها بما يفيد العموم، كقوله سبحانه: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30]، والتأكيد تقرير ما يفيده المتبوع، فلو لم يكن لفظ الْمَلائِكَةُ للعموم لما كان قوله: كُلُّهُمْ تأكيدا له. الوجه الثالث: استدلال الصحابة بعمومها من غير نكير، فإنه لما وقع الاختلاف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمر الخلافة، فقال الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، تمسك أبو بكر، رضى الله تعالى عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش»، ولم ينكره أحد، يعنى أن جمهور الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، سلموا أن الجمع المعرف بالألف واللام، وهو لفظ الأئمة الواقع فى الحديث يفيد العموم والقصر عليهم. وبناء على هذا فكلمة النَّاسُ فى الآية الكريمة تعم الموجودين وقت النزول عموما مستفادا من النظر إلى جانب اللفظ، واعتبار كونه موضوعا للعموم مع قطع النظر عن القرائن الخارجية، بخلاف من سيوجد بعد وقت النزول، فإن لفظ النَّاسُ وإن كان يعمهم أيضا، إلا أن عمومه ليس بجهة لفظ فقط، بل بالنظر إلى القرينة الخارجية، وهو ما تواتر من دينه، عليه الصلاة والسلام، أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين، ثابت إلى قيام الساعة، إلا ما خصه الدليل وأخرجه عن الدخول تحت مقتضى خطابه وأحكامه ممن لا يفهم الخطاب كالصبى، والمجنون، والمغمى عليه، والناسى، ومن لا يقدر على إتيان المأمور به وترك المنهى عنه. وإنما كان لفظ النَّاسُ فى هذه الآية لا يتناول بجهة لفظه من سيوجد بعد وقت الخطاب؛ لأنه خطاب مشافهة، فهو لا يتعلق بالمعدوم، وإنما يتعلق بمن وجد فى ذلك العصر، ولا يثبت الحكم لمن وجد بعدهم إلا بدليل آخر، نصا كان، أو إجماعا، أو قياسا، فإنا قد عرفنا بالتواتر كما تقدمت الإشارة إليه آنفا أن الخطابات المتعلقة بالموجودين فى عصر النبوّة ثابتة فى حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة.

هذا ولا ينافى عموم لفظ النَّاسُ الشامل للمؤمن والمنافق، ما روى عن علقمة والحسن، وهما تابعيان جليلان، أن كل حكم وخطاب نزل فيه: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] فمكى، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 104] فمدنى، فإنه يدل على تخصيص الناس بالكفار الكائنين بمكة، لأنا نقول: إن كان ذلك رأيا لهما، فلا يعترض به على عموم لفظ الآية، وإن كان مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فلا يوجب تخصيصه بالكفار، فإن كونه مكيا لا يوجب كون الخطاب متوجها إلى من فى مكة من الكفار فقط؛ لأن أهل مكة ليسوا بمشركين جميعا، بل منهم من هو مؤمن خالص. وقد يقال بناء على هذا العموم: كيف يوجه الأمر بالعبادة إلى الكفار، وليسوا مكلفين بها حال كفرهم؛ لانتفاء شرط صحتها، وهو الإيمان، وهذا الحكم متفق عليه بين الأئمة الشافعية والحنفية. فنقول: أن أمر الكفار بالعبادة معناه أمر بتحصيل شرطها، وهو الإسلام، كأنه قيل لهم: حصلوا أولا شرط العبادة، ثم ائتوا بها، فإن الأمر بالشىء يتضمن الأمر بإتيان ما يتوقف عليه أيضا، كما إذا أمر المحدث بالصلاة، فإنه مأمور بالتوضؤ أيضا ضمن أمره بالصلاة ضرورة أن وجوب الشيء يوجب وجوب ما لا يتم ذلك الشيء إلا به، وقد يقال أيضا، بناء على هذا العموم: أن خطاب اعْبُدُوا على تقدير عمومه لفرق المكلفين من مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، يستلزم إما استعمال اللفظ المشترك فيما وضع له عموما، وإما عموم المجاز، فإن العبادة التى أمر بها كل فريق غير العبادة التى أمر بها الفرق الباقية. فنقول: استعمل لفظ اعْبُدُوا فى المعانى المختلفة للفظ العبادة، وظاهر أن أحداث العبادة فى المستقبل معنى حقيقى له، فإن كانت المعانى الأخرى كذلك يلزم الأمر الأول، وإلا يلزم الأمر الثانى، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين تلك المعانى، وليس له معان متعددة حتى يلزم أحد المحظورين، بل له معنى واحد وهو القدر المشترك بين أفراده، فالمطلوب على هذا من المؤمن، والكافر، والمنافق، قدر مشترك بينها، وهو الاتجاه إلى الله تعالى، فيكون معناه بالنسبة للكفار، إحداث العبادة بعد تحصيل شرطها على ما تقدم، وبالنسبة للمؤمن زيادته فى العبادة واستمراره فيها، وبالنسبة للمنافق تخليص قلبه من غير الله تعالى.

وإذا ما قيل بعد هذا: أن سورة البقرة مدنية باتفاق، قلنا معناه: أن أغلبها لا كلها، أو إن القاعدة أكثرية لا كلية، فقد يكون بعض السور مدنيا وفيه: يا أَيُّهَا النَّاسُ كسورة البقرة، وقد يكون بعض السور مكيا وفيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كسورة الحج. تأكيد وتقرير لهذه المطالب الثلاث: نعم أكد القرآن الكريم هذه المطالب الثلاثة، حيث أورد الله تعالى عقب تلك المطالب تعداد النعم العامة لجميع بنى آدم، حيث قال جل شأنه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ إلى قوله سبحانه: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 28، 29]، فقد سيقت هاتان الآيتان تعدادا لنعم بنى آدم، وهذه النعم تقرر دليل الوحدانية من حيث إنها أمور حادثة لا بدّ لها من محدث منفرد بوجوب الوجود، وصفات الكمال، وتقرر دليل المعاد أيضا من حيث إن تلك النعم مشتملة على خلق الإنسان وأصوله، فإنهم كانوا فى الأصل أجساما لا حياة لها، عناصر وأغذية، وأخلاطا نطفا ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة، تامة الخلق، وغير تامة الخلق، ثم أحياها الله تعالى بخلق الأرواح ونفخها فيها، ومشتملة على خلق ما هو أعظم من ذلك، وهو ما فى الأرض والسموات، ولا شك أن من قدر على خلق هذه الأمور ابتداء قادر على خلقها إعادة. وأما تقرير نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤكده ويقرره قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، إلى آخر القصة من حيث إن نبينا، عليه الصلاة والسلام، أخبر عن أحوال آدم وحواء، وما وقع لهما من الحوادث والجزئيات التى لم يقف عليها إلا من له المعرفة بالكتب السماوية، فإنها مذكورة فيها، وهو عليه الصلاة والسلام، نشأ بين قوم أميين ولم يعرف بالاختلاف إلى أحد من أهل الكتاب، ولم يكن له معرفة بألسن الذين ذكرت القصص فى كتبهم، ولم يغترب عن وطنه مدة يمكن التعلم منها، ولم يوجد النكير ممن له المعرفة بالكتب فى شىء مما أخبر به. فدل ذلك على أنه علم من طريق الوحى من الله تعالى إليه، فكان ذلك دليلا قطيعا على نبوّته، إذ لا يعلم الغيب إلا الله تعالى ومن ارتضاه لرسالته، فيظهر الغيب عليه ليبلغه إلى الخلق لينتفعوا بما فيه من إصلاح دينهم ودنياهم.

ولا شك بعد هذا البيان والإيضاح، أن القرآن حجة بينة عامة شاملة، لا تختص بطائفة دون أخرى، ولا مذهب دون سواه، من حيث إنه نزل وهو يحمل فى طيه وبين ثناياه الدليل على أنه من عند الله تعالى، حيث إن أحدا لم يستطع أن يحاكيه، ولا أن يعارضه فى أى ناحية من النواحى فى نظمه ومعانيه، فى تشريعه وأحكامه، فى قصصه وأخباره، فكان ذلك حجة بالغة وآية بينة لكل مكلف فيما طلب إليه أن يقوم به من عقيدة، وامتثال أمر، واجتناب نهى. نعم، عجز الكل عن معارضته وهم يرونه مكتوبا، ويسمعونه مقروءا بلسان عربى مبين، فليس هو من الأحاجى والألغاز، ولا من الطلاسم والأسرار، وليس محجوبا عنهم ولا خافيا عليهم. وكم تكرر وصف الله تعالى له بأنه كتاب مبين، وبأنه قرآن عربى، عجزوا عن معارضته، وهو يصف من كذب به بأنه أصم، وأبكم، وأعمى، وأنه فى الظلمات ليس بخارج منها، وأنه شر من الدواب، وأن له فى الآخرة نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى. عجزوا عن معارضته وهو يبين أن أعمال الخير الصادرة ممن كفر به: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: 39]، فما كان أيسر لهم أن يعارضوه لو استطاعوا ليزيلوا عن أنفسهم هذه النقائص، ويريحوا أفئدتهم من هذا العناء، ويخلصوا وجودهم من هذا الشقاء المضنى الأليم. عجزوا عن معارضته وهو يقول لهم: لَنْ تَفْعَلُوا المعارضة ولن تستطيعوها، فأربى بذلك على الغاية، وأتى على ما فوق النهاية، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. عجزوا عن معارضته وهو يقول فى محكم آياته: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]، ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24]. فهو يأمرهم بمقتضى هذه الآيات أن يتدبروه، وأن يتفهموه، وأن ينظروا فيه حتى لا تبقى لهم شبهة يتعللون بها، ولا وهم يتمسكون به، يعنى فالقرآن العظيم مصدق لنفسه فيما جاء به من نفائس علم التوحيد، وحقائق علم الأحكام، وأسرار قصص الأولين، بسبب الإعجاز الذى هو حقيقة من حقيقته، وركن من أركان معناه، وهذا ما يجب ألا

يغيب عن البال، وأن يكون فى قرارة كل نفس مؤمنة بالقرآن. فالملحد حين يقول: إنى لا أومن بما جاء فى القرآن من حقائق وعلوم، إلا إذا ثبت ذلك عندى بالدليل العقلى، نقوله له: إن القرآن يحمل معه الدليل العقلى على أنه من عند الله تعالى، وهو تحديه لكل الخلائق وعجزهم عن المعارضة كما بينا، فهات ما عندك من المعارضة، وإلا فأنت محجوج بالبرهان الصادق، وملزم بالدليل الصحيح. وإن لم يكن فى استطاعتك وحدك أن تأتى بالمعارضة، فضم إلى نفسك من يساويك، أو أعلى منك من عموم الإنس والجن إن أمكنك، ونعلمك من الآن أنكم جميعا عاجزون مقهورون، فسلم دون مكابرة، ولا معاندة، واعلم أنه تنزيل من رب العالمين، وسيبقى القرآن كذلك غالبا غير مغلوب، قاهرا غير مقهور، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وأما إذا لم تكن من أهل البحث والنظر، فألق قيادك لأهل العلم، وانضو تحت لوائهم، فهم العارفون بالحقيقة والأمناء عليها، وهم حماتها والحراس عليها، وصدق القائل إذ يقول: وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار هذا وليعلم أن هذا الإعجاز خاص بالقرآن دون الكتب السابقة، فكل واحد منها وإن تعين صدقه بأن صدق الله تعالى مبلغه بأن أظهر على يديه من المعجزات القاهرة ليس معجزا مصدقا لنفسه، ومن هنا، أى من حيث إن القرآن العظيم مصدق لنفسه بسبب كونه معجزا كان مصدقا للكتب المتقدمة، معيارا عليها، شاهدا على مضمونها، وصحتها. تلكم هى المطالب الثلاث مع أدلتها، والتى تلزم جميع فرق المكلفين، بما فى ذلك اليهود والنصارى، إلا أن الله تعالى خص اليهود والنصارى بالذكر؛ لما لهم من شرع سماوى سابق، ووحى إلهى ماض، فكان كفرهم أفظع، ومخالفتهم أفحش، وهو ما نذكره فيما يلى. هذا وقد قدمنا لك بسطا وإيضاحا لهذه المطالب الثلاثة من حيث إثباتها، والرد على من أنكرها وكفر بها من الماديين فى القسم الأول.

محاجة القرآن لليهود: قال الله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 40 - 42]. بنو إسرائيل: بنو إسرائيل هم اليهود خاصة، وإن كانت الكلمة بأصل وضعها تشمل اليهود والنصارى، من حيث إن إسرائيل لقب يعقوب، عليه السلام، فمعنى إسرا بالعبرانية عبد، وإيل الله، فمعناه عبد الله، وقيل: صفوة الله، ولا شك أن النصارى من أبنائه، وهم فى الأصل قوم من اليهود آمنوا بعيسى، عليه السلام. ودليل هذا الاستعمال أن القرآن حين قال هنا: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: 40]، ذكر ما أنعم على أسلافهم من فلق البحر، وإنجائهم من فرعون، وغير ذلك من النعم التى لم تعرف إلا عند اليهود، دون النصارى، كذلك قال تعالى فى سورة المائدة: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً [المائدة: 12]، إلى أن قال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 14]، ثم جمعهما فى خطاب واحد بعد ذلك حيث قال جل شأنه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [المائدة: 15]، وكذلك قال فى هذه السورة أيضا: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ [المائدة: 70]، ثم قال بعد ذلك: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17]، ثم جمعهما فى خطاب واحد، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء: 171]. وهؤلاء اليهود خصهم الله تعالى بالذكر، وطالبهم بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأتى لهم بأدلة خاصة تلزمهم بعد أن أدخلوا فى عموم الخطاب السابق فى قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21]، وذلك لما لهم من العلم والإيمان بالتوراة، فالخطاب فى قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40] لعلماء اليهود، بقرينة قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: 41]، أى لا تكونوا أئمة فى الكفر

يقتدى بكم أتباعكم، فتكونوا حاملين لأوزاركم وأوزارهم، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [النحل: 25]، والجهال لا يقتدى بهم، فلا يكونون أول الكفار، خاطبهم الله تعالى، وأمرهم أن يذكروا نعم الله عليهم، استمالة لقلوبهم، وتحريضا على أداء شكرها، وتوبيخا على إعراضهم عنه، وأمرهم بعد تذكير النعم أن يوفوا بعهوده؛ ليكونوا أئمة فى الإيمان به، عليه السلام، وبما أنزل عليه. نعم الله على بنى إسرائيل: والنعم على بنى إسرائيل كثيرة، منها أنه تعالى استنقذهم من فرعون وقومه، وأورثهم أرضهم وديارهم، وأنزل عليهم الكتب، وجعل فيهم أنبياء، وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وهذه النعم وإن كانت على أسلافهم، فهى نعم عليهم أيضا؛ لأن الإنعام على الآباء إنعام على الأبناء، من حيث إن الأبناء يشرفون بشرف الآباء. وقيل: أراد بالنعم ما أنعم الله به على آبائهم وعليهم، حيث أدركوا زمن النبى صلى الله عليه وسلم، وبناء على هذا يكون انتظام الآية بما قبلها حسنا جدا من جهة أنه تعالى لما عرض لهم من أول هذه السورة إلى هذا الموضع مرارا متعددة، حيث ذكر نفاقهم، وعذابهم الأليم على هذا النفاق، وعدد ما أنعم به على كافة البشر من نعمه العامة التى من جملتها تكريم أبيهم آدم، عليه السلام، وأنكر قبح حال من يكفر بالله الذى أنعم بمثل هذه النعم، ثم خاطب الكل بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38]. ومن هنا كان تخصيصهم بالخطاب من بين المخاطبين بعد ذكر الخطاب العام فى قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] حسن الموقع جدا من حيث إنهم قد آتاهم الهدى، وتمكنوا من الانتفاع بالنعمة العظمى، وهى نعمة من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين فى وقت اختلافهم وتغييرهم الكتاب، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وقد خص أسلافهم من جلائل النعم بما لم يظفر بمثله أحد، فأمروا بشكر هذه النعم حتى يكونوا ممن أدى شكر سوابق النعم ولواحقها. ولم يرض بعض العلماء بهذا القول بناء على أن حمل النعمة على ما ذكر يحتاج إلى

تكلف، إما أن يحمل قوله تعالى: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 40] على حذف كلمة (وعلى آبائكم)، وإما أن يجعل الخطاب لجميع بنى إسرائيل الحاضرين والغائبين بتغليب الحاضرين، فإنه لو لم يتكلف أحد هذين الوجهين، للزم أن يجمع بين الحقيقة والمجاز فى قوله تعالى: عَلَيْكُمْ بأن يراد ما أنعم به عليهم وعلى آبائهم. وقيل: أراد بقوله تعالى: أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ما أنعم به على جميع البشر من خلقهم أحياء قادرين، ومن خلق جميع ما فى الأرض، ثم تسوية السموات السبع لينتظم جميع ما يصلح به أمر معاشهم ومعادهم، إلى غير ذلك من النعم الشاملة لجميع المكلفين، فعلى هذا فالخطاب وإن كان خاصا ببنى إسرائيل لكونهم مقصودين بالتبكيت، حيث إن هذه السورة أول سورة نزلت بالمدينة، وقد آمن من أجلها من آمن، ولم يبق إلا معاند، ونعنى ببنى إسرائيل اليهود الذى نسوا نعمة الله عليهم، وتركوا شكرها، إلا أن جميع الناس يشاركونهم فى حكم هذا الخطاب، وهو وجوب ذكر نعمته تعالى عليهم لما رزقوا من فنون النعم التى لا تحصى، وعلى هذا يقال: ما دام المراد بالنعمة النعمة العامة لكل البشر، فلم قيدت النعمة بهم، حيث وصفها بقوله تعالى: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ؟. فنقول: قصد بهذا استمالة قلوبهم، وحملهم على أداء شكرها فيما أمر به ونهى عنه، وهذا المقصود إنما يتم إذا لوحظت النعم باعتبار وصولها إلى المنعم عليه، مع قطع النظر عن حصولها لغيره، فإن هذه الملاحظة بهذه الجهة توجب استمالة قلوبهم، وتحملهم على أداء شكرها. والذى يتخلص فى بيان المراد من النعمة عليهم: إما أن يكون المراد بالنعمة عليهم نعم آبائهم خاصة، ويكون المراد من قوله سبحانه فيما بعد: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة: 49] التأكيد والتقوية لهذا المعنى، وإما أن يكون المراد نعم آبائهم الماضين، ونعمه سبحانه عليهم فى إدراكهم زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله سبحانه: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تأكيدا أيضا بالنسبة لنعم الآباء الماضين على ما هو ظاهر، وإما أن يكون المراد بالنعمة عليهم ما أنعم به على جميع البشر، كما تقدم إيضاحه، ويكون قوله: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تأسيسا لا تأكيدا كما لا يخفى. ثم ليعلم أن الكلام جرى معهم من هنا يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40] إلى

حزب: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [البقرة: 142]، فتارة دعاهم بالملاطفة، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم كما بينا، وتارة بتوبيخهم على سوء أعمالهم وذكر عقوبتهم التى عاقبهم بها، وكان فى ذكر هذا كله وإيضاحه وتفصيله على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبى الأمى الذى لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يخالط أحدا ممن له دراية بالقراءة والكتابة، أصدق شاهد وأكبر برهان على نبوّته صلى الله عليه وسلم وصحة دعوته لهم ولغيرهم، وعلى وجوب الانضواء تحت لوائه، والتصديق بما جاء به. قال سيدى عبد الرحمن الثعالبى الجزائرى فى تفسيره المرسوم بالجواهر الحسان فى تفسير القرآن ما نصه: قال الطبرى: وفى إخبار القرآن على لسان النبى صلى الله عليه وسلم بهذه المغيبات التى لم تكن من علم العرب، ولا وقعت إلا فى خفى علم بنى إسرائيل دليل واضح عند بنى إسرائيل وقائم عليهم بنبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. تصديق القرآن لما سبقة: ولنتكلم على قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: 41]، اندرج الأمر بالإيمان بالقرآن فى قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: 40] فى الآية قبل، إلا أنه أفرد الأمر به على طريق عطف الخاص على العام، تنبيها على شرفه من حيث إنه طاعة مقصودة فى نفسها، متعبدة بذاتها، لا تتوقف صحته واعتباره على شىء آخر من الطاعات، بل هو عمدة يعتمد عليه سائر الطاعات، وبه اعتبارها، وأنها من فروعه وثمراته. ولما كان أصلا مقصودا بالذات من التكليف، ورعاية الوفاء بالعهود، صار كأنه أمر مغاير للعهود المأمور بإيفائها. وقوله: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، وجه تصديقه لما معهم من الكتب من حيث إنه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها فى الدعاء إلى التوحيد، والأمر بالعبادة، والعدل بين الناس، والنهى عن المعاصى والفواحش، وغير ذلك من الأمور التى لا تتبدل باختلاف الأمم والأديان، فلا يجرى فيها النسخ، فهو مصدق لها فى هذه الأمور، ومصدق لها كذلك فيما يخالفها من جزئيات الأحكام وفروعها بسبب اقتضاء مصلحة كل قوم وزمانهم، من حيث إن كل واحدة منها حق بالنسبة إلى زمانها، ومنسوخة عند انقضاء زمانها، فالجزئيات المخالفة بحسب الزمان كحل فعل ما، وحرمته متطابقة من حيث إن كل واحدة منها حق تقتضيه مصلحة كل قوم وزمانهم.

قال الإمام زادة (¬1): قال الراغب: لا منافاة بين ما أتى به الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، من أصول العبادات، وأنهم كنفس واحدة، من حيث إنه يتساوى دعاؤهم إلى التوحيد والأركان الثلاثة من الشرائع، التى هى العبادات الخمس، وأحكام الحلال والحرام، والمزاجر، وإنما الاختلاف بينهم فى جزئيات الأحكام وفروعها، كيفما تقتضيه مصلحة كل قوم وزمانهم، فكل نبى مصدق للآخر فيما أتى به، من حيث إن كليات شرائعهم متساوية، وأن فروعها حق بالإضافة إلى زمان كل واحد منهم وأمته، حتى لو كان أحدهم فى زمن الآخر لم ير المصلحة إلا فيما أتى به الآخر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فى حق موسى بن عمران: «ما وسعه إلا اتباعى»، فعلى هذا وإن كانت فى القرآن أحكام جزئية مخالفة لما فى الزمان الأول والكتب السابقة صورة، فإنها موافقة من حيث إن كل واحد منها مقتضى الحكمة والمصلحة، فظهر من هذا أن المنسوخ موافق للناسخ حقيقة، من حيث إن كل واحد منها مقتضى الحكمة. أ. هـ. والحديث المشار إليه نصه: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى»، وقد رواه الإمام أحمد فى مسنده، كما ذكره الخطيب الشربينى فى تفسيره، فما دام القرآن الكريم مصدقا للكتب السماوية، فاتباع هذه الكتب لا ينافى الإيمان بالقرآن، بل يوجب الإيمان به؛ لكونه مطابقا لها ومصدقا، ولذلك قال جل شأنه: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: 41]، فالمقصود به تأكيد الأمر بالإيمان به، وتقوية لإيجابه، كأنه قيل: آمنوا بما أنزلت، بل كان الواجب عليكم أن تكونوا أول من آمن به، لكونه مصدقا لما معهم من الكتب المنزلة عليهم، وواجب عليهم اتباع ما يطابقها بعد الاعتقاد بحقيقته وحقيقة ما فيه من الأحكام، وإلا لم يكونوا معتقدين بحقيقة كتابهم ومتبعين إياه. وقد عرف أهل الكتاب موافقة القرآن الكريم لكتبهم، حيث لم يتكلفوا جمع القرآن إلى كتبهم، ومقابلة البعض بالبعض، ولو كان مخالفا لهم فى زعمهم لفعلوا ذلك حتى يظهر الخلاف، فيظهر كذبه، عليه الصلاة والسلام، فى قوله: إن القرآن منزل عليه، فينجوا من تعرضه لها، فلما لم يفعلوا، دل ذلك على أنهم عرفوا أن القرآن موافق لكتبهم. نعم عليهم أن يكونوا أول من آمن به؛ لما تقدم من مطابقة القرآن الكريم لما معهم، ولأنهم كانوا أهل نظر فى معجزاته صلى الله عليه وسلم، والعلم بنشأته؛ لأنه قد مرّ أن الخطاب فى ¬

_ (¬1) حواشى زاده على البيضاوى.

قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40] لعلماء أهل الكتاب، فهم أهل النظر والاستدلال بخلاف المشركين وجهلة أهل الكتاب، فإنهم ليسوا مثل هؤلاء العلماء فى أهلية النظر والاستدلال، وكانوا يستفتحون على الذين كفروا، أى يطلبون الفتح والنصرة على المشركين، ويقولون: قد آن بعث النبى الأمى الذى نجده فى التوراة والإنجيل، فإذا بعث فنحن نؤمن به أول الناس كلهم ونقاتلكم معه، وهو ما يصرح به قوله سبحانه: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89]، كما أنهم كانوا يبشرون العرب بزمانه صلى الله عليه وسلم، ويقولون: قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا من طلب الاستفتاح والنصر، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فهذه الأمور تقتضى أن يكونوا أول من آمن بالقرآن، وبواسطة اقتضائها يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل المشركين والجهلة منهم. تبديل اليهود لآيات الله: وقوله سبحانه: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة: 41]، اختلف فى الثمن الذى نهوا أن يشتروه بالآيات، فقالت طائفة: إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة، فنهوا عن ذلك، وقيل: كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم، وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رشى من الحكام على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قوم: معنى الآية لا تشتروا بأوامرى ونواهى وآياتى ثمنا قليلا، يعنى الدنيا ومدتها، والعيش الذى هو نزر لا خطر له، وهذا القول الأخير هو الأليق، فإن معناه أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم حقدا، وحسدا، وجحدا، وعنادا. كفروا به مخافة أن يفوتهم ما هم فيه من رئاسة، وسيطرة على العامة، يعنى غرتهم الدنيا، ومالت بهم عن الحق الواضح والصراط المستقيم، نعم لو ثبت أنهم كانوا يأخذون الرشوة، أو كانت لهم مآكل على العامة، أو كانوا يأخذون على تعليم التوراة أجرا وهم منهيون عن ذلك، وجب المصير إليه، وإلا فالقول الأخير أوفق وأحكم كما تقدم، ولذلك قال بعض الأئمة: واعلم أن هذا النهى صحيح، سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن، بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشى على كتمان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحريف ما يدل على ذلك كان الكلام أبين.

ثم وبخهم الله تعالى على سوء صنيعهم، وإضلالهم أمر العامة، فقال: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42]، أمروا أولا بتكميل نفوسهم بالإيمان، واتباع الآيات، وترك الضلال، ثم نهوا عن إضلال غيرهم، وإضلال الغير له طريقان، وذلك لأنه إن كان قد سمع دلائل الحق، فإضلاله إنما يكون بتشويش تلك الدلائل عليه بالشبهات الباطلة، وإذا كان لم يسمعها، فإضلاله إنما يكون بكتمها وإخفائها عنه حتى لا يصل إليها ويستدل بها على الحق. فقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، نهى عن الطريق الأول بالإضلال، وقوله: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ، نهى عن الطريق الثانى، وهو منعه من الوصول إلى الدلائل، واللبس الخلط، يقال: لبس الحق بالباطل، من باب ضرب، أى خلطه به، وقد يلزمه جعل الشيء شبيها بغيره، وقد لا يلزمه، كما فى خلط التفاح بالزبيب، فإن خلطه به لا يؤدى إلى الاشتباه والالتباس، كما فى خلط الباطل بالحق، بحيث يشتبه أحدهما بالآخر حتى لا يميز بينهما، فيستعمل اللبس الذى فى الآية فى لازم معناه الأصلى، وهو الاشتباه وعدم الامتياز، حتى لا يقال: إنهم لم يخلطوا الحق بالباطل، بل جعلوا الباطل موضع الحق، فإن جعل الباطل موضع الحق يؤدى إلى اشتباه كل منهما بالآخر، وهو المراد المنهى عنه فى الآية الكريمة، فالباء على هذا تكون للاستعانة، كالتى فى: كتبت بالقلم. يعنى أنهم استعانوا على جعل الحق شبيها بالباطل بكتابة الباطل موضع الحق. ولبعض العلماء ملحظ آخر فى توجيه معنى الاستعانة، أنهم لم يكتبوا الباطل موضع الحق، بل أبقوا الحق فى التوراة، ولكنهم صرفوه بالتأويل الفاسد إلى غير معناه المقصود، مثل قولهم: محمد رسول، ولكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثته حق، وجحدهم أنه ما بعث إليهم باطل، ولعل هذا التوجيه أسلم. فإذا ما قالوا: إنا لم نكتب باطلا موضع الحق، قلنا لهم: ومع ذلك فإنكم صرفتم اللفظ عن غير المراد من غير دليل، ولا برهان، ولذلك استبعد بعض العلماء أيضا كون الباء للتعدية، إذ المعنى عليه: لا تخلطوا الحق الذى فى التوراة بالباطل الذى تكتبونه فيها، فلهم أن يقولوا: لم نكتب باطلا بجانب حق، يعنى فلم يلزمهم، ولم يقطع عليهم كل أعذارهم، إلا أن يكون المعنى: ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التى أوردتموها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة فى التوراة فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم كانت

نصوصا خفية يحتاج فى معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يحتالون فيها ويشوشون أوجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، وأما قوله: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ، فمعناه إخفاءه عمن لم يسمعه، كما أن قوله: وَلا تَلْبِسُوا معناه التشويش على من سمعه، كما هو واضح مما تقدم، وهذا هو السر فى الجمع بينهما، فلكل منها اتجاه يغاير اتجاه الآخر ويخالفه. ولا بدّ لنا من الكلام على إعراب هذه الجملة: وَتَكْتُمُوا، وبيان هل هى مجزومة عطفا على النهى السابق فى قوله: وَلا تَلْبِسُوا، أو منصوبة فى جواب هذا النهى بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية، إذ المعنى يختلف على كل منهما؟ فنقول: قال فريق: إنها مجزومة داخلة تحت حكم النهى، كأنه قيل: لا تكتموا الحق، فيكون النهى متوجها إلى كل واحد من الفعلين على حدة، أى لا تفعلوا هذا ولا هذا، إذ كل واحد منهما مستقل بالقبح، ووجوب الانتهاء عنه. وقال فريق: إنها منصوبة بإضمار أن فى جواب النهى بعد الواو التى تقتضى المعية، فإن النهى حينئذ هو الجمع بين الفعلين، كأنه قيل: لا تجمعوا بين لبس الحق والباطل وكتمانه، كما فى قول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتى مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ومعلوم أن «أن» مع ما فى حيزها، تكون فى تأويل المصدر، فلا بد من تأويل الفعل الذى قبلها بالمصدر أيضا؛ ليكون من قبيل عطف الاسم على مثله، والتقدير: لا يكن منكم لبس الحق بالباطل مع كتمانه، وعلى هذا لا يعلم النهى على كل واحد من الفعلين إلا بدليل خارجى. لا يقال: يلزم عليه جواز تلبيسهم بدون الكتمان وعكسه، كما فى: لا تأكل السمك وتشرب اللبن؛ لأنا نمنع ذلك، إذ النهى عن الجمع لا يدل على جواز البعض ولا على عدمه، وإنما يدل عليه دليل آخر، أما فى مسألة السمك فللطب، وأما فى الآية فلقبح كل منها، وفائدة الجمع المبالغة فى النعى عليهم، وإظهار القبح فى أفعالهم من كونهم جامعين بين فعلين، إن انفرد كل منهما عن صاحبه كان قبيحا، يعنى فالطب فى مسألة السمك هو الذى أجاز أحد الفعلين منفردا عن الآخر، ولم يجوز ذلك النهى عن الجمع فى قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وقبح كل واحد من الفعلين فى الآية منع جواز أحدهما، ولم يمنعه النهى عن الجمع فيها كذلك. وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

جملة اسمية فى محل نصب حال، وعاملها إما تَلْبِسُوا أو تَكْتُمُوا، والمعنى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم لابسون الحق بالباطل كاتمون، فإنه أقبح، إذ الجاهل قد يعذر. تكذيب القرآن لدعاوى اليهود: هذا وقد استمر الكلام مع اليهود إلى حزب «سيقول» كما قلنا قبل ذلك، وفيه الرد عليهم وإلزامهم الحجة ما هو فوق الكفاية، ولنأت من هذا بآيتين سيقتا لغرض واحد وهو: تكذيب القرآن لليهود فى ادعائهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة: 94، 95]، يعنى أن من جملة قبائحهم أنهم كانوا يأمنون من سوء الخاتمة ولا يخافون منها، بل يحكمون بأن الدار الآخرة وما أعد الله تعالى لعباده من الملك العظيم والنعيم المقيم لهم دون غيرهم، كما قال تعالى حكاية عنهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111]، وقولهم: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: 135]، وقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18]. وقولهم: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80]، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: إن كانت الدار الآخرة لكم كما تزعمون، وإن كنتم أبناء الله وأحباءه كما تدعون، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: 94]، وذلك لأن المرء لا يكره الانتقال إلى داره وبستانه، بل يتمنى ذلك، وكذلك المرء لا يكره القدوم على الله تعالى، ولا على حبيبه، ولا يخاف منهما النقمة، بل يتوقع عندهما الكرامات، والدرجات، والعطايا، والهدايا، فإن كان الأمر كما تقولون، فتمنوا الموت حتى تنجوا من غم الدنيا ومن تحمل الشدائد التى أنتم فيها، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 94] فى زعمكم بأن الآخرة لكم وأنكم أبناء الله وأحباؤه. فإذا ما قال اليهود اعتراضا على هذا الإلزام: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، فلم لا نرى أن أحدا من المؤمنين يتمنى الموت إذا قيل له: تمن الموت، فكل عذر لاح لكم فهو عذر لنا، فلا معنى لاحتجاجكم بذلك علينا، قلنا: أجاب العلماء عن هذا الإشكال بوجهين: أحدهما: أن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والمنزلة عند الله تعالى مثل ما

جعل اليهود لأنفسهم، بل المؤمنين، وإن جل قدرهم، غير الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لا يزول عنهم خوف الخاتمة، ومن كان قد ابتلى بشيء من الخطايا، فهو مفتقر إلى زمن يتدارك فيه ما فاته، فلهذا لم يتمن المؤمنون الموت، فأما اليهود، فقد ادعوا أنهم من أهل الجنة، وليس بها شىء من الشدة، والدنيا دار شدة وبلية، فلا معنى لامتناعهم عن تمنى الموت لو كانوا صادقين فى دعواهم. وثانيهما: أنهم كانوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وفى تمنيهم الموت وصول إلى أبيهم وحبيبهم فى زعمهم، ولا أحد يرغب ولا ينفر عن الحبيب والأب، فدل امتناعهم من ذلك على كذبهم فى دعواهم، وأما المسلمون فلا يدعون ذلك، ولا يتمنون الموت، بل يرغبون فى امتداد الحياة لمزيد الأعمال الصالحة كما هو ظاهر. وقوله: خالِصَةً الخالص كالصافى، لكن الصافى يقال فيما لم يكن فيه شوب قبل ذلك، ولا يقال: خالص، إلا إذا كان فيه شوب من قبل فزال، وقوله: مِنْ دُونِ النَّاسِ لفظ دُونِ لما كان فى الأصل اسما للقاصر عن الشيء، اعتبر ذلك فى المكان تارة، وفى الشرف تارة، وفى الاختصاص تارة، فيقال فى المكان: دونك هذا، أى خذه من أدنى مكان منك. ويقال فى الاختصاص: هذا إلى دونك، ويقال فى الشرف: فلان دون فلان، أى أقل منه رتبة ومنزلة. فإن قيل: كيف قال: مِنْ دُونِ النَّاسِ والمخاطبون أيضا هم الناس؟ قيل: المراد بالناس أكثرهم، إذ لفظه عام، ومعناه خاص، أى دون باقى الناس وسائرهم. وقال بعضهم: فيه لطيفة، وهى أنه جل جلاله يعرض بهم، ويشير بأنهم ليسوا من الناس، والكلمة بأصل وضعها تحتمل المدح والذم، فالمدح نحو قولك: فلان ليس بإنسان، بل هو ملك كريم، والذم نحو قولك: يغرنك من فلان مظهر صلاحه، فهو ليس بإنسان، إذ المعنى أنه أحط إلى درجة الحيوانية، ولا شك أنهم من القبيل الثانى، فهذه هى اللطيفة التى فى الآية التى قال بها البعض. وقد أخبر الله تعالى أنهم لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم، وفى هذا بيان للعلة التى بسببها لا يتمنون الموت، فإنهم عالمون بما صنعوا من الكفر بعيسى والإنجيل، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وبتحريف التوراة، فيعلمون بما لهم عند الله تعالى من العذاب الأليم والعقاب الدائم، وأنه لا نصيب لهم فى الجنة، وإنما قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ

[المائدة: 18]، وأنهم من أهل الجنة على الخصوص بطريق النعت والمكابرة، ولذلك لم يتمنوا الموت. وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم: «أنهم لو تمنوا الموت، لغض كل إنسان بريقه، فمات مكانه، وما بقى على وجه الأرض يهودى»، والغصة: الشجى، وهو ما تعلق بالحق من العظم ونحوه، ولم ينزل إلى الجوف، والمعنى: لا يقدر على أن يبتلع ريقه فيموت فى مكانه. من دلائل النبوة المحمدية: وهذه الجملة وهى قوله سبحانه: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] إخبار بالغيب، فإن عدم تمنيهم فى المستقبل، وهو غيب لا يعلم بالحس، ولا ببديهة العقل، ولم ينصب عليه دليل أيضا، فكانت الآية من المعجزات الدالة على حقية رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أخبر الله تعالى أنهم لا يتمنون الموت أبدا، كان الأمر كما قال، مع أن تكذيبه، عليه السلام، أهم الأمور عندهم، وأن ما يدعوهم إليه ممكن متوفر بالنسبة إليهم، وأن قولهم: تمنينا الموت، سهل وغير متعسر عليهم، فلو قال أحد منهم، لظهر كذبه، عليه السلام، فيما أخبر به عن الله تعالى، ولتبين بذلك كذبه فى دعوى الرسالة أيضا، ومع ذلك امتنعوا من أن يقولوا ذلك، وكان الأمر كما قال، فعلم بذلك أنه، عليه السلام، إنما علم ذلك، وأخبر به، بأن أوحى إليه من عند الله تعالى، وأنه رسول حقا. هذا وقد جاء فى الشفا للقاضى عياض حسبما نقله صاحب تفسير الجواهر الحسان عند هذه الآية ما نصه: ومن الوجوه البينة فى إعجاز القرآن آى وردت بتعجيز قوم فى قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوا ولا قدروا على ذلك، كقوله تعالى لليهود: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ ... الآية. قال أبو إسحاق الزجاج: فى هذه الآية أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحة الرسالة؛ لأنه قال لهم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: 94]، وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدا، فلم يتمنه واحد منهم. وعن النبى صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه»، يعنى يموت مكانه. قال أبو محمد الأصيلى: من أعجب أمرهم أنه لا توجد منهم جماعة ولا واحد من يوم أمر الله تعالى نبيه بذلك يقدم عليه، ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنهم. المراد بتمنى الموت:

قال جماعة: هو إرادة بالقلب، مع السؤال باللسان. وقال البعض: هو السؤال باللسان فقط. فإن قلت: من أعلمك أنهم لم يتمنوا؟ أجيب: بأنهم لو تمنوا لنقل ذلك عنهم كما نقل سائر الحوادث، ولكثر ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن فى الإسلام، وهم أكثر من الذر، وليس أحد منهم نقل ذلك. فإن قيل: التمنى من أعمال القلوب، وهو سر لا يطلع عليه أحد، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا!؟ أجيب: بأن التمنى ليس من أعمال القلوب، إنما هو قول الإنسان باللسان: ليت لى كذا، فإذا قاله، قالوا: تمنى، وليت كلمة تمن، ومحال أن يقع التحدى بما فى الضمائر والقلوب، ولو كان التمنى بالقلوب وتمنوا، لقالوا: تمنينا الموت فى قلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك. فإن قيل: لم يقولوه؛ لأنهم علموا أنهم لا يصدقون. أجيب: بأنه كم حكى عنهم من أشياء قالوها للمسلمين من الافتراء على الله، وتحريف كتابه، وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه، ولا محمل له إلا الكذب الصرف، ولم يبالوا، فكيف يمنعون من أن يقولوا: إن التمنى من أفعال القلوب، وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين فى قولهم، وإخبارهم عن ضمائرهم، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كاذبا؛ لأنه أمر خفى ولا سبيل إلى الاطلاع عليه. فإن قيل: عدم نقل تمنيهم الموت إلى الآن لا يدل على عدم تمنيهم أبدا. أجيب: بأنه لا محيص عن هذا الإشكال إلا أن يكون الخطاب مع المعاصرين، وقد انقرضوا ولم يتمنوا، وإلا لنقل ذلك واشتهر، فلما لم ينقل، علم أنهم لم يتمنوه. ولعل هذا القول يخالف ما تقدم آنفا عن الشفا نقلا عن أبى محمد الأصيلى، من أن عدم التمنى ثابت للاحقين منهم أيضا، والحاصل أن التمنى إما فعل اللسان، وإما فعل القلب، وأيا ما كان يثبت وهو أنهم لم يتمنوه. من أنباء الغيب: كذلك من الإخبار بالغيب الذى يلزمهم ولا يستطيعون رده، ما أشارت إليه الآية الكريمة فى قوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]. أنباء الغيب هى ما تقدم قبل هذه الآية من ذكر قصة زكريا، ويحيى، ومريم، وأمها

امرأة عمران، وكل هؤلاء من بنى إسرائيل، ولا يمكن أن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بوحى إلهى، وهذا ولا شك دليل على بنى إسرائيل، وإلزام لهم بالحجة التى لا يستطيعون ردها، وبيان ذلك أن إخباره صلى الله عليه وسلم بهذه الأنباء، وهى معلومة عندهم وحاصلة لديهم على الوجه المطابق للواقع من دلائل صدقه فى دعوى النبوة، بناء على أن الإخبار بالشىء على الوجه المطابق للواقع يتوقف على العلم به، وطريق العلم منحصر فى: 1 - المشاهدة. 2 - الاستماع من أهل العلم وقراءة أسفارهم. 3 - الوحى. وأن ما عدا الوحى من طريق العلم منتف عنه صلى الله عليه وسلم، فتعين أنه، عليه السلام، إنما أخبر بتلك الأنباء بالوحى، وأنه نبي حقا، ثم إنه تعالى لم ينف من طريق العلم فى الآية الكريمة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يشاهد هذه الوقائع كما يصرح به قوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ ... [آل عمران: 44] إلخ، وفى ظاهر الحال أنه لا حاجة إلى نفى المشاهدة لكون انتفائها معلوما قطعا؛ لأن مشاهدة الإنسان ما سبق على وجوده سبقا زمانيا مستحيلة، واستحالتها معلومة لكل أحد، بخلاف الاستماع من أهل العلم وأصحاب التواريخ، فإنه وإن كان منفيا فى نفس الأمر أيضا كانتفاء المشاهدة، إلا أنه متوهم وليس استحالته كاستحالة المشاهدة، فالتصريح بنفى ما لا حاجة إلى نفيه، وترك التعرض بنفى ما ينبغى التعرض بنفيه خلاف مقتضى الظاهر، فما الوجه؟ قال العلماء فى تحقيق ذلك: إن الآية صرحت بنفى المشاهدة مع عدم الحاجة إليه، وتركت التعرض بنفى السماع، مع أن العقل يجوزه فى الجملة لنكتة، وهى التهكم باليهود المنكرين لنبوته صلى الله عليه وسلم؛ ولأن يوحى إليه. وطريق التهكم أن العلم منحصر فى الثلاثة المذكورة لا محالة، وأنهم ينكرون الوحى إليه، ويعترفون أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم ليس من أهل السماع، وقراءة كتب التواريخ للقطع بأنه، عليه السلام، لم يخالط أهل الكتاب، ولم يصاحب منهم أحدا، فلم يبق من طريق العلم فى حقه صلى الله عليه وسلم إلا مشاهدة ما أخبر به من الوقائع، وذلك أنهم كما ينكرون الوحى إليه صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم له بأنه لم يصاحب أحدا من أهل الكتاب، فإذا نفت الآية المشاهدة، وانتفاؤها معلوم قطعا ويقينا عند كل أحد، كان المقصود التهكم بمنكر الوحى، كأنه قيل لهم: أيها المنكرون، أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم

والمتهمون له فى دعوى نبوته ليس لكم سبب فى اتهامكم سوى أنكم تجوزون أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك مبنيا على مشاهدته ومعاينته ذلك، وأنه غاية فى السفاهة، ونهاية الجنون والجهالة، ومن أضل ممن عدل عن الاحتمال الثابت بالمعجزات القاطعة والبراهين القطعية، وهو أنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه إلى احتمال لا يذهب إليه وهم أحد، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه الحقائق بالمشاهدة. محاجة القرآن للنصارى فى عبادة عيسى: قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59] الآية. سبب النزول: روى أن وفد نصارى نجران جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما لك تشتم صاحبنا، قال: «وما أقول؟»، قالوا: تقول: إنه عبد الله ورسوله، قال: «أجل، إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول»، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب، فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فنزل قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59]. كأنهم قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر، وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال: إن آدم ما كان له أب ولا أم، ولم يلزم من ذلك أن يكون أبوه هو الله تعالى، وأن يكون هو ابنا له تعالى، فكذا القول فى عيسى، عليه الصلاة والسلام. ولعله من الواضح بعد بيان هذه المشابهة الواقعة بين عيسى وآدم، عليهم السلام، أن تبطل شبهتهم فى قولهم فى عيسى: إنه ابن الله تعالى، وعليهم بمقتضى هذا أن ينزلوا عن اعتقادهم فى بنوة عيسى، وأنه ابن الله تعالى، ولم يستطيعوا أن يفروا من هذا أبدا، اللهم إلا ما كان من عنادهم واستكبارهم. آية المباهلة: ثم قال تعالى زيادة فى الإلزام وتأكيدا لإظهار الحجة عليهم: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران: 61]، المراد بالعلم

البينات الموجبة له من الدلائل والبراهين، مثل قوله تعالى قبل ذلك: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران: 46]، وما أشبه ذلك مما يدل على أنه وجد بعد أن كان معدوما، واستقر فى مضيق الرحم، ثم ترعرع وصار شابا يأكل، ويشرب، ويحدث، وينام، ويستيقظ. وإنما فسر العلم بالبينات والبراهين؛ لأن العلم الذى حصل فى قلبه، عليه الصلاة والسلام، لا يوجب إفحامهم، وانقطاع جدالهم وشبهاتهم، ولا إقدامهم على المباهلة والملاعنة، بل الذى يوجب ذلك هو إيراد الدلائل عليهم، بحيث يلجئهم إلى الاعتراف بالحق وقبوله، أو إلى إصرارهم على إنكاره وتكذيبه، عنادا واستكبارا، مع أن نفس العلم لا يتصف بالمجىء والانتقال من موضعه، بخلاف الدليل، فإنه يوصف بالورود والقيام. والمراد بالمباهلة الملاعنة، بأن يقال: بهلة الله، أى لعنته على الكاذبين منا ومنكم بأمر عيسى، عليه السلام. والبهلة، بضم الباء وفتحها، وأصله الترك، من قولهم: بهلت الناقلة إذا تركت بلا صرار (¬1)، ومعنى قوله: تَعالَوْا أى بالرأى والعزم، لا بالأجساد والأشخاص؛ لأنهم حاضرون عنده، عليه الصلاة والسلام، بأجسادهم حيث إنهم يجادلونه صلى الله عليه وسلم فى شأن عيسى، عليه السلام. قوله: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ... الآية، أى ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله، وإنما قدمهم على النفس؛ لأن الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم، ويحارب دونهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران، ودعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع وننظر فى أمرنا، ثم نأتيك غدا. فخلا بعضهم ببعض، وقالوا للعاقب، وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبى مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لنهلكن، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم، فوادعوا هذا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غدا محتضنا للحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشى خلفه، وعلى بن أبى الخطاب خلفها، ¬

_ (¬1) فى المختار: صر الناقة: شد عليها الصرار، بالكسر، وهو خيط يشد لئلا يرضعها ولدها.

رضى الله تعالى عنهم، وهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم: «إذا أنا دعوت فأمنوا». فقال أسقف نجران، وهو اسم سريانى لرئيس النصارى وعالمهم، وهو غير العاقب: يا معشر النصارى، إنى لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانى إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أيا القاسم، رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرك على دينك، ونثبت على ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم»، فأبوا، فقال: «إنى أنابذكم»، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدى إليك كل عام ألفى حلة، ألف فى صفر، وألف فى رجب، نؤديها للمسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدوها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال: «والذى نفسى بيده، إن العذاب تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولأضرم عليهم الوادى نارا، ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله، حتى الطير على رءوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم». وجاء فى بعض الروايات عن عائشة، رضى الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علىّ، رضى الله عنهم، ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33]، وفى ذلك دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم، وعلى فضل أهل الكساء، رضى الله تعالى عنهم، وعن بقية الصحابة أجمعين. نعم انقطعوا عن المباهلة وخافوها، ولم يجرءوا بعد مشاورة أهل الرأى فيهم على الدخول فى ساحتها، وذلك أعظم دليل ملزم وقاطع لشبههم، وإلا فما كان أسهل عليهم وأيسر لهم أن يلاعنوا ويقولوا فى تضرع: لعنة الله على الكاذبين منا ومنكم بأمر عيسى. قال بعض العلماء: فإن قيل: الأولاد إذا كانوا صغارا لم يجز نزول العذاب بهم، وقد ورد فى الخبر أنه صلى الله عليه وسلم أدخل فى المباهلة الحسن والحسين، رضى الله عنهما، فما الفائدة؟ والجواب: أن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم

الأولاد والنساء، فيكون ذلك فى حق البالغين عقابا، وفى حق الصبيان والنساء لا يكون عقابا، بل يكون جاريا مجرى إهانتهم، وإيصال الإيلام إليهم، ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده شديدة جدا، وربما جعل الإنسان نفسه فداء لهم، وإذا كان كذلك فهو، عليه الصلاة والسلام، أخذ صبيانه ونساءه معه، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك، ليكون أدعى للخصم إلى قبول الحق، وأبلغ فى الزجر عن المخالفة، وأقوى فى تخويفهم، وأدل على وثوقه، عليه الصلاة والسلام، بأن الحق معه. انتهى. عيسى عبد الله ورسوله: ثم يأتى بعد ذلك قوله سبحانه: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 62]. ونرى فى صدر هذه الآية الكريمة، أن ما قصه الله تعالى فى شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله، هو الإخبار الصحيح، والقول الحق، دون ما ادعته النصارى، من أنه ابن الله تعالى والله سبحانه أبوه، ونرى فى قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ نفى الإلهية فى عموم واستغراق عن غير الله تعالى وإثباتها له وحده، جل جلاله، وعظم شأنه. ثم يأتى ختام الآية: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لنرى فيه ردا قويا على إلهية عيسى، وإلزاما لا مفر منه بأنه عبد الله ورسوله، وبيانه كالآتى: إن تعريف كل من المسند والمسند إليه وتوسيط ضمير الفصل بينهما، يفيد الحصر والتخصيص، ويدل على انتفاء القدرة التامة، والحكمة البالغة عن عيسى، عليه السلام، فالنصارى لما اعتمدوا فى زعمهم إلهية عيسى، عليه السلام، على قدرته على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وعلى إخباره بالمغيبات من أحوالهم، أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات بأن هذا القدر من القدرة لا يكفى فى الإلهية، بل لا بدّ أن يكون القادر عزيزا غالبا لا يقهر، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى، عليه السلام، ما كان كذلك، بل قلتم إن اليهود قتلوه، وأيضا فإن ما فيه من علمه بالمغيبات وإخباره عنه لا يكفى أيضا فى إلهيته، بل لا بدّ أن يكون العالم حكيما، أى عالما بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمور، فقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ باعتبار دلالته على أن عيسى، عليه السلام، بمعزل عن القدرة التامة، والحكمة البالغة، فهو جواب عن شبهة النصارى واستدلالهم بقدرته على إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وبعلمه

المغيبات وإخباره عنها على إلهيته. وفى هذا بيان لواقع محسوس، ومشاهد ملموس، وهو أن قدرة عيسى، عليه السلام، ليست تامة، وعلمه ليس شاملا، وليس فى وسعهم إنكار هذا أبدا، إلا فى إصرار على الباطل وعناد مع الحق، نعم عاندوا وأصروا على ما هم عليه من الزعم الفاسد والاعتقاد الباطل فى حق عيسى، عليه السلام، وأعرضوا عن الحجج والبينات المؤدية إلى الاعتقاد الحق، والتدين بالدين القويم، فأوعدهم الله بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران: 63]، أى فإن أعرضوا عن التمسك بالحجج والاعتقاد بوحدانية الإله، فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد، فاقطع كلامك عنهم، وفوّض أمرك إلى الله تعالى، فإنه تعالى مطلع على ما فى قلوبهم من التمرد والعناد، قادر على مجازاتهم، ثم إن قوله: فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ فيه وضع للظاهر موضع المضمر ليدل على أن التولى عن الحجج والإعراض عن التوحيد، إفساد للدين والاعتقاد، المؤدى إلى فساد النفس، بل إلى فساد العالم. إلى كلمة سواء: ثم إن القوم لما أعرضوا على المباهلة خوفا من أن يهلكهم الله تعالى بطريق الاستئصال، وأظهروا بعض الانقياد والصغار، حيث التزموا بأداء الجزية كما تقدم ذلك، أعرض الله تعالى عن المجادلة معهم بتجهيلهم وبيان سخافة عقولهم، وسلك سبيل الرشاد باللطف والإنصاف، بحيث لا يميل فيه إلى جانب، ولا يشوبه شىء من التعصب والتحكم، فقال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64]، أى هلموا إلى كلمة ذات استواء وعدل، وسواء مصدر، كذهاب وصلاح وفساد، ومعناه الاستواء والاعتدال، وصفت الكلمة به مبالغة فى استوائها، وعدم الاختلاف فيها بين الكتب المنزلة من السماء وبين الأنبياء المرسلين، فهو من قبيل رجل عدل. والمعنى: تعالوا إلى كلمة عادلة مستقيمة مستوية بين أهل الشرائع الإلهية، إذا أتينا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة، سمى الكلام التام المفيد للمقصود كَلِمَةٍ على طريق تسمية الكل باسم جزئه، ومن تسميتهم القصيدة بتمامها قافية، مع أن

القافية جزء منها، وفى الحديث: «أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شىء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل ثم إنه تعالى فسر الكلمة بقوله سبحانه وتعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، ووجه كونه تفسيرا لها أن قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إما بدل من كَلِمَةٍ بدل كل من كل، أو أنه خبر مبتدأ محذوف، أى هى ألا نعبد، والجملة استئنافية، فإنه لما قيل: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ قال قائل: ما هى؟ فقيل: هى أَلَّا نَعْبُدَ، فعلى التقديرين صح كونها مفسرا لما قبلها. وأما قوله سبحانه: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يعنى: ولا نقول عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحليل والتحريم؛ لأن كلا منهم بشر مثلنا. روى أنه لما نزلت: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31]، قال عدى بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، قال: «أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟»، قال: نعم، قال: «هو ذاك». قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، يعنى: فإن تولوا عن كلمة التوحيد المجمع عليها بين الشرائع والكتب السماوية، فقولوا لهم: قد لزمتكم الحجة وأصبحتم مغلوبين بها، إلا أنه دل على هذا الجواب بلازمه، وهو قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، أى قولوا اشهدوا واعترفوا بأن من أتى بالكلمة السواء وعمل بمدلولها فهو المسلم، دون من خالفها وتولى عن العمل بمدلولها. ويصح أن يكون قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا هو الجواب، ويكون فيه تعريض بكفرهم، أى اعترفوا يا أهل الكتاب بأنكم كافرون من حيث إنكم أعرضتم عن الحق المتفق عليه بين العقلاء. قال العلماء: والمعنى: فإن تولوا وأعرضوا عن الإجابة لما دعوتهم إليه، فليس إعراضهم ذلك لأجل مساعدة الحجة إياهم، فقل لهم: قد أسفر الصبح وتبين لذى عينين، فاعترفوا بأنا مسلمون منقادون للحق دونكم، ونظيره قول الغالب فى جهاد، أو صراع، أو نحوهما: اعترف بأنى أنا الغالب، وسلم إلى الغلبة. أ. هـ. قال الخطيب الشربينى فى تفسيره: قال البيضاوى: تنبيه: انظر إلى ما راعى الله سبحانه فى هذه القصة من المبالغة، والإرشاد، وحسن التدريج فى الحجاج، فبين أولا أحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للإلهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيل

شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد، دعاهم بالإرشاد، وسلك طريقا أسهل وألزم، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى، والإنجيل، وسائر الأنبياء والكتب، ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم، وعلم أن الآيات والنذر لا تغنى عنهم، أعرض عن ذلك، وقال: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. انتهى. بيان ما احتواه التنبيه: قوله: بين أولا أحوال عيسى ... إلخ، هو قوله سبحانه: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 46] ونحوه على ما ذكرناه سابقا. وقوله: ثم ذكر ما يحل عقدتهم، هو قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران: 59]. وقوله: بنوع من الإعجاز، وهو تقديم ذكر من يخاطر المرء بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم. طوائف النصارى: قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 72، 73]. تبين الآية الأولى من هاتين الآيتين رأى طائفة من النصارى فى شأن عيسى، وهم اليعقوبية، القائلون باتحاد الإله مع عيسى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وتبين الآية الثانية رأى طائفتين منهم، وهما النسطورية والملكانية، ويبين الله تعالى فى كلتا الآيتين، الرد على هذه المزاعم الفاسدة، من تلكم الطوائف الكافرة، ففي الآية الأولى حكم الله تعالى عن عيسى، عليه السلام، أنه متبرئ من هذه الاعتقادات، آمرا لهم بعبادة الله تعالى رب الجميع وخالق الكل، اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [المائدة: 72]، ثم

توعدهم وهددهم، حيث قال: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 73]، وهذا الرد فى هاتين الآيتين هو عين الحقيقة، ونفس الصواب، لو كان لهم عقول تفكر، وقلوب تسمع وتتدبر. حقيقة المسيح وأمه: ولكن الله تعالى، وهو الرحيم بخلقه، الرءوف بعباده، يزيد الأمر إيضاحا، وتأكيدا، وكشفا، وتبيانا، فيلزمهم برد واقعى محسوس لا يقدرون على الفكاك منه، ولا يستطيعون أن يخرجوا من دائرته إلى دائرة الوهم والباطل، وهذا هو ما جاء بعد ذلك من الآيتين الكريمتين وهما: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 75، 76]. قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أى ليس هو بإله كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة، وما من خارق إلا وقد كان مثله أو أعجب منه لمن كان قبله، فإن كان الله قد أحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا، وجعلها حية تسعى على يد موسى، وهو أعجب، وإن كان قد خلقه من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب وأم، وهو أغرب. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، أى بليغة الصدق فى نفسها كسائر النساء اللاتى يلازمن الصدق فى الأقوال والأفعال فى المعاملة مع الخلق، وصدق الأفعال والأقوال فى المعاملة مع الخالق لا يصدر منهن ما يكذب دعوى العبودية والطاعة، فإن من كان مجتهدا فى إقامة وظائف العبودية وملازمة الإنابة والطاعة يسمى صديقا أو صديقة، تصدق الأنبياء، كما قال تعالى فى وصفها: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها [التحريم: 12]. قال بعض العلماء: وهذه الآية من أدلة من قال: إن مريم، عليها السلام، لم تكن نبية، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها فى معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى ما هو الحق فى اعتقاد ما لها من أعلى الصفات، فإن أعظم صفات عيسى، عليه السلام، الرسالة، وأكمل صفات أمه، عليها السلام، الصديقية. ولما بين سبحانه أقصى ما لهما من الكمالات، بين أن ذلك لا يوجب لهما الإلهية

بقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ؛ لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم، ولحم، وعروق، وأعصاب، وأخلاط، وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع ومؤلف مدبر كغيره من الأجساد، فكيف يكون إلها، وخص الأكل بالذكر لأنه أصل الحاجات، والإله لا يكون محتاجا، وقيل: هذا كناية عن الحدث؛ لأن من أكل وشرب لا بدّ له من البول والغائط، ومن كانت هذه صفته، كيف يكون إلها؟ ثم لما أوضح الله تعالى لهم الأدلة فى أمرهما حتى ظهر كالشمس بعدهما عما ادعوا فيهما أتبعه التعجب بقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ على وحدانيتنا. ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، أى يصرفون عن الحق مع قيام البرهان، وكان العطف ب ثُمَّ للتفاوت بين العجب من بيان الله للآيات على التوحيد، وبين العجب من إعراضهم عن هذا البيان، وأن إعراضهم أعجب. قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى غيره، يعنى عيسى، ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً، أى لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضر الله تعالى به من البلايا، والمصائب فى الأنفس، والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله تعالى به من صحة الأبدان، والسعة، والخصب، وكل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع، فبإقدار الله تعالى وتمكينه. وهذا دليل قاطع على أن أمر عيسى مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضرا ولا نفعا، وصفة الرب تعالى أن يكون قادرا على كل شىء، لا يخرج مقدور عن قدرته تعالى، وإنما قال: ما فى حق من يعقل مع أن أصله يطلق على غير العاقل، نظرا إلى ما هو عليه فى ذاته فإنه، عليه السلام، فى أول أحواله لا يوصف بعقل ولا بشيء من الفضائل، وإنما ظهر على يديه من بعض المنافع، وإزالة بعض المضار بإقدار الله تعالى على ذلك وتمكينه إياه، فكيف يكون إلها؟ وكان التعبير ب ما تنبيها على أنه من جنس ما لا يعقل، بمعنى أنه فى ذاته لا يملك ضرا ولا نفعا إلا بتمليك الله له وإقداره كما بينا. وهذا القدر مشترك بينه وبين غيره وأنه، عليه السلام، واحد من آحاد تلك الحقيقة، ومن كانت له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة، فبمعزل عن الإلهية، وبيان ذلك وتوضيحه

أن من كان له حقيقة يشارك بها غيره، لا بدّ أن يكون له ما يتميز به عن غيره، فيتركب مما به الاشتراك، وما به الامتياز، والتركيب ينافى الإلهية، فعيسى، عليه السلام، باعتبار ذاته لا يملك شيئا نفعا ولا ضرا، وهو بهذا الاعتبار يشترك مع آحاد كل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فإذا ما انضم إليه خصيصة تميزه عن بقية آحاد هذه الحقيقة، بأن قدر بأقدار الله تعالى على جلب نفع، أو دفع ضر، كان مركبا، والتركيب ينافى الإلهية كما قدمنا آنفا. غلو اليهود والنصارى: ثم يقول الله تعالى بعد ذلك خطابا لأهل الكتاب عامة من يهود ونصارى، كما هو رأى الأكثر: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77]، الغلو نقيض التقصير. وقوله تعالى: غَيْرَ الْحَقِّ يفيد أن الغلو فى الدين نوعان: غلو حق، وهو أن يجتهد فى تحصيل حججه، كما يفعل المتكلمون، وغلو باطل، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة، فيرفعوا عيسى، عليه السلام، إلى أن يدّعوا له الإلهية. وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ فى غلوهم، وهم أسلافهم الذين قد ضلوا بتماديهم فى الباطل من التثليث وغيره، حتى ظن حقا ضَلُّوا أى بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ، أى طريق الحق، وهو الإسلام، والسواء فى الأصل هو الوسط، والأهواء هاهنا المذاهب التى تدعوا إليها الشهوة دون الحجة. قال أبو عبيد: لم يذكر الهوى إلا فى موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال: يريد الخير ويحبه، وقيل: سمى الهوى هوى؛ لأنه يهوى بصاحبه إلى النار، وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذى جعل هواى على هواك، فقال: كل هوى ضلالة. وبعد فما أصدق هذه الحقائق القرآنية، وما أعظم هذه الآيات التنزيلية، وما أشد إلزامها لليهود والنصارى فى انحرافهم عن التوحيد وبعدهم عما جاء به القرآن الكريم من العقيدة الحقة، والأعمال التشريعية الصالحة، وما أصدق قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33].

