علو الهمة

محمد إسماعيل المقدم

بسم الله الرحمن الرحيم ربَّنَا تَقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم رقم الإيداع 15718/ 2004 الترقيم الدولي (5 - 325 - 331 - 977) جميع الحقوق محفوظة علو الهمة دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع 17 شارع خليل الخياط - مصطفى كامل - إسكندرية تليفون وفاكس: 5457769 ت: 5446496

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، والشكر له على ما أولى من نِعَمٍ سابغةٍ، وأسدى، أحمده سبحانه، وهو الوليُّ الحميد، وأتوب إليه جل شأنه، وهو التواب الرشيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له شهاده نستجلب بها نِعَمَه، ونَستدفع بها نِقَمَه، ونَدَّخِرُها عُدَّةً لنا {يَومَ لا يَنفع مَالٌ وَلَا بَنونَ إِلَّا مَنْ أتى اللَّه بقَلْب سلِيم}. وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، وصَفِيُّه من خلقه وخليلُه، صلى الله عليه، وعلى آله نجوم المهتدين، ورجوم المعتدين. ورضي الله عن صحابته الأبرار الذين قاموا بحق صحبته، وحِفظ شريعته، وتبليغ دينه إلى سائر أمته، فكانوا خير أمة أخرجت للناس. أمَّا بَعد ففي قرنٍ وبعض قرنٍ، وثب المسلمون وثبةً ملأوا بها الأرضَ قوةً وبأسًا، وحكمة وعلمًا، ونورًا وهداية، فراضوا الأممَ، وهاضُوا الممالك، وركزوا ألويتَهم في قلب آسيا، وهامات أفريقية، وأطراف أوربة، وتركوا دينَهم، وشرعتَهم، ولغتَهم، وعلمَهم، وأدبَهم، تَدِينُ لها القلوب، وتتقلب بها الألسنةُ، وتَحقَّق فيهم الأنموذج الفريد،

والمثال الأعلى للبشرية باعتبارهم "خير أمة أخرجت للناس"، بعد أن كانوا فرائق بَددًا، لا نظام، ولا قوام، ولا علم، ولا شريعة. لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي سَهَم لها الدهر، ووجم لروعتها التاريخ، وهم يعرفون معالم طريق المجد، ونهج السعادة في الدارين، وأمعنوا بكل ثقة في هذا السبيل مدفوعين بطاقةٍ خارقة، وقوةٍ دافعة، كانوا إذن يدركون بكل دقة معالمَ الطريق كأن معهم "خارطة" مفصلة أودَعُوها "قوتهم العلمية"، وكان الوقود الذى يتزودون به لبلوغ غاياتهم هو "القوة العملية "، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهذان هما سر عظمة المسلمين، وخيريتهم وتفوقهم على الأمم: "العلم" و "الإرادة". أما العلم فحسبنا أنه الحاكم على الممالك، والسياسات، والأموال، والأقلام، فمُلْك لا يتأيد بعلم لا يقوم، وسيف بلا علمٍ مِخراق لاعب، وقلم بلا علم حركةُ عابث، والعلم مُسَلَّط حاكم على ذلك كله، ولا يحكم شىء من ذلك على العلم. ولن نفيض في ذكر فضائل العلم فذاك حديث يطول، وكم صنف المتقدم والمتأخر في شرفه والحث عليه، ولكن المقصود من هذا المبحث إلقاء الضوء على قسيم العلم وشريكه في صناعة المجد، وإحياء الأمة، ألا وهو "القوة العملية" أو "الإرادة" أو "الهمة". ***

الباب الأول المقدمات

البَابُ الُأوَل المقدمَاتُ ما هي الهَمَة؟ الهَمُّ: ما هُمَّ به. من أمرٍ ليُفْعَل. والهمة: هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلوٍّ أو سفول. وفي "المصباح": الهمة بالكسر: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، فيقال: له همة عالية. وقيل: علو الهمة: "هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور " (¬1). وقيل: "خروج النفْس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل" (¬2). قال الجرجاني في "التعريفات": (الهم: هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل، من خير أو شر). ¬

_ (¬1) انظر: "رسائل الإصلاح" (2/ 86) للشيخ محمد الخضر حسين. (¬2) "صيد الخاطر" لابن الجوزي ص (189) وقال في شرح معناه: (ينبغي لمن له أنفة أن يأنف عن التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة -مثلاً- تأتي بكسب، لم يجز له أن يقنع بالوَلاية، أو تصور أن يكون مثلاً خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صَحَّ له أن يكون مَلَكًا، لم يرض أن يكون بشرًا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل) اهـ. ص (200 - 201).

والهمة: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق، لحصوله الكمال له أو لغيره) (¬1). وقال ابن القيم في "مدارج السالكين": (و "الهِمَّةِ" فِعْلَة من الهمِّ، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالْهَمُّ مبدؤها، والْهِمَّة نهايتها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: في بعض الآثار الِإلهية قول الله تعالى: "إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته". قال: والعامة تقول: قيمة كل امرىءٍ ما يحسن. والخاصة تقول: "قيمة كل امرىءٍ ما يطلب"، يريد: أن قيمة المرء همته ومطلبه. قال صاحب "المنازل": "الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صِرفًا، لا يتمالك صاحبها، ولا يلتفت عنها". قوله: "يملك الانبعاث للمقصود" أي: يستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك، و "صرفًا" أي: خالصًا صرفًا. والمراد: أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبًا صادقًا خالصًا محضًا، فتلك هي الهمة العالية، التي "لا يتمالك صاحبها" أي: لا يقدر على المهلة، ولا يتمالك صبره، لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود "ولا يلتفت عنها" إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة: سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه ¬

_ (¬1) "التعريفات" ص (320).

الهمة مولودة مع الآدمي

العلائق، والله اعلم) (¬1) اهـ. وقال أيضًا: (علو الهمة: أن لا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله، وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به، بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم: كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التى تصل إليهم، فإن "الهمة" كلما علت، بعدت عن وصوله الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان، فإن الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء: عنوان فلاحه، وسفول همته: عنوان حرمانه) (¬2) اهـ. والهمة طليعة الأعمال ومقدمتها، قال أحد الصالحين: "همتك فاحفظها، فإن، الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال" (¬3)، وعن عبيد الله بن زياد بن ظبيان قال: (كان لي خال من "كلب"، فكان يقول لي: "يا عبيد هِمَّ؛ فإن الهمة نصف المروءة "). الهمةُ مولودةٌ مع الآدمي قال ابن الجوزي في: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد": (وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (3/ 3 - 4). (¬2) "السابق" (3/ 171 - 172). (¬3) "بصائر تربوية" ص (137).

بالدون، وقد عُرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حُثَّتْ سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلًا فسل الموفق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة؟ أو حظي بغرض من أغراضه؟) اهـ. وقوله -رحمه الله-: "وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات" بسبب عجز أو كسل، أو ركون إلى وسوسة الشيطان، وركوب الهوى، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير برضا من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه، لكن حسبه أن الله يعلمه، وهو وحده الذي يثيبه: عن عبد الله بن قيس، أبي أمية الغفاري قال: (كنا في غزاة لنا، فحضر عدوُّهم، فصِيحَ في الناس، فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأسُ فرسي عند عَجُز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: "أيْ نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلتِ لي: أهلُكَ وعيالُك فأطعتك ورجعتُ؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلت: أهلُك وعيالُك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذكِ، أو تركك"، فقلت: لأرمُقنَّه اليوم، فرمقته، فحمل الناسُ على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدوَّ حمل على الناس فانكشفوا، فكان في حُماتهم، ثم إن الناس حملوا، فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو، وانكشف الناس، فكان في حُماتهم، قال: "فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنةً") (¬1). ¬

_ (¬1) "صفة الصفوة" (4/ 421).

لابد للسالك من همة تسيره، وترقيه، وعلم يبصره، ويهديه

لابُدَّ للسالِكِ مِن همةٍ تُسيَّرهُ، وتُرقَِّيهِ، وعلم يُبصِّرُه، وَيهدِيهَ قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: (إن الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج آدم وذريته من الجنة، أعاضهم أفضل منها، وهو ما أعطاهم من عهده الذى جعله سببًا موصِّلاً لهم إليه، وطريقًا واضحًا بَيِّنَ الدلالة عليه، من تمسك به؛ فاز واهتدى، ومن أعرض عنه؛ شقى وغوى، ولما كان هذا العهد الكريم، والصراط المستقيم والنبأ العظيم، لا يُوصَل إليه أبدًا إلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة باب الوصوله إليه، والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحُه عليه، وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين "همة تُرَقِّيه" و "علم يُبصِّره، ويهديه"،فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، أو من إحداهما: إما أن لا يكون له علم بها، فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالمًا بها، ولا تنهض همته إليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسًا، وقلبه عن كماله الذي خُلِق له مصدودًا منكوسًا، قد أسام نفسه مع الأنعام راعيًا مع الهَمَل، واستطاب لِقِيعات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رُفع له عَلَم فشمَّر إليه، وبورك له في تفرده في طريقه طلبه فلزمه، واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه

أقسام الناس من حيث القوتان العلمية والعملية

الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله. ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها، وشرفُ العلم تابعًا لشرف معلومه، كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها، ولا حياة له إلا بها؛ أن تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت، وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت، ولا سبيل له إلى هذا المطلب الأسنى، والحظ الأوفى؛ إلا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيًا، وأقامه على هذا الطريق هاديًا، وجعله واسطة يينه وببين الأنام، وداعيًا لهم بإذنه إلى دار السلام، وأبى سبحانه أن يفتح لأحد منهم إلا على يديه، أو يقبل من أحدٍ منهم سعيًا إلا أن يكون مبتدئًا منه، ومنتهيًا إليه، - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) اهـ. أقسَامُ الناس من حيث القوتان العلمية والعملية قال ابن القيم -رحمه الله-: [كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل (¬2) وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا ¬

_ (¬1) "مفتاح دار السعادة، ومنشور وَلاية العلم والإرادة" (1/ 59). (¬2) وفي الأثر: "اللهم أرني الحق حقًّا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلًا، وارزقني اجتنابه"، فهؤلاء هم الذين رزقوا علمًا، وأعينوا بقوة العزيمة على العمل، وهم الموصوفون في القرآن الكريم بقوله تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وبقوله سبحانه: {أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثلُه في الظلمات ليس بخارج منها} فبالحياة تنال العزيمة، وبالنور ينال العلم، وأئمة هذا القسم هم أولو العزم من الرسل.

والآخرة؛ إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين وهما اللذان أثنى الله سبحانه على أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- في قوله تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق، والأبصار: البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسم، فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق، وأكرمهم على الله تعالى. القسم الثاني: عكس هؤلاء، من لا بصيرة له في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر هذا الخلق وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحُمَّى الأرواح، وسقم القلوب، يُضيقون الديار ويغلون الأسعار، ولا يُستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار. القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمنِ الضعيف، والمؤمنُ القوي خير وأحب إلى الله منه. القسم الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، لكنه ضعيف البصرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء تمرة، وكل بيضاء شحمة، يحسب الورم شحمًا، والدواء النافع سمُّا. وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فأخبر سبحانه أنهم بالصبر واليقين

بآيات الله نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه من جملة الخاسرين، وأقسم بالعصر -الذي هو زمن سعي الخاسرين والرابحين- على أن من عداهم فهو من الخاسرين، فقال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}] (¬1) اهـ. وقال أيضًا -رحمه الله -: (فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية يبصر الحقائق، ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب، ولا يتوقاها (¬2)، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله. ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجِد التشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله وهذا حال أكثر أرباب الفقر ¬

_ (¬1) "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" ص (82). (¬2) وفي مثله يصدق قول الشاعر: فليس يُزيح الكفرَ رأيٌ مسدَّدُ ... إذا هو لم يؤنَس برمي مُسددِ

والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يُرى أحدهم أعمى عن مطلوبه لا يدري من يعبد؟ ولا بماذا يعبده؟ فتارة يعبده بذوقه ووَجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين، وكشف رأس أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنًا ما كان، وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد. فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحدٍ دينًا سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرَّف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها. فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له. ومن كانت له هاتان القوتان؛ استقام له سيره إلى الله، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، "والوقت -كما قيل- سيف فإن قطعته، وإلا قطعك"، فإذا كان السر ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة؛ فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق) اهـ.

الهمة محلها القلب

الهمَّة مَحَلهَا القلب الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةً من القيود التي تكبل الأجساد. إن يَسْلُب القومُ العِدا مُلْ ... ـكي وتُسْلِمْني الجموعْ فالقلب بين ضُلُو ... عِهِ لم تُسْلِمِ القلبَ الضلوعْ ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة: "ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوًّا، كالشعلة من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتَفاعًا" (¬1). همة المؤمن أبلغ من عمله قال - صلى الله عليه وسلم -: "من هَمَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة" الحديث (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم - فيمن تجهز للجهاد، ثم أدركه الموت: "قد أوقع الله أجره على قدر نيته" (¬4). ¬

_ (¬1) "عيون الأخبار" (3/ 231). (¬2) رواه البخارى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل. (¬3) رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. (¬4) رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، وإسناده صحيح.

وقال - صلى الله عليه وسلم - في حق المتخلفين عن غزوة تبوك من الحريصين على الخروج معه: "إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من امرىءٍ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم، إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومُه صدقةً عليه" (¬2). فليس الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام على فراشه، ثم يصبح، وقد سبق الركب بعلو همته، وطهارة قلبه، وقوة يقينه، وشدة إخلاصه، وفي ذلك قيل: من لي بمِثل سيرك المدللِ ... تمشي رويدًا وتجيء في الأوَّلِ وما أحسن قول الشاعر مخاطبًا الحجيج، وقد انطلقوا للحج: يا راحلين إلى البيت العتيق لقد ... سِرْتم جُسومًا وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عُذْرٍ وعن قَدَرٍ ... ومن أقام على عُذرٍ فقد راحا وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية كما بَيَّن ذلك الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "سبق درهم مائة ألف"، قالوا: "يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟ "، قال: "رجل كان له درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدق به، وآخر له مال كثير، فأخذ من عَرْضها مائة ألف" (¬3). ... ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه النسائي، وأبو داود. (¬3) رواه أحمد، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وإسناده حسن.

قوة المؤمن في قلبه

قوَّةٌ المؤًمِن في قَلُبهِ قال الإمام المحقق "ابن القيم" -رحمه الله-: (اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب، لا تقوى الجوارح، قال تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، وقال: {لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}، وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "التقوى هنا"، وأشار إلى صدره، فالكَيِّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة، وعلو الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية، مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير، والسفر الشاق فإن العزيمة والمحبة تُذهب المشقة وتُطَيِّب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم؛ وصدق الرغبة، والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلامُ الإحسانَ، فأكمل الهدي هديُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان موفيًا كل واحدٍ منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى ترم قدماه، ويصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويخالط أصحابه، ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئًا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر) اهـ. حياة القلب بالعلم والهمة (إن ضعْفَ الإرادةِ والطلب من ضعفِ حياةِ القلبِ، وكلَّما كان القَلبُ أتمَّ حياةً، كانت همُّتُهُ أعلى، وإرادتُهُ ومحبتهُ أقوى، فإنَّ الإرادةَ

لماذا يستبدلون الذي هو أدني بالذى هو خير؟

والمحبةَ تَتبَعُ الشعور بالمرادِ المحبوب، وسلامةَ القلبِ من الآفةِ التي تَحولُ بينَهُ وبينَ طلبِه لاِرإدتِهِ، فضعفُ الطلب وفتورُ الهمَّةِ إما من نقصانِ الشعور والإحساس، وإمَّا من وجودِ الآفةِ المضعفِة للحياةِ، فقَوةُ الشعورِ وقوةُ الإرادةِ دليلٌ على قوةِ الحياةِ، وضَعْفُها دليل على ضَعْفِها، وكما أنَّ علوَّ الهمةِ، وصدقَ الإرادةِ، والطلبَ من كمالِ الحياة، فهُو سبب إلى حصولِ أكملِ الحياةِ وأطيَبِها، فإِنَّ الحياةَ الطيبةَ إنَّما تُنالُ بالهمَّةِ العالية، والمحبةِ الصادقةِ، والِإرادةِ الخالصةِ، فعلى قَدرِ ذلك تكونُ الحياةُ الطيبةُ، وأخَسُّ الناس حياةً أخسُّهُم همَّةً، وأضعفُهم محبةً وطلبًا، وحياةُ البهائمَ خير من حياتِهِ، كما قيل: نَهارُكَ يا مَغْرورُ سَهوٌ وَغَفْلَة ... وَلَيْلُكَ نومٌ والرَّدى لَكَ لازِمُ وَتَكْدَح فيما سَوْفَ تُنْكِرُ غِبَّهُ ... كَذلكَ في الدُّنيا تعيشُ البهائمُ تُسَرُّ بما يَفْنى، وَتَفرَحُ بالْمُنَى ... كما غُرَّ باللَّذاتِ في النومِ حالمُ (*) لماذا يستبدلون الذي هو أدني بالذى هو خيرٌ؟ (والسبب الذي يجعل كثيرًا من الناس يطلبون الأدنى من الأمور، ويقصدون ما لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا -فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمَّة، فكلَّما صحَّ العلم، وانتفى الجهل، وصحَّت العزيمة، وعظمت الهمَّة؛ طلب الِإنسان معالي الأمور، فبعض الناس همُّه لقمة يسدُّ بها جوعته، وشَربة روية تذهب ظمأه، ولباس يواري سوأته- وهو مذهبٌ ذمَّ أهل الجاهلية أصحابه، وفي مثل هؤلاء يقول حاتم طيىء ¬

_ (*) "تهذيب مدارج السالكين" (2/ 945).

لَحَى (¬1) اللَّهُ صُعْلُوكًا (¬2) مُنَاهُ وَهَمُّهُ ... مِنَ الْعَيْشِ أنْ يَلْقَى لُبُوسًا وَمَطْعَمًا يَرَى الْخُمْص (¬3) تَعْذِيبًا وَإِنْ يَلْقَ شَبْعَةً ... يَبِتْ قَلْبُهُ مِنْ قِلَّةِ الهَمِّ مُبْهَمًا (¬4) ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا كحال طَرَفَة بن العبد)، فقد قيل له: ما أطيب عيش الدنيا؟ فقال: "مطعمٌ شهيٌّ، وملبسٌ دفيٌّ، ومركب وطيٌّ" وقال أيضًا مبينًا غايته من الحياة: (وَلولا ثَلَاثُ هُنَّ مِن عِيشَةِ الفتى ... وَجَدِّكَ (¬5) لَمْ أحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي (¬6) فَمِنْهُنَّ سَبْقي العَاذِلَاتِ (¬7) بِشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ (¬8) مَتَى مَا تُعْلَ بالمْاء تُزْبِدِ (¬9) وَكَرِّي (¬10) إذَا نَادَى المُضَافُ مُحَنَّبًا (¬11) ... كَسِيد (¬12) الْغَضَا (¬13) نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِ ¬

_ (¬1) قَبَّحَةُ. (¬2) فقيرًا. (¬3) خلو البطن. (¬4) خاليًا. (¬5) الجدُّ: الحظ والبخت. (¬6) جمع عائد من العيادة. (¬7) جمع عاذلة، والعذل: الملامة. (¬8) الكميت: اسم من أسماء الخمر فيها حمرة وسواد. (¬9) الزَّبَد: الرغوة. (¬10) الكر: العطف. (¬11) المحنب: الذى في يده انحناء. (¬12) السيد: الذئب. (¬13) الغضا: الشجر.

وَتَقْصِيرُ (¬1) يَوْمِ الدجنِ (¬2) وَالدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... بِبَهْكَنَةٍ (¬3) تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ (¬4) كثير من الناس همُّه من دنياه همُّ هذا الشاعر المسكين (¬5)، شَربة خمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من النَّاس تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف المستجير. وقد يكون مسعى الناس ومطلبهم أمورًا يعدُّ طالبها سامي الهمَّة عالي القصد كحال امرىء القيس، عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانقلب جادًّا طالبًا إعادة هذا الملك: فَلَوْ أنَّ مَا أسْعَى لأدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي وَلَمْ أطْلُبْ قَلِيلاً مِنَ الْمَالِ وَلَكِنَّمَا أسْعَى لِمَجْدٍ مؤثَّل ... وَقَدْ يدْرِكُ الْمَجْدَ المؤَثَّل أمْثَالِي ولقد طال تطلابه للملك، حتى قضى نحبه في طلبه: بَكَى صَاحِبي لَما رَأى الدَّرْبَ دونَهُ ... وَأيقَنَ أنَّا لَاحِقَانِ بِقَيْصَرَا ¬

_ (¬1) قصرت الشيء: جعلته قصيرًا. (¬2) الدجن: إلباس الغيم آفاق السماء. (¬3) البهكنة: المرأة الحسنة الخَلْق السمينة. (¬4) المعمد: المرفوع بالعمد. (¬5) وقد اقتدى به أبو نواس فقال: إنما العيش سماع ... ومدامٌ ونِدامُ فإذا فاتك هذا ... فعلى العيش السلامُ وهذا جميل بثينة شاعر قصر همته على ملاحقة النساء يجيب من أمره بالجهاد في سبيل الله: يقولون جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ ... وأي جهاد غيرهن أريدُ لكل حديثٍ بينهن بشاشةٌ ... وكلُّ قتيل عندهن شهيدُ

فَقلت لَه لَا تَبكِ عَينكَ إنَّمَا ... نُحَاوِل مُلْكًا أو تَمُوتَ فَنُعْذَرا لقد ضيَّع حياته أولاً في المتع والشهوات، وقضى شطر عمره الثاني في طلب الملك الضائع، وانتهت حياته، ولم يحصِّل مطلوبه، ومات كما مات المتنبي من بعده، طلبًا الملك والإمارة، فأعياهما الطلب) اهـ (¬1). بتصرف. وما أكثر الذين طلبوا الملك للرياسة، وألحوا في طلبه، فحامت حوله همتهم، وطافت به عزيمتهم: كان "الأبيوردي" يدعو عقب كل صلاة: "اللهم مَلِّكني مشارق الأرض ومغاربها" (¬2)، وله في ذلك الأشعار الفائقة، التي تكشف عن شخصية ونفسية شديدة الشبه بشخصية المتنبي. وقيل ليزيد بن المهلب: "ألا تّبني دارًا؟ "، فقال: "منزلي دار الإمارة أو الحبس". وقال آخر: وعِش مَلِكًا أو مُت كريمًا، وإن تمت ... وسيفُك مشهور بكفِّك تُعْذَرِ ... ¬

_ (¬1) "مقاصد المكلفين" للدكتور عمر الأشقر ص (366 - 368)، وهو من نفائس الكتب الجديرة بالمدارسة، لا يكاد يستغني عنه مسلم. (¬2) "فكر ومباحث" للشيخ علي الطنطاوي ص (196).

تفاوت الهمم حتى بين الحيوانات

تَفَاوتُ الِهمَّم ِحَتَّى بَين الحيواَنَاتَ تتفاوت الهمم في جميع الحيوانات: فالعنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتًا، ولا يقبل مِنَّة الأم، والحية تطلب ما حفر غيرها، إذ طبعها الظلم، والغراب يتبع الجيف، والصقر لا يقع إلا على الحِّي، والأسد لا يأكل البايت، والفيل يتملق حتى يأكل، والخنفساء تُطردُ فتعود. قال المُتَلَمِّس: إن الهوانَ حِمارُ البيت يَألفْه ... والحُرُّ يُنكِره والفيلُ والأسَدُ ولا يُقيم بدارِ الذلِّ يألفها ... إلا الذليلان عَيْرُ الحي والوتدُ هذا على الخَسْف مربوط بِرُمَّتِهِ ... وذا يُشَجُّ فما يأوِي (¬1) له أحدُ (¬2) ... ¬

_ (¬1) يأوي: يرق. (¬2) "بهجة المجالس وأنس المجالس" (1/ 238).

تفاضل الناس بتفاوفت هممهم

تَفَاضُل الناس ِبتفاوفت هِمَمهم قال الله تعالى: {إن سعيكم لشتَّى}. والهمة رزق من الله عز رجل، والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ومن حكمته سبحانه أن فاضل بين خلقه في قواهم العملية، كما فاضل بينهم في قواهم العلمية. على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارمُ وتعظم في عين الصغير صغارُها ... وتصغر في عين العظيم العظائم اجتمع عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبه، فقال لهم مصعب: "تمنَّوا"، فقالوا: "ابدأ أنت"، فقال: "وِلاية العراق، وتزوُّج سكَِينة ابنة الحسين، وعائشة بنت طلحهَ بن عبيد الله"، فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهَّزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحمل عنه الحديثُ، فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة، فنالها"، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة.

ويدل على تفاوت الهمم أن من الناس من ينشط للسهر في سماع سمر، ولا يسهل عليه السهر في سماع القرآن الكريم، ومنهم من يحفظ بعض القرآن، ولا يتوق إلى التمام، ومنهم من يعرف قليلًا من الفقه، ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليل، ومنهم من يطلب معالي الأمور، دون أن تكون له إرادة وسعي في تحقيقها، فهذا مغتر بالأماني الكاذبة: وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا ولو علت بهم الهمم لجدَّت في تحصيل كل الفضائل، ونَبَتْ عن النقص، فاستخدمت البدن، كما قال الشاعر: ولكل جسم في النُّحول بَلِيَّةٌ ... وبلاءُ جسمي من تفاوت همتي وقال المتنبي: وإذا النفوس كُنَّ كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسامُ آخر: وقائلةٍ: لِمْ غيرتك الهمومُ ... وأمرك ممتثل في الُأمَمْ فقلتُ: ذريني على غُصَّتي ... فإن الهمومَ بقدر الهِمَمْ لما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الخلافة خيَّر امرأته "فاطمة" بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت، وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال -رحمها الله. وقال له رجل: "تَفَرَّغ لنا يا أمير المؤمنين"، فأنشأ يقول:

قد جاء شغلٌ شاغل ... وعدلْت عن طرق السلامهْ ذهب الفراغ فلا فرا ... غَ لنا إلى يوم القيامهْ وقال الإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله-: الجسم يُذيبه حقوقُ الخِدمَهْ ... والقلب عذابه علوُّ الهمهْ والعمر بذاك ينقضى في تعب ... والراحة ماتت فعليها الرحمهْ ***

الباب الثاني خصائص كبير الهمة

الباب الثاني خصائصُ كبِير الِهمة يَا عَالي الهمَّة بِقَدر ِمَا تتعَنَّى، تنالُ مَا تتمنى إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب: بَصُرتُ بالراحة الكرى فلم أرها ... تُنال إلا على جسر من التعب آخر: فقل لِمُرَجِّي معالي الأمور ... بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا آخر: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يُفقر، والإقدامُ قتَّال آخر: والذي يركب بحرًا سيرى ... قُحَمَ الأهوالِ من بعِدِ قُحَمْ آخر: الذل في دَعَة النفوس ولا أرى ... عِزَّ المعيشة دون أن يُشْقىَ لها كان أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- يصوم حتي يعود كالخلال -العود الذي يخلل به الأسنان- فقيل له: "لو أجْمَمْتَ نفسك؟ " -أي:

تركتها تستريح- فقال: "هيهات! إنما يسبق من الخيل المُضَمَّرة". وقد قيل: من طلب الراحة، ترك الراحة. فيا وصل الحبيب أما إليه ... بغير مشقة أبدًا طريق قال الإمام المحقق -رحمه الله-: (وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة، فاتته الراحة، وأنَّ بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هَمَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلًا، استراح طويلًا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قادة لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله. وكلما كانت النفوس أشرف، والهمة أعلى، كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي: وإذا النفوسُ كُنَّ كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام وقال ابن الرومي: قلب يظل على أفكاره ويَدٌ ... تُمْضِي الأمورَ ونفسٌ لهوُها التعَبُ وقال مسلم في "صحيحه": (قال يحيى بن أبى كثير: "لا يُنال العلم براحة البدن"). ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب، وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، فأما في هذه الدار فكلا ولمَّا) (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) "مفتاح دار السعادة" ص (366 - 367).

قال الصديق أبو بكر رضي الله عنه: "والله ما نمتُ فحلمت، ولا توهَّمتُ فسهوت، وإني لعلى السبيل ما زغتُ"، أي: شغلته حروب الردة والفتوح وإرساء جهاز دولة الخلافة إلى حَدِّ أنه لا يتسنى له أن يستغرق في نومه، ولا يتاح له أن يحلم. وقالت فاطمة بنت عبد الملك في أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استُخلِف". وقال الِإمام أحمد لابنه في المحنة: "يا بنى! لقد أعطيتُ المجهود من نفسي". وقال الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله-: (كبير الهمة دومًا في عناء، وهو أبدًا في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ: لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولم تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن، ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لا بد منه، ويحب الإيثار، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرمُ البذل، وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى، وراحة القصير الهمة تعب وشين إن كان ثمة فهم) اهـ. ومصداقه في قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: أرى نفسي تتوق إلى أمور ... ويقصر دون مبلغهن حالي فنفسي لا تطاوعني ببخل ... ومالي لا يُبَلِّغُني فعالي وقيل للربيع بن خثيم: "لو أرحت نفسك؟ "، قال: "راحتَها أريد".

وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مثله سببُ قال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي: (دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: "يا أبا عبد الله: عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور" -كأني أسهل عليه الِإجابة- فقال لي أحمد بن حنبل: "إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد، فقد استرحت". وقد قيل للإمام أحمد: "متى يجد العبد طعم الراحة؟ "، فقال: "عند أول قدم في الجنة". أحزان قلبي لا تزول ... حتى أبشر بالقبول وأرى كتابى باليمين ... وتُسَرَّ عيني بالرسول قال الأمير شمس المعالي قابوس: "ابتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل بالسعي في الخطب الجليل". ونحن أناس لا توسط عندنا ... لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ تهون علينا في المعالي نفُوسُنا ... ومن خطب الحسناء لم يُغْلِه المهرُ وقال أحدهم لما عوتب لشدة اجتهاده: "إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، ولا أحب أن أُغبَنَ أيامى". انفضوا النوم وهُبُّوا للعلا ... فالعلا وقف على من لم ينم فالصلاةُ خير من النوم، والتجلُّد خير من التبلُّد، والمنية خير من الدنية، ومن عَزَّ بَزَّ: فثب وثبة فيها المنايا أو المنى ... فكل محب للحياة ذليل فترى عالي الهمة منطلقًا بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين بالصعاب، قال عمرو بن

العاص -رضي الله عنه-: "عليكم بكل أمير مَزْلَقة مَهْلَكَة" أي: عليكم بجسام الأمور دون خسائسها. وقال أمير المؤمنين معاوية -رضي الله عنه-: "من طلب عظيمًا، خاطر بعظمته". ذريني وأهوالَ الزمان أُعانِها ... فأهوالُها العظمى تليها رغائبه وقال كعب بن زهير: وليس لمن لم يركب الهولَ بُغْيَةٌ ... وليس لِرَحْل حَطَّه الله حامِلُ آخر: ذريني أنل ما لا يُنال من العُلا ... فصعب العلا في الصعب، والسهلُ في السهلِ تريدين إدراكَ المعالي رخيصة ... ولا بُدَّ دون الشَّهْدِ مِن إبر النحْلِ وقال الشريف الرضي: رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبدًا يُمانع عاشقًا معشوق وصبرتُ حتى نِلْتُهن ولم أقل ... ضجًرا: دواء الفارك (¬1) التطليق وعالي الهمة دائم الترحال في طلب مبتغاه حيث لاح له. آخر: هِمَمٌ تقاذفتِ الخطوبُ بها ... فهُرِ عن من بلدٍ إلى بلد آخر: إذا لم أجد في بلدة ما أريده ... فعندي لأخرى عَزْمَةٌ ورِكابُ وقال مالك بن الرَّيْب: وفي الأرض عن دار المذلة مذهبٌ ... وكلُّ بلادٍ أوْطِنَتْ كبلادي ولا يزال يطير إلى المعالي بجناح الهمة، لا يلوي على شيء، ¬

_ (¬1) الِفرك: هو بغض أحد الزوجين الآخر.

ولا يستفزه لوم اللائمين، ولا تثبيط القاعدين: سبقت العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة، علوِّ هِمَّهْ ولاح بحكمتي نور الهدى في ... ليالٍ للضلالة مُدْلهمهْ يريد الجاهلون ليطفئوه ... ويأبى الله إلا أنْ يُتِمَّهْ وقال الشماخ بن ضرار في عرابة الأوسي: رأيتُ عَرابةَ الأوسيَّ يسمو ... إلى الخيراتِ منقطعَ القرينِ إذا ما رايةٌ رُفعتْ لمجدٍ ... تلقَّاها عرابةُ باليمينِ وقال ابن نباتة السعدي: أعاذلتي على إتعاب نفسي ... ورعيي في الدجى روضَ السهاد إذا شام الفتى برقَ المعالي ... فأهونُ فائتٍ طِيبُ الرقاد ومن أراد الجنة سلعةَ الله الغالية لم يلتفت إلى لوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها: قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا} وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة" (¬1)، وقدر السلعة يُعرف بقدر مشتريها، والثمن المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيمًا، والثمن خطيرًا، والمنادي جليلاً؛ كانت السلعة نفيسة: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}. أنت يا مفتون ما تبرح في بحر المنام ... فدع السهو وبادر مثل فعل المستهامِ وسح الدمع على ما أسلفته ... وابك ولا تلو على عذل الملام أيها اللائم دعنى لست أصغي للملام ... إنني أطلب ملكًا نيله صعب المرام ¬

_ (¬1) رواه الترمذي، وقال: "حسن غريب"، والحاكم، وصححه، وأقره الذهبي.

في جنان الخلد والفردوس في دار السلام ... وعروسًا فاقت الشمس مع بدر التمام طرفها يشرق بالخط مضيًا بالسهام ... ولها صدغ على خد كتون تحت لام أحسن الأتراب قدًّا في اعتدال وقوام ... مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام وقد لا يتسنى له إدراك بغيته، وتحقيق غايته لأمور خارجة عن إرادته، فلا يفل ذلك من عزيمته، ولا يحط من همته، بل يعزي نفسه أنه أدَّى ما عليه، وأعذر إلى نفسه: * ومُبْلِغُ نفسٍ عُذرَها مِثْلُ مُنْجِح * قال الطائي: وركب كأطراف الأسنة عرَّسوا ... على مثلها، والليل تسطو غياهِبُهْ لأمرٍ عليهم أن تتم صدورُه ... وليس عليهم أن تتمَّ عواقبه وقال آخر: سأضرب في طول البلاد وعوضها ... أنال مرادي أو أموت غريبا فإن تلفت نفسي فلله دَرُّها ... وإن سلمت كان الرجوع قريبا آخر: عَجِبْتُ لهم قالوا: تماديت في المنى ... وفي المثُلِ العُليا، وفي المرتقى الصعبِ فالقصر، ولا تُجْهِدْ يراعَك إنما ... ستبذر حَبًّا في ثرًى ليس بالخصبِ فقلت لهم: مهلاً، فما اليأس شيمتي ... سأبذر حَبي، والثمارُ من الربِّ إذا أنا أبلغت الرسالة جاهدًا ... ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي (*)؟ ¬

_ (*) فالداعية العالي الهمة يتمثل دومًا قول الصالحين قبله: {معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون}، فإن لم يستطع الدعاة تحقيق كل غاياتهم فحسبهم أنهم كانوا كما قال سيد قطب رحمه الله: (أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عملوا وقبضوا الأجير المعلوم! وليس لهم، ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر، لا شأن الأجير)، وحسبهم أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والثلاثة، وقد يأتي نبي وليس معه أحد، قال تعالى: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظًا إن عليك إلا البلاغ} وقال تعالى: {ليس عليك هداهم} الآية. ...

كبير الهمة لا ينقض عزمه

كبير الهمة لا ينقض عزمه قال تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله}. وامتدح سبحانه الصالحين بقوله: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق}، وقال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلاً}. ولما أشار الشباب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل غزوة أحد - بالخروج إلى المشركن ومقاتلتهم خارج المدينة، نزل - صلى الله عليه وسلم - على رأيهم، وبعد أن صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين، دخل إلى منزله، فتدجج بسلاحه، فظاهر بين درعين، ثم خرج على قومه بكامل عدته الحربية، وأذن فيهم بالخروج إلى العدو، وكان ذوو الرأي قد ندموا حين شعروا أنهم استكرهوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على اتباع خطة لمقاتلة العدو، كان يفضل غيرها، فقالوا له: "ما كان لنا أن نخالفك، ولا نستكرهك على الخروج، فاصنع ما شئت، امكث كما أمرتنا"، فلم يرض أن ينقض همته، وقال لهم مصممًا على الخروج: "ما ينبغي لنبى إذا لبس لأمَتَه -أي: كامل سلاحه- أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الطبري، وأحمد، والبيهقي، وهو حسن بطرقه.

وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرسلت الأنصار عمر إلى أبي بكر ليحبس الجيش، أو ليولي عليهم رجلًا أقدمَ سِنًّا من أسامة، فقال أبو بكر: "والله لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرُدَّه ما رددتُه، ولا حللت لواءً عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، فقال عمر: "إن الأنصار أمروني أن أبلغك، وهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنًّا من أسامة"، فوثب أبو بكر -وكان جالسًا- فأخذ بلحية عمر، فقال: "ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتأمرني أن أنزعه! ". فخرج عمر إلى الناس، فقالوا له: "ما صنعت؟ " فقال: "امضوا، ثكلتكم أمهاتكم، حسبي ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله". -وحين جاءه عمر في حروب الردة يقول: "تألف الناس، وارفق بهم"، فقال أبو بكر: "رجوت نصرتك، وجئتني بخذلانك!! أجبار في الجاهلية، وخوار في الِإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي، وتم الدين، أوَ يَنْقُص وأنا حي!! ". قال عمر: "فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق". وكان هذا المبدأ -وهو عدم نقص العزم- هو ما اعتمده فريق من الهاجرين -رضي الله عنهم- حين استشارهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأخبرهم أن الوباء وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: "خرجتَ لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه" (¬1). ¬

_ (¬1) هذا هو الشاهد بغض النظر عن ارتفاع خلافهم بعدُ بقياس عمر، ثم بحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وانظر: "فتح البار" (10/ 179)، "وصحيح مسلم" (2219).

- وقال جعفر الخلدي البغدادي: "ما عقدتُ لله على نفسي عقدًا، فنكثته". - وقال صالح بن الإمام أحمد بن حنبل. (عزم أبي على الخروج إلى مكة، ورافق يحيى بن معين، فقال أبي: "نجح، ونمضي إلى صنعاء إلى عبد الرزاق"، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا، ثم جئنا إلى عبد الرزاق، فسلم عليه يحيى، وقال: "هذا أخوك أحمد بن حنبل"، فقال: "حياه الله، إنه ليبلغني عنه كل ما أسر به، ثبته الله على ذلك"، ثم قام لينصرف، فقال يحيى: "ألا نأخذ عليه الموعد؟ "، فأبى أحمد، وقال: "لِمَ أغير النية في رحلتي إليه؟ "، أو كما قال، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع منه الكتب، وأكثر عنه). - وقال الحافظ أبو إسحاق الحبال: (كنتُ يومًا عند أبي نصر السِّجزي، فدُقَّ الباب، فقُمتُ ففتحتُه، فَدَخَلَت امرأة وأخرَجتْ كيسًا فيه ألفُ دينار، فوضعَتْه بين يدي الشيخ، وقالت: "أنفِقْها كما ترى"، قال: "ما المقصود؟ "، قالت: "تتزوَّجُني، ولا حاجة لي في الزواج، ولكن لأخدمك"، فأمَرَهَا بأخذ الكيس، وأن تنصرف. فلما انصرفَتْ، قال: "خرجتُ من سِجسِتْان بِنيّةِ طلب العلم، ومتى تزوَّجتُ سقَطَ عني هذا الأسم، وما أُوثِرُ على ثواب طلب العلم شيئًا"). ***

علام يندم كبير الهمة؟

عَلَامَ يندَم ُكبَيرُ الهِمَّةَ؟ إن كبير الهمة كائن متميز في كل خصائصه، حتى في ندمه، فبينما يندم خسيس الهمة لفوات لذاته، أو يتحسر لفراق شهواته، فإن لكبير الهمة شأنًا آخر حتى وهو يندم، كما تنبىء عنه المواقف التالية: - فهو يتحسر على ساعة مرت به في الدنيا، لا لأنه عصى الله فيها، وإنما لأنه لم يعمرها بذكر الله -عز وجل-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس يتحسر أهل الجنة على شيءٍ، إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -عز وجل- فيها". وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا حتى يُصَلَّى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن (وفي رواية: حتى يُفرغ منها) فله قيراطان من الأجر"، قيل: "يا رسول الله وما القيراطان؟ "، قال: "مثل الجبلين العظيمين"، (وفي رواية: كل قيراط مثل أحد)، وكان قد أخذ ابن عمر قبضة من حصى بالمسجد يقلبها في يده، فلما بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله، ضرب بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: "لقد فرطنا في قراريط كثيرة". - وهذا سيف الله المسلول "خالد بن الوليد" -رضي الله عنه -. يتحسر لموته على فراشه، فقد قال لما حضرته الوفاة: "لقد شهدت كذا، وكذا زحفًا، وما في جسدي موضع إلا وفيه

ضربة سيف أو طعنة رمح، أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي حتفَ أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء". - وكان أبو محجن الثقفي مُولعًا بالشراب، مشتهرًا به، وكان سَعْدُ بن أبي وقَّاص حبسه فيه، فلمَّا كان يومُ القادِسيَّة وبلَغه ما يفعل المشركون بالمسلمين، وهو عند أمِّ ولدٍ لسَعْدٍ، قال: كفَى حَزَنًا أن تُطْعَنَ الخَيْلُ بالقَنَا ... وأترَكَ مَشْدُودًا عليَّ وَثَاقيَا إذَا قُمْتُ عَناني الحَديدُ وغُلِّقَت ... مَغَالِيقُ من دُوني تُصِمُّ المُنَادِيَا وقد كُنْتُ ذَا أهْلٍ كَثير وإخْوَةٍ ... فَقَدْ تَرَكُوني واحدًا لَّا أخا ليَا هَلَُمَّ سِلَاحي، لا أبا لَكَ، إِننيْ ... أرى الحَرْبَ لا تَزْدَادُ الا تَمَاديَا فقالت له أمُّ ولد سعدٍ: "أتَجْعَلُ لي إنْ أنا أطلقتُك أن ترجعَ حتَّى ْأُعيدَكَ في الوَثاق؟! " قال: "نعم"، فأطلقَتْه، وركب فرسًا لسعْدٍ بَلْقاءَ، وحَمَل على المشركين، فجعل سعد يقول: "لولَا أنَ أبا مِحْجَن في الوَثاق لظننتُ أنَّه أبو محجن وأنَّها فَرسي"، وانكشف المشركون، وجاءَ أبو محجن فأعادتْه في الوَثاق، وأتت سعدًا فأخبرتْه، فأرسل إلى أي محجن فأطلقَه، وقال: "والله لا حبستُك فيها أبدًا"، قال أبو محجن: "وأنا واللهِ لا أشربُها بعدَ اليوم أبدًا". - وعن قتادة أن عامر بن قيس لما حُضِر جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال.: "ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمإ الهواجر، وعلى قيام ليالي الشتاء". - وذكروا لشعبة حديثًا لم يسمعه، فجعل يقول: "واحزناه! "، وكان يقول: "إني لأذكر الحديث، فيفوتني، فأمرض". كم فرصةٍ ذهبت فعادت غُصَّةً ... تشجى بطول تلهف وتندُّم

وقال القاسم بن سلام: (دخلت البصرة لأسمع من "حماد بن زيد"، فإذا هو ميت، فشكوت ذلك إلى "ابن مهدي"، فقال لي: "مهما سُبِقْتَ، فلا تُسْبَقَنَّ بتقوى الله"). وكان مالك بن يخامر السكسكي من تلاميذ معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقد عاش ما عاش ناقلاً من روح معاذ إلى روحه، ومن قلب معاذ إلى قلبه، ومن عقل معاذ وإيمانه إلى عقله وإيمانه، فلما حضرت معاذا لوفاةُ بكى، فقال له معاذ: "ما يُبكيك؟ "، قال: "والله ما أبكي على دنيا كنتُ أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أستفيدهما منك"، فأجابه معاذ وهو يجود بروحه: ْ "إن العلم والِإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما". - ولما حج أبو بكر السمعاني والسِّلَفُّي ظفرا بأبي مكتوم عيسى بن أبي ذر، فتهاونا، فسارع في النفر الأول، ورجع إلى موطنه سراة بني شبابة، وفاتهما، فتحزَّن تاج الِإسلام أبو بكر، فأخذ السلفي يُسَلّيه، ويقول: (ما كان معه سوى "صحيح البخاري"، وأنت في إسناده مثله). - واقتنى الشيخ جمال الدين بن القفطي نسخة حميلة من كتاب "الأنساب" للسمعاني حُرِّرت بيد المؤلف، إلا أن فيها نقصًا، وبعد الاطِّلاب المديد، والافتقاد الطويل حصل على الناقص، إلا على أوراق بلغه أن قلانسيًّا قد استعملها في شغله، وجعلها قوالب للقلانس، فضاعت، فتأسف غاية التأسف على هذا الضياع، حتى كاد يمرض، وامتنع أيامًا عن خدمة الأمير في قصره، فصارت عِدَّة من الأفاضل والأعيان يزورونه تعزية له، كأنه قد مات أحدُ أقاربه المحبوبين. ***

يا كبير الهمة: لا يضرك التفرد فإن طرق العلاء قليلة الإيناس

يا كبير الهمة: لا يضرك التفرد فإن طرق العلاء قليلة الإيناس إن كبير الهمة على الإطلاق من يتحرى الفضائل، لا للذة، ولا لثروة، ولا لاستشعار نخوة، واستعلاء على البرية، بل يتحرى مصالح العباد شاكرًا بذلك نعمة الله، وطالبًا به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قلَّ المساعد، وطرق العلاء قليلة الِإيناس. أَهُمُّ بشيء والليالي كأنها ... تطاردني عن كونها وأُطارِدُ فريدٌ عن الخِلَّان في كل بلدة ... إذا عَظُم المطلوبُ قلَّ المساعِدُ عن ابن جدعان قال: (سمع عمر رجلًا يِقول: "اللهم اجعلني من الأقلين"، فقال: "يا عبد الله! وما الأقلون؟ "، قال: سمعت الله يقول. {وما آمن معه إلا قليل}، {وقليل من عبادي الشكور}، وذكر آيات أخر، فقال عمر: "كل أحد أفقه من عمر"). وقال سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبل الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها". وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين".

وقال سليمان الداراني: "لو شك الناس كلهم في الحق، ما شككت فيه وحدي". وقال بعض الصالحين: "انفرادك في طريق طلبك، دليل على صدق الطلب". فعالي الهمة ترقى في مدارج الكمال بحيث صار لا يأبه بقلة السالكين، ووحشة الطريق لأنه يُحَصِّل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة (¬1)، وإلا انقطع به السبيل. [إن أول ثمرات العزة الإيمانية التي يحسها المؤمن: إدراكه ما في الإسلام من قوة الحقيقة التي يكفي لكي تعلن عن نفسها أن تتمثل في فرد واحد، وما في الآراء الجاهلية المخالفة من زيف الباطل، واحتياجها إلى سواد كثير، وعدد كبير من الأفراد، يأسر منظرهم كل ساذَج، فيغتر، وينطلي زيف الباطل عديه، دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال. ¬

_ (¬1) وتوضيح ذلك بمراتب الدين فهي ثلاثة كما جاء في حديث جبريل: "الإسلام، والإيمان، والإحسان، فالإسلام أخص من الإيمان من حيث المعنى، لكنه أعم من حيث الأفراد، والإيمان أخص من الإحسان من حيث المعنى، لكنه أعم من حيث الأفراد، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا، وليس كل مؤمن محسنًا، وفي هذه المراتب درجات ودرجات، فكلما ارتفع السالك درجة شعر بقلة في السالكين، فإذا لم يكن قد حصل مع ارتفاع كل درجة من الأنس بالله بقدر شعوره بقلة السالكين في هذه الدرجة، لاستولى عليه الشعور بالوحشة، فأحسن أحواله حينئذ أن ينقطع عن الرقي أو يمله وهو بذلك مغبون، وإما أن يعود القهقرى، وهو في هذه الحالة خاسر مردود، فلا ييأس، وليعاود السير عساه أن يربح فلا يخسر أبدًا.

ومن ها هنا رأينا تمثل الأمة الإسلامية أكثر من مرة بمؤمن واحد فقط، كما قال الله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفا} قال ابن تيمية: "أي: كان مؤمنًا وحده، وكان الناس كفارا جميعًا") (¬1) وفي "صحيح البخاري" أنه قال لزوجه سارة: "يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك". ثم كما تمثلت حينًا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحده] (¬2)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أوذيتُ في الله وما يؤذى أحد، وأخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عَليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة، ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال". [صحيح]. فمن ثم (انسدَّ باب شعور المؤمن بالغربة، فهو -لأنه يمثل الإيمان والحقيقة- يشعر بأن الناس حميعًا، وهم في ضلالهم هم الغرباء التائهون، ولذلك، فإنه لما توهم واهم، فوصف عبد الوهاب عزام بالغربة، كان جوابه سريعًا، فقال: قال لي صاحب: أراك غريبًا ... بين هذا الأنام دون خليلِ قلت: كلا، بل الأنام غريب ... أنا في عالمي، وهذي سبيلي) (¬3) ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (11/ 436). (¬2) "المنطلق" ص (235). (¬3) "المنطلق" ص (236)، وقال مؤلفه الأستاذ الفاضل محمد أحمد الراشد -حفظه الله-: (أما غربة الغرباء الذين ذكروا في الحديث الشريف "طوبى للغرباء"، فهى غربة بالنسبة للواقع، أي: لندرتهم وقلتهم بين غثاء ضال، أما في عالم الضمير والشعور، فإن للمؤمن الفرد من إيمانه أنيسًا ورفيقًا وخليلًا يبعد الغربة) اهـ.

وكبير الهمة -كما يقول الامام المحقق ابن القيم -رحمه الله تعالي-: (لا يكترث بمخالفه الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرًا، وإن كانوا الأكثرين عددًا، كما قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين" وكلما استوحشت في تفردك؛ فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغُضَّ الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك، وعاقوك) (¬1) اهـ. والملتفت لنعيق الباطل كالظبي، و "الظبي أشد سعيًا من الكلب، ولكنه إذا أحسَّ به؛ التفت إليه، فيضعف سعيه، فيدركه الكلبُ، فيأخذه" (¬2). وقال الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في هذا المعنى: أخي فامضِ لا تلتفت للوراءْ ... طريقك قد خَضبَّتْهُ الدماءْ ولا تلتفت ها هنا أو هناك ... ولا تتطلع لغير السَّماء ... ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 21). (¬2) "السابق" (1/ 22).

أحوال خسيس الهمة

أحَوالُ خَسِيس الِهمَّةَ إن الإنسان المسمى بالحيوان الناطق موضع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي، وبين صفات وصفاء العالم العلوي: فَيَحِنُّ ذاك لأرضه بِتَسَفُّلِ ... ويحن ذا لسمائه بتصعُّدِ قال أحمد بن خِضرويه: "القلوب جوالة: فإما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحُشِّ"، وقال بعضهم: "نزول همة الكسَّاح؛ دلَّاه في جُبِّ العَذِرَةِ" (¬1). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعدَّ للاستفراخ كمن هيىء للسباق". خلق الله للحروب رجالاً ... ورجالاً لقصعة وثريدِ فإن رفض ذلك الإنسان الارتقاء إلى عِليين، وعشق الظلمة، ومقت النور، وأبى إلا أن يهبط بنفسه إلى وَحْل الشهوات، فتمرَّغ فيها، وانحطَّ إلى نزوات الحُمُر، وسفاسف الأمور، ونزغات الشياطين، وتثاقل إلى الأرض؛ سقط إلى سِجِّين، وما أدراك ما سجين، وانحدر دون مرتبة ذوات الحوافر، قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}، وقال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ¬

_ (¬1) أي: أنه لما كسل عن تعلم حرفة أو علم ينتفع به، ويكرمه بين الناس؛ لم يكن أمامه إلا النزول إلى الجُبِّ لتنظيفه من الغائط.

والنار مثوى لهم}. فهم كالأنعام ليس لهم هَمٌّ إلا تحصيل الشهوات: كالعير ليس له بشيء همَّةٌ ... إلا اقتضام القَضْبِ (¬1) حول المِذودِ (¬2) كما أن الأنعام تسهو، وتلهو بالطعام، وتغفل عن عاقبة النحر والذبح بعده، وهوًلاء أيضا ساهون عما في غدهم. وهم أضل من الأنعام، لأنها تبصر منافعها ومضارها، وتتبع مالكها، وهم بخلاف ذلك، قال عطاء: "الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه". وصف سعد بن معاذ -رضي الله عنه- المشركين، فقال: "رأيت قومًا ليس لهم فضل على أنعامهم، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم: قوم يعرفون ما جهل أولئك، ويشتهون كشهوتهم". وإنك إن أعطيت بطنك سُؤْلَه ... وفرجَكَ نالا منتهى الذم أجمعا وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "إياكم والبِطْنَة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة"، ووصف الشاعر أكولًا، يستغرق حياته في نهمه وشهوته، فقال: عريضُ البِطانِ (¬3) جديد الخوان ... قريب المَراث (¬4) من المرتعِ فنِصفُ النهارِ لكِرْياسِه (¬5) ... ونِصفٌ لمأكلِهِ أجمعِ وعن محمد بن الحنفية قال: "من كَرُمت عليه نفسه، هانت عليه ¬

_ (¬1) القَضْب: ما أكل من النبات المقتَضَب (المقطوع) غَضًّا. (¬2) المِذْوَد: مُعْتَلَف الدابة. (¬3) أصل البطان: حزام القتب الذي يجعل تحت بطن الدابة، ولعله يريد به كبر بطنه. (¬4) المراث: مكان الروث. (¬5) الكِرياس: الكنيف الذى يكون مشرفًا على سطح بقناة إلى الأرض.

الدنيا"، وقيل لمحمد بن واسع: "إنك لترضى بالدون"، قال: "إنما رضي بالدون مَن رضي بالدنيا". يا خاطبَ الدنيا إلى نفسها ... تنحَّ عن خِطبتها تَسْلم إن التي تخطبُ غرَّارة ... قريبةُ العُرْس من المأتم وسفلة الهمم هؤلاء هم الذين أخبر عنهم الصادق المصدوق بقوله: "وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْر (¬1) له، الذين هم فيكم تبعًا، لا يبغون أهلًا ولا مالًا" (¬2) الحديث، فهو قانع بكونه ذيلًا، ومسبوقًا، وتابعا، فارٌّ من المسئولية وتبعاتها. ففيهم يقول الشاعر: شبابٌ قُنَّعٌ لا خير فيهم ... وبُورِك في الشباب الطامحينا وهم "الغثاء" الذين أخبر عنهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ("يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكَلة إلى قصعتها"، فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟ " قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوَهَن"، فقال قائل: "يا رسول الله وما الوهن؟ " قال: "حب الدنيا، وكراهية الوت") (¬3). وفيهم قال الشاعر: ¬

_ (¬1) أي: لا عقل له يمنعه مما لا ينبغي، وقيل: هو الذي لا مال له. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه أبو داود، وغيره، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (958).

وأفتح عيني حين أفتحها ... فأرى كثيرًا، ولكن لا أرى أحداً فهم كَسَقَطِ المتاع، موتهم وحياتهم سواء، وفيهم يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "لا يدرون لم خلقوا، ولا المراد منهم، وغاية همتهم: حصول بغيتهم من أغراضهم، ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم، يبذلون العِرْضَ دون الغرض، ويؤثرون لذة ساعة، وإن اجتلبت زمان مرض، يلبسون عند التجارات ثياب محتال، في شعار مختال، ويُلبِّسون في المعاملات، ويسترون الحال، إن كسبوا: فشبهة، وإن أكلوا: فشهوة، ينامون الليل وإن كانوا نيامًا بالنهار في المعنى (¬1)، ولا نوم بهذه الصورة، فإذا أصبحوا، سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير، وتبصيص كلب، وافتراس أسد، وغارة ذئب، وروغان ثعلب، ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى، لا على عدم التقوى، ذلك مبلغهم من العلم" اهـ. كلما همَّ أحدهم أن يسمو إلى المعالي، ختم الشيطان على قلبه: "عليك ليل طويل، فارقد"، وكلما سعى في إقالة عثرته، والارتقاء بهمته، عاجلته جيوش التسويف والبطالة والتمني، ودعثرته، ونادته نفسه الأمارة بالسوء: "أنت كبر أم الواقع؟ ". ¬

_ (¬1) وفي هذا المعنى يقول الشاعر: يخبرني البواب أنك نائم ... وأنت إذا استيقظت أيضًا فنائمُ ويقول الشاعر واعظًا من أدمن هذا النوع من النوم: فحتام لا تصحو وقد قرب المدى ... وحتام لا ينجاب عن قلبك السكْرُ بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا ... وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر

لا تطلب المجد واقنع ... إن المجد سُلَّمه صعب آخر: دَع المكارم لا ترحل لبُغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فبقي مستكينًا يرزح تحت وطأة الشهوات، ويجبن عن أن يثور على واقعه (¬1)، أو أن يفك وَثاق همته: ومن يتهيب صعود الجبال ... يَعِشْ أبد الدهر بين الحُفَر وإن نازعته نفسه إلى طلب المعالي، والارتقاء بهمته، واقتحام الأهوال، والتخلي عن البَطالة والعجز والكسل، زجرها قائلًا: ذريني تَجِئْني مِيتتي مطمئنةً ... ولم أتقحَّمْ هولَ تلك المواردِ فإن كريمات المعالي مَشُوبة ... بمستودَعات في بطون الأساودِ (¬2) وفي شأنهم وأمثالهم يقول الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: ¬

_ (¬1) وقد ضرب بعض العلماء مثلًا لخسيس الهمة، فقال: هب أن الكلب قال للأسد: "يا سيد السباع! غيِّر اسمى فإنه قبيح"، فقال له: "أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم"، قال: "فجربني"، فأعطاه شقة لحم، وقال: "احفظ لي هذه إلى غدٍ، وأنا أغير اسمك"، فجاع، وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر، فلما غلبته نفسه، قال: (وأي شيء باسمي؟!، وما "كلب" إلا اسم حسن)، فأكل. قال ابن الجوزي -رحمه الله- معلقًا: (وهكذا خسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على أجل الفضائل .. فالله الله في حريق الهوى إذا ثار، وانظر كيف تطفئه) اهـ. (¬2) أساود: جمع أسود، وهو العظيم من الحيات، وفيه سواد، وهو أخبثها وأنكاها.

(لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرَّعاع، الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد، فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء) (¬1) اهـ. وقال أيضًا -رحمه الله- في الذين حُرِموا العلم والبصيرة، والهمة والعزيمة: (هم الموصوفون بقوله تعالى: {إن شَرَّ الدُّوَابِّ عند اللهِ الصم البكم الذين لا يعقلون}، وبقوله: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً}، وبقوله: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء} وبقوله: {وما أنت بمُسمعٍ من في القبور}. وهذا الصنف شر البرية، رؤيتهم قذى العيون، وحُمَّى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، وينطقون، ولكن عن الهوى ينطقون، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويتفكرون ويبيتون، ولكن ما لا يرضى من القول، ويدعون، ولكن مع الله إلهًا آخر يدعون، ويحكمون ولكن حكم ¬

_ (¬1) "مفتاح دار السعادة" (1/ 134).

أصدق الأسماء حارث، وهمام

الجاهلية يبغون، ويقولون: إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، فهذا الضرب: ناس بالصورة، وشياطين بالحقيقة، وجلهم إذا فكرت لها حمير أو كلاب أو ذئاب، وصدق البحتري في قوله: لم يبق من جل هذا الناس باقية ... ينالها الوهم إلا هذه الصور وقال آخر: لا تخدعنك اللحاء والصور ... تسعة أعشار مَن ترى بقر في شجر السِّدْر منهم مثل ... لها رواء ومالها ثمر وأحسن من هذا كله قوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة}، عالِمهم كما قيل: زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير -إذا غدا ... بأوساقه أو راح- ما في الغرائرِ وأحسن من هذا وأبلغ وأوجز وأفصح قوله تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}) اهـ. أصدق الأسماء حارِث، وَهَمَّام (الناس حميعًا مؤمنون وكفار لا بد لهم من مراد يقصدونه، ويتوجهون إليه، على ذلك فطرهم الله، فالإنسان دائم الهم والإرادة، دائب العمل والحركة، ولذلك كان "أصدق الأسماء: حارث، وهمام" كما ورد في الحديث (¬1)، لأن كل إنسان حارث: بمعنى ¬

_ (¬1) أصل الحديث رواه ابن وهب الجشمي -رضي الله عنه-، وقد رواه البخارى =

كاسب، وكل إنسان همَّام: أي كثير الهم والإرادة. فالإنسان مجبول على أن يقصد شيئًا، ويريده، ويستعينه، ويعتمد عليه في تحصيل مطلبه، قد يكون هو الله، وقد يكون غيره، ولكن الإنسان لا يمكن إلا أن يكون كذلك، أي له مراد يقصده، ويتوجه إليه. والسبب في ذلك أن الإنسان فقير إلى غيره محتاج اليه، كي يَسُدَّ نقصه، ويكمل عجزه، ويحصل حاجته، وفقره هذا دائم لا يتوقف، ولا ينقطع. ومن عجائب الإنسان أنه إذا أراد شيئاً من المخلوقات، ثم حصل عليه مَلَّه، وطلب غيره، أو أكثر منه، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثًا" (¬1)، فالنفس الإنسانية دائمة التطلاب لما لم تحصل عليه، ولم تصل إليه، وليس هناك مِن شيء يمكن أن يسدَّ فقرها وحاجتها إلا أن تصل إلى ربها ومعبودها، فتعرفه، وتقصده دون سواه، عند ذلك يجد القلب مطلوبه، وتحصل النفس على مرادها، فيكون الاطمئنان والراحة والهناء، وفي ذلك يقول رب العزة: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، فليس هناك ما يمكن أن يجلب الطمأنينة إلا الوصول إلى الرب المعبود معرفة وقصدًا وتوجهًا) (¬2) اهـ. ¬

_ = في "الأدب المفرد" وانظر "السلسلة الصحيحة" (1040). (¬1) متفق عليه، وفي آخره: "ولا يملأ جوفَ ابنِ آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" أي: لا يزال حريصًا على الدنيا حتى يموت، ويمتلىء جوفه من تراب قبره، إلا من وفقه الله وعصمه من الحرص المذموم. (¬2) "مقاصد المكلفين" ص (365 - 366).

لقد كان يسبي القلبَ في كل ليلة ... ثمانون بل تسعون نفسًا وأرجحُ يهيم بهذا ثم يألف غيره ... ويسلوهم من فوره حين يصبح وقد كان قلبي ضائعًا قبل حبكم ... فكان بحب الخلق يلهو ويمرح فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن خبائك يبرح وكم مشتر في الخلق قد سام قلبه ... فلم يره إلا لحبك يصلح هوى غيركم نارٌ تلظى ومحبس ... وحبكم الفردوس أو هو أفسحُ فيا ضَيمَ قلب قد تعلق غيركم ... ويا رحمة مما يجول ويكدح (¬1) (والنفس في طلب مرادها مترقية متسامية، تطلب الأكمل والأفضل، والكمال كله والفضل كله حازته الذات الإلهية، فإذا وجَّه الإنسانُ قصده وهمته لغير فاطره، فإنه يشقى ولا بد، لأن همومه تتعدد، وغاياته تتشتت، فإذا لم يكن هم العبد همًّا واحدًا تقاسمته هموم الدنيا، فعند ذلك لا يدري إلى أين يسير؟ ولا كيف يتجه؟ فمرة يُشَرِّقُ، ومرة يُغَرِّبُ، ومرة يعبد صنمًا، وأخرى شمسًا وقمرًا، ويحاول إرضاء هذا مرة، وذاك مرة، والذى رضي عنه قد يغضب عليه، والذي زيَّن له العمل قد يستقبحه منه بعد حين، فيئول الأمر به إلى الصراع، والقلق الروحي، والعقد النفسية، وقد ينتهي به إلى الانتحار. أما المسلم فغايته واحدة، ومنهجه الذي يؤدى إلى هذه الغاية واحد، وهو قادر على أن يرضي الله، ويسير على هداه، وبذلك تتوحد همته، ويتحقق مطلوبه، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت نيته ¬

_ (¬1) "طريق الهجرتين" ص (17 - 18).

علوية الروح وسفلية البدن

الآخرة، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلبُ الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتَّت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كُتِب له") (¬1) اهـ. ومُشَتَّتُ العزمات ينفق عُمره ... حيران لا ظَفَرٌ ولا إخفاق عُلوِيَّةُ الرَّوحَ وَسُفِليَّةُ البدَنِ ْقال الإمام المحقق "ابن القيم " -رحمه الله تعالى-: (خُلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما، فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة، وجدت روحه خفة وراحة، فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي، وإذا أشبعه، ونعَّمه، ونوَّمه، واشتغل بخدمته وراحته، أخلد البدن إلى الموضع الذى خُلق منه، فانجذبت الروح معه، فصارت في السجن، فلولا أنها ألفت السجن، لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه، كما يستغيث المعذب. وبالجملة: فكلما خف البدن؛ لطفت الروح، وخفت، وطلبت عالمها العلوي، وكلما ثقل وأخلد إلى الشهوات والراحة؛ ثقلت الروح، وهبطت من عالمها، وصارت أرضية سفلية، فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى، وبدنه عندك، فيكون نائمًا على فراشه، وروحه عند سدرة المنتهى، تجول حول العرش، وآخر واقف في الخدمة ببدنه، وروحه في السفل تجول حول السفليات، فإذا فارقت الروح ¬

_ (¬1) "مقاصد المكلفين" ص (371) بتصرف.

البدن، التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى، فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين، وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة، ومعيشة ضنك، قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا}، فذِكره: كلامه الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والِإعراض عنه: ترك تدبره والعمل به، والمعيشة الضنك: فأكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر، قاله ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس -رضي الله عنهم-؛ وفيه حديث مرفوع؛ وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة، فإن النفس كلما وسَّعْتَ عليها، ضَيَّقْتَ على القلب حتى تصير معيشة ضنكًا، وكلما ضيقت عليها، وسَّعت على القلب حتى ينشرح وينفسخ، فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى؛ سَعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآَثِرْ أحسن المعيشتين، وأطيبهما، وأدومهما، وأشْقِ البدن بنعيم الروح، ولا تُشْقِ الروح بنعيم البدن، فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون، والله المستعان) (¬1) اهـ. ... ¬

_ (¬1) "الفوائد" ص (133 - 134).

عالي الهمة لا يقنع بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور

عَالِي الِهمَةِ لَا يَقنعَ بِالدوَنِ ولَا يُرضيه إلَا معالي الأمُورِ الهمم الغالية لا تعطي الدنية، ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور: قلت للصقر وهو في الجو عالٍ ... اهبط الأرضَ فالهواءُ جديب قال لي الصقر: في جناحي وعزمي ... وعَنانِ السماء مرعًى خصيب وهذا المرعى لا شك يجهله الأرضيون، حيث ثقلة التراب، ومطامع الأرض. إذا ماكنت في أمرٍ مَروم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم وقال صفي الدين الحِلِّي: لا يَظهر العجر منا دون نيل مُنى ... ولو رأينا المنايا في أمانينا وقال الباروديُّ: فانهض إلى صَهَواتِ (¬1) المجد معتليا ... فالبازُ (¬2) لم يأو إلا عالي القُلَلِ (¬3) ودع من الأمر أدناه لأبعده ... في لُجَّة البحر ما يغني عن الوَشَلِ (¬4) ¬

_ (¬1) مقعد الفرس: أي: ذرى المجد. (¬2) الصقر. (¬3) قمم الجبال. (¬4) الماء القليل.

قد يظفر الفاتك (¬1) الألوي (¬2) بحاجته ... ويقعدُ العجزُ بالهيَّابةِ (¬3) الوكلِ (¬4) إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئًا في الدنيا فسوف يكون زائدًا عليها، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة، بل لا بد أن يكون في صلبها ومتنها عضوًا مؤثرًا: وما للمرء خيرٌ في حياة ... إذا ما عُدَّ من سَقَطِ (¬5) المتاع وقال على بن محمد الكاتب البُستي: إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدًا ... ولم أقتبس علمًا فما هو من عمري إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته -بحول الله وقوته- ما وراه غير مستحيلًا، وينجز -بتوفيق الله إياه- ما ينوء به العصبة أولو القوة، ويقتحم -بتوكله على الله- الصعاب والأهوال، لا يلوي على شيء: له هِممٌ لا منتهى لكبارها ... وهمتُه الصغرى أَجَلُّ من الدهر فمن ثم قيل: "ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة"، لأن الهمم العالية طموحة وثَّابة، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون. فكن رجلًا رجلُه في الثرى ... وهامة همته في الثريا بل إن همته تتجاوز الثريا، ولا تقنع بدون أعلى درجات الجنة. قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- لدُكين لما جاءه: "يا دُكين، إن لي نفسًا توَّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نِلتها تاقت إلى الجنة". ¬

_ (¬1) الجريء. (¬2) الشديد. (¬3) الذي يخاف الناس. (¬4) العاجز الذي إذا نابه أمر لا ينهض فيه، بل يكله إلى غيره. (¬5) السَّقَطُ: الرديء الحقير من المتاع والطعام.

قال الإمام "ابن الجوزي" -رحمه الله-: (من أعمل فكره الصافي؛ دله على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي: ولم أر في عيوب الناس عيبًا ... كنقص القادرين على التمام فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه: فلو كان يُتصور للآدمي صعود السموات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض. غير أنه إذا لم يمكن ذلك، فينبغي أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل. وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مُغْفَلِه: أما في البدن: فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي؛ بل يدخل تحت كسبه تحسينُها، وتزيينها، فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشارع على الكل بالبعض: فأمر بقصِّ الأظفار ونتف الإبط، وحلق العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيىء لأجل الرائحة، وينبغي له أن يقيس على ذلك، ويطلب غاية النظافة، ونهاية الزينة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعرف مجيئه بريح الطيب، فكان الغاية في النظافة والنزاهة. ولست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس، ولكن التوسط هو المحمود ... ). إلى أن قال -رحمه الله-: (وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره، ولا يفضل غيره عليه، وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، ثم ينبغي

له أن يطلب الغاية في العلم. ومن أقبح النقص: التقليد، فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهبًا، ولا يتمذهب لأحد، فإن المقلد أعمى يقوده مقلده. ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها، فإن القنوع حالة الأراذل: فكن رجلًا رِجله في الثرى ... وهامة همته في الثريَّا ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالًا، وأنت رجل (¬1)، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها. واعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهب، ولا تخلد إلى كسل، فما فات من فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم. وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور، وقد قال بعض من سلف: ليس لي مال سوى كرِّي ... فبه أحيا من العدم قَنِعَت نفسي بما رُزِقت ... وتمطَّت في العُلا هممي) (¬2) اهـ. ومن غليان الهمة فٍى الصدور يفزع صاحبها إلى المجد فزعًا: إذا ذُكِرَ المجدُ ألفيتَه ... تأزَّر بالمجد ثم ارتدى ¬

_ (¬1) وقد قيل: "ليس كلمة أضرَّ بالعلم من قولهم: "ما ترك الأول للآخر"، لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم، قالوا: وليس كلمة أحضَّ على طلب العلم من قول علي رضي الله عنه: "قيمة كل امرىء ما يحسن")، وانظر: "قواعد التحديث" للقاسمي ص (38 - 39). (¬2) "صيد الخاطر" (189 - 192).

ندرة كبيري الهمة فى الناس

نَدْرَةُ كبيري الِهمَّة فَى الناسِ وكبيرو الهمة يتسابقون إلى المكارم، لا يكلون، ولا يملون، ولا، يقنطون {وهل يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}. وجد القنوطُ إلى الرجالِ سبيلَه ... وإليك لم يجدِ القنوطُ سبيلا ولَرُبَّ فردٍ في سُمُوِّ فعاله ... وعُلُوِّه خُلُقًا يعادل جيلا وهم في الناس كالعملة النادرة، أو كالكبريت الأحمر، يصدق عليهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة" (¬1). وهم في الناس ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين: وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلًا فقد صاروا أعَزَ من القليل. الواحد منهم بأمة، والفرد منهم بألف: يعد بألفٍ من رجال زمانه ... لكنه في الألمعية واحدُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم وغيره، والراحلة: النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره، فهي كاملة الأوصاف، فإذا كانت في إبل عُرِفت، والهاء فيها للمبالغة كما يقال: رجل نسَّابة، وفهامة، وسميت راحلة؛ لأنها تُرْحل، أي: يجعل عليها الرحْل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كعيشةٍ راضية، أي: مرضية، ونظائره. ومعنى الحديث: أن المرضَّى الأحوال من الناس، الكامل الأوصاف، الحسن المنظر، القوي على الأحمال والأسفار، قليل جدًّا، كقلة الراحلة في الإبل، وانظر: "شرح النووي" (16/ 101).

