على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار
بتول جندية
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة لله الحمد أولاً وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، معلّمِ الإنسان ما لم يعلم، مَن نثرَ له في ملكوته علامات تهديه، وسننًا ترشده، والله بها غير ملزَم. والصلاة والسلام على هادي الهداة، وحاديهم إلى الخير، ومصلح الإنسانية الأعظم. تظلّ الظاهرة الحضارية أضخم إنجازات الكائن البشري وأخطرها، ولأجل ذلك وقف منها موقفين متباينين: الرهبة والعجز، أو التفهم والتخطيط. وتحاول هذه الدراسة، مستعينة بالتكثيف، أن تبرهن أن الموقف الثاني هو الخيار الصحيح، وأن الظاهرة الحضارية، على خطرها، فعل إنساني، وأن لها نظامًا مطّردًا، وسننًا إلهية قابلة للتحليل والفهم والتسخير. تنتمي هذه الدراسة إلى "فلسفة الحضارة"، وهي تعالج قضايا كلية تتعلق بقوانين الحضارة، وسنن وجودها وحركتها وتطورها
وانطفائها في علاقتها بالمتغيّر البشري، كما تهتم بتحديد مفهوم الحضارة، وتبحث في قضية الدور الحضاري، وشروط تخلق الظاهرة الحضارية وانهيارها. تسعى الدراسات الحضارية اليوم إلى تصدر قائمة اهتمامات المفكرين العرب، فبعد قرن كامل من التجريب وجدت الأمة أن الحصيلة عاجزة عن أن تقدم إجابات جوهرية فيما يتعلق بقضية النهوض الحضاري، وتفسير العلل الحقيقية وراء المأزق الذي تعيشه هذه الأمة، بالإضافة إلى أن سلسلة التجارب الفاشلة، والانكسارات المتلاحقة، وما كرسته من خيبات، أفقدت الثقة في الاجتهادات التي قُدِّمت، والاختبارات التي تم تطبيقها!! وتحاول هذه الدراسة مواجهة الظاهرة الحضارية في ذاتها بالتجرد عن سلطان المأزق الذي يوجه الدراسات العربية غالبًا ويقودها في المسار الخاطئ، لأن الأزمات الحضارية تعرض تجليات خادعة لحقيقتها، وإشكالياتُها تنبع من صميم قانون التخلّق الحضاري، وتقدّم غير شروطه، فما يكون علة يصير نتيجة، وتنعكس المعادلة في المنقلب! يمكن وصف هذه الدراسة بأنها عتبة للدخول إلى عالم الحضارة الرحب، وأسهم دالّة إلى قوانينها الكبرى، وخطوة أولى في مشروع ضخم آمل - بعون المولى - تمامه. وقد تمّ إنجاز هذه الدراسة مع مطلع عام 2009، ولم يُيسَّر لي نشره إلا اليوم، وقد تهيّأ لي خلال هذه المدة أن أنجز حلقة أخرى في هذه السلسلة هي بحث علمي محكّم (¬1) ¬
حاولت فيه الاستعانة بهذه القوانين للكشف عن أسباب انهيار الحضارة الإسلامية، وملابسات انحطاطها منذ هجمة المغول وحتى سقوط الخلافة. وتأتي أهمية نتائج هذين البحثين من استجابتهما لمتطلّبات المرحلة الحضارية التي تعيشها هذه الأمة المتحرّقة إلى ما ينتشلها من وهدة الانحطاط التي علقت فيها، وأضاعت السبيل إلى ذلك، فتواكلت على الأسباب المفقودة، وغفلت عن خزّان طاقتها الولودة، وأقعدتها آلامها والمحن، ناسية أن لا شيء يجعلنا أقوياء مثل الألم. تفيد الدراسة من كثير من النظريات والآراء المتوافرة فيما يتعلق بقضية الحضارة، إلا أنها تقدم تصورها الخاص الذي لا يهتم بتبرير أي من تلك الآراء، وإنما تستعين في تقديم رؤيتها بالتواصل المباشر مع أحداث التاريخ، والغوص في عمق الظواهر الاجتماعية والثقافية، وقراءة التجارب الحضارية المتنوعة، لا سيما الإسلامية والغربية واليابانية .. من دون الوقوع في أسر إحداها، لأن غايتها الكشف عن القوانين المطلقة التي تحكم الحركة التاريخية في التجارب الحضارية المختلفة ومهما تباينت مقولاتها الفكرية، ولأن غرضها أن تكون مرجعية عامة لفكر النهضة؛ عربيًا وإسلاميًا، وحجة ملزِمة لفرقاء الأمة مهما اختلفت مشاربهم واتجاهاتهم، بيد أن ما جاء فيها لا يخرج عن السنن الإلهية المنثورة في كتاب الله تعالى، وقوانينه الكونية التي لا تتخلّف. ولأجل ذلك حرصت الدراسة على
عدم الانفصال عن الواقع الحي والمراقبة الدقيقة له؛ لئلا تتورط في مزالق المثالية أو التصورات النظرية القبلية. وقد استعانت الدراسة من أجل تحقيق هذه الأغراض بالتكثيف لضبط حدود البحث، ولذلك فهي تُعنى باستخلاص القوانين والكليات في المتن، وتترك الأمثلة والتوضيحات للحواشي إلا إذا دعت ضرورة للخروج عن هذا النسق. وبعد .. فلا يسعني إلا أن أحمد الله جل ثناؤه لما أفاض عليّ من تيسيره، وأيّدني به من هدايته، وأنعم عليّ من أسباب خدمة هذه الأمة العظيمة بعلم أو عمل، راجية أن يتجاوز عني أسوأ عملي، وأن يقيل ضالّ علمي، وأن يقبله مني خالصًا لوجهه الكريم. بتول
امتحان المفاهيم
امتحان المفاهيم الزمن، التاريخ، الحركة، التطور، الأمة، الثقافة، الحضارة، المدنية، الدولة، النهضة .. مجموعة من المصطلحات والمفاهيم تُقدَّم من خلالها فلسفة الحضارة، وتشترك في التعبير عن الحركة المتعلقة بكل من المتغيِّرَين الزمنيّ والبشريّ في صورتهما الجماعية لا الفردية. ومع أن هذا الاشتراك يسمح بشيء غير يسير من التداخل والخلط الطبيعيين، فإن تمايزًا ما ينبغي أن يلحظ ويولى من العناية ما يستحق لتفادي ما قد يجر إليه الخلط من نتائج مغلوطة في أي مشروع جاد للكلام على الحضارة تنظيرًا وتخطيطًا وتوجيهًا. الزمن هو الفضاء الذي تتحقق فيه الظاهرة التاريخية، وفي أفق قوانينه تتخلق الحضارة. والتاريخ هو الخط البياني لسيرورة الزمن، وهو خزّان الأحداث الماضية؛ ما كان، وقانون ما سيكون، فالتاريخ؛ قانونًا، يتحقّق في صورة التاريخ؛ أحداثًا؛ أي التاريخ/العبرة. والحركة صفة ملازمة للزمن ومنعكسة على الوجودَين المادي والمعنوي، وتتحقق في مستويين: عامٍّ قاهر ذي اتجاه حتمي، وخاص متفاوت فردي أو جماعي. والتطور تقويم نسبي للحركة. وداخل رحلة الزمن يتحقق الوجود الإنساني الجماعي من خلال مفهوم الأمة، والأمة هي التعيُّن الحيويّ لقيم كلية جماعية، وتجسيد إنساني لموقف خاص واحد من الوجود والحياة، تتبناه مجموعة بشرية، ويُعبَّر عنه بكلمة "ثقافة"، والثقافة علامة فارقة على كل تجمع بشري متماسك (مجتمع، أمة)، وهي في الوقت نفسه صانعة لهذا المجتمع ومانحة له هويته وتماسكه. ويبدو أن لقب الحضارة هو وصف قيمة
يُطلَق على ثقافة ما أو أمة من الأمم لتمايز نوعي في طبيعة قيمها ووجودها المادي والمعنوي، وقوة تأثيرها في محيطها. وعندما يغدو هذا التمايز كميًا فإن الحضارة تدخل في طور المدنية، فالمدنيّة مرحلة من مراحل الحضارة، وليست هي الحضارة، وإذا كان الغالب في الحضارة أن تكون روحية بمعنى قيميّة، أو مبدئية، فإن المدنيّة تكون في الغالب مادية نفعية. والدولة هي أداة من أدوات تحقق الحضارة وهي المظهر السياسي لها، وليست هي الأمة، ولا فيها تختصر الحضارة (¬1). إن مصطلح النهضة هو - لا شك - منبئ عن مرحلة لاحقة للسقوط، أي هي مرحلة من مراحل الحضارة تعقب الضعف والانحلال، وجمرة توقّد لبعثها من جديد، ولكنها غير لازمة، وإنما هي خيار بشري ومظهر لإرادة تحرير جبارة. لقد جر الخلط بين "الزمن" و"الحضارة" إلى الجبرية وتعطيل الإرادة البشرية، وافتراض عدم القدرة على مواجهة حركة الزمن القاهرة. ذلك كما الخلط بين "التاريخ" و"الحضارة"، إذ إن أحداث "التاريخ" ليست صورًا آلية قابلة للاستعارة والنسخ، وإنما هي نماذج وعلامات على قوانين كلية داخلية قابلة للفهم والحوار والتوظيف. ولمّا ذابت الحدود بين "الثقافة" و"الحضارة" ولد الفكر الاستعماري، أو ¬
على العكس انحطت الهمم وانعدم الطموح، ورضي الضعيف بفتات الحضور الحضاري. وأيضًا فإن اختصار "الحضارة" في المرحلة "المدنية" هو استسهال وانخداع بظاهر الأمور وانبهار بالنتائج وغفلة عن الأسباب والمحرِّك والشروط. وعلى الرغم من التطابق الظاهر بين دواعي الانبعاث الحضاري الأولي، وشروط النهوض الانعكاسي، فإن التعقيد والاضطراب الغالبين على مرحلة النهوض يثيران إشكاليات مرحلية حرجة لا تثيرها بساطة الانبعاث الأولي. والوعي بخصوصية المرحلة من أول مبررات النجاح أو الفشل في أي مشروع نهضوي.
