علوم القرآن عند الشاطبي من خلال كتابه الموافقات

محمد سالم أبو عاصي

شيخنا الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصي

شيخنا الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصي بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد: فالأستاذ الدكتور محمد سالم- حفظه الله تعالى- شخصية علمية بارزة، وواحد من أبناء الأزهر الشريف، الذين حفظوا للأزهر مكانته، وللعلم حرمته، وللتراث العربي والإسلامي عزته ورفعته، وهذه سطور قليلة نتعرف من خلالها على جوانب مختلفة تقربنا من تلك الشخصية. فقد ولد الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصي في العشرين من مارس سنة 1962 م. والتحق في أول الأمر بالمدارس الابتدائية ثم الإعدادية العامة التابعة لوزارة التربية والتعليم، وفي تلك المرحلة المبكرة من حياته بدأ يخطو أولى خطواته نحو رحلته العامرة في طلب العلم، فقد تعرف إلى رجل دانت له الأوساط الإسلامية الخاصة والعامة بكثير من الفضل والجهد، ذلك هو الداعية الإسلامي الشيخ" عبد الحميد كشك"، فقد تعرف إليه وانجذب إلى أسلوبه البليغ، وفصاحته القوية، وعربيته القحة، فاقترب منه، ونشأت بينهما من أواصر الودّ والمحبة ما جعل الشيخ يأنس إليه ويقربه منه؛ فقرأ عليه في تلك المرحلة بعض كتب ابن هشام كقطر الندى وغيره.

ثم انشرح صدره أن يلتحق بالأزهر الشريف؛ حتى يسير على الدرب وينسج على المنوال، فالتحق بالثانوية الأزهرية بالقسم العلمي، ولم يكن يكتفي ذلك الطالب النهم بما يلقى عليه في قاعات الدرس بالمعاهد الأزهرية، فسعى إلى العلماء في بيوتهم ومساجدهم ينهل من معارفهم، ويرتشف من علومهم ... لكنه لا يرتوي. ثم التحق- حفظه الله- بكلية أصول الدين، فتعرف إلى علمائها، وتقرب من أفذاذها، نذكر منهم على وجه الخصوص عالمين جليلين: الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم القيعي- رحمه الله- أستاذ ورئيس قسم التفسير بأصول الدين، الذي قربه منه، وأنزله منه منزلة الولد من الوالد، فأفاد منه فوائد عظيمة وحصّل منه علما جمّا، وقد أشرف الدكتور القيعي على الرسالة التي أعدها الدكتور محمد سالم لنيل درجة الماجستير وكان موضوعها:" تفسير آيات الشرط في القرآن الكريم"؛ ونظرا للمحبة العظيمة والرابطة القوية التي كانت تجمع بين الطالب وأستاذه، بل بين الولد ووالده، بكى الشيخ القيعي بكاء الفرح الممزوج بدموع الوداع بعد هذه المناقشة؛ فقد انتقل رحمة الله عليه، بعدها بأيام إلى مثواه الأخير، تاركا ولده يكمل رحلته في رعاية ربه أرحم الراحمين. وثاني الأستاذين هو الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة- حفظه الله تعالى- الذي كان ولا يزال، يحتفظ بأوثق الصلة وأشد المحبة، بتلميذه وولده الدكتور محمد سالم، فقد أشرف على رسالته للدكتوراة، وكان عنوانها:" التعليل في القرآن الكريم دراسة وتفسيرا"، وهنا يجدر بي أن

أسوق كلمة معبرة عن وفاء الطالب لشيخه، وفناء الشيخ في علمه ورسالته وطلابه، يقول الدكتور محمد سالم في مقدمة الرسالة عن أستاذه الدكتور إبراهيم خليفة:" وبالجملة فهو جامع للمنقول والمعقول على حد سواء، وقد قرأ الأستاذ الدكتور معي هذا البحث حرفا بحرف، وصحح وحقق معي كثيرا من مسائله دون ملل ولا فتور، بل الحق يقال، إنه فتح لي قلبه الرحيم، وبيته الكريم، ومكتبته العامرة، ليل نهار للاستفادة في هذا البحث وغيره ... ". وبعد هذا نقول لمن يمنحون الشهادات جزافا، والدرجات العلمية مجاملة واعتباطا: أين حمرة الخجل؟ نعود لصاحب هذه الترجمة فنقول: كما عرفته المعاهد الأزهرية، نهما شغوفا، محبّا مرتشفا لكأس العلم دائم الشرب لكنه لا يرتوي، كذلك عرفته كليات جامعة الأزهر الشريف، طالب علم جاد لا يكتفي بما يلقى عليه في قاعات المحاضرات بأصول الدين، فتقرب إلى علماء كلية الشريعة واللغة العربية؛ فمن أساتذة الشريعة العلامة الدكتور الفقيه الأصولي أحمد فهمي أبو سنة، والعلامة الدكتور الأصولي خاتمة المحققين الدكتور عبد الجليل القرنشاوي، والأستاذ الدكتور الفقيه الشافعي العلامة جاد الرب رمضان، والعلامة الدكتور الأصولي الحسيني الشيخ، والعلامة الدكتور عبد العال عطوة، والأستاذ الدكتور الشيخ أبو النور زهير، وغيرهم، وتقديرا له ولقوة تحصيله وسعة اطلاعه كتب له

الدكتور أحمد فهمي أبو سنة في إجازته إياه: عرفت فيه حبه للعلم وإقباله عليه، وجودة فهمه، وسعة اطلاعه، وحسن استنباطه مما يقرأ .. قد بلغ درجه في العلم، جعلتني أوصي به المجامع العلمية خيرا، والله يوفقه وينفع به" وكتب الشيخ القرنشاوي في إجازته:" درس معي بعض المراجع الأصلية لهذه المادة- أصول الفقه- وكان حريصا على الفهم والتحليل، وبعد مضي هذه المدة- أربع سنوات- وجدته قد نضج في هذه المادة؛ ملكه وتحصيلا، وقدرة على استخلاص المعلومات من مراجعها الأصلية وصناعتها بأسلوب علمي؛ مما جعلني أثق بقدرته العلمية، ورغبة مني في الانتفاع بعلمه قد أجزته في تدريسها، ونسأل الله تعالى أن يوفقه وينفع بعلمه". ومن شيوخه في كلية اللغة العربية: الأستاذ الدكتور إبراهيم علي أبو الخشب، ويوسف الضبع، وأحمد حسن كحيل. وبعد؛ فالذي ذكرناه من السادة العلماء الأفاضل، هم بعض من درس عليهم أستاذنا الجليل، وإلا فذكرهم على التفصيل أمر يطول، لكنني على أكمل اليقين وأتم الثقة أنه كان محظوظا بتلك الكوكبة النادرة العالية من أجلة العلماء، وكانوا هم أيضا محظوظين بذلك الطالب الوفي النابه.

أما عن جهوده العلمية والدعوية: فقد كان العلم له رسالة وقضية، وما أصعبها من رسالة وما أشقها من قضية، في وقت سادت فيه عملة الزيف، وكثر فيه الأدعياء، ولم يفرق الناس- بل كثير ممن يطلبون العلم- بين عالم ومدع. ونستطيع أن نجمل هذه الجهود في السطور التالية:- التدريس بكلية أصول الدين بالقاهرة لعلم التفسير وعلوم القرآن الكريم. - التدريس بكلية الآداب جامعة الإسكندرية. - التدريس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. - التدريس بالمعهد العالي للدراسات الصوفية التابع للعشيرة المحمدية. - العمل أستاذا ورئيسا لقسم أصول الدين بكلية الشريعة والقانون بسلطنة عمان الفترة (1997 - 2003 م). - هذا إلى جانب المشاركة بالمؤتمرات العلمية، والندوات العامة، والبرامج التلفزيونية، والمقالات الهادفة بالجرائد والمجلات السيارة. - مشاركته الفعالة بمشروع" إحياء الأزهر القديم" بالرواق العباسي بالجامع الأزهر الشريف. - عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة. - المشاركة بموسوعة الفرق الإسلامية- إشراف الدكتور حسن الشافعي- بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

وبعد فهذه السطور المتواضعة تحاول أن تقرب شخصية هذا العالم من قلوب أحبابه وتلاميذه، وأحسب أن لها شرف المحاولة فقط، وإلا فقد سبق علمه كلماتي، وسبقت سجاياه ترجمتي، وسبقت محبته في قلوب عارفيه سطوري، فما هي إلا كلمات تعبر عن محبتي ووفائي له، والوفاء أمر غال عزيز. والله سبحانه الموفق والمستعان وكتب المفتقر إلى عفو ربه أشرف سعد محمود

مقدمة

مقدمة الحمد لله .. أقولها بملء فمي وقلبي. لقد ألهمني الله سبحانه وتعالى الحق، وبصرني منهاج الدلالة عليه، وحملني شرف الدفاع عن دينه وشريعته وقرآنه، وما كنت أهلا لشيء من ذلك كله ... لولا سابغ لطفه، وعظيم امتنانه ... فمنه وله وإليه الفضل كله. والصلاة والسلام الأتمان والأكملان على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد .. فإن الناظر في تراث علمائنا الأعلام، خصوصا أهل التفسير والقرآن، يتبين أنهم- رحمهم الله- لم يقفوا عند كلام يحللونه ويستخرجون معانيه وأحكامه، كما وقفوا عند القرآن الكريم: يدرسونه على جميع وجوهه من نحو وبلاغة وفقه .. يخبرون ظاهره وباطنه، ويسبرون غوره، ويتغلغلون في أعماقه. وذلك كله؛ لئلا يفوتهم معنى أو حكم من أحكام الله في قرآنه دون أن يستخرجوه. وكذلك .. لئلا يستخرجوا من كلام الله غير مراده سبحانه؛ إذ في الأول نقص يلحق أحكام الله، وفي الثاني دخول ما ليس من أحكام الله في مراده. ومن ثم ... أحكم علماء القرآن وسائلهم اللغوية والفقهية .. دققوا وحققوا ما في وسعهم من أصول الاستنباط، وسبل الاجتهاد، في تفسير القرآن الكريم، ومن ثم نشأ ما يسمى ب" علوم القرآن" و" أصول التفسير"، التي هي بمثابة أصول الفقه من الفقه. فكما أن الفقيه يستنبط من النص مستعينا بأصول الفقه، فكذلك المفسّر يستنبط من النص مستعينا بأصول التفسير كي يقطف المعنى من اللفظ.

وفي هذا البحث حاولت أن أكشف شيئا من علوم القرآن وأصول التفسير عند الإمام الشاطبي في كتابه" الموافقات"، وحاولت كذلك- وأنا طالب علم- أن ألفت نظر زملائي من طلاب العلم كيف كان علماؤنا الأوائل يعملون عقولهم، وكيف كانوا يفكرون وهم يستنبطون ويستخرجون مراد الله من قرآنه. يقول أستاذنا الجليل الدكتور محمد محمد أبو موسى:" ليس في باب العلم أنفع ولا أفضل من أن نتعلم كيف استنبط العلماء العلم؛ لأن الاستنباط هو الذي يهديك إلى استخراج معرفة جديدة وفكر جديد، وهو الذي هدى كل جيل إلى تجديد علومه وبسط معارفه" (¬1). وبعد .. فإن الغاية التي يسعى إليها هذا الكتاب إنما هي التنبيه إلى قيمة قواعد علوم القرآن وأصول التفسير في دراسة كتاب الله، ثم التمسك بهذا النهج، والدعوة إليه على أنه هو- لا غيره- النهج الأقوم في فهم القرآن؛ لأنه الميزان الذي يميز الرشد من الغي، وهو الذي ينير السبيل ويوضح صدق المتمسكين بالقرآن والسنة، كما أنه هو الذي يكشف روغان الكاذبين والمخادعين والمضللين ممن يرفعون راية" القراءة المعاصرة"، تلك القراءة التي تحرف القرآن عن مواضعه- أو من بعد مواضعه- متخذين من الآراء الشاذة والضالة قديما وحديثا هاديا لهم. ثم رأينا من هؤلاء من يحاول أن يطبق المناهج الأعجمية- من" الألسنية" وغيرها- في نقد النصوص الأدبية على القرآن وعلومه .. فرأينا من ينادي ¬

_ (¬1) المدخل إلى كتابي عبد القاهر، مكتبة وهبة، ط 1/ 1998 م، ص 5.

بدراسة القرآن دراسة أدبية فقط، وأن هذا الدرس الأدبي لا بدّ وأن يقوم أولا على نزع الإيمان بقدسية هذا النص. إن إسقاطات هذه" القراءة المعاصرة" تتغيّا إسقاط الفرق بين كلام الله الذي يتعالى على الزمان والمكان، وبين كلام البشر الذي لا يستطيع الفكاك من دائرتي الزمان والمكان. وهذا ينتهي بهم- لو عقلوا وأنصفوا- إلى إلغاء الفرق بين الخالق والمخلوق. والمحصّلة عند هؤلاء تتجلى في أمور جد خطيرة: 1 - إسقاط قدسية النص القرآني، وذلك عن طريق قطعه عن مصدره. 2 - إسقاط إلزامية القرآن الكريم بالنسبة للمسلمين، وذلك من خلال فتح باب التأويل على مصراعيه من غير ضوابطه العلمية المقررة. 3 - القطيعة المعرفية مع التراث وذلك عن طريق رفضه كله (" الحداثة" المبتورة عن الجذور). إن العاصم من هذا الزلل أن نعود إلى أصول اللغة العربية والقواعد الأصولية، فنتخذ منهما أداة نتوسل بها إلى فهم سديد لكتاب الله تعالى، وإلى استنباط صحيح منه. فاللغة العربية هي مفتاح القرآن، وقد أصاب دهاقنة الاستعمار المقتل فينا حين وجهوا سهامهم نحوها منذ قديم. إن تفسير القرآن الكريم دون التقيد بأصول لغة العرب كذب وتقوّل على الله، وهو كذلك خطيئة منهجية لا تغتفر .. لا في منطق الشريعة ولا في شرعة العلم. وكذلك تفسيره من غير معرفة الدلالات الشرعية .. تحريف لمراد الله تعالى في بيان أحكامه.

ومن ثم بنيت بحوث هذا الكتاب على أصلين: أولهما: ما يعوّل عليه من اللغة في علوم القرآن. وثانيهما: ما يعوّل عليه من الشرع في علوم القرآن. ونهجي في هذا الكتاب أن أبدأ بذكر ما قاله الشاطبي ثم أوضحه إن احتاج الأمر إلى توضيح، وأعقب عليه إن اقتضى الأمر تعقيبا، ثم أقارن أحيانا بين ما يقوله- رحمه الله- وبين ما يقوله غيره من علماء القرآن والأصول، فيظهر في نهاية المطاف قيمة ما يقوله الإمام الشاطبي عن القرآن وعلومه في كتابه" الموافقات". وحسبي أنني ألج هذا الباب وأسلك هذا الطريق دون ريادة سابقة فيما أعلم أتهدّى بها في موضوع دقيق كموضوع هذا الكتاب، ولعلي بهذا أستثير الدافع عند آخرين ليسلكوا ما عساي أكون قد بدأت به. والمحصّلة الأخيرة التي خرجت بها من قراءة هذا الكتاب هي أن الشاطبي كان يتعبد في محراب" كيف تكشف الغمّة عن هذه الأمة". ولذلك حاول أن يرجع بفهم القرآن الكريم وتفسيره إلى ما كان عليه الأوائل من بيان هدى الله في قرآنه، واقتطاف أحكامه، وبيان أن هذا القرآن هو معجزة الإسلام وأن كل مفسّر مهما حاول فإنما يأخذ نقرة بمنقار طائر في بحر محيط. واعتقاد مفسري القرآن كان ولا يزال، وسوف يستمر، أن ما أدركوه من معناه هو شيء ظني، وأن ما أدركوه من إعجازه هو شيء نسبي، إذا قيس بما عليه حقيقة أمر القرآن الذي لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه. ...

وختاما ... إن في تاريخ هذه الأمة رجالا صنعهم الله على عينه فكانوا حماة لهذا الدين، ونحن بحاجة إلى أمثالهم يرابطون على الثغور في هذا الزمان الذي يحاول أعداء الإسلام كل يوم فتح ثغرة في جدران حماه. وأحسب أن الشاطبي كان علما من أعلام هؤلاء ... فجزاه الله خير الجزاء على ما أسدى في خدمة كتاب الله خاصة وشريعة الله عامة، كما أسأله سبحانه أن يجزي شيوخنا الأجلاء الذين جلسنا بين أيديهم وتعلمنا منهم خير الجزاء؛ إذ هذا البحث ما هو إلا ثمرة من ثمار غرسهم، ونستطيع أن نقول لهم بملء أفواهنا: هذه بضاعتكم ردت إليكم. والصلاة والسلام على نبينا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراط الله المستقيم. د. محمد سالم أبو عاصي

ترجمة أبي إسحاق الشاطبي

ترجمة أبي إسحاق الشاطبي تمهيد: عرف بعضهم أصول الفقه بأنه العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي (¬1). وعملية استنباط أحكام الشريعة من أدلتها لها ركنان: أحدهما: علم لسان العرب. وثانيهما: علم أسرار الشريعة. وقد خصّ الركن الأول بالدراسة المتعمقة التي لملمت له الشعث، وأدرج فيه ما تمس إليه حاجة الاستنباط، وأضيف إليه ما يخدمه وما يقوم عليه من بحوث أخرى فيما يتعلق بتصور الأحكام. وأما الركن الثاني فقد أغفل إغفالا ... " وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما، هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه، حتى هيأ الله- سبحانه وتعالى- أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى، في هذا الفراغ المترامي الأطراف، في نواحي هذا العلم الجليل" (¬2). فمن هو هذا العلم الفخم الذي صنع هذا الصنيع، وأسدى هذه المفخرة؟ ¬

_ (¬1) محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، ص 8، ط. دار التعارف، لبنان. (¬2) عبد الله دراز، من مقدمة الموافقات، 1/ 50.

1 - أولا: اسمه ونسبه:

من هو أبو إسحاق الشاطبي هذا؟ 1 - أولا: اسمه ونسبه: هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، وكنيته أبو إسحاق، ولقب شهرته الشاطبي. فأما اللخمي؛ فهو نسب عائلته، أي قبيلته، ولا يعلم في نسبه القريب مبرّز في العلم، غير أن حسب أبي إسحاق أن يكون علمه نسبه، متمثلا بقول أبي الطيب: لا بقومي شرفت بل شرفوا ... (وبعلمي) فخرت لا بجدودي (¬1) على أنه لا ضعة على الرجل في نسبه. فهو لخميّ عربي، وكان للخميين ملك بالحيرة، كان آخرهم المنذر بن النعمان بن المنذر، ثم كان لبقاياهم ملك بإشبيلية من الأندلس وهي دولة ابن عباد. وأما الشاطبي؛ فهي نسبة إلى" شاطبة" الواقعة شرق الأندلس بمقاطعة بلنسية، وقد عرفت بصنع الورق، وكانت من أعظم حصون المسلمين بالأندلس، ونسبة أبي إسحاق إلى شاطبة، من جهة كونها موطن آبائه، الذين تركوها إلى غرناطة حين سقوطها بيد ملك أراقون، الذي حاربها تسع سنين من غزوه لها عام 1239 م، ثم أخرج من شاطبة أهلها من المسلمين. 2 - مكان وزمان ولادته: أ- زمان ولادته: لا يوجد تاريخ مجزوم به يحدّد ولادة أبي إسحاق، غير أن بعضهم اجتهد في استنباط تاريخ مقارب، فجعلها قبل عام 720 هـ، وسنده في ¬

_ (¬1) أصل البيت: وبنفسي فخرت لا بجدودي، وعدلنا به للمناسبة.

3 - نشأته:

ذلك أن وفاة أسبق شيوخ الشاطبي وهو أحمد بن الزيات كانت 728 هـ، ولا بدّ أن يكون الشاطبي حينها يافعا. ولكن باحثا آخر نفى كون ابن الزيات شيخا للشاطبي. ورجح أن مولد الشاطبي كان قريبا من سنة 730 هـ واستند في ذلك إلى براهين هي: - أن أبا إسحاق كان صديقا ندّا لابن زمرك الوزير المولود عام 733 هـ. - أن الشاطبي ذكر أنه كان سنة 756 هـ تلميذا صغيرا لابن الفخار البيري. ولعل هذا التوجيه هو الأدق للبرهان الثاني خصوصا إذا علم أن الشاطبي كان يدرس على ابن الفخار ألفية ابن مالك وكتاب سيبويه .. فانظره، والله أعلم بصوابه. ب- مكان ولادته: لم يذكر على وجه التحديد كزمانها، لكن إذا علمنا أولا أن أهل الشاطبي تركوا شاطبة إلى غرناطة عام 1247 م- في الحادثة التي أشرنا إليها- على أبعد التقديرات؛ فإن ذلك يكون قبل ولادة الشاطبي بنيف وسبعين سنة. ويعلم ثانيا أن الشاطبي نشأ وترعرع بغرناطة، فيترجح أن ميلاده- وهو إلى نشأته أقرب- إنما كان في غرناطة. 3 - نشأته: نشأ الشاطبي بغرناطة التي أمضى بها سائر عمره، وكان قد اتجه منذ صباه الباكر إلى العلم كما ترى من ملازمته أعلاما كبارا في زمنه كابن الفخار البيري الذي كان يتلقى عنه وهو في العشرينيات تقريبا، وكأبي سعيد بن لب في ذات الفترة، وغيرهم من الأعلام. وما تمكنه عند جمعهم إلا لطول الملازمة، وبيان ذكائه، وظهور نبوغه، ألا ترى كيف كان ابن الفخار يعجب من ذكائه وإثارته مسائل في اللغة، لا يتنبه

4 - أخلاقه:

إليها من هو في مثل سنه؟! فما بالك بمن عجب منه ابن الفخار وهو الإمام في علوم العربية الذي لا مطمح بغيره في اللحاق به؟! وقد كان الشاطبي متميزا بقوة العارضة والنبوغ، وقد خرجت خوارجه منذ أول توجهه كما يقول عن نفسه:" لم أزل منذ فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي أنظر في عقلياته وشرعياته وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، ولا أفردت من أنواعه نوعا دون آخر". 4 - أخلاقه: يوصف الشاطبي في مجمل سجاياه أنه كان يغلب عليه الزهد والورع والتمسك بالكتاب والسنة، والنفور من البدع وأهلها، كما كان متواضعا يكره التعالم والتعنت والاعتراض والجدل. 5 - وفاته: من المتفق عليه أن وفاة الإمام أبي إسحاق كانت سنة 790 هـ الموافقة 1388 م. استنادا على ما قاله أحد تلامذته الذي نظم كتاب الموافقات إذ قال: حتى غدت حياته منقضية ... في عام تسعين وسبعمائة ودقق بعض الباحثين تاريخ وفاته بأنه يوم الثلاثاء، الثامن من شعبان، سنة 790 هـ، الموافقة 1388 م. فإن كان الاختيار أن ولادته كانت في الثلاثينيات من القرن الثامن كما مر، فيكون قد عاش نحوا من ستين سنة (¬1). ¬

_ (¬1) حماد العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص 13، 14. وانظر: مجلة الموافقات، العدد الأول ص: 95.

6 - عصره وبيئته:

6 - عصره وبيئته: عاش الإمام أبو إسحاق الشاطبي في غرناطة من أرض الأندلس، ولم يذكر أنه فارقها حتى للحج، بله طلب العلم. وكان القرن الذي عاش فيه هو الثامن الهجري بين ثلاثينياته وتسعينياته. فما بيئة غرناطة ووقتذاك؟ وما أحوالها المعاصرة لحياة الإمام أبي إسحاق؟ بيئة إقامة الشاطبي غرناطة، التي كانت في بداية عهد المسلمين في الأندلس واقعة ضمن إقليم البيرة التي صرف إليها عبد الرحمن الداخل الأموي جل اهتمامه، ثم حين سقطت الدولة الأموية في الأندلس وأحرقت البيرة انعكس الأمر وخرج أهلها منها وجعلوا قبلة فرارهم وهجرتهم إلى غرناطة، وأصبحت هي عاصمة الإقليم، بينما غدت البيرة تابعة لها، واتخذها المرابطون قاعدة لهم بعد أن افتكّوها من بربر صنهاجة- كما يذكر- ثم دالت الدولة فأخذها منهم الموحّدون، ثم استولى عليها ابن هود أحد ملوك الطوائف، إلى أن نزعها منه مؤسس الدولة النصرية دولة بني الأحمر، عام 635 هـ، وظل بنو الأحمر يحكمون غرناطة قرابة قرنين ونصف من الزمان، وفي أوج دولتهم هذه عاش الإمام أبو إسحاق الشاطبي، وعاصر من ملوكها مزيجا .. منهم القوي الحكيم، ومنهم الضعيف غير المجرّب فتستقر الأحوال حينا فيعمل الناس وينتجون، وتضطرب أحيانا متجهة إلى الحركة، أو تضعف. وقد يخرج منها البعض مهاجرا. كانت ولادة الشاطبي في هذا العهد، وعلى الذي اخترناه من تاريخ ولادته، يكون ذلك مترددا بين عهد اثنين من ملوك بني الأحمر هما محمد بن إسماعيل

(تولى 725 هـ، وقتل 733 هـ)، وأخوه أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل (تولى 733 هـ، وقتل 755 هـ)، وكان أبو الحجاج مهتمّا بالعلم والأدب، وقد استوزر ذا الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب، وعلى عهده كان في غرناطة علماء كبار منهم ابن الفخار البيري شيخ الشاطبي، ففي عهد أبي الحجاج يكون الشاطبي يشق طريق تكوينه العلمي على يد أعلام قرطبة. ثم ولي بعد أبي الحجاج ولده الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل (ولي 755 هـ، ومات 793 هـ)، أي أن حكمه استمر إلى ما بعد وفاة الشاطبي، وكانت فترة طويلة تميزت بأمن واستقرار نوعا ما، تخللها ذلك الاضطراب الذي خرج فيه الغني بالله إلى المغرب، وتولى مكانه أخوه إسماعيل، ثم قتله زوج أخته" البرميخو" وتولى مكانه، وكان" البرميخو" فاسدا. ولما كانت الرعايا على دين الملوك فقد انتقل هذا الفساد إلى الحياة اليومية، لا سيما انتشار الحشيشة واستحلالها كما كان يصنع البرميخو، وفي هذه السنوات الثلاث لجأ معظم الفقهاء إلى بلاط بني مرين بفاس. كما ساعد في نقل الفساد إلى الحياة اليومية كون غرناطة قبلة كل شارد فأصبحت ملتقى للانحرافات الدينية والخلقية في سائر الحياة العامة- كما يعبر البعض- وهكذا ما كان يجري في سراديب السياسة بين الطبقات الحاكمة من كلب شديد قائم على السلطة. وحسبك أن تعلم من ذلك أن ابني إسماعيل اللذين ذكرناهما وأباهما أبا اليد إسماعيل، كل هؤلاء قتل في سبيل السيطرة، وما حدث للغني بالله كان وراءه أخوه إسماعيل وهلك إسماعيل على يد البرميخو. وما دون الأمراء كان كذلك حال الوزراء كالفتنة التي وقعت للسان الدين ابن الخطيب، وضاعفها أن كان وراءها تلميذه ابن زمرك الذي أرضعه ابن الخطيب الأدب وانتهت بقتل ابن الخطيب عام 776 هـ،

ودارت الأيام على ابن زمرك فقتل هو الآخر عام 797 هـ، وكان ابن زمرك صديقا ندّا للشاطبي، كما سبق ذكره. هكذا كانت بيئة غرناطة وعصر الشاطبي، فعلى ما فيها من ازدهار في العلوم والآداب بحيث كان ذلك الوقت عصرا لكبار الفقهاء كابن عرفة، وابن مرزوق الجد، والعقباني، والأدباء كلسان الدين ابن الخطيب، وابن خلدون ... وغيرهم ممن عرفت .. على هذا الازدهار كان ما رأيت من سريان الداء إلى جسد الحياة اليومية، وما سمعت من تهتك أديم نظام السلطة والكلب على الحكم. وعلى كل ذلك لم يكن هناك صدى فيما كتبه الشاطبي لهذه الأحوال، وليس له تجاهه موقف فصيح، غير أنه يمكن رد ذلك إلى أنه كان يكتفي بموقفه الفكري المميز الذي يردّ فيه كل أسباب الفساد الخلقي والاضطراب الاجتماعي إلى البعد عن النهج السويّ والسنة السمحاء، وإيثار البدعة وارتضائها، وهذا ميدانه الذي بقي فيه سيفه مصلتا وتحمل في سبيل غايته كل عنت ومشقة. ولعل سائلا يسأل لم لم يترك الشاطبي غرناطة والأندلس إلى غيرها؟ ونقول: لو فعل؛ لكان كالمستجير من الرمضاء بالنار ففي تلك المرحلة العصيبة لم تكن أرض للمسلمين إلا وهي تنعي صحة الإسلام إلى أهله الغيورين، فبنو مرين في فاس تتراجع دولتهم بعد وفاة أبي الحسن المريني 752 هـ، ومصر فيها الأحوال مضطربة في دولة المماليك البحرية ثم الجركسية وهم يواجهون خطر التتار من جهة

شيوخ الشاطبي:

والصليبيين من جهة. فإن فر من نار المغرب؛ وقع في جحيم المشرق، وقد فعل ذلك ابن خلدون فما ظهر إلا بالعناء والعنت (¬1). شيوخ الشاطبي (¬2): 1 - أبو عبد الله محمد ابن الفخار البيري: وقد مر ذكره، وكان الشاطبي شديد القرب منه، وقد درس عليه كتاب سيبويه وألفية ابن مالك، وكان شيخا له في القراءات. توفي ابن الفخار عام 756 هـ- أو بعدها بقليل، وقد درس عليه الشاطبي في شبابه وكان به معجبا. 2 - أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب الغرناطي (710 - 782): كان فقيه غرناطة وخطيبا بجامعها الكبير، ومدرسا بمدرستها النصرية. وكان ثالث ثلاثة ذاع صيتهم بالمغرب، والآخران هما المقري وابن مرزوق وكلاهما من شيوخ الشاطبي. كان الشاطبي أثيرا قريبا من ابن لب، وقد درس عليه الفقه والفروع وشيئا من اللغة، ولكن نفرة قامت بينهما حين استقل الشاطبي بالفتوى، فبدا له ¬

_ (¬1) في حال عصر الشاطبي .. انظر: - أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الشاطبي، خلاصة ترجمة الشاطبي، ص 88. - حماد العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة. - مجلة الموافقات، ملف العدد الأول. (¬2) انظر: الشاطبي ومقاصد الشريعة، لحمادي العبيدي، ومقاصد الشريعة عند الشاطبي، للريسوني.