آخر: ولم أر أمثال الرجال تفاوتًا ... إلى المجد حتى عُدَّ ألف بواحدِ ولذا عظمت المصيبة بفقدهم، وعمت الرزية بموتهم: تعلَّم ما الرزية فقد مالٍ ... ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقدُ حُرٍّ ... يموت بموته بشر كثير آخر: فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ... ولكنه بنيانُ قوم تَهَدَّما قال بعض السلف: "موت العالم ثُلْمَةٌ في الإسلام، لا يسدها شىء". ومما قيل في رثاء عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: عَمَّت صنائعه، فعم هلاكُه ... فالناسُ فيه كلهم مأجورُ والناس مَأتمهم عليه واحدٌ ... في كل دارٍ رَنَّةٌ وزفيرُ يُثني عليك لسانُ مَن لم تُولِهِ ... خيرًا، لأنك بالثناء جديرُ رَدَّتْ صنائعُه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشورُ وقال أبو بكر رضي الله عنه: "صوت القعقاع -أي: ابن عمرو التيمي- في الجيش خير من ألف رجل". ولما طلب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في فتح مصر كتب إليه: (أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن خالد). وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا لأصحابه: "تَمَنُّوا" فقال رجل: "أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا،

أنفقه في سبيل الله عز وجل"، فقال: "تمنوا"، فقال رجل: "أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل-، وأتصدق به"، ثم قال: "تمنوا"، قالوا: "ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ "، قال عمر: "لكنى أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالًا مثل أبى عبيدة بن الجراح"، أخرجه صاحب "الصفوة"، وأخرجه الفضائلي وزاد: (فقال رجل: "ما آلوت (¬1) الإسلام"، قال: "ذلك الذي أردت"). وقال أبو جعفر محمد بن على بن الحسين بن على الباقرُ: "لكل قوم نجيبةٌ، وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، إنه يُبْعَث أمَةً وَحْدَهُ". وقال الأصمعي: لما صافَّ قتيبهُ بن مسلم للترك، وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع، فقيل: "هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه، يبصبصُ بأصبعه نحوَ السماء"، قال: "تلك الأصبعُ أحبُّ إلَّي من مئة ألف سيف شهير، وشاب طرير". وقد يقرن ذو الهمة بالعجائب، بل يوفى عليها: قال يحيى بن معين إمام المحدثين: "رأيت بمصر ثلاث عجائب: النيل، والأهرام، وسعيد بن عفير". وهو الإمام الحافظ العلامة الأخباري الثقة أبو عثمان المصري كان من بحور العلم، وحسبك أن ينبهر به يحيى بن معين! وسئل ابن المبارك عن الجماعة؟ فقال: "أبو بكر وعمر"، فقيل ¬

_ (¬1) أي: ما قصرت في النصح للدين.

له: "قد مات أبو بكر وعمر"، قال: "فلانٌ وفلان"، قيل: "قد مات فلانٌ وفلان؟ "، قال ابن المبارك: "أبو حمزة السكري جماعة" (¬1). ... ¬

_ (¬1) هو محمد بن ميمون المروزي، ثقة، فاضل من الطبقة السابعة، روى له الجماعة، ولم يكن يبيع السكر، وإنما سُمِّيَ السكري لحلاوة كلامه، "سير أعلام النبلاء" (7/ 386)، وانظر "شرح السنة" (1/ 216).

عالي الهمة لا يرضي بما دون الجنة

عَالي الهمة لَا يَرضَي بِمَا دُونَ الجنَّةَ لما كان كمالُ الإرادة بكمال المراد، فإن أكمل الناس إرادة هو من أراد الله -عز وجل-، فوحَّده، ولم يشرك به شيئًا، وسعى إِلى مجاورة الرفيق الأعلى في دار كرامته التي رضيها الله لأوليائه، وتجافى عن دار الغرور التي جعلها للمؤمن سجنًا، وللكافر جنة، قيل للعتَّابي: "فلان بعيد الهمة"، قال: "إِذن لا يكونُ له غاية دون الجنة". قد هيَّأوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ وإذا كانت لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسَّا، وأعلاهم همة، وأرفعهم قدرًا مَنْ لذتهم في معرفة الله ومحبته، والشوق إِلى لقائه، والتودد إِلية بما يحبه ويرضاه {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}. يقول الإمام الغزالي -رحمه الله- في كتابه "منهاج العابدين": (الملك والكرامة بالحقيقة في الدنيا لأولياء الله -عز وجل- وأصفيائه الراضين بقضائه، فالبر والبحر والأرض والحجر والمدر لهم ذهب وفضة، والجن والإنس والبهائم والطير لهم مسخرون، لا يشاءون إلا ما شاء الله، وما شاء الله كان، ولا يهابون أحدًا من الخلق، ويهابهم كل الخلق، ولا يخدمون أحدًا إلا الله -عز وجل-، ويخدمهم كل من دون الله، وأين لملوك الدنيا بعشر هذه الرتبة، بل هم أقل وأذل، وأما ملك الآخرة فيقول الله تعالى: {وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيتَ نعيمًا ومُلكًا

كبيرًا} وأعظِم بما يقول فيه رب العزة "إنه ملك كبير"، وأنت تعلم أن الدنيا بأسرها قليلة، وأن بقاءها من أولها إلى آخرها لقليل، ونصيب أحدنا من هذا القليل قليل، ثم الواحد منا قد يبذل ماله وروحه حتى ربما يظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، وإن حصل له ذلك فيُعذَر، بل يُغْبَط، ولا يستكثر ما بذل فيه من المال والنفس (¬1)، نحو ما ذكر عن آمرىء القيس حيث يقول: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكًا، أو نموت فنعذرا فكيف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم؛ أيستكثر مع ذلك أن يصلي ركعتين لله تعالى أو ينفق درهمين أو يسهر ليلتين، كلا بل لو كان له ألف ألف نفس، وألف ألف روح، وألف ألف عمر كل عمر مثل الدنيا وأكبر وأكثر، فبذل ذلك كله في المطلوب العزيز؛ لكان ذلك قليلاً، ولئن ظفر بعده بما طلب، لكان ذلك غُنْمًا عظيمًا، وفضلاً من الذى أعطاه كثيرًا) اهـ (¬2). قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن رجلاً يجر على وجهة من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في طاعة الله -عز وجل- لحقره يوم القيامة" (¬3)، وذلك لما يرى وينكشف له عيانًا من عظيم نواله، وباهر عطائه. ¬

_ (¬1) راجع ص (8). (¬2) "منهاج العابدين" ص (247 - 248)، وانظر قصة عبد الله بن حذافة ص (306 - 307). (¬3) رواه الإمام أحمد، والبخارى في "التاريخ"، والطبراني في "الكبير"، وقال الهيثمى: "إسناد أحمد جيد"، وفي سند الطبراني بقية، مدلس، لكنه صرح بالتحديث، وبقية رجاله وثقوا" اهـ.

فأخلِق بمثل هذا إذا عاين جنة الرضوان أن يتمثل قول القائل: وكنت أرى أن قد تناهى بى الهوى ... إلى غاية ما بعدها لي مذهبُ فلما تلاقينا، وعاينت حُسْنَها ... تيقنت أني إنما كنتُ ألعب إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء، ولا يرضى بحياة مستعارة، ولا بِقُنْيةٍ (¬1) مستردة، بل همه قنية مؤبدة، وحياة مخلدة، فهو لا يزال يحلِّق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقه دون عليين، فهي غايته العظمى، وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر، ولا تعب ولا نصب، ولا هم ولا غم ولا حَزَن، إنما هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، في حَبرة ونَضرة، في دور عالية بهية، وهناك فقط تقر عينه، وتهدأ نفسه، ويستريح قلبه، قال تعالى في أهل الجنة: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلًا خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلًا}. فالجنة هي الوطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان، أما الدنيا فهي دار غربة منذ أهبط إليها الأبوان: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأولِ كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأولِ منزلِ فحيَّ على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيَّمُ ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم ... ¬

_ (¬1) القنية: بضم القاف وكسرها، وسكون النون، ما اكتُسِبَ.

الدنيا جيفة، والأسد لا يقع على الجيف

الدُّنيَا جيفَةٌ، وَالأَسدُ لَاَ يقعُ على الجيَفِ بعثت "بلقيس" إلى سليمان -عليه السلام- هدية لتمتحن بها قدر همته: فإن رأتها قاصرة، علمت أنها لا تصلح للمعاشرة، وإن رأتها عالية تطلب ما هو أعلى، تيقنت أنه يصلح: {وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمانَ قال أتمدوننِ بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون} الآيات. فالدنيا هدية بِلقيس، فارفضها، وتشوَّف إلى ما هو أنفس منها. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه - قال: " من أراد الآخرة، أضَرَّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة (¬1)، يا قوم! فأضروا بالفاني للباقي". قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: ومن يذق طعم الحياة فإني خبرتُها ... وسيق إليَّ عَذْبُها وعذابُها فلم أرها إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلابٌ هَمُّهُنَّ اجتذابها فإن تجتنبها عشت سِلمًا لأهلها ... وإن تجتذبها ناهشتك كلابُها ¬

_ (¬1) وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تُسَعَّر بهم النار بيان كافٍ لمدى هذا الضرر الذي نشأ عن همة خسيسة أرادت الدنيا بأعمال الآخرة.

لماذا لا يوصف الكافر بعلو الهمة؟

لِمَاذَا لَا يوصَفُ الكافِرُ بعلو الِهمَةَ؟ يخطىء بعض الناس حين يصفون بعض شعوب الكفار كالألمان مثلًا أو اليابانيين، أو أفرادهم من المخترعين والباحثين، بالهمة العالية، وهذا خطأ بَيِّن، لأن الهمة العالية حِكر على طلاب الآخرة، وهي -من شرفها وعزتها- تأنف أن تسكن قلبًا قد تنجس بالشرك والكفران، وتلطخ بأقبح معصية في الوجود، قال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حَرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}، وقال سبحانه: {ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}، وقال عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يُشركَ به ويَغفِرُ ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا}. وقد بينَّا أن كمال "الإرادة" بكمال "المراد". فمن نظر إلى "الِإرادة"، وقطع النظر عن "المراد" وقع في هذا الخطإ البين. وقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على ذم الدنيا وتحقيرها، ومدح الآخرة وتعظيمها، وهذا الكافر ليس له مراد إلا تعمير الدنيا، فلها يكدح، وعليها يقاتل، مع إعراضه عن الآخرة، وزهده فيها، أو تكذيبه بالبعث والنشور، قال تعالى: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها

والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}، وقال سبحانه: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}، وقال سبحانه: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى}، وقال تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو}، وقال سبحانه: {زُين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا}، وقال عز وجل: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق}. وبين تعالى أن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية فقال عز وجل: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}، ولذلك شنع على الذين يفضلون الدنيا على الآخرة، ويشتغلون بها عنها؛ فقال تبارك وتعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى}، وقال تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة}، وقال سبحانه: {إنَّ هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يومًا ثقيلاً}، وقال عز وجل: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى}، وقال سبحانه: {وذر الذين اتخذوا دينَهم لعبًا ولهوًا وغرتهم الحياة الدنيا}. وحذر نبيه - صلى الله عليه وسلم - من التطلع إلى زهرة الدنيا، فقال سبحانه:

{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرةَ الحياة الدنيا (¬1) لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى}، وقال للمؤمنين: {ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}. وعن أبي هريرة وأبي سعيد -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيُقال له: "ألم أجعل لك سمعًا، وبصرًا، ومالًا، وولدًا؟ وسخَّرتُ لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس، وترْبَعُ؟ فكنتَ تظن أنك ملاقي يومِك هذا؟ "، فيقول: "لا"، فيقول له: "اليوم أنساك كما نسيتني" رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن خزيمة، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما رأيت مثلَ النارِ نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها" رواه الترمذي [حسن]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكرَ اللهِ وما والاه (¬2)، وعالمًا أو متعلمًا" رواه ابن ماجه [حسن]. وحسبنا أن هذه الدنيا الدنية وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كلمة واحدة ¬

_ (¬1) قال النسفي في "تفسيره": (ولقد شدَّد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة، وعُدد الفسقة، في ملابسهم ومراكبهم، حتى قال الحسن: "لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب") اهـ. (2/ 387). (¬2) ما والاه: أي: ما أحبه الله مما يجري في الدنيا، وقيل: المراد بما يوالي ذكر الله طاعتُه واتباع أمره، وتحنب نهيه، لأن ذكر الله يقتضي ذلك.

بذلك الوصف الحاسم البليغ: "باطل"، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لَبيد: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل" (¬1). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو مضطجع على سرير مُرَمَّل (¬2) بشريط، وتحت رأسه وسادة من أدَمٍ حشوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه، ودخل عمر، فانحرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انحرافة، فلم يَرَ عمر بين جنبه وبين الشريط ثوبًا، وقد أثَّر الشريط بجنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكى عمر، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يُيكيك يا عمر؟ "، قال: "والله، إلا أن أكون أعلم (¬3) أنك أكرم على الله عز وجل من كسرى وقيصر، وهما يعبثان (¬4) في الدنيا فيما يعبثان فيه، وأنت يا رسول الله بالمكان الذي أرى؟ "، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟ "، قال: "بلى"، قال: "فإنه كذلك") (¬5). وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يُؤتى بأنعمِ أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيُصبَغُ في جهنم صَبغة، ثم يقال له: "يا ابن آدم! هل رأيتَ خيرًا قط؟ هل مَرَّ بك ¬

_ (¬1) رواه البخارى. (¬2) أي: "كان السرير قد نسج بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء. (¬3) أي: والله ما يُبكيني إلا أن أكون أعلم ... إلخ. (¬4) أي: أقبلت عليهما الدنيا، حتى صارا يلعبان بأموالها ومتاعها لعبًا، وأنت لا تجد فراشًا يقي جسمك من تأثير الحصير. (¬5) رواه الإمام أحمد، والشيخان.

نعيمٌ قَط؟ "، فيقول: "لا والله يا ربِّ"، ويُؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيُصبَغ في الجنة صَبغة، فيقّال له: "يا ابنَ آدم! هل رأيت بؤسا قط؟ هل مَر بك شدةٌ قط؟ " فيقول: "لا والله يا رب! ما مَر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط") رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما. فكيف يكون عالَي الهمة مَن أمكنه أن يكون ملِكًا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتقوم الملائكة في خدمته، وتدخل عليه من كل باب: {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، فإذا به يتنكب طريق الإيمان، ويتمرغ في وحل الكفر والفسوق والعصيان، ويزهد في جنة الرضوان، ويأبى إلا أن يكون حطبًا للنيران؟! ويبذل نفسه وماله وولده في سبيل صد الناس عن سبيل الله، قال تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالًا بعيدًا}، وقال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}. وكيف يكون عالَي الهمة من فطره الله على التوحيد، فأفسد فطرته، وآتاه نعمة العقل، فعطَّلَها، وبثَّ له آيات توحيده، ودلائلَ صدقِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الآفاق وفي نفسه، وأنزل كتابه المعجز، فأعرض عن ذلك كله، ولم يرفع به رأسًا، وجعل الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، قال تعالى: {ويوم نحشر من كل أمة فوجًا ممن يكذِّبُ بآياتنا فهم يُوزَعُون * حتى إذا جاءوا قال: أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علمًا أمَّاذا كنتم تعملون * ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون}.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يُبغضُ كُلَّ جَعْظَرِيٍّ (¬1) جَوَّاظٍ (¬2)، سَخَّابٍ (¬3) في الأسواقِ، جِيفةٍ (¬4) بالليلِ، حِمارٍ بالنهارِ، عالمٍ بأمرِ الدنيا، جاهلٍ بأمرِ الآخرةِ" رواه ابن حبان في "صحيحه". فما أشد انطباق هذا الحديث على هؤلاء الكفار الذين لا يهتمون لآخرتهم، مع علمهم بأمور دنياهم، وفرحهم بما عندهم منه، كما قال تعالى فيهم: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}، وقال سبحانه: {فأعرِض عمَّن تولَّى عن ذِكرنا ولم يُرِدْ إلا الحياةَ الدنيا ذلك مبلغهُم من العلم}، فهم يجتهدون في العلم بأمور دنياهم، ويُمعِنون في تحصيلها، مع جهلهم التام بأشرف العلوم، وهي علوم الآخرة التي هي شرف لازم لا يزول، دائم لا يُمَل، فجدير بمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أن يبغضه الله، ويمقته لشقاوته وإدباره، فالله سبحانه وتعالى كرمهم بنعمة العقل، وميزهم بها على العجماوات، فسخروها أعظم تسخير في كل شيء من أغراض الدنيا الخسيسة؛ كالتأنق في الشهوات والمأكل والملبس والترفه، إلا الشيء الذى خُلقوا من أجله، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، واتباع ¬

_ (¬1) الجعظري: الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذى ينتفخ بما ليس عنده. (¬2) الجواظ: الجَمُوع المَنوع، وقيل: الكثير اللحم، المُختال في مِشيته. (¬3) السخاب: السخب والصخب بمعنى الصياح، فالسخاب هو كثير الضجيج والخصام، قال ابن الأثير -رحمه الله-: (وفي حديث المنافقين: خُشُب بالليل، سُخُب بالنهار"، أي إذا جن عليهم الليل سقطوا نيامًا كأنهم خُشُب، فإذا أصبحوا تساخبوا على الدنيا شحًّا وحرصًا) اهـ. (¬4) جيفة: أي: كالجيفة، لأنه يعمل كالحمار طوال النهار لدنياه، وينام طوال الليل كالجيفة التي لا تتحرك.

رسله عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال تعالى في حقهم: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، صم بكم عمي فهم لا يعقلون}، وقال سبحانه: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا}، وقال -جل وعلا-: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}. وقال -عز مِن قائل- في سورة الروم: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس} يعني الكفار {لا يعلمون} بحكمته تعالى، في كونه، وأفعاله المحكمة، الجارية علي وفق العدل، لجهلهم وعدم تفكرهم {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا} وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم {وهم عن الآخرة} التي هي المطلب الأعلى {هم غافلون} أي: لا يخطرونها ببالهم، فهم جاهلون بها، تاركون لعملها. وقوله سبحانه: {يعلمون} بدل من قوله: {لا يعلمون} وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه، ويَسُدُّ مَسَدَّه، ليُعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. {ظاهرًا} يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا، فظاهرها: ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها، وباطنُها، وحقيقتُها: أنها مجاز إلى الآخرة، يُتَزَوَّدُ منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وقيل: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا} يعني أمر معايشهم ودنياهم: متى يزرعون؟ ومتى يحصدون؟ وكيف يغرسون؟ وكيف يبنون؟ وحدِّث ولا حرج عن مظاهر استغراق كفار زماننا وبخاصة الغربيون منهم في علوم الدنيا ودقائقها؛ مع إعراضهم التام عن علوم الآخرة.

ومن الكفار من يريد الجنة، ويكدح لنيلها، لكنه يخطىء الطريق إليها، إذ يريد دخولها بعد أن سُدَّت كل الطرق المؤدية إليها إلا طريقًا على رأسه خاتم النبين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو يأبى الإيمان برسالته، والانقياد لشريعته، ويكابر في الحق بعد ما تبين، وظهرت أدلته، أو يكتفي بتقليد الآباء والأجداد، والرؤساء والسادات، فيكون جوابه إذا سئل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبره: "سمعت الناس يقولون شيئًا، فقلته": عاشوا كما عاش آباء لهم سَلَفُوا ... وأُورِثُوا الدِّينَ تقليدًا كما وَجَدُوا لم تنبعث همته للبحث عن الحق، والنظر في الأدلة، في حين أنها كانت تنبعث في الدنيا في طلب سفاسف الأمور وأحقرها، وهؤلاء الذين قال الله فيهم: {وجوه يومئذ خاشعة (¬1) عاملة ناصبة (¬2) تصلى نارًا حامية} الآيات، وقال سبحانه فيهم: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا}، وقال أيضًا: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}. وكيف يعجب مسلم بكافر، ويمدحه بعلو الهمة بسبب أعمالٍ غايتها تعمير الدنيا وإصلاحها. ثم إن كان قد فعلها تعبدًا دون أن يُسْلِمَ لله -عز وجل- فإنها ¬

_ (¬1) خاشعة: ذليلة بالعذاب. (¬2) قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم: "هم الرهبان أصحاب الصوامع"، وعن الحسن قال: [لما قدم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الشام، أتاه راهب شيخ كبير مُتَقَهِّل (أي شعِث وسِخ)، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: "يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ "، قال "هذا المسكين طلب أمرًا، فلم يُصِبْهُ، ورجا رجاءً فأخطأه"، وقرأ قول الله -عز وجل-: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة}] اهـ. من {الجامع لأحكام القرآن} للقرطبي (20/ 72).

استخفاف السلف الصالح بأعراض الدنيا

لا تنفعه قطعًا في الآخرة، بل يجعلها الله هباء منثورا: {وقدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثْورً}. وقال -عز وجل-: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالُهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء}، وقال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}. استِخفَافُ السَّلَف الصاِلح بِأَعَراض الدنيَا كبير الهمة على الإطلاق (¬1): هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه، فلا يصير عبد عارية ببطنه وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة، فيصير من أولياء الله وخلفائه في الدنيا، ومن مجاوريه في الآخرة، وصغير الهمة من كان على الضد من ذلك. وكبير الهمة يُعَظِّمُه صِغَرُ الدنيا في عينيه، فيكون خارجًا من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يُكثر إذا وجد. ويكون خارجًا من سلطان فرجه، فلا يستحق له رأيًا ولا بدنًا. ولما فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا حقيقة الدنيا، ومصيرهم إلى الآخرة، استوحشوا من زخرفها، وتناءت قلوبهم عن زينتها، وارتفعت هممهم فوق سفاسفها، وجعلوا الهموم همُّا واحدًا هو إرضاء الله -عز وجل-، ومجاورته في دار كرامته: ¬

_ (¬1) "الذريعة" للأَصفهاني ص (190).

إن لله عبادًا فُطَنا ... طلَّقوا الدنيا وخافوا الفِتَنَا نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليسِت لحَيٍّ وطنا جعلوها لُجَّة واتخذوا ... صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنا وحرصوا على إزاحة كل ما قد يعوقهم عن المضِّي قدمًا نحو غايتهم، بما في ذلك فضول المباحات. قال عبد القادر الجيلاني لغلامه: "يا غلام! لايكن همك ما تأكل، وما تشرب، وما تلبس، وما تنكح، وما تسكن، وما تجمع، كل هذا: همُّ النفس والطبع، فأين هم القلب؟! هَمُّك ما أهمك، فليكن همك ربك -عز وجل- وما عنده". ولما هَمَّ الإمام الجليل الليث بن سعد بفعلٍ مفضول ينافي العزيمة، قال له إمام المدينة يحيى بن سعيد الأنصاري: "لا تفعل، فإنك إمام يُنظر إليك". وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وقال في يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- في شىء من المباح: "هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة"، أو نحو هذا من الكلام) (¬1) اهـ. وقال الحافظ أبو الحسن على بن أحمد الزيدي: (اجعلوا النوافل كالفرائض، والمعاصي كالكفر، والشهوات كالسم، ومخالطة الناس كالنار، والغذاء كالدواء). ورحل "يحيى بن يحيى" إلى الإمام مالك وهو صغير، وسمع منه وتفقه، (وكان مالك يعجبه سمته وعقله، روي أنه كان يومًا عند مالك في جملة أصحابه؛ إذ قال قائل: "قد حضر الفيل"، فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه غيره، (أي: وبقي يحيى مكانه) فقال له مالك: "لم ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 26).

خرج فترى الفيل، لأنه لا يكون بالأندلس"، فقال له يحيى: "إنما جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلمَ من هديك، وعلمك، ولم أجىء لأنظر إلى الفيل"، فأعجب به مالك، وسماه "عاقل أهل الأندلس"). إنه من المباح مشاهدة حيوان غريب .. ولكن وقت الداعية القدوة أضيق من أن يشغل شيئًا منه لي مباح، لا يجني من ورائه شيئًا لقضيته التي تشغله ليل نهار. ولما فرَّ "عبد الرحمن الداخل" من العباسيين، وتوجه تلقاء الأندلس، أهديت إليه جارية جميلة، فنظر إليها، وقال: "إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردَّها على صاحبها" (¬1). لقد حفل تراثنا الاسلامي بمواقف رائعة تشي بعلو همة سلفنا الصالح، وتعلن عن نظرتهم العميقة إلى حقائق الأشياء، وتساميهم على المظهرية الجوفاء، وترفعهم عن سفاسف "التطوس" الكاذب، واعتزازهم بانتمائهم إلى الدين الحنيف، دين العزة والكرامة، فمن ذلك ما صح عن ابن شهاب قال: "خرج عمر بن الخطاب إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها، وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك! فقال عمر: أوَّه لو يقل ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتهُ ¬

_ (¬1) "نفح الطيب" (4/ 43).

نكالًا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إنا كنا أذلَّ قوم فأعزنا الله بالاسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"، وفي رواية: (يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالِإسلام، فلن نبتغي العز بغيره"). ودخل أعرابي رث الهيئة بالي العباءة على أمير المؤمنين معاوية -رضى الله عنه-، فاقتحمته عينه، فعرف الأعرابي ذلك في وجه معاوية -رضي الله عنه-، فقال: "يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك، ولكن يكلمك مَن فيها"، فأدناه فإذا به مِدْرَهُ (¬1) فصاحة في القول وبلاغة، فجعله من خاصته. والأمثلة على ما ذكرنا كثيرة حفلت بها تراجم العلماء العاملين، فمن أمثلة ذلك أن الِإمام شيخ الِإسلام النووي -رحمه الله- كان إذا رآه الرائي ظنه شيخًا من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إليه أنه شيء يذكر، فإذا سمعه يُدَرِّس أو يقرر أو يحدِّث فغر فاه، وحملق بعينيه عجبًا من هذه الأسمال أن تنكشف عن جوهر نفيس، وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى، ولا عجب فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة، وجمال الهندام، فإذا رَأوْا مَن هذه صفته وَقَّروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضامر، وفكر بائر، وقلب حائر: ترون بلوغ المجد أن ثيابكم ... يلوح عليها حسنها وبَصيصُها وليس العلى درَّاعةً ورداءها ... ولا جُبَّة موشية وقميصها وقال المتنبي: لا يُعجبنَّ مُضيمًا حُسْنُ بَزَّتِهِ ... وهل تروقُ دفينًا جَوْدَةُ الكَفَنِ؟ ¬

_ (¬1) المِدْرَه: السيد الشريف، والمُقْدِمُ عند الخصومة والقتال.

آخر: ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رُدِّيتَ بُرْدا إن الجمال معادن ... ومحاسنٌ أورثن مجدا ورأينا العجب من صبرهم على شظف العيش، ومعاناة الفقر، إذ كانوا قد أحْصِروا في سبيل حفظ الدين، ووقفوا حياتهم على حراسة السنة، فهذا الإمام العَلَم إبراهيم بن إسحاق الحربي -رحمه الله- يقول: "أفنيت عمري ثلاثين سنة برغيفين، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيتُ جائعًا عطشان إلى الليلة الثانية، وأفنيتُ ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة، إنْ جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلتُه، وإلا بقيتُ جائعًا عطشانَ إلى الليلة الأخرى". والآن آكلُ نِصفَ رغيف وأربعَ عشرةَ تَمْرَة إن كان بُرنيًّا، أو نيِّفًا وعشرين إن كان دَقَلاً، ومَرِضَتْ ابنتي، فمضَتْ امرأتي، فأقامت عندها شهرًا، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانِقَين ونصف! ودخلتُ الحمَّامَ، واشتريتُ لهم صابونًا بدانِقَين، فقامَتْ نفقةُ شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانق ونصف". وقال أبو القاسم بن بُكَير: (سمعت إبراهيم الحربي يقول: "ما كنا نَعرفُ من هذه الأطبخة شيئًا، كنت أجيءُ من عَشٍّي إلى عَشِي وقد هيَّأتْ لي أمِّي باذنجانة مشويِة، أو لَعْقَةَ بِنٍّ -البِن بكسر الباء: الشَّحْم-، أو باقةَ فِجْل". وقال أبو علي الخياط المعروف بالميت: (كنتُ يومًا جالسًا مع إبراهيم الحربي على باب داره، فلما أن أصبحنا قال لي: "يا أبا على قم إلى

شُغلك، فإنَّ عندي فِجلةً قد أكلتُ البارحةَ خَضِرَها، أقومُ أتغدَّى بجزَرَتِها"). ... وقد دهش المؤرخون للسرعة التي أقام بها المسلمون دولتهم، وللسرعة التي انهارت بها أمامهم الإمبراطوريتان العظيمتان في ذلك الوقت، ولم يدرك الكثير منهم سر عظمة هذه الأمة الناشئة، الذي يكمن في المدد الرباني لهؤلاء المجاهدين، ليس فقط بالإمداد بالملائكة تُثَبِّتُ الذين آمنوا، لكن أيضًا بإمداد الله إياهم بمفاهيمَ وقيمٍ ومقوماتٍ أهَّلتهم لقيادة البشرية، وانتزاع عجلة القيادة من قيم هابطة، ومفاهيم متخلفة، وعقائد فاسدة، ومُثُلٍ مهترئة، فقد كانت المواجهة صراعًا بين حضارتين مختلفتين كل الاختلاف في القيم والمفاهيم والمنطلقات، وكان الطبيعي أن تسري سنة الله في خلقه، ويمضي قانونه المحكم: أن البقاء للأصلح {فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}، فلنطالع صورًا من هذه المواجهة بين الحضارتين، والتي حسمت نتيجة الصراع قبل المواجهة المسلحة لصالح حزب الله المفلحين: لما بلغ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بجيشه حاكم مصر "المقوقس" وجيشه، بعث عمرو إليه عشرة رجال أحدهم عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وكان "عبادة" شديد السواد، وأمره أن يكون متكلم القوم، ولا يجيب الروم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث، فلما دخلت رسل المسلمين إلى المقوقس، وعلى رأسهم عبادة، هابه المقوقس لسواده وفرط طوله، وقال: "نَحُوا عني

ذلك الأسود، وقدِّموا غيره يكلمني"، فقال الوفد جميعًا: "إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيدنا وخيرُنا والمقدَّم علينا، وإنما نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمَّره الأمير دوننا لما أمره، وأمرنا ألا نخالفَ رأيه وقوله"، ثم قالوا -وكان قولهم عجيبًا عند المقوقس-: "إن الأسود والأبيض سواء عندنا، لا يفضل أحدٌ أحدًا إلَّا بفضله، وعقله، وليس بلونه" (¬1). ولا مراء في أن "المقوقس" كان مستاء من وجود عبادة بن الصامت، ذلك العبد الأسود، وحَسِبَ أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيرًا. لمقام المقوقس وتحقيرًا لشأنه، فلما أجمع رسل المسلمين على أنه المتحدث باسمهم جميعًا، لم ير المقوقس بُدًّا من محادثة عُبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة: "إن فيمن خلَّفتُ من أصحابي ألفَ رجل أسود، كلهم أشد سوادًا مني .. وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي، لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله، واتباع رضوانه، وليس غزوُنا عَدُوَّنا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلبٍ للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله، وأمرنا به نبينا، وعهد إِلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه" (¬2)، ¬

_ (¬1) "الخطط" للمقريزي (1/ 292). (¬2) "السابق" (1/ 293).

فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعًا شديدًا، وقال لأصحابه: "هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل .. إنَّ هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخرابِ الأرض" ثم أقبل على عبادة، وأراد أن يسلك معه طريق الإرهاب المغلَّف في قالبٍ من النصح، فقال له: "أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرتَ عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على مَن ظهرتم عليه، إلَّا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم مِن جمع الروم ما لا يُحصى عدده، قوم معرفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم مَن لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضوها، وتنصرفوا إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به" (¬1). فنظر إليه "عبادة بن الصامت" شامخًا، وخاطبه بصوت كله ثقة وإيمان قائلًا: "يا هذا لا يغرنَّ نفسَك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما كان هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه ... إن قُتِلنا عن آخرنا كان أمكنَ لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقرّ لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإن الله عز وجل قال في كتابه: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، وما من رجل إلَّا وهو يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وألا يردَّه إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس ¬

_ (¬1) "السابق" (1/ 293).

بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل إلينا" (¬1). وقد أراد المقوقس أن يستنزله عن شيء، أو أن يجعله يقبل شيئًا مما عرض عليه، فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء لما يقول، وقال عبادة يرد عليه بعد أن نفد صبره، ورفع يديه إلى السماء: "لا ورب هذه السماء، وَرب هذه الأرض، وربِّ كل شيء، ما لكم عندنا من خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم" (¬2)، عند ذلك اجتمع المقوقس بأصحابه فقالوا: "أما الأمر الأول فلا نجيب إليه أبدًا، فلا نترك دين المسيح إلى دين لا نعرفه"، وبذلك رفضوا شرط الإسلام، فلم يبق أمامهم إلَّا شرط الجزية أو الحرب، فقالوا: "إنا إذا أذعنَّا للمسلمين، ودفعنا الجزية، لم نَعْدُ أن نكون عبيدًا، ولَلْموت خير من هذا، فردَّ عليهم عبادة قائلًا: "إنهم إن دفعوا الجزية كانوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، مسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وحُفظت لهم كنائسهم، لا يتعرض لهم أحد في أمور دينهم"، فقال المقوقس لمن حوله: "أجيبوني وأطيعوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث فوالله ما لكم بهم طاقة، وإن لم تجيبوا إليهم طائعين لتُجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين" (¬3). ¬

_ (¬1) "السابق" (1/ 294). (¬2) "فتوح مصر" لابن عبد الحكم ص (59 - 63). (¬3) السابق، وانظر: "عمرر بن العاص بين يدي التاريخ" ص (158 - 160).

هكذا سار هؤلاء الربانيون بمفتاح الجنة "لا إله إلا الله" يفتحون به مشارق الأرض ومغاربها، لا يستعصي عليهم منها قطر، فالحصون تفتح، والقلوب تفتح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تصحح، وفيما يلي صورة أخرى (¬1) تجلت فيه أصالة التربية المحمدية لخير أمة أخرجت للناس، حيث تشغل الدنيا في اهتمامهم القدر الضئيل الذي تستحقه، أما الآخرة فهي الهم الأكبر، وهي الغاية العظمى، وهي الحياة الحقيقية الخالدة: جاء سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- حتى نزل "القادسية" ومعه الناس، ولا يزيد المسلمون على سبعة آلاف أو نحو من ذلك، والمشركون يبلغون ثلاثين ألفًا أو نحوًا من ذلك، ونبال المسلمين وعُدَّتهم موضع سخرية أهل فارس، وجعلوا يشبهونها بالمغازل، فيقولون "دوك، دوك"، ويقولون للمسلمين مزدرين إياهم: "لا يدي لكم ولا قوة ولا سلاح! ما جاء بكم؟ ارجعوا! " ... ولما أُدخِل وفد المسلمين على كسرى يزدجرد جعل أهل فارس يسوؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سيىء الأدب، فكان أول شىء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان بينه وبينهم، فقال: "سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ "، فكان يلقى منهم أجوبة يتطير منها ... ولما عرض النعمان بن المقرن دعوة الإسلام على كسرى، قال الأخير: "إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا، ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ الطبري" (3/ 496) وما بعدها، "البداية والنهاية" (7/ 39)، و "فكرة القومية العربية" للشيخ صالح بن عبد الله العبود ص (333 - 340).

ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكِّل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم، لا تغزوا فارس، ولا تطعموا أن تقوموا لهم، فإن كان عددٌ لَحِقَ فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قُوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملَّكنا عليكم ملكًا يرفق بكم"، فأسكت القوم، فقام المغيرة بن زرارة الأسيدي، فقال: (أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فنرى ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا: أن يقتل بعضنا بعضًا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية، كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرتُ لك، فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا، نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضُه خير أرضنا، وحَسَبُه خيرُ أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أولَ من تِرْبٍ (¬1) كان له، وكان الخليفة بعده، فقال، وقلنا، وصدَّق، وكذَّبنا، وزاد، ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديقَ له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمير الله، فقال لنا: ¬

_ (¬1) التِّربُ: بكسر التاء: اللذَة، والسِّنُّ، ومن وُلد معك، والاشارة هنا إلي الصديق الأكبر أبي بكر رضي الله عنه.

"إن ربكم يقول: إنني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل، لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلَّكم داري، دارَ السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال. من تابعكم على هذا، فله ما لكم، وعليه ما عليكم، ومن أبي فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبي فقاتلوه، فأنا الحكَمُ بينكم، فمن قُتِلَ منكم أدخلتُه جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على مَنْ ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، وإن شئتَ فالسيف، أو تُسْلِم فتنجي نفسك"، فقال: "أتستقبلني بمثل هذا؟ "، فقال: "ما استقبلتُ إلا مَن كلَّمني، ولو كلمني غيرك، لم أستقبلك به"، فقال: "لولا أن الرسلَ لا تُقتل لقتلتكم، لا شىء لكم"، وقال: "ائتوني بوِقْرٍ من تراب"، فقال: "احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم، حتى يدفيكم (¬1)، ويدفيه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعدُ، ثم أوردُه بلادَكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشدَّ مما نالكم من سابور"، إلى آخر القصة. وفيها: "أن عاصم بن عمرو احتمل وقر التراب، واعتره فألا على الظفر بأرضهم، كما تطير منه رستم على أنه علامة أن الله سلبهم أرضهم وأبناءهم للمسلمين. ثم إن كسرى بعث أهل فارس بعددهم وعُدَدِهم وعلى رأسهم رستم، حتى إذا نزل رستم "بالعقيق" على منقطع معسكر المسلمين، راسل ¬

_ (¬1) دفوت الجريح وأدفيته: أجهزتُ عليه.

"زهرة" فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحهم، ويجعل له جُعْلًا (¬1) على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول: "أنتم جيراننا، وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا ... " إلخ. فقاك له زهرة: "صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمير أولئك ولا طِلْبتنا، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا: الآخرة، كنا كما ذكرت، يدين لكم مَن ورد عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولًا، فدعانا إلى ربه، فأجبناه، فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: إني قد سلطتُ هذه الطائفة على من لم يَدِنْ بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذَلَّ، ولا يعتصم به أحد إلا عَزَّ". فقال له رستمَ: "وما هو؟ ". قال: "أما عموده الذى لا يصلح منه شيء إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، قال: "ما أحسن هذا! وأي شيء أيضًا؟ "، قال: "وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى". قال: "حسن، وأي شيء أيضًا؟ ". قال: "والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم"، قال: "ما أحسن هذا! ". ثم قال رستم: "أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر، وأجبتكم إليه، ¬

_ (¬1) الجُعْل، والجِعالة: ما جعله له على عمله من أجر، أو رِشْوة.

ومعي قومي، كيف يكون أمركم؟ أيرجعون؟ ". قال: "إى والله، ثم لا نقرب بلادكم أبدًا إلا في تجارة أو حاجة"، قال: "صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي "أردشير" لم يَدَعُوا أحدًا يخرج من عمله من السِّفْلَة (¬1) كانوا يقولون: "إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم، وعادوا أشرافهم". فقال له زهرة: "نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أنْ نكون كما تقولون، نطع الله في السِّفْلَة، ولا يضرنا من عصى الله فينا"، فانصرف عنه، وطلب "رستم" آخر، ثم إن سعدا أرسل "رِبعي بن عامر" -رضي الله عنه- إلى رستم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلي الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: "ضع سلاحك"، فقال: "إني لم آتكم وإنما جئتكم حي دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت"، فقال رستم: "ائذنوا له"، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامَّتَها، فقالوا له: "ما جاء بكم؟ "، فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك، قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي ذلك، ¬

_ (¬1) سِفْلَةُ الناس: أسافلهم، وغوغاؤهم.

قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله". قال: "وما موعود الله؟ " قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبي، والظفر لمن بقى" .. فخلص رستم برؤساء أهل فارس، فقال: "ما ترون؟ هل رأيتم كلامًا قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ "، قالوا: "معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا، وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ "، فقال: "ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأي، والكلام، والسيرة"، وأقبلوا يتناولون سلاحه، ويزهدونه فيه .. ثم كان أن أبي الفرس دعوة الحق، واختاروا المناجزة، فنصر الله المسلمين، وهزموا فارس وسبوهم. وكان "يزدجرد" ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين، فأجابه ملك الصين: "إنه يمكنني أن أبعث لك جيشًا أوله في منابت الزيتون -أي: الشام- وآخره في الصين، ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول؛ فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم، وتعيش في ظلهم، وظل عدلهم" (¬1). ... ¬

_ (¬1) "إفادة الأخيار ببراءة الأخيار" (1/ 38).

عالي الهمة عصامي، لا عظامي

عالي الهمة عصامي، لَا عِظَامي العصامي: من ساد بشرف نفسه. ويقابله "العظامي"، وهو من ساد بشرف آبائه، و "العصامي" منسوب إلى "عصام بن شهير" حاجب "النعمان بن المنذر" الذي قال له "النابغة الذبياني" حين حجبه عن عيادة "النعمان" من قصيدة له: فإني لا ألومُك في دُخُول ... ولكن ما وراءَكَ يا عصامُ؟ وهو الذي قال فيه النابغة: نفس "عصام" سَوُّدَتْ عصامَا وعلَّمته الكًرُّ والِإقداما فصيَّرَته ملِكًا هُمَامَا وقوله: "نفس عصام سوَّدت عصامًا" صار مثلًا يُضرب في نباهة الرجل من غير قديم. و"العصامي" هو الذي تسميه العرب: "الخارجَّي"، وهو من خرج بنفسه من غير أولية كانت له، قال كثير: أبا مَرْوانَ لستَ بخارجيٍّ ... وليسَ قديمُ مَجْدِكَ بانتحالِ فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه، لا اتكالاً على حسبه ونسبه، ولا يضيره ألا يكون ذا نسب، فحسبه همته شرفًا ونسبًا،

قال عامر بن الطفيل العامري (¬1): وإني وإن كنتُ ابنَ سَيِّد عامِرٍ ... وفارسِها المشهورِ في كل موكبِ فما سوَّدتني عامِرٌ عن وارثة ... أبى الله أن أسمو بجدٍّ ولا أب ولكنني أحمي حِماها وأتَقِي ... أذاها وأرمي مَنْ رماها بمنكِبيَ وقال "الأبيوردي" مبينًا أنه لم يقنع بنسب آبائه وأجداده، وإنما حمع إلى مجدهم الموروث مجدًا اكتسبه بعلو همته (¬2): فشيدتُ مجدًا رَسَا أصلُه ... أمُتُّ إليه بأمٍّ وأب وقال المتنبي: ولست أبالي بعد إدراكي العُلا ... أكان تُراثًا ما تناولتُ أم كَسْبا وقال معن بن أوس: ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصنيعا ¬

_ (¬1) "العقد الفريد" (2/ 149)، وإذا اجتمع النسب الشريف مع العمل الصالح؛ فنِعِمَّا هو، وقد ميَّز الشافعية الإمام الشافعي -رحمه الله- بكونه قرشيًّا، وانظر: "الكافية" في الجدل، لإمام الحرمين. (¬2) وهذا أكمل ما يكون: أن ينضم المجد المكتسب إلى المجد الموروث، وأن تنضم "العصامية" إلى "العظامية"، [وُصِف عند الحجاج رجلٌ بالجهل، وكانت له إليه حاجة، فقال في نفسه: "لأختبرنه"، ثم قال له حين دخل عليه: "أعصاميًّا أنت أم عِظاميًّا؟ " -يريد: أشرُفتَ أنت بنفسك، أم تفتخر بآبائك الذين صاروا عظامًا؟ - فقال الرجل: "أنا عصامي، وعظامي" فقال الحجاج: "هذا أفضل الناس"، وقضى حاجته، وزاده، ومكث عنده، ثم فاتشه، فوجده أجهل الناس، فقال له: "تصدقني"، وإلا قتلتك"، قال له: "قل ما بدا لك، وأصدقك"، قال: "كيف أجبتني بما أجبتَ لما سألتك؟ "، قال له: "والله لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما، فأخطىء، فقلت: أقول كليهما؛ فإن ضرَّني أحدهما، نفعنى الآخر"، وكان الحجاج ظَنَّ أنه أراد: "أفتخر بنفسى لفضلي، وبآبائى لشرفهم"، فقال الحجاج عند ذلك: "المقادير تُصَيِّرُ العَيَّ خطبًيا"، فذهبت مثلًا] اهـ. من "مجمع الأمثال" للميداني (3/ 369 - 370).

إذا المجد القديم توارثته ... بناةُ السوء أوشك أن يضيعا وقال عبد الله بن معاوية: لسنا وإن كرُمت أوائلنا ... يومًا على الأحساب نتكلُ نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثلَ ما فعلوا وكبير الهمة لا يضيره ألا يكون ذا نسب، بل لا يضيره أن يمت بآصرة اللحم والدم إلى قوم لئام غير كرام، إذا كان بعلو همته ينتسب إلى الكرام: قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "كل كرم دونه لؤم، فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه كرم، فالكرم أولى به". تريد: أن أولى الأمور بالِإنسان خصالُ نَفسه، وإن كان كريمًا وآباؤه لئام، لم يضره ذلك، وإن كان لئيمًا وآباؤه كرام، لم ينفعه ذلك. واهًا لحُرٍّ واسعٍ صدرُه ... وهمُّهُ: ما سرَّ أهلَ الصلاحْ سَوَدَهُ إصلاحُه سِرَّه ... وردعُه أهواءَه، والطِّماحْ (¬1) وتكلم رجلٌ عند "عبد الملك بن مروان" بكلام ذهب فيه كُلَّ مذهب، فأعجب عبدَ الملك ما سمع من كلامه، فقال له: "ابنُ مَنْ أنت؟ " قال: "أنا ابنُ نفسى يا أمير المؤمنين، التي بها توصلتُ إليك"، قال: "صدقت"، فأخذ الشاعر هذا المعنى، فقال: مالَي عقلي، وهِمتي حَسَبي ... ما أنا مَوْلى ولا أنا عربى إذا انتمى مُنتمٍ إلى أحد ... فإنني منتم إلى أدبي وكبير الهمة لا يُلْفَى "عظاميًّا" مفتخرًا بالآباء والأجداد الذين صاروا عظامًا ورفاتًا: ¬

_ (¬1) طَمَحَ الماءُ طُموحًا، وطِماحًا: ارتفع، ويقال: طمح ببصره: رفعه وحَدَّق، وطمح إلى الأمر: تطلَّع، واستشرف، وطمح في الطلب: أبعد.

ما الفخر بالعظم الرميم وإنما ... فخار من يبغي الفخار بنفسه آخر: وَدَعُوا التفاخر بالتراث وإن علا ... فالمجُد كسبٌ والزمانُ عصامُ المتنبي: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجُدودي آخر: كم سِّيدٍ بطل آباؤه نُجبٌ ... كانوا الرءوس فأمسى بعدهم ذَنَبا ومُقْرفٍ خامِل الآباء ذي أدبٍ ... نال المعاليَ بالآداب والرُّتَبا المتنبي: وآنف من أخي لأبي وأمي ... إذا ما لم أجدْه من الكرام ولستُ بقانعٍ من كل فضل ... بأن أُعزَى إلى جَدٍّ همام آخر: كن ابنَ من شئتَ واكتسِبْ أدَبًا ... يغنيكَ محمودُهُ عن النسبِ إن الفتى من يقول: ها أنذا ... ليس الفتى من يقول: كان أبي وقد تواردت نصوص الشريعة المطهرة على التنفير من التفاخر بالأحساب، إذا كان على وجه الاستكبار أو الاحتقار، وبذلك نطقت الأخبار، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}. [وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب، حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة؛ لاتحاد ما خُلِقا منه، ولا من جهة الفاعل؛ لأنه هو الله تعالى الواحد، فليس للنسب شرف يُعَوَّل عليه، ويكون مدارا للتراب عند الله -عز وجل-، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى، وبها تكمل النفس، وتتفاضل الأشخاص.

وقد رتَّب تعالى الجزاء على الأعمال لا على الأنساب، كما قال -عز وجل-: {فإذا نفِخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}، وقال - صلى الله عليه وسلم -:" .. ومن بطَّأ به عمله؛ لم يُسرع به نسبه" (¬1)، معناه: أن العمل هو الذي يبلُغ بالعبد درجات الآخرة، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "يأمر الله بالصراط، فَيُضرب على جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمرِّ الريح، ثم كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، حتى يمرآخرهم يتلبَّط على بطنه، فيقول: "يا رب لم بطَّأت بي؟ " فيقول: "إني لم أبطىء بك، إنما بطَّأ بك عملك" (¬2) [حسن]، وها هو - صلى الله عليه وسلم - يحرض أهل بيته وعشيرته الأقربين على لزوم التقوى، ويحذرهم من الاتكال على نسبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أشرف أنساب العالمين- فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين، كي يجتمع لهم الشرفان: شرف التقوى، وشرف النسب: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباسُ بنَ عبد المطلب! لا أغني عنكَ من الله شيئًا، يا صفيةُ عمةَ رسول الله! لا أغني عنكِ من الله شيئًا، يا فاطمةُ بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنكِ من الله شيئًا" متفق عليه، ¬

_ (¬1) عَجُز حديث رواه مسلم وغيره. (¬2) وقد ورد مرفوعًا وموقوفا، انظر: "الدر المنثور" (4/ 281)، "شرح الطحاوية" (2/ 606) ط. الرسالة.

وفي رواية خارج "الصحيحين": (إن أوليائي منكم المتقون، لا يأتي الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم، فتقولون: "يا محمد"، فأقول: "قد بلَّغت")، وفي "الصحيحين" عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين" يشير إلى أن وَلايته لا تُنال بالنسب، وإن قرُب، وإنما تُنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيمانًا وعملًا، فهو أعظم وَلاية له، سواءكان له منه نسبٌ قريب، أو لم يكن. فالتقوى التقوى، فالاتكال على النسب، وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا قوله تعالى لنوح - عليه السلام - في شأن ابنه: {يا نوحُ إنه ليس من أهلك إنه عمل غيرُ صالح}: كانت مودةُ سلمان له نسبًا ... ولم يكن بين نوحٍ وابنهِ رحِمُ وقال بعضهم: عليك بتقوى الله في كل حالة ... ولا تترك التقوى اتكالًا على النسب فقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ ... وقد وضع الكفرُ النسِيبَ أبا لهب قيل لشريح: "ممن أنت؟ ". قال: "ممن أنعم الله عليه بالإسلام، وعِدادي في كِندة". وقال ثابت البُناني: قال أبو عبيدة: "يا أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمرَ، ولا أسودَ يَفْضُلني بتقوى، إلا وددت أني في مِسْلاخه". وروي أنه قيل لسلمان الفارسي: "انتسب يا سلمان"، قال -رضي الله

عنه-: "ما أعرف لي أبًا في الِإسلام، ولكني سلمان ابن الِإسلام" (¬1). ولله دَرُّ القائل: دَعِيُّ القوم ينصر مدَّعيه ... لِيُلْحِقَهُ بذي الحسبِ الصميمِ أبي الِإسلامُ لا أبَ لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم وبينما يقول خسيس الهمة المفتون بعشق امرأة: فلا تَدْعُني إلا بيا عبدَها ... فإنه أشرف أسمائي رأينا كبير الهمة يتشرف بنسبته إلى الله -عز وجل-: فلا تدعني إلا بيا عبده ... فإنه أشرف أسمائي بل قال، وما أحسن ما قال! ومما زادني تيهًا وشرفًا ... وكدت بأخمصي أطأُ الثريَّا دخولي تحت قولك: "يا عبادي" ... وأن صيَّرت "أحمدَ" لي نبيَّا آخر: كفى بك عِزًّا أنك له عبدٌ ... وكفى بك فخرًا أنه لك رَبُّ آخر: إذا عَزَّ بغير الله ... يومًا معشرٌ هانوا عن أبي هريرة: -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله -عز وجل- أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية (¬2) وفخرَها (¬3) بالآباء، الناسُ بنو آدم، وآدم من تراب: مؤمن تقي، وفاجرٌ شقي، لينتهينَّ أقوام يفتخرون ¬

_ (¬1) انظر "سير أعلام النبلاء" (1/ 544). (¬2) الكِبر والفخر والنخوة، بضم العين من التعبية، أي: المتكبر ذو تكلف وتعبية، بخلاف من يسترسل على سجيته. (¬3) تفاخرها.

برجال (¬1) إنما هم فَحْمٌ مِن فحم جهنمَ، أو لَيكُوننَّ أهونَ على الله من الجُعْلانِ (¬2) التي تدفع النتن (¬3) بأنفها" (¬4). وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له، وقد التفت نحو المدينة: "إن أهل بيتي هؤلاء يَرَوْنَ أنهم أوْلى الناس بي، وإن أولى الناس بي المتقون، مَن كانوا، وحيث كانوا" الحديث (¬5). فالحزم اللائق بالنسيب: أن يتقي الله تعالى، ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته، ليكون قد زاد على الزُّبْدِ شَهدًا، وعلَّق على جِيْدِ الحسناء عِقْدًا، ولا يكتفي: لمجرد الانتساب إلى جدودٍ سَلَفُوا، ليقال له: "نِعْمَ الجدودُ، ولكن: بئس ما خلفوا" وقد ابتلي كثير من الناس بذلك، فترى أحدهم يفتخر بعظم بالٍ وهو عري -كالإبرة- من كل كمال، ويقول: "كان أبي كذا وكذا"، وذاك وصف أبيه، فافتخاره به نحو افتخار الكوسج (¬6) بلحية أخيه، ومن هنا قيل: ¬

_ (¬1) أي: بآبائهم وأجدادهم الذين ماتوا على الكفر، ومعاندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعذبهم الله بذلك، وجعلهم لهبًا وحطبًا ووقودًا لجهنم. (¬2) الجعلان جمع جُعَل: دويبة أرضية. (¬3) وفي لفظ الترمذي: (أو ليكونن أهون على الله من الجُعَل الذي يُدَهْدِهُ) - أي: يدحرج (الخُرْءَ بأنفه). (¬4) رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه، والبيهقى، واللفظ له، وحسنه المنذري في "الترغيب" (3/ 614). (¬5) قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير"، وصححه ابن حبان (الإحسان: رقم 647). (¬6) الكوسج: الذي لا شعر على عارضيه.

وأعجب شيء إلى عاقل ... أناسٌ عن الفضل مستأخِرهْ إذا سئلوا: "من علا؟ " ... أشاروا إلى عظامٍ ناخِره وقال بعضهم: أقول لمن غدا في كل وقت ... يباهينا بأسلافٍ عظام أتقنع بالعظام وأنت تدري ... بأن الكلب يقنع بالعظام وما ألطفَ قول الشاعر: لم يُجْدِك الحسبُ العالي بغير تقى ... مولاك شيئًا فحاذِرْ واتق الله وابغ الكرامة في نيل الفخار به ... فأكْرَمُ الناس عند الله أتقاها وما أكثر هذا الافتخار البارد بين خسيسي الهمة الذين ارتكبوا كل رذيلة، وتعروا عن كل فضيلة، ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البريهّ، واحتقروا أناسًا فاقوهم حسبًا ونسبًا، وشرفوهم أمًّا وأبًا، وهذا هو الضلال البعيد، والحمق الذي ليس عليه مزيد. ومع شرف الانتساب إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه ينبغي لمن رزقه ألا يجعله عاطلًا عن التقوى، ويدنسه بمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة، وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة، وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، وقد يبلغ اتباعُ الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحيى أن يُنْسَبَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وربما ينكر نسبه، وعليه قيل لشريفٍ سيىء الأفعال: قال النبي مقال صدق ... يحلو لدى الأسماع والأفواهِ إن فاتكم أصل امرىٍء ففعاله ... تنبيكمُ عن أصله المتناهي (¬1) ¬

_ (¬1) لم يبين الآلوسي -رحمه الله - الحديث الذي أشار إليه الشاعر في هذا الموضع، =

وأراك تُسْفِرُ عن فعال لم تزل ... بين الأنام عديمةَ الأشباهِ وتقول: "إني من سلالة أحمد" ... أفأنت تَصدُقُ أم رسولُ اللهِ؟ ولا يلومَنَّ الشريفُ إلا نفسَه إذا عومل حينئذٍ بما يكره، وقُدِّمَ عليه من هو دُونه في النسب بمراحل. كما يُحكى أن بعض الشرفاء في بلاد "خراسان" كان أقربَ الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير أنه كان فاسقًا ظاهر الفسق، وكان هناك مولًى أسود تقدم في العلم والعمل، فأكبَّ الناسُ على تعظيمه. فاتفق أن خرج يومًا من بيته يقصد المسجد، فاتبعه خلق كثير يتبركون به (¬1)، فلقيه الشريف سكران، فكان الناس يطردونه عن طريقه، فغلبهم، وتعلَّق بأطراف الشيخ، وقال: "يا أسودَ الحوافرِ والمشافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أُذَلُّ، وأنت تُجَلُّ، وأهانُ، وأنت تُعان؟! فهمَ الناس بضربه، فقال الشيخ: "لا تفعلوا، هذا محتمل منه لجِدِّه، ومعفوُّ عنه، وإن خرج عن حَدِّه، ولكن أيها الشريف: بَيَّضْتُ باطني، وسوَّدتَ باطنك، فَرُؤي بياضُ قلبي فوقَ سوادِ وجهي، فَحَسُنْتُ، وسوادُ قلبِكَ فوقَ بياضِ وجهك، فَقَبُحتَ، ¬

_ = ولم أهتد إليه. (¬1) يُحمل هذا على التبرك المشروع بالصالحين، وهو يكون بالانتفاع بعلمهم ووعظهم، ولحظهم للاقتداء بهم، وكذا بالانتفاع بدعائهم، ومخالطتهم في مجالس الذكر حيث كانت سيما في المساجد، أما التبرك بذواتهم فغير مشروع، وانظر تحقيق ذلك في "الاعتصام" للشاطبي (2/ 8 - 10)، وكذا "التبرك أنواعه وأحكامه" للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع.

وأخذتُ سيرةَ أبيك، وأخذتَ سيرةَ أبي، فرآني الخلقُ في سيرةِ أبيك، ورَأوْكَ في سيرةِ أبي، فظنوني ابنَ أبيك، وظنوكَ ابنَ أبي، فعملوا معك ما يُعمَلُ مع أبى، وعملوا معي ما يُعمل مع أبيك". ولهذا ونحوه قيل: ولا ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله (¬1) أي: لا ينفع في الامتياز على ذوي الخصال السنية، إذا كانت النفس في حَدِّ ذاتها باهلية ردية، ومن الكمالات عرية] (¬2). البحتري: ولست أعتدُّ للفتى حسبًا ... حتى يُرَى في فِعالِه حَسَبُهْ ... ¬

_ (¬1) باهلة: اسم امرأة من همدان نُسب ولدها إليها، فقيل: بنو باهلة، واشتهر أنهم موصوفون بالخساسة، قيل: كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية، وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها، ويأخذون دسوماتها، فاستنقصتهم العرب جدًّا، حتى قيل لعربي: "أيسرك أن تكون من أهل الجنة، وأنت باهلي؟! " قال: "بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني من باهلة" كذا في "روضة العقلاء" ص (249)، وقال الآلوسي: (وليس كل باهلي كما يقولون، بل فيهم الأجواد، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق ْالكل) اهـ. من "روح المعاني" (26/ 166)، وانظر: "الكامل" للمبرد (2/ 24 - 29). (¬2) ما بين المعقوفين بطوله من "روح المعاني" (26/ 165 - 167) بتصرف وزيادات.

عالي الهمة شريف النفس يعرف قدر نفسه

عَالي الهمةِ شِريف النفسِ يَعُرِف قَدْرَ نَفسِهِ أُثِر عن العرب أخبار كثيرة فيها إعظامهم شرف النفس، فمنها: ما حكاه العُتبيُّ عن أبيه قال: أهدى ملك اليمن عشر جزائر (¬1) إلى مكة، وأمر أن ينحرها أعزُّ قرشي، فقدِمَتْ، وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة، فقالت له: "أيها الرجل، لا يَشغلنَّك النساء عن هذه المكرمة التى لعلها أن تفوتك"، فقال لها: "يا هذه، دَعي زوجَك وما يختاره لنفسه! والله ما نحرها غيرى إلا نحرتُه! "، فكانت في عُقُلِها (¬2)، حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع، فنحرها. ومن شرف النفس وعلو الهمة ما قالته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية -رضي الله عنهم- حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان، وقال لها بعض المُعَزِّين: "إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد"، فقالت هند: "أو مثل معاوية يكون خَلَفًا من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها، ثم رُمَي به فِيها، لخرج من أي أعراضها شاء". ¬

_ (¬1) جزائْر وجُزُر: جمع جَزُور، ما يصلُح لأن يُذبح من الإبل. (¬2) العُقُل: جمع العِقال، الحبل الذي يُعقل به البعير، يقال: عَقَلَ البعير إذا ضم رسغ يده إلى عَضُده، ورَبَطهما معًا بالعقال ليبقى باركًا.

وقيل لها -ومعاوية وليدٌ بين يديها-: "إن عاش معاوية، ساد قومه"، فقالت: "ثكِلْتُه إن لم يَسُدْ إلا قومه". وكان معاوية -رضي الله عنه- يقول: "إني لآَنَفُ من أن يكون في الأرض جهلٌ لا يسعه حِلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يَسَعها جودي". وقال الأحوص في الفخر (¬1): ما من مُصيبةِ نكبةٍ أُرْمَى بها ... إلا تُشَرِّفُنِي وترفعُ شاني وإذا سألتَ عن الكرام وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المُرِّيُّ، وكان أعرابيًّا يسكن البادية، وكان يُصهر إليه الخلفاء، وخطب إليه "عبد الملك بن مروان" ابنته لأحد أولاده، فقال له: "جَنِّبْني هُجَناءَ (¬2) ولدكِ". وعالي الهمة يعرف قدر نفسه، في غير كبر، ولا عجب، ولا غرور، وإذا عرف المرء قدر نفسه، صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تُهان، ونزَّهها عن دنايا الأمور، وسفاسفِها في السر والعلن، وجنَّبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق، أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين، وعز منيع لا تعطى الدنية، ولا ترضى بالنقص، ولا تقنع بالدون. ألم تر إلى شرف نفس الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم نبي الله ¬

_ (¬1) وقد زعم صاحب "العقد الفريد" أنه أفخر بيت قالته العرب، والصحيح أن أفخره قول حسان بن ثابت -رضي الله عنه -: وبيوم بدرٍ إذ يَرُدُّ وجوهَهم ... جبريلُ تحت لوائنا ومحمدُ (¬2) الهُجَناء: الذين أُمُّهم غير عربية.

يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- حين دعا ربه {ربِّ السجن أحب إلَّي مما يدعونني إليه}، وحين قال لرسول المَلِك: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهنَّ إن ربي بكيدهن عليم}، ولا عجب فإن من يصبر فيما له ألا يصبر فيه، وهو الخروج من السجن، مع توفر الدواعي على الخروج منه، فأولى به أن يصبر فيما يجب عليه أن يصبر فيه من الهم بامرأة العزيز. قيل لرجل: "لي حُوَيْجَة"، فقال: "اطلبوا لها رُجَيلًا". وقيل لآخر: جئناك في حاجة لا ترزؤك (¬1)، فقال: "هلا طلبتم لها سفاسف الناس؟ " (¬2). وقد قيل لبعض العلماء: لي سؤال صغير، فقال: "اطلب له رجلًا صغيرًا". ومن علو الهمة وشرف النفس ماروي عن "قطب السخاء" "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب" فقد سألته امرأة، فأعطاها مالًا عظيمًا، فقيل له: "إنها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير"، فقال: "إن كان يرضيها اليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي". وسأله سائل بينا يهم بركوب ناقتِه، فنزل له عنها، وعما فوقها، ¬

_ (¬1) يقال: رَزَأهُ ماله: إذا أصاب منه شيئًا، فنقصه. (¬2) فإذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا، فكيف لا يطمع أهل الدين في فضل الجواد الكريم؟!

وكان عليها أربعة آلاف درهم، وسيف من سيوف على بن أبي طالب. وعن سعيد بن عبد العزيز أن الحسن بن على بن أبي طالب -رضي الله عنهما- سمع رجلًا إلى جنبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف، فبعث بها إليه. وعن أبي سعيد عن شيخ له قال: رأيت ابن المبارك يَعَضُّ يد خادم له، فقلت له: "تعض يَدَ خادِمِكَ؟ " قال: "كم آمره أن لا يَعُدَّ الدراهم على السُّؤال (¬1)، أقول له: اُحث لهم حَثْوًا". ومن شرف النفس ومعرفة قدرها، قول "الأبيوردي": رأت أميمة أطماري (¬2) وناظرها ... يعوم في الدمع منهلا بوادِرُه وما درت أن في أثنائها رجلًا ... ترخى على الأسد الضارى غدائره (¬3) أغر في ملتقى أوداجه صيد ... حمر مناصله (¬4) بيض عشائره (¬5) إن رَثَّ بردي (¬6) فليس السيف محتفلاً ... بالغمد (¬7) وهو وميض الغرب باتره (¬8) ¬

_ (¬1) السُّؤال: طالبو الصدقة. (¬2) أطمار: جمع طِمْر، الثوب الخلَق البالي. (¬3) غدائر: جمع غديرة، الذؤابة المضفورة من الشعر. (¬4) مناصل: جمع مُنْصُل، وهو السيف. (¬5) عشائر: جمع عشيرة، وعشيرة الرجل: بنو أبيه الأقربون، وقبيلته، ويقال: فلان أبيض أي: نقيُّ العِرض. (¬6) رَثَّ: بَلي، والبُرْدُ: كساء مخطط يُلْتَحَفُ به. (¬7) الغِمْد: غِلاف السيف. (¬8) الغربُ: أول كل شيء وحَدُّه، يقال: غرب السيف، والسكين، والفأس، ونحو ذلك، وسيف غرب: قاطع، حاد، والوميض: اللمعان، والباتر: القاطع.

وهمتي في ضمير الدهر كامنة ... وسوف يَظهر ما تُخفي ضمائرُه ومن هذا الباب قول الشافعي -رحمه الله-: عَلَيَّ ثيابٌ لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بها ... نفوس الورى كانت أعز وأكبرا وما ضَرَّ نَصْلَ السيفِ إخلاقُ غِمدِه ... إذا كان عَضْبًا (¬1) حيث وجَّهْتَه فَرَى (¬2) وقال الشافعي -رحمه الله- أيضًا: إذا المشكلات تصدَّين لي ... كشفت حقائقها بالنظر لسان كشِقْشِقة الأرحبي (¬3) أو كالحسام اليماني الذكر ولست بإمَّعةٍ (¬4) في الرجا ... لِ أسائل هذا وذا ما الخبر ولكننى مِدْره (¬5) الأصغرين (¬6) ... جلَّابُ خير، وفرَّاجُ شر وقال الحريري رحمه الله: وفضيلة الدينار يَظهر سرُّها ... من حَكِّهِ لا من مَلاحَة نقشهِ ومن الغباوة أن تُعظم جاهلًا ... لِصِقال ملبَسه ورونق رقشِه أو أن تُهين مُهَذبًا في نفسه ... لِدُروس بَزَّتهِ وَرَثَّةِ فرشِه ¬

_ (¬1) السيف العاضب: الحاد القاطع. (¬2) فَرَى: شق وقطع، والشافعي -رحمه الله- هو القائل: "ما رفعتُ أحدًا فوق منزلته؛ إلا حَطَّ مني بمقدار ما رفعتُ منه". (¬3) الشِّقْشِقَةُ: شيء كالرئةُ يخرجه البعير من فيه إذا هاج، وتستعمل في التعبير عن القدرة على الخطابة والبيان، والأرحبُّي: نسبة إلى قبيلة "أرحب"، وهي بطن من "همدان"، وإليها تُنْسَبُ الإبل الأرحبيات. (¬4) الإمَّعة، والإمَّع: الرجل يتابع كل أحد على رأيه، لا يثبت على شيء. (¬5) المِدْرَةُ: السيد الشريف، والمُقْدِمُ عند الخصومة والقتال. (¬6) الأصغران: القلب واللسان.

وقال أبو هلال العسكري رحمه الله: جلوسي في سوق أبيع وأشتري ... دليل على أن الأنام قرود ولا خير في قوم تَذِلُّ كرامُهم ... ويعظم فيهم نذلهم ويسود ويهجوهم عني رثاثة كسوتي ... هجاءً قبيحًا ما عليه مزيد ... وكره بعض العلماء أن يتحول عن بلده، مع إيثاره الخمول والانقباض عن الناس، خشية أن يعامله من لا يعرف قدره؛ بما لا يليق به: كان الِإمام سفيان الثوري -رحمه الله- شديد التواضع (¬1) في غير ذل ولا استصغار، ومن كلامه -رحمه الله-: "أحِبُّ أن أكونَ في موضعٍ لا أُعْرَفُ، ولا أُسْتَذَلُّ"، وقال ابن مهدي: سمعت سفيان الثوري يقول: "وددتُ أني أخذتُ نعلي هذه، ثم جلست حيث شئت، لا يعرفني أحد"، ثم رفع رأسه، ثم قال: "بعد أن لا أُسْتَذَلُّ". ولشدة حذره من الذلة، كان يسكن بين معارفه من الناس الذين يعرفون قدره، وقال -رحمه الله-: "لولا أن أُسْتَذَلَّ" لسكنتُ بين قوم لا يعرفونني" (¬2). ¬

_ (¬1) وقد رؤي مرة في مكة، وقد أكثر عليه الناس من حوله، فقال: "ضاعت الأمة حين احتيج إليَّ"، وكان يقول: "لو لم يأتني أصحاب الحديث، لأتيتهم في بيوتهم"، ويقول: "لو أني أعلم أن أحدًا يطلب الحديث بنية، لأتيته في بيته حتى أحدثه"، وكان لا يتصدر مجلسًا، ولكنه يجلس بين عامة الناس، حتى قال في ذلك علي بن ثابت: "ما رأيت سفيان في صدر مجلس قط، كان يقعد إلى جنب الحائط، ويجمع بين ركبتيه"، انظر "حلية الأولياء" (6/ 367 - 382). (¬2) ولا يرد على هذا ما حكاه الحسن قال (كنت مع ابن المبارك يومًا فأتينا على =

لما قدم المدينة الخليفةُ المهديُّ، أقبل الناسُ عليه مسَلِّمين، فلما أخذوا مجالسهم جاء مالك، فقالوا: "اليوم يجلس مالكٌ آخر الناس"، فلما دنا، ونظر ازدحام الناس، وقف، وقال: "يا أمير المؤمنين! أين يجلس شيخك مالك؟ "، فناداه المهدي: "عندي يا أبا عبد الله! "، فتْخطَّى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى، وأجلسه بحانبه. ... وبهذه العزة أجاب العالم الضرير المحدِّثَ أبو معاوية محمد بن خازم هارون الرشيد، لما صَّب الماء على يديه، وأعلمه بذلك بعد أن فرغ: "إنما أكرمتَ العِلمَ يا أمير المؤمنين". ... عزل الإمام "ابن دقيق العيد" -رحمه الله- نفسه عن القضاء في بعض المرات، ثم طُلب ليُوَلِّى، وقام السلطان الملك المنصور "لاجين" له واقفًا لما أقبل، فصار يمشى قليلًا قليلًا، وهم يقولون له: "السلطان واقف"، فيقول: "أديني بأمشى!! "، وجلس معه على الجوخ حتى لا يجلس دونه، وقبَّل السلطان يده، فقال ابن دقيق العيد: "تنتفع بهذا"! ¬

_ = سقاية، والناس. يشربون منها، فدنا منها ليشرب، ولم يعرفه الناس، فزحموه، ودفعوه، فلما خرج قال لي: "ما العيش إلا هكذا"، يعني حيث لم نُعرف ولم نُوقَّر)، فإن غاية ما فيه أنه لم يُعْرَف، فعُومل كسواد الناس، لا أنه ذُلَّ، وهذا عين ما حرص عليه أويس القرني -رحمه الله- حين قال له عمر -رضى الله عنه-: "أين تريد؟ "، قال: "الكوفة"، قال: "ألا أكتب لك إلى عامِلها؟ "، قال: "أكون في غَبراء الناس أحَبُّ إلَيَّ" رواه مسلم، و "غبراء الناس": ضعافهم، وصعاليكهم وأخلاطهم الذين لا يُؤبه لهم.

وقال ابن حزم- رحمه الله-: (ومن أعظم ما يُحكى من المكارم التى لم نَسمع لها أختًا: أن أبا غالب تمام بن غالب التَّيَّاني (ت 436) ألَّف كتابا في اللغة (¬1)، فوجَّه إليه أبو الجيش مجاهد العامريُّ صاحب الجزائر ودانية ألف دينارٍ أندلسية، ومركوبًا وأكسية، على أن يزيد في ترجة الكتاب -أي: في اسمه-: "مما ألَّفه أبو غالب لأبي الجيش مجاهد" فردَّ الدنانيرْ وغيرها، وقال: "كتاب ألَّفْتُه لينتفع به الناس، وأُخلِّدَ فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري، وأصرف الفخر له! والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلتُ، ولا استجزتُ الكذب، لأنني لم أجمعه له خاصة، بل لكل طالب "فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها!) (¬2) اهـ. ... وعن أبي سعيد بكر بن منير قال: (بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل البخاري: "أن احمل إليَّ كتاب "الجامع"، و"التاريخ"، وغيرهما لأسمع منك"، فقال محمد بن إسماعيلَ لرسوله: "أنا لا أُذِلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كنت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا؛ فأنت سلطان، فامنعني من الجلوس، ليكون في عذر عند الله يوم القيِامة، لأني لا أكتم العلم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سئل عن علم فكتمه، أُلجم بلجام من نار"، قال: فكان سبب الوحشة بينهما هذا) اهـ. ¬

_ (¬1) واسم الكتاب "تلقيح العين". (¬2) انظر: "نفح الطيب" للمقري (3/ 172، 190).

وقال أبو بكر بن أبي عمرو: (كان سبب مفارقة أبي عبد الله البخاري البلد أن خالد بن أحمد خليفة ابن طاهر سأله أن يحضر منزله، فيقرأ "التاريخ"، و"الجامع" على أولاده، فامتنع من ذلك، وقال: "لا يسعني أن أخص بالسماع قومًا دون قوم آخرين"، فاستعان خالد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى، حتى تكلموا في مذهبه، فنفاه عن البلد، وقال: فدعا عليهم) إلخ (¬1). ... جاء في ترجمة الخطيب البغدادي -رحمه الله- أنه (دخل عليه بعض العلوية، وفي كُمِّه دنانير، فقال للخطيب: "فلان يُسَلِّم عليك، ويقول لك: اصرف هذا في بعض مهماتك"، فقال الخطيب: "لا حاجة لي فيه"، وقطب وجهه، فقال العلوي: "كأنك تستقله؟ "، ونفض كُمَّه على سجادة الخطيب، وطرح الدنانير عليها، فقال: "هذه ثلاثمائة دينار"، فقام الخطيب محمرًّا وجهه، وأخذ السجادة، وصَبَّ الدنانير على الأرض، وخرج من المسجد)، قال أحد تلامذة الخطيب: (ما أنسى عِزَّ خروج الخطيب، وذُلَّ ذلك العلوي، وهو قاعد على الأرض، يلتقط الدنانير من شقوق الحصير، ويجمعها) (¬2) اهـ. وفي عزة العالم وشرف نفسه، قال القاضي أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجاني: ¬

_ (¬1) أنظر: "هدي السارى" ص (493). (¬2) "طبقات الشافعية" (3/ 14).