اتجاه الزمن وتقويم الحركة
اتجاه الزمن وتقويم الحركة تتفاوت آراء فلاسفة التاريخ في تحديد اتجاه حركته، وتقويمها، فرأي مال إلى الاعتقاد بالتقدم الصاعد (¬1)، وأن الإنسانية تتجه عن طريق التراكم إلى تطور متتابع صاعد، وأن الجديد يفْضُل القديم لزومًا. وقد أسهم هذا الرأي في إثارة إشكاليات الحضارة العالمية أو العولمة، وقضية التراث والمعاصرة، وصراع القديم والجديد، بحسم مبدئي لصالح الجديد والمعاصر، بما أن الإنسان كلما كبر ازداد علمًا وحكمة، وكذلك هي الإنسانية في حركتها التاريخية! لا نختلف في أن التراكم برهان ممكن لقياس التطور، إلا أنه مقياس كمي صامت عن أية دلالة نوعية، إذ إن المتأخر لا يتبنى كل ما جاء به المتقدم، والتراكم بحد ذاته هو فعل طبيعي لا ¬
بشري، على الرغم من أنه يتحقق بمسبِّب بشري، أما الفعل البشري والحضاري الحق فهو "الاختيار"، والاختيار فعل نفي وإثبات مفتوح المصادر يخضع لمؤثرات متنوعة؛ بيئية وذاتية وضرورية، قديمة وحديثة على السواء، وينتقي من مجمل المتراكم عبر الزمن والتاريخ. ومن إيجابيات التراكم أنه يقدم "للاختيار" مساحة أوسع من التجارب والخبرات، ولكن من طبائع النوع البشري المؤسفة أنه لا يتعظ بالتجارب السابقة ولا بخبرات الآخرين إلا بقدر ما يعتقد ويرغب، أما قيمة الخيار الناجم عن فعل الاختيار البشري فهي أمر نسبي خاضع لاعتبارات خاصة ومتغايرة تنفي إمكانية الحسم القبلي سلبًا أو إيجابًا. ومما يشهد بعدم تلازم قيمتي التطور والتراكم ما يقدمه التاريخ من نماذج متكررة لحضارات تسلم نفسها إلى الانطفاء بعد أن تبلغ قمة عطائها وتفوقها، وحضارات تتجاهل مقومات تحضّر سابقة وتهملها (¬1)، ولهذا فلا يصح اعتماد التراكم برهانًا على التطور أو الجزم بحركة الزمن التصاعدية، لأن كل حضارة هي كائن فريد لا يتكرر، على الرغم من أنه يستفيد بهذا القدر أو ذاك من مخزون التجارب السابقة، ولأن الفكرة تلد نقيضها في دورة غير منتهية (¬2). ¬
وفي مقابل نظرية التقدم الصاعد، ولدت نظريات يغلب عليها التشاؤم والعبثية والاستلاب، كالرأي القائل بالتأخر والنكوص والعودة إلى البدائية (¬1)، أو بالعشوائية ونفي النظام (¬2)، أو بالانقطاع التاريخي (¬3). وتبقى نظرية الدورات المتكررة (¬4) هي التفسير الأسلم ¬
والأكثر استيعابًا لحقائق التاريخ، وكان ابن خلدون واحدًا ممن قالوا بها وتابعه فيها بعض من فلاسفة الحضارة الغربيين (¬1) وطوروها من بعده، وهي في الوقت نفسه شرح لقانون التداول (¬2) الذي ورد في القرآن الكريم، والسنة التي أعلن الله تعالى أنها ماضية في الأمم، إذ قال: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران/140)، وكثير من الآيات ¬
القرآنية تثبت المسار الدائري لحركة الوجود؛ الكلية والجزئية في المصدر والمآل والاتجاه، من ذلك قوله تعالى: "وإن عدتّم عدنا" (الإسراء/8)، وقوله: "فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا" (فاطر/43). ترى نظرية الدورات المتكررة أن التاريخ يتحرك حركة دورية يكشف تكرارها عن قوانينَ دائبةٍ وسنن ماضية تخضع لها الحركة، ونظامٍ مضبوط يوجه مسارها، ومحطاتٍ متكررة تقف عندها الحضارات لزامًا، وإذا كان التراكم هو معيار التقدم الصاعد في النظرية السابقة، فإن التشابه هو معيار التكرار وضابط الحركة في هذه النظرية. ولكن .. لمَ نرى أن هذه النظرية تفوق سابقاتها في الإصابة، وأنها جديرة بالتبني؟ الجواب أن قيمة هذه النظرية تتأتّى، في نظرنا، من اشتمالها على قيم ومبادئ ضرورية لامتلاك تصور إيجابي يوقن بالقدرة على السيطرة على التاريخ وتوجيهه، وبناء منظومة فكرية فعالة فيما يتعلق بتفسير الظاهرة الحضارية والانخراط في أي مشروع نهضوي، ويمكن أن نوجز تلك القيم في النقاط الآتية: - استبعاد الحكم المبدئي بالقيمة الذاتية للحركة، فالحركة قد تكون نكوصًا وتقهقرًا إلى الخلف، كما تكون تقدمًا وتطورًا، والحكم عليها نسبي بحسب المرجعيات والمعايير والمتغيرات. - للحركة قانون ونظام يمكن أن يستنبطا من مراقبة التجارب الإنسانية والحضارية السابقة، ولها سنّة ماضية على وتيرة متوقعة تسمح برصد آخرها وتوقع النتائج من خلال استقراء المقدمات والتدقيق في الإرهاصات، وهذا يعني إمكانية التخطيط
للمستقبل (¬1)، وفعالية التأثير في الواقع. فالتاريخ يعيد نفسه من خلال انتظام القوانين، ولا يعيد نفسه في الأحداث التاريخية نفسها (¬2). - على الرغم من أن بعض القائلين بهذه النظرية يعطلون الإرادة الإنسانية في مواجهة الصيرورة الزمنية والحتم التاريخي واطّراد القوانين (¬3)، فإن الذي نؤمن به، وإليه تميل آراء بعض المفكرين، وتثبته حقائق التاريخ، أن الإرادة الإنسانية توجّه التاريخ وتصنع أحداثه ضمن نظام من القوانين، وبالدرجة التي تتفهم فيها الذات الحضارية هذه القوانين وتستجيب لها بالفعل المؤثِّر، لا بالانفعال السلبي، وبذلك تقود القوانين وتوجهها بإرادتها (¬4). - الحركة تحتاج إلى طاقة محرِّكة حتى تبلغ مستوى الفعالية، والطاقة إن لم تحظَ بحافز ينعشها فستُستنفَد وتتخامد، وترتدّ، ¬
بالتالي، إلى مستوى السكون؛ أي إلى مسار الضعف والانحلال، وتتلاشى فيه لتبرز طاقةٌ جديدة ذات دفع مختلف لترسم مسارًا حضاريًا جديدًا (¬1). وضمن هذه الدورة ترتسم حركة التاريخ الكلية. وبما أن الدفع الحضاري دفع إنساني وليس دفعًا طبيعيًا أو ذاتيًا، فإن الإيمان بحتمية تخامد الاندفاع يستلزم حتميةَ المقاومة، والثقةَ بالقدرة على التصدي للتحديات الداخلية والخارجية، وضرورة التصحيح بهدف بناء دورات داخلية داعمة تجدد الشباب أو تؤخر الهرم (¬2). - إن انتظام القوانين وتكرار الحركة لا يعني جبرية التاريخ، ولا تناسخ الظواهر، ولا يجزم بحتمية التوقع، كما أنه لا ينفي الخصوصية؛ لأن التدخّل البشري أساسي، والاختيار فعل حضاري جوهري يمنح الحضارات خصوصيتها الحضارية ومنظومتها القيمية، وعمر الحضارة قابل للتجديد والتخصيب في كل آن بدوائر داخلية داعمة إذا توافرت له العقول والإرادات التي تفهم التاريخ وتحسن ¬
السيطرة عليه. - كل فكرة تحوي داخلها نقيضها كما يقول هيجل، وقوة الحركة تمنح الفكرة إمكانية استيعاب بعض القيم المناقضة لها، واحتوائها، وخلق حالة من التوازن ضرورية لترفد، بالتالي، الحركة نفسها، وعندما تضعف طاقة الاندفاع تتضخم السلبيات التي كُرِّست في الأصل لتدعم الفكرة وتحمي النظام على حساب الفكرة والنظام، وتكون أسافين تدق في نعش الحضارة المنهارة (¬1). ما يعني أن بعض القيم لا تحمل قيمة في ذاتها، وإنما قيمتها من توظيف الإنسان لها وسيطرته عليها (¬2). - للحضارات محطات ومراحل تبدأ بالطفولة وتمر بالشباب ومن ثم ¬
النضج حتى تعود للانزلاق إلى حمأة الكهولة، وكان ابن خلدون قد ضرب المثل لهذه الحركة بالأعمار الطبيعية للأشخاص (¬1)، وتمسك إشبنجلر بهذا الرأي وجعل حياة الحضارة نسخة مطابقة لحياة الكائن الحي، وهو تمثيل دقيق شرط أن تبقى المقارنة مضبوطة بالتأطيرات السابقة (¬2). ولكل محطة من هذه المحطات خصوصيتها وملامحها في سلبياتها وإيجابياتها، إذ يلاحظ أن مرحلة الطفولة تحتضن القيم الكلية والروح التي انطلقت الحضارة بدفع منها، ومع مرحلة الشباب تبدأ الحضارة بتحقيق ذاتها في عالم الواقع بقوة واندفاع بقيادة الروح الحضاري، مع الحفاظ على حالة التوازن معها، وحين تدخل الحضارة مرحلة النضج المدني تكون قد بلغت أوج قوتها في عالم الواقع مع تراجع القيم الكلية، وتراخي سلطة الروح الحضاري، ومع الحركة والزمن تزداد المفارقة حدة فتخسر الإنجازات المادية دفعها الداخلي الذاتي، وتبدأ الحضارة بالجمود والانهيار على جميع الصعد. - الوجود لا يعرف الفراغ، وأي غياب عن الشهود الحضاري يعني السماح لروح حضاري آخر بملء الساحة الشاغرة، والأمم أبدًا في تدافع، والأيام بينها دُوَل، ومن يتخلف عن الركب فسوف يُستبدَل لا محالة. ثلاثة قوانين أساسية تحكم علاقة الذات الحضارية ¬
بالآخر أرشدتنا إليها الآيات القرآنية: أولها "التدافع"، ذُكر في الآية: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (البقرة /251)، وهو قانون يعمل على أساس وجود تباين ما بين طرفين، أو عدة أطراف، لتحريض التنافس بينها واستفزاز طاقاتها الكامنة واستثمارها في تنشيط حركة العمران الإنساني. أما "التداول" المشار إليه في قوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران /140)، فهذا القانون لاحق بالأول مترتب عليه، وهو في حقيقته النتائج المترتبة على عملية التنافس، وتغيُّر في المواقع والأدوار يستفيد من المدّ والجزر بين الإرادات المتعاكسة. و"الاستبدال" المنصوص في الآية: "وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" (محمد /38)، هو حالة من حالات التداول، وقانون إنذار يحمل قيمًا سلبية لكل متنكب في حلبة التدافع. إن الكلام على التدافع يقودنا مباشرة إلى الكلام على قضية الدور الحضاري وعلاقته بمفهوم الحضارة.
الحضارة والدور الحضاري
الحضارة والدور الحضاري لا تخلو أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات؛ بدائية كانت أو متقدمة، من أن تكون لها ثقافة ما تربطها وتكسبها طابعها المتميز، والثقافة هي طريقة في العيش وموقف من الحياة والوجود، ونظام قيمي واجتماعي يحكم مظاهر الحياة ومفرداتها جميعها، وينعكس في أشكال النشاط والسلوك كلها، ويمنح المجتمع هويته ويحافظ على تماسكه. أما الحضارة فوصف زائد على الوجود الثقافي للجماعة، يتضمن معنى التقدم، والتفوق النوعي والكمي، والإنجاز على مستوى الواقع، ودرجة ملحوظة من التأثير في المحيط التاريخي، وفعالية في صنع أحداثه وتوجيهها؛ فعالية قد تصل حد تشكيل منعطف ومفصل مشع فيه؛ زمانيًا ومكانيًا (¬1). ويمتاز اللفظ العربي ¬
"حضارة" المشتق من "الحضور" في الدلالة على معنى "الفعالية"، فالعلامة الفارقة في الفعل الحضاري هي "حضور" المشهد التاريخي، وشهوده وعدم الغياب عنه ولعب دور فيه (¬1)، "وكثير من المجتمعات الإنسانية تقتصر على مجرد الوجود دون الحضور، ومن ثم لا يمكن إطلاق مفهوم الحضارة عليها مهما كان نتاجها الذهني والمادي، طالما وقفت فقط عند مجرد الوجود" (¬2). وإذا كانت كل حضارة تمتلك، شرطًا، خصوصيةً ثقافية هي بمثابة الروح لها، فإن الحضارة ليست لازمة لوجود الأمة الثقافي (¬3). ¬
وتتجلى عبقرية الأمة في طبيعة حضورها، لأن الحضور يتفاوت في الدرجة والنوع، وهذا يقتضي امتلاك مقياس أو معايير لتقويم التجارب الحضارية للجماعات الإنسانية. ويغلب على المناهج التاريخية أن تقيس التقدم الحضاري بـ"الكم"، والكم يستعين بوسائل موضوعية مختلفة؛ كرصد الإنجازات الحضارية مع مراعاة قيمتي الكثرة والتراكم، بالإضافة إلى قياس نسبة الانتشار والتوسع. ويرفض توينبي المعيار الكمي لتقويم التجارب الحضارية إذا تم غضّ الطرف عن المعيار الكيفي (¬1)، بل يشدد حسين مؤنس في لفت الأنظار إلى ضرورة توافر معيار أخلاقي في التقويم الحضاري (¬2)!! ومع ما في هذا الرأي من وجاهة، وأنه ينسجم مع منظومتنا الفكرية، فإن المعيار الكيفي يحتوي ضمنًا مخاطر تسلب نتائجه صفة الوثوقية والحياد وبالتالي الإلزام، لأن القول فيه بالرأي، والرأي يستند إلى مرجعيات مختلفة وثقافات ونظريات متغايرة، ولا مجال فيه للاتفاق أو المحاجّة ¬
أو الترجيح، ونحن إذ نعتبر التقويم الكيفي شرطًا، فإننا ننوه بضرورة وعي هذه المخاطر، والتفاعل معها بما يغنيها ويستثمر التنوع فيها. إن البحث في قضية الدور الحضاري، وتقويم الحضارات، والأفضلية يضعنا في مواجهة فكرة "الحضارة العالمية" أو ما اصطُلح على تسميته مؤخرًا بـ"العولمة". فالتفوق يحرّض شهوة الغلب ويغري بالتوسع، والتوسع يعني تخطي الآخر الأضعف وامتصاص ممانعته، ويملأ الوجودُ المتوسعُ أيَّ فراغ يسمح به الضعيف، ويسعى من خلاله لإحكام السيطرة. والتاريخ ينبئنا بأن بعض الحضارات حققت عالميتها في محيطها التاريخي، وأن بعضها الآخر لم يتأتّ له ذلك، بل لعله لم يمتلك الدوافع الداعية لتحقيقه، كالحضارة الصينية مثلاً! وقد مرّ على التاريخ سلسلة من الحضارات العالمية تعاقبت على الدور الحضاري، وكان لكل منها خصوصيتها وطريقتها في التعبير عن عالميتها؛ كالحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. وترتكز طموحات العالمية على ثلاثة مصادر للسيطرة: القوة، والمال، والمعرفة. ما يسمح بثلاثة أشكال للتوسع والعالمية: التوسع العسكري، والتوسع الاقتصادي، والتوسع الثقافي. وهذه الخيارات تتقاطع ويعين بعضها على بعض. وتتحدد استجابة الأمم الضعيفة لهذه التحديات بقوتها الذاتية وتماسكها الداخلي، وقد حدث أن ذابت أمم في مستعمرِها، وفنيت فيه ماديًا أو معنويًا، كما حدث للهنود الحمر في أمريكة، وهو ما عبر عنه توينبي بأنه "الانقراض بطريقة
الاندماج" (¬1)، وقد قدّمت الحضارة الإسلامية نموذجًا للعالمية يعترف بالتنوع والخصوصية في إطار وحدة مرجعية مرنة تراعي تعدد الاستجابات ورحابتها. وفي العصر الحديث تخطت العالمية عوائقَ الحدود الجغرافية، وأطرَ الزمان والمكان؛ بالإبحار الجوي، والإعلام الفضائي، والأسلحة العابرة للقارات، فاتخذ الفكر الاستعماري مظاهر جديدة وغير مسبوقة لتحقيق غاياته، هذا في مجموعه ولّد مفهوم "العولمة" بوصفها مظهرًا فريدًا للاستعمار، عالمي الصبغة؛ بل كونيّها (¬2)، للقضاء على التنوع الثقافي لصالح ثقافة قطب واحد مسيطر هو الغرب الأبيض (¬3)! وتساعد قيم العدالة والحرية والمساواة التي تتضمنها رسالة الرجل الأبيض؛ المستعمِر، في الترويج لبضاعته، ودعم طموحاته غير الشرعية في عولمة الكرة الخضراء، وتحقيق طموح السيطرة المطلقة. وإزاء هذا التوحيد القسري للعالم تتقدم أممٌ الركب الحضاري لتصير في المركز والصدارة ومصدر الفعالية والتأثير، في حين تتراجع بقية الأمم إلى الهامش لتستقبل موجات ¬
التأثير وتصبح تابعًا سلبيًا لدول المركز؛ سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا (¬1)! وتبقى أمم تقاوم استلاب الهوية مستعينة بزادها العريض من التاريخ والمجد، وبإحساسها بخصوصيتها الثقافية، وتعمل التحديات على تحفيز الإحساس بتلك الخصوصية. إذًا .. فنظرية وحدة الحضارة الإنسانية خرافة يراد بها خداع الشعوب الضعيفة وتذويبها لصالح الحضارة المتفوقة، على الرغم من أن تلك الوحدة حقيقة تستند إلى ميراث إنساني واحد يُتداول بين الشعوب تنتقي منه ما يناسب خصوصياتها، كما أنها تستند قبل ذلك إلى التكوين الإنساني الفطري الذي يتغذى من صيغة غريزية واحدة، وحاجات مشتركة، وشروط متماثلة (¬2)، وإن كانت كل أمة تلبي ¬
هذه الحاجات بطريقة مختلفة تنسجم مع موقفها الخاص من الحياة والعالم. وتأسيسًا على الفهم السابق يمكن استنباط تعريف للحضارة .. إن الحضارة هي: درجة عالية من الفعالية التاريخية، وأثر لإرادة الوجود الجماعية لأمة متماسكة، يربطها مفهوم واحد للحياة هو مانحها هويتها الثقافية المتمايزة، وشبكة متضافرة من المصالح المتبادلة، لتحقق ذاتها في إنجازات نوعية وكمية على مختلف الأصعدة.
