على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

بتول جندية

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة لله الحمد أولاً وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، معلّمِ الإنسان ما لم يعلم، مَن نثرَ له في ملكوته علامات تهديه، وسننًا ترشده، والله بها غير ملزَم. والصلاة والسلام على هادي الهداة، وحاديهم إلى الخير، ومصلح الإنسانية الأعظم. تظلّ الظاهرة الحضارية أضخم إنجازات الكائن البشري وأخطرها، ولأجل ذلك وقف منها موقفين متباينين: الرهبة والعجز، أو التفهم والتخطيط. وتحاول هذه الدراسة، مستعينة بالتكثيف، أن تبرهن أن الموقف الثاني هو الخيار الصحيح، وأن الظاهرة الحضارية، على خطرها، فعل إنساني، وأن لها نظامًا مطّردًا، وسننًا إلهية قابلة للتحليل والفهم والتسخير. تنتمي هذه الدراسة إلى "فلسفة الحضارة"، وهي تعالج قضايا كلية تتعلق بقوانين الحضارة، وسنن وجودها وحركتها وتطورها

وانطفائها في علاقتها بالمتغيّر البشري، كما تهتم بتحديد مفهوم الحضارة، وتبحث في قضية الدور الحضاري، وشروط تخلق الظاهرة الحضارية وانهيارها. تسعى الدراسات الحضارية اليوم إلى تصدر قائمة اهتمامات المفكرين العرب، فبعد قرن كامل من التجريب وجدت الأمة أن الحصيلة عاجزة عن أن تقدم إجابات جوهرية فيما يتعلق بقضية النهوض الحضاري، وتفسير العلل الحقيقية وراء المأزق الذي تعيشه هذه الأمة، بالإضافة إلى أن سلسلة التجارب الفاشلة، والانكسارات المتلاحقة، وما كرسته من خيبات، أفقدت الثقة في الاجتهادات التي قُدِّمت، والاختبارات التي تم تطبيقها!! وتحاول هذه الدراسة مواجهة الظاهرة الحضارية في ذاتها بالتجرد عن سلطان المأزق الذي يوجه الدراسات العربية غالبًا ويقودها في المسار الخاطئ، لأن الأزمات الحضارية تعرض تجليات خادعة لحقيقتها، وإشكالياتُها تنبع من صميم قانون التخلّق الحضاري، وتقدّم غير شروطه، فما يكون علة يصير نتيجة، وتنعكس المعادلة في المنقلب! يمكن وصف هذه الدراسة بأنها عتبة للدخول إلى عالم الحضارة الرحب، وأسهم دالّة إلى قوانينها الكبرى، وخطوة أولى في مشروع ضخم آمل - بعون المولى - تمامه. وقد تمّ إنجاز هذه الدراسة مع مطلع عام 2009، ولم يُيسَّر لي نشره إلا اليوم، وقد تهيّأ لي خلال هذه المدة أن أنجز حلقة أخرى في هذه السلسلة هي بحث علمي محكّم (¬1) ¬

(¬1) البحث بعنوان: الانحطاط وأزمة الفعالية - تنقيب عن العلل والآثار. منشور في مجلة بحوث جامعة حلب، العدد 68، لعام 2010.

حاولت فيه الاستعانة بهذه القوانين للكشف عن أسباب انهيار الحضارة الإسلامية، وملابسات انحطاطها منذ هجمة المغول وحتى سقوط الخلافة. وتأتي أهمية نتائج هذين البحثين من استجابتهما لمتطلّبات المرحلة الحضارية التي تعيشها هذه الأمة المتحرّقة إلى ما ينتشلها من وهدة الانحطاط التي علقت فيها، وأضاعت السبيل إلى ذلك، فتواكلت على الأسباب المفقودة، وغفلت عن خزّان طاقتها الولودة، وأقعدتها آلامها والمحن، ناسية أن لا شيء يجعلنا أقوياء مثل الألم. تفيد الدراسة من كثير من النظريات والآراء المتوافرة فيما يتعلق بقضية الحضارة، إلا أنها تقدم تصورها الخاص الذي لا يهتم بتبرير أي من تلك الآراء، وإنما تستعين في تقديم رؤيتها بالتواصل المباشر مع أحداث التاريخ، والغوص في عمق الظواهر الاجتماعية والثقافية، وقراءة التجارب الحضارية المتنوعة، لا سيما الإسلامية والغربية واليابانية .. من دون الوقوع في أسر إحداها، لأن غايتها الكشف عن القوانين المطلقة التي تحكم الحركة التاريخية في التجارب الحضارية المختلفة ومهما تباينت مقولاتها الفكرية، ولأن غرضها أن تكون مرجعية عامة لفكر النهضة؛ عربيًا وإسلاميًا، وحجة ملزِمة لفرقاء الأمة مهما اختلفت مشاربهم واتجاهاتهم، بيد أن ما جاء فيها لا يخرج عن السنن الإلهية المنثورة في كتاب الله تعالى، وقوانينه الكونية التي لا تتخلّف. ولأجل ذلك حرصت الدراسة على

عدم الانفصال عن الواقع الحي والمراقبة الدقيقة له؛ لئلا تتورط في مزالق المثالية أو التصورات النظرية القبلية. وقد استعانت الدراسة من أجل تحقيق هذه الأغراض بالتكثيف لضبط حدود البحث، ولذلك فهي تُعنى باستخلاص القوانين والكليات في المتن، وتترك الأمثلة والتوضيحات للحواشي إلا إذا دعت ضرورة للخروج عن هذا النسق. وبعد .. فلا يسعني إلا أن أحمد الله جل ثناؤه لما أفاض عليّ من تيسيره، وأيّدني به من هدايته، وأنعم عليّ من أسباب خدمة هذه الأمة العظيمة بعلم أو عمل، راجية أن يتجاوز عني أسوأ عملي، وأن يقيل ضالّ علمي، وأن يقبله مني خالصًا لوجهه الكريم. بتول

امتحان المفاهيم

امتحان المفاهيم الزمن، التاريخ، الحركة، التطور، الأمة، الثقافة، الحضارة، المدنية، الدولة، النهضة .. مجموعة من المصطلحات والمفاهيم تُقدَّم من خلالها فلسفة الحضارة، وتشترك في التعبير عن الحركة المتعلقة بكل من المتغيِّرَين الزمنيّ والبشريّ في صورتهما الجماعية لا الفردية. ومع أن هذا الاشتراك يسمح بشيء غير يسير من التداخل والخلط الطبيعيين، فإن تمايزًا ما ينبغي أن يلحظ ويولى من العناية ما يستحق لتفادي ما قد يجر إليه الخلط من نتائج مغلوطة في أي مشروع جاد للكلام على الحضارة تنظيرًا وتخطيطًا وتوجيهًا. الزمن هو الفضاء الذي تتحقق فيه الظاهرة التاريخية، وفي أفق قوانينه تتخلق الحضارة. والتاريخ هو الخط البياني لسيرورة الزمن، وهو خزّان الأحداث الماضية؛ ما كان، وقانون ما سيكون، فالتاريخ؛ قانونًا، يتحقّق في صورة التاريخ؛ أحداثًا؛ أي التاريخ/العبرة. والحركة صفة ملازمة للزمن ومنعكسة على الوجودَين المادي والمعنوي، وتتحقق في مستويين: عامٍّ قاهر ذي اتجاه حتمي، وخاص متفاوت فردي أو جماعي. والتطور تقويم نسبي للحركة. وداخل رحلة الزمن يتحقق الوجود الإنساني الجماعي من خلال مفهوم الأمة، والأمة هي التعيُّن الحيويّ لقيم كلية جماعية، وتجسيد إنساني لموقف خاص واحد من الوجود والحياة، تتبناه مجموعة بشرية، ويُعبَّر عنه بكلمة "ثقافة"، والثقافة علامة فارقة على كل تجمع بشري متماسك (مجتمع، أمة)، وهي في الوقت نفسه صانعة لهذا المجتمع ومانحة له هويته وتماسكه. ويبدو أن لقب الحضارة هو وصف قيمة

يُطلَق على ثقافة ما أو أمة من الأمم لتمايز نوعي في طبيعة قيمها ووجودها المادي والمعنوي، وقوة تأثيرها في محيطها. وعندما يغدو هذا التمايز كميًا فإن الحضارة تدخل في طور المدنية، فالمدنيّة مرحلة من مراحل الحضارة، وليست هي الحضارة، وإذا كان الغالب في الحضارة أن تكون روحية بمعنى قيميّة، أو مبدئية، فإن المدنيّة تكون في الغالب مادية نفعية. والدولة هي أداة من أدوات تحقق الحضارة وهي المظهر السياسي لها، وليست هي الأمة، ولا فيها تختصر الحضارة (¬1). إن مصطلح النهضة هو - لا شك - منبئ عن مرحلة لاحقة للسقوط، أي هي مرحلة من مراحل الحضارة تعقب الضعف والانحلال، وجمرة توقّد لبعثها من جديد، ولكنها غير لازمة، وإنما هي خيار بشري ومظهر لإرادة تحرير جبارة. لقد جر الخلط بين "الزمن" و"الحضارة" إلى الجبرية وتعطيل الإرادة البشرية، وافتراض عدم القدرة على مواجهة حركة الزمن القاهرة. ذلك كما الخلط بين "التاريخ" و"الحضارة"، إذ إن أحداث "التاريخ" ليست صورًا آلية قابلة للاستعارة والنسخ، وإنما هي نماذج وعلامات على قوانين كلية داخلية قابلة للفهم والحوار والتوظيف. ولمّا ذابت الحدود بين "الثقافة" و"الحضارة" ولد الفكر الاستعماري، أو ¬

(¬1) قد يبرز التعيّن المادي للأمة في بعض النماذج الحضارية في شكل الدولة نفسها، كما هو الحال في مفهوم المواطنة في الدول الغربية الحديثة، ولكن هذا لا يلغي أن الغرب بمختلف دوله وولاءاته القومية، يخضع لنموذج حضاري واحد يستمد منه مقولاته الكلية ومرجعياته المشتركة.

على العكس انحطت الهمم وانعدم الطموح، ورضي الضعيف بفتات الحضور الحضاري. وأيضًا فإن اختصار "الحضارة" في المرحلة "المدنية" هو استسهال وانخداع بظاهر الأمور وانبهار بالنتائج وغفلة عن الأسباب والمحرِّك والشروط. وعلى الرغم من التطابق الظاهر بين دواعي الانبعاث الحضاري الأولي، وشروط النهوض الانعكاسي، فإن التعقيد والاضطراب الغالبين على مرحلة النهوض يثيران إشكاليات مرحلية حرجة لا تثيرها بساطة الانبعاث الأولي. والوعي بخصوصية المرحلة من أول مبررات النجاح أو الفشل في أي مشروع نهضوي.

اتجاه الزمن وتقويم الحركة

اتجاه الزمن وتقويم الحركة تتفاوت آراء فلاسفة التاريخ في تحديد اتجاه حركته، وتقويمها، فرأي مال إلى الاعتقاد بالتقدم الصاعد (¬1)، وأن الإنسانية تتجه عن طريق التراكم إلى تطور متتابع صاعد، وأن الجديد يفْضُل القديم لزومًا. وقد أسهم هذا الرأي في إثارة إشكاليات الحضارة العالمية أو العولمة، وقضية التراث والمعاصرة، وصراع القديم والجديد، بحسم مبدئي لصالح الجديد والمعاصر، بما أن الإنسان كلما كبر ازداد علمًا وحكمة، وكذلك هي الإنسانية في حركتها التاريخية! لا نختلف في أن التراكم برهان ممكن لقياس التطور، إلا أنه مقياس كمي صامت عن أية دلالة نوعية، إذ إن المتأخر لا يتبنى كل ما جاء به المتقدم، والتراكم بحد ذاته هو فعل طبيعي لا ¬

(¬1) تبنّى هذا الرأي فلاسفة اليونان قديمًا، وبيكون وديكارت من بعدهم، وهذا التوجه هو الذي مهّد لفكرة التطور الديالكتيكي بصورتيها؛ المثالية، والمادية، وقد كان لآراء داروين في التطور الطبيعي والبقاء للأصلح أثر كبير في تعزيز الثقة بالتطور الصاعد، الذي تمثل عند نيتشه في فكرة السوبرمان، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص 146، 152. كما أن نفوذ هذا الاتجاه قد اتسع مع ضغط العولمة، وسيطرة المركزية الغربية، واعتبار الغرب القمة التي استطاعت الإنسانية أن تبلغها في مسيرتها التاريخية، ينظر: نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص40. ويلتقط أدونيس هذا الموقف ويصير من أهم المروجين لنظرية التطور الصاعد في الحقل الأدبي، وسيكون لتنظيراته المستندة إلى هذا الوعي أثرها في تحديد مفهوم الحداثة والموقف من التراث، يقول: "إن الوضع الجديد متقدم، نوعيًا، في حركته العامة، على الوضع الماضي"، أدونيس، علي أحمد سعيد: الثابت والمتحول، 3/ 56.

بشري، على الرغم من أنه يتحقق بمسبِّب بشري، أما الفعل البشري والحضاري الحق فهو "الاختيار"، والاختيار فعل نفي وإثبات مفتوح المصادر يخضع لمؤثرات متنوعة؛ بيئية وذاتية وضرورية، قديمة وحديثة على السواء، وينتقي من مجمل المتراكم عبر الزمن والتاريخ. ومن إيجابيات التراكم أنه يقدم "للاختيار" مساحة أوسع من التجارب والخبرات، ولكن من طبائع النوع البشري المؤسفة أنه لا يتعظ بالتجارب السابقة ولا بخبرات الآخرين إلا بقدر ما يعتقد ويرغب، أما قيمة الخيار الناجم عن فعل الاختيار البشري فهي أمر نسبي خاضع لاعتبارات خاصة ومتغايرة تنفي إمكانية الحسم القبلي سلبًا أو إيجابًا. ومما يشهد بعدم تلازم قيمتي التطور والتراكم ما يقدمه التاريخ من نماذج متكررة لحضارات تسلم نفسها إلى الانطفاء بعد أن تبلغ قمة عطائها وتفوقها، وحضارات تتجاهل مقومات تحضّر سابقة وتهملها (¬1)، ولهذا فلا يصح اعتماد التراكم برهانًا على التطور أو الجزم بحركة الزمن التصاعدية، لأن كل حضارة هي كائن فريد لا يتكرر، على الرغم من أنه يستفيد بهذا القدر أو ذاك من مخزون التجارب السابقة، ولأن الفكرة تلد نقيضها في دورة غير منتهية (¬2). ¬

(¬1) زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص171. (¬2) كهذا الـ"تعاقب التهكمي الساخر الذي ذكره أفلاطون، وهو تعاقب الملكية، فالأرستقراطية، فالديموقراطية، فالدكتاتورية، فالملكية"، ديورانت، ول: قصة الحضارة، 32/ 23 .. إذ هو نموذج لتحقق قانون التداول أو الجدل في المجال السياسي، ومن أعجب العجب ذلك النموذج الاجتماعي لقانون التداول؛ حيث يرتد قبيل من أبناء الغرب وثقافة الحريات إلى ظاهرة العبودية؛ يروجون لها، وينشرونها، ويطلبون لها الشرعية؛ في الدورين: سادة وعبيد، لتتحول إلى تجارة رائجة تجد لها مسوّقيها وعملاءها وبضاعتها وطقوسها، وهي تقوم على التفاهم بين الطرفين، لا الإكراه، في كثير من الأحيان!!! يساعد البحث في Google باستخدام الكلمة المفتاح Bondage في توفير مادة غنية عن هذا الموضوع.

وفي مقابل نظرية التقدم الصاعد، ولدت نظريات يغلب عليها التشاؤم والعبثية والاستلاب، كالرأي القائل بالتأخر والنكوص والعودة إلى البدائية (¬1)، أو بالعشوائية ونفي النظام (¬2)، أو بالانقطاع التاريخي (¬3). وتبقى نظرية الدورات المتكررة (¬4) هي التفسير الأسلم ¬

(¬1) ويسيطر هذا الرأي في عصور الاضطراب والانحطاط حين يسود الشك واليأس، ولكثير من الأعلام أقوال تصب في هذا الاتجاه، ولعل روسو من أبرز المبشرين به، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص155. (¬2) ويعد فيشر المؤرخ الإنكليزي من أهم الدعاة والمؤمنين بهذا الرأي، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص147 - 148. (¬3) مؤدّى نظرية الانقطاع التاريخي هو نفي التراث التاريخي لجماعة من البشر، وإعادة هيكلتهم وفقاً لمعايير الترشيد والتحديث. ينظر: حبيب، رفيق: تفكيك الديموقراطية، ص64 وما بعد، 84 وما بعد. (¬4) للزمن حركتان - كما قلنا - كلية وجزئية، والحركة الكلية هي حركة التاريخ العام، وهي في الفهم الإسلامي تحديدًا، ذات اتجاه دائري يبدأ من مصدر واحد مطلق؛ هو الله تعالى، وإليه ينتهي. كما أنها حركة قهرية لا تدخل في حيز الإرادة الإنسانية، أما الحركة الجزئية فهي دورية، أي إن القيم فيها متبدلة على خط الزمن العام، وبالإمكان أن ترجع إلى لحظة السكون التي انطلقت منها، في حين أن خط الزمن العام لا يحمل قيمًا في ذاته وحركته ماضية بغض النظر عن القيم المتبدلة على جانبيه (ينظر المخطط رقم1). المخطط رقم (1) وهذا الوصف يقترب من تشبيه توينبي لحركة الحضارة بدوران العجلة حول محور ثابت، إذ هو يعقّب شارحًا: "ولعل هذا التجانس في الحركتين المتباينتين - حركة رئيسة لا يأتيها الباطل، نشأت على أجنحة حركة متكررة أقل شأنًا - هو جوهر ما نقصده بكلمة "الإيقاع"." ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 425.

والأكثر استيعابًا لحقائق التاريخ، وكان ابن خلدون واحدًا ممن قالوا بها وتابعه فيها بعض من فلاسفة الحضارة الغربيين (¬1) وطوروها من بعده، وهي في الوقت نفسه شرح لقانون التداول (¬2) الذي ورد في القرآن الكريم، والسنة التي أعلن الله تعالى أنها ماضية في الأمم، إذ قال: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران/140)، وكثير من الآيات ¬

(¬1) من أولئك شاتوبريان، وإشبنجلر، وتوينبي، ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص159 - 162. (¬2) ونلمح هذا الإسقاط الدوري على أحداث التاريخ في قصيدة أبي البقاء الرندي: لكل شيء، إذا ما تمّ، نقصان ... فلا يُغَرَّ بطِيبِ العيش إنسانُ هي الأمورُ، كما شاهدتَها، دُوَلٌ ... من سرّه زمنٌ ساءته أزمان ينظر: محمد، سراج الدين: موسوعة روائع الشعر العربي، الرثاء 7/ 57.

القرآنية تثبت المسار الدائري لحركة الوجود؛ الكلية والجزئية في المصدر والمآل والاتجاه، من ذلك قوله تعالى: "وإن عدتّم عدنا" (الإسراء/8)، وقوله: "فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا" (فاطر/43). ترى نظرية الدورات المتكررة أن التاريخ يتحرك حركة دورية يكشف تكرارها عن قوانينَ دائبةٍ وسنن ماضية تخضع لها الحركة، ونظامٍ مضبوط يوجه مسارها، ومحطاتٍ متكررة تقف عندها الحضارات لزامًا، وإذا كان التراكم هو معيار التقدم الصاعد في النظرية السابقة، فإن التشابه هو معيار التكرار وضابط الحركة في هذه النظرية. ولكن .. لمَ نرى أن هذه النظرية تفوق سابقاتها في الإصابة، وأنها جديرة بالتبني؟ الجواب أن قيمة هذه النظرية تتأتّى، في نظرنا، من اشتمالها على قيم ومبادئ ضرورية لامتلاك تصور إيجابي يوقن بالقدرة على السيطرة على التاريخ وتوجيهه، وبناء منظومة فكرية فعالة فيما يتعلق بتفسير الظاهرة الحضارية والانخراط في أي مشروع نهضوي، ويمكن أن نوجز تلك القيم في النقاط الآتية: - استبعاد الحكم المبدئي بالقيمة الذاتية للحركة، فالحركة قد تكون نكوصًا وتقهقرًا إلى الخلف، كما تكون تقدمًا وتطورًا، والحكم عليها نسبي بحسب المرجعيات والمعايير والمتغيرات. - للحركة قانون ونظام يمكن أن يستنبطا من مراقبة التجارب الإنسانية والحضارية السابقة، ولها سنّة ماضية على وتيرة متوقعة تسمح برصد آخرها وتوقع النتائج من خلال استقراء المقدمات والتدقيق في الإرهاصات، وهذا يعني إمكانية التخطيط

للمستقبل (¬1)، وفعالية التأثير في الواقع. فالتاريخ يعيد نفسه من خلال انتظام القوانين، ولا يعيد نفسه في الأحداث التاريخية نفسها (¬2). - على الرغم من أن بعض القائلين بهذه النظرية يعطلون الإرادة الإنسانية في مواجهة الصيرورة الزمنية والحتم التاريخي واطّراد القوانين (¬3)، فإن الذي نؤمن به، وإليه تميل آراء بعض المفكرين، وتثبته حقائق التاريخ، أن الإرادة الإنسانية توجّه التاريخ وتصنع أحداثه ضمن نظام من القوانين، وبالدرجة التي تتفهم فيها الذات الحضارية هذه القوانين وتستجيب لها بالفعل المؤثِّر، لا بالانفعال السلبي، وبذلك تقود القوانين وتوجهها بإرادتها (¬4). - الحركة تحتاج إلى طاقة محرِّكة حتى تبلغ مستوى الفعالية، والطاقة إن لم تحظَ بحافز ينعشها فستُستنفَد وتتخامد، وترتدّ، ¬

(¬1) يرى مكيافلي أن "من شاء أن يتنبأ بالمستقبل فعليه أن يرجع إلى الماضي؛ لأن الأحداث البشرية تشابه دائمًا أبدًا أحداث الأزمنة الماضية. ومنشأ هذا التشابه أنها ثمرة أعمال خلائق كانوا، ولا يزالون؛ وسيكونون على الدوام، تحركهم العواطف والانفعالات نفسها، ولهذا فإن هذه العواطف والانفعالات لا بد أن تكون النتائج نفسها"، ديورانت، ول: قصة الحضارة، 21/ 57. (¬2) وعلى ذلك يسقط الفهم المغلوط لقضية التكرار الحرفي للتاريخ، وتفسيرها من خلال الأحداث لا فعالية القانون، أو نفي الانتظام أصلاً، ينظر: مؤنس حسين: الحضارة، ص184، 188 وما بعد. (¬3) مونتسكيو، وإشبنجلر. ولذلك فهما يؤوّلان إبداعات العباقرة والقادة بأنها تحقُّق لروح العصر في الأفراد. ديورانت، ول: قصة الحضارة، 36/ 156. (¬4) يقول محمد عبده: ومن سار على سنن الله ظفر بالفوز وإن كان ملحدًا أو وثنيًا، ومن تنكّبها خسر وإن كان صدّيقًا أو نبيًا، عبده، رضا: تفسير المنار، 4/ 141 في تفسير الآية: قد خلت من قبلكم سنن، آل عمران/137.