محاجة القرآن لليهود والنصارى معا: هذا وإذا كانت الآيات السابقة قد ألزمت الحجة كلا من اليهود والنصارى على حدة وانفراد، فهناك آيات جمعتهما فى خطاب واحد، وألزمتهما الحجة والبرهان، نسوق منها ما يلى: أولا: قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15]. حكى الله تعالى قبل ذلك عن اليهود والنصارى نقضهم العهد، وتركهم ما أمروا به، ثم دعاهم بعد ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ... الآية، فهى دعوة صريحة خاصة لهم، وخطاب قوى موجه إليهم، وإيرادهم بعنوان أَهْلَ الْكِتابِ لانطواء الكلام المصدر به على ما يتعلق بالكتاب، وللمبالغة فى التشنيع عليهم، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته، والعمل بمقتضاه، وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا من الكتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون، فقد أخفت اليهود آية الرجم، كما أخفت النصارى بشارة الإنجيل بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفى إعلامه صلى الله عليه وسلم يخفى ما فى كتبهم، وهو أمى لا يكتب ولا يصحب القرّاء، دليل على صحة نبوته، لو ألهمهم الله الخير، وقوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، يعنى مما يكتمونه، فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به؛ لأنه لا حاجة إلى إظهاره، والفائدة فى ذلك أنهم يعلمون كون النبى صلى الله عليه وسلم عالما بما يخفون، وهو معجزة له أيضا، فيكون ذلك داعيا إلى الإيمان به. وفى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يعنى القرآن، فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال، والكتاب الواضح الإعجاز، فالنور والكتاب المبين متحدان بالذات، وعطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف الصفة على الصفة، مع اتحاد الموصوف بهما، وهو القرآن. وقيل: يريد بالنور محمدا صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك فالعطف من قبيل عطف الذات على الذات، وأيا ما كان، فالمراد بهذه الجملة المستأنفة أن فائدة مجىء الرسول ليست منحصرة فيما ذكر من بيان ما كانوا يخفونه، بل إنه جاء لهم نورا يهتدون به فى معرفة الحق، ويسترشدون به إلى الغاية المنشودة.

ثانيا: قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 19]. نص هو فى غاية البيان أنه صلى الله عليه وسلم أرسل لليهود والنصارى، وليس معنى إرساله إليهم إلا أن يؤمنوا بما جاء به من توحيد خالص، ويعبدوا الله على شريعته التى رسمها وبينها من صلاة وصيام، وما إلى ذلك، وما أروع قوله فى الآية الكريمة: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فهو يدل على أنهم فيما هم عليه من شريعة حرّفوها، ودين أضاعوه فى أمس الحاجة إلى بيان شاف، وإيضاح للحق كامل، فمعنى الآية هو الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حين انطماس آثار الوحى، وهم أحوج إليه لإزالة العذر، وإلزام الحجة، فعليهم أن يعوا ذلك نعمة من الله عليهم، ورحمة منه بهم. ثالثا: قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة: 68]. بعد أن أمرهم الله تعالى فى الآيتين السابقتين باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وبين لهم أنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء لهم ليصحح العقيدة، ويرشدهم إلى السبيل السوى، قال لهم فى هذه الآية الكريمة: أن ما هم عليه من دين باطل لا يعتد به إطلاقا، حتى يكون ذلك حافزا لهم إلى الدخول فى دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن المرء يأنف أن يكون على عقيدة باطلة، أو عبادة فاسدة، ما دام سليم الطبع، بعيدا عن التعصب والتمسك بالباطل، فقوله تعالى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أى يعتد به حتى يسمى شيئا لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء، تريد تحقيره وتصغيره، وفى أمثالهم: أقل من لا شىء. حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، أى بأن تعملوا بما فيها، ومنها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقته المعجزة الناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد بقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ هو القرآن الكريم، وما أبدع قوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، يعنى فالقرآن أنزل إليهم ولهم، وهم مقصودون به ضمن من قصد، ومطالبون بالعمل بأحكامه ضمن من طلب إليه ذلك من بقية المكلفين. وأما قوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ... إلى آخره، فهو بيان لما هم عليه من كفر

بالقرآن، وحقد على من جاء به، وقد سماهم الله تعالى كافرين، حيث لم يؤمنوا به، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يحزن على كفرهم، ففي المؤمنين مندوحة عنهم وغناء، أى غناء له صلى الله عليه وسلم، يعنى فهم كفار بمقتضى هذه الآية القرآنية وغيرها من النصوص القرآنية الأخرى التى ذكرنا بعضها سابقا، وما داموا كذلك، فليس لهم فى الآخرة أدنى نصيب من رحمة الله تعالى. رابعا: ويؤكد هذا ويوضحه ويزيده بيانا ما جاء فى قوله جل جلاله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 156 - 158]. قال العلماء: هذا النص من أبين الأدلة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وشمولها لكل الطوائف وجميع الأجناس على تباين مذاهبها واختلاف نحلها. ونسوق تفسير هذا النص، وبيان ما فيه من عظيم الفوائد، وجليل المنافع، الأمر الذى هو موضوع بحثنا، ومرتبط به أتم الارتباط، فقوله سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ سيق هذا الكلام جوابا لدعاء سيدنا موسى فى قوله قبل ذلك: أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 155، 156]. فجاء قوله تعالى بعد ذلك: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، أى من خلقى فى الدنيا، ما من مسلم، ولا كافر، ولا مطيع، ولا عاص، إلا وهو متقلب فى نعمتى، وهذا معنى حديث أبى هريرة فى الصحيحين: «إن رحمتى سبقت غضبى»، وفى رواية: «غلبت غضبى»، وأما فى الآخرة، فقال تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وخصها بالذكر لنفعها المتعدى، ولأنها كانت أشق عليهم. روى أنه لما أنزل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فقال تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ، ولا

يكفرون بشيء منها، فأيس إبليس منها، وتمناها اليهود والنصارى، وقالوا: نحن نتقى ونؤمن بآيات ربنا، فأخرجهما الله تعالى بقوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، ومعنى الأمى أنه لا يقرأ ولا يكتب، وهى صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «نحن أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب»، والعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرءون، أى الخط، والنبى صلى الله عليه وسلم كان كذلك. قال أهل التحقيق: وكونه أميا بهذا التفسير، كان من جملة معجزاته، وبيان ذلك من وجوه: الأول: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى، من غير تبديل ألفاظه، ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها، فلا بد وأن يزيد فيها، أو ينقص عنها بالقليل والكثير، ثم إنه صلى الله عليه وسلم مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة، ولا نقصان، ولا تغيير، فكان ذلك معجزة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6]. ثانيا: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة، لكان متهما فى أنه ربما طالع كتب الأولين، فحصل على هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بالقرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم أو مطالعة، كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48]. ثالثا: تعلم الخط شىء سهل، فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم فى الفهم، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين، وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق، ومع تلك القوة العظيمة فى العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذى يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المادتين جاريا مجرى المعجزات. انتهى. ثم إن هذا الاتباع الذى وصف به اليهود والنصارى تارة يكون بالقوة فقط لمن تقدم موته على زمانه صلى الله عليه وسلم، وتارة يخرج من القوة إلى الفعل كمن لحق زمانه زمان دعوته، فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له، ولو عمل جميع الطاعات، وقد عرفه سبحانه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق عند مجيئه ريبة، ولا يتعلل أحد فى أمره بعلة،

ولذلك اتبعه الَّذِي يَجِدُونَهُ أى علماء اليهود مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ باسمه ونعته، ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسدا منهم وخوفا على زوال رياستهم، وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه، فقد زالت رياستهم ووقعوا فى الذل والهوان. وقوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يجوز أن يكون استئنافا، ويجوز أن يكون المعنى يجدونه مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ... إلخ، ويحتمل أن يكون متعلقا ب يَجِدُونَهُ فى موضع حال على تجوز، أى يجدونه فى التوراة آمرا بشرط وجوده. حقيقة المعروف والمنكر: المعروف ما عرف بالشرع، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع، والمنكر مقابله. قال الرازى: ومجامع المعروف فى قوله صلى الله عليه وسلم: «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله»، وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته، وإما ممكن لذاته. أما الواجب لذاته: فهو الله تعالى، لا معروف أشرف من تعظيمه، وإظهار الخشوع، والخضوع على باب عزته، والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال، مبرءا عن النقصان والآفات، منزها عن الأنداد والأضداد. وأما الممكن لذاته: فإن لم يكن حيوانا، فلا سبيل إلى ايصال الخير إليه؛ لأن الانتفاع مشروط بالحياة، ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله، ومن حيث إن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلا ظاهرا، وبرهانا باهرا على توحيده وتنزيهه، فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام، ومن حيث إن لله سبحانه وتعالى فى كل ذرة من ذرات المخلوقات أسرارا عجيبة وحكما خفية، فيجب النظر إليها بعين الاحترام. وأما إن كان المخلوق من جنس الحيوان، فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه، ويدخل فيه بر الوالدين، وصلة الأرحام، وبث المعروف، فيثبت أن قوله صلى الله عليه وسلم: «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله»، كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف. ولا شك أن المنكر هو ضد الأمور المذكورة. قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أى ما حرّم عليهم فى شرعهم، كالشحوم،

ويحرّم عليهم الخبائث، أى كالدم، ولحم الخنزير، والربا، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ، أى ثقلهم الذى كان يحمل عليهم، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ من الدين والشريعة، وذلك مثل قتل النفس فى التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض النجاسة من البدن، والثوب بالمقراض، وغير ذلك من الشدائد التى كانت على بنى إسرائيل، شبهت بالأغلال التى تجمع اليد إلى العنق، كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل، فكذلك لا تمتد على الحرام الذى نهيت عنه، وكانت هذه الأثقال فى شريعة موسى، عليه السلام، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك كله، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنفية السهلة السمحة». فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وَعَزَّرُوهُ أى وقّروه وعظموه، وأصل التعزير المنع والنصرة، وتعزير النبى صلى الله عليه وسلم تعظيمه، وإجلاله، ودفع الأعداء عنه، وَنَصَرُوهُ على أعدائه وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أى القرآن، سمى نورا لأنه به تستنير قلوب المؤمنين، فتخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم. ولا يقال: إن القرآن ما أنزل مع شخص محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نزل مع جبريل. لأنا نقول: معناه لأنه أنزل مع شخصه صلى الله عليه وسلم؛ لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات، قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أى الفائزون بالمطلوب فى الدنيا والآخرة. عموم الدعوة الإسلامية: وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158]، هذا أمر الله تعالى لنبيه بإشهار دعوته، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم من بين سائر الرسل، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، وإلى الجن عامة، وكل نبى بعث إلى قومه خاصة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى: أرسلت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت على عدوى بالرعب منى مسيرة شهر، وأطعمت الغنيمة دون من قبلى، وقيل لى: سل تعطه، واختبأت شفاعتى لأمتى». فإن قيل: كان آدم، عليه السلام، مبعوثا إلى جميع أولاده، ونوح لما خرج من السفينة كان مبعوثا إلى الذين كانوا معه، مع أن جميع الناس فى ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم. أجيب بأن ذلك لم يكن لعموم رسالتهما، بل للحصر المذكور، فليس ذلك من باب عموم الرسالة.

قوله تعالى: جَمِيعاً حال من إليكم، أى أن الكل يشترط عليهم الإيمان بى والاتباع لى، قال بعض الفضلاء: وقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق وتغلغل فى كل نفق، ولم يبق الله تعالى أهل مدر، ولا وبر، ولا سهل، ولا جبل، ولا بحر، ولا بر، فى مشارق الأرض ومغاربها، إلا وقد ألقاه إليهم، وملأ به مسامعهم، وألزمهم به الحجة، وهو سائلهم عنه يوم القيامة. فهذه الآيات القرآنية الصادقة، وتلكم البراهين التنزيلية الحقة، تلزم اليهود والنصارى بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد الذى انحرفوا عنه وضيّعوه، ومن التعبد والخضوع لله تعالى على وفق ما رسم القرآن، وبين من أحكام وشريعة تخالف وتغاير ما جاء فى كتبهم على ما اقتضته الحكمة الإلهية من نزول الشرائع على ما يناسب كل أمة مع رسولها. فما قالوه عن إيمانهم بالله تعالى، فقد تبين فساده، حيث ثلثوا وأثبتوا له البنوّة جل جلاله، وما قالوه عن إيمانهم باليوم الآخر، فهو فاسد كذلك، حيث لم يؤمنوا به على حقيقة ما أخبر الله عنه، بل على ما فهموه زورا وبهتانا، كما أنهم ليس لهم يقين فيما فهموه، إذ اليقين هو العلم المتقين بالدليل، وإنما اعتقادهم خيال فاسد، وجهل محض، ولذلك قال عز من قائل فى وصف المتقين فى أول سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4]، قال المفسرون: إن قوله: بِالْآخِرَةِ متعلق ب يُوقِنُونَ فلم قدم عليه؟ وإن قوله: هُمْ فاعل فى المعنى ل يُوقِنُونَ فلم جعل مبتدأ وقدم عليه؟ ومحصول الجواب أنه عدل إلى كل واحد من المتقدمين ليفيد التقدم الأول، وهو تقديم بالآخرة، أن إيقانهم مقصور على ما هو حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى ما هو خلاف حقيقتها كما يزعم اليهود، كأنه قيل: يوقنون بالآخرة لا بغيرها، وفيه تعريض بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالقرآن بأن ما كانوا عليه ليس من الإيمان بحقيقة الآخرة لعدم خلوص علمهم بالآخرة عن الشبهة الباطلة، فإن اعتقادهم فى أمر الآخرة غير مطابق لحقيقة الآخرة. وليفيد تقديم الفاعل المعنوى أن الإيقان بالآخرة مقصور على المؤمنين، لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالقرآن، وفيه تعريض لهم بأن اعتقادهم

الذى يزعمون أنه إيقان ليس إيقانا أصلا، بل هو جهل محض، كما أن معتقدهم خيال باطل، وإنما الإيقان ما عليه المؤمنون، كما أن الآخرة هى التى يعتقدونها، فإن أهل الكتاب يقولون: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وأن اليهود قالوا: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80]، إلى آخر مفترياتهم الباطلة، والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل. الرد على المحامى أحمد حسين: لقد رأينا كتابا بعنوان: فى الإيمان والإسلام (¬1)، وضعه أحد المحامين فى هذا العصر، وهو الأستاذ أحمد حسين، وفيه ما لا يتفق مع النصوص القرآنية السابقة، لذلك رأينا من الواجب علينا إزاء الدعوة الإسلامية أن نبين ما فيه، إخلاصا للحقيقة، ووضعا للحق فى نصابه، فنقول مستعينين بالله وحده، ومتوكلين دائما عليه: قال الكاتب فى صفحة (174، 175) من هذا الكتاب تحت عنوان: الإسلام يؤاخى بين الأديان ويوفق بينها، بعد كلام ما نصه: فجاء الإسلام على خلاف جميع العقائد التى سبقته يؤاخى بين الأديان كلها. الإسلام والأديان: نقول: إن الإسلام كما هو معلوم وثابت يوافق الأديان السابقة كلها، ويتآخى معها ويرتبط بها أشد الارتباط فى أمر التوحيد بنص قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، ويتآخى معها كذلك فى أصول العبادات دون هيئاتها وأشكالها، قال تعالى حكاية عن بنى إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، إلى أن قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 83]. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183]، أما هيئات العبادة وأشكالها، فمختلف فيها قطعا، حيث إن لكل أمة مع رسولها تشريعا خاصا فى هذه العبادات اقتضته الحكمة الإلهية، كما أوضحناه سابقا فى أول البحث، ودليل هذا الاختلاف فى التشريع قوله جل جلاله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48]. قال العلامة أبو السعود عند هذه الآية ما نصه: والمعنى: لكل أمة كائنة منكم أيها ¬

_ (¬1) طبعة دار القلم، الطبعة الثانية.

الأمم الباقية والخالية جَعَلْنا أى عينا ووضعنا شِرْعَةً وَمِنْهاجاً خاصين بتلك الأمة، لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التى عينت لها، فالأمة التى كانت من مبعث موسى إلى عيسى، عليهما السلام، شرعتهم التوراة، والتى كانت من مبعث عيسى إلى النبى صلى الله عليه وسلم شرعتهم الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون من سائر المخلوقات، فشرعتكم القرآن ليس إلا، فآمنوا به وآمنوا بما فيه. وقال العلامة الجمل فى حواشيه على الجلالين: قال ابن عباس: قوله: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً سنة وسبيلا. وقال قتادة: سبيلا وسنة، فالسنن مختلفة، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة يحل الله بها عز وجل فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذى لا يقبل التغير هو التوحيد والإخلاص لله تعالى والإيمان بما جاءت به جميع الرسل، عليهم السلام. وقال علىّ بن أبى طالب: الإيمان منذ بعث آدم، عليه السلام، شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، ولكل قوم شرعة ومنهاج. قال العلماء: وردت آيات دالة على عدم التباين بين طرق الأنبياء، منها قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً إلى قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]، ومنها قوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]. وردت آيات دالة على حصول التباين بينها، منها هذه الآية، وهى قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، وطريق الجمع بين هذه الآيات أن كل آية دلت على عدم التباين، فهى محمولة على أصول الدين من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله تعالى، فلم يختلفوا فيه. وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينها، فمحمول على الفروع وما يتعلق بمظاهر العبادات، فجائز أن يتعبد الله عباده فى كل وقت بما شاء، فهذا هو طريق الجمع بين الآيات، والله أعلم بأسرار كتابه. انتهى. هذا هو القرآن الحكيم، وهذا هو فهم الراسخين من أولى العلم فيه، نقلناه ليكون حجة نيرة، وبرهانا ساطعا على من انحرف فى القول وخلط فيه، وبعد عن الصواب والمنهج المستقيم.

كذلك ذكر الإمام القرطبى فى تفسير قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] فى بيان حكمة اقتصار الآية الكريمة على البدء بنوح بدون آدم، نقلا عن القاضى ابن العربى ما نصه: ثبت فى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى حديث الشفاعة المشهور الكبير: «ولكن ائتوا نوحا، فإنه أول رسول بعثه الله تعالى إلى الأرض، فيأتون نوحا، فيقولون له: أنت أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض»، وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول رسول نبى بغير إشكال، إلا أن آدم لم يكن معه إلا بنوه، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، وإنما كان شرعه تنبيها على بعض الأمور، واقتصارا على ضروريات المعاش، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء، واستمر هذا إلى نوح، فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب والديانات، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، صلوات الله عليهم، واحدا بعد واحد، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله تعالى بخير الملل، ملتنا، على لسان أكرم الرسل، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكأن المعنى: أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعنى فى الأصول التى لا تختلف فيها الشرائع، وهى التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والإذاية للخلق كيفما تصورت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات، فهذا كله مشروع دينا واحدا، وملة متحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعذارهم، وذلك قوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، أى اجعلوه دائما، قائما، مستمرا، محفوظا، مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب، فمن الخلق من وفى بذلك، ومنهم من نكث، ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه، واختلفت الشرائع وراء هذه فى أحكامها حسبما أراد الله تعالى مما اقتضت المصلحة، وأوجبت الحكمة وضعه فى الأزمنة على الأمم، والله أعلم. فهذا هو التوحيد بين الأديان والاختلاف بينها، وقد تبين بوضوح أن ذلك لازم لكل دين، وضرورى فى كل رسالة سبقت الإسلام وتقدمت عليه، على خلاف ما يفهم من عبارة الكاتب التى نقلناها عنه سابقا فى قوله: فجاء الإسلام على خلاف جميع العقائد التى سبقته يؤاخى بين الأديان كلها، فقوله: على خلاف جميع العقائد، يقصد به جميع الأديان، وهو كلام لا سند له ولا دليل، بل الدليل يبطله ويأتى عليه من أساسه، قال

تعالى: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ [المائدة: 46] الآية، فقوله: مُصَدِّقاً فى الموضعين حال، الأول من «عيسى»، والثانى من «الإنجيل». قال العلماء: إنها حال مؤكدة، إذ مقتضى أن عيسى رسول من الله تعالى، أن يكون مؤمنا بما فى التوراة، ومقتضى أن الإنجيل كتاب من الله، أن يكون مصدقا للتوراة التى هى من عند الله كذلك. وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ [المائدة: 48]، قال الخطيب الشربينى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه: ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد، عبر تعالى بالمفرد، فقال: مِنَ الْكِتابِ، أى الكتب المنزلة التى جاء بها الأنبياء من قبل، فاللام الأولى فى الكتاب للعهد؛ لأنه عنى به القرآن، والثانية للجنس؛ لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة. فثبت بهذا بطلان قول الكاتب أن العقائد السابقة لا تآخى بينها، ويجب أن لا يغيب عن البال أن تصادقها إنما هو على ما أوضحناه وبيناه من التوحيد بينها فى الأصول والاختلاف بينها فى الفروع، وإلا لما قال تعالى فى شأن التوراة: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [المائدة: 44]. ولما قال سبحانه فى شأن الإنجيل: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: 47]، وبناء على ما بينها من تصادق واتحاد يجب على كل أصحاب ديانة سابقة أن يدخلوا فى الديانة اللاحقة لها، متعبدين لله على ما فيها من فروع الأحكام التى تخالف الشريعة السابقة، وإلا فهم كافرون مخلدون فى النار. فإن أراد الكاتب بتآخى الإسلام مع بقية الأديان هذا الذى أوضحناه وبيناه لهو صحيح ثم صحيح، وإن أراد غير ذلك بأن أراد أن ما فى الأديان الأخرى من تشريع يخالف تشريع القرآن صحيح يتعبد به وينال به عند الله الثواب الجزيل والنعيم الدائم، وأن من صلى من أهل الديانات الأخرى، وصام، وحج على وفق ما جاء فى شريعته، يساوى ويعادل من صلى، وصام، وحج على وفق شريعة القرآن، وأن كلا منهما يرضى عنه الله فى دار البقاء، فهذا كفر صريح لا شبهة فيه على ما قدمنا من الأدلة والبراهين الملزمة بالدخول فى الإسلام والانضواء تحت لوائه.

جدال أهل الكتاب: وقال الكاتب فى صفحة (178) ما نصه: ولقد أمر الإسلام معتنقيه أمرا ألا يجادلوا أصحاب الديانات الأخرى إلا بالتى هى أحسن، وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46]، وما ذلك إلا ليشعروا أن المتدين أخو المتدين، وإن اختلفا فى بعض الآراء والأفكار. وذكر الكاتب قبل كلامه هذا أن من أصحاب الديانات أتباع كنفشيوس فى الصين، وبوذا فى الهند، وزاردشت بالفرس، وإخناتون المصرى القديم، وقال: إنه لا يحق لمسلم أن يزدريهم أو أن يحقرهم، فقد يكونون من الرسل الذين لم يقص القرآن قصصهم. ونقول له قبل أن نتكلم معه فى الآية الكريمة التى ساقها دليلا على دعواه: إن الرسل الذين لم يقصهم الله تعالى علينا فى القرآن هم ضمن الغيب الذى لم يطلعنا الله عليه لحكمة يعلمها هو، فعلينا أن نؤمن بأن هناك رسلا دعت الناس إلى توحيد الله وعبادته دون أن نعرف أشخاصهم وأزمنتهم وما لابس وجودهم من وقائع وحوادث، فقد قال العلماء فى قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164]، معناه أن هناك رسلا سميناهم لك فى القرآن، وعرفناك أخبارهم، وإلى من بعثوا من الأمم، وما حصل لهم من قومهم، وقوله: لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، أى لم نسمهم لك، ولم نعرفك أخبارهم، فمجرد تجويز أنهم رسل لا يكفى أبدا لإعطائهم قداسة الرسل. ولنتكلم معه فى الآية: نقول: إنه لم يسق الآية بتمامها، وفى ذلك تغطية للحقيقة وستر لها عن أعين المتطلعين إليها والراغبين فى معرفتها، فالآية فى سوقها هذا تدل على أن لا نجادل إلا بالتى هى أحسن دائما أبدا، وهذا غير مراد قطعا بدليل قوله سبحانه بعد هذا مباشرة: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا، ولنذكر معنى الآية بعد ذلك، فنقول: قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ [العنكبوت: 46]، أى اليهود والنصارى ظنا منكم أن الجدال ينفع، أو يزيد فى اليقين، أو يرد واحدا عن ضلال مبين، إِلَّا بِالَّتِي، أى المجادلة التى هِيَ أَحْسَنُ، كمعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم والدعاء إلى الله تعالى بآياته، والتنبيه على حججه كما قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون: 96].

إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية، فجادلوهم بالسيف إلى أن يسلموا، أو يعطوا الجزية، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك، والاستثناء فى قوله: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا متصل، وإنما فسر الظلم فى الآية بمحاربتهم المؤمنين حتى لا يقال: كيف قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مع أن أهل الكتاب جميعا ظالمون؛ لأنهم كافرون، قال تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]. فالآية الكريمة شروع فى بيان إرشاد أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام بعد بيان إرشاد أهل الشرك فى قوله تعالى قبل ذلك: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] الآية، فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى معناه دعوتهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ لأن هذا هو المتعين المفروض الذى يلزم كل مكلف من المسلمين فى حدود الاستطاعة والقدرة كما هو واضح، وما أبدع قوله فى هذه الآية: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ بعد قوله سبحانه فيها: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ. قال الخطيب الشربينى عندها ما نصه: أى خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع، سواء كانت موافقة لفروعكم، كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة، ولا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفا لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. انتهى هذا هو معنى الآية، وهذا هو ما يفهم منها على مقتضى الموازين الصحيحة والضوابط الدقيقة، هذا هو ما تعطيه الآية على وفق ما قاله أئمة الهدى والراسخون فى التحقيق والمعرفة. قلنا فيما تقدم: إن الآية فى دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، والكاتب يقول: إن المجادلة للإشعار أن المسلم فى دينه أخو اليهودى والمسيحى فى دينهما. ولا ندرى من أين جاءت هذه الأخوة وهم يتجهون إلى بيت المقدس، ونحن نتوجه إلى الكعبة، وصلاتنا تخالف صلاتهم، وصيامنا يخالف صيامهم، إلى غير ذلك. وقد نطق القرآن بكفرهم كما يصرح به قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، اللهم إلا إذا أمكن أن يقال فى المتضادات: إن بينها أخوة، وفى المتباينات: إن فيها صلة ورابطة.

الإيمان والعمل الصالح: وقال فى صفحة (179) تحت عنوان: الإيمان والعمل الصالح، بعد كلامه ما نصه: فكل من آمن وعمل صالحا فى هذه الدنيا فله أجره عند ربه، سواء فى ذلك المسلم، أو المسيحى، أو اليهودى، أو المتدين بأى دين من الأديان، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قلنا فيما تقدم عند ردنا عليه فى قوله: الإسلام يؤاخى بين الديان، ما نصه: فإن أراد الكاتب بتآخى الإسلام مع بقية الأديان الأخرى، هذا الذى أوضحناه، فهو صحيح، وإن أراد غير ذلك بأن أراد أن ما فى الأديان الأخرى من تشريع يخالف تشريع القرآن صحيح يتعبد به، وينال به عند الله تعالى الثواب الجزيل، والنعيم الدائم، وأن من صلى من أهل الديانات الأخرى وصام وحج على وفق ما جاء فى شريعته يساوى ويعادل من صلى وصام وحج على وفق شريعة القرآن، وأن كلا منهما يرضى عنه الله فى دار البقاء، فهذا كفر صريح لا شبهة فيه. أما هنا وفى هذا الموضع، فقد انكشف لنا الغطاء عما يقول الكاتب من أن الإسلام يؤاخى بين الأديان، وأنه لا يقصد بتآخى الإسلام مع بقية الأديان إلا هذا الذى يصرح به هنا من أن كل من عمل صالحا على أى دين، فله أجره عند ربه، وقد تأيد هذا بما ذكره الكاتب فى مقدمة الطبعة الأولى فى كتابه هذا، فقال فى صفحتى (13 و 14) تحت عنوان: المادية هى الخطر المشترك، ما نصه: وعلى أية حال، فقد حان الوقت ليدرك كل صاحب عقيدة دينية أيا كان موضعها ومحورها، أن الخطر الذى أصبح يهدد عقيدته ليس ما يقول به دين آخر. إلى أن قال: وإنما الخطر الذى أوشك أن يهدد العقائد ويقتلعها من جذورها هو هذه المادية الطاغية الجارفة المسعورة. فهو يرى أن الأديان كلها متآخية، وأن أصحابها ناجون، يرضى الله عنهم جميعا دون الماديين الذين استهوتهم المادة وغلبهم حبها، وتغلغل هذا الرأى فى نفس الكاتب إلى حد أنه رسم على غلاف كتابه ما ينبئ عن هذا التآخى ويشير إليه، فقد رسم على الغلاف مئذنة وصليبا بجانبها، وبجانب الصليب من فوق رسم شمسا، وبجانب الصليب من أسفل رسم نجمة، وبين الشمس والنجمة فى محازاة الصليب وبجانبه رسم شخصا فرعونيا، يعنى فهو يدعو إلى الفكرة قولا، وكتابة، ورسما، وتصويرا، وتفسير هذا

الرسم على حسب ما جاء فى كلامه الذى ذكرناه قريبا أن الرجل الفرعونى والشمس رمزان إلى أخناتون المصرى، والنجمة هى رمز وشعار اليهودية، أما الصليب فهو معروف أنه للنصارى، والمئذنة معلوم أنها للمسلمين، ولا ندرى ما رمز الزرادشتية، ولا رمز الكونفشيوسية، ولا رمز البوذية، وعلى كل، فهذا الذى ذكرناه هو ما أمكننا أن نستخلصه من هذا الرسم، ولعله يقول فيما لم يرمز إليه أنه محمول على غيره ومقصود معه، بدليل كلامه السابق الذى ذكرناه. ونقول نحن من جانبنا: كل من يقول وهو غير مؤمن بالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، وأن الله تعالى عنه راض، وأنه تعالى يثيبه على عقيدته أو عبادته فى دار البقاء، فهو كاذب خاطئ، قال تعالى حاكيا عن اليهود والنصارى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 111، 112]. سمى الله تعالى هذا القول منهم أمنية تمنوها، وشهوة رغبوا فيها، يعنى فلا دليل على ذلك ولا برهان، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطلب منهم البرهان فى ذلك، وأن يظهروا ما عندهم من حجة إن كانت لهم حجة أو برهان، وكانت الإجابة ب بَلى لإثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة، وبين سبحانه بهذا أن الجنة لن تكون إلا لمن أسلم وانقاد لله تعالى بقلبه باطنا، وبجوارحه ظاهرا. وقال بعد ذلك أيضا حاكيا عنهم: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135]، فالله سبحانه بهذه الآيات يكذبهم تكذيبا صريحا، ويبين لهم كيف يكون الوصول إلى الجنة ونيل ما عند الله تعالى من الثواب، وإذا كان القرآن يكذب اليهود والنصارى فى هذه الدعاوى التى قالوها، وهم أصحاب شرع سماوى سابق، فغيرهم ممن لم يعلم له كتاب ولم يعرف له رسول من سائر المذاهب والأديان التى ذكرها الكاتب، أولى بهذا التكذيب وأحق به، وعلى الكل أن ينضوى تحت لواء القرآن، وأن يصدق بما جاء فيه من تشريع وأحكام. فحقيقة الإيمان الصحيح اللازم لكل مكلف فى أى جنس، وعلى أى ملة ومذهب، الإيمان المعتبر عند الله تعالى فى النجاة من الخلود فى النار، وفى نيل الثواب الدائم

والنعيم المقيم فى الجنة، هو الإيمان بالقرآن وسائر الكتب السماوية السابقة عليه، قال تعالى فى أول سورة البقرة فى بيان وصف المتقين: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4]، قال المفسرون عند هذه الآية: والإيمان بالإنزالين جملة فرض عين، وبالأول دون الثانى تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض، ولكن على الكفاية؛ لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج ويشوش المعاش. قال تعالى من هذه السورة أيضا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]. وَالْأَسْباطِ جمع سبط، وهو الحافد، والمراد حفدة يعقوب وأبناؤه وذراريه، فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق، وقد نسبت صحف إبراهيم إلى الأسباط؛ لأنهم كانوا متعبدين بتفاصيلها، داخلين تحت أحكامها، فكأنها أنزلت إليهم، كما أن القرآن لهذا الاعتبار نزل إلينا. ثم قال تعالى كذلك فى هذه السورة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177]. اختلف نظر المفسرين فى بيان المخاطب بهذه الآية، وعلى أى قول منها، فهى دليل واضح على أن الإيمان لن تكون له حقيقة منجية إلا إذا كان بجميع الأنبياء وما نزل إليهم. قال فريق: إن المراد بالمخاطب أهل الكتاب، وعليه يكون المعنى: ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النصارى إلى المشرق، فإنهم أكثروا الخوض فى أمر القبلة حين حوّلت، وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد الله تعالى عليهم وقال: ليس البر ما أنتم عليه، فإنه منسوخ، ولكن البر ما فى هذه الآية. وقوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ على تأويل حذف مضاف، أى بر من آمن، أو بتأويل البر بمعنى ذى البر، أى ولكن البر الذى ينبغى أن يهتم به بر من آمن، أو لكن ذا البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب، أى الكتب، إن أريد به الجنس، وإلا فالقرآن. ويرى البعض أن المخاطبين هم المسلمون، والمعنى عليه: ليس البر كله فى الصلاة،

ولكن البر ما فى هذه الآية. وبعضهم عمها فى المسلمين وأهل الكتابين، أى ليس البر مقصورا بأمر القبلة. ومقصودنا من هذه الآية لا يختلف على أى قول من الأقوال كما قدمنا آنفا. كذلك جاء فى آخر هذه السورة قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. فهذه دلائل صادقة وبراهين قوية دامغة على ما قلناه فى بيان حقيقة الإيمان المنجى، من أخل بجزئية من هذه الحقيقة، فإيمانه غير صحيح ولا معتبر شرعا، بمعنى أن من فرّق فى إيمانه بين كتاب وكتاب، أو رسول ورسول، أو ما إلى ذلك، فهو كافر. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النساء: 150، 151]. وقال حكاية عن اليهود خاصة: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89]، إلى أن قال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ [البقرة: 91]. فالفروق التى ذكرها الكاتب فى كلامه الذى ذكرناه قبل لا تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بقرآنه، فهى كافرة بمقتضى هذه النصوص القرآنية، وما دامت كافرة فلن يقبل الله تعالى لها عملا عنده فى دار البقاء، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18]، يعنى: فكل عمل طيب يصدر عن الكافر من صدقة، وصلة رحم، وفك أسير، وإقراء ضيف، وبر والد، فى عدم الانتفاع به، كرماد اشتدت به الريح، فلم تبق له عينا ولا أثرا، فهم لا يجدون لهذا العمل ثوابا عند الله تعالى لفقد شرطه، وهو الإيمان الصحيح، وقال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23]، يعنى قصدنا إلى أعمالهم التى عملوها من مكارم الأخلاق، كالجود، وإغاثة الملهوف، ونحو ذلك، فَجَعَلْناهُ، لكونها لم تؤسس على الإيمان، هَباءً وهو ما يرى من شعاع الشمس الداخل من كوة مما يشبه الغبار

مَنْثُوراً أى مفرقا فهو مثله فى عدم النفع، إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه. قال العلماء: وإن كانوا قد يجازون عليه فى الدنيا. وما دامت أعمالهم الصالحة لا ثواب عليها لفقد شرطها وهو الإيمان، فليس لهم إلا النار مستقرا ومقيلا. ثم إن الكاتب لما استشهد على دعواه بالآية الكريمة، قال بعدها مباشرة: وقد تكررت هذه الآية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة حتى أصبحت بمثابة قاعدة أساسية من قواعد الدين الإسلامى، حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه، وأن تبقى على دينها. أما بالنسبة للآية، فنقول: لا يمكن أبدا فى ميزان العقل السليم والمنطق الصحيح أن تفهم الآية على ما يبدو منها للكاتب بعد أن بين القرآن حقيقة الإيمان، وما يجب على المكلف أن يؤمن به، وبعد أن حكم بالكفر على من كذّب وفرّق بين رسول ورسول، كما قدمنا كل ذلك صريحا دون لبس أو غموض، وإلا لكان القرآن من عند غير الله تعالى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإذن فلا بد من فهمها على هذه الحقائق، وعلى أساس هذه الأصول، وتلكم الحجج القوية الدامغة. قال أئمة التفسير: اختلف فى الذين آمنوا فى هذه الآية، فقالت فرقة: «الَّذِينَ آمَنُوا» هم المؤمنون حقا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفى سائر الفرق بمعنى من دخل فيه. وقالت فرقة: المراد بالذين آمنوا، المؤمنون بالأنبياء قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون المعنى: أن الذين آمنوا على التحقيق فى زمن الفترة مثل: قس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وبحيرا الراهب، وأبى ذر الغفارى، وسلمان الفارسى، وهؤلاء هم أصحاب الإيمان الحق قبل ظهور النبى صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا على الدين الباطل المبدل من اليهود والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلى الله عليه وسلم عند إدراكهم زمنه، فلهم أجرهم ... إلخ. فالآية تبين بهذا أن أى دين قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم لو كان صحيحا لا ينفع المتدينين به عند ظهوره صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يؤمنوا بالقرآن، وبما جاء به، عليه السلام، إذا أدركوا زمنه، وإلا فهم هالكون، ومن باب أولى ما إذا كان باطلا ومبدلا كدين اليهود والنصارى، فلو فرض أن إنسانا قبل ظهور بعثة النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن عيسى

رسول الله، على معناها الصحيح الصادق، لم تنفعه هذه الشهادة عند ظهور البعثة المحمدية، وعليه إذا أدرك زمانها أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فالأديان كلها لاغية وباطلة، سواء كانت صحيحة أو فاسدة عند ظهور الدعوة المحمدية. هذا ما تعطيه الآية على ما قدمنا من كلام أئمة التفسير، إذن فهى ضد ما قال الكاتب، وضد دعواه، وهى عليه لا له. وقفة مع آية: بقى قوله: وقد تكررت هذه الآية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة، حتى أصبحت بمثابة قاعدة أساسية من قواعد الدين الإسلامى، حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه، وأن تبقى على دينها. نقول: أما عن تكرار آية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة، فنحن نطالبه بالدليل على ذلك، ولا يكلفه الدليل أكثر من أن يتصفح المصحف الشريف سوره وآياته، حتى يأتى لنا بمواضع التكرار التى قالها وادعاها، وسوف لا يجد بعد أن يتقصى القرآن كله أوّله وآخره، ووسطه وطرفيه، ما يثبت له هذا الذى قاله، ولا ذلك الذى ادعاه. فمقتضى كلامه أن الآية كررت ثلاث مرات على الأقل، إذا راعينا المعنى الموضوع للعبارة، أما إذا راعينا المعنى العرفى لهذا التعبير، فالمعنى أن الآية كررت مرات ومرات. والحقيقة والواقع أن هذه الآية الكريمة بالنص السابق الذى ذكرناه قبل قد ذكرت فى سورة البقرة، وذكرت أيضا فى سورة المائدة، ونصها فى سورة المائدة هو هذا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69]، ونرى فى هذه مع سابقتها اختلافا فى موضعين: أولا: قال: وَالصَّابِئُونَ بالرفع وهناك: وَالصَّابِئِينَ بالنصب. ثانيا: قال هنا: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69]، وقال هناك: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]، وعبارة الكاتب تفيد أن التكرار كان بنص الأولى، وهذا غير الواقع المحسوس كما بينا، يعنى أن الآية الكريمة ذكرت مرتين فى القرآن الكريم فقط دون ما زيادة على ذلك، أما توجيه

قراءة: وَالصَّابِئُونَ بالرفع، وهى قراءة الجمهور، فقد قال العلماء فى بيان ذلك أنه من المقدم الذى معناه التأخير، كأنه قال: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك. وأما قوله: حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه، وأن تبقى على دينها. فنقول: لقد بينا المعنى الصحيح للآية، ذلك المعنى الذى لا يجوز فهم غيره منها، وهو الذى قال به أئمة المفسرين، وليس فى هذا المعنى ما يدل أقل دلالة ولا يشير أدنى إشارة إلى زواج المسلم من الكتابية، حتى ولا فى مذهبه الفاسد الذى أبطلناه لا توجد هذه الدلالة، فلا يلزم من مذهبه هذا، كل من آمن وعمل صالحا من أى دين فله أجره عند ربه، لا يلزم منه زواج المسلم من الكتابية؛ لأنه لو جاز زواج المسلم من الكتابية بمقتضى هذا المذهب لجاز للمسلم أيضا زواج المرأة الزرادشتية والكونفشيوسية، ولا يقول بذلك مسلم. نعم أباح الله تعالى زواج المسلم من الكتابية بآية أخرى من سورة المائدة، وهى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إلى أن قال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5]. قال الخطيب الشربينى عند هذه الآية فى قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، قال: هم اليهود والنصارى، أى أحل لكم أن تنكحوهم وإن كن حربيات. وقال ابن عباس: لا تحل الحربيات، وأما الإماء المسلمات، فيحل نكاحهن فى الجملة، بخلاف الإماء الكتابيات، فلا يحل نكاحهن عند أبى حنيفة، رحمه الله تعالى. هذا وقد جاء فى مجلة «منبر الإسلام» عدد جمادى الأول سنة (1384 هـ) مقال بعنوان: حول ترجمة القرآن، للأستاذ محمد وصفى، فيه ما يأتى: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]. لقد ذهب المستشرقون إلى ترجمة هذه الآية الكريمة ترجمة مضللة بعيدة كل البعد عن المعنى الحقيقى الذى هدفت إليه، ومناقضة لتعاليم الإسلام وعقائد المسلمين صريحا إلى

أبعد الحدود. وقبل أن نناقش الترجمة، نرى لزاما علينا أن نذكر نص هذه الترجمة، ضاربين مثلا بترجمة «رودل» مثلا، هذا مع العلم بأن ترجمة من التراجم التى بأيدينا، لم تأت بالترجمة الصحيحة، وإنه ليؤسفنا أن محمد بقول، المسلم، جارى المستشرقين من غير المسلمين فى نفس الخطأ الذى وقعوا فيه، ثم ذكر الكاتب نص الترجمة بالإنجليزية، فليراجعها من شاء. وهذه الترجمة تعنى أن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعلمون عملا طيبا سيكافئون من سيدهم، وسوف لا يلحقهم خوف أو حزن، سواء كانوا مسلمين، أو متبعين للديانة الإسرائيلية، أو صليبيين أو صابئين. ويفهم من هذه الترجمة أن جميع من على الأرض اليوم من الإسرائيليين وأهل التثليث والصابئين، هم كالمسلمين سواء، ولن يصيبهم حزن أو خوف يوم القيامة ما داموا مؤمنين بوجود الله، وأن سيرهم حسن فى الدنيا حسب أديانهم التى يعتنقونها، وهو ما يتناقض كل التناقض مع قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران: 85]. إن الآية الكريمة معناها أن المسلمين الذين آمنوا برسالة خاتم النبيين، واليهود الذين اتبعوا شريعة موسى وآمنوا برسالته فى زمنه، وساروا على تعاليم التوراة الحقيقة، ودعوا الله قائلين: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 156]، والنصارى الذين ما بعث إليهم المسيح عيسى ابن مريم حتى آمنوا برسالته، واتبعوا الإنجيل الحقيقى طوال الزمن المحدد لرسالته، والصابئين الذين آمنوا برسالة رسولهم فى زمنه، كل أولئك لهم أجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لأنهم هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعلمون الأعمال الصالحة التى جاءت بها الكتب التى أرسلت إليهم على يد رسل الله الذين أرسلوا لهدايتهم، فمن كان اليهود زمن المسيح عيسى ابن مريم ولم يؤمن به، فقد حبط عمله؛ لأن رسالة موسى تتضمن وجوب الإيمان برسالة عيسى ونبوّته، واتباع تعاليم شريعته متى جاءت، والمفروض كذلك على النصارى الذين وجدوا أيام نزول القرآن الكريم أن يؤمنوا برسالة خاتم النبيين. ولقد حكى الله تعالى عن الذين آمنوا بالرسول الكريم من النصارى عند نزول

القرآن الكريم، فقال: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 51 - 54]. فالمؤمنون من أهل الكتاب الذين يكافئهم الله تعالى ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هم الذين يقيمون التوراة والإنجيل والقرآن، ولا يكفرون بأحدها، هذا مع العلم بأنها جميعا تفرض الإيمان برسالة محمد الكريم. قال تعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... [الأعراف: 156، 157] الآية. أ. هـ. ونرجع إلى الكاتب أحمد حسين، فنراه يقول فى صفحة (180) بعد أن ذكر الآية الكريمة، وهى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8] استشهادا على مذهبه ما نصه: وتطبيقا لذلك، فإن أهل الكتاب كالمسلمين سواء بسواء، من يفعل منهم مثقال ذرة من الخير، فإن الله يثيبه عليه، وما يفعله من شر فإن الله يجازيه عليه، واقرءوا إن شئتم: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران: 113 - 115]. نقول: إن آية وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ... [الزلزلة: 7] إلخ، لا تنطبق على أهل الكتاب إطلاقا؛ لأنهم كافرون بالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وشرط العمل الصالح كما قدمنا الإيمان بجميع الكتب المنزلة والرسل جميعا، خص الكاتب هنا أهل الكتاب بالذكر بعد أن جعلهم فيما مضى ضمن أهل الأديان كلها، وأن الكل ناجون، مستشهدا على هذا بآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى [البقرة: 62] على ما مر بيانه. واستشهد هنا بآية كريمة أخرى على دعواه حسبما نقلناه عنه آنفا. ونحن بعون الله تعالى ننقض القول فى بيان وإيضاح، فنقول زيادة على ما تقدم فى أول البحث: إن الله تعالى قد خاطب أهل الكتاب بالإيمان بالقرآن، وتوعدهم على تركه

بأقصى وأشد أنواع العقوبات، وهم بهذا يتساوون مع المشركين الماديين فى أن الله تعالى طالبهم بالإيمان بالقرآن، كذلك قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47]. وقال جل ذكره فى سورة التغابن بعد أن حكى عن المشركين أنهم ينكرون البعث: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التغابن: 8]، يعنى فالمليّون والماديون متساوون فى التكليف من الله تعالى بالإيمان بالقرآن، ولذلك أمر الله تعالى نبيه، عليه السلام، أن يوبخ الفريقين على ترك الإيمان به، فقال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [آل عمران: 20]. وقد جعل الله تعالى أهل الكتاب فى عداد من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، قال تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29]. قال سيدى عبد الرحمن الثعالبى الجزائرى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه: ونفى سبحانه عن أهل الكتاب الإيمان بالله واليوم الآخر، حيث تركوا شرع الإسلام، وأيضا فكانت اعتقاداتهم غير مستقيمة؛ لأنهم تشعبوا وقالوا: عزير ابن الله، والله ثالث ثلاثة، وغير ذلك، ولهم أيضا فى البعث آراء فاسدة، كشراء منازل الجنة من الرهبان، إلى غير ذلك من الهذيان، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة: 29]، أى لا يطيعون ولا يمتثلون، ومنه قول عائشة، رضى الله عنها: «وما عقلت أبوى إلا وهما يدينان الدين»، والدين هنا الشريعة. فصار المعنى: ولا يطيعون ولا يمتثلون شريعة الحق، وشريعة الحق هى ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنها نسخت جميع الأديان وجميع الشرائع السابقة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك فى هذه السورة أيضا: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]. فتبين بهذا أن أهل الكتاب ليسوا كالمسلمين سواء بسواء كما ادعى الكاتب، وإنما هم

كافرون كالمشركين سواء بسواء، ما داموا لم يؤمنوا بالقرآن وشريعته، بل كفرهم يزيد قبحا على كفر بقية الكافرين، ولذلك يقول الخطيب الشربينى عند تفسير قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ [آل عمران: 98] ما نصه: وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح، وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل، فهم كافرون بهما. أما عن الآية والاستشهاد بها، فبعد أن أبطلنا قوله: إن أهل الكتاب كالمسلمين بما تقدم إيضاحه، فقد أصبحت الآية لا تتصل بدعواه إطلاقا، وأما عن معناها وتفسيرها فهو هذا، ونسوق الآية بكمالها، قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... [آل عمران: 113] الآيات. جاء قبل هذه الآية قوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110]، يعنى لو آمن أهل الكتاب بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه؛ لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرئاسة واستتباع العوام، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه، وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ، أى المتمردون فى الكفر. وقيل خيرا لهم من الكفر الذى هم عليه، فالخيرية إنما هى باعتبار زعمهم، وفى ضرب من التهكم بهم ولم يتعرض لما يؤمنون به إشعارا بشهرته، ثم قال هنا: لَيْسُوا سَواءً [آل عمران: 113]، الواو فى قوله: لَيْسُوا تعود على أهل الكتاب، وهى اسم ليس، وسواء خبرها، فالوقف عليه تام. والمعنى أنهم ينقسمون إلى مؤمن وكافر؛ لقوله تعالى: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110]، فانتفى استواؤهم، وقد سيقت هذه الجملة تمهيدا وتوطئة لتعداد محاسن مؤمنى أهل الكتاب. وقوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمران: 113] استئناف مبين لكيفية عدم تساويهم، ومزيل لما فيه من الإبهام ووضع أهل الكتاب موضع الضمير العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراك بين الفريقين وللإيذان بأن تلك الأمة ممن أوتى نصيبا وافرا من الكتاب لا من أراذلهم. وقوله: قائِمَةٌ معناه المستقيمة العادلة، من أقمت العود فقام، بمعنى استقام، وهذه الأمة، كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود الذين أسلموا، وكالنجاشى

وأصحابه من النصارى الذى أسلموا أيضا، فكل صفات الخير التى أتت بعد ذلك فى الآيات الكريمة إنما هى لمن آمن منهم بالقرآن ودخل فى حوزة الإسلام، وعبد الله تعالى على شريعة النبى محمد صلى الله عليه وسلم لا كما زعمه الكاتب فى تحريفه الآيات، وحملها على من لم يؤمن من أهل الكتاب، ولو قرأ سابق الآية وتدبره حق التدبر، لاهتدى إلى المعنى الصحيح الذى قال به أئمة الهدى وأعلام المحققين. وأما القسم الآخر من أهل الكتاب الذى أشارت إليه الآية، فلم يذكر فى الآية، اكتفاء بذكر أحد الفريقين. قال الخطيب الشربينى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه: أى والأمة الأخرى غير قائمة، بل منحرفون عن الحق، غير متعبدين بالليل، مشركون بالله، ملحدون فى صفاته، واصفون لليوم الآخر بغير صفته، متباطئون عن الخيرات، فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين. فأى مطمع للكاتب بعد هذا البيان فى هذه الآيات وأمثالها مما ادعى فيه أنه يؤيد رأيه الذى لم يقل به أحد، ولم يشهد له أى دليل من نقل صحيح، أو عقل سليم، والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.

كلمة للتاريخ

كلمة للتاريخ أحمد حسين فى سطور: - والده ريفى من كفر البطيخ، أما والدته فمن سمنود. - ولد هو فى القاهرة فى 18 مارس 1911 م، إن كان لا يفتأ يصرح أنه ولد قبل هذا التاريخ. - تلقى علومه فى كتاب الحى بطولون، ثم التحق بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية الابتدائية، وانتقل منها إلى مدرسة محمد على الأميرية، حيث ألف فى هذه الفترة جمعية: نصر الدين الإسلامى. - تلقى تعليمه الثانوى فى المدرسة الخديوية، وانخرط فى نشاطها المدرسى، وكان التمثيل هو النشاط المسيطر، فقدم لهم مسرحية: أبو مسلم الخراسانى، كما أشرف على إصدار مجلة المدرسة. - التحق عام 1929 م بكلية الحقوق. - دعا عام 1931 م إلى تصنيع مصر بجهود الشعب، مما أطلق عليه فى حينه: مشروع القرش. - أسس عام 1933 م جمعية مصر الفتاة، التى تحولت بعد الحرب العالمية الثانية إلى الحزب الاشتراكى، وكانت التعاليم الإسلامية هى نبراسه دائما، فدعا عام 1938 م إلى تطبيق أحكام الشريعة، واتهم ونفر من أعضاء جماعته، فيما اشتهر آنذاك باسم: تحطيم الحانات. - كان له دور كبير فى محاربة الملك السابق وكل فساد وطغيان، مما جعل حكام ذلك الزمان يعلمون على التخلص منه، فانتهزوا فرصة حريق القاهرة فى يناير 1952 م لكى يعتبروه مسئولا عن هذا العمل. - كان لقيام الثورة فى 23 يوليو 1952 م الفضل فى إنقاذه من حبل المشنقة. - هاجر من مصر عام 1955 م، ولكنه لم يلبث أن عاد إليها، فلما أن خاب أمله مرة أخرى اعتزل الحياة وأوى إلى بيته عام 1960 م.

- وفى بيته تفرغ للمطالعة والتأليف، فأصدر ثلاثة من ألمع كتبه: 1 - الطاقة الإنسانية. 2 - الأمة الإنسانية. 3 - نبى الإنسانية. - جاوزت مؤلفاته الأربعين كتابا، أحدها يقع فى ألفى صفحة، وهو موسوعة تاريخ مصر. - ولكن عمله الأكبر، والذى يعتبره تتويجا لحياته كلها، هو تفسيره للقرآن الكريم. - أصيب بالشلل الكامل الذى أعجزه عن الحركة تماما، فيما خلا الكتابة، وهو ما يجعله يقول: ما بقى الله يحفظ لى عقلى، ويقدرنى على الكتابة، فسوف أكتب لنهضة المسلمين. - يعتز باللقب الذى أطلقته عليه مجلة الأزهر من أنه: الكاتب الإسلامى. رسالة إلى المجاهد: بعد هذا التعريف الذى نشر فى مجلة الأزهر، عدد جمادى الأولى عام 1399 هـ، عقب عرض لكتابه: وصيتى وإيمانى، أقول كلمة للتاريخ: فعند إخراج هذا الكتاب فى طبعته الأولى عام 1979 م، قلت فى نفسى: إن الأستاذ أحمد حسين ما زال حيا يرزق، وبالتأكيد فهو لم يطلع على ما كتبه المرحوم فضيلة الدكتور سيد أحمد المسير، ومن الأمانة العلمية أن أضع هذا الرد أمامه ليقول كلمته، ولكن كيف أتصل بالأستاذ أحمد حسين؟. هنا يسر الله الأحوال، وطرأت على ذهنى فكرة، إن الأستاذ أحمد حسين يكتب مقالا شهريا فى مجلة «منبر الإسلام» فى تفسير القرآن الكريم، وإن رئيس التحرير حينئذ هو الأستاذ الدكتور عبد المعطى بيومى، وهو أستاذ معنا فى كلية أصول الدين بالقاهرة، فلماذا لا أرسل له الكتاب عن طريقه؟! فعرضت الفكرة على الأستاذ عبد المعطى بيومى، فرحب بها، وحملته أمانة توصيل الكتاب ورسالة خطية منى إلى الأستاذ أحمد حسين.