شروط التخلق الحضاري
شروط التخلّق الحضاري ليس تنشأ حضارة إلا في فضاء اجتماعي صلب ومتماسك، بحيث يحقق هذا المجتمع معنى الأمة، وإن العوامل اللازمة لصياغة أمة صلبة من الداخل هي ذاتها اللازمة لصناعة الحضارة. فما هي عوامل تكوين أمة ذات صلابة وتماسك؟ 1 - الفكرة الحية المعصِّبة: "لا شيء أقوى من فكرة حان وقتها"، كما يقول فيكتور هيجو. إن تاريخ الحضارات هو تاريخ الأفكار، وكل أمة أو حضارة تطفو على سطح التاريخ تقدم فكرة خاصة أو روحًا فريدًا (¬1) يتحقق في نظام وعمران وعلوم وفنون وعادات وأساليب .. قانون عام يحكم في الجماعات كما يحكم في الأفراد، فالإنسان موجَّه بخارطته الذهنية، ويملي عليه وعيُه أفعالَه وردودَ أفعاله. إننا لا نبالغ ولا نتبنى الاتجاه المثالي حين نعزو الطاقة المحركة إلى الفكرة، بل إن العالم يتجه اليوم إلى اعتماد فكر اقتصادي يقوم على الرأسمال البشري، ويرضى بالدافعية الإنسانية ضمانًا ومحركًا للعالم المادي، مع عدم إنكار تدخل العناصر الأخرى؛ المادية والمعنوية. ولذلك فإن العناصر الجوهرية في هذا الفكر هي: الهدف، والقيادة، والموارد البشرية، والمعلومات. ما يعني أن هذا الطرح لا يطعن في ذلك الطرح الآخر الذي ¬
يقول: إن التاريخ يتحرك من خلال سِيَر العظماء أو الصفوة. لأن الفكرة، أو نزوع الجماعة وتطلعاتها، تتمثل عادة في شخصية فذّ أو عبقري من الناس تقدم نفسها من خلاله، وتجسد معانيها فيه، وذاك العبقري يحرص على أن يحرك الناس بفكره ولفكره، بل إن الفرد لَيصبح ذلك العبقري عندما تكون فكرته محرِّكة. وعلى ذلك فإن التاريخ هو تاريخ الرجال أيضًا، ولا مناقضة في ذلك، وعند هذا الفهم تلتقي وتتكامل تلك النظريات المتحيزة للفكرة، والأخرى المتحيزة للعبقرية القائدة (¬1)! ولكنا جعلنا الأولوية للفكرة لأن الرجال متبدلون، وينبغي أن يظلوا في فلك الفكرة، وإذا كانت الفكرة تضعف وتنهار إن خسرت قيادتها الرشيدة (¬2)، فإن الفكرة إذا دارت في فلك الرجال فسوف تؤول إلى صنمية وشخصانية منحرفة، أو إلى إيديولوجية حزبية ضيقة تقتل العصبية الجامعة بدل أن تنعش الروح في الفكرة الحضارية المؤسِّسة (¬3). ¬
إن الفكرة الحضارية (¬1) ليست فكرة استثنائية فريدة، أو قيمًا ومبادئ مجردة، وإنما هي: فكرة حية وعقيدة مفسِّرة للحياة، تتجسد في صفوة قوية أمينة، وتمتد في عمق الأمة، وتتحقق في نظام اجتماعي متكامل يفرضها مصدرًا للقيم، وقوة لإدارة الواقع، وطاقة معصِّبة تجمعها في وجه التحديات، وتحركها نحو هدف واحد ومصالح مشتركة، وتدخلها بذلك طور الفعالية التاريخية. ولن تستطيع الفكرة أن تتحول إلى قوة محركة ما لم تحقق جملة من الشروط: - أن تكون فكرة وجودية تحمل تفسيرًا كليًا للحياة والعالم، ونسقًا متكاملاً من الغايات والوسائل والمواقف تستغرق تفاصيل الحياة كلها. - الشمول والاستغراق، فعلى قدر شمول الفكرة واستغراقها للعناصر الضرورية في الحياة الإنسانية تمد سلطانها، وتَستنزِف الفكرةُ طاقتها سريعًا بقدر تخلّيها عن فئات من تلك العناصر أو إغفالها لها، لأنها بذلك تخلّ بالتوازن الشرطي، أو الولاء الرضائي، أو المصلحي، الذي ينبغي للفكرة أن تضمنه بين أطراف الثنائيات المتعاكسة (¬2). ¬
- أن تصير الفكرة عقيدة (¬1) تبلغ في النفوس درجة من الإيقان بحيث لا ¬
يعرض لها شك أو نسبية أو تردد، ويحمل الإيمان بها على البذل والتضحية والتنافس فيها، لتصير هدفًا مركزيًا وحاجة ضرورية في حياة الناس وأفعالهم وتطلعاتهم، إليها يُحتكم، وبها تُقاس الأمور، ولها الأولوية في سلم القيم والسلطات والمرجعيات. - أن تتحد الفكرة بالمصلحة، وتضمن تأمين الضرورات الإنسانية، وصيانة المصالح الحقيقية، ما يعزز الولاء للفكرة، ويشد الرابطة بين تحققها والإنجاز في عالم الواقع. ومن هنا فإن أقوى الأفكار الخلاقة حضاريًا تبزغ "عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين"، على حد قول كيسرلنج (¬1)، كما يرى فرويد أن العدالة أولى مستلزمات الثقافة (¬2). وتتفاوت فئات المصالح بين حضارة وأخرى، ولكن لا تقوم حضارة من دون قائمة العدالة، لأن فقدانها يعني ¬
الفصل بين الفكرة والمصلحة، وتحطيم الرابطة العصبية، وتحويل الفكرة إلى شعارات مجردة ليس لها من الواقع رصيد، فالله - كما يُروى - ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة!! إن الظلم مؤذن بتعطيل الفكرة وإفلاسها الحضاري. - أن تكون فكرة حية تتمثل في صفوة مختارة أو قيادة مخلصة رشيدة (¬1)، تجسّد الفكرة في ذاتها، وتحمل أعباءها، وتقدم التضحيات في سبيلها، وتجمع الأمة عليها. ولا تستغني الفكرة عن قيادة أو قدوة تمثلها، لأنها بالقدوة تمتلك وجودها الماديّ المعايَن (¬2)، والمعاينة ظرف إيجابي لنشر حالة الإيقان اللازمة لتحويل الفكرة إلى عقيدة، وتحفيز فعل المحاكاة وتنشيط العدوى لتحقيق الاستقطاب لدى فئات متنوعة وأطياف مختلفة من الأمة. - أن تكون فكرة حية في أمّة أو جماعة، فعلى الرغم من خطورة دور النخبة والقادة في الأمة، فإن الحضارة لا تقوم على أفراد، والتغيير يبدأ من القمة ويتحقق على يد القاعدة، والجماهير طاقة مختَزَنة تحتاج إلى شرارة تطلقها، وبوصلة توجّهها وتوظّفها، وهو الدور الذي ¬
تنهض به القيادات، ولا غنى لحركة عن الرافد الشعبي الذي يثريها بالتنوع الوظيفي ويمدها بالتوازن الداخلي؛ في الطاقات والخبرات والإمكانات، لتحقق الأثر المنشود، وتصنع فرقًا متعدد المستويات في عالم الواقع (¬1)، وتتوسل الفكرة لبلوغ الانتشار الشعبي بآليات؛ أهمها: القدوة والمحاكاة (¬2)، والدعوة أو الترويج الإعلامي، وضمان المصالح الضرورية. - أن تكون فكرة حية متحققة، أو قابلة للتحقق، في دولة (¬3) ونظام اجتماعي متكامل (¬4) وأن تكون لها صورتها التشريعية والتنفيذية، ¬
عبر شبكة محكمة من المفاهيم والغايات والأدوات، والحقوق والواجبات، والدساتير والمؤسسات، والأنظمة والتقاليد .. وكل ما يمكن أن يجسد الفكرة في مناحي الحياة المختلفة، ويجعلها تتغلغل كالنسغ في أوعيتها، ويمنحها سلطة التأثير في الواقع وحماية كلياتها. - أن تكون الفكرة جامعة أو "معصِّبة (¬1) "، تعزّز الولاء الجماعي ¬
للفكرة، وتشدّ من وحدة الأمة وتمتّن أواصرها، بل إن توينبي قد جعل هذا الشرط المعيار الفصل للارتقاء الحضاري، إذ قال: "ولا تتخذ الاستجابات الظافرة شكل التغلّب على عقبات خارجية أو قهر خصم خارجي؛ لكنها تُظهر نفسها في الترابط الذاتي أو تقرير المصير" (¬1). وتكون الفكرة معصّبة عندما تحقق مجمل الشروط السابقة، فكونها عقيدة مركزية واحدة، وحظوتها بنخبة رشيدة، وامتدادها في عمق الجماعة، واتحادها بالمصلحة، وتحققها في نظام اجتماعي متماسك .. كل ذلك جدير بأن يُكسِب الفكرة القوة التعصيبية اللازمة، وهو عام في أصل أية كينونة حضارية. بيد أن الحضارات تفترق وراء ذلك في قيمها بين الجماعية والفردية، وأيًا كانت المنطلقات النظرية للحضارة، فإنها مهدَّدَة بالتآكل والتفكّك إذا لم تحرص على خلق الحس الجماعي، وتعزيز الشعور بالولاء لدى الأمة، وقد استعانت الحضارة الإسلامية لبلوغ هذا المأرب بتأييد أخلاقيات الرعاية والطاعة وزرع واجب الولاء للأمة والفكرة الإسلامية، في حين أن الحضارة الغربية التي أطلقت الحريات وعزّزت الفردية شجعت الأخلاق الجماعية عن طريق النفعية المتبادلة، وما سموه بالأخلاق العملية، واحترام النظام، واكتساب المجد في خدمة الوطن القومي. ما يعني أن الفكرة الحضارية لا تكون إلا مُعصِّبة، وأن الحضارة لا تقوم إلا على الحسّ الجماعي لا على الفردية بأية حال (¬2). وبما أن مكاسب المدنية، والوفرة، ¬
تحرّضان نوازع التنافس، وتعزّزان الأنانية والميول الفردية الغريزية، وتصادمان بها المصلحة الجماعية، فإن النظام المتعيّن في آداب وتقاليد ومؤسسات، يجتهد لترويض تلك الغريزة الجامحة لصالح المجموع، فـ"الحضارة، لو علمنا، لم تقم لها قائمة إلا عندما تخلينا عن رغباتنا في الإشباع الغريزي، وهي ثمرة نبذنا لهذه الغرائز ... وتزيد المؤثرات الحضارية من فرص تحول الميول والاتجاهات الأنانية في الإنسان إلى ميول واتجاهات غيرية واجتماعية"، وهذا ما يسمى بالتكيّف الثقافي (¬1)، أو الكبت الثقافي، على حدّ تعبير فرويد (¬2). ¬
2 - التحديات