بالتالي، إلى مستوى السكون؛ أي إلى مسار الضعف والانحلال، وتتلاشى فيه لتبرز طاقةٌ جديدة ذات دفع مختلف لترسم مسارًا حضاريًا جديدًا (¬1). وضمن هذه الدورة ترتسم حركة التاريخ الكلية. وبما أن الدفع الحضاري دفع إنساني وليس دفعًا طبيعيًا أو ذاتيًا، فإن الإيمان بحتمية تخامد الاندفاع يستلزم حتميةَ المقاومة، والثقةَ بالقدرة على التصدي للتحديات الداخلية والخارجية، وضرورة التصحيح بهدف بناء دورات داخلية داعمة تجدد الشباب أو تؤخر الهرم (¬2). - إن انتظام القوانين وتكرار الحركة لا يعني جبرية التاريخ، ولا تناسخ الظواهر، ولا يجزم بحتمية التوقع، كما أنه لا ينفي الخصوصية؛ لأن التدخّل البشري أساسي، والاختيار فعل حضاري جوهري يمنح الحضارات خصوصيتها الحضارية ومنظومتها القيمية، وعمر الحضارة قابل للتجديد والتخصيب في كل آن بدوائر داخلية داعمة إذا توافرت له العقول والإرادات التي تفهم التاريخ وتحسن ¬

(¬1) "الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة، فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها [أو من غيرها] ما دامت لهم العصبية"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 182، والتعميم بين العلامتين من عندي. (¬2) ينظر: المخطط رقم1. يقدم لنا التاريخ نماذج لا تحصى لتجديد شباب الحضارة، وقد كان ابن خلدون ثاقب النظر عندما رصد عمر الحضارة الإسلامية من خلال الدول والأجيال المتعاقبة، فجيل قادر على أن يجدد شباب الأمة أو يؤخر سقوطها إن أُحسن إعداده، وأحيانًا تختفي حركة الجيل وراء عَلَم بارز؛ كما كان من شأن صلاح الدين في رأي ماجد عرسان الكيلاني في كتابه: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ص25.

السيطرة عليه. - كل فكرة تحوي داخلها نقيضها كما يقول هيجل، وقوة الحركة تمنح الفكرة إمكانية استيعاب بعض القيم المناقضة لها، واحتوائها، وخلق حالة من التوازن ضرورية لترفد، بالتالي، الحركة نفسها، وعندما تضعف طاقة الاندفاع تتضخم السلبيات التي كُرِّست في الأصل لتدعم الفكرة وتحمي النظام على حساب الفكرة والنظام، وتكون أسافين تدق في نعش الحضارة المنهارة (¬1). ما يعني أن بعض القيم لا تحمل قيمة في ذاتها، وإنما قيمتها من توظيف الإنسان لها وسيطرته عليها (¬2). - للحضارات محطات ومراحل تبدأ بالطفولة وتمر بالشباب ومن ثم ¬

(¬1) يصح في هذه الحال مثال دلو الماء الدائر حول مركز، فلا ينسكب الماء ما دامت الحركة مستمرة في توليد قوتي الطرد والجذب، ومحافظة على التوازن بينهما. (¬2) استعانت الحضارة الإسلامية بمفاهيم: الولاء والطاعة والاتباع .. لصياغة المنظومة الأخلاقية والاجتماعية والشكل السياسي للأمة، فتحولت هذه المفاهيم مع ضعف الحضارة إلى عوامل فرقة وعصبية وصنمية ترفضها أصول تلك الحضارة. في الطرف المقابل عاب مكيافلي على الديانة المسيحية أنها تدعو إلى اللين والرقة .. تلك الفضائل التي وصفها بالنسوية، واعتبرها مسؤولة عن ضعف الدول الأوروبية، على الرغم من أن المسيحية كانت هي الحافز الأقوى والمحرض الرئيس للحروب الصليبية التي استطاعت أن تحرك عامة الغرب لاجتياح العالم الإسلامي القوي آنذاك وتشغله بحروب طويلة الأمد، ديورانت: قصة الحضارة، 21/ 60 - 61، 72 - 73. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نتوقع تشظي الغرب إلى ثقافات ودويلات متصارعة بسبب من عوامل الشك والحرية والمصلحة التي كانت من أبرز الدوافع للنهضة الغربية.

النضج حتى تعود للانزلاق إلى حمأة الكهولة، وكان ابن خلدون قد ضرب المثل لهذه الحركة بالأعمار الطبيعية للأشخاص (¬1)، وتمسك إشبنجلر بهذا الرأي وجعل حياة الحضارة نسخة مطابقة لحياة الكائن الحي، وهو تمثيل دقيق شرط أن تبقى المقارنة مضبوطة بالتأطيرات السابقة (¬2). ولكل محطة من هذه المحطات خصوصيتها وملامحها في سلبياتها وإيجابياتها، إذ يلاحظ أن مرحلة الطفولة تحتضن القيم الكلية والروح التي انطلقت الحضارة بدفع منها، ومع مرحلة الشباب تبدأ الحضارة بتحقيق ذاتها في عالم الواقع بقوة واندفاع بقيادة الروح الحضاري، مع الحفاظ على حالة التوازن معها، وحين تدخل الحضارة مرحلة النضج المدني تكون قد بلغت أوج قوتها في عالم الواقع مع تراجع القيم الكلية، وتراخي سلطة الروح الحضاري، ومع الحركة والزمن تزداد المفارقة حدة فتخسر الإنجازات المادية دفعها الداخلي الذاتي، وتبدأ الحضارة بالجمود والانهيار على جميع الصعد. - الوجود لا يعرف الفراغ، وأي غياب عن الشهود الحضاري يعني السماح لروح حضاري آخر بملء الساحة الشاغرة، والأمم أبدًا في تدافع، والأيام بينها دُوَل، ومن يتخلف عن الركب فسوف يُستبدَل لا محالة. ثلاثة قوانين أساسية تحكم علاقة الذات الحضارية ¬

(¬1) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 213. (¬2) ويرفض بعض المفكرين تشبيه الحضارة بالكائن الحي لما يبدو في هذا التشبيه من حتمية النمو والكهولة وجبر الضرورة والقانون، ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص162.

بالآخر أرشدتنا إليها الآيات القرآنية: أولها "التدافع"، ذُكر في الآية: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (البقرة /251)، وهو قانون يعمل على أساس وجود تباين ما بين طرفين، أو عدة أطراف، لتحريض التنافس بينها واستفزاز طاقاتها الكامنة واستثمارها في تنشيط حركة العمران الإنساني. أما "التداول" المشار إليه في قوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران /140)، فهذا القانون لاحق بالأول مترتب عليه، وهو في حقيقته النتائج المترتبة على عملية التنافس، وتغيُّر في المواقع والأدوار يستفيد من المدّ والجزر بين الإرادات المتعاكسة. و"الاستبدال" المنصوص في الآية: "وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" (محمد /38)، هو حالة من حالات التداول، وقانون إنذار يحمل قيمًا سلبية لكل متنكب في حلبة التدافع. إن الكلام على التدافع يقودنا مباشرة إلى الكلام على قضية الدور الحضاري وعلاقته بمفهوم الحضارة.

الحضارة والدور الحضاري

الحضارة والدور الحضاري لا تخلو أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات؛ بدائية كانت أو متقدمة، من أن تكون لها ثقافة ما تربطها وتكسبها طابعها المتميز، والثقافة هي طريقة في العيش وموقف من الحياة والوجود، ونظام قيمي واجتماعي يحكم مظاهر الحياة ومفرداتها جميعها، وينعكس في أشكال النشاط والسلوك كلها، ويمنح المجتمع هويته ويحافظ على تماسكه. أما الحضارة فوصف زائد على الوجود الثقافي للجماعة، يتضمن معنى التقدم، والتفوق النوعي والكمي، والإنجاز على مستوى الواقع، ودرجة ملحوظة من التأثير في المحيط التاريخي، وفعالية في صنع أحداثه وتوجيهها؛ فعالية قد تصل حد تشكيل منعطف ومفصل مشع فيه؛ زمانيًا ومكانيًا (¬1). ويمتاز اللفظ العربي ¬

(¬1) يهتم معظم الباحثين في مجال الحضارة بإبراز القيمة التقدمية وعنصر الإنجاز في التكوين الحضاري، وهذا ما يشدد عليه قسطنطين زريق في كتابه: في معركة الحضارة، ص39). ويؤكد حسين مؤنس أن الكثرة والتراكم عنصران أساسيان في التخلق الحضاري، كتاب: (الحضارة، ص15). في حين يضيف فرويد إلى معيار الإنجاز الحضاري معيارَ النوع على أنه علامة فارقة لقياس الرقي الحضاري، فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص59. بيد أن إشبنجلر يغيّب تمامًا الرقي من محدِّدات الحضارة، ويكتفي بالنص على التمايز وكل ما يعتبر من الخصائص الثقافية الفريدة للأمة. ولعل هذا راجع في بعض وجوهه إلى أن لفظ Culture في اللغات الغربية يستخدم للدلالة على الحضارة والثقافة معًا، لا سيما أن إشبنجلر يستعين بلفظ Civilization للتعبير عن "المدنيّة" باعتبارها مرحلة من مراحل الحضارة تشهد حالةَ التقدم والخواء معًا. ولعل هذا راجع أيضًا إلى أن إشبنجلر يعتقد بأن هوية الحضارة تتأتى من طبيعة روحها وخصائصها الجوهرية، أما التقدم فهو من علائق المدنية، ينظر كتابه: تدهور الحضارة الغربية.

"حضارة" المشتق من "الحضور" في الدلالة على معنى "الفعالية"، فالعلامة الفارقة في الفعل الحضاري هي "حضور" المشهد التاريخي، وشهوده وعدم الغياب عنه ولعب دور فيه (¬1)، "وكثير من المجتمعات الإنسانية تقتصر على مجرد الوجود دون الحضور، ومن ثم لا يمكن إطلاق مفهوم الحضارة عليها مهما كان نتاجها الذهني والمادي، طالما وقفت فقط عند مجرد الوجود" (¬2). وإذا كانت كل حضارة تمتلك، شرطًا، خصوصيةً ثقافية هي بمثابة الروح لها، فإن الحضارة ليست لازمة لوجود الأمة الثقافي (¬3). ¬

(¬1) يهتم نصر محمد عارف بإيراد الجذر اللغوي لمفردة "الحضارة" ويتقصى اشتقاقاتها، ويجد أنها كلها تدور في فلك معنى "الحضور" و"الشهادة"، وليست الإقامة في الحضر إلا إحدى الدلالات. ينظر: نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص55 وما بعد. (¬2) نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص60. ولذلك ظل العرب في الجاهلية، والهنود الحمر، في مرحلة البداوة على الرغم من امتلاكهم لنظام اجتماعي دقيق وتشريع خلقي رفيع. فلما امتلك العرب الفكرة المحركة أسسوا تلك الحضارة السامقة! وهذا يعني أن العامل الاقتصادي ليس هو المؤثر في سكون العرب أو الهنود الأمريكيين كما زعم ديورانت، ينظر: ديورانت، ول: قصة الحضارة، 1/ 4 - 5، لأن الأخيرين لم يستطيعوا أن ينتقلوا إلى طور الحضارة على الرغم من تغير التكوين الاقتصادي لمجتمعهم فيما بعد، كما أن النهضة التي هيأ النفط أسبابها لدول الخليج ليست إلا نهضة سطحية خادعة ما دامت تلك الدول لا تملك إرادتها في قبول أو رفض استقبال قواعد أمريكية في أراضيها! (¬3) إن التحدي الخطير الذي تواجهه الأمة العربية والإسلامية اليوم، أنه على الرغم من غيابها عن المشهد التاريخي، وفقدانها القدرة على التأثير فيه، بله توجيهه، فإنها تتعرض لأزمة هوية خطيرة وبلبلة ثقافية متفاقمة! ما يعني أن أزمتها أزمة حضارية وجودية في آن، لأن هوية الأمة الثقافية هي جوهر وجودها نفسه، لا درجة هذا الوجود.

وتتجلى عبقرية الأمة في طبيعة حضورها، لأن الحضور يتفاوت في الدرجة والنوع، وهذا يقتضي امتلاك مقياس أو معايير لتقويم التجارب الحضارية للجماعات الإنسانية. ويغلب على المناهج التاريخية أن تقيس التقدم الحضاري بـ"الكم"، والكم يستعين بوسائل موضوعية مختلفة؛ كرصد الإنجازات الحضارية مع مراعاة قيمتي الكثرة والتراكم، بالإضافة إلى قياس نسبة الانتشار والتوسع. ويرفض توينبي المعيار الكمي لتقويم التجارب الحضارية إذا تم غضّ الطرف عن المعيار الكيفي (¬1)، بل يشدد حسين مؤنس في لفت الأنظار إلى ضرورة توافر معيار أخلاقي في التقويم الحضاري (¬2)!! ومع ما في هذا الرأي من وجاهة، وأنه ينسجم مع منظومتنا الفكرية، فإن المعيار الكيفي يحتوي ضمنًا مخاطر تسلب نتائجه صفة الوثوقية والحياد وبالتالي الإلزام، لأن القول فيه بالرأي، والرأي يستند إلى مرجعيات مختلفة وثقافات ونظريات متغايرة، ولا مجال فيه للاتفاق أو المحاجّة ¬

(¬1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 317 - 318، 320. (¬2) فالنظر إلى الأهرامات على أنها عمل معماري عظيم مع التغاضي عن الضحايا التي كلفت إنشاءه، هو انبهار بالآثار الظاهرة وإهمال لحقيقتها غير الأخلاقية، وكذلك الشأن في حادثة الصعود إلى القمر لإثبات التفوق وإعلان السيطرة واستغلال الفضاء الخارجي في سباق التسلح! ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص11.

أو الترجيح، ونحن إذ نعتبر التقويم الكيفي شرطًا، فإننا ننوه بضرورة وعي هذه المخاطر، والتفاعل معها بما يغنيها ويستثمر التنوع فيها. إن البحث في قضية الدور الحضاري، وتقويم الحضارات، والأفضلية يضعنا في مواجهة فكرة "الحضارة العالمية" أو ما اصطُلح على تسميته مؤخرًا بـ"العولمة". فالتفوق يحرّض شهوة الغلب ويغري بالتوسع، والتوسع يعني تخطي الآخر الأضعف وامتصاص ممانعته، ويملأ الوجودُ المتوسعُ أيَّ فراغ يسمح به الضعيف، ويسعى من خلاله لإحكام السيطرة. والتاريخ ينبئنا بأن بعض الحضارات حققت عالميتها في محيطها التاريخي، وأن بعضها الآخر لم يتأتّ له ذلك، بل لعله لم يمتلك الدوافع الداعية لتحقيقه، كالحضارة الصينية مثلاً! وقد مرّ على التاريخ سلسلة من الحضارات العالمية تعاقبت على الدور الحضاري، وكان لكل منها خصوصيتها وطريقتها في التعبير عن عالميتها؛ كالحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. وترتكز طموحات العالمية على ثلاثة مصادر للسيطرة: القوة، والمال، والمعرفة. ما يسمح بثلاثة أشكال للتوسع والعالمية: التوسع العسكري، والتوسع الاقتصادي، والتوسع الثقافي. وهذه الخيارات تتقاطع ويعين بعضها على بعض. وتتحدد استجابة الأمم الضعيفة لهذه التحديات بقوتها الذاتية وتماسكها الداخلي، وقد حدث أن ذابت أمم في مستعمرِها، وفنيت فيه ماديًا أو معنويًا، كما حدث للهنود الحمر في أمريكة، وهو ما عبر عنه توينبي بأنه "الانقراض بطريقة

الاندماج" (¬1)، وقد قدّمت الحضارة الإسلامية نموذجًا للعالمية يعترف بالتنوع والخصوصية في إطار وحدة مرجعية مرنة تراعي تعدد الاستجابات ورحابتها. وفي العصر الحديث تخطت العالمية عوائقَ الحدود الجغرافية، وأطرَ الزمان والمكان؛ بالإبحار الجوي، والإعلام الفضائي، والأسلحة العابرة للقارات، فاتخذ الفكر الاستعماري مظاهر جديدة وغير مسبوقة لتحقيق غاياته، هذا في مجموعه ولّد مفهوم "العولمة" بوصفها مظهرًا فريدًا للاستعمار، عالمي الصبغة؛ بل كونيّها (¬2)، للقضاء على التنوع الثقافي لصالح ثقافة قطب واحد مسيطر هو الغرب الأبيض (¬3)! وتساعد قيم العدالة والحرية والمساواة التي تتضمنها رسالة الرجل الأبيض؛ المستعمِر، في الترويج لبضاعته، ودعم طموحاته غير الشرعية في عولمة الكرة الخضراء، وتحقيق طموح السيطرة المطلقة. وإزاء هذا التوحيد القسري للعالم تتقدم أممٌ الركب الحضاري لتصير في المركز والصدارة ومصدر الفعالية والتأثير، في حين تتراجع بقية الأمم إلى الهامش لتستقبل موجات ¬

(¬1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 444. (¬2) إن حدث الصعود إلى القمر وزراعة العلم الأمريكي على ترابه - على بساطته، ومع أنه يبدو حقًا طبيعيًا للمتقدم - يمثل العولمة والفكر الاستعماري في المستوى الكوني .. إن هذا الحدث هو استعمار وعولمة للفضاء الخارجي، فليس عبثًا أن سمي غزوًا!! (¬3) يفنّد توينبي نظرية "وحدة الحضارة" أي العولمة بمركزية غربية، فيجد أنها تنطلق من ثلاثة أوهام: وهم حب الذات، ووهم الشرق الراكد، ووهم التقدم بوصفه حركة تلتزم خطًا مستقيمًا. توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 61.

التأثير وتصبح تابعًا سلبيًا لدول المركز؛ سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا (¬1)! وتبقى أمم تقاوم استلاب الهوية مستعينة بزادها العريض من التاريخ والمجد، وبإحساسها بخصوصيتها الثقافية، وتعمل التحديات على تحفيز الإحساس بتلك الخصوصية. إذًا .. فنظرية وحدة الحضارة الإنسانية خرافة يراد بها خداع الشعوب الضعيفة وتذويبها لصالح الحضارة المتفوقة، على الرغم من أن تلك الوحدة حقيقة تستند إلى ميراث إنساني واحد يُتداول بين الشعوب تنتقي منه ما يناسب خصوصياتها، كما أنها تستند قبل ذلك إلى التكوين الإنساني الفطري الذي يتغذى من صيغة غريزية واحدة، وحاجات مشتركة، وشروط متماثلة (¬2)، وإن كانت كل أمة تلبي ¬

(¬1) قلنا إن الحضارة العربية الإسلامية قدّمت نموذجًا فريدًا للعالمية يكون التوسع العسكري فيه وسيلة لتحقيق الانتشار الثقافي دون المساس بالخصوصيات، أو القضاء على خصوبة التنوع، ولم يمنعها النمط السلطوي المركزي للنظام من أن تستوعب داخلها التنوع الثقافي للأمم المفتوحة، فاحتفظت تلك الأمم بخصوصيتها الثقافية، أو عدلت فيها بما ينسجم مع ضرورات العقيدة الجديدة، ولم تخسر مع ذلك تمايزها وأصالتها وصانت تقاليدها ولغاتها المحلية، بل إن تنوع الأزياء التقليدية في الدول الإسلامية مع محافظتها على الشروط اللائقة بالزي الإسلامي يشهد بتلك الحقيقة، في حين أن الزي الغربي الموحد يغزو العالم كله اليوم، وينتهك حرمة الخصوصية الثقافية!! لقد اعتبرت الحضارة الإسلامية الاختلاف خصوبة وثراء، "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، (هود /118 - 119)، "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون"، (يونس/19). (¬2) يقول مورفي العالم في الأجناس البشرية: "إن المشابهات في أفكار الإنسان وعاداته، تردّ بصفة خاصة إلى التشابه في تكوين المخ البشري في كل مكان، وإلى ما يترتب على ذلك من طبيعة عقله. ولما كان تركيب هذا العضو الطبيعي واحدًا في جميع مراحل تاريخ الإنسان المعروفة، في مزاجه وفي عملياته العصبية، فإن للعقل كذلك طائفة عامة من الخواص والقوى وأساليب العمل .. "، نقلاً عن: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 68.