وقد أخبرنى الدكتور رئيس التحرير أنه عند عرض الموضوع على أسرة التحرير فى مجلة «منبر الإسلام» اعترض البعض على إرسال الكتاب والخطاب إلى الأستاذ أحمد حسين، بدعوى أن الرجل مريض وفى آخر أيامه، ولا يصح أن نؤرق الرجل أكثر مما هو فيه. فرد الأستاذ الدكتور عبد المعطى بيومى قائلا: لأن نصحح للرجل عقيدته، ويلقى الله على عقيدة صحيحة، خير من أن ندعه هكذا. وفعلا، وكما أخبرنى الدكتور عبد المعطى بيومى، فقد أرسل إليه الكتاب والخطاب، وهذا هو نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم السيد الأستاذ المجاهد الكبير أحمد حسين، السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: فأستأذن سيادتكم فى الكتابة إليكم رغم عدم سابق معرفتنا، ولكن رابطة الإسلام أقوى، وواجب التواصى بالحق هو الذى يمنحنى الإذن العام فى مراسلتكم. وفى البداية فإنى أحيى فيكم جهادكم الطويل المتواصل، وأشكر لكم توجيهاتكم السديدة لجيل اليوم، ونصائحكم الرشيدة لحكام الوطن، وأدعو الله لكم بالصحة، وتمام العافية، وحسن العواقب فى الأمور كلها. هذا وقد كان السيد الوالد المرحوم فضيلة الدكتور سيد أحمد المسير أستاذا للتفسير والحديث بكلية أصول الدين، وذات يوم اطلع على كتاب لسيادتكم هو «فى الإيمان والإسلام»، والكتاب فى مضمونه العام ومنهجه ثمرة طيبة، وغيرة مشكورة، ولكنه اتخذ موقفا من أهل الكتاب، رآه المرحوم والدى ونراه معه، مجانبا للصواب، وبعيدا عن منطق القرآن الكريم. وقد أملى المرحوم والدى بعض التعليقات على هذا الموقف لطلاب العلم الذين تتلمذوا على يديه، وعند ما انتقل إلى رحمة الله، رأيت أن من الوفاء لوالدى وللعلم أن أنشر مذكراته العلمية لينتفع بها المسلمون، وكان هذا الكتاب الذى أرسله اليوم لسيادتكم مع الأستاذ الدكتور عبد المعطى بيومى. رجاء أن تطلعوا عليه، وتتفضلوا بكتابة تعليق أعدكم، إن شاء الله، بنشره فى الطبعة الثانية، حتى تتجلى الحقيقة.

رجوع إلى الحق:

والله يرعاكم ويسدد خطاكم، مع أطيب أمانى الصحة والسعادة، وكل عام وأنتم بخير. 7 من المحرم عام 1400 هـ دكتور 27/ 11/ 1979 م محمد سيد أحمد المسير رجوع إلى الحق: انتظرت ردا من الأستاذ أحمد حسين، فلم يصل، ولعل عذرا منعه، ولكن الرجل، رحمه الله تعالى، وقد أصبح فى ذمة التاريخ بعد وفاته فى السادس والعشرين من سبتمبر عام 1982 م، قد كتب ردا عاما سجله فى مجلة «منبر الإسلام»، أعلن فيه الرأى الصحيح والعقيدة الحقة فى تفسير آيات القرآن الكريم التى كان قد أخطأ فى فهمها، وأضع أمام القارئ نصا لما سجله المرحوم الأستاذ أحمد حسين فى مجلة «منبر الإسلام» فى عدد جمادى الأولى سنة 1400 هـ، وفيه يقول: وقد وهم أقوام، فتصوروا أن اليهود والنصارى سواء بسواء والمسلمين آمنوا بسيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، أم لم يؤمنوا، ما داموا يعملون الصالحات، ونقول: إن الإيمان بسيدنا محمد هو الشرط الأساسى لكمال الإيمان. كذلك ما سجله فى عدد رمضان سنة 1400 هـ، وفيه يقول: ويساوى ما تقدم من حيث الكفر بالله محاولة التفريق بين الرسل، فيقال على سبيل المثال: نؤمن بموسى أو بعيسى، ولكنا نكفر بمحمد، فمثل هذا القول هو كفر صراح. وبهذا يكون الرجل، رحمه الله تعالى، قد رد أبلغ رد على رسالتى إليه، ورجع إلى الحق الذى لقى الله عليه مؤمنا صادقا. من تفسير الأستاذ أحمد حسين: أ- الدين والفطرة (¬1): شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ ¬

_ (¬1) نشر فى مجلة منبر الإسلام، عدد جمادى الأولى سنة 1400 هـ.

ب - من غير المنطق الإيمان بالوحى ثم الكفر بمحمد:

وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]. فالدين واحد، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك، ما دام المصدر واحدا، وهو الله، والهدف منه واحد، وهو عبادة الله بعمل الصالحات فى هذه الدنيا، هذه الحقيقة الناصعة البسيطة هى ما يقررها الإسلام فى هذه الآية التى نحن بصددها وفى غيرها من الآيات، فوعاها المسلمون كل الوعى، وجهلها أتباع اليهودية والنصرانية، ومن هنا يتفوق الإسلام على سائر الأديان، إذ يعترف بها كلها، ويلقن المسلمين أحسن ما فيها كلها وهو جوهرها، عبادة الله الواحد الأحد، والعمل الصالح فى الدنيا، ليتلقى الجزاء الحسن على ذلك فى الآخرة. فشل الاستشراق والتبشير بين المسلمين: ومن هنا فشلت كل وسائل الاستشراق والتبشير فى تحويل مسلم واحد من الإسلام إلى النصرانية أو اليهودية، فالمسيح، وإبراهيم، وموسى، ويعقوب، وإسحاق، كل هؤلاء رسل الله، وحملة الوحى الإلهى، وأيا ما قاموا به من معجزات وخوارق، فقد فعلوه بإذن الله لخدمة الله. لا يكمل إيمان اليهودى أو المسيحى إلا بإيمانه بمحمد: وقد وهم أقوام، فتصوروا أن اليهود والنصارى سواء بسواء والمسلمين، آمنوا بسيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، أم لم يؤمنوا، ما داموا يعلمون الصالحات، ونقول: إن الإيمان بسيدنا محمد هو الشرط الأساسى لكمال الإيمان؛ لأنه إذا كان من المتصور عقلا للملحدين الذين ينكرون الأديان جملة؛ لأنهم ينكرون الله، والوحى، والبعث، والحياة الأخرى، فإنه من غير المتصور أن ينكر مؤمن بكل هذا نبوّة سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، والتى لم تخرج رسالته عن هذا الإطار. ب- من غير المنطق الإيمان بالوحى ثم الكفر بمحمد (¬1): إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء: 150]، لا يجب أن يبرح الذهن أن القرآن الكريم قد نزل فى المناسبات لمواقف معينة محدودة، ومع ذلك، فإن آياته تظل تتحدث إلى أبد الآبدين عن أحداث عامة تتكرر على اختلاف الزمان والمكان، فهذه الآية على سبيل المثال، تتحدث عن يهود المدينة على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يزعمون أنهم يؤمنون ¬

_ (¬1) نشر فى مجلة منبر الإسلام، عدد رمضان سنة 1400 هـ.

بالله وبموسى كنبى مرسل، ولكنهم لا يؤمنون برسالة سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، ولكن الآية صيغت بحيث تنطبق على كل زمان ومكان. لا إيمان بالله بدون الإيمان برسله: فلا يمكن لزاعم أن يزعم أنه يؤمن بالله، ولكنه لا يؤمن برسله؛ لأن معنى الإيمان بالله، أنه هو الذى خلق الإنسان، وخلقه لغاية، والرسل هم الذين عرّفونا بهذه الغاية، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، ويكون معنى عدم تحقيق هذه الغاية التى جاء بها الرسل، هو عدم الإيمان بالله، وإلا كان الإيمان بالله وعدمه سواء بسواء، فما جدوى إيمان لا يترتب عليه شىء على الإطلاق، وما أشنعه من كفر أن نقول: أن الله قد خلق الخلق، ثم تركهم لشأنهم لا يعرفون ما يأمرهم به وما ينهاهم عنه، وهو ما لا نعرفه إلا عن طريق الرسل، فعبث وسفسطة، أن يقول قائل: أؤمن بالله، ولكنى لا أؤمن برسله، فأحدهما لازم للآخر، بحيث يزول بزواله، ولقد قلنا من قبل، ونقول: أن لا فكاك للإنسان، أى إنسان، من الإقرار بوجود قوة عظمى وراء هذا الكون، يسميها من لا يؤمنون بالله: الطبيعة، أو المادة، أو المادية الجدلية، فمن يؤمن بالله دون الإيمان برسله وما جاءوا به من تعاليم، فهم لا يزيدون عن كونهم أضافوا كلمة جديدة إلى جوار كلمات الطبيعة والمادة ... إلخ. وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء: 150]، ويساوى ما تقدم من حيث الكفر بالله، محاولة التفريق بين الرسل، فيقال على سبيل المثال: نؤمن بموسى، أو بعيسى، ولكنا نكفر بمحمد، فمثل هذا القول هو كفر صراح. كما سوف ينص القرآن فى الآية التالية، ذلك أن الإيمان برسول واحد يعنى الإيمان بالوحى، باعتباره الواسطة بين الله والإنسان، فإذا جاء إنسان يقول: إنه يوحى إليه، وكان ما يقول هو من نوع ما جاء به الرسول الأول، وأثبتت الأحداث أن كل ما قاله ويقوله هو صدق فى صدق، ومن فوقه ومن قبله صدق، فعلى أى أساس تنكر رسالته، إلا أن يكون إنكار الوحى، وبهذا نعود إلى الكفر بالله، وأنه يوحى إلى البشر. سئل السيد المسيح: يا معلم، سيكون من بعدك أنبياء كذبة، فكيف نعرفهم؟ فكان جوابه: من نمارهم تعرفونهم، فعند ما يجيء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو للتوحيد، ويحارب الوثنة والأصنام، ويعذب ويضطهد هو ومن اتبعه، فلا يزيدهم ذلك إلا إصرارا على

عبادة الله الواحد الأحد، وعند ما يعرض الجاه، والسؤدد، والمال، والغنى فيرفض، فمن يكون الرسول إلا هذا، الحق أن الملاحدة الماديين عند ما ينكرون كل شىء: الله، والرسل، والوحى، هم أكثر منطقا من هؤلاء الذين يؤمنون بالله وبالوحى، ثم يكفرون برسول ينزل عليه الوحى من عند الله فعلا. تفوق الإسلام على سائر الأديان: ومن هنا قلنا من قبل، ونكرّر تفوّق المسلمين على سائر معتنقى الأديان الأخرى، فهم يؤمنون بأن جوهر الديان واحد، والاختلاف لا يكون إلا فى التفاصيل، حيث ينسخ المتأخر المتقدم، ويقولون بقول القرآن، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285]. ومعلوم أن هذه الآيات التى نحن بصددها قد جاءت فى سياق الحديث عن النفاق، وهو إظهار خلاف الباطن، والتربص لاستغلال الفرص والمناسبات. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [النساء: 150]: وهذا هو النفاق بعينه، والحديث هنا عن يهود المدينة، ولكنه صالح لكل زمان ومكان، كما قدمنا، فهم يريدون أن يقولوا لسيدنا محمد: أنهم يؤمنون بالله، وإبراهيم، وموسى، ويقولون للمشركين: أنهم يكفرون بمحمد، ولكن الله سبحانه وتعالى ينزل حكمه على هذا النوع من السلوك. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا [النساء: 151]: فهذا هو الكفر الصراح، إذ يعبر القرآن بكلمة حَقًّا. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النساء: 151]: أى وأعددنا لِلْكافِرِينَ، ولقد ذكر لفظ الكافرين مرة ثانية؛ ليكون أمعن فى التوكيد وأشد عَذاباً مُهِيناً، أى أنه عذاب لا يقتصر على الناحية المادية، وهو الألم، بل إنه عذاب معنوى كذلك، إذ هو مهين، أى مذل من الإهانة. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء: 152]: وفى مقابل اليهود والنصارى الذين زعم كل منهما أنه يؤمن برسوله فقط، يقوم المسلمون الذين يؤمنون بالله، وموسى، وعيسى، وإبراهيم ... إلخ، وهذا ما يجعل الرسالة الإسلامية أشد تكاملا، وأكثر منطقية، فمتى آمن إنسان بالله، وأنه يوحى لبعض عباده بمشيئته، فعلى أى أساس يكون الإيمان بالبعض والإنكار على البعض الآخر إلا أن يكون التعصب الأعمى.

لماذا نقول بانتصار الإسلام: إن كثيرين يروننا نسرف فى التفاؤل عند ما نتحدث عن قرب انتصار الإسلام وغلبته على سائر الأديان، ومن يحسنون الظن بنا يتصورون أن ما نقوله هو من قبيل الأمانى، حيث نقرر ما نقرر باعتباره حقا مؤكدا، ودليلنا الواقع والتجربة. فقد جاء وقت لا يعرفه شباب الوقت الحاضر، أو حتى رجاله، كان التبشير بالمسيحية على أشده، وكان يقف خلف المبشرين الإمبراطورية الإنجليزية بكل جلالها، بل أوروبا كلها بكل نجاح حققته فى القرن التاسع عشر، وكان رجل التبشير خريج أعظم جامعات أوروبا، وكل ما كان ينجح فيه هو زعزعة العقيدة الدينية من أساسها، ولكنه لا يكاد يتحدث عن المسيحية، وعن كون المسيح إلها، حتى يرد عليه أبسط مسلم: اسم الله عليك يا خواجة، سيدنا عيسى ده رسول الله وليس هو الله!! وهكذا يتحول أبسط مسلم إلى معلم لخريج أكبر جامعات أوروبا، وهذا هو سر عظمة الإسلام. فليقل المسيحيون عن معجزات سيدنا عيسى ما يقولون، إن المسلم لا ينكر شيئا من ذلك، فالمسيح هو رسول الله، وقد زوّده الله بالقدرة على فعل ما فعل. وليتكلم اليهود عن موسى بأعظم ما يتكلمون، فالمسلم يقول مثل قولهم، ومن هنا عاش المسيحيون واليهود فى ظل الدولة الإسلامية، بل وازدهروا، حيث لا يستطيع المسلمون أن يعيشوا فى ظل دولة غير إسلامية إلا إذا تناسى المجتمع شأن الدين، كما هو الحال فى أوروبا وأمريكا، ولما كان ذلك يستحيل أن يدوم، إذ يستحيل قيام المجتمعات على غير دين. ومن هنا قلنا: إن المستقبل للإسلام؛ لأنه يعترف بالأديان السماوية الأخرى، ولا تعترف هى به، فهو الأقوى والأصلح، وبالتالى هو الأبقى، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17]. فنحن لا نتكلم لغة التفاؤل فضلا عن لغة التمنى، وإنما نتحدث العلم، وفوق ذلك نتحدث بما وعد به الله عز وجل. أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء: 152]: وإعطاء الله الأجر للمحسنين فى الآخرة، أى يوم القيامة، مسألة مؤكدة ومحققة، وهى محور الإيمان، ولكن الله سبحانه

رسالة إلى الرئيس الأمريكى كارتر:

وتعالى قد يعجل بعض هذا الأجر فى الدنيا، وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف: 13]. وهو ما فعله للمسلمين أيام نبيهم وعقب أن غادرهم ليلحق بالرفيق الأعلى، حيث فتحوا الدنيا التى كانت معروفة فى ذلك الزمان، وعند ما يعود المسلمون إلى سابق إيمانهم، فسوف يعودون لما كانوا عليه إن شاء الله. رسالة إلى الرئيس الأمريكى كارتر: ويبدو أن الأستاذ أحمد حسين أدرك خطأه حين سوى بين الإسلام وبين اليهودية والنصرانية الموجودتين الآن قبل أن أبعث إليه خطابى، فقد وجه رسالة إلى الرئيس الأمريكى كارتر، نشرها فى مجلة «الدعوة» العدد الرابع والعشرين، غرة جمادى الثانية سنة 1398 هـ، مايو سنة 1978 م، يدعوه فيها إلى الإسلام، ويقول له صراحة: أسلم تسلم، وإلا وقع عليك إثم الأمريكان جميعا، واتهم المسيحية بالشرك والوثنية، وذهب إلى أن الخطيئة والفداء أسطورة كنسية، وقال: إذا كان موضوع المسيح هو هذه القصة، قصة الفداء والكفارة، فلماذا لم يصرح بها المسيح مرة واحدة لا عن قرب أو بعد، وترك الأمر للكنيسة لتصوغه بعد أربعة قرون، لتفرضه على الناس بقوة الحديد والنار ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. ثم يتهم الأستاذ أحمد حسين النصارى فى عقولهم حين يقبلون عقيدة انتشار الخطيئة فى آدم وذريته، ويقول: ولم يقف مسيحى واحد ليسأل نفسه، وما هو ذنب البشر منذ أيام آدم حتى مجىء المسيح، وهم مئات وألوف الملايين، حتى يحملوا خطيئة آدم مهما كانوا محسنين؟! ولم يسأل مسيحى واحد نفسه: وماذا كان الشأن بالنسبة للأنبياء والرسل قبل المسيح؟! ما هو الشأن بالنسبة لإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وكل الأنبياء الذين سبقوا السيد المسيح، أكل هؤلاء كانوا يعيشون فى الخطيئة باعتبارهم سابقين على عملية الكفارة؟! ويواصل الأستاذ أحمد حسين، رحمه الله تعالى، بيانه للوثنية التى تسربت إلى العقيدة النصرانية، فيقول: وقد فزعت المسيحية للكنيسة من القول بتعدد الآلهة، فاخترعت لذلك تعبير الأقانيم

الثلاثة، وأنها مظاهر لله الواحد، وضربوا لذلك الأمثلة، ولكن مضمون هذه الأقانيم يدل على أن الذوات متباينة، فالقول على أنه فى يوم الدينونة يجلس الابن على يمين الأب لمحاكمة البشر ومحاسبتهم، أى أنه يوجد للابن دور خاص يقوم به، وتشخيص متميز يبدو عليه، وهكذا نرى أن حيلة الأب والابن والروح القدس، الكل إله واحد، لا تخرجنا من دائرة تعدد الآلهة الذى هو عقيدة وثنية، وأسطورة أوزوريس وإيزيس وحورس، هى عقيدة مصرية قديمة، وقد سادت عبادة إيزيس حوض البحر الأبيض المتوسط قبيل ظهور المسيحية.

الفصل الثالث الأمثال فى القرآن الكريم

الفصل الثالث الأمثال فى القرآن الكريم (¬1) قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]. وقال أيضا فى محكم قرآنه: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27]. وقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43]. فى ضوء هذه الآيات البينات، وما ترسله من هدايات، سيكون الحديث والفهم لما تهدف إليه، وما تثيره فى النفس الإنسانية المسلمة من يقظات روحية، وإشراقات وجدانية، وما تغرسه فى العقل من هداية وتوجيه، وما توحى به من تعاليم هادية لخيرى الدنيا والآخرة. لقد كان من فضل الله على عباده المؤمنين، أن عصم رسوله الأمين محمد بن عبد الله من كيد الكائدين، وتدبير المنافقين، وأذى المشركين فى كل المحاولات التى صنعوها، والمؤمرات التى حاكوها، والمعارك التى خاضوها؛ إطفاء لنور الله، وصدا للناس عن الهداية إلى دين الحق، كانت يد الله هى العليا، فحفظ رسوله، وشد أزره، ونصره على أعدائه، أعداء الحق، وحفظ رسالته، وصان وحيه وقرآنه من عبث العابثين، وتدبير الخائنين، فلم يلحقه تغيير أو تبديل كما لحق الكتب السماوية الأخرى، حفظ الله قرآنه من الضياع، والتحريف، والتشكيك، والافتراءات، بذلك الوعد القرآنى الذى نردده فى كل حين: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9]، ولن يخلف الله وعده، فهو مصون بقدرته القاهرة؛ لأنه: 1 - كلام الله سبحانه وتعالى، وهو القادر وحده على حفظه. ¬

_ (¬1) د/ محمد سيد شقير.

المعجزات:

2 - الذكر الذى يعرض هذه القدرة فى ملكوت الله الواسع فى مظاهرها العديدة. 3 - يعرض قصص السابقين من الأنبياء والرسل، وأنباء من سبقوا وجاهدوا فى الله حق جهاده، ودعوا إلى كلمة الحق فى العصور السابقة، وما كان لهم مع قومهم من صولات وجولات. 4 - يعرض أيضا ما لمحمد، عليه الصلاة والسلام، من مكانة ومنزلة عنده، وما لقومه من شأن فى مجالات التقوى والإيمان، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44]، فهو ذكر لا يتطرق إليه نسيان، ولا يلحقه نقصان. لكل هذه الأمور استوجب وحى الله وقرآنه، الحفظ والصيانة من كل كيد يراد به، والنجاة من كل مكر على مر الأيام إلى يوم الدين، هذا بالإضافة إلى أن سبيل إلى التذكير بنعم الله على عباده الظاهرة والباطنة، والتذكير بطرق العبادة التى يجب أن يسلكها ويتبعها كل مؤمن بربه، وبما أوحى به من أمور فيها صلاحية للإنسان فى دنياه وأخراه، وتبيان للحق فى كل صوره ومجالاته. فالقرآن من الله، ومعجزته الكبرى التى خص بها محمدا، عليه الصلاة والسلام، وأرسل بها إلى الإنسان لكى يرتفع بإنسانيته فوق شهوات الحياة، ويسمو بإمكاناته التى وهبه الله إياها إلى مرقى أعلى، ومستوى أفضل، بتوظيفها فى فهم الأمور، واستغلال الطاقات الفعالة التى خلقها الله فيه، من ذلك العقل الواعى، والعلم الذى ينير له طريق الهداية والرشاد. المعجزات: من وسائل توضيح الأفكار، وتبيان المعانى، أن يلجأ الكاتب، أو المتكلم، إلى استخدام المقارنات، والموازنات، والمقابلات، حتى يسهل الفهم، وتتضح الحقيقة، وتنجلى الغوامض فى الأفكار المطروحة، والآراء المعروضة، وبدون استخدام لذلك يصعب على القارئ أو السامع الإلمام بالمراد، أو الفهم السريع لما يعرض من رأى أو فكر. وقد درج الناس من قديم الزمن أن يعرفوا الشيء بنقيضه، فلا يحس الإنسان بقيمة الضياء والإشراق، وما يرسله من طمأنينة إلى النفس وراحة وهدوء، إلا إذا خيم عليه الظلام بكل ما يحويه من فزع، ورعب، وخوف، يعكر على النفس هدوؤها، ويجعلها

تحس بما كانت تنعم به قبل ذلك من نعمة. كما لا يحس الإنسان بقيمة ما ينعم به من صحة، وراحة نفس وجسد، ونعم أنعم الله بها عليه، إلا إذا ألمت به تلك المتاعب الصحية والجسدية التى تصيبه فى عضو من أعضائه، فتمنعه الحركة، أو تقعد به عن السعى فى سبيل العيش ... إلخ ما هنالك من أمور متناقضة ومتقابلة تحمل فى طياتها غموضا أو تعميما. ونحن فى معرض كلامنا عن المعجزات، إنما نقصد إلى تجلية الحقائق، وإبراز الحكمة الإلهية من وراء استعراض تلك المعونات الكبرى التى منحها الله جل فى علاه لأوليائه الصالحين المخلصين، وعباده المرسلين، وأنبيائه المصطفين على مر العصور وما كان لذلك من أثر فى الهداية والإرشاد للأقوام السابقين، ثم الانتقال بعد ذلك إلى تلك المعجزة الخاتمة الكبرى، وهى معجزة القرآن الكريم. فما المقصود بالمعجزة؟ وكما يفهم من اسمها، فهى أمر خلقه الله تعالى بقدرته القاهرة، لا تستطيع قدرة البشر على إحداثه، كما لا يمكن لقواهم الجسدية، والعقلية، والروحية، أن تفعله أو تحدثه، فليس بمستطاع إبراهيم، عليه السلام، أن يمنع النار من الإحراق، كما لا يستطيع موسى، عليه السلام، أن يجعل العصا ثعبانا مبينا يلتقط ما فعل سحرة فرعون، وليس بإمكان عيسى، عليه السلام، أن يحيى الموتى، أو أن يبرئ الأكمه والأبرص. ولكن الله جلت قدرته منح هؤلاء العباد قوة من عنده، تجعلهم يقدرون على إحداث ذلك أمام الناس الذين يشعرون بالعجز أمام تلك القوى، يمنح الله هؤلاء العباد والرسل تلك الخوارق والمعجزات تأييدا لهم، وتصديقا لما أتوا به من رسالة، ولا يستطيع البشر أن يأتوا بمثل هذا الأمر الخارق للعادة؛ لأنه بقدرة الله جرى على أيديهم. ويرى ابن خلدون فى مقدمته، أن الرسول يحمل إلى قومه أمرين: 1 - شريعة يوحى بها إليه، ويدعو الناس إلى اتباعها. 2 - معجزة بين يدى هذا الموحى به تشهد له بأنه رسول من عند الله، وأنه صادق فيما يتلقاه، فلا ينظر قومه فى دعوته قبل أن يقيم لهم الحجة على أنه رسول من عند الله إليهم، وذلك مما يظهره الله على يديه من المعجزات المادية والمحسوسة.

خصائص المعجزات العامة:

وإذا نظرنا إلى دعوة إبراهيم، عليه السلام، وصحفه التى حملت شريعته، وجدناها تختلف عن معجزة النار ونجاته من إحراقها، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، بالنسبة لعيسى، عليه السلام، تختلف عن شريعته إلى نبى إسرائيل من دعوة للإيمان بالله الواحد، وإتمام رسالة موسى، عليه السلام، فالخوارق فى الغالب تقع مغايرة للوحى الذى يتلقاه النبى، إلا معجزة القرآن الكريم، فهى الوحى المدّعى، وهو الخارق المعجز الذى تشاهده فى عينه، ولا يفتقر إلى دليل مغاير له مع الوحى، كما هو الشأن فى سائر المعجزات. خصائص المعجزات العامة: اختلفت معجزات الأنبياء تبعا لاختلاف أقوامهم وأزمانهم، وما لهؤلاء القوم من نزعات ورغبات، وما يشتهر بينهم من أمور، وما يلف حياتهم من عقائد واتجاهات، وما يتفشى بينهم من أمراض نفسية، وخلقية، وعقلية، فليس الناس جميعا على وتيرة واحدة، وخلق واحد، وتفكير واحد، وتبعا لتلك المتغيرات فى النفوس، والأخلاق، والعادات، والاتجاهات، كانت حكمة الله العالم بهذه المتغيرات، أن تكون معجزاته متمشية مع ما يعج به المجتمع من أمور، وما يزخر به من عادات وعقائد تحتاج إلى إصلاح اعوجاجها، وبتر صانعيها، والقضاء على الشيطان وأعوانه المفسدين فى الأرض. ومع اختلاف هذه المعجزات بين نبى ونبى، فإنها تشترك فى خصائص عامة تشملها جميعا بدءا من إبراهيم، عليه السلام، إلى محمد خاتم الأنبياء والرسل، فمن هذه الخصائص: 1 - أنها من الله سبحانه وتعالى، أجراها على يدى أنبيائه ورسله إلى خلقه، شاهدة على صدق الرسول فى تبليغه عن ربه عزّ وجل، وإذا ثبت صدق الرسول فيما بلغ، كان ذلك مدخلا إلى التصديق بالرسالة التى يحملها إلى الناس عن طريق الوحى، وهذه المعجزة لا تخضع لما تخضع له أمور الحياة من ارتباط الأسباب بالمسببات، فإذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب، وإنما تخضع لخالق الأسباب والمسببات، وهو الله سبحانه وتعالى، فهو القادر على أن يجريها على سننه، أو على نقيضه، كما حدث فى كثير من المعجزات الحسية، كمنع الإحراق للنار التى ألقى فيها

خليل الله إبراهيم، عليه السلام، بأمره سبحانه: كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69]. 2 - أن تكون من جنس ما اشتهر بين الناس فى ذلك الوقت الذى وقعت فيه، ولهم بها إلف، ويمارسون نظائرها فى حياتهم، وما موقف موسى، عليه السلام، مع فرعون وآله إلا دليل على ذلك، فقد كان السحر والسحرة والكهنة وما يصنعون، وما لهم من سيطرة على الخاصة والعامة فى مصر، أدوات التأثير على القلوب، والعقول، والعقائد، حتى أن الجميع يخضع لآرائهم، فلا تبت الأمور إلا باستشارتهم وتبعا لما يأمرون به. جابه موسى، عليه السلام، هذه المواقف وهو يعلم تمام العلم أنه مؤيد من قبل الله بتلك الآية الكبرى التى تنجيه من فرعون وآله، حينما يقول له: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف: 106 - 108] الآيات التى تعرض نموذجا لموقف الباطل الزاهق أمام الحق الأبلج الذى يدمغه، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الشعراء: 46 - 48]. وموقف عيسى، عليه السلام، بين أولئك العلماء الذين اشتهروا بعلومهم، وما كانوا يصنعون من ألوان الطب والمعرفة، فكانت معجزته الكبرى: يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله. ومعجزة محمد، عليه الصلاة والسلام، فيما أرسل به من قرآن كريم، مؤلف من حروف، وألفاظ، وكلمات، تقع فى أساليبهم، ومن جملة ما يتكلمون به وينطقون، ولكنهم مع ذلك لا يستطيعون أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. بان عجزهم، وظهر تهافتهم إزاء ما يلقى على أسماعهم، وما يقوله محمد لهم، وما يدعوهم إليه من تحدّ واضح، فكان منهم ذلك الاتجاه إلى لون آخر من الاتهامات التى لا تقف على قدمين، ولا يساندها دليل من عقل وفكر، من أنه اكتتب هذه الكلمات، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا. هذه عناصر مجمعة لتلك الخصائص التى تتميز بها تلك المعجزات التى كانت سندا لرسل الله فى هداية أقوامهم، وتبصرتهم بما فيه صلاح الأمر من العقائد، والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية والروحية التى تربط بين الناس، وكان لهذه المعجزات تأثيرها فى القوم ما بين مصدق بها ومكذب.

اختلاف المعجزات:

وبقى علينا أن نعرض لتلك الفروق الواضحة بين هذه المعجزات، وهى فروق لا تدعو إلى المساس بما لها من مكانة وقيمة، فالله هو خالقها ومرسلها؛ لتكون هداية لمن وجهت إليهم، ومناسبة لأحوالهم، ولكن نعرضها لتوضيح حقائقها وما لها من حكمة جديرة بالتناول والتعريف. واختلاف المعجزات بين الأنبياء لا يشعر باختلاف فى العقيدة التى أرسل بها الرسل، فالعقيدة واحدة فى جوهرها، ولا اختلاف بين المؤمنين فى كل عصر حيالها، فالإسلام هو دين كل مؤمن من لدن إبراهيم، عليه السلام، حتى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] فى دعاء إبراهيم، وفى قول عيسى، عليه السلام: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117]. عقائد واحدة، عبادة الله وحده، إيمان بالأصول العامة من بعث، وحساب، وجنة، ونار ... إلخ. أما الشرائع، فهى التى تختلف من عصر إلى عصر، ومن قوم إلى قوم، وهى تحكم العلاقة بين الخالق والمخلوق: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48]، لذلك نجد ألوانا من الفروق والاختلاف تتضح فيما نعرضه من دراسة تقارنية قائمة على التحليل والموازنة بين مختلف الشرائع. اختلاف المعجزات: بالنظرة الفاحصة، والقراءة الواعية لتاريخ الأنبياء والرسل، وما ترك لنا من آثار وكتب سماوية، نستطيع أن نتبين أن اختلاف الشرائع أدى إلى اختلاف فى الوسائل والمعجزات التى أمد الله بها رسله، فقد كانت المعجزات السابقة على رسالة محمد بن عبد الله الخاتمة تبدو فى الآتى: 1 - أن معجزات موسى وعيسى، عليهما السلام، معجزات أمدهما الله بها فى مجابهة أقوام كافرين لا يستنكفون أن يطلبوا من أنبيائهم أن يروا الله جهرة، وهم أولئك الذين آذوا رسل الله، وقتلوا من دعاهم إلى عبادة الله وحده، وهم بنو إسرائيل، جماعات صغيرة، لهم انتماءاتهم الأسرية والعصبية، ويشعرون بأنهم أفضل من بقية البشر، ويتميزون على من عداهم من بقية المخلوقات، لذلك كثر منهم العناد، والمحاجة، والكفر، فكان لا بدّ من معجزة خارقة للعادة تكون طريقا إلى الإقناع والتدليل على

صدق الرسول الذى أرسل إليهم، معجزة موائمة لأحوالهم وما اشتهر بينهم من أمور، فكانت العصا التى تلقف ما صنع السحرة، وتبطل ما وصل إليه العلماء من أسرار، وسطوة على فرعون وآله، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 69]. قال أيضا: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف: 160]. وكذلك إذا نظرنا إلى آيات المسيح، عليه السلام، الذى أرسله الله إلى خراف بنى إسرائيل الضالة، وجدنا أن الله قد حباه بمعجزات مادية كثيرة مشاهدة بالأعين من تلك الجماعات الصغيرة التى أرسل إليها، فأجرى على يديه إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله. وقال الله تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 49]. وكذلك معجزات سليمان، عليه السلام، وغيره من الأنبياء والرسل الذين أرسلوا إلى أقوام سابقين محدودى العدد، محصورين فى جماعات صغيرة من قوم صالح، وقوم هود ... إلخ، تأتيهم معجزة تتفق مع طبيعة الرسالة، ولكنها قليلة النتائج فما يلبث القوم إلا أن يرجعوا إلى تكذيب رسلهم كما حدث مع قوم موسى وعيسى، عليهما السلام. 2 - كذلك نرى من خصائص هذه المعجزات أنها تقع فى مكان واحد، يراها فيه أهل ذلك المكان فقط، وهى لذلك وقف على المشاهدين لها فقط، تنقرض بانقراض مشاهديها، كما تشاهد أيضا فى لحظة من الزمن ثم تختفى، ولا يكون لها صفة الاستمرارية، وكلها معجزات مادية محسوسة قريبة من معارف ذلك العصر، وما اشتهر عند القوم من طب وعلوم.

معجزة القرآن الكريم:

معجزة القرآن الكريم: هى معجزة قولية تشاهد بالبصر والبصيرة، تخاطب العقل والوجدان، ولا يقتصر الإيمان بها على من عاصرها، وإنما يستمر لمن أتى بعدها، وهى أيضا لكل مخلوقات الله من إنس وجن، وصالحة لكل زمان ومكان، وخاتمة أيضا لكل الرسالات السابقة، ومصدقة بكل ما جاء به الأنبياء السابقون، لذلك كانت رسالة عامة، جامعة، خاتمة. ولكن ما خصائص هذه المعجزة؟ وما أوجه إعجازها؟ لو نظرنا إلى القرآن الكريم، لوجدناه معجزة قولية، أمد الله بها رسوله محمدا؛ ليهدى بها أصحاب البلاغة والفصاحة، والذين يعرفون أسرار الكلمة، وما توحى به استخدامات اللفظة، وما تهدى إليه استعمالات الأساليب، هذا بالإضافة إلى أنهم قوم لدّ فى خصومتهم، مرنوا على الجدال والخصام، وبرعوا فى تطويع الكلمات لأغراضهم وأفهامهم، ونجحوا فى فنون القول من شعر، وحكمة، ومثل، ونثر، ولهم فى ذلك مجالات خصبة استوجبوا لأنفسهم بها زعامة القوم من بدو وحاضرة، والتقدير الأدبى فى أسواقهم الأدبية التى كانت تعقد فى مواسم الحج وغيرها، وتجمع كل الناس الذين ينطقون الضاد بين صفوفها ليتذوقوا الكلمة، وما تتركه فى وجدانات الناس من تأثير، وفى عقولهم من تغيير، وما تثيره من اتجاهات وعقائد، واختيار السبل التى تعالج الأوضاع الاجتماعية، والروحية، والاقتصادية. لذلك كان التحدى بهذه المعجزة القولية سافرا أمام القوم فى كل ناد ومجتمع، يقرع آذانهم بلفظه، ومعانيه، وطرائقه، وأساليبه، فيبهتون، ولا يستطيعون تصرفا فى قول، أو محاكاة فى أسلوب، تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بأقصر سورة كذلك، ولكن هيهات أن تقف قدرة عاجزة قاصرة خاسرة أمام قدرة الله التى أوحت بهذا القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا القرآن شاهد على صدق الرسالة أولا، فمن تدبر فى آيات الله، وجد أنها من عند الله، لا تمت بصلة إلى بشر، وإذا ثبت ذلك، دل على صدق الرسول المبلغ به. لقد أعلن أحد زعماء قريش، وهو الوليد بن المغيرة، عجزه حينما ذهب إلى محمد يعرض عليه تلك المغريات التى اعتقد أنها تستطيع أن تغير مسار دعوة محمد، أو تغريه بمظاهر الحياة كما تغرى أهل الدنيا، أو تفتّ فى عضده، وتوهن من عزمه، فقرأ عليه

السلام قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فما كان منه إلا أن رجع إلى قومه، وقال: والله لقد سمعت كلاما ما هو بكلام الإنس، ولا بكلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى. كلام زعيم من زعماء الرأى والمشورة والبيان، ويعرف محمدا فى نشأته وفى صباه، ويعرفه فى مراحل حياته معرفة سماع أو مخالطة فى بيئة ضيقة يتصل فيها المجتمع بعضه مع بعض، وتتقسم فيه العائلات والأسر وظائف الحياة التى يحتاج إليها المجتمع، فى ذلك المكان الذى هيأه الله لعبادته، وأرسى فيه القواعد أبو الأنبياء إبراهيم، عليه السلام؛ ليكون أول بيت لله فى الأرض لعبادته. كانت للقرآن ولا تزال تلك المكانة العليا التى أرادها الله لكلمته الهادية، والتى عبرت عنها الآيات القرآنية فى وصف أثره فى نفوس المؤمنين به فى قوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ [الزمر: 23]. وفى آية أخرى: إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 107 - 109]. كتاب معجز يخاطب العقل والوجدان، ويرسل هدايته إلى كل جبل يتحدى بإعجازه الزمان والمكان؛ لأنه من لدن حكيم خبير. وهذه المعجزة من جملة ما نطقت به الألسن، وما جرى فى الاستخدام اللغوى من حروف وألفاظ، ولكنها فى الذورة من البلاغة التى لم تعهد فى تراكيبهم الأسلوبية، ولم تتخلف هذه البلاغة، ولم تضعف هذه الفصاحة، بالرغم من كثرة سوره، وتكرار موضوعاته وأغراضه، واختلاف أساليبه وعباراته من إيجاز، وإطناب، وتقديم، وتأخير، حتى أن هؤلاء العرب وحذاق الكلام مع شدة عداوتهم للإسلام، لم يجدوا فيه مجالا لطعن، بل قالوا: إنه ليس من جنس الخطب والشعر، وبدءوا ينسبونه إلى السحر مرة، وإلى أنه إفك مرة أخرى افتراه محمد، وأعانه عليه قوم آخرون، أو أساطير الأولين اكتتبها، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.

افتراءات واتهامات اتخذت طريقها إلى شخص الداعى، وهو الرسول، ولم تتجه إلى صلب القرآن الكريم وما به من إعجاز، لعلمهم اليقينى أنه ليس من كلام البشر، وليس فى مقدورهم الإتيان بمثله، لذا كان من جانبهم التحذير لأنفسهم ولأصحابهم من الاستماع إليه، فقالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26]. ومع شدة عداوتهم للرسول، وكفرهم بما جاء به، كانوا يتسابقون خفية إلى الاستماع لهذا القرآن، ثم إذا انكشف أمرهم، تعاهدوا على عدم الرجوع مرة ثانية، وكتمان هذا الأمر حتى لا يفتضح أمرهم أمام قريش. كل هذا يدل على أن القرآن معجزة رسول الله العقلية ببلاغته، ووجوه إعجازه العديدة التى لا تقف عند لون معين، وطريق واحد، وقد عجز العرب عن الإتيان بمثله، ولكن أخذتهم العزة بالإثم، إذ كيف يخضعون لمحمد، ويتركون دين الآباء والأجداد، ويعبدون الواحد الأحد، ويتنازلون عما لهم من كبرياء؟ دفعهم ذلك كله إلى أن يقفوا من رسول الله موقف المحاربة والقتال؛ للصد عن سبيل الله، وقد يعرضهم ذلك إلى سبى نسائهم وأطفالهم، وقتل الرجال منهم، وبذل المال الكثير فى سبيل المعارك، وإعداد العدة لقتال المسلمين. لماذا اختار العرب المشركون موقف المحاربة من محمد؟ اختاروا هذا الطريق، مع ما فيه من تضحية ودم ومال؛ لأنهم أنفوا أن يقروا بعجزهم أمام تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم لهم فى كل وقت وحين بهذه الآيات القوية فى دلالاتها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 23، 24]. وقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88]. ولو كان هؤلاء الكفار من قريش وأتباعهم يظنون أن محمدا يستعين بغيره من القارئين والأحبار والرهبان، لأمكنهم أيضا أن يلجئوا إليهم ويستعينوا بهم، فلما لم يفعلوا ذلك، وآثروا أن يقفوا من محمد موقف المحاربة والنزاع، دلّ ذلك على أن القرآن معجز، وأن بلاغته ووجوه إعجازه عديدة، لا تقف عند حصر، فلا يستطيعون لها تقليدا، ويعجزون عن معارضتها.

الأسلوب القرآنى وتأثيره:

الأسلوب القرآنى وتأثيره: أتى القرآن الكريم بأسلوب معجز، متميز عن بقية الأساليب المألوفة فى وقته؛ لأنه من الله، فبهر الناس حينما سمعته، وأسر منهم القلوب، وسيطر على نفوسهم، فاستجابت الأفئدة إليه، ولم تنأ عنه إلا تلك القلوب المريضة التى قست كالحجارة، فلم تستجب لدعوته، ورصدت نفسها لمحاربته والوقوف أمام دعوته فى الهداية للحق؛ حفاظا على ما لهم من سلطة، ودفاعا عن تقاليدهم العفنة، وعباداتهم الباطلة، حاربوا القرآن بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا يكيلون إليه التهم الباطلة، ويلفقون الأكاذيب، ويمنعون الناس من الاستماع إليه، ويعذبون من يتلو القرآن من صحابة رسول الله فى المسجد الحرام، سلكوا هذه المسالك؛ لأنهم عجزوا عن محاكاة القرآن، أو الإتيان بمثل أقصر سورة فيه، وتهاوت أسلحتهم العديدة أمام هذا الكلام المعجز بلفظه وعباراته، وسبكه وصياغته، وأخباره ونواهيه ... إلخ، كل هذه الألوان المؤلفة من جنس ما يقولون ويؤلفون، ولكنهم عاجزون أن يأتوا بمثله، وهو الذى سمعته الجن، فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الجن: 1، 2]. وسمعه نفر من النصارى، فخشعت له قلوبهم وقالوا، كما عبر القرآن الكريم: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 82، 83]. وسمعه زعيم من زعماء قريش، فقال: إنه يعلو ولا يعلى عليه. نطق بالشهادة الحق فى قرآن الله الذى كان له وقعة فى القلوب والنفوس، فكان يقتلع منها عقيدة الشرك وهجمة الباطل. وما لنا نذكر ذلك الموقف الذى كان له تأثيره فى مجرى الأحداث فى بدء الإسلام، فأمد الإسلام بجبار الجاهلية عمر بن الخطاب، رضى الله عنه وأرضاه، لقد دخل على أخته حينما سمع بإسلامها يريد أن يبطش بها، وتناولت عيناه صحيفة القرآن، فقرأ: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى [طه: 1 - 6]، فأخذته رجة عنيفة أصابت مكمن الحقيقة من نفسه، وقلبه، وعقله، فقال: دلونى على محمد.

موقف تعجز مؤثرات الحياة ومغرياتها أن تحول تلك الطاقة من نقيض إلى نقيض، من جاهلية، إلى إسلام، من شدة بغض، إلى تفان فى حب، من جبار فى الجاهلية، إلى عادل فى الإسلام، كل ذلك فعلته تلك الآيات القرآنية التى جمعت بين الأسلوب الإنشائى فى النداء بكلمة: طه، وبين الإخبار بالنعم الجليلة التى أسبغها الله على عبده محمد، وهى نعمة القرآن والإسلام، وما به من سعادة، والتذكرة لأصحاب القلوب التى تخشى الله، والإعلام بخالق الأرض والسماء، والجدير بالعبادة، والإيمان، والطاعة. كل ذلك كان سبيلا إلى قلب عمر وعقله، فاستجاب لله، وكان سلاح الإسلام وعونه ضد الشرك وأعوانه. موقف آخر يدل على تأثير القرآن فى النفوس المتفتحة لقبول الدعوة والاستجابة لكل معروف، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول معلم للقرآن إلى المدينة بعد أن دخل بعض أهلها فى الإسلام، وهو مصعب بن عمير، فأخذ يعلمهم القرآن، وعلم بذلك سعد بن معاذ سيد الأوس، ففزع فزعا شديدا، ورأى أن هذه بداية لشىء خطير يزلزل من مكانته، فقال لابن أخيه أسيد بن خضير: ألا تذهب إلى هذا الرجل وتزجره؟! فلما ذهب إليه أسيد، قال له: ما جاء بك؟ وهدده، وقال له: اعتزل إن كان لك فى نفسك حاجة، ولكن مصعبا أجابه فى ثبات المؤمن، قائلا: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره. ثم أخذ مصعب يقرأ القرآن، وأسيد يسمع، فما قام من مجلسه حتى أسلم، ثم ذهب إلى عمه، وقال له: ما رأيت بالرجل بأسا، فغضب سعد، وذهب إلى مصعب ثائرا، فاستقبله مصعب بمثل ما استقبل به أسيدا، وانتهى الأمر بإسلام سعد الذى ذهب إلى قبيلته وجمعها، وقال: ما تعدوننى فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، فقال سعد: كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تسلموا، فأسلموا جميعا. ويكفى أن هذه الآيات من كلام رب العالمين، الآمر بكل حسن، الزاجر عن كل معصية، الداعى إلى مكارم الأخلاق، الهادى إلى الصراط المستقيم، والمعجز بكل صوره وأشكاله الأسلوبية التى صيغ منها، فهو متنوع بين الأسلوب الخبرى والإنشائى، والإيجاز والإطناب، والأسلوب المباشر، والأسلوب القصصى، والأسلوب المعتمد على الوصف، والأسلوب الحكمى، والأسلوب القائم على ضرب المثل، إلى اللفظ المعبر، والتعبير المصور والمشخص، كل هذا التنويع جاء فى مقامه، ونجح فى تحقيق أهدافه،

أوجه الإعجاز فى القرآن الكريم:

وكل هذه الأسرار الأسلوبية دفعت أصحاب البلاغة إلى تلمس معرفتها، والوصول إلى خفاياها. ولما كان ليس فى مقدرونا الإحاطة بكل هذه الأساليب وتناولها بالدراسة؛ لضيق الحيز، ولصعوبة التناول، فإننا نستطيع بإذن الله أن نخلص من تلك الأساليب إلى ما هو أساس بحثنا، وعنوان مؤلفنا، وهو أسلوب الأمثال القرآنية، وطريقة تكوينها وأهدافها. أوجه الإعجاز فى القرآن الكريم: أفاضت كتب التفسير قديمها وحديثها فى بيان أوجه الإعجاز القرآنى، وإنا لموجزون تلك الأوجه إتماما للفائدة فى هذا المقام: 1 - لا تقتصر جوانب الإعجاز القرآنى على الجانب اللفظى وما به من فصاحة فى الأسلوب استحوذت على أفئدة أرباب الفصاحة من قديم الزمان وحديثه، ولا على بلاغة تراكيبه وما حوته جمله من طرائق عديدة فى التكوين، والتركيب، والتنويع (¬1)، من جوانب لفظية شملت ما كان عند العرب سابقا فى آدابهم من شعر، ونثر، وحكمة، وبيان، وإلا لكان ذلك قاصرا على من ينطق بهذه اللغة فقط، ولا يستطيع التأثير فى المخاطبين الذين يكلفون بأمر هذا الدين، ويستجيبون له من الأمم الأخرى. ولذا فإن أمر الإعجاز يتعدى الجانب اللفظى، وفصاحته، وبلاغته، وسمو تراكيبه، إلى جوانب أخرى تشد انتباه الناس حقا فى كل عصر، وفى كل مكان، ولذا توضع موضع الاهتمام والدراسة، وتحظى بكثير من التقدير والاحترام، ويمكننا أن نشير إلى بعضها فى الآتى. 2 - حفل القرآن الكريم بأخبار السابقين والقرون السالفة التى هلكت، كما يحمل أخبارا مغيبة عن انتصارات وأحداث وقعت مثل فتح مكة، وانتصار الروم على الفرس. 3 - كشفت آيات القرآن الكريم عن ألوان النفسيات التى يعج بها المجتمع فى قديم الزمان وحديثه، وبخاصة أهل النفاق، وما لهم من خصائص. ¬

_ (¬1) واشتماله على جميع فنون البلاغة من ضروب التأكد، أنواع التشبيه والتمثيل، وأصناف الاستعارة، حسن المطالع والمقاطع، حسن التواصل، التقديم والتأخير، الوصل والفصل، إلى آخر ما هنالك.

مظاهر التيسير فى القرآن:

4 - يحمل أيضا القرآن الكريم فى طياته منهجا كاملا يعالج الزمان والمكان، ويصلح من شأن العباد فيهما، ويصلح أمر الدنيا والآخرة بما يحويه من قيم وأوامر، وما يضعه من تعاليم صالحة للتطبيق فى كل حين: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]. هذا قليل من كثير من جوانب الإعجاز القرآنى الذى تحدى به العرب وغيرهم من حيث المحتوى الذى أفحم المفكرين على اختلاف العصور، فكيف يتأتى لمحمد صلى الله عليه وسلم فى تلك الفترة القصيرة التى دعا فيها إلى الإسلام أن يبتكر وتظهر هذه التشريعات التى تناولت جميع مجالات الحياة سياسية، واقتصادية، وتربوية، وعقائدية، وتشريعية، لا تقتصر على وقت معين، أو تهتم بجيل خاص، وإنما تصلح لجميع الأزمان، والأمكنة، ولجميع الأجيال التى تختلف فى تفكيرها، وعلومها، وقدراتها، بتلك الأحكام الضابطة لأمور الدنيا والآخرة جميعا لا تتغير؛ لأنها من وضع العليم الخبير الحكيم. مظاهر التيسير فى القرآن: 1 - نسب الله سبحانه وتعالى إلى ذاته القدسية فضيلة التيسير، فقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 17]، وذلك للترغيب فى قبول ما يأتى به من شرائع يسودها الرفق، والرحمة، واليسر، وفى كثير من مظاهر العبادات التى فرضت على الإنسان، فهو الرحيم بعباده، ولا يكلف نفسا إلا وسعها. 2 - كانت الحماية من لدنه لقرآنه من التحريف والتبديل الذى لحق بالكتب التى أنزلت على موسى، وعيسى، عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، والحماية له أيضا من الضياع بالنسيان والغفلة، فقد يسر حفظه لكل راغب، وقراءته وتلاوته فى كل وقت لكل قاصد. 3 - كان الرسول يتلوه، ويقرؤه، ويكرره مرات ومرات، فى ليله ونهاره، فى صلاته وسجداته، ويحب أن يسمعه من غيره؛ تنشيطا للهمم، وحفزا لأصحابه، وإثارة للعلم والتعليم فى نفوسهم. 4 - بالإضافة إلى أنه يطبق القرآن فى حياته كمنهج للحكم يسير عليه المؤمنون فى حياتهم، ويحكم به المجتمع فى تآلفه وارتباطاته، وتدعى إليه الأمم والشعوب الأخرى فى تعاملاتها وتعاقداتها، وتصاغ على هدى تعاليمه سياسة الأمة الإسلامية، وتحكم بمقتضاها شعوبها من قبل الحكام. أليس فى ذلك مظهر من مظاهر التيسير للذكر والتذكر، والحفظ والانتفاع بالفهم

والاسترشاد؟. ذلك كان وعد الله لعباده المؤمنين ولرسوله الأمين: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9]. بقى علينا أن نتعرف الغاية، وأن نعرف الحكمة، وأن نتبصر أمورنا فى الحياة بمختلف اتجاهاتها سلما وحربا، علما وعملا، عظة واعتبارا، تطبيقا وإدراكا، سلوكا وفهما، حكما وسياسة. هل من مدكر؟ سؤال يوقظ فى كل نفس معانى المعرفة، والإدراك، والفهم، والاتعاظ بما حدث فى الماضى، والعمل على إصلاح الحاضر، والطموح لبناء المستقبل، دعوة موجهة للفرد، والجماعة، والأمة، كى يعى كلّ دوره، وإمكاناته، ومسئولياته فى معترك الحياة. دعوة موجهة لتحمل الأمانة الكبرى التى أنيطت بأعناق كل من وقع تحت دائرة التكليف السماوى، أمانة الاختيار، وحرية الإرادة، والقدرة على تحمل المسئوليات، اختيار الإنسان الظالم لنفسه، الجاهل بحقيقة دوره ووضعه، تلك الأمانة التى عرضها الله سبحانه وتعالى فى قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72]. أمانة ترينا الفرق بين مكلف ومكلف، بين السموات والأرض والجبال، وبين ذلك الإنسان القوى الضعيف صاحب الإرادة والاختيار، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 27 - 33]. اقتضت النظرة الإلهية لهذا الإنسان الذى خلقه فى أحسن تقويم، وميزه على بقية المخلوقات بالعقل والتدبير، أن جعله محلا لكرامته بالرسالات والكتب؛ ليحقق الحكمة من وجوده، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58]. وقوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]. والخلافة تقتضى تعمير الكون على بصيرة من الأمر، والتكوين للذات الإنسانية، والتحمل للمسئوليات التى يترتب عليها الجزاء من ثواب وعقاب فى الدنيا، وكذلك

فى الحياة الأخروية التى تفرز الطيب والخبيث، وتحقق عدل الله لمن حرم هذا العدل فى دنياه، واستدامة حياة أخرى تليق بخليفة الله، الإنسان، عن بقية المخلوقات التى خلقت من أجله، وعاشت فى دنياه من كل ما خلق الله. وهذا الأمر من تحقيق حكمة الوجود الإنسانى، والداخل فى علم الله الذى ينفرد به وحده، ويغيب عن مدركات مخلوقاته الأخرى، الملائكة التى أمرت بالسجود تنفيذا لأمر الله، سيكمل ويتحقق ما دام خاضعا للمنهج الإيمانى الذى حدده الله فى قوله إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، فالعبادة التى يرتضيها الله لعباده الذين خلقهم هى العبادة التى تنتج عن تفكير، وإرادة، وحرية، واختيار، وعلم، وبصر، والتى توجب الامتياز والتفضيل عن بقية المخلوقات التى لا تملك هذه الوسائل، ولا تستطيع الحصول عليها بحكم تكوينها وإمكاناتها، وإن كان ما خلق الله جميعه من أرض، وسماء، ونبات، وحيوان، وطير، تشترك جميعها فى عبادة الواحد الأحد، الفرد الصمد، تعبد الله وتؤدى دورها فى الحياة أداء طاعة وتسخير لما خلقت من أجله، وبما يتناسب مع خصائصها وذواتها، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]. 5 - ومن مظاهر التيسير التى كتبها الله لقرآنه، أنه قد حفظ بالكتابة والطباعة على مدى العصور، فقد سخر الله الإنسان حتى من لم يؤمن به، لكى يشترك فى أمر المحافظة عليه، وذلك أنه أخذ صفة العالمية فى وقتنا الحاضر، فالفن بكل إبداعاته يتجه إلى إخراجه فى أبهى صورة له فى أنحاء العالم، مؤمنه وكافره، وتتسابق إلى ذلك دور الطباعة والنشر فى سبيل إخراجه وإبرازه على الوجه الأكمل الذى يحفظه من التصحيف والضياع. 6 - ومن فضل الله علينا وعلى الناس، أن سهل حفظه على الناشئة فى صغرهم، ويسر نطقه وقراءته على تلك البراعم الصغيرة التى ترغب فى تعليمه وحفظه، فهم عن طريق التلقين يستمعون ويكررون القول، وينطقون الآيات والحروف تبعا لما يسمعون، ويعلق هذا بأذهانهم حتى على غير الناطقين باللغة العربية. والإنسان يأخذه العجب، وتتملكه الدهشة، حينما يسمع إلى قارئ القرآن ينطق الآيات نطقا سليما يدل على حبّ شديد لما يقرأ، حبّ يملك عليه نفسه وقلبه، فإذا

تقرّب منه وتعرّف عليه من خلال لغته، ولهجته، وزيّه، وشكله، رآه باكستانيا، أو هنديا، أو تركيا ... إلخ، لغته غير العربية، ومع ذلك فالنطق، والاستماع، والفهم، والقراءة لتلك الآيات البينات التى أوحاها الله لنبيه، عليه السلام، يدل على أن الله جلت قدرته قد حفظ هذه الآيات، ويسرها للذكر: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37]، فقارئه لا يسأمه، وسامعه لا يمجه، بل تكراره يوجب زيادة محبته. 7 - وكما يسر الله قراءته على الناس، يسر علمه على قلوب قوم، ويسر فهمه على قلوب آخرين، فكان من الدراسات التى تفرّعت عنه ما أحاط بالحياة وما فيها من حاجيات النفوس، وما ينتابها من مشكلات، ولقد استطاع الفقهاء والعلماء والباحثون فى شتى المجالات، أن يستخرجوا من كنوز هذا القرآن المحفوظ من رب العالمين ما يعالج أدواء الحياة التى تخنقها الأزمات، فأبانوا عن شريعة الله التى يسودها اليسر، والرفق، والرحمة، والتى يسهل على الناس قبولها، وعلى العقول فهمها، وعلى الجميع تطبيقها والعمل بها، متى تم لهم الإيمان، وقوى اليقين. 8 - ولقد عرفت الأمم والشعوب ما فى هذا الكتاب المنزل من قبل السماء من دعوة للحق، وشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وإيمان بالله، فبدأ الانكباب على دراسته، ومعرفة أسراره، والإلمام بجميع جوانبه، حتى كثرت ترجمة معانيه إلى لغات أجنبية عديدة، وتواترت الأخبار أن ترجمة معانى القرآن الكريم إلى لغات الشعوب الظامئة إلى معرفة الإسلام، واعتناق هذا الدين، وصلت إلى سبعمائة لغة، وهذا من فضل الله منزله، فقد كتب له الحفظ فى الصدور، والاستمساك به فى العمل، والحماية من التبديل والتحريف، والحماية من عبث العابثين، وحقد الحاقدين: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9]، وقال أيضا: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]. فالله قد كتب التيسير على نفسه والحفظ لكتابه بهذه الأساليب المؤكدة التى تنزع ما يلحق بالنفس من عدم قدرتها على الإحاطة بهذا الكتاب، وحفظه، وفهمه، وإدراك ما فى جوانبه من أمور فيها صلاح الحياة والبشر، والحاضر والمستقبل، وفى ذلك رد على الذين نصبوا أنفسهم للتربية وتعليم شباب الأمة، وعملوا على أن يباعدوا بين الناشئة وحفظ القرآن الكريم، بدعوى أن الحفظ يلغى ملكة التفكير، ويقعد بالطفل عن الفهم واستغلال الإمكانات فى البحث والإدراك.

دعوات هدامة:

ولو علم هؤلاء أن طريق التجربة خير طريق، وخير دليل لإثبات صدق ما يعرض من قضايا، والحكم عليها بالصلاحية وعدمها، لما احتاجوا إلى تذكرة بتلك التجارب التى مرت بها شعوبنا الإسلامية فى مراحل طفولتها، وتربية شبابها أيام أن كانوا فى حضن مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وفى أيام عزة الإسلام ومنعته، كانت التربية القرآنية من حفظ، وفهم، وتطبيق، الشعلة التى أضاءت لهم طريق الحياة، فخرّجت صحابة وتابعين، فرسانا بالنهار، وعبادا بالليل، يحاربون من أجل كلمة الله، ونشر كلمة الإسلام، والصد لهجمات الكفار الشرسة أيام الرسول وصحابته، وأيام الصليبيين والتتار، لولا هؤلاء الحفظة وما تفعله فيهم تلك الآيات البينات من الأثر النفسى والعقدى من طلب للاستشهاد فى سبيل الله، ما كان للإسلام بقاء، ولا للدين وجود. وإننا لنذكر تلك الغزوة الشهيرة التى تلاقت فيها تلك الجموع الغفيرة من أعداء كلمة الله بقضها وقضيضها، وأسلحتها وعتادها، مع تلك الفئة التى أخلصت لله وحده، وحملت لواء الإسلام عقيدة وسلاحا، وكان الصراع شديدا، والهجمة قاسية من الأعداء على صفوف المسلمين، حتى تراجعت منهم الصفوف، وزلزلت القلوب، وكادت الدائرة تكون عليهم، لولا أن قام القائد المسلم المناضل بتذكر ما يجب أن يتذكره فى موقفه من الله، ومن دفاعه عن كلمة الله، فنادى فى أصحابه: يا أصحاب سورة البقرة، النداء للقرآن، ومن أجل القرآن، فرجعوا جميعا إلى حومة القتال، وكان الله منزل القرآن معهم، فكان النصر المبين. دعوات هدامة: وإذا كانت الدول الحاضرة، الغنية بمواردها، والحافلة بعلمائها، والمتقدمة فى مجتمعاتها، والسباقة إلى أجواز الفضاء بسفنها ومراكبها، قد اهتمت بلغاتها، وأخذت منها سبيلا إلى فرض سيطرتها على غيرها من الشعوب والأمم، فاختارت من نماذجها البشرية المتفوقة فى الشعر والأدب ما تجعله محط أنظار أطفالها وشبابها فى مراحل تكوينهم اللغوى والأدبى، وذلك باختيار ما تراه من نماذجهم الشعرية والنثرية للدراسة والفهم والمحاكاة. إذا كانت هذه الدول تنحو هذا النحو، أفلا نستطيع أن نقدم لأبنائنا ذلك الأنموذج الأمثل الذى جعله الله سبحانه وتعالى نورا وهدى للقلوب والعقول فى بداية ما يتمثله الأبناء من قول وعمل؟.