يقولون لي: فيك انقباض، وإنما ... رأوا رجلًا عن موقف الذل أحجما أرى الناسَ من داناهمُ هان عندهم ... ومن أكرَمته عزة النفس أُكْرِما ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته في سُلَّمَا وما زلتُ منحازًا بعرضي جانبًا ... من الذل أعتد الصيانة مَغنما وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من في الأرض أرضاه مُنِعما إذا قيل: "هذا منهل"، قلت: قد أرى ... ولكن نفسَ الحُرِّ تحتمل الظما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدُمَ من لاقيتُ لكن لأُخْدَما أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة ... إذًا فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظَّما ولكن أذلوه فهان، ودنَّسوا ... مُحَيَّاهُ بالأطماع حتى تجهَّما (¬1) ... وقال الذهبي في ترجمته للإمام على بن أبي الطيب: إنه حمل إلى السلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه، فلما دخل جلس بلا إذن، وأخذ في رواية حديث بلا أمر، فتنمر له السلطان، وأمر غلامًا، فلكمه لكمة أطرشته، فعرفه بعضُ الحاضرين منزلته في الدين والعلم، فاعتذر إليه، وأمر له بمال، فامتنع، فقال: "يا شيخ! إن للمُلْكِ صَولةً، وهو محتاج إلى السياسة، رأيتُ أنك تعدَّيتَ الواجب، فاجعلني في حِلٍّ"، قال: "الله بيننا بالمرصاد، وإنما أحضرتني للوعظ، وسماع ¬

_ (¬1) "الآدب الشرعية" لابن مفلح (2/ 50)، وانظر "أدب الدنيا والدين" للماوردي ص (47).

أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وللخشوع، لا لإقامة قوانين الرئاسة"، فخجل الملك، واعتنقه. * وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبدًا أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلَّاة (¬1)، قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه، وهو يصلي، فلما صلى، انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: "قوما"، فقاما، فقال: "يا ابنَيَّ لا تَنِيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود". * ومن لطائف شرف النفس، والمبالغة في تنزيهها عن الدنية، أن الشيخ "عز الدين" كانْ إذا قرأ القارئ عليه من كتاب، وانتهى إلى آخر باب من أبوابه لا يقف عليه، بل يأمره أن يقرأ من الباب الذي بعده؛ ولو سطرًا، ويقول: "ما أشتهي أن أكون ممن يقف على الأبواب". * وهذا آخَرُ من العلماء يشمخ على الفقر والسؤالِ حتى ولو كان فيه نيلُ العلياء، فينَهى عن السؤال ومَدِّ اليد، ولو للعلياء، فَمدُّ اليد من العالم ذِلَّة وانكسارُ نفس، والعالمُ داعية الحق، فكسر نفسه بالسؤال إضعاف للحق الذي يدعو إليه، فيقول ذلك الفقيرُ الشامخُ الأبيُّ: لا تمُدَّن للعلياء منك يدًا ... حتى تقولَ لك العلياءُ: هاتِ يَدَك ... وقيل: أنفذ الخليفة بمائة دينار إلى عالم، وقال لغلامه: "إن قبل ذلك، فأنت حُرٌّ"، فحملها إليه، فلم يقبل، فقال: "اقبل، ¬

_ (¬1) الباقِلَّاء: نبات عشبي حولي، تؤكل قرونه مطوخة، وكذلك بذوره.

ففيه عتقي"، فقال: "إن كان فيه عتقُكَ، ففيه رِقِّي". ... وكان الشيخ "سعيد الحلبي" -عالم الشام في عصره- في درسه مادًّا رجليه، فدخل عليه جبَّار الشام "إبراهيم باشا" ابن "محمد علي" صاحب مصر، فلم يتحرك له، ولم يقبض رجليه، ولم يبدل قعدته، فتألم الباشا، ولكنه كتم ألمه، ولما خرج، بعث إليه بصُرَّة فيها ألف ليرة ذهبية، فردَّها الشيخ، وقال للرسول الذي جاءه بها: "قل للباشا: إن الذي يمد رجليه، لا يمد يده". ومن شرف النفس، ومعرفة قدرها في الصِّغار: * ما قال زياد بن ظبيان -وهو يجود بنفسه- لابنه عُبيد الله: "ألا أوصي بك الأمير زيادًا؟ "، قال: "يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصيةُ الميِّت؛ فالحيُّ هو الميت"، وقال الشاعر في نحوه: إذا ما الحيُّ عاش بعظم ميتٍ ... فذاك العظمُ حَيٌّ وهو مَيْتُ * وقال معاوية لعمرو بن سعيد، وهو صبي: "إلى من أوصى بك أبوك؟ "، قال: "إن أبي أوصى إلَي، ولم يوص بي"، قال: "وبم أوصى إليك؟ "، قال: "ألاَّ يفقد إخوانُه منه إلا وجهَه". * كان الشيخ "عبد الوهاب الفارسي" -رحمه الله- يسِير يومًا برفقة صديقه الشيخ "محمد الجراح"، فصدمتهما سيارة، فسقطا في حفرة وجُرحا، ولما علما أن السائق كان سكران؛ صفحا عنه، وامتنعا

من مقاضاته، أنفة من أن يقفا في موقف واحد مع سكران. ونختم هذا الفصل بمثال فَذٍّ، بذل حياته لإعلاء كلمة الله، وهو الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- وأعلى درجته في الشهداء، ذلك البطل الذي ارتضع منذ طفولته معاني العزة والكرامة والأنفة وشرف النفس، والذي عاش حياته "سيدًا"، وغادر الدنيا سيدًا، رافعًا رأسه، والذي عاش حياته "قطبًا"، وغادرها قطبًا في الدعوة والجهاد، ونتوقف فقط عند ساعاته الأخيرة في الدار الفانية، وقد طُلب إليه أن يعتذر للطاغية مقابل إطلاق سراحه، فقال: "لن أعتذر عن العمل مع الله"، وعندما طُلب منه كتابةُ كلمات يسترحم بها عبد الناصر قال: "إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، ليرفض أن يكتب حرفًا يُقِرُّ به حكم طاغية"، وقال أيضًا: "لماذا أسترحم؟ إن سُجِنتُ بحق، فأنا أقبل حكم الحق! وإن سُجنت بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل! ". وفي إحدى الجلسات اقترب أحد الضباط منه، وسأله عن معنى كلمة "شهيد"، فردَّ عليه -رحمه الله- قائلًا: "شهيد: يعني أنه شهد أن شريعة الله أغلى عليه من حياته": لعمركْ إني أرى مَصرعي ... ولكنْ أغُذُّ إليه الخُطا لعمرك هذا ممات الرجالِ ... فمن رام موتًا شريفًا فذا (¬1) ... ¬

_ (¬1) انظر: "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" ص (61 - 62)، (462)، (474)، (481)، ومن نماذج الشموخ والاستعلاء على الجاهلية حتى في=

خسيس الهمة دنيء النفس

خَسيسُ الهِمَّة دَنيءُ النَّفْسِ يستحيي الإنسان ممن يكبر في نفَسه، فيستحيي من العالم أكثر من استحيائه من الجاهل، ويستحيي من الصالح أكثر من الفاجر، في حين أنه لا يستحيي من الحيوان، ولا من الأطفال، ومن كانت نفسه عنده كبيرة، كان استحياؤه منها أشدَّ من استحيائه من غيرها، أما خسيِس الهمة فإنه يستحيي من الناس، ولا يستحيي من نفسه إذا انفرد عن الناس، لأن نفسه أخس عنده من غيره، وهو يراها أحقر من أن يستحيي منها، فمن ثَمَّ قال بعض السلف: "من عمل في السر عملًا يستحيي منه في العلانية؛ فليس لنفسه عنده قدر" (¬1)، وقيل لبعض العُبَّاد: "من شَرُّ الناس؟ "، قال: "من لا يبالي أن يراه الناس مسيئًا". ... ¬

_ =أشد اللحظات ما قاله ذلك البطل الذى انقطع به حبل المشنقة لحظة إعدامه بالباطل، فقال: "كل جاهليتكم رديئة، حتى حبالكم رديئة! " اهـ. من "صناعة الحياة" ص (60). (¬1) انظر "مدارج السالكين" (2/ 353).

فروق تمس الحاجة إلى بيانها

فرُوق تمسُّ الحَاجَة إِلَى بَيَانِهَا قد تُلَبِّسُ النفسُ الأمارة بالسوء على العبد أمورًا يحبها الله ويرضاها بأمور يبغضها الله -عز وجل-، ولدقة الحد الفاصل بينهما لا ينجو من هذا التلبيس إلا أرباب البصائر، ذوو النفوس المطمئنة، وقد عقد الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- فصولًا نافعة بَيَّن فيها هذه الدقائق النفيسة في كتابه "الروح"، نجتزئ منها بما نحتاجه في هذا المقام. الفَرْق بَينَ شَرفِ النَّفْسِ وَالتيه (شرف النفس هو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي تقطع أعناق الرجال، فيربأ بنفسه عن أن يُلقيها في ذلك، بخلاف التيه، فإنه خُلُق متولِّدٌ بين أمرين: إعجابه بنفسه، وازدرائه بغيره، فيتولد من بين هذين التيه، والأول (أي شرف النفس) يتولد من بين خُلُقَيْن كريمين: - إعزاز النفس وإكرامها، - وتعظيم مالكها وسيدها أن يكون عبده دَنِيًّا وضيعا خسيسًا، فيتولد من بين هذينَ الخلقين شرف النفس وصيانتها، وأصل هذا كله: استعداد النفس وتهيؤها، وإمداد وليها ومولاها لها، فإذا فقد الاستعداد والإمداد، فقد الخير كله) (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) "الروح" ص (313).

الفرق بين صيانة النفس والتكبر

الفَرق بَين صِيانَةِ النفسِ وَالتكبُّر (والفرق بين الصيانة والتكبر: أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس ثوبًا جديدًا، نقي البياض، ذا ثمن، فهو يدخل به على الملوك فمَن دونَهم، فهو يصونه عن الوسخ والغبار والطبوع وأنْواع الآثار إبقْاءً على بياضه ونقائه، فتراه صاحب تعزز وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث، فلا يسمح بأثر ولا طبع ولا لوث يعلو ثوبه، وإن أصابه شيء من ذلك على غرَّة، بادر إلى قلعه وإزالته ومحو أثره، وهكذا الصائن لقلبه ودينه، تراه يجتنب طبوع الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعًا وآثارًا أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي البياض، ولكن على العيون غشاوة أن تدرك تلك الطبوع، فتراه يهرب من مظان التلوث، ويحترس من الخلق، ويتباعد من تخالطهم مخافة أن يحصل لقلبه ما يحصل للثوب الذي يخالط الدباغين، والذباحين، والطباخين، ونحوهم. بخلاف صاحب العلو فإنه وإن شابه هذا في تحرزه وتجنبه؛ فهو يقصد أن يعلو رقابهم، ويجعلهم تحت قدمه، فهذا لون وذاك لون) (¬1) اهـ. أما الكِبْر: (فإنه أثر من آثار العجب والبغي مِن قلبٍ قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظرُهُ إلى الناس شَزَر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار، لا الإيثار، ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهًا، لا يبدأ مَن لقيه بالسلام، وإِن رد عليه رأى أنه ¬

_ (¬1) "السابق" ص (317).

الفرق بين "التواضع" والمهانة

قَد بالغ في الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خُلُقُه، ولا يرى لأحد عليه حقَّا، ويرى حقوقه على الناس، "ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، لا يزداد مِن الله إلا بعدًا، ومن الناس إلا صَغارًا أو بغضًا) (¬1) اهـ. ... الفَرْقُ بَيْنَ "التَّواضُعِ" وَالمَهَانَةِ (الفرق بين التواضع والمهانة: أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خُلُق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خُلُق إنما يعطيه الله -عز وجل- ما يحبه ويكرمه ويقربه. وأما المهانة: فهى الدناءة والخِسَّة وبذلُ النفس وابتذالُها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السُّفَّل في نيل شهواتهم، وتواضع المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضَعَة لا تواضع، والله سبحانه يحب التواضع، ويبغض الضعة والمهانة، وفي "الصحيح" عنه - صلى الله عليه وسلم -: "وأوحى الله إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد") (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) "السابق" ص (316). (¬2) "السابق" ص (314).

الفرق بين المنافسة والحسد

الفَرْقُ بَينَ المنَافَسَةَ والحَسَدِ (والفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة البادرة إلى الكمال الذي تشاهد من غيرك، فتنافسه فيه حتى تلحقه، أو تجاوزه، فهي من شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر، قال تعالى: {وفي ذلك فَلْيتنافس المتنافسون}، وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبًا ورغبة، فينافس فيه كل من النفسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض لاشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضًا عليه مع تنافسهم فيه، وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى: {فاسْتَبِقوا الخيرات}، وقال تعالى: {سابقوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنة عرضُها كعرض السماء والأرض}، وكان عمر بن الخطاب يسابق أبا بكر -رضي الله عنهما-، فلم يظفر بسبقه أبدًا، فلما علم أنه قد استولى على الإمامة (¬1)، قال: "والله لا أسابقك إلى شيء أبدًا"، وقال: "والله ما سبقته إلى خيرٍ، إلا وجدته قد سبقني إليه"، والمتنافسان كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان، ويتنافسان في مرضاته، ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما، ويحثهما عليه، وكل منهما يحب الآخر، ويحرضه على مرضاة سيده. والحسد خلقُ نفسٍ ذميمةٍ وضيعةٍ ساقطةٍ، ليس فيها حرصٌ على ¬

_ (¬1) أي: تمكنت منه خصال الإمامة في الدين، "تمكَّن منها.

الخير، فلعجزها، ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم، كما قال تعالى: {ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} وقال تعالى: {ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسِهم من بعد ما تبيَّن لهم الحق}، فالحسود عدو النعمة، متمن زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس مسابق النعمة متمنٍّ تمامَها عليه وعلى من ينافسه، فهو ينافس غيره أن يعلو عليه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة، فمن جعل نصب عينيه شخصًا من أهل الفضل والسبق فنافسه، انتفع به كثيرًا، فإنه يتشبه به، ويطلب اللحاق به والتقدم عليه، وهذا لا نذمه (¬1)، وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمودة، كما في "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناءَ الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق"، فهذا حسدُ منافسةٍ وغِبْطَةٍ يدل على علو همة صاحبه، وكبر نفسه، وطلبها للتشبه بأهل الفضل) اهـ (¬2). ... ¬

_ (¬1) فعالي الهمة ينظر إلى من هو فوقه في الدين، ويقول: "فلان خير مني"، فينافسه، وساقط الهمة ينظر إلى من هو أسفل منه في الدين ويقول: "أنا خير من فلان". (¬2) "الروح" ص (339 - 340).

الفرق بين حب الرياسة، وحب الإمامة في الدين

الفَرُقُ بَينَ حُبِّ الرِّياسَةِ، وَحُبِّ الِإمَامَةِ فِي الدِّينِ قال الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمهنَّ قال إني جاعلُك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}. قال بعض المفسرين: (الآية بمعزل عن إرادة السلطنة والملك، لأن الآية الكريمة تثبت أن "الِإمامة في الدين" يُحرمها الظالمون من ذريته قال: {لا ينال عهدي الظالمين}، وقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين، فظهر أن المراد من "العهد" إنما هو الِإمامة في الدين خاصة) (¬1). وكان من دعاء الخليل إبراهيم -عليه السلام- أيضًا: [{رب هب لي حكمًا} أي: حكمة، أو: حكمًا بين الناس بالحق، أو نبوة، لأن النبي ذو حكم وحكمة {وألحقني بالصالحين} أي: وفقني لأنتظم في سِلكهم، لأكون من الذين جعلتهم سببًا لصلاح العالم وكمال الخلق {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} أي: ذكرًا جميلًا بعدي، أُذكرَ به، ويُقتدى بي في الخير، كما قال تعالى: {وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "محاسن التأويل" للقاسمي (2/ 246). (¬2) قال القرطبي -رحمه الله- في "الجامع لأحكام القرآن": (روى أشهب عن مالك قال: قال الله -عز وجل-: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} لا بأس أن يحب الرجل أن يُثنى عليه صالحًا، ويُرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى: {وألقيتُ عليك محبةً منِّي}، وقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدًّا} أي: حبًّا في قلوب عباده، وثناءً حسنًا،، فنبَّه تعالى بقوله: {واجعل لي لسان=

وجُوِّز أن يكون معنى {لسان صدق}: واجعل لي صادقًا من ذريتي، يُجَدِّدُ أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا دعوة أبي إبراهيم"] (¬1) رواه الإمام أحمد. وصح من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين"، وأخبر الله عز وجل أن من دعاء عباد الرحمن قولهم: {واجعلنا للمتقين إمامًا}، قال البخاري -رحمه الله- في تفسيرِها: "أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا مَن بعدنا". وقال القرطبي -رحمه الله-: (أي: قدوة يقتدى بنا في الخير، فإن ذلك أكثر ثوابًا، وأحسن مآبًا، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيًا قدوة، وهذا هو قصد الداعي، وفي "الموطإ": "إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم"، فكان ابن عمر يقول في دعائه: "اللهم اجعلنا من أئمة المتقين" (¬2) اهـ. وقال مكحول: "اجعلنا أئمة في التقوى، يقتدي بنا المتقون"، وقال القفال وغيره من المفسرين: (في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب) اهـ. ¬

_ =صدق في الآخرين} على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل) اهـ. (13/ 113). (¬1) "محاسن التأويل" للقاسمي (13/ 4624). (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" (13/ 83).

وكان القشيرى يقول: "الإمامة بالدعاء، لا بالدعوى" يعني: بتوفيق الله وتيسيره ومنته، لا بما يدعيه كل أحد لنفسه. وقال إبراهيم النخعي: "لم يطلبوا الرياسة، بل أن يكونوا قدوة في الدين". وقال ابن عباس: "اجعلنا أئمة هدى"، كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}. وعن الحسن قال: "من استطاع منكم أن يكون إمامًا لأهله، إمامًا لحيِّه، إمامًا لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب". وقد فصَّل الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى - الفرق بين حب الرياسة، وبين حب الإمامة في الدين، فقال -رحمه الله-: (والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله: هو الفرق بين تعظيم أمر الله، والنصح له، وتعظيم النفس، والسعي في حظها، فإن الناصح لله المعظم له المحب له يحب أن يُطاع ربُّه فلا يعصى، وأن تكون كلمته هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه، فقد ناصح الله في عبوديته، وناصح خلقه في الدعوة إلى الله، فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إمامًا يقتدى به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين، فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم جليلًا، وفي قلوبهم مهيبًا، وإليهم حبيبًا، وأن يكون فيهم مُطاعًا، لكي يأتموا به، ويقتفوا

أثر الرسول على يده؛ لم يضره ذلك، بل يحمد عليه، لأنه داع إلى الله يحب أن يطاع، ويُعبد، ويُوحَّد، فهو يحب ما يكون عونًا على ذلك موصِّلًا إليه، ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه، وأثنى عليهم في تنزيله، وأحسن جزاءهم يوم لقائه، فذكرهم بأحسن أعمالهم، وأوصافهم، ثم قال: {والذين يقولون ربَّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرةَ أعين واجعلنا للمتقين إمامًا}، فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه، وأن يسر قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته، فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة، فإنما سألوه ما يعينون به المتقين على مرضاته وطاعته، وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسها الصبر واليقين، كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}، وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم، ويوفقهم، ويمنَّ عليهم بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة ظاهرًا وباطنًا التي لا تتم الإمامة إلا بها، وتأمل كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جلَّ جلاله، ليعلم خلقه أن هذا إنما نالوه بفضل رحمته ومحض جوده ومنته، وتأمل كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغرف، وهي المنازل العالية في الجنة لما كانت الإمامة في الدين من الرتب العالية، بل من أعلى مرتبة يعطاها العبد في الدين، كان جزاؤه عليها الغرفة العالية في الجنة. وهذا بخلاف طلب الرياسة، فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض، وتعبد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جيع أغراضهم، مع كونهم عالين عليهم قاهرين

لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله (¬1) من البغي، والحسد، والطغيان، والحقد، والظلم، والفتنّة، والحمية للنفس، دون حق الله، وتعظيم من حقَّره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد (¬2)، والرؤساء في عمى عن هذا، فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حُشروا في صور الذر يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم، إهانةً لهم وتحقيرًا وتصغيرًا كما صغَّروا أمر الله وحقروا عباده) (¬3) اهـ. ... ¬

_ (¬1) وغالبًا ما يقترن العلو في الأرض بالفساد، قال تعالى: {الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد}، وقال سبحانه: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوَّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين}، وفرعون الذى كان عاليًا من المفسدين، رمى موسى وهارون كذبًا وزورًا أنهما ينافسانه في هذا العلو: {وتكون لكما الكبرياء في الأرض}. (¬2) فمن ثَمَّ قال أبو جعفر المحولي: "حرام على نفسٍ عليها رياسة الناس، أن تذوق حلاوة الآخرة" اهـ. من "صفة الصفوة" (2/ 390)، قال الشاعر: هلاكُ الناسِ مُذْ كانوا ... إلى أن تأتي الساعة بحبِّ الأمر والنهي ... وحبَّ السمع والطاعة (¬3) "الروح" (340 - 341).

الباب الثالث الحث على علو الهمة في القرآن والسنة

البابُ الثَّالِث الحَثُّ عَلَى عُلُوِّ الِهمَّةِ في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ تواردت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وتنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك: فمنها: ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صورة: * كما قص الله علينا من قول موسى -عليه السلام- لقومه: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}، وقال تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فَأتْبعَهُ الشيطانُ فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه فمثلُه كمَثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركْه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين} (¬1). * وقال تعالى واصفًا حال اليهود الذين علموا فلم يعملوا: {مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا}، وقال في وصف أشباههم: {وعُلِّمتم ما لم تعلموا} يعنى علمتم فلم تعملوا، فما ذلكم بعلم، في حين أنه امتدح يعقوب -عليه السلام- بقوله تعالى: {وإنه لذو علمٍ لما ¬

_ (¬1) انظر: "الفوائد" لابن القيم ص (82).

علمناه} أي: يعمل بما علم. * وذم المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم، وقناعتهم بالدون، فقال في شأنهم: {رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالف}، وبين أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد، فقال: {ولو أرادوا الخروج لأعَدُّوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} الآيات. * وشنع -عز وجل- على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همهم، وغاية علمهم، باعتبار هذا الإيثار من أسوإ مظاهر خسة الهمة، وبيَّن أنَّ هذا الركون إلى الدنيا تَسَفُّل ونزول يترفع عنه المؤمن: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}. وقال تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا} كالمجاهد يجاهد للغنيمة {فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} أي: فما له يطلب أخسَّهما؟! فليطلبهما، أو الأشرفَ منهما، كما قال تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنْيا وما له في الآخرة من خلاق * ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب}. * وعاب حرص اليهود على حياةٍ، أي حياة، ولو كانت ذليلة مهينة، فقال -عز وجل-: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}، وحمل القرآن الكريم على المشركين الذين يعبدون آلهة مع الله باعتبار هذا الشرك من أجلي مظاهر دناءة الهمة وخبث النفس: {ومن يشرك بالله

فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريحُ في مكان سحيق}، وقال في عابدي المسيح: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صِديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} فكيف يُعبدان من دون الله؟ * ومنها: أنه تعالى أثنى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} الآية، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أوضحه الله -عز وجل- في قصص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. * كما قص مواقف الهمة العالية عن المؤمنين من أتباع الأنبياء كما في قصة موسى عليه السلام: {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} الآية، وكما في قصة مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وكما في قصة حبيب النجار في سورة يس، وكما في قصة داود وجالوت: {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} إلى قوله تعالى: {فهزموهم بإذن الله} الآيات. * ومنها: أنه عبر عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف "الرجال" (¬1) في مواطن البأس والجلد والعزيمة، والثبات على الطاعة، والقوة في دين الله، فقال- عز من قائل-: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا ¬

_ (¬1) وقد صح في وصف الصحابة رضي الله عنهم أنهم: "كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال".

والله يحب المطهرين}، وقال سبحانه: {يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} الآيات، وقال -عز وجل-: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلًا}. * ومنها: أنه أمر المؤمنين بالهمة العالية، والتنافس في الخيرات، فقال -عز وجل-: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} الآية، وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}، وقال سبحانه: {فاستبقوا الخيرات}، وقال: {ففروا إلى الله}، وقال: {لمثل هذا فليعمل العاملون}، وقال: {وفي ذلك فليتنافس (¬1) المتنافسون}، وامتدح أولياء بأنهم {يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}. وقال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًّا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا} (¬2). ¬

_ (¬1) فهذا التنافس المأمور به محمود، أما التنافس الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ولا تنافسوا" فهو التنافس المذموم على الدنيا وحُطامها، وانظر ص (118، 119). (¬2) مع أن من المعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، إلا أنه سبحانه نبه بنفي الاستواء ليذكر المؤمنين بما بينهما من التفاوت العظيم، ليأنف القاعد، ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه، وفي ارتفاع طبقته، ونحوه قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليُهابَ به إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم - أفاده الزمخشري-.

جملة من الأحاديث الشريفة المرغبة في علو الهمة

أما السنة الشريفة: فحدِّث ما شئت عن علو همة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسابقهم إلى المعالي، كيف لا وقد أوصاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها" (¬2)، ورُوي عنه أنه كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: "وأسألك العزيمة على الرشد" (¬3)، وكان يتعوذ بالله من "العجز والكسل" (¬4)، وقال لأصحابه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سَفْسافها " (¬5)، وطمأن أهل الهمة العالية بأن الله -عز وجل- يمدهم بالمعونة على قدر سمو هممهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤنة) (¬6) الحديث، وبين أن أكمل حالات المؤمن ألا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شملَه، وأتته ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، وصححه الألباني. (¬3) رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه -، وضعفه الألباني. (¬4) أصل الحديث متفق عليه من حديث أنس -رضي الله عنه-. (¬5) رواه الطبراني من حديث الحسين بن علي -رضي الله عنهما -، وصححه الألباني، وقال المناوي في شرح "معالي الأمور": [وهي الأخلاق الشرعية، والخصال الدينية لا الأمور الدنيوية، فإن العلو فيها نزول] اهـ. من "فيض القدير" (2/ 295). (¬6) أخرجه البزار من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -، وانظر "الصحيحة" رقم (1664).

الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شملَه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما قُدر له" (¬1). وامتدح - صلى الله عليه وسلم - قومًا بعلوِّ همتهم فقال: "لو كان الإيمان عند الثريا، لتناوله رجال من فارس" (¬2). وعامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها واستحثاثها للتنافس في الخيرات، والأمثلة عل ذلك أكثر من أن تحصر، فمن ذلك مثلًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتَمة والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتل، كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها" (¬4)، وحذر من تعمد التباطؤ عن المسابقة إلى الطاعات، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "احضْروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد ¬

_ (¬1) رواه الترمذي عن أنس -رضي الله عنه-، وصححه الألباني. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -. (¬3) متفق عليه من حديث أبي هريرة- رضى الله عنه -. (¬4) رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وصححه الألباني.

حتى يُؤخِّرَ فى الجنة، وإن دخلها" (¬1). وعلَّمنا - صلى الله عليه وسلم - عُلُوَّ الهمة في الدعاء، فأمرنا أن نسأله تعالى من فضله، ولا نستعظم شيئًا في قدرة الله وجُوده: فعن أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها- قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سأل أحدكم فليكثر، فإنما يسألُ ربَّه" (¬2)، وفي لفظ: "إذا تمنَّى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه -عز وجل-" (¬3). وعن العرباض -رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنه سِرُّ الجنة" (¬4). أي: أفضل موضع فيها. وعن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنة" (¬5). وأنكر - صلى الله عليه وسلم - على من خالف هذا الهدي، وتضاءلت همته، وتواضعت طموحاته: فعن أنس -رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلًا من المسلمين قد خَفَتَ (¬6)، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، والحاكم، وعنهما البيهقي، وأحمد، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وحسَّنه الألباني. (¬2) أخرجه ابن حبان، وصححه الألباني على شرط الشيخين. (¬3) أخرجه عبد بن حميد، وصححه الألباني على شرط الشيخين. (¬4) رواه الطبراني في "الكبير"، وصححه الألباني. (¬5) رواه البخاري. (¬6) خفت: سكن، وسكت من الضعف.

"هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟ "، قال: "نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فَعَجلْهُ لي في الدنيا"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله لا تطيقه، أو: لا تستطيعة، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقتا عذاب النار؟ "، قال: فدعا الله له، فشفاه) (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ "، فقلت: "أسألك أن تعلمني مما علمك الله"، قال: فنزعت نمرة على ظهري، فبسطتُها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى القمل يدب عليها، فحدثني، حتى إذا استوعبت حديثه، قال: "اجمعها، فَصُرْها إليك"، فأصبحت لا أُسقِط حرفًا مما حدثني" (¬2). ويُروى أنه جاء رجل إلى زيد بن ثابت -رضي الله عنه -، فسأله عن شيء، فقال له زيد: (عليك أبا هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعوَ الله تعالى، ونذكره، إذ خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال: "عودوا للذى كنتم فيه"، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤمِّنُ على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة، فقال: "اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي هذانْ، وأسألك علمًا لا يُنسى"، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "آمين"، فقلنا: "يا رسول الله، ونحن نسأل الله تعالى ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 381).

علمًا لا يُنسى"، فقال: "سبقكم بها الغلام الدوسي") (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يومًا فقال: "عُرِضَتْ عليَّ الأممُ فجعل يمرُّ النبيُّ ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهْط، والنبي وليس معه أحد، فرأيت سوادًا كثيرًا سَدَّ الأفق، فرجوتُ أن يكون أمتي، فقيل: "هذا موسى في قومه"، ثم قيل لي: "انظر"، فرأيت سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفًا قُدَّامَهم يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكَّلون"، فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن، فقال: "ادْعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم"، قال: "اللهم اجعله منهم"، ثم قام رجل آخر، فقال: "ادع الله أن يجعلني منهم"، فقال: "سبقك بها عُكَّاشة" (¬2). فهكذا كانوا -رضي الله عنهم- لا تلوح منقبة أخروية، ولا فضيلة دينية إلا صعدوا إليها، واستشرفوا لها، وتنافسوا فيها. ثبت في الصحاح وغيرها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسولَه، ويحبه الله ورسولُه، ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 508)، وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "حماد ضعيف"، وهو حماد بن شعيب، وعزاه الحافط إلى النسائي، انظر: "تهذيب التهذيب" (12/ 266)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (3242). (¬2) متفق عليه.

ليس بفرار، يفتح الله على يديه"، فبات الناس يدوكون (¬1) أيهم يُعطاها، حتى قال عمر: "ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذ"، فلما أصبح أعطاها عليًّا، ففتح الله على يديه". وعن ربيعة بن كعب -رضي الله عنه - قال: (كنت أخدِمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاري، فإذا كان الليلُ آويت إلى بابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبِتُّ عنده، فلا أزال أسمعه يقول: "سبحان الله، سبحان الله، سبحان ربي"، حتى أمَلَّ، أو تغلبني عينى فأنامُ، فقال يومًا: "يا ربيعة سلني فأعْطِيَك"، فقلت: "أنظرني حتى أنظر"، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: "يا رسول الله أسألك أن تدعوَ لي أن ينجيَني من النار، ويدخلني الجنة"، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "مَنْ أمرك بهذا؟ "، قلت: "ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعوَ الله لي"، قال: "إني فاعل، فأعِني على نفسك بكثرة السجود" (¬2)، ولفظ مسلم: (كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي: "سلني"، فقلت: "أسألك مرافقتك في الجنة" قال: "أوْ غيرَ ذلك؟ "، قلت: "هو ذاك"، ¬

_ (¬1) أي: يخوضون، ويموجون فيمن يدفعها إليه، يقال: "وقع الناس في دَوكة ودُوكة": أي: في خوض واختلاط. (¬2) وواه الإمام أحمد في "مسنده"، والطبراني في "الكبير"، ورواه -مختصرًا- مسلم، وأبو داود.

قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود". وعن عطاء بن أبي رباح قال: (قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي"، قال: "إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوتُ الله - عز وجل - أن يعافيَكِ" قالت: "أصبر"، قالت: "فإني أتكشف، فادع الله أنا لا أتكشف"، فدعا لها) (¬1). ومن تسابقهم في الطاعات الذى يعكس علو هممهم - رضى الله عنهم:- ما رواه عبد الله بن عمرٍو - رضى الله عنهما -: (أن رجلاً قال: "يا رسولَ الله، إن المؤذنين يَفْضُلُوننا"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قل كما يقولون، فإذا انتهيتَ فَسَلْ تُعْطَ") (¬2). ومن ذلك أيضًا: ما رواه أبو هريرة - رضى الله عنه -: (أن فقراء المهاجرين أتَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: "قد ذهب أهل الدُّثور (¬3) بالدرجات العُلى، والنعيم المقيم"، فقال: "وما ذاك؟ "، قالوا: "يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أعلمكم شيئًا تُدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى. (¬2) رواه أبو داود. (¬3) الدثور: جمع دَثْرٍ، وهو المال الكثير.

إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ "، قالوا: "بلى يا رسول الله"، قال: "تُسبِّحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاهَ ثلاًثا وثلاثين مرة" -قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: "سَمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء") (¬1). ويُروى عن سليمان بن بلال -رضي الله عنه-: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى بدر، أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعًا الخروج معه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر أن يخرج أحدهما، فاستهما؛ فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد -رضي الله عنهما -: "إنه لا بد لأحدنا أن يقيم، فأقم مع نسائك"، فقال سعد: "لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا"، فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدرٍ، فقتله عمرو بن عبد ودٍّ) (¬2). ... ¬

_ (¬1) متفق عليه، واللفظ لمسلم. (¬2) رواه الحاكم، وضعفه الذهبي.

وَبعد: فإن (من سجايا الِإسلام التحلي بكبر الهمة، فكبر الهمة يجلب لك -بإذن الله- خيرًا غير مجذوذ، ويُجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل، فلا تُرى واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يديك إلا لمهمات الأمور، "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها". إن التحلي بكبر الهمة يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال، ويجتث منك شجرة الذل، والهوان، والتملق، والمداهنة. فارسم لنفسك كبر الهمة، ولا تنفلت منها، وقد أومأ الشرع إليها في فقهيات تلابس حياتك لتكون دائمًا على يقظة من اغتنامها ومنها: - إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء، وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء، لما في ذلك من المنة التى تنال من الهمة منالًا) (¬1)، ومنها: أن الرجل لا يلزمه الحج ببذل غيره له، ولا يصير مستطيعًا بذلك، سواء كان الباذل قرييًا أو أجنبيًّا، لما في ذلك من المنة التى تلزمه (¬2). فهذه إشارات، وعليك التقصِّي. قال الشنفرى: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القِلَى مُتَحَوَّلُ أُديم مِطالَ الجوع حتى أُميتَه ... وأصرفُ عنه الذكر صفحًا فأذهل وأستف تُرْبَ الأرض كي لا يرى له ... عليَّ من الطوْل امرؤ متطوِّل ¬

_ (¬1) "حلية طالب العلم" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ص (135) بتصرف، وعن منصور بن المعتمر قال: "إن الرجل ليسقيني شربة من ماء، فكأنه دقَّ ضلعًا من أضلاعي" اهـ. من "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 219). (¬2) "المغني" لابن قدامة (3/ 220)، وانظر "طبقات الحنابلة" (1/ 159).

الصحابة رضي الله عنهم أعلى الأمم همة

الصَّحَابَة رَضي الله عَنهُم أَعْلَى الأُمَمِ هِمَّةً فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أنهم رأس الأولياء، وصفوة الأتقياء، وقدوة المؤمنين، وأسوة المسلمين، وخير عباد الله بعد الأنبياء والمرسلين، جعوا بين العلم بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبين الجهاد بين يديه - صلى الله عليه وسلم -، شرفهم الله بمشاهدة خاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم -. وصحبته في السراء والضراء، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله عز وجل حتى صاروا خيرة الخيرة، وأفضل القرون بشهادة المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فهم خير الأمم سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم. هم الذين أقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم، وشادوا قصور الدين برماحهم، واستباحوا الممالك الكسروية، وأطفأوا الملة النصرانية والمجوسية، وقطعوا حبائل الشرك من الطوائف المشركهّ عربية وعجمية، وأوصلوا دين الِإسلام إلى أطراف المعمورة شرقها وغربها، ويمينها وشمالها، فاتسعت رقعة الإسلام، وطبقت الأرض شراح الإيمان" وانقطعت علائق الكفر، وانقصمت حباله، وانفصمت أوصاله، ودان بدين الله سبحانه الأسود والأحمر، والوثني والملي. سلام من الرحمن نحو جنابهم ... فإن سلامي لا يليق ببابهم آخر: أولئك قوم شَيَّدَ الله فخرهم ... فما فوقه فخر وإن عَظُمَ الفخرُ

عن أبي وائل قال عبد الله بن مسعود: "إن الله تعالى اطَّلَعَ في قلوب العباد، فاختار محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فبعثه برسالته، وانتجبه بعلمه، ثم نظر في قلوب العباد بعدُ، فاختار له أصحابًا، فجعلهم أنصارَ دينه، ووزارءَ نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فما رآه المؤمنون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا، فهو عند الله قبيح". أخرجه أحمد، والبغوي في "شرح السنة". [حسن] ولفظ أحمد: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا، فهو عند الله سيئ". ***

الباب الرابع مجالات علو الهمة

الباب الرابع مجَالاَتُ عُلُوِّ الهِمَّةِ الفَصْلُ الأَوَل عُلُوُّ هِمَّةِ السَّلَفِ الصَّالِح فِي طَلَبِ العِلْمِ العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجَدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - لكُميل: "احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة، فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل نجاة، وهمج رَعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال يُنقصه النفقة، ومحبة العالم دين يُدانُ بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة". الحديث عن فضل العلم، وما يناله طالبه من مجد وكرامة حديث لا يكشف عن غامض، ولا يطرق السمع بجديد، ومقصودنا شيء غير هذا، ألا وهو لفت الأنظار إلى "القوة العملية" وهي الوسيلة التي صعدت بعلمائنا، فخدموا الدين، ونشروا العلم. ***

قال الإمام أبو الفرج بن الجوزىِ -رحمه الله تعالى-: (تأملت عجبًا، وهو أن كل شىء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله. فإن العلم لما كان أشرف الأشياء، لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: "بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر، لأن وقعت بيعها وقت سماع الدرس" ... ) اهـ. ولذلك قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية. وقد أحسن القائل في ذلك: فقل لمرجي معالي الأمور ... بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا وقال الآخر: لولا المشقة ساد الناسُ كلُّهم ... الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّالُ ومن طمحت همته إلى الأمور العالية؛ فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية، وهي السعادة، وإن كانت في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها أفضت منها إلى رياض مونقة، ومقاعد صدق، ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها كما قيل: وكنت أرى قد تناهى بي الهوى ... إلى غاية ما بعدها لي مذهبُ

فلما تلاقينا وعاينت حسنها ... تيقنت أني إنما كنت ألعبُ فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، فلا نقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد. قال مسلم في "صحيحه": قال يحيى بن أبي كثير: "لا يُنال العلم براحة الجسم"، وقد قيل: "من طلب الراحة، ترك الراحة". فيا واصل الحبيب أما إليه ... بغير مشقة أبدًا طريق؟! ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّتْ بحجاب من المكاره، وحُجِبوا عنها بحجاب من الجهل، ليختص الله لها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم) اهـ. قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: (حق على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًّا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه). لا تحسب المجد تمرًا أنت آكِلُه ... لا تبلغ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا وقد كان أهل العلم -رحمهم الله تعالى- يلاقون المصاعب. والشدائد في تحصيلهم للعلم، نصح الإمامُ ابنُ هشام النحوي، صاحبُ كتاب "القطر" و"المغني" وغيرهما، طَلَبةَ العلم بالصبر على مَشاقِّ العلم والتحصيل، إذ هو شَرْطٌ في نيل المراد العزيز الغالي، فيقول: ومن يَصطبرْ للعلِم يَظفَرْ بنَيلِهِ ... ومن يَخْطُبِ الحسناءَ يَصبرْ على البَذْلِ ومن لم يُذِلِّ النَّفْسَ في طَلَب العُلى ... يسيرًا يَعِشْ دهرًا طويلًا أخا ذُلِّ

إنما يقطع السفر وبصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله، فمتى يصل إلى مقصده؟ الجد بالجد والحرمان في الكسلِ ... فانْصبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ فعليك يا طالب العلم أن تجد في التحصيل، فإن الأمر كما قال ابن الجنيد: "ما طلب أحد شيئًا بجد وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كلَّه نال بعضه". فهذا هو علو الهمة في طلب العلم: - غيرة على الوقت أن ينفق في غير فائدة، - وعزم يبلي الجديدان وهو صارم صقيل، - وحرص لا يشفى غليله إلا أن يفترق من موارد العلوم بأكواب طافحة، - وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورةُ المسلك، ولا طولُ مسافةِ الطريق، - وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ومهاترة، كيف لا وقد شغلت بالحق، فأشغلها عن الباطل. لقد كان حالُ سلف الأمة في طلب العلم، ونشره، والتصنيف فيه حالًا عجيبًا، استثمروا فيه أوقاتهم، وأفنَوْا شبابهم، فحصَّلوا ما يدهش العقول، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم، فهيا إلى مطالعة أحوالهم، والاقتداء بهديهم، والسير على سننهم. وحدثتني عنهم يا سعد فزدتني ... بهم غرامًا، فزدني من حديثك يا سعدُ! آخر: كَرِّرْ عليَّ حديثهم يا حادي ... فحديثهم يُجلي الفؤادَ الصادي

(1) حرصهم على طلب العلم الشريف

(1) حِرْصُهُم عَلَى طَلَبِ العِلْمَ الشَّريفِ العلم صناعة القلب وشغله فما لم تتفرغ لصناعته وشغله لم تنلها، وله وجهة واحدة، فإذا وُجَّهَتْ إلى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم، ومن لم يُغَلِّبْ لذةَ إدراكِه العلمَ وشهوته على لذة جسمه وشهوة نفسه؛ لم ينل درجة العلم أبدًا، فإذا صارت شهوته في العلم، ولذته في إدراكه؛ رجي له أن يكون من جملة أهله، ولذلك كان علماؤنا -رحمهم الله تعالى- يحرصون على العلم وجمعه حرصًا ليس له نظير، وهاك أمثلة من ذاك: * عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: (كنتُ أنا وجارٌ لي من الأنصار -هو أوسُ بن خَوَليِّ الأنصاري- في بني أمية بن زيد -أي: ناحية بني أمية-، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوَبُ النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك). * وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (لما قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: "هلم فلنسألْ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير"، فقال: "واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحَاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن فيهم؟ "، قال: "فتركت ذاك، وأقبلتُ أسأل أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليَّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم

رسول - صلى الله عليه وسلم - ما جاء بك؟ هلا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ "، فأقول: "لا؛ أنا أحق أن آتيك"، فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فيقول: "هذا الفتى كان أعقل مني". ولما فُتحت البلاد آثر ابن عباس من أجل العلم ظمأ الهواجر في دروب المدينة ومسالكها على الظلال الوارفة في بساتين الشام، وسواد العراق، وشطآن النيل ودجلة والفرات، قال -رضي الله عنه -: "لما فُتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا، وأقبلتُ على عمر -رضي الله عنه-". لكل بني الدنيا مراد ومقصَدُ ... وإن مرادي صحةَ وفراغُ لأبلغ في علم الشريعة مبلغًا ... يكون به في للجِنان بلاغ وفي مثل هذا فلينافس أولو النهى ... وحسبي من الدنيا الغَرور بلاغُ فما الفوز إلا في نعيم مُويَّدٍ ... به العينُ رَغْدٌ والشراب يُساغ واسمعه -رضي الله عنه- يخبر عن دأبه في طلب العلم: "كنت آتي باب أبيِّ بن كعب، وهو نائم، فأقيل على بابه، ولو علم بمكاني، لأحب أن يوقَظ لي لمكاني من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكني أكره أن أملَّه". وقال -رضي الله عنه-: (كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدًا إلا سُرَّ بإتياني لقربي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلت أسأل أبيَّ بن كعب يومًا، وكان من الراسخين في العلم، عما نزل بالقرآن في المدينة؟ فقال: "نزل بها سبعٌ وعشرون سورة وسائرها بمكة".

قال الشافعي -رحمه الله-: (حفظت "القرآن"، وأنا ابن سبع سنين، وحفظت "الموطأ" وأنا ابن عشر سنين). وقال -رحمه الله -: (فلما ختمت القرآن، دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث أو المسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تُعطيني أشتري به قراطيس! فكنت إذا رأيت عظمًا يلوح، آخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحتُه في جَرَّةٍ كانت لنا قديمًا). وقال أيضًا -رحمه الله -: (لم يِكن لي مال، وكنت أطلب العلم في الحداثة -أي: في مستهل عمره، وكانت سنه أقل من ثلاث عشرة سنة- وكنت أذهب إلى الديوان أستوهِبُ الظهور -أي: ظهورَ الأوراق المكتوبِ عليها- فأكتب فيها). قال ابن أبي حاتم: سمعت المزني يقول: قيل للشافعي: "كيف شهوتك للعلم؟ "، قال: "أسمع بالحرف -أي: بالكلمة- مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعًا تتنعم به ما تنعمت به الأذنان"، فقيل له: "كيف حرصك عليه؟ "، قال: "حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال"، فقيل له: "فكيف طلبك له؟ "، قال: "طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره". وهذا "محمد بن سلام" شيخ البخاري، كان في حال الطلب جالسًا في مجلس الإملاء، والشيخ يحدِّث ويملي، فانكسر قلمُه، فأمر أن يُنادَى: "قلم بدينار" فتطايرت إليه الأقلام.

* وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف" وبقي يتلقى الحديث ببغداد من سنة (179 هـ) إلى سنة (186 هـ)، ولزم عالمًا كبيرًا من علماء الحديث والآثار ببغداد أربع سنوات، وهو هشيم بن بشير بن أبي حازم الواسطي (183 هـ)، وسمع عبد الرحمن بن مهدي، وأبا بكر بن عياش، وكان في طلبه للعلم مثال الجد والحرص والنشاط، فقد حكى عن نفسه: "كنت ربما أردت البكور في الحديث، فتأخذ أمي بثيابي، حتى يؤذن الناس، أو حتى يصبحوا"، وقال: "لو كان عندي خمسون درهمًا لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد). * وقال سفيان الثوري -رحمه الله تعالى-: (لما أردت أن أطلب العلم قلت: "يا رب إنه لا بد لي من معيشة"، ورأيتَ العلم يدرس، فقلت أفرغ نفسي لطلبه، قال: وسألت ربي الكفاية). وعزم على طلب العلم حتى كفلت له والدته الإنفاق عليه، فقالت: "يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي"، فأخذ يتلقى العلم عن شيوخه المتعددين، وكن كل من يحمل علمًا أو خبرًا. وكان كثير الاهتمام في طلب العلم، ذكر أبو نعيم: أنه كان إذا لقي شيخا سأله: "هل سمعت من العلم شيئا؟ "، فإن قال: "لا"؛ قال: "لا جزاك الله عن الإسلام خيرًا". ومن مظاهر اهتمامه بالعلم، أنه كان يقول: "ينبغي للرجل أن يُكْرِهَ ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه".

ولم يكن اهتمام سفيان بالعلم مقْصورًا على طلبه، بل كان يعمل به، ويحرص على إشاعته بين الناس والدعوة إليه. وروى أبو نعيم أنه كان يقول: "ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم"، وكان يقول: "لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا". وقال ثعلبة: "ما فقدت إبراهيم الحربى من مجلس لغة ولا نحو خمسين سنة". * وذكر الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حاتم الرازى -محمد بن إدريس المتوفى سنة 277 هـ-، أن أبا حاتم قال: (قال في أبو زُرْعة -يعني الرازي-: "ما رأيت أحرصَ على طلب الحديث منك"، فقلت له: "إن عبد الرحمن ابني لحريص"، فقال: "من أشبه أباه فما ظلم"، قال الرَّمَّام -وهو أحمد بن علي، أحد رجال إسناد الخبر-: فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له، وسؤالاته لأبيه، فقال: "ربما كان يأكلُ وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويَدْخُل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ علية". فكانت ثمرة تلك المحافظة النادرة على الزمن، والحرص على طلب العلم، نِتَاجا علميًّا كبيرًا، منه كتاب "الجرح والتعديل" في تسعة مجلدات، وهو من الكتب النفيسة الحافلة الرائدة في هذا العلم، وكتاب "التفسير" في عدة مجلدات، وكتاب "المسند" في ألف جزء). * وقال الذهبي -رحمه الله-: قال على بن أحمد الخوارزمي قال:

ابنُ أبي حاتم-: (كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مَرَقةً، نهارَنا نَدُورُ على الشيوخ، وبالليِل نَنَسخُ ونقابل، فأتينا يومًا أنا ورفيقٌ لي: شيخًا فقالوا: "هو عليل"، فرأيت سمكةً أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقتُ مجلس بعض الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تُنتِن، فأكلناها نيِئةً لم نتفرغ نشويها، ثم قال: "لا يُستطاع العلم براحة الجسَد! "). لولا ثلاث قد شُغِفْتُ بحبها ... ما عبت في حوض المنية موردي وهي الرواية للحديث وكَتْبُه ... والفقهُ فيه وذاك حب المهتدي * وهذا هو الإمام سُلَيم بن أيوب الرازي، أحد كبار أئمة المذهب الشافعي -المتوفي سنة 447 هـ-، يحاسب نفسه على الأنفاس أن تضيع دون إفادة أو استفادة، فقد قال أبو الفرج غيث بن على التنوخي الصوري: "وحُدِّثت عنه أنه كان يحاسب نفسه على الأنفاس، لا يدع وقتًا يمضي عليه بغير فائدة، إما ينسخ، أو يدرِّس، أو يقرأ، وينسخ شيئًا كثيرًا، ولقد حدثني عنه شيخنا أبو الفرج الِإسفرايني -وهو أحد تلامذته-، أنه نزل يومًا إلى داره ورجع، فقال: "قد قرأت جزءًا في طريقي". قال: وحدثني المؤمَّل بن الحسن: "أنه رأى سُلَيْمًا خَفِيَ (¬1) عليه القلم، فإلى أن قَطَّهُ (¬2) جعل يحرك شفتيه، فعلم أنه يقرأ بإزاء إصلاحه ¬

_ (¬1) أبي: رقَّ، ولم يعد صالحًا للكتابة. (¬2) قطَّ الشيء: قطعه عرضًا، ومنه: قط القلم.

القلم، لئلا يمضي عليه زمانٌ وهو فارغ"، أو كما قال. ووصف ابن ناصر الحافط أبا الطاهر السلفي، فقال: "كأنه شعلة نارٍ في التحصيل". وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي -رحمه الله- يقول: "أثقل الساعات عليَّ: ساعة آكل فيها". وكان عثمان الباقلاويُّ دائم الذكر لله تعالى، فقَال: "إني وقت الإفطار أُحِسُّ بروحي كأنها تخرج! لأجل اشتغالي بالأكل. عن الذكر". قال عمَّار بن رجاء: سمعت عُبَيدَ بن يعيشَ يقول: "أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تُلَقِّمُني وأنا أكتب الحديث". وكان داود الطائي يَسْتَفُّ الفَتيتَ، ويقول: "بين سَفِّ الفتيت وأكل الخبز قراءةُ خمسين آية". ويخرج من نفس المشكاة قول الإمام الجليل ابن عقيل -رحمه الله-: "وأنا أقَصِّرُ بغاية جهدي أوقاتَ أكلي، حتى أختار سَفَّ الكعك وتحسِّيَه بالماء على الخبز، لأجل ما بنيهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها". بل إن أحدهم ليحزن، ويصيبه المرض إذا فاته شيء من، العلم، فقد ذكروا لشعبة حديثًا لم يسمعه، فجعل يقول: "واحزناه! "، وكان يقول: "إني لأذكر الحديث فيفوتني، فأمرض". وقيل للشعبي: "من أين لك هذا العلم كله"، قال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب". وكان من حرصهم على العلم ومجالسه أنك تجدهم يَعْدون فِي

الطرقات، كأنهم مجانين، ولذلك يقول شعبة -رحمه الله تعالى-: "ما رأيت أحدًا قط يعدو إلا قلتُ: مجنون، أو صاحب حديث" (¬1). * وعن عبد الرحمن بن تيمية قال عن أبيه: "كان الجدُّ إذا دخل الخلاء يقول لي: "اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع". وكان العلامة الكبير أبو المعالي محمود شكري الآلوسى البغدادي الحفيد، يمتاز بالجد الشديد والحرص على الوقت، فكان لا يثنيه عن دروسه حَمَارَّةُ القيظ، ولا يؤخِّره عنها قَرْصُ برد الشتاء، وكثيرًا ما تعرض تلاميذه - بسبب تأخرهم عن موعد الدرس - إلى النقد والتعنيف، قال عنه تلميذه العلامة الشيخ بهجة الأثري: (أذكر أنني انقطعت عن حضور درسه في يوم مزعج، شديد الريح، غزير المطر، كثير الوحل، ظنًّا مني أنه لا يحضر إلى المدرسة، فلما شَخَصتُ في اليوم الثاني إلى الدرس، صار ينشد بلهجة غضبان: *ولا خيرَ فيمن عاقَهُ الحَرُّ والبردُ* * وقال العلامة القرآني "محمد الأمين الشنقيطي" -رحمه الله تعالي-: "قدمتُ على بعض المشايخ لأدرس عليه، ولم يكن يعرفُني من قبلُ، ¬

_ (¬1) قال الحافظ أبو إسماعيل الهَرَوى الأنصارى -رحمه الله-: "المحدث يجب أن يكون سريعَ المشي، سريعَ الكتابة، سريعَ القراءة"، ويمكن أن يزاد: "سريع الأكل"، قال سُحنون: "لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع". وقال الحافظ السيوطي -رحمه الله-: حدثنا شيخنا الكِناني ... عن أبِهِ صاحبِ الخِطابَهْ أسرِعْ أخا العلم في ثلاث ... الأكلِ، والمشي، والكتابهْ

فسأل عني مَن أكون في ملإ من تلامذته؟ فقلت مرتجلًا: هذا فَتًى مِنْ بَني جَاكَانَ قَدْ نَزَلا ... بهِ الصِّبَا عَنْ لِسانِ العُرْب قَدْ عَدَلا رَمَتْ بهِ هِمَّةٌ عَلْيَاءُ نَحْوَكُمُ ... إذ شَامَ بَرْقَ عُلومٍ نُورُهُ اشتعَلا فجَاءَ يَرْجُو رُكامًا مِن سَحَائِبهِ ... تَكْسُر لِسانَ الفَتَى أزْهَارُهُ حُلَلا إذ ضَاقَ ذَرْعًا بِجَهْلِ النَّحْوِ ثُمَّ أبي ... ألاَّ يُمَيِّزَ شَكْلَ العَيْن مِنْ "فَعَلا" وَقَد أتَى اليَوْمَ صَبًّا مولَعًا كَلِفًا ... بـ "الحمْدُ للهِ لا أبْغِي لهُ بَدَلا" يريد دراسة "لامية الأفعال". وقد مضى -رحمه الله - في طلب العلم قُدُمًا، وقد ألزمه بعض مشايخه بالقِران؛ أي: أن يَقْرِنَ بين كل فنَّيْن؛ حرصًا على سرعة تحصيله، وتفرُّسًا له في القدرة على ذلك، فانصرف بهمة عالية في درس وتحصيل. وقد صوَّر شدَّة انشغاله بطلب العلم في شبابه بقوله -رحمه الله - في "رحلة الحج" ما نصه: "ومما قلتُ في شأن طلب العلم، وقد كنت في أخريات زمني في الاشتغال بطلب العلم دائم الاشتغال به عن التزويج، لأنه ربما عاق عنه، وكان إذ ذاك بعض البنات ممن يصلح لمثلي، يرغب في زواجي ويطمع فيه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم عن ذلك المنوال؛ أَيِسَتْ مني، فتزوجَتْ ببعض الأغنياء، فقال لي بعض الأصدقاء: "إن لم تتزوج الآن مَن تصلح لك؛ تزوجتَ عنكَ ذواتُ الحسب والجمال، ولم تجد مَن يصلح لمثلك، يريد أن يُعْجِلَني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات: دَعَانِي النَّاصِحُونَ إلىِ النَّكاحِ ... ِغَدَاةَ تَزَوَّجَت بِيْضُ المِلاحِ فَقَالوا لي تَزَوَّجْ ذاتَ دَلٍّ ... خلُوب اللَّحْظِ جائِلةَ الوشاحِ ضحُوكًا عَنْ مُؤشرةٍ رِقاقِ ... تَمجُّ الرَّاحَ بالماء القراحِ

كأنَّ لِحاظَها رَشَقَاتُ نَبْلٍ ... تُذيقُ القَلْبَ آلامَ الجِراحِ ولا عَجَبٌ إِذا كَانَتْ لِحاظٌ ... لِبَيْضاءِ المَحاجِرِ كالرِّماحِ فَكَمْ قَتَلَتْ كَمِيًّا ذا دِلاصٍ ... ضَعِيفاتُ الجُفونِ بِلا سِلاحِ فَقُلْتُ لهُم دَعُوني إِنَّ قَلْبِي ... منَ الغِّي الصُّراح اليوم صاحِ ولي شُغْلٌ بأبكارٍ عَذارى ... كَأنَّ وُجوهَها غُرَرُ الصَّباحِ أراها في المَهارِق لابِساتٍ ... بَراقِعَ مِن مَعانيها الصِّحاحِ أبيْتُ مُفَكِّرا فيها فَتَضْحَى ... لِفَهْمِ الفِدْمِ خافِضَةَ الجَنَاحِ أبحْتُ حَريمَها جَبْرًا عليها ... ومَا كَانَ الحَريمُ بِمستباحِ ***

(2) علو همتهم في قراءة كتب الحديث في أيام قليلة

(2) عُلُوّ هِمَّتِهِم فِي قِرَاءَةِ كُتبِ الحَدِيثِ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ جاء في ترجمة المجد الفيروزآبادي صاحب "القاموس" أنه قرأ "صحيح مسلم" في ثلاثة أيام بدمشق وأنشد: قرأتُ بحمد الله جامِعَ مُسلم ... بجوف دمشق الشام جوف الإسلام على ناصر الدين الإمام بن جهبل ... بحضرةِ حُفَّاظٍ مشاهيرَ أعلام وتَمَّ بتوفيق الإله وفضلِهِ ... قراءة ضبطٍ في ثلاثة أيام وقرأ الحافظ أبو الفضل العراقي "صحيح مسلم" على محمد بن إسماعيل الخباز بدمشق في ستة مجالس متوالية، قرأ في آخر مجلس منها أكثر من ثلث الكتاب، وذلك بحضور الحافظ زين الدين بن رجب وهو يعارض بنسخته، وفِى "تاريخ الذهبي" في ترجمة إسماعيل بن أحمد الحيري النَّيْسابوري الضرير ما نصه: "وقد سمع عليه الخطيب البغدادي بمكة "صحيح البخاري" بسماعه من الكشميهني في ثلاثة مجالس: اثنان منها في ليلتين، كان ييتدئ بالقراءة وقت المغرب، ويختم عند صلاة الفجر، والثالث من صحوة النهار إلى طلوع الفجر" قال الذهبي: "وهذا شيء لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه" انتهى. وقال الحافظ السخاويِّ: (وقع لشيخنا الحافظ ابن حجر أجل مما وقع لشيخه المَجْد اللغوي، فإنه قرأ "صحيح البخاريِّ" في أربعين ساعه رملية، وقرأ "صحيح مسلم" في أربعة مجالس سوى مجلس الختم في يومين وشيء، وقرأ "سُنَن ابن ماجه" في أربعة مجالس، وقرأ

"كتاب النسائي الكبير" في عشرة مجالس، كل مجلس منها نحو أربع ساعات، وقرأ "صحيح البخاري" في عشرة مجالس كل مجلس منها أربع ساعات). ثم قال السخاوي: (وأسرع شيء وقع له -أي: لابن حجر- أنه قرأ في رحلته الشامية "مُعْجَمَ الطبَراني الصغير" في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، قال: وهذا الكتاب في مجلد يشتمل على نحو ألف حديث وخمسمائة حديث) انتهى. ***

(3) علو همتهم في الرحلة لطلب العلم

(3) عُلُوُّ هِمَّتِهِم فِي الرِّحْلَةِ لطِلَب العِلْمِ قال البخاري -رحمه الله-: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد"، ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن نافع وهو في مصر ليروي عنه حديثًا، فقدم مصر، ونزل عن راحلته، ولم يحل رحلها، فسمع منه الحديث، وركب راحلته، وقفل إلى المدينة راجعًا. وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيَّب قال: "كنتُ أرحَلُ الأيامَ والليالَي في طلبِ الحديثِ الواحد". وقال أبو العالية رُفَيْع بن مِهْران الرّياحي البصري: "كنا نَسمَعُ الرواية عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالبصرة، فما نَرَضى حتى نركب إلى المدينة فنَسمَعُها من أفْواههم": وقال الحافظ ابن كثير في ترجمة الإمام البخاري -رحمه الله-: (رحَلَ إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنَتْه الراحلةُ إليها. وكتَبَ عن أكثر من ألف شيخ، قال الفِرَبْرِي: سَمِعَ "الصحيحَ" من البخاري معي نحوٌ من سبعين ألفًا، لم يبق منهم أحد غيري). ورُوي عن الرازيِّ ما يُدهش اللب، من علو همته في الرحلة لتحصيل العلم إذ قال: "أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيًا،

ثم إلى الرملة ماشيًا، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة". سأضرب في طول البلاد وعرضها ... لأطلب علمًا أو أموت غريبًا فإن تلفت نفسي فلله دَرُّها ... وإن سلمت كان الرجوع قريبًا ولم ينتشر العلم في بلاد المغرب والأندلس إلا برجال رحلوا إلى الشرق، ولاقوا في رحلاتهّم عناءً ونصبًا، مثل أسد بن الفرات، وأبي الوليد الباجى، وأبي بكر بن العربي. ***

(4) معانقتهم الفقر في سبيل الطلب

(4) مُعانَقَتهم الفَقْر فِي سَبيل ِالطَّلبِ (حَفَلتْ كتبُ الأدب والتراجم والتاريخ والأخلاق بأقوال العلماء في فقرهم وغُربتهم وصبرهم على شدائدهم الخانقة، واستهانتهم بها، وعدمِ اكتراثهم لها، تمسكًا منهم بمثوبة الصبر، المحتسَب فيه الأجر، والذي كانوا فيه من الفائزين. فهذا قائل منهم يقول مسائلًا عن مسكن الفقر ومنزلِه ليعرفَه فيجتنبَه، فيخبره الفقرُ أنه جليسُه وأنيسُه، وخَدِينُه وقَرِينُه لا يبارحه ولا يفارقه! قلت للفقر: أين أنت مقيم؟ ... قال لي: في عمائم الفقهاءِ! إنَّ بيني وبينهم لِإخاءً ... وعزيزٌ عليَّ تركُ الإخاءِ! وآخَرُ يجعل الفِقهَ هو الفقَر بعينه، وإنما استدارَتْ "راءُ" الفقر فصارت "هاء"، فيقول مشيرًا إلى التلازم بين الفقه والفقر: إنَّ الفقيهَ هو الفقيرُ وإنما ... راءُ الفقيرِ تجمَّعَتْ أطرافُها وهذا الِإمام الشافعي -رضي الله عنه - يستهين بسطوة الفاقة، ويكسر جبروتها بصبره الذي غلبها، فيقول فيما نسب إليه -رضي الله عنه-: أمطري سَماءَ سَرَنْدِيَب ... وأخرجي آبارَ تُكرُورَ تِبْرا (¬1) أنا إن عِشْتُ لستُ أعدَمُ قُوتًا ... ولئن مِتُّ لستُ أعدَمُ قَبرَا ¬

_ (¬1) "سرنديب": جزيرة كبيرة في أقصى الهند بالمشرق، و"تكرور" اسم بلد بأقصى المغرب.

هِمَّتي هِمةُ الملوك ونفسي ... نفسُ حُرٍّ تَرى المذلة كُفْرا) (¬1) وقال عمر بن حفص الأشقر: "إنهم فقدوا البخاري أيامًا من كتابة الحديِث بالبصرة، قال: فطلبناه فوجدناه في بيتٍ وهو عُرْيان، وقد ¬

_ (¬1) انظر: "صفحات من صبر العلماء" ص (35) وما بعدها. ومن الملاحظ أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفُتيا والتدريس والإمامة والخِطابة والأذان ونحوِ ذلك لا تَعظمُ ثروتُهم في الغالب، والسبب لذلك ما قاله ابن خلدون، وهو: (أن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية، وهي متفاوتة بحسب الحاجة إليها، فإذا كانت الأعمالُ ضرورية فٍى العُمرانِ عامَّةَ البلوى به، كانت قيمتها أعظم، وكانت الحاجة إليها أشد. وأهل هذه الصنائع الدينية لا تُضْطَّرُ إليهم عامة الخلق، وإنما يَحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه، وإن احتيج إلى الفُتيا والقضاء في الخصومات، فليس على وجه الاضطرار والعموم، فيقع الاستغناءُ عن هؤلاء في الأكثر، وإنما يَهتم بإقامة مراسمهم صاحبُ الدولة بما له من النظر في المصالح، فيَقَسِمُ لهم حظًّا من الرزق على نسبة الحاجة إليهم، على النحو الذي قَررَّناه، لا يُساويهم بأهلِ الشوكة ولا بأهلِ الصنائع، من حيث الدينُ والمراسمُ الشرعية، لكنه يقسِمُ بحسب عموم الحاجة وضرورةِ أهلِ العُمران، فلا يَصحُّ في قِسمهم إلا القليل. وهم أيضًا لشَرَفِ بضائعهم أعزَّة على الخلق وعند نفوسهم، فلا يَخضعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظًّا يستدرون به الرزق، بل ولا تَفرُغُ أوقاتُهم لذلك، لما هم فيه من الشُّغل بهذه البضائع الشريفة المشتملةِ على إعمال الفكر والبدن، بل ولا يَسعُهم ابتذالُ أنفسهم لأهل الدنيا لشرف بضائعهم، فهم بمعزل عن ذلك، فلذلك لا تعظُمُ ثروتُهم في الغالب. ولقد باحثتُ بعض الفضلاء -في هذا المعنى- فأنكر ذلك عليَّ، فوقَعَ بيدي أوراق مُخَزَّقةٌ من حسابات الدواوين بدار المأمون، تشتمل على كثير من الدَّخل والخَرْج، وكان فيما طالعتُ فيه أرزاق القُضاة والأئمة والمؤذنين، فوَقَفتُه عليه، وعَلِمَ منه صِحةَ ما قلتُه ورجع إليه، وقضينا العجبَ من أسرار الله في خلقه وحكمته في عوالمه، والله الخالقُ القادرُ لا رَبَّ سواه) اهـ.

نَفِدَ ما عنده ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبًا وكسوناه، ثم اندفع معنا فِي كتابة الحديث". وقال "مالك" -رحمه الله-: "لا يُنال هذا الأمر، حتى يُذاق فيه طعم الفقر"، وقد قال ابن القاسم: "أفضى بمالكٍ طلبُ الحديث إلى أن نقض سقف بيته، فباع خشبه". وهذا "يحيى بن معين" -رحمه الله-، خلَّف له أبوه ألف ألف درهم، فأنفقها كلَّها على تحصيل الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه". وروي عن أبى حاتم أنه قال: (ضاقت بنا الحال أيام طلب العلم، فعجزت عن شراء البزر (¬1)، فكنت أخرج الليلَ إلى الدرب الذي أنزله، وأرتفق. بسراج الحارس، وكان ربما ينام الحارس، فكنت أنوب عنه). ... ¬

_ (¬1) البَزْر: الحَبُّ.

(5) معاناتهم الجوع والمرض والشدائد والمخاطرة بالنفس في طلب العلم

(5) مُعَانَاتهم الجُوع وَالمرَض والشَّدَائِدِ وَالمخاطَرة بِالنفسِ في طَلَبِ العلم قص الإمام أبو حاتم -رحمه الله تعالى - شيئًا مما لقيه أثناء رحلته في طلب العلم، فقال: (لما خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري صرنا إلى الجار، وركبنا البحر وكنا ثلاثة أنفس: أبو زهير المروزي شيخ، وآخر نيسابوري، فركبنا البحر، وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا، وفني ما كان معنا من الزاد، وبقيت بقية، فخرجنا إلى البر فجعلنا نمشى أيامًا على البر، حتى فني ما كان معنا من الزاد والماء، فمشينا يومًا وليلة لم يأكل أحد منا شيئًا، ولا شربنا، واليوم الثاني كمثل، واليوم الثالث، كل يوم نمشي إلى الليل، فإذا جاء المساء صلينا، وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضعفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء، فلما أصبحنا اليوم الثالث جعلنا نمشي على قدر طاقتنا، فسقط الشيخ مغشيًّا عليه، فجئنا نحركه، وهو لا يعقل، فتركناه، ومشينا أنا وصاحبي النيسابوري قدر فرسخ أو فرسخين، فضعفت، وسقَطت مغشيًّا علي، ومضى صاحبي، وتركنى، فلم يزل هو يمشي، إذ بصر من بعيد قومًا قد قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى - صلى الله عليه وسلم -، فلما عاينهم لوَّحَ بثوبه إليهم، فجاءوه معهم الماء في إداوة فسقوه، وأخذوا بيده، فقال لهم: "رفيقين لي قد ألقوا بأنفسهم مغشيًّا عليهم"، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهي، ففتحتَ عيني، فقلت: "اسقني"، فصب من الماء في

ركوة أو مشربة شيئًا يسيرًا، وأخذ بيدي، فقلت: "ورائي شيخ ملقى"، قال: "قد ذهب إلى ذاك جماعة"، فأخذ بيدي وأنا أمشي أجر رجلي، ويسقيني شيئًا بعد شيء، حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم، وأتوا برفيقي الثالث الشيخ، وأحسنوا إلينا أهل السفينة، فبقينا أيامًا حتى رجع إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتابًا إلى مدينة يقال لها "راية" إلى واليهم، وزودونا من الكعك والسويق والماء، فلم نزل نمشي حتى نفد ما كان معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشي جياعًا عطاشًا على شط البحر، حتى وقعنا إلى سلحفاة قد رمى به البحر مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير فضربنا على ظهر السلحفاة، فانفلق ظهره، وإذا فيها مثل صفرة البيض، فأخذنا من بعض الأصداف الملقى على شط البحر، فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر، فنتحساه حتى سكن عنا الجوع والعطش، ثم مررنا وتحملنا حتى دخلنا مدينة "الراية"، وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم، فأنزلنا في داره، وأحسن إلينا، وكان يقدم إلينا كل يوم القرع، ويقول لخادمه: "هات لهم باليقطين المبارك"، فيقدم إلينا ذاك اليقطين من الخبز أيامًا، فقال واحد منا بالفارسية: "لا تدعو باللحم المشئوم؟ "، وجعل يُسمع الرجلَ صاحبَ الدار، فقال: "أنا أحسن بالفارسية: فإن جدتي كانت هَرَويهّ"، فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا من هناك، وزودنا إلى أن بلغنا مصر). وقال بكر بن حمدان المروزي: (سمعتُ ابنَ خراش يقَول: شربتُ بولي في طلب هذا الشأن -يعني طلب الحديث- خمس مرات). وذلك أنه كان يمشي في الفَلَوات والقِفار لتحصيل الحديث وتلقيه عن أهله، فيناله العطش الشديد في طريقه! تلوم على أن رحت للعلم طالبًا ... وأجمع من علم الرواة فنونه

فيالائمى دعنى أغالي بمهجتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه قال الوحشي أبو على الحسن: "كنت بعسقلان أسمع من ابن مصحح وغيره، فضاقت علَيَّ النفقة، وبقيت أيامًا بلا أكل، فأخذت لأكتب فعجزت، فذهبت إلى دكان خباز، وقعدت بقربه لأشم رائحة الخبز وأتقوى بها، ثم فتح الله تعالى علَيَّ". وهذا ابن الجوزي يقول: (لقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو. كنت في زمان الصبا آخذ معى أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء. فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم فأثمر ذلك عندى أني عرفت بكثرة سماعي لحديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم .. ). قال البارودي: ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها مُحَبَّبُ ***

(6) معاناتهم والسهر فى طلب العلم

(6) مُعَانَاتهم والسَّهَر فى طَلَبِ العِلمِ قيل لبعض السلف: "بم أدركت العلم؟ "، قال: "بالمصباح والجلوس إلى الصباح"، وقيل لآخر، فقال: "بالسفر، والسهر، والبكور في السحر" ... قال الخطيب البغدادي: "وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك وكان جماعة منهم يبدأون من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح". وبادر الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب (وكان الشيخ أبو علي يكشف عن ظهره في الليلة الباردة يطرد به النوم). وكان محمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله - لا ينام الليل، وكان عنده الماء يزيل نومه به، وكان يقول: "إن النوم من الحرارة فلا بد من دفعه بالماء البارد". ذكر ابن اللباد أن محمد بن عبدوس "صلى الصبح بوضوء العتمة، ثلاثين سنة، خمس عشرة من دراسة، وخمس عشرة من عبادة". يَهْوَى الدَّياجي إذا المغرورُ أغْفَلَها ... كأنَّ شُهْبَ الدياجي أعينٌ نُجْلُ وحكى الربيع عن فاطمة بنت الشافعي قالت: "أسرجت لأبي في ليلةّ سبعين مرة". وقال الحافظ ابن كثير: "وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيُوقدُ السراجَ ويكتب الفائدة تمُرُّ بخاطره، ثم يُطفئُ سراجَه، ثم يقوم مرةً أخرى وأخرى، حتى كان يتعدَّدُ منه ذلك قريبًا من عشرين مرة". وكان أسَدُ بن الفُرات، - قاضي القيروان وتلميذُ الإمام مالك ومُدون مذهبه، - وأحَدُ القادة الفاتحين، فتحَ صِقلِّيَهَّ واستُشهدَ بها سنة 213

كان قَد خرج من القيروان إلى الشرق سنة 172، فسمع "الموطأ" علىٍ مالك بالمدينة، ثم رحل إلى العراق، فسمِع من أصحاب أبي حنيفة وتفقَّه عليهم، وكان أكثَرُ اختلافه إلى محمد بن الحسن الشيباني، ولما حضَرَ عنده قال له: "إني غريب قليلُ النفقة، والسماعُ منك نَزْر، والطلبةُ عندك كثير كما فما حِيلتي؟ "، فقال له محمد بن الحسن: "اسمع العراقِيِّين بالنهار، وقد جعلتُ لك الليلَ وحدَك، فتَبِيتُ عندي وأسمعك"، قال أسد: "وكنتُ أبيتُ عنده وينَزلُ إلي، ويجعلُ بين يديه قَدَحًا فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعَستُ، ملأ يَده ونفحَ وجهى بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه ودأبي، حتى أتيتُ على ما أريدُ من السماع عليه". وكان محمد بن الحسن يتعهده بالنفقة حِين علم أن نفقته نَفِدَتْ، وأعطاه مَرةً ثمانين دينارًا حين رآه يشرب من الماء السبيل، وأمَدَّه بالنفقة حين أراد الانصراف من العراق. وقال عبد الرحمن بن قاسم العُتَقي المصري أحد أصحاب مالك والليث وغيرهما: (كنتُ آتي مالكًا غَلَسًا فأسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة، وكنتُ أجد منه في ذلك الوقت انشراحَ صدر، فكنت آتي كلَّ سحر. فتوسَّدتُ مرَّةً عتبتَه، فغلبتنى عينى فنِمت، وخرَجَ مالك إلى المسجد ولم أشعر به، فركضتني جارية سوداء له برجلها، وقالت لي: "إن مولاك قد خرج، ليس يَغفُلُ كما تَغفُلُ أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة، قلَّما صلى الصبح إلا بوضوء العتَمَة"، ظنَّت السوداء أنه مولاه من كثرةِ اختلافِه إليه. قال ابن القاسم: (وأنختُ بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعتُ

فيها ولا اشتريتُ شيئًا، قال: فبينما أنا عنده، إذ أقبل حاجُّ مصر، فإذا شابٌّ متلثِّم دخل علينا، فسلَّم على مالك، فقال: "أفيكم ابنُ القاسم؟ فأُشيرَ إلَيَّ، فأقبل يُقَبِّلُ عينيَّ، ووجدتُ منه ريحًا طيبة، فإذا هي رائحةُ الوَلَد، وإذا هو ابني"، وكان ابنُ القاسم ترك أمه حاملًا به، وكانت ابنةَ عمه، وقد خيَّرها عند سفره لطول إقامته، فاختارت البقاء). وقال أبو يعلى الموصلي: اصبر على مضض الإدلاج بالسـ ... ـحر وبالرواح على الحاجات والبكر لا تعجزن ولا يضجرك مطلبها ... فالنجح يتلف بين العجز والضجر إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر وقل من جد في أمر يطالبه ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر حكى شيخ الإسلام النووي -رحمه الله- عنه شيخه الإمام الجليل أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي قال: سمعت الشيخ عبد العظيم -رحمه الله - يقول: "كتبت بيدي تسعين مجلدة، وكتبت سبعمائة جزء"، كل ذلك من علوم الحديث تصنيف غيره، وكتب ذلك من مصنفاته وغيرها أشياء كثيرة، قال النووي: (قال شيخنا: "ولم أرَ، ولم أسمع أحدًا أكثر اجتهادًا منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار"، قال: وجاورته في المدرسة -يعني بالقاهرة حماها الله- بيتي فوق بيته اثني عشر سنة، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي، في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته، وهو مشتغل بالعلم، وحتى كان في حال الأكل والكتاب والكتب عنده يشتغل فيها) اهـ. فنورهم من جدهم وسهرهم، كالحافظ الضياء أبو محمد المقدسي:

"كأن النور يخرج من وجهه، ضعف بصره من كثرة الكتابة والبكاء". وقال الزمخشري واصفًا تلذذ العلماء بإيقاظ ليلهم، وطول سهرهم: سَهَري لتنقيح العلوم ألذُّ لي ... من وَصْل غانيةٍ وطِيب عِناقِ وتمايلي طربًا لحلِّ عويصة ... أشهى وأحلى من مُدامة ساقي وصَريرُ أقلامي على أوراقها ... أحلى من الدُّوكاهِ (¬1) والعُشَّاقِ وألذُّ من نَقْرِ الفتاة لدُفِّها ... نقري لألقي الرَّمْلَ عن أوراقي أأبِيتُ سهرانَ الدُّجَى وتبيتَه ... نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي؟! وقال النووي -رحمه الله- حاكيًا عن أوائل طلبه للعلم: "وبقيت سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض"، وحكى البدر بن جماعة أنه سأله -رحمه الله- عن نومه؛ فقال: "إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه" وقال البدر: "وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكانًا أجلس فيه". وهذا الإمام الشيخ مؤرخ الِإسلام وحافظ الشام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير -رحمه الله تعالى-، أخذ كتاب الإمام أحمد مرتبًا من المحب الصامت، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، و"معجم الطبراني الكبير"، و"مسند البزار"، و"مسند أبي يعلى الموصلي"، وأجهد نفسه كثيرًا، وتعب فيه تعبًا عظيمًا، فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله، إلا من بعض مسند أبي هريرة. فإنه مات قبل أن يكمله فإنه عوجل بكف بصره، يقول للذهبي: "لا زلت كتب فيه في الليل، والسراج يُنونص، حتى ذهب بصري معه، ¬

_ (¬1) الدوكاء: الحجر الذي يُسحق به الطيب.