تساهل ابن لب، في حين كان الشاطبي شديدا في فتاواه توافقا مع نهجه في معاكسة الأهواء، ودفع البدع، وحفظ دوحة الدين. 3 - أبو علي منصور بن عبد الله بن علي الزواوي التلمساني (710 - 765) وقد قدم غرناطة عام 753 ولبث بها 13 سنة، وكان جاءها ليتلقى عن ابن الفخار البيري فانتصب للتدريس، ودرس عليه صاحب ترجمتنا مختصر ابن الحاجب، وكان الزواوي حبيبا إلى نفس الشاطبي لتجانس روحيهما، فقد كان أبو علي متمسكا بالسنة شديد التمسك، وكان له في منهج الشاطبي أثر بيّن يدلنا عليه ما يذكره الشاطبي أنه كان كثيرا ما يذكر له قول بعض العقلاء:" لا يسمى العالم بعلم ما عالما بذلك العلم على الإطلاق حتى تتوفر فيه أربعة شروط: أحدها: أن يكون قد أحاط علما بأصول ذلك العلم على الكمال. والثاني: أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم. والثالث: أن يكون عارفا بما يلزم عنه. والرابع: أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم". 4 - أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي بكر المقري الكبير، جد المقري الصغير صاحب" نفح الطّيب". ولد بتلمسان، وسافر إلى المشرق وعاد إلى فاس، ثم وفد إلى غرناطة سنة 757 هـ، وانتصب بها للتدريس وقد سبقته شهرته إليها، وكان ذا نزعة في التصوف أثرت في الشاطبي، واقترب منه الشاطبي حين دراسته عليه الفقه والتصوف والحديث، وخصه المقري بسندين مسلسلين أحدهما سند مصافحة والآخر سند تلقين.

تلاميذه:

5 - أبو عبد الله محمد بن مرزوق (710 تلمسان- 781 القاهرة)، وفد على غرناطة وانتصب للتدريس ومحوره في دروسه تدريس الفقه بشرح الحديث فكان يشرح الموطأ برواية الليثي. انكب آخر عمره على شرح" الشفا" للقاضي عياض ومات دون إتمامه. 6 - أبو جعفر أحمد الشقوري: شيخ الشاطبي في الفرائض والفقه على" المدونة". 7 - أبو عبد الله البلنسي: ذكر أنه مفسر ونحوي. 8 - أبو عبد الله الشريف التلمساني، صاحب كتاب" مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول". وغير هؤلاء تلقى عنهم الشاطبي فنبغ وفاق. تلاميذه (¬1): زخرت أبحر أبي إسحاق وعلا كعبه في العلم عن ذهن متوقد وقريحة صافية، فكان لا بد أن يقصده طلاب المناهل، ولا بدّ أن ينتصب هؤلاء لأداء الأمانة، فقام لذلك بجامع غرناطة الأعظم يدرس خمسة علوم: الفقه والأصول والحديث والقراءات والنحو. فاعتمد في تدريسه النحو كتاب سيبويه وبعض شروح" الخلاصة". وفي تدريسه الأصول مختصر ابن الحاجب، ثم درس كتابه" الموافقات" بعد تمامه. وفي الحديث مقدمة ابن الصلاح. ¬

_ (¬1) المرجعان السابقان.

وفي الفقه مصادر منها: موطأ مالك، ومدونة سحنون. وفي القراءات:" التيسير" لأبي عمرو الداني. وكان لأبي إسحاق تلامذة نبغ منهم من نذكره لنباهة شأنه: 1 - أبو يحيى بن محمد بن عاصم، من أسرة شهيرة بغرناطة، تلقى عن الشاطبي الفقه وعلوم اللغة وتولى الوزارة لبني الأحمر، ولقب بابن الخطيب الثاني، واستشهد في جهاد النصارى 813 هـ. 2 - أخوه أبو بكر بن عاصم، لقب بالقاضي؛ إذ ولي القضاء بغرناطة، وبرع في العلوم وألف تآليف منها أرجوزة العاصمة في الفقه، وكان جل اهتمامه منصبّا على علم الأصول تأثرا بشيخه، كما اختصر" الموافقات" لأستاذه أبي إسحاق. 3 - أبو عبد الله محمد المجاري الأندلسي: تلقى عن الشاطبي علم النحو، وصنف كتابا عن شيوخه عرف باسم" برنامج المجاري"، ارتحل إلى المشرق لطلب العلم، وتوفي 862 هـ. 4 - أبو جعفر القصار، تلميذ فهم أثير كان أبو إسحاق أثناء تأليفه" الموافقات" يعرض عليه بعض المسائل ويباحثه فيها ثم يدونها. 5 - أبو عبد الله البياني، فقيه. 6 - ابن جعفر الفخار.

مؤلفات أبي إسحاق الشاطبي:

مؤلفات أبي إسحاق الشاطبي (¬1): مجمل مؤلفات أبي إسحاق هي: 1 - الموافقات. 2 - الاعتصام. 3 - الإفادات والإنشاءات. 4 - كتاب المجالس. 5 - شرح الخلاصة. 6 - عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق. 7 - أصول النحو. كما أن بعض فتاويه جمعت حديثا. وإليك الحديث عن كلّ: 1 - الموافقات: وكان قد سماه" عنوان التعريف، بأسرار التكاليف"، وهو أشهر كتب أبي إسحاق وأكثرها ذيوعا، وليس موضوعه أصول الفقه كما يتبادر، ولكن أصول الفقه بعض موضوعاته، وسائر البحوث التي يفيض بها الكتاب تدخل تحت فلسفة التشريع وأسرار التكليف. ظهر مطبوعا أول مرة بتونس 1884 م؛ إذ كان مخطوطا متداولا بين أيدي العلماء والطلاب. ثم طبع بمصر بالسلفية، بتعليق الشيخ محمد الخضر حسين التونسي- نزيل مصر- على الجزءين الأولين وتعليق الشيخ حسنين مخلوف على الثالث والرابع، وذلك سنة 1922 م. ¬

_ (¬1) المرجعان السابقان، وأيضا: مقدمة فتاوى الشاطبي، د. محمد أبو الأجفان.

وطبع بعد ذلك طبعة أخرى بالمكتبة التجارية الكبرى دون تاريخ، بتحقيق وتعليق الشيخ عبد الله دراز. ثم طبعته مكتبة صبيح بمصر طبعة أخرى سنة 1969 م بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. وطبع منه الجزء الأول في مدينة قازان السوفيتية عام 1909 م. 2 - الاعتصام: وهو في البدع والمحدثات، الميدان الذي صرف إليه الشاطبي شطرا كبيرا من همته. والكتاب مضمن في جزءين، ناقش موضوعاته وفق منهاج أصولي بعبارة رصينة، وتضمن بعض مباحث الأصول. نشره لأول مرة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار عام 1913 م، وطبع ثانية بالمكتبة التجارية مع المقدمة التي قدم بها رشيد رضا للطبعة الأولى. وطبع ثالثة بدار المعرفة ببيروت مع ذات المقدمة. 3 - الإفادات والإنشاءات: وصف بأنه فيه طرف وملح أدبية وإنشاءات، وهو مطبوع منذ ما يزيد على عقد من الزمان، بتحقيق محمد أبو الأجفان. 4 - كتاب المجالس: غير مطبوع، شرح فيه الشاطبي كتاب البيوع من صحيح البخاري، وهو الكتاب الوحيد الذي يذكر للشاطبي في الفقه، فله بهذا منزلة خاصة، يذكر التنبكتي في" نيل الابتهاج" أن فيه من الفوائد والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله. 5 - شرح الخلاصة (ألفية ابن مالك): ذكر بعض الباحثين أنه يضم أربعة أجزاء كبيرة، وتوجد نسخة منه بالخزانة الملكية بالرباط تحت رقم (276)، وأن جامعة أم القرى تقوم بتحقيقه ونشره.

6 - عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق: وهو في علم الصرف وفقه اللغة، كما يظهر من اسمه، ويذكر التنبكتي أن الشاطبي أتلفه في حياته. 7 - أصول النحو: تضمن القواعد الأصلية التي لا غنى عنها لطلاب هذا العلم، ويذكر أنه تلف أيضا كسابقه. 8 - (ما يلحق بمؤلفاته): وهو فتاوى الإمام الشاطبي، وهو كتاب ظهر حديثا، وليس في حقيقته مصنفا للشاطبي إذ هو عبارة عن جمع لستين فتوى من فتاوى الشاطبي المنثورة في كتب عدة يعود أصل بعضها إلى" الموافقات" وبعضها إلى" الاعتصام"، وقد جمع هذه الفتاوى بعض المؤلفين سابقا كابن كركاط في" الفتاوى"، والونشريسي في" المعيار"، ثم استخرجها كلها محمد أبو الأجفان وجعلها كتابا مستقلا بهذا الاسم. هذا تطواف سريع حاولنا فيه أن نلملم شواهد تكشف لنا عن بنيان شامخ يقف علما باذخا في سلسلة رواد علوم الشريعة الأول كتمهيد لموضوع هذا البحث. رحم الله أبا إسحاق على ما بذل لدين الله، وشكر الله له سعيه وهو الشكور، ونفع بعلمه وهو صانع ذلك، إنه على كل شيء قدير.

الأصل الأول فيما يعول عليه من اللغة في علوم القرآن

الأصل الأول فيما يعوّل عليه من اللغة في علوم القرآن مقدمة بداية أقول: إن لتفسير القرآن الكريم أصولا، التزمها علماء القرآن عبر القرون؛ سواء أكان التفسير تفسيرا بالمأثور أم تفسيرا بالرأي. وأهم هذه الأصول هي: أن يطلب تفسير القرآن أول ما يطلب من القرآن نفسه. فإن لم نظفر بتفسير القرآن من القرآن؛ فمن السنة النبوية الصالحة للحجية (أعني الثابتة بطريق صحيح أو حسن). فإن أعيانا البيان من السنة؛ تطلبناه في أقوال الصحابة. فإن ظفرنا من قولهم بما له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم (بأن كان قول أحدهم فيما لا مجال للرأي فيه، ولم يكن قائله معروفا بالأخذ عن بني إسرائيل، أو كان .. ولكنّ مرويه مما لا صلة له بما لدى بني إسرائيل)؛ وجب أن نأخذ بهذا القول أخذنا بالحديث المرفوع بلا أدنى فرق. فإن لم يتوافر الثابت من مأثور الصحابة على هذه الحال (بأن اختل فيه الشرطان الآنفان ... أحدهما أو كلاهما)؛ لم يخل الأمر عندهم من إحدى أحوال أربع: أولاها: أن يعرف كونه محلا لإجماع الصحابة، وأنه لم يشذ عن القول به أحد منهم. الثانية: أن يعرف كونه مجالا لاختلافهم .. اختلافا تضل معه الفكرة، ولا يهتدى فيه إلى الصواب حسب غالب الظن.

الثالثة: أن يكون كسابقه .. ولكن مع تبين وجه الصواب منه، وترجحه في غالب الظن. الرابعة: ألا يعرف فيه إجماع منهم ولا اختلاف، وإنما غاية الأمر فيه أنه أثر عن الواحد والاثنين مثلا دون أن يبلغنا عن أحد من الصحابة ما يخالف أو يوافق. فإن كان الاحتمال الأول؛ وجب الأخذ بمقتضاه، وذلك لأجل الإجماع؛ إذ الإجماع- كما هو معلوم في علم الأصول- لا بد أن يكون له مستند من القرآن أو السنة، فالأخذ بالمجمع عليه هو أخذ في ذات الوقت بمستند الإجماع. أما الحال الثانية (وهي أن يقع منهم الاختلاف على وجه لا يتبين معه الصواب)؛ فإن أهل السنة لا يلتفتون إلى مأثورهم في مثل هذه الحال؛ لعدم الجدوى بالكلية. أما الحالان الأخيرتان (ألّا يصل اختلافهم فيه إلى خفاء وجه الصواب منه، أو يثبت عن أحدهم الأثر دون أن يعرف إجماع منهم عليه ولا اختلاف فيه)؛ فإن الراجح الأخذ بمأثورهم فيهما. فإن لم نجد البيان في أقوال الصحابة؛ فالنظر في أقوال التابعين .. فإن أجمعوا على شيء؛ أخذنا به؛ لأجل الإجماع. فإن لم يكن إجماع؛ ننظر ... فإن ظفرنا من قولهم بما له حكم المرفوع المرسل (بأن كان قول أحدهم فيما لا مجال للرأي فيه، ولم يكن قائله معروفا بالأخذ عن بني إسرائيل، أو بأن يكون قائله إماما من أئمة التفسير

الآخذين عن الصحابة)؛ فالراجح الأخذ بمثل هذا القول. فإن لم يكن للمأثور عن التابعي هذان الشرطان؛ فهو ما حكى الزركشي فيه الخلاف (¬1). وهذه الألوان الأربعة من التفسير يجب عند أهل الحق أخذها، والتعويل عليها على هذا الترتيب .. لكن شريطة ألا يتعارض أيّ منها تعارضا حقيقيّا يتعذر فيه الجمع مع المعقول القطعي. فإن وقع مثل ذلك التعارض؛ وجب تأويل المنقول، وطرح ظاهره لأجل المعقول. فإن لم يظفروا بشيء من بيان ما يقصدون إلى بيانه (لا في الكتاب، ولا في السنة الثابتة، ولا في المأثور الصالح للحجية من أقوال الصحابة أو التابعين)؛ اجتهدوا رأيهم .. بعد تحصيل العلوم، وتوفر الملكات اللازمة للاجتهاد، متوخين في ذلك المنطق اللغوي، بأن يحملوا مفردات النظم القرآني وتركيبه على ظواهرها المتبادرة منها لغة على ما هو معهود العرب الخلّص؛ ما لم تصرف قرائن معتبرة عن تلك الظواهر (¬2). هذا .. وحجية المنطق اللغوي قائمة على أساس أن القرآن الكريم قد نزل على أساليب اللغة العربية وقوانينها وخصائصها في الأداء، قال تعالى في بيانه الإلهي: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة يوسف: 2]، وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سورة الشعراء: 195]. ¬

_ (¬1) انظر: البرهان في علوم القرآن، 2/ 158. (¬2) انظر: الدخيل، لأستاذنا الدكتور إبراهيم خليفة، ص 27 وما بعدها.

وفي بيان ذلك يقول الشاطبي:" لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه (وهو السنة)؛ لأنه إذا كان كليّا فلا محيص عن النظر في بيانه. وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له- إن أعوزته السنة- .. فإنهم أعرف به من غيرهم. وإلا .. فمطلق الفهم العربي لمن حصّله يكفي فيما أعوز من ذلك" (¬1). هذا .. وقد عقد الشاطبي القسم الثالث من كتابه" الموافقات" لبيان مقاصد الشريعة بقسميها: ما يرجع إلى الشارع الحكيم، وما يرجع إلى العبد المكلف. وجعل القسم الأول أربعة أنواع: قصده الشارع في وضع الشريعة ابتداء، قصده في وضعها للإفهام، قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، قصده في دخول المكلف تحت حكمها. والذي يعنينا منها في هذا المقام هو: النوع الثاني: ما قصده الشارع في وضعها للإفهام. وهو يقيم هذا النوع على خمس مسائل. وأحب أن ألفت النظر إلى أنني لن أتقيد في بحثي هذا بذكر مسائله الخمس، بل أذكر منها ما له صلة مباشرة بما يعوّل عليه في علوم القرآن. كما أنني لا ألتزم كذلك ترتيبه الذي انتهجه، مراعاة لما أتغيّاه من ربط القضايا محل البحث بعضها ببعض. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 369.

(1) عربية القرآن

(1) عربية القرآن قرر الشاطبي أن الشريعة عربية اللسان، لا مدخل فيها للألسن الأعجمية، مما يوجب على أهل العلم أن يكون فهمهم خطابها من هذا الطريق:" من أراد تفهمه؛ فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلّب فهمه من غير هذه الجهة" (¬1). فالقرآن نزل بلسان العرب، فطلب فهمه يجب أن يكون طبقا للغة العرب في قواعدها الدلالية والبيانية. غير أن علماء القرآن والأصول اختلفوا: هل في القرآن كلمات غير عربية؟ المحققون من أهل الفقه بالقرآن على أن" القرآن الكريم جاء بأصفى ألفاظ اللغة العربية، وأعذبها، وأفصحها، مما لا يمكن أن يخدش عربية لغة القرآن؛ بحيث لا تجد لفظا واحدا فيه إلا وله أصالة في العربية. أما ما يدعيه البعض من وجود ألفاظ أعجمية في القرآن .. فليس في القرآن لفظ أعجمي لا يعرفه العربي، أو لم يستعمله. وكيف يصح خلاف ذلك والقرآن يكذّبه عند ما يبين أنه نزل بلسان عربي؟! وهذا يقتضي أن اسم الشيء، ووصفه المخلوع على اسمه معا، يجب أن يحمل على جميعه كما هو متبادر. وعليه .. يكون جميع القرآن عربيّا، وقد قال عزّ وجل في ردّه على من زعم أن النبي يعلّمه بشر فقال: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [سورة النحل: 103]، وقال عزّ وجل: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا ¬

_ (¬1) الموافقات، 2/ 64.

لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سورة فصلت: 44]. فالكلمة إذا كانت عربية ولكنها حوشية مجهولة لم تكن توصف بالفصاحة .. فكيف بالكلام الأعجمي مجهول اللفظ والمعنى؟! ولو كان في القرآن أعجمي؛ لبادر العرب بإنكاره على القرآن. فمن ينفي وجود الأعجمي في القرآن إنما يقصد الذي لا تعرفه العرب ولا تستعمله. ومن قال بوجوده فهو يقصد الذي عرفه العرب، واستعملوه حتى لان وانقاد للسانهم. وهكذا يكون الخلاف بين الفريقين لفظيّا؛ لأنه توارد على محلين لا محل واحد" (¬1). وقال الشاطبي في بيان ذلك:" إذا كانت العرب قد تكلمت به، وجرى في خطابها، وفهمت معناه؛ صار من كلامها. ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب، وهذا يقل وجوده، وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب. فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب، أو كان بعضها كذلك دون بعض؛ فلا بد لها من أن تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها. وإذا فعلت ذلك؛ صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها كالألفاظ المرتجلة، والأوزان المبتدأة لها" (¬2). وعلى هذا التحرير يحمل ما نقله الزركشي عن جمهور العلماء من عدم وجود غير العربي في القرآن، ومنهم أبو عبيدة، والطبري، والقاضي أبو بكر بن الطيب في" التقريب"، وابن فارس اللغوي، والشافعي في" الرسالة". ونقل عن الشافعي ردّه على القائلين بوقوع الأعجمي في القرآن (¬3). وحكى عن ابن فارس عن أبي عبيدة أنه أنكر ¬

_ (¬1) د. إبراهيم خليفة، الإحسان في مباحث من علوم القرآن، ص 186، 187. (¬2) الموافقات، 2/ 65. (¬3) الرسالة، تحقيق الأستاذ أحمد شاكر، ص 40.

قول القائلين بوقوع غير العربي في القرآن؛ لأنه لو كان واقعا لتوهم متوهم أن العرب عجزت عن الإتيان بمثله لأنه يشتمل على غير لغاتهم (¬1). ثم يقرر الشاطبي أن الخلاف في مجيء كلمات أعجمية في البيان القرآني لا ينبني عليه حكم شرعي. ولكنّ القول بأن القرآن نزل بلسان العرب يهدي إلى أنه لا يمكن أن يفهم إلا من جهة لسان العرب؛ لأن معنى عربيته" أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر .. وكل هذا معروف عندها، لا ترتاب في شيء منه، هي، ولا من تعلّق بعلم كلامها. فإذا كان كذلك؛ فالقرآن في معانيه، وأساليبه على هذا الترتيب. فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب .. كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم؛ لاختلاف الأوضاع والأساليب. والذي نبّه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه" (¬2). ونص الشافعي في ذلك قوله:" ومن جماع علم كتاب الله: العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب" (¬3) .. " وأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم ¬

_ (¬1) البرهان في علوم القرآن، 1/ 287 وما بعدها. (¬2) الموافقات، 2/ 65، 66. (¬3) الرسالة، ص 40.

الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه؛ انتفت عنه الشّبه التي دخلت على من جهل لسانها" (¬1). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 50.

(2) اتباع معهود العرب في فهم الخطاب

(2) اتباع معهود العرب في فهم الخطاب إذا كان هذا الذي قلناه واضحا، وما إخاله يخفى على أحد من أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وأنه اتخذ من قوانين اللغة وخصائصها في البيان أداة ونهجا وأسلوبا للتعبير عن معانيه .. أقول: إذا كان هذا هكذا؛ فإنه ينبغي أن يسلك به في الاستنباط والاستدلال مسلك العرب في تقرير معانيه على ما هو المعهود عندهم في تلقي الخطاب. والمقصود بموافقة القرآن معهود العرب: أنه لم يخرج عن لغتهم من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة. فمن حروفهم جاءت كلماته، ومن كلماتهم نظمت تراكيبه، وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات، وتكوين تلك التراكيب جاء تأليفه. فإن قلت: ما دام منزّله- جل شأنه- قد أجراه على سنن العرب في كلامها؛ ففيم كان الإعجاز؟ ونجيب عن هذا التساؤل بما أجاب به شيخ أشياخنا العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز- رحمة الله عليه- في كتابه الفذ" النبأ العظيم" .. وذلك حيث يقول: " فإن قال: قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم. ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظانّ هذا السر؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية. فمن حروفهم ركّبت كلماته، ومن كلماتهم ألّفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في

التأليف جاء تأليفه .. فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادّها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟ قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادا وتركيبا؛ فذلك في جملته حق لا ريب فيه. وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سورة فصلت: 44]. وأما بعد .. فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان؟! فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادّة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانا مرفوعة، وسقفا موضوعة، وأبوابا مشرّعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، وأكنّها للناس من الحرّ والقرّ، وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء بحيث يتخللها الضوء والهواء. فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء .. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتا بعيدا. كذلك ترى أهل اللغة الواحدة .. يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة. ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك،

خطاب العامة وخطاب الخاصة:

ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجّه أذنك، وتغثي منه نفسك، وينفر منه طبعك". ثم يقول- رحمة الله عليه:" .. فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف الموادّ، وأمسّها رحما بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به ... بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يوما أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلا، ولا الساكن يبغي عن منزله حولا .. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان". ثم ينتقل إلى خصائص الأسلوب القرآني، فيبين الأسباب التي بلغ بها درجة الإعجاز .. ونجتزئ من كلماته النيّرة الفذة .. قال- رحمة الله عليه: خطاب العامة وخطاب الخاصة: وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس. فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء؛ لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب. ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء؛ لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم. فلا غنى لك (إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظّها كاملا من بيانك) أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى، كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال. فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغنياء، وإلى السّوقة والملوك .. فيراها كلّ منهم مقدّرة على مقياس عقله وعلى وفق

إقناع العقل وإمتاع العاطفة:

حاجته؛ فذلك ما لا تجده على أتمّه إلا في القرآن الكريم. فهو قرآن واحد .. يراه البلغاء أو فى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم .. لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة .. فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسّر لكل من أراد: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر: 17]. إقناع العقل وإمتاع العاطفة: وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان. وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها. فأما إحداهما؛ فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به. وأما الأخرى؛ فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم. والبيان التام هو الذي يوفّي لك هاتين الحاجتين، ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظّها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا. فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء .. فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوّا في جانب، وقصورا في جانب! فأما الحكماء .. فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدّمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع. وأما الشعراء .. فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيّا أو رشدا، وأن يكون حقيقة أو تخيلا .. فتراهم جادّين وهم هازلون .. يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون! وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ

فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [سورة الشعراء: 224 - 226]. وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير. وكل امرئ حين يحس ويشعر فإنما هو شاعر صغير. فسل علماء النفس: هل رأيتم أحدا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء؟ ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس .. فهل ترونها تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة؟ يجيبوك بلسان واحد: كلا. بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال. وكلما تسلطت واحدة منهن؛ اضمحلت الأخرى وكاد ينمحي أثرها. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره. وهكذا .. لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدا واحدا، وإلا؛ لكانت مقبلة مدبرة معا! وصدق الله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [سورة الأحزاب: 4]. فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطّلبتين على سواء، وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء؟! وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال. هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعا لها حين قال أو كتب .. فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية؛ قلت: هذا ثمرة الفكرة. وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها وبسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها؛ قلت: هذا ثمرة العاطفة. وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر، فتفرّغ له بعد ما قضى وطره

من سابقه- كما ينتقل من غرض إلى غرض- عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه. وأما أن أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا، ويجمع في يديك هذين الطرفين معا .. كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارا معا، أو كما يسري الروح في الجسد، والماء في العود الأخضر؛ فذلك ما لم تظفر به في كلام البشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية. فمن لك إذن بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟ ذلك .. الله رب العالمين. فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معا .. يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابا خالصا سائغا للشاربين. وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت .. ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟! أولا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظّ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب .. يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها؟! .. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الزمر: 23]، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) [سورة الطارق: 13 - 14] " (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: النبأ العظيم، ص 89، 90، 113، 115.

والآن .. نعود إلى أصل مسألتنا (أعنى اتباع معهود العرب في تلقى الخطاب) .. وفي بيان ذلك يقول الشاطبي:" إنه لا بدّ في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين؛ وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم" (¬1). ويقول الإمام الشافعي في هذا أيضا:" إنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيه" (¬2). ومن الضروري في تحديد معهود الخطاب معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها المصاحبة لنزول القرآن الكريم؛ إذ إنّ كثيرا من الألفاظ إذا أريد تفسيرها بمجرد لغة العرب من غير الرجوع إلى هذه العادات توقع المفسّر أو المستنبط للقرآن الكريم في الغلط والجهل. يقول الشاطبي:" لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن والسنة من معرفة عادات العرب في أقوالها، ومجاري عاداتها حالة التنزيل من عند الله والبيان من رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الجهل بها موقع في الشّبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة" (¬3). ومن ذلك قوله تعالى في بيانه الإلهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [سورة آل عمران: 130] .. فإن ظاهر الآية يوهم تقييد الربا المحرم بها إذا كان أضعافا مضاعفة؛ لكن إذا علم أن الغالب من عادات العرب ¬

_ (¬1) الموافقات، 2/ 82. (¬2) الرسالة، ص 51. (¬3) الموافقات، 3/ 351.

التعامل بالربا المضاعف، وأن الرجل منهم كان يربي أجل، فإذا حلّ قال للمدين: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل، فيفعل .. وهكذا عند محل كل أجل كان يستأصل ما له بالدين الطفيف .. أقول: إذا علم هذا؛ علم أن الآية جاءت مراعاة لعاداتهم، وتنديدا بشنيع معاملاتهم. فليس الربا مخصوصا بالمضاعف .. بل هو حرام قليله وكثيره، والقيد لبيان الواقع كما يقولون. ومن ذلك قوله تعالى يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [سورة النحل: 50]، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [سورة الملك: 16]، وأشباه ذلك .. فإنها جري على معتادهم من اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرّين بألوهية الواحد الحق .. فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه؛ تنبيها على نفي ما ادعوه في الأرض من الأوثان، فلا يكون فيه دليل البتة على إثبات الجهة لله سبحانه. ومن ذلك قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [سورة النجم: 49] .. فعين هذا الكوكب مع أنه رب الكواكب كلها؛ لأن العرب عبدته، وهم خزاعة، ابتدع لهم ذلك أبو كبشة. هذا. ولقد صوّر الشاطبي طرفا من معهود العرب في لسانها في التراوح بين المعاني والألفاظ والأساليب، فقال:" ومن معهودهم: ألا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني، وإن كانت تراعيها أيضا، فليس أحد الأمرين عندها بملتزم؛ بل قد تبني على أحدهما مرة، وعلى الآخر أخرى، ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته" (¬1). ¬

_ (¬1) الموافقات، 2/ 82.

واستدل على ذلك بأدلة: أولا: خروج العرب في كثير من كلامها على أحكام القوانين المضطردة، والضوابط المستمرة. ورده صاحب" سبل الاستنباط" بأن العرب كانت تخرج في كلامها- شعرا ونثرا- عما هو الكثير الغالب في أنماط الصياغة .. أما البيان القرآني؛ فليس فيه خروج عن كل أنماط اللسان العربي ومذاهبه في القول. وما قد يظن أنه خروج هو في حقيقته اصطفاء لنهج من العربية يتنافى مع فيض دلالي، وقصد بياني (¬1). ثانيا: استغناء العرب ببعض الألفاظ عمّا يرادفها أو يقاربها. ولا يعدّ ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى المقصود على استقامته، والكافي من ذلك: نزول القرآن على سبعة أحرف (¬2). استدلاله- رحمه الله- بأن ثمّة ألفاظا تفي بحق ما أقيمت مكانه في البيان العالي إبداعا أو إعجازا مسلّم في بعض وجوه البيان الإبداعي، لكنه لا يكون البتة في البيان القرآني. فما يكون لكلمة اقتضاها السياق المقالي أو المقامي في أفقه أن تفي غيرها بما تفيض هي به من صنوف الدلالة والهدى على لاحبه، فليس في معجم البيان القرآني مترادفات البتة، لا في مفرداته ولا تراكيبه (¬3). ولو أنك ¬

_ (¬1) سبل الاستنباط، د. محمود توفيق سعد. (¬2) الموافقات، 2/ 83. (¬3) سبل الاستنباط، ص 428.