وإذا كانت لقمة العيش والعمل من أجل الحياة والتغلب على أزماتها وصعابها، وظروفها الاقتصادية، قد أدت إلى لون من التقارب بين أمم وشعوب قد اختلفت فى مذاهبها، وتباينت فى لغاتها وأنظمتها السياسية والاجتماعية، كما يحدث الآن فى أوربا، أفلا نملك نحن أمة القرآن أن نجعل هذا القرآن طريق اتصال لغوى وفكرى وعقدى بين هذه الشعوب التى حباها الله بالإسلام دينا، وبالقرآن دستورا؟ إن الاتصال اللغوى هو الطريق إلى الاتصال الفكرى، وإذا توحّدت اللغة، وتقاربت الأفكار، كان ذلك أدعى إلى تحقيق وحدة قوية بين الأفراد والمجتمعات والأمم، وإننا نستطيع أن ندرك بعد أن اتضحت النوايا، وتكشفت أساليب الحياة التى تمارسها القوى الكبرى، وتخضع لها الدول الصغرى فى تعاملاتها السياسية والاقتصادية، أن شرّ ما يبتلى به مجتمع مسلم أن يخرج إنسان إلى مجالات الحياة، وأن يتخرّج من مراحل التعليم ولا يستطيع أن يقرأ سورة من السور القصار، ولا أقول: يحفظها أو يفهمها. إن تلك الدعوى القائمة على الاهتمام بالعقل ونموه وإدراكه، وإهمال جانب الحفظ، إنما هى دعوى هزيلة مريضة تضيع شخصية الأمة، وتقوّض لغتها التى اختصت بها، ولم يدفع إلى تلك الفكرة إلا ما يختبىء وراءها من رواسب التأثير الفكرى المتشبع بالتيارات الغريبة والأجنبية التى حكمت عقولنا وأفهامنا ردحا طويلا من الزمن. ومن عجب أن نجد لهذه الدعاوى أنصارا ومؤيدين بين صفوفنا، علما بأن دعاتها لا يذهبون فى كتاباتهم وأساليبهم مذاهب التحرر من اللغة واستخدام كلماتها، والتحرر من قواعدها، والميل إلى التبسط فى الألفاظ، والتساهل فى الضوابط التى تحكم شعرهم ونثرهم. نراهم مع تلك الدعاوى التى يطلقونها، شديدى المحافظة على الأطر التى تعلموها فى مراحل التعليم، ولهم من أساليبهم المميزة التى تثير عند قارئها هزة وعجبا، مما يدل على اعتنائهم فى صغرهم بحفظ القرآن الكريم، واهتمام بطريقته فى صياغة الأساليب المتباينة من خبر إلى إنشاء، وإيجاز، وإطناب، وتقديم وتأخير ... إلخ، بل ونرى بعضهم يصل بأسلوبه الذى خص به إلى درجة تتشابه مع أولئك الأدباء فى العصر الأموى والعباسى. فهذا الارتباط الفكرى والعقلى مما يدل على شدة الإعجاب الذى سيطر على ذلك

الكاتب أو الشاعر، فسار به إلى هذا المنحى والأسلوب، فما يصدر عنه من دعوى إلى التساهل فى اللغة، وعدم الارتباط بقواعدها وقوانينها، واستخدام العامية فى التعليم، وعدم الحفظ والاهتمام بتعليم القرآن، إنما هى أمور دفعت إليها ظروف تعليمهم وتربيتهم التى ربوا عليها وشجعتهم على خدمة أغراضها الاستعمارية التى كانت سائدة، أو تحقيق مصالح فئوية أو طائفية لها ظروفها وأغراضها، لذا لم تجد أمامها تلك التربة التى تحفظ لهم ما بذروا، ولم تستجب لرجواتهم فى الإثمار لتلك الأفكار المدسوسة والخبيثة، ما لبثت أن ماتت فى مهدها وظهرت أفكار طاهرة أخرى ربطت الماضى بالحاضر، واستعلت على كل أزماتها واستغلت كل إمكاناتها فى الخبرات المتجددة، والنور الذى أفاء الله به على عباده المخلصين فى استلهام نور الله، وقرآنه فى خطوات الحياة التى يجب أن يحياها المسلم الآن. إن تجربتنا فى حفظ القرآن الكريم فى مرحلة الطفولة، تجربة دفعت إليها حكمة الآباء، ورغبتهم فى تقويم الألسنة، وإصلاح الأخلاق، والتهيئة لاستقبال أمور الحياة بسلاح قوى. وكان الخطباء أصدقاء للمنابر، يعتلون منصتها، ويتدفقون كالسيل المنهمر فصاحة وأسلوبا مما يعد أنموذجا رائعا للبيان العربى القويم الذى طبع بالطابع القرآنى استشهادا وتمثلا واقتباسا. وبهذا الطريق وحده حفظت بلادنا من محو شخصيتها الإسلامية العربية تحت تأثير الألوان من الاستعمار التى جثمت على صدورنا فترة طويلة من الزمن، الاستعمار الثقافى بتأثيره وسحره فى النفوس والعقول، والاستعمار السياسى والاقتصادى بجبروته وسطوته التى هيمنت على مختلف شئوننا الاقتصادية والعسكرية. وإننا إذا نظرنا إلى واقع بلاد عربية أخرى تعرضت لظروف مماثلة لما تعرضنا له فى إفريقيا، رأينا أن الاستعمار الفرنسى استطاع أن يثبت أقدامه فترة طويلة من الزمن حتى كاد ينجح فى محو شخصية هذه البلاد التى تحكم فيها من جرّاء سيطرته أساسا على لغة البلاد، وفرض لغته الفرنسية لغة حديث، ومخاطبة، وتعليم، وتضاءلت بذلك الاهتمامات باللغة العربية، وبالتالى حفظ القرآن الكريم، مما مكن ذلك المستعمر من خلق أجيال غريبة اللسان واللهجة والثقافة، وطبعت بعادات بعيدة كل البعد عن عادات وأخلاق المجتمعات العربية.

وكانت هذه التحوّلات حجر عثرة فى سبيل التغلب على هذا الاستعمار الذى لم يقتصر على الجانب العسكرى والسياسى، ولكنه قضى على شخصية هذا الشعب العربى بقضائه على لغته وأصالته، إلى أن عرف طريقه وبدأ يحس بالحاجة إلى عودته إلى اللغة الأم، اللغة العربية، لغة القرآن الكريم. أما مصر، فقد استطاعت أن تخرج من هذا الفخ الذى نصب لها بفعل عوامل عديدة، كان من أبرزها وجود الأزهر الشريف، الذى كان له من تأثيره الدينى واللغوى ما يعد صمام أمان، وحماية للغة العربية من الضياع والضعف، وصيانة للألسنة من تغلب العامية، واللهجات المحلية من السيطرة والتغلب على لغة الحديث والكتابة، وبالتالى لم يسمح للغة الأجنبية أن تزحزح اللغة العربية عن مكانها ومكانتها التى لها فى النفوس، والتربية والتعليم. وها نحن الآن نرى مظاهر نشاطات لتلك الأجهزة المهيمنة على أمور التعليم والتثقيف، والدعوة الإسلامية فى الاهتمام بتحفيظ القرآن الكريم، وعقد الحلقات التى يشترك فيها الكثير من الأطفال والشباب، وعقد مسابقات يتبارى فيها الجميع فى مختلف المحافظات، والمدارس، والمساجد. وهذه الصحوة المباركة، إنما هى إعداد للحياة الكريمة عن طريق القيم النبيلة التى يتلقاها الجميع من وراء الآيات القرآنية، والتعرّف على أهدافها ومراميها. قد تكون هناك دعوات أخرى معارضة لهذه الاتجاهات، كما نشر أخيرا فى إحدى الصحف عن اعتراض أحد أولياء الأمور على تكليف أطفاله حفظ آيات من القرآن الكريم، وقد يكون فى ذلك ما يعارض عقيدتهم أو ما يؤثر فى تفكيرهم. لقد تولى مواطن آخر يشترك معه فى العقيدة، الرد، فأنكر عليه قوله، وأعلمه بما لهذا التعليم والحفظ لآيات الله من آثار خلقية ولغوية فى مصلحة الطفل أن يتعلمهما، ويقتدى بتلك القيم التى تدعو إليها، فهى قيم مشتركة بين الأديان جميعها، لا تختلف من دين لآخر، ثم ضرب أمثله عديدة من تاريخ زعماء ملكوا ناصية البيان، وأجادوا حفظ القرآن الكريم، ولم يكن ذلك بمخرج لهم عمّا هم فيه من اعتقاد، ولم يريد هذا الأب أن يخرج ابنه معوج اللسان، سقيم التعبير، لا يستطيع أن ينطق بجملة صحيحة فى بنائها وتركيبها؟ أيرضى أن يستقى أسلوبه وتعليمه من أساليب البشر، ولا يحب أن يأخذ ذلك من قرآن خالق البشر؟.

وأما الجانب الآخر، فهو ما يعرضه القرآن الكريم من هداية للخلق، والتبصرة بالأمور، والدعوة إلى معرفة الصالح من أمر العقيدة، والابتعاد عن تقليد الآباء والأجداد فى الفاسد من العمل، والقبيح من الأخلاق، وتنزيه الله الخالق الجدير بالعبادة والطاعة عن كل شوائب الشرك. هذه أمور فاضت بها آيات القرآن الكريم فى كل سورة، وفى مطلع كل شمس، وفى كل لحظة حياة تنبت نبتة من فكر، وتظهر بارقة من أمل فى فهم جديد فى كل آيات الله الكونية والعقلية، حتى أن الإنسان ليحار ويعجب كيف استغلقت هذه الأمور على أفهام العقلاء، وغابت عن أبصار الرائين. ألم يدع القرآن الكريم فى أول أمر له إلى القراءة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5]. دعوة إلى القراءة الواعية فى صحف الوجود، وفى كتب العلم وأجلها القرآن، وبغيرها لا يهتدى الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يتعرف على خالقه، وربط القراءة بالقلم، وبخلق الإنسان وتطوره حتى يكون من ذلك معرفة حقيقية بالكون وخالقه ذى الجلال والإكرام، وربط العلم بالإيمان حتى يكون الإيمان قائما على أساس سليم لا يهتز ولا يضطرب. جاء الأمر الإلهى: اقْرَأْ مرتبطا بأساس التكوين الإنسانى من علقة إلى مضغة، إلى إنسان سوىّ بعد أن كان من تراب، وفى ذلك دعوة للنظر إلى أيسر السبل على الإنسان للاهتداء والالتقاء مع النفس حتى يعرفها ويتأملها، ويبحث عن أصلها ووجودها. قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21]، وقال أيضا: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف: 37]. دعوات إلى التفكير، واستخدام العقل؛ لأنه مبدأ العلم، وطريق الحياة، وساق الآيات العديدة إلى أولئك الذين يعقلون ويفكرون؛ لأنهم يهتدون وينتفعون، ويرتقون بإنسانيتهم إلى مستوى راق بالكفر، والعلم، والعمل، لا بالمال، والتراث، والثراء. بكل

تلك القيم النبيلة التى تعلى من شأن الإنسان كإنسان، فيرتفع فوق شهوات نفسه، ورغباته، وأطماعه. ومع الدعوة إلى العلم، واستخدام العقل والفكر، تأتى الدعوة أيضا إلى استغلال المفيد من التجارب، والأحداث التى مرت، والسنن التى وقعت، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43]. العالمون الذين وصلوا إلى النتائج الصحيحة من مقدماتها باستخدام عقولهم، وربطوا بين الأسباب والمسببات، وعرفوا حقائق الأمور بفهم السنن التى تحكمها، وكيف جرت هذه السنن كما أرادها لها خالقها فى الكون الواسع العريض، بأرضه وسمائه، وأفلاكه وبحاره، وفى حياة مخلوقاته، من نبات، وشجر، ودواب، وحشرات، وطيور، وأسماك، وإنس، وجان. كل ذلك خضع لتلك المشيئة الإلهية التى حكمته وأجرته تبعا لسنن لا تختلف ولا تتغير، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62]. يعرض القرآن كل ذلك فى تلك الصور والمشاهد التى تتسع لتوضيح المرئيات، وتصل إلى العقول والقلوب، فتجتث منها الأفكار السقيمة، وتقتلع منها النباتات الضارة من المعتقدات الفاسدة والأفكار الخبيثة، وتغرس المبادئ السليمة، والقيم الصالحة فى تلك البيئات، والنفوس الجديدة التى استفادت بنور الله، واقتدت بهديه، وعرفت طريقها إلى الصالح من الأمر فسارت فيه، إلى غير ذلك من المشاهد الفسيحة فى تاريخ الأقوام السابقين، وبسط أحوالهم، وذكر ما حاق بهم من نتائج أعمالهم. وقد تضيق هذه المشاهد، وتختصر تلك الصور فى كلمات موجزة بسيطة، تعرض الأمور على عقول تستطيع أن تلمح ما وراءها، وأن تسترشد بإيحاءاتها، وأن تفهم ما تقصد إليه، وعلى قلوب تحس باحتياجاتها إلى الهداية فى ليل الظلمة الحالكة، وفى دياجير الحياة الخافقة بالاعتقادات الفاسدة، والأوهام والأباطيل الملغية للعقل، والفكر، والإرادة، والاستقلالية. كل ذلك يعرض فى كثير من الألوان الحكمية، والمشاهد التى تعرض فى آيات الله وأمثاله، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43].

الحاجة إلى علاج هذه الموضوعات:

الحاجة إلى علاج هذه الموضوعات: النفس الإنسانية تواقة دائما إلى ما يرضى حاجتها، ويشبع نهمها، فهى ظمئة إلى ذلك السلسبيل من المدد الروحى الذى يفيض عليها بالراحة النفسية، والوجدانية، والعقلية. وإذا كانت هذه النفس قد تعرضت فى أزمنتها السحيقة لكثير من ألوان المحن والابتلاءات، وصنوف من الفساد متعددة، حتى باعدت بينها وبين معرفة خالقها وموجدها، وانحرفت بها عن جادة الصواب بكثير من فعالها، وضلت السبيل فى عبادتها، فلم يتركها الخالق سبحانه وتعالى تعيش فى ذلك الخواء الروحى والنفسى، بل أنعم عليها من فضله بأولئك الرسل الكرام الذين اصطفاهم من خلقه؛ ليكونوا أداة هداية، ودعاة نور لبنى جنسهم وأقوامهم، يأمرونهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر، ويباعدون بينهم وبين عبادة تلك الأصنام التى تحول بينهم وبين معرفة الواحد الأحد، وبالتالى يدعونهم إلى النجاة من النار التى أعدها الله للكافرين الفجار. عالج الأنبياء والرسل الكرام أوضاع هذه الحياة بوحى من الله فى كتب بين أيديهم، وآيات يبصرونهم بها، ومعجزات يجريها الله على أيديهم ويمدهم بها، لتكون سندا لهم فى دعوتهم، فتقف أمامها سطوات الجبابرة، وقوى البغى، عاجزة لا تستطيع لها دفعا ولا صدا؛ لأنها قدرة الله وعونه لعباده المؤمنين المخلصين. مع هذه الآيات الموحى بها من قبل السماء، والآيات المرئية فى كون الله الواسع المحيط بالإنسان فى بره وبحره، وأرضه وسمائه، وكل ما يقع تحت حواسه المختلفة، ومع المعجزات التى تجرى على أيدى الرسل والأنبياء، جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليصل بهذه الأمة إلى الرشاد من الأمر، وليكون منقذا لها من الضلال، وآخذا بيدها إلى مرفإ الأمن والأمان، جاء بتلك الرسالة الخاتمة، رسالة القرآن، الكلام المعجز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، قد فصلت آياته وأحكمت؛ لتكون هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ولتصنع تلك الأمة المسلمة الرائدة فى أولها ووسطها وآخرها لهذا العالم المتخبط الحائر الذى لا يعرف طريق هداية، وتتغشاه ظلمات بعضها فوق بعض من ضلال العقائد، وانهيار القيم، وأطماع الحياة والأنانية المفسدة، والبعد عن جادة الطريق.

رسالة الإسلام تحددت من قبل السماء، وبوحى الله إلى بنى البشر عن طريق خاتم الأنبياء محمد، عليه الصلاة والسلام، فى صنع هذا الأنموذج الرفيع لتلك الأمة التى عبرت عنها الآية القرآنية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]. أمة ذابت بينها الفوارق العرقية، والطبقية، واللونية، ولم يبق أمام المساءلة الإلهية يوم القيامة إلا ذلك المبدأ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13]، انصهرت هذه الأمة فى بوتقة الإسلام، فكانت جديرة أن تكون شهيدة على الناس يوم القيامة، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143]. أمة صنعها الله سبحانه بقرآنه المعجز، وبتكاليفه، وأوامره، ونواهيه، فاستقامت شئون الحياة، وصلح أمرها، وأمر معتنقى رسالة الإسلام، والمتبعين لتعاليم الله دون بغى أو عدوان. عاشت هذه الأمة فى ظل القرآن، وسعدت بعدالة السماء، وتأثرت بأخلاق رسول الله وصفاته، وأخلاق صحابته، وما كان لهم من مجاهدة وجهاد فى سبيل الله، وما ظهر على أيديهم من عدالة وسماحة نبعت من شريعة الله، وعالجت أوضاع الحياة بالاستقامة على النهج والتمسك بالتعاليم، والفهم للغايات. ثم رانت عليها نومة ثقيلة، بفعل الجهالة التى تحكمت فى العقول، والذلة التى هيمنت على النفوس، والتواكل الذى أضاع جوهر التوكل، والدسائس التى حيكت ضد الدين وأهله من داخل البلاد وخارجها، ومن الاستعمار الذى بسط سلطانه بالقهر والعدوان على مقدرات هذه الأمة وعلى مقدساتها، وعلى كل من نطق بالضاد، ومن الفرقة التى أصابت جسم هذه الأمة، فتفشى داء الانقسام بين أطرافه حتى غدا أوصالا ممزقة، وفرقا شتى، وشيعا وأحزابا، يحارب بعضها بعضا، وتولى زمام الأمر فيها إما جاهل أحمق، وإما مستبد غاشم، وإما عبد لشهوات نفسه ورغائبها، وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية بعد قرون طويلة من القوة، جسدا مريضا تنهشه كلاب جائعة من حوله، لا تترك فيه رمقا من حياة، ولا تقدم له الدواء كى يعيد سيرته الأولى فى قيادة الحياة وإنارة البصائر، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: 32]. وبعد لأى من الزمن، وصحوة القلب المريض، ويقظة العقل الجاهل، تنبه المسلمون

إلى حالهم المستكين، وتأخرهم المريض، وعرفوا سر ما هم فيه من انكسارات تقوض دعائمهم، وهزائم فى ميادين الحياة المختلفة تستل منهم مواطن العزة، وجدوا كل ذلك وعرفوه بمقارنة حالهم بحياة الأمم الأخرى التى تعيش بالفكر، والعقل، والعلم، واليقظة لدروس الحياة، فبدءوا يتلمسون الطريق، ولكن أى طريق يسلكون؟ وأى نور يلتمسون؟ أكل طريق يصلح للسير فيه؟! أكل نور يصلح للهداية؟! هذه التساؤلات دفعت عقلاء القوم، والمستنيرين منهم، إلى جدية البحث وراء العلاج الذى يشفى من كل مرض وراء الحياة الجديرة بالأمة التى حباها الله بالقرآن، وراء الحياة الحقيقية التى يجب أن يحياها المؤمن، والتى تحقق له خيرى الدنيا والآخرة، الحياة التى تقوم على دعائم العقيدة، والروح، والعقل، والفهم، والتدبر فى ملكوت الله حتى يكون السير على هدى وبصيرة. إن حاجة هذه الأمة إلى تلك اليقظة التى تشمل كل كيانها، حاجة ملحة وشديدة، وفى الاستفادة من دروس الماضى وعبره، وسير الأولين والآخرين، وفى الرجوع إلى آيات الله وقرآنه الحكيم ما يجعل الأمة المسلمة، والفرد المؤمن، يرى طريقه الصحيح، ويجتنب العثار والسقوط. وفى النظر إلى ما يحدث فى الحياة الحاضرة من أحداث، وما يقع فى العالم من أزمات ومشكلات، وما يجابه الإنسان المعاصر من متغيرات تدعوه إلى إصلاح مساره، وعلاج انحرافه، وطلب المزيد من التجارب الناجحة التى مورست، ويمارسها الإنسان فى الحاضر لإصلاح شأنه، فى جميع ما يحتاج إليه فى هذا الشأن من الأمور الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، واختيار الطريق الأصلح والأقوم للنجاح فى هذه الحياة. كل ذلك يوسع دائرة البحث، والعلم، والاستفادة، وينير للإنسان طريقه، فلا يخضع لتقليد مقيت يجره للماضى وما فيه من أمور حكمت تجارب الحياة الحاضرة بفسادها وعدم صلاحيتها للاقتباس منها، وتمثلها فى خطواتنا. وكذلك لا يخدع بالحاضر، وما فيه من مغريات تغطى على بصره وبصيرته، فلا يرى طريقه الصحيح، ولا يستبين معالمه. وإنما هو العقل الراشد، والإيمان الثابت، والإرادة القوية، التى تفتح مغاليق الحياة، وتجعل الإنسان آمر نفسه، وصاحب كلمته فى الأرض التى خلقها الله من أجله.

التصوير فى الأسلوب القرآنى:

التصوير فى الأسلوب القرآنى: قد يعرض المعنى فى الأسلوب القرآنى عرضا مباشرا معتمدا على استخدام الكلمة والجملة فى الاستعمال الحقيقى الذى لا يحتمل غيره، فيفيد بذلك السامع والقارئ، ولا يحوجه إلى كبير معاناة فى الفهم، أو الجرى وراء التماس معان أخرى يبحث عنها، ويبدو ذلك دائما فى كل ما ورد من ألفاظ القرآن الكريم وآياته التى تناولت الأحكام والفرائض والمعاملات، مثل: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6]، وقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]. ألفاظ واضحة الدلالة تصل إلى السامع مباشرة، فلا يحتاج معها إلى بحث، إلا إذا كان استخدام اللفظ غريبا على سمعه لجهله به، أو لصعوبة تلفظه به، فإنه لا بدّ وأن يعمد إلى المعجم ليعرف معناه. ولكن يبقى بعد ذلك استخدام الكلمة فى غير ما وضعت له، وهذا أمر شائع فى كل لغات العالم، وبالتالى فهو شائع أيضا فى اللغة العربية، وقد استعمله القرآن الكريم ليفيد اللغة اتساعا من الناحية اللغوية، ويفيدها أيضا جمالا من الناحية الجمالية، ويسمى ذلك مجازا، وفى هذا المجاز قوة وتأثير وتصوير، فإذا استمعنا إلى قول الله تبارك وتعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24]، وقوله أيضا: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21]، فى هذه الآيات عبارات ناطقة قوية بالغة القوة فى استنطاقها ما لا ينطق، وفى حوارها فيما بينها، وأمام صاحبها، وهو صامت مأخوذ من نطقها (¬1). وقد أدى استخدام هذا المجاز واتساعه إلى كثير من ألوان البيان، بدءا بالتشبيه إلى الاستعارة بأنواعها المختلفة، وكلها إضافات جديدة للاستخدام اللغوى بدلالات اجتماعية ونفسية. وليس المقام هنا عرض نماذج عديدة لكثير من ألوان البيان، ولكنا نكتفى ببعض الأمثلة التى تكون أساسا لما نريد الوصول إليه من طبيعة التصوير فى الأسلوب القرآنى ووظيفته. ¬

_ (¬1) انظر: التيارات الأدبية فى الشرق والغرب، لدكتور/ إبراهيم سلامة.

فقد نجد التشبيه يأخذ مكانه فى الأسلوب القرآنى؛ لتتم عن طريقه المقارنة بين طرفين، والموازنة بينهما، فمثلا يقول الله تعالى فى كتابه العزيز: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة: 22، 23]، فقد تماثل المشبه وهو الحور العين، مع المشبه به وهو اللؤلؤ المكنون، فى صفة مشتركة هى الصفاء واللمعان، عن طريق أداة التشبيه وهى الكاف، أركان أربعة قام عليها أسلوب التشبيه، وفيه انتقاله بالمشبه إلى مرتبة أعلى مما كانت له سابقا لم يكتسبها إلا عن هذا الطريق البيانى، وقد يتدرج الأسلوب بحذف الأداة، ووجه الشبه إلى ما يسمى بالتشبيه البليغ الذى يعطى قوة ومبالغة أكثر، كأن المشبه هو عين المشبه به، وهكذا تختلف الصورة من صياغة إلى صياغة، فإذا حذف أحد الركنين الأساسيين، المشبه أو المشبه به، كان ذلك انتقالا إلى مبالغة أقوى، واستخدام أكثر تأثيرا، وهو ما يطلق عليه اسم الاستعارة، تصريحية أو مكنية. وقد تقوم المشابهة بين الطرفين على صفات مشتركة، وأحوال متقاربة، وهو ما يسمى بالتشبيه التمثيلى، أو التشبيه المركب، فتبدو الصورة كاملة التأثير بما ترسمه من كلمات تتوفر فيها عناصر اللون، والحركة، والصوت، وتتجمع جميعها فى إبراز مكونات الحالة الأولى المتمثل لها المشبه بالحالة الثانية المتمثل بها المشبه به، إلى تلك الصورة الرائعة بمكوناتها وتأثيراتها المختلفة التى تصدق عليها، وعلى غيرها مما تنطبق عليه هذه الأحوال. فإذا نظرنا إلى تلك الصورة الرائعة فى قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5]، وجدنا أنها عرضت صورة لليهود الذين أعطوا التوراة ولم ينتفعوا بما فيها من هداية وتعاليم، بحال الحمار الذى يحمل كتبا كثيرة نافعة فوق ظهره، ولكنه لا يستفيد بها، ولا ينتفع بشيء منها. فالمشبه مركب من أجزاء: حامل، وهم اليهود، ومحمول نافع، وهو التوراة، وعدم انتفاع بالمحمول لانصرافهم عن العمل بما جاء فى التوراة التى حفظوها. والمشبه به: مركب من أجزاء هى: حمار حامل، محمول نافع، وهو كتب العلم، وعدم انتفاع الحمار بما يحمل؛ لأنه لا يدرك ما فيه مع تحمل المشقة فى الحمل. وكذلك إذا نظرنا إلى قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17]، وجدنا أن

الأمثال:

الصورة المعروضة لأولئك المنافقين الذين تملكتهم الحيرة والحسرة؛ لأن نور الإيمان لم يصل إلى قلوبهم، ولم يحققوا الفوز والنعيم المقيم؛ لأن إيمانهم كان مجرد زعم وادعاء؛ لحقن دمائهم وصيانة أموالهم. المشبه به: حال وهيئة أولئك الذين طلبوا إيقاد النار للاهتداء بها، فلما أضاءت لهم وسطع نورها حولهم انطفأت، فتملكتهم الحيرة فى الظلمات، وأصابتهم الحسرة على فوت ما فات، وغمرهم اليأس من بلوغ ما كانوا يريدون لو بقى لهم ذلك النور. وإذا سيقت هذه الصورة البيانية بحذف ركنها الأول، وهو التمثل له المشبه، واكتفى بذكر المتمثل به المشبه به، كان ذلك تدرجا فى البيان، وقمة فى الإيجاز والاختصار، وعدّ من أساليب الاستعارة التمثيلية التى نجد مكانها واضحا فى تلك الأمثال الحكمية التى حفل بها القرآن الكريم، وعرضها علينا قضايا مسلمة، محكوما بصحتها، ويمكن اللجوء إليها، والاستشهاد والتمثيل بذكرها بفرض حال مناسبة مشابهة لها، وقد عرضت كتب التفسير نماذج لذلك فى قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: 99]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286]. الأمثال: طريقة من جملة الطرائق الأسلوبية التى عالجت بها الآيات القرآنية، الحقائق فى منازعها المختلفة. حقيقة المثل: يقوم المثل على الشبه والنظير بين طرفين؛ لتتم بينهما المقارنة والمشابهة، وقد يكون المثل بمعنى الصفة، ومن ذلك قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35]، أى صفة الجنة، وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: 60]، أى الصفة العليا، وهى قولنا: لا إله إلا الله، وقوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الفتح: 29]، أى صفتهم. وقال قوم: إنما يعنى المثل: المثال الذى يحذى عليه كأنه جعله مقياسا لغيره. رأى علماء البلاغة فى الأمثال: يرى عبد القاهر الجرجانى فى كتابه: أسرار البلاغة، أن المثل يقوم على التشبيه المركب فقط، فوجه الشبه فيه منتزع من صور لا يمكن فصل بعضها عن بعض، حتى

أنك لو حذفت منها جملة واحدة فى أى موضع، كان ذلك أخلّ بالمغزى من التشبيه، وقد أعطى أمثلة توضح فكرته، فقال: إن هناك فرقا بين أن تقول: رجل كالأسد، وبين قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس: 24]. فوجه الشبه فى الأول مفرد، وهو الشجاعة، أما فى الآية القرآنية، فوجه الشبه صورة منتزعة من جملة أمور. وهو يرى أن كل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلا. كما يرى أن للتمثيل مظهرين: أ- أن يجيء المعنى ابتداء فى صورة التمثيل، وهذا نادر قليل، ولكنه على قلته فى كلام البلغاء، كثير فى القرآن الكريم، وذلك مثل قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 17 - 20]. ب- المظهر الثانى للتمثيل: هو ما يتأثر بالمعانى، ويجيء فى أعقابها؛ لإيضاحها وتقريرها فى النفوس، ومثال ذلك فى القرآن الكريم قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 29]. فقد أورد المثل بعد ما قرر أمر التوحيد فى أول السورة، وشنع على الذين اتخذوا من دون الله أولياء يقربونهم إليه زلفى، ونصب الدلائل على نفى هذا الشرك، وذكر الجزاء. والتمثيل فى رأى الزمخشرى إنما يصار إليه لكشف المعانى، وإدناء المتوهم من الشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما، كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرا، كان المتمثل به كذلك.

رأى الفقهاء فى الأمثال:

رأى الفقهاء فى الأمثال: قال أبو عبد الله محمد بن علىّ الحكيم الترمذى (¬1): ضرب الله الأمثال لمن غاب عن الأشياء، وخفيت عنه الأشياء، فالعباد محتاجون إلى ضرب الأمثال لما خفيت عليهم الأشياء، فضرب لهم مثلا من عند أنفسهم لا من عند نفسه؛ ليدركوا ما غاب عنهم، فأما من لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء، فلا يحتاج إلى الأمثال. ويقول صاحب تفسير المنار (ج 1): يضرب الله المثل فى كلامه تعالى؛ لأنه ليس نقصا فى حد ذاته، وليس نقصا فى جانبه، وإنما هو حق؛ لأنه مبين للحق، ومقرر له، وسائق إلى الأخذ به بما له من التأثير فى النفس. وذلك أن المعانى الكلية تعرض مجملة مبهمة، فيصعب على الذهن الإلمام بها، واستخراج سرها، والمثل هو الذى يفصل المجمل، ويوضح المبهم، فهو ميزان البلاغة. الهدف من ضرب الأمثال: يضرب الله الأمثال لنفوس العباد، حتى يدركوا ما غاب عن أسماعهم وأبصارهم الظاهرة بما عاينوا (¬2). وتساق أساليب الأمثال فى صورة من الإعجاز البيانى لأولى الألباب، حتى تكون صمام أمان من عذاب الله الذى أعده للكافرين، وتبرز تلك المعانى المجردة فى صورة محسوسة، أو الأشياء المتخلية أو المتوهمة فى صورة متحققة أو متيقنة من التمثيل الحركى أو القولى، حتى يكون لذلك صداه فى نفس المتلقى أو المشاهد، فينطبع فى ذاكرته، ويصل إلى قرار فؤاده، فلا يمحى على مر الأيام. كانت الكتب السماوية معرضا للأمثال التى تساق للتأثير فى النفوس والقلوب، حتى أن الإنجيل أفرد سورة كاملة من سوره تسمى سورة الأمثال، وأكثر منها الأنبياء والرسل والحكماء، كما أكثر من ذكرها القرآن الكريم فى كثير من الآيات، حتى وصلت إلى بضعة عشر موضعا، يضرب فيها الأمثال بيانا للناس وتذكيرا، وهو الحق وأحسن تفسيرا، وأمثال الكفار فى ضلال وبهتان (¬3). واستخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كثير من المواطن للإيضاح والتعليم، أخرج البيهقى، ¬

_ (¬1) من علماء القرن الثالث الهجرى. انظر: (ص 2) من كتاب الأمثال فى الكتاب والسنة. (¬2) انظر: كتاب الأمثال للترمذى. (¬3) انظر: الأمثال فى النثر العربى.

أنواع الأمثال:

عن أبى هريرة، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال» (¬1). وتضرب الأمثال لمن يبتغى هدى وصلاحا من الأمر، وعلاجا لكل داء، ومحاربة لكل ألوان الفساد التى تمزق المجتمع، وتهدد قيمه، وتبدد طاقاته. وإذا نظرنا إلى طبيعة المثل فى البيان العربى، وجدنا له موردا ومضربا، فالمورد هو أساس المثل الذى قيل فيه، والحدث الذى ورد فيه، وأما المضرب فهو الذى يستشهد به فيه من حال مماثلة فى كل وقت وعصر، وقد يكتفى القارئ بذلك المضرب، وقد يذهب الباحث وراء المضرب ليعرف مورد المثل وحقيقته، وهذا أمر مألوف فى الأمثال العربية وطبيعتها وتكوينها، يبحث عن الجذور والأصل؛ ليستطيع الربط بين المورد والمضرب. ولكن أتقاس الآيات القرآنية بهذا المقياس؟! ليس من الصائب من الرأى أن نخضع ما ورد عن الله عز وجل لمقاييس من صنع البشر، فالكلام كلام الله خالق البشر، وما يصنعون من قول، ويزخرفون من حديث، ويدبجون من ألفاظ، على أن الأمثال العربية فى قمتها، وهى تلك الأمثال الحكمية أو الكامنة، كما يسميها السيوطى، قد تنوسى فيها المورد، ولم يعد الإنسان بحاجة إلى معرفة ذلك، فالمهم هو التطبيق، والنظير، والشبيه بالمثل فى حالته وصورته. أنواع الأمثال: سيكون عمادنا فى هذا المؤلف أن نعرض للأمثال القرآنية التى ضربها الله للناس فى مجالات مختلفة، عالجت وتعالج شئون الإنسان، والحياة التى يحياها، والعقيدة التى يؤمن بها، وكيف حققت هذه الأمثال نجاحها الباهر بأسلوبها القرآنى الأخاذ، وبذلك النمط الذى سيقت فيه للدلالة على صدق ما أخبرت به الآيات عن طريق الدليل، والحجة والبرهان، بالإضافة إلى ما تعطيه من قوة وتأثير فى الكلام، وإقناع بما تسوقه من أفكار، فكأنها تأتى بالشىء ودليله من واقع الحياة. وإذا نظرنا إلى نماذج هذه الأمثال الفريدة فى صياغتها، رأينا أن سوقها بهذا الأسلوب فريد فى نوعه وطريقته، ويختلف عما عداه من الأساليب العربية المعهودة فى ¬

_ (¬1) انظر: أمثال القرآن (ج 4) (ص 44)، والإتقان فى علوم القرآن.

ذلك الوقت، والمأثورة عن عصر الجاهلية قبل نزول القرآن الكريم، فلم يعهد فى أسلوب القدامى الفصحاء والبلغاء أن أتوا بهذا النسق من الكلام الذى جرت به الآيات القرآنية فى سوق الأمثال بخصائصها وطرائقها، لم يؤثر عن القدامى فى الجاهلية إلا ذلك النمط من الحكمة الصائبة الصادقة، والقول السديد فى لفظ موجز بليغ، وهو لون لا شك أنه من جملة الأساليب التى تحاط بالاحترام والتقدير؛ لما لها من أثر النفس، وتقدير فى العقل، وهو ما يطلق عليه الأمثال الحكيمة، وهى نتاج خبرات، وأحداث، وتفكير، وصدق، إلا أنها لم تتعد ذلك الجانب الذى وردت به، ولم يكن لها ذلك الحظ من المساحة العريضة الواسعة من تصوير المشاهد، وإضفاء الجوانب التأثيرية، كما ورد ذلك فى القرآن الكريم، وقد يرجع هذا إلى طبيعة العصر وما فيه من بداوة، أو لضيق أفق وفكر فى الإلمام بكل جوانب الحياة، وللجاهلية الفاشية فى نقص معلوماتهم، وتقليدهم واتباعهم للآخرين، وتأثرهم بتفكير السابقين فى قولهم وفعلهم. عوامل عديدة قعدت بهم عن إعطاء ذلك المظهر التعبيرى الفسيح الذى كان بحق وثيقة تاريخية كتابية صادقة لمست ونطقت بحياة الناس، فكانت كما عبر أحد الكتاب عن قيمة الأمثال: إنها مرآة ترى الإنسان وجهه وحقيقة نفسه، وما فى حياته من أشياء، كما تريه ما خلفه من مناظر ومشاهد يعجز أن يراها بغيره. الأمثال مرآة صادقة للحياة، وقد ظهرت بأنواعها العديدة فى آيات الله، حتى أن بعض المفسرين حاول أن يحصر ما يطلق عليه من أمثال حكمية، فوجدها تقرب من الثلاثين مثلا، وتكلف آخرون فى إيجاد ارتباط بين الكثير من الأمثال الحكمية التراثية التى وردت إلينا من خلال الموروث من الآداب الجاهلية وغيرها، وبين آيات القرآن الكريم، والتدليل على ذلك بذكر هذه الآيات، وتبيان ما بينها من معان متفقة، وقريبة الصلة بمعانى أمثال معروفة سائرة، فهى أمثال بمعانيها لا بألفاظها، ومن هنا سميت أمثال كامنة، كما عبر عن ذلك الإمام السيوطى فى كتابه الإتقان فى علوم القرآن، الذى قال: إنها تمثل القسم الثانى للأمثال القرآنية التى لا ذكر للمثل فيه، ولم ترد فيه حكاية الأمثال الشائعة، وإنما هى أمثال فى نظر العلماء من حيث ما ورد فيها من معنى قريب الصلة بمعانى أمثال معروفة سائرة. وقد أعطى نماذج عديدة لذلك، مثل قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92]، الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [يوسف: 51]، ذلِكَ بِما

قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج: 10]، قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [يوسف: 41]، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81]، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 216]. وهذه العبارات لا تدخل فى باب الأمثال، فإن اشتمال العبارة على معنى ورد فى مثل لا يكفى لإطلاق لفظ المثل على تلك العبارة. فالصيغة الموروثة ركن أساسى فى المثل، وهذه المحاولة لا سند لها من دليل نصّى ولا تاريخى، والقرآن الكريم لم يصرح فى هذه الآيات بأنها مثل. والنوع الثانى: وهو عماد دراستنا، وموضوع بحثنا فى هذا المؤلف، هو ما يطلق عليه القرآن الكريم كلمة المثل أو الأمثال، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ [العنكبوت: 43]، ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا [الروم: 28]. آيات عديدة نستطيع أن نطلق عليها، كما أطلق ذلك الدكتور/ عبد المجيد عابدين: الأمثال القياسية. ونحن إذا قرأنا آيات الله، واستعرضنا ما ورد بها من أمثال قرآنية، وجدنا أنها تأخذ ذلك الأسلوب الذى لم تسبق إليه فى البيان العربى فى الجاهلية وصدر الإسلام فى صياغتها، وتكوينها على النحو الفريد الذى عرضت فيه. فهى تعرض لنا: أولا: صورة وصفة المتمثل له، والمتمثل به على هذا النحو الذى تمثله النماذج القرآنية فى الآيات التالية: أ- قال الله تعالى: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران: 117]. ب- وقال أيضا: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 41]. فالآية تبدأ بكلمة مَثَلُ التى تدل على الصفة والحالة، وتعرض المتمثل له مباشرة، ثم تعقب ذلك بكلمة مَثَلُ المكررة التى تفيد الحالة والصفة أيضا للمتمثل به، مسبوقة بالكاف الدالة على التشبيه، وهذا فى أكثر الاستخدامات القرآنية، وقد

وردت فى القرآن الكريم تلك الأمثال القياسية على هذا النحو مصحوبة بالنص على ضرب المثل بصياغة الماضى، والمضارع، والأمر، وهو لفظ يفيد إيقاع الشيء وتحقيقه، وقد اختير لفظ الضرب، كما عبر صاحب المنار: لأنه يأتى عند إرادة التأثير، وهيج الانفعال، كأن ضارب المثل يقرع به آذان السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهى إلى أعماق نفسه (¬1). ثانيا: يسرد المثل قصة كاملة للمتمثل له، أو يعرض صورة مجازية مبسوطة جىء بها للإيضاح، والتصوير، أو قصد التأديب. ثالثا: من سمات المثل القرآنى: الإطناب، وعمق الفكرة، وجمال التصوير. إذا توافرت هذه الخصائص، كان ذلك من المثل القياسى الذى استجمع كل شروطه، ولهذا يخرج العلماء كل الآيات التى تستخدم فيها كلمة المثل، وتعتمد على التشبيه البسيط من المثل القياسى، مثل قوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة: 22، 23]، وكذلك قوله تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس: 78]، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26]. فهذه الآيات السابقة، وإن صرح فيها بلفظ المثل، فهو ليس مثلا؛ لأنه لا يقوم على التشبيه المركب. وقد اعتبر بعض البلاغيين أن من جملة المثل القياسى، ما قصد منه عرض قصة، أو صورة مجازية، ولم يرد فيها لفظ المثل صراحة، مثل قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة: 259]، وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الأحقاف: 21]، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف: 13]، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: 12]. وقد نظروا فى ذلك إلى ما تقصد إليه الآيات من هدف التأديب، والتذكير، وما توحى به من أمور الاعتبار والاتعاظ. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير المنار (ص 198).

تمهيد:

اجتهادات العلماء فى هذا المجال تقوم على معرفة الغرض والحكمة من وراء سوق العبارات، فإذا أبرزت الآيات صورة كاملة لحالين متشابهين فى أمور ممتزجة لا انفصام بينها، كان ذلك مثلا قياسيا، ولو خلا من كلمة مثل، أو شبه، أو ضرب، ما دام يخدم الفكرة ويوضح الغاية فى رأيهم، وبمقتضى هذا الفهم يتسع المثل، فيشمل كل ما ورد فى القرآن الكريم من أحوال السابقين من قصص، وذكر أحوال، مثل: أخوة يوسف، وقصة موسى، وعيسى، وأهل الكهف، وغيرهم مما حفلت به الآيات القرآنية وسور القرآن الكريم، وعرضته بغية الوعظ والاعتبار. ولا نغالى إذا قلنا: إنه ما من آية إلا وتحمل فى طياتها دعوة، وعظة، واعتبارا، وعرضا لأحوال السابقين، ما عدا تلك الآيات التى تبين تشريعا، أو تضع قواعد، وتكاليف، وأمور عبادات. لذا فنحن لسنا مع أولئك القائلين بهذا القول، أو الذاهبين هذا المذهب، فلا يصح أن نخضع هذا الأمر لقياسات العلماء، أو القواعد التى يطبقون عليها، فالأمر يجب أن يكون بخلاف ذلك، والعكس هو الصحيح، وهو أن تقعد القواعد، وتوضع الموازين على هدى كتاب الله، اللسان العربى المبين، والصياغة التى وردت فيه، فهى النموذج الأمثل. لقد فعل أصحاب القواعد النحوية مثل هذا، وذهبوا هذا المذهب، ولم ينكر عليهم أحد اتجاههم هذا إلى وقتنا الحاضر، فقد جعلوا القرآن الكريم هو الأصل، وما عداه مقيس عليه، يصلحون من قواعدهم، ويتلمسون العلل فيما أتى مخالفا للنموذج لأنفسهم. وهذا الجهد الحميد من أولئك العلماء، علماء البلاغة، لا ينكر، والاجتهادات التى توصلوا إليها من بلاغيين، ومفسرين، وعلماء، فى هذه الميادين، اجتهادات ولا شك مشكورة، حفرت الطريق أمام السائرين، ومهدته لكى يواصل المسيرة من أراد فى طريق النماء العقلى، والتقدم العلمى، حتى وقتنا الحاضر، ولمن يأتى بعد ذلك. تمهيد: وراء كل عمل فلسفة معينة تدفع إليه، وتكون حافزا لإتمامه على نحو معين، يصدق هذا على كل مجالات الحياة، ويبرر كل خطوة يخطوها الإنسان فى فكره، وعمله، وإبداعه.

وأعمال الله سبحانه وتعالى جلّت عن الشبيه والنظير، وتنزهت عن اللهو والبعث، إنما كانت لتحقيق غاية وحكمة تقتضيها مصلحة الإنسان والحياة، وتتناسب مع ذلك التكريم الذى كرّمه للإنسان، إذ خلقه فى أحسن تقويم، وللتمييز الذى ميزه به عن بقية المخلوقات، إذ جعله مناطا للتكليف، وحمله تلك الأمانة الكبرى التى عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان. أراد الله لهذا الإنسان أن يكون خليفة فى الأرض، يعمرها، وينتفع بخيراتها، ويستفيد بتلك الكائنات والمخلوقات التى سخرت له من حيوان، ونبات، وأرض، وسماء، وجبال، وأنهار، ونجوم، وأفلاك ... إلخ ما خلق الله، وهو كثير، ووقع تحت علم الإنسان، ومعرفته، أو الذى لم يستطيع أن يصل إلى أسراره، وفك طلاسمه، ولم يقع تحت سيطرته بعد. أبدع الله كل ذلك على هيئة مهيأة لفعل من الأفعال المناسبة لخلقة الإنسان، وفطرته التى فطر عليها، وعقله، وإرادته، فهذا كله جعله فريدا بين مخلوقات الله، ومهيأ لتلقى العلم، مستفيدا بما يحصل عليه، قادرا على تحصيل ما لا تستطيعه الملائكة من ذات أنفسهم، والذين يفعلون ما يؤمرون، فالإنسان بهذه الفطرة التى تلتقى مع العقل، يسلك طريقه فى الحياة، إما على هدى من الأمر، أو انحراف إلى الضلالة حسبما تؤثر فيه المؤثرات والعوارض المختلفة التى تنتاب نفسه، فتلهمها فجورها وتقواها، وتدفعها إلى فعل الخير، أو اقتراف الشر. ولكن كما قال الله تعالى فى محكم قرآنه: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]، عرف أن الإنسان بإمكاناته السابقة لا يستطيع أن يجعل نفسه بمنأى عن تلك العوارض التى تؤثر فى مسار حياته، وأنه بحاجة إلى تكميل من نوع هذه المخلوقات، ومن نفسه، فكانت حكمته أن جعله أهلا للرسالات، وتلقى أوامره ونواهيه، واصطفى له من جنسه من يراه أهلا لتبليغ رسالته، وحمل كلمة الله إلى القلوب والعقول، فتتحقق الهداية، وتكون العبادة خالصة لوجهه الكريم، مبرأة من الدوافع والغايات، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58]. من هذا المنطق، وجدت أن خير بدء لهذه الموضوعات التى تعالجها الأمثال القرآنية

هى تلك البداية الحقة التى بدأ الله بها رسالته الخالدة، رسالة الإسلام، عن طريق الوحى الذى نزل به جبريل، عليه السلام، على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. بداية اليقظة العقلية والروحية التى كانت بداية حقيقية لهذه الإنسانية التى أرادها الله، بداية التعرف على موجد الكائنات، وخالق الإنسان، وإزالة الغشاوة التى رانت على العيون والعقول والقلوب، فباعدت بينها وبين الحقيقة الكبرى، وهى معرفة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، معرفة حقيقية جديرة بخطوات ذلك الإنسان الذى خلقه الله على هذه الأرض، خطوات تنبع من تلك الكلمة الآسرة، الآمرة لرسول الله، وللإنسان العاقل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5]. البداية بالعلم، والعلم هو المعرفة بكل ما تحمله هذه الكلمة فى طياتها من معان المعرفة بكل ما يقع فى الحياة، والنفس، والكون، وبكل ما تحتاج إليه هذه النفس البشرية فى حياتها ومجتمعاتها وعقائدها، العلم بحقيقة الوجود، وموجده، بالله خالق الخلق، والإيمان بوحدانية الله، وتنزيهه عن تلك الأفكار الضالة الجاهلة التى تفشت، فأوقعت النفس فى الشرك بالله، واتخاذ الأصنام والأحجار، والمعبودات الباطلة، التى لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعا ولا ضرا، ولا حياة ولا نشورا. المعرفة إذن هى الطاقة التى فتحت بأنوارها الكاشفة، فكانت البداية لتطهير النفس البشرية، حتى تكون فى صفائها ونقائها، أهلا لتلقى أمر الله بالتكاليف والأوامر، واتباع ما يأتى من قبله بإيمان واقتناع يعلى من شأن الإنسان كإنسان له رأيه الخاص الذى ينفرد به، وله شخصيته الواضحة التى تخلعه عن الاتباع والتقليد لمن سبقه من آباء وأجداد، فى هفواتهم، وسقطاتهم، وجهالاتهم، والتى يقولون فيها: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170]. فهذا التقليد يتنافى مع إيمان المؤمن القوى بعقله، وروحه، وقلبه، ويجعله مسخا مشوها للإنسان الذى يجب أن يزن الأمور بميزان العقل، ويعلم أن لكل شىء نهاية، وأن وراء كل عمل جزاء، وأن الفرق بين الحق والباطل واضح، ويترتب على ذلك حساب الله وعقابه يوم القيامة، الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ

[غافر: 17]، وأن أولئك الضالين الذين يقولون: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24]، إنما يهدرون آدميتهم، فهم كالأنعام بل أضل سبيلا. وإذا كانت هذه الملامح هى أولى خطواتنا على الطريق، فإن الأمر يستدعى أن تكون خطواتنا بمكة، حيث نبتت الدعوة، وننطلق معها، لنتعرف عليها فى جوها ومجالها، حتى تكون الصورة واضحة، فبعد أن نرسى القواعد الأساسية للاعتقاد، ويقام البناء على الإيمان بوحدانية الله، والإيمان باليوم الآخر، والحساب والعقاب، وتحارب التقليد، وإغفال العقل، تبدأ النفس الإنسانية تتوزعها نوازع شتى من خارج بيئتها الحقيقة، فتجد معها فى طريق الحياة من يتناقض مظهره مع مخبره، وأقواله مع أفعاله، ويبدى شيئا ويخفى آخر. وهكذا نقائض فى الحياة بدأت تطل برأسها، وتعكر صفو الحياة، وجوهر الدين وحقائقه، فكان لا بدّ من كشف ذلك، حتى يتطهر المجتمع من أدرانه، وينقى من شوائبه، حتى يكون المجتمع سليما فى صفوفه، قويا فى بنيانه، لا تهزه كلمة، ولا تؤثر فى عزيمته شائعة. فهذا النفاق الذى أطل برأسه فى المدينة، دفعت إليه ظروف المجتمع الجديدة، وضعف فى بعض النفوس، ودسائس من المخالفين من أهل الديانات الأخرى، فاحتاج الأمر إلى تطهير الأرض من عوامل فسادها فى العقيدة، والشخصية، والنفوس، وتهيأ لذلك النبت الجديد الذى تحوطه عناية الله بالحفظ والصون، وبكل ما يمده بأسباب الحياة، أن يقوى ويشتد بفعل الطاعات، واجتناب المحرمات، وبالبذل من جانب المؤمنين بإنفاق المال، والتحكم فى النفس الشحيحة، فكان الإنفاق والدعوة إليه من مقومات بناء المجتمع الجديد، الذى يقوم على الالتزام والعمل من أجل الآخرين، والدفاع عن العقيدة، يقبل على ذلك رغبة فى رضا الله سبحانه وتعالى، لا طلبا للشهرة، وإنما هو الإحساس بالمسئولية حيال أولئك الذين يتصدون للدعوة، ويحاولون إطفاء نور الله، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: 32]. وإذا كان العمل فى هذا البناء يحتاج إلى تضحية بالنفس فى صد اعتداءات المعتدين، وهجمات الحاقدين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله، فهو يحتاج كذلك إلى اليد التى تنفق، والنية الحسنة التى تفعل الخير، والمال الذى تقوم عليه الحياة.

وكل هذا عن طريق الترغيب فى مجالات الخير بكل أنواعه؛ ليفوز المؤمن بثواب الله، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران: 133، 134]. وإذا كان للترغيب صولته ومكانته فى الدعوة إلى الخير، والصالح من العمل، ففي المقابل كذلك يظهر جانب التحذير لعلاج تلك النفوس الخبيثة التى جبلت على الشر، والبخل بالمال، أو انحرفت عن جادة الصواب، وسلكت طريق الضلال، فارتكبت المعاصى، واجترحت السيئات، وابتعدت عن عمل الخير، وكانت عونا للشيطان، فخضعت لمغريات الحياة وشهواتها، وسقطت فى حمأة الرذيلة، وساءت نية وخلقا، وخرجت بذلك عن دائرة التكريم الذى منحه الله لها، بأن جعلها خير مخلوقاته، والجديرة بتحمل أماناته فى الحياة الدنيوية التى يحياها الإنسان. ثم يكون بعد ذلك التسلسل الطبيعى أن تتجه الأنظار إلى القيادة المختارة من قبل الله، والمصطفى من عباده؛ لحمل هذه الأمانة والرسالة، فيأتى الرد على أولئك الذين يعترضون على رحمت الله، وينكرون أن يكون الرسول بشرا، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32]. بل ويقترحون على محمد صلى الله عليه وسلم الاقتراحات التى لو استجيبت، لكان فى ذلك هلاك أولئك القوم وتدميرهم تدميرا، ولكن رحمة الرسول التى جبل عليها كانت سبيلا إلى إبعاد الهلاك عنهم، فلعل ذرية تخرج من أصلابهم تسبح الله وتحمده. وهكذا كان الرسول كما عبر القرآن الكريم: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]. وبعد دور القيادة يأتى دور الشخصية المسلمة السوية، وكيف تكونت، واقتدت بالرسول الإنسان الكريم، فى خلقه، وعمله، واتباعه لسنته، حتى ظهرت تلك النخبة الصالحة التى فتحت الآفاق، وأشعت هذا النور فى كل الأرجاء. ما سر ذلك؟ وما المنهج الذى ربوا عليه؟ ذلك هو الدور الأخير الذى يحتاج إلى تبيان، كى نرى منهج القرآن الكريم فى علاج هذه النفوس التى تتوق إلى علاج فى وقتنا الحاضر.

1 - الدعوة إلى الإيمان بالله ووحدانيته:

لقد تعرضت هذه النفوس لمناهج عديدة أخذت ترسم لها طريق الحياة بنزعات أصحابها ومفكريها، واصطدمت بنظريات عديدة ما لبثت أن تهاوت، فلم تفلح فى علاج نفس، ولم تقض على أزمات الحياة بألوانها وأشكالها، وكانت النتائج لذلك وخيمة فى أمراض نفسية عديدة، وأزمات أخلاقية شملت الأفراد والجماعات. ولذا فإن الاتجاه إلى تلك المناهج الربانية من ينابيعها الأساسية هو ولا شك خير طريق إلى الفلاح، على أن نحسن الفهم، ونعدل فى التطبيق، ونساير الحياة بمتطلباتها العديدة. 1 - الدعوة إلى الإيمان بالله ووحدانيته: وهى دعوة قام عليها الدين، وبنى عليها أوامره ونواهيه، وجعلها أساس العقيدة الصحيحة التى يعتقدها المؤمن بربه، والتوحيد معرفة الله تعالى بالربوبية، والإقرار بالوحدانية، ونفى الأنداد عنه جملة (¬1). وقد شغلت قضية البحث عن الله العقل الإنسانى من قديم الزمن، فمنهم من آمن بأن الله موجود، نظر إلى كل ما خلق الله حوله، واستمد منه يقينه ومعتقده فى تلك المظاهر التى تدل على الخالق والمبدع من أرض وسماء، وإنسان وحيوان، ونبات وجماد ... إلخ، ورأى فى كل ذلك نظاما مرسوما، وقدرة فائقة تدل على مبدعها ومنشئها، فلا يعقل أن تكون قد خلقت بدون خالق، وآخرون أخذوا أنفسهم بالبحث عن دليل يؤيد فكرتهم ودعواهم الباطلة التى لا تؤمن إلا بالماديات، وبما يقع تحت الحواس، وهم لذلك ينكرون المغيبات من وجود الله، والملائكة، والبعث، والحساب، واليوم الآخر، وما فيه، ويجعلون حواسهم هى الطريق إلى الإيمان بمقاييس يضعونها لأنفسهم مع علمهم بقصورها، فهناك أشياء موجودة ويعرفونها، ولا تستطيع حواسهم أن تعرف عنها شيئا، مثل الروح، يجهلون حقيقتها، ولا يعرفون عنها شيئا، علما بأنها ثابتة وموجودة، ويحكمون بعد ذلك الحكم الفاسد أن الطبيعة هى التى خلقت هذا العالم وما فيه، وهذا الكون وما يسير عليه من نظام بديع لا يتغير ولا يتبدل، نسى أولئك القوم تلك الحقيقة البدهية أنهم إذا أرجعوا ذلك كله إلى الطبيعة، فمن أوجد الطبيعة؟ أأوجدت نفسها؟ ¬

_ (¬1) انظر: كتاب التعريفات لعلى بن محمد الشريف الجرجانى (ص 73).