ولعل الله يقيض من يكمله". وهاك طرفًا من سيرة الإمام الجليل "ابن دقيق العيد" -رحمه الله تّعالى- يبين عن علو همته وسهره في طلب العلم: بعد أن قام بجولته العلمية في الفسطاط والقاهرة والإسكندرية ودمشق والحجاز، وأخذ العلم عن كبار أساتذة عصره، تعمق في المذهبين، مذهب مالك والشافعي، كما تعمق في علوم الحديث والتفسير، وعلم الكلام والنحو والأدب، وأتقن وهو شاب المذهبين اتقانًا عظيمًا، وبلغ به إلى درجة الإفتاء بهما. قال الإسنوي: حقق المذهبين معًا ولذلك مدحه الشيخ ركن الدين بن القويع المالكي بقصيدة يقول من جملتها: صبَا للعلم صَبًّا في صِباه ... فأعلي بهمةِ الصَّبِّ الصبيّ وأتقنَ والشبابُ لَهُ لباسٌ ... أدلةَ مالكٍ والشافعي كان الشيخ تقي الدين -رحمه الله - منقطعًا للعلم والعبادة، فكان لا ينام الليل إلا قليلاً، فكانت أوقاته معمورة بالدرس والمطالعة والتحصيل، أو الِإملاء والتأليف، ورواية الحديث، فإن أراح نفسه من بعض ذلك العناء فلا يُرَى إلا قائمًا يصلي في المحراب، أو جالسًا يتلو كلام الله، أو ماشيًا يتفكر في خلق الله، متدبرًا صنعه، مستدلاً بذلك على قدرة الله ووحدانيته، فهو منصرف بجسمه وفكره، سوادَ ليله وبياضَ نهاره إلى البحث والتدقيق، والاستنباط والتحقيق، أو الصلاة والقيام، وتقديس الله الملك العلام، وأصدق مرآة لحياته قوله: الجسمُ يذيبُه حقوقُ الخدمهْ ... والقلبُ عذابُهُ علو الهمهْ والعمرُ بذاك ينقضي في تعبٍ ... والراحةُ ماتت فعليها الرحمهْ

فهو قد أضنى فؤاده علو همته في درك العلا، ونيل المرام، فشغل فكره باستنباط الأحكام الشرعية، وخدمة الدين والأمة، والتزود بالتقوى. قال السبكي: "أما دأبه في الليل علمًا وعبادة فأمر عجاب، ربما استوعب الليل فطالع فيها المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة فكررها إلى مطلع الفجر". وقال الآدفوي: (حكى لي الشيخ زين الدين عمر الدمشقي المعروف بابن الكناني -رحمه الله تعالى-: قال: دخلت عليه بكرة يوم فناولني مجلدة، وقال: "هذه طالعتها في هذه الليلة التي مضت"، وقال الآدفوي أيضًا: له قدرة على الطالعة، رأيتَ خزانة المدرسة النجيبة بقوص فيها كتب من جملتها "عيون الأدلة" لابن القصار في نحو ثلاثين مجلدًا، وعليها علامات له، وكذلك رأيت كتب المدرسة السابقية، رأيت على "السنن الكبرى" للبيهقي له فيها في كل مجلدة علامة، وفيها "تاريخ الخطيب" كذلك، "ومعجم الطبراني" الكبير، والأوسط، وقال: وأخبرني شيخنا الفقيه سراج الدين الدنوري أنه لما ظهر "الشرح الكبير" للرافعي اشتراه بألف درهم، وصار يصلي الفرائض فقط، واشتغل بالمطالعة إلى أن أنهاه، وذُكر عنده هو والغزالى في الفقه، فقال: "الرافعي في السماء"، ويقال إنه طالع كتب الفاضلية عن آخرها، وقال: "ما خرجت من باب من أبواب الفقه واحتجت أن أعود إليه". * ومن سيرة العلماء المعاصرين ننتقي أنموذج العلامة القرآني "محمد الأمين الشنقيطي" -رحمه الله -، قال ابنه عبد الله: "حدثني أبي أنه

كان يقرأ في البلاد زمان طلبه العلم في "مختصر خليل" في أول كتاب النكاح، حتى وصل إلى قول خليل: "في عشرة ندبه ولو ببيع سلطان لفلس"؛ قال لي: أقرأنيها شيخي بعد العصر، وكانت دراسته جرديَّة، بحيث يقرأ كل ما قيل في الباب؛ قال: فأخذت شراح خليل وحواشيه على هذه المسألة، وجلست أراجعها حتى جاء الليل، ثم أوقدت النار أطالع في ضوئها إلى الصبح، ولم أنم، ولم أصلِّ غير الفريضة، فوجدت أن للشراح في قول خليل قولين، ولو كنت أبحث في الكتاب والسنة لأتيت للأمة بالعجب". ولي شغل بأبكار عذارى ... كان وجوهها ضوء الصباح أبيتُ مفكرًا فيها فتضحي ... لفَهْم الفَدْمِ (¬1) خافضة الجناح قال الشيخ عطية سالم في روايته هذه القصة ما نصه: (نعم؛ إنه كان يبيت في طلب العلم مفكرًا وباحثًا، حتى يذلل الصعاب، وقد طابق القول العمل؛ حدثني -رحمه الله- قال: "جئت للشيخ في قراءتي عليه، فشرح لي كما كان يشرح، ولكنه لم يشف ما في نفسى على ما تعودت، ولم يرو لي ظمئي، وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح يعض المشكل، وكان الوقت ظهرًا، فأخذت الكتب والمراجع، فطالعت حتى العصر، فلم أفرغ من حاجتي، فعاودت حتى المغرب، فلم أنته أيضًا، فأوقد لي خادمي أعوادًا من الحطب أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب، وواصلت المطالعة، وأتناول الشاهي الأخضر كلما مللت أو كسلت، والخادم بجواري يوقد الضوء، حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي، لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام، وإلى أن ارتفع النهار، وقد فرغت من ¬

_ (¬1) الفَدْم: رجل فَدْم: ثقيل الفهم عَيِيٌّ.

درسي، وزال عني لبسي، ووجدت هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم، فتركت المطالعة ونمت، وأوصيت خادمي أن لا يوقظني لدرسي في ذلك اليوم؛ اكتفاءً بما حصلت عليه، واستراحة من عناء سهر البارحة؛ فقد بات مفكرًا فيها، فأضحت لفهم الفدم خافضة الجناح) اهـ. * وقال العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي -رحمه الله- واصفًا حاله أثناء مدارسته تفسير القرآن العظيم قبل أن يبلغ سن العشرين: (وإني ولله تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم، ونيطت على رأسي العمائم، لم أزل متطلبًا لاستكشاف سره المكتوم، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم، طالما فرقت نومي لجمع شوارده، وفارقت قومي لوصال خرائده، فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر، وأطالع -إن أعوز الشمع يومًا- على نور القمر، في كثير من ليالي الشهر، وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو، ويرقلون في ميادين الزهو، ويؤثرون مسرات الأشباح، على لذات الأرواح، ويهبون نفائس الأوقات، لنهب خسائس الشهوات، وأنا مع حداثة سني، وضيق عَطَني، لا تغرني حالهم، ولا تغيرني أفعالهم) اهـ. ***

(7) حرصهم على مجالس العلماء

(7) حِرصهم على مَجَالِسِ العُلَمَاءِ إن من رحمه الله تعالى بهذه الأمة أن ألقى في قلوب سلفنا الصالح الشغف بالعلم والحرص على مجالسه ليحفظ بهم دينه، ويكونوا أسوة لمن بعدهم، فمن ثم تبوأوا مناصب الِإمامة في الدين. فقد كانوا يزدحمون على مجالس العلم حتى قال جعفر بن درستويه: (كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليومَ لمجلس غدٍ، فنقعد طول الليل، مخافة أن لا نلحق من الغد موضعًا نسمع فيه، ورأيت شيخًا في المجلس يبول في طيلسانه، ويدرج الطيلسان، حتى فرغ مخافة أن يؤخذ مكانه إن قام للبول". وقال يحيى بن حسان: (كنا عند سفيان بن عيينة، وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محل شيخٍ ضعيفٍ، فانتهبوه، ودَقُّوا يد الشيخ، فجعل الشيخ يصيح: "سفيانُ لا جعلتك مما عمِلوا بي في حِل"، وسفيانُ لا يسمع، حتى نظر إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا، فقال له: "ما يقول الشيخ؟ "، قال: يقول (¬1): "زدنا في السماع"). وهشيم -رحمه الله تعالى- كان سبب موته ازدحام طلبة العلم ¬

_ (¬1) اللائق بحال طلبة العلم الشريف أن يكون ذلك الرجل قد أجابه بقوله: "زدنا في السماع"، دون أن يكون قال: "يقول زدنا" فعسى أن تكون لفظة "يقول" مزيدة في الرواية.

عليه، فقد قال الخطابي: (ازدحم أصحاب الحديث على هشيم، فطرحوه عن حماره، فكان سبب موته). وكان أبو بكر بن الخياط النحوي -رحمه الله تعالى- يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جُرْفٍ، أو خبطته دابة! وحكي عن "ثعلب" أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة، شرط عليه أن يُوسِع له مقدار مِسْوَرة -وهي المتكأ من الجلد- يضع فيها كتابًا، ويقرأ. وكان سببُ وفاته أنه خرج من الجامع يوم الجمعة، بعد العصر، وكان قد لحقه صَمَمٌ، لا يَسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرسٌ فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلِط، فحُمل إلى منزله على تلك الحال، وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم، رحمه الله تعالى. وهذا الإمام "بَقيٌّ بن مَخْلَد الأندلسي" الذي رحل إلى بغداد ماشيًا على قدميه، وكان جُلُّ بغيته أن يلقى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله -، ليأخذ عنه العلم، حُكي عنه أنه قال: (لما قَرُبتُ من بغداد اتصل بي خبرُ المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل، وأنه ممنوع من الاجتماع إليه والسماع منه، فاغتممتُ بذلك غمًّا شديدًا، فاحتَللتُ الموضع، فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اكتريتُه في بعض الفنادق أن أتيتُ المسجد الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخَلْق وأسمع ما يتذاكرونه. فدُفِعتُ إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال، فيُضعِّفُ ويُقوِّي، فقلت: "من هذا"؟ لمن كان قربي، فقال: "هذا يحيى بن

معين"، فرأيتُ فرجة قد انفرجت قُرْبَه، فقمت إليه فقلت له: "أبا زكريا رحمك الله، رجل غريب نائي الدار، أردتُ السؤال فلا تَستخفَّني"، فقال لي: "قُلْ"، فسألته عن بعض من لقيتُ من أهل الحديث، فبعضًا زكَّى، وبعضًا جرَّح. فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار، وكنتُ قد أكثرت من الأخذ منه، فقَال: "أبو الوليد هشام بن عمار صاحبُ صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر وتقلد كبرًا ما ضرَّه شيئًا لخيرِه وفضلِه"، فصاح أهلُ الحلقة: "يكفيك رحمةُ الله عليك، غيرُك له سؤال". فقلت: وأنا واقف على قدمي: "أكشِفُك عن رجل واحد: أحمد بن حنبل؟ "، فنظر إليَّ يحيى بن معين كالمتعجِّب وقال لي: "ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل؟! إنَّ ذاك إمامُ المسلمين، وخيرُهم، وفاضلهم". ثم خرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدُللتُ عليه، فقرعتُ بابه، فخرج إليَّ وفتَح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، فقلت: "يا أبا عبد الله رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالبُ حديث ومُقَيِّدُ سُنَّة -أي: جامعُ سُنَّة-، ولم تكن رحلتي إلا إليك"، فقال لي: "ادخل الأسطوان، ولا تقع عليك عين". فقال لي: "وأين موضعك؟ "، قلت: "المغرب الأقَصى"، فقال لي: "إفريقية؟ " فقلت: "أبعَدُ من ذلك، أجوزُ من بلدي البحرَ إلى إفريقية، الأندلس"، فقال لي: "إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحبَّ إليَّ من أن أحسن عَونَ مثلِك على مطلبه، غير أني في حيني

هذا ممتحَن بما لعله قد بلغك"، فقلت له: "بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبلٌ نحوك". فقلت له: "أبا عبد الله هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنتَ لي أن آتي في كل يوم في زِيِّ السُّؤَّال، فأقولَ عند باب الدار ما يقولون، فتَخرُجَ إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه كفاية"، فقال لي: "نعم، على شرط أن لا تظهر في الخَلْق، ولا عند أصحاب الحديث"، فقلت: "شَرْطك". فكنتُ آخذ عُودًا بيدي، وألُفُّ رأسي بخرقة، وأجعل كاغدي -أي: ورقي- ودَواتي في كُمِّي، ثم آتي بابه فأصيح: "الأجْرَ رحمكم الله"، والسُّؤَّالُ هنالك كذلك، فيَخرج إليَّ، ويغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر. فالتزمتُ ذلك، حتى مات الممتحِنُ له، ووَلَي بعده من كان على مذهب السُّنَّة، فظهر أحمد بن حنبل، وسَمَا ذكره، وعظُمَ في عيون الناس، وعلَتْ إمامتُه، وكانت تُضرَب إليه آباط الإبل، فكان يَعرفُ لي حقَّ صبري. فكنت إذا أتيتُ حَلْقَتَهُ فسَحَ لي وأدناني من نفسه، ويقول لأصحاب الحديث: "هذا يقع عليه اسمُ طالب العلم"، ثم يقص كليهم قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرأه عليَّ، وأقرأه عليه. فاعتللتُ أشفيتُ منها، ففقَدَني من مجلسه فسأل عني، فأعلم بعِلَّتي، فقام من فوره مقبلًا إليَّ عائدًا لي بمن معه، وأنا مضطجع في البيت الذي كنت اكتريت، ولِبْدي تحتي، وكسائي عليَّ، وكتبي عند رأسي.

فسمعتُ الفندقَ قد ارتَجَّ بأهله وأنا أسمعهم -يقولون-: "هو ذاك، أبصروه، هذا إمام المسلمن مقبلًا"، فبَدَر إليَّ صاحبُ الفندق مسرعًا فقال لي: "أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلًا إليك عائدًا لك". فدخل، فجلس عند رأسي، وقد احتَشَى البيتُ من أصحابه، فلم يسعهم، حتى صارَتْ فرقة منهم في الدار وقوفًا وأقلامُهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات؛ فقال لي: "يا أبا عبد الرحمن أبشِرْ بثواب الله، أيامُ الصحة لا سقَمَ فيها، وأيامُ السقم لا صحة فيها، أعلاك الله إلى العافية، ومَسَحَ عنك بيمينه الشافية"، فرأيت الأقلام تكتب لفظه. ثم خرج عني، فأتاني أهلُ الفندق يَلطُفون بي، ويخدمونني ديانةً وحِسبةً، فواحدٌ يأتي بفراش، وآخر بلحافٍ، وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثرَ من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم، لعيادة الرجل الصالح. وتوفي بقي بن مخلد سنة 276 بالأندلس -رحمه الله تعالى). * واجتهد كثير من الحفاظ في لقيا المشايخ والتلقي عنهم، حتى بلغ عدد شيوخ الِإمام أبي سعد عبد الكريم السمعاني المروزي سبعة آلاف شيخ وأستاذ، ولكثرة البلدان التي رحل إليها، ألف "معجم البلدان" التي سمع فيها، وصنف "معجم شيوخه" في عشر مجلدات. وقال القاسم بن داود البغدادي: "كتبت عن ستة آلاف شيخ"، وبلغ عِدَّةُ شيوخ الإمام الحافظ ابن عساكر -رحمه الله - ألفًا وثلاثَ مائة شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة. ***

ولما مات "زيد بن ثابت" -رضي الله عنه- قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يا هؤلاء من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، وأيْمُ الله لقد ذهب اليوم علمٌ كثيرٌ، يموت الرجل الذي يعلم الشيء لا يعلمه غيره، فيذهب ما كان معه -ويشير إلى قبر زيد ويقول:- لقد دفن اليوم علمٌ كثيرٌ". قال يحيى بن القاسم: كان "ابن سُكَيْنَة" عالمًا عاملًا، لا يُضيِّعُ شيئًا من وقته، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: "لا تزيدوا على: (سلامٌ عليكم) مسألة، لكثرة حرصه على المباحثة، وتقرير الأحكام. ***

(8) مبادرتهم الأزمان حرصا على العلم

(8) مُبَادَرتهم الأَزمَان حِرصًا عَلى العِلمِ ومن ذلك: أن "شعبة بن الحجاج" جاء إلى "خالدٍ الحذاء"، فقال: "يا أبا منازل: عندك حديث حَدِّثني به؟ "، وكان خالد عليلًا، فقال له: "أنا وجع"، فقال: "إنما هو واحد؟ "، فحدثه به، فلما فرغ، قال: لا من إذا شئت". وكان "يحيى بن معين" شديد الحرص على لقاء الشيوخ والسماع منهم خشيه أن يفوتوه، قال عبد بن حميد: (سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث أول ما جلس إلي، فقلت: حدثنا حماد بن سلمة فقال: "لو كان من كتابك؟ " فقمت لأخرج كتابي، فقبض على ثوبي ثم قال: "أمْلِهِ عَليَّ، فإني أخاف أن لا ألقاك"، فأمليتُه عليه، ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه). وعن ابن إسحاق قال: (سمعت مكحولًا يقول: "طُفتُ الأرض في طلب العلم"، وروى أبو وهب عن مكحول قال: "أعتقتُ بمصر، فلم أدَعْ بها عِلمًا إلا حويتُه فيما أُرَى، ثم أتيتُ العراق ثم أتيتُ المدينة، فلم أدع بهما علمًا إلا حويتُ عليه فيما أُرى، ثم أتيتُ الشام فغربلتُها"، وهذا من فطنته ومبادرته الزمان، خشية فوت الرواة، وموت المحدثين (¬1). ¬

_ (¬1) وقد كان هذا مظهرًا من مظاهر القاعدة التي أرساها بعده الإمام الجليل=

.......................... ¬

_ =يحيى بن مَعين -رحمه الله - حيث قال: "إذا كتبتَ فقمِّش -أي: اكتب كل ما تسمع واجمعه- وإذا حدثتَ ففتِّش". ***

(9) علو همتهم في مذاكرة العلم ومدارسته

(9) عُلُوّ هِمَّتهم فِي مُذَاكَرَةٍ العِلْمِ وَمُدَارَسَتهِ قال إبراهيم النخعي: "من سَرَّه أن يحفظ الحديث، فليحدث به، ولو أن يُحَدِّث به من لا يشتهيه، فإنه إذا فعل ذلك كان كالكتاب في صدره". وعن ابن شهاب أنه: (كان يسمع العلم من عروة وغيره، فيأتي إلى جارية له -وهي نائمة- فيوقظها، فيقول: "اسمعي حدثني فلان كذا وفلان كذا"، فتقول: "ما لي وما لهذا الحديث؟ "، فيقول: "قد علمت أنك لا تنتفعين به، ولكن سمعته الآن فأردت أن أستذكره"). قال زياد بن سعد: (ذهبنا مع الزهري إلى أرضه بالشعب، قال: وكان الزهري يجمع الأعاريب فيحدثهم، يريد الحفظ). وكان بعضهم يذاكر العلم مع نفسه فتراه يجلس وحده، ويرفع بالعلم صوته، حتى يحفظه، يقول جعفر بن المراغي: (دخلت مقبرة بتُسْتَر، فسمعت صائحًا يصيح: والأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة"، ساعة طويلة، فكنت أطلب الصوت، إلى أن رأيت ابن زهير، وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش). وقال عبد الرزاق: (كان سفيان الثوري عندنا ليلة، قال: وسمعت قرأ القرآن من الليل وهو نائم، ثم قام يصلي، فقضى جزءه من الصلاة، ثم قعد فجعل يقول: "الأعمش، والأعمش، والأعمش، ومنصور،

ومنصور، ومنصور، والمغيرة، والمغيرة، والمغيرة"، قال: فقلت له: "يا أبا عبد الله ما هذا؟ "، قال: "هذا جزئي من الصلاة، وهذا جزئي من الحديث"). وحكى القطب اليونيني عن الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: (أنه كان لا يضيع له وقت في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى إنه في ذهابه في الطريق وإيابه يشتغل في تكرار محفوظة، أو مطالعة، وإنه بقي على التحصيل -على هذا الوجه- ست سنين). ولقد كان النووي -أول طلبه أيضًا- يقرأ كل يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا: درسين في "الوسيط"، وثالثًا في "المهذب"، ودرسًا في "الجمع بين الصحيحين"، وخامسًا في "صحيح مسلم"، ودرسًا في "اللمع " لابن جني في النحو، ودرسًا في "إصلاح المنطق" لابن السكيت في اللغة، ودرسًا في التصريف، ودرسًا في أصول الفقه، تارة في "اللمع" لأبي إسحاق، وتارة في "المنتخب" للفخر الرازي، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين -أي: التوحيد- قال النووي: "وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وإيضاح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي واشتغالي، وأعانني عليه). ... وطالع الشيخ عبد الله بن محمد بن أبي بكر الحنبلي: "المغني" للموفق ابن قدامة ثلاًثا وعشرين مرة، حتى كاد يستحضره.

(10) علو همتهم في حفظ العلم الشريف

(10) عُلوّ هِمِّتِهِم فِي حِفْظِ العلْمِ الشَّريفِ قال أبو زُرعة: "كان أحمدُ بن حنبل يحفظُ ألفَ ألفِ حديثٍ (أي: مليونًا)، فقيل له: ما يُدْريك؟ قال: ذاكرتُه وأخذتُ عليه الأبوابَ". وقال سليمانُ بن شُعبةَ: "كَتَبوا عن أبي داودَ أربعين ألف حديث، وليس معه كتابٌ". وقال أبو زُرْعَة الرازى: "أحفظُ مائتي ألفِ حديثٍ، كما يحفظُ الإنسانُ: {قل هو الله أحد}، وفي المذاكرةِ ثلاثمائةِ ألفِ حديثٍ". وقال هشام الكلبي: (حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتًا، وحلفت أن لا أخرج حتى أحفظ القران، فحفظته في ثلاثة أيام، ونظرت يومًا في المرآة لأخذ ما دون القبضة، فأخذت ما فوق القُبَضة). وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: (سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعَمَدوا إلى مِئة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا، وإسنادَ هذا المتن هذا، ودفعوا إلى كل واحدٍ عشرة أحاديث ليُلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاريَّ عن حديث من عَشَرَته، فقال:

"لا أعرفه"، وسأله عن آخر، فقال: "لا أعرفه"، وكذلك حتى فرغ من عَشَرَتِهِ. فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: "الرجلُ فَهِمَ"، ومَنْ كان لا يدرى قضَى على البخاري بالعَجْزِ، ثم انتدب آخر، ففعل كما فعل الأول، والبخاري يقول: "لا أعرفه"، ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على: "لا أعرفه"، فلما علم أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: "أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا إلى العشرة" فَردَّ كل متن إلى إسناده، وفعل بالآخرين مثلَ ذلك، فأقر له الناس بالحفظ، فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النَّطَّاح) اهـ. قال ابن النجار: سمعت شيخنا عبد الوهاب بن الأمين، يقول: (كنت يومًا مع الحافظ أبي القاسم بن عساكر، وأبي سعد بن السمعاني، نمشي في طلب الحديث ولقاء الشيوخ، فلقينا شيخًا، فاستوقفه ابنُ السمعاني، ليقرأ عليه شيِئًا، وطاف على الجزء الذي هو سماعُه في خريطته، فلم يجده، وضاق صدره، فقال له ابن عساكر: "ما الجزء الذي هو سماعه؟ "، فقال: كتاب "البعث والنشور" لابن أبي داود، سمعه من أبى نصر الزينبي، فقال له: "لا تحزن"، وقرأه عليه من حفظه أو بعضه)، قال ابن النجار: "الشك من شيخنا". - قال ابن العميد: (ما كنت أظن في الدنيا حلاوة كحلاوة الوزارة أو الرياسة التي أنا فيها، حتى شاهدت مذاكرة الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، وكان الطبراني يغلبه بكثرة حفظه، وكان أبو بكر يغلبه بفطنته حتى ارتفعت أصواتهما، إلى أن قال الجعابي: "عندي حديث ليس

في الدنيا إلا عندي"، فقال: "هات"، قال: "حدثنا أبو خليفة أنا سليمان بن أيوب" (وحدث بحديث)، فقال الطبراني: "أنا سليمان بن أيوب ومني سمعه أبو خليفة، فاسمعه مني عاليًا"، فخجل الجعابي، فوددت أن الوزارة لم تكن، وكنت أنا الطبراني، وفرحت كفرحه). - عن محمد بن أحمد الواعظ قال: (قام أبو بكر بن الباغندي يصلي، فكبر، ثم قال: "حدثنا محمد بن سليمان لوين"، فسبحنا به، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالين}. ورُوِيَ عنه أيضًا قال: {قد حُبِّبَ إليَّ الحديث، رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم أقل: "ادع الله لي"، وقلت له: "يا رسول الله! أيهما أثبت في الحديث: منصور أو الأعمش؟ "، فقال لي: "منصور، منصور")، وقال ابن كثير: "إنه ربما يسرد بعض الأحاديث بأسانيدها في الصلاة والنوم، وهو لا يشعر". - وكان يحيى بن هلال بن مطر يجلس كل يوم لإسماع "المدونة" من الظهر إلى الليل، يستوعب قراءتها كل شهر. وقال الِإمام أبو إسحاق الشيرازي صاحب "المهذب": (كنت أعيد كل درس مائة مرة، وإذا كان في المسئلة بيت شعر يُستشهد به حفظت القصيدة كلها من أجله). - قال الذهبي: سمعت الشيخ تقي الدين أبا العباس يقول: (كان الشيخ ابن مالك يقول: "أُلين للشيخ المجد الفقه، كما ألين لداود الحديد")، قال الشيخ: (وكانت في جدنا حِدَّة، اجتمع ببعض

الشيوخ، وأورد عليه مسألة، فقال: "الجواب عنها من ستين وجهًا، الأول كذا، والثاني كذا، وسردها إلى آخرها، وقد رضينا عنك بإعادة أجوبة الجميع"، فخضع له، وابتهر). وقال الشيخ تقي الدين: (وجدناه عجيبًا في سرد المتون وحفظ المذاهب بلا كلفة، سافر مع ابن عمه إلى العراق ليخدمه، وله ثلاث عشرة سنة، فكان يبيت عنده، ويسمعه يكرر مسائل الخلاف، فيحفظ المسألة) اهـ. وكان الشيخ أحمد بن الحسن بن أنو شروان الرومي الحنفي (652 هـ - 745 هـ) "يحفظ في كل يوم من أيام الدرس ثلثمائة سطر، أقام فوق السبعين سنة يدرس بدمشق". - عكف أبو صالح أيوب بن سليمان على كتاب "العَروض" حتى حفظه، فسأله بعضهم عن إقباله عّلى هذا العلم بعد الكبير، فقال: "حضرت قومًا يتكلمون فيه، فأخذني ذلٌّ في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلم فيه". **

(11) شدة محبتهم للكتب

(11) شِدَّة محبتهِم للِكتبِ كان العلماء يحرصون على الكتب، ويوثقون علاقتهم بها، فيدمنون مطالعتها باعتبارها خزائن العلم وكنوزه. قال المبرد: (ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، أما الجاحظ: فإنه كان إذا وقع في يده كتاب، قرأه من أوله إلى آخره، أي كتاب كان، وأما الفتح: فكان يحمل الكتاب في خفه، فإذا قام من بين يدي المتوكل ليبول أو ليصلي، أخرج الكتاب فنظر فيه، وهو يمشي، حتى يبلغ الموضع الذي يريد، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه. وأما إسماعيل بن إسحاق: فإني ما دخلت عنيه قط إلا وفي يده كتاب ينظر فيه، أو يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه، أو ينفض الكتب). وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق وكان ربما سقط فِي جرف أو خبطته دابة. وقال بعض الوزراء: "يا غلام! ائتني بأنس الخلوة ومجمع

السلوة"، فظن جلساؤه أنه يستدعي شرابًا، فأتاه بسفط (¬1) فيه كتب. وقال أحمد بن عمران: (كنت عنه أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع، وقد تخلف في منزله، فبعث غلامًا من غلمانه إلى أبي عبد الله الأعرابي صاحب الغريب يسأله المجيء إليه، فعاد إليه الغلام، فقال: قد سألته ذلك، فقال لي: "عندي قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي معهم أتيت"، قال الغلام: "وما رأيت عنده أحدًا، إلا أن بين يديه كتبًا ينظر فيها، فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة"، ثم ما شعرنا حتى جاء، فقال له أبو أيوب: "يا أبا عبد الله سبحان الله العظيم! تخلفتَ عنا، وحرمتنا الأنس بك، ولقد قال لي الغلام: إنه ما رأى عندك أحدًا، وقلت أنت: معي قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي معهم أتيت"، فقال ابن الأعرابي: لنا جلساء ما نمل حديثَهم ... ألبَّاءُ مأمونون غيبًا ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلاً وتأديبًا ورأيًا مسددا بلا فتنة تُخشى ولا سوءِ عشرة ... ولا نتقي منهم لسانًا ولا يدا فإن قلت أموات فما أنت كاذبا ... وإن قلت أحياء فلست مُفْنِدا ومن الطرائف: "أن الجاحظ كان يكتري الدكاكين من الوراقين، ويبيت فيها للنظر في الكتب". قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: (فسبيل طالب الكمال في طلب العلم: الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر ¬

_ (¬1) السَّفَط: وعاء من قضبان الشجر ونحوها، توضع فيه الأشياء، كالفاكهة ونحوها.

من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة .. فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم، وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قيل: فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره فكأني وقعت على كنز. ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميدى، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشاب، وكانت أحمالًا، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه. ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطلب. فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع. فصرت استزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد). ومع ما في الكتب من المنافع العميمة والمفاخر العظيمة، فهي أكرم مال، وأنفس جمال، والكتاب آمَنُ جليس، وأسر أنيس، وأسلم نديم، وأفصح عليم، ولذلك حرص العلماء على جمع الكتب والنظر فيها: فهذا ابن حجر -رحمه الله - يقول عن ابن القيم في كتابه "الدرر الكامنة": "وكان مغرى بجمع الكتب فحَصَّل منها ما لا يحصى، حتى

كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلًا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم". وخلف "يحيى بن معين" من الكتب مائة قمطر وأربعة عشر قمطرًا وأربعة حباب شرابية مملوءة كتبًا. وقال ابن حجر عن ابن الملقن: (وكان يقتني الكتب، بلغني أنه حضر في الطاعون العام بيع كتب شخص من المحدثين، فكان وصيه لا يبيع إلا بالنقد الحاضر، قال: فتوجهت إلى منزلي فأخذت كيسًا من الدراهم ودخلت الحلقة فصببته فصرت لا أزيد في الكتاب شيئًا إلا قال: بع له، فكان فيما اشتريت "مسند الإمام أحمد" بثلاثين درهمًا ... ). والقاضي عبد الرحيم بن علي اللخمي قال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء": (وبلغنا أن كتبه التي ملكها بلغت مئة ألف مجلد، وكان يحصلها من سائر البلاد). ومحمد بن عبد الله السلمي المرسي الأندلسي (كتب وقرأ وجمع من الكتب النفيسة كثيرًا، ومهما فتح به عليه صرفه في ثمن الكتب .. ). وقال الأدفوي: حكى لي شيخنا قَاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن جماعة أنه كان عنده أمين الحكم بالقاهرة، وكان في اجتهاد في تحصيل مال اليتيم، قال شيخنا فأحضر عندي مرة الشيخ "تقي الدين ابن دقيق العيد" وادعى بدين عليه للأيتام، فتوسطت بينهما، وقررت معه أن تكون جامكية المدرسة الكاملية -أي: ما يأخذه من أجر مقابل تدريسه فيها- للدين، وتترك للشيخ جامكية الفاضلية لنفقاته، ثم قال له قاضي القضاة: "أنا أشح عليك بسبب الاستدانة"، فقال ابن دقيق العيد: "ما يوقعني في ذلك إلا محبةُ الكتب".

وقالت زوجة الإمام الزهري -رحمه الله-: "والله إن هذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاث ضرائر". وقال سليمان العامري: وقائلةٍ أنفقتَ في الكتب ما حوت ... يمينك من مال فقلت: دعيني لعلي أرى فيها كتابًا يدلني ... لأخذ كتابي آمنا بيميني قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: (وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غُلِبَ، وضعه، فدخل عليه الطبيب يومًا وهو كذلك، فقال: "إن هذا لا يحل لك، فإنك تعين على نفسك، وتكون سببًا لفوات مطلوبك". ودخل الطبيب على أبي بكر الأنباري في مرض موته، فنظر إلى مائه -أي: بوله- فقال: "قد كنت تفعل شيئًا لا يفعله أحدٌ"، ثم خرج، فقال: "ما يجيء منه شيء"، قال له: "ما الذي كنت تفعل؟ "، قال الأنباري -رحمه الله-: "كنت أُعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة". وقال الشيخ "راغب الطباخ" -رحمه الله-: (كان علامة حلب الشيخ "أحمد الحجار" -رحمه الله - يجب اقتناء الكتب، حتى سمعنا أنه رأى كتابًا يُباع، ولم يكن معه دراهم، وكان عليه ثياب، فنزع بعضَها وباعه، واشترى الكتاب في الحال) اهـ. ***

ودخل الشيخ علاء الدين -يعني ابن النفيس- مرة إلى الحمَّام التي في باب الزهومة، فلما كان في بعض تغسيله خرج إلى مَسْلَخ الحمام (¬1)، واستدعى بدواة وقلم وورق، وأخذ في تصنيف مقالة في النَّبْض إلى أن أنهاها، ثم عادَ ودخل الحمَّام وكمَّل تغسيله". ... ¬

_ (¬1) وهو موضع نزع الثياب.

(12) علو همتهم في نشر العلم وتعليمه

(12) عُلُوّ همَّتِهِم فَي نَشْرِ العِلْمِ وَتَعلِيمه عن عمرو بن سواد قال: قال لي الشافعي: "ولدت بعسقلان، فلما أتت عليَّ سنتان حملتني أمي إلى مكة، وكانت نهمتي في شيئين: الرمي، وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى إني لأصيب من عشرةٍ عشرةَ"، وسَكَتَ عن العلم، فقلت: "أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي". وبرع "الشافعي" في الشعر واللغة وأيام العرب، فنقل القاضي ابن خلكان أن الأصمعي (122 - 216 هـ) على جلالة قدره في هذه العلوم قرأ على الشافعي أشعار الهذليين، وذكر أن أحد علماء الأنساب في العراق تحدث مع الشافعي في هذا العلم، فوجده من كبار العلماء فيه، فلما طال بينهما الحديث، قال له الشافعي: "مِثلي ومثلك لا يليق بهما أن يتحدثا عن أنساب الرجال من قِبَل آبائهم، فتعال نتحدث عن أنسابهم من قبل أمهاتهم"، ولقيه طلبة الطب في الفسطاط، فوجدوا عنده من المعرفة في علومهم ما أطمعهم في أن يخصص لهم درسًا يأخذون فيه عنه علوم الطب، فأشار إلى الفقهاء واقفين ينتظرونه في ظل جدار جامع عمرو بن العاص فقال: "وهل ترك لي هؤلاء من الوقتَ ما أتفرغ به لكم؟ ". وقال الربيع بن سليمان المرادي (174 - 270 هـ)، وهو راوي كتب الشافعي، ومن أخص أصحابه، وأول من أملى الحديث بجامع

ابن طولون: (لما قدم الشافعي الفسطاط كان يجالسه أرباب الخلق - عبد الله بن الحكم ونظراؤه -وكان حسن الوجه والخلق، فحُبِّبَ إلى أهل مصر من الفقهاء والنبلاء والأعيان، وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح بجامع عمرو، فيجيئه أهل القرآن ويسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث، فيسألونه عن معانيه وتفسره؛ فإذا ارتفعت الشمس قاموا، واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة؛ فإذا ارتفع النهار تفرقوا، وجاء أهل العربية والعَروض والشعر والنحو حتى يقترب انتصاف النهار، ثم ينصرف إلى منزله في الفسطاط). وقال الربيع: أقام الشافعي ها هنا في الفسطاط أربع سنين فأملى ألفًا وخمسين ورقة، وخرج كتاب "الأم" ألفي ورقة، وكتاب "السنن" وأشياء كثيرة، كلها في أربع سنين، وكان مع ذلك عليلًا شديد العلة، وربما خرج الدم وهو راكب، حتى يملأ سراويله وخفه (يعني من البواسير). وكان "سفيان الثوري" يقول: "لو لم يأتني أصحاب الحديث، لأتيتهم في بيوتهم"، وقال: "لو أني أعلم أن أحدًا يطلب الحديث بنية، لأتيتُه في بيته حتى أحدثه". - وأوصى ابن القاسم عيسى بن دينار، فقال: "عليك بأعظم مدائن الأندلس فانزلها، ولا تنزل منزلاً يضيع ما حملت من علم". وهذه همة الإمام الهمام ابن حزم الأندلسي "رحمه الله" تتمدد، وتتمطى، وتتسامى، فانظر الآفاق التي بلغتها، إذ يقول: مُناي من الدنيا علومٌ أبثها ... وأنشرها في كل بادٍ وحاضر دعاءٌ إلى القرآنِ والسنن التي ... تناسى رجالٌ ذكرها في المحاضرِ

وألزمُ أطرافَ الثغور مجاهدًا ... إذا هيعة ثارت فأولُ نافرِ لألقَى حمامي مقبلًا غير مدبر ... بسُمْرِ العوالي والدقاق البواتر كفاحًا مع الكفارِ في حومةِ الوغى ... وأكرمُ موتٍ للفتى قتلُ كافرِ فيا ربِّ لا تجعل حِمامي بغيرها ... ولا تجعلنِّي من قطينِ المقابرِ ***

(13) علو همتهم في التصنيف

(13) عُلُوّ هِمَّتِهِم في التَّصنِيفِ (¬1) قال الخطيب البغدادي: "سمعت على بن عبيد الله بن عبد الغفار اللغوى، يحكي: أن محمد بن جرير الطبري -المتوفى سنة 310 هـ عن ثلاث وثمانين سنة-، مكث أربعين سنة، يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة". أي: أنه -رحمه الله - كتب ما يقارب (584000) أربعة وثمانين وخمسمائة ألف ورقة!! وابتداءً يقف المرء حائرًا مشدوهًا أمام هذا الرقم، الذي لا يُعْرَفُ لِعَالِمٍ في تاريخ البشرية، بيد أنه إذا عُلم ما كان عليه هذا الإمام الجليل من هِمةٍ عالية، وعزيمةٍ ماضية، وحرصٍ على لحظات العمر حتى في ساعة الاحتضار، وإدراكٍ لشرف الرسالة التي يحمل، مع فسحة في العمر، والبركة فيه، لما كان عليه من الإخلاص، وصدق النية، خفَّت حيرته، وأصبح أقرب إلى فهم حقيقة هذه الغزارة في الإنتاج العلمي. يقول الأستاذ محمد كرد علي في ترجمة ابن جرير الطبري: "وما أُثِرَ عنه أنه أضاع دقيقة من حياته في غير الإفادة والاستفادة". ومصنفات إمامنا الطبري -رحمه الله - في الذروة: جِدَّةً ومنهجًا واتساعًا وعمقًا ونضجًا، مع اختلاف الفنون التي تناولها على كثرتها، حتى آلت إليه إمامة المؤرخين والمفسرين، إلى جانب كونه صاحب ¬

_ (¬1) هذا الفصل مختصر من كتاب "سوانح وتأملات في قيمة الزمن" ص (26 - 34).

مذهب فقهي يختص به. ولإدراك المنزلة التي نزلتها مصنفاته، أذكر ما قاله: أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني: (لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب "تفسير محمد بن جرير" لم يكن ذلك كثيرًا). وتفسيره المشار إليه آنفًا، والمطبوع في ثلاثين جزءًا، على ضخامته ونفاسته وريادته، أتى على غير ما كان يؤمِّل سَعَة. يروي الخطيب البغدادي: (أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: "أتنشطون لتفسير القرآن؟ " قالوا: "كم يِكون قَدْره؟ "، فقال: "ثلاثون ألفَ ورقة"، فقالوا: "هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: "هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ "، قالوا: "كم قَدْره؟ "، فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: "إنَّا لله! ماتت الهمم! "، ثم أملاه على نحو قدر التفسير. وألفَّ الإمام البيهقي ألفَ جزء، كلُّها تآليفٌ محرَّرة نادرةُ المثال، كثيرة الفوائد، وأقام يصوم ثلاثين سنةَ. وبلغ الإمام أبو الوفاء على بن عقيل الحنبلي البغدادي -المتوفى سنة 513 هـ-، الذي يقول فيه الإمام ابن تيمية: "إنه من أذكياء العالم"، في محافظته على الزمن مَبْلَغًا أثمر أكبرَ كتاب عرف في الدنيا لِعَالِم، هو كتاب "الفنون" في ثمانمائة مجلدة. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في ترجمته: (وأكبر تصانيفه كتاب "الفنون"، وهو كتاب كبير جدُّا، فيه فْوائد كثيرة جليلة في الوعظ،

والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره، ونتائج فكره قيدها فيه). ويقول ابن الجوزي: (وكان له الخاطر العاطر والبحث عن الغوامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى بـ "الفنون" مناطًا لخواطره وواقعاته، ومَن تأمل واقعاته فيه، عرف غَوْرَ الرجل). وقال سِبط ابن الجوزي: "واخْتصر منه جَدِّي عشر مجلدات فرقها في تصانيفه، وقد طالعت منه في بغداد في وقف المأمونية نحوًا من سبعين، وفيه حكايات ومناظرات، وغرائب وعجائب وأشعار". وقال عبد الرزاق الرسعني في "تفسيره" قال لي أبو البقاء اللغوي: سمعت الشيخ أبا حكيم النهرواني يقول: وقفت على السِّفْر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب "الفنون". وقال الحافظ الذهبي: (وعَلَّقَ كتاب "الفنون" وهو أزيد من أربعمائة مجلد، حشد فيه كُلَّ ما كان يجري له مع الفضلاء والتلامذة، وما يَسْنَحُ له من الدقائق والغوامض وما يسمعُهُ من العجائب والحوادث). وقال أيضًا في "تاريخه": "لم يصنَّف في الدنيا أكبرُ من هذا الكتاب، حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة، قلت -القائل ابن رجب-: وأخبرني أبو حفص عمر بن على القزويني ببغداد قال: سمعت بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة". وصنف الحافظ ابن عساكر كتابه "تاريخ دمشق" في ثمانين مجلدة كبيرة.

وصنف الإمام أبو حاتم الرازي كتابه "المسند" في ألف جزء. وهذا هو الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن محمد الجوزي تلميذ ابن عقيل -المتوفى سنة (597) هـ-، أحد أعلام الأئمة الذين يقتدي بهم في حرصهم على الزمن وتَحَيُّشِهِم عن كل ما يضيعه، مما أثمر هذا الذي يقوله سِبْطه أبو المظفر عنه: "وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعيَّ هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يديَّ مائة ألف، وأسلم على يديَّ عشرون ألف يهودي ونصراني". وقال أيضًا -رحمه الله-: "ولو قلت إني قد طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناسُ فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد". فإذا كان قدر ما قرأ وهو في الطلب (عشرين ألف) مجلدة، واحتسبنا أن صفحات المجلد الواحد في المتوسط (300) صفحة، كان مقدار ما قرأ (6000000) ستة ملايين صفحة!! وإذا كان ما كتب بأصبعيه (ألفي) مجلدة، كان مقدار ما كتب (600000) ستمائة ألف صفحة!! هذا ما قرأ ونسخ، فما هو مقدار ما كتب وصنَّف؟ يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله - في "أجوبته المصرية": "كان الشيخ أبو الفرج مفتيًا كثير التصنيف والتأليف، وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف، ورأيت بعد ذلك

له ما لم أره". ويقول الحافظ الذهبي: "وما علمت أحدًا من العلماء صنَّف ما صنَّف هذا الرجل". ولم يَدَعْ ابنُ الجوزي فنًّا من الفنون إلا وصنف فيه، منها ما هو عشرون مجلدًا، ومنها ما هو في رسالة صغيرة. فكيف اجتمع له هذا كلُّه! يقول الموفق عبد اللطيف -فيما نقله عنه الذهبي- إنه كان "لا يضيِّعُ من زمانه شيئًا". ويقول ابن الجوزي نفسه -رحمه الله-: "لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، ويتخلله غيبة. وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوَّق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصًا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غُلبت قصَّرت في الكلام لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من المستعَدِّ للقائهم قطعَ الكاغد، وبريَ الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب،

فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي". وصنف شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله - ما يربو على أربعمائة مصنف من كنوز العلم، ودقائقه. وقال ابن القيم: (وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية، في سَننه، وكلامه، وإقدامه، وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جعة وأكثر) اهـ. وعلى سنن من سبق، مشى شيخ الطِّب في زمانه: ابن النفيس -رحمه الله-، والذي يقول عنه الِإمام التاج السُّبكي: "وأما الطِّب فلم يكن على وجه الأرض مثله، قيل: ولا جاءَ بعد ابن سينا مثله، قالوا: وكان في العلاج أعظمَ من ابن سينا". هذا الطبيب الرائد صنَّف كتابًا في الطِّب سماه "الشامل" يقول فيه التاج السُّبْكي: "قيل: لو تَمَّ لكان ثلاثمائة مجلَّدة، تَمَّ منه ثمانون مجلَّدة، وكان فيما يُذْكَرُ، يُمْلي تصانيفه من ذهنه". فكيف تم له ذلك؟ كان -رحمه الله- "إذا أراد التصنيف، توضع له الأقلام مبريةً، ويدير وجهه إلى الحائط، ويأخذ في التصنيف إملاءً من خاطره، ويكتب مثل السَّيل إذا انحدر، فإذا كَلَّ القلم وحَفِي، رمى به وتناول غيره، لئلا يضيع عليه الزمان في بري القلم .. وكان السيوطي يلقب "ابن الكتب"، طلب أبوه إلى أمه أن تأتيه بكتاب من المكتبة فأجاءها المخاض فيها، فولدته بين الكتب، فلذلك لقب، ولقد صدق عليه ذلك اللقب حتى صار أبا الكتب، فقد وصلت مصنفاته نحو ستمائة غير ما رجع عنه ومحاه.

(14) همم لم تعرف الشيب

(14) هِمَمٌ لَمْ تَعْرِف الشيبَ قال البخاري -رحمه الله تعالى - في "صحيحه": "وقد تعلَّم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كِبَرِ سِنِّهم". وعن نعيم بن حماد قال: قيل لابن المبارك: "إلى متى تطلب العلم"، قال: "حتى الممات إن شاء الله". * وعن ابن معاذ، قال: سألت أبا عمرو بن العلاء: "حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم" فقال: "ما دام تحسن به الحياة". * ويحدث الِإمام "ابن عقيل" عن همته وهو في عشر الثمانين من عمره، فيقول -رحمه الله-: "إني لا يحل لي أن أُضيِّعَ ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين". ما شاب عزمي ولا حَزْمي ولا خُلُقي ... ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي وإنما اعتاضَ رأسي غير صِبغته ... والشيب في الرأس غير الشيب في الهممِ

وقال الزرنوجي: "دخل حسن بن زياد في التفقه وهو ابن ثمانين سنة، ولم يبت على الفراش أربعين سنة". وقال الحافظ الذهبي في ترجمة "أبي الفرج بن الجوزي" ما نصه: "وقد قرأ بواسط هو ابن ثمانين سنة بالعشر -أي: بالقراءات القرآنية العشرة- على ابن الباقلاني، وتلا معه ولده يوسف، نقل ذلك ابن نقطة عن القاضي محمد بن أحمد بن الحسن". والإمام ابن الجوزي هو القائل: الله أسألُ أن يُطوِّلَ مدتي ... وأنالَ بالإنعام ما في نيتي لي همةٌ في العلمِ ما مِن مثلِها ... وهي التي جَنَتِ النُّحولَ هي التي كم كان لي من مجلسٍ لو شُبِّهَتْ ... حالاتُه لَتَشَّبهَتْ بالجنةِ وذهب الإمام "القفال" (¬1) يطلب العلم وعمره أربعون سنة، فقال: "كيف أطلب العلم؟، ومتى أحفظ؟ ومَتى أفهم؟ ومتى أعَلِّم الناس؟ "، فرجع، فمرَّ بصاحب ساقية، يسوق على البقر، وكان رِشاء (¬2) هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مَرَّ، فقال: "أطلبه، ولا أتضجر من طلبه"، وأنشأ يقول: اطلب ولا تضجر من مطلب ... فآفة الطالب أن يضجرا أما ترى الحبل بطول المدى ... على صليب الصخر قد أثرا واستمر يطلب العلم، وصار إمامًا من كبار الأئمة، ومن جهابذة ¬

_ (¬1) قيل له القفال؛ لأنه كان ماهرًا في عملها، وانظر "شذرات الذهب" (3/ 207). (¬2) الرِّشاءُ: الحبل، أو حبل الدَّلْوِ ونحوها.

الدنيا. ويُروى أن الإمام أبا محمد بن حزم -رحمه الله - طلب العلم وهو في السادسة والعشرين من عمره، قال أبو محمد بن العربي: (وأقام أبو محمد في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه سِتًّا وعشرين سنة، وقال: "إنني بلغت إلى هذا السن، وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات". وقال في رواية أخرى: (أخبرني الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر، والخلق فيه، فجلس، ولم يركع، فقال له أستاذه -يعني الذي رباه- بإشارة: "أن قم، فصَلِّ تحية المسجد"، فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: "أبلغتَ هذا السن، ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟ " (¬1)، وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عامًا، قال: "فقمت، وركعت، وفهمت إذًا إشارة الأستاذ لي بذلك"، قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد، مشاركة للأحباء من أقرباء الميت، دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: "اجلس، اجلس، ليس ذا وقت صلاة"، فانصرفت عن الميت، وقد خزيت، ولحقني ما هانت على به نفسي، وقلت للأستاذ، دُلَّني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبى عبد الله بن دحون، فدلني، فقصدته من ذلك المشهد، وأعلمته بما جرى فيه، وسألت الابتداء بقراءة العلم، واسترشدته، فدلني على كتاب "الموطأ" لمالك بن أنس -رضي الله عنه - فبدأت به عليه قراءة ¬

_ (¬1) وهي سنة عند جمهور الفقهاء، وواجبة عند أهل الظاهر.

من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام، وبَدأت بالمناظرة". وعن عمر بن واجب قال: "بينما نحن عند أبي ببلنسية وهو يدرس المذهب إذ بأبي محمد بن حزم يسمعنا ويتعجب، ثم سأل الحاضرين مسألة من الفقه جووب فيها فاعترض في ذلك، فقال له بعض الحضار: "هذا العلم ليس من منتحلاتك" فقام، وقعد، ودخل منزله، فعكف، ووكف منه وابل، فما كف، وما كان بعد أشهر قريبة حتى قصدنا إلى ذلك الموضع؛ فناظر أحسن مناظرة، وقال فيها: "أنا أتبع الحق، وأجتهد، ولا أتقيد بمذهب". وجاء في ترجمة يحيى النحوي بكتاب "إخبار العلماء" ص 234: أنه كان ملَّاحًا يعبر الناس في سفينته، وكان يحبُّ العلم كثيرًا، فإذا عبر معه قوم من دار العلم والدرس التي كانت بجزيرة الإسكندرية يتحاورون فيما مضى لهم من النظر ويتفاوضونه، يسمعه فتهشُّ نفسه للعلم، فلما قوي رأيه في طلب العلم فكَّر في نفسه، وقال: "قد بلغت نيفًا وأربعين سنة، وما ارتضت بشىء، ولا عرفت غير صناعة الملاحة فكيف يمكنني أن أتعرض لشيء من العلوم؟ "، وفيما هو يفكر إذ رأى نملة قد حملت نواة تمرة وهي دائبة تصعد بها، فوقعت منها فعادت وأخذتها، ولم تزل تجاهد مرارًا حتى بلغت بالمجاهدة غرضها، فقال: "إذا كان هذا الحيوان الضعيف قد بلغ غرضه بالمجاهدة والمناصبة؛ فبالحري أن أبلغ غرضي بالمجاهدة"، فخرج من وقته، وباع سفينته، ولزم دار العلم، وبدأ يتعلم النحو واللغة والمنطق، فبرع في هذه الأمور لأنه أول ما ابتدأ بها، فنُسِبَ إليها واشتهر بها، ووضع كتبًا كثيرة ويحيى

هذا لقي عمرو بن العاص وأعجب عمرو به. - وكان الشيخ عزُّ الدين بن عبد السلام -الذي ملأ الأرض علمًا وعظمة نفس- في أوَّل أمره فقيرًا جدًّا، ولم يشتغل إلاَّ على كبر. واشتغل الشيخ أحمد بن إبراهيم بن الحسن القِنائي في العلم وهو ابن ثلاثين سنة، وتفقه، وقرأ النحو وغيره، حتى مهر، وشغل الناس ببلده، وكان يحفظ أربع مائة سطر في يوم واحد، ثم أقبل على الطاعة ولازم الطاعة حتى توفي سنة (728 هـ). وعُمِّر الشيخ يوسف بن رزق الله طويلًا حتى قارب التسعين، وثقل سمعه، لكن بقيت حواسه كلها سليمة، وهمته همة ابن ثلاثين، مات وهو يباشر التوقيع بصفد سنة 745 هـ. وطلب الشيخ أحمد بن عبد القادر القِيسي الحنفي النحوي العلوم الكثيرة، وبرع فيها، وأقبل على طلب الحديث في آخر عمره، فتكلم بعض الناس عليه، فأنكر عليهم بأبيات جميلة، قال فيها: وعاب سماعي للأحاديث -بعدما ... كبرتُ- أناسٌ هم إلى العيب أقربُ وقالوا: إمام في علوم كثيرة ... يروح ويغدو سامعًا يتطلَّبُ فقلتُ مجيبًا عن مقالتهم وقد ... غدوتُ لجهل منهمُ أتعجَّبُ إذا استدرك الإنسانُ ما فات من عُلا ... للحزم يُعْزَى لا إلى الجهل يُنسَبُ ***

(15) علو همتهم في طلب العلم وتعليمه حتى آخر رمق

(15) عُلُوّ هِمَّتِهِمْ في طَلَبِ العِلْم ِوَتَعْلِيمه حتَّى آخرِ رَمَقٍ * روى المُعَافَى بن زكريا عن بعض الثقات، أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري -رحمه الله تعالى- قبل موته، وتُوفي بعد ساعة أو أقل منها، فَذُكِرَ له هذا الدعاء عن جعفر بن محمد، فاستدعى مَحْبَرَةً وصحيفة فكتبه، فقيل له: "أفي هذه الحال؟! " فقال: "ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى الممات". * وعن فرقد -إمام مسجد البصرة- أنهم دخلوا على سفيان في مرض موته، فحدثه رجل بحديث فأعجبه، وضرب سفيان يده إلى تحت فراشه، فأخرج ألواحًا فكتبه، فقالوا له: "على هذه الحال منك؟! " فقال: "إنه حسن، إن بقيت فقد سمعت حسنًا، وإن مت فقد كتبت حسنًا". * وعن الفقيه أبي الحسن على بن عيسى الوَلْوَالجيُّ، قال: (دخلت على أبي الريحان -البَيْروني - وهو يجود بنفسِه، قد حَشْرَجَ نَفَسُهُ، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: "كيف قلت لي يومًا: حسابَ الجدَّات الفاسدة (¬1)؟ " فقلت له: إشفاقًا عليه: "أفي هذه الحالة؟ "، قال لي: "يا هذا أودِّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرًا من أن أُخلِّيها وأنا جاهل بها؟! "، فأعدتُ ذلك عليه، وحفظ، وعلمني ما وعد، وخرجت من عنده وأنا في الطريق، ¬

_ (¬1) اصطلاح عند علماء الفرائض يراد به الجدة التي تكون مِن قِبل الأم.

فسمعت الصُّرَاخ"). * وقال القاضي إبراهيم بن الجرَّاح الكوفي تلميذ الإمام أبي يوسف القاضي -يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة 182 هـ، والذي كان يقال له: قاضي قضاة الدنيا-: (مرض أبو يوسف، فأتيته أعوده، فوجدته مغمًى عليه، فلما أفاق قال لي: "يا إبراهيم، ما تقول في مسألة؟ "، قلتُ: "في مثل هذه الحالة؟! "، قال: "ولا بأس بذلك، ندرس لعلَّه ينجو به ناج؟ "، ثم قال: "يا إبراهيمُ، أيما أفضل في رَمْي الجمار -أي: في مناسك الحج- أن يرميها ماشيًا أو راكبًا؟ " قلت: "راكبًا"، قال: "أخطأتَ"، قلتُ: "ماشيًا"، قال: "أخطأتَ"، قلت: "قل فيها، يرضى الله عنك". قال: "أمَّا ما كان يوقف عنده للدعاء؛ فالأفضل أن يرميه ماشيًا، وأما ما كان لا يوقف عنده؛ فالأفضل أن يرميه راكبًا". ثم قمت من عنده، فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات -رحمه الله). * رأى الإمامَ أحمدَ بعضُ عارفيه في إحدى رحلاته في طلب الحديث، فقال له معترضًا مستكثرًا ما حفظ، وما كتب، وما روى: "مرة إلى الكوفة، ومرة إلى البصرة"!! إلى متى؟ فقال الإمام أحمد: "مع المحبرة إلى المقبرة". ***

الفصل الثانى علو همة السلف في العبادة والاستقامة

الفَصلُ الثَّانَى عُلُوّ هِمَّةِ السَّلَفِ فِي العِبَادَةِ والاستقَامَةَ لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف، فلا تراهم إلا صوَّامين قوامين، باكين والهين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة. والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم: قال الحسن: "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره". وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل"، وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: "ما بلغني عن أحدٍ من الناس أنه تعبَّد عبادة إلا تعبَّدتُ نظيرها وزدت عليه". وقال أحد العباد: "لو أن رجلًا سمع برجل هو أطوع لله منه فمات ذلك الرجل غمُّا، ما كان ذلك بكثير". وقيل لنافع: "ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ "، قال: "الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما". "وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة". واجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: "لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ "، فقال: "إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك"، قال: فلم يزل على ذلك حتى مات.

وعن قتادة قال: قال مورق العجلي: (ما وجدت للمؤمن في الدنيا مثلًا إلا مثل رجل على خشبة في البحر، وهو يقول: "يا رب، يا رب"، لعل الله أن ينجيه). وعن أسامة قال: (كان من يرى "سفيان الثوري" يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق أكثر ما تسمعه يقول: "يا رب سَلِّمْ سلِّم"). وعن جعفر قال: (دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: "والله إنه لينبغي للرجل المسلم أن يزيده ما يرى في الناس من التهاون بأمر الله أن يزيده ذلك جدًّا واجتهادًا"، ثم بكى). عن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله قالت: "ما رأيت أحدًا أكثر صلاة ولا صيامًا منه، ولا أحدًا أشد فَرَقًا من ربه منه، كان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمير الآخرة، فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف". وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: "يا مغيرة! قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر بن عبد العزيز، ولكني لم أر من الناس أحدًا قط كان أشد خوفًا من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي، ويدعو، حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ، فيفعل مثلَ ذلك ليلته أجمع". عن أبي عُبيدة بن عقبة بن نافع أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال: "ألا تخبريني عن عمر؟ " قالت: "ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استُخِلف". وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر حتى يخضر

جسده ويصفر، فكان علقمة بن قيس يقول له: "لم تعذب نفسك؟ "، فيقول "كرامتَها أريد" -وكان يصوم حتى يخضر جسده، ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له: "إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا"، فقال: "إنما أنا عبد مملوك، لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئت به". وقيل لعامر بن عبد الله: "كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟ "، فقال: "هل هو إلا أني صرفتُ طعام النهار إلى الليل، ونومَ الليل إلى النهار؟ وليس في ذلك خطيرُ أمرٍ". وكان إذا جاء الليل قال: "أذهب حَرُّ النارِ النومَ"، فما ينام حتى يصبح. وعن الحسن قال: (قال عامر بن قيس لقوم ذكروا الدنيا: "وإنكم لتهتمون؟ أما والله لئن استطعت لأجعلنهما همًّا واحدًا" قال: ففعل والله ذلك، حتى لحق بالله). وعن أحمد بن حرب قال: "يا عجبًا لمن يعرف أن الجنة تُزَيَّنُ فوقه، والنار تُسَعَّرُ تحته، كيف ينام بينهما؟ ". وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطًا في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: "قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا حتى يكون الكلل منكِ لا مني"، فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه، "أنت أولى بالضرب من دابتي"، وكان يقول: "أيظن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنزاحمهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالًا". وكان منصور بن المعتمر إذا رأيتَه قلتَ: "رجل أصيب بمصيبة"، منكسر الطرف، منخفض الصوت، رطب العينين، إن حركته جاءت عيناه بأربع -ولقد قالت له أمه: "ما هذا الذي تصنع بنفسك؟

تبكي الليل عامته لا تسكت لعلك لِا بني أصبتَ نفسًا، لعلك قتلت قتيلًا"، فيقول: "يا أمه أنا أعلم بما صَنَعَتْ نفسي". وقال هشيم تلميذ منصور بن زاذان: "كان لو قيل له: إن ملك الموت على الباب، ما كان عنده زيادة في العمل". وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له: "القيامة غدًا" ما وجد متزيدًا. ... وكان يقول: "اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي"، وقال أنس بن عياض: (رأيت صفوان بن سليم، ولو قيل له: "غدًا القيامة" ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة). وقال عبد الرحمن بن مهدي: (لو قيل لحماد بن سلمة: "إنك تموت غدًا"، ما قدر أن يِزيد في العمل شيئًا). وعن موسى بن إسماعيل قال: (لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط صدقتكم، كان مشغولًا بنفسه: إما أن يُحدِّث، وإما أن يقرأ، وإما أن يُسبح، وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال). وكانت ابنة الربيع بن خثيم تقول له: "يا أبت مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ "، فيقول: "يا ابنتاه، إن أباك يخاف البيات"، وعن إبراهيم قال: (قال فلان: ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعَدُ)، وعن بعضهم قال: "صحِبت الربيع عشرين عامًا ما سمعتُ منه كلمة تُعاب". وقال مالك: "رأيت أيوب السَّختيانيَّ بمكة حَجَّتين، فما كتبتُ عنه، ورأيته في الثالثة قاعدًا في فناء زمزم، فكان إذا ذُكِر النبي - صلى الله عليه وسلم -

عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيتُ ذلك كتبتُ عنه". وقال سلمة بن علقمة: "جالست يونس بن عبيد فما استطعت أن آخذ عليه كلمة". وعن أبي هارون موسى قال: "كان عون يحدثنا، ولحيته ترتش بالدموع". وقال أبو علي بن شهاب: سمعت أبا عبد الله بن بطة يقول: (أستعمل عند منامي أربعين حديثًا رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وعن القاسم بن راشد الشيباني: كان زمعة نازلًا عندنا بالمحصب، وكان له أهل وبنات وكان يقوم فيصلي ليلًا طويلًا، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: أيها الركب المعرسون أكُلَّ هذا الليل ترفدون، أفلا تقومون فترحلون؟ فيتواثبون، فيسمع من هاهنا باكٍ، ومن هاهنا داعٍ، ومن هاهنا قارئ، ومن هاهنا متوضئ - فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى. وعن وكيع قال: (كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة). وعن أبي حيان، عن أبيه، قال: (كان الربيع بن خثيم يُقاد إلى الصلاة وبه الفالج -الشلل-، فقيل له: "قد رُخِّصَ لك"، قال: (إني أسمع "حيَّ على الصلاة"، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حَبوًا). وعن حماد بن سلمة قال: (ما أتينا سليمان التيمي في ساعةٍ يُطاعُ اللهُ عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعةِ صلاةٍ، وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة، وجدناه إما متوضئًا، أو عائدًا،

أو مشيعًا لجنازة، أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يُحسن يعصي الله عز وجل). وعن عيسى بن عمر قال: (كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلًا، فيقف على القبور فيقول: "يا أهل القبور! قد طويت الصحف، وقد رفعت الأعمال"، ثم يبكي، ويصف بين قدميه حتى يصبح، فيرجع، فيشهد صلاة الصبح). وقال أبو المواهب بن صَصْرَى في شأن الإمام أبي القاسم بن عساكر: (لم أر مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عُرِضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم). وكان المحدث الثقة "بشر بن الحسن" يقال له: "الصَّفِّي" لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة. وكان "إبراهيم بن ميمون المروزي" أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبى رباح، وكانت مهنته الصياغة، وطرق الذهب والفضة، قالوا: (كان فقيهًا فاضلًا، من الأمَّارين بالمعروف، وقال ابن معين: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يَرُدَّها). وقيل للأحنف بن قيس رضي الله عنه: "إن فيك أناة شديدة"، فقال: "قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها".

وقيل لكثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط، وقد أمَّ أهل حمص ستين سنة كاملة، فقال: "ما دخلتُ من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله". وقال كبير قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي وهو من ذرية ابن قدامة صاحب "المغني": "لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط" مع أنه قارب التسعين رحمه الله. وقال شرف الدين بن محمد رحمه الله تعالى: كان ابن دقيق العيد يقيم في منزلنا بمصر في غالب الأوقات، فكنا نراه في الليل إما مصليًا وإما ماشيًا في جوانب البيت وهو مفكر إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر صلى الصبح ثم اضطجع إلى صحوه. وقال الصاحب شرف الدين: وسمعت الشيخ شهاب الدين أحمد بن إدريِس القرافي المالكي يقول: "قام الشيخ تقي الدين أربعين سنة لا ينام الليل إلا أنه كان إذا صلى الصبح اضطجع على جنبه إلى حيث يضحى النهار". وروى ابن عماد الحنبلي في "شذرات الذهب" أنه كان يقول: "ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلًا إلا أعددت له جوابًا بين يدي الله"، كما نقل ذلك السبكي. وقال الحافظ قطب الدين الحلبي عن الشيخ تقي الدين ( .... وكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، ويقطعه فيما بين مطالعة وتلاوة وذكر وتهجد حتى صار السهر له عادة، وأوقاته كلها معمورة لم يُرَ في عصره مثله).

ومن علو همتهم في النفقة والإيثار، ما وقع من عبد الله بن طالب حين جاءه رجل يشكو إليه أنه لا يجد لابنته جهازًا لزواجها، وكان لابن طالب ابنة تخرج إليه، من عيد إلى عيد، فقال لأمها: "أحب أن تزيني ابنتي، وتُلبيسها ثيابها وحليها"، ففعلت، وأخرجت إليه فرحب بها، واستبشر، ثم قال لها ولأمها: "إن فلانًا شكا إليَّ كذا، وأنا أحب أن أدفع له جميع ما على ابنتي من حلي وثياب، يجهز به ابنته، وعليَّ أنا عِوضُ ابنتي منه بما هو أكثر". هم الرجال وعيبٌ أن يُقا ... لَ لمن لم يكن مثلهم رجلُ ... واحسرتاه تقضي العمر وانصرمت ... ساعاته بين ذل العجز والكسل والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ... ساروا إلى المطلب الأعلى على مَهَل ***

الفصل الثالث علو الهمة في البحث عن الحق

الفَصْلُ الثَّالِث عُلُوّ الهِمَّةَ فِي البَحثِ عَنِ الحَقِّ لقد حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وبذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثًا عن الحق مخلصًا لله تعالى، فإن الله عز وجل يهديه إليه، ويَمُن عليه بأعظم نعمة في الوجود نعمة الإسلام، وسنقتصر في هذا الفصل على بعض هذه النماذج المشرقة في القديم والحديث. (1) سلَمَانُ الفَارِسيّ .. أنموذج ِمِثَالي لِلبَاحث عَن الحَقيقَةَ المكان: شجرة ملتفة وارفة الظلال، تجثم أمام دارٍ متواضعة بـ "المدائن"، يجلس تحت ظلها صاحب الدار -شيخ كبير تعلوه الهيبة، ويزينه الوقار- قد أحاط به جلساؤه الأخيار، ينصتون لحديثه الشيق، وقصته الرائعة ورحلته المباركة في البحث عن الحقيقة. ها هو ذا يروي لهم كيف غادر دين قومه الفرس إلى النصرانية، ثم إلى الإسلام، وكيف ضحَّى في سبيل "الحقيقة الكبرى" بثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثًا عن خلاص عقله وروحه. إنه يروي لهم: كيف بيع في سوق الرقيق، وهو في طريق بحثه عن

الحقيقة .. ؟ كيف التقى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وكيف آمن به ..... ؟ إنه: سلمان الفارسي، أو سلمان الخير صاحب رسول اللهِ، مثل أعلى لكل باحث عن الحقيقة بصدق وإخلاص وتجرد .. هيا بنا نقترب من مجلسه المهيب، وتعالوا معي نصغ إلى النبأ الباهر الذي يرويه. يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه: "كنتُ رجلاً من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: "جي" .. وكان أبى دهقان (¬1) أرضه، وكنت من أحَبِّ عباد اللهِ إليه .. وقد اجتهدتُ في المجوسية، حتى كنت قاطن (¬2) النار التي نوقدها، ولا نتركها تخبو .. وكان لأبي ضَيْعة، أرسلني إليها يومًا، فخرجت، فمررت بكنسية للنصارى، فسمعتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: "هذا خير من ديننا الذي نحن عليه" فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري .. وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام .. وقلت لأبي حين عدت اليه: "إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا" ... فحاورني، وحاورته ... ثم جعل في رجلي حديدًا، وحبسني ... وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركْبٌ من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمتُ الحديدَ، وخرجت، وانطلقتُ، معهم ¬

_ (¬1) الدَّهقان: رئيس القرية، ورئيس الإقليم. (¬2) قاطن النار: القيم على نارِ المجوس ومُوقِدُها.