أدرت ألفاظ اللغة على موضع لفظة واحدة من القرآن الكريم بحثا عن بديل ما وجدت إلى ذلك سبيلا. أما دعواه دلالة نزول القرآن على سبعة أحرف على وفاء كلمة مكان أخرى؛ فهي دعوى غير مسلّمة. ولسنا هنا في صدد بيان أقوال العلماء في المراد من السبعة الأحرف .. ولكنّ الذي ينبغي التّنبّه إليه أن المقصود بالحرف هو الوجه من وجوه القراءات، وهي لا تخرج عن سبعة أوجه على ما ذهب إليه الإمام أبو الفضل الرازي وغيره: الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث .. وذلك كقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [سورة المعارج: 32]. قرئ: " لأماناتهم" جمعا، و" لأمانتهم" إفرادا. الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سورة سبأ: 19] .. وقرئ:" ربّنا بعّد". الثالث: وجوه الإعراب: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [سورة البقرة: 282] .. قرئ بفتح الراء وضمها. الرابع: الزيادة والنقص: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [سورة الليل: 3] .. قرئ: " والذكر والأنثى". الخامس: التقديم والتأخير: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [سورة ق: 19]. قرئ:" وجاءت سكرة الحق بالموت". السادس: القلب والإبدال: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [سورة البقرة: 259] .. قرئ:" ننشرها".

السابع: اختلاف اللغات من فتح، وإمالة، وترقيق، وتفخيم وتحقيق، وتسهيل .. وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [سورة طه: 9] .. قرئ بالفتح والإمالة في" أتى" ولفظ" موسى" (¬1). والخلاصة: أن القراءات السبع هي بعض أحرف القرآن السبعة لا كلها، وأن القراءات العشر المشهورة بين أيدي الناس اليوم هي جميع الأحرف السبعة التي أنزل الله عليها القرآن. وإن شئت قلت: الأحرف السبعة هي القراءات العشر .. بلا أدنى فرق (¬2). فالأحرف السبعة هي القراءات العشر المتواترة. وكل قراءة متواترة ذات معنى لا يكون هو معنى غيرها من القراءات الأخرى المتواترة، وإلا .. لكان من العبث (الذي ينزّه عنه العقلاء. فضلا عن الله الحكيم) أن تنزل قراءات قرآنية متعددة كل واحدة منها هي عين الأخرى في المعنى. ثالثا: استدلاله بأن العرب قد تهمل بعض أحكام اللفظ؛ وإن كانت تعتبره على الجملة (¬3). رابعا: استدلاله بأن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع، وأن شأن الشاعر العربي إذا اشتغل بالتنقيح اختلفوا في الأخذ عنه. وإذا كان كذلك؛ فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله، أو ¬

_ (¬1) مناهل العرفان، 1/ 148. (¬2) انظر في تحقيق هذه المسألة: الإحسان في علوم القرآن، د. إبراهيم خليفة. (¬3) الموافقات، 2/ 84.

سنة رسوله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عند ما حدّته (¬1). وكان مقتضى هذا الدليل، والذي قبله أن يأتي الشاطبي من الكتاب والسنة بما فيه إهمال بعض أحكام اللفظ، أو ما رمى به الكلام على عواهنه، هكذا يقول الشيخ دراز .. لكنّ الشاطبي رتب على هذين الدليلين نتيجة لا علاقة لها بهما، فقال: " لا يستقيم في كتاب الله، أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب". وتعقبه صاحب" سبل الاستنباط":" بأن حديثه في فقه النص على معهود العرب في بيانها، فأدخل فيه ذم التكلف في الفهم. والواقع أن ثمّ تناقضا بين التكلف والفهم .. إنهما لا يلتقيان؛ لأن الفهم ينبثق من النص، والتكلف يسقط عليه من خارجه" (¬2). وبعد ذلك كله فإنّا نقول: إن كل ما ذكرناه هنا، يتلخص في أن عربية القرآن تعني أنه يفهم من خلال معهود العرب في تلقي الخطاب أيام التشريع. هذا ما أكده المفسرون والأصوليون. قال صاحب" المنار":" على المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر النزول" (¬3). فمن غفل عن ذلك وأخذ ألفاظ القرآن دون مراعاة أوضاع اللغة عند العرب زلّ فهمه، وجانب الصواب. ودونك .. فانظر ما يسمى ب" التأويل ¬

_ (¬1) الموافقات، 2/ 84، 85. (¬2) سبل الاستنباط، ص 433. (¬3) تفسير المنار، 1/ 21، 22.

الباطني" قديما، و" القراءة المعاصرة" حديثا مما لا يخضع لدلالات اللغة العربية، وأصولها البيانية، على ما سيأتي بيانه. إن من السّبل السديدة لفهم القرآن الكريم التحصن بحصن قواعد اللغة العربية، وأوجه دلالاتها كما أراده الشارع الحكيم.

(3) أنواع معاني العربية ومراتبها

(3) أنواع معاني العربية ومراتبها ومن معهود العرب في الخطاب- كما يذكر الشاطبي- أن للغة العربية دلالتين: الأولى: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة .. وهي الدلالة الأصلية، وهذه تشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، وهي التي يمكن ترجمتها إلى اللغات الأخرى، ومنها صح تفسير القرآن، وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه. والثانية: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة، دالة على معان خادمة .. وهي الدلالة التابعة للدلالة الأصلية. وهذه الدلالة يختص بها لسان العرب .. " فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك بحسب المخبر، والمخبر عنه، والمخبر به، ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء، والإيجاز والإطناب، وبحسب الكناية عنه، والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الإخبار، وما يعطيه مقتضى الحال .. إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها. فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من مكملاته ومتمماته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر". " ومن هذه الجهة في الدلالة لا يمكن ترجمة كلام من الكلام العربي بكلام العجم على حال .. فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي.

والدلالة في هذه الجهة كوصف من أوصاف الدلالة في الجهة الأولى، سواء أكان وصفا من الأوصاف الذاتية أو غير الذاتية" (¬1). وبيان ذلك: أن للغة العربية دلالة أصلية تحصل من مجرد نسبة الفعل إلى الفاعل، أو الخبر إلى المبتدأ، فالمعنى الأصلي في قوله تعالى مثلا: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [سورة البقرة: 179]: أن من قتل نفسا بغير حق يقتل؛ وذلك حفظا لحياة الناس، فالقصاص زاجر عن قتل النفس بغير الحق، فكل عارف بمدلولات الألفاظ يدرك هذا المعنى. وللغة دلالة أخرى ثانوية، وهي ما يبحث عنها في علم البلاغة، ويسميها البلاغيون" مستتبعات التراكيب" وهي خواص النظم التي يرتفع بها شأن الكلام. وإذا كان للقرآن باعتباره ألفاظا لغوية دلالة أصلية، وأخرى تابعة (هي مظهر بلاغته، وملاك إعجازه)؛ فإن ترجمته بالنظر إلى المعنى الثانوي غير ميسورة، قال الزمخشري في" الكشاف":" إنّ في كلام العرب- خصوصا القرآن- من لطائف المعاني ما لا يستقل بأدائه لسان". أما الذي يمكن نقله إلى لغة أخرى؛ فهو المعنى الأصلي، حيث لا تقصر اللغات الأجنبية عن تأديتها. هذا ما قرره الشاطبي في مسألة ترجمة القرآن. ويعلق الأستاذ الجليل الشيخ محمد الخضر حسين- رحمه الله- على ما قاله الشاطبي بقوله:" وترجمة المعاني الأصلية وحدها، وتسميتها" ترجمة للقرآن"، يوهم أن المترجم أخذ معاني القرآن من أطرافها، ونقلها إلى اللغة الأجنبية، كما يقال في ترجمة غيره: ترجمة طبق الأصل. ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات، 2/ 66، 68 بتصرف، وسبل الاستنباط، ص 417، 418.

شبهتان وردهما:

أما المفسّر؛ فإنه يتكلم بلهجة المبيّن لمعنى الكلام على حسب فهمه، فكأنه يقول للناس: هذا ما أفهمه من الآية. أما المترجم؛ فإنه يتكلم بلهجة من أحاط بمعنى الكلام، وصبّه في ألفاظ لغة أخرى. والعمل الذي يصان به القرآن من تحريف أو وهم يتسرب إليه من طريق الترجمة أن يترجم تفسيره" (¬1). شبهتان وردّهما: إنه على الرغم من اتفاق العلماء المعتبرين على الالتزام بفهم القرآن الكريم من خلال معهود العرب في الخطاب .. فإن ثمّة مغالطتين تثاران حول هذه القاعدة: المغالطة الأولى، مؤداها: إذا كان القرآن قد ورد على معهود العرب في الخطاب؛ فلم كانت الحاجة إلى التفسير؟ والجواب: صحيح أن القرآن كله نزل على معهود العرب بلا ريب؛ لكنّ دلالات الألفاظ على معانيها تتعدد وجوهها ومناحيها في لغة العرب، فهناك الحقيقة والمجاز والمشترك. فليس كل نص تكون دلالته بعبارته .. بل قد تكون بالمنطوق والمفهوم، أو بالإشارة والاقتضاء. وهناك الدلالات التي تتفاوت درجاتها من حيث القوة والضعف: كالمحكم والمفسّر، والنص، والظاهر والخفي، والمشكل والمجمل. وهناك الدلالات التي ينقسم اللفظ فيها إلى: خاص وعام، ومطلق ومقيد، وغير ذلك مما هو من معهود العرب في الخطاب، ومن ثمّ تكون منافذ الاجتهاد منفتحة أمام المفسر. ¬

_ (¬1) انظر: بلاغة القرآن، للخضر حسين، 68، 69.

ويجيب كذلك عن هذه المغالطة السيوطي- رحمه الله- بقوله:" إنّ القرآن إنما نزل بلسان عربي، في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه. أما دقائق باطنه؛ فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر، مع سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأكثر، كسؤالهم لمّا نزل قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام: 82]، فقالوا: وأيّنا لم يظلم نفسه؟! ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك، واستدل عليه بقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان: 13]، وكسؤال عائشة إياه عن الحساب اليسير فقال:" ذلك العرض"، وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، وغير ذلك مما سأل عنه آحاد منهم. ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه، وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر؛ لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير" .. ثم يقول:" وأما القرآن .. فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا أن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك متعذر، إلا في آيات قلائل، فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل" (¬1). أما المغالطة الثانية؛ فمؤداها: الدعوة إلى عزل الاستخدام اللغوي القرآني عن المعهود من لغة العرب، وعن السنّة النبوية كذلك، وتبني المعهود الغريب والحديث ونقله في فهم القرآن الكريم (¬2). والجواب: لا يخفى أن القرآن الكريم بيان الله لمراده التشريعي، نزل بلسان عربي مبين- على ما سبق- ولما كانت المعاني المودعة في البيان القرآني ذات ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن، ط. الحلبي، 2/ 174. (¬2) انظر: العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، محمد أبو القاسم حاج حمد، 1/ 65.

دقة وغور؛ كانت الحاجة في تفسيره واستنباط الأحكام منه تحتاج إلى دقة وأناة كذلك، فليس الأمر ضربة لازب، بل له قواعد وضوابط وسبل، تستمد من حقيقة هذا الوحي وما أودع فيه من مراد الله، ومن خصائص اللسان الذي نزل به. ومن ثمّ .. قرر أهل التفسير والأصول واللغة أنه لا يجوز لأحد أن يفسر ذلك البيان من دون فقه ذلك اللسان العربي؛ لأن القرآن- كما قلنا- لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم من حيث الألفاظ المفردة، والجمل المركبة، وقوانينها العامة. ومن ثمّ .. فتفسير النص القرآني بما لا يكون معهودا من لغته كذب. فمثلا: لو فسرت" النجدين" في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد: 8، 9، 10] بأن النجدين- كما يقول أحد أصحاب" القراءة المعاصرة"- أعضاء بمعنى الثديين؛ فإنك تكون كذبت على لغة العرب، وبالتالي على القرآن الذي نزل على لغة العرب، ويترتب على ذلك القول بقصور أفهام العرب عن إدراك تامّ لمعاني القرآن أو عدم إدراكها بالمرة. فتحميل النص ما لا يحتمل من الدلالة اللغوية كذب في بيان المراد الإلهي منه. ثم إن تنزيل القرآن على غير معهود العرب سوف يجرد القرآن من الإعجاز من وجهه البياني، وهو أهم وجوه الإعجاز، إن لم يكن هو الوجه الوحيد. ومن العجيب أن صاحب هذه الدعوة يسقط البيان النبوي للقرآن الكريم، مع أن السنّة هي بيان القرآن بنص القرآن، وهي تأخذ حجيتها من إقرار القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرنا ولا ينهانا إلا بالذي يأمرنا به الله عزّ وجلّ.

ويترتب على ذلك- أعني إسقاط السّنة- التشكيك في صحة التطبيقات المبنية على المفاهيم التي استفادها الصحابة الكرام، أو المسلمون عبر القرون من القرآن الكريم، كما أن هذا القول سيجعل القرآن قاموسا لنفسه دون حاجته إلى مرجعية أخرى في فهمه- كالبيان النبوي- كما أنه سيجعل القرآن كذلك كتابا نظريّا تتحدد معانيه بمحدود طيّاته. فإن قلت: إن لغة القرآن التي جاءت على معهود العرب خاضعة في ألفاظها واستعمالاتها لسنة التطور طالما هي متداولة في التاريخ، وهذا يعني تعرض ألفاظها للتحول إلى معان جديدة لم تكن مقصودة في زمن التنزيل. قلت: نحن لا نغفل جوانب الاستفادة من ذلك التطور واستثماره في الفهم، شريطة أن يختزن اللفظ العربي المعنى الذي يراد أخذه من اللفظ. فإذا كان اللفظ بحسب معناه اللغوي أو العرفي يتسع لذلك؛ فلا إشكال.

(4) مناسبات النزول

(4) مناسبات النزول القرآن الكريم هو الكلام العربي الذي سما- كما قلنا آنفا- إلى أعلى درجات البلاغة. والبلاغة: هي مطابقة الكلام لمقتضيات الأحوال. فلا بد لمعرفة معاني القرآن على الحقيقة من معرفة هذه المقتضيات والمناسبات التي اقترن نزول الآيات بها. فمناسبات النزول، بما أنها مقتضيات الأحوال التي نزل بعض آيات القرآن الكريم استجابة لها، تلقي ضوءا على وجوه الإعجاز البياني. فضلا عن أنها من عناصر الاسترشاد والاستيضاح التي تعين على فهم المراد من الآية الكريمة. ومن ثمّ .. قرر الشاطبي أن معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران: أحدهما: أن علم المعاني والبيان (الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب) إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين .. وغير ذلك، فلفظ الاستفهام- مثلا- واحد، ولكنه يختلف إلى: حقيقي، وإنكاري، وتوبيخي، وتعجبي. ولفظ الأمر واحد، ولكنه يختلف معناه إلى ما هو: للطلب، أو للتهديد، أو للإباحة.

وليست القرائن الدالة على هذا كلها في القرآن، بل أكثرها قرائن خارجية مستوحاة من أسباب النزول، ومقتضيات الأحوال (¬1). وتوضيح هذا الذي يقوله الشاطبي يتجلى في أن كلا من علم المعاني والبيان موضوعة مسائلهما للاقتدار على معرفة معاني القرآن، والاستشراف على مقاصده، فضلا عن معرفة كلام العرب، والوقوف على أغراضها في مخاطباتها. وإنما كان علم المعاني والبيان بهذه المثابة؛ لأن فقه مسائلهما يدل على الأسباب التي تجعل الكلام مطابقا لمقتضى الحال. ومطابقة الكلام لمقتضى الحال هو" البلاغة". ومن ثمّ .. فلا يفهم الكلام الذي يجيء على نهج البلاغة إلا بمعرفة الحال التي صدر كلام البليغ قاصدا لمطابقتها، وذلك .. أن الكلام يكون واحدا، ثم يختلف باختلاف الخطاب المستعمل فيه، وباختلاف المتكلم، وباختلاف السامع كذلك. فمعرفة مقتضيات الأحوال أمر لا بدّ منه في معرفة معاني القرآن العظيم المعجز، وإدراك مقاصده البعيدة. وما أسباب النزول إلا إعلام بالحال والمناسبة التي نزلت فيها الآيات الكريمة، فهي كاشفة لمعاني القرآن، معينة على بيان مقاصده، وصحة دلالته، وتفهّم أسرار بلاغته. الأمر الثاني- وهو مبني على الأول: أن الجهل بأسباب النزول موقع في الجهل بمعاني القرآن، ومؤدّ إلى الشّبه والخلاف في معناه (¬2). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 347. (¬2) الموافقات، 3/ 348.

ويدل على ذلك جملة وقائع ظهرت أثناء نظر الصحابة للقرآن، وإرادة فهمهم مجرى خطابه. ومن ذلك ما نقله الشاطبي أن مروان بن الحكم أشكل عليه قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [سورة آل عمران: 188]، فأرسل إلى ابن عباس يقول له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ويحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا؛ لنعذّبن أجمعون! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء من التوراة فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وفرحوا بما فعلوا، وأحبوا أن يحمدهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الأخبار الكاذبة .. ثم قرأ قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [سورة آل عمران: 187]. فهذا السبب يظهر أن المقصود من الآية تعذيب المنافقين الكاتمين لأحكام الله، لا ما فهمه مروان بن الحكم. ومن ذلك: ما روي أن عمر بن الخطاب استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود يخبر عمر أن قدامة شرب فسكر، فقال له عمر: ومن يشهد على ذلك؟ فقال: أبو هريرة. فقال عمر: يا قدامة .. إني جالدك. فقال: والله .. لو شربت- كما يقولون- لما كان لك أن تجلدني. قال عمر: ولم؟! قال: لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة: 93] .. قال قدامة: فأنا من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا .. شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين، وحجة على

الباقين .. فعذر الماضين: أن الله أنزل هذه الآيات قبل أن تحرّم عليهم الخمر، وحجة على الباقين: لأن الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة: 90] .. ثم قرأ إلى آخر الآية. قال ابن عباس: فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. فقال عمر: صدقت. وسر الغلط- كما يقولون- أن قدامة بن مظعون غفل عن موضع نزول الآية الأولى، وأنها كانت فيمن مات من الصحابة قبل نزول الآية في تحريم الخمر. هكذا يقول الشاطبي في" الموافقات" في هذا الموضع، وسلمه له شارحه العالم الجليل الشيخ عبد الله دراز، وكذلك غيرهما من الكاتبين في علوم القرآن، قديما وحديثا. غير أن الأستاذ الجليل الدكتور محمد سعاد جلال تعقبهم بأن" هذه المسألة ليست من قبيل الجهل بمعرفة السبب؛ لأن المراد بالسبب (الذي تنزل بعض الآيات جوابا عليه) إنما هو سبب محدد. أما هذه الواقعة؛ فلا يعدو الحال أن تكون الآية الأولى نزلت في تاريخ سابق عامة في جميع المؤمنين، وفي جميع أجزاء الزمان الذي كانوا فيه، بحيث لو لم تنزل الآية الثانية لما أمكن القول بأن الآية الأولى جاءت موضوعة على سبب خاص. وإنما هذه الواقعة ترد إلى قاعدة العام، وتخصيص العام. ذلك .. أن كلمة" فيما طعموا" تنحلّ إلى كلمتين:" ما" الموصولة، وهي تفيد العموم. و" طعموا" صلتها المفسّرة لمعناه. ومعنى" طعموا": تناولوا. والمعنى الكلي للجملة: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح في أي شيء تناولوه، ولو كان هو الخمر، لمن كان متصفا بالإيمان والتقوى

والإحسان. فهذه قضية عموم الآية الذي استشهد قدامة به، وأجابه ابن عباس بأن هذا العموم ليس جاريا على إطلاقه، ولكنه عموم دخله التخصيص بالآية الثانية، فكأنه قال: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا .. إلا إن كان خمرا؛ فاجتنبوه" (¬1). هذا .. ومن فوائد معرفة أسباب النزول: معرفة مقاصد الأحكام التي اشتملت عليها الآيات التي نزلت على أسبابها، ووجه الحكمة فيها. وبذلك يدفع المفسر الشّبه عن القرآن الكريم، ويستطيع المجتهد استنباط علل الأحكام كما في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [سورة النساء: 43] .. فإن سبب النزول يبين أن الحكمة هي المنع من حصول التخليط في الصلاة، والتغيير في القرآن. وأخيرا .. فإن مما ينبغي التنبه له أن سبب النزول مجرد معين على فهم الآيات القرآنية التي نزلت على أسباب، وليس السبب منشئا للآيات، ولا هو العلة في الإنزال أو التشريع. فالوقائع مناسبات للنزول، وظرف زمان نزلت فيه الآية، فالعلاقة بين الواقعة والنص القرآني لا تعدو علاقة الاقتران، ولا تدخل أبدا في باب" العلة العقلية" التي يلزم من وجودها وجود المعلول، ومن انتفائها انتفاؤه. أما قول بعض الحداثيين بأن: القرآن كله نزل على أسباب، وهذه الأسباب أسباب تاريخية منقضية تجاوزها الواقع والتاريخ، وهي علة الحكم. والمعلولات- أي الأحكام القرآنية- منقضية بانقضاء العلل، ومن ثمّ .. يقررون رفض إطلاق ¬

_ (¬1) مقدمة في التعريف بعلم أصول الفقه والفقه، للدكتور محمد سعاد جلال، ص 21.

" التشريع القرآني" وخلود أحكامه، وذلك منذ طوى التاريخ صفحة أسباب النزول من الوجود .. أقول: كل ذلك زور من القول قد استوفينا الرد عليه في كتابنا:" أسباب النزول: تحديد مفاهيم، ورد شبهات". كما أنبّه إلى أن الأصل في الصيغ التي يفيد ظاهرها العموم" التعميم"؛ إذ ذلك هو المتبادر من الصيغة عند الإطلاق والتجرد عن القرينة، فما زلنا نعلم بالبداهة أن الصيغ العامة والمطلقة (عن قيود الزمان والمكان والأحوال والأشخاص) لا تصلح للدلالة على أكثر من المعنى الذي وضعت له، ولا سلطان للعصور أو الظروف في تغيير شيء من قانون هذه الدلالة أو تضييق شيء من عمومها. فالأسباب- كما قلنا- تعين على حسن تفهّم الآيات التي نزلت مقترنة بها، من غير أن تكون ذات سلطان على دلالته العامة، فتحدّها وتمنع امتدادها؛ إذ وظيفة السبب- كما قلنا- وظيفة كشف وإبانة عن حركة المعنى في النظم، وهادية لمسالك الفهم، وليست مانعة طلاقة المعنى، وشمول سلطانه على ما يستحدث. فالقول بحصر الدلالة فيما جاءت به أسباب النزول وأد لدلالة النص، وهي دعوى يتسلل منها إلى بيان أن نصوص القرآن لا تتجاوز دلالتها زمن الوحي. وهذا ما نبّه إليه الأصوليون وعلماء القرآن من أن" العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" .. فاحذر ما يقوله ملاحدة هذا العصر، عبيد يهود، من أن ارتباط الآيات بأسباب نزولها يرفع عنا التكليف بما فيها.

فإن قيل: بل الخلاف قائم في هذه القاعدة .. فإن من علماء الأصول من قال بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. وعند هذا أقول: هيا بنا نلق الضوء على هذه القاعدة مبينين وجه الحق في هذه المسألة الأصولية، وهي أن اللفظ الوارد على سبب: هل يكون حكمه على قدر ذلك السبب؟ وفي الجواب عن هذا السؤال يقول الأصوليون: إن ذلك اللفظ المذكور، إما أن يكون قضية تامة مستقلة بنفسها بحيث يمكن الابتداء بها لو لم يوجد سبب، وإما أن يكون عبارة تابعة للسبب غير مستقلة بنفسها، كنعم أو لا. فأما غير المستقل؛ فلا خلاف في أن حكمه على وفق سببه .. إن عامّا؛ فعام، وإن خاصّا فخاص. ومثاله أن يسأل سائل: أيحل الوضوء بماء البحر؟ فيقال:" نعم". فهذا حكم يعم السائل وغيره؛ لأن السؤال كان عامّا وقد جاء على وفقه. وإن قال السائل: أيحل لي الوضوء بماء البحر؟، فقيل له:" نعم"؛ فهذا حكم خاص يخص السائل بصيغته؛ لأن السؤال كان كذلك، وإن تعداه إلى غيره من المكلفين؛ فإنما يتعدى بالقياس أو بنص آخر من النصوص الدالة على أن أحكام الشريعة أصلها العموم ما لم يقم دليل التخصيص. وأما المستقل .. فإن كانت صيغته خاصة؛ فالحكم خاص حتى ولو كان السبب عامّا،، كأن يسأل سائل: أيحل الوضوء بماء البحر؟ فيجاب:" يحل لك الوضوء بماء البحر". وإن كانت صيغته عامة .. فهل يعم حكمها حتى ولو كان السبب خاصّا؟ مثاله أنه- عليه الصلاة والسلام- سئل عن بئر بضاعة التي كانت تلقى فيها

الخرق، فقال:" خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء"، وأنه مر بشاة ميتة فقال: " أيما إهاب دبغ؛ فقد طهر" .. فهل العبرة في هذا وأمثاله بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ هذا هو قطع المسألة في الأصول. وقد فرضوا في هذا الشق الأخير خلافا بين الجمهور القائلين باعتبار عموم اللفظ، وبين الشافعي القائل- فيما زعموا- باعتبار خصوص السبب (¬1). والواقع كما يقول الأستاذ المحقق الشيخ عبد الله دراز أنه لم يصح عن الشافعي، ولا عن أحد من الأئمة، القول بقصر العمومات على أشخاص أسبابها. وإن روي ذلك عن بعض أصحاب الشافعي؛ فلعله لم يثبت عنهم أيضا. فقد نص الشافعي في" الأم" على أن السبب لا يصنع شيئا، إنما تصنعه الألفاظ .. فهذا صريح في موافقة الشافعي للجمهور. على أننا إذا رجعنا إلى أنفسنا وسمعنا سؤالا خاصّا يقابله جواب عام، ونظرنا في حكمة هذا التفاوت بين السؤال والجواب؛ فإننا ندرك على البديهة المغزى الذي يقصده المجيب من تعبيره باللفظ العام في هذا المقام، وهو أنه أراد تعدية حكمه إلى أفراد أخرى غير شخص السبب. وإلا .. فلماذا عدل عن صيغة الخصوص، وهي تقضي ظاهر الحال ومطلوب السائل، مع قربها واختصارها، إلى هذه العبارة الكلية وإلى هذا التطويل بغير طائل؟! ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي، 2/ 347، وشرح العضد، 2/ 11، وكتابنا أسباب النزول، ص 61 وما بعدها.

ولو افترضنا العبارتين سواء في كلام عامة الناس؛ فكيف يكونان سواء في البلاغة القرآنية والفصاحة النبوية؟! لست أدري كيف يختلف في هذا أحد من أهل العربية، فضلا عن إمام كالشافعي؟! هكذا يتفق الكل على أن النص العام الوارد على سبب لا يجوز الوقوف به عند أخص الخاص- وهو شخص سببه- بل يجب تعميمه البتة إلى نوع ذلك السبب، بحيث إذا دل دليل على إخراج بعض ذلك العام عن قصد المتكلم؛ فلا يكون ذلك البعض هو شخص السبب ولا نوعه القريب. فالشافعي وإن عمد إلى بعض العمومات الواردة على سبب، فخصصها مراعاة لأسبابها، لم يقل بحصرها في الحادثة العينية أو الشخص المعين الذي وردت فيه حتى تتوجه عليه الحجة بإجماع الأئمة على تعدية الأحكام لغير أسبابها. فهو مثلا في حديث" الماء طهور" لم يقصره على ماء تلك البئر التي سيق الحديث من أجلها، ولم يجعله قاصرا على ماء الآبار، بل جعله عامّا في كل ماء كثير، واستثنى منه الماء اليسير. وكذلك فعل في حديث" أيما إهاب دبغ فقد طهر" .. لم يجعله خاصّا بجلد شاة ميمونة، ولا بنوع جلود الأغنام، وإنما استثنى منه جلد الكلب ونحوه. بل نقول: إن الكل متفقون أيضا على الطرف الآخر من المسألة. إنهم متفقون على أن النص العام الوارد على سبب لا يجب الذهاب به دائما إلى أعم معانيه، حتى التي لا تشبه السبب في مناط حكمه، وهذا أبو حنيفة (وهو في مقدمة القائلين باعتبار عموم اللفظ) قد عمد إلى حديث:" الولد للفراش"، فلم يجعله عامّا كلّ فراش، بل جعله خاصّا بالزوجة وأم الولد، وما ذلك إلا أنه راعى سبب الحديث وهو وليدة زمعة- أي أم ولده- فعدى حكمه إلى كل

وليدة، وإلى الزوجة بالأولى، وأخرج عنه الأمة التي لم يثبت لها أمومة الولد؛ لضعف معنى الفراش فيها، وإذا كان بعض الأئمة ذهب إلى طهورية كل ماء لم يتغير، وطهارة كل جلد دبغ، وأنهم يوجبون حمل عمومات الشارع كلها على أوسع معانيها الوضعية من غير نظر إلى مساقاتها؛ فذلك ما لا قائل به من أهل السنة، وإنما المعنى أنهم يوجبون تعدية الحكم إلى مرتبة من مراتب العموم يظنّ قصد الشارع إليها، قريبة أو بعيدة أو متوسطة. وهذا قدر متفق عليه في الجملة. ففيم الخلاف إذن؟! هل إذا جاء المجتهدون لتطبيق هذه القاعدة، فاختلفت أنظارهم في تحري مراتب العموم أيها أنسب بفرع فرع، يعد ذلك اختلافا في أصل القاعدة كما صوره الأصوليون؟ أكبر الظن أن غلبة شهوة الجدل هي السبب في تصويرها قاعدة خلافية! قلنا: إن اللفظ العام الوارد على سبب خاص لا يخلو من جهة عموم قطعا. ثم قلنا: إن لهذا العموم مراتب متفاوتة يجتهد الناظر في اختيار أيها أنسب بموضع دون موضع. فهل هناك ضابط يضبط هذه المراتب ويبين طريقة تنزيل النصوص القرآنية عليها حسبما فهمه العرب؟ لقد وقفنا على تحقيق نفيس في هذا المقام بسطه الشاطبي- رحمه الله- في فصل العموم والخصوص، ونحن نكتفي هنا بعرض خلاصته، وهي أن مراتب العموم ثلاثة: المرتبة الأولى: مرتبة العموم الوضعي، وهو استغراق ما يدل عليه اللفظ بحسب أصله الإفرادي وحقيقته اللغوية. وهذه هي أوسع المراتب وأعمها.