سؤال يحتاج إلى إجابة، ولا يستطيع أولئك القوم أن يجيبوا، لضلالة فى نفوسهم، وضيق فى تفكيرهم، وغياب فى عقولهم. إن كتاب الله بين أيدينا يدعو العقل إليه: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [الملك: 1 - 3]. حجج وأدلة تهدى من يريد الله له الهداية واستخدم عقله وحواسه فى مواطنها التى خلقت من أجلها، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً [الأحقاف: 26]، وليس من المغالاة إذا قلنا: إن كلام الله وقرآنه قد وجه كل آية إلى أولئك الذين ألغوا عقولهم وتفكيرهم واتجهوا اتجاهات باطلة فى عبادة غير الخالق الذى رزقهم وأطعمهم وسقاهم وبيده الخير، انحرفوا إلى عبادات باطلة تتمثل فى آلهة يعتقدون ألوهيتها، وأصنام يصنعونها بأيديهم ثم يعبدونها، وظواهر طبيعية تبدو لهم فى رعد وبرق، ومخلوقات خلقها الله بقدرته من شمس، وقمر، وملائكة، وحيوانات، اعتقدوا فى ذلك النفع والضرر، وآمنوا بها وهم يعلمون أنها لا تقدم ولا تؤخر، ولكنهم مع ذلك أسلموا إليها قياد أنفسهم، يستشيرونها فيما يقدمون عليه من عمل وما يريدون إنجازه من أمور، يضربون القداح، ويستقسمون بالأزلام، ويرضخون لعادات باطلة من صنع أيديهم، وإلغاء عقولهم. تأخرت بهم تلك المعتقدات الباطلة عن انتشال أنفسهم من مهاوى الضلال، والتقليد، وباءوا بخسران مبين، حتى أصبحت الهوة شاسعة بينهم وبين غيرهم من الشعوب المجاورة، والمجتمعات الأخرى التى تمتعت بقسط وافر من التقدم فى مجالات الحياة، وتحقيق النظم الاجتماعية المتطورة. هوة شاسعة بين طريقين: طريق جهالة، وطريق علم، تقدم وتأخر، تفكك وتجمع. لم يرجع هؤلاء الذين أرسل إليهم رسول الله إلى فطرتهم التى فطرهم الله عليها، وكانت كفيلة بالأخذ بأيديهم إلى القرب من الصفاء، والتقاط الهداية من قبل السماء، فالإنسان الذى يولد على الفطرة لا يرى غير وجه الله، وقد دعت ذلك الأعرابى الذى لم يتلوث بأضاليل الشياطين من إنس وجن، ولم يحجب ذلك النور الإيمانى من سرعة الظهور، حينما سنحت فرصته، غطاءات من أدناس النفس والحياة، حينما سمع

الأعرابى ذلك النداء إلى الإيمان بالله الخالق، والموجد، الرازق، قال: إن البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، أفلا يدل ذلك الكون بأرضه وسمائه على الخالق القدير؟ ونفس الموقف تعرض له رجل آخر، وإن كانت له سابقة من أدناس النفس حجبت عنه الضوء فترة من الزمن، وقعدت به عن سرعة الاستجابة إلى الله، بل كانت له مواقف محاربة ضد الدعوة الإسلامية، فقد كان عكرمة بن أبى جهل من أولئك الذين لهم سهم معلوم فى موقف الكفار المعاندين للدعوة فى مكة. أحاط الهول والخطر بعكرمة، وهو هارب إلى الحبشة على ظهر سفينة، ورأى الناس يدعون الله أن ينقذهم من ذلك الخطر الداهم، فقال لهم: ألا تدعون آلهتكم؟ فقالوا: إنها لا تقدر على ذلك، فكانت هذه الإجابة سببا فى رجوعه إلى صوابه، وأدراك حقيقة ما هو عليه من باطل، وحاجته إلى ذلك النور الجديد، كى ينقذ نفسه وحياته، فعاد إلى مكة، وآمن بالله ورسوله، وكان من جند الله المخلصين. فطرة صافية وصلت إلى تحقيق إيمان كامل ثابت فى نفس صاحبها، وعقيدة عجزت عقول الكثيرين عن الوصول إلى نتائجها مع ما اتصفوا به من كمال عقل، وفصاحة لسان، وقوة منطق، وبلاغة أسلوب، ومع ما لديهم من سابق معرفة بأخبار الأمم وأحداثها، وما يصل إلى مسامعهم من بشارات الكتب السماوية الأخرى التى تنبئ بعهد جديد فى الاعتقاد والالتزام، وطهارة المسلك والطريق. ما كان من أولئك الذين أرسل إليهم رسول الله إلا الانحراف فى الفكر، وإلا الضلال فى العقيدة، سار فى ذلك الكثيرون وأعانهم على ذلك شياطين الإنس من أرباب الكهانة، والسيطرة الدينية، ممن يعيشون فى كهوفها، ويريدون أن يكون الجميع على منوالهم، يسيرون فى طريق الفساد، وأعوانا للشياطين فى الأرض، فكانت الآلهة أصناما، وأشجارا، وملائكة، وأشخاصا ... إلخ، مما باعد بينهم وبين الحقيقة الباهرة التى يجب أن يعيشوا فى نورها، ويرتقوا بأنفسهم وفكرهم إلى مستواها، ألا وهى حقيقة التوحيد. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 73، 74].

2 - حقيقة التوحيد:

نعم: لقد جهلوا حقيقة فطرتهم، وانحرفوا بها عن القصد، وسلكوا طريق من حرم التوفيق والبصيرة، والفهم بتلك العبادة الباطلة للأحجار والأصنام. 2 - حقيقة التوحيد: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79]. الإيمان بوحدانية الله، وهو إفراده بألوهيته فى الأرض، كإفراده بالألوهية فى السماء، وعدم تعدده فى ذاته، وصفاته، وأفعاله، هو الفارق بين طريق وطريق، طريق الحق، وطريق الباطل، طريق الهدى، وطريق الضلال، وكانت هذه الحقيقة التى نطق بها أبو الأنبياء إبراهيم، عليه السلام. هذه النقلة فى الاعتقاد كانت طريق الأنبياء والرسل، ولم يكن هذا الطريق ممهدا مملوءا بالورود والرياحين، ولكنه طريق الشوك والقتاد، طريق الصعاب، والألم، والتضحيات، فكم من نبى ورسول حورب من قومه، وقوبل بالهزء والسخرية، وكان محل تندر، وسخرية مريرة من أهله، وكم من نبى ورسول قتل فى سبيل هداية قومه إلى طريق الحق كما حدث فى بنى إسرائيل. ولم يكن محمد، عليه الصلاة والسلام، بدعا من الأمر، أو بعيدا عن مواطن المشقات والمتاعب، فقد أرسل إلى قوم غلف القلوب، غلاظ الأكباد، صم الآذان، عمى العيون، لا يستمعون لكلمة الله ولا يصيخون لدعوة الحق، ولا تؤثر فيهم موعظة حسنة، حتى إذا نزلت إليهم الآيات القرآنية تدعوهم إلى عبادة الله وحده بطرائقها العديدة، وأساليبها المختلفة من أمر إلى نهى، من استفهام إلى خبر، من قصة إلى مثل؛ لاستمالتهم والتأثير فى نفوسهم، اتخذوا من ذلك أداة للتندر والتفكه، وأعرضوا عن السماع، مع ما لهم من ملكة التذوق والفهم لهذه الأساليب التى أتت من جنس ما يتكلمون ويتحدثون، ولكنه الكبرياء الذى تمكن من نفوسهم، والغرور الذى سيطر على قلوبهم، فكيف يدعو محمد إلى ذلك، ويظهر من بين أيديهم، ولا يكون من أولئك العظماء الذين يدينون لهم بالطاعة والخضوع، ويعرفون لهم مكان الشرف والسيادة: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف: 32]، وفى آية أخرى. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ

وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 4، 5]. تدرجت الآيات القرآنية بأساليبها العديدة فى دعوتهم عن طريق الإقناع، وسوق الدليل؛ لتنمى فيهم جانب العقل والتفكير، حتى إذا كان الإيمان كان على بصيرة من الأمر واقتناع بما أنزل الله، وإيمان كامل بوحى الله وشريعته. استمر الرسول يدعو إلى الإيمان بوحدانية الله، وهى الأساس الإيمان بكل ما جاء من عنده، فى مكة ثلاثة عشر عاما، ثم انتقل بعد ذلك إلى الهجرة إلى المدينة، فكان الانتقال إلى مرحلة البناء والجهاد فى سبيل الله، والاتصال بالمجتمعات الأخرى، وإرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء، يدعوهم إلى كلمة الله والدخول فى الإسلام، وكان اللقاء مع أولئك الذين صدّوا عن سبيل الله فى ميادين القتال فى الحرب والسلام. كانت مرحلة التأسيس، وتطهير النفوس والقلوب مما ران عليها من الشرك، والجهل، والتقليد، هى أخطر المراحل، وأولاها بالاهتمام، يبدو هذا من آيات الله فى أمثاله، والإكثار منها، وما تناولته من عقائد وشرعته من شرائع، ودعت إليه من قيم. ثم كانت بعد ذلك مرحلة البناء، والمحافظة عليه بالحرب والسلم فى المدينة، وهى مرحلة بدأها رسول الله بالوحى الذى أنزل عليه، ثم سار بعد ذلك على دربها صحابته ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. ونحن إذ نعرض لتلك الآيات القرآنية التى تعالج الدعوة إلى وحدانية الله، والإيمان به، فى ذلك الثوب القرآنى، ثوب الأمثال، لا نقصد من وراء إيرادها على ذلك النهج أن تكون خاضعة لتسلسل نزولها، ففي ذلك جهد لا نملك أدواته، ولا نستطيع أن نقطع فيه برأى، وإنما نقصد من وراء ذلك تحقيق الهدف والغاية التى إليها نسعى، ونقصد من كتابة هذه الموضوعات وهى غرس القيم الدينية البعيدة عن الانحراف، القيم التى تدعو إلى الإيمان بالله ووحدانيته، واتصافه بالكمال المطلق، والإيمان بما أنزل. هذه القيم هى التى يجب أن يعلو صوتها فوق كل صوت، وتأثيرها فوق كل تأثير، فى وقت نعيش فيه، ويعيش فيه شبابنا، ويحسون بذلك الفراغ الروحى الذى يسيطر على كل خطواتهم وميولهم واتجاهاتهم، فيحسون معه بالضياع، والاكتئاب، والقلق، والعثار، ويتلمسون كل وسيلة يعتقدون أن وراءها حلا لمشكلاتهم، وقضاء على

معاناتهم، وقد يقعون نتيجة ذلك فريسة سهلة لألوان من المخدرات القاتلة التى تذهب بأرواحهم وقوتهم وعقولهم، دون أن تبدو منهم مقاومة لها؛ لأنهم لا يملكون من وسائل القدرة على ذلك ما ينفعهم فى موقفهم، فعقولهم وأفئدتهم خواء لا شىء يعمرها، ولا فكر يمد يده لينقذها مما تردت فيه. يجب أن يكون للقيم النبيلة تلك الصدارة على قيم أخرى التى تعتبر أدنى مرتبة وأقل تأثيرا فى النفس، لقد انعكست الأمور فى وقتنا الحاضر، فأخذت المادية تطغى على كل النفوس فى مواقف الحياة، وفى التعاملات، والعلاقات، والتطلعات المختلفة، والطموحات العديدة التى يرنو إليها كل شاب متطلع للحياة بكل ما فيها، وهذا هو موطن الخطورة، يحس بذلك أولو الأمر فى اتجاهاتهم السياسية والثقافية، ويشعر بها المربون والآباء فى سعيهم الثقافى، والتربوى، والاجتماعى، ويرون فى ذلك نذيرا لمستقبل لا يبدو باسما بحال، ولا مبشرا بطريق مستقيم. ولكن إذا بدأت القيم تغير من أماكنها على مسرح الحياة، وفى شعور الناس وعقولهم، وبدأت تسترد اعتباراتها التى كانت لها فى الماضى، ويعاد ترتيبها من جديد، وتحتل القيم الرفيعة صدارتها الأولى، كان ذلك بداية إلى ما هو أفضل فى الحياة، وقضاء على عادات وانغماسات فى مهالك مردية يقع فيها الكثيرون. إن ما نلحظه فى وقتنا الحاضر أن تلك الأنظمة التى شدت انتباه الناس، وبخاصة الشباب الذى بهر بما فيها من حرية وانطلاق، واستمتاع مطلق بكل ما تحمله المدينة الحديثة فى طياتها من خبائث الشراب والجنس، بدأت تلك الأنظمة تعيد النظر فى ترتيب أوراقها، وترجع إلى فهم حقيقى للحرية المنشودة للإنسان المعاصر، الحرية التى تلتزم بالقيم النابغة من الدين، المحافظة على الأخلاق العامة وعلى حقوق الآخرين. 1 - قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 41 - 43]. جاء هذا المثل القرآنى عقب آيات تناولت أحوال أمم سابقة لهم فى مجال المعصية دور مشهود، وفى محاربة الرسل السابقين لهم عمل مشهور، وفى إنكار الدعوات

الصالحة التى تدعوهم إلى الإيمان بالله الواحد القهار، وتدعوهم إلى تطهير أنفسهم من قبائح الحياة والرذائل المتفشية فيهم، فأصابهم الله جزاء أعمالهم وظلمهم لأنفسهم بتلك العقوبات التى تنوعت بإرسال الحاصب من السماء، والرجفة التى تهلك، والخسف، والإغراق. ألوان من العذاب تتناسب مع كفرهم بالله، وظلمهم لأنفسهم، واعتمادهم على أفكار ضالة، وإيمانهم بعبادات باطلة، فكان الاستحقاق من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحدا، وكأن هذا إشارة إلى عقوبات مماثلة تلحق بمن يتشابه مع السابقين فى مواقفهم، ولن يكون المصير مختلفا، فالنتائج واحدة ما دامت الأعمال واحدة، وقد قال الله فى هذه الآيات: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40]. فى ضوء هذا التمهيد، جاء المثل ليبين حقيقة أولئك القوم الكافرين الذين أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وصلوا إليه من فهم سقيم، فالمشرك الذى يعبد الأصنام ويعتقد فى نفعها وضررها، وألغى بذلك تفكيره بالقياس إلى المؤمن الذى يعبد الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى بيده النفع والضرر، والإحياء والإماتة، يشبهان فى حاليهما بحال تلك العنكبوت التى لجأت إلى نسجها الضعيف الواهى تلتمس فيه نجاة، وتتخذ منه حماية لها ولحياتها، وهو لا يدفع عنها شيئا من حر أو برد، بالقياس إلى من بنى بيتا حصينا اعتمد فى إقامته على كل ما يثبت دعائمه. وهكذا تتضح الصورة، ففرق بين بيت وبيت، وفرق بين عبادة وعبادة، عبادة قائمة على شىء واه ضعيف، وعبادة قائمة على أساس سليم من الاعتقاد، والفكر، والاقتناع، ولذلك جاء التأكيد بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت: 42]. فالإنسان الذى له مسكة من عقل، جدير به أن يستند إلى حقيقة ودعامة ثابتة تقيه شر تقلبات الحياة، وما تأتى به من أرزاء، تلك الدعامة التى تعلى من شأن الإنسان وترفع من مكانته، فلا يذل لمخلوق، ولا يحرم نفسه من مكانة أعزه الله بها، وهى خلافة الله فى الأرض، يعمرها بالفكر والعقل، والإرادة، والحرية، والتحكم فى شهوات النفس وغرائزها.

هذا هو الإنسان الذى أسلم وجهه حقا لله، وعرف حقيقة وضعه، فتجرد من أنانيته، وكان مستعدا لتلقى وحى الله، ودعوة رسله، لا يخضع لصنم، ولا يركع لوثن، ولا يذل لطاغوت، وإنما يؤمن بمن خلق الصنم والوثن، وخلق الكافر والمؤمن، والحياة والموت، يؤمن بالله الذى بيده الأمر، وهو على كل شىء قدير: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27]، والذى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 19، 20]. يعرض على أولئك الكفار فى هذه الآيات مشاهد مألوفة ومحسوسة لديهم، تقع عليها أنظارهم، وتتصل بحياتهم ومعاشهم، لعلها تثير فيهم نزعة التفكير والتأمل، وتوجه حواسهم إلى أداء وظائفها على أكمل وجه فى الإيمان بالله، والاعتراف بفضله ونعمه التى لا تعد ولا تحصى. هذا ما يعرضه المثل القرآنى، وما يهدف إلى تحقيقه، ولكن كيف استقبل أولئك المشركون هذا المثل؟ لقد استقبل هؤلاء المشركون هذا المثل الذى يوضح حقيقتهم بطريق المقابلة والموازنة، استقبال أهل الغفلة والضلالة، فهم لا ينظرون إلى الحكمة والمقصد، وإنما يتعلقون بالقشرة الظاهرة، وهذا دأب التافهين الذين لا يفكرون ولا يتعمقون فى الأمر، نظروا إلى ما فى المثل من عنكبوت، وإلى أمثال أخرى تحوى ذبابا وبعوضا، تمثل أحوالهم، وتعرض صورهم، فقالوا: إن رب محمد يضرب الأمثال بالذباب تارة، والعنكبوت أخرى، يتضاحكون ويستهزءون، فرد الله عليهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [البقرة: 26]. حقا الله سبحانه وتعالى يضرب المثل بالشىء القليل والحقير الذى لا ينال من الكفار حقا من احترام؛ لأنهم جهلوا أن ضرب المثل يحقق حكمة يريدها الله، وهى العظة والاعتبار، زيادة الفهم والإدراك للأمور، وأن الله خالق الشمس والقمر، والكون الكبير، هو الخالق للصغير من الأمر، فليست هذه أصعب من تلك، فإذا اقتضت مشيئة الله أمرا خلقه بقدرته القادرة القاهرة، يشترك فى ذلك النملة والفيل، والكبير والصغير.

وكم من دلالات يتعلمها الإنسان، حتى فى علو مكانته، وسموّ منزلته، من تلك الأشياء الصغيرة، إن نظرة فى أعمق أعماق التاريخ يرى موقف ابن آدم، عليه السلام، حيث قتل أخاه، يقف موقف الخاسرين، لا يعرف ما يأتى وما يذر، فيبعث الله إليه غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه، فأصبح من النادمين. وسليمان، عليه السلام، وهو نبى مرسل من قبل الله، يمرّ على بيت للنمل، فتراه النملة، فتقول: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 18، 19]. وكذلك موقفه من الهدهد الذى أتى إليه بأخبار ملكة سبأ، كل هذا كان مددا لسليمان، عليه السلام، من تلك الأشياء الصغيرة التى كانت مصدر علم ومعرفة لنبى الله، فكان منه الشكر، والطاعة لله رب العالمين، ليست العبرة إذن فى كثرة الأشياء وقلتها، وكبر الأحجام وصغرها، وثقل الأوزان وخفتها، وإنما فيما تتركه من أثر فى اهتداء العقل، وضلاله، وإيمانه، وانصرافه عن الحق. 2 - قال الله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28]. ما موقف الآيات التى سبقت هذا المثل ومهدت له؟ جاء هذا المثل عقب آيات تناولت قدرة الله المطلقة فى السموات والأرض، وأنه صاحب الأمر فيهما، وكل من خلقه خاضع لمشيئته، من إنس وجن، راجع إليه لا يخرج عن قدرته وسيطرته، وقدرته أيضا على الخلق والإعادة، واتصافه بصفات الكمال المطلق، العزيز الغالب الذى يصنع كل شىء فى حكمة وتقدير، قال الله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 26، 27]. هذا هو التمهيد والفرش لما يأتى من مثل بعد ذلك، يثير فى العقل الإنسانى وكل من يخاطب ويقع فى دائرة التكليف دفعة إلى التمييز بين المتقابلات، والفهم للحقائق، وحسن استخدام ما جعله الله تكريما للإنسان، وهو العقل.

تناول المثل واقع هؤلاء المشركين الذين يشركون مع الله إلها آخر يتنازلون برغبتهم واختيارهم عما ميزوا به من عقل، فاتجهوا إلى أصنام يعبدونها ويسلمون إليها رقابهم ويخضعون لمشيئتها، إن كانت لها مشيئة، وفى نفس الوقت لا يرضون أن يكون أولئك العبيد والأرقاء والإماء الذين يملكون رقابهم، لا يرضون أن يكونوا لهم شركاء فيما يملكون من مال، أو يتدخلون فى شئونهم الخاصة والعامة، وأن تتساوى تصرفاتهم مع تصرفات السادة والأمراء، يأنفون من ذلك، ويخافون أن يكونوا أندادا لهم. ومع ذلك يرضى أولئك الكفار أن يشركوا مع الله فى عبادته تلك الأحجار والتماثيل العاجزة، وهو القادر الخالق حتى لهذه المعبودات، وينسبوا إليه الشركاء. بهذا الأسلوب الإقناعى المستمد من الحياة التى يحياها أولئك الناس، الحياة الاقتصادية والاجتماعية التى تعتمد على تجارة العبيد، واستغلال الأرقاء والإماء، يخاطبهم ويوجه تقريعه ولومه لمن يهمل ما ميزه الله به من عقل فضله به على بقية المخلوقات، وأعطاه القدرة على الملاحظة، والتدبر، وحسن التصرف. حقا إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأعراف: 194]. اتجاهات ولا شك تدل على تدن فى التفكير، وإلغاء للعقل يخرج بالإنسان من دائرة الإكرام الذى عبرت عنه الآية الكريمة: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70]. ما الموقف الذى يدعو إليه المثل؟ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28]، بهذا الختام نلمس ما يدعو إليه من موقف سليم فى الاعتقاد، والعمل، والسلوك، موقف ذلك الإنسان الذى يتلقى ضوء السماء، فيسير فى حياته لا يتخبط، يحافظ على منزلته التى حباه الله بها فى دنياه، ويتجه اتجاها حقيقا إلى خالقه رب العباد جميعا، وخالق الأسباب والمسببات، وأن يقيم اعتقاده على الإيمان بالله وحده الذى يأخذ بيده على صراط الله المستقيم، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30]. وما دام هذا الدين هو الفطرة، فعلى كل مؤمن أن يرجع إلى ربه، وأن يعرف طريقه

إليه فى كل وقت وحين، فى سرائه وضرائه، فى صحوه ونومه، فى حركاته وسكناته: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32]. 3 - قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 75]. جاءت الآيات السابقة لهذا المثل، والممهدة له، توضح حقيقة أولئك الكافرين الذين يؤمنون بالباطل ويكفرون بنعم الله عليهم، والتى تمثلت فى قدرة الله التى جعلت لهم من أنفسهم أزواجا، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، كما رزقهم من الطيبات، وأنعم عليهم بنعم كثيرة من الصحة والمال والعقل، ومع ذلك ألغوا عقولهم وتفكيرهم، فاتجهوا اتجاهات باطلة نحو عبادة ما لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرا، عبادة أصنام لا تملك من أمرهم شيئا من رزق أو مرض، حياة أو موت، فهى مخلوقات ضعيفة قد حرمت صفة القدرة، والذى لا يملك التأثير فى نفسه لا يملكه فى غيره. قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 72 - 74]. وقد أبانت الآيات أن الله جلت قدرته يعلم حقائق ما يأمر به عباده من فعل، وما ينهاهم عنه من باطل، وبيده الأمر كله من نفع وضرر، وحياة وموت، ورزق وفقر، ونصر وهزيمة. والإنسان العاجز المخلوق قاصر عن فهم هذه الحقائق، جاهل بحقيقة نفسه، محتاج إلى الإيمان بخالقه، فكان هذا المثل الذى يوضح تلك الحقيقة الكبرى فى تلك الصورة المأخوذة من حياتهم الواقعية، وأمورهم الاقتصادية، حتى يكون العقل على إدراك كامل بحقيقة الموقف الذى ينحاز إليه. صورة ذلك العبد الذى فقد حريته وأصبح خاضعا لغيره، ذليلا لمن يتحكم فى رقبته، وجهده، ووقته، فما يجنيه من عمل يحصل عليه سيده، وما يبذله من جهد إنما يذهب ريعه لمن اشتراه ودفع ثمنه، فهو بمثابة البهيمة التى لا تملك الدفاع عن نفسها

حين يراد ذبحها، أو بيعها، أو التصرف فى أمورها، حرم ذلك العبد سمات الإنسان الذى يملك القدرة على التفكير، وإبداء الرأى، والتصرف فى ملكه. هذه هى صورة ذلك الكافر الذى نحت صنمه، وأخذ يسجد ويركع له، وهو من صنع يده، وقد أخضع نفسه وتصرفه لهذا الضعيف، يستشيره فى أموره، ولا يصدر رأيا، ولا يعزم على أمر إلا بالرجوع إليه. هل يستوى هذا بمن رزقناه منا رزقا حسنا: صورة أخرى تختلف عن الأولى جديرة بالاحترام والتقدير، صورة السيد المالك لأمره، المتصرف فى أمر نفسه وأمر غيره، الحرّ الذى يفعل ما يشاء، وهو الله سبحانه وتعالى خالق الموجودات، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وكل مخلوقاته له عبيد. هل يستوى العبد بالسيد؟ وقيل: هو مثل مضروب للوثن، والحق تبارك وتعالى، الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 75]: إيقاظ للنفس الإنسانية الغافلة كى تثوب إلى رشدها، وترجع إلى طبيعتها الجديرة بها، الطبيعة المفكرة العاقلة التى تعمر الكون، وتصل فى نهاية المطاف إلى أن تكون فى زمرة أولئك الذين يعلمون الحقائق، ويؤمنون بالله الواحد، ويحمدون الله على تلك النتائج التى وصلت بهم إلى العقيدة الصحيحة، والإيمان القوى، والمعرفة بحقيقة دورهم فى عمارة الكون والاستخلاف فى الأرض. 4 - قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76]. هذا المثل يكمل الصورة السابقة، ويؤكد بما يحويه من مضمون تلك الحقيقة الكبرى التى ترمى إليها الآيات، حقيقة الألوهية، والابتعاد عن الشرك، فإذا كان المثل السابق تكلم عن العبد العاجز الذليل الذى لا يملك حريته، ولا يتصرف بإرادته، وإنما هو خاضع لغيره فى كل تصرفاته، فهنا أيضا رجل لا يستطيع أن ينطق، حرم نعمة الكلام، فهو عاجز عن التعبير عن حاجة نفسه، وعن إرادته، عجزا حقيقيا لنقص فى أدوات الكلام، أو عجزا معنويا لحرمانه من كمال العقل والتفكير، وبذلك حرم من سمة الإنسان الذى له إرادة، وحركة، وقدرة، وعمل، فهو مقهور، ويحتاج إلى من يتحكم فيه،

يسير حسب أهوائه، فنفسه خبيثة طبعت على الرضا بالهوان، والمسكنة، والخضوع، لا ينتظر منه خير فى مسلك أو عمل صالح. أما الرجل الآخر، فهو كنظيره فى المثل السابق الذى يملك ماله، ويتصرف بإرادته، ويفيض على الآخرين فى كل وقت وحين، له عمله، وحريته، وحركته البناءة التى تدل على حقيقة حاله، هنا أيضا له أمره الذى يصدره عن عزة واقتدار، لمن يخضع لمشيئته، فلا يملك إلا التنفيذ وسرعة الاستجابة، أمر يصدر يحمل فى طياته النفع، والخير، والهدى، والعدل. هذه الأمثال التى تناولتها سورة النحل سبقت فى إطار واحد لتوضيح حقيقة لا لبس فيها، ولا غموض لدى الإنسان الذى يملك إرادته، ويعرف الحكمة من وجوده، وهى أن العبودية لله وحده؛ لأن السلطان بيده، والحكم له، يأمر بالعدل، وينهى عن المنكر، وكل فعل يجب أن يكون فى إطار ما شرع الله، وعلى هدى سننه، وكل تحرك بالعمل، والفهم فى هذه الحياة التى يحياها الإنسان يجب أن يأخذ نوره وقبسه من شرع الله، ويبتعد عن أولئك الظالمين لأنفسهم، والمضلين لغيرهم، الذين تحكمت فيهم عقائد الجاهلية وغوايات الشيطان. 5 - قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 29]. هذا المثل أتى عقب آية قرآنية تشيد بأمرين جديرين بالتأمل والاستفادة، وهما: (أ) أن الله اقتضت حكمته أن يكثر فى كتابه الكريم من ضرب الأمثال للتذكر، والعظة، والاعتبار. (ب) وأن يكون ذلك فى معرض قرآنه الحكيم الذى أنزله بلسان عربى مبين؛ ليكون طريقا إلى الإيمان القوى، وليكون علاجا للنفوس المريضة التى لم تتشرب الإيمان الحقيقى، فيكون طريقا إلى التقوى والخوف من الله جل فى علاه، ومراقبته فى السر والعلن، وخشيته فى الظاهر والباطن، والإيمان به إيمانا قائما على إعمال الفكر، والتدبر، والنظر، والاستدلال، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 27، 28]. تبدو كل هذه المعانى فى ذلك المثل الذى يأخذ أمثلته من الحياة التى يحياها الناس،

وما يشغل بالهم وتفكيرهم فى كل وقت وحين، يأخذ أمثلته التى توضح فكرته التى يرمى إلى إيضاحها، ألا وهى حقيقة الألوهية أيضا التى تعزب عن بال أولئك المشركين، يأخذ أمثلته من واقع الحياة الاقتصادية التى يحيونها، تتشابك فيها المصارع، وتتصارع الرغبات، وتبدو الاهتمامات، ويظهر الطمع والجشع، وتبدو النفس عارية على حقيقتها بما فيها من شرور وآثام. يضرب الله المثل لأولئك الكافرون بما بين أيديهم من أدوات الحياة الاقتصادية التى يستخدمونها وهم العبيد. فهذا عبد مشرك حكم عليه بالعبودية، يتحكم فيه عديد من السادة، ويتنازعون فى رقبته، كل له رغبة قد تتفق وقد تختلف، وهذا العبد حائر بين أيدى سادته، لا يعرف له طريقا، ولا يبصر له نهجا ينقذه من حيرته وضلاله. ورجل آخر مؤمن له سيد واحد يخضع لما يأمره به، وينفذ ما يريد دون أن تتبدد قواه، أو تتوزع نفسه بين جملة شركاء، يعرف طريقه، ويسير على هدى وبصيرة من الأمر، هل يستويان؟ لا شك أن الأول ضائع، معذب فى دنياه، والثانى منعّم يشعر ببرد الراحة والهدوء فى سيره ونهجه. وكذلك من يعبد غير الله، ويتخذ آلهة له وشركاء فى عبادته مظلم النفس والبصيرة، ومن يعبد الله لا يلتوى به الطريق، ويعرف طريقه نحو خالق السماء والأرض. لذلك ختمت الآية بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الذى اختار لعباده الأمن والطمأنينة، وإن صدرت منهم أعمال تتصف بأعمال الجاهلية، وبعيدة عن روح الدين وحقيقة التوحيد، فأكثرهم لا يعلمون. 6 - قال الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171]. أتى المثل القرآنى عقب آية تندد بكل تفكير معوج، وبالعادات البالية التى سيطرت على أخلاق الكافرين فى أفكارهم، وباعدت بينهم وبين استلهام الضوء من مصدره الجدير بالاتباع والإيمان، فإذا بذل رسول الله نصحه لهم باتباع ما أنزل عليه، غلبت عليهم شقوتهم وأغضبتهم الجاهلية، وفكرهم المريض الذى يدعوهم إلى التقليد، ومسخ الصورة الآدمية التى كرمها الله بالعقل والتمييز، وجعلها جديرة بالاستخلاف فى الأرض، ولذلك كان هذا الرد المعوج الذى تعرضه الآية القرآنية فى قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170].

نعم يصرون على موقف، وهم يعلمون أنهم جاهلون بنتائجه، ويصرون على الاتباع ولو كان يؤدى إلى الهلاك، وبخاصة وقد حرم أولئك المتبعون من السابقين من نعمة العقل والاهتداء، وإلا لكانوا فى موقف آخر من الإيمان، ومحو عار الجاهلية الذى لصق بهم، واستدعى إرسال الرسل إليهم، ودليل ذلك إصرارهم على معاداة النبى ومحاربته، والوقوف ضد دعوة الإسلام، حتى بهذا التدنى فى المرتبة التى تصمهم بوصمة الحيوانية التى سلبت العقل والهداية، وهذا ما عرضه المثل بعد ذلك: يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة: 171]. جو واحد، تشابهت فيه الأشخاص والدواب، وسلكت كلها فى مسلك واحد، لا تفكير، ولا اهتداء، وإنما اتباع مضلل، وطريق إلى الهاوية، نرى ذلك كله فيما يعرضه المثل من صورة أولئك المقلدين لغيرهم فى خطواتهم الضالة، والذين ألغوا عقولهم وتفكيرهم التى خلقها الله للاهتداء بها، فهم يرون الحق ويعرضون عنه، ويصرفون أنفسهم عن دلالته وآياته، ويتبعون خطوات الشيطان، ويقولون على الله بغير علم، ولا دليل ولا برهان، وهم على فساد من الأمر. صورهم الله فى هذا المثل بتلك البهيمة السارحة التى لا تفقه ما يقال لها إذا صاح فيها راعيها، بل هم أضل منها، فهى ترى وتسمع وتصيح، ولكنهم: صم، بكم، عمى، مع وجود هذه الحواس، ولكنهم معطلون لها، ولا تؤدى وظيفتها التى خلقها الله من أجلها، صم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم، بكم لا ينطقون به عن اعتقاد وعلم، ولا يعقلون مبدأ ما هم فيه، ولا غايته كما يطلب من الإنسان، وإنما ينقادون لغيرهم كما هو سائر الحيوان. وهؤلاء الكفار هم المشركون الذين تكرر منهم القول: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة: 170]. صورة تحذر من اتباع الشيطان، وتعطيل الفكر عن المعرفة والهداية، وتلقى أمر الله والشريعة من غير الجهة التى يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة. 7 - قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5]. جاء هذا المثل بعد آيات أربع افتتحت بها سورة الجمعة، وتناولت هذه الآيات:

(أ) تمجيد الله وتعظيمه بذكر صفاته، وخضوع المخلوقات من إنس، وجن، وسماء، وأرض، له، وتسبيحها بحمد الله، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]. (ب) اختيار رسول الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور من جنس العرب؛ ليتلو عليهم آيات الله. (ج) رحمة الله شملت غير العرب الذين آمنوا، ومن بقى من أمة محمد من الأجيال اللاحقة. (د) أسبغ الله نعما كثيرة على عباده الذين أراد لهم الهداية، وجدير بمن يعرف هذه النعم أن يوفيها حقها من الذكر، وحق موجدها بالطاعة والعبادة والتوحيد، حتى يكون من جملة المسبحين والمعترفين بفضل الله. أما أولئك القوم الذين ضرب بهم المثل من اليهود الذين كانوا فى عصر الرسول، وعرفوا حقيقته من الآيات التى بين أيديهم التى تحويها التوراة، وما عرفوه من علامات، حتى أنهم كانوا يستفتحون على غيرهم من الكفار بأنهم سيتبعون الرسول الذى سيرسل، وسيكونون عونا له عليهم، فلما أرسل الله محمدا، عليه الصلاة والسلام، إذا بهم ينكرون الرسالة ويحاربونه أشد محاربة؛ لأنهم كانوا يحسبونه من قومهم ومن جنسهم. هؤلاء القوم الذين كلفوا العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد، ولجأوا إلى التأويل والتحريف والتبديل، ضرب الله لهم المثل بالحمار الذى يحمل فوق ظهره كتبا تحوى كنوز المعرفة واليقين، ولا يدرى عنها شيئا، ولا ينال من حملها إلا الثقل دون فائدة، بل هم أسوأ حالا من الحمار؛ لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها. وفى هذا التصوير القرآنى دعوة واضحة لكل ذى لب أن يستوعب علم ما يحمل، وأن يتفهم جوانبه وأهدافه ومراميه، حتى لا يلحقه الندم من جراء جهله بما معه، والذم ممن يراه، وأن يعمل بمقتضى ما فيه من نهج صالح، ودعوة بناءة فى الحياة الدنيا، وسعادة فى الآخرة. إنها دعوة المعرفة التى تنتظم جوانب النفس، وجوانب المجتمع والحياة زراعة، صناعة، تجارة، حتى تصل إلى كفايتها التى تطمح إليها، ثم تصل فى نهايتها إلى المعرفة

الروحية، وهى صفاء القلب، وتفتح العقل ونوره، حتى لا يكون مظلما، وغير قادر على العمل، فالعقل مصدر كل شىء، والتقدم مرهون بتشغيل عقول الناس. ومن خلال هذا المثل نرى الفرق واضحا بين من عطّل حواسه، ومن أحسن استغلالها فى فائدة تعود عليه، فمثل الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود: 24]، وقال أيضا: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك: 10، 11]. وبعد استعراض تلك الأمثال القرآنية التى تناولت فكرة الاعتقاد والدعوة إلى الإيمان بالله الواحد الذى يتجه إليه بالعبادة، ويفرد بالتعظيم والإجلال، وتطهير النفوس من غواشى الجهالة التى تسيطر عليها، فتحول بينها وبين الإيمان الصحيح القائم على استخدام العقل والفكر. ولذلك كانت رسالة محمد ودعوته إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وما يتبع ذلك من أمور اعتقادية، هى من صميم الفكرة الأم التى دعا إليها القرآن، ونادى بها رسول الله، فالله هو خالق الخلق، وهو المحيى والمميت. وإذا كانت هناك حياة، فلا بد وأن يكون هناك موت، وإذا كان هناك موت، فلا بد أن تكون هناك حياة أخرى للحساب، والعقاب، والمجازاة على الأعمال التى كانت وحدثت من الإنسان فى دنياه، فلا يعد الإنسان إنسانا إلا إذا كان صاحب إرادة، وصاحب عمل يصدر عنه، ويكافأ عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا هو مقتضى العدل الإلهى الذى وضعه الله للإنسان فى دنياه وأخراه، وبذلك كان التمييز عن بقية المخلوقات التى تكون ترابا، والمخلوقات الأخرى فى ملكوت الله الواسع العظيم التى خلقها لتكون فى يومها الموعود على غير ما هى عليه فى الدنيا من نظام مرسوم. حياة دنيوية هى مقر الإنسان، ومحل العمل، يترتب على ذلك جزاء وثواب، وعقاب فى الدنيا وفى الآخرة. هذا هو طريق الإيمان الذى يجب أن يسلكه المؤمن فى اعتقاده، ولذلك كان البعث، والنشور، والحساب، من مستلزمات هذا الإيمان، والكفر بذلك يقتلع فكرة الإيمان من جذورها، ويجعلها لا تقوم على أساس، آمن بذلك القدامى، وسيطر ذلك على

3 - البعث والنشور والحساب:

اعتقاداتهم، وظهر هذا فيما تركوه لنا من آثار تشهد لهم بالإيمان بفكرة البعث والحساب بين يدى الله سبحانه وتعالى منذ آلاف السنين، وما تلك الآثار التى تطل علينا من أهرامات وشواهد إلا شاهد صدق على حقيقة هذا الاعتقاد، ودليل على سلامة ما كان يفكر فيه أولئك القوم. إلا أن لوثة من الفكر السقيم سيطرت على مجموعات أخرى من الشعوب الجاهلة، قد اندست وترسبت فى أعماقهم، فجعلتهم يكفرون بالحياة الأخروية، وما بها من حساب، وعقاب، وبعث، ونشور، واعتقدوا أن ذلك ضرب من المحال، وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24]. فكان أولئك الدهريون أولى بأن تتجه إليهم الأمثال القرآنية؛ لتحارب هذه النزعة الفاسدة من نفوسهم، وتدعوهم إلى الإيمان بفكرة الجزاء، والثواب، والعقاب. 3 - البعث والنشور والحساب: من كمال الإيمان بالله سبحانه وتعالى، الإيمان بكل ما جاء من قبله فى كتابه العزيز، وقرآنه الكريم. وكما دعانا إلى الإيمان بوحدانيته، وعدم الإشراك به، دعانا كذلك إلى الإيمان باليوم الآخر، والاعتقاد الكامل فى أن هناك حسابا وعقابا يوم القيامة، يوم تجزى كل نفس بما عملت فى دنياها من خير أو شر. وكما أنه لا يقبل فى حكم العقل أن يتساوى محسن مع مسىء فى دنيانا، لذلك كانت هناك آخرة لأيام الإنسان مهما طالت، ولا بدّ له أن يموت مهما طال به الأجل: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61]، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات: 16، 17]، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3]. بذلك قضى الله، وكما حكم بالموت على الإنسان حتى الأنبياء، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30]. جعل هذا الموت نهاية لكل حى فى دنياه، ثم يبعثه مرة أخرى يوم القيامة، حيث

الحساب والعقاب، فإما إلى جنة، وإما إلى نار، حيث النعيم الأبدى، والعقاب الأبدى. هكذا جاء فى القرآن الكريم، وفى شرع الله، ولكن هذه الحقيقة صدمت الكثيرين من أهل الجاهلية فى اعتقاداتهم التى ورثوها، وأخذوا يتناقلونها من أن الموت نهاية كل حى، ولا حساب، ولا عقاب، ولا بعث، ولا نشور، وإنما هى أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر. وتصور الآيات القرآنية هذا التفكير والاعتقاد، ونسيان الآخرة، وما أعد الله فى هذا اليوم الموعود بقوله تعالى: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24]. اعتقدوا هذا الاعتقاد، وسيطر على تفكيرهم، حتى أنهم أرجعوا ذلك إلى الدهر، وما يأتى به من أحداث. كان هذا التفكير مقدمة إلى تفكير أهل الزيغ والإلحاد فى العصر الحاضر، الذى يقول بالطبيعة وما تجريه من أحداث. الدين وما يأتى به فى القرآن الكريم تحارب هذا اللون من التفكير، والابتعاد عن استخدام العقل والمنطق فى تصحيح المسار، فكل شىء خلقه الله من حياة، وموت، وصحة، ومرض، وسعادة، وشقاء، ورزق، وفقر، والقادر على الإحياء قادر على الإماتة، والقادر على الإنشاء والبدء قادر كذلك على الإعادة مرة ثانية. ودليل هذا من واقع الحياة، فالإنسان الذى ينشئ شيئا من غير نموذج سبق، يستطيع بعد ذلك أن يعيد ترتيبه وإعادته من جديد دون صعوبة فى ذلك. وهكذا جابه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الكافر الذى أتى بعظم قد رمّ، وفتته بين يدى رسول الله، وقال: يا محمد، أيحيى الله هذا بعد أن تفتت وأصبح رميما؟ قال: «نعم، ويدخلك النار». فالله قادر على أن يجعل العظم الرميم إنسانا، فقد خلقه أصلا من ماء مهين، ثم تطور فى بطن أمه حتى ولد، وصار إنسانا يجادل ربه ويخاصمه، ويطلب منه الدليل والبرهان، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 77 - 79].

فإذا كانت النطفة أصل الإنسان، وسر نشأته الأولى، والله قادر على أن يجعل منها إنسانا، فهو قادر على أن يجعل العظم الرميم إنسانا. استبعد ذلك الكافر إعادة الله ذى القدرة العظيمة، التى خلقت الشمس والقمر، والسماء والأرض، للأجسام والعظام الرميمة، ونسى نفسه الذى خلقه من ماء مهين، وأنه خلقه من عدم، وهو بكل خلق عليم، يعلم العظام فى سائر الأرض، أين ذهبت، وأين تفرقت وتمزقت، يجمعها بعضها إلى بعض، ويبعث فيها الحياة. فلا مفر من الوقوف بين يدى الله للحساب على الصغيرة والكبيرة التى اقترفت فى الدنيا، فكل نفس بما كسبت رهينة، وعمل الإنسان واعتقاده هما المقياسان الجديران بالتقدير والإكرام، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 6 - 11]. وقال تعالى فى آية أخرى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج: 5 - 7]. فى هذه الآيات استدلال على إمكان البعث، وإحياء الناس من قبورهم بتلك الأدلة المشاهدة بين أيدى الناس من واقع تكوينهم فى بطون أمهاتهم، وتطور حياتهم إلى نهايتها، ومن إحياء الأرض الهامدة بذلك الماء الذى يحييها بالخصب والنماء، فالله قادر على إحياء الموتى، وأن أمر الساعة حقيقة لا يصح أن تكون مجالا لشك أو ريبة، وأن الله يبعث من فى القبور لمحاسبتهم على أعمالهم فى دنياهم التى أحصاها عليهم فى كتاب مبين، ولا يظلم ربك أحدا، ولذلك جاءت الآية الكريمة فى سورة يس: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12]، لتفيد قدرة الله على إحياء الموتى يوم القيامة، وأن أعمال الإنسان وأفعاله مسجلة عليه فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسيجزى كل إنسان

بأعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ثم أعقب هذه الآية بذلك المثل وتلك القصة التى تناولت تلك القرية التى حاربت رسل الله إليها، وما كان من وراء ذلك من نتائج بالغة للفريقين، الذين آمنوا، والذين كفروا. 1 - قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: 13 - 27]. أمر من الله لرسوله، عليه الصلاة والسلام، أن يقص على كفار مكة، ومشركى قريش، ومن يناصبونه العداء، وينكرون ما يدعو إليه من دين ورسالة، وإيمان بالبعث والنشور، والحساب يوم القيامة. يقص عليهم قصة تلك القرية الظالمة، التى جاءها رسل الله يبلغونهم دعوة الله، فقوبلوا بالتكذيب؛ لأنهم بشر مثلهم، وكأن الله فى اعتقادهم يجب أن يجعل رسالته فى جنس آخر من الجن، أو من الملائكة، حتى يكون كلامهم مسموعا، ومصدقا، ومسلما بصحته، وكانت المحاجة بين الفريقين، حاول الفريق المؤمن أن يثير فى نفوس أولئك الكفار دوافع الإيمان، بأن الله يعلم حيث يجعل رسالته، وأنهم لو كذبوا على الله فى التبليغ لانتقم منهم، وأنه سيعزهم بنصره وتأييده، وستكون العاقبة لهم، والفرصة سانحة للهداية، فإن أطعتم ربكم، كانت لكم السعادة فى الدنيا والآخرة، وإن لم تستجيبوا كانت العاقبة وخيمة، وكانت جهنم وبئس القرار مثوى لكم. ثم كملت صورة المثل بموقف ذلك الرجل الصالح الذى سمع أولئك الدعاة،

ووعى ما يدعون إليه من أمور صالحات، فدعا قومه إلى الاستجابة لهم وعبادة الله الجدير بالطاعة والعبادة؛ لأنه الخالق القادر، الذى لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وبيده الخير، وهو على كل شىء قدير. أما ما يعبدون من آلهة، فهى عاجزة عن حماية نفسها، وحماية عابديها، ولكن الكفار عاجلوه بالقتل، فأدخله الله جناته جزاء لطهارة نفسه، وثبات يقينه، وشدة تمسكه بالحق، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: 26، 27]. تمنى فى موقفه بين يدى ربه أن يحظى قومه بذلك الظل الظليل من النعيم، بإيمانهم بالرسل، واتباعهم لأوامر الله. هذا مثل مضروب لأصحاب قرية ظالمة، وأمر الرسول بأن يقصها على كفار قريش، فالمواقف متشابهة بين أصحاب القرية وكفار قريش، والأحداث تكاد تكون واحدة، والنتائج أيضا واحدة، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، وما أطلق الله عليه مثلا، فهو مثل لاستجماع شروط المثل فيه كما قدمنا من متمثل له، ومتمثل به، وتصوير حال، وتحقيق هدف. فالعبرة من وراء هذه القصة واضحة، فى الدعوة إلى الاستجابة لكل دعوة بناءة، والإيمان القوى القائم على الدليل والبرهان، وبخاصة إذا كانا مأخوذين من واقع الحياة. وقد أدى هذا المثل الغاية المقصودة من ورائه، فى لفت الأنظار إلى ما حدث قديما من أمور فى مجتمعات لا تختلف كثيرا عما يحدث فى مجتمعات أخرى بعد حين من الزمن قد يطول، وقد يقصر، فالنفس هى النفس، والتفكير يتشابه، ويحتاج الأمر إلى الصبر، ومحاولة الإقناع بالدليل وبالبرهان، ويعرض ما يراد عرضه بأسلوب يجذب الأنظار، ويقنع العقل، ويرضى المنطق، وبخاصة لو صيغ هذا المثل فى ثوب فضفاض من القصص والأسلوب الحوارى الذى تبدو فيه الشخصيات المتنوعة، وما تعرضه من واقع وأحداث تكون بمثابة الدليل والبرهان على ما يعرض من أمور العقائد، وبخاصة الأساسية منها من إيمان بالله وحده، واتباع للرسول فى كل ما يأتى به، الإيمان بالبعث، والحساب، والنشور، الطاعة لله فى كل أوامره. الرسول ما عليه إلا البلاغ، العمل من أجل الآخرة، الجهاد باب من أبواب الجنة.

الترغيب والتحذير:

الترغيب والتحذير: المعركة بين الخير والشر، والحق والباطل، والطيب والخبيث، تدور رحاها منذ أن خلق الله الإنسان من صلصال من حمإ مسنون، وأمر ملائكته بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس، أبى أن يكون مع الساجدين، وكانت تلك بدايات الصراع الذى أدى إلى الهبوط إلى الأرض، بعضهم لبعض عدو، فكانت المعركة ضارية، لا يخمد لها أوار، ولا تطفأ نارها. وقد تتكاثف الظلمات، ويضعف الحق فى فترة من الفترات، ولكن إلى حين، فإن النور لا بدّ وأن ينبثق، ويعلو صوت الحق، وقد كتب الله فى محكم قرآنه: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21]. وقد حفل القرآن الكريم بالآيات التى تحمل فى طياتها كل معانى الخير، والدعوة إلى العمل الصالح، وتحبب المؤمن فى التفوق على شهوات النفس، ولذائذ الحياة التى تطغيها، وتخرج بها إلى دائرة الحيوانية الرخيصة. وأبواب الترغيب كثيرة، تشمل الحياة بأسرها، وبكل ما تحتاج إليه من جهد، وطاقة، وعلم، وتقى، وصلاح، يحقق سعادة النفس فى الدنيا، ويمهد لذلك اللقاء الباقى فى الآخرة، حيث يجد كل إنسان ما عمل من خير محضرا. لذلك كانت الدعوة من الله هى دعوة إلى العمل الصالح، وترغيب فى خير يشمل خيرى الدنيا والآخرة، فى الأوامر التى تدعو إليها، والنواهى التى تنهى عنها، والتكاليف التى تلزم بها، والإتقان فى العمل عن طريق المراقبة لله، وممارسة العبادات، فإن الوقت الذى يقضيه المرء فى العبادة هو شحن لطاقة الإنسان بقوة جديدة، ونشاط زائد، فالصلاة هى أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت حتى يومنا هذا، وقد فشلت العقاقير فى معالجة كثير من المرضى، فلما عجز الطلب تدخلت الصلاة، فأبرأت الكثير من المرضى. وقد يبدو فى ظاهر هذه التكاليف بعض المشقات التى يكابدها الإنسان، أو المتاعب التى يضيق بها حينا، كالامتناع عن الطعام والشراب شهرا من شهور العام، أو الأموال التى يخرجها عن نفسه وماله، ولكن لو نظر الإنسان نظر تبصر واعتبار، لعرف أن الله جل جلاله برّ رحيم بعباده، يدعوهم إلى الحسنى فى كل شىء، وينأى بهم عن الشر،

ويخوفهم من مغباته، وما يجره على النفس من مهالك. وإذا كانت الأساليب المرغبة فى الخير، والناهية عن الشر، قد تنوعت فى أساليب القرآن من أخبار، وقصص، وتذكر لأحوال، وأمر، وتعجب، واستفهام ... إلخ، وكان لها من التأثير ما يملك القلوب، ويصل إلى العقول، فتكون الاستجابة، والإقبال على الطاعة، فإن سوق هذا الترغيب والتحذير فى ثوب الأمثال ما يكون له من الإقناع، وتجلية الأمور الخفية وإيضاحها أكثر من وصف الشيء ذاته، وعرضه عرضا مباشرا، فكأنه يعطى المعنى، والدليل عليه، ويعرض الغائب فى سورة المشاهدة، وهذا سر تأثيره. ومن الملاحظ أن الترغيب فى الإيمان إذا كان مجردا عن ضرب مثل به، ولم يتأكد وقوعه فى القلب، كما يتأكد إذا مثل بالنور، أو بشجرة طيبة، وإذا كرّه فى الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه فى العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة، أو بشجرة خبيثة، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور، وضرب مثله بنسج العنكبوت، كان ذلك أبلغ فى تقرير صورته من الإخبار بضعفه مجردا (¬1). وبعرض هذه النماذج القرآنية المتقابلة تتضح الحقائق، حقائق النفوس، وحقائق الحياة، ويعرف الإنسان موقفه بين يدى ربه فى الآخرة، وليس هناك من رادع عن الشر، وزاجر عن الوقوع فى معصية، من عرض قصة، أو تبيان حالة، كما أنه ليس هناك من داع إلى الخير، ودافع إلى الإحسان، من التمثل بحال من الواقع، وسرد لحقيقة يصحبها الدليل والبرهان. هكذا النفوس جبلت على الاقتداء، والإيمان بالممارسة والعمل، ولذا فإننا حين نعرض للأمثال القرآنية فى هذا السبيل الداعى إلى الخير، فإننا نتمثل الإنسان وما يصدر عنه، وما يحيط به، وما يقع منه، وكذلك نعرض لهذه الأمثال التى تحذر من الشر، والوقوع فى براثنه، والتأثر بمغريات الحياة وشهواتها من مال، وولد، وجنس، وكل ما يجعل للشيطان سبيلا إلى سيطرته على النفس، والمعتقد، والفكر. أتت هذه الأمثال كما سنراها شاملة لجانبى الحياة من خير وشر، ومن فضيلة ورذيلة، حتى يسهل عن طريق الموازنة والمقابلة، الحكم على الأشياء، وبضدها تتميز الأشياء. ¬

_ (¬1) من كتاب هداية المرشدين إلى طريق الوعظ والخطابة، للشيخ على محفوظ (ص 177).

ولا يحتاج هذا الأمر إلى دراسات مذهبية، ولا فلسفات فكرية، بل يصل إلى الاقتناع بها الكبير والصغير، والعالم والجاهل؛ لأنها من واقع الحياة، ومن ممارسات الإنسان، ولا تختلف فى ذلك عقائد، أو نحل، ولا ينكرها إلا كل مكابر، يرى ضوء الشمس، فيعمى عن النظر، ويرى الحقائق، فيغض الطرف عنها. اعتمدت هذه الأمثال على مشاهد من الطبيعة الواقعة تحت أبصار الناس، من زرع، ونبات، وريح، وكلها مشاهد تولد فى النفس اليقين، وتعين على التبصر فى الأمر، والاقتناع بالنتائج، وقد أضيف إلى ذلك مسلك آخر فى الاعتبار، وهو ما حل بالسابقين من تجارب، وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم: 45]، وهو مثل حى مبسوط أمام الأعين، لا يغيب عن أنظار الناس، يعطى دلالته فى كل لحظة، والعاقل من اتعظ بغيره، وهو يقوم على عرض بعض القصص، كما فى قصة أصحاب الجنة. إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ [القلم: 17 - 32]، حرمهم الله من ثمارها، فرجعوا على أنفسهم باللوم، والاعتراف بالخطيئة. وكذلك قصة صاحب الجنتين مع صاحب له من ذوى الإيمان الأول تبطره النعمة وينسى الله، ويعتقد أن ماله أخلده، والثانى معتز بإيمانه، ذاكر لربه، يرى النعمة دليلا على المنعم، وموجبة لحمد الله وشكره: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ

أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً [الكهف: 32 - 44]. 1 - قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم: 24 - 27]. سبق هذا المثل بتبيان مواقف الكفار المخزية فى يوم يتحقق فيه وعد الله الذى كفروا به، وهو يوم القيامة، ولم يجدوا فيه نصيرا يدفع عنهم العذاب، حتى أن الشيطان الذى وسوس لهم وزين لهم المعصية فى الدنيا، نفض عن نفسه مسئولية كفرهم، وحملهم نتيجة أعمالهم، فما كان منهم من كفر، إنما كان بسبب رغبتهم فى الشر، وحبهم للمعصية، فاللوم واقع بهم، ولا لوم عليه، فهؤلاء الكفار يتحملون وزر شركهم وعباداتهم الباطلة، وما يقع بهم من عذاب، إنما هو جزاء ظلمهم وكفرهم. وأما موقف المؤمنين، فهو موقف مغاير لذلك الموقف المخزى، موقف أصحاب الحق، وإخلاص النية، فلهم جزاء النعيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار، يجدون فيها جزاء أعمالهم الصالحة، وتحيتهم فيها سلام. مواقف واضحة الدلالة، ظاهرة الاعتبار لمن أراد أن يذكر، فأخذها من الآيات القرآنية: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إبراهيم: 22، 23]. ويعقب تبيان هذه المواقف المتقابلة هذا المثل القرآنى الذى يتعرض للكلمة، وما لها من نتائج فى النفوس، وتأثير فى القلوب، وتغيير فى الاتجاهات، فالله سبحانه وتعالى

يضرب هذا المثل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا [إبراهيم: 24]؛ ليصوّر للناس سنته الجارية فى الطيب والخبيث فى هذه الحياة بالشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة. فالكلمة الطيبة هى كلمة الحق، وهى أساس الوجود، ولا تستطيع قوى البغى والطغيان أن تقضى عليها، أو هى كلمة التوحيد، فهى كالشجرة الطيبة، ثابتة، مثمرة، متعالية، فبذورها تنبت فى تلك التربة الخصبة، وكذلك الكلمة الطيبة تثبت فى النفوس الطيبة، وفى ظل هذا يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: 27]، والقول الثابت: بكلمات القرآن، وبالعمل الصالح، وبكلمات الإيمان، يكون العون من الله، والتثبت للذين آمنوا. وأما الكلمة الخبيثة، فهى على النقيض من ذلك، هى كلمة الشرك والباطل التى تعمل على إفساد الحياة، وفى نشر بذور الشر فى كل مكان، وفى كل نفس، وهى كالشجرة الخبيثة التى قد تتشابك أغصانها، وتتعالى فروعها، ولكنها لا تثمر إلا ثمرا مرا، ولا تعطى فائدة، وفى نفس الوقت لا تتحمل أية هزة، فلا قرار لها ولا بقاء. وفى ظل هذه الكلمة الخبيثة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم: 27] بسبب ظلمهم وشركهم، واتباع الهوى، وتمكن الخرافات والأباطيل من نفوسهم القلقلة المضطربة، يفعل الله ما يشاء بإرادته المطلقة. مشاهد من قصص المؤمنين والمكذبين، ومصير هؤلاء وهؤلاء، وصور تتضح فيها النفس التى يزكيها صاحبها فيفلح، والنفس التى يسوقها صاحبها إلى الهاوية من خلال ما رأينا فى المثل من مقابلة وموازنة بين حالتين يلمسهما السامع والقارئ، فينحاز إلى ما هو جدير به أن ينحاز إليه من عمل صالح، وابتعاد عن الطالح من الأمر، وقد يفهم من هذا التصوير أن المؤمن مثل الشجرة، لا يزال يعطى من ثماره فى كل وقت، صيفا وشتاء، ليلا ونهارا، وكذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل آناء الليل وأطراف النهار، وفى كل وقت وحين. والكلمة الخبيثة تمثل كفر الكافر، لا أصل له، ولا نبات، ولا فرع، ولا يصعد له عمل، ولا يتقبل منه شىء. وفى هذا المجال يأتى دور العالم والجاهل فى بناء هذه الحياة، وما يؤثران به فى مجريات الأمور، فإذا زلّ العالم زلّ بزلته عالم. فقد يتعرض الغافل والجاهل لسقطات فى الحياة تجر عليهما أوخم العواقب، وقد

يغفر الناس لهما هذه الزلات؛ لجهلهما وغفلتهما، ولكن الذى لا يغتفر أن تقع هذه الزلات ممن يدرك أبعادها، ومن يقصد إلى غايتها، ويميل به الهوى، ويجر على نفسه ومجتمعه ودينه الدمار والهلاك. وفى مقابل ذلك صلاح يؤدى إلى صلاح الحياة والعالم، فهذا العالم بمثابة الرأس من الجسد، والقلب من الإنسان، له أجره المضاعف، وثوابه الكبير بما ينطق به من قول طيب، وما يسطره من فكر. وإذا كان قد بدأ بالإنسان وما يصدر منه من قول وعمل، وما إلى ذلك من مؤثرات فى النفس والمجتمع فى الكلمة الطيبة والعمل الصالح، وفى مقابلهما من كلمة خبيثة وعمل خبيث يؤديان إلى فساد الحياة والنفس، فإنه فى التدرج التالى لهذه الكلمة الطيبة كلمة الحق، وما لها من أثر نافع لا يزول مع الأيام، والكلمة الخبيثة كلمة الباطل الذى يذهب جفاء. تدرج نراه فى ذلك المثل الرائع الذى صورته لنا الآية الكريمة فى تلك الصورة التى استمدت جزئياتها من الطبيعة بما فيها من أرض وسماء، ومن حياة الناس فيما يتخذون من أدوات مستخدمة فى الحياة، كل ذلك امتداد طبيعى لتقوية وتثبيت الفكرة الأساسية، التى بنى عليها المثل السابق من طريق الخير المؤدى إلى الفلاح، وتبيان طريق الضلال والشر المؤديان إلى الفساد. 2 - قال الله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [الرعد: 17]. أتى هذا المثل عقب آية قرآنية حوت كل قيمة بناءة فى بناء العقيدة الصحيحة، من الاعتقاد، والإيمان بالله رب السموات والأرض، وأنه الجدير بالعبادة والطاعة وحده، وأن الانحراف والشرك بالله باتخاذ تلك الأصنام التى لا تضر ولا تنفع، إنما يعد نقصا فى الإيمان والتفكير، وخروجا عن حد الاعتدال، فلا يصح فى حكم العقل أن يتساوى الناقص بالكامل، والأعمى والبصير، والظلمات والنور، وكذلك لا يتساوى من بيده القدرة على الخلق والإيجاد، وغير الخالق، فالله خالق كل شىء وهو الواحد القهار:

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16]. قيم عالية تدعو إلى الإيمان بالله الواحد القهار الذى لا يغلبه شىء، ويحتاج إلى تثبيت من واقع الحياة، كما يظهر ذلك فى المثل القرآنى. فى المثل موقفان متقابلان، للحق فى ثباته وبقائه، وللباطل فى اضمحلاله وفنائه، فالحق مهما توارى زمنا لا بدّ وأن يعلو، والباطل مهما يرتفع فإنه لا محالة زائل، وقد ضرب الله المثل حتى لا ييأس أصحاب الحق، وحتى لا يغتر أصحاب الباطل. يضرب الله بهما المثل من واقع الحياة التى يعيشها الناس، فيرون فيها الباطل وقد ظهر أمره، وفشا فى المجتمع وعلا، حتى أنه يغطى ما عداه من كلمة الحق، ولكنه فى حقيقة أمره زبد أو خبث ما يلبث أن يذهب جفاء، لا حقيقة له، ولا تماسك فيه، فهو كالزبد الذى يعلو فوق سطح الماء، ولكنه لا يثبت معه، يتكوّن ثم يضمحل، وكخبث الحديد الذى يعلو فوق الذهب حين انصهاره. أما الحق، فهو الباقى الساكن الهادئ كالماء الذى يحيى الأرض بعد موتها، فتسيل به الأدوية على قدر الحاجة، أو المصلحة حسبما اقتضته مشيئة الله وحكمته، فينتفع به من مختلف الوجوه، ويمكث فى الأرض، يبقى بعضه فى منابعه، ويسلك بعضه فى عروق الأرض، إلى العيون، والقنوات، والأنهار. وكالمعدن الصريح الذى ينفع الناس فى الحلى، والأمتعة كالأوانى، وآلات الحرب، ويدوم ذلك مدة طويلة. وقد يحسب بعض الناس فى فترات من الزمن أن الغلبة للباطل بحكم ما يرون من سطوات الظالمين، وقهر الرجال، والتحكم فى الرقاب، وأن الحق قد انزوى، فلا تسمح له الحياة بالبقاء، أو التغلب على الباطل وأعوانه. هذا الظن، أو الاعتقاد، فى غير موطنه، فالله قد حكم فى محكم قرآنه بقوله: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81]. وهكذا مصير كل دعوة حقة، وكل معتقد يقوم على أساس، ونهاية كل عمل طيب، وكل قول طيب، ينقذ الإنسان من نفسه، فلا يتملكه الغرور، ولا تتحكم فيه شهوة

تدفعه إلى المهالك. وكم جرّ الغرور على أناس من المهالك، فأودى بهم إلى الجحيم، ومثال ذلك واضح من واقع ما عرض القرآن من صور أولئك الذين استبد بهم الغرور فقتلهم، من قصة قارون الذى دفعه الجهل والغرور إلى قوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78]، فكانت نتيجته فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [القصص: 81] طريق الانهيار الذى يبدو فى الجهالة المهلكة بحقيقة الكون وخالقه، وحقيقة الإنسان وقدراته، وطبيعة النفس البشرية، وما لها من حدود لا تتعداها فى ملكوت الله. هذه هى الضوابط التى يجب على المؤمن بحق أن يتخذ منها سلاحا واقيا ضد نزوات الحياة، وخداع الفكر، ونسيان الله خالق هذه الحياة والجدير بالعبادة الحقة، وإذا تخلى الإنسان عن هذه الضوابط، وتسربت إليه النفس الأمارة بالسوء فى المعتقد والفكر، والعمل، فإن هذا يؤدى به فى النهاية إلى الهاوية، ويخرج من هذه الحياة صفر اليدين خاسرا، لا يملك ما يقدمه بين يدى ربه من صالح الأعمال، وهذا المثل القرآنى يوضح هذه الحقائق. 3 - قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (¬1) [الكهف: 45]. ذكرت آيات قبل هذا المثل توضح حقيقة النفس التى تنسى الله فى وقت الرخاء والنعمة، ولا تذكره جلت قدرته إلا فى وقت الأزمات والشدائد، حين يمسها الضرّ، وتقع بها المصائب فى وقت الرخاء، وإسباغ النعم، تستغرق فى شهواتها ولذائذها، ويتحكم فيها غرورها، ونزوات الحس، وتنسى خالقها الذى أنعم عليها بجليل النعم، وحباها من فضله بالكثير من صحة، وعقل، وتكريم. صاحب الجنة نسى الله فى نعمه الكثيرة، ولم يعط حق الله فى هذا المال لأصحابه من فقراء ومحتاجين يقاسمونه الحياة بما فيها، فأصبحت هذه الجنة خاوية على عروشها، كأن لم تغن بالأمس، ولم يجد من أحد عونا فى موقفه يزيح عنه ما نزل به من بلاء، أو يخفف ¬

_ (¬1) مقتدرا: قادرا على الكمال، ومن جملة الشيء: الإنشاء، والإفناء.