هذه الحاجات بطريقة مختلفة تنسجم مع موقفها الخاص من الحياة والعالم. وتأسيسًا على الفهم السابق يمكن استنباط تعريف للحضارة .. إن الحضارة هي: درجة عالية من الفعالية التاريخية، وأثر لإرادة الوجود الجماعية لأمة متماسكة، يربطها مفهوم واحد للحياة هو مانحها هويتها الثقافية المتمايزة، وشبكة متضافرة من المصالح المتبادلة، لتحقق ذاتها في إنجازات نوعية وكمية على مختلف الأصعدة.

شروط التخلق الحضاري

شروط التخلّق الحضاري ليس تنشأ حضارة إلا في فضاء اجتماعي صلب ومتماسك، بحيث يحقق هذا المجتمع معنى الأمة، وإن العوامل اللازمة لصياغة أمة صلبة من الداخل هي ذاتها اللازمة لصناعة الحضارة. فما هي عوامل تكوين أمة ذات صلابة وتماسك؟ 1 - الفكرة الحية المعصِّبة: "لا شيء أقوى من فكرة حان وقتها"، كما يقول فيكتور هيجو. إن تاريخ الحضارات هو تاريخ الأفكار، وكل أمة أو حضارة تطفو على سطح التاريخ تقدم فكرة خاصة أو روحًا فريدًا (¬1) يتحقق في نظام وعمران وعلوم وفنون وعادات وأساليب .. قانون عام يحكم في الجماعات كما يحكم في الأفراد، فالإنسان موجَّه بخارطته الذهنية، ويملي عليه وعيُه أفعالَه وردودَ أفعاله. إننا لا نبالغ ولا نتبنى الاتجاه المثالي حين نعزو الطاقة المحركة إلى الفكرة، بل إن العالم يتجه اليوم إلى اعتماد فكر اقتصادي يقوم على الرأسمال البشري، ويرضى بالدافعية الإنسانية ضمانًا ومحركًا للعالم المادي، مع عدم إنكار تدخل العناصر الأخرى؛ المادية والمعنوية. ولذلك فإن العناصر الجوهرية في هذا الفكر هي: الهدف، والقيادة، والموارد البشرية، والمعلومات. ما يعني أن هذا الطرح لا يطعن في ذلك الطرح الآخر الذي ¬

(¬1) تستخدم مصطلحات كثيرة للدلالة على هذا المفهوم: كالفكرة الدافعة، والرمز الأول، والقيمة القصوى، والمقدمة الكبرى، والافتراض الفلسفي، والمبدأ الناظم، ومبدأ التقويم ... وبالمجمل هو النظرة الكلية إلى العالم. ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص131 - 132.

يقول: إن التاريخ يتحرك من خلال سِيَر العظماء أو الصفوة. لأن الفكرة، أو نزوع الجماعة وتطلعاتها، تتمثل عادة في شخصية فذّ أو عبقري من الناس تقدم نفسها من خلاله، وتجسد معانيها فيه، وذاك العبقري يحرص على أن يحرك الناس بفكره ولفكره، بل إن الفرد لَيصبح ذلك العبقري عندما تكون فكرته محرِّكة. وعلى ذلك فإن التاريخ هو تاريخ الرجال أيضًا، ولا مناقضة في ذلك، وعند هذا الفهم تلتقي وتتكامل تلك النظريات المتحيزة للفكرة، والأخرى المتحيزة للعبقرية القائدة (¬1)! ولكنا جعلنا الأولوية للفكرة لأن الرجال متبدلون، وينبغي أن يظلوا في فلك الفكرة، وإذا كانت الفكرة تضعف وتنهار إن خسرت قيادتها الرشيدة (¬2)، فإن الفكرة إذا دارت في فلك الرجال فسوف تؤول إلى صنمية وشخصانية منحرفة، أو إلى إيديولوجية حزبية ضيقة تقتل العصبية الجامعة بدل أن تنعش الروح في الفكرة الحضارية المؤسِّسة (¬3). ¬

(¬1) يميل إشبنجلر إلى التحيز للفكرة، ويميل توينبي إلى التحيز للعبقرية .. (¬2) تسقط الأمم في دور ركود أو انحطاط عندما يتخلف زعماؤها، أو عندما لا تتوافر لها القيادات القوية الأمينة التي تقع موقع القدوة وتحسن تمثيل الفكرة الحضارية للأمة، وتحثّ العامة على الاقتداء وتحمّسهم للعطاء، بالقدر نفسه الذي تستجيب فيه لمتطلبات المرحلة، وتكون فيه على مستوى الموقف؛ إدارةً وأداءً .. كما أن الأمم لأجل ذلك تجدد شبابها بقادتها، وقد كان ما كان من شأن صلاح الدين في تحرير القدس، وقطز والفاتح .. وكذلك يابان في عهد الإمبراطور مايجي .. وفرنسة في عهد لويس الرابع عشر، ونابليون .. وإنكلترة في عهد كرومويل والملكة إليزابيث .. والقائمة طويلة. (¬3) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 2/ 57 - 58، الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص338، 391 - 392.

إن الفكرة الحضارية (¬1) ليست فكرة استثنائية فريدة، أو قيمًا ومبادئ مجردة، وإنما هي: فكرة حية وعقيدة مفسِّرة للحياة، تتجسد في صفوة قوية أمينة، وتمتد في عمق الأمة، وتتحقق في نظام اجتماعي متكامل يفرضها مصدرًا للقيم، وقوة لإدارة الواقع، وطاقة معصِّبة تجمعها في وجه التحديات، وتحركها نحو هدف واحد ومصالح مشتركة، وتدخلها بذلك طور الفعالية التاريخية. ولن تستطيع الفكرة أن تتحول إلى قوة محركة ما لم تحقق جملة من الشروط: - أن تكون فكرة وجودية تحمل تفسيرًا كليًا للحياة والعالم، ونسقًا متكاملاً من الغايات والوسائل والمواقف تستغرق تفاصيل الحياة كلها. - الشمول والاستغراق، فعلى قدر شمول الفكرة واستغراقها للعناصر الضرورية في الحياة الإنسانية تمد سلطانها، وتَستنزِف الفكرةُ طاقتها سريعًا بقدر تخلّيها عن فئات من تلك العناصر أو إغفالها لها، لأنها بذلك تخلّ بالتوازن الشرطي، أو الولاء الرضائي، أو المصلحي، الذي ينبغي للفكرة أن تضمنه بين أطراف الثنائيات المتعاكسة (¬2). ¬

(¬1) نهتم هنا بالفكرة الحضارية حصرًا، ولكنما الكلام يصدق على كل فكرة محرِّكة لأي تجمع بشري؛ صغير أو كبير، وتتحدد خطورتها، وقوة أثرها، وسعة مداها، بمدى عمقها، ودرجة استقطابها، وما تستغرقه من شؤون الحياة. (¬2) ولعل التجربة السوفييتية من أبرز الأمثلة لأثر افتقار الفكرة المعصّبة إلى الشمول في تحلّل الأمة، إذ إن الفكرة الشيوعية التي قامت على أساسها الأمة السوفييتية راعت جانبًا واحدًا من المصالح الضرورية في الحياة الإنسانية، وهي مصلحة الفقراء، ولكن حلّ مشكلتي الفقر والعدالة جاء على أساس تطرّف إلى مصلحة الفقراء، وفرض لمساواة حرفية تضحي بمكتسبات التنوع، وتقضي على التنافس المحفّز على العمل، وتخلّ بالتوازن اللازم في الإمكانات .. وبالمجمل لم تحقّق الفكرة الشيوعية شرط الشمولية الذي يضمن المصالح الضرورية كلها، فأدى ذلك إلى "تضخّم" و"ضمور" نجم عنهما انحلال الأمة، وانهيار الدولة.

- أن تصير الفكرة عقيدة (¬1) تبلغ في النفوس درجة من الإيقان بحيث لا ¬

(¬1) لا يشترط في العقيدة أن تكون دينية، فكل فكرة، إن بلغ الإيمان بها مبلغ اليقين واختلطت بسمع الإنسان وبصره، واستولت على مداركه واهتماماته وتطلعاته، صارت عقيدة، وإنما يتأتّى تغلّب سلطان العقيدة الدينية مما لها من امتداد غيبي يمازج ضمير الفرد ويستقطبه حتى إن غابت الرقابة الخارجية، بالإضافة إلى أن الأديان في الغالب توحّد بين المصلحة الفردية والقيم الأخلاقية. ولأهمية الدين عدّ بن نبي العقيدة الدينية من مستلزمات الوجود الحضاري. ينظر: بن نبي، مالك: شروط النهضة، ص70. ولذلك أيضًا اعتبر الحضارة الغربية الحديثة مرحلة من مراحل الحضارة المسيحية، والشيوعيةَ أزمةً مادية من أزماتها .. ينظر: نفسه: ص54. ولا نسلم له بهذا الاستنتاج وذلك الإطلاق، لأن الحضارة الغربية الحديثة قامت على مُثُل غير تلك التي تغلب على الديانة المسيحية، أقصد بها تمجيد العقل، وتقديس الإنسان، ولكن صواب استنتاجه يظهر من منظور آخر، ذلك أن الحضارات لا بدّ لها من أن تمتلك منظومة أخلاقية تمسك المجتمع وتحميه من الانحلال، وقد استطاع الدين المسيحي أن يوفّر للحضارة الغربية في مراحل نهضتها الأولى تلك المنظومة، فلما بدأ النزوع الديني بالخفوت نتيجة ارتفاع صوت العقل، أوجد مفكرو الغرب ما يسمى بمنظومة "الأخلاق النفعية" التي زرعت في الفرد نازعًا أخلاقيًا مشروطًا بالمصلحة المتبادلة، فأسهم هذا في حفز عجلة التقدم المادي، ولكن عندما تشحّ المصالح، وتعسر شروط التنافس، تغدو الأخلاق النفعية حافزًا للذاتية والأنانية، وسببًا من أسباب الانهيار .. وما التجربة الشيوعية إلا تجلّ من تجليات الفكر الغربي في بحثه عن توازن المصالح المفقود بين الفرد والجماعة، وسعيه لخنق مارد الأنا المتفلت بانهيار الأخلاق المسيحية في قمقم الجماعة، وعلى الرغم من أن الشيوعية قامت على عقيدة مادية معادية للدين فقد ساعدها هذا الأصل الأخلاقي الذي يزكيه ضرورة إنسانية عامة بتحقيق العدالة، في تحقيق انطلاقتها القوية، لتهوي من بعدُ سريعًا لما ذكرناه آنفًا من أنها ضحّت بالاستغراق الضروري، وبشرط الشمول، واستبعدت المكوّن الروحي، وخصوبة التنوع الاجتماعي؛ الفردي والجماعي، ولا يحلق طائر بجناح!

يعرض لها شك أو نسبية أو تردد، ويحمل الإيمان بها على البذل والتضحية والتنافس فيها، لتصير هدفًا مركزيًا وحاجة ضرورية في حياة الناس وأفعالهم وتطلعاتهم، إليها يُحتكم، وبها تُقاس الأمور، ولها الأولوية في سلم القيم والسلطات والمرجعيات. - أن تتحد الفكرة بالمصلحة، وتضمن تأمين الضرورات الإنسانية، وصيانة المصالح الحقيقية، ما يعزز الولاء للفكرة، ويشد الرابطة بين تحققها والإنجاز في عالم الواقع. ومن هنا فإن أقوى الأفكار الخلاقة حضاريًا تبزغ "عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين"، على حد قول كيسرلنج (¬1)، كما يرى فرويد أن العدالة أولى مستلزمات الثقافة (¬2). وتتفاوت فئات المصالح بين حضارة وأخرى، ولكن لا تقوم حضارة من دون قائمة العدالة، لأن فقدانها يعني ¬

(¬1) ينظر: بن نبي، مالك: شروط النهضة، ص70. وكان ابن خلدون قد اشترط في الملك التنافس في الخير وفي الصفات الحميدة، ومراعاة مصالح العباد، فإذا ذهب التنافس في الخير ذهب الملك. ينظر: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 178 - 179. (¬2) "العدالة بمعنى ضمان أن القانون وقد تم وضعه [لا] يُكسر لصالح أي فرد، ولا دخل لذلك طبعًا بالقيمة الأخلاقية لأي قانون". فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص61. يوجد أصل النص المقبوس فراغ في المساحة المضبوطة بالإطارين []، ويبدو أن هناك "لا" محذوفة بها يستوي المعنى.

الفصل بين الفكرة والمصلحة، وتحطيم الرابطة العصبية، وتحويل الفكرة إلى شعارات مجردة ليس لها من الواقع رصيد، فالله - كما يُروى - ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة!! إن الظلم مؤذن بتعطيل الفكرة وإفلاسها الحضاري. - أن تكون فكرة حية تتمثل في صفوة مختارة أو قيادة مخلصة رشيدة (¬1)، تجسّد الفكرة في ذاتها، وتحمل أعباءها، وتقدم التضحيات في سبيلها، وتجمع الأمة عليها. ولا تستغني الفكرة عن قيادة أو قدوة تمثلها، لأنها بالقدوة تمتلك وجودها الماديّ المعايَن (¬2)، والمعاينة ظرف إيجابي لنشر حالة الإيقان اللازمة لتحويل الفكرة إلى عقيدة، وتحفيز فعل المحاكاة وتنشيط العدوى لتحقيق الاستقطاب لدى فئات متنوعة وأطياف مختلفة من الأمة. - أن تكون فكرة حية في أمّة أو جماعة، فعلى الرغم من خطورة دور النخبة والقادة في الأمة، فإن الحضارة لا تقوم على أفراد، والتغيير يبدأ من القمة ويتحقق على يد القاعدة، والجماهير طاقة مختَزَنة تحتاج إلى شرارة تطلقها، وبوصلة توجّهها وتوظّفها، وهو الدور الذي ¬

(¬1) ولا يقصد بالقادة "طبقة" متماسكة، بل هم رجال من ذوي ملكات شتى، في السياسة والفكر والعلم والفن .. أو هم أولو الأمر والخبراء في كل شأن ممن يسهمون إسهامًا حاسمًا في توجيه دفة الحضارة. ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص118. وكثيرة هي المصطلحات التي تنعت هذه الفئة من الناس؛ كالرجل الفعّال، والنخبة، والقدوة، والعباقرة، والعظماء .. وفي القرآن الكريم: الرجل الأمّة، "إن إبراهيم كان أمة" (النحل/120). (¬2) وُصف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم قرآن يمشي!!

تنهض به القيادات، ولا غنى لحركة عن الرافد الشعبي الذي يثريها بالتنوع الوظيفي ويمدها بالتوازن الداخلي؛ في الطاقات والخبرات والإمكانات، لتحقق الأثر المنشود، وتصنع فرقًا متعدد المستويات في عالم الواقع (¬1)، وتتوسل الفكرة لبلوغ الانتشار الشعبي بآليات؛ أهمها: القدوة والمحاكاة (¬2)، والدعوة أو الترويج الإعلامي، وضمان المصالح الضرورية. - أن تكون فكرة حية متحققة، أو قابلة للتحقق، في دولة (¬3) ونظام اجتماعي متكامل (¬4) وأن تكون لها صورتها التشريعية والتنفيذية، ¬

(¬1) لم تتحول الدعوة الإسلامية إلى دولة إلا بعد الهجرة إلى المدينة، أي بعد ثلاثة عشر عامًا من الدعوة، وفي الزمان والمكان اللذين توافر فيهما الدعم الشعبي للفكرة. (¬2) عظّم توينبي دور القدوة أو الأقلية المبدعة في الفعل الحضاري، ولذلك عوّل على المحاكاة في تحريك العامة وتجنيدهم في المشروع الحضاري، فمهارة الزمّار هي التي تغري أرجل الجمع بالاستجابة إلى الرقص. ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 412، و"إن المحاكاة هي ضرب من التدريب الاجتماعي"، نفسه، 2/ 3. (¬3) كان تحول الدعوة الإسلامية إلى دولة بعد الهجرة إلى المدينة عنصرًا حاسمًا في انطلاقة الحضارة الإسلامية، ولذلك رأى ابن خلدون أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك، لما يهيئه من أسباب التمكين والقدرة، أي تمكين الفكرة، والقدرة على تحويلها إلى نظام. ينظر: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 174، 178 - 179. (¬4) لا يجوز أن تكون الفكرة شعارات نظرية، ولا طموحات مثالية، وإلا تحولت إلى فوضى، لأن رفض الواقع والسعي إلى تغييره يعني امتلاك تصور واضح عن البدائل وخطة واقعية للتغيير، وغياب البدائل هو الذي أسقط الثورة الفرنسية في أعوام رعب دموي لم تتوقف إلا مع نابليون، أو ما عرف بـ"مدونة نابليون" القانونية التي اجتاح بها أوروبة حتى عمّتها كلها وأسست للنظام الاجتماعي الحديث. وفي مزلق انعدام البدائل وضبابية المستقبل سقطت معظم التيارات العربية والإسلامية الإصلاحية المعاصرة!!

عبر شبكة محكمة من المفاهيم والغايات والأدوات، والحقوق والواجبات، والدساتير والمؤسسات، والأنظمة والتقاليد .. وكل ما يمكن أن يجسد الفكرة في مناحي الحياة المختلفة، ويجعلها تتغلغل كالنسغ في أوعيتها، ويمنحها سلطة التأثير في الواقع وحماية كلياتها. - أن تكون الفكرة جامعة أو "معصِّبة (¬1) "، تعزّز الولاء الجماعي ¬

(¬1) عني ابن خلدون بإظهار ما للعصبية من دور جوهري في انبعاث الدول، وعلى الرغم من أن كلامه كان في المستوى السياسي للحضارة أو الأمة، فإن استنتاجاته تعين في تفسير الظاهرة الحضارية بالمطلق، ولا يمنع من استخدام مصطلح العصبية ما قد يلابسه من إيحاءات بدوية أو قبَلية قائمة على أواصر الدم والنسب غالبًا، لأن التجربة القبلية واحدة من تطبيقات العصبية المتنوعة .. يعرّف محمد عبده التعصب بأنه: "الرابطة التي شكل الله بها الشعوب، ويقول إن الشعوب تظل بخير ما بقيت قوة الربط بين أفراد الأمة فإن ضعفت تداعى بنيانها للانحلال .. "، نظر: حسين، محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، 1/ 56. فالعصبية هي قوة الربط ودواعي وحدة الجماعة وتماسكها، وهي رابطة معنوية لا مادية فقط، وقد توصل محمد عابد الجابري من خلال تحليل موضوعي لمفهوم العصبية عند ابن خلدون إلى أنها "رابطة معنوية"، قوامها المصلحة المشتركة الدائمة للجماعة، ويقتبس له قوله: "لا معنى لكونه من هؤلاء أو هؤلاء إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه، وكأنما التحم بهم" (ج2، ص427) "، ينظر: الجابري، محمد عابد: فكر ابن خلدون - العصبية والدولة، ص168، ص172.

للفكرة، وتشدّ من وحدة الأمة وتمتّن أواصرها، بل إن توينبي قد جعل هذا الشرط المعيار الفصل للارتقاء الحضاري، إذ قال: "ولا تتخذ الاستجابات الظافرة شكل التغلّب على عقبات خارجية أو قهر خصم خارجي؛ لكنها تُظهر نفسها في الترابط الذاتي أو تقرير المصير" (¬1). وتكون الفكرة معصّبة عندما تحقق مجمل الشروط السابقة، فكونها عقيدة مركزية واحدة، وحظوتها بنخبة رشيدة، وامتدادها في عمق الجماعة، واتحادها بالمصلحة، وتحققها في نظام اجتماعي متماسك .. كل ذلك جدير بأن يُكسِب الفكرة القوة التعصيبية اللازمة، وهو عام في أصل أية كينونة حضارية. بيد أن الحضارات تفترق وراء ذلك في قيمها بين الجماعية والفردية، وأيًا كانت المنطلقات النظرية للحضارة، فإنها مهدَّدَة بالتآكل والتفكّك إذا لم تحرص على خلق الحس الجماعي، وتعزيز الشعور بالولاء لدى الأمة، وقد استعانت الحضارة الإسلامية لبلوغ هذا المأرب بتأييد أخلاقيات الرعاية والطاعة وزرع واجب الولاء للأمة والفكرة الإسلامية، في حين أن الحضارة الغربية التي أطلقت الحريات وعزّزت الفردية شجعت الأخلاق الجماعية عن طريق النفعية المتبادلة، وما سموه بالأخلاق العملية، واحترام النظام، واكتساب المجد في خدمة الوطن القومي. ما يعني أن الفكرة الحضارية لا تكون إلا مُعصِّبة، وأن الحضارة لا تقوم إلا على الحسّ الجماعي لا على الفردية بأية حال (¬2). وبما أن مكاسب المدنية، والوفرة، ¬

(¬1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 333. (¬2) يرى ديورانت أن الفردية كالحرية ترف جاءت به المدنية، ينظر: ديورانت، ول: قصة الحضارة، 1/ 89، ولذلك فإن فرويد يصل إلى أن من مهام الحضارة التوفيق بين مطالب الفرد ومطالب المجتمع المتحضر بطريق يشبع هذه المطالب عند الاثنين. فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص62. ويعتبر الحاجة إلى الحب - وهي نوع من المصالح المعنوية - من أهم العوامل النفسية الداخلية التي تساعد على الانحراف بالغريزة الأنانية و"توجيهها وجهة اجتماعية وجعلها غرائز اجتماعية"، نفسه، ص18 - 19.