المرتبة الثانية: مرتبة العموم في الاستعمال اللغوي، وهو استغراق ما يدل عليه الكلام بحسب عرف التخاطب عند العرب، وما يغلب قصدهم إليه في محاوراتهم، حتى صار فيه كأنه حقيقة عرفية عامة. المرتبة الثالثة: مرتبة العموم في الاستعمال الشرعي، وهو استغراق ما يدل عليه الكلام بحسب ما عرف من مقاصد الشارع وقواعده، حتى صار كأنه فيه حقيقة عرفية خاصة" حقيقة شرعية". وطريقة تنزيل النصوص على هذه المراتب ألا ينتقل بها عن مرتبة من العموم إلى مرتبة أوسع منها إلا حيث لا يوجد داع للوقوف عند تلك المرتبة الدنيا. فينبغي في كل موضع أن ينظر إلى النص: هل للشارع فيه عرف خاص يحد من عمومه ويضيق من دائرته؟ فإن كان؛ وجب تنزيل النص على قدر تلك المرتبة، ومن جاوزها إلى ما وراءها؛ فقد زاد في الشرع ما ليس منه. وإن لم يكن للشارع عرف خاص؛ وجب أن ينظر مرة أخرى: هل جرى عرف العرب في محاوراتها بحمل ذلك النص على وجه لا يستوعب كل حقيقة؟ فإن وجد؛ فليقتصر عليه دون زيادة ولا مجاوزة. وأما إذا لم يكن عرف خاص شرعي، ولا عرف عام لغوي؛ فيفسّر النص ببعض متناولاته، فإنه يجب أن يرجع به إلى أصل وضع اللغة، فتؤخذ القضية فيه بأوسع معاني العموم التي تقبلها صيغتها. ومن وقف بالعموم حينئذ دون غايته؛ فقد نقص من الشرع ما هو فيه.

وهذا الترتيب، وإن كان متفقا عليه في الجملة، إلا أن العلماء قد يختلفون في المرتبة اللائقة بنصّ، بناء على أن بعضهم قد يفهم في الاستعمال أو الشرعي من القرائن المخصصة ما لا يفهمه غيره، فيأخذ هذا بالخصوص وذاك بالعموم. ولنمثل لكل مرتبة من هذه المراتب بمثال يوضحها .. - فمثال ما تأخذه العرب بالعموم الوضعي قولنا:" كل شيء ما خلا الله باطل". - ومثال ما جرى للعرب فيه عرف عام يقصر به دون غايته الوضعية قولك:" من دخل داري أكرمته"، وقولك:" رأيت الناس .. فما رأيت أكرم من زيد". فلفظ" من" في المثال الأول يعم كل عاقل، وهو متناول- بحسب الوضع- شخص المتكلم وغيره، ولكن المتكلم لا يريد دخوله في هذا الحكم فيما عرف من استعمال العرب. قال ابن خروف: لو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها، فضربهم ولم يضرب نفسه؛ برّ ولم يلزمه شيء. قال: فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تحت الإخبار في قوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة غافر: 62]، لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه. قال: ومثله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة: 282]، وإن كان عالما بنفسه وصفاته، لكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر. قال: وهذا معلوم من لسان العرب .. لذلك لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب

اللسان، فلا يقال: من دخل أكرمته إلا نفسي. وإنما ينبغي استثناء شيء يتوهم دخوله لو لم يستثن. وكذلك نقول: إن لفظ" الناس" في المثال الثاني يعم كل من لقيت ومن لم تلق، وليس ذلك بمراد، وإنما يراد ما شأنه أن يتناوله الحكم المذكور عادة. ومن هنا كان قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [سورة الأحقاف: 25]، ليس مقصودا به أنها تدمر السموات والأرض والجبال، وإنما قصد ما شأنه أن تؤثر فيه الريح عادة كالحيوان والزرع، ولذلك قال بعدها: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [سورة الأحقاف: 25]. قال الإمام الغزالي في قوله صلى الله عليه وسلم:" أيما إهاب دبغ فقد طهر": إنه لا يبعد أن يكون التعرض للدباغ نفسه مخرجا لجلود الكلاب ونحوها، بحيث لا تخطر بذهن المتكلم ولا السامع، وقد قال طائفة من أهل الأصول: إن ما لا يخطر ببال المتكلم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه عند التعميم. - ومثال ما جرى فيه للشارع عرف خاص يقف به دون الأوضاع والاستعمالات اللغوية: ما ورد من عمومات الوعيد على الذنوب التي هي بمفردها دون الشرك، ولكنها في الأصل من مساوئ أعمال الكفار، وقبائح صفاتهم، فلما توعّد فاعلوها؛ لم يستثن منهم أحد اتّكالا على ما عرف من كليات الشرع القطعية أن كل ذنب دون الشرك لا بأس من مغفرته، كقوله تعالى خالِدِينَ فِيها أَبَداً [سورة التغابن: 9]، ونحوها. فمن لم يعرف معهود الشارع ومقاصده حمل تلك العمومات على ظاهرها في المؤمنين وغيرهم، ومن

هنا توقف مروان بن الحكم في قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [سورة آل عمران: 188]، حتى سأل ابن عباس فقال له: ما لكم ولهذه الآية؟! .. إلى آخر القصة. وكذلك توقف الصحابة في آية الأنعام: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام: 82] حتى فسرها لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن" الظلم" هنا" الشرك". حتى إن الشاطبي نفسه أورد على هذا الترتيب إشكالا قويّا بما عرف عن السلف الصالح من أخذ العمومات على معنى أوسع من معهود اللسان والشريعة جميعا، وهم العارفون بلسان العرب، الواقفون على قواعد الشرع ومقاصده، وضرب لذلك أمثلة .. منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام، فقيل له: لو اتخذت طعاما ألين من هذا! فقال: أخشى أن تعجل طيباتي .. يقول الله تعالى أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها [سورة الأحقاف: 20]. وقال لبعض أصحابه وقد توسع في الإنفاق شيئا: أين تذهب بكم هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ، إلخ. ذلك مع أن الخطاب في الآية صريح في أنه موجه للكفار، حيث يقول: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ، وختام الآية لا يليق- بحسب قواعد الشرع- إلا بالكفار، حيث يقول: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ.

ومنها: أن معاوية رضي الله عنه لما سمع حديث المنفق ماله رياء، والمستشهد في الجهاد رياء، ومعلم الخير رياء، وأنهم هم أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة؛ قال: صدق الله ورسوله .. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [سورة هود: 15]. فحمل القضية على عمومها حتى للمسلمين، مع مخالفة ذلك للقواعد الشرعية. ومنها: أن الصحابة لما نزل وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [سورة البقرة: 285] لم يقفوا بها عند نوع سببها من إبداء الشهادة وكتمانها، ولا عند جنسها القريب من إعلان الغرائم وإخفائها، بل حملوها على العموم (كل ما تحدثت به النفس مما يطاق، ومما لا يطاق)، ولذلك انزعجوا منها انزعاجا شديدا، مع أن من القواعد الكلية قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج: 87]. وقد أقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى نزل قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [سورة البقرة: 286]. ومنها: أن عامة العلماء استدلوا بآية: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء: 115] على أن الإجماع حجة وأن مخالفه عاص، مع أنها نازلة في المرتد عن دين الإسلام، وصدرها يدل على أنها في الكفار، لقوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ....

والجواب عن ذلك إجمالا: أن السلف- رضوان الله عليهم- لم يأخذوا هذه المعاني مأخذ المنصوص عليه الداخل تحت العمومات، بل فهموا- فهم الراسخين في العلم- أن ما لم يذكر من الآية مشترك مع المذكور فيها في وصف ما، فأجروها فيما لم تنزل فيه ولم يقصد منها، اعتبارا للشيء بما يجامعه أو يقاربه. ذلك .. أن الله تعالى إنما ذكر الكفار في القرآن بأسوإ أعمالهم، والمؤمنين بأحسن أعمالهم ليعتبر أولو الأبصار وليجتهدوا في الفرار من مثل أعمال المسيئين، وفي اللحاق بدرجات المحسنين، سيرا على قدمي الخوف والرجاء .. غير آمنين من مكر الله ولا يائسين من رحمته، وهذا هو معنى قول العلماء: إن كل آية وردت في حق الكفار فإنها تجرّ بذيلها على عصاة المؤمنين .. فما أدقّ هذا التعبير! حيث قالوا" تجر بذيلها" ولم يقولوا: تطبق بنصها، وذلك لأن العقوبات فيها لا تنطبق بنصها على المؤمنين كما هي، وإنما يصيب العاصي طرف منها إن لم يعف الله عنه. وإلى هذا المعنى- والله أعلم- كان قصد ابن عباس في إجابته مروان، حيث قال له: ما لك ولهذه الآية؟! ... إلخ. كأنه يريد أن ما فيها من القطع بالعذاب واليأس من النجاة خاص بأهلها ومن يشبههم من الذين يفترون على الله الكذب ويكذبون بآياته. وهذا لا ينافي أن غيرهم ممن ألمّ بذنوبهم قد يصيبه العذاب أيضا، لكن إلى أجل محدود، وإلى مفازة في النهاية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات، وحصاد قلم، د. محمد عبد الله دراز، ص 90.

(5) معرفة الظاهر والباطن من معاني القرآن الكريم

(5) معرفة الظاهر والباطن من معاني القرآن الكريم بداية .. فإن حصيلة ما ذكرناه من قبل أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، وعلى معهودهم في الخطاب. وعليه .. فإنه لا بدّ أن يسلك في فهمه واستنباط معانيه مسلك العرب في فهمهم واستنباطهم. ومن عادة العرب وجوب العمل بما تقضي به دلالة اللّفظ المتبادرة منه، أخذا بحكم العمل بما هو مترجح في القلب: من كون الأصل هو بقاء اللفظ على معناه المعين بإزائه. ومن إيجاب حكم العلم: الأخذ بالراجح ما لم تقم قرينة صارفة إلى خلافه. وبناء على ذلك فإنه يجب العمل بما يدل عليه ظاهر كل لفظ؛ لأنه حجة لظهور تبادره منه لغة، ما لم تصرف أدلة أو قرائن معتبرة عن ذلك الظاهر، وذلك لما أنّ في العدول عن الظاهر- مع إمكانه- طرحا للدليل لغير شيء. والشاطبي في حديث له عن القرآن يعرض لقضية أن للقرآن ظاهرا وباطنا فيفسرها ويناقشها. إلا أننا قبل أن نذكر نص كلامه نحرر محل النزاع في هذه المسألة الخطرة. ذهبت طوائف من الناس إلى أن للقرآن معنى باطنا يحملون لفظ القرآن عليه. أما أن يكون للقرآن معان ظاهرة؛ فهذا ما لا يختلف فيه أحد من أهل العلم. وأما أن يكون للقرآن معان باطنة؛ فهو ما وقع فيه الخلاف .. لكن لا من جهة أن يكون للقرآن معان باطنة، فهذا أيضا محل اتفاق بين أهل الحق .. ولكن خلافهم كان في تعيين ما هو المعنى الباطن الذي يصار إليه. هذا هو تشخيص المسألة. ولنبدأ الآن في ذكر ما يقوله الشاطبي:

" من الناس من زعم أن في معاني القرآن ما هو ظاهر وما هو باطن، وربما نقلوا في ذلك عن الحسن حديثا مرسلا يقول:" إن للقرآن ظهرا وبطنا- أي- ظاهرا وباطنا-، وكل حرف حدّ، وكل حدّ مطلع". وفسّر بأن الظاهر: هو ظاهر التلاوة، والباطن: هو الفهم عن الله لمراده؛ لأن الله يقول: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء: 78]، والمعنى: لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام .. كيف وهو منزّل بلسانهم؟! ولكنهم لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام .. وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء: 82]. فظاهر المعنى شيء" وهم عارفون به؛ لأنهم عرب"، والمراد شيء آخر" وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله". وإذا حصل التدبر؛ لم يوجد في القرآن اختلاف البتة، فهذا الوجه" الذي من جهته يفهم الاتفاق، وينزاح الاختلاف" هو الباطن المشار إليه. فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد". " وحاصل هذا الكلام: أن المراد ب" الظاهر" هو المفهوم العربي، وب" الباطن" مراد الله تعالى من كلامه وخطابه. فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسّر؛ فصحيح، ولا نزاع فيه، وإن أرادوا غير ذلك؛ فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم. فلا بد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى؛ لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب، فلا يكون ظنيّا. وما استدل به إنما غايته- إذا صح سنده- أن ينتظم في سلك المراسيل. وإذا تقرر هذا؛

فليرجع إلى بيانهما- أي الظاهر والباطن- على التفسير المذكور- أي الذي ارتضينا-" (¬1). ثم ينتقل الشاطبي، فيعقد فصلا لتقرير أن كل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر .. فالمسائل البيانية، والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن (¬2). ثم قال:" وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية؛ فذلك هو" الباطن" المراد، والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله" (¬3). ولنبدأ الآن في ذكر وصف المعاني الظاهرة أولا، وطرقا من طرق استفادتها من القرآن، ثم نعقّب على ذكرها بذكر المعاني الخفية المعتبرة، وطرق استفادتها من القرآن أيضا. لكن قبل وصف المعاني الظاهرة، وطرق استفادتها، أقول: إن الألفاظ العربية وضعت للدلالة على إفادة المعاني الموضوعة لها وضعا إفراديّا، كالألفاظ الدالة على معانيها بطريق الحقيقة، أو وضعا نوعيّا بطريق المجاز. كذلك .. وضعت الجمل العربية في صور مختلفة، تحتمل كل صورة منها بعض المعاني البلاغية الزائدة على المعنى الوضعي لكل لفظ بانفراده، كإفادة الحصر في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة: 5]، ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 383، 384. (¬2) الموافقات، 3/ 386. (¬3) الموافقات، 3/ 388.

وإظهار العناية بتقديم الموضوع" المبتدأ، المسند إليه" في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [سورة الفتح: 29] .. على ما سبق بيانه في المعاني الأصلية والثانوية. ومن ذلك في القرآن: الاختلافات في صور الألفاظ الوضعية، التي تدل من المعاني الأصلية، على ما يشبه المعاني الزائدة في اختلاف صور الجمل المركبة .. من ذلك قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [سورة الأنعام: 125]. والشاهد في قوله" ضيقا حرجا" إذا قورن بقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [سورة هود: 12]، وموضع الشاهد:" وضائق به صدرك" .. فما هو الفرق بين استعمال" ضيق" في الآية الأولى، واستعمال" ضائق" في الآية الثانية؟ يعلق الأستاذ الجليل الدكتور محمد سعاد جلال على هذا الموضع بقوله:" إن" ضيق" صفة مشبّهة، تدل على ثبوت معناها في نفس القائمة به، واستعمالها في موضعها- هنا- موضع البلاغة؛ لأن المقصود هو الكشف عن الضيق الشديد المعربد في نفس من أضله الله بخذلان نفسه له، فانصرف عن الدخول في الإسلام منصرفا إلى عبادة الأصنام التي لا يجد منها ولاية ولا سكينة. أما" ضائق" .. فهو صيغة اسم فاعل، يدل على قيام معناه بالموصوف به، من غير ثبات ولا استمرار، وهو موضع البلاغة في موضعه أيضا؛ لأن المقصود: أن تضايق نفس النبي من عناد المشركين وكيدهم حال طارئة، لا تلبث أن

تعرض له- بحكم الطّبع البشري- حتى تزول عنه؛ لأن رغبته في إنجاز الرسالة وإبلاغ الدعوة أقوى باعثا في نفسه من كل شيء" (¬1). هذه إشارة لما يدل عليه اختلاف الصيغ الوضعية الإفرادية من زيادة المعاني. وأما أثر اختلاف صور الجملة، وما نشأ عنه من المعاني الثانوية- وهو اصطلاح الشاطبي كما سبق- التي هي مناط البلاغة وأساس الإعجاز اللغوي .. فالقرآن مشحون من أوله لآخره بهذا العلم. من ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة: 3، 4]، ثم قال- وهو موضع الشاهد-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [سورة البقرة: 6] بغير عطف. ثم نقارن: نظم هذه الآية بآية سورة لقمان: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة لقمان: 5]، ثم قال- وهو موضع الشاهد-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة لقمان: 6] معطوفة بالواو .. فما سر الفرق بين موضع عدم العطف بالواو في سورة البقرة، وبين ذكره في آية سورة لقمان؟ والجواب- كما قال الأستاذ المحقق الشيخ عبد الله دراز: إن المقصود في الأساس في سورة" البقرة" هو بيان حال الكتاب، تقريرا لكونه يقينا لا شك فيه، وفي ضمن هذا البيان ذكر اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال، بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، ولا يستفيدون من الكتاب. فالآية تكميل لما قبلها، كأنها جزء منها، ولا ¬

_ (¬1) مقدمة في علم أصول الفقه، ص 36.

يحسن العطف بين أجزاء الشيء الواحد .. فكان مقتضى البلاغة ترك العطف في هذا الموضع. أما بالنسبة لآية سورة لقمان؛ فالمقصود منها مع سابقتها أن الناس على قسمين:" مهتد هاد" .. وهم الموصوفون بالهدى والفلاح، و" ضالّ مضلّ" .. وهم المشترون لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله. وبين القسمين- كما ترى- تضادّ ملحوظ .. فكانت صحة المناسبة أن يفصل بينهما بواو العطف (¬1). ومن ذلك: الفرق بين قوله تعالى في سورة الشعراء: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سورة الشعراء: 153، 154]، وبين الآية الأخرى من نفس السورة: قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سورة الشعراء: 185، 186] .. فالآية الأولى بدون ذكر الواو" ما أنت"، والثانية بالواو" وما أنت" .. فما الفرق؟ والجواب: أما حيث ذكر العطف؛ فالدلالة على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة، فكلّ منهما زعم مستقل، فيناسب هذا الإيراد؛ أعني إيراد العطف بين الأمرين. وأما في آية" ما أنت"؛ فذلك لأنهم اعتبروا التسحير هو وحده المنافي للرسالة، وأكدوه بالبشرية، ولا يصح العطف بين هذا وهذا (¬2). ومن ذلك أيضا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف: 201] فيسأل عن الفرق من الاستعمال بين: إيثار التذكر بصيغة الفعل الماضي" تذكروا"، والإتيان ¬

_ (¬1) من تعليق الشيخ عبد الله دراز، بتصرف، ص 386. (¬2) انظر تعليقه أيضا، 3/ 387.

ب" مبصرون" على مثال اسم الفاعل بدلا من الفعل المضارع" يبصرون"؟ وقد كان الاستعمال خليقا أن يجيء على مقتضى المشاكلة مع قوله" تذكروا" .. والجواب: أن التّذكّر يحدث بعد مسّ الشيطان، ويتجدد بتجدد هذا المس، وذلك بخلاف الإبصار" بالحق" .. فإنه ثابت لهم، قائم بهم؛ لأن اسم الفاعل حقيقة فيمن قام به الفعل، وقد يغطيه مس الشيطان، فتجدّد التذكر يكشف لهم هذا الغطاء، ليتجلى لهم الحق- الذي عهدوه- قائما بنفوسهم. أي يفاجئهم قيام عمل البصيرة بهم دفعة .. بخلاف التذكر (¬1). فكأنما الإبصار بالحق مصباح كهربائي مضيء، قائم في قلوب المتقين، بينه وبين مس الشيطان حجاب من الغفلة. وكأنما التذكر أداة ترفع هذا الحجاب عنهم كلما حدث مسّ من الشيطان لهم، فينطلق عندئذ نور الإبصار بالحق دفعة على مس الشيطان فيمحوه دفعة. ومنه قوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [سورة الأعراف: 131] .. فيقال: لماذا صدّر" الحسنة" بلفظ" إذا" وجاء بلفظها معرّفا، وقد صدّر" السيئة" بلفظة" إن" وجاء بلفظها منكرا؟ والجواب: أن الحسنات من: الخصب، والرخاء، والعافية هي العطاء الأكثر في العالم، وأن السيئات- وهي كما تطلق على المعاصي تطلق على المضارّ، كالجدب والشدة والمرض- هي الأمر الأقل- بالنسبة للحسنات- حدوثا في العالم. ولما كان لفظ" إذا" يدل على تحقق معنى المذكور بعده، ولفظ" أل" يدل ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 3/ 387.

على عموم المذكور بعده .. كما أن لفظ" إن" يدل على الشك في وجود المذكور بعده، وتنكير اللفظ يدل على التقليل من المعنى في بعض الوجوه؛ فقد بان لك وجه المناسبة في استحقاق الحسنة بلفظ" إذا"، وإدخال لفظ التعريف عليها في الاستعمال. وهكذا تجد في القرآن فيضا من هذه الشواهد الفاحصة عن مدلولات الأساليب العربية وأسرارها، ومن ثمّ .. فكل معنى ينبني عليه فهم القرآن، ويرجع إلى المدلولات اللغوية الوضعية والمنازع البيانية والبلاغية، ويكون جاريا على وفق القواعد والشواهد العربية؛ فهو المعنى الظاهر الذي يعنيه الشاطبي وغيره ويعوّل من هذه الجهة عليه. " أما المعنى الخفي؛ فيفسّر بأنه المعنى المراد لله من خطابه فيما يكون أبعد مرمى من مجرد دلالات الألفاظ على معانيها. وذلك بطريقين: أحدهما: إعمال الذهن مع نفاذ البصيرة، ووفور الملكة اللغوية في فهم النص القرآني. وثانيها: الاستعانة- إلى جانب ذلك- بالربط بين النصوص المتعلقة بالموضوع الواحد" (¬1). ولنعرض في هذا الصدد واقعتين ذكرهما الشاطبي: أولاهما: ما روي عن ابن عباس قال:" كان عمر رضي الله عنه يدخلني مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال له عبد الرحمن بن عوف:" أتدخله ولنا بنون مثله؟! ". فقال له عمر:" إنه من حيث تعلم"- أي إنه من حيث تعلم مكانته الكبيرة في العلم ¬

_ (¬1) مقدمة في علم أصول الفقه، ص 39.

يستحق ذلك- قال ابن عباس: ثم سألني عمر عن قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [سورة النصر: 1 - 3]. فقلت: إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه". فقال عمر:" والله .. ما أعلم منها إلا ما تعلم". فالمعنى الظاهر من دلالة الألفاظ لهذه السورة لا يفيد إلا بيان نعمة الله على النبي صلى الله عليه وسلم بسوق الفتح والنصر له، ودخول الناس في دين الله أفواجا، وأمره بالتسبيح بحمد الله للشكر على هذه النعمة العظيمة. أما المعنى الخفي؛ فهو الدلالة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن لقاءه بحيث يفترض أن ينتهي بانتهاء رسالته، وقد دلت السورة- بمعناها الخفي- على هذا الانتهاء. ثانيتهما: أنه لما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة: 3] فرح الصحابة، وبكى عمر رضي الله عنه وقال:" ما بعد الكمال إلا النقصان! " .. مستشعرا نعيه صلى الله عليه وسلم. وما عاش بعدها صلى الله عليه وسلم إلا واحدا وثمانين يوما. فالمعنى الخفي الذي فطن إليه عمر، وابن عباس رضي الله عنهما- إنما هو راجع إلى حدّة الذهن، ونفاذ البصيرة التي تلمح من المعاني ما يكون لازما للمعاني التي وضعت الألفاظ بإزائها.

الشاطبي يستنكر المنازع البعيدة عن مدلول لغة العرب ومقاصد الشرع:

ومن هذا يتبين أن المقصود ب" باطن" القرآن عند أهل الحق:" كل ما كان من المعاني راجعا إلى تحقق العبد بوصف العبودية، والإقرار لله بحق الربوبية؛ فذلك هو الباطن المراد، والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله" (¬1). ويقول الشاطبي:" ومن زاغ ومال عن الصراط المستقيم .. فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما. وكل من أصاب الحق، وصادف الصواب .. فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه" (¬2). الشاطبي يستنكر المنازع البعيدة عن مدلول لغة العرب ومقاصد الشرع: قال الشاطبي:" كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردا لا إشكال فيه؛ لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزّل بلسان عربي مبين" (¬3). " فإذن .. كل معنى مستنبط من القرآن، غير جار على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه ذلك؛ فهو في دعواه مبطل" (¬4). ثم قال:" وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر ... ، ولكن يشترط فيه شرطان: أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، ويجري على المقاصد العربية. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 388. (¬2) المرجع السابق، 3/ 390. (¬3) المرجع السابق، 3/ 391. (¬4) المرجع السابق، 3/ 391.

ثانيهما: أن يكون له شاهد- نصّا أو ظاهرا- في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض". ثم قال:" وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن؛ لأنهما موفوران فيه، بخلاف ما فسّر به الباطنية؛ فإنه ليس من علم الباطن، كما أنه ليس من علم الظاهر" (¬1). ومن أمثلة ذلك التفسير الباطني المردود عند أهل الحق- بل هو مردود لكل ذي عينين! - ما ذكره الشاطبي من ادعاء من لا خلاق له، من أنه مسمّى في القرآن كبيان بن سمعان (¬2)، حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران: 138]. إن هذا التأويل الفاسد يجعل الآية الكريمة قلقة في موضعها، منقطعة الصلة بما قبلها وما بعدها، فضلا عن أن الإشارة إليه إذن تكون قبل مولده بكذا وكذا من عشرات السنين، وأن خيار الأمة- رسولها وصحابته والتابعين جميعا- قاصرون عن فهم القرآن ومقصرون في عدم الدعوة إلى هذا الفاجر! وكذلك يقال في ذلك الفاجر الآخر الذي تسمى ب" الكسف" (¬3)، وقال أتباعه أنه المراد بقوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً [سورة الطور: 44] .. فأي معنى للآية على هذا الزعم الفاسد؟! أيكون المعنى: وإن يروا رجلا ساقطا؛ يقولوا سحاب مركوم؟! تعالى الله عن ذلك. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 3/ 394. (¬2) بيان بن سمعان النهدي: من بني تميم، ظهر بالعراق بعد المائة، وقال بألوهية علي. قتله خالد ابن عبد الله القسري، وأحرقه بالنار." لسان الميزان" 2/ 69. (¬3) الكسف هو: أبو منصور الذي تنسب إليه فرقة" المنصورية".

ومن ذلك أيضا من فسّر" غوى" في قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [سورة طه: 121] بأن معناه: تخم من أكل الشجرة .. من قول العرب: " غوي الفصيل، يغوى، غوى، فهو غو" إذا بشم من شرب اللبن! وهو فاسد؛ لأن" غوي الفصيل" على وزن" فعل"، والذي في القرآن على وزن" فعل" فمادة الفعلين مختلفة. فإن قيل: ما اعتبره الشاطبي فاسدا من الممكن أن نجد له محملا سائغا في اللغة العربية، وذلك بأن يكون ما في القرآن على" فعل"- بفتح العين- هو عينه ما على" فعل"- بكسرها .. غاية الأمر أنه إذ ذاك يكون سيرا على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا، فيقول في بقي: بقى (وهم قبيلة طيء) .. ومما يرجح هذا أنه قد قرئ بهذا- أعني ما على" فعل" بكسر العين ولا معنى له إلا هذا- وتفسير قراءة بأخرى- إذا أمكن الجمع بينهما- مما لا ينكر رجحانه .. إن قيل ذلك؛ فإنا نقول: إنه لا يعدل بالحرف من القرآن عن أفصح الأوجه إلى ما دونه في الفصاحة إلا حيث يتعذر الأخذ بذلك الأفصح .. دع عنك أن يترك الأفصح ويقال بالضعيف الذي لم يسلكه القرآن من أقصاه إلى أقصاه في أيّ من حروفه كما هنا! فمن أين لعاقل بتعذر الأفصح في هذا الحرف والظاهر المتبادر فيه كأبلغ ما يكون التبادر؟! فأما أمر هذه القراءة؛ فإنه إنما يؤخذ بمقتضى القراءة إذا تواترت. فأما إذا كانت من الشذوذ، بحيث لم يستجز العلماء القول بمقتضاها؛ فمن معرض عن ذكرها بالكلية، ومن طاعن عليها أعظم الطعن .. فإنها إن لم تجلب ضررا؛ فلا تجدي نفعا.

قال أبو البقاء:" وقرئ شاذّا بالياء وكسر الواو، وهو من غوي الفصيل إذا بشم من اللبن .. وليست بشيء". ولا بدع كذلك ألا يعبأ بها الزمخشري- رحمه الله- حيث قال:" وهذا؛ يعني هذا الوجه، إن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا، تفسير ضعيف" (¬1). وفسّر بعضهم قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [سورة الأعراف: 179] ب" ألقينا فيها"، مع أن المادة في الفعلين مختلفة .. ف" ذرا" غير مهموز، و" ذرأ" مهموز. ومن ذلك ما فسّر به الباطنية قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [سورة النمل: 16] .. قالوا: إنه" الإمام" .. ورث النّبيّ علمه. وقالوا في الجنابة: إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق. وفسروا الغسل: بتجديد العهد على من فعل ذلك. والطّهور: بالتبري والتنظيف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام. والتيمم: بالأخذ من المأذون إلى أن يشهد الداعي أو الإمام. والصيام: بالإمساك عن كشف السر. والكعبة: بالنبي. والباب: بعليّ. والصفا: بالنبي. والمروة: بعليّ. ¬

_ (¬1) انظر: رسالة المحكم والمتشابه، لأستاذنا العلامة الدكتور إبراهيم خليفة، ص 193.

تفاسير مشكلة مترددة بين الباطن الصحيح والفاسد:

وغير ذلك كثير مما هو مسطّر في كتاب" الموافقات" و" فضائح الباطنية" للإمام الغزالي. تفاسير مشكلة مترددة بين الباطن الصحيح والفاسد: تقرر سابقا أن المقصود ب" باطن القرآن" عند أهل الحق: ما كان من المعاني راجعا إلى تحقيق العبد لوصف العبودية، والإقرار لله بحق الربوبية. وقد حاد أقوام عن هذا النهج، ففسّروا القرآن- كما زعموا- تفسيرا باطنا لا تتسع له قواعد اللغة، ولا أصول الشرع، وهو" التفسير الباطني" المردود عند أهل الحق وسبقت له أمثلة آنفا. وهنا .. يسوق الشاطبي تفاسير مشكلة، يمكن أن تكون من قبيل الباطن الفاسد، أو من قبيل الباطن الصحيح. " فمن ذلك: فواتح السور، نحو:" الم" و" المص" و" حم" .. ونحوها. فسّرت بأشياء: منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح، ومنها ما ليس كذلك" (¬1). وبداية، وقبل أن ننقل الأقوال التي ذكرها في تفسير الحروف المقطعة أوائل السور .. فإننا نقول: لم يختلف أحد من أهل الفقه بالقرآن في أن جميع الألفاظ التي يتهجّى بها- والتي منها الحروف المقطعة أوائل السور- أسماء، مسمّياتها الحروف التي ركّبت منها الكلم، بحيث إذا أطلق أيّ لفظ من هذه الألفاظ دون قرينة صارفة له عن مدلوله الأصلي لم يفهم منه غير ذلك المدلول. ثم إن المناسبة بين المعنى المتبادر الواضح لهذه الأسماء- الذي هو مسمياتها" حروف المعجم"- وبين المعاني التي تليها، بل بين القرآن عامة، هي أنه لمّا كانت هذه ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 396.