عنه وقع المصيبة التى ألمت به، أو يمد له يد المساعدة فى أزمته؛ لأنه قطع هذه اليد بحرمانها من مال الله، ونفض عنه عون المعينين له بتلك السيئات التى بدرت منه فى حقهم، ونسيانه حق الأخوة والإنسانية لمن يعيش معه فى ظل هذه الحياة التى تحتاج إلى التكافل والتعاضد، والمواساة فى الضراء، والعاقل من عمل لغده وعرف حقيقة حاضره، وأن الأمر بيد الله الذى يثيب على العمل الصالح الباقى إلى يوم الدين. أما ما نراه من مظاهر الحياة الدنيوية، وما بها من مغريات، فهى إلى زوال، ما لم تحط بالشكر، ولم تؤد الحقوق إلى أصحابها، ولم يصحبها غرور النفس ونسيانها لموجدها، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً [الكهف: 42 - 44]. وهذا التيار الذى يسير فيه ذلك المثل القرآنى، وهو علاج ما يبدو فى الحياة من اغترار بظواهرها، وما تزخر به الدنيا من متع وشهوات خادعة للإنسان عن حقيقة نفسه، ونسيان مآله ومصيره عالجه مثل آخر قرآنى، وهو قول الله تبارك وتعالى فى سورة يونس: 4 - قال الله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها (¬1) أَتاها أَمْرُنا (¬2) لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (¬3) كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ (¬4) لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24]. المغريات كثيرة من مال وبنين، وصنوف مأكل ومشرب وملبس، ولكن سريعا ما تنقضى وتزول بهجتها ومناظرها الخادعة، وتنهار أمام أعين من يعرف حقيقتها، بذهاب رونقها وبهائها، فهذه الدنيا بما فيها من زينات ومتع شبيهة بحال تلك الأرض التى أرسل الله عليها المطر، فأنبتت ما يسرّ الناظرين، ثم نزلت بها جائحة من السماء، ¬

_ (¬1) قادرون عليها: متمكنون من الاستمتاع بها. (¬2) أتاها أمرنا: أهلكها الله بقدرته بجائحة. (¬3) كأن لم تغن بالأمس: هلكت فجأة، فلم يبق من ثمرها شىء، حتى كأنها لم تنبت. (¬4) نفصل الآيات كهذا المثل، وما يوضحه من حال الدنيا، واغترار الناس بها، أو نفصل حقائق التوحيد وأصول التشريع، وكل ما فيه صلاح البشر.

فأهلكتها قبل الانتفاع بها، وتحول النبات النضر مهشوما تفرقه الرياح كأن لم يكن، وكان الله على كل شىء مقتدرا، فهو القادر على الإحياء والإفناء، والكل بيده، وإليه المصير. أمثلة شاخصة ناطقة تعرض نماذج أولئك الطغاة الذين يظلمون أنفسهم، وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه بتوحيده وشكره وطاعته، وتذكره فى كل حين، فهذه هى سمات المؤمن الحق، إن أصابته نعماء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، أما من ينسى الله فى وقت النعمة، والراحة، والطمأنينة، ولا يذكره إلا فى وقت الشدة والضيق ووقوع المصائب، فلن تكون حاله إلا حال ذلك النبات الذى صار هشيما تذروه الرياح بفقدان عمله، وضياع ثوابه، وذهاب أجره يوم القيامة. 5 - قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20]. سبقت هذه الصورة الموضحة لحقيقة الدنيا، وما بها من مظاهر الغرور بآيات تبين مواقف جديرة بالإعجاب والتقدير، وأخرى لا ينال أصحابها إلا الخزى، والعذاب المهين. أما مواقف التقدير، فينالها الذين استجابوا لدعوة الله فى الإنفاق فى سبيله، وبذل المال عن طواعية ورغبة فى الأجر من الله، ذلك الأجر المضاعف فى ثوابه ونعيمه، ولأولئك الذين آمنوا بالله وبما أنزل وأرسل، ثم جاهدوا فى الله حق جهاده، وفى سبيل نشر كلمة الله منهم بذل، وعقيدة، وتضحية نفس متكاملة فى إيمانها لا تغتر بما فى الدنيا من مغريات المال، وحب النفس، والشهوات والتفاخر بالأهل والعصبية واللهو والزينة واللعب. أما الذين كفروا بربهم وكذبوا بآيات الله، فقد حرموا هذه المنزلة التى ساقها الله فى أول الآيات، ولا منزلة لهم إلّا فى الدرك الأسفل من النار، ملازمون لها، لا ينفكون عنها بحال. إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ

كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [الحديد: 18، 19]. جاءت آية التصوير للدنيا وما بها من غرور، تحمل فى ثناياها الترغيب والتحذير، فهى توضح لنا مظاهر الاغترار بالدنيا، فمتاعها غرور لا حقيقة له، إن اطمأن بها الإنسان، وجعلها ذريعة للآخرة، ومثلها فى ذلك مثل ذلك المطر الذى يعجب الزارع، والذى أنبت نباتا كثيرا استطال حتى نضج، ثم ما لبث أن اصفر وأخذ فى الجفاف، ثم صار هشيما متكسرا، لا يبقى منه ما ينفع، وفى الآخرة عذاب شديد لمن آثر الدنيا، وأخذها بغير حقها، ومغفرة من الله ورضوان لمن آثر الآخرة على الدنيا. وقال ابن كثير: ضرب الله المثل للحياة الدنيا فى أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة بالمطر الذى يأتى بعد قنوط، فيعجب الزارع نبات ذلك الزرع الذى نبت بالغيث، كذلك تعجب الدنيا الكفار، فإنهم أحرص على كل شىء فيها. ومن خلال هذه الأمثلة العديدة التى ذكرت للدنيا التى تغرر بالإنسان بما فيها من لهو، ولعب، وزينة، وتفاخر بالأنساب والأحساب وكلها على خلاف ما يعتقده الإنسان الجاهل، قوى ضعيفة لا تسانده مساندة حقيقية. إنما العاقل الراشد فى تفكيره هو الذى يعمل لآخرته، كما يعمل لدنياه، وأن يفهم حقيقة ما يدعو إليه من عدم التكالب على حطامها، والتفانى فى جمع المال، حتى لا يكون ذلك سبيلا إلى التقاطع والتباغض بين الناس، فمن يغرق فى حاضره ويغفل عن الآخرة، تصدق عليه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8]. وهو ولا شك يغرر بنفسه، ويجلب عليها المتاعب بفعل ما يتسم بالتهور، والاندفاع، والطيش، وينقلب الأمر إلى حسرة، وندم كفاقئ عينيه عمدا، فلا يبصر طريقا، ويندم حيث لا ينفع الندم. أما قصة ذلك المثل العربى، فكما ترويها كتب الأدب، تتلخص فى أن رواية الشاعر: الفرزدق، قال: أتتنى النّوار زوجة الفرزدق، وقالت: كلم هذا الرجل أن يطلقنى، فأتيت الفرزدق، وقلت: يا أبا فراس، إن النوار تطلب الطلاق، فقال: ما تطيب نفسى حتى

أشهد الحسن، فأتى الحسن بن على، رضى الله عنه، وقال: يا أبا سعيد، اشهد أن النوار طالق ثلاثا، قال: قد شهدنا. قال: فلما صار فى بعض الطريق، قال للنوار: طلقتك؟ قالت: نعم، قال: كلا، قالت: إذن يخزيك الله عز وجل، يشهد عليك الحسن وصحبه، فترجم، فقال: ندمت ندامة الكسعىّ لمّا ... غدت منى مطلقة نوار وكانت جنتى فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه السرار فكنت كفاقئ عينيه عمدا ... فأصبح ما يضئ له النهار ولو أنى ملكت يدى وقلبى ... لكان علىّ للقدر الخيار وما طلقتها شبعا ولكن ... رأيت الدهر يأخذ ما يعار 6 - قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18]. أتى المثل القرآنى عقب آيات فضحت موقف أولئك الكفار، الذين ناصبوا الإسلام العداء، وظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، ولم يتقبلوا دعوة الحق، بل عاندوا، فهؤلاء ينتظرون يوما شديدا يتجرعون فيه كأس المهانة والذلة، ولا يستطيعون له دفعا، فهو يوم القيامة بما فيه من عذاب غليظ نتيجة أعمالهم السيئة والظالمة. وقد عبرت الآيات عن هذا كله تمام التعبير فى قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 15 - 17]. أما ما كان لأولئك الكفار من أعمال تبدو فى ظاهرها خيرة وصالحة، فيوضحها المثل القرآنى الذى أتى؛ ليبين لنا حقيقة هذه الأعمال، وأنها لا قيمة لها ما لم تكن مستندة على باعث نبيل يدفع إليها من إيمان، وعقيدة صحيحة، فهؤلاء الذين يعبدون غير الله، ويكذبون الرسل، ثم يقومون بأعمال فى ظاهرها الخير، والمنفعة، والعمل الصالح، تضيع كلها سدى، ولا ينتفع أصحابها بشيء من نتائجها التى تشبه ذلك الرماد الذى تنثره الرياح فى اليوم العاصف فى كل مكان، فلا قيمة لهذه الأعمال التى قاموا بها فى دنياهم ما لم تستند إلى إيمان حقيقى بالله، وبموجد هذا الكون، والتطابق بين

الظاهر والباطن هو دعوة الإسلام الحقيقة، ولذلك فإن أولئك الذين تعبر عنهم الآية القرآنية الآتية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة: 204، 205]، لا مكانة لأولئك الناس الذين لهم ظاهر يغرى، وباطن يؤذى، وكلاهما من الضلال البعيد، كما عبرت الآية فى المثل القرآنى. 7 - قال الله تعالى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم: 45]. سيق هذا المثل فى جو يبرز موقف الكافرين الذين ظلموا الرسول، فلم يؤمنوا بما جاء به، وظلموا أنفسهم، فألقوا بها فى المهالك جزاء عنادهم وإصرارهم على الباطل، ومتابعة الشيطان، فالله سبحانه وتعالى ليس غافلا عما يفعل الظالمون، وسيكون لهم ذلك الجزاء الذى يتناسب مع أعمالهم فى يوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعى رءوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم، ويتملكهم الفزع والرعب، ولا يستطيعون لهذا العذاب دفعا، حتى أنهم يتجهون إلى الله بالدعاء أن يكتب لهم حياة دنيوية أخرى يصلحون فيها أحوالهم، ويتبعون الرسول، ولكن هيهات، فقد بان منهم الكفر، وظهر منهم العناد، ووضحت حقيقتهم فى معارضتهم لآيات الله، واعتقادهم بأنه لا قدرة لأحد على إماتتهم، وأن دنياهم هى آخر المطاف، فلا رجعة مرة أخرى، ولا حياة ثانية يؤمنون بها. كل ذلك تناولته الآيات القرآنية، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 42 - 44]. هذه الآيات مهدت لما يأتى فى المثل، فهى تجعل اللاحق كالسابق فى اعتقاده، وموقفه، وعقابه؛ لأنه ارتدى ثيابه، وسلك طريقه، وأخذ بتعاليمه، وصد صدوده، وسكن فى مساكنه. فهذا المثل يضرب لكل طاغ ومتجبر يسكن مساكن الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم، فكانت عاقبتهم الهلاك، ومع ذلك لا تؤثر فيه تلك الآثار الباقية التى تتحدث

الإنفاق فى سبيل الله:

عن أولئك الهالكين وتاريخهم، فلا يتعظ ولا يعتبر. يضرب الله المثل بما حل بالأمم السابقة، وبما أنزل عليها من عقاب جزاء كفرانها بآيات الله، وبما أرسل من رسل، فظلموا أنفسهم وعرضوها لعذاب الله فى الدنيا بتلك النقمات التى حلت بها، وبما أنزل عليها من عقاب، حتى صارت إلى ما صارت إليه. ومع ذلك لا يجد فيها أولئك المشركون بالله فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينذرهم ويخوفهم، أما كان الأجدر بأولئك المشركين أن يجدوا فى ذلك درسا لهم واعتبارا بما حدث؟ إنه أمر لا يحتاج منهم إلى كثير تفكير، وإعمال عقل، فهم ولا شك خلفاء للسابقين الذين كانت لهم تلك الديار التى لحقها الدمار والهلاك، وسيكون المصير هو المصير، والعقاب هو العقاب، ولكن هل من معتبر؟. تحذير وتخويف يأتى به المثل لمن سبق، ويأتى به أيضا لمن لحق، ولمن سيأتى بعد ذلك. إن يد الله غالبة، وليس فى مقدور أحد مهما طالت قوته، أن يفلت من عقاب الله، وأن العذاب لكل كافر لاحق مهما اختلف نوع الكفر، وكثر النسيان لما أوجد الله من نذر، ودروس تفيد من له مسكة من عقل، وقدرة على التفكير، والنظر فى العواقب، وما لنا لا نتعظ ونحن نرى فى كل يوم أناسا على آلة حدباء محمولين، يطويهم الثرى، وتغمرهم مياه البحار والمحيطات، وتنزل بهم صواعق السماء، وبراكين الأرض، وأمراض العصر الظاهرة والمستترة، وما يجدّ من أشياء تغيب عن العقل، ولا يستطيع لها فهما أو تعليلا. ويكفى أن يردد المرء قول الله مالك الملك، ومدبر الأمر: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [إبراهيم: 45]. سكن واقتداء بالظالمين، وظلم للنفس، ومكر، وجهالة أدوات للتعطيل، والتعرض للهلاك، يقوم بها ذلك الإنسان الغائب عن وعيه، السادر فى أخطائه، فكيف يكون المصير؟ وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [الليل: 11]، صدق الله العظيم. الإنفاق فى سبيل الله: لم تحظ دعوة بعد دعوة التوحيد بمثل ما حظيت به تلك الدعوة البناءة للمجتمع الإسلامى، أفرادا وجماعات، دعوة أخذت بحجزه عن الوقوع فى الهاوية والانهيار، فى

وقت اختلت فيه الموازين، وتفشت فيه عوامل الفساد فى كل شىء، فى معتقداته، فى اقتصادياته، فى طبقاته، فى نظمه وعاداته. وإذا رجعنا إلى التاريخ السحيق قبل بعثة الرسول، عليه الصلاة والسلام، وفى أيام بعثته، وجدنا دولا كبرى تتمثل فى فارس والروم، ووجدنا أنظمة رأسمالية بشعة بكل طغيانها وتحكماتها، واستغلالها لكل جهد وحق، وإهدارها لكل قيمة من القيم النبيلة فى سبيل تحقيق أهواء حكامها، وشهوات أصحابها، ونظرتهم الطبقية المهينة، كما نجد فى صفوف هذه المجتمعات أيضا طبقة العبيد الذين يكدون ويكدحون، ويحرمون من أجورهم، فلا حق لهم فى مال، ولا حق لهم فى تملك، وإنما إذلال لآدميتهم وكرامتهم، واستغلال بشع لجهدهم وجهدهم، وحرمان من التملك الذى هو سمة المخلوق البشرى الذى خلقه الله وميزه على بقية المخلوقات. وشبيه بتلك المجتمعات الكبرى المجتمعات العربية، وما بها من أوضاع لا تختلف عن تلك الأوضاع السيئة المزرية، ففيها الإقطاع بكل صوره وأشكاله، الطبقات من سادة، وأشراف، وعبيد، وألوان، وقبائل، وحضر، وبادية، أدت كل هذه الاختلافات إلى تباين شاسع يعيش فيه المجتمع العربى، ويمزق صفوفه، ويسرع إلى انهيار بنائه. لذلك ساءت فيه أوضاع القوم، ولم يبق إلا ذلك البصيص من النور الذى يشع فيضعهم على الطريق، ويأخذ بأيديهم على أول درجة من درجات الفهم الواعى لروح الدعوة المنتظرة، دعوة السماء إلى الأرض، دعوة الإسلام، بدأ ذلك بتلك الدعوات السماوية التى أرادت أن يكون بناء تلك الأمة الجديدة بعيدا كل البعد عن روح التكليف والفرض والإلزام، وهى أمور يأنف منها الإنسان، أى إنسان، فما بالك بالعربى الذى يجد حريته وتحقيق وجوده فى الانطلاق فى أرضه وسمائه، دعوات إلى الحب والتآلف، وهو الهدف الأول للدعوة الإسلامية، أن توجد روح المحبة فى النفوس، وتؤلف بين القلوب برباط متين لا تنقضه الأيام. لذلك كانت الدعوة إلى البذل والعطاء، والإنفاق فى سبيل الله، تتكرر فى كثير من المواطن، وتتفق فى روحها وأهدافها، وتثير فى المؤمن دوافع الشفقة، والإحساس بما يفرضه الواجب عليه حيال غيره فى المجتمع والأمة، وحيال الأفراد والجماعات، السبل كثيرة، وتبقى أن تلتقى معها النفوس الكثيرة أيضا فى إنفاقها وبذلها، وكل ما يعلى من

شأن الأمة، ويؤدى إلى نفعها، فهو أمر من الله، وفى سبيل الله، من إعداد جيش، وعتق رقاب، ونشر دين، ومقاومة لظلم، وإنشاء مدارس، وملاجئ، ومستشفيات، ومؤسسات تخدم المجتمع ... إلخ. إنفاق خالص لوجه الله، لا يحدد بكم، ولا توضع له مقاييس، إلا ما يضعه المؤمن لنفسه، وما يتفق مع رغبته المحبة للخير، المتعاونة على الحق، والقاضية على تلك الرواسب القديمة التى حملها ذلك الجيل من ماضيه، فى أحقاده وكراهيته، والإنسان الذى يبخل بماله أو يكنزه، إنما يؤدى إلى تعطيل الحياة، فالمشروعات التى تخدم المجتمع والكثيرة التكاليف إنما تحتاج إلى مال سائل يساعدها على النهوض والكمال، وحبس المال إنما هو تعطيل لتلك المرافق أن تقوم بدورها، لذلك كانت الآيات القرآنية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34، 35]. استجاب المؤمنون لهذه الدعوات، وتلاقت مع نفوسهم وقلوبهم المحبة للخير، والبذل، والعطاء، فكانت تلك النماذج الرائعة من الصحابة الذين بذلوا كل مالهم فى سبيل الله، فقد رأينا عثمان بن عفان، رضى الله عنه، يجهز جيش العسرة من ماله، ورأينا غيره ينفق ماله فى سبيل إطعام الجياع عام الرمادة، ولكن قد تضن بعض النفوس بمالها، وتبخل بالعطاء، فالإنسان خلق قتورا، ولذا فقد فرض الله الزكاة التى تؤخذ من مالهم وترد على فقرائهم بطريقة معينة لا تنقص أبدا، ولا يكمل إيمان الفرد إلا إذا أعطاها وقدمها. فرضها الله سبحانه وتعالى فى الأموال، والزروع، والثمار، وفى الغنم، والماشية، وفى الذهب، والفضة، وجعل لذلك أنصبة معلومة، وعاقب من قصر فى أدائها، بل لقد حارب أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، المرتدين الذين أنفوا أن يخرجوا الزكاة، واعتبروها جزية، حاربهم وقضى على المانعين لها؛ لأنها ركن من أركان الدين، وهى طهرة للمال، تنفى خبثه، وتعين على بناء الحياة والمجتمع، وهى حق للفقراء والمحرومين، لذلك كانت فرضيتها إيذانا ببداية جديدة لمجتمع جديد متماسك، كل فرد فيه له حقوقه قبل الآخرين، وليس لأحد أن ينفرد بشيء لا يعطى حقه للحاكم وولى الأمر.

وبذلك الطريق الذى رسمه الله سبحانه وتعالى استقام أمر الجماعة المسلمة، ونجح المؤمنون فى إقامة ذلك الصرح المشيد الذى قاوم الطغاة والبغاة، وكانوا رسل هداية وإنقاذ للمحرومين والمستعبدين فى مشارق الأرض ومغاربها. ولم يتأخر بنا الزمن، ولم تضع فرص الحياة الناجحة أمام أعيننا إلا حين فرطنا فى أداء الواجبات التى أتى بها القرآن الكريم، وتراخينا فى القيام بتكاليف الله وأوامره وأركانه كما يجب أن تكون. إن الله سبحانه وتعالى بما فرضه من فرائض، وبخاصة الجوانب المالية والمادية التى يلتزم بها المؤمن، لا يقصد إلى التضييق على النفس، ولا تعذيب الإنسان، وإنما هو اليسر كما قلنا سابقا، والنظرة إلى الجماعة التى تحتاج إلى كل لبنة صالحة فى هذا المجتمع، ومن هذه المتطلبات الصغيرة التى يخرجها المسلم من ماله وزرعه، إنما يتكون ذلك الصرح الكبير الذى لا يهتز ولا تضطرب أركانه أمام أحداث الدهر. ولننظر إلى هذه الآيات فى مواطنها العديدة، والتى تعطى صورة حية مؤثرة فى نفس المؤمن، آيات حوتها أمثال قرآنية عالجت أمور المال، وكيف يستغل، وكيف يخرجه المؤمن؟ وأثر ذلك فى الدنيا والآخرة. 1 - قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]. جاء المثل القرآنى عقب آيات تبين موقف إبراهيم، عليه السلام، الإيمانى من ربه، يطلب منه المعرفة؛ لأنه مصدر المعرفة فى اليقين، معرفة كيفية إحياء الموتى، ولم يكن ذلك عن شك فى الإمكانية، أو زعزعة فى العقيدة، وإنما لزيادة الطمأنينة فى القلب المؤمن. وهكذا يكون المؤمن فى كل مواقفه، يطلب الزيادة والطمأنينة فى العقيدة، والتثبت من الفكرة الصالحة التى تعود على صاحبها باليقين والثواب العظيم. وما حب الإنسان للمعرفة، والعلم، وزيادة اليقين، إلا طريق للفضل، وزيادة الثواب، قال الله تعالى فى هذه الآيات: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَ

إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260]. ثم أتى المثل الذى يعالج حب المال، وكيف يكون هذا الحب طريقا أيضا إلى زيادة الفضل والثواب، فقد طبع الإنسان على حب المال، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8]، ولذلك تتحكم فى نفسه شهوة الشح به، والضن عن الإنفاق، وتتحكم فيه الأنانية، والمصلحة الخاصة، فيبخل ويحرم نفسه من ذلك الثواب الذى أعده الله، ووعده به فى دنياه وأخراه. وقد صورت الآية القرآنية هذه النزعة الشحيحة فى قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38]. والإنسان مع هذا الشح والبخل، فقير إلى الأجر والثواب، وبحاجة إليهما، كما هو بحاجة إلى المال، وحاجته إلى الأجر والثواب أكثر، لذلك كانت الدعوة إلى الإنفاق، وما يترتب على ذلك من مضاعفة الأجر فى تلك الصورة المشرقة التى عرضتها الآية القرآنية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ [البقرة: 261]، فتلك الأموال التى تنفق فى سبيل الله، وفى سبيل مرضاته، لن تضيع هباء، بل ستكون مضاعفة الأجر والثواب حسب قوة الإيمان فى صاحبها، وحسن نيته، وعمق إخلاصه، كتلك الحبة التى بذرت فى أرض خصبة، فتأتى بتلك الغلة المضاعفة. لا حرج على الله فى أن يضاعف الأجر حتى على الشيء القليل، ففضله واسع الرزق، عليم بنوايا المنفقين، ويعطيهم أجورهم حسب إخلاصهم، ومن يبدأ الطريق فله أجره، وأجر من يستن بسنته، لا ينقص ذلك من أجورهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك من عاقل يسمع هذه الدعوة ولا يبادر إلى مصلحة نفسه بالأجر المضاعف فى دنياه، والثواب العظيم فى أخراه، ف لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92]، وكما قيل فى المثل العربى: رب زارع لنفسه حاصد سواه. فالإنسان الجدير بهذا الاسم لم يخلق لنفسه، وإنما خلق لينفع نفسه وينفع غيره ممن يعيش معه أو يأتى بعده بأوجه النفع العديدة، من مال، وعلم، وخلق، والعمل الصالح

يصل من صاحبه إلى الآخرين، فيتأثرون به، ويقتدرون، ويعملون، وقد عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه عن الجليس الصالح: «إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحا طيبة». وهكذا كانت الحكمة الإلهية من وراء الزكاة المفروضة لإعادة الاعتدال إلى تلك المجتمعات الخربة، التى تبدو فى تفاوتات عجيبة، ومستويات متناقضة، تئن من كثرة ما بها من أمراض اجتماعية واقتصادية. إعادة التوازن فى هذه المجتمعات لا يكون إلا بالعطاء الناجم عن الاقتناع، والبذل للحق المعلوم الذى فرضه رب العباد، وهو العالم بالحقائق، الخبير بما يصلح البشر، ويزيل ما بها من أحقاد وكراهية قد تؤدى إلى أوخم العواقب، من قتل، وحروب، وصراعات عديدة، تأكل الأخضر واليابس. 2 - قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [البقرة: 264]. الجو العام للآيات السابقة للمثل هو الدعوة للإنفاق فى وجوه الخير، وفى سبيل الله، وبذل المال، وإعطاء المحتاجين، وإخراج حق الله فى هذا المال الذى أنعم به على الإنسان وجعله مستخلفا فيه، يخرجه عن طيب نفس، وغير مقرون بمنّ يضيع من ثوابه، أو أذى يؤلم نفس الآخذ، وفى ذلك الثواب العظيم من الله سبحانه وتعالى، ولا خوف على المنفق من ضياع مال فى الدنيا، أو حرمان من ثواب الآخرة، بل فى هذا العمل سرور نفس، وطمأنينة قلب، ورضا عن الفعل والعمل، وخير للإنسان الذى لا يملك ما يقدمه أن يرد ردا جميلا، فلا يلفظ بما يجرح كبرياء الإنسان، أو يهين كرامته. قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة: 262، 263]. يعرض المثل القرآنى صورة تلك النفس الإنسانية التى تصدر أعمالا خيرة، وتبذل المال، وتنفق الكثير، ثم تتبع ذلك بما يطفئ نور العمل الذى قدم، بقول خبيث، ولفظ جارح، وعمل سيئ، يذهب الثواب، ويضيع الأجر، فالمرائى وما ينفقه كمثل ذلك

ما المقصود من الصدقة؟

الحجر الناعم الذى يتراكم عليه تراب ناعم، ثم ينزل عليه مطر شديد أذهبه، ولم يبق منه شيئا، فالمراءون لا يستطيعون الحصول على شىء من ثمرة إنفاقهم إذا أصابهم غضبه تعالى، أو أحبط أعمالهم، كما لا يستطيع الحجر إمساك ما عليه من التراب إذا أصابه مطر. ما المقصود من الصدقة؟ أن ينظر فيها إلى صالح الفرد، فتخفف من بؤسه، وتعالج من حاله، وترفع من معنوياته، وتقضى عنه حوائجه التى يحتاج إليها كما ينظر فيها إلى صالح المجتمع والأمة بتحقيق المصالح العامة، والمشاركة فى المشروعات الخيرية التى يعود نفعها على الجميع، بذلك يكون المتصدق قد أصاب الهدف، وحقق الغرض، أما إذا كان يبغى من وراء ذلك المراءاة للناس، وطلب السمعة الحسنة بين الآخرين، بأنه رجل محسن، وصاحب فضل، أو يلحق ما أنفق إيذاء لمشاعر الآخرين الذين قدم لهم معروفا، فمثله فى عدم انتفاعه بما عمل، بذلك الحجر الأملس إذا كان عليه شىء من تراب، ثم أصابه مطر غزير أزال عنه ما أصابه، فعاد أملس كما كان. وكذلك الذى يتبع ما أنفق بالمنّ والأذى، أو المرائى بعمله، قد وضع نفسه موضع المهانة وغش نفسه، وأظهرها على غير حقيقتها، ولا ينتفع بشيء من صدقاته، بل يجلب المقت لنفسه من الناس، والذم من المجتمع، وضياع الثواب فى الآخرة. وهكذا يكون الجزاء والثواب، أو العقاب والحرمان، بمقدار النوايا الطيبة، والرغبات الصالحة، ولن يجنى الإنسان من عمله إلا ما عمل، والعاقل من يحذر تعريض نفسه لمواقف يجد فيها حطا لكرامته فى دنياه، أو يطأطأ الرأس أمام من يملك عليه أمره، ويحصى عليه هفواته. 3 - قال الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 265]. فى الآيات السابقة ظهرت موبقات العمل الصالح، وعوامل محقه من رياء أمام الناس، وطلب للسمعة، ومنّ بتعداد النعم التى قام بها للمنعم عليه، وأذى من لفظ جارح أو قول غليظ يؤلم النفس ويجرح الكرامة، وفى هذا المثل المكمل تجرى تلك

الموازنة والمقابلة بين حالتين: سابقة ولاحقة، ففي هذا المثل نرى كيف يحفظ الثواب لصاحبه، ويدخر له فى دنياه وآخرته، لا يضيع عليه شىء من عمله وجهده. عرض المثل صورة للمخلص فى صورة ناطقة بالعمل، والخير، والأمل، والإنتاج، صورة تلك النفس الخيرة التى تبذل ما بيدها، وتنفق ابتغاء مرضاة الله، ودليلا على تمكن الإيمان من القلب هذه النفس التى استكملت عناصر نجاحها مادة وروحا، كتلك الجنة التى استوفت كل عناصر الخصب، والحياة، والجمال، فى موقعها الفريد، ووفرة المياه، وما بها من شمس، وهواء، وشجر، ثم نزل عليها مطر شديد، فأدى ذلك كله إلى ثمار مضاعفة، وخير كثير، فالجنة تثمر كثيرا، قلّ المطر أو كثر، وهكذا نفقات المخلصين تنمو عند الله العليم بدوافع كل ذلك من إخلاص فى النية، ورغبة فى النفع، قلّت هذه النفقات أو كثرت، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فهو عليم بمن خلصت قلوبهم فى الصدقة، فلم تبتغ رضا أحد غير الله تعالى، فيجازيها على إخلاصها واحتسابها الخير لوجه الله. 4 - قال الله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 266]. صورة مكملة للصورة السابقة، وتمثل نهاية النفقة، والصدقة التى اتبعت بالمنّ والأذى أو بالمراءاة، تلك النهاية التى هى المحق الكامل حتى لم يبق من أثرها شىء يفيد صاحبها، فأصبح عاجزا لا يجد ما يستند إليه فى موقفه، فهو شبيه بذلك الشيخ الفانى الذى كبرت به السن، واحترقت جنته التى يعتمد عليها فى معاشه، وكبرت عياله، وقلّ كسبه، فلا يملك من إنتاجها شيئا. موقف مؤلم لذلك الذى قدم الحسنة، وأتبعها بما يمحقها، كتلك الجنة التى أتى عليها الإعصار بناره المحرقة، فى وقت الحاجة إليها، ولا يستطيع لذلك دفعا، أو لها إنقاذا. وقد يكون المحق فى الدنيا، فالذى ينفق ماله يكون له من الجاه والسلطان، ما يرفع من مكانته فى مجتمعه، ويفتح له الأبواب المغلقة، ويقضى مصالحه المادية والدنيوية، فإذا ذهب ماله، ذهب جاهه، واحتاج إلى ما غرست يداه، فيحول دون ذلك ما كان له من منّ ماحق، أو أذى، أو رياء، فيحرقها.

وكذلك عاقبة أهل الرياء والمن، تبديد للجهد، وضياع للثواب، وشعور بالندم، والحسرة على ما فات. والجدير بالمؤمن الخائف من ربه أن يقدم لغيره ما يحفظ عليه كرامته فى دنياه وأخراه، فلا ينطق إلا صدقا، ولا يقدم صالحا. والسخاء الحقيقى ما خلص من تلك المعكرات، والشوائب التى تضيع الثواب. والسؤال الذى يطرح نفسة الآن: كيف يستثمر المؤمن أمواله؟ إن الدعوة للإنفاق، والعطاء، وفرض الزكاة فى أموال الأغنياء لتعطى لفقراء المسلمين، وأصناف المصارف التى حددها القرآن الكريم، كل ذلك ليس سبيلا إلى السرف والتبذير وتضييع المال، وإنفاقه فى وجوه غير مشروعة، وتبديد له فى غير فائدة، وإنما ذلك يعتبر نوعا من الاستثمار المحقق الفائدة، الذى يعود على صاحبه بالخير والفائدة، فالمال ينمو بالزكاة، ويسجل لصاحبه الأجر فى الدنيا والآخرة، وهذا نوع من الجزاء لن يتحقق فى أى لون آخر من ألوان التبايع والشراء. ولكن أيكتفى بهذا العطاء القاصر على إخراج حق معلوم للسائل والمحروم؟ أو يمكن أن يضاف إلى ذلك مصارف أخرى تحقق فائدة أعم وأشمل؟. إن مقتضيات الأحوال الآن قد اتسعت فى احتياجات أفرادها، وإسهام رءوس الأموال فى تهيئة الوسائل التى تعجز الحكومات عن الوفاء بها، لضيق إمكاناتها المادية، وعجز مواردها عن تلبية رغبات الناس، وما يجدّ من أمور فى الحياة. إن نظرة واعية لما يكابده المجتمع من أزمات اقتصادية، واجتماعية، وصحية، تلقى على عاتق كل مسئول أن يكون إيجابيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالمسئولية ليست قاصرة على الحاكم ومن يشغل المناصب المسئولة، وإنما يتعدى ذلك إلى النظرة الشاملة التى حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه: «كلكم راع، وكل راع مسئول عن رعيته»، فصاحب المال راع، ومسئول عن تصريف ماله واستثماره فى وجوه تعود بالنفع على نفسه وعلى مجتمعه الصغير والكبير، فالإسهام فى إعداد المشافى، وتهيئة الأماكن والأدوية؛ للقضاء على الأمراض المتفشية فى المجتمع، والقيام بدور إيجابى فى تعليم الأمة، والقضاء على الأمية، وكذلك مساعدة الحكومة فى مشروعاتها الكبرى التى تعجز عن القيام بها بمفردها، إنما هو نوع من الاستثمار المطلوب فى المال الذى وضع

بين أيدينا، وتحملنا أمانة إنفاقه فى الوجوه المشروعة. إن مجالات الاستثمار عديدة، ويستطيع كل صاحب مال أن يقدم الكثير من الفكر البناء الذى يطور المجتمع، ويقدم المال الذى يقضى على البطالة المتفشية فى المجتمع، ويهيئ المجال للسواعد الفتية أن تعرق فى استصلاح الأرض، والقضاء على الإدمان، وحل أزمة الإسكان، كلها استثمارات تنبثق من روح الدين، وتتفق مع أهدافه ومراميه، وتتمشى مع حاجيات المجتمع، وتقتدى بما فعل الصالحون من آباء لنا وجدود، عرفوا حق الله، وحق العباد، وحق النفس، فأعطوا لكل ذى حق حقه. 5 - قال الله تعالى: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران: 117]. سيق هذا المثل بآيات تعرض لنا حال من سبقنا من أمم سارت على النهج، فكان منهم من يتلو آيات الله، ويؤمن بالله واليوم الآخر، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويسرع إلى عمل الطاعات، فكل هذه الأعمال التى قاموا بها، لها أجرها وثوابها عند الله سبحانه وتعالى، وهناك أقوام آخرون لا يرتفعون إلى مستوى أولئك السابقين فى جهادهم، وأعمالهم الصالحة، مع تشابههم فى امتلاك المال، وكثرة الأولاد، والتمتع بأطايب الحياة وما فيها، ولكن الطريق يختلف، والنفس غير النفس. قال الله تعالى فى حق الفريقين السابقين: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران: 113 - 116]. ثم يأتى بعد ذلك المثل القرآنى، ليعرض حال أولئك الكافرين الذين كانوا حريصين على أموالهم، وأولادهم، وحياتهم، وأنفقوا بعض أموالهم فى الخير، بحال تلك الريح ذات الصر المهلكة للزرع، فهم لا يستفيدون منها شيئا، وليست مانعتهم من الله، وهم أصحاب النار، وكل الذى بذلوه من مال وأنفقوه، إنما ذهب أدراج الرياح وهلك،

فليس له أثر، حتى ولو أنفق فى مجال الخير. ومن المفسرين من جعل هذا فيما ينفقونه فى عداوة النبى صلى الله عليه وسلم ومقاومة دعوته، سواء كان المنفقون هم مشركى مكة، أو اليهود، أو المنافقين، رياء أو تقية، وقد وصف الله هؤلاء الذين أهلكت الريح حرثهم بأنهم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عقوبة لهم؛ لأنهم اختاروا لأنفسهم الضلال، أو إفادة أن المنفقين لا يستفيدون شيئا؛ لأن حرث الكافر يذهب، ولا منفعة له فيه فى الدنيا والآخرة، بخلاف حرث المؤمن، وبذلك يتقرر أن لا جزاء على عمل، وأن لا قيمة لعمل إلا إذا ارتبط بمنهج الإيمان، أو باعثه الإيمان. وهناك شىء آخر نستفيده من هذا المثل القرآنى، أن الكوارث والمصائب قد تحل بأموال الناس من إهلاك حرث، أو فقدان نسل، عقوبة على ذنوب اقترفوها، أو نتيجة لأسباب خلقها الله بحكمته تبعا لارتباط الأسباب بالمسببات، مثل ما حل بالسابقين من طوفان مغرق، ونار محرقة، وإهلاك بالجراد، والقمّل، والضفادع. حقا وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران: 117]، صدق الله العظيم. ومن هذا التتابع فى الآيات القرآنية نرى احتفال القرآن بالجانب المادى الذى ينفع الفرد والمجتمع، والحياة بكل متطلباتها، فالقرآن قد نزل لبشر فيهم القوة والضعف، والغنى الفقر، وذلك ليتسامى بهم عن شهوات النفس ولذائذها إلى ما هو أسمى، من جعل المال فى خدمة الإنسان، وتحرير الإنسان من ربقة المال. والإيمان بإله واحد، يستلزم بأن الكون له قواميس ثابتة، وأن البحث وراءها يؤدى إلى الإيمان بالقدرة الإلهية المسخرة لهذا الكون، والخضوع لكل ما يأمر به الله من أوامر لصالحه، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 11 - 16]. وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيهم الأغنياء والفقراء، جمعتهم معا آصرة الأخوة، يؤاكلونهم ما يأكلون، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] على حين كان معسكر قريش على خلاف ذلك، واشتد الصراع بين المعسكرين حتى كانت النصرة للدين الجديد الذى لا يعترف بالتفرقة، أو التمييز لأحد على آخر إلا بمقياس التقوى والعمل الصالح. ونزلت فى ذلك المعسكر القرشى وزعمائه آيات القرآن الكريم: أَرَأَيْتَ الَّذِي

يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [الماعون: 1 - 7]. ونزلت سورة: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد: 1 - 5]. عرفت قيمة المال الحقيقية عند أصحاب محمد، فاستخدم فى وجهه الأمثل لنفع الحياة، وتسيير الدعوة، والأخذ بيد الفقير والمحتاج، حتى أن الغنى منهم كان يخرج من ماله ما يكفى لسد حاجة جيش يتأهب للغزوة، كما فعل عثمان، رضى الله عنه، فى جيش العسرة، وكذلك غيره من نماذج الصحابة. أما تلك النماذج الباهتة، والواهية، الفارغة البال من هموم الناس، من أمثال القرشيين الذين ضنوا بمالهم، وحسبوا أنه طريقهم إلى الخلود، والبعد عن العذاب، وكثير غيرهم ممن هم على شاكلتهم فى العصور المتتابعة، وفى عصرنا الحاضر وفيما سيأتى، فهؤلاء قد حرموا لذة الاستمتاع بالنعمة حينما تبل ظمأ عطشان، أو تسد حاجة فقير، أو تستعمل فى عمارة مسجد، أو تعليم طفل، أو إقامة مبنى، أو زراعة أرض، أو إنفاق فى جهاد فى سبيل الله، وكل هذا مسارب حقيقية تنساب إليها نعم الله على عباده، فتقيم الحياة الخصبة التى يجب أن يحياها المؤمن. بتلك الدعوات التى ترغب فى الخير وتدعو إليه، وتعمل من أجله، وتبصر بالطريق إلى تحقيقه فى الحياة من كلمة طيبة، وعمل مثمر بناء، وجهاد فى سبيل الحق ونصرته على الباطل وشياطينه، والتزام بالصبر، وتحمل للإيذاء فى سبيل الفهم لحقيقة هذا الوجود، ولطبيعة النفس المؤمنة. وكذلك التحذير من السير فى طريق الباطل، وضياع الأعمال، والخداع بمغريات النفس من شهوات، وأموال، ولهو، ولعب، ولجوء إلى الظالمين، والسلوك مسالكهم فى تيارات الحياة المختلفة. كل ذلك عرضته الأمثال القرآنية فى تعددها وتنوعها، وكل هذا من أجل الإنسان المؤمن، والحياة الإسلامية الحقيقية التى يدعو إليها الإسلام، كحياة جديرة بالنفع والاستمرار حتى يأذن الله، حياة قائمة على أسس فاضلة من التعاون والتآزر بين الكبير

النفس الإنسانية:

والصغير، والغنى والفقير، والقوى والضعيف، وتضامن فى جميع الأوقات والأزمات على مستوى المجتمع والعالم الإسلامى، فلا تكون هناك دولة فقيرة ترزح تحت نير الجوع، والحرمان، والفاقة، والعوز، وأخرى تنعم بطيبات الحياة، وما بها من ترف وتخمة فى المأكل والمشرب والمسكن. أفلا نتعلم من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أول درس له فى بناء المجتمع الفاضل قائم على التقوى والإيمان؟. ألا نرى كيف استلب الأحقاد من الصدور، والغل من القلوب، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9]. تطبيق جدير بالالتفات والأخذ، يقوم على المال وتثميره، وإنفاقه فى وجوه الخير، وإبعاده عن المظالم وما تجره من طحن للناس واستبعاد لأجسامهم وجهدهم. هذه هى دعوات الإسلام إلى إنفاق المال واستغلاله، والترغيب فيه، والتحذير من مغبات الشح والبخل، وإلقاء النفس فى المهالك. النفس الإنسانية: لكل شىء خلقه الله سبحانه وتعالى حكمة من وراء وجوده، وقد تظهر هذه الحكمة أمام تفكيرنا وأعيننا، وقد تغيب عن أبصارنا وعقولنا فترة من الزمن، ثم تبدو بعد ذلك، فلم يخلق الله الكون عبثا أو لهوا، حاشا لله، وإنما خلقه لحكمة أرادها، وغاية قصدها، وكذلك لم يخلق الإنسان ليكون كبقية مخلوقاته الكثيرة فى أرضه وسمائه، وبحاره ومحيطاته، وهوائه وسحابه، وشمسه وقمره، وأفلاكه وملائكته، وإنما خلقه ليحقق هدفا إليها، وغرضا عبرت عنه الآيات القرآنية: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58]. بتلك القوة القادرة، القاهرة، الخالقة، وبتلك الإرادة الإلهية خلق الإنسان ليعمر الكون، وليكون خليفة له فى أرضه، يعمرها، ويحيا على ظهرها، ويقوم بعبادته وطاعته لله، استجابة لأوامره، واستغلالا لما خلق الله فيه من عقل مميز. هيأ الله لهذا الإنسان الأسباب الكثيرة التى تحقق هذه الحكمة، وتمهد لها، فخلق مع الإنسان الضعيف الجسم أسلحة الحياة التى تمكنه من التغلب على وحوشها الضارية، وأحجامها الكبيرة، أسلحة وأدوات، ووسائل تميزه على بقية المخلوقات التى تقابل

صعوباتها بمخلب وناب، وتتغلب على أزماتها بحجم ومنقار، فإذا تشابه فى تلك الحواس الظاهرة التى تتمتع بها كل المخلوقات من حواس السمع، والبصر، والشم، والذوق، والجسم، فإن طريقة استخدام هذه الحواس، وحسن استغلالها فى تحقيق أهدافها، مما يميز الإنسان عن غيره. فالعين تبصر وتؤدى وظيفتها فى رؤية الأشياء بالنسبة لكليهما، ولكن أن تكون طريقا إلى الهداية والاستدلال وتنمية العقل، فهذا مما كرم الله به الإنسان، وجعله محلا للتكليف، وكذلك الأذن تؤدى عملها فى السمع، وقد تكون الحيوانات أقوى سمعا، ولكن أن تكون طريقا إلى العلم، والمعرفة، فهذا مجال آخر جعله الله سبحانه من خصائص الإنسان، وقد يختلف فيه إنسان عن آخر مما يدل على قدرة الله. وهكذا فى بقية الحواس والوظائف المتشابهة، أسلحة وأدوات، ولكنها فى جانب الإنسان لها وظائف أخرى تعلو فوق الحاجة المادية إلى الجوانب الروحية والعقلية التى بها يتسامى على غيره، وتجعله مناطا للتكليف وعمارة الكون، لذلك فالتشابه الظاهرى ليس هو المقياس الحقيقى للتمييز، وإنما فيما يكمن وراءه من انطباعات، وآثار، وهدايات. يقول الله سبحانه وتعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38]. نعم أمم لها خصائصها، وذواتها المستقلة التى تكتب التمييز لفريق على فريق فى مظاهر عديدة من حيث الشكل، والتكوين، والقوة، والخصائص، ومنها الإنسان الذى يدب على الأرض، خلقه الله فى أحسن تقويم من الخلق والخلق، والتكوين النفسى والعقلى، ليتحمل مسئولية الحياة الحقيقية، وحمله أعباء الأمانة التى عرضها عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72]. ظلم الإنسان نفسه، فقد حرمها من أداء مهمتها فيما خلقت من أجله، وما هيئت له من تحقيق الكرامة لها، والفوز بالسعادة الروحية، وسلامة الاعتقاد، وذلك بأعماله وسلوكه فى الحياة، ذلك السلوك والعمل الذى جانب الصواب، وكذلك ظلم غيره من الذين تحملوا أداء الرسالات والدعوات الصالحة من أنبياء ورسل، فلم يستجب لهم،

وأنكر دعوتهم، ووقف أمامهم موقف المحارب والمعاند لرسالتهم، وبهذا الظلم الذى بدر منه لنفسه ولغيره كان معول هدم لهذه الحياة التى أوجدها الله، وأراد لها البقاء إلى حين، فما الظلم إلا أداة للتنابذ والتباغض، وتفكك المجتمع، ويؤدى إلى خراب العمران. وفوق ظلمه هذا، فهو جاهل بمكانته، ودوره فى الحياة وبنائها، وما هو مطلوب منه، كى يحيا تلك الحياة السعيدة عن طريق حسن فهمه، وبصره بمستقبله، واعتباره بما حدث، ويحدث له ولغيره فى ماضيه وحاضره، وجاهل أيضا بتلك الحكمة من وراء وجوده، وبما خلقه الله من أجله. هذا هو الإنسان الذى هو محور الحياة، ومن أجله أرسل الأنبياء والرسل، ومن أجله جاءت الآيات القرآنية تشيد به، والأمثال تناولته فى عقيدته، وسلوكه، وعلاقاته، وحربه، وسلمه، وبقى علينا أن نعرض لبعض هذه الأمثال التى تناولت تلك النفس الإنسانية لنجلوها، ونكشف عما تخبئه هذه النفس من حقائق وراء مظهرها، وما لها من اتجاهات ونزعات، ورؤيتها لحقيقة نفسها وغيرها فى الحياة. إن الرؤية القرآنية فى مجالات الأمثال التى تعرضها، وفى كثير من المواطن، لا تمثل هذه النفس الإنسانية فى موطن واحد، وسبب معين، وإنما تشرح هذه النفس وتصورها فى جميع أوقاتها، وفى كل حالاتها ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا، وهذا سر إعجاز القرآن، ودلالة آياته البينات. 1 - قال الله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة: 17، 18]. هذا المثل القرآنى من جملة آيات كريمة نزلت فى سورة البقرة، وهى سورة مدينة، وأطول سور القرآن الكريم، وقد تناولت أمور التشريع، والدعوة إلى توحيد الله، وتعرضت إلى ما فى القرآن من إعجاز، وما يرد من نسخ، ثم تكلمت السورة عن أحوال السابقين من أنبياء ورسل من لدن آدم، عليه السلام، وخصت بنى إسرائيل بكثير من الآيات التى تناولتهم فى معاملاتهم لموسى، عليه السلام، وطريقة تفكيرهم القائمة على اللجاج، والمجادلة، والمكر، والخداع، كما ذكرت الكثير من قصص بنى إسرائيل.