تحرّضان نوازع التنافس، وتعزّزان الأنانية والميول الفردية الغريزية، وتصادمان بها المصلحة الجماعية، فإن النظام المتعيّن في آداب وتقاليد ومؤسسات، يجتهد لترويض تلك الغريزة الجامحة لصالح المجموع، فـ"الحضارة، لو علمنا، لم تقم لها قائمة إلا عندما تخلينا عن رغباتنا في الإشباع الغريزي، وهي ثمرة نبذنا لهذه الغرائز ... وتزيد المؤثرات الحضارية من فرص تحول الميول والاتجاهات الأنانية في الإنسان إلى ميول واتجاهات غيرية واجتماعية"، وهذا ما يسمى بالتكيّف الثقافي (¬1)، أو الكبت الثقافي، على حدّ تعبير فرويد (¬2). ¬

(¬1) والتكيّف الثقافي هو تلك "القدرة الشخصية التي لكل فرد، والتي تمكنه من تغيير دوافعه الأنانية إلى دوافع غيرية اجتماعية بتأثير طاقة الحب"، فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص19، أو الواجب؛ إذ تراعي النظرية الإسلامية هذين المصدرين؛ الحب والواجب، من أجل التحقق العملي للقيم، فإذا لم تتوافر الميول دافعًا، تحرّك الإنسان تحت سلطان الواجب، فليس كل ما يجب علينا نحبه. أما في الغرب فإن هناك جدلاً عريضًا يتنازع مفكريه حول هل يجب عليّ إذًا أقدر، أم أقدر إذًا يجب عليّ، وقد عُدّ الحب من أسباب القدرة الأساسية! والحق أن حل الإشكال في هذه المسألة، والتوفيق بين الولاء للحب والولاء للواجب، وإحقاق التوازن بينهما، والاعتراف بسلطان الواجب وإن عاكس الميول والرغبات، يُوجد مخرجًا لشباب هذه الأمة الذين يتذرّعون بالظروف والبيئة لتبرير فشلهم وكسلهم، ويعلمهم أنه ينبغي عليهم أن ينجحوا في أداء ما يحبون وما لا يحبون وإتقانه، ما دام واجبًا عليهم أداؤه. (¬2) فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص63.

2 - التحديات

2 - التحديات: يعتبر توينبي التحديات عاملاً جوهريًا في نشوء الحضارات، منطلقًا من عبارة: "كلما عظم التحدي اشتدّ الحافز" (¬1)، وكنا قد اعتبرنا الفكرة المعصِّبة العاملَ الحضاري الحاسم الذي لا يُنافَس، فإذا كانت حضارات تنشأ بتأثير ضغط التحديات، فإن الحضارة الإسلامية نشأت من فكرة، وليس من استجابتها المثالية لضغط تحديات معينة! إن التحدّي عامل محايِد تحدّد الاستجابةُ الإنسانية قيمتَه؛ سلبًا أو إيجابًا، وإذا لم يتوافر في مواجهته "المعادلُ" الذي يمنحه معناه، ويجعله فعلاً بين طرفين، كان قهرًا من طرف واحد. وتشكّل الفكرة الحضارية في صورتها الإنسانية الحية المعادلَ الإيجابي، والأرضية الخصبة التي تجعل التحديات محفِّزَة في أثرها الحضاري، في المقابل تعمل التحديات على صياغة الصفات النفسية لرجل الحضارة، وتحفّز غريزةَ الوجود، وتستفزّها للمقاومة، واستنهاض ما لديها من إمكانات وملكات؛ فردية وجماعية، كما أن التحدّيات محرّض قوي للعصبية الجماعية التي تحملها غريزة البقاء على الالتمام في وجه الأخطار. إن التحديات القاسية إما أن تقتل الذات الهشّة الضعيفة، أو تزيد من صلابة الذات المتماسكة، وتتماسك الذات، الفردية أو ¬

(¬1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 233.

الجماعية، في حال امتلكت هدفًا تؤمن به وتدافع عنه (¬1)، سواء كان ¬

(¬1) على الرغم من أن توينبي قد نبّه على أن العامل السحري والسرّيّ في تخلق الحضارات ليس "شيئًا مفردًا لكنه متعدد، هو ليس وحدة، لكنه علاقة"، وأن "الخلق وليد لقاء، وأن بدء الحضارة هو حصيلة تفاعل"، ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 101، 112، تفاعل بين طرفين؛ أحدهما التحدي والآخر لم يشغل توينبي نفسه بتعقبه، بل مر به عرضًا على أنه حافز ينشط مع المصاعب مرة، يقول: "الصعوبة والحافز في بيئة معينة ينزعان إلى الازدياد بدرجة مماثلة"، نفسه، 1/ 147، ومرة أخرى هو هدف يتبلور بضغط التحديات، فكان جلّ ما حظي به من تنويه أن يمرّ بهذا التساؤل: " .. كيف يترتب على هزيمة ساحقة، اشتداد عزيمة جماعة حتى يصبح لنشاطهم هدف أعظم؟ "، توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 183. وإذ نعتقد برأي توينبي بأن التحديات تسهم إسهامًا هامًا في توحيد الهدف، وبلورته، وإكسابه معناه في كثير من الأحيان، فإن الهدف ليس ثانويًا أو عرضيًا في عملية الحراك الحضاري، وإلا فلم تتفاوت الاستجابات في وجه التحديات وتتباين، فتكون ناجحة وفاشلة؟! إذًا، لا بد من وجود معادل ما يمنح هذا الشعب أو ذاك سلاحًا فعّالاً يواجه به تلك التحديات. يقول بن نبي: "فالمجتمع لا يمكنه مجابهة "الصعوبات" التي يواجهه بها التاريخ كمجتمع ما لم يكن على بصيرة جلية من هدف جهوده .. "، بن نبي، مالك: شروط النهضة، ص71 .. والواضح أن توينبي قد استشعر هذه الفقرة الضعيفة في حبكة نظريته، فحاول حلّ هذا الإشكال فيها من داخلها ودون سعي إلى تطويرها، تمثل هذا الحلّ في قانون "الأثر المتناقص"، فقد وضع توينبي ضابطًا شرطيًا لضمان فعّالية قانون التحدي، فـ"أعظم التحديات حفزًا يوجد في متوسط بين التفريط والإفراط في الشدة"، توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 233. وكان توينبي من قبل قد صنّف التحديات في خمسة أصناف: البلاد الشاقة، والأرض الجديدة، والضربات، والضغوط، والنقم. فيكون التوسط هو عدم اجتماع هذه التحديات كلها جميعًا، لكي تعين عناصر القوة المتوافرة في تحقيق الاستجابة الظافرة.

فكرة أو مصلحة، فإذا اتحدت الفكرة بالمصلحة كان هذا أدعى إلى الاستقطاب، وفي اندفاع الذات لتحقيق هدفها تغدو التحديات عنصرًا خلاّقًا لاستفزاز طاقة الاندفاع القصوى، وعامل توحيد يستثير رابط العصبية الفطرية تجاه الأخطار وعوامل الاستئصال وتهديد الوجود (¬1)، بل إن التحديات القاسية قد تسلب الذات عدّتها كلها ولا تترك لها في معركتها ما تخسره (¬2)، فتكون بهذا قد منحتها فرصة ¬

(¬1) بعد أن استنتج الجابري أن العصبية عند ابن خلدون هي رابطة معنوية تقوم على المصلحة المشتركة، لاحظ أن ابن خلدون يربط "ربطًا مستمرًا بين العصبية والعدوان، فالعصبية عند صاحب المقدمة هي - كما قلنا سابقًا - قوة للمواجهة، لا تبرز ولا تشتد إلا عندما يكون هناك خطر يهدد العصبة في مصلحتها المشتركة"، الجابري، محمد عابد: فكر ابن خلدون - العصبية والدولة، ص172. (¬2) اشتدي أزمة تنفرجي، هو التعبير الملخص لهذه الحقيقة، ولذلك فإن معظم الثورات والنهضات ولدت بعد معاناة، كالنهضة الغربية، والثورة الفرنسية، وثورة الزنوج في أمريكة .. يصف ديورانت أثر حرب الثلاثين في ألمانية في القرن السابع عشر في استماتة الناس في الكفاح من أجل البقاء، يقول: "وانهارت الأخلاق والروح المعنوية على حد سواء، فإن اليأس المقرون بالإيمان بالقضاء والقدر دعا إلى الوحشية المقترنة بالسخرية. واختفت كل المثل الدينية والوطنية بعد جيل ساده العنف، وكان البسطاء من الناس يكافحون الآن من أجل الطعام أو الشراب، أو يقاتلون بسبب الكراهية"، ديورانت، ول: قصة الحضارة، 30/ 214. وكما قيل اطلب الموت تمنح لك الحياة، وكذلك هو حال أمتنا في فلسطين والعراق ... بل في كل الديار تواجه تحدياتها الداخلية والخارجية! ولعل صمود المقاومة الفلسطينية في غزة اليوم، وفي معركة الفرقان تحديدًا، أمام الآلة الإسرائيلية الجبارة أدقّ مثال على صحة قانون التحدي، وما منحته ظروف الحصار والقهر من فرصة لتطوير آليات النضال، وحشد الطاقات الداخلية، وتوحيد الصفوف في اتجاه هدف واحد، وبالاستناد إلى منطلق فكري واضح كان هو المعادل الجوهري في معركة الوجود تلك!!

ثمينة لتحقيق ما تراهن عليه باعتباره الخيار الوحيد الذي ينبغي التعلق به وإلا الفناء، فيتفرّد الهدف ويتوحّد، ويغدو اندفاع الذات أشدّ ومقاومتها أصلب، لأن المعاناة التي تفرضها التحديات، والضغط الذي يرافقها، يعملان على تعزيز البناء النفسي، وصناعة شخصية رجل الحضارة الذي يتحلى بالجلد والإحساس بالمسؤولية والإيجابية والمبادرة والأمل الواثق المستشرف للمستقبل .. كما تسهم المعاناة المقترنة بمعادل مكافئ في تهذيب الشخصية من الصفات السلبية المعيقة للفعالية والحركة؛ كاليأس واللامبالاة والكسل والتواكل .. ، وبذلك تصير التحديات نفسها عاملاً إيجابيًا من عوامل التخلق الحضاري والحركة. بل يذهب توينبي إلى أن التحديات الخلاّقة التي تصعّد من قوة الاستجابة، تشقّ الطريق أمام الأمة لاكتشاف وسيلة ذهبية أو ظافرة، هي الاستجابة الناجحة، أو الحل النموذجي للتحديات القائمة نتيجة تعاقب الشدّ والجذب من قبل التحديات وسلسلة الاستجابات الناجحة والفاشلة، ما يجعل الانكسارات مرحلة من مراحل الصعود، وحافزًا لاختبار المزيد من العوائق لتفاديها وتجاوزها (¬1). ¬

(¬1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 313 - 314. ذكرنا أن التحديات إن لم يتوافر لها المعادل الإيجابي تعزز الخصائص السلبية، وتكرّس عوامل الانحطاط بل الفناء أحيانًا. إن انتفاضة الحجر في فلسطين، وفلسفة العمليات الاستشهادية، مثالان واضحان للاستجابات الناجحة للتحديات الخطيرة التي تتهدد الوجود، ووسيلتان ذهبيتان للتعامل مع عوائق النضال والتحرير .. ومن التجربة الغربية، يبرز حدث انتخاب أوباما الأسود، رئيسًا في البيت الأبيض، واحدًا من تلك الوسائل الذهبية التي اكتشفتها الأمة الأمريكية لتمدّ في عمرها الآيل للأفول، وقد أنذرها باتريك بوكانن بالموت في كتابه "موت الغرب"، بسبب من التفكك الداخلي، فاعترفت بالداء وواجهته من خلال انتخاب قائد أسود يساعدها في تحقيق التماسك الداخلي، وامتصاص السلبية في الأمريكيين السود والأقليات العرقية المتنامية، وزرع الولاء وحس الانتماء فيها، وإشراكها في الحياة العامة للحد من عدائيتها الصريحة للمجتمع الأمريكي الأبيض.

3 - العوامل الداعمة والمعطيات الصفرية

3 - العوامل الداعمة والمعطيات الصفرية: وتتضافر مع هذين العاملين الأساسيين لنشوء الحضارة عوامل داعمة لا تقل أهمية إن وجدت الاستجابة المناسبة؛ كالعامل الاقتصادي وتدفق الثروة، والموقع الجغرافي، وغنى المصادر الطبيعية، والتفوق العلمي، والتطور الصناعي والتقني، ووفرة السكان، والفراغ الحضاري أو انعدام المنافسة (¬1) .. كلها عوامل مساعدة ترفد المشروع الحضاري، وقد تتوافر أو تغيب كليًا، إلا أنها ليست شرطًا أوليًا، فقد انبعثت الحضارة الإسلامية في ظل معطيات صفرية وشروط سلبية تنذر باستحالة المهمة على الأصعدة كافة، إلا أن ذلك لم يعق المشروع الحضاري، بل كانت الانطلاقة عجيبة في ¬

(¬1) أي ضعف المنافسة الحضارية أو غيابها نتيجة سقوط الدول المنافسة، أو دخولها دور الانحطاط، وكل فراغ لا بد من أن يُسدّ ويُشغل وهو مساحة حركة للمتفوق؛ فالوجود، كما قلنا، لا يعرف الفراغ.

تسارعها وقوتها (¬1). ¬

(¬1) فرجل الفطرة عندما يأخذ طريقه لكي يصبح رجل الحضارة لا رأسمال له إلا الفكرة والفعالية البشرية .. ينظر: بن نبي، مالك: شروط الحضارة، ص50، 60. ولأجل ذلك يرى توينبي أن النقص في الميادين العلمية والتقنية، وضعف السيطرة على البيئة المادية، ليس علة في سقوط الحضارة، ولكنه مجرد عرض لا أكثر .. ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 428. ولعل انحلال الاتحاد السوفييتي من أوضح الأمثلة على هذا، فقد قدّم برهانًا قاطعًا على عدم صلاحية الشيوعية بوصفها فكرة حضارية ونظامًا اجتماعيًا وبرنامج عمل وإدارة، وعلى الرغم مما ورثته روسية الحالية عن الاتحاد السوفييتي من قوة عسكرية جبارة، وصرح علمي مشيد، فإن افتقارها إلى فكرة مؤسِّسة يبدد الظن بإمكان نهوضها ما دامت محافظةً؛ فكريًا وثقافيًا، على موقع التابع لدول أوروبة الغربية .. والتبعية الثقافية هي العامل الجوهري نفسه الذي نظن أنه سيؤدي قريبًا إلى انهيار اليابان حضاريًا، ولن يعيق هذا المصير ما نعجب له كلنا من قوة اقتصادية وإبداعية لا نظير لها لدى الشعب الياباني، لأن الفكرة الحضارية التي قامت عليها نهضة اليابان الحديثة ترتبط بديانة الشنتو التي تلقت فيما بعد الحرب العالمية الثانية ضربات قاصمة نتيجة الهزيمة أمام الغرب، والاحتكاك غير المضبوط بالغرب والانكباب على تقليده ومحاكاته، وتفشي الروح العلمية والتيار العقلي، فانحصرت ديانة اليابان ومصدر قيمه الروحية في دور العبادة وتقاليد التراث وتقلصت سلطتها في الحياة العامة دون توافر بديل ينهض بثقل العبء الحضاري، ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 456 الحاشية3. ويبدو أن افتقار الأمّتين؛ الروسية واليابانية، إلى فكرة حضارية مؤسِّسة هو واحد من الأسباب القوية وراء كونهما الأكثر انتحارًا في العالم، وما لم تتبنّ كل منهما فكرتها الحضارية الخاصة التي تعيدها إلى مستوى الفعالية الحضارية من جديد، فإن القوة المادية لكل منهما ستنجح فقط في تأخير هذا الانهيار لا تعطيله. وهذا الخطر يواجه الغرب عامة لأنه لم يقدر مؤخرًا على تجديد فكرته الحضارية، ولم تنهض لقيادته عصبية قومية جديدة سليمة من عاهات الترف والانحلال الأخلاقي!

تخامد الطاقة الحضارية

تخامد الطاقة الحضارية كانت لنا وقفة متأنية مع شروط النشأة الحضارية، وصلنا فيها إلى أن الفكرة الحضارية المؤسِّسة هي حجر الزاوية في أية حضارة ضمن كثير من القيود، وستلعب هذه القيود دورًا جوهريًا في سبر علل الانهيار الحضاري، كما أن التحديات لن تغيب مطلقًا عن توجيه دفة الانهيار، ولكن ما كان بالأمس إيجابيًا سيغدو اليوم سلبيًا .. لقد عدنا إلى أن قيمة الشيء نسبية وتتدخل شبكة من العلاقات في تحديدها! ولا بد قبل الشروع في الكلام على علل الانهيار الحضاري من تحديد مفهومه، واستعراض سريع لأبرز علاماته .. إذا كنا قد عرّفنا الحضارة بأنها درجة عالية من الفعالية التاريخية، فإن الانهيار في جوهره هو تراجع متدرج لتلك الفعالية، وتخامد للطاقة المحركة يتناسب وغياب الدافع، وقد كانت الفكرة هي الدافع الجوهري للحركة التاريخية وهي خزان طاقتها، بما تتضمنه من قيم ومصالح، فإذا ضعف سلطان الفكرة بدأت القيم بالانفصال عن المصلحة، لتغدو الأخيرة الدافع المباشر، ولا يعيق انسحاب القيم حركة الازدهار المادي، بل على العكس، قد تصل الحضارة ذروتها المادية في مرحلة احتضار القيم، ما دام الدافع المصلحي فعّالاً، فهو ملائم ملاءمة قياسية لذلك النوع من

الإنجازات (¬1). وتؤول الحضارة إلى الانهيار الوشيك وعدم الفعالية الواقعية عندما ينعدم الدافع؛ أي عندما تفلس الفكرة، وتتعطل المصالح أو تتصادم. صحيح أن هذا المآل متحقق في أواخر سني الحضارة، بيد أن سوسة الانهيار تبدأ في النخر في عمقها في مراحل متقدمة جدًا توافق بواكير إنجازاتها، وتتجذر حين تبلغ ذروتها .. ومن هنا فإن علل الانهيار تكون في الأكثر خادعة، ومظاهرها مواربة متوارية، تتمازج بالغايات، وتتحد بالمصالح، ولا يمنع من تحكمها إلا قوة الاندفاع، وسلطان الحركة، ورفضات التجديد والإحياء! يستغل الانهيار نقاط الضعف حيثما كانت ليؤسس لنفسه، وليس من الضروري لآثاره أن تتوازى وتتزامن، لأن الحضارة في انطلاقتها لا تتحقق دفعة واحدة في مستويات الحياة كلها، وهي كذلك في انطفائها، وذلك لاختلاف الدافع المحرك لأنواع الإنجازات والنشاطات المختلفة، ولتفاوت في طبيعة الإمكانات المتوافرة. تهيّئ الفكرة الحضارية لوجود أنماط متنوعة من الدوافع الكلية والفرعية، وهي تشترك فيما بينها، أو تفترق، في تحفيز حزمة معينة من الإنجازات والنشاطات، وهذا يقتضي ألا تصير الحضارة إلى الانهيار دفعة واحدة، بل يبدأ الانهيار في تلك المستويات التي يتخامد ¬

(¬1) بل إن توينبي قد ذهب إلى أن الحضارة الآخذة في التحلل تحقق عالميتها في تلك المرحلة، لتكون الدولة العالمية "وسيلة تُمهل عملية انحلالها"، ولتكون ذروة القوة والانتشار "دلالة على انحلال الحضارة"، توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 410 - 411.