المسمّيات عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها؛ افتتح الله تسعا وعشرين سورة من سور القرآن، تمثل عدد الحروف العربية كلها، بطائفة من أسماء الحروف .. تسجيلا لعجزهم، وإظهارا لتعنتهم في عدم إيمانهم. فإن الله عزّ وجلّ يقول لهم بلسان هذه الحروف:" إن هذا القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بما يدانيه- فضلا عما يساويه- لم يأتكم بلغة غير لغتكم، وإنما أتاكم بنظم عربي اللّحمة والسّدى، لا تتركب كلماته إلا من نفس حروفكم العربية التي تنطقون بها، فعجزكم عن الإتيان بمثله وأنتم أساطين البيان ليس إلا لكونه صادرا عن قدرة إلهية، هي- وحدها- القادرة على تركيب هذا النظم العجيب الذي لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه! وهذا القدر لا خلاف فيه. أما الاختلاف الكثير والمتشعب في كتب التفسير وعلوم القرآن؛ فليس اختلافا في أصل المعنى الوضعي لهذه الحروف المقطعة، وإنما هو خلاف في المعنى المراد منها في مستهل السور .. أهو ذلك المعنى الوضعي نفسه؟ أم أنها نقلت فوضعت، بإزاء معنى آخر هو مراد الله منها؟ ومن هنا .. تعددت الأقوال التي ذكرها الشاطبي وغيره. من ذلك: ما نقل عن ابن عباس في الم (1):" الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم". والمعنى: أن الله أنزل جبريل عليه السّلام على محمد صلى الله عليه وسلم. قال

الشاطبي:" وهذا إن صح في النقل؛ فمشكل؛ لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقا" (¬1). وتكلف بعض الناس؛ فجعلها دالة على مدة بقاء هذه الأمة. قال الشاطبي:" وهو قول يفتقر إلى إثبات أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها، وربما لا يوجد مثل هذا لها البتة؛ وإنما كان أصله في اليهود" (¬2). كما زعم البعض أنها دالة على أمور وأحوال الدنيا والآخرة، وأنها مجمل كلّ مفصّل، وعنصر كلّ موجود. وهذا القول محال على دعوى الكشف والاطلاع. ويعقب الشاطبي على ذلك بأن:" دعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال، كما أنه لا يعدّ دليلا في غيرها" (¬3). وأظهر الأقوال عند الشاطبي في الأحرف المقطعة أنها أسرار لا يعلمها إلا الله. قلت: زعمه أنها أسرار غير صحيح؛ إذ لا يجوز أن يكون في كتاب الله- بل في شرعه جميعا- ما لا يعرف مدلوله فلا يعقل إذن أن تكون هذه الحروف مما استأثر الله بعلم مدلوله- على ما طنطن به الكثيرون- فليست من المتشابه كما ذهب؛ إذ معناها- كما سبق- عين مسمياتها المعروفة؛ وأنها مسوقة لغرض التحدي، وأنها محكمة لاستعمالها فيما هي راجحة الدلالة عليه على ما هو التحقيق- كما ذكره الإمام الرازي- في أمر المحكم والمتشابه، من أن المحكم هو ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 396. (¬2) المرجع السابق، 3/ 396، 397. (¬3) الموافقات، 3/ 367.

ما كان راجح الدلالة على معناه بنفسه .. احتمل مرجوحا" كالظاهر"، أو لم يحتمل" كالنص". وأن المتشابه ما ليس كذلك، أي ما كان غير راجح الدلالة بنفسه .. مرجوحا كان" كالمؤوّل"، أو مستوي الدلالة" كالمجمل" (¬1). وكأني بك الآن قد علمت من مجرى الحديث عن هذه الحروف أن أقربها هو ما ذكرناه أولا؛ إذ الأصل في الألفاظ استعمالها فيما وضعت له، ولا يجوز أن تخرج عن هذا الأصل إلا إذا صرفت عنه أدلة أو قرائن معتبرة. على أنه ليس في لغة العرب شاهد قوي يؤيد هذه الأقوال التي ذكرها الشاطبي وغيره، وليس في سياق القرآن قرينة تسندها. ولا تقولنّ إنها مروية عن السلف؛ إذ قد روي عنهم السكوت أيضا والتوقف، على أن من المقرر في أصول الحديث أنه لا تلازم بين السند والمتن .. فليس كل ما روي بسند صحيح؛ يكون صحيح الدلالة على معناه. ولله درّ الأستاذ الجليل الدكتور محمد عبد الله دراز حيث يقول:" وإذا ثبت الاختلاف في المسألة عنه- أي ابن عباس- بل عن كلّ منهم؛ فقد أصبحت مسألة اجتهادية، وجب على الناظر أن يتخير أقواها مدركا، وأقربها إلى ذوق العربية" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: التفسير الكبير، 7/ 179: 182. (¬2) حصاد قلم، د. محمد عبد الله دراز، ص 44.

الفرق بين التأويل الباطني الفاسد والتفسير الإشاري:

الفرق بين التأويل الباطني الفاسد والتفسير الإشاري: التفسير الإشاري هو تأويل القرآن بغير ظاهره؛ لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والفيض ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد. وهذا هو عين مراد الشاطبي من" التفسير الباطني الصحيح" الذي سبق ذكره. غير أن بعض الناس قد يخلط لدى النظرة العجلى بين التأويل الباطني الفاسد وبين ما اصطلح على تسميته بالتفسير الإشاري، مع ما بينهما من فرق نبّه عليه المحققون من أهل الفقه في كتاب الله. يقول الشيخ الجليل محمد الخضر حسين:" إن" أصحاب الإشارات" غير من يسمونهم" الباطنية". فالباطنية يصرفون الآية عن معناها المنقول أو المعقول إلى ما يوافق بغيتهم، بدعوى أن هذا هو مراد الله دون ما سواه. وأما أصحاب الإشارات؛ فإنهم كما قال أبو بكر بن العربي في كتابه" العواصم والقواصم" جاءوا بألفاظ الشريعة من بابها، وأقروها على نصابها .. لكنهم زعموا أن وراءها معاني غامضة خفية وقعت الإشارة إليها من ظواهر هذه الألفاظ، فعبروا إليها بالفكر، واعتبروا منها في سبيل الذكر. فأصحاب الإشارات لا ينفون- كما ينفي الباطنية وأذنابهم- المعنى الذي يدل عليه اللفظ العربي من نحو الأحكام، والقصص، والمعجزات .. وإنما يقولون: إنهم يستفيدون من وراء تلك المعاني، وعلى طريق الاعتبار، معاني فيها موعظة وذكرى. وعلى ما بين مذهبهم ومذهب الباطنية من فرق واضح ترى في أهل العلم من نازعهم في إلصاق تلك المعاني بألفاظ القرآن، وقال: إن ما جاء في صريح القرآن والسنة من مواعظ وحكم يغني عن ارتكاب هذه الطرق البعيدة، التي هي

في الأصل نزعة قوم شأنهم الصّدّ عن هدى الله، وتعطيل أحكام شريعته الغرّاء" (¬1). وأيّا ما كان .. فإن الميزان المحكّم في تفسير القرآن الكريم يقتضي التزام قواعد اللغة العربية، وأصول الشريعة الإسلامية. فتفسير النص القرآني بما تتخيله الأوهام وسمادير الأحلام- بأي اسم كان- دون الانضباط بأصول اللغة والشريعة .. باطل من القول وزور. ومن ثمّ .. فإننا سنحكّم هذا الميزان فيما نقله الشاطبي من تأويلات عن بعض أهل العلم؛ إذ القرآن الكريم ليس خاضعا لتأييد ما تصبو إليه الآراء والأهواء. من ذلك .. ما نقل عن سهل بن عبد الله في قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [سورة البقرة: 22] .. أي أضدادا، وأكبر الأنداد: النفس الأمارة بالسوء. وكذلك تأويله قوله: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة: 35] بأنه لم يرد معنى الأكل حقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غير الله عزّ وجلّ. فهذه المعاني الإشارية التي ذكرت في هاتين الآيتين صحيحة في ذاتها؛ إذ دلت عليها أدلة من القرآن والسنة. لكنّ الآية التي ذكر تحتها ذلك المعنى لا تدل عليه بظاهر لفظها. وأما تأويله قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران: 96] بأن:" باطن البيت: قلب محمد صلى الله عليه وسلم .. يؤمن به من أثبت لله في قلبه التوحيد، واقتدى بهدايته" فقد قال عنه الشاطبي:" هذا التفسير يحتاج إلى بيان .. فإن ¬

_ (¬1) بلاغة القرآن، محمد الخضر حسين، ص 131، 132.

هذا المعنى لا تعرفه العرب، ولا فيه من جهتها وضع مجازيّ مناسب، ولا يلائمه مساق بحال" (¬1). وكذلك ما نقل عنه في تفسير قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [سورة النساء: 36]. فقد فسّر" الجار ذا القربى" على أن المراد به: القلب، و" الجار الجنب": النفس الطبيعية، و" الصاحب بالجنب": العقل المقتدي بعمل الشرع، و" ابن السبيل": الجوارح المطيعة لله. وهذا طراز من التفسير الباطني الفاسد، المردود عند أهل الحق. قال الشاطبي:" وذلك لأن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد ب" الجار ذي القربى" وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء، وغير ذلك لا يعرفه العرب ... " .. " وليس- أيضا- ثمّ دليل يدل على صحة هذا التفسير، لا من مساق الآية- بل إنه ينافيه- ولا من خارج- إذ لا دليل عليه كذلك-. بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت ردّه ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية" (¬2). وقال في قوله: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ [سورة النمل: 44] الصرح: نفس الطبع. والممرّد: الهوى، إذا كان غالبا؛ ستر أنوار الهدى. وحمل بعضهم قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة: 114] على أن المساجد: القلوب .. تمنع بالمعاصي من ذكر الله. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 401. (¬2) الموافقات، 2/ 402.

ونقل في قوله تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [سورة طه: 12] أن باطن النعلين هو الكونان: الدنيا والآخرة. وذكر عن الشّبلي أن المعنى: اخلع الكلّ منك؛ تصل إلينا بالكلية. ثم قال الشاطبي:" وهذا كله- إن صح نقله- خارج عما تفهمه العرب، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه" (¬1). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 403.

الأصل الثاني فيما يعول عليه من الشرع في علوم القرآن

الأصل الثاني فيما يعوّل عليه من الشرع في علوم القرآن (1) العلوم المضافة للقرآن ذكر الشاطبي أن العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم إلى أربعة أقسام: الأول: قسم هو كالأداة لفهمه، واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه. كعلوم" اللغة العربية" التي لا بدّ منها، و" علم القراءات"، و" الناسخ والمنسوخ"، و" قواعد أصول الفقه". الثاني: قسم مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو. وذلك ما فيه من دلالة النبوة، وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن، كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية. الثالث: قسم مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله، وخطاب الخلق به، ومعاملته لهم بالرفق والحسنى، من جعله عربيّا يدخل تحت نيل أفهامهم- مع أنه المنزه القديم- وكونه تنزّل لهم بالتقريب والملاطفة، والتعليم في نفس المعاملة به، قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات. قال:" وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم ... ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية، والفوائد الفرعية، والمحاسن الأدبية ... "، وذكر أمثلة يستعان بها في فهم المراد من كلامه، منها: عدم المؤاخذة قبل الإنذار .. قال:" ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء: 15]، فجزت

عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم؛ فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولكلّ جزاء مثله. ومنها: كثرة مجيء النداء باسم الرّبّ المقتضي القيام بأمور العباد وإصلاحها، فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان، قائلا: يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق .. أتمّ لنا ذلك بكذا .. قال:" وإنما أتى" اللهم" في مواضع قليلة، ولمعان اقتضتها الأحوال". قال:" ومنها: تقديم الوسيلة بين يدي الطلب، كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة: 5، 6]. الرابع: وهو الأخير، قسم هو المقصود الأول بالذكر، وهو الذي نبه عليه العلماء، وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب- منطوقها ومفهومها- على حسب ما أدّاه اللسان العربي فيه. قال:" وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول: أحدها: معرفة المتوجّه إليه، وهو الله المعبود سبحانه. الثاني: معرفة كيفية التوجه إليه. الثالث: معرفة مآل العبد، ليخاف الله به ويرجوه". قال:" وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود، عبّر عنه قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات: 56] " (¬1). لقد كان القسم الأول عنده في ذكر العلوم العربية التي لا بدّ منها، وهي من علوم القرآن، وقد وضعت في الأصل لخدمة هذا الكتاب الكريم- على ما سبق بيانه في الأصل الأول- و" علم القراءات"- وهو علم خاص بالقرآن الكريم ... ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات، 3/ 375: 380.

و" علم أصول الفقه" من علوم القرآن أيضا؛ إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط. وقد عدّ الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وأحكامه. وفي القسم الثاني إشارة إلى نوع من أنواع علوم القرآن، وهو" إعجازه"، وهو دليل على ثبوت التكليف، وبرهان على لزوم الأخذ بأدلة الأحكام التكليفية الفقهية. وهذا بناء على ثبوت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، المبني على ثبوت برهان معجزة القرآن (¬1). وفي القسم الثالث ذكر أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن، التي تقتضيها القواعد الشرعية، على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار، وتصححها نصوص الآيات والأخبار (¬2). والمتأمل .. يجد أن الشاطبي أخرج هذه المعلومات عن النظر فيما تضمنه القرآن من العلوم (¬3)، ثم جعلها مما احتوى عليه القرآن الكريم (¬4). ولا بدّ أن نقول هنا كلمة وجيزة، نضمّنها عصارة ما يقوله الشاطبي في مناط استفادة الأحكام من نوعي المعاني الأصلية والتبعية، والتي سبق ذكرها في الأصل الأول. فيذهب الشيخ إلى أنه لا إشكال في صحة اعتبار جهة المعنى الأصلي في الدلالة على الأحكام بإطلاق، ولا يسع فيه خلاف بحال. ومثال ذلك:" صيغ ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات، 3/ 53. (¬2) المرجع السابق، 3/ 379. (¬3) المرجع السابق، 3/ 377. (¬4) المرجع السابق، 2/ 103.

الأوامر والنواهي، والعمومات والخصوصات ... وما أشبه ذلك" مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول. أما اعتبار المعنى التبعي؛ فهذا محل تردد، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر (¬1). ثم عرض بعد ذلك أدلة المانعين دون المناقشة، ولكنه نقد أدلة القائلين باستفادة أحكام زائدة من المعاني الثواني (¬2). ولا يعنيني- في هذا المقام- أن أبحث عن أقرب الاجتهادين إلى الصواب، إنما الذي يعنيني أن أبيّن كيف أخرج الشاطبي هذه المعلومات عن النظر فيما تضمنه القرآن ثم جعلها مما احتواه. أما إخراجها .. فمعناه أنها ليست مما يدل عليه القرآن بالدلالة الأولية المعروفة عند الأصوليين، فلا نظر فيها في هذا المقام- مقام الدلالة بالوضع- إذ مهما قيل: إنها مدلول عليها بالدلالة التبعية؛ فهي لا تؤخذ منها الأحكام عند الشاطبي. وإن كانت منازعة الشاطبي على منع القول باستفادة أحكام زائدة من المعاني الثواني مدفوعة بواقع استنباط العلماء أحكاما شرعية مستقلة بدلالة المعاني التي هي من الجهة الثانية في دلالة النظم، كدلالة الإشارة، والفحوى، والإيماء، والاقتضاء. ومدفوعة كذلك بما قرره هو نفسه من أنّ الأوامر والنواهي ضربان: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 2/ 95. (¬2) المرجع السابق، 2/ 102.

صريح، وغير صريح، وأن الصريح منهما إما أن يعتبر من حيث مجرده دون علة مصلحته، وإما على اعتبار علة مصلحته .. ثم قرر:" أن الأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء، والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب، وما هو منها تحريم أو كراهة لا يعلم من النصوص، وإن علم منها بعض؛ فالأكثر منها غير معلوم. وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني، والنظر في المصالح، وفي أي مرتبة تقع، وبالاستقراء المعنوي، ولم نستند فيه لمجرد الصيغة، وإلا .. يلزم في الأمر ألا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة. والنهي كذلك. بل نقول: كلام العرب على الإطلاق لا بدّ فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ، وإلّا .. صار ضحكة وهزأة! ألا ترى إلى قولهم: فلان أسد أو حمار، أو عظيم الرماد، أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط؟! فلو اعتبر اللفظ بمجرده؛ لم يكن له معنى معقول .. فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله؟! " (¬1). وأرى ما رآه الشاطبي من أن هذه الأمثلة السبعة: نداء العبد لله بحذف حرف النداء؛ لأنه للتنبيه، والله في غير حاجة إليه، ولقربه سبحانه من العبد- ونداء الله للعبد بحرف النداء لتنبيه الغافل، وإشعاره بالبعد- وإتيان القرآن بالكناية عما يستقبح التصريح به، كما كنّى عن الجماع ب" اللباس"- وأسلوب الالتفات- والأقرب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله- والأدب في المناظرة، كما في ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات، 3/ 153.

قوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة سبأ: 24]- والأدب في إجراء الأمور حسب العادات (¬1) .. أقول: أرى ما رآه من أن هذه الأمثلة آداب شرعية، لا أحكام شرعية تندرج تحت الحلّ والحرمة. أما الذي لا يسلّم له؛ فهو أن هذه الدلالة ليست من قبيل الدلالة الوضعية. اللهم إلا إن أراد بالوضع الوضع التحقيقي. أما إن أراد أنها ليست من قبيل الدلالة اللفظية من أي وجه؛ فذلك مدفوع؛ إذ إن ما ذكره من معان إنما هو من قبيل خصائص التراكيب ومستتبعاته (¬2). وفي القسم الرابع: إشارة إلى المنطوق والمفهوم، وهذا من أنواع علوم القرآن بلا ريب. وقبل أن ننفض أيدينا من هذا البحث نذكر عصارة ما قاله علماء القرآن في بيانه .. قال السيوطي:" المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق. فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره؛ فالنص، نحو: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [سورة البقرة: 196] ... ، أو مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا؛ فالظاهر، نحو فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [سورة البقرة: 173]، فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم، وهو فيه أظهر وأغلب، ونحو وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [سورة البقرة: 222]، فإنه يقال لانقطاع طهر، وللوضوء والغسل، وهو في الثاني أظهر. فإن حمل على المرجوح لدليل؛ فهو تأويل، ويسمى المرجوح المحمول عليه مؤولا، ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات، 2/ 103، 107. (¬2) سبل الاستنباط، ص 446.

كقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد: 4]، فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات، فتعين صرفه من ذلك إلى حمله على القدرة والعلم أو على الحفظ والرعاية ... ، وقد يكون مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز ويصلح عليهما جميعا، سواء قلنا بجواز استعمال اللفظ في معنييه أو لا، ووجهه على هذا أن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين: مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا، ومن أمثلته وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [سورة البقرة: 282]، فإنه يحتمل: لا يضارّ الكاتب والشهيد صاحب الحق بجوز في الكتابة والشهادة، ولا يضارّ بالفتح، أي: لا يضرهما صاحب الحق بإلزامهما ما لا يلزمهما وإجبارهما على الكتابة والشهادة ... والمفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق. وهو قسمان: مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فالأول: ما يوافق حكمه المنطوق. فإن كان أولى؛ سمي فحوى الخطاب، كدلالة فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [سورة الإسراء: 23] على تحريم الضرب؛ لأنه أشد. وإن كان مساويا؛ سمي لحن الخطاب، أي معناه، كدلالة إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [سورة النساء: 10] على تحريم الإحراق؛ لأنه مساو للأكل في الإتلاف. واختلف: هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية، مجازية أو حقيقة؟ ... والثاني: ما يخالف حكمه حكم المنطوق. وهو أنواع: مفهوم صفة، نعتا كان أو حالا أو ظرفا أو عددا، نحو: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات: 6] مفهومه: أن غير الفاسق لا يجب التبيّن في خبره، فيجب قبول خبر الواحد العدل. وحال نحو: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ [سورة البقرة: 187]، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [سورة البقرة: 197] أي: فلا

يصح الإحرام به في غيرها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [سورة البقرة: 198] أي: فالذكر عند غيره ليس محصلا للمطلوب: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [سورة النور: 4] أي: لا أقل ولا أكثر. وشرط نحو: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [سورة الطلاق: 6]، أي: فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن. وغاية نحو: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [سورة البقرة: 230]، أي: فإذا نكحته تحل للأول بشرطه. وحصر نحو: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [سورة الصافات: 35]، إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ [سورة طه: 98] أي فغيره ليس بإله، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ [سورة الشورى: 9] أي: فغيره ليس بولي، لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [سورة آل عمران: 158] أي: لا إلى غيره، إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة: 5] أي: لا غيرك. واختلف في الاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة. والأصح في الجملة أنها كلها حجة بشروط، منها: ألا يكون المذكور خرج للغالب، ومن ثم .. لم يعتبر الأكثرون مفهوم قوله: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [سورة النساء: 23]؛ فإن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج، فلا مفهوم له؛ لأنه إنما خص بالذكر لغلبة حضوره في الذهن. وألا يكون موافقا للواقع، ومن ثم .. لا مفهوم لقوله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون: 117]، وقوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران: 28] " (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الإتقان، 3/ 104: 108.

(2) المكي والمدني

(2) المكي والمدني المكي من آيات القرآن الكريم: ما نزل قبل الهجرة. والمدني: ما نزل بعدها. وهذا أشهر أقوال ثلاثة ذكرها الزركشي في" برهانه". ومن المعلوم أن من خصائص الشريعة الإسلامية أنها جاءت متدرجة في تشريع الأحكام. ثم إن سور القرآن الكريم وآياته تابعة في النزول لمراحل تدرج الشريعة في تكوينها، فكل مرحلة من هذه المراحل تقتضي صنفا معينا من بلاغ القرآن. وكل مرحلة من هذه المراحل تعدّ أصلا وأسّا للمرحلة التالية التي تنبني عليها، وعلى هذا المنوال كانت سور القرآن في التنزيل، حيث ينبني فهم لاحقها على فهم سابقها .. وفي بيان ذلك يقول الشاطبي:" المدني من القرآن يفهم مرتّبا على المكي السابق في النزول عليه. وكذلك تفهم آيات المكي .. المتأخر منها يفهم مرتبا على المتقدم، وكذلك شأن الآيات المدنية بعضها مع بعض. والدليل على ذلك استقراء منهج القرآن، وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله. والشاهد المقرر لصحة هذا المعنى هو أن الشريعة كلها جاءت مبنية على الشرائع السابقة في الأصول، متممة لها في الفروع، مصلحة لما فسد من دين إبراهيم عليه السّلام. ويتلو ذلك في النظر أن سورة الأنعام- وهي سورة مكية- نزلت مبينة لقواعد العقائد، وأصول الدين، حتى قال المتكلمون: إنها تضمنت جميع العقائد من أول مبحث إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة ..

ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نزلت عليه سورة البقرة، مؤصّلة بسورة الأنعام، ومقررة لقواعد التقوى وأصولها. فبينما كانت سورة الأنعام المكية تقرر أصول التوحيد، والنبوة، والمعاد، ودلائلها .. كانت سورة البقرة تؤصل العبادات، وقواعد الإسلام، وتقرر أحكام المعاملات من البيوع والأنكحة، والعادات من أصل المأكول والمشروب وما أشبههما، وأحكام الديات والدماء وما يليها، وما زاد على ذلك من فروع التقوى من التكاليف مما جاء بعدها ولم يذكر فيها، فقد جاء مكملا لما جاء فيها مردودا إليه، مثلما كانت سورة الأنعام تأصيلا للعقائد، وما لم يذكر فيها من العقائد- وجاء بعد نزولها- اعتبر داخلا تحت أصولها ... ، وكذلك نرى هذا المعنى متقررا بين كل سورة من المكي والمدني، والترتيب بين السور والآيات يشير إلى ابتناء اللاحق على السابق، والمتأخر على المتقدم. فلا يغيبن على الناظر في الكتاب هذا المعنى، فإنه من أسرار علوم التفسير. وللسنة في هذا الترتيب مدخل للحفظ؛ إذ هي مبينة للكتاب، فهي تابعة له في ترتيب نزوله (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات، 3/ 406: 408، ومقدمة التعريف بأصول الفقه والفقه، للدكتور محمد سعاد جلال، 48، 49.

(3) المحكم والمتشابه

(3) المحكم والمتشابه 1 - إطلاقات المحكم والمتشابه: قال الشاطبي:" يطلق المحكم بإطلاقين: عام، وسيأتي بيانه. وخاص، ويراد به خلاف المنسوخ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ، سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا، فيقولون: هذه الآية محكمة، وهذه الآية منسوخة" (¬1). ويطلق المتشابه ويراد منه خصوص ما يرد من القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة. قال الزركشي:" ويكثر في إيراد القصص والأنباء. وحكمته: التصرف في الكلام، وإتيانه على ضرب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك مبتدا به ومتكررا" (¬2). ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى في قصة بني إسرائيل: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة: 58، 59]. ويقول في القصة عينها في موضع آخر: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 85. (¬2) البرهان، 1/ 112.

قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ [سورة الأعراف: 161، 162]. كما يطلق المتشابه- مقابلا للإطلاق الخاص عند الشاطبي- على المنسوخ. فهذا أحد إطلاقاته، وهو في غير القرآن. أما في القرآن؛ فيطلق كل منهما بإطلاقين: أحدهما: يطلق كلّ منهما وصفا لجميع القرآن، قال تعالى في بيانه الإلهي: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود: 1]، وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [سورة الزمر: 23]. فكلّ من وصفي الإحكام والتشابه في هاتين الآيتين صفة مدح لجميع القرآن، لا دلالة في أحدهما على ما يضاد الآخر. فمعنى كون القرآن كله محكما- كما في قوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ: الإتقان، والمنع من الفساد، وجعله تعالى آيات كتابه حكيمة. وهذه الأوجه الثلاثة التي ذكرها المفسرون كلها سائغة من حيث اللغة، ومن حيث صحة الإرادة كذلك. غير أن الوجه الثالث هو خيرها جميعا على ما حققه أستاذنا الجليل الدكتور إبراهيم خليفة، حيث يقول:" إن فعل" أحكمت" بمعنى جعلت حكيمة، بوصفه مطلقا عن القيد، تذهب النفس- الفاقهة لمقام إيراده وصف مدح لآيات الكتاب العزيز- في اجتلاء عظمة كنهه كلّ مذهب، فلا تلبث أن تصرفه إلى الفرد الكامل، وذلك يعني أن الآيات وضعت كل شيء في أحسن مواضعه السليمة اللائقة. ولا يتم هذا إلا إذا كان كلّ من نظمها ومعناها وغايتها

موضوعا في أسلم المواضع وأحسنها بحيث تكون من بلاغة النظم وشرف المعنى وسموّ الغاية" (¬1). وأما معنى كون القرآن كله متشابها؛ فإن من الجلي أن صوغ مادة التشابه به في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [سورة الزمر: 23]، على صورة التفاعل يقضي بأن الكتاب الكريم ذو أجزاء كلها يشبه بعضها بعضا، على ما هو الكثير الغالب في صورة التفاعل. وقد بين المفسرون الكمالات التي تتشابه فيه أبعاض الكتاب العزيز. قال الزمخشري:" و" متشابها" مطلق في مشابهة بعضه بعضا. فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة، والإحكام، والبناء على الحق والصدق، ومنفعته الخلق، وتناسب ألفاظه، وتناسقها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت" (¬2). وبهذا يتبين أن كلا من الإحكام في آية هود والتشابه في آية الزمر نعت كمال للقرآن جميعا، وأنه ليس بينهما أدنى قدر من التضاد، بحيث يقتضي الاتصاف بأحدهما التجرد من الآخر. بل في اجتماعهما شاهد حقية القرآن وكماله، وآية: لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192). ¬

_ (¬1) انظر: رسالة المحكم والمتشابه، د. إبراهيم خليفة، 1/ 3. (¬2) انظر: الكشاف، 4/ 95.