2 - التحديات: يعتبر توينبي التحديات عاملاً جوهريًا في نشوء الحضارات، منطلقًا من عبارة: "كلما عظم التحدي اشتدّ الحافز" (¬1)، وكنا قد اعتبرنا الفكرة المعصِّبة العاملَ الحضاري الحاسم الذي لا يُنافَس، فإذا كانت حضارات تنشأ بتأثير ضغط التحديات، فإن الحضارة الإسلامية نشأت من فكرة، وليس من استجابتها المثالية لضغط تحديات معينة! إن التحدّي عامل محايِد تحدّد الاستجابةُ الإنسانية قيمتَه؛ سلبًا أو إيجابًا، وإذا لم يتوافر في مواجهته "المعادلُ" الذي يمنحه معناه، ويجعله فعلاً بين طرفين، كان قهرًا من طرف واحد. وتشكّل الفكرة الحضارية في صورتها الإنسانية الحية المعادلَ الإيجابي، والأرضية الخصبة التي تجعل التحديات محفِّزَة في أثرها الحضاري، في المقابل تعمل التحديات على صياغة الصفات النفسية لرجل الحضارة، وتحفّز غريزةَ الوجود، وتستفزّها للمقاومة، واستنهاض ما لديها من إمكانات وملكات؛ فردية وجماعية، كما أن التحدّيات محرّض قوي للعصبية الجماعية التي تحملها غريزة البقاء على الالتمام في وجه الأخطار. إن التحديات القاسية إما أن تقتل الذات الهشّة الضعيفة، أو تزيد من صلابة الذات المتماسكة، وتتماسك الذات، الفردية أو ¬
الجماعية، في حال امتلكت هدفًا تؤمن به وتدافع عنه (¬1)، سواء كان ¬
فكرة أو مصلحة، فإذا اتحدت الفكرة بالمصلحة كان هذا أدعى إلى الاستقطاب، وفي اندفاع الذات لتحقيق هدفها تغدو التحديات عنصرًا خلاّقًا لاستفزاز طاقة الاندفاع القصوى، وعامل توحيد يستثير رابط العصبية الفطرية تجاه الأخطار وعوامل الاستئصال وتهديد الوجود (¬1)، بل إن التحديات القاسية قد تسلب الذات عدّتها كلها ولا تترك لها في معركتها ما تخسره (¬2)، فتكون بهذا قد منحتها فرصة ¬
ثمينة لتحقيق ما تراهن عليه باعتباره الخيار الوحيد الذي ينبغي التعلق به وإلا الفناء، فيتفرّد الهدف ويتوحّد، ويغدو اندفاع الذات أشدّ ومقاومتها أصلب، لأن المعاناة التي تفرضها التحديات، والضغط الذي يرافقها، يعملان على تعزيز البناء النفسي، وصناعة شخصية رجل الحضارة الذي يتحلى بالجلد والإحساس بالمسؤولية والإيجابية والمبادرة والأمل الواثق المستشرف للمستقبل .. كما تسهم المعاناة المقترنة بمعادل مكافئ في تهذيب الشخصية من الصفات السلبية المعيقة للفعالية والحركة؛ كاليأس واللامبالاة والكسل والتواكل .. ، وبذلك تصير التحديات نفسها عاملاً إيجابيًا من عوامل التخلق الحضاري والحركة. بل يذهب توينبي إلى أن التحديات الخلاّقة التي تصعّد من قوة الاستجابة، تشقّ الطريق أمام الأمة لاكتشاف وسيلة ذهبية أو ظافرة، هي الاستجابة الناجحة، أو الحل النموذجي للتحديات القائمة نتيجة تعاقب الشدّ والجذب من قبل التحديات وسلسلة الاستجابات الناجحة والفاشلة، ما يجعل الانكسارات مرحلة من مراحل الصعود، وحافزًا لاختبار المزيد من العوائق لتفاديها وتجاوزها (¬1). ¬
3 - العوامل الداعمة والمعطيات الصفرية
3 - العوامل الداعمة والمعطيات الصفرية: وتتضافر مع هذين العاملين الأساسيين لنشوء الحضارة عوامل داعمة لا تقل أهمية إن وجدت الاستجابة المناسبة؛ كالعامل الاقتصادي وتدفق الثروة، والموقع الجغرافي، وغنى المصادر الطبيعية، والتفوق العلمي، والتطور الصناعي والتقني، ووفرة السكان، والفراغ الحضاري أو انعدام المنافسة (¬1) .. كلها عوامل مساعدة ترفد المشروع الحضاري، وقد تتوافر أو تغيب كليًا، إلا أنها ليست شرطًا أوليًا، فقد انبعثت الحضارة الإسلامية في ظل معطيات صفرية وشروط سلبية تنذر باستحالة المهمة على الأصعدة كافة، إلا أن ذلك لم يعق المشروع الحضاري، بل كانت الانطلاقة عجيبة في ¬
تسارعها وقوتها (¬1). ¬
تخامد الطاقة الحضارية
تخامد الطاقة الحضارية كانت لنا وقفة متأنية مع شروط النشأة الحضارية، وصلنا فيها إلى أن الفكرة الحضارية المؤسِّسة هي حجر الزاوية في أية حضارة ضمن كثير من القيود، وستلعب هذه القيود دورًا جوهريًا في سبر علل الانهيار الحضاري، كما أن التحديات لن تغيب مطلقًا عن توجيه دفة الانهيار، ولكن ما كان بالأمس إيجابيًا سيغدو اليوم سلبيًا .. لقد عدنا إلى أن قيمة الشيء نسبية وتتدخل شبكة من العلاقات في تحديدها! ولا بد قبل الشروع في الكلام على علل الانهيار الحضاري من تحديد مفهومه، واستعراض سريع لأبرز علاماته .. إذا كنا قد عرّفنا الحضارة بأنها درجة عالية من الفعالية التاريخية، فإن الانهيار في جوهره هو تراجع متدرج لتلك الفعالية، وتخامد للطاقة المحركة يتناسب وغياب الدافع، وقد كانت الفكرة هي الدافع الجوهري للحركة التاريخية وهي خزان طاقتها، بما تتضمنه من قيم ومصالح، فإذا ضعف سلطان الفكرة بدأت القيم بالانفصال عن المصلحة، لتغدو الأخيرة الدافع المباشر، ولا يعيق انسحاب القيم حركة الازدهار المادي، بل على العكس، قد تصل الحضارة ذروتها المادية في مرحلة احتضار القيم، ما دام الدافع المصلحي فعّالاً، فهو ملائم ملاءمة قياسية لذلك النوع من
الإنجازات (¬1). وتؤول الحضارة إلى الانهيار الوشيك وعدم الفعالية الواقعية عندما ينعدم الدافع؛ أي عندما تفلس الفكرة، وتتعطل المصالح أو تتصادم. صحيح أن هذا المآل متحقق في أواخر سني الحضارة، بيد أن سوسة الانهيار تبدأ في النخر في عمقها في مراحل متقدمة جدًا توافق بواكير إنجازاتها، وتتجذر حين تبلغ ذروتها .. ومن هنا فإن علل الانهيار تكون في الأكثر خادعة، ومظاهرها مواربة متوارية، تتمازج بالغايات، وتتحد بالمصالح، ولا يمنع من تحكمها إلا قوة الاندفاع، وسلطان الحركة، ورفضات التجديد والإحياء! يستغل الانهيار نقاط الضعف حيثما كانت ليؤسس لنفسه، وليس من الضروري لآثاره أن تتوازى وتتزامن، لأن الحضارة في انطلاقتها لا تتحقق دفعة واحدة في مستويات الحياة كلها، وهي كذلك في انطفائها، وذلك لاختلاف الدافع المحرك لأنواع الإنجازات والنشاطات المختلفة، ولتفاوت في طبيعة الإمكانات المتوافرة. تهيّئ الفكرة الحضارية لوجود أنماط متنوعة من الدوافع الكلية والفرعية، وهي تشترك فيما بينها، أو تفترق، في تحفيز حزمة معينة من الإنجازات والنشاطات، وهذا يقتضي ألا تصير الحضارة إلى الانهيار دفعة واحدة، بل يبدأ الانهيار في تلك المستويات التي يتخامد ¬
دافعها قبلاً، فإذا ما افتُقِدت الدوافع كلها أمعنت الحضارة في الانهيار على كل الصعد وفي شتى المجالات (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وإنما يخفف من تسارع الانهيار أن الإنجازات التي تحققها الحضارة، والمكاسب التي تحرزها، تغدو إمكانًا من إمكانات الحضارة، ووقودًا إضافيًا للطاقة، ودافعًا موضوعيًا للحركة، وذلك بالاستناد إلى قيمتين: الأولى قوة التأثير الذاتية للإنجازات ومجال هذا التأثير، والثانية تراكم الإنجازات. فإذا ما تعطل الدافع الإنساني، قيمًا كان أو مصلحة، تابعت الحضارة اندفاعها على استحياء حتى تُستنفَد الطاقة الذاتية المختزنة في إنجازاتها، وإلى أن يتخلخل ذاك التراكم الصلب الذي يستند إليه ثباتها. ويحدث أن تتخامد الطاقة في صورها كلها، وتضيع الإمكانات أو تتشتت أو يُضرَب بعضها ببعض، وتتعطل المصالح أو تُحتكر وتُصادر لصالح فئة قاهرة مسيطرة .. ذلك عهد تغلب فيه عوامل الانهيار وتشيع، ويعين بعض العلل على بعض، ما يولّد دوافع ¬
اليقين المتهرئ، والأمل المستنفد
سلبية تقوم على اليأس والخوف والأنانية، وتدعم الانهيار وتؤصله؛ ليغدو هو الواقع الطبيعي، والأفق الممكن، ولتعود الحضارة إلى وضعها الجنيني منتظرة طلقة ولادة بعيدة أو قريبة، ولكنها بالتأكيد مؤلمة ومستهلَّة بالبكاء!! فما هي العلل التي تفصم عُرى العلاقة بين الفكرة والمصلحة، وكيف تفقد الفكرة سلطانها الذي كان كفيلاً بتأجيج الانتفاضة الحضارية، ولماذا يخبو الدافع الحضاري لتتخامد من أجل ذلك الطاقة المحرِّكة؟! ولما كانت الإجابة عن هذه الأسئلة واسعة ومتشعبة العناصر، فقد وجب صياغتها صياغة تبرز العوامل الجوهرية، والعلل الكلية التي تقدر على أن تستوعب العناصر الجزئية داخلها وتلمّ شعثها. وسوف نبدأ من أبرز تلك العوامل وأهمها: - اليقين المتهرِّئ، والأمل المستنفَد: مهما كانت أهمية الفكرة المؤسِّسة بوصفها مولِّدًا حضاريًا، ومهما امتلكت من إمكانات لخلق حضارة قوية متوازنة، فإنها تفلس وتكون عاجزة إذا افتقدت اليقين الذي يجعلها كينونة إنسانية فعّالة وطاقة محركة، لتتحول إلى تراث، أو أفكار مجردة معطَّلة ليس لها أن تحرِّك أو تؤثّر. إنه باليقين تتحدّ الفكرة بالذات وتلتحم بالإنسان لتكتسب كينونتها الإنسانية الحية، وعن اليقين تتولد شرارة الطاقة الدافعة التي تحول الفكرة إلى قوة فعّالة ومؤثرة على مستوى الحياة والواقع، وباليقين يتولد الأملُ إدامُ الحضارة اليومي الذي يغري بالمستقبل ويحرض على اختراق مجهوله، ويمنح القوة للصبر على بلواء الواقع ومقاومته.