إلى الشام .. وهناك سألت عن عالمِهم، فقيل لي: "هو الأسقف، صاحب الكنيسة"، فأتيته، وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلي، وأتعلم .. وكان هذا الأسقف رجل سوء فِي دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه .. ثم مات .. وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلًا على دينهم خيرًا منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة، وزهدًا في الدنيا، ودأبًا على العبادة .. وأحببته حبًّا ما علمت أنني أحببت أحدًا مثله قبله، فلما حضره قَدَرُه، قلت له: "إنه قد حضرك من أمر اللهِ ما ترى، فَبِمَ تأمرني، وإلى من توصي بي؟؟ ". قال: "أي بُنَي، ما أعرف أحدًا من الناس على مثلِ ما أنا عليه إلا رجلًا بالموصل .. " فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته، فدلني على عابد في "نصيبين" .. " فأتيته، وأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه ... واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات" .. ثم حضرته الوفاة .. فقلت له: "إلى من توصي بي؟ "، فقال لي: "يا بني ما أعرف أحدًا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظَلَّكَ زمانُ نبيٍّ يُبْعَث بدين إبراهيم حنيفًا .. يُهاجرُ إلى أرضِ ذاتِ نخل بين حَرَّتين؛ فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل، وإن له آيات لا تخفى: فهو لا يأكل الصدقة ... ويقبل الهدية .. وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته". ومر بي ركب -ذات يوم- فسألتهم عن بلادهم، فعلمت

أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: "أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ " .. قالوا: "نعم ... ". واصطحبوني معهم حتى قدموا بي -وادي القرى- وهناك ظلموني، وباعوني إلى رجل من يهود .. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هي البلدة التي وُصِفت لي، والتي ستكون مُهاجَرَ النبي المنتظر ... ولكنها لم تكُنْها وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قَدمَ عليه يومًا رجلٌ من يهودِ بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وُصِفت لي .. وأقمت معه أعمل له في نخله في بنى قريظة، حتى بعث الله رسوله، وحتى قدم "المدينة" ونزل بِقُبَاء في بنى عمرو بن عوف. وإني لفي رأس نخلة يومًا، وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود، من بني عمه، فقال يخاطبه: "قاتل الله بني قيلة إنهم ليتقاصفون (¬1) على رجل بقباء، قادمٍ من مكة يزعمون أنه نبى .. ". فو اللهِ ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العُرَوَاء (¬2)، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعًا، أقول: "ماذا تقول ... ؟ ما الخبر ... ؟ ". فرفع سيدى يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: "مالك ولهذا .. ؟ أقبل على عملك" .. ¬

_ (¬1) يتقاصفون: يتتابعون، ويجتمعون، ويتزاحمون. (¬2) العُرَواء: بَرد الحمى أولَ مسِّها.

فأقبلت على عملي .. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي، ثم خرجت حتى جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء .. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: "إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندى طعام نذرته للصدقة، فلما ذُكِرَ لي مكانكم، رأيتُكم أحق الناس به، فجئتكم به .. ". ثم وضعته، فقال الرسولُ لأصحابه: "كلوا باسم اللهِ" .. وأمسك هو فلم يبسط إليه يدًا ... فقلت في نفسي: "هذه واللهِ، واحدة ... إنه لا يأكل الصدقة" .. !! ثم رجعت، وعدت إلى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعامًا، وقلت له عليه السلام: "إني رأيتك لا تأكل الصدقة .. وقد كان عندى شيء أحِبُّ أن أكرمك به هدية"؛ ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: "كلوا باسم اللهِ ... "، وأكل معهم .. قلتُ لنفسي: "هذه واللهِ، الثانية .. إنه يأكل الهدية" .. !! ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزرًا بواحدة، مرتديًا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظرَ أعْلَى ظهرهِ، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بُرْدَته عن كاهله، فإذا العلامةُ بين كتفيه .. خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي .. فأكببت عليه أقبله وأبكي .. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن. ثم أسلمت .. وحال الرِّقُّ بيني وبين شهود بدر وأحُد .. وفي ذات يوم قال الرسول عليه السلام: "كاتِبْ (¬1) سيِّدك حتى يُعْتِقك"، فكاتبته، وأمر الرسول الصحابة كي يعاونوني، وحرر الله رقبتي، ¬

_ (¬1) كاتَبَ السيدُ العبدَ: كتب بينه وبينه اتفاقًا على مال يُقسطه له، فإذا ما دفعه صار حُرًّا، فالسيد: مُكاتِب، والعبد: مكاتَب.

وعشت حُرًّا مسلمًا، وشهدت مع رسول اللهِ غزوة الخندق، والمشاهد كلها" (¬1) .. بهذه الكلمات الوِضاء العِذاب .. تحدث "سلمان الفارسي" عن رِحْلتِهِ الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة العظمى التي تصله باللهِ، وترسم له دوره في الحياة .. فأيُّ إنسان شامخ كان هذا الانسان ... ؟ أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطُّلَعَة، وفرضته إرادته الغَلَّابة على المصاعب فقهرتها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولًا ... ؟ أي تَبَتُّل للحقيقة .. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعًا مختارًا من ضِيَاع أبيه وثرائه ونعمائه إلى المجهول بكل أعبائه، ومَشَاقِّه، ينتقل من أرض إلى أرض ... ومن بلد إلى بلد ... ناصبًا، كادحًا عابدًا ... تفحص بصيرتُه الناقدة الناسَ، والمذاهبَ، والحياة ... ويظل في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقًا ... ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى، فيجمعه بالحقِّ، ويلاقيه برسوله، ثم يُعطيه من طولِ العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمين يملئون أركانها وأنحاءها هدىً ورحمةً، وعدلًا .... ... ¬

_ (¬1) باختصار وتصرف يسير، وقد رواه الطبراني، وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن إسحاق. وقد صرح بالسماع، ومن ثَم حسنه في "السلسلة الصحيحة" (2/ 592).

(2) علو همة أبي ذر رضي الله عنه في البحث عن الحق

(2) عُلُوّ هِمَّةَ أبيِ ذرٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ فِي البَحْثِ عَن الحَقِّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغَ أبا ذر مبعثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، قال لأخيه - أنَيس-: اركب إلى هذا الوادي، فَاعْلَم لي عِلمَ هذا الرجل، الذي يَزعُمُ أنه يأتيه الخبرُ من السماء، فاسْمَعْ مِن قولِه ثم ائتني. فانطلق -أُنيَس- حتى قدم مكة، وسَمِعَ من قولِه، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: "رأيتُه يأمر بمكارم الأخلاق، و -سمعتُه يقول- كلامًا ما هو بالشعر"، فقال أبو ذر: "ما شَفيتَني فيما أردتُ! ". فتزوَّدَ -أبو ذر- وحمَل شَنّةً (¬1) له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يَسأل عنه، حتى أدركه الليلُ فاضطجع، فرآه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه فعرف أنه غريب، ودعاه إلى منزله -فتَبِعَه، فلم يَسأل واحد منهما صاحبَه عن شيء حتى أصبح. ثم احتَمَل قِرْبَتَه وزاده إلى المسجد، وظَلَّ ذلك اليوم ولا يَرَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمَرَّ به علي فقال: "ما آنَ للرجل أن يَعلمَ منزلَه؟ "، فأقامه فذهب به معه، ولا يَسأل واحد ¬

_ (¬1) الشنة: القربة الخَلَق الصغيرة يكون الماء فيها أبردَ من غيرها.

منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يومُ الثالث فعَلَ مثل ذلك، فأقامه عليٌّ معه، ثم قال له: "ألا تُحدثني ما الذي أقدمك؟ "، قال: "إنْ أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشِدَنِّي فعلتُ"، ففعل، فأخبره، فقال: "فإنه حق، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فإذا أصبحتَ فاتّبِعني، فإن رأيتُ شيئًا أخاف عليكَ قمتُ كأني أريق الماء، فإن مضيتُ فاتبَّعِني حتى تَدخُلَ مَدْخَلي"، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه، فسمع من قولهِ وأسلم مكانه، الحديث (¬1). * وهناك رواية أخرى في حادثةِ إسلام أبي ذر، رواها عنه ابنُ أخيه عبد الله بن الصامت الغفاري، وقد رواها مسلم أيضًا من طريق عبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخي أبي ذر، وملخَّصُها: قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غِفار، وكانوا يُحِلون الشهر الحرام، فخرجتُ أنا وأخي أنَيْس وٍ أمُّنا، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرةِ مكة. فقال أنَيس: إنَّ لي حاجة بمكة فاكفِني، فانطلق أنيَس حتى أتى مكة فراثَ عليَّ -أي أبطأ-، ثم جاء، فقلتُ: "ما صنعتَ؟ "، قال: "لقيتُ رجلًا بمكة يزعم أنَّ الله أرسله"، قلت: "فما يقولُ الناسُ؟ "، قال: "يقولون: شاعر كاهن ساحر"، -وكان أنيَس أحَدَ الشعراء- قال أنَيس: "لقد سمعتُ قولَ الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وَضَعْتُ قوله على أقراءِ الشعر -أي طرقِه- فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون". قال أبو ذر: "قلت: فأكفِني حتى أذهب فأنظر"، قال: فأتيت مكة، فتضَعّفْتُ رجلاً منهم" -يعني نظرتُ إلى أضعفهم فسألته، ¬

_ (¬1) متفّق عليه، واللفظ المسلم.

لأن الضعيف يكون مأمون الغائلة غالبًا -فقلتُ له: "أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ " فأشار إليَّ، فقال: "الصابئ! "، فمالَ عليَّ أهلُ الوادي بكل مَدَرة وعَظْم، حتى خررتُ مغشيًّا علي، فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأني نُصُبٌ أحمر -يعني من كثرة الدماء التي سالت منه، صار كالنُّصُب وهو الحَجَرُ الذي كان أهلُ الجاهلية ينصبونه ويذبحون عنده فيَحمَرُّ بالدم .... قال: فأتيتُ زمزم فغَسلتُ عني الدماء، وشَربتُ من مائها، ولقد لبَثتُ يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماءُ زمزم، فسَمِنتُ حتى تكسّرَت عُكَنُ بطني، وما وجدتُ كل كبدى سُخْفَةَ جُوع -يعني أثَرَ الجوع وضَعْفَه-. قال: فبينا أهلُ مكة في ليلةٍ قمراء إذ ضُرِب على أسمختهم -أي آذانهم بالنوم - فما يطوف بالبيت أحد، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، حتى استَلَم الحَجَر، وطاف بالبيت هو وصاحبُه، ثم صلّى، فلما قضَى صلاته قلتُ: "السلامُ عليك يا رسول الله"، فقال: "وعليك ورحمة الله". ثم قال: "مَنْ أنت؟ " قلت: "من غِفار"، قال: "فأهوى بيده، فوضَعَ أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كرِهَ أن انتميتُ إلى غِفار، فذهبتُ آخُذُ بيده، فَقَدَعَني -أي كَفّني- صاحبُه وكان أعلمَ به مني، -يعني فعَلَ هذا لدفع السوء عني وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم--. ثم رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسَه ثم قال: "متى كنتَ ها هنا؟ " قال: قلتُ: "قد كنتُ ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم"، قال: "فمن

(3) علو همة الشيخ أبي محمد الترجمان الميورقي (756 - 832 هـ) "القسيس انسلم تورميدا" سابقا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري

كان يُطعمك؟ "، قال: قلت: "ما كان لي طعام إلا ماءُ زمزم، فَسَمِنْتُ حتى تكسّرَتْ عُكَنُ بطني، وما أجدُ على كبِدي سُخفَةَ جوع"، قال: "إنها مباركة إنها طَعامُ طُعْم" -أي هي تُشبع شاربَها كما يُشبعه الطعام-. فقال أبو بكر: "يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة"، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وانطلقتُ معهما، ففتح أبو بكر بابًا فجعل يَقبض لنا من زَبيب الطائف، وكان ذلك أوَّلَ طعام أكلتُه بمكة، الحديث (¬1). (3) عُلُوّ هِمَّةَ الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّد التّرجُمَان الميُورْقي (756 - 832 هـ) "القسيس انسلم تورميدا" سابقًا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري في الوقت الذي كان الصليبيون يكرسون جهودهم في نشر النصرانية المحرفة في ربوع الأندلس بعد نفي المسلمين منها، شرح الله صدر رجل من أكبر علمائها للإسلام، فأسلم وجهه لله، واستقام على طاعة الله، وجاهد بيده ولسانه وقلمه في سبيل الله عز وجل، ذلكم هو الشيخ "أبو محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان الميورقي"، الذي كان قسيسًا يدعى "انسلم تورميدا"، والذي اشتهر بالترجمان لأنه لما مضى خمسة أشهر على إسلامه، قدَّمه السلطان في الديوان لقيادة البحر، وكان يقصد من ذلك أن يتعلم اللغة العربية، ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

لتكرر عمل الترجمة هناك بين النصارى والمسلمين، فأتقن اللغة العربية في سنة واحدة، وعيَّنه الأمير رئيسًا لشئون الترجمة. ومن ألقابه عند العوام: "سيدى تحفة" وذلك نسبة إلى كتابه الشهير: "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" ذلك الكتاب الذي كان بمثابة ضربة قوية على بنيان النصرانية، كتبه عالم من أكبر علماء النصرانية في عصره باعتراف أهلها وشهادتهم، والذى افتتحه بذكر قصة إسلامه التي نختصرها فيما يلي، فَلْنُصْغِ إليه الآن وهو يحكي لنا بداية هدايته، وكيف حَرَّرَ الله قلبه من رق الشرك والكفران، وشرح صدره للإسلام، فكان على نورٍ من ربه: [اعلموا -رحمكم الله- أن أصلي من مدينة "ميُورْقَة" (¬1) -أعادها الله للإسلام - وهي مدينة كبيرة على البحر بين جبلين، يشقها وادٍ صغير، وهي مدينة متجر، ولها مرساتان -اثنان- عجيبتان، ترسو بهما السفن الكبيرة للمتاجر الجليلة، والمدينة في جزيرة تسمى باسم المدينة "ميورقة" وأكثر غاباتها زيتون وتين، .... وكان والدى محسوبًا من أهل حاضرة "مَيورقة"، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين، قرأت عليه الإنجيل، حتى حفظت أكثر من شطره في مدة سنتين، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل، وعلم المنطق، في ست سنين. ثم ارتحلت من بلدي "مَيورقة" إلى مدينة "لاردة" من أرض ¬

_ (¬1) مَيُورقة: جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، جنوب شرقي أسبانيا اليوم، فتحها المسلمون سنة (290 هـ)، إلى أن تغلب عليها العدو البرشلوني، وخربها سنة (508 هـ).

"القسطلان" (¬2)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر. وبهذه المدينة تجتمع طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف رجل أو ألف وخمسمائة، ولا يحكم فيهم إلاَّ القسيس الذى يقرؤون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات، والنجامة مدة ست سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازمًا لذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة "بلونية" من أرض "الأنبردية"، وهي مدينة كبيرة جدًّا، وهي مدينة علم عند جميع أهل ذلك القطر، ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلَّا الملف (¬3) (الذي هو صباغ الله) (¬4)، ولو يكون طالب العلم منهم سلطانًا أو ابن سلطان فلا يلبس إلَّا ذلك ليمتاز الطلبة عن غيرهم، ولا يحكم فيهم إلَّا القسيس الذي يقرؤون عليه. فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم، كبير القدر اسمه: "نقلاو مرتيل" وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جدًّا، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم تَرِدُ عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، وصحب الأسئلةَ من الهدايا الضخمة -ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به، وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك. فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه؛ حتى صَيَّرَني من أخص ¬

_ (¬2) وهي تدعى اليوم: "كاستيلون" و"قسطلة" مدينة بالأندلس. (¬3) الملف: كمقص، لحاف يلتحف به. (¬4) لعله زي مصبوغ بصباغ له قداسة عندهم، والله أعلم.

خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إليَّ مفاتيح مسكنه، وخزائن مأكله ومشربه، وصَيَّرَ جميعَ ذلك كله عَلَى يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، الظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تُهْدَى إليه، والله أعلم. فلازمتُه على ما ذكرتُ من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يومًا من الدهر، فتخلَّف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلامُ إلى قول الله عزَّ وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: (إنه يأتي من بعده نبي اسمه "البارقليط" (¬5))، فبحثوا في تعيين هذا النبي مَن هو مِن الأنبياء؟، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالُهم، وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل ¬

_ (¬5) وردت هذه الكلمة في الأناجيل مرة بلفظ (المعزي) ومرة بلفظ آخر هو (بارقليط)، و"بارقليط" تعريب لكلمة (بريكلتوس) وقد حصل نقاش بين الأستاذ "عبد الوهاب النجار" ود. "كارلو نلينو" حول هذه الكلمة، فقال: ( ... ثم قلت له -وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة- "ما معنى (بريكلمَوس)؟ " فأجابني بقَوله: "إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها: (المعزي)،" فقلت: "إني أسأل الدكتور (كارلو نلينو) الحاصل على الدكتوارة في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيسًا،" فقال: إن معناها: (الذي له حمد كثير)، فقلت: هل ذلك يوافق افعل التفضيل من حمد؟ فقال: نعم، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أسمائه "أحمد"، فقال: يا أخي أنت تحفظ كثيرًا .... ) .. انظر: "قصص الأنبياء" عبد الوهاب النجار، ص (397 - 398).

فائدة في تلك المسألة، فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي: "ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ "، فأخبرته باختلاف القوم في اسم "البارقليط" وأن فلانًا قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا وسردت له أجوبتهم، فقال لي: "وبماذا أجبت أنت؟ "، فقلت: "بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل"، فقال لي: "ما قَصَّرْتَ، وقَرُبْتَ، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلافُ هذا كله، لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلاَّ القليل"، فبادرت إلى قدميه أقبلهما، وقلت له: "يا سيدي قد علمتَ أني ارتحلت إليك من بلدٍ بعيد، ولي في خدمتك عشرُ سنين"، حَصَّلْتُ عنك فيها من العلوم جملةً لا أحصيها فلعلَّ من جميل إحسانكم أن تمنوا عَلي بمعرفة هذا الاسم" .... فبكى الشيخ، وقال لي: "يا ولدي .. والله أنت لَتَعُزُّ على كثيرًا في أجل خدمتك لي، وانقطاعك إليَّ، في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين"، فقلت له: "يا سيدي والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تُسِرُّهُ إلَيَّ إلَّا عن أمرك"، فقال لي: "يا ولدى إني سألتك في أول قدومك عَلَيَّ عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام، فاعلم يا ولدى أن "البارقليط" هو اسم من أسماء نبيهم محمد (¬6) - صلى الله عليه وسلم - وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور ¬

_ (¬6) من الواضح أن هذا القسيس يؤمن برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ إنه يعرف أوصافه الموجودة في التوراة والإنجيل، وقد تحدث العلماء المسلمون عن معرفة علماء=

على لسان دانيال (¬7) عليه السلام وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل"، قلت له: "يا سيدي وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ "، فقال لي: "يا ولدى لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله، لأن عيسى وجميع الأنبياء دينُهم دين الله، ولكن بَدَّلوا وكفروا". فقلت له: "يا سيدي وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ "، فقال: "يا ولدي بالدخول في دين الإسلام"، قلت له: "وهل ينجو الداخل فيه؟ "، قال لي: "نعم ينجو في الدنيا والآخرة"، فقلت: ¬

_ =أهل الكتاب للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد نقل الإمام الجويني -رحمه الله- ما تناولته الآية الكريمة من قوله تعالى: {فاسئل الذين يقرؤون الكتاب} [يونس: الآية 94] وما يتعلق بها من معانٍ، وأشار إلى قول صاحب الكشاف الذي قال: (والمعنى أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قراء الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ... ) وخلص إلى القول: (فالغرض: وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله ... ) انظر: "شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل"، للإمام عبد الملك بن عبد الله الجويني، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 147). (¬7) نقل الشيخ رحمة الله الهندي (في البشارة الحادية عشر) في الباب الثاني من كتاب دانيال حال الرؤيا التي رآها بختنصر ملك بابل ونسي، وهي رؤيا طويلة. انظر: دانيال (2: 1 - 46)، وخلص إلى أن تلك الأوصاف تنطبق على الرسول - صلى الله عليه وسلم - انظر: "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي، ترجمة عمر الدسوقي (2/ 267)، "محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس" للبروفيسور عبد الأحد داود ص (86 - 94)، ص (133 - 144).

"يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلَّا أفضل ما يعلم، فإذا علمتَ فضلَ دين الإسلام فما يمنعك منه؟ "، فقال لي: "يا ولدى إن الله تعالى لم يُطْلِعْني على حقيقة ما أخبرتُك به من فضل الإسلام، وشَرَفِ نبي أهل الإسلام إلَّا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركتُ كلَّ شيء، ودخلت في دين الحق، وحبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز والترف، وكثرة عَرَض الدنيا، ولو أني ظهر عَلَيَّ شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وَهَبْ أني نجوتُ منهم، وخَلُصْتُ إلى المسلمين، فأقول لهم: إني جئتكم مسلمًا، فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تَمُنَّ علينا بدخولك في دين خلَّصْتَ به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخًا كبيرًا فقيرًا ابن تسعين سنة، لا أفقه لسانهم ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعًا (¬1)، وأنا والحمد لله على دين عيسى وعلى ما جاء به، يعلم الله ذلك مني"، فقلت له: "يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ "، فقال لي: "إن كنت عاقلا طالبًا للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، ¬

_ (¬1) هذا خيال فاسد، وسوء ظن بخير أمة أخرجت للناس، وجهل بسماحة الإسلام، ونظامه الاجتماعي الرائع المبني على التكافل والرحمة والإحسان إلى الخلق، وحفظ حقوقهم، ورعاية قدرهم، هذا إذا كانوا باقين على دينهم، فكيف بمن انضم إليهم مسلمًا لله عز وجل، شاهدًا شهادة الحق؟، وتأمل ما حكاه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو يكتب إلى عدي بن أرطاة بالبصرة قائلًا له: ( .. وانظر مَن قِبَلَكَ مِن أهل الذمة قَد كبر سنه، وضعفتَ قوته، وولت=

فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني، فإني أجحده، وقولي مُصَدَّق عليك، وقولُك غير مُصَدَّق عَلَيَّ، وأنا بريء من ذلك إن فُهْتَ بشيء من هذا"، فقلت: "يا سيدي أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا"، وعاهدتُه بما يرضيه. ثم أخذت في أسباب الرحلة وودَّعتُه، فدعا لي عند الوداع بخير، وزودني بخمسين دينار ذهبًا، وركبتُ البحر منصرفًا إلى بلدي مدينة "ميورقة"، فأقمت بها مع والدي ستة أشهر، ثم سافرت منها إلى جزيرة صقلية، وأقمت بها خمسة أشهر، وأنا أنتظر مركبًا يتوجه لأرض المسلمين. فحضر مركب يسافر إلى مدينة "تونس"، فسافرت فيه من "صقلية"، وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى "تونس". قرب الزوال. فلما نزلت بديوان "تونس"، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى، أتوا بمركب، وحملوني معهم إلى ديارهم، وصَحِبَتْهُم بعضُ ¬

_ =عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يقوته، حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مَرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: "ما أنصفناك إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك، ثم ضيعناك في كبرك"، قال: ثم أجري عليه من بيت المال ما يصلحه) اهـ من "كتاب الأموال" للإمام أبيِ عبيد القاسم بن سلام، وأقوى رَدٍّ على هذا الخيال الفاسد هو ما حظى به تلميذه الترجمان لما آوى إلى المسلمين من الاحترام والتقدير والتكريم".

التجار الساكنين أيضًا بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرعد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد -رحمه الله- فذكر لي النصاري أن بدار السلطان المذكور رجلًا فاضلًا من أكبر خُدَّامه اسمه "يوسف الطبيب" وكان طبيبه، ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحًا شديدًا .. وسألت عن مسكن هذا الرجل الطيب، فدُلِلْتُ عليه، واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي، وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فَسُر الرجلُ بذلك سرورًا عظيمًا بأن يكون تمام هذا الخير على يديه، ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي، واستأذنه لي، فأذن لي. فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمرى، فقلت له: "خمسة وثلاثون عامًا"، ثم سألني عما قرأت من العلوم، فأخبرته، فقال لي: "قدمتَ قدوم خير، فَأسْلِمْ على بركة الله، فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: "قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد منه دين إلاَّ ويُكْثِرُ أهلُه القولَ فيه، والطعنَ فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم، وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسْلِمُ إن شاء الله تعالى"، فقال لي بواسطة الترجمان: "أنت طلبت ما طلب "عبد الله بن سلام" من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أسلم" (¬1). ¬

_ (¬1) (تشابهت قصة إسلام "الترجمان" بقصة إسلام الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهو من بني إسرائيل من ولد يوسف بن يعقوب نبي الله عليهما السلام، وقد روى أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم- إلى=

ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعضِ تجارهم، وأدخلنى في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه، قال لهم: "ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ "، قالوا له: "يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا"، فقال لهم: "وما تقولون فيه إذا أسلم؟ "، قالوا: "نعوذ بالله من ذلك هو ما يفعل هذا أبدًا"، فلما سمع ما عند النصارى بعث إليَّ، فحضرتُ بين يديه، وشَهِدْتُ شهادتي الحق ¬

_ =المدينة، قالوا: جاء نبي الله، فاستشرفوا ينظرون، إذ سمع به عبد الله بن سلام، وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله - صلى الله عليه وسلم-، ثم رجع إلى أهله، قال: فلما خلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جاء عبد الله بن سلام، فقال: "أشهد أنك رسوله الله حقًّا، وأنك جئت بحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم، فادعهم، فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ما ليس في". فأرسله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فدخدوا عليه، فقال لهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًّا، وأني جئتكم بحق: أسلموا"، قالوا: "ما نعلمه"، فأعادها عليهم ثلاثًا، وهم يجيبونه كذلك. قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: "ذاك سيدنا، وابن سيدنا، وأعلمنا، وابن أعلمنا"، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ "، قالوا: "حاشا لله! ما كان ليسلم"، فقال: "يا ابن سلام، اخرج عليهم، فخرج إليهم، فقال: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقًّا، وأنه جاء بالحق"، فقالوا: "كذبتَ"، فأخرجهم النبي - صلى الله عليه وسلم -) اهـ من "عيون الأثر" لابن سيد الناس (1/ 250)، وانظر: "فتح البارى" (7/ 272).

بمحضر النصارى، فَصَلَّبوا (¬1) على وجوههم، وقالوا: "ما حمله على هذا إلَّا حُبُّ التزويج، فإن القسيس عندنا لا يتزوج" (¬2)، وخرجوا مكروبين محزونين. فرتَّب لي السلطان رحمه الله ربع دينار كل يوم في دار المختص، وزوَّجني ابنةَ الحاج محمد الصفَّار. فلما عزمت على البناء بها أعطاني مائة دينار ذهبًا، وكسوة جيدة كاملة، فبنيت بها، ووُلِد لي منها ولدٌ سميته "محمدًا" على وجه التبرك باسم نبينا - صلى الله عليه وسلم - ... ] اهـ. ... ¬

_ (¬1) (صَلَّبوا)، وهذا أمر ثابت عند النصارى لأنهم إذا أرادوا التعوُّذ من شيء رفعوا أصابعه مضمومة على جبهتهم، ثم أشاروا بعلامة الصليب مرورًا بالكتف الأيمن فالأيسر فالوسط، وقد تتعدى هذه الإشارة من التعوذ إلى البركة، حيث إن البابا يرسم هذه الإشارة حينما يظهر لعامة الناس. (¬2) (حَرمت الكنيسهَ الكاثوليكية على القسس والرهبان والراهبات الزواج، فأدى ذلك التحريم إلى انتشار الفسق والفجور بين رجالها ونسائها، حتى لقد كان القسس والرهبان يتصلون بالراهبات أنفسهن، ويبررون ذلك بأنه ضرب من المساكنة الروحية) "الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام" د. علي عبد الواحد وافي، ص (122). ولهذا السبب قام مارتن لوثر البروتستانتي في القرن السادس عشر بثورة على الكنسية، وكان من ضمن آرائه في الإصلاح: (أن جزءًا من فساد الدين يرجع إلى عدم الزواج، ورأى أن المنع منه لم يكن في المسيحية في عصورها الأولى، فقرر حقهم فِي الزواج، وتزوج هو فعلاً مع أنه من رجال الدين، وكان زواجه من راهبة) "محاضرات في النصرانية" لأبي زهرة، ص (16).

ثم شرع الشيخ عبد الله الترجمان في ذكر طرف من أخبار الدولة الحفصية التي خدم في ديوانها، ثم أردفه بأبواب تسعة كشف فيها هوية كُتَّاب الأناجيل الأربعة "متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا"، وأكَّد أنهم ليسوا من حوارى المسيح عليه السلام بأدلة علمية دقيقة، ثم ناقش قضايا التعميد "التغطيس"، والتثليث، والأقانيم، والخطيئة الأولى، والعشاء الرباني، وصك الغفران، وقانون الإيمان، وفَنَّدَها كلَّها بنصوص الأناجيل، وبأدلة العقل الصريح. ثم أثبت بشرية المسيح عليه السلام ونفى ألوهيته المزعومة، ثم عرض التناقضات في نصوص الأناجيل المحرفة، ثم تعرض لما يعيبه النصارى على المسلمين؛ كزواج العلماء والصالحين، والختان، والنعيم الحسي في الجنة، ثم ختم كتابه بإثبات نبوة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم-، وبيان فضله ومنزلته بنصوص من التوراة والإنجيل (¬1). وبعد: فهذا طرف من سيرة الشيخ الميورقي وجهاده بقلمه ولسانه في سبيل الله عز وجل، أما جهاده بيده فقد اشترك رحمه الله في جهاد بني جلدته من الكافرين، وفي حملة الأسطول الحفصي على جزيرة صقلية (سنة 796 هـ تقريبًا) كان يتولى منصب القائد البحري. فإن صحت رواية استشهاد الترجمان أثناء الغارة الصليبية على تونس، فهذا شرف عظيم يضاف إلى سجله الناصع في خدمة دين الحق والجهاد ¬

_ (¬1) وقد طبع الكتاب "دار البشائر الإسلامية" - بيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14 بتحقيق وتعليق الأستاذ عمر وفيق الداعوق - الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988م، ومن مقدمته نقلنا هذه القصة تصرف.

في سبيله. إن سيرة الشيخ الترجمان منار ينير الدرب للتائهين في لجج الظلام، ودياجير الجهل، ويحرر عقولهم من أسر التقليد الأعمى لمن لا يملكون لهم رزقًا ولا أجلًا، ويهدي الحائرين الباحثين عن الحقيقة التي هي أقرب لأحدهم من حبل الوريد، إنها حجة على الجاحدين المعاندين الذين غلَّقوا أعينهم، وجعلوا أصابعهم عليها ليقنعوا أنفسهم أن الشمس غائبة، وأن الدنيا ظلام .. {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}. رحم الله الشيخ الترجُمان، وأعلى درجته في المهديين، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، والحمد لله رب العالمين. ***

(4) علو همة الأخ "رحمة بورنومو" في بحثه عن الدين الحق

(4) عُلُوّ هِمَّة الأَخِ "رحمة بورنومو" في بَحْثِهِ عَنِ الدّينِ الحَقِّ (¬1) إنه رجل ينتسب إلى أب هولندي وأم إندونيسية من مدينة "أمبون" الواقعة في جزيرة صغيرة في أقصى الشرق من جزر إندونيسيا، والنصرانية هي الدين الموروث لأسرته أبًّا عن جد. كان جده قسيسًا ينتمي إلى مذهب الروتستانت، وكان أبوه أيضًا قسيسًا على مذهب بانتي كوستا، وكانت والدته معلمة الإنجيل للنساء، أما هو نفسه فقد كان قسًّا، ورئيسا للتبشير في كنيسة "بيتل إنجيل سبينوا"، وقد قال وهو يحكي سبب إسلامه: (لم يخطر ببالي ولو للحظة واحدة أن أكون من المسلمين، إذ إنني منذ نعومة أظفاري تلقيت التعليم من والدي الذي كان يقول لي دائمًا: "إن محمدًا رجل بدوي صحراوي ليس له علم ولا دراية، ولا يقرأ وأنه أمي"، هكذا علمني أبي، بل أكثر من ذلك فقد قرأت للبروفسور الدكتور ريكولدي النصراني الفرنسي قوله في كتاب له: (بأن محمدًا رجل دجال يسكن في الدرك التاسع من النار)، هكذا كانت تساق المفتريات الكثيرة لتشويه شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم-، ومنذ ذلك الحين تكونَتْ لديَّ فكرة مغلوطة راسخة تدفعني إلى رفض الإسلام، وعدم اتخاذه دينًا لي. ثم يقول: الواقع أنه لم يكن من أهدافي بحال من الأحوال أن أبحث ¬

_ (¬1) من "رجال ونساء أسلموا" للأستاذ عرفات كامل العشي (8/ 63 - 86) بتصرف.

عن دين الإسلام، ولكني كان يحدوني دائمًا دافع لأن أهتدي إلى الحق، ولكن لماذا كنت أبحث عن الحق المجهول؟. ولماذا تركت ديني رغم أنني كنت أتمتع فيه بمكانة مرموقة بين قومي؛ حيث كنت رئيس التبشير المسيحي في الكنيسة، وكنت أحيا بناء على ذلك حياةً كلها رفاهية ويسر، إذن لماذا اخترت الإسلام؟ لقد بدأت القصة على النحو التالي: في يوم من الأيام أرسلتني قيادة الكنيسة للقيام بأعمال تبشيرية لمدة ثلالة أيام ولياليها في منطقة "دايري" التي تبعد عن عاصمة "ميدان" الواقعة في شمال جزيرة سومطرة بضع مئات من الكيلومترات، ولما انتهيت من أعمال التبشير والدعوة أويتَ إلى دار مسئول الكنيسة في تلك المنطقة، وكنت فِي انتظار وصول سيارة تقلني إلى موقع عملي، وإذا برجل يطلع علينا فجأة، لقد كان معلمًا للقرآن، وهو ما يسمى في إندونيسيا مطوع في الكُتَّاب، وهو المدرسة البسيطة التي تعلم القرآن، لقد كان الرجل ملفتًا للأنظار، كان نحيف الجسم، دقيق العود يرتدي كوفية بيضاء بالية خلقة، ولباسًا قد تبدل لونه من كثرة الاستعمال، حتى أن نعله كان مربوطًا بأسلاك لشدة قدمه، اقترب الرجل مني، وبعد أن بادلني التحية بادرني بالسؤال التالي، وكان سؤالًا غريبًا من نوعه، قال: "لقد ذكرت في حديثك أن عيسى المسيح إله، فأين دليلك على ألوهيته؟ "، فقلت له: "سواء أكان هناك دليل أم لا فالأمر لا يهمك: إن شئت فلتؤمن، وإن شئت فلتكفر"، وهنا أدار الرجل ظهره لي، وانصرف، ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد أخذتُ أفكر في قرارة نفسي، وأقول: هيهات هيهات أن يدخل هذا الرجل

الجنة، لأنها مخصصة فقط لمن يؤمن بألوهية المسيح فحسب، هكذا كنت أعتقد جازمًا آنذاك. ولكن عندما عدت إلى بيتي وجدت أن صوت الرجل يجلجل في روعي، ويدق بقوة فِي أسماعي، مما دفعني إلى الرجوع إلى كتب الإنجيل بحثًا عن الجواب الصحيح على سؤاله، ومعلوم أن هناك أربعة أناجيل مختلفة أحدها بقلم متى، والآخَر مارك، والثالث لوقا، والرابع إنجيل يوحنا، هذه التسميات أُخِذَتْ لمؤلف كل منها، أي أن الأناجيل الأربعة المشهورة هي من صنع البشر، وهذا غريب جدًّا، ثم سألت نفسي: "هل هناك قرآن بنسخ مختلفة من صنع البشر؟ " وجاءني الجواب الذي لا مفر منه، وهو: "بالطبع لا يوجد"، فهذه الكتب وبعض الرسائل الأخرى هي فقط مصدر تعاليم الديانة المسيحية المعتمدة! وأخذت أدرس الأناجيل الأربعة فماذا وجدت؟ هذا إنجيل مَتَّى ماذا يقول عن المسيح عيسى عليه السلام؟ إننا نقرأ فيه ما يلي: "إن عيسى المسيح ينتسب إلى إبراهيم وإلى داود ... إلخ (1 - 1) إذن من هو عيسى؟ أليس من بني البشر؟ نعم إذن فهو إنسان، وهذا إنجيل لوقا يقول: "ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (1 - 33)، وهذا إنجيل مارك يقول: "هذه سلسلة من نسب عيسى المسيح ابن الله"، (: 1) وأخيرًا ماذا يقول إنجيل يوحنا عن عيسى المسيح عليه السلام؟ إنه يقول "في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله" (1: 1)، ومعنى هذا النص هو في البدء كان المسيح، والمسيح عند الله، والمسيح هو الله. قلت لنفسي: إذن هناك خلاف بارز بين هذه الكتب الأربعة حول

ذات المسيح عيسى عليه السلام أهو إنسان أم ابن الله أم ملك أم هو الله؟ لقد أشكل عليَّ ذلك، ولم أعثر له على جواب، وهنا أحب أن أسأل إخواني النصارى: "هل يوجد في القرآن الكريم تناقض بين آية وأخرى؟ " بالطبع لا - لماذا؟ لأن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، أما هذه الأناجيل فهي من تأليف البشر، إنكم تعرفون ولا شك أن عيسى عليه السلام كان طيلة حياته يقوم بأعمال الدعوة إلى الله هنا وهناك، ولنا أن نتساءل: - ترى ما هو المبدأ الأساسي الذي كان يدعو إليه عيسى عليه السلام؟ هذا إنجيل مارك، يقول: فجاء واحد من الكتبة، وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه (أي المسيح) أجابهم حسنًا، سأله: أية وصية هي الأولى؟ فأجابه يسوع قائلًا: "إن أولى الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد" (12: 28 - 29)، هذا اعتراف صريح من عيسى عليه السلام، إذن لو كان عيسى قد اعترف أن الله هو الإلهُ الواحد الأحد فمن هو عيسى إذن؟ لو كان عيسى هو الله أيضًا، فلن تكون هناك وحدانية لله، أليس كذلك؟ ثم واصلت البحث، فوجدت في إنجيل يوحنا نصوصًا تشير إلى دعاء المسيح عليه السلام، وتضرعه إلى الله سبحانه. فقلت لنفسي: لو كان عيسى هو الله القادر على كل شيء فهل يحتاج إلى هذا التضرع والدعاء؟ طبعًا لا، إذن عيسى ليس إلهًا بل هو مخلوق مثلنا، استمع معي إلى الدعاء الذي ورد في إنجيل يوحنا، هذا هو نص الدعاء: "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد

أكملته" (17 - 3 - 4) وهو دعاء طويل يقول في نهايته: "أيها الرب البار، إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به" (17 - 25 - 26). هذا الدعاء يمثل اعترافًا من عيسى عليه السلام بأن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين، وليس إلى جميع الناس، فأي قوم هم هؤلاء يا ترى؟ نقرأ جواب ذلك في إنجيل متى (15: 24) حيث يقول: "لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"، إذن لو ضممنا هذه الاعترافات إلى بعضها لأمكننا أن نقول: "إن الله هو الواحد الأحد، وإن عيسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل". ثم واصلتُ البحث، فتذكرت أنني حين أكون في صلاتي أقرأ دائمًا العبارات التالية: (الله الأب، الله الابن، الله الروح القدس، ثلاثة في أقنوم واحد)، قلت لنفسي: أمر غريب حقًّا، فلو سألنا طالبًا في الصف الأول الابتدائي "1 + 1 + 1= 3؟ "، لقال: "نعم"، ثم إذا قلنا له: "ولكن أيضًا 3 = 1"، لما وافق على ذلك، إذ إن هناك تناقضًا صريحًا فيما نقول، لأن عيسى عليه السلام يقول في الإنجيل كما رأينا بأن الله واحد، لا شريك له. لقد حدث تناقض صريح بين العقيدة التي كانت راسخة في نفسي منذ أن كنت طفلاً صغيرًا، وهي: ثلاثة في واحد، وبين ما يعترف به المسيح عيسى نفسه في كتب الإنجيل الموجودة الآن بين أيدينا وهي أن الله واحد أحد لا شريك له، فأيهما هو الحق؟ لم يكن بوسعي أن أقرر آنذاك، والحق يقال، بأن الله واحد أحد، فأخذت أبحث في

الإنجيل من جديد لعلي أقع على ما أريد، لقد وجدت في سفر أشعياء النص التالي: "اذكروا الأوليات منذ القديم، لأني أنا الله وليس آخر الإله، وليس مثلي" (46: 9)، ولشد ما كانت دهشتي عظيمة حين اعتنقت الإسلام فوجدت في سورة الإخلاص قول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوًا أحد} نعم، ما دام الكلامُ كلامَ الله فهو لا يختلف حيثما وجد، هذا هو التعليم الأول أو البديهية الأولى في ديانتي المسيحية السابقة، إذن "ثلاثة في واحد" لم يعد لها وجود في نفسي. ثم ينتقل الأخ رحمة بورنومو الإندونيسي إلى نقطة جوهرية أخرى جعلته يختار الإسلام دينًا فهو يقول: أما البديهية الثانية في الديانة المسيحية فتقول بأن هناك ما يسمى بالذنب الوراثي أو الخطيئة الأولى، ويُقصد بهذا أن الذنب الذي اقترفه آدم عليه السلام عندما أكل الثمرة المحرمة عليه من الشجرة في الجنة، هذا الذنب سوف يرثه جميع بني البشر حتى الجنين في رحم أمه يتحمل هذا الإثم ويولد آثمًا، فهل هذا صحيح أم لا؟ لقد أخذت أبحث عن حقيقة ذلك، فلجأت إلى العهد القديم فوجدت في سفر حزقيال ما يلي: "الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون، فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًّا وعدلاً، فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه" (حزقيال 18: 20 - 21). لعل من المناسب هنا أن نذكر ما يقولهُ القرآن الكريم في هذا المقام: {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه

شيء ولو كان ذا قربى} ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "يُولد ابن آدم على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، هذه هي القاعدة في الإسلام، ويوافقها ما جاء في الإنجيل، فكيف يقال: "إن خطيئة آدم تنتقل من جيل إلى جيل، وأن الإنسان يولد آثمًا؟ ". يقول الآخ "رحمة بورنومو" الإندونيسي: إذن هذه التعاليم المسيحية قد اتضح بطلانها وافتراؤها بنص صريح من الكتاب الموصوف بـ "المقدس" نفسه، وهناك البديهية الثالثة في التعاليم النصرانية التي تقول: إن ذنوب بني البشر لا تغفر حتى يُصلب عيسى عليه السلام، لقد أخذت أفكر في هذه البديهية، وأتساءل: "هل هذا صحيح؟ " وكان الجواب الذي لا مفر منه: بالطبع لا، لأن النص الآنف الذكر من العهد القديم ينفي مثل هذا الاعتقاد بقوله: "فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًّا وعدلًا، فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه"، أي أن الله يغفر ذنوبه دون حاجة إلى أية وساطة من أحد. ويمضي الأخ الإندونيسي الذي كان قسًّا في يوم من الأيام يحدثنا عما فعل بعد ذلك ضمن رحلته الطويلة من الكفر إلى الإسلام، فيقول: لقد واصلت البحث في عدد من القضايا الاعتقادية الأخرى، لقد وضعت يومًا من الأيام كُلًّا من الإنجيل والقرآن أمامي على المنضدة، ووجهتُ السؤال التالي إلى الِإنجيل قلت له: "ماذا تعرف عن محمد؟ " فقال: "لا شىء، لأن اسم محمد غير مذكور في الإنجيل، ثم وجهت السؤال التالي إلى عيسى كما تحدث عنه القرآن فقلت: "يا عيسى ابن مريم ماذا تعرف عن محمد؟ " فقال: "لقد ذكر القرآن بما لا يدع مجالًا

للشك أن رسولًا لا بد أن يأتي بعدي اسمه أحمد"، يقول تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 16] فأي ذلك حق يا ترى؟ ثم يقول: هناك إنجيل واحد هو إنجيل برنابا وهو غير الأناجيل الأربعة التي ذكرناها من قبل، وهذا الإنجيل للأسف حَرَّم رجالُ الدين النصارى على أتباعهم الاطلاعَ عليه، أتدرون لماذا؟ الأرجح أنه لأن هذا الِإنجيل هو الوحيد الذي يتضمن البشرى بسيدنا محمد، وتقل فيه الِإضافات والتحريفات إلى حد أدنى، كما أن فيه حقائق تطابق ما جاء في القرآن الكريم، جاء في إنجيل برنابا (إصحاح 163): وقتئذٍ يسأل التلاميذ المسيح: يا معلم من يأتي بعدك؟ فقال المسيح بكل سرور وفرح: محمد رسول الله سوف يأتي من بعدي كالسحاب الأبيض يُظل المؤمنين جميعًا. ويمضي الأخ رحمة بورنومو فيقول: ثم قرأت آية أخرى في إنجيل برنابا وهي قوله في (الإصحاح 72): وقتئذ إندرياس (التلميذ) يسأل المسيح: "يا معلم! حين يأتي محمد، ما هي علاماته حتى نعرفه؟ " فقال المسيح: "محمد لا يأتي في عصرنا هذا، وإنما يأتي بعد مئات السنين حين يُحرف الإنجيل، والمؤمنون حينئذ لا يبلغ عددهم ثلاثين نفرًا، فحينئذ يرسل الله سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء والمرسلين محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، لقد تردد ذكر ذلك في إنجيل برنابا عدة مرات أحصيتها فوجدت أن فيه خمسة وأربعين آية تذكر محمدًا - صلى الله عليه وسلم-، وقد

اكتفيت بالآيتين السابقتين على سبيل الاستشهاد. بعد ذلك يتحدث الأخ المهتدي الجديد من إندونيسيا عن جانب آخر من دراسته المقارنة فيقول: ومن التعاليم البديهية في الديانة المسيحية أن عيسى عليه السلام هو المنقذ المخلِّصُ للعالم، أي أنك إذا آمنت بألوهية عيسى فسوف تنجو، وهذا يعني أنك يمكنك أن تفعل ما تشاء غيرَ آبه بالذنوب والمعاصي ما دمت تؤمن بعيسى كمنقذ لك، شريطة أن تكون على يقين بأنك من التابعين، قلت لنفسي: لا بد أن أبحث في الإنجيل وأعرف الحق من الباطل في ذلك، في سفر أعمال الرسل رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينتوس يقول: الله قد أقام الرب وسُيقيمنا نحن أيضًا بقوته (6: 14)، والقصة كما وردت في التعاليم المسيحية هي كالآتي: أنه لما قبضوا على السيد المسيح عرضوه أمام العدالة فحُكم عليه بالصلب، ثم دُفن فهنا تأتي الآية مناسبة لتلك القصة. وهنا يعلق الأخ رحمة بورنومو فيقول: لقد تأملت هذه الآية طويلًا ثم قلت: إذا لم يتدخل الله في إقامة المسيح من القبر لبقي مدفونًا تحت التراب إلى يوم القيامة، إذن مادام المسيح لم يستطع إنقاذ نفسه فكيف يكون بوسعه إنقاذ الآخرين؟ هل يليق بإله -كما يزعمون- أن يكون عاجزًا عن ذلك؟ لا أشك لحظة أن كل ذي عقل سيوافقني فيما ذهبت إليه. أليس كذلك؟ ثم يقول: عند ذلك عزمت على الخروج من الكنيسة وعدم الذهاب إليها، كان ذلك في عام 1969 حيث خرجت فعلًا ولم أعد أتردد على الكنيسة، وليس معنى ذلك أنني خرجت ذلك الحين من الديانة النصرانية نفسها، لأنه كما هو معلوم هناك كنائس ومذاهب شتى في

الديانة النصرانية، فهناك الكاثوليك، والبروتستانت، والميثوديست، والبلاي كسلامتن، واليونيتاريان، وغيرها كثير، حتىّ أنني أستطيع أن أقول بأن هناك أكثر من 360 مذهبًا في الديانة النصرانية، وصدق الله العظيم {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}. قد يقول قائل: وفي الإسلام أيضًا توجد مذاهب وطوائف عدة، فهناك المذاهب الأربعة المعروفة، وهى الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي وغيرها ...... والجواب هو أن أتباع المذاهب .. لا يختلفون في أصول الدين بل يتفقون جميعًا أن الله واحد، لا شريك له، وأن محمدًا رسول الله، كما يتفقون في أركان الإسلام الخمسة، وجوانب الخلاف بينهم في الفروع فقط لا في الأصول، وخلافهم رحمة كما ورد في الأثر، أما في الديانة المسيحية فالأمر مختلف تمامًا إذ الخلاف في صلب العقيدة، وهذا هو الفارق بين الإسلام والمسيحية. ومهما اختلفت المذاهب في الإسلام فإنك لا تجد مسجدًا يخص مذهبًا معينًا دون سائر المساجد، بل على العكس من ذلك، فإذا نادى المنادي للصلاة تجد كل مسلم يدخل أقرب مسجد ليصلي فيه. ولكن الأمر يختلف تمامًا في الديانة النصرانية: فكل كنيسة تتبع مذهبًا معينًا، ولا يدخلها إلا أتباع ذلك المذهب فحسب، فالكاثوليكي لا يصلي في كنيسة بروتستانتية، والبروتستانتي لا يصلي هو الآخر في كنيسة كاثوليكية، وهكذا. ثم يمضي الأخ رحمة بورنومو في قصته الشائقة، فيقول: وذات يوم

لقيت صديقًا لي فدعاني إلى الكاثوليكية، وأخذ يعدد مميزات لهذا المذهب لم أجد مثلها في مذهبي البروتستانتي، قال صديقي: "في هذا المذهب توجد حجرة الغفران، وهي عبارة عن غرفة في الكنيسة يجلس فيها قس ذو لحية كثيفة يرتدي لباسًا أسود، ويقعد على كرسي عال، ومن طلب العفو والغفران ذهب إليه، ورددَ بعض الألفاظ غير المفهومة، وما أن يكاد يفرغُ من قراءتها حتى يقال له بأنه بريء من ذنوبه، ويرجع كيوم ولدته أمه، وهكذا قال لي صديقي، وأضاف قائلاً: كل ما تقترف يداك من الذنوب خلال أيام الأسبوع كفيل بأن يُغفر لك عند ذهابك إلى الكنيسة يوم الأحد، وحصولك على الغفران. فأنت لا تحتاج إلى الصلاة، ولا إلى العبادة، ولكن إذا تركت ذلك كله وذهبت إلى القس، واعترفت أمامه، غُفِرت ذنوبك". يقول الأخ رحمة بورنومو: لقد تذكرت ما يقرره الإسلام في ذلك؛ وهو أن البشر مهما علت رتبة أحدهم لا يمكن أن يُوكَلَ إليه غفران ذنوب العباد، كما أن التوبة والمغفرة لا تُسْقِط التكاليف والفرائض، بل لا بد للتائب من أن يؤدي الصلوات الخمس اليومية في أوقاتها، فإذا تركها فلا قيمة لتوبته وعليه إثم كبير لا يمكن أن يتحمله عنه غيره من الناس {ولا تزر وازرة وزر أخرى} صدق الله العظيم. ثم يقول: لقد رأيت الداخلين إلى حجرة الغفران في الكنيسة عليهم أمارات الحزن والكآبة لثقل الذنوب، بينما رأيت من يخرج منها وقد علت وجهه ابتسامة الفرح لاعتقاده بأن ذنوبه قد غفرت له، أما أنا فحين جربت تلك الغرفة دخلتها حزينًا وخَرجت منها حزينًا، لماذا يا ترى؟

لأنني كنت أفكر وأتساءل: "هذه ذنوبنا يتحملها القس، ولكن من يتحمل ذنوبه هو؟ " وهكذا لم أقتنع بالكاثوليكية فتركتها، وبحثت عن دين آخر. ثم يحدثنا الأخ رحمة بورنومو عن المرحلة التالية من رحلته من الشك إلى اليقين فيقول: بعد ذلك تعرفت على طائفة نصرانية أخرى تسمى (شهود يهوه) وهي مذهب آخر من مذاهب النصرانية، لقيت رئيسهم، وسألته عن تعاليم مذهبه، وقلت له: "من تعبدون؟ "، قال:- "الله"، قلت: "ومن هو المسيح" فقال: "عيسى هو رسول الله"، فصادف ذلك موافقة لما كنت أومن به، وأميل إليه، ودخلت كنيستهم فلم أجد فيها صليبًا واحدًا، فسألته عن سر ذلك، فقال: "الصليب علامة الكفر، لذلك لا نعلقه في كنائسنا". وهكذا رضي الأخ رحمة بورنومو أن يعرف المزيد عن شهود يهوه، وهو يصف هذه الفترة من حياته فيقول: لقد أمضيت ثلاثة أشهر كاملة أتلقى تعاليم ذلك المذهب، وفي نهايتها كان لي الحوار التالي مع رئيس الكنيسة، وكان هولنديًّا. قلت له: "يا سيدي، إذا توفيت على هذا المذهب؛ فإلى أين مصيري؟ " قال: "كالدخان الذي يزول في الهواء"، فقلت متعجبًا: "ولكني لست سيجارة، بل أنا إنسان ذو عقل وضمير". ثم سألته: "وأين أتجه بعد الممات"، فقال: "تُوضَع في ميدان واسع"، قلت: "وأين ذلك الميدان؟ " قال: "لا أعلم"، قلت: "سيدي إذا كنتُ عبدًا مطيعًا ملتزمًا بهذا المذهب، فهل أدخل الجنة؟ " قال: "لا"، قلت: "فإلى أين إذن؟ " قال: "الذين يدخلون الجنة

عددهم 144 ألف شخص فقط، أما أنت فسوف تسكن الأرض مرة أخرى"، وهنا قاطعته قائلًا: "ولكن يا سيدى قد وقعت الواقعة، فالدنيا خربت"، قال: "أنت لا تفهم حقيقة القيامة، لو كان لديك كرسي وفوقه حشرات مؤذية، هل تحرق الكرسي لتخلص من الحشرات؟ " قلت: "لا"، قال: "بل تقتل الحشرات ويبقى الكرسي سليمًا، وهكذا فتبقى الأرض سليمة بعد تطهيرها من الدنس والخطايا، وعندها ينتقل إليها الناس من ذلك الميدان، فليس هناك ما يسمى بالنار". وهنا أعملت فكري جيدًا، ودرست الأمر وقلبته، حتى اتخذت القرار الأخير بترك النصرانية بجميع مذاهبها رسميًّا، كان ذلك في عام 1970، وفي أحد الأيام بينما كنت أسير في طريقي بحثًا عن الحق، رأيت معبدًا بوذيًّا جميلًا ضخمًا فاقتربت منه فوجدت فيه عدة تماثيل وصور في السقف تمثل التنين، وعلى الجدران مثل ذلك، كما شاهدت أمام البوابة تمثالين على شكل أسد صامت، وما أن دخلت من البوابة حتى جاءني رجل فأوقفني، وسأل: "إلى أين؟ " قلت: "أريد أن أدخل"، قال: "اخلع نعليك قبل أن تدخل، هذا معبد لنا فاحترم مكان عبادتنا"، قلت في نفسي: "حتى البوذية تعرف النظافة، أما ديانتي السابقه فلا نظافة فيها، أذكر أنني عندما كنت أدخل الكنيسة لم أكن أخلع نعلَّي عند الدخول" (¬1). ثم يقول: "لقد جربت الديانة البوذية فترة من الزمن، ولكن سرعان ما تركتها لإحساسي بأنني لم أجد الحق الذي أنشده، ثم اتصلت بالديانة الهندوسية التي بدأت ونشأت في الهند، والتي انتشرت تعاليمها حتى ¬

_ (¬1) النظافة هنا ينبغي أن يقصد بها طهارة النعل من النجاسة، وإلا فلا حرج في الصلاة في النعلين الطاهرين، لورود السنة الصحيحة بذلك.

وصلت إلى بعض الجزر الإندونيسية، فأخذت أتنقل بين تلك الجزر التي يوجد فيها نشاط لأتباع هذا الدين، ومكثت معهم فترة من الزمن تعلمت فيها الكثير، وقد نجحت فِي المرحلهّ الأولى إلى درجة أنني أخذت أجربَ الخوارق كالعبور في النار؛ والمشي على المسامير الحادة، وإدخال المسامير إلى أعضاء الجسم إلى غير ذلك، ولكن أيضًا ليس هذا هو ما كنت أبحث عنه". ثم يضيف الأخ رحمة بورنومو: وذات يوم سألت رئيس المعبد الهندوسي: "ماذا تعبدون؟ "، قال: نعبد "برهما، ويشنو، وشيوا"، برهما: إله الخلق، ويشنو: إله الخير، وشيوا: إله الشر، ثلاثة آلهة تجلت في جسد إنسان واحد اسمه كريشنا الذي يعتبر المنقذ للعالم عند الهندوس، قلت لنفسي: "إذن فلا فرق في أمر الألوهية بين الهندوسية والنصرانية، ولو اختلفت الأسماء فهما يناديان ثلاثة في واحد". قلت للكاهن الهندوسي: "اشرح لي نشأة كريشنا"، فقال: كان في الهند سنة ألفين قبل الميلاد ملك جبار ظالم لا يرحم حتى أبناءه، فيقتل مولوده الذكر خوفًا من أن يحتل عرشه غصبًا، وفي إحدى الليالي الظلماء كان الملك جالسًا أمام قصره، وإذا بكوكب مضيء يطلع في السماء فوق رأسه، وكان يسير بسرعة مذهلة، ثم توقف في الفضاء وأرسل نوره الباهر على حظيرة الأبقار، فلما سأل الملك رجال العلم والدين، راجعوا كتبهم المقدسة، فقالوا: إن ذلك دليل على تجلي الآلهة في جسم إنسان اسمه سري كريشنا، فقلت في نفسي: هذه القصة بحذافيرها مع تغيير الأشخاص موجودة في الديانة المسيحية، وكنت أحدث بها الناس وأنا قس، والفرق أن القرية المشار إليها هى بيت لحم، والِإنسان

عندنا هو المسيح، فلا فرق إذن بيِن القصتين ولا بين العقيدتين في قضية أساسية هي قضية الألوهية، وقضية هوية المنقذ للعالم. لقد واصلت حواري مع الكاهن الهندوسي فقلت له: "يا سيدي إذا توفيت وأنا على دينكم، فإلى أين مصيري؟ " قال: "لا أعلم، ولكن عليك أن تمتنع عن قتل الحشرات من أمثال النمل والبعوض وغيرهما"، وقال: "قد تكون هذه الحشرات آباءك وأجدادك الموتى". ثم يقول: "وفي النهاية قررت أن أترك كل تلك الديانات، ولم يكن أمامي إلا الإسلام الذي لم أكن أريد اعتناقه لما غُرس في نفسي منذ طفولتي من نفور وكراهية لهذا الدين الذي لم كن أعرف عنه إلا الشبهات، كنت أريد البحث عن الحق المجهول وهذا البحث يلزم الجهد والصبر، وذات يوم قلت لزوجتي: اعتبارًا من هذه الليلة لا أريد أن يزعجني أحد، أريد أن أصلي وأتضرع إلى الله، وهكذا أقفلت باب حجرتي ورفعت يدي إلى الله خاشعًا متضرعًا قائلًا: "يا رب: إذا كنت موجودًا حقًّا فخذ بناصيتي إلى الهدى والنور، واهدني إلى دينك الحق الذي ارتضيته للناس". ويمضي الأخ رحمة بورنومو في حديثه فيقول: والدعاء إلى الله ليس كأي طلب من الطلبات كما أن دعائي إلى الله سبحانه وتعالى لم يكن خلال فترة وجيزة فحسب، بل استمر ذلك زمنًا طويلًا، حوالي ثمانية أشهر، وفي ليلة الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر عام 1971م الموافقة للعاشر من رمضان من نفس العام، وبعد أن فرغت من دعائي المعتاد رحت في نوم عميق، وعندها جاءني نور الهدى من الله عز وجل، إذ رأيت العالم حولي في ظلام دامس، ولم يكن بوسعي أن أرى شيئًا، وإذا بجسم شخص يظهر أمامي، فأمعنت النظر فيه فإذا بنور حبيب يشع منه يبدد الظلمة من حولي، لقد تقدم الرجل المبارك نحوي، فرأيته يلبس

ثوبًا أبيض وعمامة بيضاء، له لحية جعدة الشعر، ووجه باسم لم أر قط مثله من قبل جمالًا وإشراقًا، لقد خاطبني الرجل بصوت حبيب قائلًا: "ردد الشهادتين"، وما كنت حينئذ أعلم شيئًا اسمه الشهادتان، فقلت مستفسرًا: "وما الشهادتان؟ "، فقال: "قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" فكررتهما وراءه ثلاث مرات، ثم ذهب الرجل عني. يقول الأخ الإندونيسي بعد ذلك: ولما استيقظت من نومي وجدت جسمي مبللاً بالعرق، وسألت أول مسلم قابلته: "ما هي الشهادتان، وما قيمتهما في الإسلام؟ "، فقال: "الشهادتان هما الركن الأول في الإسلام، ما أن ينطقهما الرجل حتى يصبح مسلمًا"، فاستفسرت منه عن معناهما فشرح لي المعنى، وفكرت مليًّا، وتساءلت: "من يكون الرجل الذي رأيته في منامي، وكانت ملامحه واضحة المعالم لي؟ " فلما وصفتها لصديقي المسلم هتف على الفور قائلًا: "لقد رأيت الرسول محمدًا - صلى الله عليه وسلم -". ثم يختم الأخ رحمة بورنومو قصته بقوله: وبعد عشرين يومًا من ذلك الحادث وكانت ليلة عيد الفطر سمعت صيحات التكبير يرددها المسلمون من المساجد القريبة من دارنا، فاقشعر بدني واهتز قلبي، ودمعت عيناي لا حزنًا على شيء، بل شكرًا لله على هذه النعمة فالحمد لله الذي هداني أخيرًا إلى ما كنت أبحث عنه منذ سنين، لقد تم ذلك في عام 1971م وقد خَيَّرتُ زوجتي بين الإسلام والمسيحية، فاختارت الِإسلام، والجدير بالذكر أنها كانت فِي طفولتها مسلمة ومن عائلة مسلمة تنصرت بسبب إغراءات المبشرين، وتبعًا لجهلها بأمور دينها الحنيف، كما تبعنا أبناؤنا فاعتنقوا الِإسلام، ومنذ الثاني من شهر فبراير عام 1972 ونحن مسلمون، والحمد الله.

الفصل الرابع علو الهمة في الدعوة إلى الله تعالى كبير الهمة يحمل هم الأمة

الفصل الرابع عُلُوّ الهِمَّة فِي الدَّعوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كبيرُ الهِمَّة يَحْمِل هَمَّ الأُمَّةِ من أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، كما يتضح ذلك جليًّا لمن تدبر سورة نوح على سبيل المثال، وكذا قصص سائر المرسلين، حتى خاتمهم وسيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم-، وكذا أتباعهم كمؤمن آل فرعون الذي قال لقومه: {يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا}، وكحبيب النجار الذي حمل هَم دعوة قومه في الحياة، وأبلغ في النصح لهم بعد الاستشهاد: {قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}. إذا تأملت قوائم عظماء رجالات الِإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم لرأيت أن "علو الهمة" هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام، واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواء كانوا علماء أو دعاة أو مجددين أو مجاهدين أو مربين أو عُباد صالحين، ولو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولا تزينت بذكرهم صحائف التاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين. وأسوتهم في حمل هَمِّ الأمة -بل في كل باب من أبواب الخير-

هو الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم-، الذي شارك المسلمين آلامهم، وكان في حاجتهم حتى حطمه الناسُ - صلى الله عليه وسلم-، فعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: "أكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي جالسًا؟ " قالت: "بعد ما حطمه (¬1) الناس" (¬2). ومن أمثلهَ حمل هم الأمة قَول حذيفة رضي الله تعالى عنه: (كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) الحديث (¬3)، فإن سياق الحديث يشي بحرص حذيفة على تعميم الانتفاع بالِإرشاد النبوي في زمن الفتنة إلى جميع المسلمين من بعده. وتأمل استنكاره - صلى الله عليه وسلم - دعاء الأعرابي: "اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا" وقوله له: "لقد حجَّرت واسعًا" (¬4)، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم-: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتَب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" (¬5). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في وصف أهل الجنة: "ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم" (¬6). ¬

_ (¬1) يقال: حَطَمَ فلانًا أهلُه، إذا كبِر فيهم، كأنهم بما حمَّلوه من أثقالهم صيَّروه شيخًا محطومًا. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده"، ومسلم، وغيرهما. (¬3) رواه البخاري. (¬4) رواه البخاري. (¬5) رواه الطبراني في "الكبير" عن عبادة، وحسنه الألباني. (¬6) رواه مسلم.

فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي ... سحائبُ ليس تنتظم البلادا والداعية إلى الله الكبير الهمة يقدر تبعات هذا المقام الرفيع، فهو يظمأ حيث يروي الناس، ويسهر حيث ينامون، ويجوع حيث يشبعون، ويتعب حيث يستريحون، ويقدم حيث يحجمون: عن عليٍّ رضى الله عنه قال: "كنا إذا احمرَّ البأسُ، ولقي القومُ القومَ، اتَّقَيْنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فما يكون منا أحدٌ أدني من القوم منه (¬1) "، وعن البراء رضى الله عنه قال: "كنا والله إذا احمرَّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا لَلذي يحاذي به - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناس، وأجودَ الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة (¬3) ذات ليلة، فانطلق الناسُ قِبَلَ الصوت، فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سبق الناسَ إلى الصوت (¬4)، وهو يقول: "لم تُراعوا؛ لم تراعوا (¬5)، وهو على فَرَسٍ لأبي طلحة عُرْيٍ ما عليه سَرْجٌ، فِي عنقه سيف؛ فقال: "لقد وجدته بحرًا، أو: إنه لبَحَر") (¬6). قال - صلى الله عليه وسلم-: ( .. ولأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته - ¬

_ (¬1) رواه أحمد. (¬2) رواه مسلم. (¬3) أي سمعوا صوتًا في الليل، فخافوا أن يهجم عليهم عدو. (¬4) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - سبق، فاستكشف الخبر، فلم يجد ما يُخاف منه، فرجع يُسَكِّنُهم. (¬5) هي كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيسًا، وإظهارًا للرفق بالمخاطب. (¬6) رواه البخاري، والفرس البحر: الواسع الجري.

وأشار بأصبعيه- أفضل من أن يعتكف في مسجدي -أي مسجد المدينة- هذا شهرين (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم-: "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" (¬2). وعن عبد الكريم أبي أمية قال: "لأن أردَّ رجلًا عن رأي سيئ أحب إليَّ من اعتكاف شهر". وتصف فاطمة بنت عبد الملك زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فتقول: (كان قد فرَّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه؛ وصل يومه بليلته). وقال أبو عثمان شيخ البخاري رحمه الله: "ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تَمَّ؛ وإلا قمت له بمالي، فإن تم؛ وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تم؛ وإلا استعنت بالسلطان". وكان "الليث بن سعد" رحمه الله: "يجلس للمسائل، يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس؛ لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت". واعتادت أم الشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله أن تراه مهتمًّا لأحوال المسلمين إذا ألمَّت بهم أو بأحدهم نائبة، ورأته ذات يوم على ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الأوسط"، والحاكم، وصححه. (¬2) رواه مسلم.

هذه الحال، فقالت له: "مالك؟ هل مات مسلم بالصين؟ ". وهذا شاعر الدعوة الإسلامية المعاصرة عمر بهاء الدين الأميري، وهو في جناح طب القلب، موصول الصدر إلى جهاز المراقبة الإلكتروني بأسلاك تفل من حركته، يُحقن في البطن كل يوم مراتٍ بإبر لإماعة الدم، وقد جاء الطبيب، يسأل القائم على التمريض عن استراحة شاعرنا، فيرد عليه باستغراب، وبفهم يختلف عن فهمه، فيقول: كلا رويدك يا طبيب ... وقد سألتَ: أما استراحْ؟ هل يستريح الحُرُّ يوقد ... صدرَه العبءُ الرزاح؟ ***

حركة الداعية

حَرَكة الدَّاعِيةِ إن الحركة ولود، والسكون عقيم، والحركة في قاموس الدعاة هي الحياة، والسكون هو الموت. قال الجيلاني: "الحركة بداية، والسكون نهاية"، والحركة هي الحد الفاصل بين عهد الرخاوة، وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء. وبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مثل شعاع الشمس في أقطار الأرض، يفتحون البلاد، ويفتحون قلوب العباد، ويدعون إلى التوحيد، ويحطمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة، وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجًا وهَاجًا، فإذا الباطل رماد بعد التهاب، وخمود بعد حركة. إنما التوحيد إيجاب وسلب ... فهما في النفس عزم ومضاء "لا" و"إلا" قوة قاهرة ... لها في النفس فعِلُ الكهرُباء وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يصور عشقه الحركةَ، وبغضه الجمود والكسل، ويمثل السكون بالماء الذي يتوقف عن الجريان فيفسد، ويجزم بأن الأسد قد تتعرض للهلاك لو لم تتحرك باحثة عن فريستها، وكذلك السهام لولا تحركها من الكنانة إلى القسي، ومن القسي إلى الهدف ما أصابت: إني رأيت وقوف الماء يفسده ... إن ساح طاب، وإن لم يجر لم يطب والأسْدُ لولا فراق الأرض ما افترست ... والسهم لولا فراق القوس لم يصب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة ... لملَّها الناس من عجم ومن عربِ

وهذا الشاعر الإسلامي "وليد الأعظمي" يهيب بالداعية أن يتحرك، ويحرك الآخرين، مبتدئًا بعشيرته الأقربين: كن مشعلاً فِي جُنْح ِليلٍ حالكٍ ... يهدي الأنامَ إلى الهدى ويُبيِّنُ وانشط لدينك لا تكن متكاسلًا ... واعمل على تحريك ما هو ساكنُ وابدأ بأهلك إن دعوتَ فإنهم ... أولى الورى بالنصح منك وأقْمَنُ والله يأمر بالعشيرة أوَّلًا ... والأمر من بعد العشيرة هَيِّنُ وهذا "القرضاوي" يجادل الخاملين، ويحاج الخامدين، ويوبخ الهامدين: قالوا: السعادة في السكون ... وفي الخمول وفي الخمود في العيش بين الأهل لا ... عيش المهاجر والطريد في المشي خلف الركب في ... دعة وفي خطو وئيد في أن تقول كما يقال ... فلا اعتراض ولا ردود في أن تسير مع القَطيع ... وأن تقاد ولا تقود في أن تصيح لكل وال: ... عاش عهدكم المجيد قلت: الحياة هي التحرك ... لا السكون ولا الهمود وهي الجهاد، وهل يجا ... هد من تعلق بالقعود؟ وهي التلذذ بالمتاعب ... لا التلذذ بالرقود هي أن تذود عن الحياض ... وأي حر لا يذود؟ هي أن تحس بأن كأس ... الذل من ماء صديد هي أن تعيش خليفة ... في الأرض شأنك أن تسود وتقول: لا، ونعم، إذا ما ... شئت في بصر حديد ***

الحركة قيامة وبعث للروح

الحَرَكة قِيَامَة وَبَعثٌ لِلرُّوحِ قال تعالى: {يا أيها المدثر* قم فأنذر}، وقال تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا}، وقال عز وجل في شأن أصحاب الكهف: {وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض}، فهذه القيامة الروحية، واليقظة القلبية من أوائل منازل الطريق، التي تستدعي الحركة في سبيل الدعوة: قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}. قال الكلبي: "حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه"، وتلا الحسن البصري قوله تعالى: {ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين} ثم قال: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله. وقال الوزير ابن هبيرة في قوله تعالى: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} وقوله عز وجل: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى}: (تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعدٍ في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق). [لا يكون المؤمن العامر القلب إلا متحركًا محركًا، أما المتباطئ

الذي يعد بالالتحاق بعد ما تظهر بوادر النجاح، فإنما يعد وعد الضعاف. صاح ما الحر من يثور على الظلم ... وقد ثارت لحقها الأقوام إنما الحر من يسير إلى الظلـ ... ـم فيصميه والأنام نيام فلا تؤجل الانضواء تحت لواء الحق، وإلا عضضت أسنة الندم: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا الجوشن الضبابي إلى الإسلام بعد بدر فقال له: (هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك"، فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الِإسلام حين دعاه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)] (¬1). فكن رائدًا، وأجب داعي الله، بلا تلكؤ، ولا تلعثم، ولا تردد، فهذا هو شأن المؤمنين: قال إبراهيم عليه السلام: "يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر"، قال: "فاصنع ما أمرك ربك"، قال: "وتعينني؟ "، قال: "وأعينك" (¬2). وقد كان الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ينادي في موسم الحج: "من يحملني حتى أبلغ رسالة ربي؟ "، وها هو - صلى الله عليه وسلم - يناشدك: "بلِّغوا عني، ولو آية"، ويدعو لمن يبلغ عنه: "نضَر الله امرءًا سمع منا شيئًا، ¬

_ (¬1) انظر "المنطلق" ص (191). (¬2) رواه البخاري.

فبلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامع"، ورُوي أنه كان يقول - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: "اللهم زينا بزينة الِإيمان، واجعلنا هداة مهتدين"، وقد أثنى الله عز وجل على عباد الرحمن الذين كان من دعائهم إياه: {واجعلنا للمتقين إمامًا} أي: نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا مَن بعدنا، سئل وهب بن منبه عن صفة المسلم فقال رحمه الله: "يقتدي بمن قبله، وهو إمام لمن بعده". نحن في ذي الحياة ركب سفار ... يصل اللاحقين بالماضينا قد هدانا السبيلَ من سبقونا ... وعلينا هداية الآتينا وهذا الغزالي رحمه الله يقول: (اعلم أن كل قاعدٍ في بيته أينما كان فليس خاليًا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق. وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه -فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية- أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم) (¬1) اهـ. وهذا شيخ الِإسلام ابن تيمية رحمه الله، يفسر قوله تعالى: {يا أيها ¬

_ (¬1) "الإحياء" (2/ 342).

المدثر * قم فأنذر} فيقول: (فواجب على الأمة أن يُبَلِّغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر، قال الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون} .. والجن لما سمعوا القرآن: {ولَّوا إلى قومهم منذرين} (¬1) اهـ. وهذا تلميذه الِإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله يقول: (وتبليغ سنته - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه) (¬2) اهـ. إن سناء الهمة في نشدان الكمال الممكن، ومنَ أراد المنزلة العليا القصوى من الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة الدنيا، واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن (¬3). إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع بالدون من كان دونا وليست هذه المنزلة العليا في الدنيا إلا منزلة الدعوة إلى الله، ووراثة وظائف النبوة، التي ليس أشرف منها إلا منزلة النبوة نفسها، وهذا الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى يناديك: ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (16/ 327). (¬2) "التفسير القيم" ص (431). (¬3) انظر: "المنطلق" ص (121).

(ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم) و (هل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر) اهـ. وها هو رحمه الله يقارن بين الشجعان الذين يخالطون الناس لدعوتهم، ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتزلين القاعدين عن الدعوة إلى الله تعالى، فيقول: (الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض. إلا أنها حالة الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام). وهذا الشيخ الداعية القدوة عبد القادر الكيلاني الذي [تكلم كثيرًا، وصاح بأهل العراق صيحات بليغة رفيعة المعنى والمبنى، وينتشل لنا أحد تلامذته من تلك الصيحات كلمات يدونها سريعًا والإمام يخطب خطبه الأسبوعية سنة 545 هـ، ويودعها كتابًا سماه (الفتح الرباني والفيض الرحماني) قد تجد فيه ما يجب رده، لكنه مملوء بصيحات الحق، والالتفاتات القيمة، والتشديد على وجوب الدعوة والأمر والنهي. فاسمع من صيحات الحق هذه قول عبد القادر رحمه الله أن: (المتزهد المبتدي في زهده يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي منهم، لا يهرب منهم، بل يطلبهم، لأنه يصير عارفًا لله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شيء، ولا يخاف من شيء سواه.

المبتدي يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبهم، كيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟ ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف. من كملت معرفته لله عز وجل صار دالاًّ عليه، يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا، يعطى القوة حتى يهزم إبليس وجنده، يأخذ الخلق من أيديهم. يا من اعتزل بزهده مع جهله: تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض تقدموا. خربوا صوامعكم واقربوا مني، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل، ما وقعتم بشيء، تقدموا) ... قال هذا رحمه الله وهو في الشيخوخة. وكذلك فهم العالم العامل، وإن كلماته ليهتز لها القلب اهتزازًا. تأمل قوله: (يا زهاد الأرض تقدموا، خربوا صوامعكم) خرب صومعتك أيها الهارب الذى ترزح تحت نير الأفكار الأرضية، وآراء طواغيت القرن العشرين. خذ مكانك في صفوف دعوة الإسلام] اهـ (¬1). ويستطرد الداعية المبدع الراشد محمد أحمد الراشد حفظه الله قائلًا: ¬

_ (¬1) "المنطلق" ص (114 - 115).

(ولا ينبغي للداعية أن يبتئس إن لم يجد فضل وقت لقيام الليل يوميًّا، والإكثار من ختمات القرآن، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجرًا، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها، ويبادئون الناس بالكلام، ويحتكون بهم احتكاكًا هادفًا، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم. هكذا كان شأن الدعاة دومًا، وعلى داعية اليوم أن يكون رحالة سائحًا في محلات مدينته، ومدن قطره، ييلغ دعوة الإسلام. انظر مثلًا كيف كانت رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الِإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، ألا ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أركان الِإسلام، فلما أخبره بها وقال: (لا أزيد عليهن ولا أنقص) كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: "يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ " (¬1). أتاهم رسوله داعيًا، وكذلك الناس تُؤتَى، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية، ولو فصَّلت كلمة هذا الأعرابى لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوم هذا، وكيف فارق أهله وبيته وأولاده، وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء، وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد، ليبلغ دعوة الِإسلام. وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها، لا بد من تحرك ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

ومبادأة وغدو ورواح وتكلم وزعم، ليس القعود والتمني من الطرق الموصلة، فافقه سيرة سلفك وقلدهم، تصل، وإلَّا، فراوح في مكانك، فإنك لن تبرحه .... ] (¬1) ويروي لنا التابعي الكوفي، الفقيه النبيل عامر الشعبي، أن رجالًا (خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبًا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: "ما حملكم على ما صنعتم؟ "، قالوا: "أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد"، فقال عبد الله: "لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا") (¬2). (كان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد، أو قيام بحق، أو اتباع للأمر: سأل عنه، وأحب أن يجرى بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله) (¬3). لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس، فالداعية يفتش عن الناس، ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده أو بيته، فإن الأيام تبقيه وحيدًا، ويتعلم فن التثاؤب (¬4). قالوا في التعريف بموسى بن حزام شيخ البخاري والترمذي: (إنه كان ثقة صالحًا، لكنه كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أعانه الله تعالى بأحمد بن حنبل، فانتحل السنة، وذبَّ عنها، وقمع من خالفها، مع لزوم الدين، حتى مات) (¬5). ¬

_ (¬1) "المنطلق" ص (119 - 120). (¬2) "كتاب الزهد" لابن المبارك ص (390). (¬3) "مناقب الإمام أحمد" ص (218). (¬4) "المنطلق" ص (127). (¬5) "تهذيب التهذيب" (10/ 341).

نماذج من حركة السلف في الدعوة إلى الله تعالى وحرصهم على هداية الخلق

نمَاذِج مِن حَرَكةِ السَّلَفِ فِي الدَّعَوةِ إلَى اللهِ تَعَالى وَحِرْصِهِم عَلَى هِدَايَةِ الخَلْقِ عن جعفر بن سليمان قال: (سمعت مالك بن دينار يقول: لو استطعت أن لا أنام؛ لم أنم مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعوانًا؛ لفرَّقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها: "يا أيها الناس: النارَ النارَ"). وعن إبراهيم بن الأشعث قال: (كنا إِذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ، ويذكر ويبكي، حتى لكأنه يودِّع أصحابه ذاهب إلى الآخرة، حتى ييلغ المقابر، فيجلس فكأنه بين الموتى، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها). وعن شجاع بن الوليد قال: (كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا). والإمام الزهري "لم يكتف بتربية أجيال وتخريج أئمة في الحديث، بل كان ينزل إلى الأعراب، يعلمهم". وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي، شقيق أبي حامد الغزالي رحمهما الله كان "يدخل القرى والضياع، ويعظ لأهل البوادي، تقربًا إلى الله" اهـ.

ومن نماذج حرصهم على تعليم الناس العلم الشريف:

أما الشيخ أبو إسحاق الفراري رحمه الله: فقد "كان رجل عامة، وهو الذي أدَّب أهل الثغور الإسلامية التي في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلَّمهم سنن النبي - صلى الله عليه وسلم-، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه". وأما الشيخ الزاهد الفقيه محمد بن أحمد الدباهي: فقد (لازم العبادة، والعمل الدائب والجد، واستغرق أوقاته في الخير، صَلْبٌ في الدين، وينصح الإخوان، وإذا رآه إنسان؛ عرف الجد في وجهه). وعلى الفتى لطباعه ... سمةٌ تلوح على جبينه وأما الِإمام الجليل الخِرقي صاحب "المختصر" فقد قال الِإمام ابن قدامة رحمه الله: (وسمعت من يذكر أن سبب موته، أنه أنكر منكرًا بدمشق، فضرب، فكان موته بذلك). وَمِنْ نمَاذِج حِرْصِهِمْ عَلَى تَعْلِيم النَّاسِ العِلْمَ الشَّرِيف: ما رواه جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز، وقال في كتابه: "ومُرْ أهل الفقه من جندك، فلينشروا ما علمهم الله في مساجدهم ومجالسهم، والسلام". وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: "إن أوثق عملي في نفسي نشري العلم"، وعطاء بن أبي رباح مفتي مكة هو القائل: "لأن أرى في بيتي شيطانًا؛ خير من أن أرى فيه وسادة، لأنها تدعو إلى النوم". وقال الإمام ربيعة الرأي رحمه الله: "لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يُضَيِّع نفسه".

قال الحافظ في "الفتح": ومراده أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم، لا ينبغي له أن يهمل نفسه، فيترك الاشتغال، لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم، أو مراده: الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك، فيؤدي إلى رفع العلم، أو مراده: أن يُشهر العالم نفسه، ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه) (¬1) اهـ. ووصَّى ابن القاسم عيسى بن دينار، فقال له: "عليك بأعظم مدائن الأندلس، فانزلها، ولا تنزل منزلًا يضيع ما حملت من علم". ... ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (1/ 178).

مخاطرتهم بأنفسهم في نصرة الدين

مُخاطرتهمْ بأَنفُسِهِمْ في نُصْرَةِ الدِّينِ إن الداعية الكبير الهمة يفاصل الباطل مفاصلة حاسمة، ويرفض الالتقاء به في منتصف الطريق، لسان حاله يقول: كان العيش المتصالح ممكنًا لي: ولكنهم ركبوا مَسْلَكًا ... يَحيد عن الجَدَدِ المشرقِ وقد ملك الأمرَ منهم رجالٌ ... يخالف منطقهُم منطقي نأوا عن هدى الله في نهجهم ... وساروا، وسرت، فلم نلتقِ (¬1) إنه على بصيرة من دينه، واثق من منهجه، موقن برسالته، ولو خالفه أهل الأرض قاطبة: قال سليمان الداراني: "لو شك الناس كلهم في الحق، ما شككت فيه وحدي" إنه يفترض حينئذ أنه خلق وحده، وكُلِّف بالحق وحده، وأنه سيحاسب عليه وحده. وعن حزم بن أبي حزم قال: قال عمر بن عبد العزيز في كلام له: "فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي، كان في الله يسيرًا". إنه يعلم أن طريق الدعوة (طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب، لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال، ولا تقدر على مواصلة السير فيه النفوس المريضة المترهلة ممن أصابها وهن العزيمة ونضب وقود الإيمان فيها .. هذا الطريق هو طريق ¬

_ (¬1) "المنطلق" ص (177).

الأنبياء، فيه تعب آدم، وناح لأجله نوح، ورُمِيَ في النار الخليل، وأضْرِجَ للذبح إسماعيلُ، وبيع يوسف بثمن بخس، وقاسى المرضَ أيوب، وكذا سيرة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين) (¬1). إن من خصائص الداعية الكبير الهمة أنه لا يترخص في السكوت عند قوة أهل الفجور وأذاهم، لأنه يرى أن الترخيص هنا من شأن العامة من المستضعفين، وأما الدعاة، والقادة، والعلماء، فيتمسكون بالعزيمة، ويصدعون بالحق، وإن لحقهم الأذى والعذاب والموت، وقد تجسَّد هذا المعنى جليًّا في موقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى من محنة القول بخلق القرآن، وهاك طرفًا منها كما يحكيه ابنه صالح: قال صالح: قال أبي: (لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم، وقال: ائتوني بغيِرها، ثم قال للجلادين: "تقدموا"، فجعل يتقدم إليَّ الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له: "شد، قطع الله يدك! "، ثم يتنحى، ويقوم الآخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: "شد، قطع الله يدك! "، فلما ضُربت تسعة عشر سوطًا قام إليَّ، يعني المعتصم: وقال: "يا أحمد علام تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق"، قال: فجعل عُجيْف ينخسني بقائمة سيفه، وقال: "أتريد أن تغلبَ هؤلاء كلهم؟ "، وجعل بعضهم يقول: "ويلكَ، الخليفة على رأسك قائم! "، وقال بعضهم: "يا أمير المؤمنين، دمُه في عنقي، اقتله! "، وجعلوا يقولون: "يا أمير المؤمنين، أنت صائم، وأنت في الشمس قائم! "، فقال لي: "ويحك يا أحمد، ما تقول؟ "، فأقول: "أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقول به"، فرجع ¬

_ (¬1) "بصائر تربوية" ص (135).

وجلس، وقال للجلَّاد: "تقدم وأوْجِع، قطع الله يدكَ! "، ثم قام الثانية، فجعل يقول: "ويحك يا أحمد، أجبني"، فجعلوا يقبلون علي ويقولون: "يا أحمد، إمامك على رأسك قائم! " وجعل عبد الرحمن يقول: "مَن صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ " وجعل المعتصم يقول: "ويحك، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أُطْلِقَ عنك بيدي"، فقلت: "يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله"، فيرجع، وقال للجلادين: "تقدموا"، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: "شد، قطع الله يدك! " قال أبي: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقتْ عني، فقال لي رجل ممن حضر: "إنا كَببْناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية ودُسْناك! "، قال أبي: فما شعرت بذلك، وأتوني بسَوِيق فقالوا لي: "اشرب وتقيأ"، فقلت: "لا أفْطِر"، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سَمَاعة فصلَّى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: "صليتَ والدم يسيل في ثوبك؟ "، فقلت: "قد صلى عمر وجرحه يَثْعَبُ دمًا". قال صالح: ثم خُلي عنه فصار إلى منزله، وٍ كان مكثه في السجن، منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخُلي عنه، ثمانية وعشرين شهرًا. ولقد أخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه، قال: يا ابن أخي، رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحدًا يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يُوَجه إلينا بالطعام: "يا أبا عبد الله، أنت صائم، وأنت في موضع تَقِيَّةٍ" (¬1)، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب: ¬

_ (¬1) علَّق العلامة أحمد شاكر رحمه الله هنا قائلًا: (التقية إنما تجوز للمستضعفين الذين=

"ناولني"، فناوله قدحًا فيه ماء وثلج، فأخذه ونظر إليه هنيَّةً، ثم ردَّه ولم يشرب! فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش، وهو فيما هو فيه من الهول! (¬1)، وعلَّق الإمام أبو الفرج بن الجوزي على موقف الإمام أحمد رحمه الله قائلاً: (هذا رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى فبذلها، كما هانت على بلال نفسه، وقد روينا عن سعيد بن المسيب: "أنه كانت نفسه عليه في الله تعالى أهون من نفس ذباب"، وإنما تهون أنفسهم عليهم لتلمحهم العواقب، فعيون البصائر ناظرة إلى ¬

_ =يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس، هؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة. أما أولوا العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون. ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذا تقية. وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق، لا يصدعون بما يؤمرون، يجاملون في دينهم وفي الحق، لا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعًا، أو خافوا منه ضرًّا، في الحقير والجليل من أمر الدنيا. وكل أمر الدنيا حقير. فكان من ضعف المسلمين بضعف علمائهم ما نرى. ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين، فيما كتب إلى أبي رحمه الله، من خطاب سياسي عظيم، في جمادى الأولى سنة 1337، قال: "كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك، ولست أدري وقد فهموا منها ما فهموا، كيف يقولون بوجوب الجهاد، وهو إتلاف للنفس والمال؟! وكيف يفهمون تعرضه - صلى الله عليه وسلم - لصنوف البلاء والإيذاء؟! ولماذا يؤمنون بكرامة الشهداء والصابرين في البأساء والضراء على الله"؟!) اهـ. من "ترجمة الإمام أحمد" للذهبي هامش ص (49 - 50). (¬1) "ترجمة الإمام أحمد" للحافظ الذهبى، ص (48 - 50).

المآل، لا إلى الحال، وشدة ابتلاء أحمد دليل على قوة دينه، لأنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يبتلى المرء على حسب دينه"، فسبحان من أيده وبصَّره وقواه ونصره) اهـ. قال ابن طاهر المقدسي الحافظ: سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول: "عُرِضْتُ على السيف خمس مرات، لا يقال لي: ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت" (¬1). إن الداعية الكبير الهمة لا ينكر المنكر فحسب، بل ينكر على أهل النكر منكرهم، أي أنه لا يعرف التعميم، ولا التورية إنه يمد أصبعه يشير إلى الطاغوت بالاتهام، ويرفع صوته يعلن فضيحة الكفر الذي أمامه، باسمه، ورقمه، وعنوانه، ثم لا يلبث الإصبع الواحد حتى تنفتح معه بقية الخمس، فتكون يد التغيير من بعد إصبع الاتهام (¬2). وقال الذهبى في ترجمته لأبي بكر النابلسي: قال أبو ذر الحافظ: سَجَنه بنو عُبيد، وصلبوه على السنَّة، سمعتُ الدارقطنَّي يذكره ويبكي، ويقول: كان يقول، وهو يُسْلَخ: {كان ذلك في الكتاب مسطورًا} قال أبو الفرج بن الجوزي: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرةُ أسهم، وجب أن يرميَ في الروم سهمًا، وفينا تسعة، ¬

_ (¬1) "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 207). (¬2) "المنطلق" ص (198).

قال: ما قلت هذا، بل قلت. إذا كان معه عشرةُ أسهم، وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضًا، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية فشهَرهُ ثم ضربه ثم أمير يهوديًّا فَسلخَه، وقال ابن الأكفاني: "سُلِخ، وحُشِي تِبْنًا، وصُلِب"، وقيل: (سُلِخ من مفرِقِ رأسه حتى بلغ الوجه، فكان يذكر الله، ويصبر حتى بلغ الصدر، فرحمه السَّلَّاخ، فوكزه بالسكين موضع قلبه، فقضى عليه، وقيل، "لما سُلِخ كان يسمع من جسده قراءة القرآن" (¬1). الداعية الكبير الهمة (ينظر إلى غالبه من علٍ ما دام مؤمنًا، ويستيقين أنها فترة وتمضي، وأن للإيمان كرة لا مفر منها، وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأسًا، إن الناس كلهم يموتون، أما هو فيستشهد .. ) (¬2). وقال الشيخ العمرى الزاهد: (إن من غفلتك عن نفسك، وإعراضك عن الله، أن ترى ما يُسِخطُ الله فتتجاوزه، ولا تأمر فيه، ولا تنهى عنه، خوفًا ممن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا (¬3))، وحكى الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن الحُبُلي قاضي برقة أنه (أتاه الأمير، فقال: "غدًا العيد"، قال: "حتى نرى الهلال، ولا أُفَطِّرُ الناسَ، وأتقلَّدُ إثمهم"، فقال: "بهذا جاء كتاب المنصور" -وكان هذا من رأي العبيدية، يُفَطِّرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية- فلم يُرَ هلال، فأصبح الأمير بالطول والبنود وأهْبَةَ العيد، فقال القاضي: "لا ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (96/ 148). (¬2) "معالم في الطريق" ص (168). (¬3) "الجواب الكافي" ص (44).

أخرج، ولا أصلي"، فأمر الأمير رجلًا خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه، فَأُحْضِرَ، فقال له: "تَنَصَّلْ، وأعفو عنك"، فامتنع، فأمر، فَعُلِّقَ في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث العطش، فلم يُسْقَ، ثم صلبوه على خشبة، فلعنة الله على الظالمين) اهـ (¬1). يقول إقبال: ليس يدنو الخوفُ منه أبدًا ... ليس غيرَ الله يخشى أحدا لحنه في القلب نارًا أشعلا ... من قيود الزوج والولد خلا معرض عما سوى الله الأحد ... يضع السكين في حلق الولد وهذا الشاعر "وليد الأعظمي" ينشد في "أغاني المعركة": مهما تمطى ليلنا الأسودُ مهما استبد الظالم "السيد" مهما عتا الأقزام والأعبدُ ولوَّحوا بالقيد أو هددوا عن نصرة الإسلام هل نقعدُ كلا، سنبقى دائمًا ننشدُ بفجره لابد أن يأتي الغدُ ... آخر: نحن عصبة الإله ... دينُه لنا وطن نحن جند مصطفاه ... نستخف بالمحن الداعية المسلم: لا أرض تحده، ولا العذاب يرهبه. ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (5/ 374).

إنه يعمل أني هاجر وطرد، لا يعشق ترابًا، ولا يضيق ضمن حدود أوهم الاستعمارُ غيرهم أنها حدودهم، ويتآخى مع كل بني الإسلام، فإن لم تكن الهجرة وكان السجن، كان سجنه سياحة لروحه وفكره، وإذا شنق كان هبوط الحبل به علوًّا ينقله إلى منزل جميل كريم (¬1). خذوا كل دنياكم واتركوا ... فؤادي حرًّا وحيدًا غريبا فإني أعظمكم دولة ... وإن خلتموني طريدًا سليبا ... ¬

_ (¬1) انظر: "المنطلق" ص (221 - 222).

البركة .. في السعي والحركة

البَرَكة .. في السَّعْي وَالحَركةِ بالرغم من التحفظات على فكر ومنهج جماعة التبليغ، إلا أننا نقر بأنها أوفر الجماعات الإسلامية حظًّا من علو الهمة في الحركة الواسعة الدءوب، ولهم في ذلك إنجازت رائعة أثمرت إسلامَ كثيرٍ من المشركين، وهداية الكثير من الفاسقين، وتبليغ دين الله في آفاق المعمورة. حكى من شهد مجلسًا لهم قال: (جلسنا يومًا في المسجد للتعارف، فقال شيخ وقور يُعرف نفسه، وقد جاوز السبعين من عمره: "اسمي الحاج وحيد الدين، أعمل في التجارة، وعمري الآن تسع سنوات! "، فاستغربنا، وقلنا له في دهشة: "تسع سنوات؟! "، قال: نعم، لأنني أحسب عمري من تاريخ دخولي في هذه الدعوة، أما قبل ذلك فإني أعتبر عمري ضائعًا .. !)، وكان هذا الرجل إذا وقف ليلقي موعظته يقول: "لا تضيعوا أعماركم مثلي، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تعالى". وقد حدث أن سألنا أميرهم: "لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟ "، قال: "أرأيتم إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له؟ "، قلنا: "إن كان مرضه ثقيلًا نحضر له الطبيب في المنزل، وأما إذا كان مرضه خفيفًا، فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب"، قال: "فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد مرضهم الإيماني ثقيل، فنحن نذهب

إليهم") (¬1). وسمعت بعض مشائخهم يحكي موقفًا تعرض له، إذ خرج للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبية، واستهدف رجلاً مسلمًا كان يجالس امرأة وهو يشرب الخمر، فوعظه، ونصحه، وذكره بالله، حتى لان قلبه، ودمعت عيناه، فأخذ بذراعه ليقوده إلى المسجد، وأخذت المرأة بذراعه الآخر، تنازعه فيه، وكانت الغلبة له بعد تجاذب شديد من الطرفين، وأتى به إلى المسجد، وعلَّمه كيف يتطهر، ويصلي، ثم تاب، وحسنت توبته. وهم يجتهدون في "ابتكار" الحيل الخيرية لجذب الناس إلى الدين، كذلك التبليغي الذى أراد دعوة طبيب مشهور، فدفع قيمة الفحص، ولما جاءت نوبته دخل عليه، فتهيَّأ الطبيب لفحصه، فإذا به يخبره أنه ليس بمريض، وإنما رغب أن يذكِّره بالله، وينصحه في الدين، وراح يفعل ذلك، حتى رق قلب الطبيب، وتأثر بموعظته، وأراد أن يرد عليه قيمة الكشف، فأبى قائلاً: "هذه قيمة ما استغرقته من وقتك" ... ومن ذلك: أنه لما صعد الإنسان إلى القمر، قال أحدهم: "ولو صعد الناس إلى القمر، وتحول بعض منهم عن الأرض، لنرسلنَّ وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله، وتصعد إلى القمر لتدعوهم". ويقول الأستاذ الراشد حفظه الله: (حركة التبليغ أجادت غرس الثقة في دعاتها، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع، وآخرون يأمرون إخوانهم بضم الرأس، ويقولون لفتى الصحوة: "أنت في خندق، ¬

_ (¬1) "لطائف من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف" ص (188).

احترس، وأتقن الاختباء!! " (¬1) اهـ. * وهذا أخ مؤذن يأسف ويحزن حزنًا شديدًا، إذ بلغه أن برج ساعة "بيج بن" الشهيرة في لندن قد مال، وإنه مهدد بالانهيار، فلما سئل عن سر أسفه وحزنه قال: "ما زلت أؤمل أن يُعِزَّ الله المسلمين، ويفتحوا بريطانيا، وأصعد على هذا البرج كي أؤذن فوقه". * وأعرف أخًا أمريكيًّا من أصل أسباني ممن أسلم لله، وحَسُن إسلامه يعيش مع زوجته الأمريكية التي أسلمت أيضًا في مدينة "نيويورك"، وقد انتدب نفسه للدعوة إلى الله، فيخرج هو وزوجته، ويقفان أمام الكنيسة، ليلتقط روادها من الرجال، ويدعوهم إلى الإسلام، وكذلك تفعل زوجته مع النساء، وذلك كلَّ أحَدٍ. * وأعرف أخًا يعيشى في "ألمانيا" أحسبه -والله حسيبه- مجتهدًا في الدعوة إلى الله غاية الاجتهاد، حتى لا يكاد يذوق طعمًا للراحة، وقد استحوذت الدعوة على كل كيانه، حتى أرهق نفسه، وشُغل عن بيته وأهله وولده، فرأى إخوانه أن يُمنح عطلة إجبارية، وذهبوا به صحبة أسرته إلى منتجع ناءٍ لا يعرفه فيه أحد، ولا يعرف فيه أحدًا، كي يهنأ ببعض الراحة، وواعدوه أن يعودوا لإرجاعه بعد أيام، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسس جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلتهم بالدين، ففتش عنهم في مظانِّ وجودهم، ودعاهم إلى طاعة الله سبحانه، وألَّف بينهم، وأقاموا مسجدًا كان فيما بعد منطلقًا للدعوة إلى الله في تلك البلدة. ¬

_ (¬1) "صناعة الحياة" ص (60).

إنها "الحركة" سر شيوع دعوة الإسلام المباركة في أرجاء الدنيا، ينطلق بها جنود لا يعلمهم إلا الله {وما يعلم جنود ربك إلا هو}. ويلفتنا الأستاذ محمد أحمد الراشد -حفظه الله تعالى- إلى ميزان غريب نقيس به تلك "الحركة الحياتية- المتفجرة". (وقد كنتُ في الأيام الخوالي ألاطِفُ إخواني فأفتش عن أحذيتهم، ليس على نظافتها، وصبغها، ورونقها، كالتفتيش العسكري، بل على استهلاكها، وتقطعها، والغبار الذي عليها، وأقْلِبها فأرى النعل، فمن كان أسفل حذائه متهرئًا تالفًا فهو الناجح، وأقول له: "شاهدك معك: حذاؤك يشهد لك أنك تعمل، وتغدو في مصالح الدعوة وتروح، وتطبق قاعدة: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين}، وبكثرة حركتك تلف حذاؤك، فأنت المجتاز المرضي عندي". قال "صباح": (قد والله بعد عشرين سنة يأخذني تأنيب الضمير كلما رأيت حذائي لا غبار عليه، وأتذكر ذاك التفتيش) (¬1). ... ¬

_ (¬1) "السابق" ص (112).

الفاسق ضالة الداعية

الفَاسِقُ ضَالَّة الداعيَةِ وفيما يلي قصة واقعية تبرز قيمة عنصر "المبادرة" و"المبادأة"، و"الحركة" إلى مواقع يندر مَن يتأهل لاقتحامها، بحثًا عن هذه الضالة المنشودة، حكاها الشيخ علي الطنطاوي، وهي قصة توبة حدثت في "مرقص" فقال، وفقه الله: [دخلت أحد مساجد مدينة "حلب" فوجدت شابًّا يصلي فقلت: سبحان الله إن هذا الشاب من أكثر الناس فسادًا: يشرب الخمر، ويفعل الزنا، ويأكل الربا، وهو عاق لوالديه، وقد طرداه من البيت، فما الذي جاء به إلى المسجد؟!، فاقتربت منه وسألته: "أنت فلان؟!! "، قال: "نعم" ... قلت: "الحمد لله على هدايتك .. أخبرني كيف هداك الله؟؟ "، قال: "هدايتي كانت على يد شيخ وَعَظَنا في مرقص" .. قلت مستغربًا: "في مرقص؟!! "، قال: "نعم ... في مرقص" .. ، قلت: "كيف ذلك؟! "، قال: "هذه هي القصة" .. فأخذ يرويها، فقال: (كان في حارتنا مسجد صغير ... يؤم الناسَ فيه شيخ كبير السن ... وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم: "أين الناس"! .. ما بال أكثر الناس وخاصة الشباب لا يقربون المسجد، ولا يعرفونه؟!! " .. فأجابه المصلون: "إنهم في المراقص والملاهي" .. قال الشيخ: "وما هي المراقص والملاهي؟!! " رد عليه أحد المصلين: "المرقص صالة كبيرة فيها

خشبة مرتفعة تصعد عيها الفتيات عاريات أو شبه عاريات يرقصن والناس حولهن ينظرون إليهن" ... فقال الشيخ: "والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟ "، قالوا: "نعم" .. قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله .. هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس .. قالوا له: "يا شيخ .. أين أنت .. تعظ الناس وتنصحهم في المرقص؟! " قال: "نعم ... "، حاوَلوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيواجَهون بالسخرية والاستهزاء، وسينالهم الأذى فقال: "وهل نحن خير من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟! "، وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص .. ، وعندما وصلوا إليه سألهم صاحب المرقص: "ماذا تريدون؟!! " قال الشيخ: "نريد أن ننصح من في المرقص"، تعجب صاحب المرقص ... وأخذ يمعن النظر فيهم، ورفض السماح لهم ... فأخذوا يساومونه ليأذن لهم، حتى دفعوا له مبلغًا من المال يعادل دخله اليومي ... وافق صاحب المرقص .. وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي). قال الشاب: (فلما كان الغد كنت موجودًا في المرقص .. بدأ الرقص من إحدى الفتيات .. ولما انتهت أسدل الستار ثم فتح .. فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة، وحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أن ما يرونه هو فقرة فكاهية .. فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم أخذوا يسخرون منه، ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء، وهو لا يبالي بهم .. واستمر في نصحه ووعظه حتى قام أحد الحضور، وأمرهم بالسكوت والإنصات حتى يسمعوا

ما يقوله الشيخ .... قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلامًا ما سمعناه من قبل ... تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصًا لتوبة بعض الصالحين، وكان مما قاله: "أيها الناس .. إنكم عشتم طويلًا وعصيتم الله كثيرًا .. فأين ذهبت لذة المعصية؟ لقد ذهبت اللذة، وبقيت الصحائف سوداء ستُسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى .. أيها الناس ... هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟ إنكم لا تتحملون نار الدنيا، وهي جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم فكيف بنار جهنم .. بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان ... ". قال: فبكى الناس جميعًا .. وخرج الشيخ من المرقص، وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب، وندم على ما كان منه .. ) اهـ (¬1). ... ¬

_ (¬1) نقلاً عن "العائدون إلى الله" ص (73 - 76).

وللآخرين حركة في نصرة الباطل!

وَللآخِرينَ حَرَكة في نُصرَةِ البَاطَلِ! لئن كان سعى الدعاة وحركتهم في نصرة الدين من آثار علو همتهم، ولئن كان نشر مناقبهم وإذاعة أخبارهم من أسباب إيقاظ الغافلين، فإنه قد ينضم إلى هذه الأسباب تقريعُ النائمين والسادرين في الغفلة بأن نذكر لهم حركة أهل الباطل في الانتصار لباطلهم، وبذلهم في سبيل إطفاء نور الِإسلام، وهيهات هيهات {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}. قال سبحانه: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد}، وقص عن قوم إبراهيم أنهم قالوا: {حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين}، وقال في شأن الكافرين: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}، وقال: {وترى كثيرًا منهم يسارعون في الِإثم} وقال أيضًا: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر}. فهي حركة مذمومة مشئومة تعود عليهم بالوبال والنكال، وحبوط الأعمال، قال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}، وقال سبحانه: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة}، وقال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة

الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}، وقال عز وجل: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا}. إن حبوط أعمال الكافرين، راجع إلى فقدانهم الإيمان، قال تعالى: {أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم}، كما أن حركتهم كانت وبالًا عليهم، لأنها كانت إما في طلب الدنيا: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوَفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون}، وإما أنها كانت لصد الناس عن دين الله: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم}، وقال تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}. ومع هذا كله، فإن الله سبحانه واسى أهل الإيمان وعزاهم فيما يلقون من الألم والضنى والكلال، بقوله عز وجل: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليمًا حكيمًا}، فليس المؤمنون وحدهم الذين يحتملون الألم والقرح، إن أعداءهم كذلك يتألمون، وينالهم القرح واللأواء، ولكن شتان بين المؤمنين الذين يتوجهون إلى الله بجهادهم، ويرتقبون عنده جزاءهم، وبين الكافرين الذين هم حيارى تائهون، ضائعون مضيَّعون، لا يتجهون لله، ولا يرتقبون عنده شيئًا في الحياة، ولا بعد الحياة. فإذا كانوا مع ذلك يصرون ويدأبون في محاربة الحق، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا أشد إصرارًا وصبرًا، وما أجدرهم كذلك أن لا

يكفوا عن ابتغاء القوم، وتطلبهم، وتعقب آثارهم، حتى لا تبقى لهم قوة، وحتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله! إن هذا المعنى هو عين ما نقصده مما سنذكره -فيما يلي إن شاء الله- من سعي الكافرين ودأبهم في تحصيل الدنيا، أو في الصد عن سبيل الله تعالى، بجانب معنى ثانٍ أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - فيما رُوي عنه من قوله: "ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها" (¬1)، وأشار إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله. عنه حين شكا إلى الله تعالى: "جَلَدَ الفاجر، وعجزَ الثقة"، وأشار إليه أحمد بن حرب في قوله: "يا عجبا لمن يعرف أن الجنة تُزَيَّن فوقه، والنار تُسَعَّرُ تحته، كيف ينام بينهما؟ ". ومعنى ثالث هو: استثارة الشعور بالاستحياء من الله جل جلاله في قلوب جند الله المسلمين حين يرون مَن لا خلاق لهم عند الله يكدحون ويضحون لنصرة باطلهم، ويوفون مع إمامهم إبليس بالعهد الذي قطعه على نفسه: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}، في حين يتباطأ كثير من المسلمين عن نصرة دين الحق مع أنهم عاهدوا الله على الانقياد لشرعه: {واذكروا عهد الله وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا}. ... ¬

_ (¬1) رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (953).

هلم فلنستحي من الله!

هَلُمَّ فَلنَستَحي مِنَ الله! نعرض -فيما يلي- نماذج من حركة بعض الكافرين في سبيل الدنيا، أو خدمة أوطانهم، أو الدعوة إلى ملتهم، عسى أن يستحيي المقصرون منا فى حق دينهم وأمتهم المسلمة، ويروا أنفسهم أحرى وأجدر بمعالي الأمور. * هذا "هيوستن" يقف (في حدود سنة 1830 أمام الكونجرس الأمريكي، ويخطب خطبة بليغة لم يستعمل فيها كلمة مرتين، فسحر ألباب الرجال الذين أمامه، وكان قد نجح لتوِّه في تسكين ثائرة الهنود الحمر وجَلْبِهم إلى توقيع اتفاقات مع الحكومة، فاستدعاه الرئيس الأمريكي آنذاك وقال له: "إن تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكا متعلق بها، ولا بد من ضمِّها، وأريدها منك". فقال هيوستن: "نعم أنا لها، زودني بمال ورجال". قال الرئيس: "لو كان عندي مال ورجال ما دعوتك، بل تذهب منفردًا وبلا دولار واحد، وأبعثُ معك حارسًا حتى تعبر نهر المسيسبي، ويعود". ومع ذلك قبل المهمة، وودَّعه الحارس على ضفة النهر، واندفع نحو تكساس، فلما دخل أول مدينة بها فتح له مكتب محاماة، فكان المدعي في المحكمة يخرج متهمًا والمتهم بريئًا، لبلاغة وقوة لسانه، حتى انبهر به الناس، فلاثوا به، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم، وغرس فيهم معنى

ضرورة الاستقلال عن المكسيك، وأنشأ حركة قوية أتمت الاستقلال، ثم غرس معنى وجوب الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت طواعية بالقناعات التي غرسها هيوستن، وجاء بعد سنوات قليلة إلى الرئيس الأمريكي، وسلمه مفتاح تكساس، إذ لم تطلق طلقة أمريكية ولم يصرف دولارًا، فشكره الرئيس، وخلَّدوا عمله بإطلاق اسمه على مدينة "هيوستن" التي هي الآن من أهم مدن أمريكا، وعاصمة النفط فيها) اهـ (¬1). وهاك مثالًا آخر حكاه الدكتور توفيق الواعي حفظه الله، قال: * "أرسلت الدولة اليابانية في بدء حضارتها بعوثًا دراسية إلى ألمانيا. كما بعثت الأمة العربية بعوثًا، ورجعت بعوث اليابان لتحضِّر أمتها، ورجعت بعوثُنا خاويةَ الوفاض!! فما هو السر؟ لنقرأ هذه القصة حتى نتعرف على الإجابة". يقول الطالب الياباني "أوساهير" الذي بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا: لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذى ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركًا صغيرًا؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى "موديل" هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفتَ كيف تُصنع، وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها، وبدلًا من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونني كتبًا لأقرأها، وقرأت ¬

_ (¬1) "صناعة الحياة" ص (88 - 89).

حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك، أيًّا كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يُحَل، وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي، وجدت في المعرض محركًا قوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلًا جدًّا، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركًا كهذا لغيرت تاريخ اليابان، وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتَّى، مغناطيس كحذوة الحصان، وأسلاك، وأذرع دافعة، وعجلات، وتروس وما إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك، وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغَّلتُه فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر "موديل" الصناعة الأوروبية، وبحثت في رفوف الكتب التي عندي، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقًا كثيرًا، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل، رسمت المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة، وأعطيتها رقمًا، وشيئًا فشيئًا فككته كله، ثم أعدت تركيبه، وشغلته فاشتغل، كان قلبي يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل. وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: "حسنًا ما فعلت، الآن لا بد

أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل"، وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد. بعد ذلك قال رئيس البعثة الذي كان يتولى قيادتي روحيًّا ... قال: "عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركًا، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألومنيوم، بدلًا من أن أعد رسالة الدكتوراة كما أراد مني أساتذتي الألمان، تحولت إلي عامل ألبس بذلة زرقاء وأقف صاغرًا إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء، قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة. وعلم "الميكادو" "الحاكم الياباني" بأمري فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب، اشتريت بها أدواتِ مصنعِ محركاتٍ كاملة، وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته، وعندما وصلت إلى "نجازاكي" قيل لي: إن "الميكادو" يريد أن يراني، قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملًا، استغرق ذلك تسع سنوات، وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي

عشرة محركات (صنع في اليابان)، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ودخل "الميكادو" وانحنينا نحييه وابتسم، وقال: "هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا ملكنا "الموديل" وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب" (¬1)) اهـ. وحدث من عايش الطلاب اليابانيين الذين يبتعثون إلى أمريكا عن أحوالهم، فقال: (ربما يلبثون في مكتبة الجامعة إلى نصف الليل، وربما نام أحدهم وهو جالس على كرسيه، ويواصل الدراسة في اليوم الثاني من غير ذهاب للبيت). قال الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله: (شفعت مرة لداعية أن يقبله الأستاذ فؤاد سزكين طالبًا بمعهده في فرانكفورت معهد تاريخ العلوم الإسلامية، فاشترط الأستاذ سزكين أن يشتغل الطالب ست عشرة ساعة يوميًّا، فرفض، ثم أراني الأستاذ سزكين من بُعْد عددًا من الطلاب اليابانين في معهده، وقد انكبُّوا على المخطوطات العربية يدرسونها، ويبعثونها إلى الحياة، وقد رضوا بهذا الشرط، فتأمل) (¬2) اهـ. وقال د. عبد الودود شلبي في كتابه "في محكمة التاريخ": (أذكر أنني ترددت كثيرًا جدًّا على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: ¬

_ (¬1) مجلة "المجتمع"، العدد (998) نقلًا عن "الهمة طريق إلى القمة" ص (32 - 38). (¬2) "صناعة الحياة" ص (111).

"أيها المبشر الشاب: نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، كل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ فقير، أجرك كله ستجده عند الله إذا أدركك الموت، وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء"). (وهذه الكلمات حرَّكت كثيرًا من جند الشيطان المبشرين بالنيران، من حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة وغيرها من التخصصات للذهاب إلى الصحاري القاحلة التي لا توجد فيها إلا الخيام، والمستنقعات المليئة بالنتن والميكروبات، والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب، ودون منصب، ولو أراد أحدهم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل هذا من أجل الباطل الذي يعتقد صحته) (¬1) اهـ. وحكى لي بعض الشباب المسلمين في "ألمانيا" أنه منذ الصباح الباكر ينتشر دعاة فرقة "شهود يهوه" في الشوارع وينطلقون إلى البيوت، ويطرقون الأبواب للدعوة إلى عقيدتهم، وحدثني أحدهم أن فتاة ألمانية منهم طرقت بابه في السادسة صباحًا، فلما علم أن غرضها دعوته إلى عقيدتها، بيَّن لها أنه مسلم، وأنه ليس في حاجة إلى أن يستمع منها، فظلت تجادله وتلح عليه أن يمنحها ولو دقائق "من أجل المسيح"! فلما رأى إصرارها أوصد الباب في وجهها، ولكنها أصرت على تبليغ عقيدتها، ووقفت تخطب أمام الباب المغلق قرابة نصف ساعة تشرح له عقيدتها، وتغريه باعتناق دينها!! فما بالنا معشر المسلمين يجلس الواحد منا شبعان متكئًا على أريكته، إذا طُلِب منه نصرة دين الحق، أو كلف بأبسط المهام، أو عوتب لاستغراقه في اللهو والترفيه، انطلق كالصاروخ ¬

_ (¬1) "المصفى من صفات الدعاة" (2/ 174).

مرددًا قوله - صلى الله عليه وسلم-: "يا حنظلة ساعة وساعة" كأنه لا يحفظ من القرآن والسنة غيره، يقول الأستاذ الراشد حفظه الله: [يقف الداعية يؤذن في الناس، ولكن أكثر الناس نيام، ويرى جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لإمرار خطتهم، فإذا التفت رأى الأمين المسلم سادرًا غافلًا، إلا الذين رحمهم ربهم، وقليل ما هم، ويعود ليفرغ حزنه، في خطاب مع نفسه: تبلَّدَ في الناس حِسُّ الكفاح ... ومالوا لكسبٍ وعيش رتيب يكاد يزُعزع مِن همتي ... سُدورُ الأمين، وعزمُ المريب ويتهم نفسه أنه لم يكن بليغًا في ندائه، ولكن سرعان ما يُحسُّ أنه قد حاز البلاغة من أقطارها، فيعود يسلي نفسه، ويجمل عزاءه: ومن حرِّ شَدْوي يُرى في الخريف ... طروبًا بصحبتي العندليب ولكن خُلِقتُ بأرضٍ بها ... نفوسُ العبيد برِقٍّ تطيب لقد تبدلت موازين البلاغة، وافتقد الجيل الأعمال الكبيرة التي يتمجد بها، فصار -كما يقول الرافعي- "تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها". ورغم الفساد فإن الداعية المسلم لن يتخلى عن محاولة انتشال العباد، وإن كل وساوس اليأس من الإصلاح لن تلبث أن تتبدد أمام لحظة انتباه إيماني تُريه مكانته المتوسطة لموكب الإيمان السائر، أخذَ عن السلف، ولا بد أن يسوق له قدر الله خَلَفًا يستلم الأمانة منه، ذلك وعد الله، وإنه لموكب لن ينقطع أبدًا، مضى به القول على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (¬1) "] (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) "المنطلق" ص (61 - 63).

الفصل الخامس

الفَصل الخامس عُلُوّ الهِمَّة في الجِهَادِ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى علم الرعيل الأول من صفوة المسلمين أن في الجهاد فضلًا لا يُضاهَى، وخيرًا لا يتناهى، وأيقنوا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الريَّ الأعظم في شرب كئوس الحتوف، فشمروا للجهاد عن ساق الاجتهاد، ونفروا إلى ذوي الكفر والعناد من شتى أصناف العباد، وجهزوا الجيوش والسرايا، وبذلوا في سبيل الله العطايا، وأقرضوا الأموال لمن يضاعفها ويزكيها، ودفعوا سلع النفوس من غير مماطلةٍ لمشتريها، وضربوا الكافرين فوق الأعناق، واستعذبوا من المنية مُرَّ المذاق، وباعوا الحياة الفانية بالعيش الباق، ونشروا أعلام الإسلام في الآفاق. فِمن ثَمَّ كان في الإشارة إلى بعض مناقبهم، وحسن بلائهم ما عساه يوقظ الهمم الرُّقَّد، ويُنهِضُ العزمَ المُقْعَد، ومن لم تروه الإشارة، وطمحت نفسه إلى الاستزادة، فليطلب ذلك من مظانه المبسوطة، وبالله المستعان. لقد كان إمامهم الأوحد، ورائدهم الأول في ذلك -بل في كل باب من أبواب الخير- خير من وطئ الحصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم

الآخر وذكر الله كثيرًا}، ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى البشر همة على الإطلاق، وكان أشجع الناس، وأقواهم قلبًا، وأثبتهم جَنانًا، وقد حضر المواقف الصعبة المشهورة، وفرَّ الكماة والأبطال عنده غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة أو فترة، سواه، فإنه لم يفر قط، وحاشاه من ذلك، ثم حاشاه، قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف، وهو يقول: "لم تراعوا ... لم تراعوا") (¬1). وقال على رضي الله عنه: (كنا إذا اشتد البأس، واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم-، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا) (¬2)، وقيل: "كان الشجاع هو الذي يقرب منه - صلى الله عليه وسلم - إذا دنا العدو لقربه منه"، وقال عمران بن حصين: "ما لقي - صلى الله عليه وسلم - كتيبة إلا كان أول من يضرب". وكذلك الشجعان في أمته والأبطال لا يُحْصَوْنَ عدة، ولا يحاط بهم كثرة، سيما أصحابه المؤيدين الممدوحين في التنزيل بقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشِدَّاءُ على الكفار رحماءُ بينهم}. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه مسلم.

* فأشجع الصحابة -وكلهم رضي الله عنهم شجعان- وأفضلهم، بل أفضل البشر جميعًا بعد الأنبياء، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق رضي الله عنه، هكذا شهد له علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أشجع الناس، وصدق رضي الله عنه فقد كان أثبتهم قلبًا، وأقواهم جَنانًا، وحسبك من ذلك ثبات قلبه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، ويوم حنين، بل ثبات قلبه وتثبيته المسلمين عند الخطب الأعظم، والأمر الأفخم بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وكذا عزمه في قتال من ارتد حينئذ، فتلك الشجاعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمة التي تنازلت لها أعالي الهمم. * ومنهم الفاروق ناصر الدين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي بلغ من الشجاعة والهمة الكبرى أقصى الغايات وأعلى النهايات، والأخبار في قوته في الدين وشدته على المشركين كثيرة مشهورة. * وهذا الليث الحصَّار، والغيث المدرار، ومفرق كتائب المشركين، والآتي من أنواع الشجاعة بما أوجب في المتعجبين أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه (كان درعه صدرًا لا ظهر له، فقيل له: "ألا تخاف أن تؤتى مِن قبل ظهرك؟ "، فقال: "إن أمكنت عدوي من ظهري، فلا أبقى الله عليه، إن أبقى عليَّ" رواه ابن عساكر، وذكر ابن عبد البر في صفته أنه: "كان إذا أمسك بذراع رجل، لم يستطع أن يتنفس"، وأخبار شجاعته وعلو همته كثيرة مشهورة. * ولما استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه رضي الله عنهم فِي القتال في

غزوة بدر الكبرى، قال له المقداد بن الأسود رضي الله عنه: "يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون". وقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: " .. فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لَخُضْناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُق عند اللقاء، لعل الله يُريك ما تقر به عينك، فسر على بركة الله". وعن أنس رضي الله عنه قال: (انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركِين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه"، فدنا المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، قال عمير بن الحمام: "يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض" قال: "نعم"، قال: "بخ بخ" (¬1)، فقال رسوله الله - صلى الله عليه وسلم-: "ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ "، قال: "لا والله، إلا رجاء أن أكون من أهلها"، قال: "فإنك من أهلها"، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: "إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتل" (¬2). ¬

_ (¬1) كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء. (¬2) رواه مسلم.

* عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر، عن قتال بدر، فقال: "يا رسول الله! غبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتال المشركين، ليرين الله ما أصنع"، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: "اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: "يا سعد بن معاذ! الجنة وربِّ النضر، إني أجد ريحها دون أحد"، قال سعد: "فما استطعت يا رسول الله ما صنع"، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتل، ومَثَّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، فقال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الآية) (¬1). * ورُوي أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه -في سرية مؤتة- فقُطِعت، فأخذه بشماله، فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قُتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ويقال: إن رجلًا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين .. فلما قُتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم قال: أقسمتُ يا نفس لَتنزِلنهْ ... لتنزلن أو لتُكرَهِنَّهْ ¬

_ (¬1) متفق عليه.

أن أجلب الناس وشدُّوا الرنَّه ... ما لي أراكِ تكرهين الجنه وقال: يا نفس إن لا تُقتلي تموتي ... هذا حِمام الموت قد صَليتِ وما تمنيتِ فقد أعطيتِ ... إن تفعلِي فعلهما هُديتِ وإن تأخَّرتِ فقد شقيتِ يريد صاحبيه زيدًا وجعفرًا، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عمٍّ له بِعَرْق لحمٍ، فقال: "شُدَّ بهذا صُلبك، فإنك قد لقيتَ يومك هذا"، فأخذه من يده، فانتهش منه نهشة، ثم سمع الحَطْمَة في ناحية الناس، فقال: "وأنتَ في الدنيا؟! "، فألقاه من يده، ثم تقدم فقاتل حتى قُتِل (¬1). * وعن شداد بن الهادِ رضي الله عنه أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فآمن به واتبعه، ثم قال: "أهاجر معك"، فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، فلما كانت غَزاة، غَنِم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فقسم، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: "ما هذا؟!، قالوا: "قِسْمٌ قسمه لك النبي - صلى الله عليه وسلم-، فأخذه، فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ما هذا؟ "، قال: "قسمتُه لك"، قال: "ما على هذا اتبَّعْتُك، ولكن اتبعتك على أن أرْمَى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموتَ، فأدخلَ الجنة، فقال: "إن تَصْدُقِ اللهَ يصدقك"، فلبثوا قليلًا، ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتِىَ به النبُّي - صلى الله عليه وسلم - يُحْمَل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (4/ 13 - 14).

النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أهو هو؟ " قالوا: "نعم"، قال: "صدق اللهَ فصدقه"، ثم كفَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جُبَّتِهِ، ثم قَدَّمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرًا في سبيلك، فقُتِل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك" (¬1). * وعن جعفر بن عبد الله بن أسلم، قال: (لما كان يوم اليمامة، واصطف الناس كان أولَ من جُرح أبو عقيل، رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن له شقه الأيسر في أول النهار، وُجرَّ إلى الرَّحْل، فلما حمي القتال، وانهزم المسلمون، وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: "يا للأنصار! اللهَ اللهَ والكرَّةَ على عدوكم! " قال عبد الله بن عمر: "فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: "ما تريد؟ ما فيك قتال! "، قال: "قد نَوَّه المنادى باسمي"، قال ابن عمر: فقلت له: "إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى"، قال أبو عقيل: "أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْوًا"، قال ابن عمر: فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار! كرةً كيوم حُنين! فاجتمِعوا رحمكم الله جميعًا، تقدَّموا فالمسلمون دَريئة (¬2) دون عدوهم"، حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا، واختلفت السيوف بيننا وبينهم. قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطِعت يده المجروحة من المنكب فوقعتْ إلى الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدوُّ الله مسيلمة. ¬

_ (¬1) "صحيح سنن النسائي" ص (420). (¬2) الدريئة: ما يستتر به الصائد لِيَختِلَ الصيدَ، وحَلْقَة أو دائرة يُتَعَلَّمُ عليها الطعنُ والرمي.

قال ابن عمر: فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل! قال: "لبيك -بلسان ملتاث- لمن الدَّبْرَة؟ " (¬1) قلت: "أبشر قد قُتل عدو الله"، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله) (¬2). * ومنهم البراء بن مالك أخو أنس بن مالك رضي الله عنهما: عن ابن سيرين: (أن المسلمين انتهوا إلى حائط فيه رجال من المشركين، فقعد البراء على ترس، وقال: "ارفعوني برماحكم، فألقوني إليهم"، فألقوه وراء الحائط، قال: فأدركوه وقد قتل منهم عشرة، وجُرح البراء يومئذ بضعًا وثمانين جراحة، ما بين رمية وضربة، فأقام عليه خالد بن الوليد شهرًا حتى برأ من جراحته) (¬3). * وعن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري قال: (لما انكشف المسلمون يوم اليمامة، قال سالم مولى أبي حذيفة: "ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، فحفر لنفسه حفرة، وقام فيها، ومعه راية المهاجرين يومئذ، فقاتل حتى قُتل يوم اليمامة شهيدًا سنة اثنتي عشرة) (¬4). * وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: (مررت يوم اليمامة ¬

_ (¬1) الدَّبْرة: الهزيمة في القتال، يُقال: "جعل الله عليهم الدبرة": الهزيمة، "وجعل الله لهم الدبرة": الظفَر والنُّصرة بهزيمة غيرهم. (¬2) "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق" (1/ 509). (¬3) "أسد الغابة" (1/ 206). (¬4) "مشارع الأشواق" (1/ 555).

بثابت بن قيس بن شماس وهو يتحنط (¬1)، فقلت: "يا عم، ألا ترى ما يلقى المسلمون وأنت هاهنا؟ " قال: فتبسم، ثم قال: "الآن يا ابن أخي، فلبس سلاحه، وركب فرسه حتي أتى الصف، فقال: "أف لهؤلاء وما يصنعون"، وقال للعدو: "أف لهؤلاء وما يعبدون، خَلُّوا على سبيله -يعنى فرسه- حتى أصلي بحرها، فحمل، فقاتل حتى قُتِل رضي الله عنه" (¬2). * وعن عبد الله بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف"، فقام رجل رث الهيئة، فقال: "يا أبا موسى آنت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا؟ " قال: "نعم"، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: "أقرأ عليكم السلام"، ثم كسر جِفْنَ سيفه -وهو غمده- فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قتل) (¬3). * وهذا سيف الله تعالى، وفارسُ الإسلام، وليثُ المشاهد، قائد المجاهدين أبو سليمان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وأرضاه، ¬

_ (¬1) الحَنوط -بفتح الحاء- هو ما يحنط من الطيب للموتى خاصة، وتحنط: إذا تطيب به، وإنما كانوا يفعلون ذلك -والله أعل- لتوطين النفوس على الموت، وتصميم العزم على نيل الشهادة. (¬2) رواه ابن المبارك في الجهاد، رقم (121)، والبيهقي في "السنن" (9/ 44)، وقال الهيثمي: (رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح)، اهـ. من " مجمع الزوائد" (9/ 222). (¬3) رواه مسلم، والترمذى، والحاكم، وغيرهم.

لما حضرته الوفاة قال: "لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء" (¬1). وروى عاصم بن بهدلة: عن أبي وائل قال: لما حضرت خالدًا الوفاة قال: "لقد طلبتُ القتلَ مظانَّه، فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموت على فراشي، وما مِن عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد -من ليلة بِتُّها وأنا متترس، والسماء تُهِلُّني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار"، ثم قال: "إذا متُّ، فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله"، فلما توفي، خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: "ما على آل الوليد أن يَسْفَحْن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعًا أو لَقْلَقة" (¬2). وقد بلغ من شجاعته في بعض حروبه أنه بينما كان قائد الفرس ينظم صفوفهم، إذا بخالدٍ ينقض عليه، ويحتضنه بشدةٍ، ويخطفه كالبرق الخاطف، ويأتي به أسيرًا بين ذراعيه إلى جيش المسلمين أمام ذهول الكفار من هذه الشجاعة النادرة. * وفي حديث عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أنه أسره الروم، فحبسه طاغيتهم في بيت، فيه ماء ممزوج بخمر، ولحم خنزير مشوي، ليأكله ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة، فلم يفعل، ثم أخرجوه حين خشوا موته، فقال: "والله لقد كان أحله لي لأني مضطر، ولكن لم أن لأشمتكم بدين الإسلام". وعبد الله بن حذافة السهمي صحابي توفي بمصر، ودفن بمقبرتها، ¬

_ (¬1) "أسد الغابة" (2/ 111). (¬2) "الإصابة" (3/ 74).

وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقصته مع ملك الروم حكاها أبو رافع قال: (وجه عُمرُ جيشًا إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: "إنَّ هذا من أصحاب محمد"، فقال: "هل لك أن تتنصَّر وأعْطِيَكَ نصفَ ملكي؟ "، قال: "لو أعطيتني جميع ما تملكُ، وجميع ما تملك العرب، ما رجعتُ عن دين محمد طرفة عين"، قال: "إذًا أقتلك"، قال: "أنت وذاك"، فأمر به، فصُلِبَ، وقال للرماة: "ارمُوهُ قريبًا من بدنِهِ"، وهو يعرضُ عليه، ويأبى، فأنزله، ودعا بِقدْر، فصبَّ فيهِا ماء حتى احترقت، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما، فأُلقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية، وهو يأبى، ثم بكى، فقيل للملك: "إنَّه بكى"، فظن أنه قد جزع، فقال: "رُدُّوه، ما أبكاك؟ "، قال: "قلت: هي نفسٌ واحدة تُلقى الساعةَ فتذهب، فكنتُ أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفسٌ تُلْقَى فِي النار في الله"، فقال له الطاغية: "هل لك أن تقبل رأسي، وأخلي عنك؟ "، فقال له عبد الله: "وعن جميع الأسارى؟ "، قال: "نعم"، فقبل رأسه، وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره، فقَال عمر: "حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابنِ حذافة، وأنا أبدأ"، فقبل رأسه) (¬1). أجدر الناس بالكرامة: عبد ... تلفت نفسُه، ليسلم دينُه ¬

_ (¬1) انظر: "أسد الغابة" (3/ 212، 213) ط. الشعب.

* واستوصى "رويمًا" صاحبٌ له، فقال: "هو بذل الروح، وإلا فلا تشتغل بالترهات". الجود بالمال جود فيه مكرمة ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود * وعن العلاء بن سفيان الحضرمي قال: (غزا بُسْر بن أرطاة الروم، فجعلت ساقته لا تزال تصاب، فيكمن لهم الكمين، فيصاب الكمين، فلما رأى ذلك، تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يومًا في بعض أودية الروم، فإذا براذين (¬1) مربوطة نحو ثلاثين، والكنيسة إلى جانبهم فيها فرسان تلك البراذين الذين كانوا يعقبونه في ساقته، فنزل عن فرسه فربطه، ثم دخل الكنيسة فأغلق عليه وعليهم بابها، فجعلت الروم تعجب من إغلاقه، فما استقلوا إلى رماحهم حتى صَرَعَ منهم ثلاثة، وفقده أصحابه فطلبوه، فأتوا، فعرفوا فرسه، وسمعوا الجلبة في الكنيسة، فأتوها فإذا بابها مُغلق، فقلعوا بعض السقف، ونزلوا عليهم، وبُسْر ممسك طائفة من أمعائه بيده، والسيف بيده اليمني، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بُسْر مغشيًّا عليه، فأقبلوا على أولئك، فأسروا وقتلوا، فأقبلت عليهم الأسارى، فقالوا: "ننشدكم الله من هذا؟ "، قالوا: "بسر بن أرطاة"، فقالوا: "والله ما ولدت النساء مثله"، فعمدوا إلى أمعائه، فردوه في جوفه، ولم ينخرق منه شيء، ثم عصبوه بعمائمهم، وحملوه، ثم خاطوه، فسلم، وعوفي) (¬2). وكبيرو الهمة من المجاهدين يهوون رفع الثقيل من الأمور، وخوض ¬

_ (¬1) براذين: جمع بِرْذَوْن، يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحوافر. (¬2) "مشارع الأشواق" (1/ 541).

المخاطر، واقتحام العقبات، كأولئك النخعيين الذين تسابقوا على الاستشهاد في معركة القادسية، قال واحد منهم: (أتينا القادسية، فقتل منا كثير، ومن سائر الناس قليل، فسئل عمر عن ذلك، فقال: إن النخَع وَلُوا عِظَم الأمر وحدهم) (¬1). * ورفع الله الحرج عن المعذروين فقال عز من قائل: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} الآية، وقال تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}، فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب: (فخرج ابن أم مكتوم إلى أحُد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره، وقرأ: {وَمَا مُحَمَّد إلَّا رَسولٌ قَدْ خلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}. هذه عزائم القوم، والحق يقول: {ليس عَلَى الْأعْمَى حَرَج} وهو في الأول، {وَلَا عَلَى الْأعْرَج حرجٌ} وعمرو بن الجَمُوح من قباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش، قال له الرسول عليه السلام: "إن الله قد عذرك"، فقال: "والله لأحفرنَّ بعرجتى هذه فِي الجنة"، وقال عبد الله بن مسعود: "ولقد كان الرجل يؤتى به يُهِادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف") (¬2). * كر الفرس كرة على غرة، فرجع المسلمين متحرفين لقتال، أو متحيزين إلى فئة، فلحقوا بأضعفهم، فاختطفوه أسيرًا، وعادوا به ... ¬

_ (¬1) "الإصابة" (1/ 28). (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 226).

فماذا قال هذا "الأضعف" الذي لم يستطع الجري؟ رستم: ما جاء بكم، وما تطلبون؟ المسلم: جئنا نطلب موعود الله؟ رستم: وما موعود الله؟ المسلم: أرضكم ودياركم وأبناؤكم إن أبيتم أن تُسلموا. رستم: فإن قُتِلتم قبل ذلك؟ المسلم: في موعود الله أن من قُتل منا أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا وعده، فنحن على يقين. رستم: قد وَضَعَنا إذن في أيديكم. المسلم: "ويحك يا رستم، إن أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى من حولك، فإنك لست تحارب الإنس، وإنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره" (¬1). وقد أوجز خالد بن الوليد وأبلغ حين وصف جنود الإسلام مخاطبًا الفرس: "قد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة". * التابعي الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي رحمه الله والذي كان نتاج تربية الأربعة الراشدين، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، عاف التجارات والبيوت، وبنى له في الكوفة حصنًا صغيرًا يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، وبقى طول عمره متحفزًا للجهاد، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس (¬2). و (كان إذا خلا ينشج -يبكي بصوت وتوجع- ولو جُعل له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل، وكان له خُصٌّ يكون فيه هو وفرسُه، فإذا غزا نقضه، وإذا رجع بناه). هكذا المجاهد يمضي إلى الأمام صوب غايته الكبرى، لا يلتفت إلى ¬

_ (¬1) "من أطايب الكلام" (1/ 26، 27). (¬2) "الثقات" لابن حبان (108).

الوراء، ولا يعبأ بالدنيا، ويقول غير وَجِل ولا آسف: وأراني أسمو بسعيي ووعيي ... عن جزاءٍ من معدن الأرض بخسِ حسب نفسي من الجزاء شعوري ... أنني في الإله أبذل نفسي وقال ابن المبارك: بغض الحياة وخوف الله أخرجني ... وبيع نفس بما ليست له ثمنا إني وزنت الذي يبقى ليعدله ... ما ليس ييقى فلا والله ما اتزنا * وعن موسى بن أبي إسحاق الأنصاري: (أن علي بن أسد كان قد قتل، وصنع أمورًا عظامًا، فمر ليلة بالكوفة، فإذا برجل يقرأ من جوف الليل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله} الآية، فقال علي: "أعِد"، فأعاد، ثم قال: "أعد"، فأعاد، ثم قال: "أعد"، فأعاد، فعمد فاغتسل، ثم غسل ثيابه، فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي البعر، فغزا البحر، فلقي الروم، فقرنوا مراكبهم بمراكب العدو، قال علي: "لا أطلب الجنة بعد اليوم أبدًا"، فاقتحم بنفسه في سفائنهم، فما زال يضربهم، وينحازوا، ويضربهم، وينحازوا حتى مالوا في شقٍّ واحد، فانكفأت عليهم السفينة، فغرق وعليه درع الحديد) (¬1). * ويُروى أن العلاء بن الحضرمي وقف على شاطئ المحيط الأطلسي، وخاض في مياهه بفرسه قائلًا: "والله أيها البحر لو أعلم أن وراءك أرضًا لخضتك، وفتحتها بإذن الله" (¬2). ¬

_ (¬1) "مشارع الأشواق" (1/ 554، 555). (¬2) "من أطايب الكلام" (3/ 14).

* وفي عام 463 هـ سار ملك الروم "أرمانوس" إلى بلاد المسلمين بمائتي ألف مقاتل على أقل تقدير للمؤرخين، ويضم هذا الجيش الكثيف أخلاطًا من الروم، والفرنجة، والروس، والصرب، والأرمن، والبوشناق، واتَّخذ طريقه إلى العراق، وقد أقطع بطارقته الأرضَ حتى بغداد، وعيَّن له نائبًا على بغداد قبل أن يسير، واستوصى نائبه بالخليفة خيرًا، فقال له: "ارفق بهذا الشيخ فإنَّه صاحبنا"، وقد عزم "أرمانوس" أن يُبيد الإسلام وأهله، وإذا انتهى من العراق وخراسان مال على الشام وأهله ميلةً واحدةً، فأباد المسلمين فيها أيضًا. خرج "أرمانوس" من "القسطنطينية" مُتَّجهًا نحو الشرق فوصل إلى "ملازكرد" في شرقي تركيا اليوم، على مقربةٍ من بُحيرة "وان"، وأتى الخبر إلى "ألب أرسلان" السلطان السلجوقي، وهو في "أذربيجان" وقد عاد من "حلب"، فلم يتمكَّن من جمع الجند لُبعده عن مقر حكمه، ولقرب العدو منه، فسار بمن معه، وهم خمسة عشر ألفًا، للقاء العدو مُتوكِّلًا على الله، وقال: "إنني أقاتل مُحتسبًا صابرًا، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإنَّ ابني ملكشاه ولي عهدي"، وجَدَّ في السير، وأرسل مقدمته أمامه، فالتقت عند مدينة "خلاط" بمقدمة الروس، وكان عددهم عشرة آلاف فهُزم الروس، بإذن الله، وأُسِر قائدهم. واقترب الجمعان بعضهما من بعض، وأرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه الهدنة فقد خافه لكثرة من معه، إذ يُعادل جند ملك الروم خمسة عشر مِثلًا من المسلمين، غير أنَّ ملك الروم قد أخذته العزَّةُ بالإثم، فقال: "لا هدنة إلَّا في الريِّ" -طهران اليوم- ولم يدر أنه يَقْدُمُ

قومه إلى الهاوية، فتأثر السلطان من هذا الردِّ المتغطرس، فاستشار إمام جنده "أبا نصر محمد بن عبد الملك البخاريِّ"، فأجابه: "إنَّك تُقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنَّهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة"، وكان يومها يوم الأربعاء لخمسٍ بقين من ذي القعدة. جاء يوم الجمعة، وحان وقت الزوال فصلَّى "أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاريُّ" بالناس، فبكى السلطان، وبكى الناس لبُكائه، ودعا ودَعَوْا معه بعد الصلاة، وقال لهم: "من أراد الانصراف فلينصرف فما ها هنا سلطان يأمر وينهى، وإنما جهاد ورغبة في لقاء الله"، ثم ألقى القوس والنشَّاب (¬1)، وأخذ السيف، ولبس البياض، وتحنَّط، وقال: "إن قُتِلت فهذا كفني"، وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما اقترب منهم ترجَّل، ومرغ وجهه في التراب، وبكى، وأكثر من الدعاء، وطلب النصر من الله، ثمَّ ركب، وحمل على الروم، وحمل المسلمون حتى وصلوا إلى وسط الروم وحجز الغبار بينهم، وما هي إلا جولة حتى أنزل الله نصره، وهزم الروم، ومنحوا المسلمين أكتافهم، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا حتى امتلأت الأرض بالجُثث، وقُدِّرَ عدد القتَلى بمائةٍ وخمسين ألفًا، أي أنَّ كلَّ مسلم قد قتل عشرةً من الروم، ووقع ملك الروم "أرمانوس" وبطارقته جميعًا أسرى بأيدي المسلمين، وحُمل أرمانوس إلى السلطان "ألب أرسلان"، ¬

_ (¬1) النَّشَّاب: النَّبْل، واحدته: نُشَّابة.

فلمَّا وقف بين يديه ضربه بيده ثلاث مقارِع وقال: "لو كنتُ أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل؟ " قال: "كلَّ قبيح"، قال: "فما ظنُّك بي؟ " قال: إمَّا أن تقتل بعد أن تُشَهِّر بي في بلادك، وإمَّا أن تعفوَ، وتأخذَ الفداء، وتُعيدَني"، قال: "مما عزمتُ على غير العفو والفداء"، فافتدى نفسه بميلون ونصف من الدنانير، فقام بين يدي السلطان وسقاه شربةً من ماء، وقبَّل الأرض بين يديه، وقد ترك له السلطان عشرة آلاف دينارٍ ليتجهَّزَ بها، وأطلق معه جماعةً من البطارقة الأسرى (¬1). * ومن علو همة السلطان المنصور أبي يوسف يعقوب ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن على المغربي، المراكشي، الظاهري: أنه كتب إليه "الأدفنش" يهدده، ويُعنفه، ويطلب منه بعض البلاد، ويقول: "وأنت تماطل نفسك، وتُقَدِّم رِجْلًا، وتؤخر أخرى، فما أدري الجبنُ بطَّأ بك، أو التكذيب بما وعدك نبيك؟ "، فلما قرأ الكتاب، تنمَّر، وغضب، ومزَّقه، وكتب على رقعة منه: {ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} الجواب ما ترى، لا ما تسمع: ولا كُتْبَ إلا المشرفية عندنا ... ولا رُسْل إلا للخميس العَرَمْرَمِ ثم استنفر سائر الناس، وحشد، وجمع، حتى احتوى ديوان جيشه على مئة ألف، ومن المُطَّوِّعة مثلهم، وعَدَّى إلى الأندلس، فتمَّت ¬

_ (¬1) "رسائل إلى الشباب" للأستاذ محمود شاكر ص (144 - 146)، وانظر "مشارع الأشواق" (1/ 551 - 553).

الملحمة الكبرى، ونزل النصر والظفر، فقيل: غنموا ستين ألف زرديَّة. قال ابن الأثير: قُتِل من العدو مئة ألف وستة وأربعون ألفًا، ومن المسلمين عشرون ألفًا (¬1). * وعن علو همة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله قال القاضي ابن شداد: (كان رحمه الله عنده من أمر القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال ... وهو كالوالدة الثكلى، يجول بنفسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه، وينادي: "يا لَلإِسلام" وعيناه تذرفان بالدموع) (¬2). ونظر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله إلى أمواج البحر الهادرة، ثم التفت إلى القاضي ابن شداد وقال: (أما أحكي لك شيئًا في نفسي؟ إنه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسَّمت البلاد، ووصيت وودَّعت، وركبتُ هذا البحر إلى جزائره، وأتبعتهم -أي الصليبيين- فيها، حتى لا أبقَي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت) (¬3). وبعد وقعة حطين باع بعض الفقراء أسيرًا بنعل، فقيل له في ذلك، فقال: "أردت هوانهم"، وحكى بعضهم أنه لقي بحوران شخصًا ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (21/ 318، 319). (¬2) "صلاح الدين الأيوبي" د. عبد الله علوان ص (72). (¬3) "السابق" ص (145).

واحدًا ومعه طُنُب (¬1) خيمة، وفيه نيف وثلاثون أسيرًا، يجرهم وحده للخذلان الذي وقع عليهم. وقال العماد الكاتب: (فمن شاهد القتلى يومئذ قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل) (¬2). ... ¬

_ (¬1) الطُّنُب: حبل يُشَدُّ به الخِباء والسُّرادق ونحوُهما. (¬2) "مشارع الأشواق" (2/ 935).