دافعها قبلاً، فإذا ما افتُقِدت الدوافع كلها أمعنت الحضارة في الانهيار على كل الصعد وفي شتى المجالات (¬1) ¬

_ (¬1) تتفاوت الحضارات في خطتها التاريخية فيما يتعلق بالدوافع والإنجازات، كما تتفاوت في مخزون الإمكانات الذي لديها في مرحلة الإقلاع، ولعل هذا التفاوت هو السبب في الاختلاف الجوهري بين النظريات التي تحاول تفسير عملية نشوء الحضارة، إذ يتعلق البعض بالظاهر من تلك الإمكانات ويغفل عما قد يكون أصيلاً وجوهريًا، أو ما هو في الحقيقة قائد الأوركسترا وعنصر الضبط للإيقاع. أيضًا .. إن الحضارات ليست نماذج واحدة مستنسخة، على الرغم من أنها تخضع لقوانين حضارية واحدة، فكل منها يمثل تجربة فريدة تستحق الدرس والفهم، وإذا تجاوزنا ذاك التباين الطبيعي في مضمون الفِكَر الحضارية، فإن المخطط البياني للرحلة التاريخية لكل منها يقدم إحداثيات خاصة توضح قيمها الجوهرية والإمكانات المتوافرة لها دون غيرها، كما يوضح التباين بينها في طبيعة الإنجازات التي تحققها في أطوارها المختلفة والمستويات التي تجتهد الحضارة في السبق إلى توفيرها، أو تلك التي تطالها يد العطب قبل غيرها .. وسنحاول أن نرصد خصوصية التجربة الحضارية في العلاقة بين الفكرة والإنجاز على مستقيم الزمن، من خلال نموذجين حضاريين: الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية الحديثة. وسنعقد المقارنة بينهما من خلال رسم بياني لكل منهما، ينظر: المخطط رقم (2)، والمخطط رقم (3). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المخطط رقم (2) (صورة) المخطط رقم (3) (صورة) - يلاحظ من خلال المخططين أن هناك تمايزًا واضحًا في قوة إقلاع كل من الحضارتين، ففي حين تحقق الحضارة الإسلامية قفزة مفاجئة في المحيط التاريخي والحضاري، وتنتقل قيمة القوة في تنام متسارع إلى مستوى الفعالية، نشهد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحضارة الغربية تتطور تطورًا متدرجًا في طريقها إلى الذروة الحضارية. وقد اعتبر كثير من الباحثين إقلاع الحضارة الإسلامية أمرًا عجيبًا لا مثيل له في التاريخ، يقول إشبنجلر: "إن تحرر هذا الجنس البشري المجوسي لا مثيل له في التاريخ، ... لقد ضغط في هذه السنوات القلائل وادخر فيها كامل العواطف والآمال المؤجلة والأعمال المتحفظة التي لا تسعها قرون وقرون من تواريخ حضارات أخرى". ينظر: إشبنجلر، أسوالد: تدهور الحضارة الغربية، 1/ 336، ومبرر هذا العجب أن الحضارات تولد في ظروف قلة، وفقر في المعطيات المادية، فإذا أطلقت الفكرة الحضارية الشرارة المحركة، جندّت كل القوى الممكنة والمهدورة في مشروعها، واستطاعت عن طريق تراكم الإنجازات، وتدرّج البناء والتطوير، الترقيَ المتصاعد إلى مستوى الفعالية التاريخية، أما الحضارة الإسلامية فقد انطلقت انطلاقة قوية مفاجئة مستمدة طاقتها من الفكرة والقيم دون أن تنتظر سند التراكم وراحة التدرج، وهذا ينبئ بضخامة الطاقة الذاتية للفكرة الإسلامية، وامتلاكها قوة دفع وتحفيز فريدة! - حضنت الفكرةُ الحضارية الغربية مجموعةً من القيم الكلية استمدت منها معناها، وأمدتها بطاقة الحركة والإنجاز، وأهم هذه القيم وأبرزها: الإيمان بالعلم والعقل، وتقديس الإنسان. وإذا تأملنا مخطط الحضارة الغربية وجدنا أنه في مرحلتي الإقلاع والذروة يكاد يتوازى فيهما مؤشرا الدوافع؛ قيمًا ومصلحةً، ومؤشرُ الإنجازات، لأن الفكرة الغربية التي يمثلها مؤشر القيم كانت تبحث عن تحققها التدريجي عن طريق ضمانها لقائمة من المصالح كفلت لها سلسلة من الإنجازات الحضارية المتتابعة. بيد أن مؤشر القيم يبدأ مع الحرب العالمية الأولى في الانحدار نتيجة فقدان الثقة بالعقل والعلم، وامتهان كرامة الإنسان وانتهاكات روحه وجسده، والاضطرار إلى البحث عن بدائل أخلاقية، نتيجة الفساد المتفشي في المجتمعات الغربية وتفككها الداخلي .. كل هذا رسّخ الشكّ في قيم العقل الغربي الكلية وفي منطلقاته الفكرية، فأدى بالنتيجة إلى بروز انفصال حادّ بين مؤشر القيم ومؤشري المصلحة والإنجازات اللذين يتابعان توازيها وصعودها متحللَين من إطار القيم، ومنفلتَين من الضوابط الأخلاقية ومثاليات النفس الغربية! =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعلة محافظة المصالح والإنجازات على اندفاعهما بعد افتراقهما عن القيم أمور: أولها عام تشترك فيه التجارب الحضارية المختلفة، أقصد به قوة التراكم التي تمنح الإنجازات طاقة ذاتية تأخذ بالتخامد إن لم يتوافر لها مولّد طاقة يجدّدها. وثانيها أن المصالح والإنجازات يتبادلان المنفعة فيما بينهما، وتمثل هذه المنفعة الدافع المشترك في كليهما، ولذلك سيدعم أحد الطرفين الآخر في توليد الطاقة اللازمة للتحقق. وثالثها خاص بالحضارة الغربية وهو الأخلاق النفعية التي حاولت الفلسفة الغربية أن تحلّ بها معضلة فصل الدين عن الحياة العملية .. ولكن هل سيتابع مؤشرا المصالح والإنجازات اندفاعهما متحررين من القيم إلى ما لا نهاية؟! هناك احتمالان متوقعان: الأول أن تؤدي استطارة التضخّم في الطرفين إلى اصطدامهما نتيجة التعارض الحادّ في طبيعة المصالح التي توفرها الإنجازات؛ فمثلاً تحتّم مصالح الأقلية المبدعة للإنجازات العلمية المرتبطة حتمًا بالمال، أضرارًا اجتماعية وأخلاقية متفاقمة يعاني منها أواسط الناس وفقراؤهم، ما يعني احتكار المصالح في يد أقلية مستفيدة فقط. والثاني أن يؤدي افتقار المصالح إلى الضابط القيمي إلى تفريغ الإنجازات من أساسها المصلحي، أي تعطيل الدافع إلى تحققها وتطورها، والنتيجة تخلّفها؛ وهذا ما نلحظه في انصراف كثير من أبناء الغرب عن العلم غير المضبوط بأخلاق أو غايات نبيلة، وعدم إيمانهم به لوعيهم بالآثار المدمرة له. وتكون العاقبة انهيارًا شاملاً مفاجئًا غير محسوب نتيجة تصادم النقائض المتضخّمة، أو انحلالاً خفيًا تدريجيًا نتيجة تقلّص الطاقة الدافعة حتى تلاشيها. والاحتمال الأرجح من وجهة نظري هو - والله أعلم - الأول؛ لأن خصّيصة التطرّف التي تغلب على العقل الغربي لا تؤدي إلا إلى نتائج ثورية ومفاجآت انقلابية مضرّجة بالدماء غالبًا، تشهد على هذا الأحداث الكبرى في التاريخ الغربي؛ كالثورة الجمهورية الإنكليزية، والثورة الفرنسية، والثورة البلشفية .. - تدخّلت الفكرة الحضارية الغربية في تأمين القوة الاقتصادية اللازمة لحركة العلوم وتطوير تطبيقاتها العملية، حيث حفزت الروح العلمية رحلات الكشوف التي أمّنت مصادر مالية ضخمة للمجتمعات الغربية، ولكن قبل مرحلة الإقلاع =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحضاري، أدّت التحديات، والانهيار الكامل داخل تلك المجتمعات، وافتقاد أدنى مستويات الاحتياجات الضرورية للإنسان، وغياب الأمن وانتشار الحروب والفقر والجهل والظلم .. كل ذلك أدى إلى تكريس مشاعر اليأس، وتشجيع المغامرات غير مضمونة النتائج بديلاً لواقع مضمون التردي، بل إن الصعوبات والمعاناة نفسها منحت النفس الغربية خصائص رجل الحضارة؛ كالجلد والصلابة وتحمل المسؤولية والاندفاع وحملته على الجرأة على المغامرات التي تمثّلت في حركة الاستعمار، ورحلات الكشوف التي وفّرت موارد اقتصادية ضخمة لحركة العلوم، وللنهوض بذلك الواقع. وهذا يذكرنا بكلام توينبي عن دور التحديات في نشوء الحضارات، وهو يعني أيضًا أن القوة الاقتصادية كانت من أهم العوامل التي دعمت حركة النهوض الغربي، وهي التركة الإيجابية لمرحلة الانحطاط، بالإضافة إلى أخلاقيات الدين المسيحي. أما ميراث مرحلة ما قبل الحضارة في التجربة الحضارية الإسلامية فهو "القيم"، ولذلك أكد النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ولهذا أيضًا كان لهذا الدين أن يظهر في عرب الجاهلية لا في غيرهم!! وتتشارك الحضارتان في أن ظروف القلة أوجدت الذخيرة الأولية لأية حضارة، ألا وهي الإنسان السويّ، أو رجل الحضارة، غير الملتاث بدنس الترف، ولا أمراض المدنية، والمتحلي بالصبر والجلد، والآخذ بزمام المبادرة، غير المعتاد على الاتكاء على الأشياء .. - الفكرة الحضارية الإسلامية فكرة دينية تمدّ الوجود الإنساني وحدود إنجازاته إلى عالم غيبي يقيني يدخل في اعتبارات الغاية والفعل والإنجاز، وعلى الرغم من أن الفكرة الحضارية تفرض سلطانها على إنجازات الحضارة كلها، وتطبعها بطابعها الخاص، فإن الملاحظ أن الإنجاز العسكري مرتبط في الحضارة الإسلامية ارتباطًا وثيقًا بالقيم؛ قوة وضعفًا، ولهذا فإنهما يكادان يتطابقان في مؤشرين متوازيين تمام التوازي، وإذا كان مفهومًا - استنادًا إلى التوضيح المعروض في متن هذه الدراسة - أن يفارق مؤشر القيم خطة سير مؤشري المصلحة والإنجازات المعرفية والاقتصادية، فإن الفريد في التجربة الإسلامية أن مؤشر القوة العسكرية يلحق بمؤشر القيم لا بالمؤشرين الآخرين، لأن القيم الإسلامية =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = هي الشريان المغذي للقوة العسكرية وخزان وقودها ودافعها المباشر، ترتبك هذه بضعف تلك، وتتوقد بتوقدها. إننا نعلم أن الحضارة الإسلامية انطلقت في ظل انعدام الموارد والإمكانات، لتواجه أقوى دولتين في العالم لذلك الحين، واستطاعت أن تفرض إرادتها التاريخية، وتنشر فكرتها الحضارية. إن أهمية هذه الملاحظة تأتي من علاقتها الجوهرية بواقع الأمة المعاصر؛ تفسيرًا وتخطيطًا، وصلتها بمشروع النهضة وصراع الوجود وتحديات البقاء، فعلى ضوئها يغدو صمود المقاومة الفلسطينية في غزة اليوم منطقيًا وذا معنى على الرغم من التفاوت الهائل في القدرات العسكرية والمادية بين الفريقين، لأن الخصم الصهيوني - وهو امتداد للغرب - يستمد قوته من قوة الآلة العسكرية ودرجة التقدم التقني، لا من القوة النفسية المستندة إلى سلطة القيم ودرجة إشعاعها في الذات واتحادها بها، قال الله تعالى: "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين"، (الأنفال/65 - 66). وقد شُرِّع التخفيف استيعابًا لحالة الضعف المرتقبة نتيجة تراجع القيم، ويعوَّض الضعف بآليتين يضمن التقدم توافرهما، هما: العدد والعتاد. ولا يتعارض هذا التحليل مع وجوب الإعداد، والقدرة على إدارة عالم المادة والأشياء، لأن كلامنا هنا محصور بالدافع الحضاري، وهو لا يتطرق إلى الخطط أو الآليات. - تشهد الحضارة ذروتها المادية؛ العلمية والفكرية والاقتصادية، وتحقق أقصى غاياتها وأضخم إنجازاتها في مرحلة تؤول فيها القيم إلى الانسحاب، وهذه الظاهرة مطردة في التجربتين الإسلامية والغربية، وهي ناجمة عن أن الفكرة تطلق شرارة اندفاع الحركة المادية للحضارة، وبما أنها تغتذي من رافدين أحدهما الفكرة والآخر المصلحة، فإن انسحاب الفكرة التدريجي يسمح باستمرار فعالية المصالح المحتواة داخلها ويحميها، والمصلحة تعزز المنافسة، والمنافسة تحسّن الأداء، كما يسمح المدى الزمني الذي يتطلبه انسحاب القيم بتراكم الإنجازات؛ =

وإنما يخفف من تسارع الانهيار أن الإنجازات التي تحققها الحضارة، والمكاسب التي تحرزها، تغدو إمكانًا من إمكانات الحضارة، ووقودًا إضافيًا للطاقة، ودافعًا موضوعيًا للحركة، وذلك بالاستناد إلى قيمتين: الأولى قوة التأثير الذاتية للإنجازات ومجال هذا التأثير، والثانية تراكم الإنجازات. فإذا ما تعطل الدافع الإنساني، قيمًا كان أو مصلحة، تابعت الحضارة اندفاعها على استحياء حتى تُستنفَد الطاقة الذاتية المختزنة في إنجازاتها، وإلى أن يتخلخل ذاك التراكم الصلب الذي يستند إليه ثباتها. ويحدث أن تتخامد الطاقة في صورها كلها، وتضيع الإمكانات أو تتشتت أو يُضرَب بعضها ببعض، وتتعطل المصالح أو تُحتكر وتُصادر لصالح فئة قاهرة مسيطرة .. ذلك عهد تغلب فيه عوامل الانهيار وتشيع، ويعين بعض العلل على بعض، ما يولّد دوافع ¬

_ = ليكون هذا التراكم الأرضية الصلبة لمتابعة خط التطوير الصاعد. ومن ثم تبدأ مظاهر المدنية بالتراجع بقدر تعطل المصالح، وتراكم الآثار السلبية لعوامل الانهيار المباشرة وغير المباشرة، ويتدخل في تسريع عجلة الانهيار أي نوع من أنواع الكوارث المفاجئة، كالاجتياح المغولي للحضارة الإسلامية، وكمخاطر ما يحتمل من استخدام غير رشيد للعلوم الغربية ولقوته النووية، أو ظهور خصم قوي غير متوقع؛ كالصين مثلاً أو ماليزية أو تركية .. - تمر الحضارة بقفزات نوعية تغير مسار الانهيار المطرد، وما تلك القفزات إلا الدوائر الحضارية الداخلية الداعمة التي تجدد الفكرة الحضارية، فتعدل مسار الهبوط المتوالي وتؤخر الانهيار الشامل. ومنها على سبيل المثال حركة التجديد التي كان الغزالي ملهمها، والأخرى التي قادها محمد بن عبد الوهاب في الحضارة الإسلامية، والثورة الفرنسية والثورة الشيوعية في الغرب. وقد أهمل المخططان رصد هذه القفزات، واكتفيا برصد الخطة التاريخية الكلية.

اليقين المتهرئ، والأمل المستنفد

سلبية تقوم على اليأس والخوف والأنانية، وتدعم الانهيار وتؤصله؛ ليغدو هو الواقع الطبيعي، والأفق الممكن، ولتعود الحضارة إلى وضعها الجنيني منتظرة طلقة ولادة بعيدة أو قريبة، ولكنها بالتأكيد مؤلمة ومستهلَّة بالبكاء!! فما هي العلل التي تفصم عُرى العلاقة بين الفكرة والمصلحة، وكيف تفقد الفكرة سلطانها الذي كان كفيلاً بتأجيج الانتفاضة الحضارية، ولماذا يخبو الدافع الحضاري لتتخامد من أجل ذلك الطاقة المحرِّكة؟! ولما كانت الإجابة عن هذه الأسئلة واسعة ومتشعبة العناصر، فقد وجب صياغتها صياغة تبرز العوامل الجوهرية، والعلل الكلية التي تقدر على أن تستوعب العناصر الجزئية داخلها وتلمّ شعثها. وسوف نبدأ من أبرز تلك العوامل وأهمها: - اليقين المتهرِّئ، والأمل المستنفَد: مهما كانت أهمية الفكرة المؤسِّسة بوصفها مولِّدًا حضاريًا، ومهما امتلكت من إمكانات لخلق حضارة قوية متوازنة، فإنها تفلس وتكون عاجزة إذا افتقدت اليقين الذي يجعلها كينونة إنسانية فعّالة وطاقة محركة، لتتحول إلى تراث، أو أفكار مجردة معطَّلة ليس لها أن تحرِّك أو تؤثّر. إنه باليقين تتحدّ الفكرة بالذات وتلتحم بالإنسان لتكتسب كينونتها الإنسانية الحية، وعن اليقين تتولد شرارة الطاقة الدافعة التي تحول الفكرة إلى قوة فعّالة ومؤثرة على مستوى الحياة والواقع، وباليقين يتولد الأملُ إدامُ الحضارة اليومي الذي يغري بالمستقبل ويحرض على اختراق مجهوله، ويمنح القوة للصبر على بلواء الواقع ومقاومته.

تعيش الحضارة في مرحلة التخلق ندرة في الموارد تمنح الفكرة الحضارية فرصة التفرّد لتكون المورد الأم والخيار الوحيد والأمل المطلق، ولن يكون رأسمالها على هذا الأساس وضمن معطيات الندرة إلا الإنسان، إنسان الحضارة أو الفطرة، تعوّل على إمكاناته الذاتية وقواه التي تطلقها من كمونها وتعيد شحنها بطاقتها الخاصة؛ لتجعله نموذجًا حيًا لها، وذراعًا مادية تمارس بها إرادتها في عالم الواقع. إن الفكرة عندما تتملك الذات تعيد تقويم الأشياء من خلالها، وتكون قادرة على تحريكها، وفي الوقت نفسه فإن الذات عندما تتيقن الفكرة، وتتمثلها، تطلقها - أي الفكرة - من عالم المثل وتمنحها وجودًا ماديًا معايَنًا في سلوك وممارسات قابلة للتمثل والاقتداء، وتهيئ لها فرصة الانتشار والتأصّل، أي إن التحقّق في كينونة إنسانية هو غاية ووسيلة معًا، وهو يستعين بالإيقان ويعين عليه. قلنا إنه بقدر تفرّد الفكرة وقدرتها على التحول إلى كيان إنساني حي يستحكم اليقين ويقوى، وحين تتضاعف المكاسب ويغرق المجتمع في الوفرة تظهر المنافِسات ويهتزّ ذاك اليقين ويتهرّأ، ويضعف استقطاب الفكرة وتتشتّت الولاءات، والأمل المنعقد على تحقق الفكرة يتجاوزها - بعد الاطمئنان إلى المنجَز - إلى ما تتضمنه داخلها من مصالح تستقطب الولاء والطموح وإليها ينقلب اليقين. ومع أن الفكرة الحضارية ما زالت مثمرة إلا أنها تتحول من دور تتحقق الفكرة فيه من خلال العالم الواقعي، إلى دور يتحقق العالم الواقعي من خلالها، ومن أن تكون غاية إلى أن تصير وسيلة، وحين كان مطلوبًا من الجماعة أن تنخرط كلاً واحدًا في معركة البناء لتحقق طموحات الجماعة ومصالحها، وأن تتنافس في الفكرة بدافع من

اليقين الواحد والمصالح المشتركة، تؤجّج المكاسب، ومنطق الربح والخسارة، النزوعَ الفردي، ويصير الولاء للمصلحة الفردية، والتنافس فيها، واليقين متعلقًا بها. وينعكس التنافس في المصلحة على السطح المنظور انتعاشًا فريدًا وغير مسبوق في الإنجازات المادية والمعرفية، غير أنه يؤدي - في سياق الإطار العام من انسحاب الفكرة وفقر القيم - إلى تفكيك وحدة الأمة الداخلية؛ سياسيًا واجتماعيًا، وولادة تيارات اجتماعية وأطروحات حضارية نابعة من الفكرة الحضارية الأم ومنافسة لها، تسهم في تعميق الشك في الفكرة، وخنق اليقين المتهالك. إن المنافع، كما في الكائن الحي تمامًا، تترك خلفها فضلات؛ هي سلبياتها، وعندما يبلغ دور الوفرة ذروته يكون ذلك إعلانًا بأن فائضًا هائلاً من السلبيات قد تراكم، وسيكفي هذا التراكم لعرقلة تيار الحضارة، وردم مجراه، ليرتد على نفسه فيضانًا يغمر كل شيء، ومؤذنًا بدخول الأمة في حالة انتحار جماعي إرادي وغير واع. وتناضل الحضارة للبقاء مقاومةً تيار السلبيات المتضخّم، حتى تصير الفكرة عبئًا؛ خسارة أو تضحية، ويتعاظم انفصالها عن الإنسان وعن الحياة حتى تعود تجريدًا عسيرًا على التصور والتمثّل، أو خطأ فادحًا واجب التصحيح، وتتعطّل المصلحة أن تكون دافعًا، وتتحول إلى عامل هدم، ومصدر صدام بين قوى الحضارة نفسها إلى أن تذوي المصلحة بدورها فتفتقد الحضارة دافعها، ولا يبقى داخل خزنة اليقين إلا الخبرات المؤلمة .. حينها يخيم اليأس ويُخنق الأمل،

1 - الوفرة؛ مفرخة أنداد منافسين للفكرة الحضارية

وليس كاليأس قوة لفناء الحضارات، ولن يزرع الأمل مثل اليقين (¬1). ويقفز ههنا التساؤل الوجيه الذي يقول: ولكن .. لم تنفصل الفكرة عن الذات، ومن أي رحم يولد الشك ليخمد فورة الحياة في اليقين الطموح؟!! إن العلل وراء ذلك هي بدورها عوامل هامة في دفع كرة الانهيار المتدحرجة، وتنويهًا منا بذلك، وتوجيهًا إلى أصالة اليقين بوصفه فتيلاً للفكرة المحركة، نبدأ في عدّ عوامل الانهيار الحضاري من بعده، فهي تفصيل لما أجمل فيه: 1 - الوفرة؛ مفرخةُ أنداد منافِسِين للفكرة الحضارية: إن من شروط كل حضارة بل من غايات وجودها العضوية أن تحقق الرفاهية والوفرة لأبنائها، وهذا ما تبدأ الحضارة في الشروع به من بعد انطلاقتها الأولية، وتحوّلها من مرحلة التخلق إلى الاستقرار والتبلور في صورة دولة ونظام وتشريع ومؤسسات .. ومنجزات اجتماعية ومادية ومعرفية .. حتى ذلك الحين تظل الفكرة متّحدة بالمصلحة ومصدرًا للربح والخسارة يغري القاصي والداني بالانتماء والولاء، إذ إنها بوابة الوصول إلى المصادر الأخرى للسلطة والمكاسب: المال، والقوة، والمعرفة (¬2). تلك السلطات التي تتعاضد معًا لدعم الفكرة ¬

(¬1) لعل الفيلم الأمريكي The Postman خير مثال على الأمة تنهار عندما تفقد الإيمان وتستكين لليأس، وذلك من خلال تصور تتحقق فيه تلك النبوءات المنذرة بانهيار الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتفتّتُ إلى مدن صغيرة مستقلة ومنغلقة على نفسها، وتنتشر عصابات السلب الهمجية، ولكن الأمة تنهض من جديد عندما تستعيد الإيمان ويشيع بينها الأمل. (¬2) قد يعجب القارئ من أننا جعلنا المعرفة ندًا للفكرة الحضارية، أو منافسًا لها، وهما على ما يبدو كينونة واحدة! الواقع أن الفكرة الحضارية تمتاز من النتاج المعرفي العام للأمة، ذلك أن المعرفة تجسّد للفكرة في الحقل المعرفي والعلمي، سواء منه النظري أو التطبيقي، والفكرة هي التي تعطي النتاج المعرفي هويته وطبيعته ومحتواه، وتفرض آلياته كذلك. كما أن الفكرة الحضارية المحرِّكة ترتبط بالإنسان والحياة؛ أي هي معرفة حية ضرورةً، معرفة تبرز من خلال المواقف والممارسات لا عبر الكتب والتحليلات، وقد علمنا أن الفكرة الحضارية الإسلامية وقيمها تجسدت في حياة الأفراد وسلوكهم وفي نظام الأمة الاجتماعي كله؛ ولذلك كان لها أن تحرك الحضارة. وكذلك الفكرة الغربية قُدِّر لها الوجود من خلال مواقف الصمود والثبات التي وقفها رواد هذه الحضارة، والدماء التي هريقت لأجلها، لا بسبب من دراسات نظرية وفذلكات علمية مجردة فقط.