تعيش الحضارة في مرحلة التخلق ندرة في الموارد تمنح الفكرة الحضارية فرصة التفرّد لتكون المورد الأم والخيار الوحيد والأمل المطلق، ولن يكون رأسمالها على هذا الأساس وضمن معطيات الندرة إلا الإنسان، إنسان الحضارة أو الفطرة، تعوّل على إمكاناته الذاتية وقواه التي تطلقها من كمونها وتعيد شحنها بطاقتها الخاصة؛ لتجعله نموذجًا حيًا لها، وذراعًا مادية تمارس بها إرادتها في عالم الواقع. إن الفكرة عندما تتملك الذات تعيد تقويم الأشياء من خلالها، وتكون قادرة على تحريكها، وفي الوقت نفسه فإن الذات عندما تتيقن الفكرة، وتتمثلها، تطلقها - أي الفكرة - من عالم المثل وتمنحها وجودًا ماديًا معايَنًا في سلوك وممارسات قابلة للتمثل والاقتداء، وتهيئ لها فرصة الانتشار والتأصّل، أي إن التحقّق في كينونة إنسانية هو غاية ووسيلة معًا، وهو يستعين بالإيقان ويعين عليه. قلنا إنه بقدر تفرّد الفكرة وقدرتها على التحول إلى كيان إنساني حي يستحكم اليقين ويقوى، وحين تتضاعف المكاسب ويغرق المجتمع في الوفرة تظهر المنافِسات ويهتزّ ذاك اليقين ويتهرّأ، ويضعف استقطاب الفكرة وتتشتّت الولاءات، والأمل المنعقد على تحقق الفكرة يتجاوزها - بعد الاطمئنان إلى المنجَز - إلى ما تتضمنه داخلها من مصالح تستقطب الولاء والطموح وإليها ينقلب اليقين. ومع أن الفكرة الحضارية ما زالت مثمرة إلا أنها تتحول من دور تتحقق الفكرة فيه من خلال العالم الواقعي، إلى دور يتحقق العالم الواقعي من خلالها، ومن أن تكون غاية إلى أن تصير وسيلة، وحين كان مطلوبًا من الجماعة أن تنخرط كلاً واحدًا في معركة البناء لتحقق طموحات الجماعة ومصالحها، وأن تتنافس في الفكرة بدافع من
اليقين الواحد والمصالح المشتركة، تؤجّج المكاسب، ومنطق الربح والخسارة، النزوعَ الفردي، ويصير الولاء للمصلحة الفردية، والتنافس فيها، واليقين متعلقًا بها. وينعكس التنافس في المصلحة على السطح المنظور انتعاشًا فريدًا وغير مسبوق في الإنجازات المادية والمعرفية، غير أنه يؤدي - في سياق الإطار العام من انسحاب الفكرة وفقر القيم - إلى تفكيك وحدة الأمة الداخلية؛ سياسيًا واجتماعيًا، وولادة تيارات اجتماعية وأطروحات حضارية نابعة من الفكرة الحضارية الأم ومنافسة لها، تسهم في تعميق الشك في الفكرة، وخنق اليقين المتهالك. إن المنافع، كما في الكائن الحي تمامًا، تترك خلفها فضلات؛ هي سلبياتها، وعندما يبلغ دور الوفرة ذروته يكون ذلك إعلانًا بأن فائضًا هائلاً من السلبيات قد تراكم، وسيكفي هذا التراكم لعرقلة تيار الحضارة، وردم مجراه، ليرتد على نفسه فيضانًا يغمر كل شيء، ومؤذنًا بدخول الأمة في حالة انتحار جماعي إرادي وغير واع. وتناضل الحضارة للبقاء مقاومةً تيار السلبيات المتضخّم، حتى تصير الفكرة عبئًا؛ خسارة أو تضحية، ويتعاظم انفصالها عن الإنسان وعن الحياة حتى تعود تجريدًا عسيرًا على التصور والتمثّل، أو خطأ فادحًا واجب التصحيح، وتتعطّل المصلحة أن تكون دافعًا، وتتحول إلى عامل هدم، ومصدر صدام بين قوى الحضارة نفسها إلى أن تذوي المصلحة بدورها فتفتقد الحضارة دافعها، ولا يبقى داخل خزنة اليقين إلا الخبرات المؤلمة .. حينها يخيم اليأس ويُخنق الأمل،
1 - الوفرة؛ مفرخة أنداد منافسين للفكرة الحضارية
وليس كاليأس قوة لفناء الحضارات، ولن يزرع الأمل مثل اليقين (¬1). ويقفز ههنا التساؤل الوجيه الذي يقول: ولكن .. لم تنفصل الفكرة عن الذات، ومن أي رحم يولد الشك ليخمد فورة الحياة في اليقين الطموح؟!! إن العلل وراء ذلك هي بدورها عوامل هامة في دفع كرة الانهيار المتدحرجة، وتنويهًا منا بذلك، وتوجيهًا إلى أصالة اليقين بوصفه فتيلاً للفكرة المحركة، نبدأ في عدّ عوامل الانهيار الحضاري من بعده، فهي تفصيل لما أجمل فيه: 1 - الوفرة؛ مفرخةُ أنداد منافِسِين للفكرة الحضارية: إن من شروط كل حضارة بل من غايات وجودها العضوية أن تحقق الرفاهية والوفرة لأبنائها، وهذا ما تبدأ الحضارة في الشروع به من بعد انطلاقتها الأولية، وتحوّلها من مرحلة التخلق إلى الاستقرار والتبلور في صورة دولة ونظام وتشريع ومؤسسات .. ومنجزات اجتماعية ومادية ومعرفية .. حتى ذلك الحين تظل الفكرة متّحدة بالمصلحة ومصدرًا للربح والخسارة يغري القاصي والداني بالانتماء والولاء، إذ إنها بوابة الوصول إلى المصادر الأخرى للسلطة والمكاسب: المال، والقوة، والمعرفة (¬2). تلك السلطات التي تتعاضد معًا لدعم الفكرة ¬
الحضارية، وحين تشتدّ تستقل عن الفكرة، ويعين بعضها بعضًا لتحقيق غاياته التي قد تساير الفكرة الحضارية أو تخالفها، ولكنها بجميع الأحوال تحرص على أن تستعين بالفكرة، وتظهر بمظهر الولاء لها. وحين تتضخّم المكاسب تجتذب مصادرُ السلطات النفعية المستفيدين وكأنها هي القوى الحقيقية المحرِّكة، في حين أنها أثر من آثار الفكرة، وتغيب الفكرة بتجريدها وراء مادية المكاسب وقوتها لتتصدر عملية توجيه الحراك التاريخي .. لقد برز للفكرة منافسون من الداخل، وأنداد يسرقون منها الأتباع ويسحبون منها اليقين (¬1)، وعند هذه المرحلة، وهي مرحلة قوة مادية جبارة للحضارة، ¬
2 - بين انحلال القدوة واستكانة الأمة
تطفو على السطح مشكلات التعارض بين المصالح والقيم، والذات والجماعة، ونسبية الولاءات، وتحسم المساومات غالبًا لصالح ما هو مضمون ومادي ملموس وسريع الأثر .. والخاسر الأكيد هو الفكرة. لا تتسبب الوفرة في تعزيز سلطة المصالح أو الدافع النفعي فحسب، بل تتسبب في فترة لاحقة في تغيير الخصائص النفسية والاجتماعية للأمة، وتحوّلها من الفعالية والاندفاع والتنافس في الفكرة إلى التنافس في المصلحة، ومن ثم تهوي بها إلى شره اللذة والعطالة، والتواكل على إنجازات الحقب الماضية والاكتفاء بالحركة الآلية الناجمة عن الدفع الذاتي لها، إلى أن تتخامد طاقتها أخيرًا .. وفي جو مشحون بالضعف وعدم الثقة والفساد الأخلاقي، تميل السلطات الثلاث: القوة، والمال، والمعرفة، إلى التصادم بعد أن عرفت التكامل في مرحلة الذروة، ويسود منطق القوة، ويشيع الظلم، ولا يجدي الجهد، وتأنس الأمة بالإحباط وعدم المبالاة. وبذلك تتعطل صمامات المحرّك الذي كان يمدّ الحضارة بالطاقة على المستويات كلها، وتتآكل شيئًا فشيئًا حتى تذوي .. 2 - بين انحلال القدوة واستكانة الأمة: كغيرها من مكونات الظاهرة الحضارية، تتأثر طبقة القادة (الفكرية أو السياسية) بالظروف المتغيرة وما تحمله معها من مؤثرات تنتحي بالذات (الفردية أو الحضارية) عن أصالتها، بيد أن الخطورة ههنا أن طبقة القادة تستطيع توجيه المتغيرات وتكريسها؛ سلبًا أو
إيجابًا، والتأثير في الأمة بما تمتلكه من سلطة تستند إلى موقعها التاريخي والاجتماعي، وباعتبارها قدوة ومرجعية للأمة كلها، ولذلك فإن استجابة طبقة القادة للمتغيرات ينعكس على الأمة ويُعديها. لم يكن في إمكان القادة أن يحرّكوا الجماعة للفكرة الحضارية ما لم يمتلكوا اليقين بها في ذواتهم أولاً، ويتمثلوها في سلوكهم ثانيًا، ويقدموا في سبيلها التضحيات ثالثًا. وهم بذلك يهيّئون للفكرة أن تقدم نفسها حية مشخَّصة تبلغ أعلى درجات اليقين؛ أي "عين اليقين". ولأن السلوك يُعدي، فقد استطاعت الفكرة بالاعتماد على المحاكاة الفطرية أن تتغلغل في النفوس وتبلغ أسمى طاقات التحريك، وتثير حماسة الجمهور للبذل والتضحية .. بهذه الطاقة عينها يستطيع القادة أن يسقطوا الفكرة ويغتالوا الإيقان المستقرّ في النفوس بما يصدر عنهم من أفعال أو ردود أفعال، ولهذا فقد نصح مكيافلي القادة بالتظاهر بالتدين والفضيلة حتى إن كانوا على غير ذلك في حقيقتهم (¬1). في سبيل متابعة التطورات العميقة التي تطرأ على شرائح الأمة المختلفة؛ أفرادًا وجماعة، سنلجأ إلى عملية تفكيك للعناصر، وتشريح للعلاقات الداخلية بينها، ورصد أدوار كل فئةٍ وعنصرٍ على وجه الإجمال من خلال المحاور الآتية: - في مرحلة النبع تتّحد القيادة الفكرية بالقيادة السياسية، أو تتحد معها، لتقود عامة الأمة، وتكون قدوة لها في الحركة والتغيير ¬
والفعالية (¬1). وإن أي انحراف سلبي يطرأ على طبقة القدوة يهدد بانفصام داخلي فيها، فتستقلّ القيادة السياسية عن القيادة الفكرية وقد تتصادمان، فتخسر إحداهما، أو كلاهما، موقعها الملهِم للأمة ولا تصلح أن تكون قدوة، وتعوّض الأمة النقص الحاصل في القدوة بالبحث عنها في التاريخ أو الأساطير أو الحكايا الشعبية. وفي حال انفصلت القيادة السياسية عن القيادة الفكرية فإن الأولى تحرص على كسب ولاء الثانية أو الحظوة بمباركتها وامتلاك الشرعية عن طريقها، في حين تحاول القيادة الفكرية تقويم القيادية السياسية وحفزها على الالتزام بالأصول الحضارية للأمة، ويقدم الزمن المزيد من الخيارات .. فتذوب، أحيانًا، السلطة الفكرية في السياسية وتخسر مصداقيتها عند الأمة، أو تقود السلطة الفكرية الأمة في انقلابات وثورات إصلاح عنيف أو سلمي، أو تتحدان معًا لنهضة جديدة تمدّ الحضارة بمزيد من الوقود والطاقة. - هناك تغييرات عامة تطرأ على طبقة القادة وتتأثر بها الأمة سواء بسواء، وهي تلك التغييرات التي تتعلق بحركة الصيرورة الزمنية، وتدرج الحضارة الطبيعي من المعنوي إلى المادي، وانتقال الفكرة من ¬
اليقين إلى الشك، والاستكانة للوفرة والتعلق بالمصلحة وإيثار الذات على الجماعة .. هذه التغيرات تطال شرائح الأمة كلها دون استثناء وتمتص فاعليتها تدريجيًا .. ويرصد ابن خلدون فيما يتعلق بقيمتي اليقين والمصلحة أربعة أجيال تمرّ بها الحضارة، فبعد ذلك الجيل الذي سماه ابن خلدون بالبناة (¬1) - وهو الذي على يديه تنطلق الحضارة، وتعرف الفكرة وجودها الحي الفعال بتضحياته - يأتي جيل يرث المكاسب، ولا يدرك التضحيات إلا بالرواية والسماع، وهي المرحلة التي تتحول فيها الفكرة من عين اليقين إلى "حق اليقين"، وابن هذه المرحلة "مباشِر"، لأنه "مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك وأخذ عنه إلا أنه مقصّر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له" (¬2). ومع ذلك يظل الاشتغال للفكرة من الضروريات، والإحساس بالمجد نابعًا منها، وما تزال دافعًا للبذل، لكن مع بروز الجانب الذاتي والعناية بالمكاسب والرغبة بتحقيق التطلعات الفردية التي تتّحد في تلك المرحلة بالحاجات الجماعية، لأن الفكرة تدخل طورًا تصبح فيه مصدرًا حقيقيًا وحاسمًا لمكاسب وإنجازات مضاعفة، بعد أن كانت قيمًا ووعودًا بالمكاسب. يتولد عن هذا بداية تضخّم في المكاسب يهدّد فيما بعد بالطغيان على القيم والفكرة المولِّدة نفسها، ويتجلى التضخم في القوى الثلاثة الأساسية: المال، والقوة، والمعرفة، وفي سلطة ممثليها. إلا أن هذه القوى تتعاضد معًا لتأصيل دور الفكرة في ¬