علو همة فارس الإسلام السرماري

عُلُوّ هِمَّةِ فَارسِ الإسلَامِ السُّرمَارِي الذي قال في وصفه الإمام الذهبي رحمه الله: (الإمام، الزاهد، العابد، المجاهد، فارس الإسلام، أبو إسحاق). (وكان أحد الثقات، وبشجاعته يضرب المثل) (أخبار هذا الغازي تَسُرُّ قلب المسلم)، (قال إبراهيم بن عفان البَزَّاز: كنت عند أبي عبد الله البخاري، فجرى ذكر أبي إسحاق السُّرْماري، فقال: "ما نعلم في الإسلام مثله"، فخرجتُ، فإذا أحيد رئيسُ المُطَّوِّعة، فأخبرتُه، فغضبَ ودخل على البخاري، وسأله، فقال: "ما كذا قلتُ: بل: ما بلغنا أنه كان في الإسلام ولا في الجاهلية مثلُه". وعن أحمد بن إسحاق قال: "ينبغي لقائد الغزاة أن يكون فيه عشرُ خصال: أن يكون في قلب الأسد: لا يَجْبُنُ، وفي كِبَر النَّمِرِ: لا يتواضع، وفي شجاعة الدب: يقتل بجوارحه كلِّها، وفي حَمْلة الخنزير: لا يُوَلِّي دُبُرَه، وفي غارة الذئب: إذا أيِس من وجهٍ أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنَّمْلة: تحمل أكثر من وزنها، وفي الثبات كالصخر، وفي الصبر كالحمار، وفي الوَقاحة كالكلب: لو دخل صيدُه النارَ لدخل خلفه، وفي التماس الفرصة كالدَّيك". قال إبراهيم بن شماس: كنت أكاتب أحمد بن إسحق السُّرْماري،

فكتب إليَّ: إذا أردت الخروج إلى بلاد الغُزَيَّة في شراء الأسرى، فاكتب إليَّ، فكتبتُ إليه، فقدم سمرقند، فخرجنا، فلما علم جَيْغَوَيْه، استقبلنا في عِدَّة من جيوشه، فأقمنا عنده، فعرض يومًا جيشه، فَمَرَّ رجل، فعظَّمه، وخلع عليه، فسألني عن السُّرماري، فقلت: "هذا رجل مبارز، يُعَدُّ بألف فارس"، قال: "أنا أبارزه"، فسكت، فقال جيغويه: "ما يقول هذا؟ " قلت: "يقول كذا وكذا"، قال: "لعله سكران لا يشعر، ولكن غدًا نركب"، فلما كان الغد ركبوا، فركب السُّرماري معه عمود في كُمِّه، فقام بإزاء المُبارِز، فقصده، فهرب أحمدُ حتى باعده من الجيش، ثم كَرَّ، وضربه بالعمود فقتله، وتبع إبراهيم بن شِماس، لأنه كان سبقه، فَلَحِقه، وعلم جيغويه، فجهَّز في طلبه خمسين فارسًا نقاوةً، فأدركوه، فثبت تحت تَلٍّ مختفيًا، حتى مَرُّوا كلّهم، واحدًا بعد واحد، وجعل يضرب بعموده من ورائهم، إلى أن قتل تسعةً وأربعين، وأمسك واحدًا، قطع أنفه وأذنيه، وأطلقه ليخبِر، ثم بعد عامين تُوفي أحمد، وذهب ابنُ شِماس في الفداء، فقال له جَيغويه: "من ذاك الذي قتل فرساننا؟ " قال: "ذاك أحمد السرماري"، قال: "فلم لم تحمله معك؟ " قلت: "توفي"، فصَكَّ في وجهي، وقال: "لو أعلمتني أنه هو لكنت أعطيته خمس مائة برذون -ضرب من الدواب-، وعشرة آلاف شاة". وعن عبيد الله بن واصل قال: سمعت أحمد السرماري يقول، وأخرج سيفَه، فقال: "أعلم يقينًا أني قتلت به ألفَ تركي، وإن عشت قتلتُ به ألفًا أخرى، ولولا خوفي أن يكون بدعةً لأمرت أن يُدْفَنَ معي".

وعن محمود بن سهل الكاتب قال: (كانوا في بعض الحروب يحاصرون مكانًا، ورئيس العدو قاعد على صُفَّة -ظلة، والبهو الواسع العالي السقف- فرمى السرماري سهمًا، فغرزه في الصفة، فأومأ الرئيس لينزِعَه، فرماه بسهم آخرَ، خاطَ يَده، فتطاول الكافر لينزِعه من يده، فرماه بسهم ثالث في نحره، فانهزم العدو، وكان الفتح) (¬1). وعن عمران بن محمد المطوعي، قال: سمعت أبي يقول: (كان عمود السرماري ثمانية عشر مَنًّا (¬2)، فلما شاخ جعله اثني عشر مَنًّا، وكان يقاتل بالعمود) (¬3). ... ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (3/ 37 - 40). (¬2) المن: رطلان. (¬3) "مشارع الأشواق" (2/ 1008).

علو همة "اللؤلؤ العادلي"

عُلُوّ هِمَّة "اللؤلؤ العَادِلي" قال الإمام الذهبي رحمه الله في "السير": (الحاجبُ: من أبطال الإسلام، وهو كان الندوبَ لحرب فرنج الكَرَك الذين ساروا لأخذ طَيبة، أو فرنج سواهم ساروا في البحر المالح، فلم يَسِرْ لؤلؤ إلا ومعه قُيودٌ بعددهم، فأدركهم عند الفحلتين فأحاط بهم، فسلَّموا نفوسهم، فقيَّدهم، وكانوا أكثر من ثلاث مئة مقاتل، وأقبل بهم إلى القاهرة، فكان يومًا مشهودًا) (¬1). * وهذا مجاهد ينتدب نفسه للمهمة الجسيمة، ويمضي نحو همته، ويلح سائلًا مولاه: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن ... على شَرْجَعٍ (¬2) يُعْلَى بخُضْرِ المطارفِ (¬3) ولكنَّ قبري بطنُ نَسْرٍ مقيلهُ ... بجو السماء، في نسورٍ عواكفِ (¬4) ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (21/ 384). (¬2) الشرجع: النعش. (¬3) المطارف: الأطراف، أي الأيدي. (¬4) فهو لا يحلق بروحه سامية في فلك الشموخ فحسب، بل ببدنه أيضًا، حتى إنهم لا يصلون إليه، لأنه استقر في بطون النسور، فيراغمهم ميتًا، كما راغمهم حيًّا. علوّ في الحياة وفي الممات ... لَحَقُّ تلك إحدى المَكْرُمات

وأمسي شهيدًا ثاويًا في عصابة ... يُصابون في فجٍّ من الأرض خائفِ (¬1) فوارس من بغداد ألَّف بينهم ... تُقى الله، نزَّالون، عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى ... وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحفِ * وعن أحمد بن إبراهيم قال: نظر يونس إلى قدميه عند موته، فبكى، فقيل له: "ما يُيكيك يا أبا عبد الله؟ "، قال: "قدماي لم تغبرا في سبيل الله عز وجل". * وهذا الإمام المبارك عبد الله بن المبارك يعقد مقارنة بين من تخلى للعبادة وبين من آثر الجهاد في سبيل الله تعالى في قصيدته إلى عابد الحرمين الفضيل بن عياض رحمه الله: يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَنا ... لعلِمْتَ أنك في العبادة تلعبُ من كان يخضب جِيدَه بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يُتْعِب خيلَه في باطل ... فخيولنا يومَ الكريهة تتعب ريح العبير لكم، ونحن عبيرنا ... رَهْج (¬2) السنابك (¬3) والغبار الأطيب ¬

_ (¬1) الخائف: المنخفض. (¬2) الرَّهْج: الغبار. (¬3) السنابك: جمع السُّنْبُك، وهو من كل شيء طَرَفُه، والسنبك من السيف: طرف حليته

ولقد أتانا عن مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خهل الله في ... أنف امرئ ودخانُ نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب * وتقدم قول الإمام أبي محمد على بن حزم الأندلسي رحمه الله: مُناي من الدنيا علومٌ أبثها ... وأنشرها في كل بادٍ وحاضرِ دعاء إلى القرآن والسنن التي ... تناسى رجالٌ ذكرها في المحاضرِ وألزم أطراف الثغور مجاهدًا ... إذا هيعةٌ ثارت فأولُ نافِرِ لألقى حمامي مقبلًا غير مُدْبر ... بسُمْرِ العوالي والدقاق البواترِ كفاحًا مع الكفار في حومَةِ الوغى ... وأكرمُ موتٍ للفتى قتلُ كافرِ فيا ربِّ لا تجعل حمامي بغيرها ... ولا تجعلنِّي من قطين المقابرِ * وهذا الإمام الجليل أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي المالكي رحمه الله (ت 741 هـ) يقول قبل وفاته: قصدي المؤمل في جهري وإسراري ... ومطلبي من إلهي الواحد البارِ شهادة في سبيل الله خالصة ... تمحو ذنوبي وتنجيني من النارِ إن المعاصيَ رجسٌ لا يُطَهِّرُها ... إلا الصوارمُ في أيمان كفارِ وبعد أن أنشد الأبيات قال: "أرجو الله أن يُعطيني ما سألتُه في هذه الأبيات"، فأعطاه الله ما تمنى، وقُتل في نفس اليوم في موقعة "طريف" مع النصارى بعد أن أبلى في قتالهم بلاءً حسنًا، رحمه الله، وأعلى درجته في الشهداء.

برئ الإسلام من شاك مضيم ... لا يراه غيرَ صومٍ وصلاه ذروة الدين جهاد في الصميم ... فلنجاهد أو لتلفظنا الحياه آخر: إن نفسًا ترتضي الإسلام دينا ثم ترضى بعده أن تستكينا أو ترى الإسلام في أرضٍ مهينا (¬1) ثم تهوى العيش نفس لن تكونا في عداد المسلمين العظماء ... وشجعان الأمة وأبطالها لا يحاط بهم كثرة، وفرسانها ورجالها لا يحصون عدة، وفيما ذكرنا كفاية ومقنع، إذ ليس في استيفاء بطولاتهم مطمع، وعن أراد الوقوف على المزيد، فليتتبع الغزوات المؤلفة، والتواريخ المصنفة، يَرَ من علو همتهم في الجهاد ما يبهر العقول، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}. ... ¬

_ (¬1) لا يجوز أن يوصف الإسلام بالمهانة، ولكن وصف الضعف وما يتبعه من ذل ومهانه قد يطرأ على بعض من ينتسبون إِليه.

الباب الخامس

الباب الخامس الفَصْل الأول حَال الأمَّةِ عندَ سقوطِ الِهمَّةِ إن سقوط الهمم وخساستها حليف الهوان، وقرين الذل والصغار، وهو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا، فأورثتها قحطًا في الرجال، وجفافًا في القرائح، وتقليدًا أعمى، وتواكلًا وكسلًا، واستسلامًا لما يُسمى "الأمر الواقع". * فقد رأينا في التاريخ الماضي كيف كان الجندي التتَري يأمر المسلم الذي سقطت همته بالقعود مكانه ريثما يذهب فيحضر حجرًا يقتله به، فيستسلم ذاك، ولا يحرك ساكنًا إلى أن ينجز التتري ما أوعده! ورأينا في عصرنا هذا كيف ركع الجندي العراقي أمام نعلي الجندي الأمريكى يتمسح فيهما ويقبلهما سائلًا إياه العفو والصفح، بينما يربت الأخير على كتفه، قائلًا له في مشهد تمثيلي مُخْزٍ: "لا تجزع .. لا بأس عليك! ". * ورأينا كيف شكا ابن خلدون رحمه الله تشبه مسلمي عصره ممن سفلت همتهم بأعدائهم الكفار، واعتبر ذلك من أمارات ضياع الأندلس من أيدي المسلمين، فقال رحمه الله: (ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك فِي الأبناء مع

آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمالَ فيهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في "الأندلس" لهذا العهد مع أمم الجلالقة أي "الأسبان"، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثر من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يَستشْعِرُ من ذلك الناظرُ بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله) (¬1) اهـ، وقد حدث ما توقعه "ابن خلدون" رحمه الله، واستولى الفرنج على الأندلس الإسلامية، وخرج المسلمون منها بعد مائتي سنة من كتابته هذه السطور. وفي عصرنا رأينا شبابًا ينتسبون إلى الإسلام تصاغرت هممهم فلم تنشغل إلا بسفاسف الأمور ومحقراتها (¬2)، ورأيناهم يمعنون في التشبه ¬

_ (¬1) "مقدمة ابن خلدون" الفصل الثالث والعشرون ص (147). (¬2) وقد نشرت مجلة "الرائد" - العدد (157) - ص (33 - 34) مقالاً يجسد هذا المعنى، كتبه "ع. حسان" قال فيه: [لقيت اليوم صديقنا " ... " الزعيم السياسي القديم، فإذا هو -على غير عادته- منشرحُ الصدر، مُفْتَرُّ الثغر، ضاحك الأسارير، قلت له: "أراك اليوم، على غير عادتك، طَلْقًا نشيطًا، بادي السرور"، قال: "وما لي لا أكون كذلك، وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاث انتصارات؟ "، قلت: "لك الحق إذَن في تهللك وفرحك، فنحن في زمن لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم؛ ولكن قل لي: "ما هي هذه الانتصارات -إن لم تكن سِرًّا من الأسرار-؟ ". قال: "أما الانتصار الأول: فقد دَخَلَت غرفةَ نومي من ثلاثة أيام ذُبابة=

بالكفار، بل يعلقون على صدورهم وسياراتهم أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم، وطأطأت أعناقهم، وأهدرت كرامتهم، واستعبدت أمتهم (¬1). وعلى صعيد آخر رأينا من يسوِّغ تعبيد الأمة وتبعيتها لأعدائها بحجة أننا: "لن نفكر برأسنا، ما دمنا لا نأكل بفأسنا"! أو أن ما نحن فيه ¬

_ =أزعجت نهاري، وأرقت ليلي، وقد حاولت جهدى طردها أو قتلها فلم أُفلح، إلى أن ظفرتُ بها هذا اليوم فقتلتُها شر قِتلة، وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود، حتى لو عادت إليها الحياة .. ". قلت: "والانتصار الثاني .. ؟ ". قال: "الانتصار الثاني شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام، إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو، إلى ثمانية وتسعين، وسبعمائة وخمسين جرامًا". قلت: "والانتصار الثالث؟ ". قال: "لعبت اليوم بالنرد مع صديقنا فلان، فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار ... أفتراني بعد ذلك كله حقيقًا بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟ ". قلت: "بلى! بلى! ... ". وتابعت طريقي بأسى بالغ، وألم عميق، وحزن غامر عليه، وعلى أنفسنا معه .... لقد سَحَقَنا وعَزَلَنا عن ميادين الحياة الجادة الطغيانُ الداخلي والخارجي، المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الحقيقية الكبرى، فشغلنا أنفسنا، وعوَّضنا مطامحنا، والتمسنا الراحة والمتعة والرضا بمثل انتصارات هذا السياسي الكبير القديم! أو بما لا يختلف عنها بالجوهر، وإن اختلف بالشكل والعنوان. أليس هذا ضربًا من ضروب الجنون أو الموت المعنوي الذى يصنعه الطغيان؟ أليس الموت الماديُّ الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟]. (¬1) انظر: "تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب" ص (61) - الطبعة العاشرة.

من الانحدار "تسبب فيه مَن قبلنا، وسيصلحه مَن بعدنا"! وأدركنا زمانًا لم تعد فيه "الخيانة" عارًا يُستر ولكنها "شرف" يُظهر، ووظيفة مرموقة، ومفخرة يُتهافَتُ عليها. ويبين الأستاذ محمد أحمد الراشد -أعزه الله- ملمحًا خطيرًا من ملامح محنة المسلمين في عصر انحطاط الهمم، فيقول: إن [محنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية، وكراسي الجامعات والصحف والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم، حتى غدًا صيدُ (¬1) المخططات في سرور، يحسب نفسه في انعتاق من أسر القديم، أي قديم كان. إن عصاة المسلمين اليوم ضحية تربية أخلدتهم إلى الأرض، أرادت لهم الفسوق ابتداءً، لتستخف بهم الطواغيت انتهاءً، وإنها خطة قديمة، يأخذها الطاغوت اللاحق عن الطاغوت السابق، حتى تصل أصولها إلى فرعون، "وذلك كما يقول الله سبحانه: {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين}، فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ، وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله، فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمرًا (¬2) ". وهكذا أدركوا المقتل الذي عرفه فرعون، فتواصوا بالإفساد، وأخذوا "يحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة ¬

_ (¬1) المقصود بالصيد هنا الفريسة المَصِيدَةُ. (¬2) انظر: "في ظلال القرآن" (9/ 45).

والفجور، مشغول بلقمة العيش، لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد، كي لا يفيق، بعد اللقمة والجنس، ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين" (¬1)، وصارت تلك سياستهم: "سياسة محاربة المساجد بالمراقص، ومحاربة الزوجات بالمومسات، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوةَ بفنون اللذة" (¬2). وهكذا تحول -بهذه التربية- ذلك الصقر الإسلامي إلى مثل طائر الحَجَل (¬3) في وداعته كما يقول "إقبال"، إنه الأدب "والترويض" الذي استعمله أئمة الضلال، أدبٌ: يَسْلبُ السَّرْوَ (¬4) جميلَ الميل ... ويرد الصقر مثل الحَجَلِ يسخر الركبان باللحن المبين ... ولقاع البحر يهوي بالسفين (¬5) نَوَّمَتْ ألحانهُ يقظتنا ... أطفأت أنفاسُه وَقْدَتَنا (¬6) وأُّشرِب الناس الذلَّ ... "إن الإنسان بفطرته نَفور من الذل، آبٍ على الحيف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيُراضون على الخضوع حينًا بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالًا بعد حال، حتى يدربوا عليه، كما يُستأنس السبعُ، ويؤلف الوحش، ولكن يبقى في الناس ذرات من ¬

_ (¬1) "السابق" (9/ 122). (¬2) "وحي القلم" للرافعي (2/ 258). (¬3) الحَجَلُ: الذكَر من القَبَج، الواحدةُ حَجَلة، طائر في حجم الحمام يُصاد. (¬4) السرو: شجر معروف، واحدته سَرْوَة. (¬5) السفين: جمع سفينة. (¬6) الوَقْدَةُ: أشدُّ الحَرِّ، يُقال: طَبَخَتْهُمْ وَقْدَةُ الصيف.

الكرامة، وفي الدماء شذرات من الجمر، فإذا دعا الداعي إلى العزة، وأذن بالحرية، وأيقظ الوجدان النائم، وحرَّك الشعور الهاجد: نبضت الكرامة في النفس، وبَصَّت (¬1) الجمرة في الرماد، وأفاقت في الإنسان إنسانيته، فأبى وجاهد، ورأى كل ما يلقى أهون من العبودية، وأحسن من هذه البهيمية. كل ذل يصيب الإنسان من غيره، ويناله من ظاهره: قريب شفاؤه، ويسير إزالته، فإذا نبع الذل من النفس، وانبثق من القلب، فهو الداء الدوي، والموت الخفي. ولذلك عمد الطغاة المستعبِدون إلى أن يُشْربوا الناسَ الذل، بالتعليم الذليل، والتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى، ليُميتوا الهمة، ويُخمدوا الحمية، وإذا بيدهم العصا والزمام" (¬2). وكان من تمام ما يلزمه هذا الترويض أن يضيقوا على دعاة الإسلام، ليستبد بالتوجيه التربوي والإذاعي والصحافي أدعياء العلم والشعر والحكمة الذين موهوا أمرهم بأسماء منظمات تبدو في ظاهرها مختلفة، وطفقوا يزينون للجيل الجديد، سليل المجاهدين، وشبل الأسود، أن يكون رقيقًا للشهوات والجنس والعيش الرغيد، وبدأوا يمحون تراث الأمة الذي نهضت به، ويطمسون قصص العلماء، حذرًا من أن تكون نبراسًا للجيل يستدل بها على طريق العمل ... فذلك قول شاعر الإسلام "إقبال" رحمه الله: ¬

_ (¬1) بَصَّ: برَقَ، ولمَعَ. (¬2) "الشوارد" لعبد الوهاب عزام ص (318).

ليس يخلو زمانُ شعبٍ ذليل ... من عليمٍ وشاعر وحكيم! فَرَّقَتهم مذاهب القول لكن ... جميع الرأى مقصد في الصميم: عَلموا الليثَ (¬1) جفلةَ (¬2) الظَّبي (¬3) وامْحوا ... قَصَصَ الأسْدِ في الحديث القديم هَمُّهم غِبطة الرقيق برِق ... كله تأويلهم خداع عليم وقَد كان (¬4) ... هذا هو عنوان خطة الكيد اليهودي والصليبي، إنه تعليم الليث الإسلامي جفلة الظبي، ومحو قصص أسد الإسلام من العلماء والزهاد والمجاهدين من تاريخ القرون الفاضلة الأولى لهذه الأمة المجاهدة. وأنتجت خطط التربية ذاك الظبي الجفول الذي لم يعد يقتحم، واستبدل العزم بالتفلت، والمسارعة إلى الهرب، إنهم هذا الجيل من أبناء المسلمين، شبلُ أسدٍ تحول إلى ظبي وديع، وحُرٌّ استرقُّوه ففْرح!] (¬5) اهـ. ... ¬

_ (¬1) الليث: الأسد. (¬2) جَفَل: شرد ونفر، ومضى وأسرع، وانزعج وفزع. (¬3) الظبي: جنس حيوانات من ذوات الأظلاف والمجوّفات القرون، أشهرها: الظبي العربي، ويقال له: الغزال الأعفر. ويقال: "لأتركنك تركَ الظبي ظله": لا أعود إليك، لأن الظبي إذا جَفَل ونفر من مكانٍ لا يعود إليه. (¬4) انظر: "تطوير التعليم بين الحقيقة والتضليل". (¬5) "المنطلق" ص (53 - 57).

الفصل الثاني أسباب انحطاط الهمم

الفصَل الثاني أسَبابُ انحطَاطِ الهِمَمِ * منها: الوهن، وهو كما فسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "حب الدنيا، وكراهية الموت" (¬1). - أما حب الدنيا: فرأس كل خطيئة كما في الحكمة المشهورة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، وسبب الاستئسار للشهوات، والانغماس في الترف، والتنافس على دار الغرور التي: تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل قال ابن الجوزي رحمه الله: (واعلم أن زمان الابتلاء ضيف قِراهُ الصبر، كما قال أحمد بن حنبل: "إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمحْ عواقبهم، ولا تضق صدرًا بضيق المعاش، وعلل الناقة بالحدْو تسِرْ: طاوِلْ بها الليلَ مالَ النجمُ أم جَنحَا ... وماطِلِ النومَ ضَنَّ الجَفْنُ أمْ سَمَحا فإن تَشَكَّتْ فَعَلِّلْها المَجَرَّةَ مِن ... ضوءِ الصباحِ وعِدْها بالرواحِ ضحَى وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل هدية -أي من المنصور- فردَّها، ثم قال بعد سنة لأولاده: "لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت". ¬

_ (¬1) جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، قال الألباني: "صحيح بمجموع طريقيه" كما في "الصحيحة" رقم (958).

ومَرَّ بشر على بئر، فقال له صاحبه: "أنا عطشان"، فقال: "البئر الأخرى"، فمرَّ عليها، فقال له: "الأخرى"، ثم قال: "كذا تُقطع الدنيا"، ودخلوا إلى بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له: "ألا بذا تؤذي؟ " فقال: "هذا أمير ينقضي" (¬1) اهـ. - وأما كراهية الموت: فثمرة حب الدنيا والحرص على متاعها، مع تخريب الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب، قال الطغرائي مبينًا أثر حب السلامة في الانحطاط بالهمة: حب السلامة يثني عزم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكَسَلِ إن حب الدنيا، وكراهية الموت صنوان لا يفترقان، وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان، وتأمل حال خسيس الهمة، الذي أورثته التربية الفاسدة حرصًا على حياةٍ؛ أيِّ حياة ولو ذليلة، وغرست فيه حب السلامة في موطن الجرأة والِإقدام والمخاطرة: أضحت تُشَجِّعُني هندٌ فقلتُ لها ... إن الشجاعة مقرونٌ بها العَطَبُ لا والذي حَجَّت الأنصارُ كعبتَه ... ما يشتهي الموت عندي مَن له أرب للحرب قومٌ أضلَّ اللَّهُ سعيهم ... إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السلبُ (¬2) آخر: يقول لي الأمير بغير جرمٍ ... تقدَّمْ حين حلَّ بنا المِراسُ فما لي إن أطعتُك في حياة ... ولا لي غير هذا الراسِ راسُ (¬3) ¬

_ (¬1) "صيد الخاطر" ص (540 - 541). (¬2) و (¬3) "المحاسن والأضداد" للجاحظ ص (59)، وأين هذان من قول=

ومنها: الفتور

والمِراس هنا: التضارب في الحرب، والجلد والقوة في ممارسة القتال، فأين هذا من ذلك العبد الصالح الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقَة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّعْ" (¬1)، والذي قال - صلى الله عليه وسلم - في وصفه: "رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع بهيعة (¬2) استوى على متنه، ثم طلب الموت مظانه" الحديث (¬3). * ومنها: الفتور، فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لكل عمل شِرَّةً، ولكل شِرَّة فترة (¬4)، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك" (¬5). ¬

_ =الشاعر: إذا أراد الغزوَ لم تُثْنِ عزمَه ... حَصَانٌ عليها نَظْمُ دُرٍّ يزينُها نَهَتْهُ فلما لم تر النهي عاقه ... بكتْ فبكى مما شجاها قطينُها ومقصوده من قطينها: وصيفاتها والخدم والأتباع من حولها، بل أين هو من "زهير بن أبي سلمى" القائل: وليس لمن لم يركب الهَوْلَ بُغْيَةٌ ... وليس لِرَحْلٍ حَطَّه اللهُ حاملُ (¬1) رواه البخاري. (¬2) الهيعة: الصوت تفزع منه، وتخافه من عدوٍّ. (¬3) رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه. (¬4) شِرَّة: نشاط وقوة، فترة: ضعف وفتور. (¬5) رواه الإمام أحمد، وابن أبي عاصم في "السنة"، وابن حبان، والبيهقي في "الشعب"، وصححه الألباني، وانظر: "مرقاة المفاتيح" (5/ 101).

ومنها: إهدار الوقت الثمين

وعن أم المؤمنين عائشهّ رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أيها الناس! خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل" (¬1). لكلٍّ إلى شأو العلا حركاتٌ ... ولكنْ عزيز في الرجالِ ثباتُ فمن ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "لا تكن مثلَ فلانٍ كان يقوم الليل فترك قيام الليل" (¬2). * ومنها: إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات: قال - صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" (¬3). والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه ... وأراه أسهلَ ما عليك يضيع و [قال الفضيل بن عياض: "أعرف من يَعُدُّ كلامه من الجمعة إلى الجمعة". ودخلوا على رجل من السلف، فقالوا: "لعلنا شغلناك؟ "، قال: "أصدقكم، كنت أقرأ فتركتُ القراءة لأجلكم". وجاء عابدٌ إلى السَّرِيِّ السَّقَطي، فرأى عنده جماعة، فقال: "صِرتَ مُناخَ البطالين! "، ثم مضى ولم يجلس. وقعد جماعة عند معروف الكرخي، فأطالوا، فقال: "إن مَلَك الشمس لا يفتر عن سوقها، فمتى تريدون القيام؟ ". ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه البخاري، والترمذي، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ومنها: العجز والكسل

وقال بعض السلف: "إذا طال المجلس صار للشيطان فيه نصيب". وكان عثمان الباقلاويُّ دائم الذكر لله تعالى، فقال: "إني وقت الإفطار أُحِسُّ بروحي كأنها تخرج، لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر"، وأوصى بعضُ السلف أصحابه، فقال: "إذا خرجتم من عندي فتفرقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثم" (¬1)]. * ومنها: العجز والكسل، وهما العائقان اللذان أكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التعوذ بالله سبحانه منهما، وقد يعذر العاجز لعدم قدرته، بخلاف الكسول الذي يتثاقل ويتراخى مما ينبغي مع القدرة، قال تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}. رُويْ أن رجلًا قال لخالد بن صفوان: "ما لي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار، وتدارسون الآثار، وتناشدون الأشعار، وقع عليَّ النوم؟ "، فقال: "لأنك حمار في مسلاخ إنسان". وقد ترى الرجل موهوبًا ونابغة، فيأتي الكسل فيُخذِّلُ همته، ويمحق موهبته، ويطفئ نور بصيرته، ويشل طاقته، قال الفراء رحمه الله: "لا أرحم أحدًا كرحمتي لرجلين: رجلٍ يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه، وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم، ولا يتعلم"، قال المتنبي: ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا ... كنقص القادرين على التمام ¬

_ (¬1) انظر "قيمة الزمن عند العلماء" ص (43)

ومنها الغفلة

* ومنها الغفلة، وشجرة الغفلة تُسْقَى بماء الجهل الذي هو عدو الفضائل كلها. هل علمتم أمة في جهلها ... ظهرت في المجد حسناءَ الرداء؟ قال عمر رضي الله عنه: "الراحة للرجال غفلة". وقال شعبة بن الحجاج: "لا تقعدوا فراغًا فإن الموت يطلبكم". وسئل ابن الجوزي: "أيجوز أن أفسح لنفسي في مُباح الملاهي؟ "، فقال: "عند نفسك من الغفلة ما يكفيها". قال الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله بعد ما أورد الآثار السابقة: [فإن اعترض معترض، أتيناه بمثل كلام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: "لا بد من سِنة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم". والمراد تقليل الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم، كل حسب صحته وظروفه خاصة وأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه، وتفتيشه، مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية، ذلك أنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، والرذائل تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء وسيوف الأمراء، أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعًا مبصَرًا بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف. وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع والمنظور، فضلًا عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها،

ومنها: التسويف والتمني

فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لوقته أكثر مما كان يجب على السلف. وما أصدق تصويرَ إمامِ تركيا "بديع الزمان سعيد النورسي" رحمه الله لهذه الحقيقة حين يقول: (إن هذه المدنية السفيهة، المصيِّرة للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلها، ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباحًا ومساءً، غلظ بسببها وتكاثف بملاهيها حجاب الغفلة، بحيث لا يُخرق إلا بصرف همة عظيمة)] (¬1) اهـ. * ومنها: التسويف والتمني: وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخير، إما يعيقها بـ "سوف" حتى يفجأه الموت، فيقول: {ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب}، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يُدمن ركوبه مفاليس العالم، كما قيل: إذا تمنيت بتُّ الليلَ مغتبطًا ... إن المنى رأسُ أموال المفاليس وبضاعة رُكَّابه: مواعيد الشيطان، وخيالات المحال والبهتان، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة، تتلاعب براكبه، كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهيِنة خسيسة سفلية، ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الدنية .... فيتمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسه، وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال"، إذ استيقظ فإذا يده والحصير (¬2). ¬

_ (¬1) "الرقائق" ص (57 - 59). (¬2) انظر: "مدارج السالكين" (1/ 456 - 457)، وقد جاء في بعض الكتب:=

وانتبه من رقدة الغفـ ... ـلة، فالعمر قليل واطَّرِحْ "سوف" و"حتى" ... فهُما داءٌ دخيل قال رجل لابن سيرين: "إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح! فما تفسير هذه الرؤيا؟ "، فقال له: (أنت رجل كثير الأماني والأحلام". وما أحسن ما قال "أبو تمام": من كان مرعى عزمه وهمومه ... روضَ الأماني لم يزِل مهزولا وعن الحسن قال: (المؤمن من يعلم أن ما قال الله عز وجل كما قال، والمؤمن أحسن الناس عملًا، وأشد الناس خوفًا، لو أنفق جبلًا من مال ما أمن دون أن يُعاين، لا يزداد صلاحًا وبرًّا وعبادة إلا ازداد فَرَقًا، يقول: "لا أنجو، لا أنجو"، والمنافق يقول: "سواد الناس كثير، وسيُغفر لي، ولا بأس عليَّ"، يسيء العمل، ويتمنى على الله تعالى) (¬2). وقال "المتنبي" منزهًا نفسه عن الاستغراق في أحلام اليقظة، ومبينًا كيف ألف الحقائق، واعتاد ركوب المخاطر: ¬

_ = (أن ناسكًا كان له عسل وسمنٌ في جَرَّة، ففكَّر يومًا، فقال: "أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشترى خمسة أعنُزٍ فأولِدُهُنَّ في كل سنة مرتين؛ ويبلغ النَّتاجُ في سنين مائتين، وأبتاع بكل أربعٍ بقرة، وأصيب بَذْرًا فأزرع، ويَنْمِي المالُ في يدى، فأتخذ المساكنَ والعبيدَ والإماءَ والأهلَ، ويُولَدُ لي ابنٌ فأُسَمِّيه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربتُ بعصاي رأسه"، وكانت في يده عصا، فرفعها حاكيًا للضرب، فأصابت الجرة فانكسرت، وانصبَّ العسلُ والسمن على رأسه) اهـ. من "عيون الأخبار" (3/ 263 - 264): (¬2) "الزهد" لابن المبارك ص (188).

ومنها: ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا

وما كنتَ ممن أدركَ المُلكَ بالمُنى ... ولكنْ بأيامٍ أشَبْنَ النواصيا لبستَ لها كُدْرَ العَجاج (¬1) كأنما ... ترى غيرَ صافٍ أن ترى الجوَّ صافيا * ومنها: ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا، الذي كلما هممت بالنهوض جذبك إليها، وغرك قائلًا: "أمامك ليل طويل فارقد". عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنما مَثَل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكِير (¬2)، فحاملُ المسك: إما أن يُحْذِيك (¬3)، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكِير: إما أن يُحْرِق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة" (¬4). فحذار من مجالسة المثبطين من أهل التبطل والتعطل واللهو والعبث، فإن "طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري، وليس إعداء الجليس جليسه بمقاله وفِعَاله فقط، بل بالنظر إليه! والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقًا مناسبة لخلق المنظور إليه ... ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظن بالنفوس البشرية؟! " (¬5). ولا تجلس إلى أهل الدنايا ... فإن خلائق السفهاء تُعْدي * ومنها: العشق، لأن صاحبه يحصر همته في حصول معشوقه، فيُلهيه عن حب الله ورسوله {بئس للظالمين بدلًا}، إن عالي الهمة لا يستأسر للعشق الذي "يمنع القرار، ويسلُب المنام، ويولِّه العقل، ويحدث الجنون، ¬

_ (¬1) كدْر العَجاج: غبار الحرب. (¬2) الكير: جلد غليظ ينفخ فيه النار. (¬3) يُحذيك: يعطيك. (¬4) متفق عليه، واللفظ لمسلم. (¬5) "فيض القدير" (5/ 507).

ومنها: الانحراف في فهم العقيدة

وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه، وأتلف دينه ودنياه. والعشق يترك الملِك مملوكًا، والسلطان عبدًا، ترى الداخل فيه يتمنى منه الخلاص، ولات حين مناص، وكم أكبت فتنة العشق رؤوسًا على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم" (¬1). * ومنها: الانحراف في فهم العقيدة، لاسيما مسألة القضاء والقدر، وعدم تحقيق التوكل على الله سبحانه وتعالى، وبدعة الإرجاء. * ومنها: الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد، واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم نظرًا إلى قوله - صلى الله عليه وسلم-: "وإن لأهلك عليك حقًّا"، مع الغفلة عن قوله - صلى الله عليه وسلم-: "وإن لربك عليك حقًّا"، وقوله: "فأعط كل ذي حق حقه" (¬2)، وقد عَدَّ القرآن الكريم الأهل والأولاد أعداءً للمؤمن إذا حالوا بينه وبين طاعة الله عز وجل، روى ابن جرير عن عطاء بن يسار في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادم عدوًّا لكم فاحذروهم} قال: (نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه، ورققوه، فقالوا: "إلى مَن تدعُنا؟ "، فيرق، ويقيم، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوَّا لكم فاحذروهم}. * ومنها: المناهج التربوية والتعليمية الهدَّامة التى تثبط الهمم، وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات، وتخرب العقول، وتنشئ الخنوع، ¬

_ (¬1) انظر: "روضة المحبين" ص (182 - 190). (¬2) أصل الحديث رواه البخاري، والترمذى، والبيهقي.

وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات، والشعور بالدونية، كقول بعض الصوفية: "الفقر هو الذي يأكله القمل، ولا يكون له ظفر يحك به نفسه"، وقولِ ثانٍ: "الصوفي: من يرى دمه هدرًا، وملكه مباحًا"، وقولِ ثالث: إنه ما سُرَّ في إسلامه إلا ثلاث مرات: "كنت في سفينة، فلم أجد أحقر مني فيها، وكنت مريضًا في المسجد، فجرَّني المؤذن إلى خارجه، وكان عليَّ فرو فنظرت فيه، فلم أميز بين شعره، وبين القمل من كثرته"! ومن ذلك: منهج بعض الصوفية في الإعراض عن علوم القرآن والسنة، وترهيب مريديهم من طلب العلم الشرعي حتى سقط من كُمِّ أحدهم يومًا قلم كان يخفيه، خشية أن يُفتضح بينهم بطلب العلم، فقال له شيخه: "استر عورتك"، وروى ابن الجوزي عن جعفر الخالدي قال: (لو تركني الصوفية لجئتكم بأسانيد الدنيا، لقد مضيت إلى عباس وأنا أحدث، فكتبت عنه مجلسًا واحدًا، وخوجت من عنده، فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية، فقال: "إيش هذا معك"؟ فأريته إياه، فقال: "ويحك تدع علم الخِرَق، وتأخذ علم الورق، ثم مزَّق الأوراق، فدخل كلامه في قلبي، فلم أعد إلى عباس". وأخطر منها وأضر المناهج التربوية والتعليمية التي ارتضت العالمانية دينًا، فراحت تسمم آبار المعرفة التي يستقي منها شباب المسلمين، لتخرج أجيالًا مقطوعة الصلة بالله، تبتغى العزة في التمسح على أعتاب الغرب، وتأنف من الانتساب إلى الإسلام.

ومنها: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام

* ومنها: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام، مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء، وسنن الله عز وجل في خلقه، كما ينتج عنه استطالة الطريق فيضعف السير إلى الله عز وجل، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعزي أصحابه المضطهدين في مكة بتبشيرهم بأن المستقبل للإسلام، وبأن العاقبة للمتقين. وصح عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: (شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وهو متَوسِّد بُرْدَةً له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان مَن قبلكم، يؤخذ الرجل، فيُحفَر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتي بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللَّهَ والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون") (¬1). أخي ستبيد جيوش الظلام ... ويشرق في الكون فجر جديد فأطلق لروحك إشراقها ... تر الفجر يرمقنا من بعيد ... ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" (7/ 164 - 167).

الفصل الثالث من أسباب الارتقاء بالهمة

الفَصْل الثالِث مِن أسبَابِ الارتقاءِ بالهِمَّةِ * العلم والبصيرة، فالعلم يصعد بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويُصَفِّي النية، ذكر القُصَّاص أن رجلاً خطب امرأة ذات منصب وجمال، فأبت؛ لفقره، وقلةِ حسبه، ففكر بأيِّ الأمرين ينالها: أبالمال أم الحسب؟ فاختار الحسب، وطلب له العلم، حتى أصبح ذا مكانة، فَبَعَثَتْ إليه المرأة تعرضُ نفسها، فقال: "لا أوثر على العلم شيئًا". * والعلم يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فيتقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبد، كفضول الأكل والنوم والكلام، ويراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات امتثالًا لقوله - صلى الله عليه وسلم-: "أعط كل ذي حق حقه"، ويبصره بحيل إبليس - وتلبيسه عليه كي يحول بينه وبين ما هو أعظم ثوابًا، قال أبو سليمان: "يجيئك -أي إبليس- وأنت في شيء من الخير، فيشير لك إلى شيء من الخير دونه ليربح عليك شَعيرة". * ومنها: إرادة الآخرة، وجعل الهموم همًّا واحدًا: قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا}. وقال - صلى الله عليه وسلم-: "من كانت همَّه الآخرةُ؛ جمع الله له شملَه، وجعل غناه

ومنها: كثرة ذكر الموت

في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت همه الدنيا، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له" (¬1). * ومنها: كثرة ذكر الموت: لأنه يدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة، وإيقاظ العزم على الاستقامة. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (يينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ بصر بجماعة فقال: "علام اجتمع عليه هؤلاء؟ " قيل: "على قبر يحفرونه"، قال: ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا، قال: "أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعِدُّوا") (¬2). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه، وهو لا يدري أأرضى الله أم أسخطه، وأبكاني فراق الأحبة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحزبه، وهول المُطلَع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله، يوم تبدو السريرة علانية، ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار". وقيل لبعض الزهاد: "ما أبلغ العظات؟ " قال: "النظر إلى ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (948). (¬2) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وابن ماجه، وأحمد، وحسنه في "الصحيحة" رقم (1751).

الأموات"، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأوزاعي: "أما بعد، فإنه مَن أكثر ذكر الموت، رضي من الدنيا باليسير". وعن عطاء قال: (كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون). وكان يقول صالح المري: "إن ذكر الموت إذا فارقنى ساعة فَسَدَّ علَيَّ قلبي"، وقال الدقاق: "من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة". (كما أن مشاهدة المحتَضَرين، وملاحظة سكرات الموت ونزعاته، وتأمل صورة الميت بعد مماته، مما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمسح الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب. ذكر عن الحسن البصري أنه دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: "الطعام يرحمكم الله"، فقال: "يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى ألقاه") (¬1). وقال اللبيدي: وجدت بعد موت أبي إسحاق الجبنياني رحمه الله رقعة تحت حصيره مكتوبة بخطه: (رجل وقف له هاتف، فقال له: ¬

_ (¬1) "التذكرة" للقرطبي ص (12).

ومنها: الدعاء؛ لأنه سنة الأنبياء

"أحسِن، أحسن عملك، فقد دنا أجلك"، فقال لي ولده عبد الرحمن: "إنه كان إذا قصَّر في العمل، أخرج الرقعة، فنظر فيها، ورجع إلى جِدَّه") (¬1). ما زال يلهج بالرحيل وذِكره ... حتى أناخ ببابه الجمَّالُ فأصابه مستيقظًا متشمرا ... ذا أُهْبةٍ لم تُلْهِهِ الآمال * ومنها: الدعاء؛ لأنه سنة الأنبياء، وجالب كل خير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم-: "أعجز الناس من عجز عن الدعاء" الحديث (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم-: "إذا تمنَّى أحدكم، فليُكثر، فإنما يسأل ربه" (¬3)، ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابن عباس ما دل على ذكائه دعا له: "اللهم فقهه في الدين" وعلِّمه التأويل" (¬4)، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - عقب الصلاة: "اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك" (¬5). إذا لم يكن من الله عون للفتى ... فأول ما يجني عليه: اجتهاده * ومنها: الاجتهاد في "حصر" الذهن (¬6)، وتركيز الفكر في معالي ¬

_ (¬1) "ترتيب المدارك" (2/ 516). (¬2) رواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقى في "الشعب"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 1055). (¬3) رواه ابن حبان وصححه، والطبراني في "الأوسط"، وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح" اهـ من "المجمع" (10/ 150). (¬4) رواه البخاري. (¬5) رواه أبو دواد، والنسائي، وصححه النووي. (¬6) قال: "وليم مولتون مارستن" -المتخصص في علم النفس-: "والعقل الإنساني يصبح أداة مدهشة الكفاءة إذا ركزَ تركيزًا قويًّا حادًّا"،=

الأمور، ولنا في أئمة السلف والخلف أحسن الأسوة في ذلك، قال الحسن: "نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل". كان الخليل بن أحمد يخرج من منزله، فلا يشعر إلا وهو في الصحراء، ولم يُرِدْها من شغله بالفكر. وكان يدخل الداخل إلى أبي تمام الشاعر، وهو يعمل الشعر، فلا يشعر به. وكانت لابن سَحْنون سُرِّيَّة، فطلب منها ذات يوم أن تُعِدَّ له طعامًا، وشُغِل بالتأليف والرد على المخالفين، وأحضرت الطعام، وبعد طول انتظار أخذت تطعمه -تلقمه- حتى أتى عليه، وتمادى في عمله حتى الفجر، ثم سألها أن تحضر الطعام فأخبرته بأنه أتى عليه دون أن يشعر. وذكر السبكي في "طبقات الشافعية" عن أبيه الإمام تقي الدين أنه: ¬

_ =ونقل عن وليم جيمس وهو أبو علم النفس الحديث أنه قال:- "إن الفرق بين العباقرة وغيرهم من الناس العاديين ليس مرجعه إلى صفة أو موهبة فطرية للعقل، بل إلى الموضوعات والغايات التى يوجهون إليها هممهم وإلى درجة التركيز التي يسعهم أن يبلغوها". ثم يقول: "وليم مولتون": "وهذه القدرة تكتسب بالمرانة، والمرانة تتطلب الصبر فإن الانتقال من الشرود إلى حصر الذهن حصرًا بيِّنًا محكمًا هو ثمرة الجهد الملح، فإن استطعت أن ترد عقلك مرة بعد أخرى وخمسين مرة، ومئة مرة إلى الموضوع الذي اعتزمت معالجته فإن الخواطر التي تتنازعك لا تلبث أن تخلي مكانها للموضوع الذي آثرته بالاختيار ثم تلقى نفسك آخر الأمر قادرًا على حصر ذهنك بإرادتك فيما تختار" اهـ. نقلًا من "روح الصلاة في الإسلام" للشيخ عفيف طبارة ص (32).

(كان من الاشتغال على جانب عظيم بحيث يستغرق غالب ليله وجميع نهاره، كان يخرج من البيت صلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فرُّوجًا فيأكله، ويعود إلى الاشتغال إلي المغرب، فيأكل شيئًا حُلْوًا لطيفًا، ثم يشتغل بالليل، وهكذا لا يعرف غير ذلك، حتى ذكر لي أن والده قال لأمِّه: "هذا الشاب ما يطلب قطُّ درهمًا ولا شيئًا، فلعله يرى شيئًا يريد أن يأكله، فضعي في منديله درهمًا أو درهمين"، فوضعت نصف درهم، قالت الجدة: فاستمر نحو جمعتين وهو يعود والمنديل معه، والنصف فيه، إلى أن رمى به إليَّ، وقال: "أيش أعمل بهذا؟ خذوه عني" (¬1). وكان الإمام ابن مالك النحوي -صاحب "الألفية" وغيرها- كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب شيئًا من محفوظه حتى يراجعه في محله، ولا يُرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرأ. حُكَي: (أنه توجه يومًا مع أصحابه للفُرجة بدمشق، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوه، غفلوا عنه بسويعة، فطلبوه فلم يجدوه، ثم فحصوا عنه فوجدوه منكبًّا على أوراقه). قلبٌ يطل على أفكاره، ويَدٌ تُمضي الأمورَ، ونفسٌ لهوُها التعب والشيخ أحمد بن علي نجم الدين بن الرفعة: "كان كثير الصدقة، مُكِبًّا على الاشتغال، حتى عرض له وجع المفاصل، بحيث كان الثوب إذا لمس جسمه آلمه، مع ذلك معه كتاب ينظر إليه، وربما انكبَّ على وجهه وهو يُطالع"، وهو الذي قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية بعد مناظرة بينهما: "رأيت شيخًا تتقاطر فروع الشافعية من لحيته"، وقال ¬

_ (¬1) "طبقات الشافعية" (10/ 144).

ومنها: التحول عن البيئة المثبطة

الإسنوي عنه: "ما أخرجت مصر بعد ابن الحدَّاد أفقه منه" اهـ (¬1). ومما يرُوى (أن أميرًا بالشام أدر على الحسن بن الهيثم مالاً كثيرًا، فقال له: "يكفيني قوتُ يومٍ، وتكفيني جارية وخادم، فما زاد على قوت يومي: إن أمسكتهُ كنتُ خازنك، وإن أنفقته كنت كهرمانك ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي؟ ") (¬2). * ومنها: التحول عن البيئة المثبطة: إن للبيئة المحيطة بالإنسان أثرًا جسيمًا لا يخفى، فإذا كانت بيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون فإن على المرء أن يهجرها إلى حيث تعلو همته، كي يتحرر من سلطان تأثيرها، وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية (¬3). تقول ابنة السعدي وهي تلومني ... أما لك عن دار الهوان رحيلُ فإن عناء المستنيم إلى الأذى ... بحيث يذل الأكرمون طوبل وعندك محبوك السراة مطهم ... وفي الكف مطرور الشباة صقيل (¬4) ¬

_ (¬1) "الدرر الكامنة" (1/ 306). (¬2) "خمسة أعلام في الفكر الإسلامي" لمصطفى عبد الرازق، نقلاً من "رعاية النابغين" ص (153). (¬3) والهجرة تكون فرضًا واجبًا إذا كانت من دار الكفر إلى دار الإسلام. (¬4) فرس محبوك: قوي شديد، سَراة الفرس: أعلى متنه، والمطهَّم: التام المتناهي في الحسن، والمطرور: ذو المنظر والرواء والهيئة الحسنة، والشباة: حَدُّ طَرَفِ السيف، والصقيل: المجلوُّ.

وأشد الناس حاجة إلى تجديد البيئة المحيطة، وتنشيط الهمة، الحديث العهد بالتوبة، فإن من شأن التحول من بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة أن ينسيه ما يجذبه إلى صحبة السوء وأماكن السوء، فيجتمع قلبه، ويلتئم شمله، وتتوحد همته وتتوجه بصدق وعزم إلى أسلوب من الحياة جديد، وهذا عين ما أشار به "العالم" الواعي على قاتل المائة (¬1)، حين شفَّع قوله: "نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة" بقوله: "انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء"، ولما جاءه الموت، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كان قربه إلى القرية الصالحة بالنسبة إلى بلد السوء سببًا في قبض ملائكة الرحمة إياه، ففي بعض الروايات: "فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجُعل من أهلها"، وفي رواية: "فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرَّبي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له" وفي رواية: "فنأى بصدره نحوها". ولعل هذا المعنى كامن أيضًا في تشريع نفي الزاني غير المحصن وتغريبه سنة بعيدًا عن وطنه، كي تجتمع عليه عقوبة بدنية بالجلد، وعقوبة قلبية بالنفي، وفي الوقت نفسه يُبْعَد عن مسرح الجريمة كي ينسى ذكراها، ولا يبقى حيث يعامل باحتقار وإهانة، ويتعرض للمضايقات، ويُعْطَى فرصة كافية لاستئناف التوبة الصادقة والحياة الكريمة. ولعل هذه الحكمة التربوية المستقاة من تلك الأدلة الشرعية هي مستند ¬

_ (¬1) متفق عليه.

صحبة أولي الهمم العالية

جماعة التبليغ والدعوة؛ في أحد ركائز أسلوبهم التربوي والتعليمي ألا وهو ضرورة نزع المدعوِّ من بيئته، وغمسه -لفترة كافية- في بيئة أخرى، فيسهل تطبيع هذا التائب بغرس قيم ومفاهيم جديدة، مع تطهيره من القيم المراد نزعها من قلبه، وبصورة سلسة وتلقائية وفعالة، وتفسر الجماعة ذلك بمثال، فتقول: "إذا سقطت الجوهرة في مكان نجس فيحتاج ذلك إلى كثير من الماء حتى تُنَظَّف إذا صببناه عليها وهي في مكانها، ولكن إذا أخرجناها من مكانها سهل تنظيفها بالقليل من الماء" (¬1). * ومن أهم أسباب الارتقاء بالهمة: صحبة أولي الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم. فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي، وإن العبد ليستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم، لأن رؤيتهم تذكره بالله عز وجل، وعن أنس رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم-: "إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر" (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قال: "هم الذين يُذكَرُ الله لرؤيتهم" (¬3). ¬

_ (¬1) "الصفات الست عند جاعة التبليغ" لمؤلفه محمد الشرقاوي. (¬2) أخرجه ابن ماجه، وابن أبي عاصم في "السنة"، وحسَّنه الألباني بطرقه كما في "الصحيحة" رقم (1332). (¬3) رواه أبو نعيم في "أخبار أصبهان"، والواحدي، والديلمي، كما في "السلسلة الصحيحة" رقم (1646).

ورُوي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: (كان الربيع بن خُثَيمِ إذا دخل على ابن مسعود لم يكن له إذن لأحد حتى يفرغ كُلُّ واحدٍ من صاحبه، فقال له ابن مسعود: "يا أبا يزيد، لو رآك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرتُ المخبتين"). وقالت العرب: "لولا الوئام لهلك الأنام" (¬1). وقال زين العابدين على بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: "إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه". أنت في الناس تقاس ... بالذي اخترتَ خليلا فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذكرًا جميلا عن جعفر قال: (كنت إذا وجدت من قلبي قسوة، نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبتُ أن وجهه وجه ثكلى). وقال ابن المبارك: (إذا نظرتُ إلى "فضيل" جُدِّد في الحزن، ومقتُّ نفسي). وكان الإمام أحمد (إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق، أو اتباع للأمر: سأل عنه، وأحب أن يجرى بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله). ولأن التجريب قبل التقريب، كان الإمام أحمد رحمه الله يدقق في اختيار من يقربه منه ويدنيه، وعُرف عنه ذلك، حتى قال فيه الشاعر: ¬

_ (¬1) الوئام هنا: التشبه بالكرام، قال الماوردى في معناه: "لولا الناس يرى بعضهم بعضًا فيُقتدى بهم من الخير، وينتهى بهم عن الشر لهلكوا".

ويُحْسِنُ في ذات الإله إذا رأى ... مصيمًا لأهل الحق لا يسأم البلا وإخوانه الأدنون: كل موفق ... بصيرٍ بأمر الله يسمو إلى العلا وحكى ابن القيم رحمه الله بعض ما استفاده من ملاحظة شيخ الِإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: (وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، وما كان فيه من الحبس والتهديد والِإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة) (¬1) اهـ. وإذا أردت أن تلمس أثر الصحبة العالية الهمة في التسابق إلى الخيرات، فتأمل ما قاله محمد بن على السلمي رحمه الله: "قمت ليلة سحرًا لآخذ النوبة على ابن الأخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئًا، ولم تدركني النوبة إلى العصر". وقال عليُّ بن الحسين بن شقيق: "قمت لأخرج مع ابن المبارك فِي ليلة باردة من السجد، فذاكرني عند الباب بحديث، أو ذاكرته، فمازلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح". وهذا الشاعر "محمد إقبال" يدعو الله أن يمنَّ عليه بصاحب عالي الهمة: هب نَجيًّا يا ولي النعمةِ ... محرمًا يدرك ما في فطرتي ¬

_ (¬1) "الوابل الصيب" ص (76).

هب نجيًّا لقنًا ذا جنة ... ليس بالدنيا له من صلة وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "ما أعطي عبد بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم وُدًّا من أخيه فليتمسك به". وقال الحسن البصري: "إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة". يقول الأستاذ الدكتور "خلدون الأحدب" حفظه الله: (وإذا نظرنا إلى أولئك الذين استفادوا من لحظات أعمارهم، وكان من نتاجهم وأثرهم ما يعجب أو يدهش، نجدهم لا يصاحبون إلا المجدِّين العاملين، والنابهين الأذكياء، الذين يحرصون على أوقاتهم حرصهم على حياتهم، لأن الزمن هو الحياة. وصحبة هؤلاء الأمجاد المجدِّين المتيقظين للدقائق والثواني، كان له عظيم الأثر في همَّة مثل الإمام ابن جرير الطبري وابن عقيل الحنبلي وابن عساكر الدمشقي وابن تيمية وابن القيم وابن النفيس والِمزِّيُّ والذهبي وابن حجر وأضرابهم في غزارة إنتاجهم وجدِّته. يقول الإمام ابن عقيل الحنبلي صاحب كتاب "الفنون" -الذي مَرَّ خيره من قبل (¬1) -: "وعصمني الله من عنفوان الشبيبة بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرت إلَّا أمثالي من طلبة العلم". فالحريص الموفق الذي يروم المعالي، لا تراه إلا مع أهل العلم العاملين، وأولي الفضل والمجاهدة والحِكْمة والبصيرة، ليرشح عليه ما هم فيه أو بعضه، فيكون مثلهم أو قريبًا منهم. ¬

_ (¬1) راجع ص (197).

إن صحبة هؤلاء تعلِّم منافسة الزمان. وصحبة البطَّالين تعلم تضييع الزمان. قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب الرجل من هو مثله". فنعوذ بالله من صحبة البطَّالين) اهـ (¬1). وذكر الغزالي رحمه الله أن من آداب المتأدب أن: (يحترز عن مجالسة صاحب السوء، ليُقصي ولاية شياطين الجن والإنس من صحن قلبه، فيصفى عن لوثة الشيطنة) (¬2). إن من أقوى البواعث على ارتفاع الهمة أن تطلب صحبة عبد من عباد الله مجتهد في العبادة والعلم، فتلاحظ أقواله وتقتدي به، وكان بعضهم يقول: "كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده، فعملت على ذلك أسبوعًا". إلا أن هذا العلاج قد تعذر، إذ قد فُقِد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الأولين فينبغي أن يعدل من المشاهدة إلى السماع فلا شيء أنفع من سماع أحوالهم ومطالعة أخبارهم (¬3) وما كانوا فيه من الجهد الجهيد، وقد انقضى تعبهم، وبقى ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع. ¬

_ (¬1) "سوانح وتأملات في قيمة الزمن" ص (48). (¬2) " أيها الولد" ص (130). (¬3) ومظان ذلك كتب التراجم، "كسير أعلام النبلاء"، و"حلية الأولياء"، وغيرها.

ومنها: نصيحة المخلصين

ماتوا وغُيِّبَ في التراب شُخوصُهم ... والنَّشْرُ مِسْكٌ والِعظامُ رميمُ وينصح الإمام ابن الجوزي طالب العلم قائلًا: (فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلوِّ هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة. وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية، فيقتدي بها المبتدي، ولا صاحبَ ورع فيستفيد منه الزاهد. فاللهَ اللهَ وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال: فاتني أن أرى الديارَ بطَرْفي ... فلعلي أرى الديار بسَمْعي). ثم بيَّن رحمه الله ثمرة مطالعة كتب الأقدمين قائلًا: (فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع) (¬1) اهـ. * ومنها: نصيحة المخلصين: فقد قال - صلى الله عليه وسلم-: " (إن الدينَ النصيحةُ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬2) - وقد يكون هذا الناصح الأمين أبًا شفيقًا: قال سفيان بن عيينة: (قال لي أبي -وقد بلغت خمس عشرة سنة-: "إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله"، فجعلت وصية أبي قِبْلَة أميل إليها، ولا أميل عنها). - وقد يكون أمًّا رحيمة: ¬

_ (¬1) "صيد الخاطر" ص (366 - 367). (¬2) رواه مسلم وغيره.

فهذه أسماء ذات النطاقين توصي ابنها عبد الله بن الزبير لما استنصحها: (الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه، ولا تُمَكِّنْ من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: "إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي"، فليس هذا فعل الأحرار ولا مَن فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عِزٍّ أحبُّ إليَّ من ضربة بالسوط في ذل)، فقال: "يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني"، قالت: "يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله". - وقد يكون الناصح الأمين زوجة تحضه على الخير، وترقِّي همته، كامرأة حبيب أبي محمد التي انتبهت ليلة، وهو نائم، فأنبهته في السحر، وقالت: "قم يا رجل فقد ذهب الليل، وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قُدَّامنا، ونحن قد بقينا"، أو كالزوجة الصالحة العاقلة الذكية الدَّيِّنة "مَوْضِي بنت أبي وهطان" زوجة الأمر محمد بن سعود رحمه الله، والتي كان لنصيحتها أكبر الأثر في نصرة أعظم حركة تجديدية شهدتها الأمة منذ أوائل القرن الثاني عشر الهجري حتى يومنا هذا، فإنها هي التي حثت زوجها على مناصرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وشَدِّ أزره، وإشهارِ سيفه من غمده نصرةً لدعوة التوحيد. - وقد يكون الناصح الأمين رجلًا من عوام المسلمين: قال الإمام أحمد في وصف محنته: (صرنا إلى الرحبة، ورحلنا منها

في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: "أيكم أحمد بن حنبل؟ "، فقيل له: "هذا"، فقال للجمال: "على رِسْلِك"، ثم قال: "يا هذا، ما عليك أنْ تُقتل ها هنا، وتدخل الجنة؟ "، ثم قال: "أستودعك الله"، ومضى، فسألت عنه، فقيل لي: (هذا رجل من العرب، من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يُقال له: "جابر بن عامر" يُذكَر بخير) (¬1). وقال الإمام أحمد رحمه الله: (ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلَّمني بها في "رحبة طوق" (¬2)، قال: "يا أحمد! إن يقتلك الحق مُتَّ شهيدًا، وإن عِشْتَ عِشْتَ حميدًا"، فقوي قلبي) (3). وحكى الحافظ ابن كثير رحمه الله (أن أعرابيًّا نصح الإمام أحمد في المحنة، فقال: (يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم، وأنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا؛ فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله، فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقْتَلَ"، قال الإمام أحمد: "وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه") (¬3). وما أحسن ما كتب رجل أسره الصليبيون في بيت المقدس من أبيات على لسان المسجد الأقصى يخاطب صلاح الدين الأيوبيَّ رحمه الله تعالى: ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (11/ 241). (¬2) بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات. (¬3) "السابق" (11/ 241).

يا أيها الملك الذي ... لمعالم الصُّلبانِ نكَّسْ جاءت إليك ظُلامةٌ (¬1) ... تسعى من البيت المقدَّسْ كُلُّ المساجد طُهِّرَتْ ... وأنا -على شرفي- مُنَجَّسْ - أما نصائح العلماء فلا تسل عن حسنها وعميق أثرها في انبعاث الهمة: (سيق الإمام أحمد إلى المأمون مقيدًا بالأغلال، وقد توعده وعيدًا شديدًا قبل أن يصل إليه، حتى قال الخادم للإمام أحمد: "يَعُزُّ عَليَّ يا أبا عبد الله، أن المأمون قد سَلَّ سيفًا لم يسلَّه قبل ذلك، وأنه يُقسم بقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف" (¬2)، فانبري أبو جعفر الأنباري يشد أزر الإمام، قال رحمه الله: (لما حُمِل أحمد إلى المأمون أخبرتُ، فعبرتُ الفرات، فإذا هو جالسٌ في الخان، فسلمت عليه، فقال: "يا أبا جعفر! تعنَّيْتَ"، فقلت: "يا هذا، أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليُجيبنَّ خَلْقٌ، وإن لم تُجِب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك، فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب"، فجعل أحمد يبكي، ويقول: "ما شاء الله! "، ثم قال: "يا أبا جعفر، أعِدْ"، فأعدتُ عليه وهو يقول: "ما شاء الله! ") (¬3). وقال الإمام أحمد رحمه الله واصفًا حال رفيقه في المحنة: (ما رأيت أحدًا -على حداثة سنه، وقَدر علمه- أقومَ بأمر الله من محمد بن ¬

_ (¬1) الظُّلامة: ما يطلبه المظلوم، وهو اسم ما أخذ منه ظلمًا. (¬2) "البداية والنهاية" (1/ 332). (¬3) "سير أعلام النبلاء" (11/ 238).

المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف

نوح، إني لأرجو أن يكون قد خُتِم له بخير، قال لي ذات يوم: "يا أبا عبد الله! اللهَ اللهَ، إنك لست مثلي؛ أنت رجل يُقتدى بك، قد مَدَّ الخلق أعناقهم إليك؛ لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله"، فمات، وصليت عليه، ودفنته) (¬1). بل إن من لم يتصل مباشرة بالِإمام كان معه بوجدانه، يتحسر لعدم مشاركته إياه العذاب والآلام: (قيل لبشر بن الحارث الحافي يوم عُذِّب الِإمام أحمد: "قد ضُرِب أحمد بن حنبل إلى الساعة سبعة عشر سوطًا،، فمدَّ بشر رجله، وجعل ينظر إلى ساقيه، ويقول: "ما أقبح هذا الساق أن لا يكون القيد فيه نصرة لهذا الرجل! ") (¬2). وقال الذهبي: إن الحافظ القاسم بن محمد البِرْزالي رحمه الله (هو الذي حبَّب إليَّ طلب الحديث، فإنه رأى خَطِّي، فقال: "خطك يُشبه خَطَّ المحدثين"، فأثر قوله فيَّ، وسمعت منه، وتخرَّجْت به في أشياء). * ومن أسباب الارتقاء بالهمة: المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، وقال عز وجل: {وجاهدوا في الله حق جهاده}، وقال سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. فكبير الهمة لا يستنيم للأمر الواقع، بل يبادر ويبادئ في أقسى الظروف حماية لهمته من أن تهمد، ووقاية لها من أن تضمر، واستثمارًا ¬

_ (¬1) "السابق" (11/ 242). (¬2) "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (119).

لأول فرصة متاحة: ليس في كل حال وأوانِ ... تتهيا صنائع الإحسانِ فإذا أمكنت فبادِرْ إليها ... حَذَرًا من تعذر الإمكانِ ومن أخَّرَ الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فوتها: إذا هبَّت رياحك فاغتنمها ... فعقبى كل خافقة سكون ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الأسوة، فإنه لما خرج مهاجرًا إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقيا في طريق الهجرة بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا (¬1)، فلم يشغله مطاردة قريش إياه عن واجب الدعوة إلي الله. وهذا يوسف الصديق عليه السلام يبادر إلى استثمار الفرصة فيغتنم سؤال السجينين عن رؤياهما ليبث إليهما دعوة التوحيد من وراء الأسوار: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار} الآيات. وأملى شمس الأئمة السَّرَخْسِي كتابه "المبسوط" نحو خمسة عشر مجلدًا، وهو في السجن بـ "أوزجند"، كان محبوسًا فِي الجُبِّ بسبب كلمة نصح بها الخاقان، وكان يملي من خاطره من غير مطالعة كتاب وهو في الجبِّ، وأصحابه في أعلى الجب، وقال عند فراغه من شرح العبادات: "هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجمع والجماعات". وقال في آخر شرح الإقرار: "انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني ¬

_ (¬1) انظر: "البداية والنهاية" (8/ 216 - 217).

على ما هو من الأسرار، إملاء المحبوس في محبس الأشرار". وله كتاب في "أصول الفقه"، وشرح "السير الكبير" أملاه وهو فِي الجبِّ، ولما وصل إلى باب الشروط حصل له الفرج فأُطلق، فخرج في آخر عمره إلى "فرْغانة" فأنزله الأمير "حسن" بمنزله، ووصل إليه الطلبة، فأكمل الِإملاء (¬1). وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يكتب فتاواه وهو سجين ويرسلها إلى تلاميذه، ولما أصدر السلطان أمرًا بإخراج ما عنده من الكتب والأقلام والأوراق، ظل يكتب فتاواه ورسائله بالفحم، وعلى جدار السجن. ... ¬

_ (¬1) "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" ص (158) نقلاً من "من أخلاق العلماء" ص (202 - 203).

الفصل الرابع أطفالنا ... وعلو الهمة

الفَصْل الرابع أطفَالنَا ... وَعلُوّ الهِمَّةِ الأطفال هم المستقبل: وهذا الشعار حقيقة لا مجاز، واقعٌ لا خيال، فمِن ثَمَّ ينبغي أن يُصرف الهمُّ الأكبر إلى تهيئتهم ليكونوا مؤتمنين على مستقبل أمة الإسلام، وينبغي أن نتخلى عن نظرتنا إلى هؤلاء البراعم على أنهم لُعبة ملهية نتسلَّى بها، وننسى أن تربية الأطفال تبدأ مبكرًا جدًّا: قال الأستاذ محمد الصباغ حفظه الله: (سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلًا جاء يسترشده لتربية ابن له، أو بنت وُلِدت حديثًا، فسأله: "كم عمرها؟ "، قال: "شهر"، قال: "فاتك القطار"، وقال: "كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت، وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمُّه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن. ... يظن أن البكاء والصراخ يوصِّله إلى حقه") (¬1) اهـ. فينبغي على المصلحين أن يصرفوا قدرًا عظيمًا من الجهد في توجيه الآباء إلى الأساليب العلمية الصحيحة لتربية أولادهم في شتى مراحل نموهم، ¬

_ (¬1) "نظرات في الأسرة المسلمة" هامش ص (146 - 147).

كي يشبوا أصحاء نفسيًّا، وإلا فما أفدح الخسائر التي تتكبدها الأمة إذا هي أهملت تربية أبنائها! وأول قلعة يتحصن بها الطفل هي الأسرة، أقوى مؤسسة تربوية على الِإطلاق، والوالدان بصفة خاصة، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمَه نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشر، وأُهمِلَ إهمالَ البهائم شقي وهلك. ... وصيانته بأن يؤدِّبَه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق ... "، وقال الِإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: "وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قبل الآباء". وفي هذا أنزل الله تعالى آية من كتابه تتلى في المحاريب إلى آخر الزمن، قال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}، قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: "علِّموا أنفسكم وأهليكم الخير، وأدِّبوهم". وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيَّعه؟ حتى يَسأل الرجل عن أهل بيته" (¬1). وعن معمَل بن يسار رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ما ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان، وابن عدي في "الكامل"، وأبو نعيم في "الحلية"، وصححه الحافظ في "الفتح" (13/ 113).

من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يَحُطْها بنصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة" (¬1). وما أحسن ما قال بعضهم: وينشأ ناشئ الفتيان فينا ... على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى حِجّى، ولكن ... يعوِّده التديُّن أقربوه ورحم الله من قال: قد ينفع الأدبُ الأولاد في صغر ... وليس ينفعهم من بعده أدب إن الغصون إذا عدَّلتها اعتدلت ... ولا يلين ولو ليَّنْتَه الخشب وقال ابن خلدون: "التعليم في الصغر أشد رسوخًا، وهو أصل لما بعده" (¬2). ويتأكد الاهتمام بهذه التربية في زماننا الذي تتناوش فيها أطفالنا وأبناءنا فتن من كل صوب، يذكي لهيبها دعاة على أبواب جهنم، من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، همهم كل همهم أن يخرجوا من أصلابنا أجيالًا من الملاحدة الذين يرضون بالعالمانية ربًّا، ودينًا، ومنهاج حياة، فإن لم يتدارك الآباء أبناءهم بالتربية الإسلامية القويمة؛ افترستهم العالمانية ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) "المقدمة" ص (334).

الملحدة، وضمتهم إلى صفوفها ليحاربوا الله ورسوله والمؤمنين كما هو مشاهد في البلدان التي سبقت إلى اعتناق هذا الدين "اللاديني" المخرِّب. ومن رعى غنمًا في أرض مَسْبَعة (¬1) ... ونام عنها؛ تولى رعيها الأسَدُ لقد اشتد حرص السلف على مباشرة هذه المهمة الجسيمة، حتى أن المنصور بعث إلى مَن في الحبس من بني أمية، يقول لهم: "ما أشدُّ ما مَرَّ بكم في هذا المحبس؟ "، فقالوا: "ما فقدنا من تربية أولادنا". واشتد نكيرهم على مَن يصرف همه إلى الكبار فقط، ويهمل الصغار، وما ذاك إلا لأن الأمة محتاجة إليهم، وهم الأعمدة التي تبنى لتحمل ثقل البناء فيما بعد: قال عمرو بن العاص لحلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة، فلما قضى طوافه جلس إليهم وقد نحوا الفتيان عن مجلسهم، فقال: "لا تفعلوا! أوسعوا لهم، وأدنوهم، وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين، قد كنا صغار قومٍ أصبحنا كبار آخرين". وقد علق الإمام ابن مُفلح رحمه الله على هذه العبارة قائلًا: "وهذا صحيح لا شك فيه، والعلم في الصغر أثبت، فينبغي الاعتناء بصغار الطلبة لا سيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل على ذلك صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعًا من مراعاتهم والاعتناء بهم" (¬2). وكان الإمام الشاشي محمد بن الحسين الفقيه الشافعي رحمه الله ينشد: تعلم يا فتى والعود رطب ... وطينك لَيْنٌ والطبع قابل ¬

_ (¬1) المَسْبَعة: الأرض الكثيرة السباع. (¬2) "الآداب الشرعية، والمنح المرعية" (1/ 225).

ذو الهمة العالية لا يخفى من زمان الصبا

ذُو الهِمَّة العَالِية لَا يخْفَى مِنْ زمَانِ الصِّبَا تظهر علامات النجابة ومخايل العبقرية في الصغر، حتى لا يكاد يشك ذو فراسة إيمانية صادقة في صيرورة صاحبها إلى تسنم ذرا العلا، والتربع على قمة المجد، والإرتقاء إلى منصب الإمامة. ولقد اهتم المسلمون بالاجتهاد في الاكتشاف المبكر للنابغين، ووضعوا لذلك معايير دقيقة، وأوْلَوُا الصغار الذين توسَّموا فيهم النجابة رعاية خاصة ترقبًا لما تفرسوه فيهم من الصدارة. قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: (تأملت الذين يختارهم الحق عز وجل لوَلايته والقرب منه، فقد سمعنا أوصافهم ومن نظنه منهم، ممن رأيناه. فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصًا كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته، فتراه حسن الوجه، معتدل القامة، سليمًا من آفة في بدنه، ثم يكون كاملًا في باطنه، سخيًّا جوادًا، عاقلًا، غير خِبٌّ ولا خادع، ولا حقود ولا حسود، ولا فيه عيب من عيوب الباطن. فذاك الذي يربيه من صغره، فتراه في الطفولة معتزلًا عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ، ينبو عن الرذائل، ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدِّلًا على أغصان الشباب، فهو

حريص على العلم، منكمش على العمل، حافظ للزمان، مراعٍ للأوقات، ساعٍ في طلب الفضائل، خائف من النقائص. ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه، لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطإ إن همَّ، ويستخدمه في الفضائل، ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه) (¬1) اهـ. * عن محمد بن الضحاك أن عبد الملك بن مروان قال لرأس جالوت أو لابن رأس جالوت: "ما عندكم من الفِراسة في الصبيان؟ "، قال: "ما عندنا فيهم شيء، لأنهم يُخلَقون خلقًا بعد خلق، غير أنا نرمُقهم، فإن سمعنا منهم من يقول في لعبه: "من يكون معي؟ " رأيناه ذا همة وحُنُوٍّ صَدَقَ فيه، وإن سمعناه يقول: "مع من أكون؟ " كرهناها منه، فكان أولُ ما عُلِم من ابن الزبير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان، وهو صبيٌّ، فمرَّ رجل فصاح عليهم، ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى، وقال: "يا صبيان اجعلوني أميركَم، وشُدُّوا بنا عليه". وَمرَّ به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان فَفَرُّوا ووقف، فقال له: "ما لك لم تَفرَّ مع أصحابك؟ "، قال: "يا أمير المؤمنين! لم أجْرِم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة، فأوسِّع لك". فمثل هذه الشخصية "الواعدة" أحق بقول القائل: رُفِعَتْ إليكَ وما ثُغِرْ ... تَ (¬2) عيونُ مستمعٍ وناظرْ ¬

_ (¬1) "صيد الخاطر" ص (441). (¬2) يُقال: ثغر الغلام: إذا سقطت أسنانه الرواضع.