2 - تقسيم القرآن إلى محكم ومتشابه وتعريف كل منهما:

2 - تقسيم القرآن إلى محكم ومتشابه وتعريف كلّ منهما: وهذا هو الإطلاق الثاني الذي وقع فيه النزاع بين علماء القرآن: دلت آية هود- كما قلنا سابقا- على أن جميع القرآن محكم بالمعنى الذي ذكرناه آنفا. وآية الزمر أن جميعه متشابه بالمعنى الذي ذكرناه أيضا. أما قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [سورة آل عمران: 7]؛ فإنها تدل على أن بعض القرآن محكم- أي إحكاما خاصّا لا تشابه فيه- وبعضه متشابه أي تشابها خاصّا لا إحكام فيه. ومن ثمّ .. كثر الخلاف بين علماء القرآن في شرح حقيقة كلّ منهما. والمختار لدى المحققين ما ذهب إليه الإمام الرازي حيث قال:" ولا بدّ لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، ثم تفسيرهما في عرف الشريعة" .. ثم قال:" الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه، ونحن نذكر الوجه الملخّص الذي عليه أكثر المحققين، فنقول: اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى .. فإما أن يكون محتملا لغير ذلك المعنى، وإما ألّا يكون. فإذا كان موضوعا لمعنى، ولا يكون محتملا لغيره؛ فهذا هو النص. وأما إن كان محتملا لغيره؛ فلا يخلو .. إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحا على الآخر، وإما ألّا يكون كذلك .. فيكون احتماله لهما بالنسبة للراجح ظاهرا، وبالنسبة للمرجوح مؤولا. وأما إن كان احتماله لهما على السّويّة؛ كان اللفظ بالنسبة إليهما معا مشتركا، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملا. فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصّا، أو ظاهرا، أو مؤوّلا، أو مشتركا، أو مجملا. أما النص والظاهر؛ فيشتركان في

حصول الترجيح .. إلا أن النص راجح مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع من الغير. فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم. وأما المجمل والمؤول؛ فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه- المعنى- غير راجحة. وإن لم يكن راجحا، لكنه غير مرجوح؛ فهو المجمل. والمؤول، مع أنه غير راجح، فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد. فهذا القدر المشترك هو المسمّى بالمتشابه". ثم قال:" .. فلا بد من قانون يرجع إليه في هذا الباب .. فنقول: اللفظ إذا كان محتملا معنيين، وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحا، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحا، ولم نحمله على المرجوح؛ لا بدّ فيه من دليل منفصل. وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيّا، وإما أن يكون عقليّا. أما القسم الأول؛ فنقول: هذا إنما يتم إذا حصل بين هذين الدليلين اللفظيين تعارض. وإذا وقع التعارض بينهما؛ فليس ترك ظاهر أحدهما- رعاية لظاهر الآخر- أولى من العكس ... فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال. وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذّر حمله على ظاهره، فعند هذا يتعين التأويل. فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلا" (¬1). والخلاصة من كلام الإمام .. أن المحكم: ما كان راجح الدلالة على معناه بنفسه .. احتمل مرجوحا كالظاهر، أو لم يحتمل كالنص. وأن المتشابه: ما ليس ¬

_ (¬1) انظر: التفسير الكبير، ط. عبد الرحمن، 7/ 179: 182.

كذلك، أي ما كان غير راجح الدلالة بنفسه. مرجوحا كان كالمؤوّل، أو مستوي الدلالة كالمجمل. وهو كلام سديد؛ لأن مدار الإحكام على ما يفهم من الآية نفسها إنما هو على الوضوح. وكذلك شأن النص والظاهر .. اللذين جعل المحكم هو القدر المشترك بينهما. وأن مدار التشابه به يدور على كون الكلام خفيّا يتبعه الزائغ ابتغاء الفتنة، وإنما يظفر الزائغ بها- الفتنة- في المجمل والمؤوّل .. اللذين جعل التشابه هو القدر المشترك بينهما. هذا ما نراه تحقيقا في أمر المحكم والمتشابه ... أما الشاطبي؛ فقد عرّف المحكم بمعناه العام أنه:" البيّن، الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره. والمتشابه: هو الذي لا يتبين المراد به من لفظه .. كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر، أم لا" (¬1). ثم إننا لا نجد من سبيل إلى موافقة الشاطبي في إدراج الظاهر تحت معنى المتشابه، والمؤول تحت معنى المحكم؛ إذ إن الظاهر راجح بنفسه في معناه عند عدم القرينة الصارفة عنه، قضاء بما علم من كون العدول عن المعنى الظاهر من غير دليل عبثا، وقضاء بتعريف الشاطبي نفسه للمحكم. وبناء على ذلك .. فإننا نرى- كما قرر الإمام الرازي- إدراج الظاهر تحت المحكم لا تحت المتشابه. وقلنا بتشابه المؤول لا بإحكامه- كما يدعي الشاطبي- حتى مع الموجب؛ لبقاء تشابهه ببقاء دلالته على الأصل المتروك، وخفاء موجبه، دع عنك ما عرفته من تأتّي حصوله في النفس مع الذهول .. بل الجهل التام بهذا الموجب. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 85.

3 - التشابه في الأدلة قليل:

اللهم إلا ما استثني من المؤول بأنه لا تشابه فيه، وذلك بسبب معلومية المراد منه بالضرورة، لا بسبب مجرد إيجاب الموجب لمعناه المرجوح. 3 - التشابه في الأدلة قليل: المتشابه المقابل للمحكم بعض القرآن كمقابله، وهو على بعضيته قليل في القرآن الكريم. أما أنه بعض القرآن؛ فلقوله تعالى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [سورة آل عمران: 7] معطوفا على قوله: آياتٌ مُحْكَماتٌ [سورة آل عمران: 7] المخبر عنه، أو المعنون له بكونه من الكتاب- أي بعضه- فلا بد أن يكون مثله في حكم البعضية .. قضاء بما يوجبه العطف من التشريك في الحكم. وأما أنه قليل في القرآن؛ فلأمور: أحدها: وصف الله الآيات المحكمات بكونها" أمّ الكتاب"، فإن" الأم"- هنا- معناه: المعظم، قال الشاطبي:" فقوله في المحكمات: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [سورة آل عمران: 7] يدل على أنها المعظم والجمهور. و" أمّ الشيء" معظمه وعامته، كما قالوا:" أمّ الطريق" بمعنى معظمه، و" أم الدماغ" بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه" (¬1). وما قاله الشاطبي في تفسير" الأم" هو المقرر كذلك في لغة العرب .. ففي" اللسان": و" أمّ الطريق" معظمه، إذا كان طريقا عظيما وحوله طرق صغار. فالأعظم: أمّ الطريق. فإذا كانت المحكمات معظم القرآن؛ فالمتشابهات- لا ريب- أقله (¬2). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 86. (¬2) انظر: الإحسان، د. إبراهيم خليفة، ص 276.

الثاني: أن المتشابه لو كان كثيرا؛ لكان الالتباس والإشكال كثيرا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى، وكيف .. وقد سماه الله كذلك فقال: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران: 138]، وقال تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة: 2]، وقال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل: 44]؟! وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس. والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة، لا بيان وهدى .. لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى؛ فدل على أنه ليس بكثير. ثم يقول الشاطبي- بعد أن ساق هذا الدليل:" ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها؛ لم يصح القول به" (¬1). وأما ثالث الأمور القاضية بقلة المتشابه في القرآن الكريم؛ فالاستقراء .. وذلك أن المجتهد العارف بكلام العرب وعاداتهم، الواقف على المقامات والوقائع التي أنزلت فيهما، إذا تأمل في هذا الكتاب الكريم؛ وجد الغالب من مفرداته وتراكيبه من الوضوح بحيث لا يخفى على عامة المتدبرين. فإن قيل: كيف تزعم أن الالتباس والإشكال في القرآن قليل، وما أكثر ما يختلف مفسروه- على تعدد مشاربهم- في معاني مفرداته وتراكيبه؟! ألم تر إلى المعربين، والمتكلمين، والفقهاء .. كم يختلفون فيه؟! وكم فيه من عام يحتاج إلى مخصّص، ومطلق يحتاج إلى مقيّد، ومجمل يحتاج إلى مبيّن، وظاهر يحتاج إلى تأويل! فإذا ثبت أن فيه كل هذا الالتباس؛ فهل مثاره إلا التشابه الذي يحول ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 87.

دون الفهم، ويوقع في الإشكال؟! فكيف تزعم- بعد ذلك- أن المتشابه في القرآن قليل؟! وأجيب: بأن معظم ما قيل مما أشير إليه من الاختلاف لا يدل على الالتباس المفضي إلى التشابه في الواقع ونفس الأمر؛ وذلك لأن كثيرا من هذه الاختلافات يرجع إلى إيراد طائفة من الأوجه هي كثير بحسب الصناعة، واحد بحسب لبّ المعنى .. ولا ريب أنه ليس في مثل ذلك تشابه ولا التباس. ومنها ما يرجع إلى التقصير في إجراء القرآن على أحسن ما يقضي به اللسان العربي المبين، من الذهاب في تأويل الكلمة أو الجملة إلى وجه شاذ أو ضعيف في منطق العرب الخلّص، أو عدم مراعاة مقامات الخطاب بالآيات، أو عدم العناية بتناسق التراكيب، وأخذ بعضها بحجزة بعض. ومنها ما يرجع إلى تقصير المرء في تطلب ما يدفع إشكاله، من نحو تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو بيان مجمل .. وغير ذلك. ولو عني بتطلب ذلك؛ لتيسر له الظفر به من الكتاب أو السنة، أو دليل الحس أو العقل. ومنها ما يرجع إلى قصر القرآن في التأويل على قوانين علوم ومذاهب مستحدثة ما أنزل عليها، ولا كان نزوله من أجلها. وكل هذه الأنواع من الاختلاف ليست من المتشابه في واقع الأمر، فإنه لو زايل التقصير أولئك، والتّنطّع هؤلاء؛ ما اختلفوا فيه، ولا التبس عليهم .. فالتشابه في عقولهم وأفهامهم، لا في القرآن المجيد! وقد سمّى الشاطبي هذا النوع من التشابه ب" التشابه الإضافي". وإنما المتشابه بحق مما اختلفوا فيه: ما كان معناه في غاية الالتباس والغموض بحيث يشكل، ولا يقدر على درك تأويله وإدحاض شبهة الزائغين فيه من خلق

4 - لا يدخل التشابه قواعد الشرع الكلية:

الله إلا الراسخون في العلم. ولا ريب أن ذلك- مما اختلفوا فيه- قليل لا كثير (¬1). 4 - لا يدخل التشابه قواعد الشرع الكلية: لا يدخل التشابه بالمعنى الذي قررناه في قواعد الشرع الكلية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية، كربوبيته تعالى، وتنزهه عن النقائص، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما بلغه إلى خلقه، وحقية ما أخبر به من اليوم الآخر، وكون هذه الشريعة الإسلامية الغراء حقّا من عند الله تعالى. هذه الأصول الكلية وما إليها لا إجمال فيها ولا خفاء، كما هي خصيصة المتشابه. وفي بيان ذلك يقول الشاطبي:" التشابه لا يقع في القواعد الكلية، وإنما يقع في الفروع الجزئية. والدليل على ذلك من وجهين: أحدهما: الاستقراء أن الأمر كذلك. والثاني: أن الأصول لو دخلها التشابه؛ لكان أكثر الشريعة من المتشابه. وهذا باطل. وبيان ذلك: أن الفرع مبني على أصله .. يصح بصحته، ويفسد بفساده، ويتضح بإيضاحه، ويخفى بخفائه. وعلى الجملة .. فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع؛ إذ كل فرع فيه ما في الأصل. وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة. ومعلوم أن الأصول منوط- مرتبط- بعضها ببعض في التفريع عليها، فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه؛ لزم سريانه في جميعها، فلا يكون المحكم أمّ الكتاب. لكن ثبت أنه كذلك؛ فدل على أن المتشابه لا ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 87 وما بعدها، ورسالة المحكم والمتشابه، ص 84، 85.

يكون في شيء من الأصول- وهي القواعد الكلية- .. سواء في ذلك ما كان في أصول الأعمال، أو أصول الاعتقادات. فإن قيل: فقد وقع في الأصول أيضا .. فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع! ولو كان زيغهم في الفروع؛ لكان الأمر أسهل عليهم .. فالجواب: أن المراد ب" الأصول" هو القواعد الكلية .. كانت في أصول الدين، أو في أصول الفقه، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية. وعند ذلك لا نسلّم أن التشابه وقع فيها البتة، وإنما في فروعها. فالآيات الموهمة للتشبيه؛ والأحاديث التي جاءت مثلها، فروع عن أصل التنزيه، الذي هو قاعدة من قواعد العلم الإلهي" .. ثم قال: .. " فإذا اعتبر هذا المعنى؛ لم يوجد التشابه في قاعدة كلية، ولا في أصل عام. اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي .. فعند ذلك [لا] (¬1) فرق بين الأصول والفروع في ذلك. ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال. وليس هو المقصود هنا إنما المقصود بنفيه عن الأصول هو التشابه الحقيقي، ولا هو مقصود وصريح اللفظ .. وإن كان مقصودا بالمعنى؛ لأنه تعالى ¬

_ (¬1) علّق المحقق الشيخ عبد الله دراز هنا بأن: المقصود أنك إذا أخذت هنا التشابه بالمعنى الإضافي لم يكن ثمة فرق بين الأصول والفروع. وعلى هذا الفهم يكون قد سقط من عبارة" الموافقات" حرف" لا"، وأصل الكلام:" فعند ذلك لا فرق بين الأصول ... ".

5 - تأويل المتشابه:

قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، فأثبت فيه متشابهات. وما هو راجع لغلط الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة، وإن نسب إليه؛ فبالمجاز" (¬1). 5 - تأويل المتشابه: المتشابهات تجمع ألوانا مختلفة، وذلك بناء على التعريفات المختلفة لكلّ من المحكم والمتشابه. ونزيدك هنا إيضاحا وتمثيلا أن من بينهما لونين كثر الكلام فيهما .. أولهما: فواتح السور، وقد اختار الشاطبي أنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وقد أفضنا القول فيها بمبحث الظاهر والباطن في القرآن الكريم، مرجّحين أنها مما يعلم ويفسر، وذلك بناء على ما اخترناه من أن المحكم ما كانت دلالته راجحة، وهو النص والظاهر والمتشابه ما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمل والمؤول، وعلى هذا يؤول المتشابه على ما ترتضيه قوانين اللغة من المعاني كي يخرج من الخفاء إلى الوضوح. وثانيهما: متشابه الصفات. وحاصل خلاف المختلفين في هذا النموذج على الجملة أنهم بعد الاتفاق على صرف ما جاء من تلك الألفاظ عن ظاهرها المستحيل الموهم للنقص، المتمثل في قيام الحوادث وصفات الجوارح به تعالى إلا ما كان من دعوى ابن تيمية وابن القيم ومن لفّ لفّهما من كون الظاهر في هذه الألفاظ غير مستحيل لكونه ليس صفات الجوارح، بل ظاهر كل شيء بحسبه اللائق به .. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 97، 98.

أقول: بعد صرفهم الألفاظ الموهمة عن ظاهرها الموهم للنقص، اختلفوا ما بين مفوّض المعنى المراد إليه تعالى- وهم من يسمون ب" المفوّضة"، أو أهل التفويض، وبين باذل جهده في التعرف على المعنى المراد، مستعينا باللغة والسياق ويسمى هذا الفريق" المؤولة"، أو أهل التأويل. ومن الفريق الأول الشاطبي. غير أنه قسم المتشابه إلى: حقيقي وإضافي، وأراد من الحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم المراد منه، وأراد من الإضافي: ما اشتبه معناه لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر .. قال:" فإذا تقصّى المجتهد أدلة الشريعة؛ وجد فيها ما يبين معناه. والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدّا، وبالمعنى الإضافي كثير" (¬1). ثم حكى المذهبين السابقين فقال:" وتسليط التأويل على المتشابه الحقيقي لا يلزم؛ إذ قد تبين أنه لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به؛ لأنه لم يقع بيانه بالقرآن الصريح، أو بالحديث الصحيح، أو الإجماع القاطع. فالكلام في مراد الله من غير هذه الوجوه تسوّر، على ما لا يعلم وهو غير جائز. وأيضا .. فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما تقتضي تعيين تأويل من غير دليل .. وهم الأسوة والقدوة، والآية تشير إلى ذلك" .. وهي فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، ثم قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 91.

وذهب جماعة من متأخري الأمة إلى تسليط التأويل عليها رجوعا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها، من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل وغيرها من أنواع الاتساع، تأنيسا للطالبين، وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم، مع إمكان الوقوف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وهو أحد القولين للمفسرين. وهي على كلّ مسألة اجتهادية، لكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف" (¬1). والتحقيق أنه لا خلاف في الحقيقة وواقع الأمر بين الطريقتين: طريقة التفويض وطريقة التأويل. فطريقة التفويض التي ثبتت فيها آثار عديدة عن السلف- رضوان الله عليهم- لا تقتضي بحال أن أهلها كانوا يرون رجحان التفويض بإطلاق على التأويل، ولا أنهم كانوا يجهلون المعاني التي ينبغي أن تحمل عليها هذه الظواهر بعد الصرف عن ظواهرها، ولا أنهم كانوا لا يرون صحة طريقة التأويل مطلقا. كيف .. وهم الراسخون في العلم؟! بل كيف .. وقد سمعوا الله ورسوله أنفسهما يؤوّلان؟! على ما أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة: يا ابن آدم .. مرضت فلم تعدني. قال: يا ربّ .. كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟! قال: أما علمت أنّ عبدي فلانا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم .. استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا ربّ .. كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟! ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 3/ 98، 99.

قال: أما علمت أنّه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟! أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم .. استسقيتك فلم تسقني. قال: يا ربّ .. كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه .. أما إنّك لو سقيته؛ وجدت ذلك عندي!» (¬1) .. حيث وقع التأويل في النسبة الإسنادية كما هو ظاهر (مرضت، استطعمتك، استسقيتك) بالإسناد إلى العبد، كما وقع في النسبة الإيقاعية" تعدني، تطعمني، تسقني" بالإيقاع على ضمير العبد. وحاصل هذا وذاك أن المراد هو المجاز، وليس الحقيقة حسبما فهم ابن آدم فأخطأ في فهمه. فكيف يستنكفون بعد هذا عما لم يستنكف عنه الله ورسوله؟! بل كيف وقد ثبت عنهم التأويل التفصيلي في غير ما موضع، كالذي جاء في" دفع شبه التشبيه" لابن الجوزي بسند صحيح- كما ذكر- عن الإمام أحمد من تأويل المجيء في قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [سورة الفجر: 22]، والإتيان في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [سورة البقرة: 210]، من أن المراد إتيان أمره، على ما في الآية الأخرى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [سورة الأنعام: 158]. كما أجمعوا كلهم على تأويل قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [سورة البقرة: 115]، وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [سورة ق: 16] .. إلى غير ذلك من آي الذكر الحكيم. كما ثبت عن الإمام مالك والأوزاعي تأويل النزول في حديثه- على ما بين النووي في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم- وإجماعهم كذلك على تأويل الأحاديث ¬

_ (¬1) انظر: صحيح مسلم، كتاب البر، باب عيادة المريض، حديث رقم 4661.

الثلاثة المشهورة «قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن»، «الحجر الأسود يمين الله في الأرض»، «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن». وإنما الوجه في نكولهم في أكثر الأحيان عن التأويل أنهم كانوا يسدّون بابا يخشون أن يلج منه على قلوب العامة أهل الزيغ والضلالة. فأما بعد إذ فتح ذلك الباب على مصراعيه وماضت شبهات المجسّمة والجاحدين على ما لا يحل من الظاهر في قلوب كثير من الدهماء؛ فإنه لم يبق معدل لعاقل يجل الله ورسوله ويرحم عباده أن يرتكسوا في حمأة الضلالة فيه .. نقول: لم يبق معدل لمثل هذا العاقل عن مكايدة الزائغين بتأويل ما تشبثوا به من هذه الظواهر. فلعمر الحق لقد علم ذو نصفة وبصيرة أنه لا يفلّ حد الزائغ ويجتث شبهته من جذورها أعظم من بيان التأويل لما يشكك به! ولو قدّر أن الأكابر ممن أثرت عنهم هذه الآثار في التفويض قد ابتلوا بما ابتلي به المؤولة من سورة شبهات التجسيم والتشبيه؛ لكانوا أحفى خلق الله بالتأويل وأسبقهم إليه! ألم تر إلى هذا الفحل من أعلام علماء السنة- رواية ودراية- أبي سليمان الخطابي .. كيف يقول في حديث وضعه تعالى قدمه أو رجله في النار:" فيشبه أن يكون من ذكر القدم والرجل أو ترك الإضافة، إنما تركها تهيّبا لها طالبا للسلامة من خطأ التأويل فيها. وكان أبو عبيدة- وهو أحد أئمة أهل العلم- يقول: " نحن نروي هذه الأحاديث ولا نريغ لها المعاني". قال أبو سليمان:" ونحن أحرى بألّا نتقدم فيما تأخر عنه من هو أكثر علما وأقدم زمانا وسنّا، ولكن الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين: منكر لما يروى من نوع هذه الأحاديث رأسا، ومكذب به أصلا! وفي ذلك تكذيب العلماء الذين رووا هذه الأحاديث وهم أئمة الدين، ونقلة السنن، والواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. والطائفة

الأخرى مسلّمة للرواية فيها، ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهبا يكاد يفضي بهم إلى القول بالتشبيه. ونحن نرغب عن الأمرين معا، ولا نرضى بواحد منهما مذهبا، فيحق علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث- إذا صحت من طريق النقل والسند- تأويلا يخرّج على معاني أصول الدين ومذاهب العلماء، ولا تبطل الرواية فيها أصلا إذا كانت طرقها مرضيّة ونقلتها عدولا. قال أبو سليمان: ذكر القدم هنا يحتمل أن يكون المراد به قدّمهم الله للنار من أهلها، فيقع بهم استيفاء عدد أهل النار، وكل شيء قدمته فهو قدم، كما قيل لما هدّمته: هدم، ولما قبضته: قبض، ومن هذا قوله عزّ وجلّ: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة يونس: 2]، أي ما قدموه من الأعمال الصالحة، ويؤيده قوله في الحديث: «وأما الجنة؛ فإن الله ينشئ لها خلقا» .. فاتفق المعنيان: أن كل واحدة من الجنة والنار تمدّ بزيادة عدد يستوفى بها عدة أهلها، فتمتلئ عند ذلك" (¬1). وقال الحافظ ابن حجر:" أكثر السلف- لعدم ظهور أهل البدع في أزمنتهم- يفوضون علمها إلى الله تعالى، مع تنزيهه- سبحانه وتعالى- عن ظاهرها الذي لا يليق بجلال ذاته. وأكثر الخلف يؤولونها، بحملها على محامل تليق بذلك الجلال الأقدس والكمال الأنفس؛ لاضطرارهم إلى ذلك، لكثرة أهل الزيغ والبدع في أزمنتهم، ومن ثمّ .. قال إمام الحرمين: لو بقي الناس على ما كانوا عليه؛ لم نؤمر بالاشتغال بعلم الكلام، وأما الآن؛ فقد كثرت البدع، فلا سبيل إلى ترك أمواج الفتن تلتطم" .. إلى أن قال:" والحاصل أن السلف والخلف مؤولون؛ لإجماعهم على صرف اللفظ عن ظاهره. ولكن تأويل السلف إجمالي؛ ¬

_ (¬1) معالم السنن، الخطّابي، 5/ 95.

6 - شروط التأويل (صحة المعنى .. وقبول اللفظ):

لتفويضهم إلى الله تعالى، وتأويل الخلف تفصيلي؛ لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين" (¬1). 6 - شروط التأويل (صحة المعنى .. وقبول اللفظ): من المعلوم لدى الأصوليين واللغويين كذلك أن ما يخضع لاحتمال التأويل من حيث المبدأ هو" الظاهر". أي أن" النص" لا يخضع لاحتماله، وهذا هو معنى كونه نصّا. ثم إن علماء الأصول أطبقوا على أنه لا يعدل عن الظاهر من اللفظ إلى التأويل إلا حيث يستحيل ذلك الظاهر. ومن ثمّ .. فإن المعنى الظاهر يجب صرفه في الأصل إلى ظاهره دون أي تأويل، إلّا أن يتوافر شرطان اثنان- ذكرهما الشاطبي- فيسوغ التأويل عندئذ. وأول هذين الشرطين: أن يكون وضع اللفظ قابلا له لغة بوجه من وجوه الدلالة- حقيقة أو مجازا أو كناية- جاريا في ذلك على سنن العربية. أي بأن يكون بين اللفظ والمعنى الذي يراد تأويله به ارتباط من الوضع اللغوي، أو عرف الاستعمال، أو عادة صاحب الشرع. وثاني هذين الشرطين: صحة المعنى في الاعتبار، بأن يكون متفقا مع الواقع المعترف به إجمالا عمن يعتد بهم. فالشرطان:" اللفظ قابل، والمعنى المقصود من التركيب لا يأباه" (¬2). فتأويل من تأول لفظ" الخليل" في قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [سورة النساء: 125] بالفقير، فإن ذلك يجعل المعنى القرآني غير صحيح؛ لأن إبراهيم الذي يقدّم العجل ¬

_ (¬1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 1/ 134، ورسالة المحكم والمتشابه. (¬2) الموافقات، 3/ 100.

7 - حكمة ورود المتشابه:

السمين المشوي لضيوفه من عند أهله لا يصح أن يعدّ فقيرا. فهذا غير صحيح في الاعتبار، لم يجر على مقتضى العلم. قال ابن قتيبة: أيّ فضيلة لإبراهيم في هذا القول؟ أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله؟! وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل" موسى كليم الله" و" عيسى روح الله"؟! وكذلك تأويل من تأول" غوى" من قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [سورة طه: 121] أنه من" غوى"- بالكسر- الفصيل؛ لعدم صحة" غوى" بمعنى" غوي". فهذا لا يصح فيه التأويل من جهة اللفظ، والأول لا يصح فيه من جهة المعنى (¬1). 7 - حكمة ورود المتشابه: بيّنا سابقا أن المحكم ما كانت دلالته راجحة، وهو النص والظاهر. والمتشابه ما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمل والمؤوّل. والسؤال الذي يقذف إلى الذهن الآن: ما حكمة ورود المتشابه بهذا المعنى في القرآن الكريم؟ ونجتزئ في الجواب عن هذا السؤال بما قاله الزمخشري في" كشافه":" فإن قلت: فهل كان القرآن كله محكما؟ قلت: لو كان كله محكما؛ لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك؛ لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، لما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 101.

والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجلية، والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله. ولأن المؤمن المعتقد ألّا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره وأهمّه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكّر وراجع نفسه وغيره، ففتح الله عليه وتبين مطابقة المتشابه للمحكم؛ ازداد طمأنينة إلى معتقده في إيقانه" (¬1). ¬

_ (¬1) الكشاف، 1/ 259.

(4) الإحكام والنسخ

(4) الإحكام والنسخ بادئ ذي بدء .. فإن قضية النسخ في كتب علوم القرآن وأصول الفقه، قضية متشعبة كثيرة المسائل والذيول، مما نحا بعلماء الأصول والقرآن أن يؤلفوا فيها المؤلفات الكثيرة والواسعة. ومن البداهة أننا لن نعرض في بحثنا هذا لقضية النسخ برمتها، بل سنجتزئ من ذلك بقضيتين ذكرهما الشاطبي: مدلول النسخ عند الصحابة والتابعين، وأن النسخ لا يدخل القواعد الكلية وقوعا. مدلول النسخ: ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى أن النسخ هو مطلق التغير الذي يطرأ على بعض الأحكام فيرفعها ليحل محلها أو يخصص ما فيها من عموم، أو يقيد ما فيها من إطلاق. سواء أكان النص الناسخ عندهم متصلا بالنص المنسوخ، كما في الاستثناء والتقييد، أم كان منفصلا عنه متأخرا في النزول، كما في رفع الحكم عن بعض ما يشمله العام إذا تأخر نزول المخصّص (وهو النسخ الجزئي عند الحنفية). وفي بيان ذلك يقول الشاطبي:" الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين. فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل- متصل أو منفصل- نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا .. كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرا .. فالأول غير معمول به، والثاني معمول به.

وهذا المعنى جار في تقييد المطلق. فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيّده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيّد .. فكأن المطلق لم يفد مع مقيّده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العام مع الخاص؛ إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص؛ أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول .. فلما كان كذلك؛ استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد" (¬1). ثم يورد الشاطبي بضعا وعشرين قضية نسخ، رويت عن الصحابة والتابعين، ليستدل بها على أن مدلول النسخ عند الصحابة كان أوسع منه عند الأصوليين. ونحن نجتزئ بعض هذه القضايا، معقبين على كل منها برأي جمهور الأصوليين فيها .. 1 - أولى هذه القضايا ما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال في قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [سورة الإسراء: 18] إنه ناسخ لقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [سورة الشورى: 20]. وهو على هذا التحقيق تقييد لمطلق؛ إذ كان قوله: نُؤْتِهِ مِنْها مطلقا، ومعناه مقيد بالمشيئة (وهو قوله في الأخرى: ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ). وإلا .. فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ (¬2). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 108، 109. (¬2) الموافقات، 3/ 109.