الحياة والواقع وتحويل طاقتها إلى إنجازات خلاقة، فتتقدم الحضارة على مختلف المستويات. ثم يعقب ذلك جيل يرث المكاسب ويتعلق بها لتغدو غاية في ذاتها، ويغفل عن المولّد الحقيقي لها، وتتضخم لديه الميول الفردية والإحساس بالذات والتنافس في المصلحة، ويتمسّك بالفكرة شعاراتٍ مبهِجة معطَّلة، وتقاليد آلية مفرَغة من المعنى، إنه الجيل "المقلِّد" (¬1) الذي يؤثر المتعة ويعيش الترف ويتعلق بالقشور في كل شيء؛ في السياسة والمادة والمعرفة والدين أيضًا .. والميل إلى الإفراط يعني فيما يعني تحفيز ردة فعل معاكسة إلى التفريط، فتعرف الحضارة في تلك الحقبة خليطًا من التيارات المتناقضة المتصارعة، كالمادية والعقلانية والروحية والأصولية والشعبية .. ويتعمّق تفاوت طبقي بين الفئات الاجتماعية، وتشرذم سياسي يقطع أوصال العصبية الجامعة إلى ولاءات شخصية وعرقية تفتقد الحماسة الشعبية .. ومع ذلك كله، فإن تلك المرحلة تشهد ذروة الرقي المادي والمعرفي للحضارة، لأن الترف والتنافس حافزان على التجويد مشجعان على الإنجاز، ولأن السلطات الثلاث: القوة، والمادة، والمعرفة، ما زالت تعرف كثيرًا من التكامل. ثم يأتي قرن لا يجد في الفكرة قيمة، حتى أن تكون شعارًا! وتتصارع السلطات الثلاث وتتعارض بعد أن كانت متكاملة، بل تنقطع الصلات بينها وتتصادم (¬2)، ويلجأ "الهادم" (¬3) - وهو الفرع الأخير من فروع السلسلة ¬
العصبية - لسد الفجوة الحضارية المتضخمة إلى تشجيع الجهل، وإعاقة حركة الأموال واحتكارها، وإيثار سلطة القوة، والمبالغة في الظلم وكبت الحريات وتعطيل المصالح لإضعاف المنافسين، ما يؤدي إلى انتشار الخوف وشلل الإرادات وتجمّد الفعالية والشعور بالعجز والسلبية، وتبادل انعدام الثقة والحذر والترقّب، وأخيرًا استشراء الخوف واليأس والتطلّع إلى الثورة .. وهنا تبدأ الحضارة بالانهيار والتفكّك على الأصعدة كافة (¬1)، وتغدو مشاريع الإصلاح متعثّرة لا سيما بعد تأبّد عوامل الضعف والانهيار وتأكّدها، فالأمة، عمومها، ¬
تعادي الإصلاح وتأنس للسكون وعدم التغيير وكل ما قد يجرّ عليها تضحيات ومعاناة غير مجدية. - في الوقت الذي تتشارك فيه شرائح الأمة التعرض لرياح الانكسار المتعاقبة، فإن خللاً إضافيًا يشكل معول هدم غائرًا في ذلك اليقين الآخذ في النضوب، هذا المعول هو القادة أنفسهم، ونعلم أن الأمة قد استمدت قوة الإيمان بالفكرة عندما تجسدت في نماذج بشرية ريادية حية تعايش ظروف الأمة وتشاركها محنها وإمكاناتها البشرية نفسها، فإذا اهتزّ هذا المثال المعلِّم للأمة فإن الإيمان المتولِّد عنه يهتزّ، وكثر ما لعبت بالأمة الخيبة لممارسات غير مسؤولة من قبل قياداتها؛ الفكرية أو السياسية طبعًا، لتفقد الإيمان وتتوه في الفوضى والشك، وينبت المتعالمون والانتهازيون، يتطاولون في تنافس يعمّق البلبلة المتعاظمة. - تغيب وراء الحركة الهدّارة للصيرورة الزمنية وأعراضها المباشرة أخماجٌ فطرية تمثّل العلة الدقيقة المفنية للحضارة، المعطِّلة للأمة عن الفاعلية، لعل أخطرها تغيّر الخصائص النفسية والاجتماعية للجيل حامل الفكرة الحضارية وحاميها وممثّلها، وهذا ما سنتكلم عليه في الفقرة اللاحقة بالتفصيل إن شاء الله، ولكن الذي يعنينا هنا، أن الفكرة الحضارية القوية التي تمتلك جذورًا عميقة في الحياة والأمة، وسندًا فعالاً من القيم والمصالح، تأبى أن يمثلها جيل أو عصبية قائدة ضعيفة فسدت بنيتها الداخلية وتشوّهت خصائصها النفسية، وعجزت عن حمل تبعات تلك الفكرة وتخلّت عن مسؤوليتها تجاهها، وتستبدِل - أي الفكرة - بها عصبية قوية من الأمة نفسها تحمل خصائص رجل
الفطرة - بمصطلح ابن خلدون - لتشكّل فقرة جديدة من فقرات التاريخ المفصلي لتلك الحضارة (¬1). أما إذا ضعفت الفكرة وانسحبت من الحياة، وتكرّست خصائص الانحطاط النفسية، فإن الخطر المحتمل هو أن يُستبدَل بالأمة عصبيةٌ من خارجها، إلا أن يتمّ تجديد الفكرة الحضارية وإعادة نبض الحياة إليها وتخصيبها على مستوى الحياة والواقع والإنسان (¬2). - بما أن التعرض لمؤثرات الانهيار عامّ، وأنها تخلّف الترهّلات النفسية ذاتها، فإن الاستعلاء عليها عمل استثنائي، ولما كان في إمكان طبقة القادة أن تحرّك الأمة في الإقلاع الحضاري، فإنّ في إمكانها في أية مرحلة من مراحل الحضارة تخطّي تيار الانهيار المتحدّر، وتنشيط انطلاقة دورة حضارية داخلية داعمة تمدّ في عمر الحضارة، وتجدّد شبابها المتصرِّم. ولا فرق في أن تكون تلك القيادة سياسية أو فكرية ¬
أو جامعة بينهما، إلا أنها في كل الأحوال يجب أن تنطلق من الفكرة الحضارية نفسها، تجدّدها وتبعث الحياة فيما تخشب منها، أو تتفوّق في ابتكار وسيلة ذهبية تكون ركيزة أو لبنة مؤثرة، تستجيب لمعطيات المرحلة التاريخية، أو تستبطن طاقات غير مفعّلة فيها، تعيد لها زخمها التاريخي (¬1). إن تخطّي تيار الصيرورة الهدّار أو معاكسته عمل استثنائي، وهو لا يتأتّى بغير توافر طاقة محرِّكة استثنائية أيضًا، تعلو على شروط الواقع الموضوعي لتؤمن بما هو كائن في القوة أو بما يمكن أن يكون، ولن يطّلع بهذه المهمة إلا قادة استثنائيون، بشرط أن يخلقوا داخل القاعدة الشعبية جيلاً يحمل الإيمان بالفكرة ويعمل بدفع منها، ليتحول الإيمان إلى تاريخ وإلا ظلّ في إطار الأحلام، لأن التغيير لا يمكن أن تنهض به القمة دون أن تدعمه القاعدة وتكون امتدادًا لها. - لن تنهار الأمة إلا إذا فشا الفساد في خاصّتها، حتى ألفته عامّتها، ورضيت به، واستكانت له. إن الخاصة أكثر عرضة للفساد، وهو فيها أظهر وأبرز، ولكن الأمة المعافاة قادرة على إخراج خاصة صالحة من بين ظهرانيّ عامّتها تستعيد بها مصادر القوة والسيطرة من الخاصة الفاسدة، وتقوّم بها من انحرافها. وأبرز صفات الأمة المعافاة تمييز الحق من الباطل ونصرته (¬2)؛ لأنها تمتلك معيارًا واضحًا، ويقينًا ¬
راسخًا، وإرادة قوية، وهمة عالية. أما إذا خربت الأمة من الداخل، ونخر سوس الفساد والانحلال في عامتها؛ أي في كثرتها، فإنها لن تكون قادرة حينئذ إلا على إنتاج خاصة فاسدة تجسّد الفساد المستشري، وتمنح الأمة ذرائع مادية ظاهرة لتبرّر بها انحطاطها، وتسوّغ عجزها وتواكلها وقعودها عن الإصلاح والتغيير، و"كما تكونوا يولّ عليكم" (¬1)، فالخاصة مرآة العامة، وصورة جلية لما تستّر من أمراضها النفسية، أو فشا من عيوبها الخلقية، ولن تعجز الأمة عن ¬
إصلاح خاصتها إلا لإبائها هي الحق في ذاتها وانصرافها عنه وجزعها منه ومحاربتها له .. في مثل هذه المرحلة، وعندما يعمّ الفساد عامّة الأمة وخاصّتها، لن يكون أي مشروع للإصلاح مجديًا ولا ناجعًا ما لم يكن جذريًا شاملاً ينصبّ على الإنسان قبل المظاهر والأشياء، لأن مستقرّ الداء فيه مهما بدا أن المحن والنكبات تستهدفه وتعارضه، والحق أن هذه النكبات نفسها وسيلة من وسائل الخلاص والبرء من ذاك الداء، فهي فرصة مجّانية يمنحها الزمن للأمة المنكوبة لتطهّر نفسها بعذابات الصهر من أدران الفساد، أي إن الزمن - وعلى عكس ما يعتقد كثير من المصلحين - يقف إلى جانبهم معينًا في مهمتهم الشاقّة لانتشال الإنسان المتلوّث، واستعادة جوهره النقيّ؛ فآخر دواء الكيّ. ويمكن من خلال ما تقدّم الإجابة عن المسألة القديمة الجديدة: هل الإصلاح يبدأ من القمة أم من القاعدة؟ الحال أن الأمة، إذا استشرى فيها الفساد، فلا تجدي فيها الإصلاحات السياسية أو الإدارية ما لم تشترك الأمة كلها فيها (¬1)، لأن الأمة باستكانتها للواقع، وتهيبها من المغامرة، وانصرافها عن البذل والتضحية، تقاوم وتعادي أي مشروع للتصحيح بعد أن اعتادت عيش حياتها بمفاهيم ¬
3 - انحراف التكوين السوي للشخصية الفعالة
مغلوطة وممارسات خاطئة. وتتحدد مسؤولية قادة التصحيح في الاشتغال على البنية الفوقية للأمة، وتعديل تصوراتها وتصويب معتقداتها والمغلوط من مفاهيمها، والنهوض بوعيها، وزرع الإيمان والثقة فيها، وتضخيم مواطن القوة فيها، وإبراز الإمكانات الإيجابية وتأكيدها بوصفها خيارًا ممكنًا، وتجسيدها في نماذج قابلة للتمثّل والمحاكاة، بدءًا من القادة أنفسهم، لتكون الأمة بذلك جديرة بالانخراط في حركة التغيير، قادرة على دفعها. 3 - انحراف التكوين السويّ للشخصيّة الفعّالة: يتكلم توينبي على نوعين من التفكّك الحضاري؛ التفكك الرأسي، والتفكك الأفقي (¬1). ويقصد بالتفكك الرأسي التفكّك السياسي المعروف، أما التفكّك الأفقي فهو الانحلال الداخلي للأمة الذي يشكل الخطر الحقيقي الذي تواجهه الحضارة ويجعلها في حالة عجز، لأنه لا يتوقف عند حدّ التفكك الطائفي والملّي والطبقي، بل هو يتجاوزه إلى تحلّل عميق يصيب الشخصية الإنسانية بالوهن، والروح بالشيخوخة، ويحرّف خصائص الأمة؛ النفسية والخلقية، فتغدو عاجزة بعد أن كانت فاعلة تدير عجلة التاريخ!! وإن فرويد وهو بسبيله إلى اقتراح علم نفس حضاري يؤكد أن الحضارات تصاب بأمراض عصابية جماعية شأنها في ذلك شأن الأفراد تمامًا (¬2). ¬
لا تنهض أمة بثقل المهمة الحضارية ما لم تمتلك في ذاتها خصائص نفسية تؤهلها للنهوض بتبعات الالتزام الحضاري، وبقدر ما هي - أي الخصائص - شرط فإنها نتيجة أيضًا، وقد تطرقنا إلى شيء من تلك الخصائص في تضاعيف كلامنا على شروط الحضارة، فالإيمان اليقيني بفكرة واضحة، والتحديات القاسية، يصقلان معًا الشخصية، ويمدّانها بالدافعية والصلابة اللازمتين للحركة والتغيير، وهما تتقلصان بفعل عوامل هدم الحضارة ذاتها التي تعمل على تحطيم الصلابة النفسية للأمة، وتشويه خصائصها الإيجابية، وفي المنقلب تؤدي تلك الخصائص المعدَّلة إلى عرقلة عجلة التقدم الصاعدة، وتعطيل الفعالية المعتادة، وردّ الأمة إلى طور السكون من جديد. في تعلقه بالبداوة، كان ابن خلدون يبحث عن مقومات رجل الفطرة، ويطلب تلك الخصائص الضرورية لتشكيل شخصية رجل الحضارة وتأهيله، وقد وجدها متعيِّنة في فئة اجتماعية خاصة هي "البدو"، بما لديهم من كمال صفات الفطرة، ودواعي الخير المهيِّئة لكمال الفاعلية، واستحقاق الغلب، والقيادة الحضارية (¬1). وإذًا، فإيثاره للبدو ليس إيثارًا لفئة اجتماعية بعينها، على الرغم من أنه صرح بذلك في أكثر من موضع (¬2)، كما أنه لا يعني أن من فاتته البداوة ¬
1 - انسحاب الفكرة
فاته التحضر، ولكنه تنويه بتلك الخصائص النفسية التي تؤهل الأمّة للريادة والغلب والفعالية، وهو تعبير رمزي عن أهمية التحقق بها في أي مشروع حضاري. فإذا ما تشوهت تلك الخصائص بمكتسبات المدنية ورواسب التطور، فإنها قابلة للاسترداد بإزالة عللها التي تأخذ في الوقت نفسه موقع المعلول في علاقة معقدة جدِلة، وأهم تلك العلل: 1 - انسحاب الفكرة: مهما ابتليت الأمة بأسباب الضعف والركود فإنها تنقلب ماردًا إذا امتلكت فكرة تؤمن بها، وتتحول خصائصها النفسية والذهنية والخلقية من الانهيار والتخاذل واليأس والسلبية واحتقار الذات، إلى الثقة والأمل والاندفاع والغيرية والإيجابية وكل ما يمنحها الطاقة المحركة ويفعّل قواها المعطلَّة. ولكن تعرُّض الفكرة لهزات متعاقبة يخلخل تلك الطبيعة التي اكتسبتها الأمة من معايشة الفكرة والعيش بها، ويسمح للعوامل السلبية الأخرى بأن تترك آثارها بعيدًا في عمق الأمة، وتتحول إلى أخطار معيقة لفاعليتها، ومشوِّهة لخصائصها النفسية، ولتنحرف بملكاتها عن مسارها التاريخي الصاعد. ولعل أخطر آثار انسحاب الفكرة هو تهديدها لمناعة الأمة الذاتية وتركها مكشوفة للعوامل البيئية والتاريخية المتنوعة التي تحمل، إلى جنب مكاسبها، فيروسات لا تنقضّ إلا على البدن الضعيف غير المحصَّن.