الحضارية، وحين تشتدّ تستقل عن الفكرة، ويعين بعضها بعضًا لتحقيق غاياته التي قد تساير الفكرة الحضارية أو تخالفها، ولكنها بجميع الأحوال تحرص على أن تستعين بالفكرة، وتظهر بمظهر الولاء لها. وحين تتضخّم المكاسب تجتذب مصادرُ السلطات النفعية المستفيدين وكأنها هي القوى الحقيقية المحرِّكة، في حين أنها أثر من آثار الفكرة، وتغيب الفكرة بتجريدها وراء مادية المكاسب وقوتها لتتصدر عملية توجيه الحراك التاريخي .. لقد برز للفكرة منافسون من الداخل، وأنداد يسرقون منها الأتباع ويسحبون منها اليقين (¬1)، وعند هذه المرحلة، وهي مرحلة قوة مادية جبارة للحضارة، ¬

(¬1) وقد ورد في الحديث تحذير من سطوة هذه الحال وشيوعها، إذ قال عليه الصلاة والسلام: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسِطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم". عياض بن موسى اليحصبي: شرح صحيح مسلم، كتاب الزهد، 8/ 513، رقم الحديث 2961.

2 - بين انحلال القدوة واستكانة الأمة

تطفو على السطح مشكلات التعارض بين المصالح والقيم، والذات والجماعة، ونسبية الولاءات، وتحسم المساومات غالبًا لصالح ما هو مضمون ومادي ملموس وسريع الأثر .. والخاسر الأكيد هو الفكرة. لا تتسبب الوفرة في تعزيز سلطة المصالح أو الدافع النفعي فحسب، بل تتسبب في فترة لاحقة في تغيير الخصائص النفسية والاجتماعية للأمة، وتحوّلها من الفعالية والاندفاع والتنافس في الفكرة إلى التنافس في المصلحة، ومن ثم تهوي بها إلى شره اللذة والعطالة، والتواكل على إنجازات الحقب الماضية والاكتفاء بالحركة الآلية الناجمة عن الدفع الذاتي لها، إلى أن تتخامد طاقتها أخيرًا .. وفي جو مشحون بالضعف وعدم الثقة والفساد الأخلاقي، تميل السلطات الثلاث: القوة، والمال، والمعرفة، إلى التصادم بعد أن عرفت التكامل في مرحلة الذروة، ويسود منطق القوة، ويشيع الظلم، ولا يجدي الجهد، وتأنس الأمة بالإحباط وعدم المبالاة. وبذلك تتعطل صمامات المحرّك الذي كان يمدّ الحضارة بالطاقة على المستويات كلها، وتتآكل شيئًا فشيئًا حتى تذوي .. 2 - بين انحلال القدوة واستكانة الأمة: كغيرها من مكونات الظاهرة الحضارية، تتأثر طبقة القادة (الفكرية أو السياسية) بالظروف المتغيرة وما تحمله معها من مؤثرات تنتحي بالذات (الفردية أو الحضارية) عن أصالتها، بيد أن الخطورة ههنا أن طبقة القادة تستطيع توجيه المتغيرات وتكريسها؛ سلبًا أو

إيجابًا، والتأثير في الأمة بما تمتلكه من سلطة تستند إلى موقعها التاريخي والاجتماعي، وباعتبارها قدوة ومرجعية للأمة كلها، ولذلك فإن استجابة طبقة القادة للمتغيرات ينعكس على الأمة ويُعديها. لم يكن في إمكان القادة أن يحرّكوا الجماعة للفكرة الحضارية ما لم يمتلكوا اليقين بها في ذواتهم أولاً، ويتمثلوها في سلوكهم ثانيًا، ويقدموا في سبيلها التضحيات ثالثًا. وهم بذلك يهيّئون للفكرة أن تقدم نفسها حية مشخَّصة تبلغ أعلى درجات اليقين؛ أي "عين اليقين". ولأن السلوك يُعدي، فقد استطاعت الفكرة بالاعتماد على المحاكاة الفطرية أن تتغلغل في النفوس وتبلغ أسمى طاقات التحريك، وتثير حماسة الجمهور للبذل والتضحية .. بهذه الطاقة عينها يستطيع القادة أن يسقطوا الفكرة ويغتالوا الإيقان المستقرّ في النفوس بما يصدر عنهم من أفعال أو ردود أفعال، ولهذا فقد نصح مكيافلي القادة بالتظاهر بالتدين والفضيلة حتى إن كانوا على غير ذلك في حقيقتهم (¬1). في سبيل متابعة التطورات العميقة التي تطرأ على شرائح الأمة المختلفة؛ أفرادًا وجماعة، سنلجأ إلى عملية تفكيك للعناصر، وتشريح للعلاقات الداخلية بينها، ورصد أدوار كل فئةٍ وعنصرٍ على وجه الإجمال من خلال المحاور الآتية: - في مرحلة النبع تتّحد القيادة الفكرية بالقيادة السياسية، أو تتحد معها، لتقود عامة الأمة، وتكون قدوة لها في الحركة والتغيير ¬

(¬1) ديورانت، ول: قصة الحضارة، 21/ 68 - 69.

والفعالية (¬1). وإن أي انحراف سلبي يطرأ على طبقة القدوة يهدد بانفصام داخلي فيها، فتستقلّ القيادة السياسية عن القيادة الفكرية وقد تتصادمان، فتخسر إحداهما، أو كلاهما، موقعها الملهِم للأمة ولا تصلح أن تكون قدوة، وتعوّض الأمة النقص الحاصل في القدوة بالبحث عنها في التاريخ أو الأساطير أو الحكايا الشعبية. وفي حال انفصلت القيادة السياسية عن القيادة الفكرية فإن الأولى تحرص على كسب ولاء الثانية أو الحظوة بمباركتها وامتلاك الشرعية عن طريقها، في حين تحاول القيادة الفكرية تقويم القيادية السياسية وحفزها على الالتزام بالأصول الحضارية للأمة، ويقدم الزمن المزيد من الخيارات .. فتذوب، أحيانًا، السلطة الفكرية في السياسية وتخسر مصداقيتها عند الأمة، أو تقود السلطة الفكرية الأمة في انقلابات وثورات إصلاح عنيف أو سلمي، أو تتحدان معًا لنهضة جديدة تمدّ الحضارة بمزيد من الوقود والطاقة. - هناك تغييرات عامة تطرأ على طبقة القادة وتتأثر بها الأمة سواء بسواء، وهي تلك التغييرات التي تتعلق بحركة الصيرورة الزمنية، وتدرج الحضارة الطبيعي من المعنوي إلى المادي، وانتقال الفكرة من ¬

(¬1) أشرنا في مطلع هذا البحث إلى أن الفكرة لن تتحول إلى فكرة حضارية فعّالة ما لم تضمن تحققها السياسي، وقد يكون هذا التحقق دوريًا في دورات داخلية وعقد مرحلية متغيرة، ويمكن أن نمثل لهذا الأمر بدولة المدينة في الحضارة الإسلامية، وبالملك لويس الرابع عشر في فرنسة، وبحكم نابليون فيما بعد الثورة الفرنسية .. ولكن التحقق السياسي ليس شرطًا لقيام الحضارة، بل هو شرط لتمكين الفكرة الحضارية وتحققها، وهو في الغالب نتيجة لاحقة للانطلاقة الحضارية.

اليقين إلى الشك، والاستكانة للوفرة والتعلق بالمصلحة وإيثار الذات على الجماعة .. هذه التغيرات تطال شرائح الأمة كلها دون استثناء وتمتص فاعليتها تدريجيًا .. ويرصد ابن خلدون فيما يتعلق بقيمتي اليقين والمصلحة أربعة أجيال تمرّ بها الحضارة، فبعد ذلك الجيل الذي سماه ابن خلدون بالبناة (¬1) - وهو الذي على يديه تنطلق الحضارة، وتعرف الفكرة وجودها الحي الفعال بتضحياته - يأتي جيل يرث المكاسب، ولا يدرك التضحيات إلا بالرواية والسماع، وهي المرحلة التي تتحول فيها الفكرة من عين اليقين إلى "حق اليقين"، وابن هذه المرحلة "مباشِر"، لأنه "مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك وأخذ عنه إلا أنه مقصّر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له" (¬2). ومع ذلك يظل الاشتغال للفكرة من الضروريات، والإحساس بالمجد نابعًا منها، وما تزال دافعًا للبذل، لكن مع بروز الجانب الذاتي والعناية بالمكاسب والرغبة بتحقيق التطلعات الفردية التي تتّحد في تلك المرحلة بالحاجات الجماعية، لأن الفكرة تدخل طورًا تصبح فيه مصدرًا حقيقيًا وحاسمًا لمكاسب وإنجازات مضاعفة، بعد أن كانت قيمًا ووعودًا بالمكاسب. يتولد عن هذا بداية تضخّم في المكاسب يهدّد فيما بعد بالطغيان على القيم والفكرة المولِّدة نفسها، ويتجلى التضخم في القوى الثلاثة الأساسية: المال، والقوة، والمعرفة، وفي سلطة ممثليها. إلا أن هذه القوى تتعاضد معًا لتأصيل دور الفكرة في ¬

(¬1) "باني المجد عالم بها عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171. (¬2) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171.

الحياة والواقع وتحويل طاقتها إلى إنجازات خلاقة، فتتقدم الحضارة على مختلف المستويات. ثم يعقب ذلك جيل يرث المكاسب ويتعلق بها لتغدو غاية في ذاتها، ويغفل عن المولّد الحقيقي لها، وتتضخم لديه الميول الفردية والإحساس بالذات والتنافس في المصلحة، ويتمسّك بالفكرة شعاراتٍ مبهِجة معطَّلة، وتقاليد آلية مفرَغة من المعنى، إنه الجيل "المقلِّد" (¬1) الذي يؤثر المتعة ويعيش الترف ويتعلق بالقشور في كل شيء؛ في السياسة والمادة والمعرفة والدين أيضًا .. والميل إلى الإفراط يعني فيما يعني تحفيز ردة فعل معاكسة إلى التفريط، فتعرف الحضارة في تلك الحقبة خليطًا من التيارات المتناقضة المتصارعة، كالمادية والعقلانية والروحية والأصولية والشعبية .. ويتعمّق تفاوت طبقي بين الفئات الاجتماعية، وتشرذم سياسي يقطع أوصال العصبية الجامعة إلى ولاءات شخصية وعرقية تفتقد الحماسة الشعبية .. ومع ذلك كله، فإن تلك المرحلة تشهد ذروة الرقي المادي والمعرفي للحضارة، لأن الترف والتنافس حافزان على التجويد مشجعان على الإنجاز، ولأن السلطات الثلاث: القوة، والمادة، والمعرفة، ما زالت تعرف كثيرًا من التكامل. ثم يأتي قرن لا يجد في الفكرة قيمة، حتى أن تكون شعارًا! وتتصارع السلطات الثلاث وتتعارض بعد أن كانت متكاملة، بل تنقطع الصلات بينها وتتصادم (¬2)، ويلجأ "الهادم" (¬3) - وهو الفرع الأخير من فروع السلسلة ¬

(¬1) "ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصَّر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171. (¬2) للاستزادة فيما يتعلق بالصراع بين هذه السلطات، ينظر: الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص353 وما بعد .. (¬3) "ثم إذا جاء الرابع قصّر عن طريقته جملة وأضاع الخِلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجِلّة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وُثوقًا بما رُبِّي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فيُنغِّصون عليه ويحتقرونه ويُديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلنا بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول ... "، ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171. ينظر أيضًا: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 412.

العصبية - لسد الفجوة الحضارية المتضخمة إلى تشجيع الجهل، وإعاقة حركة الأموال واحتكارها، وإيثار سلطة القوة، والمبالغة في الظلم وكبت الحريات وتعطيل المصالح لإضعاف المنافسين، ما يؤدي إلى انتشار الخوف وشلل الإرادات وتجمّد الفعالية والشعور بالعجز والسلبية، وتبادل انعدام الثقة والحذر والترقّب، وأخيرًا استشراء الخوف واليأس والتطلّع إلى الثورة .. وهنا تبدأ الحضارة بالانهيار والتفكّك على الأصعدة كافة (¬1)، وتغدو مشاريع الإصلاح متعثّرة لا سيما بعد تأبّد عوامل الضعف والانهيار وتأكّدها، فالأمة، عمومها، ¬

(¬1) يرى حسين مؤنس أن الفساد الأخلاقي يظهر في عهد القوة، ومع بواكير عهد الضعف يبدأ في التلاشي، ليحل محله فساد من نوع آخر، هو الفساد المتعلق بالجبروت والقوة، والمحفز له الخوف والتنافس .. ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص258 وما بعد ..

تعادي الإصلاح وتأنس للسكون وعدم التغيير وكل ما قد يجرّ عليها تضحيات ومعاناة غير مجدية. - في الوقت الذي تتشارك فيه شرائح الأمة التعرض لرياح الانكسار المتعاقبة، فإن خللاً إضافيًا يشكل معول هدم غائرًا في ذلك اليقين الآخذ في النضوب، هذا المعول هو القادة أنفسهم، ونعلم أن الأمة قد استمدت قوة الإيمان بالفكرة عندما تجسدت في نماذج بشرية ريادية حية تعايش ظروف الأمة وتشاركها محنها وإمكاناتها البشرية نفسها، فإذا اهتزّ هذا المثال المعلِّم للأمة فإن الإيمان المتولِّد عنه يهتزّ، وكثر ما لعبت بالأمة الخيبة لممارسات غير مسؤولة من قبل قياداتها؛ الفكرية أو السياسية طبعًا، لتفقد الإيمان وتتوه في الفوضى والشك، وينبت المتعالمون والانتهازيون، يتطاولون في تنافس يعمّق البلبلة المتعاظمة. - تغيب وراء الحركة الهدّارة للصيرورة الزمنية وأعراضها المباشرة أخماجٌ فطرية تمثّل العلة الدقيقة المفنية للحضارة، المعطِّلة للأمة عن الفاعلية، لعل أخطرها تغيّر الخصائص النفسية والاجتماعية للجيل حامل الفكرة الحضارية وحاميها وممثّلها، وهذا ما سنتكلم عليه في الفقرة اللاحقة بالتفصيل إن شاء الله، ولكن الذي يعنينا هنا، أن الفكرة الحضارية القوية التي تمتلك جذورًا عميقة في الحياة والأمة، وسندًا فعالاً من القيم والمصالح، تأبى أن يمثلها جيل أو عصبية قائدة ضعيفة فسدت بنيتها الداخلية وتشوّهت خصائصها النفسية، وعجزت عن حمل تبعات تلك الفكرة وتخلّت عن مسؤوليتها تجاهها، وتستبدِل - أي الفكرة - بها عصبية قوية من الأمة نفسها تحمل خصائص رجل

الفطرة - بمصطلح ابن خلدون - لتشكّل فقرة جديدة من فقرات التاريخ المفصلي لتلك الحضارة (¬1). أما إذا ضعفت الفكرة وانسحبت من الحياة، وتكرّست خصائص الانحطاط النفسية، فإن الخطر المحتمل هو أن يُستبدَل بالأمة عصبيةٌ من خارجها، إلا أن يتمّ تجديد الفكرة الحضارية وإعادة نبض الحياة إليها وتخصيبها على مستوى الحياة والواقع والإنسان (¬2). - بما أن التعرض لمؤثرات الانهيار عامّ، وأنها تخلّف الترهّلات النفسية ذاتها، فإن الاستعلاء عليها عمل استثنائي، ولما كان في إمكان طبقة القادة أن تحرّك الأمة في الإقلاع الحضاري، فإنّ في إمكانها في أية مرحلة من مراحل الحضارة تخطّي تيار الانهيار المتحدّر، وتنشيط انطلاقة دورة حضارية داخلية داعمة تمدّ في عمر الحضارة، وتجدّد شبابها المتصرِّم. ولا فرق في أن تكون تلك القيادة سياسية أو فكرية ¬

(¬1) "إن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها ما دامت لهم العصبية"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 182. (¬2) عرفت الحضارة الإسلامية عصبيات قبلية وعرقية متعددة؛ أموية، وعباسية، وكردية، ومملوكية، وعثمانية .. استطاعت أن تحمل الفكرة الحضارية، وتشكّل الصيغة السياسية لها في حقب متعاقبة، فأسهم ذلك في تجديد عمر الحضارة مع كل دورة، وكانت الدافعة العصبية والعرقية حاملاً قويًا من حوامل تلك الحضارة أسهم إسهامًا جذريًا في إحياء فكرتها وتجديدها ومدّ عمرها ليكون لها هذا العمق في التاريخ .. أما الحضارة الغربية فقد تداولت فكرتها الحضارية عدةُ عصبيات قومية؛ إيطالية، وإسبانية، وفرنسية، وإنكليزية، وألمانية، وروسية شيوعية، وأمريكية، خصّبت الفكرة وأنقذتها من أخطائها وأوضار ضعفها.