ويرى الأصوليون كذلك أن الآيتين لا تعارض بينهما، وأن ما في الآية المدعى أنها ناسخة من قيد (المشيئة إنما هو تقييد لما في الآية الأخرى من إطلاق. على أنه قيد يجب أن يفهم ضرورة، ولو لم يذكر؛ إذ لا يؤتي الله أحدا من حرث الدنيا ما لم يرد ذلك، ضرورة ما هو مقرر من أنه لا يقع في ملك الله عزّ وجلّ إلا ما يشاء. 2 - والقضية الثانية (وهي أيضا مروية عن ابن عباس) هي أن قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [سورة الشعراء: 224 - 226] منسوخ بقوله تعالى بعد ذلك: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا [سورة الشعراء: 227]. ويرى الأصوليون أن العلاقة بين الآيتين هي علاقة المستثنى بالمستثنى منه، ولكلّ منهما حكمه الذي يقتضيه عموم المستثنى منه وخصوص المستثنى، وهو شمول الحكم الأول لمن عدا المستثنى أو تخصيص عمومه بطريق الاستثناء، وليس هذا من النسخ في شيء. 3 - والقضية الثالثة (وهي مروية أيضا عن ابن عباس) هي أن قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [سورة الأنفال: 1] منسوخ بقوله تعالى في السورة نفسها: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [سورة الأنفال: 41]. والأصوليون يرون أن العلاقة بين الآيتين هي علاقة البيان بعد الإجمال، وذلك بناء على تفسير" الأنفال" بالغنائم. أما إن فسّرت" الأنفال" بما يجعله

الإمام لبعض المقاتلين من سلب قتلاهم؛ فالآيتان لا تعارض بينهما؛ إذ إنهما في موضوعين مختلفين. وعلى كلا التفسيرين ليس بين الآيتين تعارض يسوغ القول بالنسخ. 4 - والقضية الرابعة هي ما روي عن ابن عباس وابن مسعود- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ [سورة البقرة: 284] أنه منسوخ بقوله تعالى بعدها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [سورة البقرة: 286]. وهو ليس بمنسوخ، بدليل أن ابن عباس فسر الآية بكتمان الشهادة؛ إذ تقدم قوله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ [سورة البقرة: 283] ثم قال: وَإِنْ تُبْدُوا .. الآية. ويعلق الشيخ دراز بأن معنى الآية على كلام ابن عباس:" إن تبدوا ما في أنفسكم وما تعلمونه في موضوع الشهادة، بأن تقولوا لصاحب الحق نعلم الشيء ولكنا لا نشهد به عند الحكام، أو تخفوه، بألا تطلعوا صاحب الحق على ما تعلمونه؛ يحاسبكم به الله على كل حال؛ لأنه كتمان للشهادة ومضيع للحق". فيكون قوله: وَإِنْ تُبْدُوا من باب بيان المجمل لقوله: وَلا تَكْتُمُوا .. فقد كان يحتمل الأمرين، كما يحتمل أحدهما فقط. وعليه .. لا تكون آية لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها مرتبطة بهذه الآية. وأما إذا جرينا على رواية جثوّ الصحابة على الرّكب لما نزلت وَإِنْ تُبْدُوا وقولهم: ليس في وسعنا تنزيه النفس عن الهواجس والخواطر السيئة، فأنزل الله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها .. إذا جرينا على هذا؛ فتكون

آية لا يُكَلِّفُ مخصصة أو مبينة لإجمال آية وَإِنْ تُبْدُوا التي بظاهرها تشمل الهواجس والخواطر، فنزلت الآية مخرجة لما عدا العزم الذي في الوسع اجتنابه (¬1). 5 - القضية الخامسة (وهي مروية عن عبد الملك بن حبيب) أن قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [سورة فصلت: 40]، وقوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [سورة التكوير: 28] منسوخان بقوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [سورة التكوير: 29]. ويرى الأصوليون أن الآيات الثلاث إنما جاءت في معرض الوعيد والتهديد، وهو معنى لا يقبل النسخ؛ إذ ليس فيه حكم تكليفي، وفي نسخه تكذيب للقواعد .. تعالى الله أن يوصف بالكذب. وبهذا يتبين إسراف بعض العلماء في ادعاء النسخ- بمعناه المتأخر- في كتاب الله، وذلك بسبب اشتباه اصطلاح المتقدمين باصطلاح المتأخرين. ومن المعلوم في علوم القرآن وأصول الفقه أن النسخ لا يلجأ إليه إلا عند التعارض التام بين الآيتين بحيث يستحيل الجمع بينهما. وبناء على ذلك .. فإن علاقة الإجمال والتفصيل، والإبهام والتفسير، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ليست من النسخ في شيء عند الأصوليين. وهذا لا يعني بأي حال رفض ما صحت روايته عن الصحابة والتابعين من قضايا النسخ، وإنما يعني أنه لا يحق لأحد الاستدلال بهذه القضايا- وفيها تقرير النسخ بمدلوله الواسع عندهم- على دعاوى النسخ بمدلوله المصطلح عليه عند ¬

_ (¬1) انظر تعليق الشيخ عبد الله دراز على الموافقات: 3/ 112.

الأصوليين والفقهاء؛ إذ إن هذا يناقض الحقيقة البدهية الواجبة مراعاتها في مناهج البحث، وهي تحرير المراد (أو تحرير محل النزاع). ومن ثمّ .. فليس من أمانة البحث العلمي أن نورد خبرا عن ابن عباس- أو غيره- يقرر فيه نسخ آية لأخرى، مع أنه ليس بين الآيتين إلا علاقة المستثنى بالمستثنى منه، لنستدل بهذا الخبر على أن إحدى الآيتين منسوخة بالأخرى على ما اصطلحنا نحن عليه في تحديد مدلول النسخ أخيرا بأنه رفع تعلق حكم شرعي بدليل شرعي آخر متأخر عنه. وبوسعك أن ترى هذه الحقيقة التي أوضحتها لك في هذه العبارة التي وردت على لسان الشيخ ولي الله الدهلوي:" من المواضع الصعبة في فن التفسير (التي ساحتها واسعة جدّا، والاختلاف فيها كثير) معرفة الناسخ والمنسوخ. وأقوى الوجوه الصعبة اختلاف اصطلاح المتقدمين والمتأخرين. وما علم في هذا الباب، من استقراء كلام الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يستعملون النسخ بإزاء المعنى اللغوي الذي هو إزالة شيء بشيء، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى .. إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيّا، أو تخصيص عام، أو بيان الفارق بين النصوص وما قيس عليه ظاهرا، أو إزالة عادة الجاهلية، أو الشريعة السابقة. فاتسع باب النسخ عندهم، وكثر جولان العقل هنالك، واتسعت دائرة الاختلاف. ولهذا بلغ عدد الآيات المنسوخة خمسمائة.

النسخ لا يكون في الكليات وقوعا:

وإن تأملت متعمقا؛ فهي غير محصورة. والمنسوخ باصطلاح المتأخرين عدد قليل، لا سيما بحسب ما اخترناه من التوجيه" (¬1). النسخ لا يكون في الكليات وقوعا: يقرر الشاطبي أن الذي نزل بمكة على النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية- على غالب الأمر- ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة. ثم يقرر أيضا- بناء على هذا- أن المنسوخ في مكة قليل أو نادر، وعلل لذلك بأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعا، وإن أمكن عقلا (¬2). وأما إن الكليات لا نسخ فيها؛ فدليله الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات .. وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء. قال:" القواعد الكلية، من الضروريات والحاجيات والتحسينات، لم يقع فيها نسخ. وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء. فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت، وإن فرض نسخ بعض جزئياته؛ فذلك لا يكون إلا بوجه آخر من الحفظ، وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل؛ فأصل الحفظ باق؛ إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس. بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة في كل ملة، وأن اختلاف أوجه الحفظ بحسب كل ملة. وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينات، وقد قال تعالى: ¬

_ (¬1) الفوز الكبير في أصول التفسير، ص 53. (¬2) الموافقات، 3/ 104.

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى: 13]، وقال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف: 35]، وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء- عليهم السلام-: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام: 90] " .. ثم أخذ الشاطبي يسوق بعض الأدلة على ما ذكر، ثم قال:" .. إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات. وكذلك الحاجيات .. فإنا نعلم أنهم لم يكلّفوا بما لا يطاق. هذا .. وإن كانوا قد كلّفوا بأمور شاقة؛ فذاك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات. ومثل ذلك التحسينات" .. ثم أورد اعتراضا وأجاب عنه .. قال:" وأما قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [سورة المائدة: 47]؛ فإنه يصدق على الفروع الجزئية، وبه تجتمع معاني الآيات والأخبار. فإذا كانت الشرائع قد اتفقت في الأصول- مع وقوع النسخ فيها- وثبتت ولم تنسخ؛ فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولى" (¬1). وصفوة القول أنه ليس كل حكم شرعي بقابل للنسخ. فإن من شروط الحكم المنسوخ أن يكون جزئيّا لا كليّا، وأن يكون عمليّا لا عقديّا. فمن الخطأ أن يزعم زاعم أن حكما من الأحكام الكلية في الشريعة منسوخ. ومثله أصول العقيدة، ومكارم الأخلاق. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 117، 118.

لقد شرعت الأحكام الكلية لتتفرع عليها الجزئيات. فهي أصول تستنبط منها الفروع، وكليات تبنى عليها الجزئيات، وقواعد تندرج تحتها الفروع .. وما كانت الأصول الكلية لتنسخ وهي أساس الجزئيات.

(5) بيان القرآن لما تحته من أحكام

(5) بيان القرآن لما تحته من أحكام لنبدأ أولا بعرض موجز لما قاله الشاطبي في خصائص القرآن الكريم. " القرآن- كما تقرر- كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر ... وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة" (¬1). ولا يتهيأ لمن أراد فهمه والوقوف على أسراره، واستخلاص أحكام الشريعة الجزئية، وقواعدها الكلية، ومقاصدها العامة، إلا بأن يجعله موضوع درسه ونظره، وأن يتدبر آياته، ويطيل النظر في معانيه، ويشد الرحال في اقتناص إشاراته وإدراك تلويحاته. غير أنا إنما نريد هنا بالأحكام معنى خاصّا، وهو خصوص الأحكام الشرعية الجزئية. وقد اقتصر بعض علماء أصول الفقه على الحكم التكليفي في تعريف الحكم الشرعي، ولكنها طريقة ضعيفة عند الأصوليين، نصّ على ذلك العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي. وعرفه ابن الحاجب فزاد الحكم الوضعي، وهو الصواب. ولعل أمثل التعريف للحكم الشرعي أنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. " خطاب الله" يقصد به توجيه الخطاب، أي الكلام المخاطب به، وهو كلام الله تعالى النفسي القديم القائم بذاته تعالى. ومن ثمّ .. خرج به كل خطاب لغيره سبحانه. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 346.

قال المحقق الإسنوي:" فإن قيل: إن هذا الحد صحيح من هذا الوجه- أي إضافة الخطاب إلى الله: لكن يرد عليه أحكام كثيرة ثابتة بقول النبي صلى الله عليه وسلم وبفعله، وبالإجماع، وبالقياس، وقد أخرجها بقوله" خطاب الله"؛ فالجواب أن الحكم هو خطاب الله تعالى مطلقا، وهذه الأربعة معرّفات له، لا مثبتات". " المتعلق بأفعال المكلفين" أي تعلقا معنويّا في الأزل، وتنجيزيّا بعد البعثة، ووجود المكلف على شرط التكليف. وخرج خطاب الله المتعلق بالذوات، والصفات والجمادات. " بالاقتضاء" وهو الطلب، فيكون شاملا للفعل والترك. والفعل قد يكون جازما وهو الإيجاب، أو غير جازم وهو الندب، والترك يكون جازما وهو التحريم، أو غير جازم وهو الكراهة. و" الاقتضاء" قيد في التعريف، أخرج خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الإخبار، كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات: 96]. " أو التخيير" وهو الإباحة، فصارت الأحكام التكليفية خمسة، وهي كذلك عند الجمهور. " أو الوضع" أي جعل الشيء سببا، كالسرقة: سبب في القطع أو شرطا، كالطهارة: شرط في الصلاة، أو مانعا، كالسّكر والجنابة المانعين من الصلاة، أو صحيحا فتترتب عليه آثاره، أو فاسدا فلا تترتب. وهي أيضا خمسة. إذن .. تعلّق الخطاب في الفعل على وجه الطلب أو التخيير يسمى حكما تكليفيّا، وتعلقه به على وجه الوضع يسمى حكما وضعيّا، والحكم التكليفي لا يتعلق إلا بالمكلف، والوضعي يتعلق بالإنسان، سواء أكان مكلفا أم لا

(كالصبي والمجنون .. فإنهما يثبت في حقهما الحكم الوضعي، كصحة بيع الصبي، وضمان متلفاتهما، أو ثبوت الدّين في ذمتهما). أما الفقهاء؛ فيجعلون الحكم الشرعي مدلول ذلك الخطاب، أو قل: صفة فعل المكلف. فالحكم عند الأصوليين هو" الإيجاب" الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى. و" الوجوب"، الذي هو صفة فعل المكلف، هو الحكم عند الفقهاء. يقول العلامة الشيخ بخيت المطيعي:" والعجب أن بعض المتأخرين ممن تصدى للكتابة في علم الأصول قد تشبث بما قاله أولئك المتأخرون من الأشاعرة، وعرف الحكم بما عرفوه به. غير أن فريقا من الحنفية فسروا الحكم بما ثبت بالخطاب اللفظي، وسلكوا طريق المحققين" (¬1). ولنقف عند هذا الحد في بيان المراد من الأحكام التي عني القرآن الكريم ببيانها، لنبدأ بإيضاح منهج القرآن- كما عرضه الشاطبي- في سياق أحكامه. ويتلخص هذا المنهج في نظريتين: إحداهما: أن القرآن أتى جامعا للأحكام بطريقة كلية إجمالية، دون النظر إلى واحد من أقسام الأحكام الشرعية. هذا ما نص عليه الشاطبي بقوله:" تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، وحيث جاء جزئيّا، فمأخذه على الكلية .. إما بالاعتبار (أو بمعنى الأصل، إلا ما خصه الدليل، مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم). ويدل على هذا المعنى- بعد الاستقراء المعتبر- أنه محتاج إلى كثير من البيان .. فإن السنة، على ¬

_ (¬1) انظر: حاشية نهاية السول، للإسنوي 1/ 69 وما بعدها، والإحسان في علوم القرآن، 297، 298.

كثرتها وكثرة مسائلها، إنما هي بيان للكتاب كما سيأتي ... وإذا كان كذلك؛ فالقرآن على اختصاره جامع. ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كلية". ثم ذكر أن السنة جاءت مفسرة لأحكامه الكلية. ولذا .. تضمن القرآن الكليات المعنوية على الكمال، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات، وكذلك أتى بأصول العبادات والمعاملات. فكل ما استنبط من الأحكام بالسنة أو الإجماع أو القياس؛ فإنما نشأ عن القرآن. واستدل لذلك. ثم ذكر أيضا أنه" لا ينبغي في الاستنباط الاقتصار على القرآن دون النظر في شرحه وبيانه، وهو السنة؛ لأنه إذا كان كليّا؛ فلا محيص من النظر في بيانه" (¬1). وقبل أن ننهي الحديث عن النظرة الأولى لا بدّ أن نقف بالقارئ على أنه" لولا كلية التناول للأحكام؛ لتضخم القرآن، وعسر على الأمة حفظه. ولولا هذه الكلية؛ ما اتصف القرآن بالمرونة والصلاحية لكل عصر وكذلك .. لولاها؛ ما حصل علماء المسلمين هذه الرتب العلية بالاجتهاد" (¬2). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 366، 367 وما بعدها. (¬2) وانبه هنا إلى أن اجتهاد المجتهدين إنما يتناول بعض آيات الأحكام التي جاءت بصيغة كلية، لا يتعين المراد منها (بأن كانت قابلة للاحتمالات، وذلك مثل القدر الممسوح من الرأس في آية الوضوء). أما إذا جاءت آيات الأحكام بصيغة قاطعة الدلالة على معناها؛ فلا محل للاجتهاد حينئذ، وذلك كآيات وجوب الصلاة، وحرمة الزنا والقذف، وغير ذلك. وثمرة الفرق بين النوعين تتجلى في أن الأول ثابت، فمن أنكره؛ يكون خارجا عن الملة .. بخلاف الثاني .. فهو متغير، فمن أنكر فيه فهما معينا تحتمله الآية كما تحتمل غيره من الاجتهادات؛ لا يكون كذلك. وأن الأول واجب الاتباع عينيّا على كل مكلف، بخلاف الثاني .. فإن كل مجتهد

فمجيء القرآن بالمفاهيم الكلية لتشريع الأحكام في الأعم الأغلب يومئ من قبل منزّله الحكيم إلى المجتهدين في أي عصر أن يسلكوا هذا المنهج التشريعي في استنباطهم الأحكام التشريعية، وذلك بأن ينزلوا المفهوم الكلي على ما يتحقق فيه. وهذا ما يسمى عند الأصوليين بتحقيق المناط. وبناء على ذلك .. فإنه لا انفصال بين الجزئي والكلي من المفاهيم القرآنية. فالاستنباط من قبل الأئمة المجتهدين إنما هو تطبيق لكليات من المفاهيم العامة والمطلقة على الجزئيات. وفي ذلك يقول الشاطبي:" إن الجزئيات لو لم تكن معتبرة في إقامة الكليات؛ لم يصح الأمر بالكلي من أصله؛ لأن الكلي- من حيث هو كلّ- لا يصح القصد في التكليف إليه؛ لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات. فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق .. وذلك ممنوع الوقوع. فإذا كان لا يحصل الكلي إلا بحصول الجزئيات؛ فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات" (¬1). أما ثانية النظرتين؛ فهي أن القرآن أتى بأحكام مفصلة. وهذا هو القليل في تناوله للأحكام ويتمثل فيما قاله العز بن عبد السلام:" معظم آي القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة، وأخلاق جميلة. ثم .. من الآيات ما صرح ¬

_ يتبع فيه ما وصل إليه؛ إذ يحرم عليه أن يترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس. وكذلك المقلد .. يتبع فيه رأى من شاء تقليده من أهل الاجتهاد. (¬1) الموافقات، 2/ 62.

فيه بالأحكام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط .. إما بلا ضم إلى آية أخرى، كاستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [سورة المسد: 4]، وصحة صوم الجنب من قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إلى قوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة: 187] .. وإما مع ضم، كاستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [سورة الأحقاف: 15] مع قوله: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [سورة لقمان: 14] ". قال:" ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة، وهو ظاهر. وتارة بالإخبار، مثل أُحِلَّ لَكُمْ [سورة البقرة: 187]، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [سورة المائدة: 3]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [سورة البقرة: 183]. وتارة بما رتب عليها في العاجل أو الآجل من خير أو شر أو نفع أو ضر. وقد نوّع الشارع ذلك أنواعا كثيرة .. ترغيبا لعباده وترهيبا، وتقريبا إلى أفهامهم. فكل فعل عظمه الشرع، أو مدحه أو مدح فاعله لأجله، أو أحبه أو أحب فاعله، أو رضي به أو رضي عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطّيب، أو أقسم به أو بفاعله (كالإقسام بالشفع والوتر، وبخيل المجاهدين، وبالنفس اللوامة)، أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل، أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله، أو لنصرة فاعله، أو بشارته، أو وصف فاعله بالطيب، أو وصف الفعل بكونه معروفا، أو نفى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصبه سببا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله، أو وصفه بكونه قربة،

أو بصفة مدح (كالحياة والنور والشفاء)؛ فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب. وكل فعل طلب الشارع تركه، أو ذمه أو ذم فاعله، أو عتب عليه، أو مقت فاعله أو لعنه، أو نفى محبته أو محبة فاعله أو الرضا به أو عن فاعله، أو شبّه فاعله بالبهائم أو بالشياطين، أو جعله مانعا من الهدى أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهية، أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه، أو جعله سببا لنفي الفلاح، أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذمّ أو لوم أو ضلالة أو معصية، أو وصف بخبث أو رجس، أو لعن أو غضب، أو زوال نعمة، أو حلول نقمة، أو حدّ من الحدود، أو قسوة أو خزي أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله ومحاربته، أو لاستهزائه أو سخريته، أو جعله الله سببا لنسيانه فاعله، أو وصفه نفسه بالصبر عليه أو بالحلم، أو بالصفح عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نسبه إلى عمل الشيطان أو تزيينه، أو تولى الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم (ككونه ظلما أو بغيا أو عدوانا أو إثما أو مرضا)، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نهوا عن الأسى والحزن عليه، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا، أو رتب عليه حرمان الجنة وما فيها، أو وصف فاعله بأنه عدو الله، أو بأن الله عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمّل فاعله إثما، أو قيل فيه" لا ينبغي هذا" أو" لا يكون"، أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل مضاده، أو بهجر فاعله، أو تلاعن فاعلوه في الآخرة، أو تبرأ بعضهم من بعض، أو دعا بعضهم على بعض، أو وصف فاعله بالضلالة، أو أنه ليس من الله في شيء، أو ليس من الرسول وأصحابه، أو جعل اجتنابه سببا للفلاح، أو جعله سببا لإيقاع العداوة

والبغضاء بين المسلمين، أو قيل فيه" هل أنت منته"، أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه إبعادا أو طردا أو لفظة" قتل من فعله" أو" قاتله الله"، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه، ولا يصلح عمله ولا يهدي كيده، أو لا يفلح، أو قيض له الشيطان، أو جعل سببا لإزاغة قلب فاعله، أو صرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل؛ فهو دليل على المنع من الفعل. ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهية. وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال، ورفع الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة، ومن الإذن فيه، والعفو عنه، ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع، ومن السكوت عن التحريم، ومن الإنكار على من حرم الشيء مع الإخبار بأنه خلق أو جعل لنا، والإخبار عن فعل من قبلنا من غير ذم لهم عليه (فإن اقترن بإخباره مدح؛ دل على مشروعيته وجوبا أو استحبابا) ". انتهى كلام الشيخ عز الدين (¬1). وبعد ... فأحب أن أزيدك خاصتين من خواص القرآن الكريم لا تراها لغيره في بيان نهجه للأحكام ... أولا: أن بيانه لتلك الأحكام لم يكن على سنن البيان المعروف في القوانين الوضعية، بأن يذكر الأوامر والنواهي جافة مجردة عن معاني الترغيب أو الترهيب. وإنما يسوقها مكتنفة بأنواع من المعاني شأنها أن تخلق في نفوس المخاطبين الهيبة والمراقبة والارتياح، والشعور بالفائدة العاجلة والآجلة .. فيدعوهم كل هذا إلى المسارعة إليها، وامتثال الأمر نظرا إلى واجب الإيمان، ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، ط. أبو الفضل إبراهيم، 4/ 35: 37.

وبداعية الخوف من عقاب الله وغضبه، والطمع في ثوابه ورضاه. وهذا هو الوازع الديني الذي تمتاز بغرسه في النفوس الشرائع السماوية، وهو بلا شك أكبر عون للوازع الزمني في الحصول على مهمته. ثانيا: لم ينهج القرآن في ذكره لآيات الأحكام منهج الكتب المؤلفة، التي تذكر الأحكام المتعلقة بشيء واحد في مكان واحد. وإنما فرق آيات الأحكام تفريقا. وقد يورد ما يتعلق بالطلاق والرضاع وأحكامها وما يتعلق بالخمر وحرمتها، فيما بين ما يتعلق بالقتال وشئون اليتامى، وانظر في ذلك قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [سورة البقرة: 238]، حيث إنها وقعت بين آيات الطلاق وما يتعلق به. ثم .. انظر إلى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ [سورة البقرة: 219]، وما قبلها من آيات القتال والردة، وما بعدها من آيات اليتامى ونكاح المشركات. ثم انظر إلى آيات الحج التي ذكر بعضها في سورة البقرة والبعض الآخر في سورة الحج. وكذلك تجد أحكام الطلاق والزواج والرجعة ذكر بعضها في سورة البقرة، وبعضها في سورة النساء، وبعضها في سورة الطلاق. وهكذا تجد القرآن في ذكره لآيات الأحكام أشبه شيء ببستان فرقت ثماره وأزهاره في جميع نواحيه حتى يأخذ الإنسان أنى شاء ما ينفعه وما يشتهيه من ألوان مختلفه وأزهار متباينة وثمار يعاون بعضها بعضا في الروح العام الذي يقصده، وهو روح التغذية بالنافع والهداية إلى الخير .. ولهذه الطريقة فيما نرى إيماء خاص .. وهو أن جميع ما في القرآن، وإن اختلفت أماكنه وتعددت سوره وأحكامه، فهو وحدة عامة .. لا يصح تفريقه في

العمل، ولا الأخذ ببعضه دون بعض، وكأنه- وقد سلك هذا المسلك- يقول للمكلف وهو يحدثه عن شئون الأسرة وأحكامها مثلا: لا تشغلك أسرتك وشئونها عن مراقبة الله.

(6) القرآن فيه بيان كل شيء ولو بنوعه أو بجنسه

(6) القرآن فيه بيان كل شيء ولو بنوعه أو بجنسه يقرر الشيخ الشاطبي أن القرآن فيه بيان كل شيء؛ لأن تعريفه بالأحكام الشرعية أكثره كلي أو جزئي مأخوذ على الكلية .. إما بالاعتبار، أو بمعنى الأصل (القياس). واستدل على ذلك بأمور: أولا: النصوص القرآنية، من نحو قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة: 3]، وقوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل: 89]، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [سورة الإسراء: 9]، يعني الطريقة المستقيمة (وهي النظام الكامل في معاملة الخالق والخلق). ثانيا: ما جاء في الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك المعنى (¬1). ثالثا: التجربة، وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا. وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر، الذين ينكرون القياس، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل. ثم ذكر اعتراضا وأجاب عنه فقال:" ولقائل أن يقول: إن هذا غير صحيح؛ لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن، وإنما وجدت في السنة". ¬

_ (¬1) ذكر الشاطبي طرفا من هذه الأحاديث، فانظرها- إن شئت- في الموافقات.

ثم قال:" والجواب مذكور في الدليل الثاني، وهو السنة" .. وعصارته: أن القرآن دال على السنة حيث كان متضمنا لكلياتها في الجملة، وإن كانت بيانا له في التفصيل. وبيان ذلك: أن امرأة من بني أسد أتت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقالت له: بلغني أنك لعنت كذا وكذا .. وإنني قد قرأت ما بين اللوحين، فلم أجد الذي تقول! فقال لها عبد الله: أما قرأتي قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ [سورة الحشر: 7]؟ قالت: بلى. قال: فهو ذاك. إلى غير ذلك من الأمثلة التي ذكرها الشاطبي (¬1). ثم قال: " وعلى هذا .. لا بدّ في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن .. فإن وجدت منصوصا على عينها، أو ذكر نوعها، أو جنسها؛ فذاك. وإلا .. فمراتب النظر فيها متعددة" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات، 3/ 366، 4/ 24 وما بعدها. (¬2) الموافقات، 3/ 375.

(7) وقوع الحكايات في القرآن الكريم

(7) وقوع الحكايات في القرآن الكريم قال الشاطبي:" كل حكاية وقعت في القرآن .. فإما أن يشتمل مع ذلك على التنبيه على كذب المحكي وبطلانه، أو لا يشتمل على ذلك، بل يظل ساكتا عن الحكم فيه بشيء. فإن كان الأول؛ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكيّ وكذبه، وهذا لا يحتاج إلى برهان عليه. وإن كان الثاني؛ فإقرار القرآن له وسكوته عن التنبيه عليه بكذب، أو بطلان دليل على صدقه وصحته؛ لأن الله سمى القرآن فرقانا وتبيانا لكل شيء، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه" (¬1). ولبيان هذين الأمرين نسوق لكل نوع طائفة من الأمثلة التي ذكرها الشاطبي. أمثلة النوع الأول: المثال الأول: قال تعالى: إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام: 91]، وهو قول اليهود اعتراضا منهم على نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، فنبه الله على كذبهم بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [سورة الأنعام: 91]. والمثال الثاني: قوله تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 353، 354.

[سورة الأنعام: 138]، ثم أعقب ذلك ردّا عليهم بقوله: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الأنعام: 139]. وبيان ذلك أن المشركين أفرزوا نصيبا من أموالهم من الزرع والأنعام فجعلوها حبسا محجورة، لا يتصرفون فيها لأنفسهم، ثم قسموها أقساما .. فمنها ما خصوا به خدّام أصنامهم، وفيها من الأنعام ما سيّبوه وامتنعوا عن ركوبه واستخدامه حسبة لأصنامهم، ومنها ما لا يذكرون اسم الله عليه عند ذبحه، بل يذكرون عليه اسم أصنامهم دونه، وكل ذلك جهالة وضلال وافتراء على الله .. فلذلك رد الله عليهم شرعية صنيعهم، وسماه افتراء، وتوعدهم بالعذاب عليه. المثال الثالث: قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ [سورة الأنعام: 136]، ثم عقب على هذا بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ. وبيان معنى القول الكريم أن المشركين أفرزوا من أموالهم مما خلق الله لهم من الزرع والأنعام نصيبا قسموه قسمين: قسما جعلوه في سبيل الله للضيفان والمساكين، وقسما جعلوه في خدمة أصنامهم .. فإذا فضل فضل من المال مما جعلوه لله؛ أضافوه لخدمة أصنامهم، وإذا فضل فضل من المال مما جعلوه لشركائهم؛ لم يضيفوه لما جعل إحسانا في سبيل الله. ولا شك أن هذا العمل بهذه الصورة خطأ وباطل .. فنبه القرآن بعد حكايته على أنه من سوء الحكم وباطل المعتقد.

المثال الرابع: قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [سورة يس: 47] استهزاء بالمؤمنين وتعنيتا لهم .. فرد الله عليهم بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة يس: 47]. واختلفت طريقة المشايخ في بيان كونهم بهذا القول في ضلال مبين .. فذهب الشاطبي إلى أن هذا القول منهم إنما كان حيدة عن سنن الجواب الصحيح. فقد كان طريق الجواب الصحيح الامتثال أو عدم الامتثال، بقول" نعم" أو" لا" .. لكنهم عدلوا عن ذلك إلى الاحتجاج بالمشيئة الإلهية التي لا تعارض، فقالوا: لم يشأ الله أن يطعمهم؛ فلا قدرة لنا على إطعامهم! فانقلب هذا الاحتجاج عليهم: إذا احتججتم بالمشيئة الإلهية المطلقة التي لا تعارض؛ فكيف أقدمتم على معارضة مشيئته بالامتناع عما كلفكم به من إطعامهم؟ فهل هذا إلا التناقض المبين، وهو عين الضلال المبين؟ (¬1). وذهب الإمام الرازي إلى أن المقصود من قولهم: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ أحد احتمالين .. أحدهما: أن يكون إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم؛ كان يطعمهم .. فلا نقدر على إطعامهم؛ لأنه حينئذ من تحصيل الحاصل. وإن شاء عدم إطعامهم؛ فلا يقدر أحد على إطعامهم؛ فإطعامهم- المأمور به- غير مقدور لهم على كلّ من الفرضين .. فكيف يؤمرون بما لا تتسع له قدرتهم؟ ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات وحاشية الشيخ دراز، 3/ 357.

وثانيهما: أن يكون معنى كلامهم هو أن الله أراد تجويع هؤلاء بعدم إطعامهم .. فلو أطعمناهم؛ يكون سعيا في إبطال فعل الله وأنه لا يجوز. ثم أجاب بقوله:" إن هؤلاء المشركين نظروا بمقالتهم هذه إلى إرادة الأمر، ولم ينظروا إلى الأمر والطلب. وذلك أن السيد إذا أمر العبد بأمر لا ينبغي أن يكشف له سبب الأمر، والاطلاع على المقصود الذي أمر لأجله. مثاله: الملك إذا أراد الركوب للهجوم على عدو بحيث لا يطلع عليه أحد، وقال لعبده: أحضر المركوب .. فلو تطلع العبد، واستكشف المقصود الذي لأجله كان الركوب؛ لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه، وكشف سره. قال: فالأدب في الطاعة هو اتباع الأمر، لا تتّبع المراد. فالله إذا قال: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ [سورة يس: 47]؛ فلا يجوز لهم أن يقولوا: لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه؟ " (¬1). يقول الأستاذ الجليل سعاد جلال:" والذي يظهر لنا من وراء ما يقول هؤلاء الأئمة في رد إشكال قول المشركين في هذه الآية أن نقول: ليس من الصحيح أن الله لم يشأ إطعام أولئك المساكين المطلوب إطعامهم. والمشركون غالطون في نسبة هذه الدعوى إلى الله. بل إن الله يشاء إطعامهم، بدليل قوله في آية أخرى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [سورة هود: 6]، فأثبت بهذه الآية أنه ألزم نفسه برزق جميع أفراد الإنسان وكلّ من له حركة يدب بها على الأرض، ولم يزل- سبحانه- قيوما بهذا الالتزام، لكنه جعل رزق الفقراء والعاجزين مقتطعا من أموال الأغنياء. فملكية الأغنياء في أموالهم مكفوفة عما ¬

_ (¬1) التفسير الكبير، الفخر الرازي، ط. دار الكتب العلمية، 26/ 75، 76.