سبق أن تكلمنا على أثر الوفرة في تنشيط عملية انسحاب الفكرة وتحويلها المصالح التي تحتويها الفكرة، ضمنًا، من منافِسات فيها إلى منافِسات لها، ويتجلى انسحاب الفكرة في ظاهرتين تؤثّران، بدورهما، في تعزيز هذا الانسحاب وضرب الركائز الأساسية التي تستمد الفكرة منها حياتها وصلابتها، الظاهرة الأولى هي تقلّص الوجود المادي للفكرة، عن طريق تخلّي أعلامها وقادتها عن استلهامها في حياتهم اليومية وسلوكهم العملي والبذل في سبيلها إلا ما كان من قشور وتقاليد ومظاهر، وقد يصل الحدّ أن تتخلّى بعض النخب عن العناية باحترام تلك المظاهر كذلك، وتنتشر العدوى في فئات المجتمع كلها بنسب ودرجات متفاوتة تعادل درجة ضعف سلطان الفكرة في العالم المادي، ومدى تراجع مظاهرها وآثارها فيه، فيعمّ الشك ويروج التردّد والاحتمال، ويخسر اليقين أقوى عوامل وجوده. وفي ظل الانسحاب التدريجي للفكرة من العالم المادي ينشط وجودها النظري والتجريدي، ويشجِّع الترف الفكري ولادةَ فلسفات نظرية راقية تستلهم الفكرة وتجرّد مفاهيمها وقيمها وتقتلها بحثًا وتقنينًا، وتلك هي الظاهرة الثانية لانسحاب الفكرة، إذ إن الوجود النظري يتّسم، غالبًا، بالمثالية والتعالي على هموم الواقع اليومية وحاجات الأمة المتجدّدة. ويزداد الوضع حدّة عن طريق الاستجابات الخاطئة لحاجات الواقع، والتطرّف في ردّ الفعل عليها، فتظهر فلسفات مناقضة للفكرة المؤسِّسة، سواء كانت نابعة منها، أو كانت ردةَ فعل طبيعية عليها، وإمكانًا من الإمكانات المتاحة لملء الفراغ الذي
تخلّفه الفكرة في انسحابها (¬1)، أو استجابة إيجابية لحالة انفتاح الحضاري توفرها عالمية الحضارة في تلك المرحلة، واستلهامًا لثقافات خارجية مغايرة تمامًا لأصولها، وتُدخِل عالمية الحضارة، وصراع الفلسفات المتناقضة، مفهوم التعدّد في القيم الموجِّهة للأمة، وتجعل الفكرة المؤسِّسة خيارًا واحتمالاً قابلاً للتفاوض والرفض لتكرِّس، بالتالي، حالة الشك وتحكم لها بالشيوع (¬2). وتستجيب الحضارة في بعض مستوياتها وفئاتها لهذه التحديات الخطيرة استجابة سلبية تتمثّل في محاولة تثبيت الحاضر عن طريق التقوقع على الذات، واستلهام النماذج الأصيلة غير الملوثة بدخيل خارجي أو داء داخلي، مكتفية بمحاكاة الماضي، متوقّفة عنده، ومعاكسة مجرى الحياة الذي لا ينقطع عن الدوران. صحيح أن هذه الاستجابة هي الصَّدَفة الصلبة التي تحفظ القيم الأصيلة للأمة وتصونها من طوارق الليل والنهار، إلا أنها ¬
2 - الوفرة، والترف، وتراخي التحديات
تعين خط الانهيار المتفاقم بعدم مرونتها أمام المستجدات، وضيق وعيها بالمتغيرات، وانقطاع صلتها بمعطيات الواقع المادية. قلنا إن انسحاب الفكرة يترافق بانسحاب القيم، وتراجع الحياة الأخلاقية والروحية للأمة، وإن الفكرة تظلّ - من بعدُ - ترفد الحياة المادية للحضارة وتمدّ في عمرها من خلال منظومة المصالح التي تضمنها، فإذا تعطلت تلك المصالح استكثر الأفراد الجهد، واستكانوا للتواكل والعطالة .. ويتكرس هذا الخطر، ويتحول إلى إحباط، عندما يتكرر شهود فشل الفكرة، وتتراكم كبوات لا تُقال، وينقطع الأمل في تحقيق المصالح المنشودة، فتسقط الذات من بعد الشك في يأس يقينيّ قاتل يحسم الإمكانات لصالح كل ما هو سلبي (¬1). 2 - الوفرة، والترف، وتراخي التحديات: وقفنا عند الوفرة عندما تكون علّة من علل انهيار الحضارة، وأداةً تخلقُ منافِسِين للفكرة الحضارية. ونعالج ههنا دورها في تشويه خصائص الأمة النفسية؛ تُبطل دافعيتها، وتحوّلها إلى أمة خاملة. يتفق ¬
معظم المشتغلين في فلسفة الحضارة على مقولة ابن خلدون بأن "من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم" (¬1)، لأن هذا الانغماس يشوّه الخصائص النفسية لرجل الحضارة الفعّال القادر على توجيه التاريخ، وقد لاحظ ابن خلدون أن أظهر الفوارق بين أهل الحضر وأهل البادية أن "البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم .. " (¬2). والعجز غير الإرادي عن العناية بحاجات الترف بسبب من الفقد أو القلة القسريين، يلازمه قدرة صافية عالية على تفعيل الإرادة والتحكّم الذاتي، وتلك هي المهارات اللازمة لتوجيه طاقات الإنسان الداخلية والخارجية نحو الهدف، والتي تختلّ أو تذوي مع الانخراط في مجتمع الوفرة. بعد دراسة مستفيضة يؤكد توينبي أن "السهولة عدو الحضارة" (¬3)، بل إن "الحضارة تقوم على الزهد أو التعفف عن إشباع الغرائز، وإن وجودها مشروط باللاإشباع، بالكبت الإرادي أو اللاإرادي للمتطلبات الغريزية القوية"، ¬
هذا ما يخبرنا به فرويد (¬1)، وهو الحقيقة القوية التي تثبتها أخبار التاريخ. أما مجتمع الوفرة فهو، على العكس، يقدّم كل ما يعين على الإشباع النهم، وإطلاق الغرائز .. ويشوّه معالم الفطرة فتعتاد الذات ارتخاء الإرادة، وتتخامد طاقة الاندفاع، فتختلق الأعذار، وتتواكل على المعيقات والمثبّطات، وتتذرّع بها. إن عهد الوفرة غاية للحضارة ومصير لها في آن (¬2)، وهي الذروة التي تحقّق عندها آمالها، وتَستنفِد غاياتها، لتبدأ في شق طريقها إلى الانحدار! في مرحلة المدنية تعيش الحضارة ازدهارًا غير مسبوق يصل ¬
حدّ الوفرة والترف في كل شيء، وتجتهد الطاقات لتحقيق أسمى الطموحات، فتُشبع الآمال، ويشيع الرضا .. ولكن الرضا (¬1) يتحوّل إلى قناعة وسأم، والسأم يغري بالتهالك على اللذات، والإمعان في اقتحام المحظورات، وتتكفل القناعة بتبرير التكاسل، وإيثار الراحة، وقتل الطموح، وتبديد القلق المحفِّز على النشاط والفاعلية .. وما بين الإفراط والتفريط تضيع الحضارة. تجتهد الوفرة للتغلّب على التحديات الطبيعية، وتُغرق الأمة بما يزيد عن حاجاتها الضرورية، وتفتح لها أبوابًا مشرَعة إلى الراحة واللذة، مع قدرة عالية على السيطرة على العالم الواقعي والقوة على إدارته، وباجتماع القوة والوفرة في أمة ما زالت مشبعة بطاقة واندفاع على وشك النفاد، تحاول الأمة أن تستغل الفائض من طاقتها باختلاق تحدّياتها الخاصّة أو المفتعلة وتوليدها، للحفاظ على مستوى من التوتّر يغري بالطموح والإنجاز، وذلك عبر كثير من النشاطات التي تفيض عن الضروري وتؤول إلى الحاجي أو الكمالي، حيث تكون الضروريات في حالة إشباع قصوى. ويشيع هذا النمط من التحديات في كل شيء؛ في العلوم والفنون، والعلاقات الاجتماعية والتقاليد والأعراف والشعائر، والمتعة والأشياء .. ما يحوّلها، رويدًا .. رويدًا، إلى شكلانية تتعلق بالزينة والزخرف على حساب الجوهر والمضمون، ويضعف أساسها الوظيفي، ليتخافت، من ثمّ، أثرها في عالم الواقع ¬
وصلتها بالحياة، فتتحجر في أصنام تفقد مع الاستهلاك رونقها .. صحيح أن هذه التحديات المفتعلة تفجّر الإبداع، وتحفّز التنافس، وأن الولع النهم في شتى المجالات يدعم الحركة الاقتصادية، وجريان الثروة .. إلا أن ذلك كله يكرّس آثار الترف السلبية في الخصائص النفسية للأمة، ويغرقها في البلادة والكسل، ويمتصّ طاقتها الفائضة في طواحين وهمية (¬1) كان الأجدر أن توجّه إلى التحديات الذاتية التي تتعاظم في الداخل انعكاسًا وأثرًا لحالة الترف المتعاظمة. ¬
3 - ضمور النزوع الجماعي
3 - ضمور النزوع الجماعي: تهدّ علل الانهيار السابقة وعوارضه المزمِنة النزوعَ الجماعي؛ وهو الركن الأساسي للصحّة الحضارية. والحضارة فعل إنساني جماعي، لا تنهض به إلا أمة متماسكة. وبما أن الفرد مشحون بغريزة أنانية مستبدّة تنحاز إلى المصلحة الفردية لتحمي ذاتها في مواجهة التحديات المختلفة، فإن إرادة الأنا تصطدم بإرادة الآخر؛ فردًا كان أو جماعة، وإن من مسؤولية أية فكرة حضارية تحقيق المصالحة والتوازن بين هاتين الإرادتين، وأن تحفّز النزوع الجماعي في الأفراد لتحشدهم في مشروعها الحضاري. إن الفكرة نفسها هي أقوى عنصر جامع ومعصّب للأمة، وتتناسب قوة النازع الجماعي مع صلابة الإيمان بالفكرة الحضارية، ودرجة تعشّق الذوات الفردية للقيم والمفاهيم التي تحملها وتبشّر بها، وليس أمتن لحمة للأمة من القيم، لأن القيم المشتركة إذا تملّكت الذوات المختلفة كسّرت حواجز العزلة بينها، ووحّدتها في هدف مشترك، لتجد كل منها نفسها فيه ووجودها في تحقيقه، وتتخلّق بخلق البذل والتضحية والغيرية، وتحرّض حس الولاء للجماعة والانتماء للأمة. وتتضاعف قوة النازع الجماعي إذا رَفدَ اتحادَ الأهداف اتحادٌ في المصالح وتبادل للمنافع، وشُدَّ الطرف بقوة الطرف الآخر. وتضمن الفكرة تكريس الوعي الجماعي بسلطة مادية تتجسد في النظام الاجتماعي المحكم الذي يشجّع الممارسات والأعراف التي تعزّز الروح الجماعية ويصونها ويستثمرها في البناء والإعمار، ويحمي القيم والمصالح في وقت واحد. فإذا ما نافست المصلحةُ الفكرةَ، وبدأت الفكرة بالانسحاب، والقيم بالضمور، استبدّت المصلحةُ، وغذّت الدوافعَ الفردية، وحرّرت الأنانية المكبّلة
4 - الفساد والظلم
ونشّطتها، وخدّرت تدريجيًا النازع الجماعي، وحَدَّتْ من سلطته في الحياة إلا ذلك المقدارُ الذي يسانده النظام الاجتماعي نفسه ويحميه، وتلك المؤسساتُ والأعراف التي تجسّد الحاجات الجماعية وتمثّل حضورها المادي وسلطتها، وبسبب من هذا يكون النازع الجماعي أقوى في الطبقات الدنيا الشعبية التي يضطرها العجز وقلّة الخيارات إلى التقوقع على الذات، والتمسّك بالتقاليد، وحماية النظام والأصول التي تجد فيها ذاتها. وطبيعي بسبب من ذلك أيضًا أن تكون الفعّاليات المستندة إلى القوة الجماعية أكثر العناصر تأثرًا بانحسار النازع الجماعي. بقدر ما يكفل النظام الاجتماعي الحامي للرابطة الجماعية تحقّقَ المصالح، تسندُ المصالحُ المتّحِدة بالنازع الفردي الولاءَ الجماعي، والانتماء للأمة. لذلك يُعجِّل تعطّل المصالح، أو تعطيلها، بانهيار الروح الجماعية، ويضعف الولاء للأمة، ويميل بالأفراد إلى السلبية، لا سيما إذا تكررت الخيبات، وأصبحت التجارب الخاسرة منطقًا يحكم الحياة اليومية، وانعدمت الثقة، وغلب اليأس على النفوس. في ذلك الحين تغدو القلّة، والتنافس في الضروريات، مبررًا للفردية ومشجعًا عليها، والتحديات التي تلمّ الشتات في الخطر ستعمّق الشقّة وتشجّع التفتّت الداخلي، إذا لم يتوافر في مقابلها ذلك المعادل الذي يولّد الطاقة اللازمة للصمود في وجه التحديات، وللتغلّب على ظرف القلّة، ويعزّز القيم التي تزرع الإحساس بالواجبات أكثر من الحقوق. 4 - الفساد والظلم: بعد أن كان الفعل الحضاري يعتمد على الروح الجماعية وعلى تشارك فئات الأمة المتنوعة في القيم والمصالح، والواجبات والحقوق، وهذا