أو جامعة بينهما، إلا أنها في كل الأحوال يجب أن تنطلق من الفكرة الحضارية نفسها، تجدّدها وتبعث الحياة فيما تخشب منها، أو تتفوّق في ابتكار وسيلة ذهبية تكون ركيزة أو لبنة مؤثرة، تستجيب لمعطيات المرحلة التاريخية، أو تستبطن طاقات غير مفعّلة فيها، تعيد لها زخمها التاريخي (¬1). إن تخطّي تيار الصيرورة الهدّار أو معاكسته عمل استثنائي، وهو لا يتأتّى بغير توافر طاقة محرِّكة استثنائية أيضًا، تعلو على شروط الواقع الموضوعي لتؤمن بما هو كائن في القوة أو بما يمكن أن يكون، ولن يطّلع بهذه المهمة إلا قادة استثنائيون، بشرط أن يخلقوا داخل القاعدة الشعبية جيلاً يحمل الإيمان بالفكرة ويعمل بدفع منها، ليتحول الإيمان إلى تاريخ وإلا ظلّ في إطار الأحلام، لأن التغيير لا يمكن أن تنهض به القمة دون أن تدعمه القاعدة وتكون امتدادًا لها. - لن تنهار الأمة إلا إذا فشا الفساد في خاصّتها، حتى ألفته عامّتها، ورضيت به، واستكانت له. إن الخاصة أكثر عرضة للفساد، وهو فيها أظهر وأبرز، ولكن الأمة المعافاة قادرة على إخراج خاصة صالحة من بين ظهرانيّ عامّتها تستعيد بها مصادر القوة والسيطرة من الخاصة الفاسدة، وتقوّم بها من انحرافها. وأبرز صفات الأمة المعافاة تمييز الحق من الباطل ونصرته (¬2)؛ لأنها تمتلك معيارًا واضحًا، ويقينًا ¬

(¬1) تؤمن الحضارة الإسلامية بفكرة المجدد الذي ينبعث على رأس كل قرن ليجدد للأمة دينها، ولا فرق في أن يكون المجدد فردًا أو جيلاً أو قومية أو مجموعة أفراد، وذلك يختلف تمامًا عن الاعتقاد بفكرة المخلِّص أو المنقذ، لأن فكرة المجدِّد هي تقرير لقانونٍ ومبادرةٌ، أما المخلِّص فهو حُلُم واستسلام وسلبية. (¬2) في الحضارة الإسلامية واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُعلَّق برقبة كل فرد في الأمة، تنهض به العامّة تمامًا كما تنهض به الخاصة، فقد قال ربنا جل وعلا: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، (التوبة/71)، أما المنافقون والمنافقات فـ"بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف"، (التوبة/67). وقد مارس هذا الواجب أوائل المسلمين، ولم يكلوه إلى فئة منهم، فقد كان مما خطب به أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يوم السقيفة قوله: " .. فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني .. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطّ إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"، السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص57. وقد رخّص الله تعالى في حال القوة والتماسك وغلبة الإيمان أن تنهض بعبء الإصلاح طائفةٌ من الأمة (آل عمران/103 - 104)، فإذا ما انتكست الأمة إلى الخلاف، وعمّها المنكر، لزمت أمانةُ الإصلاح عامةَ الأمة وخاصَّتها، وقد روى الترمذي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". الترمذي: السنن، ص490. وكان رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - قد صرّح بأن استنكار المنكر في القلب وحده دليل على ضعف الإيمان ..

راسخًا، وإرادة قوية، وهمة عالية. أما إذا خربت الأمة من الداخل، ونخر سوس الفساد والانحلال في عامتها؛ أي في كثرتها، فإنها لن تكون قادرة حينئذ إلا على إنتاج خاصة فاسدة تجسّد الفساد المستشري، وتمنح الأمة ذرائع مادية ظاهرة لتبرّر بها انحطاطها، وتسوّغ عجزها وتواكلها وقعودها عن الإصلاح والتغيير، و"كما تكونوا يولّ عليكم" (¬1)، فالخاصة مرآة العامة، وصورة جلية لما تستّر من أمراضها النفسية، أو فشا من عيوبها الخلقية، ولن تعجز الأمة عن ¬

(¬1) حديث موقوف على الحسن، المناوي: فيض القدير، 5/ 47، رقم الحديث6406.

إصلاح خاصتها إلا لإبائها هي الحق في ذاتها وانصرافها عنه وجزعها منه ومحاربتها له .. في مثل هذه المرحلة، وعندما يعمّ الفساد عامّة الأمة وخاصّتها، لن يكون أي مشروع للإصلاح مجديًا ولا ناجعًا ما لم يكن جذريًا شاملاً ينصبّ على الإنسان قبل المظاهر والأشياء، لأن مستقرّ الداء فيه مهما بدا أن المحن والنكبات تستهدفه وتعارضه، والحق أن هذه النكبات نفسها وسيلة من وسائل الخلاص والبرء من ذاك الداء، فهي فرصة مجّانية يمنحها الزمن للأمة المنكوبة لتطهّر نفسها بعذابات الصهر من أدران الفساد، أي إن الزمن - وعلى عكس ما يعتقد كثير من المصلحين - يقف إلى جانبهم معينًا في مهمتهم الشاقّة لانتشال الإنسان المتلوّث، واستعادة جوهره النقيّ؛ فآخر دواء الكيّ. ويمكن من خلال ما تقدّم الإجابة عن المسألة القديمة الجديدة: هل الإصلاح يبدأ من القمة أم من القاعدة؟ الحال أن الأمة، إذا استشرى فيها الفساد، فلا تجدي فيها الإصلاحات السياسية أو الإدارية ما لم تشترك الأمة كلها فيها (¬1)، لأن الأمة باستكانتها للواقع، وتهيبها من المغامرة، وانصرافها عن البذل والتضحية، تقاوم وتعادي أي مشروع للتصحيح بعد أن اعتادت عيش حياتها بمفاهيم ¬

(¬1) لعل تجربة محمد علي الإصلاحية في مصر خير مثال على هذا، فقد كان الرجل يحاول أن يبني مجده الشخصي ويحقق مكاسبه الخاصة، غافلاً عن حاجات الأمة ومتطلبات المرحلة، بل معاديًا لها في بعض الأحيان، ولذلك فإن جهوده الإصلاحية، التي تركزت في الشؤون الاقتصادية والعسكرية، لم تحدث انقلابًا حضاريًا، بل سرعان ما اضمحلت بزواله.

3 - انحراف التكوين السوي للشخصية الفعالة

مغلوطة وممارسات خاطئة. وتتحدد مسؤولية قادة التصحيح في الاشتغال على البنية الفوقية للأمة، وتعديل تصوراتها وتصويب معتقداتها والمغلوط من مفاهيمها، والنهوض بوعيها، وزرع الإيمان والثقة فيها، وتضخيم مواطن القوة فيها، وإبراز الإمكانات الإيجابية وتأكيدها بوصفها خيارًا ممكنًا، وتجسيدها في نماذج قابلة للتمثّل والمحاكاة، بدءًا من القادة أنفسهم، لتكون الأمة بذلك جديرة بالانخراط في حركة التغيير، قادرة على دفعها. 3 - انحراف التكوين السويّ للشخصيّة الفعّالة: يتكلم توينبي على نوعين من التفكّك الحضاري؛ التفكك الرأسي، والتفكك الأفقي (¬1). ويقصد بالتفكك الرأسي التفكّك السياسي المعروف، أما التفكّك الأفقي فهو الانحلال الداخلي للأمة الذي يشكل الخطر الحقيقي الذي تواجهه الحضارة ويجعلها في حالة عجز، لأنه لا يتوقف عند حدّ التفكك الطائفي والملّي والطبقي، بل هو يتجاوزه إلى تحلّل عميق يصيب الشخصية الإنسانية بالوهن، والروح بالشيخوخة، ويحرّف خصائص الأمة؛ النفسية والخلقية، فتغدو عاجزة بعد أن كانت فاعلة تدير عجلة التاريخ!! وإن فرويد وهو بسبيله إلى اقتراح علم نفس حضاري يؤكد أن الحضارات تصاب بأمراض عصابية جماعية شأنها في ذلك شأن الأفراد تمامًا (¬2). ¬

(¬1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 2/ 151. (¬2) فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص106 وما بعد. ويبدو أن كتاب العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط لمحمد حسنين هيكل يستضيء بهذه الرؤية.

لا تنهض أمة بثقل المهمة الحضارية ما لم تمتلك في ذاتها خصائص نفسية تؤهلها للنهوض بتبعات الالتزام الحضاري، وبقدر ما هي - أي الخصائص - شرط فإنها نتيجة أيضًا، وقد تطرقنا إلى شيء من تلك الخصائص في تضاعيف كلامنا على شروط الحضارة، فالإيمان اليقيني بفكرة واضحة، والتحديات القاسية، يصقلان معًا الشخصية، ويمدّانها بالدافعية والصلابة اللازمتين للحركة والتغيير، وهما تتقلصان بفعل عوامل هدم الحضارة ذاتها التي تعمل على تحطيم الصلابة النفسية للأمة، وتشويه خصائصها الإيجابية، وفي المنقلب تؤدي تلك الخصائص المعدَّلة إلى عرقلة عجلة التقدم الصاعدة، وتعطيل الفعالية المعتادة، وردّ الأمة إلى طور السكون من جديد. في تعلقه بالبداوة، كان ابن خلدون يبحث عن مقومات رجل الفطرة، ويطلب تلك الخصائص الضرورية لتشكيل شخصية رجل الحضارة وتأهيله، وقد وجدها متعيِّنة في فئة اجتماعية خاصة هي "البدو"، بما لديهم من كمال صفات الفطرة، ودواعي الخير المهيِّئة لكمال الفاعلية، واستحقاق الغلب، والقيادة الحضارية (¬1). وإذًا، فإيثاره للبدو ليس إيثارًا لفئة اجتماعية بعينها، على الرغم من أنه صرح بذلك في أكثر من موضع (¬2)، كما أنه لا يعني أن من فاتته البداوة ¬

(¬1) "فهم أقرب إلى الفطرة الأولى ... وأقرب إلى الخير من أهل الحضر .. "، ينظر: ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 154. (¬2) ويبدو أنه بسبب من تلك الخصائص جنح ابن خلدون إلى الاعتقاد بالأفضلية المطلقة للبدو على الحضر، وحاول أن يبرهنه بتأويل بعض النصوص، بل بالجور في التأويل أحيانًا، مع أنه معلوم أن العرب تذم التبدّي أو التعرُّب (وهو الدخول في الأعراب)، ومما يرويه ابن خلدون نفسه عن المهاجرين أنهم كانوا "يستعيذون بالله من التعرُّب وهو سكنى البادية"، وقد ذمّ القرآن الكريم الأعراب في أكثر من موضع، أي إن التبدي ليس الظرف الشرطي للحضارة، ولكنه الخصال والخصائص النفسية والاجتماعية اللازمة للتحضر، على ما سنبين لاحقًا. ينظر: خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 154 - 155.

1 - انسحاب الفكرة

فاته التحضر، ولكنه تنويه بتلك الخصائص النفسية التي تؤهل الأمّة للريادة والغلب والفعالية، وهو تعبير رمزي عن أهمية التحقق بها في أي مشروع حضاري. فإذا ما تشوهت تلك الخصائص بمكتسبات المدنية ورواسب التطور، فإنها قابلة للاسترداد بإزالة عللها التي تأخذ في الوقت نفسه موقع المعلول في علاقة معقدة جدِلة، وأهم تلك العلل: 1 - انسحاب الفكرة: مهما ابتليت الأمة بأسباب الضعف والركود فإنها تنقلب ماردًا إذا امتلكت فكرة تؤمن بها، وتتحول خصائصها النفسية والذهنية والخلقية من الانهيار والتخاذل واليأس والسلبية واحتقار الذات، إلى الثقة والأمل والاندفاع والغيرية والإيجابية وكل ما يمنحها الطاقة المحركة ويفعّل قواها المعطلَّة. ولكن تعرُّض الفكرة لهزات متعاقبة يخلخل تلك الطبيعة التي اكتسبتها الأمة من معايشة الفكرة والعيش بها، ويسمح للعوامل السلبية الأخرى بأن تترك آثارها بعيدًا في عمق الأمة، وتتحول إلى أخطار معيقة لفاعليتها، ومشوِّهة لخصائصها النفسية، ولتنحرف بملكاتها عن مسارها التاريخي الصاعد. ولعل أخطر آثار انسحاب الفكرة هو تهديدها لمناعة الأمة الذاتية وتركها مكشوفة للعوامل البيئية والتاريخية المتنوعة التي تحمل، إلى جنب مكاسبها، فيروسات لا تنقضّ إلا على البدن الضعيف غير المحصَّن.

سبق أن تكلمنا على أثر الوفرة في تنشيط عملية انسحاب الفكرة وتحويلها المصالح التي تحتويها الفكرة، ضمنًا، من منافِسات فيها إلى منافِسات لها، ويتجلى انسحاب الفكرة في ظاهرتين تؤثّران، بدورهما، في تعزيز هذا الانسحاب وضرب الركائز الأساسية التي تستمد الفكرة منها حياتها وصلابتها، الظاهرة الأولى هي تقلّص الوجود المادي للفكرة، عن طريق تخلّي أعلامها وقادتها عن استلهامها في حياتهم اليومية وسلوكهم العملي والبذل في سبيلها إلا ما كان من قشور وتقاليد ومظاهر، وقد يصل الحدّ أن تتخلّى بعض النخب عن العناية باحترام تلك المظاهر كذلك، وتنتشر العدوى في فئات المجتمع كلها بنسب ودرجات متفاوتة تعادل درجة ضعف سلطان الفكرة في العالم المادي، ومدى تراجع مظاهرها وآثارها فيه، فيعمّ الشك ويروج التردّد والاحتمال، ويخسر اليقين أقوى عوامل وجوده. وفي ظل الانسحاب التدريجي للفكرة من العالم المادي ينشط وجودها النظري والتجريدي، ويشجِّع الترف الفكري ولادةَ فلسفات نظرية راقية تستلهم الفكرة وتجرّد مفاهيمها وقيمها وتقتلها بحثًا وتقنينًا، وتلك هي الظاهرة الثانية لانسحاب الفكرة، إذ إن الوجود النظري يتّسم، غالبًا، بالمثالية والتعالي على هموم الواقع اليومية وحاجات الأمة المتجدّدة. ويزداد الوضع حدّة عن طريق الاستجابات الخاطئة لحاجات الواقع، والتطرّف في ردّ الفعل عليها، فتظهر فلسفات مناقضة للفكرة المؤسِّسة، سواء كانت نابعة منها، أو كانت ردةَ فعل طبيعية عليها، وإمكانًا من الإمكانات المتاحة لملء الفراغ الذي

تخلّفه الفكرة في انسحابها (¬1)، أو استجابة إيجابية لحالة انفتاح الحضاري توفرها عالمية الحضارة في تلك المرحلة، واستلهامًا لثقافات خارجية مغايرة تمامًا لأصولها، وتُدخِل عالمية الحضارة، وصراع الفلسفات المتناقضة، مفهوم التعدّد في القيم الموجِّهة للأمة، وتجعل الفكرة المؤسِّسة خيارًا واحتمالاً قابلاً للتفاوض والرفض لتكرِّس، بالتالي، حالة الشك وتحكم لها بالشيوع (¬2). وتستجيب الحضارة في بعض مستوياتها وفئاتها لهذه التحديات الخطيرة استجابة سلبية تتمثّل في محاولة تثبيت الحاضر عن طريق التقوقع على الذات، واستلهام النماذج الأصيلة غير الملوثة بدخيل خارجي أو داء داخلي، مكتفية بمحاكاة الماضي، متوقّفة عنده، ومعاكسة مجرى الحياة الذي لا ينقطع عن الدوران. صحيح أن هذه الاستجابة هي الصَّدَفة الصلبة التي تحفظ القيم الأصيلة للأمة وتصونها من طوارق الليل والنهار، إلا أنها ¬

(¬1) بل يصل توينبي إلى أن تلك المرحلة تشهد، أحيانًا، أن تسعى طائفة ما إلى استخدام القوة في فرض فلسفة (فكرة)، أو دين ما على الأمة المتهالكة بما يعاكس فكرتها الحضارية أو يعارضها، ويضرب مثلاً لذلك البروليتارية الداخلية الصينية التي "وجدت في المهايانا عقيدة دينية كانت تحولاً - لا شبهة فيه بحال - عن الفلسفة البوذية السالفة. ولدينا في الشيوعية الماركسية مثال بغيض إلى النفس يقوم بين ظهراني فلسفة غربية حديثة تحولت تحولاً لا شبهة فيه خلال عمر واحد، إلى عقيدة دينية بروليتارية، سالكة طريق العنف، مقتطعة بالسيف أورشليمها الجديدة من سهول روسية". توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 2/ 207. (¬2) يقول توينبي: إن قاعدة الانهيارات وعلّتها الأساسية التي تسبق الانحلال هي "تفشّي الخلافات الداخلية التي تفقد خلالها المجتمعات ملكة تقرير المصير"، توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 2/ 150.

2 - الوفرة، والترف، وتراخي التحديات

تعين خط الانهيار المتفاقم بعدم مرونتها أمام المستجدات، وضيق وعيها بالمتغيرات، وانقطاع صلتها بمعطيات الواقع المادية. قلنا إن انسحاب الفكرة يترافق بانسحاب القيم، وتراجع الحياة الأخلاقية والروحية للأمة، وإن الفكرة تظلّ - من بعدُ - ترفد الحياة المادية للحضارة وتمدّ في عمرها من خلال منظومة المصالح التي تضمنها، فإذا تعطلت تلك المصالح استكثر الأفراد الجهد، واستكانوا للتواكل والعطالة .. ويتكرس هذا الخطر، ويتحول إلى إحباط، عندما يتكرر شهود فشل الفكرة، وتتراكم كبوات لا تُقال، وينقطع الأمل في تحقيق المصالح المنشودة، فتسقط الذات من بعد الشك في يأس يقينيّ قاتل يحسم الإمكانات لصالح كل ما هو سلبي (¬1). 2 - الوفرة، والترف، وتراخي التحديات: وقفنا عند الوفرة عندما تكون علّة من علل انهيار الحضارة، وأداةً تخلقُ منافِسِين للفكرة الحضارية. ونعالج ههنا دورها في تشويه خصائص الأمة النفسية؛ تُبطل دافعيتها، وتحوّلها إلى أمة خاملة. يتفق ¬

(¬1) قد تستعيد الفكرة كثيرًا من طاقتها من خلال حركات التجديد التي تعلن عن تمسك الفكرة بالحياة وعدم إفلاسها النهائي، وتؤكد إصرار الأمة الطبيعي على النضال للوجود والبقاء. نذكّر بهذه الحقيقة ههنا لاستبعاد أي ظن بأن النسق الذي نعرضه لانسحاب الفكرة مطلق وحتمي، ولا يُعترَض باختراقات غير متوقعة، وإنما نقدّم هنا صورة للنسق العام النموذجي الذي تمر به أية حضارة، وهي تعرض له في مجمل تاريخها الكلي، وبالتغاضي عن الدورات الداخلية العديدة التي قد تمر بها حضارة من الحضارات.

معظم المشتغلين في فلسفة الحضارة على مقولة ابن خلدون بأن "من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم" (¬1)، لأن هذا الانغماس يشوّه الخصائص النفسية لرجل الحضارة الفعّال القادر على توجيه التاريخ، وقد لاحظ ابن خلدون أن أظهر الفوارق بين أهل الحضر وأهل البادية أن "البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم .. " (¬2). والعجز غير الإرادي عن العناية بحاجات الترف بسبب من الفقد أو القلة القسريين، يلازمه قدرة صافية عالية على تفعيل الإرادة والتحكّم الذاتي، وتلك هي المهارات اللازمة لتوجيه طاقات الإنسان الداخلية والخارجية نحو الهدف، والتي تختلّ أو تذوي مع الانخراط في مجتمع الوفرة. بعد دراسة مستفيضة يؤكد توينبي أن "السهولة عدو الحضارة" (¬3)، بل إن "الحضارة تقوم على الزهد أو التعفف عن إشباع الغرائز، وإن وجودها مشروط باللاإشباع، بالكبت الإرادي أو اللاإرادي للمتطلبات الغريزية القوية"، ¬

(¬1) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 175. (¬2) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 152. يستشهد توينبي على هذا المعنى بالقصة الصغيرة التي كتبها تشاربلس كنجزلي الفيكتوري، وتدعى: "تاريخ أمة افعل ما تشاء العظيمة المشهورة" تلك الأمة التي وفدت من بلد "العمل الشاق" لأن أفرادها رغبوا في العزف على العود طوال اليوم، فكان جزاؤهم مسخهم قردة. والقصة في الحقيقة تعبير رمزي عن الفساد الناجم عن الراحة، والحرية المقيتة. ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 144 - 145. (¬3) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 147 ..

هذا ما يخبرنا به فرويد (¬1)، وهو الحقيقة القوية التي تثبتها أخبار التاريخ. أما مجتمع الوفرة فهو، على العكس، يقدّم كل ما يعين على الإشباع النهم، وإطلاق الغرائز .. ويشوّه معالم الفطرة فتعتاد الذات ارتخاء الإرادة، وتتخامد طاقة الاندفاع، فتختلق الأعذار، وتتواكل على المعيقات والمثبّطات، وتتذرّع بها. إن عهد الوفرة غاية للحضارة ومصير لها في آن (¬2)، وهي الذروة التي تحقّق عندها آمالها، وتَستنفِد غاياتها، لتبدأ في شق طريقها إلى الانحدار! في مرحلة المدنية تعيش الحضارة ازدهارًا غير مسبوق يصل ¬

(¬1) فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص63. (¬2) يعترض حسين مؤنس على اعتبار الترف مفسدة أو سببًا من أسباب التدهور، "لأن الترف في ذاته ليس ضررًا أو مفسدة، بل مطلب إنساني عام .. "، مؤنس، حسين: الحضارة، ص55. ولاعتراض مؤنس وجاهته، فغاية الحضارة - كما قلنا - أن تؤمّن الرفاهية لأبنائها، وكنا قد قلنا أيضًا إن كل فكرة تحمل نقيضها، فالترف حالة تكتنز خصائص سلبية وإيجابية، وتعامل الذات البشرية مع هذه الحالة هو الذي يدير هذه الخصائص، وعلى العموم فإن الوفرة تؤدي إلى الاستكانة والدعة والبلادة، وأغلب من نجح من الحكام، أو من غيرهم، في دور الوفرة هو من تعالى على إمكانات الترف، واختار هدفًا أسمى من لذّته، هو بقاء ملكه أو حماية شعبه، وتحقيق هدفه. ومن واجب الإنسان أن يسيطر على الأدوات، لا أن تسيطر عليه، وهو ما يسمى بسياسة "القبض"؛ أي القدرة على القبض على الأشياء ومعرفة كيفية استعمالها، كما يذكر حسين مؤنس نفسه في كتابه الحضارة، ص157. ويصف ديورانت إيطالية بأنها "كانت أكثر من غيرها فسادًا لأنها كانت أكثر ثراء، وأضعف حكمًا، وأقل خضوعًا لسلطان القانون، وإنها كانت أكثر رقيًا في ذلك التطور الذهني الذي يؤدي في العادة إلى التحلل من القيود الأخلاقية". ديورانت، ول: قصة الحضارة، 21/ 150.