جعله الله حقّا للفقراء في هذه الأموال، فمقدار هذا الحق غير مملوك لهم على الحقيقة. فحاجة الفقراء إلى الإطعام غير ناشئة عن عدم مشيئة الله إطعامهم لأنه- سبحانه- لم يشأ إطعامهم، بل هي ناشئة من حبس هؤلاء المشركين طعام الفقراء عنهم بغير حق. فاعتراض هؤلاء المشركين بوضع مسئولية حرمان الفقراء على مشيئة الله مردود عليهم، من حيث تقع مسئولية ذلك عليهم أنفسهم" (¬1). أمثلة النوع الثاني: وأما النوع الثاني من حكايات القرآن (ونذكّر بأنه ما حكاه القرآن من الأحداث وسكت عن تفنيده، فكان مصادقة عليه .. بخلاف النوع الأول)؛ فأمثلته كثيرة .. منها ما حكاه القرآن الكريم من شريعة بني إسرائيل وسكت عنه، كقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة: 45]. ومنها قوله في حكاية قصة أهل الكهف: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف: 22] .. ففي هذه الآية شاهد على النوع الأول، وشاهد على النوع الثاني. ¬

_ (¬1) علم الفقه والأصول، ص 28.

وبيان ذلك أن حكاية كون الكلب رابع الجماعة أو سادسهم، نبه القرآن على أن ذلك رجما بالغيب .. فأفاد أنهم ليسوا خمسة ولا ستة؛ لأن الحكم إذا كان رجما بالغيب؛ كان ظنّا، والظن لا يركن إليه. وفي حكاية كون أصحاب الكهف سبعة ثامنهم كلبهم، سكت عن الاعتراض .. فأفاد أن عددهم سبعة أنفس. وقد عقب القرآن على ذكر الترديد في عددهم بقوله: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [سورة الكهف: 22]. قال ابن عباس:" أنا من القليل الذي يعلمهم". قال الشاطبي:" وينضم إلى ذلك جميع ما يحكيه القرآن من أخبار الأنبياء الماضين والأولياء المتقدمين، كخبر الخضر مع موسى عليه السّلام، ونبأ ذي القرنين" (¬1). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 354.

(8) التناسب بين بعض القرآن وبعض

(8) التناسب بين بعض القرآن وبعض إن الهدف الذي قصد إليه الشاطبي في هذه المسألة هو إبراز التناسب بين بعض القرآن وبعض، وذلك من خلال أن السورة القرآنية مهما تعددت قضاياها فهي كلام واحد مرتبط أوله بآخره، وآخره بأوله، ومن خلال تعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة، وأنه لا غنى لمستفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية. وعدّ الشاطبي هذا ضابطا يعول عليه في فهم سور القرآن، وحذر من الإغراق في النظر في الآيات على أنها منفصلة تماما عن غيرها. فمن فعل هذا؛ فلن يحصل له إلا فهم الظواهر بحسب الوضع اللغوي فقط، لا بحسب مقصود المتكلم .. قال:" لا بدّ من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم. والقول في ذلك أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان. فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها .. فإن القضية وإن اشتملت على جمل؛ فبعضها متعلق بالبعض؛ لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف. فإن فرق النظر في أجزائه؛ فلا يتوصل به إلى مراده. فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلا في موطن واحد،

وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر على العربية؛ رجع إلى نفس الكلام" (¬1). ثم يقرر أن سور القرآن إما أن تكون نزلت في قضية واحدة- طالت أم قصرت- وإما أن تكون قد نزلت دفعة واحدة، أو على دفعات متعددة. فيمكن النظر في كل قضية من هذه القضايا المتعددة من أجل تلمس العلم والفقه. ولكننا لا يمكننا إدراك وجه الإعجاز إلا بالنظر إليها باعتبار النظم، وبالنظر في أوّل الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات .. فسورة البقرة- مثلا- كلام واحد باعتبار النظم، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكّد والمتمّم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال (وذلك- أي المقصود الأول في الإنزال- هو تقدير الأحكام على تفاصيل الأبواب)، ومنها الخواتيم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك (¬2). ثم ضرب مثلا آخر مطوّلا بسورة" المؤمنون"، حيث نزلت في قضية واحدة، وإن اشتملت على قضايا متعددة، فهي سورة مكية، وغالب القرآن المكي يقرر ثلاثة معان (ترجع في حقيقتها إلى معنى واحد، هو" الدعوة إلى عبادة الله"): أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق، ونفي الشركاء عنه. والثاني: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 413، 414. (¬2) الموافقات، 3/ 414، 415.

والثالث: إثبات البعث، وأنه حق لا ريب فيه. فهذه هي المعاني الثلاثة التي عليها مدار القرآن المكي. أما بيان ذلك بالتفصيل في سورة المؤمنون؛ فيرى الشاطبي" أن المعاني الثلاثة موجودة فيها على أوضح الوجوه، إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنيين السابقين، وإنما أنكروا ذلك ترفعا منهم أن يرسل الله عزّ وجلّ إليهم من هو مثلهم أو ينال هذه الرتبة غيرهم .. فجاءت السورة مبينة كمال البشرية، وكيف أنها تستحق الاصطفاء والرفعة، فافتتحت بثلاث جمل: بيان من أفلح من المؤمنين وصفاتهم، ثم انتقلت إلى بيان أصل الإنسان، ثم ذكرت نعم الله التي أعطاها للإنسان وسخرها له تكريما وتشريفا، ثم ذكرت قصص من تقدم من الأمم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم لكونهم بشرا. ففي قصة نوح مع قومه: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [سورة المؤمنون: 24]، ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم فقالوا: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ [سورة المؤمنون: 33]، وفي نفس السورة يخبرنا القرآن الكريم برد فرعون وملئه على موسى وأخيه هارون- عليهما السلام- لما دعواهم إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، فكان جوابهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [سورة المؤمنون: 47]. وكل هذه القصص التي وردت في سورة المؤمنون هي تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم أنه ليس بدعا من الرسل، وأن طريقة التكذيب واحدة، وهي" الغض من رتبة النبوة بوصف البشرية" (¬1). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 418.

وبعد هذا البيان الإجمالي لسورة المؤمنون يقول الشاطبي:" فسورة المؤمنون قصة واحدة في شيء واحد. وبالجملة .. فحيث ذكر قصص الأنبياء- عليهم السلام- كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهارون، فإنما ذلك تسلية لمحمد- عليه الصلاة والسلام- وتثبيت لفؤاده، لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة .. فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله، وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال، والجميع واقع لا إشكال في صحته. وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذى في النظر في القرآن لمن أراد فهم القرآن" (¬1). وصفوة القول أن الشاطبي يدعو إلى النظر في السورة القرآنية نظرة كلية عامة، وذلك .. بربط آخر الكلام بأوله، فكل سورة من سورة تمثل كما يقول الأستاذ الجليل الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله-" وحدة متماسكة، تشدها خيوط خفية .. تجعل أولها تمهيدا لآخرها، وآخرها تصديقا لأولها، وتدور السورة كلها على محور ثابت" (¬2). وبعد أن أثبت الشاطبي الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية، وذكر لذلك ضابطا يعول عليه في فهم القرآن، وأن عدم الأخذ به يؤدي بالمفسر إلى الوقوف عند فقه الألفاظ والدلالات اللغوية .. أقول: بعد أن أثبت ذلك، أثبت الوحدة الموضوعية في القرآن كلّه .. قال: " للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد، بحسب خطاب ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 419. (¬2) نحو تفسير موضوعي، ص 5.

العباد .. لا بحسبه في نفسه" (¬1). ثم بين أن القرآن الكريم كلام واحد في نفسه، لا تعدد فيه (على ما هو مسلم به في علم الكلام). ولكن باعتبار خطاب العباد تنزلا لما هو من معهودهم فيه .. فيصح في الاعتبار أن يكون كلاما واحدا بالمعنى المتقدم، أي يتوقف فهم بعضه على بعض بوجه ما، وذلك أنه يبين بعضه بعضا، حتى إن كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى .. ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مقيد بالحاجيات فإذا كان كذلك؛ فبعضه متوقف على البعض في الفهم. فلا محالة أن ما هو كذلك؛ فكلام واحد. فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار" (¬2). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 420. (¬2) نفس المرجع.

(9) التفسير بالرأي

(9) التفسير بالرأي بادئ ذي بدء .. فإن علماء القرآن منذ قديم اختلفوا في جواز التفسير بالرأي وامتناعه، وساق كل فريق أدلته على ما ذهب إليه. وقبل أن نذكر عبارة الشاطبي في هذا المقام نحرر أولا محل النزاع. اتفق الكل من علماء القرآن والأصول على أن تفسير القرآن بالرأي المذموم ممتنع وحرام، بل كفر صريح إن تعمد صاحبه سوء القصد؛ لأنه تقوّل وافتراء على الله تعالى. وإنما الخلاف بين المختلفين: هل كل تفسير للقرآن بالرأي يعتبر مذموما، وإن بلغ صاحبه من حسن القصد ورسوخ القدم في الاجتهاد وعلو المرتبة في العلم ما بلغ .. أو أن بعض ذلك محمود وبعضه مذموم؟ وإلى هذين الملحظين أشار الشاطبي بقوله:" إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه، وجاء أيضا ما يقتضي إعماله" (¬1)، ثم بين أن الرأي الذي يجب إعماله هو" ما كان جاريا على موافقة كلام العرب، وموافقة الكتاب والسنة .. فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما" (¬2)، واستدل على ذلك بأمور تتجلى فيما يلي: أحدها: أن الكتاب لا بدّ من القول فيه ببيان معنى، واستنباط حكم، وتفسير لفظ، وفهم مراد. ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم .. فإما أن يتوقّف دون ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 421. (¬2) الموافقات، 3/ 421.

ذلك؛ فتعطل الأحكام كلها أو أكثرها .. وذلك غير ممكن. فلا بد من القول فيه بما يليق. والثاني: أنه لو كان كذلك؛ للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك كلّه بالتوقيف، فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول. والمعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك .. فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه. بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به، وترك كثير مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم. فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف. الثالث: أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا. فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح. والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن؛ لأن النظر في القرآن من جهتين: من جهة الأمور الشرعية .. فقد سلم القول بالتوقيف فيه، وترك الرأي والنظر جدلا. ومن جهة المآخذ العربية .. وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين. وهو باطل. فاللازم عنه مثله (¬1). هذا .. وقول الشاطبي" ما يقتضي إعماله"، وقوله بعد ذلك" لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما"، دليل بين على أن الاجتهاد بالرأي في القرآن الكريم- اجتهادا قائما على العلم- أمر مفروض شرعا، لا جائز فحسب، وهذا ما تؤكده قولته من" استحالة الإهمال"، وهذا ما انتهى إليه المحققون من أئمة التفسير والأصول. وسنجتزئ باثنين من أعلامهم- رضوان الله عليهم- أحدهما الماوردي، وثانيهما الإمام الغزالي. ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 421، 442.

الرأي المذموم:

قال الماوردي:" قد امتنع بعض المتحرجين أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبها شواهد، ولم يعارض شواهدها نص صريح. وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام، كما قال تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [سورة النساء: 83] ... ولو صح ما ذهبوا إليه؛ لم يعلم شيء من الاستنباط، ولما فهم الكثير من كتاب الله". وأما حجة الإسلام الغزالي .. فمن أهم ما استند إليه، هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس- رضي الله عنهما- بقوله:" اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التأويل" .. وهذا هو الاجتهاد بالرأي بعينه. ثم عمل الصحابة. وقد صرح الإمام الغزالي برأيه هذا في كتابه" الإحياء" بقوله:" ولا ينبغي أن يفهم منه (أي من حديث" من فسر القرآن برأيه- أو بما لا يعلم- فليتبوأ مقعده من النار") أنه يجب ألا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر. فإن من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة والمفسرين خمسة معان وستة، وسبعة، ونعلم أن جميعها غير مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم .. فيكون ذلك مستنبطا بحسن الفهم، وطول الفكر، ولهذا دعا صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه بقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (¬1) " (¬2). الرأي المذموم: قال الشاطبي:" وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية، أو غير الجاري على الأدلة الشرعية؛ فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، كما كان مذموما في القياس أيضا؛ لأنه تقوّل على الله بغير برهان .. فيرجع إلى الكذب ¬

_ (¬1) رواه البخاري بنحوه، حديث رقم 140. (¬2) إحياء علوم الدين، 1/ 37.

على الله تعالى. وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء" .. ثم ذكر آثارا في ذلك، ثم قال في خاتمتها:" وقد نقل عن الأصمعي (وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة) أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله، وإذا سئل عن ذلك لم يجب" (¬1). ثم قال:" فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء .. منها: التحفظ من القول في كتاب الله تعالى .. إلا على بينة. فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات: إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين، كالصحابة والتابعين ومن يليهم. وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم. فنحن أولى بذلك إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم .. وهيهات!. الثانية: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبلغهم ولا داناهم. فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه. الثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد، أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض .. فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه؛ لأن الأصل عدم العلم .. فعند ما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين، فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال. وكل أحد فقيه نفسه من هذا المجال. وربما تعدى أصحاب هذه الطبقة طوره، فحسن ظنه بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين .. ومن هنا افترقت الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل!. ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 422، 423.

ومنها: أن من ترك النظر في القرآن، واعتمد في ذلك على من تقدمه، ودخل إليه النظر فيه .. غير ملوم، وله في ذلك سعة (إلا فيما لا بدّ له منه، وعلى حكم الضرورة). فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس كما هو مذكور في بابه، وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه، وكذلك وجدناهم في القول في القرآن .. فإن المحظور فيهما واحد، وهو خوف التقول على الله. بل القول في القرآن أشد .. فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا، أو عنى كذا بكلامه المنزل ... وهذا عظيم الخطر. ومنها: أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد فيه للمتكلم. والقرآن كلام الله، فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام. فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد. وإلا .. فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول" يحتمل أن يكون المعنى كذا كذا"، بناء على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم. وإلا .. فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة. فعلى كل تقدير لا بدّ في كل قول يجزم به أو يحمّل من شاهد يشهد لأصله، وإلا .. كان باطلا، ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم" (¬1). والآن .. وقد وصلنا إلى نهاية القول في التفسير بالرأي، فبوسعنا أن نعلم الحقائق التالية: ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 423، 424.

أولا: على المفسر بالرأي أن يفعل ما يأتي:

أولا: على المفسر بالرأي أن يفعل ما يأتي: (أ) مطابقة التفسير للمفسّر مطابقة تامة، بحيث لا يقع له نقص من معناه ومقاصده، ولا زيادة عليه بما ليس له به تعلق وثيق. (ب) حمل الكلام على ما يتعين (أو يترجح على أقل تقدير) أنه المعنى المراد منه. حقيقيّا كان ذلك المعنى أو مجازيّا. (ج) مراعاة سياق الكلام (سباقا ولحاقا)، بحيث تتآخى وتترابط أجزاؤه كافة، ويأخذ أوله بحجزة آخره. وفي ذلك .. لا بدّ من تجلية المناسبات بين الآيات، بل بين السور كذلك. (د) تجلية سبب النزول، وعقد الصلة الوثيقة بينه وبين المنزل (على التفصيل الذي وضحه الزركشي في مسألة البدء به أو بالمناسبة). (هـ) تحقيق القول أولا في بيان كل ما يتعلق بمفردات النظم الكريم، ثم الإتيان بعد ذلك على كل ما تحتاج إليه التراكيب من العلوم المختلفة ذات العلاقة الوثيقة بالنص، ثم الاستنباط في خاتمة المطاف على قوانين اللغة والشرع والعقل (¬1). ثانيا: ما يجب على المفسر بالرأي اجتنابه: (أ) التهجم على تفسير القرآن من غير أخذ الأهبة له بكافة ما يلزمه من الصفات والعلوم التي يجب توفرها في المفسر. ¬

_ (¬1) الدخيل، لأستاذنا العلامة إبراهيم خليفة، ص 351، 352.

(ب) الخوض في بيان ما استأثر الله بعلمه (¬1). (ج) السير على وفق الهوى ومجرد الاستحسان من غير برهان. وفي ذلك .. عليه أن يكون متجردا لطلب الحق، براء من العصبية لعقيدة أو نحلة أو مذهب يعلم أن النص لا يوافقه (بحيث لا يستكره النص استكراها على شيء من ذلك). (د) القطع بأن مراد الله من النص كذا من غير دليل يستوجب مثل هذا القطع. (هـ) ادعاء التّكرر في القرآن، أو أن لفظا آخر يمكن أن يقوم مقام اللفظ المذكور في النص (¬2). ¬

_ (¬1) لا يتعارض هذا مع ما ذكرناه سابقا من أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه (على ما ذهب إليه المحققون من. هل الفقه بالقرآن)؛ إذ المراد هنا من عدم الخوض فيما استأثر الله بعلمه ألّا يتزيّد أحد في تفسير القرآن في الأمور الغيبية إلا بالقدر الذي بينه الخبر الصحيح. (¬2) الدخيل، ص 352، 353.

(10) الشاطبي والتفسير العلمي للقرآن

(10) الشاطبي والتفسير العلمي للقرآن من المعلوم لدى أهل الفقه بالقرآن أن المفسر إن لم يظفر بشيء من بيان ما يقصد إلى بيانه في القرآن ولا في السنة الثابتة، ولا في الصالح للحجية من أقوال الصحابة أو التابعين .. اجتهد الرأي بعد تحصيل العلوم اللازمة لاجتهاده، متوخّيا في ذلك المنطق اللغوي، بأن يقتصر على الظهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه. هذا هو الأصل. أو يستنبط معاني أخرى من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال اللغوي، ولا مقصد القرآن. وتلك هي مستتبعات التراكيب على ما سبق بيانه. أما أن يجلب مسائل علمية من علوم كونية أو إنسانية حديثة، لها مناسبة بمقصد الآية (إما على أن بعضها يومئ إليه معنى الآية ولو بتلويح ما، وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين مسائل تلك العلوم)؛ فإن العلماء في ذلك رأيين: فمنهم من يرى بأن من الحسن التوفيق بين هذه العلوم الحديثة وآلاتها وبين المعاني القرآنية. قال ابن رشد الحفيد في كتابه" فصل المقال":" أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل. والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف

نظر الناس، وتباين قرائحهم في التصديق" .. وتخلّص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا" (¬1). وإلى مثل ذلك ذهب قطب الدين الشيرازي في" شرح حكمة الإشراق". وهذا الغزالي ذكر في" الإحياء" قول ابن مسعود:" من أراد علم الأولين والآخرين؛ فليتدبر القرآن" .. ثم قال:" وبالجملة .. فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عزّ وجلّ وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها" (¬2). وفي كتابه" جواهر القرآن" ذكر أن جميع العلوم مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له (¬3)، ثم ذكر من أفعال الله تعالى: الشفاء والمرض كما قال حكاية عن إبراهيم: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء: 80]. قال:" وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه" .. ثم قال:" ولا يعرف كمال معنى قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ¬

_ (¬1) ابن رشد، فصل المقال. (¬2) الإحياء، 1/ 289. (¬3) جواهر القرآن، 32، 33.

[سورة الانفطار: 6 - 8]، إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها .. إلخ". وقال في الإحياء:" بل كل ما أشكل فهمه على النّظّار (علماء المعقول) واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها" (¬1). وتبع الإمام الغزاليّ الإمام الرازي وابن أبي الفضل المرستي (الذي نقل السيوطي رأيه في كتابه" الإتقان" وأيده). أما أبو إسحاق الشاطبي؛ فقد ذهب إلى منع ذلك اللون من التفسير العلمي للقرآن .. ففي الفصل الثالث من المسألة الرابعة قال:" لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما يكون عامّا لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه". وفي المسألة الرابعة من النوع الثاني قال:" ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها- وهم العرب- ينبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها. وهذا إذا عرضناه على ما تقدم؛ لم يصح .. فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم تكلم في شيء من هذا المدّعى سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم .. تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودهم، مما يتعجب ¬

_ (¬1) الإحياء، 1/ 289.

منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة" .. وهذا مبني على ما أسسه من كون القرآن لما كان خطابا للأميين- وهم العرب- فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن الشريعة أمية. هذا ما ذكره .. رأيا واستدلالا. ثم شرع بعد هذا في ذكر الأدلة التي استند إليها المجوزون، فذكر منها قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل: 89]، وقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام: 38]، ونحو ذلك، واستدلالهم بفواتح السور- وهي لم تعهد عند العرب- وبما نقل عن الناس فيها، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب وغيره أشياء (¬1). وبعد ذلك طفق- رحمه الله- ينقض هذه الأدلة؛ فقال:" فأما الآيات؛ فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية. وأما فواتح السور؛ فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا، كعدد الجمّل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله .. وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به؛ فلا يكون، ولم يدّعه أحد ممن تقدم .. فلا دليل فيها على ما ادعوا. وما ¬

_ (¬1) الموافقات، 2/ 79، 80.

ينقل عن علي بن أبي طالب أو غيره في هذا لا يثبت. فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية. فمن طلبه بغير ما هو أداة له؛ ضل عن فهمه، وتقوّل على الله ورسوله فيه" (¬1). وقد تعقب صاحب" التحرير والتنوير" العلامة ابن عاشور هذا المسلك من الشاطبي فنقده بقوله: " وهو أساس واه لستة وجوه: الأول: أن ما نبه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال. وهذا باطل .. قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [سورة هود: 49]. الثاني: أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة، وهو معجزة باقية .. فلا بد أن يكون فيه ما يصلح أن يتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة. الثالث: أن السلف قالوا إن القرآن لا تنقضي عجائبه .. يعنون معانيه. ولو كان كما قال الشاطبي؛ لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه. الرابع: أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة. ¬

_ (¬1) الموافقات، 20/ 81، 82.

الخامس: أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقتضي إلّا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لهم. فأما ما زاد على المعاني الأساسية؛ فقد تهيأ لفهمه أقوام، وحجب عنه أقوام .. ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. السادس: أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فمن ساعد عليه. وإن كان فيما يرجع إليها؛ فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات، بل قد بينوا أو فصلوا وفرعوا .. في علوم عنوا بها، ولا يمنعنا ذلك أن نقفّي على آثارهم في علوم أخرى راجعة لخدمة المقاصد القرآنية" (¬1). والمختار لدى كتب هذه السطور جواز هذا اللون من التفسير، لكن لا بإطلاق .. بل بشرطين ذكرهما العلامة ابن عاشور وغيره .. قال: " وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم، وكانت الآية لها اعتلاق بذلك؛ فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر، وبمقدار ما ستبلغ إليه. وشرطه ألا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا، ولا خروجا عن المعنى الأصلي .. حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية". ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير، 1/ 44، 45.

خاتمة وخلاصة

خاتمة وخلاصة بعد هذا التطواف بين جنبات كتاب الشاطبي نستطيع أن نخرج بالنتائج الآتية: 1 - أكّد الشاطبي على عربية القرآن كله. لذا فإنه يجب أن يفهم- لمن رام فهمه- على معهود العرب في الخطاب. 2 - أكد الشاطبي كذلك على دلالتي اللغة العربية: الأصلية، والثانوية التي هي تابعة للأصلية .. موضحا اختصاص العربية بتلك الدلالة. وقام برد الشبهات الواردة خلال ذلك. 3 - تحدث الشاطبي عن أهمية معرفة سبب النزول، وبين أنها لازمة لمن أراد علم القرآن. 4 - أبدع الشاطبي حين تحدث عن معرفة الظاهر والباطن من معاني القرآن، موضحا أن الباطن من المعاني- المنضبط بأصول اللغة والشرع- هو الغاية من معرفة القرآن وفهمه وتفسيره. كما فرق بين التأويل الباطني الفاسد والتفسير الإشاري. 5 - تحدث الشاطبي كذلك عن العلوم المضافة للقرآن، وذكر أنها أربعة أقسام. وهو كلام لا نعلم أحدا قبله قال مثله أو قريبا منه .. فلله درّه!. 6 - كما تحدث عن المكي والمدني، وأنه يجب فهم المدني على المكي. 7 - أما حديثه عن المحكم والمتشابه؛ فقد خالفناه في أمور جانبه فيها الصواب وما عليه جلّ المحققين، مع اتفاقنا معه في أمور أخرى.

8 - كما فرق- ذلك التفريق الهام- بين معنى النسخ عند الأوائل وتوسعهم فيه وبين ما اصطلح عليه علماء الأصول والقرآن في ذلك .. موضحا الخلط الواقع بين الأمرين، ومبينا كذلك أن النسخ لا يكون في الكليات وقوعا، فما كانت الكليات لتنسخ وهي أساس الجزئيات. 9 - كما أكد الشاطبي على أن القرآن أتى جامعا للأحكام بطريقة كلية إجمالية. أما الأحكام المفصلة؛ فهي قليلة في القرآن. 10 - كما قرر الشاطبي أن القرآن فيه بيان كل شيء، ولو بنوعه أو بجنسه. واستدل على ذلك. 11 - كما تحدث عن وقوع الحكاية في القرآن، مفرقا بين ما نبه القرآن على كذبه منها، وما لا. أما الأول؛ فمعلوم. وأما الثاني؛ فسكوت القرآن عنه إقرار له. ومثّل لكلا النوعين. 12 - كما نبه الشاطبي على أهمية إبراز التناسب بين بعض القرآن وبعض. 13 - كما تحدث عن التفسير بالرأي حديثا رائقا، مبينا أن الرأي المنضبط بقواعد اللغة وأصول الشرع لا يمكن إهمال مثله. وقام بالاستدلال على ذلك بكلام نفيس. وأن عكس ذلك هو الرأي المذموم الذي حذر منه العلماء. 14 - كما تزعم الاتجاه الرافض للتفسير العلمي للقرآن الكريم.

ثبت المراجع

ثبت المراجع 1 - الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، ط. الحلبي. 2 - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، المكتب الإسلامي. 3 - الإحسان في علوم القرآن د. إبراهيم خليفة. 4 - الأصيل والدخيل في تفسير القرآن وتأويله، د. عبد الغفور مصطفى. 5 - بلاغة القرآن، للخضر حسين. دمشق. 6 - البرهان في علوم القرآن، للزركشي، ط. الحلبي. 7 - البحر المحيط، للزركشي، ط الكويت. 8 - التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، ط. تونس. 9 - التفسير الكبير، للفخر الرازي، ط. عبد الرحمن محمد. 10 - تفسير المنار، رشيد رضا، ط. المنار. 11 - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ط. دار الكتب المصرية. 12 - حاشية البنّاني على جمع الجوامع، ط. الحلبي. 13 - دراسات في الفكر الإسلامي، د. فتحي الدريني، ط. دار قتيبة- بيروت. 14 - دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، ط. الخانجي. 15 - رسالة المحكم والمتشابه، د. إبراهيم خليفة، مخطوط. 16 - الرسالة للشافعي، تحقيق أحمد شاكر، ط. التراث. 17 - سبل الاستنباط، د. محمود توفيق سعد، ط. دار الطباعة المحمدية. 18 - شرح المحلّي على جمع الجوامع، ط. الحلبي. 19 - صحيح مسلم بشرح النووي، المطبعة المصرية. 20 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، ط. السلفية.

21 - الفوز الكبير في أصول التفسير، للدهلوي، ط. دار البشائر الإسلامية- بيروت. 22 - القاموس المحيط، ط. بولاق. 23 - لسان العرب، لابن منظور، ط. دار صادر. 24 - المدخل إلى كتابي عبد القاهر، د. محمد محمد أبو موسى، ط. وهبة. 25 - المستصفى، لأبي حامد الغزالي، ط. بولاق. 26 - المعالم الجديدة للأصول، محمد باقر الصدر، دار التعارف- لبنان. 27 - مناهل العرفان، محمد عبد العظيم الزرقاني، ط. عيسى الحلبي. 28 - منة المنان في علوم القرآن، د. إبراهيم خليفة. 29 - معالم السنن، للخطابي، ط. بيروت. 30 - الموافقات، للشاطبي، تعليق الشيخ عبد الله دراز، ط. المعرفة. 31 - مقدمة في التعريف بعلم أصول الفقه والفقه، د. محمد سعاد جلال. 32 - مقاصد الشريعة عند الشاطبي، د. أحمد الريسوني. 33 - مقدمة فتاوى الشاطبي، د. محمد أبو الأجفان. 34 - مقتضى الحال بين البلاغة القديمة والنقد الحديث، د. إبراهيم الخولي، مخطوط.

من اصداراتنا

من اصداراتنا * أستاذ السائرين الإمام الأكبر أ. د. عبد الحليم محمود " الحارث بن أسد المحاسبي" شيخ الأزهر * عقيدة المسلمين والعقائد الباطلة أ. د. محمد عبد المنعم القيعي * قانون الفكر الإسلامي أ. د. محمد عبد المنعم القيعي * العرف والعادة في رأي الفقهاء أ. د. أحمد فهمي أبو سنة * قاعدتان فقهيتان أ. د. أحمد فهمي أبو سنة * موقف السلف من المتشابهات أ. د. عبد الفضيل القوصي * متشابه القرآن أ. د. إبراهيم الخوئي * التعريض في القرآن الكريم أ. د. إبراهيم الخوئي * بحثاب حول سور القرآن أ. د. إبراهيم خليفة * مقالتان في التأويل أ. د. محمد سالم أبو عاصي * أسباب النزول أ. د. محمد سالم أبو عاصي * شرح الحكم العطائية العارف بالله الشيخ زروق * متن الحكم العطائية ابن عطاء الله السكندري

رقم الإيداع بدار الكتب المصرية 16709/ 2005

§1/1