وأفاضت السورة فى تناول التكاليف الشرعية والفرائض التى فرضها الله سبحانه وتعالى على أمة محمد، عليه الصلاة والسلام، من صلاة، وصيام، وحج، ومعاملات ... إلخ، وقد أفردت بالذكر فى آيات الربع الأول النفس الإنسانية التى نحن بصدد تشريحها وتعريفها من خلال هذا المثل القرآنى. قسمت هذه النفس إلى أنفس ثلاث، كما ذكر ذلك صاحب تفسير المنار: (أ) نفس مؤمنة: أخلصت فى إيمانها بالله الواحد الأحد، وكان لها من صلاح العقيدة، وشفافية الروح، وما تجنى من طمأنينة نفس، وعمل صالح، واستقامة على الطريقة، وأخذ بسنة الأولين من السلف الصالح، واستغلال لإمكاناتها وطاقاتها فى الاهتداء لداعى الإيمان، والفهم الواعى، والعلم المستنير، بكل ما دعا إليه الدين من الإيمان بالغيب، والقيام بأداء الشعائر، والإنفاق فى سبيل الله، والتطبيق لأحكام الله، أتاها القرآن الكريم بالدين القيم، والهداية التى عمل بها الأولون، فكانت لهم طريق نجاح فى حياتهم العملية والإيمانية، وانتصروا على أنفسهم وعلى أعدائهم، وطهرت نفوسهم من الشرك، وعادات الجاهلية وتقاليدها. (ب) نفس كافرة جاحدة: عاندت وأصرت على الكفر بالله، وبما أرسل من كتب وأنبياء، وألغت وظيفة حواسها، كما ألغت عقلها فى الفهم عن الله، وابتعدت عن طريق الحق، وأظهرت العصيان لله، وتمردت عليه، فلم تستجب لدعوته. طريقان مختلفان، ومسلكان متناقضان يمثلان تلك النفس الإنسانية بالنسبة لدعوة الحق جل وعلا، مؤمن وكافر، يمين وشمال، كل فريق يجد جزاء عمله فى دنياه وفى أخراه. ويبقى بعد ذلك ما بين الطريقين والمسلكين من اتجاهات تميل مع هذا مرة، ومع الآخر مرة أخرى، وهذا هو ما أتى المثل القرآنى ليعرضه أمام أعيننا، وليبسط حقيقته، فهو ما تحار العقول فى فهمه، وما يلتبس على الجميع شكله ومظهره، ويبدو على سطح الحياة متحكما فى سيرها، متقلبا فى أوضاعها المختلفة، حقيقة هذه النفس الملتوية التى كانت وما زالت وستظل أشد خطرا على المؤمنين فى كل وقت وحين، وعلى كل دعوة بناءة، وأمام كل إصلاح طريق هدم وتعطيل، يسلط المثل على هذه النفس الضوء ليحذر المؤمنين من أعمالهم التى تهدف إلى تخريب المجتمع، فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى

يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4]. أتى القرآن الكريم بسورة كاملة، وهى سورة المنافقون، تظهر سوأة أولئك المنافقين فى عهد النبوة والوحى ينزل من السماء ويكشف أسرارهم. ماذا قالت الآيات السابقة لهذا المثل؟ قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة: 8 - 16]. هذه هى الآيات التى عرضت حال أولئك القوم، وأظهرت حقائق نفوسهم المريضة، فما سماتها؟ (أ) التظاهر بالإيمان مع كفرهم. (ب) اعتقادهم بأنهم يخادعون الله ويخدعون المؤمنين بأعمالهم ومظهرهم، والله يفضح كيدهم. (ج) تغلغل النفاق فى قلوبهم، وهو مرض لا يرجى معه شفاء، وعقابه شديد يوم القيامة. (د) ادعاء الإصلاح والصلاح مع إضمار خلافهما. (هـ) التعالى على المؤمنين والتكبر عن مجالستهم والغرور بالنفس. (و) التظاهر بالإيمان أمام الناس، والانضمام لأعداء الله فى السر. (ز) النفاق تجارة خاسرة لا تنفع صاحبها فى الدنيا ولا فى الآخرة. هذه صفات النفس الملتوية التى استحبت العمى على الهدى، وأتاها القرآن الكريم

بالدين القيم، فاستوقدت النار، فما أضاءت لها نور الحياة ونور البصيرة، لم تنتفع بها، فعاقبها الله عقابا شديدا. ذهب الله بنور أولئك المنافقين الذى طلبوه، ثم تركوه وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] جزاء إعراضهم عن النور. تركهم فى ظلمات نفوسهم المريضة بالنفاق، والبعد عن روح الدين، وإيذاء الجماعة بما يقذفونه من طعن فى الدين والأعراض، وظلمات حياتهم التى تضيق بهم، وتجعلهم فى قلق وخوف، وظلمات عقولهم، فلا يهتدون إلى صواب فى فهم آيات الله، والإحاطة بأسرارها، والعمل بموجباتها التى تحقق السعادة الدنيوية والأخروية، ظلمات بعضها فوق بعض، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] فهم لا يبصرون شيئا من أسرار الحياة وعوامل النجاح فيها بعد أن حرمهم الله من النور الذى أعطاه للمتقين الذين فازوا برضا الله، ونزهوا قلوبهم ونفوسهم من النفاق والتبعية وعادات الجاهلية الأولى. إن أمثال هؤلاء فى حياتنا ومجتمعاتنا الحاضرة لكثير، ممن فقدوا نور الهداية الدينية، وحرموا من الاهتداء بها، واستطاعوا بما أوتوه من أساليب خادعة أن يتسلقوا زمام الأمور، وأن يؤثروا فى مجرى الحياة، وأن تكون لهم كلمة مسموعة فى دنيا الناس والأحياء. هذه صورة لأولئك المنافقين الذين كانوا يمثلون دورا تخريبيا فى المجتمع الإسلامى الجديد، وقد أعطانا المثل القرآنى والآيات السابقة ملامح أعمالهم، واتجاهاتهم فى تقويض دعائم الدعوة الجديدة، وتتضح الصورة أكثر وأكثر حينما تتم الآيات القرآنية فى ذلك المثل اللاحق، لتكتمل هذه الصورة فى ذلك التصوير المبدع فى قوله تعالى. 2 - قال الله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 19، 20]. فى هذا المثل تشبيه معجز لأولئك المنافقين الذين سيطر عليهم القلق والاضطراب، واستبدت بهم المخاوف والحيرة من الأمر، فهم حينما يلتقون بالمؤمنين يطلبون الهدى

والنور، وحينما يلتقون بإخوانهم شياطين الإنس، ينكصون على أعقابهم عما طلبوا فجأة، ويرجعون إلى الظلام والضلال. صور متعددة تتابعت لتكشف خبيئة تلك النفوس التى تعيش فى جحورها، ثم تنفث سمومها، وتبث دعايتها ضد كل دعوة صالحة تختبئ وراء ما يخدع من لسان معسول، وكلمات تنم عن خداع وحقد، يجد متنفسه فى إثارة الأحقاد والكراهية فى صفوف المجتمع، وتمزيق أواصر العلاقات بين الأفراد والطوائف بالكلمة الخبيثة التى ينطق بها: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ [البقرة: 204 - 206]. وقد اهتدى صاحب تفسير المنار إلى رأى من القول قال فيه: إن هذا المثل يمثل من بقى له بصيص من النور، فله نظرات تهديه أحيانا، وتصل به إلى فهم معانى الآيات بالفطرة، أو الاستدلال بالحوادث للنظر فيما بين يديه، ولكنه تسيطر عليه دواعى التقليد والبدع، فيعيش فى ظلمات حوالك يخبط فيها، ويسمع قوارع الإنذار، ويرى نور الهداية، فإذا أضاء ذلك البرق سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلال قام وتحيّر، ويعرض عن دعاة الحق، ونذر الكتاب، فهو يضع إصبعيه فى أذنه، حتى لا يسمع نصح الناصح، يخاف من تلك النوازع أن تقتله. ولكن أهذه صورة النفس الإنسانية المقبولة؟! إنها صورة مريضة لنفس تعيش فى الحياة ولها دورها، ولا يمكن إهمال ما تقوم به من أعمال ماكرة، وإلا ضاع المجتمع وأهله، وما كانت هناك صراعات أو حروب أو دعوات صالحة لبناء المجتمع. بجوار هذه النفس نفوس أخرى صالحة توجهت إليها الآيات والأمثال القرآنية بالنداء والأوامر، كى تنفق وتبذل المال، والجهد، والدم، فى سبيل الدعوة، وفى سبيل الحياة، وقد تعرض الباب السابق لكثير من هذه المظاهر المعطاءة التى تقدم القليل، ويكون لها الكثير من الأجر والجزاء، وتبذل العلم والمعرفة، ويكون البناء للنفس والأمة، وتعطى ما لها من جهد ودم فى سبيل المحافظة على العقيدة، والدفاع عن الدين، ويكون لها كرامة الاستشهاد، وجزاء ذلك فى وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ

بناء الشخصية الإسلامية:

أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134]. صفات تلك النفوس المخلصة التى تستوجب التقدير، وتحظى بالاحترام، وتعطى مثالا للنفس السوية التى لم تشبها أمراض النفاق، ولم تدنسها أرجاس الشرك، وعرفت ذاتها، وصدقت فى حياتها، فكانت عماد الحياة، وأمل المستقبل، وحامل لواء النهضة والتقدم فى كل عصر. بناء الشخصية الإسلامية: تسعى جميع الهيئات والأجهزة التى تتولى أمر الإرشاد والتوجيه، والتربية والتعليم، فى كل زمان ومكان، إلى تحقيق هدف سام نبيل، وهو العمل على بناء الشخصية المتميزة للفرد والمجتمع. وتختلف فلسفة بناء هذه الشخصية تبعا لما يحكم المجتمع من أنظمة اقتصادية، أو سياسية متباينة، وتظهر الفروق الكثيرة فيما نجده من وسائل التوجيه، أو طريقة التعليم والتربية فى ناتج هذه الفلسفات، أو المتمخض عن نزعاتها، وآرائها، وكلها آراء واتجاهات إذا كتب لبعضها التوفيق فى تحقيق هدف، أظهرت قصورا وفشلا فى آخر، وبذلك كانت سمة هذه الاتجاهات الحاجة الملحة إلى التغيير والتبديل فى كل خطواتها، وعلاج ما تجد من عثرات فى تطبيقاتها، وإصلاح القصور فى نظرياتها. وكل هذا لأنها استمدت نورها وضوءها من إشعاعات فكر قاصر، وتقليد ممسوخ لنظريات وأفكار قديمة لا تراعى مصلحة الفرد، ولا مصلحة الجماعة، ولا ترضى جوانب الشخصية الكاملة من إنماء للشعور، وتوجيه للسلوك، وتربية للعقيدة والوجدان، وتنظيم للفكر. ولماذا نطلق القول فى هذا وأمامنا ما يحدث فى تلك الدول العظمى، وبخاصة ما نراه فى الدول الاشتراكية فى وقتنا الحاضر، تحولات خطيرة تشهدها تلك المجتمعات التى قامت على فلسفة اشتراكية، عجزت عن إرضاء حاجة الإنسان الضرورية، وابتعدت عن الجوانب الروحية التى تميز الإنسان عن غيره من بقية المخلوقات، فإذا استطاعت أن ترضى حاجة الجسم الشهوانية من مطعم، ومأكل، وملبس، وقليلا ما يحدث هذا، بدليل ما نراه الآن من أحداث هروب جماعية من دولة اشتراكية إلى دولة غربية النظام، من

ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، وتغيير النظام فى بولندا على انقاض الحزب الشيوعى الذى أسقطته الجماهير، وكثير من الأمثلة على هذا الواقع المرير الذى تعانيه تلك الدول التى أهملت الجانب الإنسانى فى الإنسان، وما يجب أن يتميز به من حرية وإرادة وعقيدة. تنذر هذه الأحداث بانهيارات متوقعة لتلك الأنظمة العفنة التى قامت على أسس خاطئة من التربية والتوجيه، وحضارات هذه الدول حضارات هشة تعمل على أن تهيئ للإنسان كل وسائل الترفيه والتقدم المادى، ولكنها ترهقه روحا ونفسا، وتحرمه من كل معانى الاستقرار النفسى، وتجرده من القيم الموروثة التى تصله بالحياة والناس. وما يحدث فى هذه المجتمعات يحدث نظيره كذلك فى المجتمعات الرأسمالية التى تقوم على إعطاء الحرية المطلقة فى كل التصرفات، وطغيان رأس المال، والتفاوت بين طبقات الشعب تبعا للون والجنس والدين، وحضارات هذه الدول تقوم على مبدأ الصراع والتدافع فى سبيل الوصول إلى الغاية، وكل شىء يقيم بثمن وفائدة، وبذلك أصبح التعاون بين الناس ضربا من المساومة والخداع والمجاملة، ولا محل للتعاون والحب، وإنما يعيش الإنسان منقسما على نفسه، منفصما عن مجتمعه، لا يشعر نحوه بأية مسئولية، وساد التوتر والقلق، والإفراط فى المسكرات، وتناول المخدرات، كما كثر الانتحار والانحراف. انحرافات فى اتجاهات متباينة ذات اليمين وذات الشمال، كان لها آثارها الضارة فيما يعانيه العالم الآن من أزمات اقتصادية، حيث تتحكم الدول الكبرى الغنية فى الدول الصغرى الفقيرة، بكثرة الديون، وازدياد الفقر، والمعاناة، والتخلف، وكذلك أزمات اجتماعية أدت إلى تفكك عرى المجتمعات، وتخلخل أنظمتها، وانحلال أخلاقها، وتفشى روح البطالة فى شبابها ورجالها. ولم يكن حظ هذه الأنظمة الأخرى إلا مماثلا للأولى فى آثارها، وتوقعات أحداثها، وكثرة أضرارها، وأعانها على ذلك الترف المقيت الذى تعيش فيه شعوبها من جراء استعمارها لشعوب العالم القديم، وامتصاص خيرات هذه البلاد المستعمرة من قديم الزمان. ولكن إذا نظرنا إلى الجانب الإسلامى من هذا المنطق المتجدد الذى ينطلق من

حاجيات النفس البشرية، ورغابتها، واتجاهاتها فى الحياة، وجدناه قد ربط بين هذه الجوانب التى تهيمن على الإنسان، ورغباته وانطلاقاته، برباط الوحدة، الوحدة فى المشاعر والسلوك، والعقيدة والعمل، الوحدة بين الإيمان القلبى والعملى، وقد ظهر هذا النموذج المثالى فى الإسلام، فكان الفرد والمجتمع وحدة واحدة فى التكاليف والمسئوليات، ومن مظاهر ذلك عبادة الله وحده، والاقتداء بفعل الله نحو عباده من رزق، ومغفرة، لأجل الفعل نفسه، لا لغرض نفعى. وقد رسمت الآيات القرآنية المنهج القويم فى قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 111، 112]. إسلام الوجه واستسلامه المعنوى والعملى لله الذى أوجد له العقيدة التى تصنع الحياة، والأجر مضمون لا يضيع عند رب العباد فى الدنيا والآخرة، والإسلام دين يزرع فى قلب المؤمن الإيمان بالله سبحانه وتعالى ويجعله على بصيرة من أمر دنياه وأخراه، ومتى آمن الإنسان بربه، وعرف حقيقة هذا الإيمان، وذاق طعم الطاعة، ازداد تمسكا به، وفهما لمبادئه القويمة التى سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وطبقها فى حياته وبين صحابته، حتى ينال رضا الله، ورضا الناس. ونحن إذا أردنا أن نخطط لبناء هذه الشخصية الإسلامية، فإننا نعرض نماذج من الآيات القرآنية تحدد لنا طريقة هذا البناء، وما يجب أن يكون عليه، والإنسان يعرف طريقه من التقابل والموازنة فى المواقف، ومن النماذج التى تصور تفكيرا معينا، وآراء فى العقيدة والفهم للأمور. قال الله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة: 113]. هذه نماذج من التفكير السقيم، والآراء الفجة التى تدل على سفاهة وقصور، ومواقف لأناس اختلفت بينهم المشارب، وتباينت النزعات، فضلوا عن سواء السبيل. نجد فى هذه الآيات أن كل فريق يطعن الآخر فى اعتقاده، وأنه ليس على شىء من

اليقين، وأن الدين الذى يعبده كل فريق ليس دينا حقيقيا يتعبد به، ويشترك فى هذا أهل الملل الأخرى، حتى مشركو قريش الذين وصفتهم الآية بأنهم لا يعلمون، فنفت عنهم العلم؛ لأن الأمية قد تفشت فيهم، وانتشرت الجهالة وسيطرت على أنفسهم وعقولهم، فلا يعلمون من حقائق الأمور شيئا، حتى عن الكتب السابقة والشرائع التى أنزلت. لذلك فهو يشتركون فى هذا المعمعة، ويدفع الجميع تعصب لما يعتقد، وخرافات تتحكم فيهم، واعتقادات باطلة، وأنهم وحدهم الناجون من النار، ومن عذاب الله يوم القيامة. يسجل الله سبحانه وتعالى على الجميع ما يقوله، ويحكم بينهم يوم القيامة، ويبطل ما لهم من دعاوى باطلة، فالدين واضح، والحق سبيله معلوم، لا يتعبد بأسماء ولا بألقاب، وإنما هو إيمان خالص، وعمل صالح، لا يدعو إلى تفرق فى دين، أو اختلاف فى أصول. وإذا كانت الأهواء والنزعات قد طغت على أهل الكتاب فى تفكيرهم، فأعرضوا عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وطعنوا فى هذا الدين الذى أتى به، وإذا كان هذا الطعن لا ينهض حجة على بطلان الدين الذى جاء به، فإن الآية تصورهم بأنهم لا يرضون إلا بمن يتبع دينهم، وكل فريق يخالف فهو فى النار وعلى ضلال. هذا تفكير طبعوا عليه من قديم، حتى فى أيام أنبيائهم، ورسلهم، وجدالهم معهم، ويبدو هذا واضحا فى قصة بنى إسرائيل مع موسى، عليه السلام، حينما قتل واحد منهم، وأرادوا معرفة قاتله، فذهبوا إلى موسى، وطلبوا منه أن يدلهم على القاتل، فأمرهم بذبح بقرة، وأن يأخذوا جلدها، ويضربوا به القتيل، فيحييه الله تعالى، ويدلهم على قاتله، أمور واضحة لا تحتاج إلى لجاجة ومراجعة، ولكنهم أخذوا يسألون: ما لونها؟ ما عمرها؟ ما صفاتها؟ أسئلة، ولجاجة، والتواء فى التفكير لا تدل إلا على سوء طوية، وخداع. وهو لون من الفكر المارق، كما يسميه الأستاذ أحمد بهجت، تحت عنوان: الفكر البقرى، نسبة إلى قصة البقرة، فكر ضال أخذ عليهم حياتهم، وسيطر على نفوسهم؛ كراهة الاهتداء، وعدوانا على الحق وأهله، ومن سماته الفجاجة، والالتواء الذى لا يعرف طريق الحق، وينحرف عن الجادة.

والآيات المعروضة تدعونا إلى العلم الذى يقوم على البرهان، والدليل، والتحرى فى الحكم على الأشياء، وتنعى على أولئك المقلدين الذين ألغوا عقولهم، وتحكم فيهم التعصب للرأى، واتباع الهوى، كما تبث فينا روحا تسمو على أى لون من ألوان التفكير الضال، أو التعصب المقيت، فالدين الإسلامى جاء بشريعة مكملة لتلك الشرائع، ولا تتناقض معها فى الأصول، وللإنسانية جمعاء، لا لشعب بعينه كما فى تلك الديانات السابقة. وهناك جانب عقلى يرجع إليه كل عاقل فى المقارنة بين الأشياء والموازنة بين فريقين أو اتجاهين، وهو أنه لا مجال لإعطاء الحق فى الحكم على الأشياء لمن سبق على ما سيأتى؛ لأن ذلك ليس فى مقدور البشر الذى لا يعلم الغيب، ولا يدرك المستقبل، فهؤلاء السابقون لم يعاصروا الأحداث، ولم يشهدوها، فليس من حقهم الحكم عليها بالصواب والخطأ، أو الصحة والخطل، ولذا فلا يقبل فى حكم العقل أن يأتى أصحاب الديانات السابقة بآيات أو أدلة تحكم على ما سيأتى من أحداث وديانة أخرى. أما الصواب من الرأى، فهو أن يكون العكس صحيحا، وهو أن القرآن الكريم وخاتم الديانات ينطق بالحكم والحق فى حق السابقين؛ لأن هذا الحكم قائم على التجربة والواقع، والفهم، والتطبيق، باعتباره شاهدا على الأحداث، فما يقوله الإسلام وما ينطق به محمد، عليه الصلاة والسلام، هو الحق بالنسبة لمن سبقه فى تبيانه لنفوسهم، وشرائعهم، وأحداثهم، وحكمه على كل ما بأيديهم من آيات وكتب سماوية سليمة من التغيير والتبديل والتحريف. وما زال موقف أولئك المعاندين لشريعة الله وقرآنه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى توضيح من آيات القرآن الكريم التى لم يدخلها تحريف أو تبديل: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة: 116 - 118]. مواقف أيضا يشترك فيها أصحاب الكتب السابقة مع مشركى قريش، فالأولون ينسبون إلى الله الولد، وهم يعلمون تمام العلم من واقع دياناتهم وكتبهم أن الله برىء

من هذا الذى ادعوه، وأنه واحد أحد، وله ما فى السموات والأرض يخضع لمشيئته، وإذا أراد شيئا كان بقدرته الفاعلة. أما مشركو قريش الذين تحكم فيهم الجهل، وسيطر على نفوسهم جانب الغفلة، فقد أبانوا عن هذه الجهالة بتلك الاقتراحات الباطلة من تكليم الله إياهم، أو إنزال آية، تشابهت مواقفهم مع مواقف الأمم السابقة من اليهود الذين طلبوا من موسى، عليه السلام، أن يروا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة. وهؤلاء الغافلون من أهل مكة أيضا يطلبون آية تشهد بنبوة محمد، أو يفجر الله لهم ينابيع الماء، إلى غير ذلك من تلك الخوارق المادية التى تدل على الجهل بالشرائع وبالكتاب، من هذه الاقتراحات ما يدل على إنكارهم لرسالة محمد واختصاصه بالوحى دونهم، ولم يكن ذلك إلا عن جهل وعدم معرفة بحقيقة أن الله سبحانه يختار لرسالته من يشاء، وأن الله أجرى على يديه آيات قرآنية، وعقلية، وكونية، عجز الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بمثلها، ولكن هذا دأب الكافرين فى معارضة الحق. لذلك ختم الله هذا المثل بقوله: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة: 118]، والذين يوقنون هم من خلصت نفوسهم من شوائب الشرك والتقليد، والآراء الفاسدة، وتوجهت إلى طلب الحق فى الأمور الاعتقادية بالبرهان والدليل. وبالإضافة إلى هذا الجانب الاعتقادى والعقلى الذى يتميز به المؤمن لكى يمارس دوره البناء فى الحياة كما يجب أن تكون، عليه أن يستفيد أيضا من تجارب الآخرين، وأن يتحمل بأساء الحياة، وما بها من سنن تجرى بقضاء الله وقدره، ومن انتصار مرة، وهزيمة أخرى، حتى يكون كأولئك الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن الدين إبان ظهوره، يتعلم منهم، فلا يقنط من رحمة الله إذا ألم به مكروه، ولا يحزن إذا نزلت به كارثة، فتلك الأيام نداولها بين الناس. 1 - قال الله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 140]. أتت هذه الآية عقب آية تنهى عن الجزع والحزن، والوهن الذى يصيب كل مهزوم، وذلك فى قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].

فلا يليق بالمؤمن أن تتملكه هذه النزعات التى تتنافى مع كمال الإيمان، وروح الاعتقاد، بل هى من صفات أولئك الكافرين الذين تجردوا من الإيمان بالله، وتحكمت فيهم شهوات النفس وحب الدنيا، أما أولئك الأقوياء فى عقائدهم، فهم يستسلمون لقضاء الله وقدره إذا نزل بهم مكروه، ولا يجزعون من الأحداث التى تضعف النفس، فالله جلت قدرته قد حكم فى محكم قرآنه أن الغلبة والفوز لمن تمكن الإيمان من قبله، والذى يعمل من أجل الحق وإزهاق الباطل، فقال فى كتابه العزيز: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21]. ثم جاءت الآية الثانية: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران: 140]، جاءت هذه الآية لتوجه البصائر إلى ما يقع فى الحياة من سنن الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، هذه السنن تحدث فى الحياة ومع الإنسان فى عاداته، وسلوكياته، وحروبه، ومواقفه المتعددة، سنن تجرى من الله جل وعلا لتكون فى جانب الحق تارة، ولتكون فى جانب الباطل تارة أخرى، ينتصر الإيمان فى معركة، وقد ينتصر الشرك فى معركة، فقد انتصر المسلمون فى غزوة بدر الكبرى على الرغم من قلة عددهم وعدوهم، وانهزم المشركون وقوى الباطل، ثم هزم المسلمون فى معركة أحد أمام الكفار. كل هذه السنن تجرى تبعا لحكمة إلهية أرادها الله، وجعل لكل شىء سببا، فما كان من هزيمة المسلمين، إنما لأسباب عديدة، لا لنقص فى الإيمان، ولا لضعف فى العزيمة، ولا لغرور أصاب القوم، وإنما كان لمخالفة الجند لأمر القائد، وترك أماكنهم التى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقاء فيها؛ لحماية جيش المسلمين والنّبل عنهم إذا تعرضوا لهجوم مباغت، وهكذا كانت النتيجة مترتبة على عمل من أعمال الإنسان، وليست بأمور خارجية عنه. ولذلك جاءت الآيات القرآنية تعلم، وتظهر حكمة الله فى هذه الهزيمة التى لحقت بالمؤمنين فى هذه المعركة لتكون طريقا إلى العظة والاعتبار، ودرسا يستفيد منه كل من يبغى الفهم الحقيقى لجوهر الدين ومراميه، فإذا كان المسلمون قد هزموا فى معركة أحد، فقد هزم الكفار أيضا فى معركة سابقة، وأصابهم ما أصاب المسلمين من خسائر فادحة، وليس هذا الأمر صدفة وجزافا، وإنما لأسباب جديرة بالفهم والدرس، فالنصر يتحقق بالأعمال التى تحقق النجاح، والاستعداد، وجانب الحذر، والقيادة الحكيمة،

والارتباط العقدى بين الجنود ... إلخ، كل هذه الأمور التى تحقق النجاح والانتصار فى كل معركة من معارك الحياة. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، حكمة الله التى تحتاج إلى وقفة ودراسة، وفهم: نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ لا فرق بين مسلم وكافر، ولا فرح مستمر، ولا حزن مستمر، وإنما هى أحوال متغيرة من حال إلى حال، يحدث هذا فى الحياة بالنسبة للأفراد والمجتمعات والدول، وتظهر آثار هذا فيما نلحظه فى حياتنا الحاضرة من تقلبات وأحداث متغايرة فى كل ما يتعلق بأنظمة الناس وعاداتهم. وكما ظهرت هذه الحكمة الإلهية والاستفادة بثمارها فى الغزوات اللاحقة لغزوة أحد وما حدث فيها، فقد تميزت صفوف الجند فى الاستبسال والقتال من أجل الدفاع عن العقيدة، وتم بذلك إعداد الجماعة الإسلامية ذلك الإعداد الذى وقف على أبواب التاريخ يقرع أبوابه، ويدك حصون الباطل، ويقضى على أنواع الفساد نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ بما تحمله هذه الكلمة من ابتلاءات وامتحانات لقوى الصبر على الشدائد، وهى ولا شك طريق إلى تحقيق التوازن بين الناس، واستقرار النظام، وتحقيق العدل بين الدول، ويعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منهم شهداء فى ميدان الجهاد والقتال، أو شهداء يشهدون على الناس يوم القيامة بما عملوا. هذا دور المؤمن، أما الكافرون فقد ظلموا أنفسهم وارتكبوا الموبقات، وساعدوا على الفساد فى الأرض، وانتشار البغى على الناس، وهضم الحقوق، فلا مكان لهم عند الله، حتى لو انتصروا فى معركة، فهو انتصار سريع الزوال. وهكذا نتعلم من الحياة ومن سنن الله التى يجريها فى كونه وبين مخلوقاته، نتعلم الكثير من الدروس، فهذه الحياة تجمع الحلو والمر، والسعادة والشقاء، والعاقل من فهم هذا، وعاش أيامها، دون حزن وتنغيص، ويقبل ما بها من تناقضات، فلا يأسى على فقد إخلاص، ولا يحزن لضياع أمانة، ولا بدّ وأن يتحمل، فقد يجد من صديق طعنة، أو من يحسن الظن به غدرا، أو ممن يحب جفوة، فليس الجميع على خلق حميد، وطبع رضى، ففيهم العاقل والسفيه، والمخلص والعدو، وقديما قال المثل العربى: إن لم تغض عن القذى لم ترض أبدا. وإذا كان هذا هو دور المؤمن فى استقبال الحياة والتغلب على مشقاتها، فإنه ولا

شك بحاجة ملحة إلى الحذر، والدهاء، والمكر، وكل ألوان الأسلحة التى تستخدم استخداما كريما فى مدافعة الحياة دون أذى أو إضرار بالآخرين، فهذه الصفات تكسب صاحبها تفوقا وتميزا على الآخرين، يكتسبها من ممارسة الحياة، ومخالطة الآخرين، وكثرة التجارب، مع يقظة فى العقل، ودقة ملاحظة للأمور، وبصر بالمواقف، بهذا يكون المؤمن عامل نفع فى الحياة لا معول هدم يلحق الأذى بالآخرين، ويضر نفسه ومجتمعه، كما كان يظهر سابقا فى أخلاق اليهود، وما لهم من كيد وتدبير جرّ عليهم الكثير من المتاعب، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال: 30]. مكر، ومكر موازنة، ونتيجة واضحة، وغلبة لله سبحانه وتعالى فى هذا الموقف، وهكذا كل موقف مشابه. ويحضرنا فى هذا الموقف كيف تستغل هذه الصفات استغلالا طيبا تؤدى إلى النفع لأصحابها ولغيرهم، من شخصيات لها دورها فى المكر والدهاء فى تاريخنا العربى، تذكر كتب الأدب أن داهية من دهاة العرب وهو معاوية بن أبى سفيان، صاحب المقولة الشهيرة: لو كان بينى وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ لأنهم إذا شدوا أرخيت، وإذا أرخوا شددت. التقى وهو مؤسس دولة بنى أمية، مع قائده زياد بن أبيه، واليه على الكوفة، فى موقف فيه إرشاد وتعليم، فقد توفى المغيرة والى الكوفة، وخاف زياد أن يولى معاوية مكانه رجلا آخر يسمى عبد الله بن عامر، فأرسل إلى معاوية يخبره بوفاة المغيرة، ويشير عليه بتولية رجل آخر يسمى الضحاك بن قيس مكانه. ففطن معاوية لما يدور فى خلد زياد، فكتب إليه: قد فهمت كتابك فليفرخ روعك (¬1) بالمغيرة، لسنا نستعمل ابن عامر على الكوفة، وقد ضممناها إليك مع البصرة. فلما ورد كتاب معاوية، قال زياد: النبغ (¬2) يقرع بعضه بعضا. 2 - قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ (¬3) فِيها ¬

_ (¬1) يفرخ روعك: يهدأ بالك. (¬2) النبغ: من شجر الجبل، وهو من أكرم العيدان. (¬3) المشكاة: فتحة فى الحائط غير نافذة، والمراد الأنبوية التى تجعل فيها الفتيلة، ثم توضع فى القنديل.

مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ (¬1) يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ (¬2) يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ (¬3) يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 35] جاءت الآية السابقة لهذا المثل ممهدة لتوضيح حقيقة أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل إلى المؤمنين آيات واضحات، مفصلات لكل حاجيات الإنسان فى حياته الدنيوية من شرائع، ومعاملات، وعقائد، ثم عرض الله سبحانه أمثلة لما حدث للسابقين فى مواقفهم من أحداث الحياة، ومن الرسل، وما حلّ بالمكذبين من عقاب، جزاء عنادهم وكفرهم وعدم استجابتهم للدعوات الصالحات التى دعو إليها، وما كان فى مقابل ذلك من مواقف لمؤمنين نعموا فى دنياهم بصفاء العقائد، والقلوب، والأرواح، وسعدوا بها فى معاملاتهم، كما سعدوا بها فى أخراهم بما حظوا به من رضا الله سبحانه وتعالى، عليهم، وما أعده لهم من جزاء وفضل عميم. وكل هذا الذى عرض مجملا فى آية واحدة إنما سيق ليكون طريق عظة واعتبار يهتدى به كل من يعبد الله، ويتقيه، ويؤمن بكل ما جاء من مثله على أيدى رسله، فالمؤمن هو حصيلة هذه الدعوات التى نزلت على رسل الله، والتى خصه الله بها وكرمه، من الله نور السموات والأرض. وسورة النور قد حوت الكثير من أوضاع هذه النفس البشرية، وبخاصة المتدنية التى ترتكب الموبقات من قذف، وشهوة، وفاحشة، ووضعت لها الضوابط التى تقيم من عوجها، وتردعها حتى تعود إلى صفائها ونقائها، وتستعد لاستقبال النور الإلهى الذى يفيض فى الكون الكبير، أرضه وسمائه، ويسبح فيه، فتلتقى هذه النفس بمشاعرها بهذا النور فى ألفة ومعرفة وفرح؛ لأنها من خلق الله، وقد هيأها الله سبحانه وتعالى لتكون نقطة اتصال بين السماء والأرض عن طريق وحى الله الذى كرمها به، وجعلها أهلا لتحمل أمانته من رسالة، وإرادة، واختيار، وبذلك كان تمييزها، وتقديرها بهذا التصوير الرائع الذى عرضته الآية القرآنية. ¬

_ (¬1) درى: منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه. (¬2) لا شرقية ولا غربية: لا يتمكن منها حر ولا برد. (¬3) نور على نور: يريد أن النور الذى شبه به الحق نور مضاعف قد تناصر فيه المشكاة، والزجاجة، والمصباح، والزيت، حتى لم تبق بقية مما يقوى النور.

فقد قال ابن كثير فى (ص 60)، المجلد السادس من تفسيره: شبه الله قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، فى صفائه فى نفسه، بالقنديل من الزجاج الشفاف، وما يستهديه من القرآن والشرع، بالزيت الصافى الذى لا تكدره كدرة. والضمير فى قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ يعود على الله عز وجل، أى مثل هداه فى قلب المؤمن كمشكاة، أو يعود إلى المؤمن الذى يدل عليه السياق، وتقدير الكلام: مثل نور المؤمن الذى فى قلبه كمشكاة. ورأى صاحب الظلال: أن هذا النور، نور الله الذى لا ندرك كنهه، ولا حقيقته، ولا مداه، نور أشرقت به الظلمات، ويتجلى فى بيوت الله التى تتصل فيها القلوب بالله حين تذكره وتخشاه، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور: 36]، فتلتقى مع النور المتألق فى السماء والأرض، مع قلوب الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. ويقول الأستاذ أحمد بدوى (¬1): المراد بالنور هنا هو النور الذى يغمر القلب، ويشرق على الضمير، فيهدى إلى سواء السبيل، أو لا ترى أن القلب ليس فى حاجة إلى أكثر من هذا المصباح يلقى عليه ضوءه فيهتدى إلى الحق، وأقوم السبل؟ ثم ألا ترى فى اختيار هذا التشبيه إيحاء بحالة القلب، وقد لفه الظلام والشك، فهو متردد، قلق، خائف، ثم لا يلبث نور اليقين أن يشرق عليه، فيجد الراحة والأمن والاستقرار؟ فهو كسارى الليل يخبط فى الظلام على غير هدى، حتى إذا أوى إلى بيته، فوجد هذا المصباح فى المشكاة، وجد الأمن سبيله إلى قلبه، واستقرت الطمأنينة فى نفسه، وشعر بالسرور يغمر فؤاده. وهكذا كان النور فى القلب، والفهم، والعقل، والعقيدة، والشرع، طريقا إلى الإيمان الصحيح الذى لا ينحرف ولا يضل، ويجد سبيله إلى الهدى والتطبيق فى الحياة العملية والروحية، وحتى يقضى على عوامل الشك، والكفر، والزيغ، والإلحاد، وبهذا النور تتحقق تلك الشخصية السوية الإنسانية التى ميزها الله عز وجل، وجعل الملائكة تسجد لها، وقال: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]. ¬

_ (¬1) انظر: بلاغة القرآن (ص 195) من الأمثال فى القرآن، د. محمود بن الشريف (ص 88، 89).

المنهج: مقدمة:

نور يهدى ولا يضل، يرفع ولا يضع، يحقق للإنسان الحائر فى دنيا القلق، والتوتر، والمتاعب الصحية النفسية، والعقلية، والروحية، التى تأخذ بيده إلى مرفإ الأمن والأمان اللذين امتن الله بهما على قريش فى سابق عهدها: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4]. إن ما يعانى منه العالم الآن هو الحرمان من الأمن والأمان، والخوف من التعرض للمحن التى تحمل فى طياتها الكوارث المخفية التى تلحق بالعالم، كوارث الحروب، والتلوث، والجوع، والتصحر ... إلخ، لذا فإن الدول تتسابق وتتعاون، وبخاصة تلك الدول التى تقدمت علما وتطبيقا فى إجراء بحوثها وتوجيه طاقاتها إلى بث الطمأنينة فى نفوس شعوبها، وتحقيق الطمأنينة النفسية بجانب الطمأنينة المادية من مأكل ومشرب ومسكن فى الحياة. ولكن هل تنجح تلك الجهود فى تحقيق ما يريدون إلا على أشلاء شعوب أخرى ضعيفة عانت وتعانى من الظلم والإرهاب. المنهج: مقدمة: ماذا نقصد بالمنهج؟ أهو ما تعارف عليه الناس فى اقتصاره على ما هو مألوف وموضوع لتلك المواد والمقررات الدراسية التى يضعها المربون والأخصّائيون للمراحل المختلفة حسب السن؟ أهو ما يركز عليه ذلك المنهج العلمى من إعطاء المعلومة، والاهتمام بالتلقين، والحفظ، وتخزين المعلومات؟ كل هذا ليس بالوارد فى موضوعنا، وإنما نقصد ذلك المنهج الذى يبنى الحياة بكل متطلباتها، ويبنى الإنسان بقيمه وبثقافاته العديدة، ويحقق رسالة العلم الحقيقة، ويبتعد عن تلك الأطر الضيقة التى تهتم بمرحلة من العمر ضيقة، وتنسى المراحل الأخرى من العمر، وهى جديرة بالعناية والرعاية، حتى تكون مناهج مستوعبة، شاملة عامة، تخرج من حدود الزمان والمكان، ولا تهتم بجنس دون آخر. إن هذا المنهج الذى نهدف إليه إنما يتحقق عن طريق رؤيتنا الواعية لمشكلات عصرنا، وإحاطتنا بكل احتياجات حياتنا، إن المنهج الذى نقصد إليه هو التربية الناجحة التى تهتم بالعلم وأساليبه من أجل تنمية الفكر والتفكير، وتشجيع المبادأة والإبداع، وإيجاد روح التنافس الشريف، والقدوة الصالحة فى المجتمع، وبناء الأمة على أساس من

المستقبل القائم على النقاء، والطهارة، والإيمان، والعمل، والعلم، وكل ما من شأنه تملك زمام النفس والحياة. وإذا أردنا أن نخطط لبناء مجتمع أو أمة، فلن يكون الأمر إلا عن طريق بناء الفرد النواة التى يتكون منها ذلك المجتمع، وتكوين الوعى لدى جماهير الأمة يستحيل بناؤه بمعزل عن الدين، والفهم العميق له، ودوره فى التقدم، فإذا كانت المجتمعات الغربية قد أفلست فى الماضى عن أن تحقق نجاحا فى أن تتخذ من الدين وسيلة إلى النهوض والتقدم والرقى، فدفعها ذلك إلى تنحيته عن معارك الحياة، وإبعاد من اتخذوه سلعة وتجارة، فإن الدين الإسلامى ليس على هذا النحو، فهو الحياة بكل ما فيها من متطلبات، تعنى بشأن الفرد والجماعة، والأخذ بيد الإنسان كى يحيا حياته التى خلقه الله من أجلها، فالدين ليس حكرا على أحد، وليس نزعة للتسلط، وإنما هو أول مصدر من مصادر الوعى لدى الإنسان بحقيقة الحياة الكونية والاجتماعية، والمتمشى مع فطرته التى فطره الله عليها، يعدل من مساره ويتسامى بغرائزه، ولا يقف ضد حاجيات نفسه المادية، والروحية، والسلوكية، والنفسية، إلا بمقدار ما يوجه ويرشد. لذا كانت لتعاليمه التى نزلت من أربعة عشر قرنا من الزمن، سمة الصلاحية والاستمرار، لا يدخلها تغيير أو تبديل، بخلاف ما نرى من نظريات تقوم العقول البشرية بوضعها لتنقذ الإنسان فى اعتقادهم من براثن الحياة، ومن شر ما يحيط به فى أجوائها تحت أسماء الاشتراكية أو الرأسمالية، إلى آخر ما يصنفون ويبدعون، ثم ما تلبث أن تتهاوى تلك النظريات بفعل التطبيق، وتظهر الأيام قصورها، وحاجاتها إلى التغيير والتبديل لتوائم الحياة بأحداثها ومتطلباتها. رسالة الإسلام تحقيق الهداية للبشر فى اعتقادهم، وتوجيه حركة الحياة للفرد والجماعة، عن طريق ما تثبته من قيم نبيلة للأفراد والجماعات. 1 - قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها (¬1) فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ (¬2) فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها (¬3) وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ (¬4) ¬

_ (¬1) خرج من الآيات بأن كفر بها. (¬2) فاتبعه الشيطان: لحقه الشيطان بعد أن اخار هذا الانسلاخ. (¬3) لو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات إلى درجة الكمال والعرفان التى تقرن العلم بالعمل. (¬4) أخلد إلى الأرض: مال إلى الدنيا وحطامها.

وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ (¬1) يَلْهَثْ (¬2) أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 175 - 177]. جاء هذا المثل القرآنى بعد آيات تعرضت لموقف الخلق من لدن آدم، عليه السلام، حيث أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده، والإيمان بربوبيته، وإقرارهم على ذلك، وتنصلهم مما يفعله المجرمون من غفلتهم عن هذه الحقيقة، واتباعهم لغيرهم فى عبادات فاسدة، وإقرارات أخرى زينها لهم الشيطان ومن اتبعه، فضلوا عن سواء السبيل، فصلت الآيات ذلك حتى يكون الاهتداء إلى الحق طريق من يطلبه ويسعى إليه، ويهديه الله إليه بالفهم الواعى، والعلم النافع، والقلب السليم. قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 172 - 174]. وإذا كان أول طريق إلى تحقيق هذه الهداية هو العلم والانتفاع به فى مجال الإيمان بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم وما يساندها من آيات ودلائل كونية ونقلية، فإذا كان عالما بها، حافظا لقواعدها، عارفا بأصولها وأحكامها، عاملا بها، كان الإنسان مؤمنا حقا، أما إذا تباين عمله مع عمله، ولم ينظر فى تلك الآيات نظر اعتبار، فلا بد وأن يسلب هذه النعمة، وهذا المعنى يظهر فى تلك الآيات البينات التى تعرض المثل القرآنى، فقد صور المثل حال الذى أعطى العلم، ولم يعمل به، فسلبه الله تلك النعمة، فأشبه فى حالته تلك الحية التى تنسلخ من جلدها، وتتركه على الأرض. صورة معجزة، واضحة الدلالة لهؤلاء المكذبين بالرسول مع ما أتى به من آيات واضحات وحجج قاطعة، الذين يشبهون حال ذلك العالم الذى حرم ثمرة علمه، فكل منهما لم يستفد شيئا ولم ينظر نظر اعتبار، فخرج من الآيات، وكفر بها، ومال إلى الدنيا وحطامها، وما فيها من شهوات، وتمتع بلذائذها، وقد كان فى إمكان ذلك العالم أن ¬

_ (¬1) إن تحمل عليه: تزجره وتطرده. (¬2) يلهث: يخرج لسانه من النفس الشديد عطشا أو تعبا.

يكون فى راحة بال وطمأنينة نفس بما آتاه الله من علم، ولكن هكذا الدنيا، فكلما زاد الإنسان غنى ازداد رغبة وطمعا، فهو كمن يشرب من ماء البحر ليروى عطشه، ولكن هيهات، وكذلك العالم الذى لا يستهدى بعلمه، ولا يتخذ منه طريق دلالة يظلم نفسه، فلا هو استراح بالمعرفة والعلم، ولا استراح الجاهل بجهله. ولذلك يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله أن يحذر من يعلمون شيئا أن ينتهوا إلى تلك النهاية البائسة، وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذى لا ينقطع أبدا، وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذى لا يظلمه لعدوه، فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم، فالعلم بكل صوره وأشكاله يحقق الهدف من المعرفة والإيمان، ويبحث فى الوجود والطبيعة، وفى كل ما ينفع الناس دنيا وأخرى، وهو قوة وزاد لا يدخل عقل إنسان، إلا وينتقل إلى نفسه وأسلوب حياته، ومعيشته، وطريقة تعامله فى مجتمعه مع تباين الناس فى علمهم، هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله، عليه السلام، أن يدعو قائلا: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114]. فإذا نظر الإنسان إلى الكون وما فيه بالتأمل، وحاول أن يفهم السنن التى جرت وتجرى فى تسخيره، لاهتدى إلى مفتاح الكون لإدارته بقدرة الله، وهذا يزيده قربى من الله، وقد كان ذلك أول خطوة خطاها أبو الأنبياء، عليه السلام، كما ذكرت ذلك الآيات القرآنية: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75]. وبهذا الأسلوب استطاع الإنسان الهداية إلى خالقه الأعظم، وتحرر من أسر العادات الباطلة، والخرافات الجاهلة، والخضوع للآخرين، وقد أثبتت التجارب أن العلماء بأبحاثهم واكتشافاتهم هم أقرب الناس إلى الإيمان الصحيح القائم على الأدلة والبراهين، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28]. 2 - قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم: 10 - 12].

سبقت هذه الآيات بأمر للرسول، عليه الصلاة والسلام، بمجاهدة تلك العناصر المناهضة للدعوة، والتى تمثلت فى عنصرى الكافرين والمنافقين، وهذه المجاهدة هى لون من ألوان العلاج لهؤلاء وأمثالهم فى كل عصر وحين، تختلف فى أشكالها وأنواعها، فلا بد وأن الجزاء من جنس العمل، والدواء مما يتناسب مع المرض مرارة وشدة، فقد أمر الرسول بمجاهدة فى طياتها غلظة وشدة لا تعرف الرحمة والشفقة، فهم نماذج سيئة للإنسان الذى ضل سواء السبيل، ولم يتبع الهدى، لذلك كان مأواهم جهنم وبئس المصير. ثم جاءت الأمثال أيضا بنماذج من الأعمال الطالحة، والأعمال الصالحة من أقوام سابقين تحمل فى ثناياها العظة والاعتبار، نماذج من جنس النساء تمثل نزعتين من النزعات اختلفتا هداية، وضلالا، ومسلكا، وعاقبة، وطباعا، وأخلاقا، وتحملت كل نفس وزر عملها، فلم تنفعها صلة قربى، أو وشيجة نسب، كما لم تضرها سيئة ليست من كسب يدها. هذا هو الصرح الثانى فى هذا المنهج القرآنى بعد العلم، واستخدام العقل والتدبر، وهو إبراز ذاتية الإنسان، وحريته فى العمل، وتحمله للمسئولية فى نشاطاته المختلفة فى الحياة، والعمل من أجل الكرامة والعقيدة. امرأة نوح، وامرأة لوط، انفصمتا عن زوجيهما الصالحين بأعمالهما الفاسدة، فكانتا من الكافرين، ولم تنفعهما صلة الزوج، ولم تنقذهما من عذاب الله؛ لأنهما تآمرتا على زوجيهما، وأفشيا سرهما إلى قومهما، فكانا عونا للكافرين، ومشاركين للباطل فى وقفته ضد الحق وأهله. هذه القرابة الأسرية مرفوضة؛ لأنها قامت على غير هدى وطاعة، وقد وقف نوح، عليه السلام، هذا الموقف من ابنه، وهو يوشك على الغرق حينما أراد الاعتصام بالجبل ليحميه من الطوفان والغرق، وكان من جملة الكافرين، فقال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 45، 46]، صدق الله العظيم. فالقرابة هى الطاعة والدين، ولا قرابة لعاص، ولا لخارج عن أوامر الله.

ثم ذكرت الآية ذلك المثل الرائع لوقفة الحق ضد هجمة الباطل، وما له من أعوان من العتاد، والفكر، لامرأة فرعون، ومريم ابنة عمران فى الطاعة لله، والإيمان برسله، والصلاحية من الأمر، والثبات فى المواجهة الظالمة التى تتعرض لهما ولسمعتهما. من خلال النموذجين نرى تربية القرآن الكريم للمؤمن الذى يتحمل نتيجة أعماله أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم: 38 - 41]. وعلى المؤمن أن يندمج فى مجتمعه، ويفهم حياته وما تستوجبه من عمل لغده، وتحرير لإرادته ونفسه من عوامل المهانة والذل، ومن كل الموبقات التى تؤدى به إلى المهالك، فقد رأينا خائن العقيدة لا تنفعه قرابة، ولا تغنى عنه صلة نسب، ولو كان برسول الله: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101]. وهذه النماذج الناطقة المصورة التى ضربت وتضرب، حتى فى مستقبل الأيام، للكافرين والمؤمنين تقدم أيضا الدرس لزوجات الرسول، عليه الصلاة والسلام، وللنساء فى كل جيل، لتتحمل كل واحدة تبعة أعمالها، ومسئولية ما يقع منهن. بل إن القرآن أوضح فى مجالات لا تحتمل اللبس أن هذه القربى لها تبعاتها العظمى فى مضاعفة الأجر إذا كان العمل صالحا، ومضاعفة العذاب إذا كان الأمر سيئا: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب: 30، 31]، صدق الله العظيم. 3 - قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 29]. تقدمت آية قرآنية ذلك المثل تفيد تفضل الله على عباده بإرسال رسول إليهم، يحمل الهداية والنور إلى الناس، برسالة هى الرسالة الخاتمة لكل ما سبقها من رسالات تحمل توصياتها وشرائعها، وتشمل كل ما تفرق على أيدى الأنبياء والرسل، وذلك لتكون

مشعلا على طريق الحياة، وتبصرة بالمواقف الجادة التى تنتصر على كل فكرة سابقة لا تحمل ضوءها ونورها من الله جل فى علاه، ويكفى أن الله شهيد على ذلك: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28]. هذه مكرمة خص الله بها رسوله، والذى تتضح صورته، وصورة صحبه ومن آزره ونصره فى دعوته، وإعلاء كلمة الله فى المثل الذى نعرضه فى الآية. فالله يضرب المثل بأولئك الذين خلصت نياتهم، وأخلصوا أعمالهم لوجه الله، وفى سبيل دعوته بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين آزروه، ونصروه، واتبعوا النور الذى أنزل معه، فكانوا من المفلحين الذين يتراحمون فيما بينهم، ويتآخون برباط الإسلام، ويكثرون من العبادة والطاعة لله، ولا يقصدون من أدائها إلا ابتغاء وجه الله ورضوانه، قد صفت وخلصت من الغرض، وهم يهبون أنفسهم للدفاع عن الدين والعقيدة، والاستشهاد فى سبيل الله، وهم أشداء على الكفار أعداء الله. ظهرت آثار أعمالهم الصالحة على صفحات وجوههم، وهكذا المؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله، أصلح الله ظاهره للناس. قلة قليلة بدأت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم قويت واستحكمت، وترقى أمرها يوما بعد يوم، فكانت كما قال صاحب الكشاف: كما يقوى الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها. وظاهر المثل: أن الزرع هو محمد صلى الله عليه وسلم، والشطء: أصحابه. قيادة حكيمة اختارها الله من بين خلقه لتؤدى أمانة الوحى بالقدوة الطيبة والموعظة الحسنة، وتحمل الرسول الكريم الكثير من ألوان الإيذاء، والعنت فى سبيل تبليغ دعوة الحق، ومحاربة الباطل، وكان حريصا على هداية القوم، يتعرض لهم فى كل مكان، ويسلك لذلك كل طريق، حتى نزل قول الله سبحانه وتعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: 99]. القائد والجند تجمعهما رابطة العقيدة، وبينهما مدد مشترك يبعث فيهما القوة والنماء والروح، مدد روحى من القرآن الكريم، ومن نور الله يستمد الضوء، فيكون الزرع الذى استغلظ واستوى على سوقه، ويكون الشطء الذى آزره، وكان عونا له فى سير الحياة. مثل للمؤازرة الحميمة، والمساندة التى لا يمكن أن تنفصم إلا بفعل الله سبحانه

وتعالى. هذه الصورة ذكرت فى الكتب السماوية القديمة، التوراة، والإنجيل، وأبرزت صفات محمد وصحبه فى جهاد الدعوة بتلك الصورة المشرقة التى تدعو إلى الاقتداء بجليل الأعمال، والإخلاص فى الدعوة وتحمل تبعاتها، استجابة لأمر الله وإتماما لنوره، حتى يصل إلى كل قلب واع، وروح متفتح إلى الإيمان بالله، والتنزه عن دنس الشرك، ووسوسة الشيطان، واتباع الهوى. ومن الملاحظ أن تلك الصفات التى وصف بها محمد وصحبه إنما تناولت تلك القيم النفسية، من قوة فى الحق، وتراحم بين الناس، ومؤاخاة، وإخلاص طاعة، وكلها صفات وقيم تغطى على تلك القيم التى تواضع الناس عليها فى وقتنا الحاضر من تفاخر بالمال وكثرته، وطغيان بالمركز والجاه، وتعالى على الآخرين باللون والحسب والنسب، قيم باطلة زائفة لا تصمد على الأيام، وهى ما تلبث أن تذروها الرياح ولا يبقى منها شىء. ولكن هل استطاعت هذه الصورة أن تصل إلى تلك القلوب الغلف فتهديها إلى سواء السبيل؟ هل وجدت الأرض ممهدة؟ هل أرست دعوتها فى بناء هذه الأمة دون مكابدة وعناء؟. 4 - قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112]. سبق هذا المثل بآية قرآنية تلفت النظر إلى ذلك اليوم الذى يجب أن يعمل حسابه كلّ مخلوق، وأن يزن أعماله قبل أن توزن عليه، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب فيه، وهو يوم القيامة الذى تقف فيه الأنفس والخلائق خاشعة بين يدى ربها ذليلة، تحاول أن تبرئ ساحتها مما لحق بها من سيئات، وأن تنفض عنها غبار الذنوب والآثام، وتحاول أن تظهر حسن نياتها بما عملت فى دنياها، والله عليم بكل نفس، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49]، فهو يعطى لكل ذى حق حقه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]. هذا هو اليوم، وهو موقف تتعرى فيه النفس الإنسانية، وتظهر على حقيقتها، قال الله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل: 111].

ثم جاء المثل عقب ذلك ليسوق ما يحمله من حقيقة تلك القرية وقاطنيها، المنعمين بخيراتها، الرافلين فى حلل الأمن والطمأنينة النفسية والمادية، ثم تتبدل بهم الأحوال بفعل أنفسهم، وتغير أخلاقهم، فيكفرون بنعم الله، فيذيقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. والمثل يضرب لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، وكفروا وتولوا، فأنزل الله نقمته بهم، وهؤلاء القوم قد يراد بهم أهل مكة التى كانت آمنة مطمئنة، مستقرة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، ويتخطف الناس من حولها، وهى آمنة، ثم كفرت بأنعم الله عليها، وجحدت فضله، فلم تشكر الله على ما أعطاها من نعم، وخصها به من منح، وليست هناك منحة أعظم، ولا نعمة أوفى من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنها استقبلتها بالجحود والنكران، فكانت نقمة الله عليها شديدة، إذ بدل حالها، فألبسها الله لباس الجوع والخوف بعصيان أهلها لأمر الله وكفرانهم، فدعا عليهم رسول الله بسنين كسنى يوسف، عليه السلام، فأصابتهم سنة أذهبت كل شىء، وسيطر عليهم الخوف بما حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم من انتصارات فى غزواته المختلفة، حتى تم فتح مكة، وذلك بسبب تكذيبهم لرسول الله الذى بعثه الله من بين أظهرهم داعيا، ومبشرا، ونذيرا، وعاد عاقبة الظلم على أهله. وإذا كانت هذه صورة قائمة لذلك المجتمع المكى الذى ساند بعضه بعضا على الباطل، ووقف ضد نور الله يحاول أن يطفئه، فكانت يد الله الغالبة، وجاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، وتكسرت الأصنام، وحطمت تلك المعبودات يوم فتح مكة، كما تحطمت معها أنصارها وأعوانها من مفسدين وظالمين بما كانوا يصنعون. فهى أيضا صورة لكل من سار على درب الضلال فى كل حين، ضلال الفكر والاعتقاد، وضلال العمل، والفسوق، والعصيان، والمصير هو المصير، فالقانون الإلهى يجرى على الناس جميعا لا يتخلف، فما دام هناك كفر وعصيان وابتعاد عن الحق وأهله، كانت هناك نقمات من الله من جوع يؤدى إلى نقص فى الأموال، والأنفس، والثمرات، والإمكانات المادية، وخوف يسيطر على الأفئدة، فتحرم نعمة الأمن والأمان فى الحياة، وتتبدد القوى المادية والمعنوية التى هى عماد الحياة الحقيقية، وذلك كله جزاء تلك الأعمال السيئة التى اقترفتها الأيدى، والنوايا الخبيثة التى أضمرتها القلوب.

5 - قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [2 لكهف: 32 - 43]. تعرض الآيات السابقة لهذا المثل لحال من ذاق حلاوة الإيمان، وعرف الطريق إلى الله، ولم ينضم لحظيرة الكافرين والمنافقين، بل كان منه العمل الصالح، والمسارعة إلى الخيرات، والجهاد فى سبيل الله، فحفظ الله له أعماله فيما كتبه له من ثواب عميم، وأجر عظيم، فى جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وأسبغ عليهم من نعيمه وخيراته ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذلك كله فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف: 30، 31]. أما ما سيق فى هذا المثل القرآنى، فهو الجدير بإعمال النظر والفكر، فعن طريق الموازنة يعرف العاقل طريقه، وفى أى الفريقين يتمنى أن يكون، ومع من يعمل فى دنياه، وبأى سلاح يتسلح لمواجهة أخراه، ذلكم ما نراه فى هذه الرؤية العاقلة، والحوار البناء. بصيص من نور فى قلب وفكر يعرف طريق الحق، فينصح ويبذل الخير لغيره حتى يهتدى.

يضرب الله هذا المثل لأولئك المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، الذين آمنوا بالله ورسوله، أخذ هؤلاء الكفار يفتخرون عليهم بما عندهم من كثرة مال، وضياع، وتجارة، وأحساب، وأنساب، يصور هذا كله فى صورة رجلين، أحدهما له جنتان مثمرتان، وقد حوتا ألوان الثمار، وزخرتا بكل ألوان الجمال البادى فى المياه الجارية، والزروع، والنخيل، والأعناب، مما كان دافعا بصاحبها إلى الغرور، والتباهى على الآخر بكثرة ما لديه، وأنه لن يفنى أبدا، وأن حظه فى الآخرة، إن كانت هناك آخرة، سيكون أوفر ثراء، وأكثر رزقا، ظلم نفسه بهذا التفكير الأخرق، وبكفره، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا، ونسيانه للآخرة، وبذلك عرضها للعقاب يوم القيامة. صورة مؤلمة لمن يخدع بالمظاهر البراقة التى قد تخدع، وتغرى بما لا يحمل فى طياته من القيم الرفيعة التى يعتز بها الإنسان، يخدع بمتاع زائل، وجاه عريض، وسلطان مزيف، ولذائذ رخيصة، وينسى تلك القيم التى تعلى من شأن الإنسان، وإن كان فقيرا مجردا من المال والسلطان، من جهاد النفس، والزهد فى الحياة، والعلم، والعمل، والبذل فى سبيل الدعوة. عرف الرجل الظالم لنفسه هذه الحقائق بعد أن اتضحت الصورة أمام عينيه، وتكشفت الحقائق، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على عروشها، ويقول: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف: 42]. أما النموذج الآخر، فقد استطاع أن يسبر أغوار الحقيقة، وأن يفهم بتوفيق الله إياه جوهر الأمور، وأن المظاهر خادعة، وأن وراء المظاهر منشئها وخالقها الأول، الجدير بالعبادة والطاعة، وأن هذه النعم هى: فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ [المائدة: 54]، ولا يحرم على النفس إلا ما كان ضارا بها، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32]. أحلّ الطيبات، وحرّم الخبائث، ليست هذه الطيبات غاية فى ذاتها، ولكنها سبيل إلى غاية أجل وأعظم من تقوية للبدن، والجسم، فقوى الإيمان لا ينظر للمال والحطام إلا نظره للأمور المتنقلة، والأعراض الزائلة المتحولة، فلو منحها شكر، ولو حرمها صبر،

وهو فى كل ذلك عزيز النفس، بعيد عن الدنايا وارتكاب الخطايا (¬1). وهكذا تكاملت أمامنا فيما عرضناه صورة المجتمع الرافض للخير، وما كان له من عاقبة سيئة، ثم ظهور تلك النبتة الخضراء التى تحمل فى ثناياها الإيمان والفكر المستنير، فتأخذ بيد الحائر فى متاهات الحياة، والفكر، والعقل. ويبدأ يتكون ذلك المجتمع المتكامل المؤمن، الذى يشق طريقه إلى تحقيق حرية الحياة، والعقيدة، والفكر، ويبذل فى سبيل ذلك كل مرتخص وغال من دم ومال، وهذا طريق البناء الصحيح فى تحمل أعباء الحياة، كما يبدو فى الآيات التالية. 6 - قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214]. سبقت ذلك آيات بينات مهدت وفرشت لما يأتى به المثل القرآنى، فقد تعرضت إلى حكمة الله جل وعلا، التى اقتضت أن تكون هناك مجموعة من الخلائق خلقها الله فى أحسن تقويم؛ لتقوم بدورها العبادى عن طريق ما وهبت من تفكير وعقل، وما حباها الله به من مبعث أنبياء مبشرين لهم بالجنة، وحسن المآب، إذا صلحت منهم الأعمال، ومخوفين لهم من عذاب الله إذا أساءوا السلوك، وانحرفوا عن النهج، ولم يكتف بإرسال الرسل، بل أرسل مع هؤلاء الأنبياء كتبا تبين حقيقة العبادة، وجوهر الدين، وما يجب أن يكون عليه الحكم بين الناس فى القضاء والمعاملات والعبادات ... إلخ من ألوان الفرائض التى فرضت وشرعت على يدى إبراهيم، وموسى، وعيسى ... إلخ، هذه المواكب من الرسل والأنبياء الذين اصطفاهم الله من بين خلقه. ولكن بعض النفوس التى جبلت على الكفر والعناد، أبت إلا أن تذهب فى فهمها لهذه الكتب مذهب المصلحة الخاصة، والبعد عن روح الدين، والتأويل للمقروء منها، حتى خرجوا بها عن صفائها ونقائها إلى غير المقصود منها، وقد جر هذا الاختلاف الكثير من المتاعب للرسل والأنبياء، والبعد بالرسالات إلى غير ما وجهت إليه، وقد هدى الله القلة القليلة التى أحسنت الفهم، ولم تخرج عن المنهج الذى وضع من قبل الله فى كتبه ورسالاته، واستطاعت أن تواصل حمل مشاعل الهداية على طريق الله وصراطه المستقيم. ¬

_ (¬1) من كتاب العظات الدينية فى الأمثال القرآنية والنبوية.

قال الله تعالى فى هذه الآيات: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213]. ويلى هذا مقارنة فى المثل القرآنى بين حالين، وعرض لنموذجين، تظهر من خلالهما تلك الدعوة النبيلة من الله عز وجل للمؤمن أن يكون أهلا لتحمل أعباء الحياة، وما تستلزمه من جهاد ومشقات فى سبيل الوصول إلى الغاية والفوز. فالابتلاءات والاختبارات هى المحك الطبيعى لإفراز النفس المؤمنة الجديرة بالانتماء للإسلام، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186]. يصدق هذا على السابقين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وعلى اللاحقين الذين أتوا بعده، وعلى كل جيل يأتى، فليس الانتماء بالاسم موجبا لاستحقاق الرحمة يوم القيامة ودخول الجنة، بل طريق ذلك تحمل الإيذاء فى سبيل الله، وفى طريق الحق وهداية الخلق: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142]. هذه سنة الله الجارية فى خلقه، لا تتغير ولا تتبدل، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62]، وقد جرت سنة الله على أن الإيمان الحقيقى لمن اعتبر واتعظ بما حدث للسابقين الذين نزلت بهم الشدائد، وأحاطت بهم قوى الأعداء، ولم يروا بادرة من بوادر الفوز تلوح لهم، واعتقدوا أن وقت العناية الإلهية والنصر الذى وعدهم الله به قد حان، أو أبطأ حدوثه، فاستعجلوه بقولهم: مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214]. منهج تعرضه الآيات، جدير بالاعتبار والتقدير، وهو طريق إلى التربية الصحيحة للأفراد والمجتمعات والشعوب، إذا أرادت أن يكتب لها نجاح فى هذه الحياة، ففي تجارب الآخرين وأحداثهم، وبخاصة المتماثلون فى النهج والطريق والمشكلات، سبيل إلى التعلم والاستفادة، ولا خير فى شعوب وأمم وأفراد، أصمت آذانها عن سماع القول والحق، وعميت عن رؤية الأحداث، وإن تحقيق أى فوز فى الحياة مرهون بالتدبير،

والأخذ بالأسباب، بعد الاعتماد على الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، فلا يأتى عشوائيا، ولا عن طريق الصدفة كما يدعى الماديون والقائلون بهذه المقولات الفاسدة التى لا تدل على إيمان، ويأخذون بظاهر الأمور. فالفوز بالآخرة مرتبط بالعمل، والصبر على صنوف الآلام والمتاعب والإيذاء، وأما التمنى والتغنى بالشعارات دون أن يصحب ذلك جهاد ومشقة، فبضاعة خاسرة لا تجد لها وزنا وتقديرا يوم توزن الأعمال، وتجد كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30]. وأسمى ما يقدمه المؤمن من عمل فى دنياه تلك الروح التى تحررت من الخوف، والذل، والحرص على الحياة، والاسترخاء إلى الدعة وطيب العيش، كما يتحمل المسئوليات فى الأعمال المنوطة به. ومن الأشياء التى توجه الآيات الأنظار والعقول إليها، أن آصرة العقيدة هى التى تربط المجتمع المسلم برباط التحابّ، والأخوة، والأخذ بتعاليم الإسلام وآدابه القائمة على التكاليف التى فرضها الإسلام، كما أن العلم الذى يكوّن النفوس المسلمة، ويصنع الحياة، هو القائم على النظر والاستدلال، ويربط بين العقل والقلب والعمل. والدارس لمشكلات الشعب، والحياة الحاضرة، وما يجدّ من أزمات تأخذ بخناقنا، وبشبابنا وأولادنا وزوجاتنا، ومقارنة ذلك بما عرضناه من صور نابضة بالحياة، ومجاهدة النفس، والجهاد فى سبيل الله، والعمل على إيقاد جذوة الحياة بما فيها من قيم ومثل رفيعة، يرى من خلال هذه الموازنة والمقارنة أن أسباب ما نكابد وما نجد فى حياتنا من أزمات ومشكلات يرجع فى أساسه إلى تلك المصادر التى تولت تغذية عقولنا وأرواحنا بلبانها، وأرضعتنا بثقافتها، وأمدتنا بنماذجها البشرية؛ لتكون قدوة لنا فى الحياة، والعمل، والسلوك، والخلق. إن هؤلاء الذين يعانون من تلك المآسى إنما يتلقون زادهم الفكرى وقيمهم المثلى من مصادر تشبع فيهم النهم، وتروى الظمأ الذى يستبد بنفوسهم وأرواحهم، مصادر لا يستطيع أى إنسان أن ينكر تأثيرها وإسهامها فى صنع قيم الإنسان، وتنمية عقله، وتغيير سلوكه، وبخاصة بعد تلك النقلة الجبارة فى العلم، والتقدم الحديث فى الاتصالات التى قربت بين الشعوب على اختلاف لغاتها ومذاهبها، وما تمارسه من عادات وأخلاق.