ورأوا عليك ومنك فى الـ ... ـمهد النُّهى ذات البصائر * ونظر الحطيئة إلى ابن عباس يتكلم في مجلس عمر، فقال: "من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعَلَاهم في قوله؟ "، فقال ابن مسعود: "لو بلغ أسناننا ما عَشَّره (¬1) منا رجل". * ورأى بُكَير بن الأخنس المُهَلَّبَ (¬2)، وهو غلام، فقال: خذوني به إن لم يَسُدْ سَرَواتِهم ... ويبرع حتى لا يكون له مِثْلُ * وقال حمزة بن بيض لخلَّد بن يزيد بن المهلَّب: بلغت لعشر مضت من سِنيـ ... ـك ما يبلغ السيد الأشيبُ فهمُّك فيها جِسام الأمور ... وهَمُّ لِدَاتِك (¬3) أن يلعبوا * ونظر رجل إلى أبي دُلَف في مجلس المأمون، فقال: "إن همته ترمي به وراء سِنِّه". * قال يحيى بن أيِوب العابد: حدثنا أبو المثنى قال: (سمعتُهم بمَرْو يقولون: "قد جاء الثوريُّ، قد جاء الثوريُّ"، فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بَقَلَ (¬4) وجهُه). قال الذهبي: "كان يُنَوَّهُ بذِكره في صغره من أجل فرط ذكائه ¬

_ (¬1) كذا في "عيون الأخبار" (1/ 229)، وعبارة اللسان: "عاشره"، وقال فِي بيانها: "لو كان في السن مثلنا، ما بلغ أحد منا عُشر علمه". (¬2) هو الأمير البطل قائد الكتائب أبو سعيد المهلب بن أبي صُفْزة، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (4/ 383). (¬3) لدات: جمع لِدة، واللَّدة: التّرْب، من وُلِد معك. (¬4) بقل وجهه: خرج شعره.

وحفظه، وحدَّث وهو شاب". وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السَّبيعُّي سفيان الثوريَّ مُقبلًا، فقال: {وآتيناه الحكم صبيًّا}. * وكان البخاري ذكيًّا سريع الحفظ، فقد حفظ سبعين ألف حديث وهو صغير، وكان ينظر إلى الكتاب، فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة، قال محمد بن حاتم: (كنت أختلف أنا والبخاري -وهو غلام- إلى الكُتَّاب، فيسمع، ولا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له يكتب مثلنا، فلما بلغ ما كتبناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها منه، وقرأها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه). * وروى الذهبي عن محمد بن أبي حاتم قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل يقول: (وكنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أُسلم عليهم، فقال لي مؤدب من أهلها: "كم كتبتَ اليوم؟ "، فقلت: "اثنين" -وأردت بذلك: حديثين- فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: "لا تضحكوا! فلعله يضحك منكم يومًا"). وقال بكر بن منير: سمعت البخاري يقول: (كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص، أسمع كتاب "الجامع" لسفيان الثوري، من كتاب والدي، فمرَّ أبو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر، فراجعته، فقال الثانية والثالثة، فراجعته فسكت، ثم قال: "من هذا؟ " قالوا: "ابن إسماعيل"، فقال: "هو كما قال، واحفظوا أن هذا يصير يومًا رجلًا").

* وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله تعالى: (كنت يتيمًا في حجر أمي، فدفعتني إلى الكُتَّاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما جمعتُ القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظها، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى العظم فآخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جَرَّة، فاجتمع عندي حُبَّان) (¬1). وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: (كنت وأنا في الكتاب أسمع المعلم يلقِّن الصبي الآية، فأحفظها أنا، ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملي، فقال لي ذات يوم: "ما يحل لي أن آخذ منك شيئًا"). قال: (ثم لما أن خرجت من الكتاب كنت ألتقط الخزف، والرقوق (¬2)، وكَرَبَ (¬3) النخل، وأكتاف الجمال، أكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين، وأستوهب منها الظهور، فأكتب فيها، حتى كان لأمي حُبان، فملأتهما أكتافًا) اهـ. * وحفظ الإمام أحمد بن حنبل القرآن في صباه وتعلم القراءة والكتابة، ثم اتجه إلى الديوان يمرن على التحرير، ويقول عن نفسه: "كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتَّاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربعَ عشرةَ سنة"، وكانت نشأته فيها آثار النبوغ والرشد حتى قال ¬

_ (¬1) الحُبُّ: وعاء الماء كالزير والجرَّة. (¬2) الرقوق: جمع رَقٍّ، جلدٌ رقيق يُكْتَب فيه، والصحيفة البيضاء. (¬3) الكَرَب: الأصل العريض للسعف إذا يبس.

بعض الآباء: "وأنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحوق، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، انظروا كيف!! " وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته. وكان عمه يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة، وقد أرسلها مرة مع ابن أخيه أحمد بن حنبل فتورع عن ذلك ورمى بها في الماء تأثمًا من الوشاية والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر بالمسلمين، وقد لفت هذا الورع وهذه النجابة كثيرًا من أهل العلم والفراسات حتى قال الهيثم بن جميل: "إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه". * وقال الحافظ ابن عبد الهادي بن قدامة رحمه الله: (بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال: "سمعت أن في هذه البلاد صبيًّا يقال له: أحمد بن تيمية سريع الحفظ، وقد جئت قاصدًا لعلي أراه"، فقال له خياط: "هذه طريق كُتَّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهبًا إلى الكُتَّاب"، فلما مر قيل: "ها هو الذي معه اللوح الكبير"، فناداه الشيخ، وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له: "اقرأ هذا"، فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه، ثم قال: "اسمعه عليَّ"، فقرأه عليه عرضًا كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتخبها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ، وهو يقول: "إن عاش هذا الصبي ليكوننَّ له شأن عظيم، فإن هذا لم يُرَ مثله"، فكان كما قال) (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) "غاية الأماني" (2/ 169 - 170).

سيماهم في كلامهم كما هي في وجوههم

سِيمَاهُم في كَلاَمِهِم كَمَا هِيَ في وجُوهِهِمُ وربما أنطق الله سبحانه الغلامَ الحدثَ بما يعجز عنه فطاحلُ الأدباء، فيصير ذلك علامةً كاشفة لما أودع الله بين جنبيه من الحكمة، وما متَّعه به من الذكاء: * وقد رُوي عن معمر في تفسير قوله تعالى: {وَآتيناه الحكم صبيًّا} أن الصبيان قالوا ليحيى: "اذهب بنا نلعب"؛ فقال: "ما لِلَّعِبِ خُلِقْتُ" (¬1). * وقال الشيخ يسين بن يوسف المُرَّاكشي: (رأيت الشيخ (¬2) -وهو ابن عشر سنين- بنوى، والصبيان يُكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكى لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، قال: فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذى يقرئه القرآن توصية به، وقلت له: "هذا الصبي يُرجَى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به"، فقال لي: "أمنجم أنت؟ "، فقلت: "لا، وإنما أنطقني الله بذلك"، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام) (¬3). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (11/ 87). (¬2) يعني الإمام أبا زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله. (¬3) "طبقات الشافعية" (8/ 396 - 397).

* تقدم إياس بن معاوية (¬1) وهو صبي إلى قاضي دمشق، ومعه شيخ، فقال: "أصلح الله القاضي، هذا الشيخ ظلمني، واعتدى عليَّ، وأخذ مالي"، فقال القاضي: "ارفِق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام"، فقال إياس: "أصلح الله القاضي، إن الحقَّ أكبر مني ومنه ومنك"، قال: "اسكت"، قال: "إن سَكَتُّ فمن يقوم بحجتي؟ "، قال: "تكلم فوالله ما تتكلم بخير"، فقال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له"، فرفع صاحبُ الخبر هذا الخبر إلى الخليفة، فعزل القاضي، وولَّى إياس مكانه. وأُدخل على الرشيد صبي له أربع سنين، فقال له: "ما تحب أن أهب لك؟ " قال: "حُسْنَ رأيك". * وحكى ابن الجوزي أن المعتصم ركب إلى خاقان يعوده، والفتحُ صبي يومئذ، فقال له المعتصم: "أيُّما أحسنُ: دارُ أمير المؤمنين أو دار أبيك؟ " قال: "إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي، فدارُ أبي أحسن"، فأراه فصًّا في يده، فقال: "هل رأيت يا فتحُ أحسنَ من هذا الفصِّ؟ " قال: "نعم، اليدُ التي هو فيها". * ومر "الحارث المحاسبي" وهو صبي بصبيان يلعبون على باب رجل تَمَّار، فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم، وخرج صاحب الدار ومعه تمرات، فقال للحارث: "كل هذه التمرات"، قال الحارث: "ما خبرك فيها؟ "، قال: "إني بعتُ الساعة تمرًا من رجل فسقطت من ¬

_ (¬1) قاضي البصرة العلامة أبو واثلة، كان يُضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل، وقد استوعب الإمام المِزِّىُّ أخباره في "التهذيب".

تمره"، فقال: "أتعرفه؟ "، قال: "نعم"، فالتفت الحارث إلى الصبيان يلعبون، وقال: "أهذا الشيخ مسلم؟ " قالوا: "نعم"، فمرَّ وتركه، فتبعه التمار حتى قبض عليه، وقال له: "والله ما تنفلت من يدي حتى تقول لي ما في نفسك مني"، فقال: "يا شيخ! إن كنت مسلمًا. فاطلب صاحب التمرات حتى تتخلص من تبعته كما تطلب الماء إذا كنت عطشانَ شديد العطش، يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين السخت وأنت مسلم؟ "، فقال الشيخ: "والله لا اتجرت للدنيا أبدًا". * وقال عبد الرحمن بن محمد صاحب كتاب "صفة الأولياء": حدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري بإسناده أن فتحًا الموْصِلي رحمه الله قال: (خرجت أريد الحج، فلما توسطتُ البادية إذا غلام صغير لم تجر عليه الأحكام، فقلت له: "إلى أين؟ "، فقال: "إلى بيت ربى"، قلت: "إنك صغير لم تجر عليك الأحكام"، فقال: "لقد رأيتُ أصغر مني مات"، فقلتُ: "إن خَطْوَكَ قصير"، قال: "عليَّ الخَطْوُ، وعليه التبليغُ إن شاء، ألم تسمع قولَهُ تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلَنَا}؟ " قلتُ: "لا أرى معك زادًا"، قال: "زادي في قلبي اليقين، حيثما كنتُ أيقنت أن الله يرزقُني"، قلت: "إنما أردتُ أنك تتزود الخبز والماء"، قال: "ما اسمُك؟ "، قلتُ: "فتحٌ"، قال: "يا فتح، أسألك"، قلت: "سَلْ"، قال: "أرأيت لو أن أخًا لك من أهل الدنيا دعاك إلى منزله، أما كنت تستحي أن تحمل معك طعامًا لتأكله في منزله؟ "، قلت: "بلى"، قال: "فإن مولاي دعاني إلى بيته، فهو يطيعمني ويسقيني"، قال فتح:

"فجعلتُ أعجبُ من أمرِه، وبيانِهِ، وزهدِه، مع صِغَرِ سِنِّه"). * وروى أيضًا صاحب: "صفة الأولياء، ومراتب الأصفياء" بإسناده قال: ذَكر "سَهْلٌ" اللهَ، وهو ابنُ ثلاث سنين، وصام وهو ابن خمس سنين حتى مات، وساح في طلب العلم وهو ابن تسع سنين، وكانت تُلقى مشكلاتُ المسائل على العلماء، ثم لا يوجَدُ جوابُها إلَّا عنده، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وحينئذ ظهرت عليه الكرامات". وقال حجة الدين محمد بن ظفر (ت 567) في "أنباء نجباء الأبناء": (وبلغني أن أبا محمدٍ سهلًا حفظ القرآن وهو ابن ست سنين، وكان يُفتي في مسائل الزهد والورع، ومقاماتِ الإرادات وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولما بلغ ثلاث عشرة سنة عَرَضَتْ له مسألةٌ فلم يجدْ بتُسْتَرَ من يجيبه عنها فقال لأهله: "جهزوني إلى البصرة"، فلم يجدْ بالبصرِة من يستفتيه، فذُكِر له حمزة بنُ عبد الله بعبْدَانَ فقصدها، ولقي حمزةَ فوجد عنده ما يريد وصحبه). * وقال صاحب "أنباء نجباء الأبناء": (بلغني أن أبا الحسين أحمد بن محمد المدعوَّ بالنوريِّ لما قرأ القرآن الكريم ألزمه أبوه أن يكون معه في حانوته، فكان إذا أصبح أخذ روزمانجاً ودواة، وذهب يسأل عما جهل من كتاب الله تعالى، ويكتب ما يقال له، ثم يأتي أباه، وإذا بعثه في حاجة أخذ ألواحه ودواةً، فيسأل من مرَّ به من أهل العلم، فإذا غاب يزجره أبوه لغيبته، ويتهدده، وربما ضرب على ذلك أحيانًا، وتكرر ذلك، فقال له أبوه: "ليت شعرى يا بني ما تريد بعلمك هذا؟ "، قال: "أريد أن أعرف الله تعالى، وأتعرف إليه"، فقال:

"كيف تعرفه؟ "، قال: "أعرفه بتفهم أمرِه ونهيه"، قال: "وكيف تتعرف إليه؟ " قال: "أتعرَّف إليه بالعمل بما علَّمني"، قال أبوه: "يا بني! لا أعرضُ لك في أمرك هذا ما بقيت". * وقال على بن الجعد: أخبرني أبو يوسف قال: (تُوُفِّي أبي: إبراهيمُ بن حبيب، وخلَّفني صغيرًا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قَصَّارٍ (¬1) أخدمه، فكنت أدَعُ القصَّار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة، فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة، فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصَّار، وكان أبو حنيفة يُعنَى بي لما يَرَى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثَرُ ذلك على أمي، وطال عليها هربي، قالت لأبي حنيفة: "ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبيٌّ يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مِغزلي! وآمُلُ أن يكسب دانقًا يعودُ به على نفسه"، فقال لها أبو حنيفة: "مُرِّى يا رَعْنَاء، هو ذا يتعلَّم أكلَ الفالُوذَج بُدهْن الفُسْتَق"، فانصرفت عنه وقالت له: "أنت شيخٌ قد خَرِفْتَ وذهبَ عقلُك"). قال أبو يوسف: (ثم لَزِمتُ أبا حنيفة، وكان يتعاهدني بماله، فما ترك لي خَلَّة، فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلَّدتُ القضاء، وكنت أجالس هارون الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قُدم إلى هارون الرشيد فالوذج، فقال لي هارون: "يا يعقوب كُلْ منه فليس يُعمل لنا مثلُه كل يوم"، فقلت: "وما هذا يا أمير المؤمنين؟ "، فقال: "هذا فالوذج بُدهْن الفستق"، فضحكت، فقال لي: "مِمَّ ضحكتَ؟ "، فقلت: "خيرًا أبقى الله أمير المؤمنين"، قال: "لتخبرني" -وألحَّ عليَّ- فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، ¬

_ (¬1) القَصَّار: المُبَيِّضُ للثياب، وهو الذى يهيئ النسيج بعدَ نَسْجه ببلّه ودَقّه بالقَصَرةَ، وهي قطعة من الخشب.

فعجب من ذلك، وقال: "لعمري: إن العلم ليرفع وينفع دينًا ودنيا"، وترحَّم على أبي حنيفة، وقال: "كان ينظر بعين عقله ما لا يَراه بعين رأسه"). * وقال صاحب "أنباء نجباء الأبناء": (بلغني أن أبا سليمان داود بن نصير الطائي رحمه الله لما بلغ من العمر خمس سنين أسلمه أبوه إلى المؤدب، فابتدأه بتلقين القرآن، وكان لَقِنًا فلما تعلَّمَ سورة {هل أتى على الِإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا} وحفظها؛ رأته أمه يوم جمعة مقبلًا على حائط، وهو يفكر ويشر بيده، فخافت عليه، وقالت له: "قم يا داود فاخرج والعب مع الصبيان"، فلم يجبها، فضمته إلى صدرها، ودعت بالويل، فقال: "ما لك يا أمَّاه؟ " فقالت: "أبِكَ بَأسٌ؟ " قال: "لا"، قالت: "أين ذهنك؟ كلمتُك فلم تسمع"، قال: "مع عباد الله"، قالت: "فأين هم؟ "، قال: "في الجنة" قالت: "ما يصنعون؟ "، قال: {متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا * ودانية عليهم ظلالها، وذُلِّلَت قطوفها تذليلًا} ومرَّ في السورة، وهو شاخص ببصره كأنه ينظر إليهم حتى بلغ قوله تعالى: {وكان سعيكم مشكورًا}، ثم قال: "يا أماه! ما كان سعيهم؟ "، فلم تَدْرِ ما تجيبُهُ به، فقال: "قومي عني حتى أتنزه عندهم ساعة"، فقامت، وأرسلت إلى والده، فجاء فأخبرته الخير، فقال له: "يا داود كان سعيهم مشكورًا أنهم قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فكان داود بعد ذلك لا يَدَع أن يقول: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"). * وحكى الشيخ ابن ظفر المكي: [أن أبا يزيد طيفور بن عيسى

البسطامي رحمه الله لما تَحَفَّظَ: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً} قال لأبيه: "يا أبت من الذي يقول الله تعالى له هذا؟ "، قال: "يا بني ذلك النبي"، قال: "يا أبت مالك لا تصنع كما صنع - صلى الله عليه وسلم -؟ "، قال: "يا بني! إن قيام الليل خُصص به - صلى الله عليه وسلم - وبافتراضه دون أمته"، فسكت عنه. فلما تحفظ قوله سبحانه: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك} قال: "يا أبت إني أسمع أن طائفة كانوا يقومون الليل، فمن هذه الطائفة؟ "، قال: "يا بني! أولئك الصحابة رضي الله عنهم"، قال: "يا أبت: فأي خير في ترك ما عمله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؟ "، قال: "صدقت يا بني". فكان أبوه بعد ذلك يقوم من الليل ويصلي، فاستيقظ أبو يزيد ليلة فإذا أبوه يصلي، فقال: "يا أبت: علِّمني كيف أتطهر وأصلي معك"، فقال أبوه: "يا بني ارقد فإنك صغير بعدُ"، قال: (يا أبت: إذا كان يومُ يصدر الناس أشتاتًا لِيُرَوْا أعمالهم أقول لربي: إني قلت لأبى: كيفي أتطهر لأصلي معك؟ فأبى، وقال لي: "ارقد، فإنك صغير بعد"، أتحب هذا؟)، فقال له أبوه: "لا والله يا بني ما أحب هذا"، وعَلَّمه فكان يصلي معه]. ***

كبار الهمة النابغون .. مختصر الطريق إلى المجد

كِبارُ الهِمَّةَ النَّاِبغُونَ .. مُختَصَرُ الطَّرِيقِ إِلَى المَجْدِ النابغون الفائقون من أبناء الأمة يختصهم الله سبحانه وتعالى بمواهب واستعدادت فطرية، وخصائص ذاتية متميزة، فهم (ليسوا مجرد أشخاص ماهرين في أداء الاختبارات، ولا مجرد أشخاص ممتازين في أداء بعض المهارات فحسب، بل لديهم خصائص شخصية واجتماعية وبدنية طيبة تفوق ما عند أقرانهم العادين. ومن أهم الخصائص: سلامة البدن، وقوة الذاكرة، وسرعة التعلم، والتفوق في التحصيل الدراسي (¬1)، وحب الاستطلاع، والدافعية للإنجاز، والثقة بالنفس، والاستقلالية، والمثابرة، والتفوق في القيمة النظرية، وفي الميول العلمية، والنضوج الاجتماعي، والنشأة في ظروف اجتماعية طيبة) (¬2). إن المرء لا يولد عالمًا، وإنما تربيه جماعة، وتصنعه بيئة، وتتعهده بالرعاية والتعليم، حتى يمتلك ناصية العلم الذي يطلبه. ¬

_ (¬1) ومن أمثلة ذلك في عصرنا الطفل "سيد جلال الأفغاني" الذي التحق بجامعة البترول بالظهران وعمره عشر سنوات في العام الجامعي (1980 - 1981)، وكان قد حصل على الثانوية العامة وعمره ثماني سنوات، وتعلم الأوردية والإنكليزية والروسية وعمره تسع سنوات. (¬2) "رعاية النابغين في الإسلام وعلم النفس" للدكتور كمال إبراهيم مرسي ص (143 - 144).

والأمة التي تهتم بالنابغين، تصنع بهم مستقبلها المشرق، لأنهم يصلحون أمرها، ويسهمون في ازدهارها، والأمة التي تهمل رعاية نابغيها سوف تشقى حين يتولى أمورها جهلة قاصرون يوردونها المهالك، أو مرضى نفسيون معقدون يسومونها سوء العذاب، أو سفلة أصحاب نفوس دنيئة وهمم خسيسة يبيعونها لأعدائها بثمن بخس. ومع كون المواهب استعدادات فطرية فإنها لا تؤدي إلى النبوغ إلا إذا توفرت لأصحابها الظروف البيئية المناسبة والتربة الصالحة اللازمة لتنميتها وصقلها. وتعد الأسرة -وبخاصة الوالدان أو من يقوم مقامهما- أهم عناصر البيئة تأثيرًا في إظهار النبوغ، وزراعة الهمة العالية في قلوب الأطفال منذ نعومة أظفارهم، وهذا ما قد يفسر لنا سر أتصال سلسلة النابغين من أبناء أسر معينة، كآل تيميةَ مثلًا- حيث اجتمعت الاستعدادات الفطرية الموروثة، والقدرات الإبداعية، مع البيئة المساعدة التي تكشف هذه المواهب مبكرًا، وتنميها، وتوجهها إلى الطريق الأمثل. فرب أم ذكية محبة للعلم (¬1)، أو أب عالم مشهود بعلمه، كان سببًا فِي تيسير السبيل إلى العلم، ومجالسة العلماء، مما كان له أثر بليغ في تنمية نبوغ أبنائهم. فهذا "الزبير بن العوام" فارس رسول الله على - صلى الله عليه وسلم - الذي عدل به عمر رضي الله عنه ألفًا من الرجال، يشب في كنف أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأخت أسد الله حمزة، وهؤلاء ¬

_ (¬1) انظر: "عودة الحجاب" (2/ 191 - 212).

الكملة العظماء عبد الله، والمنذر، وعروة أبناء الزبير، كلهم ثمرات أمهم ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يتربى على أمه فاطمة بنت أسد، وخديجة بنت خويلد رضي الله عنهما، وهذا عبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب تعاهدته أمه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وهذا أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أريب العرب وألمعيها، ورث عن أمه هند بنت عتبة همة تجاوز الثريا، وهي القائلة -وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها-: "إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه "-: "ثكِلتُه إذًا إن لم يَسُد إلا قومه". ولما نُعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين: "إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه"، فقالت: "أوَ مثل معاوية يكون خَلَفًا من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها، ثم رُمي به فيها، لخرج من أيها شاء". وقد كان معاوية رضي الله عنه إذا نوزغ بالفحر بالمقدرة، وجوذب بالباهاة بالرأي، انتسب إلى أمه، فصدع أسماع خصمه بقوله: "أنا ابن هند". وهذا سفيان الثوري الإمام الجليل، والعلم الشامخ كان ثمرة أم صالحة غذته بلبانها، وحاطته بكنفها، حتى صار إمام المسلمين، وأمير المؤمنين في الحديث، قالت له أمه وهو صغير: "يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي". وهذ الِإمام الثقة الثبت أبو عمرو الآوزاعي نشأ يتيمًا في حجر أمه،

التي تنقلت به من بلد إلى بلد، وربته تربية عجزت الملوك وأبناؤها عنها، حتى استُفتي في الفقه وله ثلاث عشرة سنة. وكذا فعلت أم الإمام "ربيعة بن أبي عبد الرحمن" شيخ الإمام مالك، فقد كان ثمرة تربية أم فاضلة أنفقت عليه أمه ثلاثين ألف دينار خلَّفها زوجها عندها، وهي حامل به، وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة. وها هي أم الإمام مالك إمام دار الهجرة تؤزه على طلب العلم، وتلبسه ثياب العلم، وتقول له: "اذهب إلى ربيعة، فتعلم من أدبه قبل علمه". ومات والد الإمام الشافعي وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرقت عليه بحكمتها، وتنقلت به من "غزة" إلى "مكة" مستقر أخواله، فربته بينهم هنالك. ونشأ الإمام الشافعي يتيمًا فقيرًا، ولم تستطع أمه دفع أجر معلِّمه، إلا أن المعلم قبل أن يعلمه بدون أجر، وتعهده بالرعاية، وجعل له منزلة خاصة بين التلاميذ، لما لمسه فيه من نباهة، وسرعة في الحفظ. قال الشافعي رحمه الله: "كنت يتيمًا في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي أن يعلمني بدون أجر، وأن أخلفه في الدرس إذا قام". وهذا إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله مات أبوه إسماعيل، وهو صغير، فنشأ يتيمًا في حجر أمه، وكان امرأة عابدة صاحبة كرامات.

وهل يمكن أن نغفل تأثير البيئة المحيطة ونركز فقط على ثمرة هذه البيئة في رجل مثل عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهل كان يمكن لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أن يمارس دوره في تجديد الدين، ويتهيأ له لولا البيئة الصالحة التي وجَّهته إلى المعالي (¬1)، وبذرت بذور "الهمة العالية" في قلبه منذ طفولته. عن سعيد بن عُفير قال: (حدَّثنا يعقوب، عن أبيه أن عبد العزيز ابن مروان بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدَّبُ بها، وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهدُه، وكان يُلزمُه الصلواتِ، فأبطأ يومًا عن الصلاة، فقال: "ما حَبَسَكَ؟ " قال: "كانت مُرَجِّلَتي تُسَكِّن شعري"، فقال: "بلغ من تسكين شعرك أن تُؤثِرَه على الصلاة"، وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبدُ العزيز رسولًا إليه فما كلَّمه حتى حَلَق شعره). وعن أبي قَبيل: (أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه، وقالت: "ما يُبكيك؟ " قال: "ذكرتُ الموت"، قال: وكان يومئذ قد سمع القرآن، فبكت أمُّه حين بلغها ذلك). ونقل الزبير بن بكار عن العتبي قال: (إن أولَ ما استُبين من عمر ¬

_ (¬1) أطلق عامة العلماء القول بأن عمر بن عبد العزيز رحمه الله هو مجدد القرن الأول، (ونحن نسلم بذلك، ولكننا نقول: ما كان لعمر بن عبد العزيز أن يقوم بهذه الحركة الواسعة المتعددة الجوانب لولا وجود عدد كبير من أجلاء التابعين وساداتهم، وهم كانوا ساعده الأيمن في تنفيذ مشاريعه التجديدية العظيمة) اهـ. من "البيان" ص (16 - 17) العدد الثالث، وعلى رأس هؤلاء السادات رجاء بن حيوة الذي أشار على سليمان بن عبد الملك عند وفاته باستخلاف عمر بن عبد العزيز، انظر: "سير أعلام النبلاء" (5/ 123).

ابن عبد العزيز أن أباه ولي مصر، وهو حديث السن، يُشَكُّ في بلوغه، فأراد إخراجه، فقال: "يا أبت! أوَ غيرَ ذلك؟ لعله أن يكون أنفعَ لي ولك: تُرَحِّلني إلى المدينة، فأقعد إلى فقهاء أهلها، وأتأدب بآدابهم، فوجَّهه إلى المدينة، فاشتهر بها بالعلم والعقل مع حداثة سنه". * وتأمل كيف اكتشف والدُ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله نضوجه الاجتماعي المبكر، فراح ينمي ثقته بنفسه، ويصقل مواهبه، ويُعِده لتحمل المسئوليات، فقد كتب في ذلك إلى صاحبٍ له فقال رحمه الله: (تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال سن اثنتي عشرة سنة على التمام، ورأيته أهلًا للصلاة بالجماعة والائتمام، فقدمته لمعرفته بالأحكام، وزوَّجته بعد البلوغ مباشرة، ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالاسعاف إلى ذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام) (¬1) اهـ. وبغير هذا "النضوج الاجتماعي المبكر" والتربية الواعية -التي تنمي الملكات، وتغرس الثقة في النفس، وتحررها من التواكل والتبعية والطفولية- لا نستطع أن نفسر ظاهرة ارتحال العلماء في سن الصبا والشباب المبكر في أقطار الدنيا طلبًا للعلم، وقد فارقوا الأهل والأوطان، وكابدوا المخاطر والمشاق دون كلل ولا ملل ولا تبرم. * وقد تكون البيئة المترفة عائقًا بليغ الِإعاقة عن المضي في طريق المجد، ومع ذلك يترفع عليها صاحب الهمة العالية، ويسخرها لإنجاز المطالب الجسيمة، كحال الِإمام أبي محمد علي بن حزم رحمه الله، الذي نشأ ¬

_ (¬1) نقلًا من "رعاية النابغين" ص (160).

نشأة مترفة، ولكنه انصرف عن مطامح الدنيا ومطامعها في سبيل طلب العلم، فقد جرت مناظرة بين الإمامين ابن حزم وأبي الوليد الباجي رحمهما الله، فلما انقضت قال الباجي لابن حزم: "تَعذُرُني فإن أكثر مطالعاتي كانت على سُرُج الحُرَّاس"، فأجابه ابن حزم: "وتعذرني أيضًا فإن أكثر مطالعاتي كانت على منائر -أي: مصابيح- الذهب والفضة" (¬1)، قال ياقوت الحموي: "أراد أن الغنى أضيعُ لطلب العلم من الفقر! " (¬2). * وربما نشأ كبير الهمة في بيئة معدِمةٍ قاسية تكون كفيلة بإطفاء همته، والقضاء على نبوغه، فييسر الله له من الأسباب ما يأخذ بيده، أو يقيض له من ينمي مواهبه، ويتكفل بأمره: نشأ المتنبي شاعر العرب الفحل في أسرة فقيرة غير متعلمة، لكن الله قيَّض له فرصة التعليم المجاني في كُتَّاب خاص بأبناء أشراف الكوفة، ¬

_ (¬1) "معجم الأدباء" (12/ 239). (¬2) وعلق الشيخ محمد أبو زهرة -عفا الله عنه- على اعتذار الإمامين قائلاً: "يرى ابن حزم أن كثرة المال وطيب العيش تسُدُّ مسالكَ العلم إلى النفوس، فلا تتجه إلى العلم، فإن الجِدَة قد تُسَهِّل اللهو، وتفتحُ بابه، وإذا انفتح بابُ اللهو سُدَّ بابُ النور والمعرفة، فلذائذ الحياة وكثرتها تطمس نور القلب، وَتُعمي البصيرة، وتَذهبُ بِحِدَّة الإدراك. أما الفقير -وإن شغله طلب القوت- قد سُدَّت عليه أبواب اللهو، فأشرقت النفس، وانبثق نور الهداية، هذا نظر ابن حزم. أما نظر الباجي فإنه متجه إلى الأسباب المادية من حيث تُسهل الحياة المادية، من غير نظر إلى الأسباب المادية النفسية التي تضمن أن الغنى يكون في كثير من الأحوال معه الانصرافُ عن العلم إلى اللهو، وقد توفرت ذرائعه" اهـ. من كتابه "ابن حزم" ص (56).

وشجعه أصحاب المكتبات على قراءة الكتب دون مقابل. ويُروى أن وراقًا كان يلازمه قال: (كان اليوم عندي -أي المتنبي- وقد أحضر رجل كتابًا في نحو ثلاثين ورقة لبيعه، فأخذه أبو الطيب، ونظر فيه طويلًا، فقلت له: "ما هذا؟ أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون في شهر إن شاء الله"، فقال المتنبي: "إن كنت حفظته هذه المدة؟ " قلت: "أهب لك الكتاب"، قال: "اسمها مني"، فأخذت الدفتر من يده، وأقبل يتلوه حتى انتهى إلى آخره). ومِن أشهر مَن كان يُعنَى بالتفتيش عن النابغين، ويستنقذهم من ظروفهم القاسية، ويأخذ بأيديهم في طلب العلم الِإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، فقد حرص الإمام أبو حنيفة -عندما تولى حلقة الدرس بعد شيخه حماد- على رعاية تلاميذه النابغين، فقد كان يواسيهم من ماله الخاص، ويعينهم على نوائب الدهر، حتى أنه كان يزوج من كان في حاجة إلى الزواج وليست عنده مئونته، ويرسل لكل تلميذ حاجته، قال شريك أحد تلامذته: (كان يُغني من يعلمه، وينفق عليه وعلى عياله، فإذا تعلَّم قاله له: "لقد وصلت إلى الغنى الأكبر بمعرفة الحلال من الحرام"، وكان ينظر إلى نفوس تلاميذه، ويتعهدها بالرعاية والنصيحة، فإذا وجد من أحدهم إحساسًا بالعلم يمازجه الغرور، أزال عنه درن الغرور ببعض الاختبارات، التى تثبت له أنه ما زال في حاجة إلى مزيد من العلم). * وذكر الكردري في مناقبه بسنده إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى، قال: (كنت أطلب الحديث وأنا مقل المال، فجاء إلي أبي وأنا عند الِإمام، فقال لي: "يا بني لا تمدنَّ رجلك معه، فإن خبزه مشوي

وأنت محتاج"، فقعدت عن كثير من الطلب، واخترت طاعة والدي، فسأل عني الإمام، وتفقدني، وقال حين رآني: "ما خلَّفَك عنا؟ " قلت: "طلب المعاش"، فلما رجع الناس، وأردت الانصراف دفع إليَّ صرة فيها مائة درهم، فقال: "أنفق هذا، فإذا تمَّ أعلمني، والزم الحلقة"، فلما مضت مدة دفع إليَّ مائة أخرى، وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام كأنه كان يُخْبَرُ بنفادها، حتى بلغت حاجتي من العلم، أحسن الله مكافأته، وغفر له). * وذكر الكردري أيضًا أن الحسن بن زياد كان فقيرًا، وكان يلازمه -أي الِإمام- وكان أبوه يقول له: "لنا بنات، وليس لنا ابن غيرك، فاشتغل بهن"، فلما بلغ الخير الإمام أجرى عليه رزقًا، وقال: "الزم الفقه، فإني ما رأيت فقيهًا معسرًا قط". وربما لمح شخصًا عالي الهمة، تلوح من محياه أمارات النبوغ فضنَّ بموهبته أن تُنْفَقَ في طلب الدنيا، وشجعه على طلب العلم: * قال أبو حنيفة رحمه الله: (مررت يومًا على الشعبي وهو جالس، فدعاني، وقال: "إلامَ تختلف؟ " فقلَت: "أختلف إلى فلان"، قال: "لم أعن إلى السوق، عنيتُ الاختلاف إلى العلماء"، فقلت له: "أنا قليل الاختلاف إليهم"، فقال: "لا تفعل، وعليك بالنظر في العلم، ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة"، قال: "فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف -أي إلى السوق- وأخذت في العلم، فنفعني الله تعالى بقوله"). * وعن مكي بن إبراهيم -أحد شيوخ البخاري- قال: (كنت أتجر، فقدمت على أبي حنيفة قدمة، فقال لي: "يا مكي! أراك تتجر، التجارة إذا كانت بغير علم دخل فيها فساد كثير، فلم لا تتعلم العلم،

ولم لا تكتب؟ " فلم يزل بي حتى أخذت في العلم وكتابته وتعلمه، فرزقني الله منه شيئًا كثيرًا، فلا أزال أدعو لأبي حنيفة في دبر كل صلاة وعندما ذكرته، لأن الله يركته فتح في باب العلم). وربما كان لتجربة الإمام أبي حنيفة مع شيخه الِإمام حماد أثر عظيم في مسلكه هذا، فقد اكتشف حماد نبوغ أبي حنيفة وعلو همته، فخصَّه برعايته، وقرَّبه من مجلسه مؤملًا أن يكون حسنة من حسناته يهديها إلى الأمة: * انخرط أبو حنيفة النعمان في التعليم على يد شيخه حَمَّاد بالمسجد الجامع بالكوفة، وعندما لمس فيه النجابة، وسرعة الحفظ، وسلامة التفكير، أجلسه بإزائه، واحترم رأيه، وشجعه على الاجتهاد والاستقلال بالرأي، ولم يتبرم من كثرة أسئلته واستفساراته، لما فيها من عمق ودقة. فمما يُروى أن أبا حنيفة انصرف من مجلس حماد، بعد أن سأله عدة أسئلة، وألحَّ في الجدل حتى احمرَّ وجه حماد، الذي قال لجاره واصفًا صلاح تلميذه: "هذا على ما ترى منه -أي من كثرة الأسئلة- يقوم الليل كله ويحييه"، واستمر أبو حنيفة ملازمًا أستاذه ثماني عشرة سنة، ولم يستقل بالدرس والتمحيص إلا بعد وفاة حماد. وربما كانت نصيحة عابرة من عالم مخلصٍ بدايةَ نقطة تحولٍ فِي حياة أحد النابغين إلى انتفاع عموم الأمة به، كذلك الِإمام الذي لقي نابغة كبير الهمة وقد جاور في الحرم المكي الشريف، وخلَّى مكانه في التعليم والدعوة في بلده، فأرشده إلى تصحيح مساره بقوله: "ليس هذا مكانك". * وكان سبب أخذ الشافعي فِي العلم ما حكاه مصعب بن عبد الله الزبيري قال: "كان الشافعي رحمه الله في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام

العرب والأدب، ثم أخذ في الفقه بعدُ" قال: (وكان سبب أخذه في العلم أنه كان يومًا يسير على دابة له وخلفه كاتب لأبي، فتمثل الشافعي ببيت شعر فقرعه كاتب أبي بسوطه، ثم قال له: "مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا؟ أين أنت من الفقه؟ " فهزَّه ذلك، فقصد مجالسة الزَّنْجي مسلم بن خالد، وكان مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس). وعن الشافعي رحمه الله قال: (كنت أنظر في الشعر، فارتقيت عقبة بمنى فإذا صوت من خلفي: "عليك بالفقه")، وعن الحميدي قال: (قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب فلقيني مسلم بن خالد الزنجي فقال: "يا فتى من أين أنت؟ "، قلت: "من أهل مكة"، قال: "أين منزلك؟ " قلت: "شِعب بالخيف"، قال: "من أي قبيلة أنت؟ " قلت: "من عبد مناف" قال: "بخ بخ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلتَ فهمَك في هذا الفقه فكان أحسن بك؟! "). ثم رحل الشافعي من مكة إلى المدينة قاصدًا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله، وفي رحلته مصنف مشهور مسموع، فلما قدم عليه قرأ عليه "الموطأ" حفظًا، فأعجبته قراءته ولازمه، وقال له مالك: "اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن"، وفي رواية أخرى أنه قال له: "إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفه بالمعاصي"، وكان للشافعي رحمه الله حين أتى مالكًا ثلاثَ عشرةَ سنة، ثم وليَ باليمن. وقد أمره بالِإفتاء شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي إمام أهل مكة ومفتيها، وقال له: "أفت يا أبا عبد الله! فقد -والله- آن لك أن تفتي"، وكان للشافعي إذ ذاك خمسَ عشرةَ سنة، وأقاويل أهل

عصره فِي هذا كثيرة مشهورة، وأخِذَ عن الشافعي العلمُ في سن الحداثة مع توفر العلماء في ذلك العصر، وهذا من الدلائل الصريحة لعظم جلالته وعلو مرتبته، وهذا كله من المشهور المعروف في كتب مناقبه وغيرها. * وحكى ابنُ العلامة القرآني الإمام محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى أن أمارات النبوغ، وعلو الهمة لما لاحت على والده في طفولته، قال له شيخه: "يا بني إن العلماء يقولون: إن من وجد من نفسه استعدادًا وموهبة تؤهله للإمامة تعيَّن عليه طلبها، وإن طلب الإمامة في الدين متعين عليك، فلا تضيع نفسك" اهـ بمعناه. * ومن عجيب النماذج الناجحة في زراعة الهمة العالية في الأطفال ما يقال من أن الشيخ أقشمس الدين الذي تولى تربية السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله، كان يأخذ بيده، ويمر به على الساحل ويشير إلى أسوار القسطنطينية التي تلوح من بعد شاهقة حصينة، ثم يقول له: أترى إلى هذه المدينة التى تلوح في الأفق إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا من أمته سيفتحها بجيشه، ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رُوي عنه: "لَتَفْتَحُنَّ القسطنطينية، ولَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولنعم الجيشُ ذلك الجيش" (¬1)، وما زال يكرر هذه الِإشارة على مسمع الأمر الصبي إلى أن نمت شجرة الهمة فِي نفسه العبقرية، وترعرعت في قلبه، فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بَشَّر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم-، وقد كان، فقد كان والده السلطان مراد الثاني -منذ صغره- يستصحبه معه بين حين وآخر إلى بعض المعارك، ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان، ومناظر الجنود في ¬

_ (¬1) انظر "السلسلة الضعيفة والموضوعة" رقم (882).

تحركاتهم واستعداداتهم ونزالهم، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عمليًّا، حتى إذا ما ولي السلطنة، وخاض غمار المعارك خاضها عن دراية وخبرة. ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد "الفاتح" في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة، قال رحمه الله: "حسنًا عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر". وحاصر السلطان "محمد الفاتح" -أنعم به من فاتح- القسطنطينية واحدًا وخمسين يومًا، تعددت خلالها المعارك العنيفة، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، على يد بطل شاب، له من العمر ثلاث وعشرون سنة، وحقق هذا الفاتح البطل للمسلمين أملًا غاليًا ظل يراودهم ثمانية قرون، حاولوا تحقيقه مرارًا فلم يفلحوا، وكأنَّ القدر كان قد ادَّخر هذا الشرف لهذا البطل المغوار. ***

التشجيع وأثره في النهوض بالهمة

التَّشجِيِعُ وَأَثَره في النّهُوضِ بِالِهمَّةِ رفع الإسلام شأن التشجيع إلى حَدِّ أنه جعله فريضة على غير القادر علي إقامة فروض الكفايات مثل الأمر بالعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، والولاية والِإمامة، وعبارة الفقهاء في مثل هذه الفروض: "أنها واجب على الكفاية، فإن قام بها البعض سقط الوجوب عن الآخرين، وإن لم يقم بها أحد أثموا جميعًا، القادرُ: لأنه قصَّر، وغيرُ القادر: لأنه قصَّر فيما يستطيعه، وهو التفتيش عن القادر وحَمْله على العمل، وحثه وتشجيعه، وإعانته على القيام به، بل إجباره على ذلك" (¬1). ولقد تسابق المسلمون في شتى العصور على تشجيع الموهوبين وكبيري الهمة، بكافة صور التشجيع، فكانوا ينفقون الأموال الجزيلة لنفقة النابغين من طلاب العلم، الذين حبسوا أنفسهم على طلبه، كي يغنوهم عن سؤال الناس، أو الاشتغال عن العلم بطلب المعاش. وهذا الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي، قال فيه الصفدي: (لم أره قط إلا يسمع أو يكتب أو ينظر في كتاب، ولم أره على غير ذلك، وكان له إقبال على أذكياء الطلبة يعظمهم ويُنَوَّه بقدرهم) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الموافقات" للشاطبي (1/ 114). (¬2) "الدرر الكامنة" (5/ 70).

وكان المعلمون في الكتاتيب والمساجد والأزهر الشريف إذا لمسوا في طفل النجابة وسرعة التعلم، احتضنوه، وساعدوه على طلب العلم، وزودوه بالمال من مالهم الخاص، أو من الأوقاف. وكان في طليعة المشجعين لطلبة العلم الخلفاء والأمراء، روى البخاري في "صحيحه" أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدُخل ابن عباس رضي الله عنهما -وهو غلام حدث- مع أشياخ بدر، قاله أبن عباس: (فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: "لِم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ " فقال عمر: "إنه من حيث علمتم"، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رُؤيت أنه دعاني يومئذ إلا ليرِيهم، قال: ما تقولون في قوله الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}؟ فقال بعضهم: "أمِرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نُصِرنا، وفتِح علينا"، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا: فقال لي: "أكذاك تقول يا أبن عباس؟ " فقلت: "لا"، قال: "فما تقول؟ "، قلت: "هو أجلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: {إذا جاء نصر الله والفتح} وذلك علامهّ أجلك، {فسبح بحمد ربِّك واستغفره إنه كان توابًا} "، فقال عمر: "ما أعلم منها إلا ما تقول"). وهكذا كان أمير المؤمنين يقَوِّي ثقته بنفسه، ويغذي همته، ويربأ به عن احتقار الذات أو الشعور بالدونية والنقص، وقد روى البخاري في "صحيحه" أيضًا أنه رضي الله عنه سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن الكريم فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس، وهو صغير السن، فقال: "فِي نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين"، قال عمر: "يا ابن أخي قل، ولا تحقر نفسك"، فأجابه.

على هذا السنن سار ابن عباس منذ طفولته، غير مبالٍ بتثبيط من هو أقصر منه همة، قال رضي الله عنه: (لما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: "هلم فلنسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اليوم كثير"، فقال: "واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ فيهم؟ "، قال: "فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليَّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: "يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟ "، فأقول: "لا، أنا أحق أن آتيك" فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصارى حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فيقول: "هذا الفتى كان أعقل مني"). فحيهلا إن كنت ذا همةٍ فقد ... حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا ولا تنتظر بالسير رُفْقَةَ قاعدٍ ... ودعه، فإن العزم يكفيك حاملا * وقد كان ابن شهاب رحمه الله يشجع الأولاد الصغار، ويقول لهم: "لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإنْ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل، دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم" (¬1). [وكان الخليفة "هارون الرشيد" رحمه الله يغدق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء، حتى قال ابن المبارك: (فما رأيت عالمًا ولا قارئًا ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 85).

للقرآن ولا سابقًا للخيرات ولا حافظًا للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عَشَرةَ سنة. وقد بلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذىٍ جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة، من هؤلاء الأمراء "المعز بن باديس" -أحد أمراء دولة الصهاجين في المغرب الِإسلامي- كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته، وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعوَّل على آرائه، ومنحه أسمى الرواتب .... وكذلك فعل الخليفة الموحدي الثالث "المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن" الذي أنشأ "بيت الطلبة"، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حَسَدُ بعضِ حاشيته على موضع الطلبة النابغين عنده، فزع منهم، وخاطبهم قائلًا: "يا معشر الموحدين أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته .. وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجأهم، إليَّ فزعهم، وإليَّ يُنْسَبون". وقد بلغت عناية المنصور بالطبيب "أبي بكر بن زهر" حدًّا عجيبًا؛ فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مددًا طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله، حتى قال شعرًا في شوقه إلى ولده الصغير، فلما سمع المنصور هذا الشعر، أرسل المهندسين إلى "أشبيلية"، وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته، وتشييد مثله في "مراكش"، ففعلوا ما أمرهم، ونقلوا عيال أبي بكر إليه، فلما رآها ابن زهر اندهش، وحصل عنده من

السرور ما لا مزيد عليه، ولا يستطاع التعبير عنه، فهل سُمع بمثل هذا في إكرام العلم والعلماء؟! وفي القرن السادس عشر قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع الأمصار والقرى، وتوفر الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم، مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضاريًّا وعسكريًّا حتى باتت تهدد بغزو أوربا] (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "رعاية النابغين في الإسلام وعلم النفس" ص (171 - 172). تنبيه: (من الجدير بالذكر أن رعاية النابغين أُهملت في أوربا وأمريكا حتى بداية القرن العشرين، بسبب سوء فهم هذه المجتمعات للنابغين، ولعل سبب ذلك كان كتاب " man of Genius" أي: "الرجل العبقري"، لمؤلفه " Iambroso، وكتاب " Insanity of Genius" أي: "جنون العبقرية" لمؤلفه Nisbet، وقد نشر الكتابان في لندن ونيويورك في أواخر القرن التاسع عشر، وأثبتا فيهما العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون، وقدَّما البراهن على أن النابغين مجانين. ثم بدأت فكرة الغربيين عن النابغين تتحسن بعد أن نشر terman كتابه " The gifted children grown up" أي: "الطفل النابغة يرشد" سنة 1947، وقدم فيه البراهين على أن الأطفال الأذكياء أصحاء نفسيًّا، وجسميًّا، واجتماعيًّا، مما ساعد على تكوين "رأي عام". مع النابغين. وحتى منتصف القرن العشرين كان الأمريكيون يعتبرون رعاية النابغين ترفًا تربويًّا، ولم يبذلوا جهودًا جادة في الكشف عنهم إلا بعد أن أطلق الروس أول مركبة فضاء سنة 1957، وشعروا بالخطر من تفوق الروس عليهم، فاتجهوا إلى رعاية النابغين، واعتبروها "مسألة حياة أو موت"، وجندوا علماء التربية وعلم النفس والاجتماع، وعقدوا المؤتمرات والندوات لتخطيط وتنظيم رعاية فئات النابغين، وتشجيعها على إظهار نبوغها في جميع المجالات، وأنشأت كل ولاية العديد من المعاهد والفصول المتخصصة في رعاية النابغين في جميع=

* يقول الأستاذ علي الطنطاوي أحسن الله عاقبته: (قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نموُّ العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيِّمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: "إنه التشجيع! "، وقالت: "إنها في تلك السنِّ، بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الإمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير") اهـ. * ثم ذكر الشيخ أثر التثبيط في خنق المواهب، وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها وإبداعهم، وضرب مثالًا لذلك فقال: [إن الشيخ محمد أمين "ابن عابدين" لما نشأ، وأنس المثبطون (¬1) منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقِّد، والعقل الراجح، خافوا منه فذهبوا يقنعون أباه -وكان أبوه امرأ تاجرًا- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكَّب به طريق العلم، وجعلوا يكلِّمونه، ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيرًا، فثبت الوالد فكان من هذا الولد المبارك، ابن عابدين صاحب "الحاشية"، أوسِع كتاب في فروع الفقه الحنفي. ¬

_ =المجالات، حتى بلغ عدد المعاهد حوالي 700 معهدًا تشرف عليها حوالي 300 جامعة في أمريكا، كما أسهمت المؤسسات التجارية والصناعية والعلمية في تمويل برامج الكشف عن النابغين ورعايتهم) اهـ من "رعاية النابغين" ص (173 - 174) بتصرف. (¬1) وهؤلاء المثبطون كانوا -كما قال الشيخ الطنطاوى-: أبناء عائلات معينة احتكرت الوظائف العلمية، فكانوا يخشون تحولها عنهم إلى غيرهم، والله أعلم بسرائر عباده.

بل أرادوا أن يصرفوا أستاذنا العلَّامة "محمد بن كرد علي" عن العلم، فبعثوا إليه بشقيقين من آل ... بشقيقين قد ماتا فلستُ أسميهما، على رغم أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالبًا -فما زالا بأبيه- ولم يكن أبوه من أهل العلم -ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة ... ويُلِحَّان عليه ويلازمانه، حتى ضجر فصرفهما فكان من ولده هذا، الأستاذ "كرد علي" أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ووزير معارف سورية الأسبق، ومفخرتها، والذى من مصنَّفاته: خطط الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية ... والمقتبس ... ومن مصنفاته: "المجمع العلمي العربي بدمشق"، ومن مصنفاته هؤلاء "الشعراء والكتَّاب من الشباب"! ولعل في الناس كثيرين كانوا لولا الاحتكار والتثبيط كابن عابدين وككرد علي، وها هو ذا العلامة الشيخ "سليم البخاري" رحمه الله مات وما له مصنَّف رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه؛ وسبب ذلك أنه صنَّف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلةٍ عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنَّبه، وقال له: "أيها المغرور! أبلغَ مِن قدرك أن تصنف، وأنت ... وأنت ... " ثم أخذ الرسالة فسجَّر بها المدفأة .. فكانت هي أول مصنفات العلامة البخاري وآخرها.

وأول من سَنَّ سنةَ التشجيع في بلدنا هو العلامة مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري -رحمه الله- الفيلسوف المؤرخ الجدلي، الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ "محمد كرد على بك"، وخالي الأستاذ "محب الدين الخطيب" ... ومما كتب في ذم التثبيط: " ... وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم، في هذا الوقت الذي يتنبَّه فيه الغافل ... وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم، ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم يُرَ أحد من المثبطين قديمًا أو حديثًا أتى بأمرٍ مهم، فينبغي للجرائد الكبيرة، أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة والتحذير منها، ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم". وكان الشيخ في حياته يشجِّع كل عامل، ولا يَثني أحدًا عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: (إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام، فلا تقل له: "إن هذا غير ممكن"، فتفلَّ عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه وحبِّب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته). * ثم إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها؛ ورُبَّ ولدٍ من أولاد الصُنَّاع أو التجار يكون إذا شُجِّع وأُخذ بيده عالمًا من أكابر العلماء، أو أديبًا من أعاظم الأدباء! وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة، إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس تحت القبَّة.

نشأ الشيخ "محمد إسماعيل" الحائك عاميًّا، ولكنه محبٌّ للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس لا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه، ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشدَّ ذلك من عزمه، فاشترى الكتبَ يُحيي ليلَه في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، وأستمر على ذلك دهرًا حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحدَ زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها؛ وصار الناس يأتونه في محلِّه يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء، وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي، فساء ذلك العمادين وآلمهم، فترَّبصوا بالشيخ وأضمروا له الشرِّ، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلًا، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في "القيمرية" وهو على أتانٍ (¬1) له بيضاء، فيسلِّم فيردون عليه السلام، فمر يومًا كما كان يمر، فوجد على الباب أخًا للمفتي، فردَّ عليه السلام، وقال له ساخرًا: - "إلى أين يا شيخ، أذاهبٌ أنت إلى اسطنبول لتأتي بوِلاية الإفتاء؟ " وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال: - "إن شاء الله! " وسار في طريقه حتى إذا أبتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله، وأعطاهم نفقتهم، وسافر! وما زال يفارق بلدًا، ويستقبل بلدًا، حتى دخل القسطنطينية فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في ¬

_ (¬1) الأتَان: الحِمارة.

كتاب، أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيِّه أنه عربي فيحترمونه ويُجِلُّونه، ولم يكن الترك قد جُنُّوا الجِنَة الكبرى بعدُ ... فكانوا يعظمون العربي، لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناسًا ... واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يومًا رجل منهم: - "إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيَّرت علماءها، ولم يجدوا لها جوابًا، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعلَّ الله يفتح عليك بالجواب؟ " قال: "نعم". قال: "سر معي إلى المشيخة". قال: "باسم الله". ودخلوا على ناموس المشيخة (سكرتيرها)، فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة فرفع رأسه فقلَّب بصره فيه بازدراء، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي تُرضِي، ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة ثم أخرج من مِنطقته هذه الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأحذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل حتى سوَّد عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الِإسلام وقرأها، كاد يقضي دهشة وسرورًا.

- وقال له: "ويحك! من كتب، هذا الجواب؟ ". - قال: "شيخ شامي من صفته كَيْتَ وكَيْتَ ... ". - قال: "عليَّ به". فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلِّم على شيخ الِإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعًا يده على صدره، منحنيًّا، ثم يمشي متباطئًا حتى يقوم بين يديه ... إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ، ولم يحفظ منها شيئًا. ودخل على شيخ الإسلام، فقال له: - "السلام عليكم ورحمة الله"، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه، وعجب الحاضرون من عمله، ولكن شيخ الِإسلام سُرَّ بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله حتى قال له: - "سلني حاجتك؟ ". - قال: "إفتاء الشام وتدريس القبَّة". - قال: "هما لك، فاغْدُ علَيَّ غدًا! ". فلما كان من الغد ذهب إليه، فأعطاه فرمان التولية، وكيسًا فيه ألف دينار. وعاد الشيخ إلى دمشق فركب أتانه، ودار حتى مَرَّ بدار العماديين فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه كما سخِر، وقال: - "من أين يا شيخ؟ ". - فقال الشيخ: "من هنا، من اسطنبول، أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني". ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، وسلَّم الشيخَ عمله في

حفلة حافلة. همم الرجالِ إذا مضت لم يثنِها ... خِدَعُ الثناء ولا عوادي (¬1) الذامِ (¬2) * ومن هذا الباب قصة الشيخ "على كزبر"، وقد كان خياطًا في سوق المسكية على باب الجامع الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به فيخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه، فيشجعه ويحثه على القراءة، فقرأ ودأب على المطالعة، حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمدًا وهو لا يفارق دكَّانه، ولا يدع عمله، حتى صار مقدمًا في كافة العلوم. فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرِّس الجديد، فافتقدوا المعيد فلم يجدوه، ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاؤوا به، فقرأ الدرس، وشرحه شرحًا أُعجب به الحاضرون وطربوا له، فعيَّن مدِّرسًا، ولبث خمسة عشر عامًا يدرس تحت قبة النسر، وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم] (¬3). ... ¬

_ (¬1) العوادي: جمع عادية، وعوادي الدهر: نوائبه، وعادية فلان: ظلمه وشره. (¬2) الذَّأم: العيب، يقال: ذَأمه ذأمًا: عابه وحقَّره. (¬3) من "فِكَر ومباحث" ص (128 - 134) بتصرف.

اغتنم شبابك قبل هرمك

اغْتَنِم شَبَابكَ قَبلَ هَرَمِكَ الشَّباب هو زمن العمل، لأنه فترة قوة بين ضعفين، ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، فمن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "اغتنم خمسًا قيل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (¬1)، قال الإمام أحمد: "ما شبهتُ الشباب إلا بشيء كان في كُمِّي فسقط". إن الشباب هو وقت القدرة على الطاعة، وهو ضيف سريع الرحيل فإن لم يغتنمه العاقل تقطعت نفسه بعدُ حسرات: ما قلت للشباب: "في كنف اللهِ ولا حِفْظِه" غداةَ استقلاًّ ضيف زارنا أقام عندنا قليلًا ... سوَّد الصحف بالذنوب وولَّى فمِن ثَمَّ يسألُ اللهُ عز وجل كلَّ عبد من عباده عن نعمة الشباب كيف صرَّفه، وبم أبلاه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه، حتى يُسأَل عن خمسٍ: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنققه؟ وماذا عمل فيما علم؟ " (¬2). وعدَّ - صلى الله عليه وسلم - في السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ¬

_ (¬1) رواه الحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬2) رواه الترمذى، وقال: "حديث غريب"، وهو حسن لشواهده، وانظر: "الصحيحة" رقم (946).

"شابًّا نشأ في عبادة الله" (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما آتى الله عز وجل عبدًا علمًا إلا شابًّا، والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله عز وجل: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم}، وقوله تعالى: {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى}، وقوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيًّا}. قالت حفصة بنت سيرين: "يا معشر الشباب اعملوا، فإنما العمل في الشباب}، وقال الأحنف بن قيس: "السودد مع السواد" (¬2). وهل كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه إلا شبابًا؟! وهذا أسامة بن زيد رضي الله عنهما أمَّره - صلى الله عليه وسلم - على الجيش وكان عمره ثماني عشرة سنة، وهذا عتَّاب بن أَسيد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة لما سار إلى حُنين وعمره نيف وعشرون سنة، إلى نماذج أخرى كثيرة لشباب أبلوا أحسن البلاء في حمل رسالة الإسلام، ونشر نوره في العالمين. * وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي: "يا أبا عبد الله تركت حديث سفيان بعلوِّه، وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه؟ "، فقال له أحمد: "لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر، إنَّ علم سفيان إن فاتني بعُلُوٍّ أدركتُه بنزول، وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بِعُلُوٍّ ولا نزول". * قدم وفد على عمر بن عبد العزيز من العراق، فنظر إلى شاب ¬

_ (¬1) أصل الحديث متفق عليه. (¬2) السواد هنا يحتمل معاني منها: أن يراد به سواد الشعر، يقول: من لم يسُد مع الحداثة لم يَسُد مع الشيخوخة.

منهم يتحوَّز يريد الكلام، فقال عمر: "كبِّروا كبروا"، فقال الفتى: "يا أمير المؤمنين إن الأمر ليس بالسن، ولو كان كذلك كان في المسلمين من هو أسنُّ منك"، قال: "صدقت، فتكلم". قال الشاعر في خلاف هذا المعنى: إنما الهُلْكُ أن يُساسوا بِغِرٍّ ... لم تُعِرْه الأيام رأيًا وثيقا * وحكى المسعودي في "شرح المقامات" أن المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية وهو صبي، وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة، وإياس يقدمهم، فقال المهدي: "أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟ "، ثم إن المهدي التفت إليه، وقال: "كم سنك يا فتى؟ "، فقال: سني -أطال الله بقاء الأمير-: سن أسامة بن زيد بن حارثة لما ولَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا فيهم أبو بكر وعمر"، فقال له: "تقدم بارك الله فيك". * وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد": أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسِنُّه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغروه، فقالوا: "كم سن القاضي؟ "، فقال: "أنا أكبر من عتَّاب بن أَسِيد الذي وجه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا على أهل مكة يوم الفتح (¬1)، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به رسول - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا على أهل اليمن وأنا أكبر من كعب بن سويد الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضيًا على البصرة، فجعل جوابَه احتجاجًا له. * وقال أبو اليقظان: ولَّى الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن ¬

_ (¬1) كانت سِنُّه رضي الله عه وقتئذ خمسًا وعشرين سنة.

الحكم الثقفي قتال الأكراد بفارس، فأباد منهم، ثم ولَّاه السِّند فافتتح السند والهند، وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، فقال فيه الشاعر: إن السماحة والمروءة والندى ... لمحمد بن قاسم بن محمدِ قاد الجيوش لسبعَ عشرةَ حِجةً ... يا قرب ذلك سُوددًا من مولدِ! ويُروى: يا قرب ذلك سُورة من مولد، والسورة: المنزلة الرفيعة. * ولما جيء بـ "حطيط الزيات" إلى الحجاج قال له الحجاج: "أنت حطيط؟ "، قال: (نعم .. سل ما بدا لك فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: "إن سئلت لأصدقن، وإن ابتُليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن"، فقال الحجاج: "فما تقول فيَّ؟ "، قال حطيط: "أقول: إنك من أعداء الله في الأرض، تنتهك المحارم، وتقتل بالظنة"، قال الحجاج: "فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ " قال: "أقول: إنه أعظم جُرمًا منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه". فأمر الحجاج بتعذيبه، حتى انتهى به العذاب إلى أن يشقق له القصب، ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه، فما سمعوه يقول شيئًا، ولا بدا عليه جزع أو ضعف. فأخبر الحجاج بأمره، وأنه في الرمق الأخير، فقال: "أخرجوه فارموا به في السوق"، ووقف عليه رجل وهو بين الحياة والموت يسأله: "ألك حاجة؟ " فما كان من "حطيط" إلا أن قال: "ما

لي من حاجة في دنياكم إلا شربة ماء"، فأتوه بشربة شربها، ثم مات، وكان ابن ثماني عشرة سنة. * وولي عُبيد الله بن زياد خُراسان وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وليها لمعاوية رضي الله عنه - وولي معاذ اليمن وهو ابن أقل من ثلاثين سنة. وحمل أبو مسلم أمر الدولة والدعوة وهو ابن إحدى وعشرين سنة. وحمل الناسُ عن إبراهيم النخعى وهو ابن ثماني عشرة سنة. * ومات سيبويه إمام النحو، وحجة العرب، وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة. قال البحتري: لا تنظرن إلى العباس من صِغَرٍ ... في السن، وانظر إلى المجد الذي شادا إن النجومَ نجومَ الأفق أصغرُها ... في العين أذهبُها في الجوِّ إصعادا إن الشباب هم الشريحة الفعالة في الأمة، وهم عمودها الفِقْرِيُّ، وجهازها العضلي، وروحها الحية، وطليعتها الوثابة، ولا يتصور نجاح دعوة أو حركة لا تقوم على حماس الشباب وقوته. ***

الفصل الخامس أثر علو الهمة في إصلاح الفرد والأمة

الفَصْل الخامِسْ أثر عُلُوّ الِهمَّةِ في إصْلَاحَ الفَرْدِ والأُمَّةِ قد لاح فيما مضى كيف أن الهمة العالية هي سُلَّم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب البر، لا سيما العلم والجهاد اللذان هما سبب ارتفاع الدرجات، فمن تحلَّى بها لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ إن "همم الرجال تزيل الجبال": همم الأحرار تحيي الرِّمَما ... نفخة الأبرار تحيي الأُمُمَا إن أصحاب الهمة العالية فحسب هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الذين يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم (¬1)، ومن ثم فهم القلة التي تنقذ ¬

_ (¬1) وهؤلاء بخلاف من قال فيهم المودودي رحمه الله: (من دواعي الأسف أن الذين عندهم نصيب من القوى الفكرية والقلبية من النوع الأعلى من أفراد أمتنا هم مولعون بإحراز الترقيات الدنيوية، جاهدون في سبيلها ليل نهار، ولا يقبلون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتفعة، وما بلغوا من تعلقهم بالدعوة إلى الاستعداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم، بل ولا بمجرد إمكانيات منافعهم، فإذا كنتم ترجون -معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية: أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل غايتهم الباطلة، فما ذلك إلا حماقة) اهـ. من "تذكرة دعاة الإسلام" ص (56).

الموقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة "الانتشال السريع" من وحل الوهن، ووهدة الإحباط. - قال الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى مبينًا أثر "علو الهمة": (يسمو هذا الخُلُقُ بصاحبه، فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور؛ فهو الذي ينهض بالضعيف يُضطهد، أو يُزدرى، فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من سقوط، ويُبْدِلُهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية. هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها، ... أما صغير الهمة فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة، فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حِطَّة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم .. ) اهـ (¬1). وفي جُنْحِ هذا الظلام الحالك والليل الأليل تكاد تفتقد أمتنا البدر المنير، وتترقب مجيء "رجل الساعة"، والمصلح المنتظر، ويحدوها الأمل في طلوع فجر قريب يؤذن ببعث المجدِّد المرتقب الذي بشر به الصادق المصدوق في قوله: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدد لها دينها" (¬2). ¬

_ (¬1) "من رسائل الإصلاح" (2/ 88). (¬2) رواه أبو داود، والحاكم، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (601)، وقد نشر في الأعداد الأولى من مجلة "البيان" الغراء بحث ماتع حول معاني هذا الحديث بعنوان "التجديد في الإسلام"، فليراجع.

نداء إلى النشء والشباب

وخَلُّوا ولاة السوء منكم وغيَّهم ... فَأحْرِ بهم أن يغرقوا حيث لَجَّجوا نَظَارِ (¬1) لكم أن يُرجِعَ الحَقَّ راجعٌ ... إلى أهله يومًا فتشجَوْا كما شَجُوا على حين لا عذرى لمعتذريكم ... ولا لكم من حجة الله مخرجُ لعل لهم في منطوى الغيب ثائرًا ... سيسمو لكم والصبح في الليل مولج بجيش تضيق الأرض عن زفراته ... له زجل ينغي (¬2) الوحوش وهَزْمَج (¬3) فيدرِكُ ثأرَ الله أنصارُ دينه ... ولِلهِ أوْس آخرونَ وخَزْرج ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه ... تمامًا وما كل الحوامل تخدج (¬4) وإني على الِإسلام منكم لخائف ... بوائق شتى بابها الآن مُرْتَج لعل قلوبًا قد أطلتم غليلها ... ستظفر منكم بالشفاء فتثلج فيا شباب الِإسلام: قد فتح باب الترشيح، فهيَّا تسابقوا إلى العلا، وتنافسوا في جنة عرضها السماوات والأرض، واختطوا لأنفسكم طريق المجد، فتالله ما ارتفع صوت الحادي يومًا لرفقة أولي صَمَم، ولا ارتفع الفلك الأعلى لغير أهل الشموخ والشَّمَم. ستعلم أمتنا أننا ... ركبنا الخطوب هُيامًا بها فإن نحن فُزْنا فيا طالما ... تَذِلُّ الصِّعابُ لطُلاَّبها وإن نَلْقَ حتفًا فقد قُدِّمتْ ... كؤوسُ المنايا لشُرَّابها فمن منكم ينتدب نفسه لهذه المهمة الجسيمة التي قال فيها المجدِّدُ العَلَمُ، والجبل الأشم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إني ¬

_ (¬1) نَظارِ: اسم فعل بمعنى انتظر. (¬2) نَغَى نَغْيًا: تكلم بكلام لا يُفهم. (¬3) الهَزْمَجَةُ: تتابع الكلام في سرعة، واختلاط الأصوات. (¬4) خَدَجت الحامل: ألقت ولدها قبل تمام أيامه، وإن كان تام الخَلْق.

من منكم "يوسف" هذه الأحلام

أعالج أمرًا لا يُعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصُح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا لا يرون الحقَّ غيرَه"؟! من منكم -ممن يعرف قدر نفسه بلا وَكْسٍ ولا شطط- يراها أهْلًا لهذه الوظيفة المقدسة؟ من منكم "يوسف" هذه الأحلام الذي يضرب صدره في ثقة وشموخ قائلًا: "أنا لها .. أنا لها"؟ فإن كنت -عن جدارة واستحقاق- حُزْتَ "مُسَوِّغات" هذا الترشيح، فامض على بصيرة، "ولا تلتفت إلى الوراء حتى يفتح الله عليك"، وحذار أن تغفل ولو "لحظة": لحظةً يا صاحبي إن تغفلِ ... ألفَ ميلٍ زاد بُعْدُ المنزلِ رام نقش الشوك حينًا رجلُ ... فاختفى عن ناظريه المحْمَلُ (¬1) وزاحم بكتفيك وساعديك قوافل العظماء المجددين من السلف والخلف، ولا تؤجل فـ (ليس من تأجيل، فإن مرور الزمن ليس من صالحك، وإن الطغيان كلما طال أمده، كلما تأصَّلت في نفوس المتميعين معاني الاستخذاء، ولا بد من مبادرة تنتشل، ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض، وبذرة فطرة كامنة) (¬2). ¬

_ (¬1) ومناسبة هذا الشعر (أن إنسانًا كان تائهًا في مفازة يمشي على قدميه، فشهد على بعد منه محملاً أمَّل فيه أسباب النجاة، فأسرع متعجلًا يقصده حافيًا، فأصاب الشوك قدميه، فصرف بصره عن المحمل لحظة لنزع الشوكة من قدمه، فغاب عنه المحمل! ومات أمله ولبسته الحسرات) اهـ. من "رسالة المسترشدين" للمحاسبي، بتحقيق أبي غدة ص (115). (¬2) "المنطلق" ص (59).

قد هيَّأوك لأمرٍ لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَل ولا يظننَّ ظانٌّ أن حديثنا عن علو همة أسلافنا العظام يعني الانطواء في الماضي وقطع الصلة بالحاضر والمستقبل، وإلا صرنا كالترجُمان الذي يتوقف أمام الآثار ويشيد بالماضي فحسب، دون أن يقدم شيئًا للحاضر بَلْهَ المستقبل. ولا يظننَّ ظانٌّ أننا بهذا الحديث عن علو همة السلف الصالح نرجع إلى الوراء في زمن تتسابق فيِه الأم نحو المستقبل، فإن اقتداءنا بخير أمة أخرجت للناس هو ترقّ وصعود وارتفاع إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيرًا، وإن إبراز هذه النماذج الحية أقرب طريق إلى إيقاظ الهمم نحو إصلاح هذه الأمة التى لا يصلح آخِرها إلا بما صلح به أولها {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون}، وباب المجد والمكرمات لم يزل مفتوحًا يرحب بكل راغب: إذا أعجبتك خصالُ امرئٍ ... فكُنْهُ يَكُنْ منه ما يُعجبكْ فليس لدى المجدِ والمكرُما ... تِ إذا جِئْتَها حاجبٌ يَحْجُبُكْ فيا من يروم ولوج هذا الباب واجه الحقائق، وتبصر موقع قدمك، ولا تفزع إلى انتظار خراب العالم على أمل أن ينهض المسلمون على أنقاضه، ولا تهرب إلى افتراض حصول خوارق للسنن التي لا تحابي من لا يحترمها، قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وتذكر يوم بدر حين (خرج الثلاثة من كفار قريش يطلبون المبارزة، فأخرج لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة من الأنصار، فقالوا: "والله لا نطعن في أحسابهم ولا أنسابهم، ولكن أخرج لنا أكفاءنا من قريش"، فأخرج لهم عليًّا وحمزة وأبا سفيان بن الحارث، فقتلوهم،

وكذلك الناس دومًا، تحب المكافأة حتى إذْ هم يُقتلون، والقرشية اليوم تتمثل في الصروح العلمية، والمجامع الأدبية، .. والمؤسسات الصحافية، والمعاهد السياسية، والدور الوثائقية، والشركات الصناعية، والقاعات المصرفية، وعلى دعاة الإسلام اليوم أن ينطلقوا منها للمبارزة) (¬1). هذا زمان لا توسُّط عنده ... يبغي المغامر عاليًا وجليلا كن سابقًا فيه أو ابق بمعزل ... ليس التوسط للنبوغ سبيلا وأنت أنت أيها المصلح المرتقب، والمجدد المنتظر، ستخرج إلى الحياة بإذن الله مهما حاول الفرعون أن يتقيك، ومهما وأد من الصبية كي يبدل وعد الله الذي لا يُخْلَف، قد تكون الآن كامنًا في ضمير الغيب، أو حقيقة في عالم الشهادة، قد تكون رضيعًا في المهد، أو لعلك نشءٌ تقرأ الآن هذه السطور: أنت نشءٌ وكلامي شُعَلٌ ... عَلَّ شدوي مُضْرِمٌ فيك حريقا ليس في قلبى إلا أن أرى ... قطرةً فيك غدت بحرًا عميقا لا عَرَى الروحَ هدوءٌ، ولتكن ... بحياة الكدِّ والكدح خليقا (¬2) إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة "عُمَرِيِّة" توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة "أيوبية" تغرس بذرة الأمل، في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة؛ تأتي من الله المعونة، فاستعن بالله ولا تعجز. ¬

_ (¬1) "صناعهّ الحياة" ص (51) (بتصرف). (¬2) "المنطلق" ص (38).

قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود ورسمناها خطًى للعِزِّ والنصر تقود فتقدم يا أخا الإسلام قد سار الجنود ومَضَوا للمجدِ إن المجدَ بالعزمِ يعود (¬1) قال تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد}، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "مثل أمتي مثل المطر، لا يُدْرَى آخِرُه خير أم أوَّلُه" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا، يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم-: "إن الله زَوَى لي الأرضَ، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها" (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم-: "ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يبقى بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعِزٍّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلامَ، وذُلاًّ يذل به الكفرَ" (¬5). ولتكن هذه المبشرات مسك الختام، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. الإسكندرية في السابع من ربيع الآخر 1416هـ الموافق 3 سبتمبر 1995م ¬

_ (¬1) "الرقائق" ص (149). (¬2) رواه الإمام أحمد والترمذي، وحسنه، وكذا حسنه الحافظ. (¬3) رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6/ 231). (¬4) صدر حديث رواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه. (¬5) رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير"، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وكذا صححه ابن حبان.

§1/1