حدّ الوفرة والترف في كل شيء، وتجتهد الطاقات لتحقيق أسمى الطموحات، فتُشبع الآمال، ويشيع الرضا .. ولكن الرضا (¬1) يتحوّل إلى قناعة وسأم، والسأم يغري بالتهالك على اللذات، والإمعان في اقتحام المحظورات، وتتكفل القناعة بتبرير التكاسل، وإيثار الراحة، وقتل الطموح، وتبديد القلق المحفِّز على النشاط والفاعلية .. وما بين الإفراط والتفريط تضيع الحضارة. تجتهد الوفرة للتغلّب على التحديات الطبيعية، وتُغرق الأمة بما يزيد عن حاجاتها الضرورية، وتفتح لها أبوابًا مشرَعة إلى الراحة واللذة، مع قدرة عالية على السيطرة على العالم الواقعي والقوة على إدارته، وباجتماع القوة والوفرة في أمة ما زالت مشبعة بطاقة واندفاع على وشك النفاد، تحاول الأمة أن تستغل الفائض من طاقتها باختلاق تحدّياتها الخاصّة أو المفتعلة وتوليدها، للحفاظ على مستوى من التوتّر يغري بالطموح والإنجاز، وذلك عبر كثير من النشاطات التي تفيض عن الضروري وتؤول إلى الحاجي أو الكمالي، حيث تكون الضروريات في حالة إشباع قصوى. ويشيع هذا النمط من التحديات في كل شيء؛ في العلوم والفنون، والعلاقات الاجتماعية والتقاليد والأعراف والشعائر، والمتعة والأشياء .. ما يحوّلها، رويدًا .. رويدًا، إلى شكلانية تتعلق بالزينة والزخرف على حساب الجوهر والمضمون، ويضعف أساسها الوظيفي، ليتخافت، من ثمّ، أثرها في عالم الواقع ¬

(¬1) إن الاكتفاء والرضا يقتلان الطموح، فقد سأل أحدهم دليله من الإسكيمو قائلاً: "فيم تفكر؟ "، فكان جوابه: "ليس لديّ ما يدعو إلى التفكير لأن لدي مقدارًا كافيًا من اللحم". ديورانت، ول: قصة الحضارة، 1/ 11 ..

وصلتها بالحياة، فتتحجر في أصنام تفقد مع الاستهلاك رونقها .. صحيح أن هذه التحديات المفتعلة تفجّر الإبداع، وتحفّز التنافس، وأن الولع النهم في شتى المجالات يدعم الحركة الاقتصادية، وجريان الثروة .. إلا أن ذلك كله يكرّس آثار الترف السلبية في الخصائص النفسية للأمة، ويغرقها في البلادة والكسل، ويمتصّ طاقتها الفائضة في طواحين وهمية (¬1) كان الأجدر أن توجّه إلى التحديات الذاتية التي تتعاظم في الداخل انعكاسًا وأثرًا لحالة الترف المتعاظمة. ¬

(¬1) يكتشف كولن ولسون في كتابه "سقوط الحضارة" أن العقبات محفزة للإرادة والحيوية، و"كلما زاد كفاح الإنسان زادت حيويته. ولهذا استقرت مشكلة الحياة، بالنسبة لي، في مسألة اختيار العقبات لحث إرادتي .. ثم أدركت أن حضارتنا [أي الغربية] تسير في الاتجاه المعاكس وأن كل ثقافاتنا وعلومنا متجهة نحو تمكيننا من ممارسة أقل حد ممكن من إرادتنا. لقد تم تسهيل كل شيء. فإذا وجدنا بعد أسبوع من العمل الروتيني في الدوائر والذهاب والإياب في الباصات أننا ما نزال في حاجة إلى أن نفعل شيئًا آخر لتصريف طاقات أخرى فينا ففي وسعنا أن نستمتع بالألعاب المختلفة التي تشتمل على العقبات المصطنعة، حيث تمارس الإرادة في التغلب على فريق آخر في لعبة الكركيت، أو كرة القدم مثلاً، أو نصارع ذلك المخلوق الخيالي الغامض الذي يعد حقل مسابقة الكلمات المتقاطعة في الصحف. وقد اخترعنا أيضًا شكلاً من أشكال التفكير يتناسب تمامًا مع هذا التنازل عن الإرادة، وأعني الفلسفة التجريدية التي هي من حيث جوهرها نتاج الحضارة الغربية". ولسون، كولن: سقوط الحضارة، ص10 - 11. ولهذا يكون هذا الطور من الحضارة هو طور العقل، وينفسح فيه المجال لظهور العلوم النظرية المعقدة، وشيوع الأمراض النفسية المترَفة التي تتفاوت في الحضارات المختلفة بين الإحباط واليأس والمرض العصابي المزمن بحسب طبيعة الفكرة الحضارية ومحتواها.

3 - ضمور النزوع الجماعي

3 - ضمور النزوع الجماعي: تهدّ علل الانهيار السابقة وعوارضه المزمِنة النزوعَ الجماعي؛ وهو الركن الأساسي للصحّة الحضارية. والحضارة فعل إنساني جماعي، لا تنهض به إلا أمة متماسكة. وبما أن الفرد مشحون بغريزة أنانية مستبدّة تنحاز إلى المصلحة الفردية لتحمي ذاتها في مواجهة التحديات المختلفة، فإن إرادة الأنا تصطدم بإرادة الآخر؛ فردًا كان أو جماعة، وإن من مسؤولية أية فكرة حضارية تحقيق المصالحة والتوازن بين هاتين الإرادتين، وأن تحفّز النزوع الجماعي في الأفراد لتحشدهم في مشروعها الحضاري. إن الفكرة نفسها هي أقوى عنصر جامع ومعصّب للأمة، وتتناسب قوة النازع الجماعي مع صلابة الإيمان بالفكرة الحضارية، ودرجة تعشّق الذوات الفردية للقيم والمفاهيم التي تحملها وتبشّر بها، وليس أمتن لحمة للأمة من القيم، لأن القيم المشتركة إذا تملّكت الذوات المختلفة كسّرت حواجز العزلة بينها، ووحّدتها في هدف مشترك، لتجد كل منها نفسها فيه ووجودها في تحقيقه، وتتخلّق بخلق البذل والتضحية والغيرية، وتحرّض حس الولاء للجماعة والانتماء للأمة. وتتضاعف قوة النازع الجماعي إذا رَفدَ اتحادَ الأهداف اتحادٌ في المصالح وتبادل للمنافع، وشُدَّ الطرف بقوة الطرف الآخر. وتضمن الفكرة تكريس الوعي الجماعي بسلطة مادية تتجسد في النظام الاجتماعي المحكم الذي يشجّع الممارسات والأعراف التي تعزّز الروح الجماعية ويصونها ويستثمرها في البناء والإعمار، ويحمي القيم والمصالح في وقت واحد. فإذا ما نافست المصلحةُ الفكرةَ، وبدأت الفكرة بالانسحاب، والقيم بالضمور، استبدّت المصلحةُ، وغذّت الدوافعَ الفردية، وحرّرت الأنانية المكبّلة

4 - الفساد والظلم

ونشّطتها، وخدّرت تدريجيًا النازع الجماعي، وحَدَّتْ من سلطته في الحياة إلا ذلك المقدارُ الذي يسانده النظام الاجتماعي نفسه ويحميه، وتلك المؤسساتُ والأعراف التي تجسّد الحاجات الجماعية وتمثّل حضورها المادي وسلطتها، وبسبب من هذا يكون النازع الجماعي أقوى في الطبقات الدنيا الشعبية التي يضطرها العجز وقلّة الخيارات إلى التقوقع على الذات، والتمسّك بالتقاليد، وحماية النظام والأصول التي تجد فيها ذاتها. وطبيعي بسبب من ذلك أيضًا أن تكون الفعّاليات المستندة إلى القوة الجماعية أكثر العناصر تأثرًا بانحسار النازع الجماعي. بقدر ما يكفل النظام الاجتماعي الحامي للرابطة الجماعية تحقّقَ المصالح، تسندُ المصالحُ المتّحِدة بالنازع الفردي الولاءَ الجماعي، والانتماء للأمة. لذلك يُعجِّل تعطّل المصالح، أو تعطيلها، بانهيار الروح الجماعية، ويضعف الولاء للأمة، ويميل بالأفراد إلى السلبية، لا سيما إذا تكررت الخيبات، وأصبحت التجارب الخاسرة منطقًا يحكم الحياة اليومية، وانعدمت الثقة، وغلب اليأس على النفوس. في ذلك الحين تغدو القلّة، والتنافس في الضروريات، مبررًا للفردية ومشجعًا عليها، والتحديات التي تلمّ الشتات في الخطر ستعمّق الشقّة وتشجّع التفتّت الداخلي، إذا لم يتوافر في مقابلها ذلك المعادل الذي يولّد الطاقة اللازمة للصمود في وجه التحديات، وللتغلّب على ظرف القلّة، ويعزّز القيم التي تزرع الإحساس بالواجبات أكثر من الحقوق. 4 - الفساد والظلم: بعد أن كان الفعل الحضاري يعتمد على الروح الجماعية وعلى تشارك فئات الأمة المتنوعة في القيم والمصالح، والواجبات والحقوق، وهذا

ما كان يحرّكهم معًا قوةً واحدة، تبدأ القيم بالانسحاب، وتتضخّم المكاسب، فتتعاظم الأنانية وتروج الأخلاق النفعية، وتجد كل ما يمدّها بالقدرة على تحقيق غاياتها، فيختلّ التوازن لصالح من يملك القوة والسلطة، أيًا كان مصدرهما .. كل هذا يحرّض مظاهر من الانحراف في التكوين الاجتماعي، تتجلى في تفشّي صور فساد وظلم متنوعة تُسرق فيها الجهود، وتُصادر الحقوق، وتُعطّل المصالح، وهي مع ذلك مظاهر فردية واستثنائية، لأن المصلحة - في تلك المرحلة - تظل ممسكة بعصا التوازن الذي يفرض التكامل على جميع الأطراف، ويهودهم إلى ميثاق مشترك يذعنون إليه لتحقيق مصالحهم المتبادلة. ومع تفاقم أعراض المدنية تتكرس دواعي الظلم والفساد، ويتحولا إلى ظاهرة عامة لا تتوقف عند حدود السلطة الحاكمة بل، تعمّ مناحي الحياة كلها، أفرادًا ومؤسسات، وهنا تكمن الخطورة، لأنه إيعاز بأن الأمة تتموّت من الداخل! ليس الظلم إلا الضعف يتستّر بالجبروت ويتسلح به، وحين تدخل الحضارة طور المدنية يتسرّب الكسل والتواكل، ويستشعر صاحب القوة والقدرة ضعفه، فيحاول أن يحجبه بسياج من الانتهازية وسرقة جهود الآخرين، والحدّ من نجاحهم خشية منافستهم، ويتفشّى الظلم ويروج بالقدر الذي تتعطّل فيه الدوافع وتقلّ الفرص. يستجرّ حديث الظلم إلى الذهن ذلك الاعتقاد بأنه خاص بالمستويين السياسي والقضائي، ولكن الواقع أن المؤسسة السياسية والإدراية تعطي مؤشرات على الفساد قبل غيرها من المؤسسات، وظهور الفساد في المؤسسة القضائية هو دليل على استشراء الداء في

5 - الذل والهزيمة النفسية

المجتمع ذاته، وانحراف القيم الموجِّهة له في مستوياته كلها؛ الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بل الإبداعية أيضًا .. ومع أن الفسادين؛ السياسي والقضائي، أظهر في وعي الناس، لأنهما الملاذان اللذان يتوقعون منهما النصرة والأمن، ولأن أثرهما مادي وقاهر أكثر من غيرهما، فإن الفساد النوعي العميق في المستوى الأخلاقي أكثر هدمًا لبنية الحضارة، ولتماسك الأمة الداخلي، بما أنه يعطّل دافعيتها الذاتية، وينحرف بأخلاقياتها، ويضعف النازع الجماعي فيها، ويفقدها الثقة بجدوى الجهد، ويقتل روح الإبداع فيها. وكل أصناف الفساد والظلم تُغرِق الأمة في السلبية، وتضخِّم المثبّطات في عيونها، وتمدّها بمبرّرات تتعلق بها في الاعتذار عن استسلامها للواقع، وعدم مقاومة تيار الهدم الجارف، والعادة أن تردّ الأمة المنهارة أسباب ضعفها، وواقع الظلم الذي يحيق بها، إلى القيادات السياسية والإدارية بوصفها صاحبة القرار، وفي موقع المسؤولية! 5 - الذلّ والهزيمة النفسية: لن يكون أقسى من الفساد والظلم على الأمة من الذلّ، ومع أن الذلّ تجلٍ من تجليات الظلم، فإن خطورته تتأتى من أنه إشارة على تأبّد الظلم إلى حدّ يقتل في الأمة إحساسها بذاتها، وتقديرها لها، وقدرتها على مقاومة مظاهر الفساد، فتعتاد ممارسات الظلم والاستبداد، وتستمرئها، وتعيد تصوّر ذاتها، وصياغة حياتها، من خلالها. ويحاول ابن خلدون، بما أوتي من حسّ تاريخي لا يقنع بظاهر الأمور، أن يتلمّس العلل التي تنحرف بالأمة إلى خلق الذلة والانقياد، فيلاحظ أن بذور المذلّة تزرع وتسقى بمكتسبات المدنية، فالاستقرار يعوّد النفس على التكاسل، ويدرّبها على الانقياد للنظام والخضوع للقانون، وعلى

الرغم من أن هذا كله مطلب عزيز وأصيل للحضارة ولتماسك الأمة، فإن الاعتياد يقطع صلة الفعل بالباعث، ويحوّله إلى تقليد أجوف، ويمتصّ من الأمة عزيمتها وأنفتها، حتى تصير إلى قدرها المحتوم الذي يغدو فيه الإذلال برنامجًا منظمًا لصالح بعض القوى الطفيلية الفاسدة، يقول ابن خلدون: " .. فإن كانت الملَكَة رفيقة وعادلة لا يعانى منها حكم ولا منع وصدّ كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار الإذلال جِبلّة لا يعرفون سواها وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتُذهب المِنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدَة" (¬1). إذًا، القهر كما اللين سواء بسواء في تعويد الأمة الذلَّ والانكسار. لا تسقط الأمة في حال الذل المفني بسبب من تلك الممارسات المباشرة التي تمثّل في تصورنا المواقف المذلة، لكن بسبب ميراث عهد طويل من تجارب الظلم والذل والقسوة .. وحصيلة للانكسارات المتوالية، وخيبة الأمل بالفكرة .. إذ تتأصّل فيها مشاعر الخزي والإحباط واليأس، وتتفكّك في الذات تلك المكوّنات الصلبة التي تستند إليها في مواجهة التحديات؛ الداخلية منها والخارجية، فتصبح غرضًا سهلاً لها، وتعجز عن مقاومتها، وتسقط في مطبّ "الهزيمة النفسية". تعيش الأمة الهزيمة النفسية عندما تمتلك سجلاً واسعًا من علل الانهيار، وتتخذ آثارُها السلبية شكل المسار الطبيعي للحياة ¬

(¬1) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 157 - 176، 185.

والإنسان، وعندما تتحوّل المعاناة إلى ظاهرة شائعة، وتتكرّر الآلام، وتتأبّد، وتصير واقعًا مألوفًا، ويغدو الهمّ الفردي همًا عامًا يغرق غالبية الأمة، وعندما تتماوت النفوس، ويعمرها اليأس، تقتات من يأسها وعليه، لتبرّر به استكانتها وعجزها وقنوطها، بعد أن أنفقت رأس مالها، واستهلكت فكرتها الحضارية من زمن بعيد، وقد كانت تشتعل بها في وجه المحن والتحديات!! لن تهزم التحديات أمة إلا إذا وصلت إلى مرحلة الهزيمة النفسية، وافتقرت إلى معادل داخلي يمدّها بالطاقة، والعادة أن تبرر الأمم الضعيفة هزيمتها بقسوة التحديات، سواء كانت داخلية أو خارجية، محاوِلةً التهرّب من المسؤولية، وإنما قُوْتها وقوَّتها من ذاتها، فـ"لكيلا نكون مستعمَرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار" (¬1)، ولكيلا تعيش أمة الانحطاط، لا بد من أن تتخلص من القابلية للانحطاط! ¬

(¬1) بن نبي، مالك: شروط النهضة، ص9. ونحن نعلم كيف أن هجمة المغول الشرسة لم تستطع أن تفني الحضارة الإسلامية، على الرغم مما أحدثته من دمار في كل المستويات، ولعل أشدها كان على المستوى النفسي، إلا أن الأمة التي امتلكت مقومات وجود واضحة، وكانت تعرف ما تريد، استعادت زمام الأمور وأكملت اندفاعها التاريخي حتى صارت في عهد العثمانيين أقوى دول العالم وأوسعها امتدادًا، بل إن الحضارة استطاعت أن تطوي المستعمر داخلها وتحوّل المغول المتوحشين إلى حاملين للثقافية الإسلامية ودائنين بها، وحكموا باسمها وكان لهم إسهامهم المميز في تاريخها، ونظير لهذا اجتياح الصليبيين للبلاد الإسلامية وعودتهم مطرودين بعد صراع دام أجيالاً عديدة.

خلاصة

خلاصة تولد الحضارة من رحم فكرة يقينية كلية جامعة هي روحها وخزّان طاقتها، وتؤول إلى الانحدار إذا انقطعت صلتها بتلك الفكرة أو ضعفت، وبما أن التاريخ يتحرّك في دورات تتقلّب فيها الحضارات بين طفولة وشباب وكهولة، فإن في الإمكان تأخير الكهولة عن طريق تجديد الفكرة الحضارية وتخصيبها، واستغلال التحدّيات المحفِّزة للتطهّر من أمراض الانحطاط، أما ما يزيد على ذلك فهو عوامل داعمة، وجودها يعين، والافتقاد إليها لا يعيق. ولن تموت الحضارة إلا إذا فقدت الدافع، والدافع فكرة ومصلحة، فإذا ضعفت صلة الإنسان بالفكرة الحضارية الجامعة، أو تعطلت المصالح النافعة، تملّكت الإنسانَ الأنانية ولاذ بالعجز والكسل، وخسر الدافع إلى العمل، وعظمت في عينه المخاطر والتحديات، ونسب إليها لا إلى نفسه الخيبات. ولن تنهض أمة من كبوتها إلا إذا امتلكت فكرة تجتمع عليها تكون معادلاً داخليًا يعزز إرادتها للبقاء، ويشدّ من عزيمتها لمقاومة تحديات الانحطاط القاسية التي تكفّلت بصناعة شخصية النهوض السليمة المبرّأة من عيوب الترف، وكسل الاكتفاء والشبع .. والله من بعد أعلم.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع - أدونيس، علي أحمد سعيد: الثابت والمتحول، بحث في الاتباع والإبداع عند العرب - 3 صدمة الحداثة، ط/1، دار العودة، بيروت - لبنان، 1978. - إشبنجلر، أسوالد: تدهور الحضارة الغربية، تر: أحمد الشيباني، منشورات دار الحياة - بيروت، 1964. - الترمذي: السنن، تعليق الألباني، مكتبة المعارف - الرياض، ط/1، 1417. - توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، تر: فؤاد محمد شبل، ط/1، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، 1960. - الجابري، محمد عابد: فكر ابن خلدون - العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ط/6، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، 1994. - حبيب، رفيق: تفكيك الديموقراطية، ط/1، دار الشروق - القاهرة، 1997. - حسين، محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، المطبعة النموذجية - مصر، 1954. - ابن خلدون عبد الرحمن: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، تح: خليل شحادة، دار الفكر - بيروت، 2001. - ديورانت، ول: قصة الحضارة، تر: مجموعة، دار الجيل - بيروت، 1988. - زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ط/4، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، 1981. - عبده، محمد، ومحمد رشيد رضا: تفسير المنار، دار المنار - القاهرة، ط/2، 1947. - عياض بن موسى اليحصبي: شرح صحيح مسلم (إكمال المعلم بفوائد

مسلم)، تح: يحيى إسماعيل، ط/1، دار الوفاء للطباعة والنشر - المنصورة، 1998. - فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، تر: عبد المنعم الحفني، ط/1، دار الرشيد - القاهرة، 1992. - الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ط/3، دار القلم للنشر والتوزيع - دبي، 2002. - محمد، سراج الدين: موسوعة روائع الشعر العربي، دار الراتب الجامعية - بيروت. - المناوي، عبد الرؤوف: فيض القدير شرح الجامع الصغير، ط/1، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، 1938. - مؤنس، حسين: الحضارة، ط/2، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1998، العدد 237. - المناوي، عبد الرؤوف: فيض القدير شرح الجامع الصغير، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، ط/1، 1938. - بن نبي، مالك: شروط النهضة، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر - دمشق، 1986. - نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، ط/2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية، 1994. - ولسون، كولن: سقوط الحضارة، أنيس زكي حسن، ط/2، دار الآداب - بيروت، 1982.

§1/1