ما كان يحرّكهم معًا قوةً واحدة، تبدأ القيم بالانسحاب، وتتضخّم المكاسب، فتتعاظم الأنانية وتروج الأخلاق النفعية، وتجد كل ما يمدّها بالقدرة على تحقيق غاياتها، فيختلّ التوازن لصالح من يملك القوة والسلطة، أيًا كان مصدرهما .. كل هذا يحرّض مظاهر من الانحراف في التكوين الاجتماعي، تتجلى في تفشّي صور فساد وظلم متنوعة تُسرق فيها الجهود، وتُصادر الحقوق، وتُعطّل المصالح، وهي مع ذلك مظاهر فردية واستثنائية، لأن المصلحة - في تلك المرحلة - تظل ممسكة بعصا التوازن الذي يفرض التكامل على جميع الأطراف، ويهودهم إلى ميثاق مشترك يذعنون إليه لتحقيق مصالحهم المتبادلة. ومع تفاقم أعراض المدنية تتكرس دواعي الظلم والفساد، ويتحولا إلى ظاهرة عامة لا تتوقف عند حدود السلطة الحاكمة بل، تعمّ مناحي الحياة كلها، أفرادًا ومؤسسات، وهنا تكمن الخطورة، لأنه إيعاز بأن الأمة تتموّت من الداخل! ليس الظلم إلا الضعف يتستّر بالجبروت ويتسلح به، وحين تدخل الحضارة طور المدنية يتسرّب الكسل والتواكل، ويستشعر صاحب القوة والقدرة ضعفه، فيحاول أن يحجبه بسياج من الانتهازية وسرقة جهود الآخرين، والحدّ من نجاحهم خشية منافستهم، ويتفشّى الظلم ويروج بالقدر الذي تتعطّل فيه الدوافع وتقلّ الفرص. يستجرّ حديث الظلم إلى الذهن ذلك الاعتقاد بأنه خاص بالمستويين السياسي والقضائي، ولكن الواقع أن المؤسسة السياسية والإدراية تعطي مؤشرات على الفساد قبل غيرها من المؤسسات، وظهور الفساد في المؤسسة القضائية هو دليل على استشراء الداء في
5 - الذل والهزيمة النفسية
المجتمع ذاته، وانحراف القيم الموجِّهة له في مستوياته كلها؛ الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بل الإبداعية أيضًا .. ومع أن الفسادين؛ السياسي والقضائي، أظهر في وعي الناس، لأنهما الملاذان اللذان يتوقعون منهما النصرة والأمن، ولأن أثرهما مادي وقاهر أكثر من غيرهما، فإن الفساد النوعي العميق في المستوى الأخلاقي أكثر هدمًا لبنية الحضارة، ولتماسك الأمة الداخلي، بما أنه يعطّل دافعيتها الذاتية، وينحرف بأخلاقياتها، ويضعف النازع الجماعي فيها، ويفقدها الثقة بجدوى الجهد، ويقتل روح الإبداع فيها. وكل أصناف الفساد والظلم تُغرِق الأمة في السلبية، وتضخِّم المثبّطات في عيونها، وتمدّها بمبرّرات تتعلق بها في الاعتذار عن استسلامها للواقع، وعدم مقاومة تيار الهدم الجارف، والعادة أن تردّ الأمة المنهارة أسباب ضعفها، وواقع الظلم الذي يحيق بها، إلى القيادات السياسية والإدارية بوصفها صاحبة القرار، وفي موقع المسؤولية! 5 - الذلّ والهزيمة النفسية: لن يكون أقسى من الفساد والظلم على الأمة من الذلّ، ومع أن الذلّ تجلٍ من تجليات الظلم، فإن خطورته تتأتى من أنه إشارة على تأبّد الظلم إلى حدّ يقتل في الأمة إحساسها بذاتها، وتقديرها لها، وقدرتها على مقاومة مظاهر الفساد، فتعتاد ممارسات الظلم والاستبداد، وتستمرئها، وتعيد تصوّر ذاتها، وصياغة حياتها، من خلالها. ويحاول ابن خلدون، بما أوتي من حسّ تاريخي لا يقنع بظاهر الأمور، أن يتلمّس العلل التي تنحرف بالأمة إلى خلق الذلة والانقياد، فيلاحظ أن بذور المذلّة تزرع وتسقى بمكتسبات المدنية، فالاستقرار يعوّد النفس على التكاسل، ويدرّبها على الانقياد للنظام والخضوع للقانون، وعلى
الرغم من أن هذا كله مطلب عزيز وأصيل للحضارة ولتماسك الأمة، فإن الاعتياد يقطع صلة الفعل بالباعث، ويحوّله إلى تقليد أجوف، ويمتصّ من الأمة عزيمتها وأنفتها، حتى تصير إلى قدرها المحتوم الذي يغدو فيه الإذلال برنامجًا منظمًا لصالح بعض القوى الطفيلية الفاسدة، يقول ابن خلدون: " .. فإن كانت الملَكَة رفيقة وعادلة لا يعانى منها حكم ولا منع وصدّ كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار الإذلال جِبلّة لا يعرفون سواها وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتُذهب المِنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدَة" (¬1). إذًا، القهر كما اللين سواء بسواء في تعويد الأمة الذلَّ والانكسار. لا تسقط الأمة في حال الذل المفني بسبب من تلك الممارسات المباشرة التي تمثّل في تصورنا المواقف المذلة، لكن بسبب ميراث عهد طويل من تجارب الظلم والذل والقسوة .. وحصيلة للانكسارات المتوالية، وخيبة الأمل بالفكرة .. إذ تتأصّل فيها مشاعر الخزي والإحباط واليأس، وتتفكّك في الذات تلك المكوّنات الصلبة التي تستند إليها في مواجهة التحديات؛ الداخلية منها والخارجية، فتصبح غرضًا سهلاً لها، وتعجز عن مقاومتها، وتسقط في مطبّ "الهزيمة النفسية". تعيش الأمة الهزيمة النفسية عندما تمتلك سجلاً واسعًا من علل الانهيار، وتتخذ آثارُها السلبية شكل المسار الطبيعي للحياة ¬
والإنسان، وعندما تتحوّل المعاناة إلى ظاهرة شائعة، وتتكرّر الآلام، وتتأبّد، وتصير واقعًا مألوفًا، ويغدو الهمّ الفردي همًا عامًا يغرق غالبية الأمة، وعندما تتماوت النفوس، ويعمرها اليأس، تقتات من يأسها وعليه، لتبرّر به استكانتها وعجزها وقنوطها، بعد أن أنفقت رأس مالها، واستهلكت فكرتها الحضارية من زمن بعيد، وقد كانت تشتعل بها في وجه المحن والتحديات!! لن تهزم التحديات أمة إلا إذا وصلت إلى مرحلة الهزيمة النفسية، وافتقرت إلى معادل داخلي يمدّها بالطاقة، والعادة أن تبرر الأمم الضعيفة هزيمتها بقسوة التحديات، سواء كانت داخلية أو خارجية، محاوِلةً التهرّب من المسؤولية، وإنما قُوْتها وقوَّتها من ذاتها، فـ"لكيلا نكون مستعمَرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار" (¬1)، ولكيلا تعيش أمة الانحطاط، لا بد من أن تتخلص من القابلية للانحطاط! ¬
خلاصة
خلاصة تولد الحضارة من رحم فكرة يقينية كلية جامعة هي روحها وخزّان طاقتها، وتؤول إلى الانحدار إذا انقطعت صلتها بتلك الفكرة أو ضعفت، وبما أن التاريخ يتحرّك في دورات تتقلّب فيها الحضارات بين طفولة وشباب وكهولة، فإن في الإمكان تأخير الكهولة عن طريق تجديد الفكرة الحضارية وتخصيبها، واستغلال التحدّيات المحفِّزة للتطهّر من أمراض الانحطاط، أما ما يزيد على ذلك فهو عوامل داعمة، وجودها يعين، والافتقاد إليها لا يعيق. ولن تموت الحضارة إلا إذا فقدت الدافع، والدافع فكرة ومصلحة، فإذا ضعفت صلة الإنسان بالفكرة الحضارية الجامعة، أو تعطلت المصالح النافعة، تملّكت الإنسانَ الأنانية ولاذ بالعجز والكسل، وخسر الدافع إلى العمل، وعظمت في عينه المخاطر والتحديات، ونسب إليها لا إلى نفسه الخيبات. ولن تنهض أمة من كبوتها إلا إذا امتلكت فكرة تجتمع عليها تكون معادلاً داخليًا يعزز إرادتها للبقاء، ويشدّ من عزيمتها لمقاومة تحديات الانحطاط القاسية التي تكفّلت بصناعة شخصية النهوض السليمة المبرّأة من عيوب الترف، وكسل الاكتفاء والشبع .. والله من بعد أعلم.
المصادر والمراجع
المصادر والمراجع - أدونيس، علي أحمد سعيد: الثابت والمتحول، بحث في الاتباع والإبداع عند العرب - 3 صدمة الحداثة، ط/1، دار العودة، بيروت - لبنان، 1978. - إشبنجلر، أسوالد: تدهور الحضارة الغربية، تر: أحمد الشيباني، منشورات دار الحياة - بيروت، 1964. - الترمذي: السنن، تعليق الألباني، مكتبة المعارف - الرياض، ط/1، 1417. - توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، تر: فؤاد محمد شبل، ط/1، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، 1960. - الجابري، محمد عابد: فكر ابن خلدون - العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ط/6، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، 1994. - حبيب، رفيق: تفكيك الديموقراطية، ط/1، دار الشروق - القاهرة، 1997. - حسين، محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، المطبعة النموذجية - مصر، 1954. - ابن خلدون عبد الرحمن: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، تح: خليل شحادة، دار الفكر - بيروت، 2001. - ديورانت، ول: قصة الحضارة، تر: مجموعة، دار الجيل - بيروت، 1988. - زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ط/4، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، 1981. - عبده، محمد، ومحمد رشيد رضا: تفسير المنار، دار المنار - القاهرة، ط/2، 1947. - عياض بن موسى اليحصبي: شرح صحيح مسلم (إكمال المعلم بفوائد
مسلم)، تح: يحيى إسماعيل، ط/1، دار الوفاء للطباعة والنشر - المنصورة، 1998. - فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، تر: عبد المنعم الحفني، ط/1، دار الرشيد - القاهرة، 1992. - الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ط/3، دار القلم للنشر والتوزيع - دبي، 2002. - محمد، سراج الدين: موسوعة روائع الشعر العربي، دار الراتب الجامعية - بيروت. - المناوي، عبد الرؤوف: فيض القدير شرح الجامع الصغير، ط/1، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، 1938. - مؤنس، حسين: الحضارة، ط/2، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1998، العدد 237. - المناوي، عبد الرؤوف: فيض القدير شرح الجامع الصغير، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، ط/1، 1938. - بن نبي، مالك: شروط النهضة، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر - دمشق، 1986. - نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، ط/2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية، 1994. - ولسون، كولن: سقوط الحضارة، أنيس زكي حسن، ط/2، دار الآداب - بيروت، 1982.