فإذا نظرنا إلى الإذاعة المرئية واستمعنا إلى المسموعة منها، وجدنا أنها تتجه فى الكثير من برامجها إلى إرضاء الجوانب الشهوانية التى تسيطر على اتجاهات الشباب، وتغذى عقله بتلك الآراء الفجة المسمومة التى تؤلف خصيصا لهذه الفئات، كى تفسد من تفكيرها، وتغرس فيها قيما بعيدة كل البعد عن معتقداتها، وما مشكلات الأحداث، وكثرة حوادث اغتصاب الفتيات، ومسلسل قتل الأزواج، إلا ولادة طبيعية لما يجرى أمام الأبصار فى برامج مهزوزة، فلا يجد من أصاب العطن عقله بالعقم، وشلت يده عن العمل نتيجة البطالة والكساد، وسقمت البرامج التعليمية عن تقديم ما يتناسب مع إدراكه وحاجياته الحقيقية فى الحياة، فلا يملك إزاء هذا إلا أن يقلد ما يرى ويسمع فى ليله ونهاره، وقد يدفعه ذلك أيضا إلى تلمس الغيبوبة عن الحياة التى يحياها، ولا يشعر بجدواها فيما يتناوله من مخدر، وأقراص تنسيه آلامه وقلقه وحيرته فى الحياة. إنها مسئوليتنا جميعا، ولا نملك أن نحول بين هذا الشاب ونظائره ممن يتفقون معه أو يختلفون سلوكا ومنهجا، ويقعون فريسة التقليد فى المظهر، والمشرب، والمأكل، ولا نملك أن نحول بين سمعه وبصره ورؤية الأشياء المبثوثة فى جهاز التليفزيون، وشرائط الفيديو، والإذاعات الأجنبية، وبخاصة تلك الإذاعات التى تعمل عملها على تقويض دعائم الأمة الإسلامية بتقويض شبابها، وبث روح الانحلال فى أخلاق رجالها ونسائها، وإذا لم يكن قد كتب لها النجاح فى حروبها المستمرة، فإنها تملك ولا شك الوسائل الكفيلة بتحقيق انتصارات أخرى أقوى تأثيرا، وأشد تفتيتا لعضد هذه الأمة ومعقل قواها بالتأثير فى أرواحها، وتغيير سلوكها واتجاهاتها فى الحياة. لقد أتاح التقدم العلمى لكل إنسان أن يشاهد وأن يسمع ما يقع فى الحياة بلغته وبغير لغته، ما يثير فيه الانتباه، ويغرس فيه القيم، ويشحذ منه الفكر، ويؤدى به إلى الانطلاق، ولكن ما الضمانات التى تكفل لنا نجاح هذه الأدوات فيما ترسله، وما تذيعه من برامج ومعلومات؟ لا سبيل إلى إنكار ما تقدمه من نجاحات علمية تفيد الحياة، والدارس، وتربط بين عقول العلماء والشعوب برباط المصلحة والنفع، وهو هدف نبيل لا ينكره إلا مكابر. ولكن علينا أن نحسن استقبال ما يرسل إلينا عبر هذه الأقمار الصناعية، والإذاعات المسموعة، كما أحسنوا إرسالها، وذلك بحسن التطبيق والفهم المشترك بين العلماء الذى يخدم الحياة، وسرعة الاستجابة للمتغيرات التى تنشأ عن ذلك، ومحاولة إشراك الشباب

والأجيال فى هذه الطفرات العلمية بوضعها فى البرامج التعليمية، وتدريب أبنائنا على حسن استخدامها لتيسير سبيل الحياة. أما الجانب الآخر، فهو ما يتعلق بالعادات والتقاليد والقيم التى تتصل بما لنا من أصالة، وترتبط بما نتلقى من تعاليم سماوية خصنا الله بها، وجعل لنا كتابا فيه هداية لنا وتبصرة بشئوننا، فهذا ما يجب أن يغرس فى النفوس؛ لتكون وقاية لنا ولأولادنا ضد هذه التيارات الوافدة إلينا ولا نملك لها منعا، كما لا نملك لأنفسنا ولا لشبابنا حجزا وحرمانا. وبجانب تلك الوسائل المسموعة والمرئية، تقف وسيلة أخرى أسبق فى التأثير والوجود، وهى: الصحافة، فما كانت تلك الصحف التى تلقاها إبراهيم، وموسى، وعيسى، من قبل الله سبحانه وتعالى، إلا تربية للأمم والشعوب والأفراد، بما تحمله من تعاليم السماء، ووصايا تعلى من شأن القيم، وترفع من درجة الأعمال الصالحة إلى أن تكون المعيار الحقيقى الذى يميز بين إنسان وإنسان. هذه الوسيلة مع تطور الأيام وظهور الطباعة والمطبعة، لعبت دورها البارز فى إثارة الأذهان، وتعميق الفكر، واستطاعت بما ينشر فيها على أيدى محرريها أن يشكلوا من طاقات الإنسان، وأن يوجهوا السلوك إلى اتجاه معين حكمته ظروف الحياة القديمة بما لها من تقاليد، ودفعت إليه من سياسات، كانت طريق هداية، ورسول بناء، ونداء حرية، وتحرير مستضعفين، أدت رسالتها؛ لأنها أحست بواجبها نحو نفسها، وشعبها، وحاجيات أمتها. أما إذا أسىء استغلالها، كما يحدث فى تلك الصحافة الرخيصة، فإنها ولا شك تصبح معول هدم يفسد على الإنسان دينه، وخلقه، وقيمه، بما تبثه من فكر رخيص، وقصص منحل، وأحداث تقع فى الشرق والغرب تغرى بالتتبع والتقليد، وبخاصة ممن يخدعون بالتقليد فى المظاهر البراقة، وأشكال المجون والترف، وأخطار هذا لا تقع تحت حصر فى حياتنا اليومية. والشارع بما فيه ومن فيه من مجريات، وأحداث، وأناس، وما يقع من صراعات وتدافعات، يلقى على أذن الطفل الكثير من الكلمات، ويعرض على عينيه الكثير من المشاهد، ويوحى إليه بأمور تغاير طبعه، ويثبت فى أعماقه الكثير من المظاهر التى تعج

بها الحياة، وفيها ما فيها من المفسدات، من تهالك على المتع واللذائذ، وما ينتشر فى بيئات كثيرة من مخدرات تفعل فعلها فى إفساد الأسر والشباب، وما تعوّدهم من عادات الإدمان التى لا يفلح معها علاج، ولا ينفع فى كبح شرورها قانون، أو استشفاء. ولذا نجد فى أحداث هذه الأيام، أن كثيرا من الأحداث الصغار السن قد قبض عليهم جهاز الشرطة فى تلك المواطن التى تنتشر فيها هذه المخدرات، يقدمون للمدمنين المخدرات، ويعلمون تحت أيدى عصابات توجههم هذا التوجيه الشائن الذى يفسد عليهم أنفسهم، وحياتهم، وأسرهم. هذه أبرز المصادر الفعالة التى تؤثر فى صنع هذا الشباب، وما تؤدى إليه من سوء استخدام يعمل على زيادة هذه المشكلات التى يعانى منها المجتمع، ويعانى منها الشباب. وقد ساعد على ذلك ظروف أخرى اقتصادية قاسية مرت بهذا المجتمع عقب تلك الحروب العديدة التى خاضها الشعب، والشباب، والمجتمع، ضد أعداء الحياة، فكانت هذه المآسى وهذه المشكلات، وكلها من خارج النفس، ومن صنع أيدينا؛ لذا كانت العثرات والسقطات، والبعد عن الصواب. وبعد: أئمة ترابط بين الأمثال القرآنية؟ أتوجد بينها وحدة فى الأهداف، والاتجاهات، والمعالجة؟ هذه تساؤلات تجيب عنها تلك الدراسة المطولة التى سبقت، فهى على اختلاف صيغها ومضمونها ومواقعها، تهدف إلى استكناه حقيقة الإنسان، ووظيفته فى الحياة، والحكمة من وجوده، وتبيان خصائصه التى يستحق بموجبها عمارة الكون، وخلافة الله فى الأرض. لقد سخرت مظاهر الكون بأرضه، وسمائه، وجباله، وأنهاره، ودوابه، ومخلوقاته، من أجل هذا الإنسان الذى ميزه الله بالعقل، وكرمه بإرسال الرسل، وفضله على بقية مخلوقاته، وجعله أهلا لتحمل الأمانة التى عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، حملها بما له من إمكانات التدبير، والعقل، والفهم، والحرية، والاختيار فى الأمور، وتحمل المسئوليات التى يترتب عليها الثواب والعقاب، والجزاء فى الدنيا والآخرة.

المقارنة بين الأمثال القرآنية:

انفرد ذلك الإنسان بتلك الميزة التى تجعله يعيش حياتين: دنيوية يكابد فيها، يسعد ويشقى، ويمرض ويصح، ويتطور فى خلقته من صغر إلى كبر، وحياة أخروية يجد فيها جزاء سعيه فى دنياه، ونتيجة عمله الذى قام به، وحريته التى اكتسبها، وهكذا ينفرد بتلك الخاصية التى لا تحظى بها مخلوقات أخرى من دواب ومخلوقات، وأرض وسماء. بل إن هذه المخلوقات إنما جعلت فى هذه الدنيا لتخدم ذلك الإنسان الذى يبحث عن مصيره فى دنياه وأخراه، وعن ذاته، وكيف تتحقق، وعن وجوده، وكيف يكون، تخدمه بلا مقابل ولا جهد، فالزرع ينبت فى الأرض ويستوى على سوقه ويعطى ثماره، والشمس تشرق فترسل الدفء إلى الأجسام المقرورة، وتثير الرياح والسحاب كى يحمل فى طياته المطر الذى يبعث النماء والخير، كى يحيا الإنسان، عطاءات عديدة من قبل خالق الخلق بمقتضى ربوبيته لهذا الإنسان، والذى أمر ملائكته بالسجود له، وقال لهم: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]، لا يسأل عما يفعل، فقد خلق ذلك الإنسان وهو يعلم بحقائقه علم انكشاف وإحاطة، وإدراك لما يتطلبه، لحكمة إلهية وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 55]. هذا هو المحور الذى تدور حوله الأمثال القرآنية، والترابط بين غاياتها فى تحرير هذا الإنسان من كل إصر يعوق عقيدته، من أن تنطلق نحو الإيمان الحق بالله الواحد، والابتعاد عن مواطن الأهواء، والنزعات الضارة المفسدة لتلك الفطرة النقية الصافية التى خلقها الله سبحانه وتعالى، لتتشرب روح الحياة كما خلقها خالقها، ولتسير فى ضوء هداه، واضحة المنهج، متمتعة بطيبات ما أحل الله، بعيدة عن نزعات الشيطان، محققة ذلك الإنسان المميز بعقله، وحريته، واختياره، والذى يستحق كلمة الله فى حقه: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]. المقارنة بين الأمثال القرآنية: بالقراءة المتأنية والواعية لسور القرآن الكريم، يستطيع الإنسان القارئ أن يجد ألوانا من التفاوت والاختلاف فى الأمثال التى عرضت، تفاوت واختلاف يرجعان إلى طبيعة المكان، والزمان، والناس، والموضوع المعالج، إلى غير ذلك من أوجه الاختلاف، وقد استطعت بتوفيق من الله جل فى علاه، أن أحدد بعض هذه الأوجه، أعرضها فى الآتى:

1 - الأمثال التى وردت فى القرآن الكريم فى السور المكية أكثر من التى وردت فى السور المدينة، ويرجع ذلك إلى بدء الدعوة فى مكة، وحاجة الناس إلى وسائل عديدة من الإرشاد والتوجه، حتى تصل الدعوة إلى نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، عن طريق الاسترشاد بالأحداث والوقائع، وبخاصة أن الأمية والجهالة فاشية فى القوم، وكانت التقاليد والعادات آخذة برقابهم، ومهيمنة على عقولهم، فهم لا ينفكون يقولون: هذا ما وجدنا عليه آباءنا. والتغلب على هذه العقدة المسيطرة جد عسير، ما لم تستخدم تلك الوسائل المؤثرة فى النفس والعقل، فهم بمثابة أطفال وجدوا أنفسهم فى مقاعد للسمع، ويحتاجون إلى إدراك ما يزيل ما بهم من جهالة، ويرفع عنهم الغشاوة، ويفتح أعينهم على أنوار الحياة بكل معطياتها، ولا يتأتى ذلك بالتعليم المباشر، وبالنصح الغالب، وإنما تقوم وسائل الإيضاح بمهمتها خير قيام بعرض بعض قصص السابقين، ووصف أحوال الغابرين بتلك الصورة الموحية التى تستخلص نتائجها، ويستهدى بها العقل إذا وصلت إلى سمعه، واستقرت فى أعماقه، وقد تكون كما نفعل الآن بمثابة فيلم يعرض على الصغار، فيثبت فى أذهانهم المعلومة، وينقل إليهم التجربة، ويعرفون النتيجة بتلك الصور التى تستولى على مشاعرهم، هم فى دور التكوين والتعليم، فلتؤد وسيلة الإيضاح مهمتها بكل طريق. ومن التجارب والأحداث والوقائع تكون الخبرات الصادقة، والنتائج القربية، ولم لا؟ أليس هؤلاء الناس أقرب إلى جو هذه الأمثال، وما بها من صدق وفكر، وتأثير بما يشتهر على ألسنتهم من حكمة صادقة يرسلونها إرسالا، فتدوى مع الزمن، وتصدق فى كل حين، أليست الحكمة التى يتحدثون بها فى ندواتهم ويتناشدونها فى أشعارهم إلا قسيما لذلك المثل الذى يردد بين الحين والحين، فيكون له تأثيره وأثره؟ إن الأمثال الحكمية بما ترسله من إشعاعات الفكر، وتأثيرات القول، وعمق التجربة، لتعلى من شأن قائلها على مدى العصور والأيام، وتعلى من شأن معتنقيها ومصدقيها لو ساروا على نهجها وهداها، لذلك كانت الأمثال فى هذا الجو، وفى هذا الميدان، من متطلبات الدعوة، تأتى فى آيات الله لتنزع الجهل والجهالة، وتقتلع بذور الشرك، وتضع اللبنات الأولى فى بناء ذلك المجتمع الذى يحتاج إلى كثير من مواد البناء من مثل، وحكمة، وأمر، ونهى، وتبيان ... إلخ.

وعن طريق هذا المثل الذى يقوم على التشابه بين قصتين، وحالتين، دعوة لأولئك الناس إلى استخدام عقولهم فى التفكير الذى يقوم على الموازنة والتمييز بين شيئين ليختار العاقل الصالح من الأمر، وإعلامهم بأن العقل والفكر علامتان للإنسان الجديد الذى يدين بدين الإسلام، فلا خضوع لتقاليد، ولا إرهاب لسلطة مهما كانت مراكزها، ولا بجنس أو لون، وإنما الناس جميعا إخوة سواسية، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13]. فى هذه البيئة الصخرية الحجرية فى طبيعتها، وفكر أصحابها، وتقاليد أسرها وعائلاتها، وتكوين مجتمعاتها، كان من الحكمة الإلهية أن يكثر قرع الآذان بتلك الدقات الشديدة من الأمثال؛ لتصل إلى مجامع القلوب، فتقوم من غفوتها، وتستيقظ من سباتها العميق الذى يحجب عنها الرؤية لذلك النور الإلهى الذى بدد الظلام، وأزال الغشاوة عما لحق بالصدور والقلوب من الشرك بالله، والانتماء للباطل بصوره وأشكاله. وإذا كانت الفترة الزمنية الأولى فى بدء الدعوة قد امتدت إلى ثلاث عشرة سنة، مما أتاح للرسول، عليه الصلاة والسلام، أن يعمل على نشر الدعوة بين ربوع مكة وما جاورها، وأن يهيئ أولئك الرجال الذين اتبعوه وآمنوا بالقرآن الكريم ليحملوا رسالته فى كل مكان، فإن المجتمع الجديد الذى ستنتقل إليه الدعوة تختلف فيه الصورة عن المجتمع المكى، فهذا المجتمع المدنى يقوم على الزراعة، وطبيعته تختلف عن طبيعة مكة، فالأرض الخصبة تعطى، وتنبت الخير والرزق، وتنعكس تلك الطبيعة على أهلها برا، وسماحة، ولينا، واستجابة لدعوة الخير من أول نداء وجهه الرسول إليهم فى بيعاتهم التى بايعوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا المجتمع تفتح ذهنه لهذا الفكر الوافد، وبدت ملامح اليقظة فى حركاته بفعل تأثره بغيره من المجتمعات الأخرى التى اختلطت به، وتميزت بفكرها، وكتبها السماوية، فكان الأمر سهلا، لا يحتاج إلى كبير معاناة فى توصيل الحقائق المباشرة التى تبنى الحياة بكل اتجاهاتها المختلفة. فليس فيها ذلك الفكر المتسلط، ولا رهبة أصحاب السلطة الدينية، كما فى مكة، ولا تلك التقاليد البالية التى تعوق الفكر الجديد عن الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم. وكان القرب من اليهود فى ذلك الوقت سبيلا إلى معرفة مظاهرهم الدينية،

واختلاطهم بهم، وتناقلهم لأمثالهم وأقوالهم، لذلك كانت منهم الاستجابة السريعة لكلمة الإسلام والإصغاء لتعاليمه دون حاجة ماسة إلى ضرب الأمثال الكثيرة التى يحتاج إليها المعاندون والجاحدون لآيات الله. 2 - تتشابه صياغة المثل المكى والمدنى فى كثير من المظاهر الخارجية، من حيث اشتمالها على المتمثل له، والمتمثل به، والإتيان بكاف التشبيه، الأداة، فى صورة قصصية، وصفة مجازية تصور حال كل منهما. إلا أن هناك أشياء جديرة بالملاحظة تعطى فروقا لها دلالتها، مثل: (أ) يكثر فى المثل المكى استخدام الفعل ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا [إبراهيم: 24]، وما أخذ من هذا الفعل من المضارع والمصدر، وما لهذا الاستخدام من وقع، فهو يقرع الأسماع، فيدعوها إلى الالتفات والتنبه. (ب) يكثر فى المثل المكى أيضا التعقيب بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [البقرة: 219]، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ [الأنعام: 122]، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ [الأعراف: 176]، ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18]، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم: 27]. وهذا التعقيب بعد ذكر المثل له دلالته، فهو يبين الحكمة من إيراد المثل، ويوقظ فى النفوس والعقول ما هى بحاجة إليه من رغبة فى الهداية وبعد عن الجهل والضلال. (ج) البدء فى المثل المدنى يكثر فيه استعمال المثل: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [البقرة: 17]. 3 - اعتمدت الأمثال المكية فى أدواتها التأثيرية على كثير من مظاهر الحياة المكية، فهذا المجتمع يقوم التعامل فيه على التجارة، والقوافل، والعبيد، واستغلال مواسم الحج، وما يجلبه ذلك من نفع مادى يعود على الجميع، ونفع ثقافى، حيث تتناقل فيه السير والأحداث التى تلوكها الألسنة، وتبقى فى عقول الناس راسبة، بالإضافة إلى أسواق أدبية شهيرة، تعقد فيها حلقات الشعر، وتعرض فيها نماذج الشعر الجيد، ويتبارى فى ذلك الكثيرون، حتى إذا حكم لأحدهم بالتفوق، كتبت قصيدته بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، أسواق شهيرة، أسواق عكاظ، وذى المجنة، وذى المجاز. فى هذا الجو المفعم بالتأثيرات المادية والثقافية، كان لا بدّ وأن تكون الأمثال القرآنية

معرضا لما تريد أن تقتلعه من النفوس من أفكار سقيمة، وتفرقة ظالمة، وقيم جاهلة، وهضم للحقوق، وأن تكثر من ذكر الأحداث للاعتبار والاتعاظ فى تلك الحياة التى انغمسوا فيها، تتكلم عن البعيد، وتذكر الأحداث التاريخية، وتندد بالشركاء فى التجارة، والشرك فى العقيدة، والكفر، والعناد. أما فى المجتمع المدنى، فتساق الأمثال معتمدة على مظاهر الحياة التى تحيط بالناس، فتأخذ من مظاهر الطبيعة، وما فيها من ظلمة ونور، ورياح وغيث، ونباتات وجمادات، وأصوات ومخلوقات، ما توجه إليه أنظار الناس؛ ليكون محل تدبر وإبصار، فتكون الهداية، وكما تأخذ من مظاهر الحياة الخارجية التى تحيط بفكرهم، كاليهود وأشياعهم، فتندد بمواقف أصحاب هذه الكتب من الرسول ودعوته، وذكر أحوال الأمم السابقة، وما حل بهم جزاء كفرهم وعنادهم، وما يجب أن يكون عليه المؤمن الحق من صفات، وإخلاص الإيمان بالله صاحب القدرة المطلقة، والاهتمام بالقيم النبيلة، وعدم الاغترار بالحياة الدنيا وما فيها. 4 - أما مضمون الأمثال وموضوعاتها، فتختلف اختلافا واضحا بين المكى والمدنى، اختلافا دعت إليه ظروف الدعوة الإسلامية، واختلاف الناس والمجتمع، والحالات التى تستدعى علاجا معينا، ويبدو ذلك فى الآتى: المجتمع المكى مجتمع جاهلى تتحكم فيه تلك العادات الباطلة، والتقاليد البالية، وتسيطر عليه أفكار وثنية خائبة تلغى العقل ودوره، وتسمح للطبقية أن تعلو، وللعنصرية أن توجد، وللرأسمالية الظالمة الباغية أن تتحكم، كل هذه العناصر جعلت صوت الحق يخبو، ونور الله يتبدد بين قوم قساة القلوب، غلاظ الأكباد، نفوسهم قدت من صخر، لا تلين لدعوة، ولا تستجيب لنداء كريم، حتى كانت كلمة الله، ونزل الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم ابن هذه البيئة، ولكن الله اختاره من صفوة خلقه ليعالج هذا الأمر بالقرآن الذى يوحى إليه، وبكل الطرق التى يسلكها رسول الله، فكانت هذه الأمثال وهذه الآيات التى تعالج الكفر بالله، وتندد بدعاة هذا الكفر وأصحابه، وتقبح أعمال الكفار الذين يتخذون الأصنام آلهة من دون الله، ويلغون عقولهم وتفكيرهم، وتقبح لهم اتخاذ الشركاء، وتزجرهم عن المعاصى، وتحبب إليهم الإيمان، وتكره إليهم الكفر، والفسوق، والعصيان.

الأمثال العربية:

كما تناولت الأمثال أيضا البعد عن موجبات غضب الله التى تصيب الفرد والجماعة، ودعتهم إلى الإيمان بالبعث، والحساب، واليوم الآخر، وأظهرت قدرة الله فى عقاب من يستحق العقاب، ونددت بموقف الكفار من الرسول، وعنادهم، ومعاملتهم له ... إلخ. دارت كل هذه المعانى فى أثواب الآيات القرآنية وأساليبها، وكان للمثل المكى دوره البارز فى هذا المجال، يعالج السلوك الإنسانى إزاء رسالة الله ودعوته. أما فى المجتمع المدنى، فالأمر مختلف، فقد عالجت الأمثال الكثير من العيوب التى تبرز فى هذا المجتمع المتحضر من نفاق، وخداع، وبخل، وشح، وجبن، وقعود عن الجهاد. لم تتعرض مباشرة لسلوك الناس وتصرفاتهم إزاء الرسالة، وإنما هى بيان لما فى الكون والملكوت الواسع الذى يدبر الله أمره، فهذه الحياة الدنيا مثلها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ [يونس: 24]. اختلفت البيئة، فاختلف الاتجاه والعلاج، واختلف الزمان، فكان لكل وقت دواء، واختلف الناس، فكان لكل دواء. الأمثال العربية: من خلال دراستنا للأمثال القرآنية، وما تناولته من اتجاهات عليا لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ لأنها من التنزيل، تنزيل رب العالمين، الرحيم بعباده الذى خلقهم، وعرف احتياجاتهم، وما يعلى من مكانتهم وشأنهم، فوضع لهم الأسس الحكيمة التى يسيرون عليها، ورسم للإنسان طريق النجاة بما ساقه له من قيم، وقدمه من مثل، ودعا إليه من أوامر، وما وضعه من تكاليف. من خلال هذا كله، اشرأبت النفس إلى محاولة إيجاد علاقة وترابط بين الأمثال القرآنية وما تعرضه علينا كتب التراث والأدب من تراث إنسانى نطقت به الألسنة، وحفظته العقول، وسجلته فى صفحات التاريخ من أمثال كان لها صداها وتأثيرها فى الفكر الإسلامى، حقيقة ما روته الكتب الأدبية يحوى بين جنباته الكثير من الأمثال العربية التى وصلت إلينا من العصر الجاهلى، وفيها ما فى هذا العصر من عادات وأمور قد لا تتفق مع القيم الإسلامية وما يدعو إليه القرآن، ولذا فإننا سنحاول بإذن

الله أن نعرض نماذج من بعض الأمثال التى تتشابه فى نزعاتها واتجاهاتها البناءة فى الحياة مع الأمثال القرآنية فى سمو أهدافها، ونبل أغراضها، وهذه الأمثال عاشت وتعيش فى أفكارنا، وترتبط بعقائدنا، وتصلنا بماضينا. وقد يكون فيما نذهب إليه من إيجاد علاقة فى الهدف والاتجاه، لون من التكلف والعسر؛ لأن المصادر القديمة لم تتعرض لهذه المناحى ولم تقدم لنا ما يرضى عقولنا من موازنات ومقارنات بين هذا وذاك، ولكن ما دامت النية قد خلصت لخدمة هذا الطريق، فإن فى إفراد باب بتعلق بالمنهج القرآنى وارتباطه بالأمثال العربية المتفقة معه فى الاتجاه والمأخذ، ما قد يغنى القارئ اللبيب الذى يستطيع أن يتبين من التقارب الذى نطقت به الألسنة التى تشربت حب الإسلام، وتعلقت به أرواحها وقلوبها، وعقولها، وعقائدها، فنطقت بذلك معبرة، وجرى على ألسنتها من لفظها الخاص ما ينبئ عن شدة الحب والارتباط بتعاليم الإسلام، وارتباط الناس به فى حياتهم الخاصة والعامة، وفيما يجرى بينهم من تعامل وعلاقات. وفيما أسوقه من نماذج أمثال، إنما أعطى دليلا على أن الخلق المسلم إنما استوحى فيما نطق وفيما عمل طريق القرآن، ودعوته، ومنهجه. وقبل أن نعرض لهذه النماذج المختارة التى تعتبر نواة لدراسة أوسع فى أنواعها، وأقسامها، وأغراضها، والتى عقدنا العزم بمشيئة الله أن نجعلها مبسوطة بين يدى القراء فى دراسة مستقلة، أن نعرض لبعض الحقائق العامة التى تنير الطريق لما سيطرح من أمثال عربية، تعالج مواقف الحياة، وتعرض أحداثها، ووقائعها، وعظاتها، وهى تكمن فى الآتى: 1 - هذه الأمثال فى أغلبها مجهولة الصاحب، لا يعرف لها قائل، ولا تسند إلى شخص معروف، ولكنها سلكت طريقها إلى الحياة عن طريق المشافهة والرواة حتى وصلت إلينا فى تراث له فى النفس إعزاز وتقدير، قد استحوذ على هذا الفضل، وهذه المكانة بالنظر إلى مضمونه ومعناه، أما معرفة الصاحب، وكيف نشأ المثل، فلم يحظ ذلك باهتمام الرواة. 2 - كان من أساليب بقاء هذه الأمثال، والمحافظة عليها، ما تتسم به من صدق، ومن توافق مع الحياة فى تطبيقاتها، وما تحويه من قيم رفيعة، واتجاهات بناءة مقتبسة من القرآن الكريم، والحديث النبوى.

1 - المنهج الذى قامت عليه الأمثال:

3 - إيجاز هذه الأمثال، واعتمادها على اللفظ القليل، والمعنى الكثير، أغرى بسرعة تداولها وحفظها، والتمثل بها، فى اللحظات المشابهة لما قيلت فيه. 4 - تعرضت هذه الأمثال لأحداث حدثت، ونطقت بها ألسنة المشاركين لهذه الأحداث، أو المشاهدين لها، أو السامعين لأوصافها، فكان ذلك دافعا إلى الحرص عليها، والتمسك بمعرفة أصولها ومناسباتها. 5 - كانت هذه الأمثال صورة واضحة لأحداث الحياة، وشخصياتها المتباينة، ففيها الرجل والمرأة، والكبير والصغير، والفتى والفتاة، والعالم والجاهل، والحاكم والمحكوم. حقائق كثيرة نورد بعضها فى هذا المقام، تاركين لما نختاره من نماذج مهمة ألقت الضوء على ما تزخر به من صور رائعة لقيم رفيعة من القرآن والحديث، وما يعد أنموذجا للفكر العربى والعقلية العربية، وأسلوب الحياة فى تطبيقاتها العديدة على أيدى أفراد وجماعات، وأحداث فى الحياة، دون تكلف أو حاجة إلى معرفة قواعد نحوية، أو أوزان عروضية، أو أنماط من الأساليب تبعها الأدباء والعلماء. هذا بالإضافة إلى أنها اتخذت فى أسلوبها الأعم والأغلب، أسلوب الأمثال الحكمية التى تعرض المعنى فى ثوب موجز من اللفظ، ولا تعرض صياغتها اللفظية على طريق الأمثال القرآنية القائمة على التشبيه التمثيلى، ومن وجود مشابهة بين حالين مختلفين، وإنما تكتفى بذكر قضايا مسلّمة محكوم بصحتها من واقع الحياة، ويمكن اللجوء إليها والاستشهاد بذكرها إذا كانت هناك حال مشابهة لها. 1 - المنهج الذى قامت عليه الأمثال: أ- بناء الإنسان: حددت هذه الأمثال بصورتها الموجزة، طريقها فى خدمة الحياة بكل متطلباتها، وذلك بالنظر إلى الإنسان وواقعه، ولم تخرج به إلى عالم الخيال، والعيش مع الأحلام والتمنيات، دعته إلى أن يكون إنسانا مكتمل الإنسانية، بعيدا عن الانزواء والجهالة، وأن يكون ذا شخصية لها سماتها البشرية من عقل مفكر، مبدع، مالك لزمام نفسه، متحكم فى نزواته وشهواته، له منهجه الواضح فى الحياة، لا يلتوى به الطريق، ولا تخدعه الأمانى والآمال الزائفة.

وبناء هذه الشخصية على أسس من الواقع والصلاحية للحياة عن طريق خبراتهم، وتجاربهم، ودعوات الحياة، وعلى هدى ما رسمه منهج القرآن الكريم، وما وصفه لنا من خلال الأمثال القرآنية التى تكلمت عن هذه الشخصية المسلمة، والنفس المسلمة التى صاغها القرآن الكريم فى أوامره وتكاليفه، وطبقها محمد وصحبه الكرام فى معالجة أوضار الحياة. ونحن إذ نعرض لهذه الاتجاهات من خلال الأمثال العربية التى نسوقها فى ثوبها الذى وردت به، نلمس جانبا من تيارات ثقافتنا العربية له فى تكويننا العقلى مكانة لا تقل شأنا وأثرا عن مكانة الشعر، وبقية ألوان النثر، ولا أغالى إذ قلت: إن هذا الأثر سيظل قوى المفعول، محفورا مع الزمن فى العقل والوجدان؛ لأنه مأخوذ من الحياة، ومستمد من الأحداث، ومرتبط بالوقائع والواقع، فقد تلفظت به شفاه، وطبقه أشخاص، ورسمته فى دنيا الواقع أحداث كانت من الحياة وإلى الحياة تعود، وخاطبت العقلاء من القوم، صغيرهم وكبيرهم. قامت الأمثال على مخاطبة الإنسان، والنظر إليه، وسبر أغواره، والإحاطة بشأنه، وتصوير أحواله النفسية، والوجدانية، والاجتماعية، والعقلية، وكل ما يتعلق به فى حياته الخاصة والعامة، خاطبت الإنسان الذى حظى بالتكريم من خالقه، ففضله على بقية مخلوقاته بتلك القيم التى يتمثلها فى حياته، ويطبقها فى معاملاته. خلق الله الإنسان حرا، له إرادته الخاصة، واختياره فى الحياة، فهما، وسلوكا، وعملا، وعقيدة، دون أن يقع تحت تأثير معتقدات بالية تأتيه من كبير أو صغير، أو معبودات باطلة تسيء إلى آدميته، وفطرته، فطرة متحررة تعطيه هذا المدد من الحرية والاختيار فيما يملك من أدوات، واستخدام حواس خلقها الله له، وهيأها لخدمته، وقد لا تكون هذه الأدوات كافية للهداية والتوجيه فى الحياة، وقد يكون العقل قاصرا، فلا يبلغ بصاحبه إلى برّ الأمان الفكرى والعقدى، لذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يعالج هذا القصور البادى فى الإنسان بإرسال الرسل الداعية إلى الخير، وعدم الاغترار بالعقل، والاستفادة من تجارب الآخرين فى الإلمام بشئون الحياة، وعدم الاستبداد بالرأى، والأخذ بنصح الناصح ما دام خالصا، هذا هو الإنسان السوىّ الذى يهدف إلى إبرازه وتكوينه المثل العربى فى تعبيره ورأيه. يتصدر المثل العربى قائمة هذه النظرة بقوله:

1 - دع امرأ وما اختار:

1 - دع امرأ وما اختار: يرى ذلك التنديد بمن يهدرون قيمة الإنسان فى فكره المتحرر، ورأيه الذى ينبع من عقله، ويحاولون السيطرة عليه بالإرهاب الفكرى، وإملاء الإرادة، حتى لا تكون هناك شخصية متميزة متحررة، إنهم بذلك يمسخون هذه الشخصية، ويلغون صفاتها المتميزة فى فكرها الحر، وعملها المنطلق فى رحاب الحياة دون قيد أو عائق، يريدون أن يرسموا له الطريق، ويحددوا له الاتجاه، حتى يكون كالآلة الصماء التى تدور وتعمل تبعا لأوامر صانعيها. وما هكذا الإنسان وما خلق له من تعمير للكون والحياة، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم: 39 - 41]. فالإنسان مجزى بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والجزاء من جنس العمل، ف كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، وقد عبر عن ذلك مثل عربى آخر بقوله: 2 - يداك أوكتا وفوك نفخ: ويضرب هذا المثل لمن يجنى على نفسه بأفعاله وأعماله، فهو بقصوره وتقصيره يتسبب فى إيذاء نفسه. والإنسان بمسئولياته، وبتحمله لأعباء الحياة، وتفكيره، والجزاء فى الدنيا والآخرة مبنى على ما قدم بنفسه وبتفكيره الحر، دون سيطرة أو رقيب إلا من داخله، من أعماق نفسه، ومن معتقده، وهكذا تكون الانطلاقة الحرة المتمثلة مع الحياة المتطورة، وما تستدعيه من الفكر الحر، والاختيار المطلق الذى لا يتقيد إلا بتعاليم الدين وما يضعه من قواعد وتكاليف يحاسب عليها الإنسان من رب الإنسان ورب الأرض والسماء، رب العالمين يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30]. وأصل هذا المثل أن رجلا كان بجزيرة، فأراد أن يعبر على زقّ قد نفخ فيه، فلم يحسن إحكامه، حتى إذا توسط البحر خرج منه الهواء المضغوط، فغرق الزق، فاستغاث صاحب الزق برجل، فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ. وإذا كانت الانغلاقة فى الفكر، والتقوقع فى الزمان والمكان، من الأمور المرفوضة

فى حياتنا الحاضرة، فالانطلاقة البهيمية فى الشذوذ الفكرى، والتحرر من كل معتقد صائب، ومن كل دين وقيمة، لها من الخطورة والضياع ما للأولى من المهانة والاستخفاف بالإنسان وإمكانياته، وأولى بالإنسان أن يأخذ طريقه فى الحياة دون جهالة مميتة، أو عجب قاتل، حتى يكون كما قال الشاعر: إذا المرء لم يدر ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أزينه وأعجبه العجب فاقتاده ... وتاه به العجب فاستحسنه فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوما ويبكى سنه وإذا كانت الحرية هى اللبنة الأولى فى بناء الإنسان، فإنها لا تكمل إلا إذا صحبتها عزمات قوية، وإحساسات بالكرامة التى ترتقى بالإنسان إلى عزة تنزهت عن الهون، وابتعدت عما يشين خلق الإنسان، أو يجعله مضغة فى الأفواه، أو يصمه بوصمة عار تنتقل من نفسه إلى عقبه، قوانين للحياة ليست غريبة عن دعوات الأديان، بل هى فى صميمها وجوهرها. فكم من نداء ودعوة سمعناها من أفواه الرسل، عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، وهم يدعون قومهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم دون انتظار لمكسب مادى رخيص، أو ابتغاء أجر على دعوتهم، لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ [الأنعام: 90]، فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [غافر: 44]. وما لنا لا نذكر هذا الموقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستعرض ما تفتقت عنه حيل المشركين وتفكيرهم المريض، ليثنوه عن طريقه ودعوته، وقوله: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس فى يمينى، والقمر فى يسارى، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه»، مغريات الدنيا بما فيها من مال، ومكانة، وملك، لا تقف بصاحب العقيدة عن طريقه، أو تبعده عن مسلكه الذى هيأه الله. وهكذا طريق الإنسان الحر الكريم على نفسه وعلى قومه، سواء كان رجلا أو امرأة، طريق سلكه أولئك العظماء من الذين مهدوا الطريق وساروا، فلم يهنوا ولم يضعفوا، ولم يقفوا أمام مغريات الدنيا بمختلف ألوانها وصنوفها، موقف الخاضع لها، الذليل أمام مغرياتها، وقد نطقت بذلك أمثال العرب فى هذا المنحى الكريم، فقالت كما روت ذلك كتب الأدب:

3 - تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها:

3 - تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها (¬1): وتفسيره: أى لا تأكل بما يدره عليها ثدياها من أجرة الرضاع للأطفال، وإن آلمها الجوع. وأصل هذا المثل أن الحارث بن سليل الأسدي زار حليفه علقمة بن خصفة الطائى، فرأى ابنته الزباء، فأعجب بها، وطلب من أبيها أن يزوجه إياها، فقال له أبوها: أنت كفء كريم، ولك من حسبك ومنصبك وبيتك ما يرغب فيك، ولكن أقم حتى ننظر فى أمرك، ودخل على زوجته يستشيرها فى الأمر، ويعلمها بعزمه على تزويج ابنته بالخاطب، فقالت له: لا تفعل حتى نعرض الأمر على ابنتنا، فقالت الأم لابنتها: أىّ الرجال أحبّ إليك؟ الكهل المتاح، أم الفتى الوضاح؟ قالت: لا، بل الفتى الوضاح (¬2)، قالت: إن الفتى يغيرك، وإن الشيخ يميرك (¬3)، وليس الكهل الفاضل الكثير النائل كالحدث السن الكثير المنّ، قالت: يا أماه، إن الفتاة تحب الفتى كحب الرعاء أينق الكلأ، قالت: أى بنية، إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب، قالت: إن الشيخ يبلى شبابى، ويشمت بى أترابى. فلم تزل أمها بها حتى غلبتها على أمرها، فتزوجها الحارث، ورحل بها إلى قومه، وبينما هو جالس فى فناء بيته، إذ أقبل بعض الشباب من بنى أسد قومه، فى فتوتهم وقوتهم، فتذكرت حالها، وقارنت بين حاليها، فبكت على شبابها الضائع مع رجل كهل، فلما رأى زوجها ذلك قال لها: ثكلتك أمك، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، ثم قال لها: الحقى بأهلك، لا حاجة لى فيك، وقال: تهزأت أن رأتنى لابسا كبرا ... وغاية الناس بين الموت والكبر فإن بقيت لقيت الشيب راغمة ... وفى التعرف ما يمضى مع العبر فإن يكن قد علا رأسى وغيره ... صرف الزمان وتغيير من الشعر فقد أرواح للذات الفتى جذلا ... وقد أصيب بها عينا من البقر ¬

_ (¬1) انظر: كتاب ألوان (ص 82). (¬2) الوضاح: الحسن الوجه. (¬3) يميرك: يقدم لك أطيب الطعام ويميرك فى المعاملة.

4 - رب زارع لنفسه حاصد سواه:

عنى إليك (¬1) فإنى لا يوافقنى ... عور الكلام (¬2) ولا شرب على الكدر وإذا كانت سمة الإنسان فى الحياة، إرادة وكرامة فوق حرية يتمتع بها، فى قوله وعمله ومسلكه، فإنها أيضا لا تكمل بمعناها الواسع إلا إذا اتصلت بالحياة بناء وعملا نافعا، ومشاركة إيجابية فى الحياة تمد يد العون لمن يحتاج، وتقدم الخير للجميع، ولا تبخل بعطاء، ولا تضن عن مشاركة، هو إنسان لم يخلق لنفسه فقط، وإنما هو سبيل سعادة الآخرين، وحياة لمن يبغى الحياة، وسلم لمن يريد الطمأنينة فى يومه وغده، وهو كما عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه، جليس صالح بكل ما تحمله هذه الكلمة البناءة من معانى النفع، والخير، والهداية، والأثر الطيب فى النفس وفى الآخرين: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافح الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ... ». إنسان يعمل ويحفظ ماء وجهه من السؤال والشحاذة، ويحفظ غيره من الضياع، ويفيد الآخرين بألوان الخير والمنفعة، ويترك بصماته فى كل شىء علما، ورزقا، وخيرا، واجتهادا، وقدوة، أليس هذا هو ما يدعو إليه القرآن والرسول فى العمل الطيب، والنفقة، والبذل، والعطاء، والأجر المضاعف لصاحبه فى جميع مجالات الحياة. وقد جاء المثل العربى مصورا هذا الاتجاه فى قوله: 4 - رب زارع لنفسه حاصد سواه: وأصل هذا المثل أن صعصعة بن معاوية ذهب إلى عامر بن الظرب، يخطب ابنته، فقال: يا صعصعة، إنك جئت تشترى منى كبدى، وأرحم ولدى عندى، النكاح خير من الأيمة، والحسيب كفء الحسيب، والزوج الصالح يعد أبا، وقد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك. ثم قال لقومه: يا معشر عدوان، أخرجت من بين أظهركم كريمتكم على غير رغبة عنكم، ولكن من خط له شىء جاءه، رب زارع لنفسه حاصد سواه. فلولا قسم الحظوظ على غير الحدود ما أدرك الآخر من الأول شيئا يعيش به، ولكن ¬

_ (¬1) عنى إليك: ابتعدنى عنى. (¬2) عور الكلام: يقصد به القبائح والأمور التى تنكرها الطبائع السليمة الشريفة.

5 - استعجلت قديرها فامتلت:

الذى أرسل الحيا (¬1) أنبت المرعى، ثم قسمه أكلا، لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة. وقد يعمل الإنسان عملا صالحا يحتاج إلى تأن فى جنى ثماره، والوصول إلى نتائجه، فأولى به أن لا ييأس من بلوغ الهدف، وأن يقف موقف الآمل فى تحقيق الرجاء، دون استسلام لهوى، واستعجال لنتائج قد تتأخر، أو قد يعوقها عائق عن سرعة الإنجاز وتحقيق المراد، وأما إذا تحكمت فيه شراهة النفس، وتعجل أموره، فلن يكون حاله إلا كحال من عبر عنه المثل العربى: 5 - استعجلت قديرها فامتلت: فقد أبت نفسها الشرهة إلا أن تحقق مغنمها سريعا دون انتظار لنضج اللحم فوق النار فى قدرها، فأخذت بعض ما فيه ووضعته فى الرماد الحار لتأكله سريعا، وبذلك فاتها الكثير من أجل القليل. ب- الإنسان والمجتمع: وهكذا تصور الأمثال العربية النفس السوية فى منهجها فى الحياة، وطريقتها فى معالجة شئونها، ويبقى بعد ذلك أن تتلاءم مع الآخرين الذين يعيشون معها فى ظل مسئوليات ضخام تحتاج إلى أسلحة مادية، وطريقة ناجحة، وإعداد نفسى. وقد يستدعى ذلك بعض التنازلات من قبل صاحبها فى سبيل اندماجه فى محيطه، وتحمله لأعباء الآخرين. وهكذا الحياة بقوانينها والتزاماتها تأبى إلا أن تستوفى حقها كاملا من الإنسان السوى بإتمام العمل وإتقانه، والشجاعة فى تحمل مسئولياته، والإخلاص فى إنفاذه، والخبرة بأموره. وكل هذه وفق منهج قرآنى استقر فى أعماق النفس البشرية والإنسانية من قديم الزمن وحديثه، وتعرضه الأمثال العربية بتلك الكلمات البسيطة: 6 - أعط القوس باريها: فصانع القوس أدرى بأسراره، وأعلم بإمكاناته، وهو الذى يستطيع أن يصلح عيوبه. ¬

_ (¬1) الحيا: المطر. انظر: كتاب ألوان (ص 29).

7 - قبل الرماء تملأ الكنائن:

قوانين صادقة من الحياة فى ماضيها وحاضرها، حياة لا تقوم على جهالة وجاهلين، إنما على علم بأسرارها، وحذق بأمورها المختلفة، سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا، ودينيا، وتربويا، والاستعانة بكل هذه الخبرات لإدارة شئون الحياة، وللنجاح فى تسلم زمامها. أما إذا تدخلت الأهواء، وتحكمت النزوات فى الاختيار، وتغلبت الأغراض الخاصة على العامة، فهو أمر مؤذن بانتهاء الحياة، وعلامة من علامات الساعة، حينما يسند الأمر إلى غير أهله، فتضيع الأمانات. وأمثله ذلك كثيرة فى الحياة والمجتمع، فأولئك الذين يتصدون للفتيا دون سند من دليل أو علم بشريعة، أو فقه لقانون، وأولئك الذين يتصدرون واجهات الحياة الاقتصادية والمالية، أو يقودون الأمة إلى معاركها العديدة فى الحرب، والسياسة، والتخطيط، والتربية، والتعليم، دون بصر بالحياة، واستعداد لمجابهة أزماتها بما تستحقه من أسلحة مناسبة من علم، ومعرفة، وإخلاص فى العمل، وشجاعة فى تحمل المسئوليات، إنما يسيئون إلى أنفسهم وإلى دينهم، ومجتمعهم، ووطنهم بأعمالهم هذه التى تهدم ولا تبنى. ومن الأمور التى تحقق النجاح المنشود، أن يستعد المرء لكل ما يقع فى الحياة من أمور حسنة أو سيئة، يتلقاها ويحسن فهمها ووضع نتائجها موضع التنفيذ فى مكانها اللائق بها، حتى لا يؤخذ على غرة، فيجلب على نفسه هزات تؤثر فى تفكيره، وتقضى على نشاط جسمه وعقله، وقد تفضى به إلى عثرات فى طريق حياته، واضطراب فى تفكيره، وما يصدق على الفرد يصدق على الجماعة، والمجتمع، والدولة. والمثل العربى: 7 - قبل الرماء تملأ الكنائن: فالاستعداد واجب لملاقاة كل أمر صعب، وكم تعرضنا لكثير من ألوان المحن والأزمات فى معيشتنا التى لم نحسن التخطيط لها، فما نعانيه من ازدياد عدد، وتضخم سكان، وكثرة ديون من قبل من يتحكم فى رقابنا، ويمنع عنا ما نحتاج إليه من غذاء، وسلاح، ومال، إنما يرجع إلى أننا لم نضع كل هذه الأمور موضع حساباتنا وتقديرنا، فكان من ورائها ما نلاقى من متاعب وآلام.

8 - عند الصباح يحمد القوم السرى:

ولقد عرّفنا المنهج القرآنى منذ أربعة عشر قرنا من الزمن ما يجب على المؤمن العارف بربه أن يستعد لآخرته، بإعداد تلك الكنانة التى تحوى الأعمال الصالحة، وأفعال الخير قبل أن يقف بين يدى ربه يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمران: 30]. وإذا نجحت كل تلك الخطوات فى سبيل تحمل المسئوليات، وإسناد الأمر إلى صاحبه القوى الكفيل بإنجاحه بما يملك من قيادة بصيرة، ترى الأمر وتعالجه، وتضع خطواتها على الطريق الأكمل المأمون، البعيد عن المزالق والمخاطر، والمسلح بقوى الإيمان، والمعرفة، وتحمل الصعاب، كان ذلك هو طريق الفوز والنجاح له ولغيره. وقد عبر عن ذلك المعنى مثل عربى قديم له دلالته النافعة فى مثل هذا الموقف، يقول: 8 - عند الصباح يحمد القوم السّرى: وأصل هذا المثل أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر الصديق، رضى الله عنه، أمر قائده خالد بن الوليد، رضى الله عنه، وهو سيف الله المسلول، أن يسرع إلى معاونة جيش المسلمين بالعراق، وإلى نجدتهم، فأراد خالد أن يجتاز طريق الصحراء اختصارا للوقت، وتلبية لأمر الخليفة، وإحساسا بالمسئولية إزاء هذا العمل الجسيم، فعرض الأمر على معاونيه، فقال له رافع بن عمرو الطائى: لقد سلكتها فى الجاهلية، وتحتاج إلى خمس ليال للإبل الواردة التى شربت وارتوت، فاشترى خالد بن الوليد مائة من الإبل، وعطشها، ثم سقاها الماء حتى رويت، ثم كمم أفواهها، وسلك بها الصحراء، حتى إذا كان اليوم الثالث خاف العطش على الناس، والخيل، فنحر الإبل، واستخرج ما فى بطونها من الماء، فسقى الناس والخيل، ومضى فى طريقه، حتى إذا كانت الليلة الرابعة، قال رافع: انظروا هل ترون سدرا عظاما، فإن رأيتموها، وإلا فهو الهلاك، فنظر الناس، فرأوا السدر، فأخبروه، فكبّر، وكبّر الناس، ثم هجموا على الماء، فقال خالد بن الوليد: لله درّ رافع أنّى اهتدى ... فوّز من قرار إلى سرى خمسا إذا سار به الجيش بكى ... ما سارها من قبله إنس يرى عند الصباح يحمد القوم السّرى (¬1) ... وتنجلى عنهم غيابات الكرى (¬2) ¬

_ (¬1) السرى: السير ليلا. (¬2) غيابات: ظلمات. الكرى: النعاس.

ج - طريق التربية الناجحة:

ينجو بنفسه وقومه، ويحقق الأمان والطمأنينة، وتكشف أمامه الحقائق، وتتضح الأمور بلا لبس ولا غموض بعد مخاطرة، واقتحام للشدائد، وخبرات بالطريق ومسالكه، وحذر ... إلخ، كل هذا كان عدة للقوم، فكانت النتائج فى جانبهم، والدولة لهم، والغلبة على الأعداء. أما إذا استنام الجميع إلى لهواتهم، وشهوات نفوسهم، وانغمسوا فى ملذات الحياة دون بصر بالعواقب، وحذر من مغبات الأيام، فلن تكون النتائج إلا فى صالح أعداء الحياة، وأعداء البلاد، والعقيدة، والوطن، وليس أمر الهزيمة المرة التى حاقت بالبلاد عام 1967 م عنا ببعيد. ج- طريق التربية الناجحة: إذا تحدد أمامنا الطريق إلى بناء الحياة، وتكوين المجتمع الصالح، بتلك اللبنات السليمة فى تفكيرها وعملها، وبالرجل الخبير بعمله، والعالم بأسراره، والثقة فى نواياه، فإن طريقة إخراج هذه النماذج البشرية لحياتنا تختلف من حين لآخر، تبعا لاختلاف الأساليب والأدوات، وتبعا لنماذج القيادات التى تتولى تربيتها وتعليمها، وما قد يصل إلينا فى وقتنا الحاضر من مذاهب عديدة، شرقية وغربية، وتجارب تستخدم فيها ألوان عديدة من النظريات والآراء، والتفكير الفلسفى والنفسى، لا تقتصر على وطن ولا جنس، وإنما تصل إلى دراسة كل ما يتعلق بنوازع النفس، وقدرات العقل، وطاقات الإنسان الكامنة، وكل ذلك لكى تصل إلى تربية سليمة للإنسان، تتسامى بغرائزه، وترتفع بطاقاته العقلية إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان فى عصره الحديث. وهناك طريقان فى الحياة والتربية، كان لهما أثرهما فى وقتنا الحاضر فى اهتزاز القيم والمثل العليا التى تحرص عليها الأمم والشعوب، ولكن يبقى هناك سؤال يفرض نفسه على طريق الموازنة والمقارنة بين أحوال متعددة فى اتجاهاتها، وهو كيف كانت النظرة إلى الأفراد والجماعات فى تربيتها وبناء أشخاصها ومجتمعاتها؟ لا ننتظر أن نضع أمام ناظريك يا أخى فى هذه العجالة منهجا محدد الاتجاهات، واضح القسمات لما نريد، وإنما هى قبسات من تلك النماذج التى حوتها الأمثال العربية التى تهتم بالناشئة، وتحرص على مصالح الأفراد والجماعات على حد سواء، مهتدية

كلمة أخيرة:

بتعاليم القرآن والسنة المحمدية، وواقع الحياة وما تفرضه من أمور تحكم ميزان الحياة، وننظر إليها من خلال المعايشة والاختلاط، حتى يشب الصغير ويتكون المجتمع، وتصلح أحوال الحياة. ومما لا شك فيه أن للمنزل والمجتمع دورهما فى البناء لهذه الحياة، بدءا بالطفولة وما تحتاج إليه من رعاية وحنو، وإعطاء حق كل فرد فى الحياة الحقيقة، وما تستلزمه من اهتمامات عديدة فى المطعم، والمأكل، والمشرب، والتعليم، والتربية، وإعداده للمستقبل، يشترك فى ذلك كل من يملك هيمنة، ومسئولية إخراجه إلى عالم الوجود، من أب، وأم، ومجتمع، وقبيلة، وحكومة، ومربين. كلمة أخيرة: وإذا نظرنا إلى ما تعانى منه بيوتنا ومجتمعاتنا من تخريب وتدمير لشبابنا وزوجاتنا، وما يجرى من أحداث تنبئ بشر مستطير، إنما ينجم ذلك كله عن فقدان الرعاية من جانب الآباء وأولياء الأمر، ممن أعطاهم الله القيادة لهؤلاء الشباب والزوجات، فلا هيبة، ولا احترام، ولا خوف، ولا تقدير، انعدمت الرقابة، كما انعدم الجزاء، تفشت فى المجتمع وسائل التخريب للأجسام والعقول، من مخدرات تعصف بالقوى، وتهلك الأجساد، وكثرت حوادث القتل من الأبناء للآباء، والاغتصاب بين الفتيات، ألوان كثيرة من الفساد الذى لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى. أعلاج ذلك فى تلك القوانين الكثيرة الثغرات فى بنودها ونصوصها؟ أعلاج ذلك فى تلك القوانين التى يكثر التحايل عليها، والتى لا تحظى بتقدير؟ إن شبابا، وزوجات، وفتيات، يتلقون تعليمهم ويأخذون تعليمهم ويأخذون منهج حياتهم من تلك الصور البغيضة المنقولة إليهم عبر وسائل التلقى التى تصدع آذانهم فى كل لحظة بأخبارها وأنبائها، وتشغل عيونهم بالمرائى المختلفة الناطقة والمسطورة فى تمثيليات وقصص، وأحداث من مختلف أنحاء العالم، لن ننتظر من وراء ذلك إلا التأثير المقيت المتمثل فى تقليد ما يرون، وما يسمعون، وما يقرءون. ينطبع ذلك كله فى حركاتهم، وأفعالهم، وأزيائهم، وألسنتهم، وضغط الحياة عليهم

بكل أثقالها، فلا يكون نتيجة ذلك إلا إهمال الشأن، والتراخى فى التربية، والجهل بوسائل العلاج، والنقص فى الخبرات التى تنجح فى مثل هذه الحال. فإذا أردنا أن نخطط لإقامة بناء إنسانى مدعوم بالقيم، والمبادئ، والأخلاق، ومتسلح بالعلم النافع، وبعيد عن تنافرات الحياة، فلا بد أن نعيد للمنزل دوره فى البناء، فالرجل يتحمل مسئولياته فى التربية والإرشاد، والأم تقوم بدورها المؤثر بنفسها فى حضانة أطفالها منذ الصغر حتى الكبر. مسئولية كاملة عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكل راع مسئول عن رعيته»، مسئولية كاملة عما يقع فى الحياة من تقصير، وإهمال، وتأخير، مسئولية عن هزات الحياة بكل ما يتفشى فيها من عادات قبيحة، ورذائل تصيب الأفراد، صغارهم وكبارهم، مسئولية كاملة إيجابية فى نفعها ودفعها، تزويد بكل نافع من القول، وقدوة فى السلوك، وتربية حصينة لمجابهة المستقبل بكل ما فيه، ودفع ووقاية من كل أمر مدمر، ومخدر، ومهلك. المسئولية ريادة، وحكمة، وبصر بالأمور، توجب على القائم بالأمر، والمسئول عنه ألا يخدع، ولا يورد أتباعه موارد الحتوف والهلاك من أسرة، ومجتمع، ودولة. لا يتبادر إلى الذهن أننا ندعو إلى أن ترجع المرأة إلى سابق ما كانت عليه فى الجاهلية الأولى، من إهدار لكرامتها، وهضم لحقوقها، وإهمال لشأنها، إنما ندعو إلى إبراز ما أنعم الله به عليها من فطرة حانية على بيتها، وأداء صحيح لرسالتها فى الحياة، وصيانة لنفسها وزوجها من كل أمر شائن يغض من مكانتها، ففي ذلك كله شفاء لنفوس مزقتها أمراض الحياة المادية، واهتمام بأطفال حرموا الرعاية فى دراستهم، وتولى أمرهم خادمات جاهلات بشئون التربية والتعليم، ومراقبة لشباب وفتيات يحتاجون إلى دراسة احتياجاتهم المادية والمعنوية، ويرغبون فى اللجوء إلى الشخص الواعى الذى يسدى إليهم النصح والتوجيه، دون حساسية أو غلظة فى المعاملة، أو سوء فهم لأمور العلاج. من أولى بذلك كله؟ من يستطيع أن يقدم هذا العون؟ إن الأب وقد شغلته مسئوليات الحياة، جدير بأن يضيف إلى أعبائه المادية ما يستطيعه من نصح وإرشاد،

ويأتى بعد ذلك وقبله أيضا الدور الفعال الذى تقوم به الأم فى المراقبة والرعاية، وتهيئة البيت السعيد الذى يمكنه أن يحقق ما تصبو إليه كل أسرة سعيدة من سكينة النفس، ورقى العقل، وتوفير النجاح فى الحياة لكل فرد من أفرادها، رجلا أو امرأة، شابا أو فتاة، وبذلك تكمل الوظيفة الحقيقية للأم فى الحياة الناجحة التى نبتغيها اليوم لمجتمعاتنا الحاضرة والمستقبلة.

محتويات الكتاب المقدمة 3 الفصل الأول التمهيد القرآن الكريم وظيفته الأصلية، وكيف يتخذه المسلمون 7 انتفاع الموتى بقراءة القرآن 10 بدع حول القرآن 11 الغاية من إنزال القرآن 12 وجوب طاعة الله وطاعة رسوله، ووعيد المخالفين 16 الأمر بتدبر وتفهم القرآن 17 وعيد المعرضين عن القرآن 18 فضائل قراءة القرآن وفضائل بعض سوره وآياته 19 تحزيب القرآن 24 لا تعرض عن قراءة القرآن 24 بدعية جمع القراءات فى سورة أو آية واحدة 27 بدع وضلالات متعلقة بالقرآن العظيم 27 ذكر أسباب إعراض الناس عن القرآن 32 حكم الجهر بقراءة سورة الكهف بالمسجد، وسماعها من المذياع فى المسجد 37 الفصل الثانى إلزام القرآن للماديين والمليّين 39 1 - معنى المادة والماديين 39 2 - إلزام القرآن للمليين 80 كلمة للتاريخ 136 الفصل الثانى الأمثال فى القرآن الكريم 146 محتويات الكتاب 288

§1/1